أعتقد أنه مجال مهم للتدريب، وبحاجة إلى أن يكون هناك اعتناء بها، لكن من المهم أن يكون فاعلا ومبنيًا على أسس علمية.
18- في ظل الأحداث على الأمة الإسلامية، ما رأيكم في التربية بالأحداث؟ وهل اجتمعت الكلمةُ من خلال الأحداث؟
الحَدَثُ غالبا مما لا نتحكم في وجوده؛ فهو يحصل رغمًا عنا، ومع ذلك فهو مدخل مهم جداً للتربية، من خلال مايلي:
أولاً: الأحداثُ تكشف جوانبَ من الشخصيةِ لا تكشفها الأوضاعُ العادية.
ثانياً: من خلال الأحداث يمكن أن نعلّم الناسَ منهجية التعامل مع عدد من القضايا، وبناءً عليه نحتاج أن نوظفها بطريقة صحيحة.
وما زال الأمرُ في التعامل مع الأحداث يركز على مجرد التعليق على الأحداث، أو إصدار أحكام عليها، وهذا ليس هو المهمة التربوية الصحيحة.
مهمة التربية: توظيف الأحداث في معرفة الواقع التربوي، وأن توظفها في بناء الأفراد، وتعليمهم أدواتِ التعامل الصحيح مع الواقع.
19-وهل ساعدت وسائلُ الإعلام على توظيف الأحداث بالشكل الصحيح؟
جميع المؤسسات التربوية تؤدي دورها في هذه القضية، لكن السؤال هو ما نوعُ هذا الدور؟ وهذه المساعدة هل هي إيجابية أو سلبية؟
20- من خلال موقع المربي، ما رأيكم في تجربة الإنترنت في المساعدة على التربية؟
أعتقد أنها تجربة مهمة جداً وحيوية، وهي وسيلةٌ لتواصل الناس مع المختصين، ووسيلة في جانب تثقيف الناس، ووسيلة في فتح قنوات في جذب المربين رجالاً ونساءً في التواصل بطريقة جيدة مع القضايا التربوية.
20- منتديات الإنترنت هل تساعد في التربية؟
أي مؤسسة يمكن أن تساعد في التربية حتى جماعات الشباب، و(شِلَل) الشوارع هي تساعد أيضا، لكن السؤال المهم هو: ما نوع هذه التربية التي نحققها؟!
فالتربية –كما قلنا قبل قليل- هي مسألة تلقائية تتحقق سواء كانت بصورة مقصودة أو غير مقصودة.
أي ميدان يُشارك فيه المتربي سواء كان طفلاً أو مراهقاً، ذكراً أو أنثى هو يتلقى تربية.(/6)
لكن السؤال: هل هي إيجابية أو سلبية؟ هل تتم بطريقة مخطط لها ومقصودة؟ أو أنها نتائج تلقائية لأعمال غير مخطط لها؟!
21- اختلاف الفتوى والآراء، وكيف نربي الناس على ذلك؟
من الطبيعي أن تختلف الآراءُ والفتوى، وليس ذلك مسألة جديدة بل قديمة.
وأهل العلم بينوا منهجية التعامل مع هذه الأمور:
أنه إذا كان الإنسانُ طالبَ علم عنده قدرة على البحث في الأدلة وتقويمها فيتبعُ ما يقوم عليه الدليل.
وإن كان لا يملك ذلك فإنه يقلد من يثق في علمه ودينه.
وينبغي تأكيد قضية مهمة:
وهي أن الإنسان حين يتبع قولا عليه استحضارُ أنه يدين الله تبارك وتعالى به.
يستحضر وسائل الحق والوصول إليه ولا يكون الخلاف وسيلة إلى اتباع الأهواء.
22- كيف ترون دور الفضائيات الإسلامية بالتربية؟
أدت دوراً جيداً وإيجابياً، وإن كنا نتطلع إلى ما هو أكبر.
وفي الختام نشكرُ فضيلة الشيخ محمد الدويش على رحابة صدره وتعاونه معنا، فشكر الله لكم، وجزاكم عنا خير الجزاء.(/7)
العنوان: حوار مع الروائي الكبير ((نجيب الكيلاني)) رحمه الله تعالى
رقم المقالة: 152
صاحب المقالة: محمد عبدالشافي القوصي
-----------------------------------------
يسعد موقع الألوكة أن يعيد نشر هذا اللقاء الممتع مع الأديب الإسلامي الكبير الطبيب د. نجيب الكيلاني رحمه الله تعالى، الذي وافته منيَّته بعد معاناة مرض عضال ألمَّ به بتاريخ: الخامس من شوال 1415 هـ، الموافق 6/3/1995م. رحمه الله رحمة واسعة ونفع بتراثه وأدبه:
يعد الدكتور ((نجيب الكيلاني)) من أبرز الروائيين الإسلاميين المعاصرين.. وقد شهدت له الأوساط والمحافل الأدبية بحسن أدائه الرفيع، وإبداعه المميز، وفنه الأصيل الذي صاغه في القوالب الفنية المختلفة من الرواية، والقصة، والمسرحية، والشعر... فضلاً عن الدراسات الأدبية المتنوعة.
كما يعد الدكتور نجيب الكيلاني من أوائل الأدباء الذين تبنوا فكرة الدعوة إلى الأدب الإسلامي، وإنشاء رابطة للأدباء الإسلاميين.. حتى تحقق الحلم الجميل.. وقد كرمته رابطة الأدب الإسلامي العالمية تكريمًا يليق بتاريخه الأدبي.. وبمكانته في الأدب الإسلامي.
وفي هذا اللقاء مع ((نجيب الكيلاني)) نحاول أن نتعرف رأيه في كثير من القضايا الأدبية التي تفرض نفسها على الساحة.. والتي تضاربت حولها الآراء، وتباينت فيها وجهات النظر. بل إن اللقاء مع نجيب الكيلاني هو هدف – في حد ذاته – باعتباره قمة أدبيه وفنية في عالمنا المعاصر، وضع قواعد وأسسًا ونظرات فنية فريدة من نوعها كلها تمتاز بالأصالة والنضج العقلي والعاطفي الذي بلغ ذروته خلال مسيرته الأدبية وجاء الحوار مع الروائي نجيب الكيلاني – على النحو التالي:
- سألت الأديب الإسلامي الكبير د.نجيب الكيلاني – في البداية – عن القواعد الأساسية والخطوط العامة لما يمكن أن يسمى ((أدبًا إسلاميًا))... فقال:(/1)
من حسن الحظ أن الإسلام لم يحدد ((شكلاً)) فنيًا معينًا يلزمنا به، بحيث ندور في إطاره، فلا نتعدى رسومه، وإنما حدد الإسلام ((المضمون)) أو الفكر الذي يتناوله الفنان في الشكل الذي يختاره.
فالإسلام يختلف عن غيره من الفلسفات الإنسانية، فمن الفلاسفة من يرى أن الإنسان طبيعته الشر، وأن الأصل في الحياة الكذب والنفاق والجبن، ومن الفلاسفة من يرى أن الفن غاية في حد ذاته وليس وسيلة لبلوغ أي هدف، وهم دعاة ((الفن للفن)).
أما الفنان المسلم فله فهمه الشامل للحياة والإنسان، وله إيمانه بأن الفن وسيلة لبلوغ غاية عظمى، ألا وهي تكوين ((الوجدان)) المشبع بروح الحق والخير والحب..
والفن الإسلامي لا يختار نماذجه من أمثلة الخير والحب والفضيلة وحدها، بل يقدم شتى النماذج خيِّرها وشريرها، عاليها وسافلها، وإلا انعدمت الحركة الفنية، والصراع النفسي، إنها معاناة أصيلة نابضة، تبعث في نفسه لونًا من ألوان ((القلق)) العظيم، وتحرمه الإخلاد للكسل والسلبية والأنانية.. وهذا هو الفن العظيم.
وعالم الأدب والفن الإسلامي عالم فسيح رحب، يستوعب التجارب الأسطورية والتاريخية والواقعية المعاصرة، ويجول في أنحاء الشرق والغرب، ويبرز التجارب المحلية والعالمية، ويرتبط بقضايا الإنسان عامة وقضايا المسلمين في شتى أنحاء المعمورة خاصة.
أدب معقول... وأدب مرفوض
- أستاذنا.. ما هو تقييمكم للتراث الفكري والأدبي المعاصر، على المستوى المحلي والعالمي – ماله وما عليه.؟؟
إذا نظرنا إلى التراث العالمي المعاصر، وجدنا ركامًا هائلاً من القصص والمسرحيات ودواوين الشعر، والأفلام السينمائية، واللوحات الفنية وغيرها، وكلها تئن تحت وطأة الإثم والتحلل والسخط واللامبالاة، وتعبر عن الرغبة المجنونة في الهدم والتدمير، والرفض الصاخب لصور الحياة السائدة.(/2)
ولكن عالمنا العربي لا يرزح تحت نفس الظروف والأوهام والانحرافات التي عانى منها الغرب.. ويؤسفني كثيرًا أن أرى مفكرينا وأدباءنا يروجون للبدع الغربية، وينساقون وراءها دون تَرَوٍّ، فالمفروض أن يكون أدبنا مرتبطًا بتراثنا، وواقعنا، ومعبرًا عن آمالنا وآلامنا، ونابضًا بقيمنا الروحية الخالدة..
وهذا يعطينا دليلاً آخر على أن الجري خلف البدع المستوردة لا يكون دائمًا خطوة إلى الأمام.
وهذا لا يعني أن نغلق النوافذ والأبواب، ونتقوقع داخل قمقم من العزلة والأفق الضيق والتعصب، بل لابد أن نكون مستعدين دائمًا لاستيعاب التجارب الجديدة، دون أن نفقد أصالتنا وتميزنا والالتزام بقيمنا الخالدة..
الخراب الفكري والعقائدي
- ما رأيكم فيما يقال بأن الأدب والفن هو تمرد على الثوابت؟.. وإذا كانت الحرية هي من أهم شروط الإبداع الجيد.. فإلى أي مدى يمكن للأديب الإسلامي أن يجمع بين الحرية والإلتزام في آن واحد؟!
لابد أن نعلم أن حرية الفكر لم تكن مجرد شعارات ترفع، أو كلمات جوفاء يتشدق بها الناس، إنما لابد أن تكون واقعًا حيًا ملموسًا وسلوكًا عمليًا يراه الناس ويمارسونه، وأن الحريات لم تكن مجرد نصوص في دساتير ومواثيق وإنما هي تطبيق مؤثرٌ، ودافع قوي للإبداع.(/3)
وهل كان غريبًا أن ينظر الغرب المتخلف – يومًا ما – إلى الشرق نظرة إعجاب وتقدير وامتنان، حتى أدرك الغرب أنه لا يستطيع أن يقيم دعائم حياة كريمة إلا إذا استفاد من تراث الحضارة الإسلامية واستوعبها، وحاول مواصلة السير على منهاجها، حتى إنهم أخذوا يتعلمون لغتنا، وينقلون علومنا وفنوننا، بل استفادوا من أساليبنا في الحياة، ومن الموسيقا والشعر والغناء، فهذا هو الشاعر الكبير ((دانتي)) في الكوميديا الإلهية يقتفي أثر شاعرنا الكبير أبي العلاء المعري في رسالة الغفران.. والصورة الحقيقية لحضارتنا أنها أقامت بناءها الشامخ الخالد، على دعائم ثابتة من حرية الفكر، فأنجبت نخبة فريدة من عمالقة الرجال في شتى فروع المعرفة الإنسانية.
أما عن دعاة التمرد وأدعياء الحرية فكل ذلك بمثابة ((بدعة)) ليتشبث بها الضائعون والتائهون، وأسموها فلسفة، إنها لا ترمز إلا إلى الانعتاق من كل مسئوليات العقائد، والانفلات من كل القيم... والغريب أن المروجين لهذه الشعارات يسمونها ((موقفًا)) وأحيانًا يدعونها ((وجودية)) و((تعبيرًا عن الذات)) بل يحاولون أن يضعوا لها القواعد والأصول، وقد تكون لهذه ((البدع)) الفكرية في أوروبا ما يسوغها، لكن في الشرق المستعبد الممزق التائه، يلتقطونها ويروِّجون لها، ويتخذونها دينًا جديدًا، فيسقطون في خطر داهم، وفناء محتم.. وهو الخراب الفكري والعقائدي.
إن من ينظر إلى صحفنا ومجلاتنا ومطبوعاتنا في السنوات الأخيرة يستطيع أن يقرأ بوضوح سوء المصير، ويشم رائحة الضياع والحسرة. والأديب الإسلامي الملتزم رجل عقيدة وفكر، رجل حركة وعمل، يسترخص كل شيء في سبيل عقيدته، ولا يقيس المعارك بحساب الحياة والموت، والخوف والخسائر المادية، وإنما يقيسها بالعمل الجاد والجهاد وبمقاييس الحق والعدل.
لكل فكرة موقف(/4)
- كيف تنظرون إلى التحيز الفكري والمذهبي عند الخصوم، فضلاً عن اتهامهم الإسلاميين بالرجعية والردة والتخلف إلى آخر هذه الأسماء التي امتلأت بها الصحف والمجلات..؟!
أنا لا أرفض التحيز بالنسبة لأي مثقف، وهذا مجرد رأي، لكن الذي أرفضه أن يكون هذا التحيز منبعثًا من ثقافة ناقصة، إن لكل مفكر موقفًا، ولكي يختار موقفه، يجب أن يتدارس المواقف المهمة والبارزة، فكثيرًا ما قرأت لقوم يهاجمون الأديان دون أن يلموا بأصولها الأولية، وكثيرون أخذوا علمهم من مبشر حاقد، أو مستشرق ناقم، أو كاتب موتور، دون أن يكلفوا أنفسهم مؤونة البحث عن الحقيقة.
لذا أقول: لا بأس أن يكون لكل مفكر موقف، أي أن يتحيز لموقفه.. على أن ينطلق هذا الموقف عن وعي وفهم ودراسة. أما عن تلك الهجمة الشرسة التي تطارد أو تحاصر الشرفاء والمخلصين، وقد صورهم المغرضون بصورة المتخلفين عن قضايا عصرهم، وبصورة اللاهثين وراء فتات الموائد.. نعم.. إن هذا الإرهاب الفكري هو الذي يمارسه هؤلاء المتخبطون، الذين يرمون المخلصين بالانحراف والتخلف والتبعية، ومن ثم أصبح النقد لونًا من ألوان المطاردة العنيفة لكل ماهو جاد وأصيل، حتى وجد المخلصون أنفسهم محصورين في زوايا ضيقة، مرغمين على الاستسلام والصمت، وخلا الميدان إلا من العازفين على أوتار القيثارة الرسمية، وتحول الفن والفكر إلى هتاف وصياح وصرخات تشنجية!
مؤهلات الأديب
- بعد أن قطعتم شوطًا كبيرًا في ممارسة الإبداع والنقد معًا نريد أن نتعرف مؤهلات الأديب المعاصر – أو التي ينبغي أن تتوافر فيه – من وجهة نظركم..؟؟(/5)
نعم.. إن من البديهي أن لكل إنسان استعداداته الخاصة، وميوله الشخصية، أو موهبته الفطرية، وهي أمر أساسي في أية مهنة أو حرفة يختطها الإنسان في حياته، ثم يأتي بعد ذلك دورنا في رعاية هذه الموهبة وصقلها، حتى يمكنها أن تؤدي الرسالة المنوطة بها.. فضلاً عن ذلك هناك بعض الاشتراطات الجوهرية التي لابد منها لأي أديب يريد أن يقدم عملاً أصيلاً في أي فرع من فروع الأدب.
أولها اللغة لأنها الأداة التي سوف يستعملها الأديب في صياغة أفكاره، ولذلك فإن تعلم اللغة العربية وقواعدها، والإلمام بالتراث يعد مسألة حيوية لأي أديب يريد أن يكون له شأن مذكور في عالم الأدب.
الأمر الثاني: باعتبار أن الأديب مرآة عصره، فلابد أن تكون له حصيلة من الثقافة العامة، بمعنى ألا يتقوقع في حيز ضيق من الثقافة حتى لا يفقد الرؤية السليمة والحكم الصادق على الأشياء..
ثالثًا: على الأديب أن يطَّلع على التجارب الأدبية المتنوعة لكبار كتاب العصر، فهذه النماذج هي في واقع الأمر الأستاذ الأول لأي أديب، وهي تأتي قبل الدراسة ((الأكاديمية)) للعلوم الأدبية مثل فن القصة أو فن المسرحية وعلم العروض وأوزان الشعر.
رابعًا: من الضروري أن يرتبط الأديب بأهداف عليا، وغايات نبيلة، وهذا لن يكون إلا إذا كان للأديب منطلق فكري واضح، أو فلسفة محددة يمكنه أن يلتزم بها، لأن الأدب ليس مجرد كلمات جميلة، أو عبارات عذبة، وإنما الأدب الأصيل هو الذي يجمع بين عناصر ثلاثة:
1 – إثارة العقل وإقناعه.
2 – تحريك الوجدان وإشعاله.
3 – التحريض على فعل شيء ما، وهو أمر يرتبط بسلوك المتلقي.
عندئذ يكون لذلك الأدب قيمة حقيقية، ويكون الأديب – أيضًا – حاملاً لرسالة عظيمة.. وهنا يكمن السر في ذلك الخلود الذي حظي به كثير من الكتاب على مر الأجيال والعصور، وهنا يتضح لنا كيف أن التاريخ جر أذيال النسيان على تراث كتاب كثيرين لم تكن مؤلفاتهم تساوي ثمن المداد والأوراق!!
الموهبة.. والثقافة(/6)
- د.نجيب الكيلاني... كيف يختار الكاتب القصصي ((الفكرة)). وهل بالضرورة أن تعبر الفكرة عن شيء حقيقي في الحياة..؟
لابد للعمل الناجح أن يكون نابعًا عن فكرة أو موقف في الحياة، وهي التي تدور حولها الصراعات والحوار والوصف والسرد والبناء العضوي ككل. المهم أن هذا يعتمد على حسن اختيار الكاتب للفكرة، ومدى قدرته على الإقناع.. ولا يمكننا بطبيعة الحال أن نفصل الفكرة عن الشكل الفني المميز للقصة..
وفي رأيي أن ثقافة الكاتب محصلة لخبراته في الحياة، وقراءاته المختلفة في شتى فروع المعرفة، ومواقفه المتبانية إزاء الأحداث والناس والقيم والأعراف والتقاليد.. والكاتب الموهوب يستطيع أن يمزج ذلك كله، ويستوعبه ويتمثله، ثم يخرج بالجديد الذي تكون لديه قناعة تامة، ومن ثم قد تكون الفكرة فكرته، وقد تعجبه فكرة اقتنع بها عبر التراث أو التجارب والأحداث التي مر بها الآخرون، وهل ينكر أحد أن التراث الديني والفلسفي والتاريخي في العصور الغابرة والعصور الحديثة أيضًا يُعَدُّ كنزًا فريدًا لأفكار لا تعد ولا تحصى.. المهم أن تكون الفكرة متوائمة مع احتياجات الواقع، ولها دور بناء في دفع عجلة الحياة إلى الأمام، والعمل على إسعاد البشر، وإثارة وجدانهم وعقولهم، وتجعلهم دائمًا في شوق إلى اتخاذ موقف أو فعل شيء إيجابي.. من خلال الأقوال والأعمال.. ولابد أن نأخذ في الاعتبار أن إثقال الفن بالأفكار المقحمة، والقيم العنصرية المريضة عمل يسيء إلى الفن والفكر ويهبط بمستوى الأداء، ويهلهل الشكل الفني بالكلية.(/7)
الفكرة إذًا مهمة، لكنها في يد الفنان المقهور العاجز تضر بالصورة الفنية أبلغ الضرر، ولهذا سمعنا عن مؤسسات موجهة ساقت الفنانين إلى حظائر السخرية الفنية، وألزمتهم بموضوعات معينة، وأفكار مغرضة... فكانت النتيجة أن بقيت ملايين النسخ من تلك الكتب، ملقاة في مخازنها يعشش فوقها العنكبوت، ولم تستطع برغم ألوان الدعاية المختلفة والتسهيلات الكثيرة أن تجد الطريق إلى عقول القراء وقلوبهم...(/8)
العنوان: حوار مع الناطق باسم الحكومة الفلسطينية غازي حمد
رقم المقالة: 803
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
حوار مع الناطق باسم الحكومة الفلسطينية غازي حمد
توتر وارتقاب يعم الأراضي الفلسطينية بانتظار بشائر حكومة الوحدة الوطنية في فك الحصار، وإعادة الحياة إلى مجراها الطبيعي، وإحلال بعض من ملامح الهدوء والاستقرار الأمني والسياسي، ولاسيما الاقتصادي والاجتماعي؛ من شأنها أن تنهي الألم وتبدد مشاعر الاحتقان، التي شهدتها الساحة الفلسطينية، وعانتها على مر عام ونصف تقريباً، منذ انتخابات التشريعي المنعقدة في أواخر يناير العام الماضي، وما لحقها من اضطرابات ونزاعات على السلطة، قابلها خناق وتضييق إسرائيلي؛ جر الساحة الفلسطينية إلى مزيد من الصراعات.
في حوار خاص وشامل مع الناطق الإعلامي للحكومة الفلسطينية غازي حمد، يثير الكثير من القضايا، ويرد على أجوبة؛ طالما نشد المواطن الفلسطيني والعربي لها أجوبة شافية. تابعوا معنا..
- ماذا قدمت حكومة الوحدة الوطنية للفلسطينيين؟
على الرغم من عدم زوال الحصار الاقتصادي، واستمرار الضغط الأمني والسياسي على الساحة الفلسطينية بعد اتفاقيات مكة؛ إلا أن أملاً يلوح في الأفق ببدء تبدده، بإذن الله الكريم. يبرهن على ذلك اعتراف الدول بالحكومة، إضافةً إلى الدعم العربي الكامل، وترحيب عدد من الدول الأوروبية وغير الأوروبية، واستقبالها وزراء الحكومة؛ لبحث سبل الدعم، والتفاهم على بحث آلية لتخفيف العبء الاقتصادي، وإبداء عدد كبير منها استعداداً للدعم الاقتصادي لها.(/1)
كما أن إقرار خطة أمنيةٍ - من شأنها أن تقضي على حالة التفلُّت الأمني التي قطعت أوصال المجتمع الفلسطيني – قائمٌ على ضمان المصلحة العامة للمواطنين، وأن ينعم الشعب بالاستقرار والهدوء. كما أن أولى أوليات حكومة الوحدة إيجاد حلول ناجعة لأكثر الملفات المؤثرة على حياة المواطنين؛ الملف الأمني والاقتصادي. ولقد أدى انسجام الفصائل والقوى الفلسطينية في إطار حكومة الوحدة الوطنية إلى ترسيخ التوافق والتعاضد بين مختلف الجهات الفلسطينية. مشروعُ حكومة الوحدة إنجاز كبير، لكنه بحاجة إلى التفعيل، والترجمة على أرض الواقع؛ حتى يشعر المواطن به.
غدا التوافق بين الفصائل والقوى الفلسطينية في برنامج سياسي موحد في إطار حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية بعضاً من ملامح الأمل.. ماذا تقول للمواطن الفلسطيني؟
حقاً؛ المواطن الفلسطيني الآن أصبح يعلق آماله في تحسين أوضاعه على الحكومة، بل إنه يتجه أحياناً إلى محاكمتها؛ إن أخفقت ولم تفِ بوعودها، لا يمكننا في ظل فترة وجيزة - لا تتجاوز الشهر - أن نحكم على فشل أو نجاح الحكومة! التغيير الذي حدث ليس تغييراً جذرياً، خاصة في ظل آثار الحصار؛ فالفترة القادمة من عمر الحكومة قد يتحقق فيها بعض الانجازات العملية، كانتظام عملية صرف الرواتب، ودفع بعض الأموال المستحقة، ومساعدة البلديات والمؤسسات الأخرى، بينما الموضوع الأمني سيتم ترتيبه وتنظيمه بأساليب وطرق؛ تؤتي ثمارها الطيبة على المدى القريب بإذن الله.
- ماذا عن الموقف العربي بعد اتفاق مكة . . هل تغير وكيف يدعم حكومتكم؟(/2)
الموقف العربي الأخير استمد قوته من الموقف الفلسطيني، الذي شكل (بوصلة) له، فكلما كان الموقف الداخلي الفلسطيني أكثر توحداً وتماسكاً؛ كان الموقف العربي موقفاً جماعياً للدول العربية كافة، وعلى الرغم من أن الموقف العربي اتسم بالإيجابية والإجماع الوطني حيال تشكيل حكومة الوحدة الفلسطينية، وتقديم الدعم والمساندة المادية والمعنوية لها؛ إلا أننا لا يمكننا اعتباره موقفاً تاماً، فلا زال بعض التشتت يلف بعض جوانبه، غير أن ذلك لا ينفي نجاح الموقف الفلسطيني في توحيد الموقف العربي إلى حد كبير، فقد أسفر عنه الدعم العربي المالي الشهري، إضافة إلى مساعدة الدول العربية الحكومة الفلسطينية على اجتياز الحصار الاقتصادي المفروض عليها، وكذلك استعداد عدد منها لكسر الحصار عبر علاقاتها مع الدول الأوروبية وأمريكا كالسعودية وقطر.
- هل من الممكن أن يخلق اختلاف الرؤيا السياسية انفصام برنامج حكومة الوحدة الوطنية؟
ليس من الصحيح أن يخلق الانفصام والتناقض والشقاق بين البرنامجين؛ ذلك أنهما احتويا على القضايا الأساسية والجوهرية في القضية الفلسطينية؛ كعودة اللاجئين، والدولة، والقدس، والأسرى، ولا سيما حق المقاومة، برنامج حكومة الوحدة الوطنية كان برنامج القواسم المشتركة، بين الفصائل والقوى التنظيمية المشاركة فيها، وحظي باتفاق الجميع عليه، دون التنازل عن البرنامج السياسي الخاص بكل حركة أو تنظيم من التنظيمات والحركات المشاركة، وهو ما دفع باتجاه المشروع الوطني القائم على المصلحة العامة الكبرى.
وبخصوص برنامج حركة المقاومة الإسلامية حماس، التي أوكل إليها تشكيل حكومة الوحدة؛ بناءً على نتائج الانتخابات التشريعية العام الماضي؛ ومدى توافقه واختلافه مع برنامج الحكومة؛ فإن برنامج الحركة قد يكون أوسع إلى حدٍّ ما من برنامج الحكومة؛ إلا أن التوافق بينهما كبير، فكلاهما احتوى على ثوابت القضية الفلسطينية، ولم يغفل أحدهما أياً منها.(/3)
إن اجتماع مختلف الأطياف السياسية في بوتقة واحدة امتص الاحتقان الداخلي، فأضحى المواطن يشعر بانتمائه إلى الحكومة، ويعمل جاهداً لإنجاحها على أرض الواقع، بعيداً عن الحمية الفصائلية والتنظيمية التي كانت سائدة، لقد أصبحت حكومة الوحدة عنواناً لكل الفلسطينيين، أما التجاذب السياسي الذي ضج به الشارع الفلسطيني في الآونة الأخيرة، ونتج عنه العديد من الضحايا الأبرياء؛ فقد بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً.
- كيف تردون الاتهامات التي تقول: إن برنامج حكومة الوحدة أغفل قضية المقاومة؟
المقاومة حق لا يمكن إسقاطه أبداً، وإن الأوضاع الأخيرة في قطاع غزة والشقاق الداخلي؛ عمدت إلى تغليب العمل السياسي على المقاومة؛ نظراً إلى الحاجة الملحة لترتيب الوضع الداخلي، والقضاء على مظاهر الفساد والتفلت الأمني.
إن المقاومة لا تقتصر - فقط - على العمل المسلح؛ وإنما تشمل بناء المجتمع، وتعزيز الوحدة الوطنية، بما يساعد المشروع الوطني الفلسطيني. إن المقاومة ثابتة في برنامج الحكومة والفصائل، حتى وثيقة الحوار الوطني هناك إجماع عليها، إذ نصت الوثيقة على أن المقاومة جزء أساسي من معادلة الصراع في المنطقة؛ لا يمكن إسقاطها إلا بزوال الاحتلال (وانتهائه) وإنهائه من الأراضي الفلسطينية.
- احتلت قضية الجندي الأسير جلعاد شاليط، والمماطلة الإسرائيلية في قبول تفاصيل صفقة التبادل؛ اهتماماً كبيراً من الفلسطينيين، الذين بدؤوا يتذمرون من تأخر الصفق.. ما تعليقك؟(/4)
قضية الجندي الأسير من القضايا المعقدة الصعبة التي تحتاج إلى مفاوضات، وخيارات، ومراحل لإنجازها، بما يحقق آمال وتطلعات المواطنين. الشارع الفلسطيني يستعجل إنهاء قضية الأسير، بينما يسعى الحكم الفلسطيني إلى إيجاد أفضل الحلول لإنهائها بما يتلائم مع المعايير التي وضعوها، سواء بخصوص أولئك الأسرى الذين قضوا سنوات طويلة من أعمارهم خلف أسوار الاعتقال، أو أولئك الأطفال والأمهات والفتيات؛ الذين حرموا من أقل حقوقهم، ويواجهون أقسى وأشد وأنكى ألوان العذاب .
المعايير التي وضعت للإفراج عن الأسرى وإتمام صفقة التبادل؛ لم تأخذ بعين الاعتبار النظر إلى الانتماءات السياسية أو الحزبية. الأسرى هم الألم والجرح الفلسطيني الغائر في النفوس والضمائر، لذلك لا بد من التريث. الإعلام يحاول أن يضخم القضية، ويضغط على أعصاب الجمهور، لكن القضية تسير في اتجاهها الصحيح، غير أنها تحتاج إلى وقت .
- ماذا عن الدور المصري في هذه الصفقة؟
نحن نثمن الجهود المضنية التي بذلها الوسيط المصري، من أجل التوصل إلى تفاهم، ومعايير محددة؛ لإتمام صفقة التبادل، بما يحقق الأمل في قلوب الفلسطينيين الذين طال انتظارهم لها. الطرف المصري يحاول أن يقلص فحوى الخلاف، وإيجاد رؤية مشتركة بين الطرف الفلسطيني والإسرائيلي؛ لإتمام صفقة التبادل. نأمل أن تنتهي بما يشرف الفلسطينيين جميعاً، ويرضي آمالهم.
- أعلن منذ عهد قريب تنفيذ خطة أمنية لإنهاء التفلت الأمني.. ماذا تتوقعون لهذه الخطة؟
طريق الخطة الأمنية ليست مفروشة بالورود، وإنما يحفُّها الكثير من التحديات والإشكاليات والعقبات، أهمها: العقبات المادية، وتخبط الأجهزة الأمنية في المهمات، إضافة إلى التفلتالأمني، وانتشار فوضى السلاح والجريمة، ناهيك عن العقبة الأكبر والأعظم، المتمثلة في الاحتلال الإسرائيلي، الذي جر الفلسطينيين إلى ساحة الاستنزاف والاقتتال بعقوباته الجماعية، من حصار وخناق..(/5)
الخطة الأمنية تلاقي إجماعاً من كافة الفصائل، والمؤسسات، والهيئات، والقوى الوطنية المختلفة، إضافة إلى القرار الشعبي الذي دعم إنجاحها، والسير في تنفيذ تفاصيل الخطة الأمنية سيكون تدريجياً بخطوات سهلة أولاً، كتنظيم الشوارع، وحركة المرور، وصولاً إلى حسم موضوع انتشار السلاح، وتنظيمه، وإيقاف الاقتتال الداخلي بكل الطرق الممكنة.(/6)
العنوان: حوار مع د. عبدالمنعم يونس
رقم المقالة: 1038
صاحب المقالة: حوار: محمد عبدالشافي
-----------------------------------------
لابد من إعادة النظر في الأدب
الذي تنشره الصِّحافة
كان وسيظلُّ الأدب بصفة عامة، والشعر على وجه الخصوص حديثَ الشعوب والأمم قديمها وحديثها، وقد حفل الأدب العربي في الماضي والحاضر برصد التاريخ السياسي والفكري لحياة الناس على ظهر الأرض. والأدب هو مرآة الشعوب والحكومات إيجاباً وسلباً. فما زال الناس إلى يومنا هذا يُهرَعون إلى معلَّقات شعراء الجاهلية، ويحتكمون في حديثهم ومناقشاتهم الأدبية والعلمية إلى ما حوته دواوين الشعر في العصرين الأموي والعباسي وما بعدهما من العصور المتوالية وما قبلهما.
فما هو الدور الذي يؤديه الأدب تُجاه قضايانا الحيوية؟ وهل يا تُرى أن التقدم (التكنولوجي) في وسائل الإعلام أفاد الأدب، أم أضر به؟ وما هو دور الأندية الأدبية والثقافية في الوقت الحالي؟ وما هي القضايا التي تناقش وتملأ وقت أدبائنا ومفكرينا؟ ثم هل الشعر موهبة أم اكتساب؟ وما هي التحديات التي تعوق مسيرة الأدباء المخلصين في مجتمعاتنا؟
كل هذه القضايا وغيرها من التساؤلات توجَّهنا بها إلى سعادة الدكتور عبد المنعم أحمد يونس رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية بالقاهرة ووكيل كلية اللغة العربية بشبين الكوم - جامعة الأزهر الشريف. وهذا هو نص الحوار:
دور الأدب:
- في البداية، ما الدور الذي يؤديه الأدب في خدمة قضايانا العربية والإسلامية؟(/1)
لا شك أن الأدب له دور في خدمة القضايا الإسلامية والعربية، ونحن نرى على مرِّ العصور أن الأدب أدى دوراً كبيراً في خدمة كثير من القضايا العربية والإسلامية، وكثير من الدول كانت تُعْنَى بالأدب؛ لأنها تعلم أنه الدافع إلى تحريك الجماهير، أو السيطرة عليها، ويعنينا في هذا المقام أن نتحدث عن الأدب الإسلامي بصفة خاصة. فنحن نعلم أن الأدب الإسلامي وبخاصة الشعر كان له دور كبير في تأييد الدعوة الإسلامية إبان ظهورها، وتعرضها لأذى المشركين، فقد قام حسان بن ثابت الأنصاري، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة – رضي الله عنهم - ينافحون ويدافعون عن الدعوة الإسلامية وعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أن القرآن الكريم كان يتنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويدافع عنه في كثير من الأذى الذي لحقه من المشركين، إلا أن المشركين - في ذلك الوقت - لم يكونوا يؤمنون بالقرآن الكريم؛ لذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد اتخذ من الشعر والشعراء سلاحاً قوياً يدفع به أذى المشركين وهجاءهم. وقد روت لنا كتب الأدب والسيرة قولَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: ((وما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسنَّتهم أن ينصروه بألسنتهم)). فقام حسان بن ثابت – رضي الله عنه - وقال قولته المشهورة: "أنا لهم يا رسول الله". وقال قصيدته الهمزية رداً على أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
هَجَوْتَ مُحَمَّداً فَأَجَبْتُ عَنْهُ وَعِنْدَ اللهِ فِي ذاكَ الجَزاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ
فِإِنَّ أَبِي ووالِدَهُ وَعِرْضِي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقاءُ
وهكذا يأخذ الأدب الإسلامي، والشعر منه - بصفة خاصة - دوره في خدمة القضايا الإسلامية.
- د. عبد المنعم، في نظركم هل صحيحٌ ما يُقال: إن وسائل الإعلام أضرَّت بالأدب ولفتت الناس عنه؟(/2)
في رأيي أن الأمر يحتاج إلى تفصيل، فليست التهمة الملصقة بوسائل الإعلام بإضرارها بالأدب تؤخذ على إطلاقها؛ لأن من وسائل الإعلام ما يهتم بالأدب اهتماماً بالغاً. حتى الصحافة اليومية فيها كثير من الأبواب التي تُبنَى على الأدب. وتنافح عن الأصالة وعن تراث الأمّة وقد رأينا كثيراً من الكُتّاب والأدباء لهم صفحات خاصة بهم.
لكننا - على الوجه الآخر - يمكننا أن نقول: إن وسائل الإعلام تهتم بالكلمة القصيرة، أو القصيدة السريعة، أو ما يسمى بـ- "الطقطوقة"؛ لأن القارئ يريد أن يحصل على معلومة سريعة في وقت قصير؛ ولهذا الأمر فقدت وسائل الإعلام كثيراً من الأبحاث المتأنية في مجال الأدب.
وهذا الأمر نتج في زمننا هذا؛ لأنه في الماضي كانت وسائل الإعلام تهتم اهتماماً بالغاً بالأدب، لكن الآن كثر في الحقل الثقافي أدعياء الأدب والمتشاعرون، فهل ننتظر غيثاً من ضباب الأفق؟!
الأدباء لا يزالون مختلفين:
- أستاذنا، ما رأيكم في "السفسطة" والمهاترات التي تحدث في الأندية والمجامع الأدبية. مع البعد تماماً عن القضايا الأدبية المهمة. وما هي القضايا الجديرة بالبحث والمناقشة؟
هناك قضايا كثيرة في هذه الأيام، فنحن حتى الآن لم نجد من الأدباء اتفاقاً على منهج معين في الشعر مثلاً، فهناك الشعر العمودي الذي ورِثناه عن الأقدمين، وهناك الشعر الحديث من تفعيلة، إلى شعر حر لا يعترف حتى بالتفعيلة. وهناك ما يسمى بقصيدة النثر، هذه القضايا في الشعر خاصة، فما بالك بالقصة والرواية والمسرحية؟! وكلها قضايا ما زال الأدباء لم يقولوا كلمة الفصل فيها.
فيا ليتهم يكثفون جهودهم في بلورة هذه القضايا والخروج من الخلاف - الذي وصل إلى حدِّ التقاتل - برأي سديد، يخدم أدبنا وثقافتنا.
الموهبة أساس الشعر:
- هناك رأي يقول: إن الشعر موهبة. والرأي الآخر يقول: إن الشعر يُكتسب. ولكلٍّ أدلتُه وبراهينه. فإلى أي الرأيين تميل؟(/3)
إذا تحدثنا عن الشعر، فإننا نقول: إن الشعر كأي فن من الفنون لابد أن تكون الموهبة أساساً له؛ لأنه بدون موهبة سيكون الشاعر متكلفاً لأي كلام يقوله، وسيدخل بذلك في دور النظَّامين الذين ينْظِمون على بحر معين دون أن يتفاعلوا مع العاطفة التي تقوِّي نزعة الشعر لدى الشاعر. إذن الموهبة أساس، ثم لابد لهذه الموهبة من صقل وتهذيب، وهنا يأتي علم العَروض كمنظم للعملية الشعرية، ثم دور التراث والاتصال بدواوين الشعراء في تنمية هذه الموهبة.
إن على رابطة الأدب الإسلامي العالمية أن تكثف جهودها وأن تتبنى الشباب الذين يمتلكون الموهبة للإبداع في الأدب الإسلامي
- وما هو تقويمكم للشاعر محمد التهامي؟
يعد التهامي أحدَ الشعراء الفحول الذين خدموا القضايا الإسلامية، بل تفرَّدوا بخدمتها في وقت هي بحاجة إلى شعرهم، وما للتهامي من وسائل تعبيريه راقية.
وأستطيع أن أجزم القول بأن التهامي هو شاعر رابطة الأدب الإسلامي العالمية الأول دون منازِع. فهو شاعر بلغ سن النضج الفكري والعاطفي. من هنا فإن الرابطة تريد من شعرائها أن يكونوا على مستوى الشاعر التهامي؛ في تأنيه وقدرته على التعبير عن المضامين الإسلامية التي يؤمن بها.
المغرضون يقفون عقبة:
- وماذا عن التحدِّيات التي تعوق مسيرةَ رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وتعرقل جهود أعضائها؟
لابد لدعوات الإصلاح من معوقات. ولابد لمن يريد إصلاحاً أن يجد من يحول بينه وبين ذلك الأمر؛ لأن الذين يألفون الباطل ينافحون عنه، وقد رأينا ذلك في كثير من دعوات الإصلاح التي قامت، التي وقف أمامها المغرضون.
ورابطة الأدب الإسلامي العالمية ليست بدعاً من ذلك، فهي تريد أن يكون للأدب رسالة، وأن تكون تلك الرسالة منبعثة من تراثنا وعقيدتنا وسلوكياتنا التي ننفرد بها عن كثير من الأمم.(/4)
وهذه الرسالة تجد من يقف في وجهها؛ لأن هذه الرسالة ستكون سبباً في كشف زيف هؤلاء الناس وخداعهم للأمة الإسلامية من هذا المنطلق.
وليس أدلَّ على ذلك مما يفعله دعاة العلمانية، والحداثة المنحرفة في تقزيم أدبائنا وشعرائنا الإسلاميين، والوقوف أمامهم لعرقلة جهودهم بطريق مباشر، أو غير مباشر.
ولكننا نقول: إن على رابطة الأدب الإسلامي والمنتمين إليها أن يكثفوا جهودهم وأن يتبنَّوا الشباب الواعد الذي يستطيع الإبداع في مجال الأدب الإسلامي، الذي يمكنه أن يتصدى لكل من يريد القضاء على رسالة الأدب الإسلامي {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}؛ [يوسف: 21].(/5)
العنوان: حين تُحتكَر الحريَّة...
رقم المقالة: 176
صاحب المقالة: د. صالحة رحوتي
-----------------------------------------
وتتوالى الالتفاتات... تبدأ لتنتهي على استحياء، ويرمقني بطرف عينيه محاولاً أن يستشف ردة فعلي، أحاول أن أكتم ما يعتمل بصدري وذهني... وأجتهد في البحث عن موضوع أطرحه حتى يكون البديل... وحتى يحتل النقاش حوله مساحات فكره وعقله، ويلهيه عن الانسياق ببصره وراء مناظر أضحت تؤثث فضاءات الواقع المر في كل الأوقات.
بطون وأفخاذ عارية، وسيقان وأذرع وأشياء أخرى كذلك...
فتيات في عمر الزهور مزدانات بكل أنواع الزينة...ألبسة قصيرة، ضيقة أو شفافة... مساحيق وقصات شعر وعطور، متبرجات حتى النخاع ... ويقصدن دور العلم.
نساء في كل الأعمار على نفس الشاكلة يقصدن أماكن العمل...
وربات بيوت وأمهات... لا يختلف مظهرهن عمن سبق ذكرهن...
و أجدني مرغمة ـ مرة أخرى ـ على أن أخوض غمار هذا الموضوع ، مع أن الحديث عن مثل هذه الظواهر أصبح اليوم عند مريدي العصرنة والحداثة من قبيل الهذيان المبين عن رجعيَّة راسخة في الفكر والوجدان...
أجدني أفعل ودون تردد، وقد أخبرنا وحي مذهبهم بأن حرية الفرد مقدسة...
و حدثنا كهنتهم بأن للإنسان أن يبحر في محيط الحياة كيفما شاء، و بأي فلك وأشرعة يريد، ما دام ذلك يوافق مزاجه و يريح نفسه ويلبِّي رغباته ويفي بتطلعاته...
لكن، هذه الحداثة تعترف بالعلم، وتلبَس مسوحه ولا تعارضه، بل تمتطي صهوته من أجل التصدي "للخرافة والغيبيات"،لا يمكنها إلا أن تجد نفسها مضطرة منطقيًّا لولوج حلبة التناظر من أجل البحث عن الحقيقة، التي ما فتئت تتباهى بأنها تنافح عنها، وتقرها، وتجعل من إبرازها هدفها الأول والأخير.
فالعلم أثبت أن للإنسان حواسَّ... والحواس تستثار عن طريق المؤثرات...
والدماغ يتلقَّى الإشارات ويرسل الأوامر للأعضاء... فتشتغل...(/1)
وعري الأجساد يخاطب الأبصار، وروائح العطور تدغدغ الأنوف، والخضوع في القول والكلام الفاحش ينحشران في الآذان... والعواطف والرغبات الجامحة المدمرة تسكن السوانح والوجدان...
والنتيجة التي لا يمكن أن ينكرها كل ذي لب يؤمن بالعلم: إشارات عصبية تتوالى، وهرمونات تفرز، وغرائز تستثار، وأعضاء تناسلية تشتعل أنسجتها.... فتستعد للاشتغال ...
وبالرغم من هذا فمقولات الحداثة تكابر وتتحدى منطق العقل والعلم...
فالمرأة حسب نصوصها المقدسة تملك حرية اختيار المظهر الذي ترغب في أن تبدو عليه، والمنهج الأخلاقي الذي تود أن تسلكه...
لكن أو ليس من حق الجميع التحقق من مدى إمكانية تطبيق هذا المنطق على الناس كافَّة، ومن عدم مساسه بحرية الآخرين ومصالحهم ؟
فالمراهق ـ القابع بجانبي في السيارة في أثناء رحلة الذهاب إلى الثانوية ـ جزء من هذا الجميع، وفرد من أفراد المجتمع المؤمَّل والمطلوب من الحداثة أن تعطيهم كل الحقوق المستحقة حسب نصوصها، وأن تهتم بهم، وتترك لهم الحق في ممارسة حرياتهم بـ"حرية" في جميع المجالات.
وأية حرية ستضمن له وتوفر له هذه الحداثة، وهو المقود غصباً إلى الفاحشة، لتفريغ الشحنات المنبثقة عن استثارة أعضائه التناسلية قهراً ودون رضاه؟
وهل من حلول أتوخَّى أن يطرحها سدنة الحداثة حتى أتمكَّن من خلالها أن أنقذ ابني من مهاوي الرذيلة والفحش؟
وكيف له أن يكون حرًّا في أن يسخِّر الطاقات التي منَّ الله بها عليه في إعلاء همته في طلب العلم، حتى يسهم في إعادة الأمة إلى مرتبة الخيرية وهو المشتت الذهن، المباغَت كل حين بما يقتحم عليه كيانه من شحنات الإغواء، تدفعه إلى بذل الكثير من الجهد من أجل مغالبة ما تنتجه في نفسه من نزوات، قد تدمِّره إن هادنها و استجاب لها؟(/2)
و كيف يُطلب من هذا الغضِّ اليافع، الذي نَضِجَ جسمه قبل أن يَنضَجَ عقله، أن يغالب هذا الطوفان من المثيرات الجنسية المتدفقة من جميع الجهات، المخاطبة لكل الحواس ؟
كيف لا تكون نصوص الحداثة مسؤولة عن ضياع مستقبل من استُثير... فاشتعل أُوار شهوته... فمارس الجنس الحرام... فحظي بغضب الله وسخطه أولاً... ثم كان المرض "العقاب" القاتل من نصيبه ثانياً؟
شباب يافعون في عمر الزهور أُدخلوا متاهات اللذة الحرام ليتلظَّوا بلهيبها...
يأس وضنك وتيه وأمراض نفسية وجسدية... تنهك القوى وتدمر فئة الشباب التي أُريد لها أن تكون معولَ هدم لا وسيلة بناء وتعمير للأرض التي استخلفه الله فيها.
ثم ألا يخطر ببال الأسر المتيحة لفتياتها ممارسة الحرية في اللباس والسلوك، أن ذكورها لا بد مكتوون بنار تبرُّج إناث الآخرين المتحررات ؟
علاقات غير شرعية، وخيانات زوجية، ولقطاء، بل حتى زنى المحارم واغتصاب الأطفال... كل ذلك بات منشراً فاشياً..
إنه سعار جنسي مقيت يشلُّ الطاقات ويدمِّر العلاقات...
ولكي ترتق الخرق الذي اتسع تحاول الحداثة تفعيل حلول وهميَّة لا تقيم للعوامل المسببة للخلل حساباً...
حملات إعلاميَّة مضادة للاستغلال الجنسي للأطفال... والنفوس مريضة بعيدة عن الله تلهث وراء كل آت من الغرب المريض المهوَّس بالجنس حتى النخاع.
وجمعيات تدَّعي العمل لحماية المجتمع المدني... والقلوب غافلة، تتلقَّى "نفحات" العهر، و"بركات" التسيُّب من مواقع الفجور على الشابكة (الإنترنت)، ومن قنوات المجون في فضائيات التلفاز، ومن صفحات العري في الصحف والمجلات.
و الداء لا يمكن شفاؤه -كما هو معلوم- إلا بالتصدي لأسبابه...
وتتيه بي الأفكار.. وتنحشر بذهني في متاهات التأمُّل في واقع الحال...
وأجدني قد شردت عن متابعة ما كنت بصدده من افتعال ما قد يشغل ابني عن صور العري والانحلال.(/3)
وينفطر قلبي ككل مرة حين أجدني عاجزة عن ضمان حمايته، وعن استعادة ما أجهز عليه الآخر المتحرِّر بمباركة عجل الحداثة ـ من حريته...
يجتاحني القلق طوفاناً يعصف بحناياي، ويُرغمني على التساؤل عن جدوى ما أبذله من جهود لإبعاد شبح الانسياق وراء الشهوات الحرام عنه، وعن مدى قدرة تلك الجهود على الوقوف أمام سيل الغواية الجارف، المتطاولة أمواجه حوله وحول أمثاله يوماً بعد يوم...
و يتوقَّف سيل التفكر وقد وصلت إلى وجهتي...
يغادر ابني، وأتابعه بنظرات مشفقة..
واليأس يكاد ينحشر وينغرز شوكه في داخلي...
أنتبه فجأة وأستعيذ بالله...أسارع بالتضرُّع إليه...
أبادر باستعادة استشعار طعم الحرية الحقيقية الكامنة في العبودية لله في أعماقي...
أستلذُّه ترياقاً يُبيد وهن الهزيمة، ويُعين على نوائب الإحساس بالقهر.
و ينطلق لساني ذاكراً...
وقلبي راجياً من الله أن يشملنا وأبناءنا بحفظه، وأن يعيننا على حسن تربيتهم وتوجيههم حتى يغالبوا الشهوات، ويدرؤوا عن أنفسهم الزلات، ويستعينوا بالله على التصدِّي للانجراف وراء المنكرات.(/4)
العنوان: الألعاب الشعبية في بلاد الشام
رقم المقالة: 178
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
قبل عهد قريب أي قبل اختراع الألعاب الالكترونية كان أكثر الصبيان يلعبون ألعابهم الشعبية في الأحياء والساحات والحدائق العامة وفي الحقول والبساتين، بعد انصرافهم من المدارس وفي أيام العطل والأعياد. ولا يكاد شارع أو حي أو ساحة من ساحات المدن العربية تخلو من تجمعات الفتيان لمزاولة ألعابهم المحببة، وتعددت الألعاب فمنها ألعاب خاصة بالفتيان ومنها ما هو للفتيات ومنها ما يلعب بالنهار ومنها ألعاب ليلية ومنه ألعاب لفصل الربيع أو الصيف أو الشتاء أو الخريف، ومنها ما هو لصغار السن ومنها ما هو للفتيان ومنها ألعاب عائلية ومنه ألعاب مع الأصدقاء.
وتتشابه الألعاب العربية فيما بينها وقد تختلف بالاسم فما كان يلعب بالشام كان يلعب الجزيرة العربية أو مصر أو المغرب العربي، ولكن التسمية تختلف فعلى سبيل المثال لعبة الغميضة كما يسميها أطفال دمشق و تحمل الاسم نفسه في المغرب العربي، أما أطفال فلسطين فيسمونها الغماية أو الطميمة، أما القلل الخليجي ففي دمشق يقال له: دحل، وفي المغرب العربي البلي أو البمبات، وفي فلسطين البنانير وفي بعض البلدان كلاس وهي كرات زجاجية مصقولة بحجم حبة الكرز يلعب بها الفتيان دون الفتيات وتحتاج إلى مهارة عالية في التصويب.
وتنقسم الألعاب من حيث عدد اللاعبين إلى عدة أقسام فهناك:
1. ألعاب خاصة بالأولاد
2. ألعاب خاصة بالبنات
3. ألعاب مشتركة بينهما
4. ألعاب أسرية تشترك فيها الأسرة من الأب والأم والأولاد.
ومن هذه الألعاب:
ثعلب فات، طاق طاق طاقية، يا مفتش فتش على الحرامي، الشرطة والحرامي، الطميمة، الدحل، شاك العجم، العنطوز، طرة ونقش، الدوش، العرج، مين ساقك ياحماري، الطابة والسبع بلاطات، سلوى يا سلوى، جمَّال يا جمَّال، وغيرها من الألعاب . وسنتعرض لأشهرها:(/1)
1- ألعاب خاصة بالصبيان:
لعبة المضارب " راكيت":
وهي من الألعاب موسمية تقام في بداية الربيع يلعب بها اثنان يتبادلان قذف الريشة الدائرية وتكون المضارب إما من الخشب أو من الشبك البلاستيكي المتين، واللاعب الذي لا يتمكن من رد الريشه تحسب عليه نقطة ويخرج بعد عدد من النقاط المتفق عليها ويدخل غيره.
لعبة الحصان:
عدد اللاعبين: مجموعة من الأطفال الذكور. طريقة اللعب: يقوم الصبية بالاصطفاف على شكل خط مستقيم وتكون قاماتهم منحنية، بحيث توضع أيديهم على ركبهم ووجوههم إلى أسفل على نحو ما يفعل المصلون حين يركعون. ويقوم آخر صبي في الصف بالقفز (النط) فوق زملائه الذين أمامه واحداً إثر واحد حتى ينتهي منهم جميعاً ثم يقف في المؤخرة وينحني كبقية الصبية ويبدأ بالقفز الذي كان يليه في بداية اللعب وهكذا حتى ينتهي الجميع ليبدؤوا اللعبة من جديد.
القفز فوق اللاعبين:
عدد اللاعبين مجموعة من(5 - 10)
يأخذ عدد من الأولاد (أكثر من ثلاثة) هيئة السجود في الصلاة متراصيين ويبتعد عنهم عدد من الأولاد مسافة عشرين متر أو أكثر وينطلق الأول راكضا فإن اقترب من الساجدين ألقى يديه وجسمه في الهواء وقفز فوقهم مع حركة الشقلبة، ثم يأتي الثاني والثالث وهكذا وكلما اجتاز الأولاد العدد زادوا شخصا للساجدين فربما يبلغ عددهم سبعة أو ثمانية وفي هذه الحالة يخسر الذي يقع على زميله فيأخذ مكان الولد الأول وهكذا حتى يفوز البطل الذي اجتاز أكبر عدد من الأولاد.
الطابة والسبع بلاطات:
عدد اللاعبين من ( 5 ـ 10)(/2)
يؤتى بسبع قطع من البلاط الصغير وتننصب القطع بعضها فوق بعض ويصطف اللاعبون على بعد على بعد أربعة أو خمسة أمتار في مواجهة البلاطات فيقوم الأول برمي كرته على البلاطات فإن لم يصبها رمى الأخر فإن أصابها يهرب الجميع ويقوم الفائز بملاحقة اللاعبين وتصويب الكرة عليهم فالذي يصاب يخرج من اللعبة أما الذي يعود لمركز اللعب ويقوم بترتيب البلاطات كما كانت يكون هو الفائز.
الجلاد:
عدد اللاعبين مجموعة من الذكور بين (5 – 10)
ترسم دائرة ويقف فيها الجلاد حاملا سوطا خفيفا، حوله اللاعبون، يبدأ الجلاد بطرح لغز على اللاعبين كاسم علم مثلا أوله حرف العين وآخره اللام فإذا أخطأ اللاعب استحق ضربة خفيفة من الجلاد وإذا أصاب أخذ السوط ولحق اللاعبين يضرب منهم من لا يستطيع الهرب وبعد دقائق يعود الفائز ليتربع في دائرة الجلاد ليلقي حزورة جديدة على الأولاد.
لعبة بييييييب:
عدد اللاعبين زوجي من (5ـ 10)
فيقسم الأولاد إلى فريقين يخط بينهما خطا فيدخل أحد اللاعبين ويقول بنفس واحد بييييييييب ويحاول الطرف الثاني الإمساك به فإذا قُطع نفسه خسر وإذا استطاع الرجوع إلى مكانه يكون قد ربح والذين أصابهم خسروا فعليهم أن يخرجوا من اللعبة.
ألعاب الدحل:
وهي من الألعاب الموسمية تقام في بداية فصل الصيف ولها عدة أسماء فمنها القلال، القلول، البنانير الكلاز، القلل، وغير ذلك وهي عبارة عن كرات زجاجية صغيرة بحجم حبات الكرز منا الملون بلونين أو أكثر، يلعب بها الصبيان في الساحات والأزقة وهي مشهورة في بلاد الشام وغيرها من بلدان العالم، وحباتها مستوردة من البلدان الغربية، وتنقسم ألعابها إلى عدة أقسام منها:
· المور:(/3)
يرسم مثلث وعلى بعد منه يخط مستقيم ويوضع في المثلث عدد من حبات الدحل كل لاعب يضع مثل الآخر حسب الاتفاق، ويرمي اللاعبون دحلهم بالخنصر والسبابة تجاه الخط والأقرب هو الذي يبدأ باللعب فيرمي نحو المثلث ثم يتبعه اللاعبون، ثم يبدأ الأقرب من المثلث بالرمي لإصابة الحبات التي فيه فإن خرجت من المثلث فهي له وإن علقت دحلته في المثلث فيخرج من اللعب دون أرباح.
· الجورة:
تحفر حفرة صغيرة ويتم التصويب نحوها فالذي يسقط حبته في الحفرة يقوم بتصويبها نحو حبات الآخرين فإن أصابها فهو الفائز وإن لم يصبها فيصوب الذي يليه حبته نحو الحفرة فإن وقعت فيها فيصوب على حبات الآخرين.
· الخط:
يرمي اللاعبان حباتهم نحو الخط والأقرب هو الفائز فيرمي الخاسر أولا ثم يتبعه الفائز فإن أصاب حبته فاز وإن لم يصبها يصوب الثاني نحوه وهكذا حتى يفوز أحدهما.
· طرة ونقش:
الأصل ( طغراء ونقش) والطغراء أصلها عثماني تركي وهي الطغراء العثمانية، التي كانت تسك على العملات المعدنية على أحد الوجهين أما الوجه الثاني النقش فمكتوب على وجهه ( عزَّ نصره مضروب في القسطنطينية) يضع اللاعب القطعة المعدنية على ظفر إبهامه ويقذفه عاليا في الهواء ثم يلتقطه ويضعه على الأرض وراحة يده فوقه، ويسأل اللاعب "طرة ولا نقش" أي طرة أم نقش، فإن عرف الخصم أخذ حبة من الدحل أو حبتين حسب الاتفاق وإن لم يعرف يدفع لخصمه حبة أو حبتين حسب الاتفاق.
البلبل:
ويطلق عليها في الجزيرة العربية البلول أو المدوم أو الدوامة، أو الشاعور وهو عبارة عن كوز من الخشب أو البلاستيك مدبب بمسمار يلف عليه خيط متين ثم يقذف بسرعة على أرض مستوية فيدور دورات كثيرة، ويمكن أن يلعب به عدد من اللاعبين يطلقون بلابلهم سوية والفائز من يبقى بلبله حتى النهاية، وربما هذه اللعبة كانت تعرف قديما باسم الحذروف.
بِرِيه:(/4)
توضع عصا قصيرة يبلغ طولها نحو خمسة عشر سم مدببة الطرفين على حجر يكون أعلاها مرتفعا عن الأرض فيأتي اللاعب ويضربها بعصا طويلة فتطير لمسافة معينة، ويعلَّم المكان الذي وقعت فيه ثم يؤتى بها ويضربها لاعب ثان وثالث ورابع... والفائز هو من حقق المسافة الأطول، وأظن أن أصل هذه اللعبة عبري لأن بري بالعبرية معناها " أطلق".
لعبة «الحَيّبْ»:
وهي شبيهة باللعبة السابقة وتوضع هذه القطعة الخشبية المدببة الطرفين بشكل مستعرض فوق حفرة ضحلة في الأرض لا يزيد عمقها عن بضعة سنتميترات. وهذه الحفرة تكون مستطيلة الشكل، قد يصل طولها إلي نحو عشرين سنتميتراً. ويطلق الصبية على هذه الحفرة «مور».
ويقوم أحد اللاعبين من الصبية بوضع عصاة في الـ «مور» أسفل القطعة الخشبية المدببة. ويجذب العصا بقوة على إلى أعلى، فتنطلق القطعة الخشبية المدببة في الهواء، حيث يحاول زميل له يقف قبالته ضربها بعصاه، فإن أفلح في ذلك، يقوم بإكمال اللعبة وذلك بأن يضرب على أحد طرفي القطعة الخشبية المدببة بعصاه، فتنطلق إلى أعلى، ثم يلاحقها ليضربها وهي في الهواء، ويظل يداوم على ذلك، فإذا فشل في ضرب القطعة الخشبية في أثناء انطلاقها إلى أعلى، أصبح من حق زميله أن يتسلم اللعبة منه فيبدأ دوره في اللعب.
النبيطة:
وتسمى النقيفة يؤتى بغصن شجرة على شكل حرف y ويشد في طرفيه مطاط يتصل برقعة من الجلد، توضع في الرقعة جمرات صغيرة وتقذف نحو الهدف، وكثيرا ما كانت تستعمل لصيد العصافير، وقد تطورت هذه اللعبة في بداية الانتفاضة في الأراضي المحتلة وغدت سلاحا فعالا لأطفال الحجارة، وأما المقلاع فهو معروف قديما ومشهور عن سيدنا داوود عليه السلام إذ كان ماهراً فيه، واستمرت هذه اللعبة حتى يومنا هذا وهي صنو النقيفة أو النبيطة ولكن فعاليتها أشد وأقوى.
الطائرات الورقية:(/5)
أطلق العرب عليها قديما اسم الراية وتعمل من الورق على أشكال مختلفة فمنها ما هو على شكل مسدس ومنه المربع والمثمن، يقص الورق بألوانه الزاهية ويلصق بعضه ببعض حول عودين من القصب أو غيره متعامدين وتعمل لها الأذناب والأجنحة وتربط بخيط قوي مصنوع من البلاستيك " خيط مصيص" ويرسل اللاعب طائرته الورقية للفضاء فتطير على ارتفاعات عالية ثم يقوم بسحب الخيط ولفه على المكوك إذا أراد إنزالها، ويتبع هذه اللعبة طائرات ورقية صغيرة أو صواريخ يصنعها الصغار من ورق الكراسات على شكل طائرة أو صاروخ وتقذف في الهواء.
قص العظيم:
وهي لعبة عربية قديمة، كان اسمها عظم وضاح أو عظيم وضاح، لعبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عنه " بينا هو يلعب مع الصبيان وهو صغير بعظم وضاح مر عليه يهودي فقال له لتقتلن صناديد هذه القرية. هي لعبة لهم كانوا يطرحون عظما بالليل يرمونه فمن أصابه غلب أصحابه وكانوا إذا غلب واحد من الفريقين ركب أصحابه الفريق الآخر من الموضع الذي يجدونه فيه إلى الموضع الذي رموا به منه" " وعظم وضاح" لعبة عربية مشهورة النهاية 3/260
وعدد اللاعبين فيها زوجي من 10 إلى 20 فرداً من الذكور.(/6)
طريقة اللعبة: ينصب لكل فريق قائداً يقوم بترتيب فريقه ويقابل قائد الفريق الآخر في إجراء القرعة لمن تكون بداية اللعب، وبعد إجراء القرعة، يقوم الفريق الذي صارت له بداية اللعب، بانتداب أحد أعضائه باستلام «عظمة القص» ورميها إلى أي مسافة يريدها بينما يكون أعضاء الفريقين حوله، وبعد إلقاء العظمة يقوم الأعضاء جيمعاً بالبحث عن العظمة، في تحفظ وحرص شديدين ومراقبة بعضهم البعض، ذلك لأنه يترتب على الشخص الذي يعثرعلى العظمة أن يحاول قدر المستطاع التمويه على أعضاء الفريق الآخر محاولاً التسلل والوصول إلى نقطة الانطلاق، وفي تلك الأثناء يكون قد لاحظه أعضاء الفريق المنافس، فإذا تمكنوا من التأكد من وجود العظمة معه (فعلاً)، فان عراكاً كبيراً يحدث بين أعضاء الفريقين، وقد تخلص العظمة من حاملها، فيعاود أعضاء الفريق الآخر تخليصها أيضاً ويقومون بدورهم بالهرب نحو نقطة الانطلاق. والذي يتمكن من إيصال العظمة إلى الهدف من الفريق الأول ضمن بذلك نقطة لفريقه وحق له رميها مرة أخرى وعلى العكس، فإن خلصها الفريق الآخر وأوصلها إلى نقطة البداية حق له رميها بنفس الطريقة الأولى، ليقوم الجميع بعملية التفتيش، وبهذه الطريقة تستمر اللعبة وتسجل النقاط في كل مرة على أن الفائد هو من تكون نقاطه أكثر.
تزاول هذه اللعبة في ليلة مقمرة من قبل الأطفال الذكور فقط، علماً أن الذكور الكبار يمارسونها أيضاً. وهي لعبة عربية قديمة منذ العصر الجاهلي اسمها "عظم وضاح".
الكلب والعظمة:
عدد اللاعبين من ( 5 ـ 10) لكل فريق(/7)
وهي كاللعبة السابقة يقسم الأطفال إلى فريقين، ويرقم كل فريق بعدد، ثم يؤتى بمنديل يوضع في الوسط ويبتعد كل فريق مسافة متساوية عن الوسط تقدر بأكثر من عشرة أمتار لكل فريق، يبدأ الحكم بقول رقم ما فينطلق صاحب الرقم من كل فريق نحو المنديل فإن كان أحدهما أسرع من الآخر يخطف المنديل ويعود أدراجه نحو فريقه، وإن وصل الاثنان في وقت واحد تبدأ المناورة فيمن سيخطف المنديل فالذي يخطفه وينجو من الآخر يكون الفائز أما إذا أمسك فيخسر الفريق نقطة.
مين ساقك:
ينقسم اللاعبون إلى قسمين، يقف القسم الأول متراصا واضعا كل منهم راحتي يديه خلف رأسه، ثم يقف الثاني خلف الصف الأول، فيتقدم أحد أفراد الصف الثاني ويدفع أحد أفراد الصف الأول فيمشيان عدة خطوات فيسأل أفراد أحد أفراد الفريق الثاني اللاعب المساق قائلا: مين ساقك يا حماري؟ فإن عرف ركبه إلى مكانه الأول في الصف، وإن لم يعرفه فيركبه السائق ويعود به إلى مكانه، ثم تعاد العملية بالتناوب حتى يلعب جميع الفريقين.
لعبة العرج:
وهي مأخوذة من تركيا ويسميها الأتراك ( يكْ أياق) أي الرجل الواحدة، يعين شخص ويطلب منه أن يقفز ويلحق الأولاد على رجل واحدة فإن بدات اللعبة يتفرق الأولاد عنه فإن مس أحدهم أثناء قفزه على رجل واحدة انهال الجميع عليه بالضرب وإن مست الرجل الأخرى للاعب الأرض انهال عليه الجميع بالضرب وهكذا حتى يتم اختيار لاعب آخر بعد توسلات المضروب الكف عن ضربه.
الدقة:
وهي لعبة بسيطة يهرب الصغار من أحد اللاعبين فإذا لمسه به خسر والفائز من يتمكن من الجري السريع، والممسوك هو الذي سيلحق الصغار بعد ذلك.
الصفعة:(/8)
يستدير اللاعب للجدار مبرزا إحدى كفيه للخلف،ويقف خلفه عدد من الصبيان ويصفعون يده، فعليه أن يعرف من الذي صفعه أبيمنه أم بشماله؟ فإذا عرفه أخذ مكانه، وتلعب أيضا بطريقة أخرى يقف اللاعبان متواجهين ويمد أحدهما كلتا يديه، أما اللاعب الآخر فيمسك أذنيه ويقول حرف الزاي مطولازززززز وفجأة ينقطع وينهال بصفعة على اللاعب فإن أصابه كرر اللعبة وإن لم يصبه أخذ مكانه ومدَّ يديه للصفع. وتسمى في مصر اللطم.
ألعاب فنية:
وهي ألعاب يصنعها الأطفال بأنفسهم من أدوات بسيطة كأسلاك معدنية وأشرطة تربيط وغيرها، ومن هذه الألعاب تشكيل دراجات أو سيارات أو عربات مختلفة الأشكال من أسلاك معدنية قابلة للثني باليد، وبعد الانتهاء منها، يقوم الأولاد باللعب بها فرادى وجماعات . ومن هذه الألعاب أيضا، عمل نقالة صغيرة " زحيطة" " كريجة" وما تعرف اليوم بـ " سكوتر". و الكريجة تصغير كرج وهو مهر خشبي كان أولاد العرب يلعبون به قديمًا، وتصنع من عارضتين خشبتين واحدة أفقية والأخرى عامودية تكون أطول من الأفقية، توصلان بمفصلات لتسهيل الحركة بينهما، يمينا وشمالا، أما اللوح الأفقي فيثبت في مقدمته ومؤخرته إطاران معدنيان" رومان بلي"، وينصب في أعلى اللوح العامودي عارضة قصيرة تستعمل كمقود للنقالة، بعد الانتهاء من صناعتها يقوم الفتيان بالتسابق فيها بوضع رجل على العارضة والأخرى تدفع بالأرض.
2 - ألعاب الفتيات:
وهي ألعاب خاصة بالفتيات دون الفتيان ويمكن للأطفال الصغار ممارستها مع شقيقاتهم عندما يطردون من ألعاب الصبيان،
ومن هذه الألعاب:
سلوى يا سلوى:
وهي لعبة للبنات، يحوقون دائرة كبيرة ويضعون فتاة في منصفها تمثل البكاء، فيطفن حولها وهن ينشدن:
سلوى يا سلوى ليش عم تبكي، قومي نقي .
فتقوم سلوى فتقول: حلوة، بشعة، حلوة، بشعة، حتى تخنار فتاة لتأخذ دورها.
لعبة العروس:
تصف الفتيات بفرقين متقابلين، فينشد الفريق الأول مع تراجع الفريق الثاني:(/9)
يمسيكم بالخير ياعمال العمال، بالله أعطونا بنتكم الحلوة الظريفة.
فيرد الفريق الثاني:
- ما بنعطيكم إياها إلا بألف ومية.
فيرد الفريق الأول:
بننزل على درعا، بنكسر أبوابها، والجامع توابها، وهي عروستنا
فتهجم الفتايات على عروس من الفتيات ويخطفنها.
ألعاب نط الحبل:
وتقسم إلى عدة أقسام منها جماعي ومنها فردي فالجماعي تلوح اثنتان بالحبل وتنط واحدة أو اثنتان عدة نطات حتى تخسر اللاعبة فتدخل غيرها للعبة. وتنشد الفتيات بعض الأناشيد خلال تلويح الحبل مثل: أبيك بيك بيكي، اراح ما يشككي، أدمع دمع دمع أراح ما يسمع أبيكي اشكيكي أدمع أسمع.
لعبة " أغو أغو، استفتيحا":
تخط اللاعبات على الأرض شبكة من مربعات، ويضعن في بعضها علامة( ×إكس) وعلى طرفي هذا المربع يكون مربعان خاليين من العلامة يتم فتح العينان بهما، تبدأ اللاعبة اللعب برفع بصرها للسماء وتخطو في الشبكة قائلة: أغو أغو وتنتقل إلى مربعات أخرى فإذا قالت:"استفتيحة" تنظر للمربعات تحتها لتحفظ مكان(× الإكس) القادم ثم ترفع بصرها للأعلى وتتابع اللعب فإن اجتازت (×) فازت وإلا خسرت.
الحجلة:
عدد اللاعبات: 2-4 فتيات.
وهذه اللعبة خاصة بالبنات والأولاد الصغار وهي شبيه باللعبة السابقة تخط على الأرض ستة خطوط مستطيلة كل قسم منه بطول 40سم وعرض 100 سم تقريبا، تضع اللاعبة بلاطة صغيرة أو قطعة من الفخار في المستطيل الأول وتقوم بدفع البلاطة برجل واحدة وتكون الثانية مرفوعة عن الأرض بحيث لا تلامسها أبداً، وتحاول الفتاة أن تجعل القطعة تستقر في المربع التالي، ثم الذي يليه، وهكذا وبحيث تجتاز المنعطف، فإذا توقفت الفتاة على الخط الذي يفصل بن المربع والذي يليه، أو لامست قدمها المرفوعة عن الأرض، أو داست قدمتها التي تستخدمها في دفع القطعة على ذلك الخط تكون قد خسرت اللعبة، ويحق لزميلتها أن تحل مكانها.
تزاول هذه اللعبة في ساعات النهار، وبخاصة في فصل الربيع.(/10)
3 ـ ألعاب للأولاد والبنات:
وتقام هذه الألعاب في المدارس أو الساحات الكبيرة أو في المنازل ومنها:
طاق طاق طاقية:
وهي لعبة مشهورة في كثير من البلدان العربية.
عدد اللاعبين: مجموعة من الإناث والذكور. طريقة اللعب: ينتظم الصبية من بنين وبنات على هيئة دائرة. ويقوم أحد الصبية بنزع طاقية رأسه، ويدور خلف الأولاد الجالسين على الأرض على شكل دائري. وفي أثناء دورانه يردد قائلاً: «طاق طاق طاقية، طاقيتين وعُلّيه، رن، رن يا جرس، حوّل واركب عالفرس». وطيلة دورانه لا يجوز لأحد من الجالسين الالتفات أو النظر إلى الخلف. وبخفة يد، ودون أن يشعر به أحد يلقي الصبي الطاقية خلف أحد الجالسين، فإن أحس الجالس بذلك التقط الطاقية وحاول اللحاق بالفتى والامساك به، وبذلك يفوّت الفرصة على هذا الفتى الذي يظل يدور مردداً طاق.. طاق.. طاقية.. رن.. رن يا جسر» إلى أن يفلح في وضع الطاقية خلف شخص لا يحس به، فإذا أكمل الدورة وعاد إلى هذا الشخص التقط الطاقية وضربه بها، وطلب منه أن يحل مكانه جزاء على عدم انتباهه.. وهكذا تستمر اللعبة.أما في فلسطين أو في المخيمات الشتات الفلسطينية فيتم تعديل النشيد ليصبح: طاق طاق طاقية، فيرد الأولاد: " فلسطين عربية" "فلسطين بلادنا واليهود كلابنا " .
الكراسي الموسيقية:
عدد اللاعبين: مجموعة من الذكور والإناث، طريقة اللعب: يتم تخصيص مقاعد على عدد اللاعبين في الحصول على مقعد، وتتكرر العملية عدة مرات، ولكن في كل مرة يتم استبعاد مقعد حتى تكون عدد المقاعد أقل من عدد اللاعبين الباقين بمقعد واحد. وتنتهي اللعبة حينما يخرج جميع اللاعبين ويكون الفائز هو الذي استطاع أن يجلس على الكرسي الأخير، ويبدأ اللعب بأن يعزف أحد الصبية على آلة موسيقية كالشبابة أو أن يضرب على طبل بيده، وحينما ينتهي العزف أو الضرب، يتسابق الصبية على المقاعد، ويخرج من اللعب الشخص الذي يفشل الاحتفاظ بمقعد له في كل مرة.
ألعاب الحصى:(/11)
وأشهرها لعبة الزقطة، يؤتى بسبع حصيات صغيرة حجمها كحبة الكرز، أو أكبر قليلا، يرمي اللاعب حصاة للأعلى ويلتقط حصاة من الأرض، وبعدها يلتقط الحصاة التي كانت بالأعلى، وفي المرحلة الثانية يلتقط اثنتين ثم ثلاثة وهكذا، وتزداد اللعبة صعوبة بوضع حواجز بين يد اللاعب والحصى، واللاعب الماهر هو الذي يتخطى الحواجز ويفوز باللعبة.
المراجيح:
تنصب المراجيح في عيدي الفطر والأضحى في كثير من الساحات والميادين وذلك قبل وجود مدن الملاهي، فيتقاطر الصبيان والبنات عليها، ومن الأراجيح ما هي صغيرة لا تتسع إلا لشخص واحد ومنها كبيرة تتسع لأكثر من عشرة، يتناوب على دفعها في اتجاهين متعاكسين رجلان أو غلامان مع أغاني الأطفال المحببة مثل:
يا أولاد محارب " يويا"
شدوا القوالب
قوالب صيني
مثل الفلينِ
فليني بنقطة
جاية من طنطا
طنطاوي عراقي
وعراقي طنطا
علي ما مات
خلَّف بنات.
بنات سود
مثل القرود
بناته بيض
مثل العفاريت.
يرد الأولاد بعد كل مقطع" يويا".
لعبة O X :
عدد اللاعبين: اثنان
طريقة اللعب: تقسم الورقة إلى تسعة مربعات يأخذ أحد اللاعبين رمز O والآخر X فيقوم الأول بوضع رمزه في أي مربع، ثم يأخذ الثاني ويوضع رمزه في أي مربع أخر بحيث يقطع على الخصم تشكيل خط عامودي أو أفقي أو مائل وهكذا فإذا استطاع اللاعب تشكيل الخط فاز .
لعبة شبكة المربعات:
عدد اللاعبين: اثنان
طريقة اللعب: تقسم الورقة إلى عدة نقاط متساوية كل نقطة تبعد عن الثانية مقدار 1سم يأخذ أحد اللاعبين رمز أول حرف من اسمه والآخر كذلك فيقوم الأول بوصل أي نقطتين عموديتين أو أفقيتن ثم يأخذ الثاني ويوصل وهكذا فإذا أغلق مربع مع لاعب وضع رمزه فيه ويتابع اللعب حتى يعجز عن إغلاق المربع عندها يلعب الآخر وهكذا، والفائز هو الذي يغلق المربعات الأكثر. وهذه اللعبة وسابقتها صممت على الأقراص المدمجة وصارت تلعب بسهولة على الكمبيوتر.
الغميضة أو الغماية أو الاستغماية:(/12)
وهي لعبة مشهورة في أكثر العالم العربي.
عدد اللاعبين: (من 4 إلى 10)
طريقة اللعب: يضع الأطفال عصابة محكمة على عيني أحدهم، في حين يختفي الباقون، وتكون مهمة الفتى معصوب العينين البحث عن زملائه، فإذا استطاع أن يعثر ويمسك بواحد منهم نُزعت العصابة عن عينيه، وجعل الشخص الممسوك بحل محله، وإذا لم يتمكن من الإمساك بأحدهم يظل معصوب العينين ويجري في كافة الاتجاهات إلى أن يوفق في الإمساك بأحد أقرانه ليحل محله، وهكذا تستمر اللعبة ويسميها بعضهم الغميمة أو الطميمة.
الغول:
يصطف الصغار خلف لاعب يطلق عليه "الغول " يسند رأسه للجدار والصغار خلفه ينشدون: مادام الغولة مشغولة وينك ياغول؟ فيرد الغول عدة عبارات منها: أشرب، أتناول الطعام، أقرأ، ألعب، إلخ وفي كل مرة يعيد الصغار الجملة السابقة، إما إذا قال الغول: أسنُّ أسناني فعندها يهرب الصغار ويلحق بهم الغول، والذي يمسكه يخسر، والفائز الذي يفلت من بين يديه، وهذه اللعبة شبيهة بقصة ليلى والذئب.
لعبة جمَّال يا جمَّال:
وهي كلعبة الغول، يصطف الصغار خلف قائدهم الجمَّال وينشد أحدهم: جمال يا جمال، سرقوا لك أولادك، وفي هذه الأثناء يغير بعض الأولاد ويخطفون أولاده من خلفه فيرد الجمال: سيفي تحت راسي، ما بسمع كلامك.
فيقول الجميع: دق دق فيقول الجمال: مين ؟ فيقول الصغار: حج إسماعين " إسماعيل"
يلتفت الجمال فيرى أولاده قد خطفوا فيركض خلف الخاطفين ليسترد أولاده، فالذي يمسك به يخرج من اللعبة، والفائز من يعجز الجمال عن الإمساك به.
الليرة الضائعة:
يقف اللاعبون أمام أحدهم ويقول لهم:
هون ضايع لي ليرة حمراء
فيردون:
إن شاء الله ما تلاقيها.
فيقول:
بلاقيها وبلاقيها.
ويردون:
إن شاء الله ما تلتقيها.
فيقول:
بدي قشقش حطباتي.
فيقولون:
بخاف على وليداتي.
فيرد: ما باخذ إلا المدلل
فيقول:
وما بعطيك إلا الجردون
فيرد عليهم:(/13)
باخذه وبحرق دمه، وبخلي المدلل لأمه، ويقوم بالركض خلف الأولاد يمسك منهم ما شاء.
4- ألعاب أسرية:
وهي ألعاب تلعب في المنازل مع الجدة أو الوالدين أو الإخوة الصغار ولا سيما في فصل الشتاء، ومنها:
طار الحمام:
وهذه اللعبة تلعب غالبا هذه اللعبة في المنزل بين الأبناء وأحد والديهم، يتحلقون حول الأم فتقول لهم: طار الحمام فيرفعون أيديهم يرفرفون بها ثم تقول: " هدَّى الحمام " فتنزل الأيدي لوضعها الأول، فإذا تأخر اللاعب في رفع يديه يخرج من اللعبة أو يضرب ضربة خفيفة، و إذا رفعها عند قول: طار الحصان أو طارالغلام وغير ذلك يخطىء أيضا.
البرجيس:
لعبة تحتاج لرقعة من القماش مطرزة و لستة مربعات وعدد من الأصداف الصغيرة أو الودع، لها طريقة خاصة باللعب وهي من الألعاب المنزلية والعائلية.
الضامة:
تخط مربعات على ورق مقوى أو على لوح من الخشب، أما حجارتها من الخشب، أو تلعب بالحصى.
لعبة العصفور:
عدد اللاعبين: عشرة أطفال ذكور أو إناث.
الأدوات المستعملة: منديل لكل فريق.
طريقة اللعبة: يقسم الأطفال إلى فريقين، وينتخب كل فريق قائده، ثم يؤتى بحجر لكل فريق، توضع الحجارة على خط مستقيم مع وجود مسافة بينهما ويوضع على كل حجر منديلاً مختلف اللون عن المنديل الثاني، ويقف القائدين قرب الحجارة فيما يكون بقية الأطفال على بعد 15 متراً عنها فينادى على اثنين، واحد من كل فريق فيحضرا إلى القائدين اللذين يقوما بتغميتهما، كل يغمى من قبل زميله، وتعكس الحجارة ويتفق أن يطلب من أحدهما أن يعرف حجره، فإذا عرفه أخذه وذهب إلي حيث بقية زملائه فيعطيه لأحدهما الذي بدوره يعيده إلى مكانه، وبهذا تكون له نقطة، وبهذه الطريقة تستمر اللعبة وفي النهاية تحسب النقاط ليظهر فيما بعد الفريق الفائز.
زوج أو فرد:(/14)
يخفي اللاعب مقدارا من الحصى في كفه، ويطلب من غريمه معرفة العدد زوجيا أم فرديا، كما تلعب بطريقة أخرى يخفي اللاعب ورقة صغيرة أو حصاة في إحدى كفيه فعلى غريمه معرفة الكف الذي يخفي المخبأ.
لعبة حاكم جلاد أو يا مفتش فتش على الحرامي:
عدد اللاعبين: 4 من الذكور أو الإناث
طريقة اللعب: تقص ورقة بيضاء إلى أربعة أقسام متساوية في الشكل، وتطوى بعد أن يكتب على واحدة حاكم، وأخرى جلاد، والثالثة مفتش،والرابعة حرامي، ويحضر الأطفال (حزام) للضرب، يمسك أحد الأطفال الورقات الأربعة في يده ويغمض عليها، ومن ثم يلقيها على الأرض بين الأطفال وهم قعود، فيلتقط كل واحد منهم ورقة، فيقرأ كل ورقته، بعد أن يعرف كل ما في ورقته فالذي تقع في يده الورقة المكتوب فيها حاكم، يسأل: أين المفتش؟ فيرد عليه الطفل الذي كتب في ورقته مفتش قائلاً: نعم، فيسأله: أين اللص؟ -من بين الأطفال الباقين- فإن عرف اللص فعلاً طلب من الحاكم أن يجلده الجلاد الذي كتب في ورقته كلمة جلاد عدد من الجلدات، وهو حر (أي الحاكم) في اختيار عدد الجلدات، ويأمر الجلاد بجلد اللص العدد المقرر من الجلدات.
أما إذا لم يعرف المفتش اللص، كأن يؤشر على الجلاد مثلاً، فإن الحاكم يحكم عليه بالجلد العدد الذي يراه مناسباً، وبهذه الطريقة تستمر اللعبة.
لعبة علبة الكبريت:
عدد اللاعبين: 3 أطفال من الذكور أو الإناث
طريقة اللعبة: لم الكبريت على شكل متوازي أضلاع تقذف الكبريتة من قبل اللاعب على الأرض فإذاوقفت على الحافة الصغيرة القصيرة،أي للأعلى سمي من قذفها حاكماً، أما إن وقفت على الحافة التالية للأولى، سمي قاذفها بالجلاد، وإن وقعت على الناحية العريضة سمي قاذفها «قط أعور» والحاكم هو الذي يطلب من الجلاد جلد القط بجلدات خفيفة وبعدد قليل، وهكذا تلعب اللعبة طيلة السهرة ولا سيما في فصل الشتاء.
قريمشة:(/15)
يتحلق الصغار حول جدتهم أو أمهم فتنشد لهم " قريمشة يا قريمشة، ياحبة المنيمشة، بعتنتني معلمتي اشتري كوز بصل وقع مني وانكسر، خبي ايدك يا عروس ما أم الحلق والدبوس.
فيخفي الصغار أكفهم تحت أباطهم ثم يمدونها أمام أمهم فتحسها ومن كانت كفه باردة صفع صفعة خفيفة.
لعبة الزوايا:
عدد اللاعبين: خمسة أطفال ذكور أو إناث.
طريقة اللعبة: يختار أربعة لاعبين لكل منهم زاوية أو مكان يقف فيه، ويبقى اللاعب الخامس في الساحة، ثم يقوم الخامس بإعطاء إشارة البدء للأطفال والذين عليهم أن يتبادلوا الأماكن مع بعضهم البعض ومع تكرار التبادل فإن تمكن اللاعب الخامس من احتلال مكان أحدهم يخرج اللاعب الذي لا مكان له من اللعبة فيقوم مكانه زميله الذي احتل مكانه، وبهذه الطريقة تدوم اللعبة.
أنا النحلة، أنا الدبور:
العدد: اثنان من الذكور أو الإناث
طريقة اللعبة: يقف الطفلان ظهراً بظهر ومتلاصقين مادًا كل منهما كلتا يديه إلى الوراء وبطريقة فنية تشبك الأيدي ليبدأ أي منهما اللعبة بحيث يحني جسمه إلى الأمام نحو الأرض فيكون الثاني قد ارتفع على ظهره وهكذا يكون لكل منهما دور في الانحناء والركوب مع تكرار ذلك مراراً، وفي كل مرة يقول الحامل للمحمول "أنا النحلة " فيرد عليه الآخر " أنا الدبور" فيسأله الأول: وين مسا فر؟ فيرد: على استنبول.. هات لي معاك: حنة وصابون .خذني معاك .... ما في .....إلخ، وتسمى في فلسطين شفت القمر فيكون النشيد على النحو التالي: يقول الحامل: «شفت القمر؟» فيرد عليه المحمول قائلاً «شفته» فيسأله الأول «شو تحته؟» فيجيب الثاني «حمص مقلي» فيقول الأول «طيح عني يا عقلي» فينتهي دور الحامل على هذه الطريقة ليبدأها الثاني مع ترديد كل منهما كما في دوره ما ذكر سابقاً، وبهذه الطريقة تستمر اللعبة.
لعبة عالي وطواط:
عدد اللاعبين: غير محدد من الذكور والإناث
طريقة اللعب:(/16)
في هذه اللعبة لا بد من أن ينتخب أحد الأطفال تكون مهمته ملاحقة بقية الأطفال الذين يتفرقون، وعليه ملاحقتهم للقبض على كل واحد منهم وعندما يقترب من أحدهم، فإن وقف في مكان مرتفع قائلاً (عالي وطواط) وجب عليه أن يتركه قاصداً غيره من بقية أعضاء الفريق وحتى يمكنه القبض على واحد منهم فيأخذ مكانه لينضم هو إلى الفريق وهكذا.
وهكذا عاش أطفال بلاد الشام وغيرهم قبل ثورة التكنولوجيا مع ألعابهم الشعبية التي تعلموا منها أشياء عظيمة أهمها التعاون والمحبة ومساعدة الآخرين، والمخالطة الاجتماعية خيرها وشرها، ومن المؤسف أن تلكم الألعاب كادت تندرس في أيامنا هذه، ولعل في تأريخها ونشرها على الشبكة العنكبوتية أو في مجلات التراث العربي نوعاً من الوفاء أو حنيناً للماضي الذي لا بد أن أن يحكى لأطفالنا ولو في ساعات استراحتهم من ألعابهم الإلكترونية والتي لا شك أنها ستعزلهم عن الآخرين وعن المجتمع.(/17)
العنوان: حين يُعتدى على البراءة..
رقم المقالة: 1196
صاحب المقالة: تقرير: هيفاء الوتيد
-----------------------------------------
ما أبشعَها من جريمة!.. وما أسوأَها من وحشية..! اغتيالٌ لبراءة.. وتلطيخ لطفولة..!! فأي قلب هذا القلب الذي تجرأ واعتدى على براءة الطفولة؟
التحرش الجنسي بالأطفال.. موجٌ ازداد مدُّه.. وتشعبت أياديه.. وتزداد بشاعتُه بشاعةً وقسوتُه قسوةً إذا وقع من قريب!!!
فما تعريفُ التحرش؟
التحرشُ استخدام الطفل لإشباع الرغبات الجنسية لبالغ أو مراهق، ويشمل تعريضَ الطفل لأي نشاط أو سلوك جنسي، ويتضمن التحرش ملامسة الطفل أو حمله على ملامسة المتحرش جنسيا.
ومن الأشكال الأخرى للاعتداء الجنسي على الطفل: المجامعة، وبغاء الأطفال، والاستغلال الجنسي له عبر الصور الخليعة والمواقع الإباحية.
نسأل الله العافية والسلامة، وأن يحمي أطفالنا ، ويشفي المرضى بداء التحرش!!
التحرش بالأطفال في ازدياد:
كشفت دراسة أعدت في المملكة العربية السعودية أن نسبة التحرش الجنسي بالأطفال مرتفعة؛ إذ يتعرض طفل من بين أربعة أطفال لهذا الاعتداء!
وهذا ما لفتت النظرَ إليه أيضا الدكتورة سهيلة زين العابدين "عضو في جمعية حقوق الإنسان" بأن التحرش الجنسي بالأطفال في ازدياد خاصة البكم غير القادرين على الكلام لضمان عدم تحدثهم عن الجريمة، ثم بالفتيات من قبل آباء مهزوزي الشخصية، أو من قبل منحرفين.
العمر الذي يتعرض فيه الطفل للتحرش:
قد يتعرض الطفل للتحرش ابتداء من عمر سنتين إلى عمر خمس سنوات، والخطر يكمن دائما في أقرب من يتولون رعايته دون رقيب عليهم كالسائق والخدم والمربية والمراهقين في العائلة الذين قد يترك معهم الطفل في خلوة، كذلك قد يؤثر التلفاز بقنواته الفضائية غير المراقبة من الوالدين، حيث يجلس الطفل أمامها ليشاهد أشد المشاهد الجنسية تأثيرا فيه ويقوم بمحاكاتها فور أن تسنح له الفرصة.(/1)
أما من سن (5-12) فالطفل يمكن أن يتعرض للتحرش من كل من يمكن أن يختلط بهم دون رقابة؛ كالأصدقاء وأبناء الجيران والأقارب والسائقين والخدم.
وإغواء الطفل في هذه السن يكون مصحوبا بالتهديد وتعريضه للضرب أو العقاب أو القتل إذا باح بالسر لأحد، أو تخويفه بأن الوالدين قد يعاقبانه أو يؤذيانه إذا علما بالأمر، أو قد يتم إغراؤه بالمال والهدايا والحلوى.
ولينتبه كل أب وأم أن الطفل الذي يتحرى غياب والديه ليفعل أو يُفعل به مثل هذه الأمور هو طفل لا توجد علاقة قوية أو صداقة حميمة تربطه بوالديه أو أحدهما، إذ إن صداقة الطفل لوالديه وشعوره بالأمان معهما يحميانه من الكثير من المشكلات، ويجعلان باب الحوار بينه وبين والديه مفتوحا دائما ولا يسمح بوجود أسرار بينهما.
مؤشرات الاعتداء:
قد لا يفصح الطفل بما تعرض له.. لكن هناك بعض المؤشرات التي تدل على أن الطفل قد تعرض لاعتداء وتحرش جنسي:
المؤشرات النفسية والسلوكية:
- إظهار العواطف بشكل مبالَغ فيه أو غير طبيعي.
- الانزعاج أو الخوف ورفض الذهاب إلى مكان معين أو البقاء مع شخص معين.
- التصرفات الجنسية او التولع الجنسي المبكر.
- القلق والكوابيس في أثناء النوم، ورفض النوم وحيدا، أو الإصرار المفاجئ على ترك النور مضاء.
- بعض التصرفات الغريبة كمص الإصبع والتبول الليلي.
- رفض العواطف الأبوية التقليدية.
- مشاكل دراسية وذهول.
- مشاعر من الحزن والإحباط.
المؤشرات الجسدية:
من المؤشرات الجسدية التي تدل على تعرض الطفل للتحرش: صعوبة في المشي والجلوس، ملابس ممزقة، وآثار عض، جروح وتورم في الوجه والأطراف، الضعف والإحساس بالتعب، انتفاخ أسفل العينين.
بعد التحرش.. ماذا نفعل؟(/2)
لا بد من عرضه على طبيب نفسي يقوم باسترجاع هذه التجربة المؤلمة معه بالتفصيل، وذلك حتى لا تظل مختزنة بداخله تحدث آثارها السلبية، ويرى تصور الطفل لهذا الحادث، وأثره فيه، ومدى شعوره بالذنب أو الغضب أو حتى الشعور بالمتعة من جراء تكراره ورغبته في حدوثه مرة أخرى.
يجب إشعار الابن بالأمان التام من العقاب من قبل الوالدين. ويقصد بإشعاره بالأمان نقل الشعور إليه بأنه مجني عليه وليس جانيا لينقل بصورة واضحة ما تعرض له من مؤثرات دفعت به إلى هذا السلوك.
لا بد أن ينال المجرم عقابه بتقديم بلاغ للشرطة أو السلطة المختصة بالتعامل مع تلك الأمور، كيلا يهرب الجاني بجريمته بغير عقاب لسببين:
الأول: لأن جزءا من العلاج لنفسية الطفل الذي تعرض للاعتداء أن يرى عقابا رادعا قد وقع على هذا المجرم.
الثاني: التكتيم والتعتيم على تلك الجريمة يساعد المجرم لعلمه السابق بتعاون الأهل معه في التعتيم على ما يرونه عارا، وييسر له أن يعاود فعل هذه الكوارث مرات ومرات في أماكن جديدة ومع آخرين.
كيف نحمي أطفالنا من التحرش؟
حتى نقلل من هذا الموج المتلاطم، لابد من التوعية والتوجيه سواء في البيت من قبل الوالدين أو في المدرسة.
- التثقيف الموجه ويكون في جو من الصداقة مع الطفل، ومنحه الثقة بنفسه وبوالديه، وإشعاره بالأمان في أن يسأل ويعرف ويتطرق لكل الموضوعات مع والديه.(/3)
- تعليم الطفل كيف يحافظ على نفسه وكيف يدافع عنها من خلال التطرق لموضوعات مثل: وجوب ستر العورة؛ فإذا دخل دورة المياه يحرص على ألا يدخل معه أحد، ونضرب له الأمثلة على ذلك مثلا نقول: إذا دخلت دورة المياه في سوق أو في مدرسة ودخل معك شخص آخر كصديقك أو أي رجل هل يصح ذلك أو هل هذا مقبول؟ وإذا أحد حاول رفع ملابسك غير والديك هل هذا صحيح؟ وهل تتركه يفعل ذلك؟ وما التصرف الصحيح في هذه المواقف؟ فيعلم أنه يمكن أن يهرب وينادي ويصرخ ولا يسمح لأحد أن يرفع ملابسه أو يدخل معه دورة المياه، ويخبر والديه ومعلميه دوما.. وهكذا يكون التعليم عن طريق أسئلة وقصص.
- إشعار الطفل بالأمان التام في أن يروي تفاصيل أي موقف غريب يتعرض له دون عقاب أو زجر.
- ملاحظة الطفل باستمرار دون إشعاره بالرقابة الخانقة ومتابعة ميوله في اللعب، وطريقة وأنواع لعبه مع عدم السماح للخدم والسائقين بالانفراد به مطلقا والسماح لهم بالتعامل معه تحت نظر الوالدين، وحماية الطفل من مشاهدة القنوات الفضائية أو المجلات أو أي مادة إعلامية غير مناسبة.
- غرس وازع رفض كل ما لا يحبه الله.(/4)
العنوان: حين يعدم الآباء أبناءهم!!!
رقم المقالة: 957
صاحب المقالة: هيفاء الوتيد
-----------------------------------------
ليس ثمةَ شيءٌ أشد إحزاناً من أن يفشل الآباءُ في صناعة أبنائهم - أقصدُ: تربيتهم!- يجتهدون في إطعامهم وكسوتهم وترفيههم.. يحققون لهم كل ما يطلبونه، كعصا سحرية! تلبي طلباتهم؛ دون النظر إلى السلبيات والمساوئ المترتبةِ عليها!! ولسانُ حالِهم يقول للأبناء: لا تكونوا أقلَّ تنعُّماً وعنايةً من غيركم!!
ألعابُ (فيديو) لا تراقب.. أجهزةٌ محمولةٌ وشبكةٌ عنكبوتية.. حتى الهواتفُ النقَّالة مع أطفال لمَّا يدخلوا المدرسةَ بعد!!
تبحثُ عن أفرادِ الأسرة في البيت، فلا تجدهم مجتمعين.. كلٌّ غارقٌ في غرفته.. عفوًا، بل كلٌّ في غرفة إعدامِ حواسِّهِ وأخلاقِهِ، دون رقيب..
الأبوان مشغولان، وتلك غارقة في عالم الشبكة العنكبوتية... وذاك منفعل مع ألعاب (الفيديو) إلى درجة التشنج!!!
تدخل البيتَ، وكأنه خال من الأبناء.. فلا تسمع فيه همسًا!!
فيا كلَّ أب وأم..
اجلسا مع أبنائكم، راقباهم، ليس بقصد الشك؛ بل بقصد التوجيه والإرشاد. خَصِّصا وقتًا ما للحديث والحوار الأسري، ولا تتركا الحبل على الغارب..
فعالمُ الشبكة العنكبوتية عالمٌ مروِّعٌ.. يَغْرَقُ فيه من لا يعرف السباحةَ!!! لا سيما إن كان البيت يفتقر إلى الحبِّ والوئامِ، والتوجيه والنُّصح..
وكذلك ألعاب (الفيديو/ البلاي ستيشن)، التي أثبت الباحثون خطورتَها, وشدة تأثيرها على أطفالنا؛ ما هي إلا أشرطة مدسوسة، تحمل الإباحية، وتسيطر على عقول أبنائنا؛ فتفسدها بما تحملُه من عقائدَ وثقافات مخالِفة للإسلام، تغذِّي عقولَهم بمشاهدِ العُنف والإجرام، فيطبِّقُ ما أُعْجِبَ به على أخيه وأخته؛ لأنه بعقلِه الصغيِر أحبَّ البطلَ، فأراد أن يحذوَ حَذْوه!!!
وليعلم كلٌّ أبٍ وأمٍّ أنه مسؤولٌ أمام الله -عز وجل- وأنه سيُسألُ عن رعيَّتِهِ يومَ القيامة..(/1)
فعن عبد اللهِ بن عمرَ قالَ: ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.. الإِمَامُ رَاعٍ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))، قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: ((وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) )[1].
فهل هيّأَ الأبوان أنفسَهما للإجابة عن هذا السؤال؟؟!
فالتربيةُ ليست عنايةً بالأكلِ والشربِ والدراسةِ فقط.؛ بل هي تربيةُ النفسِ على الخُلُقِ الكريمِ، والسلوكِ المستقيمِ.. هي تربيةٌ على الأخلاق الإسلامية؛ ليعيش الأبوان بعدها قريرا العين، ويجنيا ثمرةَ صلاح أبنائهما في الدنيا والآخرة.
بارك الله لنا ولكم في أبنائنا.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] البخاري: 844.(/2)
العنوان: حين يكون السوق ملاذاً للمرأة!
رقم المقالة: 935
صاحب المقالة: خباب بن مروان الحمد
-----------------------------------------
كان أبو العبَّاس السفَّاح يوماً مشرفاً على صحن داره، ينظر إليها ومعه امرأته، فعبثت بخاتَمِها فسقط من يدها، فألقى السفَّاح خاتَمه، فقالت: يا أمير المؤمنين! ما أردتَ بهذا؟ قال: خشيتُ أن يستوحِش خاتَمُك فآنستُه بخاتمي، غيرةً عليه لانفراده!!
قد تكون هذه القصَّة القصيرة مثار استغراب لنا، لجمعها روح الدعابة والمبالغة العجيبة في غيرة هذا الخليفة على زوجته.
وفي المقابل؛ تحدِّثني إحدى القريباتُ الداعياتُ عن نساءٍ خرَّاجاتٍ ولاَّجاتٍ، تعرفُهُنَّ، يرمي بهنَّ أزواجهنَّ - عفواً - يذهبُ بهنَّ أزواجهنَّ إلى الأسواقِ عند ذهابهم للعمل المسائي، فيمضين الساعات الطوال يتجوَّلن في الأسواقِ، ومن ثمَّ يعود بهن أزواجهنَّ بعد أن رأينَ صويحباتهن، وتسكَّعن، وأضناهن المشي في السوق الحبيب إلى قلوبهن!
إنَّها مفارَقَة بين قصَّتين، ترينا حقيقة المروءة عند الرجال، وغيرتَهم على زوجاتهم..
وقصتنا الأخيرة لم تقع مرَّة واحدة؛ بل إنَّها تتكرَّر في بعض المجتمعات -خاصةً الخليجيَّة- وتقع حوادثُها كلَّ يوم، على نحو لافت للنظر؛ حتَّى إنَّ بعض النساء جعلن هذه الأسواق مكان اجتماع لهنَّ؛ للحديث والضحك..
وإني لأتساءل:
ما الذي يستفيده الرجل من إرساله المرأة إلى السوق كلَّ هذه المدة؟!
ألا يخاف الرجل أن يزيِّن الشيطان لزوجته السوء فتخونه بالوقوع في الحرام؟!
إن كانت المرأة تظنُّ أنَّها عصيَّة على الوقوع في حبائل الفساد؛ ألا تعلم أنَّ النفس أمَّارة بالسوء، وأنَّها قد تنحدر -من حيث لا تشعر- إلى براثن الرذيلة؟!
ألا يعلم الرجل أنَّ هناك ذئاباً يترصَّدون النساء لإيقاعهنَّ في المخططات المرسومة لهنَّ؟!
ما معنى كلمة (الغَيرة) عند الرجال؟ وكيف يَفهمُ الرجلُ هذه المعاني في هذا الزمن؟!(/1)
ما الفائدة التي ستجنيها المرأةُ من خروجها إلى السوق، وتجوُّلها تلك الساعات الطوال، بمفردها، في كل يوم؟!
إنَّها أسئلة تعبِّر عن مدى المأساة التي تعيشها بعض بيوتات المسلمين.
لقد أدهشني سماع ذلك الخبر من تلك المرأة الداعية، وقلت في نفسي: هل وصل الأمر بالرجال إلى أن تحكمهم النسوان؛ فليس لهم إلاَّ الموافقة على أقوالهنَّ والانصياع لأوامرهنَّ؟؟!!
إن المأساة تقع عند خروج المرأة من بيتها، متجمِّلة متعطِّرة متزينة، تلك الساعات الطوال؛ لتذهب إلى ذلك السوق، وتحادث البائع الفلاني، وتسأله، وليس قصدها إلاَّ الثرثرة والنظر؛ لأنَّها بالطبع لم تذهب لتشتري، وإنَّما ذهبت لتتمشَّى وتتجوَّل!!!
لا أدري كيف لم تفهم المرأة -إن لم يكن يفهم الرجل- قولَه تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى} [الأحزاب:33]؟!
فالمعنى من هذه الآية واضح؛ وهو أنَّ المرأة مأمورة بالقرار في بيتها، فإن خرجت، وكان خروجها لضرورة أو لحاجة؛ فلتخرج، ولكن لا تتبرَّج وتتجمَّل في خروجها، كما كان يُفعَل في الجاهليَّة!! ولا تخرج لغير قصد أو حاجة!
وكم من الآيات والأحاديث التي تحثَّ المرأة على البعد عن مخالطة الرجال الأجانب! بل قد أمرها القرآن أن يكون الحديث مع الأجانب من وراء حجاب وستار؛ حتَّى لا يطمع الذي في قلبه مرض الشهوة؛ فيقع هو، أو تقع المرأة في الحرام.. فتندم، ولات ساعة مندم! يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
ثمَّ إنه لا يُقبَل أن تكون للمرأة قوامة على الرجل؛ فتأمره هي أن يخرج بها من بيتها الذي أُمِرَت بالقرار فيه!!!(/2)
بل إن نسبة البيت للمرأة ألصق بها من نسبته لصاحبه، وهو الرجل، وقال العلماء في ذلك كلاماً جميلاً: إنَّ إلصاق وصف البيت بالمرأة ونسبته لها أكثر من إلصاقه بالرجل ونسبته له؛ لأنَّ المرأة مأمورة بالقرار في بيتها، وأنَّ مكثها في البيت أكثر من مكث الرجل في بيته، فللرجل الخروج لكسب العيش، وللمرأة المكث في البيت لتربية الأولاد، وإصلاح شؤون البيت، وتهيئة المقام للزوج قبل مجيئه من العمل.
أمَّا الزوج، الذي جعلت له الشريعة القوامة على المرأة، وأوجبت على المرأة أن تكون مطيعة لأمره إن لم يخالف شرع الله؛ فنجده -في هذا الزمان- قد حادَ -للأسف!!- عن وصف الشريعة له بأنَّه قَوَّام على المرأة، قائمٌ بحقوقها؛ فقد قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، وصارت المرأة -للأسف- هي التي تأمر الرجل!
هل الشرع أتى بذلك؟
أم بأية حجَّة جاز ذلك؟!
وما المصلحة من خروج المرأة متجمِّلة متعطِّرة؟!
ولمن تتجمَّل هذه المرأةُ حين تخرج إلى السوق؟!
ألا يسأل الزوجُ نفسَه -إن كان يغار على أهله- تلكَ الأسئلةَ؛ ويجيب عنها بصدق وموضوعيَّة؟!!
لقد أوضحت الأحاديثُ أنَّ السوقَ مكان ينصب الشيطان فيه رايته، وأنَّ السوق أبغض البقاع إلى الله؛ فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
((أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا)). أخرجه مسلم.
وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- موقوفاً، قال:
((لاَ تَكُونَنَّ -إِنْ اسْتَطَعْتَ- أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ، وَلاَ آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ!)). أخرجه مسلم في الصحيح برقم: (3562).(/3)
وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
((لاَ تَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ، وَلاَ آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فِيهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ!)). أخرجه أبو بكر البرقاني.
وقال ميثمٌ، رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
((بَلَغَنِي أَنَّ المَلَكَ يَغْدُو بِرَايَتِهِ مَعَ أَوَّلِ مَنْ يَغْدُو إِلى المَسْجِدِ، فَلاَ يَزَالُ بِهَا مَعَهُ حَتَّى يَرْجِعَ، فَيَدْخُلَ بِهَا مَنْزِلَهُ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَغْدُو بِرَايَتِهِ مَعَ أَوَّلِ مَنْ يَغْدُو إِلى السُّوقِ)). قال ابن عبد البر: وهذا موقوف صحيح السند.
وحين استعرض الإمام القرطبي شيئاً من هذه الأحاديث المذكورة؛ عند تفسيره قولَه تعالى: {وَقَالُوا مَال ِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَْسْوَاقِ..}؛ قال:
(ففي هذه الأحاديثِ ما يدلُّ على كراهة دخول الأسواق، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجالُ النسوانَ)!
فماذا نقول نحن في زمننا هذا؟!!
وقال -يرحمه الله- عن النساء الذاهبات الرائحات إلى تلك الأسواق، منكراً عليهنَّ فعلهنَّ:
(فإنَّ الأسواقَ مشحونةٌ منهن، وقلةُ الحياء قد غلبت عليهن! حتى ترى المرأةَ -في القيساريات وغيرها- قاعدةً متبرجةً بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا . نعوذ بالله من سخطه ).
مما سبق ذكره؛ نعلم يقيناً أنَّ السوق لم يكن لدى أهل العلم والصلاح والديانة مكاناً للرَّواحِ والذهاب والإياب! بل كان مكاناً يشتري منه المرءُ حاجتَه، ثمَّ يغادره؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ السوق: (مَكثَرَةٌ للمالِ، مَذْهَبَةٌ للدِّينِ)! كما كان يقول مالك بن دينار -رحمه الله- بل كان عمرو بن قيس إذا نظر إلى أهل السوق بكى، وقال: (ما أغفلَ هؤلاءِ عمَّا أُعِدَّ لهم!).(/4)
فأين هؤلاء العظماءِ مِن زمنٍ صارَ فيه الشِّعارُ يرفرف في فضائياتِنا ووسائلِ إعلامنا؛ أن: هيَّا إلى متعة التسوق!! وأيُّ متعةٍ في مكان فيه ينصب الشيطان رايتَه، وفيه يبيضُ ويُفرِّخُ؟! وأي متعة في مكان هو عند الله -تعالى- أبغضُ الأماكن إليه؟؟!!
ولهذا حينما علَّق الإمامُ النوويُّ على قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أَبْغَضُ البِلاَدِ إِلى اللهِ أَسْوَاقُهَا))؛ قال: (لأنَّها محل الغش، والخداع، والربا، والأيمان الكاذبة، وإخلاف الوعد، والإعراض عن ذكر الله.. وغير ذلك ممَّا في معناه).
فعجباً ممَّن فضَّل أبغض البلاد إلى الله على أحبِّها إليه، وهي المساجد!! وعجباً ممن فضَّلَ أبغض الكلام إلى الله تعالى؛ من أغاني الحب والغزل الفاحش، والطرب والرقص والموسيقى؛ على أحب الكلام إليه -سبحانه- وهو كتاب الله، القرآن الكريم!!
ولو تأمَّلنا هذه القضيَّة سنجد أنَّ مَن يَهوَى الأسواق، والذهابَ إليها بلا حاجة، بل للثرثرة، أو النظر إلى الغادي والرائح، وغير ذلك من توافه الأمور؛ نجده ملازماً مَن يحبُّ سماع الموسيقى والكلام الفاحش.
والعكس بالعكس؛ فنجد أهلَ القرآن -وهم أهلُ الله وخاصَّته- هم أهلَ المساجد والطاعة والعبادة..
وشتانَ شتانَ!
وقد تدَّعي المرأة أنَّ جلوسها في بيتها يسبِّب لها الملل والسآمة! ولا أعلم لذلك سبباً؛ إلاَّ كثرةَ حديث النساء عن الذهاب إلى السوق، وما تراه المرأة من دعايات للتسوق، فتظن المرأة أنَّ بهذا السوق متعة وسعادة! وما الدخولُ إليه -في الحقيقة- إلا دخولٌ إلى أماكنِ الفسق والفساد، خاصة في هذا الزمان، والله المستعان.
وأمَّا من ادَّعت أنَّها تصاب بالملل والسآمة لبقائها في البيت؛ فلا أظن ذلك يحدث، وإن حدث فإنَّما هو من وسوسة الشيطان؛ ليزيِّن للمرأة طُرُقَهُ، ويُروِّجَ بضاعتَه، ويَجُرَّها إلى أبغض البقاع إلى الله.(/5)
فالمرأة المسلمة العفيفة تعلم أنَّ هناك بدائلَ طيبةً ومخارجَ حسنةً؛ تبعد بها عن نفسها المللَ والسآمةَ.. فيُقَال لمن يصيبها الملل والسآمة: اذهبي إلى دور تحفيظ القرآن! أو اجتمعي مع النساء الصالحات لتتدارسن مسألة ما، أو تتكلَّمن فيما يفيدكنَّ في دينكن ودنياكنَّ، بالكلام المباح الذي لا يفضي إلى الحرام. فطرقُ استغلال الوقت عديدةٌ جداً، والموفَّقُ من وفَّقَهُ الله سبحانه.
ولقد كان من فقه وفطنة أبي هريرة -رضي الله عنه- ((أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ المَدِينَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: (يَا أَهْلَ السُّوقِ، مَا أَعْجَزَكُم! قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَاهُنَا؟! أَلاَ تَذْهَبُونَ فَتَأْخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ؟ قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: في المَسْجِدِ، فَخَرَجُوا سِرَاعاً..
وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! قَدْ أَتَيْنَا المَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا فِيهِ، فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئاً يُقْسَمُ! فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَمَا رَأَيْتُمْ فِي المَسْجِدِ أَحَداً؟ قَالُوا : بَلَى! رَأَيْنَا قَوْماً يُصَلُّونَ، وَقَوْماً يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، وَقَوْماً يَتَذَاكَرُونَ الحَلاَلَ وَالحَرَامَ..
فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ :وَيْحَكُمْ! فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)). أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب، برقم (2093)، وسنده حسن.
وخلاصة القول:
ينبغي أن يُفهَم وجهُ ما أقولُه: إنَّ ذهابَ المرأة على ذلك النحو، الذي وصفته آنفاً؛ أمرٌ محرَّمٌ، ويُخشى عليها من ذئاب البشر، ولن تستفيد منه إلاَّ ضياعَ الوقت، وذهابَ العمرَ بما لا فائدة منه.(/6)
وينبغي أن يعلم الرجلُ أنَّ القوامةَ له، ليست لزوجته، سواء في بيته أو خارج بيته، وأنَّه راعٍ، ومسؤولٌ عن رعيَّته، وأنَّ خروج المرأة إلى أماكن الاختلاط، التي يعمُّ فيها الفساد؛ أمرٌ محرَّم شرعاً، خاصةً في هذا الزمن، الذي كثر فيه الفساد، وانتشر فيه ذئاب البشر؛ الذين يسيل لعابُهم حين يرون امرأةً غافلةً، وينصبون لها الفخاخ لتقع فيها.
وأمَّا إذا كان الزوجُ ضعيفاً أمام زوجته، وكانت هي التي تدفعه للذهاب بها إلى تلك الأماكن، وتأمره وتنهاه، وما عليه سوى التنفيذ؛ فإنَّه لا يُقَال - في زمن تنمَّرت فيه المرأة على زوجها! - إلاَّ: على الرجولةِ السلامُ والعَفاء!! في زمن صلَّت المرأةُ فيه على زوجِها صلاةَ الجنازة؛ لموت الغيرة والشهامة والمروءة في قلبه!!!(/7)
العنوان: خاطرة: حول صلاة النساء في المساجد؟
رقم المقالة: 925
صاحب المقالة: محمد عيد العباسي
-----------------------------------------
خاطرة:
لماذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال عن منع النساء الصلاة في المساجد؟
نقرأ في الأحاديث النبوية الصحيحة مثل هذا الحديث ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن))[1] وفي رواية: ((لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم)) [2]. وفي رواية لمسلم: "أن ابناً لابن عمر - راوي الحديث - اسمه بلال قال: والله لنمنعهن. وفي رواية: لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلا. فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته[3] سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: والله لنمنعهن". وفي رواية أخرى: ((ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد)).
ويثيرنا العجب: كيف يأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسماح للنساء في الذهاب إلى المساجد حتى في الليل الموحش المظلم الذي أُمرنا أن نستعيذ منه لما فيه من الشرور، فقال – سبحانه -: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} مع أنه يخبرنا أن صلاتهن في بيوتهن خير لهن، ويزيد على ذلك فيقول: ((صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها))[4] ومعنى ذلك أنها كلما زادت في الاستتار والاختفاء كان ذلك أفضل.
إن هذا ليثير الإشكال ويبعث على الاستغراب.(/1)
وحين التأمل والتفكير العميق يزول الإشكال، ويضمحل الاستغراب ونجد الجواب ونكتشف الحكَم الكثيرة الجليلة للشارع الحكيم - تبارك اسمه وتعالى شأنه - إن من الثابت ومن المعروف أن المرأة مصدر فتنة للرجل وذلك لما ركب الله في الرجال من الغريزة الجنسية التي غرضها بقاء النوع الإنساني ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرح بذلك فيقول: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))[5]. بل إن الرجل الحازم العاقل لتغلبه النساء كما بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن)). وفي رواية ((لذوي الألباب، وذوي الرأي منكن))[6]. ولذلك كان من الطبيعي أن يرغِّب الشرع الحنيف في قرار المرأة في البيت، ويزهدها في الخروج منه، كي يقلل من هذه الفتنة ما أمكن، ولكنه مع ذلك علم الله - تعالى - أن في خروج المرأة إلى المساجد خيراً عظيماً لا يتوفر في البيوت، ومن الخسارة الجسيمة حرمانها منه، ولذلك كان هذا التوجيه الكريم.
وليس هذا غريباً ففي الحياة كثير من الأمور التي يجتمع فيها الخير والشر، وكلنا إن شاء الله - تعالى - يذكر قوله – سبحانه -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ولذلك قال العلماء: ليس العلم أن تعرف الحلال والحرام فهذا يعرفه كل أحد، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((الحلال بين والحرام بين)).[7] بل وتعرفه الهرة، كما قال الأستاذ علي الطنطاوي - رحمه الله.(/2)
حين تلقي إليها شيئاً من اللحم فإنها تأكله أمامك؛ لأنها تعلم بفطرتها أنه وصلها من طريق مشروع، وأما إن خطفته، أو سرقته فإنها تفر لتأكله بعيدا عن عينك؛ لأنها تدرك أنها حصلت عليه من طريق غير مشروع، نعم الحلال والحرام الصريحان واضحان معروفان، فليس العالم هو الذي يعرفها ولكن العالم الحق من يعلم الأمور المشتبهات التي يختلط فيها الخير بالشر والحلال بالحرام، فيعلم خير الخيرين وشر الشرين.
وأرجع إلى ما كنت بصدده فأقول: إن من الخير الكبير والكثير الذي يعلمه الله - تعالى – من خروج المرأة للمساجد ولأجله نهى الرجال عن منعهن منه ما يلي:
أولاً: أن تسمع آيات الذكر الحكيم، فأكثر النساء لا يحفظن القرآن، وكثيرات منهن لا يُحسنَّ قراءته، ومعروف أن إتقان قراءته يحتاج إلى عناية كبيرة، ودقة شديدة، والأصل أن يتلقى من شيخ مشهور أنه أخذه من شيخ مجاز بالسند إلى المقرئين من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: وهذا غير متوفر أضف إلى ذلك أن المصاحف الموجودة مكتوبة بالإملاء القديم الذي كان منذ أربعة عشر قرناً، والناس عامتهم لا يحسنون القراءة به للاختلاف الكثير بينه وبين الإملاء الحديث، فإذا جاءت المرأة المسجد سمعت القراءة الصحيحة، فتقوِّم قراءتها وتتدارك اخطاءها؛ لأن العادة في أئمة المساجد أن يكونوا متقني القراءة.(/3)
ثانياً: في حضور النساء المساجد فائدة جليلة: وهي سماع السور والآيات التي لا تحفظها ولا تقرؤها إلا نادراً، بسبب انشغالها بشؤون بيتها ورعاية زوجها وولدها، ومن المعروف أن هذه الشؤون تأخذ جُل وقتها إن لم تأخذه كله، وإذا بقي لها شيء من الوقت فإنها تكون متعبة تبتغي الراحة، ولا يكون فكرها نشيطاً للتلاوة والتدبر، فإذا سمعته من إمام المسجد والمفروض أن تكون قراءته عذبة ندية صحيحة مؤثرة، فإنها تتأثر بالآيات تأثراً كبيراً وخاصة إذا كان لديها بعض الثقافة العربية والدينية؛ فتستطيع فهم أكثر ما يقرأ، وقد بين ربنا - سبحانه - أن كتابه سهل ميسَّر كما قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}؛ [القمر: 17]. وحين يكون الإنسان مستمعاً يتدبر ما يسمع أكثر كثيراً من حالته حينما يقرأ حيث يكون منشغلاً بالقراءة.
ثالثاً: في حضور النساء المساجد فائدة أخرى جليلة: وهي أداء الصلاة والعبادة بنشاط، لأن المرأة حين تتعبد وحدها تمل وتكسل ويصيبها الفتور، بينما حين تكون في جماعة، والمسجد زاخر بالمصلين والمصليات فإنها تنشط وتتشجع، فالإنسان يجب الجماعة، ويألف بني جنسه، ويندفع إلى عمله بنشاط وحماسة، فطرة إنسانية معروفة.
رابعاً: وهي فائدة مهمة جداً وهي أن المرأة إذا حضرت إلى المسجد فإنها تكتسب كثيراً في معرفة دينها، وتطَّلع على كثير، من الثقافة الدينية والعلوم الإسلامية؛ من تفسير كتاب الله، وشرح حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - والتفقه في الدين، وتزكية النفس، والاطلاع على سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى واقع المسلمين، وبذلك تزيد ثقافتها الدينية، ومعارفها الشرعية، ويتسع تفكيرها، وهذا يتم من خلال مجالس العلم التي تزخر بها المساجد وخاصة في المناسبات الإسلامية، ومن خلال الكلمات المختلفة للدعاة الزائرين أو لأئمة المساجد الدائمين، وطلاب العلم النابغين، والخطباء الفصحاء.(/4)
ولكل منهم طريقة خاصة، وأسلوب متنوع في إيصال المعلومة والإلقاء، كما أن لكل منهم ما يتميز به من التخصص العلمي، والثقافة المتنوعة، التي قدا لا تجدها في مكان آخر وخاصة إذا بقيت في بيتها، فتجمع أنواعاً طيبة من الثقافة والأساليب تنتقي من رياضها قطوفاً دانية عذبة شهية تفيد منها أسرتها وصديقاتها وتستفيد لنفسها بما يصلح أحوالها.
ومما يمتاز به ما يلقى في المساجد من العلم والتوجيه أنه يكون سالماً من الغلو والشذوذ والتطرف حيث يكون علنياً، فلا يجرؤ أصحاب الأفكار الشاذة من نشر أفكارهم؛ لأنه يكون على مرأى من العلماء الراسخين، والأجهزة الرسمية الأمنية وغيرها، وهم يلجؤون إلى الخفاء والاستتار، فيصطادون فرائسهم في الأماكن المظلمة والمجالس السرية.
خامساً: في حضور النساء الصلوات في المساجد تسلية لهن عما يكون قد شاب حياتهن من التعب والسأم والإحباط، وما يكون دخل نفوسهن من الحزن والتأثر، وآثار المصائب الكثيرة التي تحفل بها الحياة المعاصرة وخاصة لأولئك من سكان الشقق الضيقة والبيوت السيئة التي يؤدي مجرد سكناها إلى الشقاء والتعاسة، وقد ذكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه حينما قال ((أربع من الشقاوة: الجار السوء والزوج السوء والمركب السوء والمسكن الضيق، وأربع من السعادة))؛ وذكر عكسهما؛ رواه الحاكم وغيره وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة282، فتتحدث إلى أخواتها المسلمات عن هموها ومشاكلها، فينفس ذلك من الاحتقان الذي يكون قد ضيق عليها حياتها، ويهون عليها ما تلقى حينما تسمع منهن ما يلقَين، وغالباً ما يكون لكل واحدة منهن نصيب يقل أو يكثر من الهموم والأحزان، والمشاكل والمتاعب، والإنسان تهون عليه مصائبه حينما يطلع على هموم غيره، وستجد كل واحدة عند غيرها من الهموم ما يزيد على همومها فترجع تحمد الله - تعالى - على لطفه ورحمته.(/5)
ولهذه الفائدة أثر كبير على تحسين العَلاقة الأسرية، فبدلاً من أن تجتمع على المرأة الهموم المتتالية التي تكبر وتتضخم كل يوم دون تنفيس، يزول كثير منها بما تنفضه عنها كل يوم، بل كل صلاة وتتخفف منه، بينما في بقائها في البيت لا يؤمن أن تنفجر كل مدة وأخرى، وقد لا تسلم حين تنفجر من أن تؤدي إلى خراب البيوت وضياع الأولاد، وتأريث العداوات والأحقاد.
سادساً: ومن الفوائد اكتساب المرأة صداقات جديدة وصحبة إيمانية، فتتعرف على رائدات المسجد، وعلى الداعيات والعالمات الأخوات الصالحات، تجد منهن من تنسجم روحها مع روحها، وميولها مع ميولها، فتتوطد صداقتهما، ويتعاونان على البر والتقوى، وما فيه صلاح أسرتيهما كافة، وخاصة أن رائدات المساجد يكن عادة من الصالحات المصلحات الطيبات المخلصات، فتمتلئ حياة المسلمة بما يكون منه الشذا الطيب، والعطر الذكي، وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصديق الصالح ببائع المسك، فرب صديقة صالحة تكون سبباً في صبغ حياة صديقتها بالسعادة في الدنيا والآخرة، لها ولأسرتها جميعاً، وربما تعارفت الأسرتان، فكان من ذلك التعاون على البر والتقوى والخير العميم.
سابعاً: ومما سبق كله تفيد المرأة من حضور المساجد صلاحاً لنفسها وزيادة لعلمها وسمواً في إيمانها وقوة في دينها وثباتاً واستقامة على منهجها وتحسيناً لأخلاقها. وكم في المواعظ التي تلقي في المساجد مما تتحف به الوعاظ الناجحون والدعاة المتميزون المصلين والمصليات من آثار نفسية طيبة! فتفيض مواعظهم حباً وتقوى، وخيراً ورشاداً، وتفجر الرقائق التي ينثرونها من الآيات والأحاديث وسير السلف الصالحين وأقول الأولياء والزاهدين، تفجر ينابيع الهدى والإيمان في القلوب، فترق لذكر الله، وتسيل الدموع وتخشع النفوس، وتنيب إلى مولاها الكبير المتعال، وتتوب من ذنوبها، وتتخفف من آصارها وأوزارها.(/6)
وإذا تذكرنا أننا نعيش زمان الفتن السود المدلهمة التي تغزوا بها شياطين الإنس والجن حياتنا من كل جانب، وتهاجمنا ليل نهار تريد سرقة إيماننا ونهب ديننا، حين ذلك نعرف قيمة هذه الفوائد العظيمة الجليلة لحضور المساجد، وعودة النساء إلى رياضها وحياضها، وخاصة أنهن أشد تأثراً، وأسرع تكسراً، وهن اللاتي وصفهن النبي الرؤوف الرحيم - صلى الله عليه وسلم - بأنهن أخواتنا القوارير.
فما أجدرنا أن نفقه هذه الحِكَم البالغة، ونتأمل مقاصد الشريعة الغراء، فنعود إلى الهدي الذي كان عليه سلفنا الصالح، والذي سنه لنا نبينا الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - فنعيد إلى بيوت الله المساجد ألفها ونشاطها وحيويتها، ونفتح المساجد دائماً وأبداً ليشارك النساء في غشيانها كما يشارك الرجال، كما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه خير القرون، دون إضافة أو تغيير أو تبديل، ودون أي حواجز أو عراقيل، أو تدخل بآراء سقيمة لإدخال تعديلات عليها، يمليها استدراك على الشارع، واتباع لعادات، وغَيرة كاذبة، وآراء سقيمة، ولنعلم أن ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، فهو حكم من زاوية واحدة هي زاوية ضرر فتنته الاختلاط، ولكن ما أمر به من السماح لهن بالصلاة في المساجد وتحريم منعهن من ذلك هو بالنظر إلى الزوايا الأخرى التي تجنبها من ذهابها إلى المساجد، وفيها خيرات حسان، ومنافع كثيرة، وصلاح عظيم، يفوق كثيراً ما في الضرر المحتمل، ولعل الناتج من الحضور يكون أعظم مصلحة وأكثر ثواباً، وأجدى نفعاً في الدين والدنيا والآخرة هذه تذكرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}. وفقنا الله لهداه، وهدانا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ومجتباه، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــ(/7)
[1] رواه أحمد (2/76و 77/ رقم 5468/5471) وأبو داود ((الصلاة 53/ رقم 567 والحاكم
[2] رواه مسلم (الصلاة 30/328/ رقم 134-140) وأحمد (2/90/ 5640) عن ابن عمر - رضي الله عنه .
[3] القائل هو الراوي عن ابن عمر؛ ابنه التابعي الجليل سالم بن عبد الله بن عمر - رحمه الله - وقوله (دغلا) أي فساداً أو خداعاً وريبة.
[4] رواه أبو داود (الصلاة 54/ رقم 570) عن ابن عمر أيضاً، وصححه الألباني في صحيحه، والمخدع هو البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير.
[5] رواه البخاري (النكاح 17/6/124) ومسلم (أكثر أهل الجنة الفقراء 26/ص 2097و 2098)، وأحمد (5/200 و 210)
[6] رواه مسلم (الإيمان 34/ ص87) وأبو داود (السنة 16/4679) والترمذي (الإيمان 6/ 2613) وأحمد (2/67) وابن ماجه (الفتن 19/4003) عن ابن عمر وأبي هريرة - رحمه الله -.
[7] جزء من حديث رواه البخاري (الإيمان 39/ 1/19) ومسلم (المسافاة 20/ ص 1219/ رقم 1599) وغيرهما عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما.(/8)
العنوان: خدعة التحليل السياسي
رقم المقالة: 784
صاحب المقالة: بندر بن عبدالله الشويقي
-----------------------------------------
لم أجد أنسبَ من هذا العنوان لأكتب تحته هذه الخواطر المتعلِّقة بطريقة صديقنا أبي عمرو د. محمد بن حامد الأحمري في معالجة الإشكالات المتعلقة بالمسألة الشيعية.
وفي البدء أودُّ القولَ: إن من أثقل المواقف على النفس أن يضطرَّ المرء ليكتب محذِّراً من رأيٍ بالغ الخطر يتبناه فاضلٌ صادق النية، ناصحٌ لأمته، مريدٌ للخير والإصلاح.
غير أن مما يهوِّن الموقف أن الدكتور - وفقه الله - اتَّخذ لنفسه نهجاً ثابتاً في تضعيف عقول مخالفيه، ووصْفِهم بالغفلة وعدم الإدراك والاستغراق - جهلاً وسذاجةً - في خدمة مصالح الصهيونية والعدو المحتل. ففي ظني أني مهما قلتُ - بعد هذا - وكتبتُ، فلن أبلغَ مبلغَ الدكتور، ولن أباريه في ازدراء عقل ورأي مخالفه.
عند القصف اليهودي الأخير للبنان؛ كتب دكتورُنا الفاضل مقطوعةَ هجاءٍ شهيرةً عنوانها: "خدعة التحليل العقدي". رمى فيها حِمَماً بركانيةً على حمقى أغبياء مغفَّلين يقال لهم: "العقديون"، ثم أتبع مقطوعته تلك بمعلَّقةٍ هجائيةٍ ثانيةٍ تدور حول المعنى نفسه عنوانها "حصاد التحليل العقدي".
ولما سُئل في برنامج (إضاءات) عن فكرة هاتين المقالتين ذكر أن الوضع في لبنان كان وضعَ حربٍ مع اليهود، ولم يكن وقتَ إثارة قضايا عقدية.
انتهت الحرب. وسكتت المدافع. وهدأت لبنان. لكن موقف الدكتور لم يتغيَّر، ومدافعه لم تسكُت. وكما كتبَ وقت الحرب عن "خدعة التحليل العقدي"، وعن "حصاد التحليل العقدي"، إذا به يعود من جديد ليكتب لنا مقالةً مطولةً عنوانها "رؤية في المعضِلة الشيعية"، حذَّر فيها من خطورة "التهييج العقدي"!!(/1)
فالدكتور - عافاه الله - ينتهي من "خدعة التحليل العقدي" ليكتُب عن "حصاد التحليل العقدي". وما إن يفرغ من ذلك حتى ينبري للحديث عن خطر "التهييج العقدي". من غير أن يخطر له أن يمرَّ في طريقه بشيءٍ اسمه خطر الإغضاء عن "الانحراف العقدي"، وعن أثر "التضليل العقدي" في ضياع الأمة.
والحجة - دائماً - لدى الدكتور أن العدو يسعى لاستثمار الخلافات العقدية، فيجب ألا نخدم أهدافه بإثارتها!! فلتذهبْ - إذاً - عقائد المسلمين، وليأخُذ الشيعة وقتهم في نشر باطلهم، وليُمعِنوا في اختراق المجتمع السني، وتشييع السذَّج الغافلين. وعلى "العقديين" مقابلَ ذلك أن يتجنبوا "التهييج العقدي" حتى لا يخدموا أمريكا وإسرائيل بوقوفهم في وجه إخوانهم الشيعة!
هذا المنطق الذي يتحدث به د. الأحمريُّ هو الذي أوحى إليَّ بالحديث عن (خدعة التحليل السياسي)؛ فقد رأيتُ الدكتور أغرقَ نفسه في تتبع السياسة وتفاصيلها حتى صار ينطبق عليه ما ذكره هو في مقالة (حصاد التحليل العقدي) حين قرَّرَ أن : "المندمِج بقضيةٍ ما ينغرسُ فيها، ويصعُب عليه الرؤية خارجها؛ لأنه كرَّر موقفه على نفسه مراراً، حتى لم يعُد يسمح لها بالتفكير خارج الصندوق الذي وضعها فيه".
دكتورنا - أعزَّه الله - وضع نفسه في صندوق السياسة، فلم يعُد يستطيع السماح لعقله بالتفكير خارج ذلك الصندوق، حتى لو كان صندوقاً مشتملاً على أغلى ما تملكه الأمة، وهو عقيدتها وتوحيدها.
وصاحبُ "التحليل السياسي" الذي لا يبصر إلا السياسة؛ كثيراً ما تتشبع نفسه بالتهوين من العامل العقدي ومدى تأثيره في تسيير المواقف من حيث لا يشعر، بل ربما رفع صوته معلناً (بلسانه) عن يقينه بدور العامل العقدي في تحليل بعض المواقف، لكن عند التطبيق فهو لا يبصر شيئاً سوى السياسة.(/2)
د. الأحمري يملك كمَّاً هائلاً من المعلومات والمعارف السياسية، غير أنه حين يكتب يغرق في معلوماته تلك، فيعجز عن توظيفها للخروج بفكرةٍ متوازنةٍ، بسبب عدم قابليته للنظر برويةٍ فيما لدى الآخرين، مما له وقعٌ بالغ في القضية التي يتصدى للحديث عنها.
وقد رأيته في واحدةٍ من مقاطع هجائه يذكر أن مِن الناس : مَنْ يُريح نفسه من عناء التفكير والفهم بوضع الآخرين في صناديق أو مجموعات، وأحزاب ومواقف. فيجعل هذا ليبرالياً، وذاك عقلانياً؛ ليسقط عن نفسه مشقة التفصيل والفهم.
فليتَ دكتورنا تنبَّهَ - أيضاً - إلى أن من الناس من يريح نفسه من عناء التفكير والفهم بوضع مخالفيه في صندوقٍ كُتبتْ عليه عبارة : "عقديون مغفَّلون".
دكتورنا الفاضل يرى أن "التحليل العقدي، والتفريق بين الناس بناءً عليه؛ كانَ ولم يزلْ أداةً مهمةً من أدوات المستعمرين". ويقول : "كم شيخٍ يقول وهو لا يدري أبعاد قوله، ويحلب في قدح المحتل الصهيوني أو غيره، وهو يرى أنه ينصر طائفةً أو عقيدةً أو مذهباً أو يدَّعي أنه ينير الطريق للأمة، بينما هو يرتكس بأتباعه في الظلمات، ويستعيدُ معارك الفرق والتاريخ ويغيب عن الشهود ومصالح الحاضر".
فالدكتور - سلَّمه الله - منزعجٌ من شيوخٍ سُذَّجٍ يرتكسون بأتباعهم في الظلمات، ويحلبون في القدح الصُّهيوني من خلال إثارة معارك تاريخية تغيبهم عن مصالح الحاضر!
وقد تعِبَ الناسُ - وكاتب هذه الأحرف منهم - ليشرحوا للدكتور أن استغلال العدو للخلاف السُّني الشيعي أمرٌ معروفٌ وليس بخافٍ عنهم، لكنهم يرون أن تجاهل أو تهوين الخطر الشيعي ليس حلاً؛ بل هو مما يزيد الواقع سوءاً وتدهوراً.
غير أن الدكتور يصرُّ - دائماً - على أن كلَّ من لا يرى رأيه فهو لا يعرف خطط الأعداء الصهاينة الأمريكيين. وإنما هو "عقديٌّ" مغفَّلٌ يحرث التاريخ لينبش خلافاتٍ ميتةً، يتلهَّى بها عن مشاكل العصر الحقيقية.(/3)
يقول الدكتور هذا مع علمه أن التشيُّع والرَّفض لم يكن في يومٍ من الأيام مشكلةً تاريخيةً تحتاج إلى نبشٍ وتفتيش، بل هي قضيةٌ حاضرةٌ أمام أعين الجميع، إلا إذا كان من رأي الدكتور أن الانحرافات العقدية تسقط بالتقادُم!
في مقالته "حصاد التحليل العقدي" يقول د. الأحمري مخاطباً مخالفيه: "للنظر السياسي يا إخواننا تقسيماتٌ أُخَر، بعضها من بضاعتكم وبعضها تقع خارج ثقافتكم، وإلا لما صحَّ وجود سياسي وعقدي، ووجود رجل دين ورجل دولة أو سياسة".
في هذا الكلام نرى د. الأحمري يسند موقفه ويعضد رأيَه بالتنبيه إلى قاعدة احترام التخصُّص. فبما أنه صاحب سياسة؛ فعليكم معاشر "العقديين" التنحِّي عن طريقه كي يشرح للناس رؤيته هو للمعضلة الشيعية! لكن لو سألنا دكتورنا: ماذا لو سلَّم لك "العقديون" نظرك السياسي، فهل ستسلِّم لهم نظرهم العقدي؟!
الجواب بالتأكيد: لا!.. فالدكتور يدرك استحالة فصل القضايا بهذه الصورة السَّطحية التي يطرحها ويعلم ضعفها. غير أنه يريد الوصول إلى إخراس من يسميهم "عقديين" وحسبْ، فمن أجل ذلك فزع للحديث عن التخصُّص.
كلامُه في الظاهر معناه: (أنتم مجالكم "النظر العقدي" فدعوا عنكم (السياسة)!. لكن حقيقة موقفه:(أنتم لا تفهمون السياسة، فاسكتوا حتى عن العقائد).
وقد رأيتُه في كثيرٍ من كلامه لا يستطيع البعد عن "النظر العقدي"، ولا يقوى على تركه لأهله، مع أنه حين يتعرَّض لمناقشة مسائله يقع في أخطاء فادحة لها أثرها في تقييم الواقع، وتبعاً لذلك في معالجته.
سمعتُه في برنامج (إضاءات) يقول: "كيف نُشغل الطالب مثلاً لمدة سنتين أو ثلاث في قضية خلق القرآن؟ ما عندنا أحد الآن يقول بهذه القضية! نحتاج أن نتحدث عن قضية من قضايا الحريات أو قضايا مفاهيم جديدة".(/4)
هذا ما قاله الأستاذ الدكتور، سامحه الله. وعن نفسي فإني لا أعرفُ أحداً - من لدُنْ آدم وإلى اليوم - يشتغل سنتين أو ثلاث بتدريس قضية خلق القرآن! بل هي مسألة ضمن أبواب الاعتقاد يمرُّ عليها الطالب المتخصِّص ويتعلمها في مجالس معدودة.، غير أن ضِيقَ صدر الأستاذ بالمباحث العقدية هو الذي يدفعه لمثل هذا التهويل.
وأغرب من تهويله قوله بثقةٍ تامةٍ: (ما عندنا أحد يقول بهذه القضية)!!
هذا الكلام من الدكتور يظهر منه أثر الاستغراق في "التحليل السياسي" وما يؤدي إليه من ضعفٍ في "النظر العقدي"، فالقول بخلق القرآن - لو علِمَ الدكتور - هو قولُ الشيعة الإمامية الذين منَعَنا من إزعاجه عند معالجته لمعضلتهم!
الشيعة الإمامية، ومعهم الشيعة الزيدية، ومثلهم إباضية عمان والمغرب - دعْ عنك جملةً من زنادقة أدباء الحداثة الذين يعتبرون القرآن نصاً أدبياً مخلوقاً قابلاً للنقد - كل هؤلاء يقولون بخلق القرآن إلى اليوم، لكنَّ الأستاذ لا يدري عن ذلك شيئاً بسبب صندوق السياسة المحكم الإقفال الذي حبسَ نفسه فيه، فلم يعُدْ قادراً على معرفة ما في سائر الصناديق.
على أني أقطع أن دكتورنا حتى لو علِمَ بذلك، فلن يختلفَ موقفه؛ لأن المسألة عنده في الأصل ليست ذاتَ بالٍ، والمشكلة لديه لا علاقة لها بوجود تلك الأقوال أو انقراضها، بل هي نابعةٌ من خصلةٍ واضحةٍ لدى الدكتور تتعلق بضيق صدره بالمباحث العقدية عموماً.
الدكتور يريد السياسة ولا شيءَ غير السياسة. هو يريد حديثاً عن (الحرية، وعن خطر الاستبداد السياسي، وعن الانتخابات والمشاركة الشعبية). فهذه القضايا هي العقائد القطعية والركائز اليقينية التي يقوم عليها بنيان الإسلام في نظر "المحلل السياسي".(/5)
أما شهادةُ ألا إله إلا الله، ونقضُ الشيعة لها بممارساتهم الشركية، وشهادةُ أن محمداً رسول الله، ونقضهم لها بعقيدة الإمامة والعصمة؛ فكلُّ هذا مما يمكن احتماله والتهوين من أمره، وبالإمكان اعتبار تفاصيله قضيةً تاريخيةً عفا عليها الزمن. لكن الذي لا يجوز السكوت عنه بحالٍ، هو "الانحراف السياسي"، وما يتفرَّع عنه!.
وقد رأينا القصور في "النظر العقدي" يبرُز لدى معالجة الدكتور "للمعضلة الشيعية"، فحين تطفَّل على صندوق "العقديين"، وعاب عليهم رميَ الشيعة بالقول بتحريف القرآن؛ رأيناه يقول: إن هذا الموقف "في غاية الخطأ، لأسبابٍ، منها: أن القرآن الذي يقرأه الشيعة اليوم هو القرآن نفسه الذي بأيدي المسلمين في كلِّ مكان، ومن شكَّ فليذهب بنفسه لأقرب تجمُّعٍ أو مسجدٍ أو منزلٍ لهم، وسيجده القرآن الذي عنده".
فها هو ضعف "النظر العقدي" يتحدث عن نفسه، فالدكتور دخل للتحكيم في مسألة لا يملك تصوراً لأبعادها الحقيقية لأنها غير موجودة في صندوق السياسة الذي يهوى الدوران فيه. هو - بالتأكيد - لن يستوعب مذاهب وآراء الشيعة في القرآن ما دام مستغرقاً في متابعة تصريحات "تشيني" و"مارتن إنديك"، وكتابات "فوكوياما"، ومقالات "فريدمان".
الدكتور أتى هنا بحجةٍ يراها قاطعةً في تبرئة الشيعة من ظلم "العقديين". فهو يقترح أن يذهب "العقديون" لمساجد الشيعة وتجمعاتهم، وينظروا في مصاحف الشيعة ليتأكدوا أن الذي يقرؤونه هو نفسه القرآن الذي (يقرأه) يقرؤه السنة.
ولو أن دكتورنا أنصت قليلاً لإخوانه "العقديين" لربما أخذه الحياء من ذكر مثل تلك الحجة، فالعقديون يعلمون أن أكثر الشيعة القائلين بالتحريف يؤمنون بهذا القرآن الموجود عندنا، لكن موضع الإشكال أنهم يعتقدون نقصَه، وأن الصحابة الكرام حذفوا منه آيات ولاية علي بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - وفضائل آل البيت، ومثالب الصحابة!(/6)
قد لا تعني هذه المسألة الكثير للدكتور، لكن لو أنه أعطى "العقديين" - الذين يعانون اضطهاده - فرصةً ليسمع منهم؛ لأراح نفسه من عناء الذهاب إلى مساجد وتجمعات الشيعة ومقارنة مصاحفهم بمصاحف أهل السنة.
وقد رأيتُه في غمرة إصراره على تخطئة فرقة "العقديين"، وبيان ظلمهم للشيعة يذكرُ أن كتاب (فصل الخطاب في تحريف كلام رب الأرباب) كتابٌ منبوذٌ عند الشيعة، وغير متداوٍل حتى إنه لم يطبعْ إلا مرةً واحدةً، وفي الهند.
ولو أن دكتورنا - غفر الله - تواضع قليلاً لإخوانه "العقديين" هنا أيضاً، لعلمَ أن ذاك الكتاب القذر لم يُطبعْ في الهند قطْ، وإنما طُبعَ في إيران مركز التشيع والرَّفض.
ولو أنه أرعى سمعه وعقله لشرح له "العقديون" أن المشكلة ليست محصورةً في كتاب (فصل الخطاب)، ولا في مكان طبعه.
فسواءٌ طُبعَ الكتاب في الهند أو نجازاكي أو في زُحَل.
وسواءٌ طُبعَ طبعةً واحدةً أو اثنتين، أو لم يُطبَع قطْ.
بل لو أن ذاك الكتاب لم يُخلَق في هذه الدنيا، ولا خُلِق مؤلفه.
كلُّ ذلك لا قيمة له ولا تأثير في المسألة التي يدرك "العقديون" وحدهم أبعادها وخطورتها. كتاب (فصل الخطاب) - لو عَلِم الدكتور - لا جديدَ فيه، فمؤلفه لم يزدْ على جمع المتفرِّق في كتب أعيان الشيعة القائلين بتحريف القرآن، تلك الكتب التي لا زالتْ تطبع إلى اليوم بالآلاف في طهران وفي قُم من غير أن يشعر الدكتور، وهي كتبٌ متداولةٌ وليست منبوذةً، بل هي محلُّ حفاوة علماء الشيعة، ومؤلفوها محلُّ تقديرٍ وإجلالٍ، بل هم معدودون عندهم من أئمة الإسلام وأعيانه المبرَّزين.
أقول هذا الكلام وأنا في شكٍّ كبيرٍ من فائدته في تغيير موقف الدكتور، فالتحقُّق من موقف الشيعة المعاصرين من القول بتحريف القرآن مبحثٌ "عقدي"، فهو - لذلك - ليس من محتويات صندوق دكتورنا الفاضل.(/7)
لكنَّ "العقديين" - باعتبارهم يتحدثون في فنِّهم، ولأنهم ينطلقون من قواعد شرعية محكمة - لا يكفيهم أن يقول المعمَّم الشيعي: (أنا لا أقول بالتحريف)، سواءٌ صدق في قوله أو كذب، بل يريدون موقفاً واضحاً وحازماً من كلِّ من تجرَّأ على الطعن في دستور الأمة، فلا أقلَّ من الاتفاق على كفر القائل بذلك الفجور والتبرِّي منه.
قد يرى د. الأحمري في هذا الموقف شيئاً من المبالغة والتشدُّد، لكنَّ "العقديين" يريدون أن يفهم الدكتور أن للقرآن الكريم عندهم منزلةً عاليةً وأهميةً بالغةً، فهو عندهم أهمُّ من المفاعل النووي الإيراني الذي يُشفِق عليه الدكتور من الدَّمار، ويرجو أن يكون له دورٌ في إحداث توازن في المنطقة، وردع إسرائيل عن أطماعها التوسعية، وتخفيف مذابحها ضد الفلسطينيين!
وكما قلتُ في مسألة "خلق القرآن"؛ أقول في مسألة "تحريف القرآن"، فسواءٌ قال الشيعة بالتحريف أو لم يقولوا، فموقف الدكتور - غالباً - لن يتغير! بل لو أطبقَ الشيعة كلهم على القول بالتحريف؛ فالدكتور - وإن اعتبر هذا القول كفراً - فإنه سيوجب على "العقديين" الكفَّ عن "التهييج العقدي"، والبعد عن إثارة الخلاف المذهبي، لئلا يستفيد العدوُّ الصهيونيُّ الأمريكي من ذلك، فالموقف السياسي هو وحده الحاضر في عقل الأستاذ!
من آثار "خدعة التحليل السياسي" احتفاء د. الأحمري ببروز فكرة "ولاية الفقيه" لدى الشيعة، فهي - في تصوره - "هدمٌ ذكيٌّ لركن الإمامة في المذهب الشيعي"! كما أنها تمثِّلُ "تجديداً واقتراباً من الحلول الإسلامية بل والفطرية الطبيعية"، وقد استشهد في كلامه بقول أحد الكتاب: إن "ولاية الفقيه" خطوةٌ نحو التسنُّن!(/8)
هذا التصور الساذج الذي طرحه الدكتور ما هو إلا نتيجة مباشرة للاستغراق التام في "التحليل السياسي". فالدكتور - سلمه الله - نظر فقط للأثر السياسي لفكرة "ولاية الفقيه" على الواقع الشيعي، فأداه نظره إلى أنها تمثل هدماً ذكياً لركن الإمامة لدى الشيعة، بل وتمثل تجديداً وخطوةً نحو التسنُّن! ولو أن أستاذنا اعتنى بـ "النظر العقدي" لربما كان له رأيٌ ثانٍ، ولأدرك حينها أثر "خداع التحليل السياسي" في اختلال الموازين الشرعية، وفي تغييب أصول المعتقد!
"ولاية الفقيه" عند من يعرف بعدها العقدي أبعد ما تكون عن المفاهيم السُّنية، بل هي - في ذروة نضجها - أقرب إلى المفهوم الكنسي منها إلى المفاهيم الإسلامية!
قبل "ولاية الفقيه" كانَ الشيعة يقولون: (من ردَّ على الإمام المعصوم؛ فقد ردَّ على رسول الله، ومن ردَّ على رسول الله؛ فقد ردَّ على الله). أما بعد بروز فكرة ولاية الفقيه، فقد أصبح أنصارها يقولون: (الرَّد على الولي الفقيه، كالردِّ على الإمام المعصوم! والرَّد على الإمام كالرَّد على رسول الله ، والرَّد على الرسول كالرَّد على الله)!!
والنتيجة النهائية لهذا الزيغ أن من ردَّ قول "الولي الفقيه"، فقد ردَّ على الله!!
فهل هذا هدمٌ ذكي لمبدأ الإمامة، أو أنه إحياء خبيثٌ لها؟!
"ولاية الفقيه" في محصَّلها ترسيخٌ لمبدأ الإمامة في العقل الشيعي، والذين اخترعوا الفكرة إنما أرادوا تفعيل عقيدة الإمامة وتوظيفها لهدف إقامة دولة رافضية، يتمُّ فيها إحكام السيطرة على قطعان الشيعة الضالة بنَصب طاغوتٍ لهم يشركون به مع الله. وحسبَ هذه النظرية - عند أمثال الخميني - فإن "الولي الفقيه" له الطاعة المطلَقة، ليس في الشأن السياسي وحسبْ، بل حتى في جانب التشريع، فمن حقه تعليق وإيقاف أحكامٍ شرعيةٍ قطعيةٍ من مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج!
فأينَ هُدِمَت فكرة الإمامة في مثل هذه الزندقة المكشوفة؟!(/9)
هذه الضلالات المتراكمة لدى الشيعة الروافض من العسير جداً تصوير خطرها وحجمها الحقيقي لمن أغلق على نفسه صندوق السياسة. فمن أصعب المهام إقناع "المحلل السياسي" أن قوة الأمة في اجتماعها على معتقدها، وأن الخطر الخارجي - مهما يكن - فإنه لا يسوِّغ التهوين من شأن تلك الضلالات التي تستهدف الأمة في أعز ما تملك.
شيءٌ واحدٌ يمكن أن يؤمن الدكتور بضرورة إثارته، وتفريق الأمة عليه، وتشتيت وحدتها من أجله، حتى لو كان في ذلك خدمةً للعدو الصهيوني الأمريكي!
فإذا كان الدكتور يعتبر إثارة الخلاف العقدي مع الشيعة حلباً في قدح العدو المحتل؛ فلنجرِّب أن نقول له: يجب عليك - إذاً - أن تكفَّ عن انتقاد الاستبداد السياسي للحكومات، وأن تمسك قلمك ولسانك عن المطالبة بالانتخابات والمشاركة الشعبية؛ لأن هذه المطالب هي عينها مطالب العدو الغربي الصهيوني الذي يضغط ويبتزُّ الحكومات بإثارتها، ليحملها في النهاية على تقديم تنازلات تضر بشعوبها.
بالطبع الدكتور لن يقبل مثل هذا الكلام، فهو لا يرى مانعاً أن يحلب في قدح العدو المحتل، لأجل تفعيل محتويات صندوقه، بل لا مانع لديه أن يهبَ عدوَّه البقرة كلها، متى ما تعلَّق الأمر بالرُّكن الأهم عنده: "السياسة"، و"الانتخاب". أما قضايا التوحيد والشرك، والسنة والبدعة، والهدى والضلال؛ فالمغفَّل من يخدم العدو بإثارتها، وهي - في نظر دكتورنا - قضايا تاريخية تنتمي لعصر أحمد بن حنبل، على حدِّ تعبيره في برنامج (إضاءات)!(/10)
من مظاهر الضَّعف الكبرى في نهج "المحلل السياسي" أنه يطرح أراءً واقتراحاتٍ من كدِّ عقله، دون أن يكلِّفَ نفسه التوقف عند حكم الشرع فيها. وقد رأيتُ د. الأحمري يقترح - من أجل حلِّ المعضلة الشيعية - دمجَ الشيعة في المجتمع السُّني عن طريق رفع ما سماه بـ"الحصار الثقافي" عنهم، وفسح الحرية لهم في ممارسة دينهم المنحرف والدعوة إليه، وعدم إشعارهم بفروق بينهم وبين أهل السنة. بل رأيته يتمنَّى لو وُجد في البلاد السُّنية مراجع شيعية محلية، حتى يخفَّ ولاء الشيعة للمراجع الخارجيين!
ومع تقديري لحسن مقصد الدكتور، فإن الذي يقرأ مثل هذه المقترحات يشعر وكأنه يقرأ لمحللٍ ليبرالي أو علماني لا يرجعُ لأصلٍ ولا دينٍ، ولا تعنيه الانحرافات الدينية لدى الشيعة، إلا بقدر إضرارها بالجانب السياسي للدولة!
هو يتحدث عن الشيعة وكأنه يتكلم عن قبيلةٍ أو عِرْقٍ أو حزبٍ سياسي يريد أن يدمجه في المجتمع وحسب، فلا يخطر ببال الدكتور - وهو يطرح رؤيته - أن الشيعة فرقة منحرفة ضالة يتعين - شرعاً - تحجيمها ما أمكن، والسَّعي في معالجة ضلالاتها، بدلاً من تعميقها وترسيخ وجودها في المجتمع السُّني.
أقول هذا وعجبي يطول من مناداة الدكتور بإقامة مرجع شيعي (طاغوت) من صنعٍ محلي، ليعلِّم الناس الضلال وعقائد الحقد الأسود على خيار الأمة، بدلاً من أن يتعلموها من طاغوت مستورد!
فهل توقَّف الدكتور - قبل أن يتكلم بهذا - عند مدى شرعية مثل هذا المقترَح؟!
وهل نظر في أدلة الكتاب والسنة؛ ليعرفَ إن كان عقله أصاب ههنا أو أخطأ؟!
أو أن النظر في الكتاب والسنة أصبح - أيضاً - نبشاً في التاريخ؟!(/11)
على أن الحل الذي يقترحه الدكتور - مع مناقضته للشرع - فإن الواقع يُثبت عدم جدواه؛ لأن انتماء الشيعي لمرجعه انتماءٌ دينيٌّ، تحكمه عوامل واعتبارات كثيرة، تأتي الحدود السياسية في آخرها. فها هو العراق أمام ناظري الدكتور متشبِّعٌ بالمراجع الشيعية المحلية، فهل منع ذلك من تبعية الشيعة للمراجع الإيرانية؟! وهذا لبنان يوجد به مرجع محليٌّ معروفٌ، ومع ذلك فإن أكثر اللبنانيين ينتمون لمراجع خارجية معارِضة ومعادية للمرجع المحلي!
أمرٌ آخر، لا أدري هل تفطن له الدكتور أو لا؟ فتنصيب مرجع محلي - لو حصل - فلن يكون للشيعة المحليين رأيٌ في اختياره حسب النظام الداخلي للعصابات الشيعية. فالمراجع خارج الحدود هم من يملك حقَّ تنصيب وإضافة مراجع جدُد، وهم - بالتأكيد - لن يسمحوا بوجود مرجعٍ خارج عن منظومتهم، وعليه فإن الثمرة النهائية لاقتراح الدكتور ستكون فتح قاعدة متقدِّمة للروافض داخل العُمق السُّني!
هذا الكلام أقوله على سبيل التنزل والاستطراد، وإلا فإن الميزان أولاً وآخراً للشرع الحنيف، وما كان الله ليرضى عن أمةٍ لا تمانع من ممارسة بعض أفرادها للكفر أوالفسوق العقدي علناً، بل والدعوة إليه بحمايةٍ من القانون، كما هو مطلب الأستاذ.
دكتورنا - سدَّد الله قلمه - كمَّمَ أفواه "العقديين"، ثم فشل في القيام مكانهم! فالخلل في كلامه لم يقتصر على ضعف "النظر العقدي"، بل تجاوز ذلك إلى ضعفٍ في معرفة واقع الشيعة القائم. وقد رأيته في تعريفه بالباحث الشيعي أحمد الكاتب يذكر أنه (نشأ شيعياً حركياً، ثم ذهب ليكمل دراسته العليا في قم، وسجَّل مسألة "الإمامة" موضوعاً لرسالة دكتوراه في الحوزة في قم).(/12)
لا أدري كيف يتكلَّم بهذا من يتحدَّث دائماً عن جهل "العقديين" بواقع عصرهم! وكم أتمنى لو أن الشيعة لا يطَّلعون على مثل هذا الكلام لئلا يكون دكتورنا محلًَّ تندُّرهم!! أحمد الكاتب لم يتقدَّم - يوماً من الأيام - لنيل درجة الدكتوراه ولا الماجستير من حوزة قم، وذلك لسببٍ هين، وهو أن الحوزات الشيعية لا يوجد فيها شيء اسمه دكتوراه ولا دراسات عليا؛ هذه الألقاب - لو علمَ دكتورنا - لا وجود لها في عالم الحوزات الأسود، والذي يتخرَّج في الحوزة الشيعية إنما يتأهل لوضع العمامة على رأسه، والتزين بألقاب من مثل: حجة الإسلام، وآية الله، ونحو ذلك من ألقاب معتضدٍ ومعتَمدِ. وكلام الدكتور عن دراسات عليا ودكتوراه في حوزات قم يشبه قول القائل: إن فلاناً سجل أطروحة دكتوراه في جامع الرياض الكبير!
الدكتور - غفر الله - سَخِر من "العقديين"، واتهمهم بالجهل بالواقع، ثم أقام نفسه مقامهم في علاج المسألة الشيعية، ليكشف بعد هذا عن ضعف معرفته بواقع الشيعة، ومعتقداتهم، ونظام المرجعية عندهم، فضلاً عن منهجية التعليم في حوزاتهم السوداء.
بقي أن أنبِّهَ إلى أن د. الأحمري حين يشرح رؤيته للمعضلة الشيعية، فإنه لا يطرح أفكاره بصفتها حلولاً طارئة لوضعٍ استثنائي مؤقت. فهو حين ينادي بتطبيع التشيُّع داخل المجتمع السني؛ لا يفعل ذلك اضطراراً، وحذراً من الخطر الخارجي المحدِق، وإنما يقول هذا باعتباره الأصل، انطلاقاً من قاعدة كبرى يؤمن بها تمام الإيمان.(/13)
الدكتور - غفر الله له - يؤمِن بالحرية الفكرية بمفهومها الغربي؛ فمن رأيه ومذهبه أن الحرية الفكرية وحرية التعبير يجب أن تكون مصانةً ومتاحةً للجميع، فليس الرافضيُّ وحده الذي يجب أن تتاحَ له الفرصة لممارسة ضلاله والدعوة إليه! بل حتى الكافر الصَّريح، والشيوعي الملحد، من حقه ألا يُقمَع ويُقصَى، بل يجب أن يكون حرَّاً في إبداء رأيه والدعوة إليه! بل إن دكتورنا يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فلا مانعَ لديه من أن تفسحَ الدولة المسلمة لأحزابٍ سياسيةٍ تقوم على مبادئ الكفر والضلال!! فلا نهضة للأمة - حسب الدكتور - مالم يتسع صدرها لمثل هذه الحرية المترامية الأطراف!
هذا ما يقرِّره الأستاذ ويؤمن به، وقد سبقَ لي بحثٌ معه حول هذا المنحَى الخطير. ثم سمعته بعد ذلك ببرنامج (إضاءات) يذكر أن الإسلاميين "إذا كان عندهم استعدادٌ لوقف الآخرين وكبت حرياتهم فهذه قضية سيئة جداً"!
فليتَ شعري إذا لم يكن من هدف الداعية والمصْلِح إيقاف الباطل وإقصاءُ أهله؛ فما فائدة دعوته وإصلاحه إذاً؟!
حين أذكرُ هذا الكلام عن الدكتور - أصلح الله باله - فإني أريد بيان الزاوية التي نظر من خلالها وهو يتصدى لعلاج "المعضلة الشيعية"، فهو لا يبني فكرته من خلال ملابسات الواقع القائم، بل من خلال قناعةٍ داخلية راسخةٍ لا علاقةَ لها بتآمر الغربيين ضدنا.
الدكتور - رعاه الله - ينطلق من مجموعة تصورات ومفاهيم تجمعها كلمة "ديمقراطية"، ويخطئ من يظنُّ أنه عالج "المعضلة الشيعية" من خلال معرفته الواسعة بتعقيدات الوضع القائم كما يبدو من ظاهر الأمر، بل وكما يجتهد الدكتور في تصوير ذلك. فحديثه الدائم عن الحرية، وعن العقديين وصناديقهم المقفَلة، وكلامه عن ضرورة استيعاب مشاكل العصر، والبعد عن الاستغراق والتعصُّب لآراء الأسلاف، والتشاغل بالخلافات التاريخية.. كل هذا الكلام يتجه إلى مصبٍّ واحد، ينتهي عند دلتا "الديمقراطية".(/14)
ودكتورنا - سلمه الله - لم يكن الأول في هذا الطريق، ولا أظنه سيكون الأخير؛ فهو من أناسٍ أرهقهم ضغط الواقع السياسي لأمتهم، فالتبستْ عليهم المسالك، واشتبهتْ عليهم الدروب، فاستبدلوا بالدعوة للتوحيد الدعوةَ للتعددية، واعتاضوا عن تحكيم الشرع بتحكيم صناديق الاقتراع ورأي الأكثرية، فصاروا يركضون طلباً لدولة الحرية، بدلاً من السعي لإقامة دولة الملة الحنيفية. وقد كان مدة ستة عشر عاماً قضاها في أمريكا (أرضَ العدو المحتل) أبلغَ الأثر في تشبُّع نفسه بمثل هذا التوجُّه.
ومن المفارقات أن تقرير مؤسسة (راند) الأخير جعلَ من أهم مواصفات الحليف والعميل الأمريكي: الإيمان بالديمقراطية والحرية الدينية والفكرية. والدكتور - بحسن نيةٍ - ممن يؤمن بذلك ويدعو إليه، وفي الوقت نفسه يتهم مخالفيه بخدمة مخططات العدو، والحلب في قدحه، وإلى الله المشتكى!
مما توقفتُ عنده قول الدكتور في برنامج (إضاءات) إنه يتحفظ على السلفية المعاصرة لأنها "أصبحت تقليداً للمرحلة التي عاشها الإمام أحمد وخصومه"، ولأن "السلفيَّ في العصر الحديث لا بدَّ أن يبحثَ عن المعتزلة حتى يخاصمَهم، ولا بدَّ أن يبحث عن الأشعرية حتى يخاصمهم، ولا بد أن يبحث عن الشيعة حتى يخاصمهم"!.
ومع ما في هذا الكلام من مبالغةٍ وخللٍ، فإني حين قرأته حمدتُ الله - عز وجلَّ - أن جعل النهج السَّلفي الأصيل هو الغالب والسائد بين أهل العلم وطلابه في بلدي، مع ما في تطبيقهم له من خللٍ وقصور ظاهرين. ولو أن الناس أطاعوا د. الأحمري لأضاعوا الدين ولم يصلحوا الدنيا. ولو آمن دعاة السنة بما يدعو إليه الدكتور لخسروا دولتهم، ولم يفلحوا في التخلُّص من النفوذ الأجنبي الذي يريد منا الدكتور تقديم السنة ثمناً للهرب منه.(/15)
ومن خلال تتبعِ النشاط الشيعي في المنطقة، فأنا على يقينٍ من أن الطرح الذي يقدِّمه د.الأحمري لا يسبب أيَّ إزعاجٍ أو قلقٍ، لا لدعاة الرفض والتشيع، ولا للصهاينة الأمريكيين، بل إنه يمهد الأرضية التي يستطيعون غرس باطلهم فيها.
فالشيعة يستطيعون التعامل مع أمثال الدكتور بيُسرٍ وسهولةٍ، ولا يجدون أدنى مشقةٍ في تلهيته بشعارات الاتحاد في وجه العدو المشترك؛ لأنه لا ينطلق من قواعد شرعية واضحةٍ في نظرته إليهم، وإنما يتعامل معهم وفقَ ألاعيب السياسة التي يتقن شياطين الشيعة فنونها.
أما الدعوة السَّلفية - فمع ما فيها من ضعفٍ وانقسامٍ - فإنها تمثِّل الحاجز الأكبر، والسدَّ المنيع في وجه المدِّ الرافضي باعتراف أهله. فالروافض لا شكوى لهم اليوم إلا من "الوهابية" التي عجزوا عن اختراقها، فلجأوا للالتفاف عليها عن طريق العبث بأصحاب "التحليل السياسي" المبهورين ببطولات "حزب الله"، والمشفقين على مفاعل إيران النووي!
ومن الجانب الآخر إذا نظرنا للهيمنة الأمريكية الصهيونية التي تشغل الدكتور، فإن العدوَّ يعترف ويقرُّ - والدكتور يعرف هذا - أن السلفية تمثل التحدي الأكبر له، في حين أنه لا يحسب حساباً لأمثال الدكتور، إلا بقدر اتفاقه مع الطريقة السلفية، وتقرير (راند) لم يكن الشاهد الأول على ذلك.
بقيَ أن أقول في الختام: إني أؤيد الدكتور تماماً فيما ذكره في مقالته عن "المعضلة الشيعية" من التأكيد على ضرورة التوجه لعامة الشيعة بالدعوة والتوجيه، لكن هذا كله لا يلغي ضرورة تحصين المسلمين بتحذيرهم وتنفيرهم من الرَّفض وأئمته، فالمحافظة على رأس المال أولى من البحث عن مكاسب جديدة.(/16)
العنوان: خدمات الدولة العثمانية للإسلام والعروبة
رقم المقالة: 1758
صاحب المقالة: إسماعيل أحمد ياغي
-----------------------------------------
• حماية الأماكن المقدسة الإسلامية من مخططات الصليبية البرتغالية.
• الدولة العثمانية تحافظ على إسلام وعروبة شمالي إفريقيا.
• إيجاد وحدة طبيعية بين الولايات العربية.
• إبعاد الزحف الاستعماري عن الوطن العربي.
• الدولة تضفي الهدوء والاستقرار على الولايات العربية.
• الدولة تمنع انتشار المذهب الشيعي إلى ولايتها العربية.
• الدولة العثمانية تمنع اليهود من استيطان سيناء.
• الدولة تحد من هجرة اليهود إلى فلسطين.
• دور الدولة العثمانية في نشر الإسلام في أوروبا.
• مدى نجاح الدولة العثمانية في نشر الإسلام في أوروبا.
• من إيجابيات الحكم العثماني.
• من أهم سلبيات الخلافة العثمانية، والتي كان لها الأثر في إضعاف الحكم.
• • • • •
لا ريب أن الدولة العثمانية قد قامت بدَوْر هامٍّ وبارزٍ في نشر الإسلام في أوربا، رغم ما تعرضتْ له من تكتلات صليبية حاقدة ضد الإسلام والمسلمين، وتبادلت الدولة مع أعدائها الهزائم والانتصارات، إلا أنها قدمت خدمات جليلة للمسلمين والعرب، وقامت بحماية الشرق العربي والإسلامي من الغزو الاستعماري لمدة ثلاثة قرون، ومن أهم ما قامت به في هذا المجال:
أولاً: حماية الأماكن المقدسة الإسلامية من مخططات الصليبية البرتغالية:(/1)
كانت أعظمَ خدمة أسدتها الدولة العثمانية للإسلام، أنها وقفت في وجه الزحف الصليبيّ الاستعماريّ البرتغاليّ للبحر الأحمر، والأماكن المقدسة الإسلامية، في أوائل القرن السادسَ عَشَرَ الميلادي، فعلى الرغم من أن الدولة أخفقت في طرد الاستعمار البرتغالي من مراكزه في المحيط الهندي ومنطقة الخليج العربي، إلا أنها نجحت في منع تغلغله إلى الحجاز، حيث كان البرتغاليون يعتزمون تنفيذ مخطط صليبي فظٍّ في قسوته ووحشيته، وهو دخول البحر الأحمر واجتياح إقليم الحجاز باحتلال ميناء جدة، ثم الزحف على مكة المكرمة، واقتحام المسجد الحرام، وهدم الكعبة المشرَّفة، ثم موالاة الزحف منها على المدينة المنورة؛ لنَبْش قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم استئناف الزحف على تبوك، ومنها إلى بيت المقدس، والاستيلاء على المسجد الأقصى؛ وبذلك تقع هذه المساجد الثلاثة في أيدي البرتغاليين[1]، وكان الأسطول البرتغاليّ قد نجح في دخول البحر الأحمر، وقام بمحاولتين لاحتلال ميناء جدة، كانت الأولى في عام (923هـ / 1517 م)، والثانية في عام (926هـ / 1520م)؛ ولكنه أخفق في محاولتيه؛ فأرسل البرتغاليون حملة كبرى إلى ميناء السويس باعتباره قاعدةَ الأسطول العثماني في البحر الأحمر، واستهدفوا تدميره هذه القاعدة، ولما بلغوا الطُّور علموا أن الأسطول العثماني يقف في حالة تأهب، وارتدوا على أعقابهم دون أن يلتحموا به[2].(/2)
وقررتِ الدولة اتخاذ اليمن قاعدةً حربية للدفاع عن البحر الأحمر، ومنع السفن البرتغالية من دخوله، ثم عمَّمت هذا المنْع على جميع السفن المسيحيَّة، بحيث كان على هذه السفن أن تفرغ شحناتها في ميناء "المخا" في اليمن، وتعود أَدْرَاجَهَا إلى المحيط الهندي، وكانت حجة الدولة العثمانية في هذا المنع هي أن الأماكن الإسلامية المقدسة في الحجاز تُطِلُّ على مياه البحر الأحمر، ويجب ألا تُدَنِّسَ مياهه بوجود سفن مسيحية تَمْخُر عَباب هذا البحر، وقد ظل هذا الحظر معمولاً به حتى القرن الثامن عشر[3].
وجدير بالذِّكر أن المشروع البرتغالي الصليبي لم يكن الأوَّلَ من نَوْعه، فقد حدث في أثناء الحروب الصليبية في الشرق العربي أن تجرأ أحد أمراء الصليبيين واسمه أرناط، وكان صاحب حصن الكرك، وقام بمشروع خطير سنة (578 هـ، 1182م) لغزو الحرمين الشريفين، فبنى عدة سفن حملت أجزاؤها مفكَّكَةً على ظهور الجمال، حتى "إيله" (العقبة) على خليج العقبة، وأعيد تركيبها، ثم قامت بهجوم على ساحل الحَوْراء قرب ينبع، وأغار الصليبيون على القوافل وأصبحوا على مسيرة يوم واحد من المدينة المنورة، واعتزموا الزحف عليها، ونَبْش قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإخراج جسده الطاهر ونقله إلى بلادهم، غير أن العالم الإسلامي في الشرق وقتذاك كانت تجمعه وَحْدَةٌ سياسية قويَّة على رأسها صلاح الدين الأيوبي، ووجب على مصر حماية الأماكن المقدسة في الحجاز، فما كادت تصل إليه - وهو في الشام - هذه الأخبار، حتى عهد إلى نائبة في مصر العادل سيف الدين بتجهيز قائد الأسطول الأمير حسام الدين لؤلؤ، وتعقب هؤلاء الصليبين في الحجاز، وعمل على إبادتهم أو أَسْرِهم، وأصرَّ صلاح الدين بقتل الأسرى؛ ليكونوا عبرة لكل من يتجرأ على الاعتداء على حَرَم الله وحَرَم رسوله [4].
ثانيًا: الدولة العثمانية تحافظ على إسلام وعروبة شمالي إفريقيا:(/3)
من الخدمات الجليلة التي قدمتها الدولة العثمانية للإسلام والعروبة أنها حافظت على إسلام وعروبة سكان شمالي إفريقيا من أخطار الغزو الصليبي الاستعماري الأوروبيّ، الذي حملت لواءه البرتغال وإسبانيا، والمنظمة الصليبية المعروفة باسم فرسان القديس يوحنا، والتي اتخذت من جزيرة مالطة مستقرًّا ومقامًا، وكان من أهداف هذا الغزو أيضًا إنشاء ممالكَ مسيحيةٍ تتناثر على الساحل الشمالي لإفريقيا كمرحلة ثالثة، وبذلك يغدو البحر المتوسط في المدى البعيد بُحيرة مسيحية أوروبية، ويعقب ذلك تغلغل صليبي أوروبي جنوبًا في داخل القارة الإفريقية، ولكن تصدت الدولة العثمانية لهذه المشروعات الصليبية الاستعمارية، فأصبحت أحلامًا، وغدت هباءً منبثًّا.
بسطت الدولة العثمانية سيادتها على ثلاثة أقاليمَ في شمالي إفريقيا في القرن السادس عشر، وكانت حَسَبَ ترتيب دخولها تحت السيادة العثمانية، الجزائر وطرابلس وتونس، ولم تمد الدولة نفوذها إلى مراكشَ لرفض الأسرة السعْدِيَّة التي تنتمي إلى سلالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدخول في تَبَعِيَّة الحكم العثماني.
وكان سكان تلك الأقاليم، وبخاصة الجزائر وطرابلس، قد استنجدوا بالدولة العثمانية على أساس أنها أكبر وأقوى دولة إسلامية اكتسحت دُولاً أوروبية عديدة، وفتحت مصرَ والشرق العربي الآسيوي، وطالبَ سكان شمال إفريقيا بإنقاذهم من الزحف الصليبي الاستعماري، الذي كان خطره يتفاقم يومًا بعد يوم، واستجابت الدولة لاستغاثاتهم.
ولذلك لم يكن دخول العثمانيين إلى شمالي إفريقيا نتيجةَ معاركَ حربيةٍ خاضتها القوات المسلحة العثمانية ضد أهالي البلاد، أو تدخُّل مباشر من حكومة إستانبول، على غرار ما حدث في الشام أو مصرَ أو العراق؛ ولكنهم فتحوها مُنْقذين للسكان من أخطار القضاء على دينهم، وطَمْس عروبتهم، وتحويل بلادهم إلى جزء من العالم المسيحي.(/4)
أما تونس فكان الوضع فيها يختلف، حيث اشتد الصراع عليها بين الدولة العثمانية والإمبراطورية المقدسة، وتبادلت الدولتان الهزيمة والانتصار أكثر من مرة، حتى عادت تونس للحكم العثماني عام (982 هـ / 1574 م) واستقر الحكم العثماني فيها، وتأسست النيابة الثالثة والأخيرة في شمالي إفريقيا[5].
ثالثًا: إيجاد وحدة طبيعية بين الولايات العربية:
أوجدت الدولة العثمانية وحدة بين الولايات العربية التي دخلت تحت سيادتها، فاحتفظت هذه الولايات بمقوماتها الأساسية:
• الدين الإسلامي.
• واللغة العربية.
• والثقافة العربية الإسلامية.
• والتقاليد والعادات الموروثة عبر العصور.
وكان سكانها تجمعهم دولة إسلامية واحدة، هي الدولة العثمانية، وتضمهم رعوية واحدة بصفتهم رعايا عثمانيين، ويشتركون في تبعيتهم لحاكم واحد، هو السلطان العثماني، ولم تلجأ الدولة العثمانية إلى إقامة حدود مغلقة بين الولايات العربية، أو حواجزَ مصطنعةٍ بين سكانها، فكانت حرية الانتقال والسفر أمامهم مكفولةً ومحترمةً في جميع الأوقات، وكانت فرص العمل متاحةً لهم في كل الأوقات، وكان في مقدور العربي في دمشق مثلاً أن ينتقل إلى بغداد، أو مكة المكرمة، أو المدينة المنورة، أو القاهرة، أو القيروان أو غيرها من مدن الولايات العربية، ويعيش فيها ويمارس ألوانًا من النشاط الاقتصادي أو الثقافي، دون أن يحصل على إذن بالخروج أو الإقامة، وكانت هذه هي أوَّلَ وَحْدَةٍ تتحقق للعالم العربي إبان الحكم العثماني، بعد تفتُّت وَحْدَتُهُ بسقوط الدولة العباسية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي عقب غزو المغول، وتخريب مدينة بغداد، وانسياحهم في وادي الرافدين، ثم شمالي بلاد الشام إلى جنوب فِلَسطين؛ ولذلك يرى عدد من المؤرخين والباحثين أن الوَحْدَة التي تمت على أيدي العثمانين تعتبر نقطةَ البداية في تاريخ العرب الحديث[6].(/5)
وفضلاً عن تلك التَّبَعِيَّة السياسية، كانت وشيجةُ الدين تربط سكان الولايات العربية بالسلطان العثماني، باستثناء أهل الذمة، وكانوا قلة عددية يعيشون على هامش المجتمعات الإسلامية في الولايات العربية[7].
وكانت وشيجة الدين من أقوى الوشائج التي ربطت الجماهير العربية بالدولة العثمانية، فأخلصوا لها واشتركوا في حروبها ضد التكتلات الصليبية التي واجهتها، وكان يزداد ولاؤهم لها، والتصاقهم بها إذا تعرضت الدولة لهزيمة عسكرية من دولة أوروبية، وكان الدين يعمل في تلك العصور في تقرير الأوضاع السياسية، والحربية لشعوب الولايات العربية [8].(/6)
ولعل خير مثال للترابط الديني بين سكان الولايات العربية إبَّان الحكم العثماني، ما حدث في مصر عندما نزلت الحملة الفرنسية أرض مصر عام (1213هـ / 1798م) بقيادة نابليون بونابرت، وكانت هذه الحملة هي أوَّلَ غزو عسكري مسيحي أوروبي لولاية عربية من ولايات الدولة العثمانية في الشرق الإسلامي في التاريخ الحديث، وقد أعلن السلطان سليم الثالث (1204 – 1224 هـ/ 1789 – 1807م) الجهاد الديني ضد الفرنسيين، واستجاب لدعوة الجهاد الدينيّ عربُ الحجاز والشام وشمالي إفريقيا، وقد صمموا على الظفر بإحدى الحُسْنَيَيْنِ، الاستشهادِ أوِ الانتصارِ، واتخذوا شعارًا لهم الآية الكريمة: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[9]، وهكذا فإن سكان الولايات العربية لم ينظروا إلى السلطان العثماني على أنه سلطان المسلمين فَحَسْبُ؛ بل نظروا إليه أيضًا على أنه خليفة المسلمين، يستظلون بظل خِلافته، وكانت السمةُ البارزة في تاريخ الولايات العربية وقتذاك أنها كانت مجتمعاتٍ دينيةً إسلاميةً، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، ولم ينظر العرب للدولة العثمانية على أنها دولة أجنبية، ولم ينظروا إلى الحكم العثماني على أنه استعمار، وظلت هذه الفكرة السياسية الدينية مسيطرةً على أذهان الغالبية العظمى من الشعب العربي إلى أوائل القرن العشرين، ولم تتدخل الدولة في شؤون الحكم إلا في نطاق ضئيل، وبقدر يسير، فاعتبرت نفسها مسؤولة عن حماية الولايات العربية، وتوفير الأمن فيها، وإقامة الشعائر الدينية، والحفاظ على مبادئ الشريعة الإسلامية، وتنظيم وحماية قوافل الحج إلى إقليم الحجاز، والإشراف على القضاء، وجمع الضرائب بواسطة شيوخ الطوائف على هذه المجالات في الولايات العربية، وتركت سكانها يعيشون على النحو الذي كانوا يألفون[10].(/7)
إن الوَحْدَةَ التي قامت بين الولايات العربية إبَّان الحكم العثماني، تبدو أكثر إشراقًا، إذا قورنت بالتفتيت السياسي الذي اصطنعته الدول الأوروبية الاستعمارية عقب استيلائها على معظم هذه البلاد، تحت اسم الاحتلال أو الانتداب أو الحماية من قبل عُصبة الأُمم، أو مناطق النفوذ[11].
وهكذا عملت بريطانيا على تفرقة وتجزئة الشعب العربي في الشرق العربي الآسيوي، ففصلت بريطانيا شرقي الأردن عن فلسطين، وفصلت شرقيَّ الأردن وفلسطين عن سوريا، وفرقت بين سوريا والعراق.
ونهجت فرنسا نَهْج بريطانيا في تفتيت سوريا ولبنان.
أما مصر وشمالي إفريقيا: فقد أبقى الاستعمار على التفتيت السياسي الذي كان قائمًا بينها قبل الحرب العالمية الأولى تحت الاستعمار البريطاني والإيطالي والفرنسي والإسباني، وظهرت الخلافات والأطماع الشخصية بين رؤساء وقادة العرب؛ مما عرقل سيرة الاستقلال والوحدة العربية[12].
رابعًا: إبعاد الزحف الاستعماري عن الوطن العربي:
ظلت الولايات العربية زهاء فترة تراوحت بين ثلاثة وأربعة قرون، من القرن السادس عشر إلى أوائل القرن العشرين، بمنأى عن الزحف الأوروبي الاستعماري عليها ما بقيت الدولة العثمانية قويةً، مَهِيبَةَ الجانب، فلما دخلت الدولة في دور الاضمحلال، وتبين للدول الأوروبية أن الدولة العثمانية عاجزة عن التصدي للدول الاستعمارية؛ تعرض العالم العربي للغزو الأوروبي النصرانيّ الاستعماريّ، كما تعرضت أقاليمُ أخرى، إسلاميةٌ وغير إسلامية، في قارات آسيا وإفريقيا وأستراليا:(/8)
وكانت فرنسا من أسبق الدول الأوربية في الزحف والسيطرة على الأقاليم العربية، فنجحت في احتلال نيابة الجزائر عام (1246 هـ / 1830م)، ولا شك أن من أهم العوامل التي شجعت فرنسا على احتلال الجزائر أن الدولة العثمانية كانت قد فقدت أسطولها في معركة نفارين البحرية 20 أكتوبر 1827 م (1243 هـ)، ولما كان اقتطاع فرنسا للجزائر بصفة الأخيرة إقليمًا إسلاميًّا عربيًّا من أقاليم الدولة العثمانية ـ: سابقةً خطيرة، قد تحتذيها دولة استعمارية أخرى تجاه الوطن العربي، لم تستسلم الدولة العثمانية لانتزاع الجزائر منها[13].
حاولت الدولة العثمانية بالطرق الدبلوماسية استرداد الجزائر، وبذلت مساعيَ مكثفةً لدى بريطانيا والنمسا وروسيا، ولدى فرنسا أيضًا، تؤكد حقها في بقاء هذا الإقليم في إطار الدولة، تأسيسًا على أن السيادة العثمانية عليه معترَفٌ بها من المجموعة الدولية، وأن الجزائريين هم رعايا السلطان، ولم تجد الدولة العثمانية تأييدًا من بريطانيا؛ لوقوع أحداث هامة في أوروبا شغلت بريطانيا عن كل شيء.
وهكذا فشلت الدولة العثمانية في اتصالاتها مع الدول الأوروبية، وحاولت استخدام القوة لاسترداد الجزائر، إلا أنها عَدَلَتْ عن ذلك بسبب عدم تمكنها من شن حرب على فرنسا؛ لضعف الأسطول العثماني، والجيش العثماني كذلك.
وأدى ذلك إلى قيام حرب باردة بين الجزائر والدولة العثمانية، ونجحت الدولة العثمانية في إنهاء حكم القرمانليين في طرابلس عام (1251 هـ / 1835 م)، وإعادة هذه النيابة إلى الحكم العثماني، واستغلت الدولة هذا الوضع الجديد، فتظاهرت بإرسال قوات برية من الأناضول إلى طرابلس، ومنها إلى الجزائر عبر تونس، ولكن فرنسا هددت الدولة العثمانية بإرسال أسطولها، وخشي الأسطول العثماني من الاحتكاك بالأسطول الفرنسي، فغادر طرابلس إلى مالطة، ثم إلى إستانبول، وبذلك قنعت الدولة العثمانية بهذه الحرب الباردة، والتي انتهت عند هذا الحد[14].(/9)
وبعد الاحتلال الفرنسي للجزائر عام (1246 هـ /1830م) توقف الزحف الأوروبي الاستعماري على الولايات العربية مدة ناهزت الخمسين عامًا؛ بسبب اشتداد حدة التنافس بين الدول الأوروبية على تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية، وتوزيعها أسلابًا فيما بينها، وما صحب هذا التنافس من حروب ومؤتمرات ومعاهدات، ازدحم بها تاريخ الدولة العثمانية في القرن التاسعَ عَشَرَ ومطلعِ القرن العشرين، وانتهجت هذه الدولة سياسة التعويض، وسياسة المصالحة على حساب الدولة العثمانية في مؤتمر برلين عام (1295 هـ / 1878م)، وبسطت فرنسا حمايتها على تونس عام (1299 هـ / 1881م)، واحتلت بريطانيا مصر عام (1300 هـ / 1882 م)، وكان قد سَبَقَ فَرْضَ الحماية والاحتلال على هذين البلدين العربيين الإسلاميين، انتهاجُ سياسة التغلغل السِّلْمِيّ، عن طريق تقديم قروض أوروبية ضخمة، بحيث عجزتا عن سداد القروض وفوائدها؛ مما أدى إلى التدخل في الشؤون المالية، وبعد ذلك في الشؤون السياسية، وانتهت بالغزو العسكري[15].
واشتركت بريطانيا مع مصر في حملة مشتركة عام (1314 هـ / 1896م)، لاسترداد السودان، واتخذت من هذا الاشتراك ذريعة لإقامة حكم ثنائي بريطاني مصري في السودان عام (1317 هـ/ 1899م)، وكان هذا الحكم الثنائي في لحمته وسداه فصلاً فعليًّا بين شطري الوادي، واستئثارًا من بريطانيا بالانفراد في حكم السودان[16]، وما لبثت بريطانيا أن عصفت بالمظهر الشكلي لهذا الحكم الثنائي.
ثم احتلت إيطاليا طرابلس وبَرْقَةَ في عام (1330هـ/ 1911م).
وفي مطلع الحرب العالمية الأولى احتلت القوات البريطانية البصرة في العراق، واستمرت القوات البريطانية تواصل زحفها في العراق وقتالها، حتى تمكنت من احتلال العراق احتلالاً كاملاً عام (1337 هـ / 1918 م).(/10)
وبانتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، تقاسمت الدول الغربية ما تبقى من أقاليم عربية بموجب قرارات مؤتمر الصلح (1338 هـ / 1919م)، ومؤتمر سان ريمو (1339 هـ / 1920)؛ فسيطرت بريطانيا على العراق وفلسطين وشرق الأردن، كما سيطرت فرنسا على سوريا ولبنان في شكل انتداب، وغدت هذه الأقاليمُ تحت الحكم الأجنبي بقرارات تصدر من لندن وباريس وروما[17].
خامسًا: الدولة تضفي الهدوء والاستقرار على الولايات العربية:
أضفت الدولة العثمانية على ولاياتها العربية نوعًا من الهدوء والاستقرار السياسي، وكانت بلاد الشام والعراق تعانيان الكثير من المتاعب، والفوضى، والتخريب من آثار غزوات المغول المدمرة، والتي نجحت مصر في صدها عندما أوقعت بالمغول هزيمة حاسمة في معركة "عين جالوت"، شتتت شملهم، وأنقذت أقاليم الشرق والمغرب العربي من شرورهم.
خضع السكان في الولايات العربية للحكم العثماني، وقد كان العثمانيون مسلمين مثلَهم، ويعتنقون مذهب السُّنة مثلهم، ويحرصون على تطبيق مبادئ الشرعية الإسلامية، ويحافظون على الشعائر الدينية؛ مثل الاحتفال برؤية الهلال لشهر رمضان وغيرها، ولم تضيق السلطات العثمانية عليهم، كما أنها لم تتدخل في شؤونهم إلا في نطاق محدود؛ مثل جَمْع الضرائب، والإشراف على القضاء، وتوفير الأمن، وتركت للشعب العربي شؤون التعليم، والصحة، والمواصلات، والتي تعتبر في الوقت الحاضر من صميم واجبات الحكومات، وعلى العموم، فقد تركت السلطات العثمانية الجماهير العربية تحيا على النحو الذي أَلِفَتْهُ من قبل، دون تغيير جوهري مسَّ حياتهم.
ومع ذلك تعرضت بعض الولايات العربية لهزات سياسية وسط الهدوء الذي كانت تعيش في ظلاله الوارفة، وكان يجتاح الولايات العربية من وقت إلى آخر نوعان من الاضطرابات:(/11)
أولاهما: انتفاضات شعبية، وكان يقوم بها سكان حي أو مدينة ضد الحكام المحليين؛ احتجاجًا على ظلم حكامهم، ورفع شكواهم للسلطان العثماني.
ثانيهما: حركات سياسية وعسكرية، يقوم بها أفراد طَمُوحون؛ مثل حركة علي بك الكبير، وحركة ظاهر العمر، والتي لم تلقَ استجابة واستحسانًا من الجماهير[18].
سادسًا: الدولة تمنع انتشار المذهب الشيعي إلى ولايتها العربية:
من المعروف أن المذهب الرسمي للدولة العثمانية كان المذهب السُّني، واعتبرت الدولة العثمانية نفسها حامية لهذا المذهب، وتأسيسًا على هذه الحقيقة فإنها منعت انتشار المذهب الشيعيّ إلى ولاياتها العربية في آسيا وإفريقيا باستثناء العراق، الذي كانت الدولة الصَّفَوِيَّة قد نشرت المذهب الشيعيّ فيه قبل الدولة العثمانية، بحيث أصبح أهل السُّنة وأهل الشيعة قوتين متوازيتينِ تقريبًا من حيث تَعْدَادُهم، وقد أبقت الدولة العثمانية على هذا الوضع، وذهبت إلى أبعدَ من ذلك فاحترمت مشاعر أهل الشيعة، واهتمت بتعمير مناطق العتبات المقدسة في النجف وكربلاء في العراق، ويسَّرت زيارتها أمام شيعة العراق وفارس والهند وأفغانستان، ولذلك فإن أهل السنة ينظرون إلى الدولة العثمانية على أنها قدمت خدمة جليلة بحصر المذهب الشيعيّ في فارس، بحيث لم تسمح بتَسَرُّبه إلى الأقاليم العربية التي دخلت تحت السيادة العثمانية، ولا تزال إيران هي المعقل الأول للشيعة في العالم الإسلامي[19].
سابعًا: الدولة العثمانية تمنع اليهود من استيطان سيناء:(/12)
لما فتح السلطان سليم الأول مصر عام (923 هـ / 1517 م) أصدر فرمانًا بمنع اليهود من الهجرة إلى سيناء، وواضحٌ من صدور هذا المرسوم بأن اليهود كانوا يريدون الهجرة إلى هذا الإقليم المصري واستيطانه، على أساس أنه يضم الوادي المقدس طُوى، الذي كلم الله سبحانه وتعالى فيه موسى - عليه السلام – تكليمًا، ومن ثَمَّ أصدر السلطان سليم الأول الفَرَمانَ الذي سدَّ الطريق في وجوه اليهود، ولما تولي ابنه سليمان المشرع (القانوني) عرش الدولة عام (926 هـ / 1520م) أصدر فَرَمانًا لاحقًا، أكد فيه ما جاء في الفرمان السابق، مما يدل على أن الخطر اليهودي كان لا يزال ماثلاً من حيث رغبتُهم في استيطان سيناء، واستعمارهم لها، الأمر الذي كان يقلق الدولة العثمانية، واستطال حكم سليمان زهاء ستة وأربعين عامًا (927 – 974 هـ / 1520 – 1566م)، ولم يجرؤِ اليهود على تنفيذ ما كانوا يبيِّتون.
فلما جاز إلى ربه جاء بعده ابنه السلطان سليم الثاني، وكان منحرفًا خُلُقيًّا (933 – 982 / 1526 – 1574)، ومنذ حُكْمه بدأت النُّذُر الأولى لاضمحلال الدولة، وخَلَفَهُ سلاطينُ على شاكلته، وكان أولهم مرادٌ الثالث (982 – 1005 هـ /1574 – 1596)، وتنفس اليهود الصعداء، وأدركوا أن الفرصة سانحة لهم لتحقيق حُلْمٍ راودهم طويلاً، فنَزَحوا في هجرات متقطعة على فترات متقاربة إلى سيناء لاستيطانها، وتركزت إقامتهم في مدينة الطور؛ ليسهل على اليهود إيجاد اتصالات خارجية عن طريق ميناء المدينة، بحيث يتمكن اليهود من الهجرة والقدوم إلى سيناء من بلدان مجاورة[20].(/13)
وقد تزعم حركة التهجير رجل يهودي يدعى إبراهام، استوطن الطور مع أفراد أسرته وأولاده، وكان من المحتمل أن تمر سنوات دون أن تدري بهم السلطات العثمانية، لولا أنهم تعرضوا بالأذى لرهبان دير سانت كاترين؛ مما حمل الأخيرين على إرسال شكاوى مكتوبة، كلها تؤكد على عدم أحقية اليهود للسكن في هذه المنطقة، وإيذاء رهبان الدير بأي حال من الأحوال، وصدرت أوامر الدولة العثمانية بطرد اليهود من دير سانت كاترين، ومنعهم من العودة إليه مستقبلاً، وهذا يدل على حرص الدولة العثمانية على منع اليهود من استيطان سيناء، وإشعارهم بقوة الدولة العثمانية ويَقَظَتِها لأهدافهم[21].
وعندما احتلت بريطانيا مصر عام (1300 هـ / 1882م)، عاود اليهود مطالبهم في سيناء، بعد أن رفض السلطان عبدالحميد الثاني فتح أبواب الهجرة أمامهم إلى فلسطين، وكان تيودور هرتزل زعيم المنظمة الصهيونية العالمية قد أطلق على سيناء اسمًا مُعَبِّرًا هو فلسطين المصرية؛ ليتخذ منها في المستقبل نقطة وثوب إلى فلسطين الآسيوية (فلسطين الحالية)، ولذلك دخل هرتزل في مفاوضات عام (1316 هـ / 1898م) مع بعض أعضاء الوزارة البريطانية، وبخاصة جوزيف تشمبرلين وزير المستعمرات، ولورد لانزدون وزير الخارجية، من أجل توطين اليهود في سيناء على أساس إقامة دولة يهودية فيها، تتمتع بالحكم الذاتي في نطاق الإمبراطورية البريطانية، ووافق الوزيران على الاقتراح؛ لأنه يحقق لبريطانيا أهدافًا استراتيجية؛ منها: ضمان حماية شرقي قناة السويس، وعزل مصر عن الولايات العربية في غربي آسيا، وإضعاف الدولة العثمانية، وإقامة دولة موالية لبريطانيا؛ غير أن هذا المشروع بعد بحثه فشل بسبب معارضة السلطان عبدالحميد الثاني له أولاً، وبسبب معارضة اللورد كرومر حاكم مصر، ومعتمَد بريطانيًا لدى مصر، وتوقف بحث مشروع استيطان اليهود في سيناء[22].
ثامنًا: الدولة تحد من هجرة اليهود إلى فلسطين:(/14)
تطلَّع اليهود على مر العصور التاريخية إلى فلسطين؛ كإقليم يجمع شتاتهم، ويُنشئون فيه دولة، متذرِّعِين بادعاءات دينية وتاريخية؛ فقد أسس اليهود الحركة الصهيونية، ونجحت في استقطاب الدول الكبرى وتأييدها، وكان على الدولة العثمانية أن تخوض - دفاعًا عن فلسطين - صراعًا سياسيًّا مريرًا ضد القوى الصهيونية، والدول الأوروبية المناصرة، ونجح الصهاينة في توقيت حركتهم ونجاحها نجاحًا باهرًا، فاختاروا فترة عصيبة من فترات الاضمحلال التي كانت تمر بها الدولة العثمانية، ولكن الدولة العثمانية عملت في حدود إمكانياتها على الحدِّ من الهجرة إلى فلسطين، وقاومت بذلك الحركة الصهيونية، وقد رفض السلطان عبدالحميد الإغراءات الصهيونية التي عرضها عليها هرتزل، رغم الضائقة المالية التي تمر بها الدولة العثمانية، وبذلك حافظ على عروبة وإسلامية فلسطين[23].
دور الدولة العثمانية في نشر الإسلام في أوروبا:
تشغل الدولة العثمانية حيزًا كبيرًا للغاية في التاريخ؛ حيث امتدت فتوحاتها إلى ثلاث قارات، هي آسيا وأوروبا وإفريقية، وغدت دولة آسيوية أوروبية إفريقية؛ وبذلك فإن الدولة العثمانية كانت أول دولة إسلامية في التاريخ الأوروبي تصل بقواتها الجرارة إلى هذه الأراضي الأوروبية، وكان الوجود الإسلامي العثماني، العسكري والسياسي، حقيقة لا جدال فيها.
وقامت الدولة بدور هامّ في نشر الإسلام في أصقاع شتى من الأقاليم الأوروبية، وكان العثمانيون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مسلمون قبل كل شيء؛ فكان ولاؤهم يتجه إلى الدين الإسلامي أولاً، ثم إلى السلطان ثانيًا، ثم إلى الدولة ثالثًا، وكانت روح الجهاد الديني غالبة في إسلام العثمانيين، وازدادت قوةً وصلابةً عندما استقروا في الأناضول على حدود أو على مقربة من الكيانات المسيحية المتناثرة وقتذاك في هذا الإقليم[24].(/15)
واحتفظوا بهذه الروح في مسيراتهم الحربية في أوروبا؛ فالإسلام عند العثمانيين دين محاربين، وازدادت هذه الروح الدينية الحربية تَأَجُّجًا في نفوس العثمانيين بعد ما واجهوا تكتلات صليبية متعاقبة واسعة النطاق، ضمت العديد من الدول الأوروبية، وكانت البابوية في روما تدعم وتؤيد هذه التكتلات؛ بل تنادي بالانضمام إليها، وكأن الحركة الصليبية التي شهدها الشرق الإسلامي في الماضي قد انتقلت ميادينها إلى أوروبا، ولكن شتان ما بين الحركتين؛ فالصليبيون في أوروبا واجهوا قوات إسلامية عثمانية مسلحة، وقفت في وجه الصليبية الأوروبية صفًّا واحدًا؛ كأنه بنيان مرصوص، يشد بعضه بعضًا، ولم تجد الحركة الصليبية في أوروبا ثغرة تنفذ منها لتفتيت وحدة الصف الإسلامي العثماني، فكان النصر حليفَ القوات العثمانية في معظم المعارك الضارية التي نشبت بين الفريقين.
وحولت الدولة العثمانية دار الحرب إلى دار الإسلام، وأسهم الجميع في غرس بذور الإسلام في الأقاليم المفتوحة؛ مما ساعد على نشر الإسلام في أوروبا، وبذلك اقترنت حركة الفتوح الإسلامية في كل من الأناضول وأوروبا بنشر الإسلام، وقد انتشر انتشارًا سريعًا واسعًا في بعض الأقاليم، وانتشر انتشارًا وئيدًا في أقاليم أوروبية أخرى، وغدت العواصم التي اتخذتها الدولة العثمانية تباعًا وهي قونية، بروسة، أدرنة، وإستانبول، مدنًا إسلامية عثمانية، ومراكز للدراسات الإسلامية والحياة الإسلامية[25].
ونظر الأوروبيون إلى الفتوح العثمانية في أوروبا على أنها فتوح إسلامية، وباسم الإسلام فتح السلطان محمد الفاتح (857 هـ / 1453م) القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، واتخذها عاصمة لدولته، واستبدل اسمًا جديدًا هو إستانبول، ومعناها دار الإسلام، وباسم الإسلام استولى السلطان محمد الفاتح على روما مقر البابوية، وباسم الإسلام استولى السلطان سليمان القانوني على بلغراد، وجزيرة رودس وبودابست.(/16)
وباسم الإسلام تقدم العثمانيون لمساعدة عرب شمالي إفريقيا في الصراع الصليبي، الذي احتدم بينهم وبين الإسبانيين والبرتغاليين، الذين أرادوا احتلال هذه الأقاليم، وتحويل سكانها إلى المسيحية:
وبذلك حفظت الدولة العثمانية لشمالي إفريقيا إسلامه وعروبته، وأوغلت الجيوش العثمانية في زحفها على قلب أوروبا حتى بلغت مشارف فيينا، وكانت الأساطيل العثمانية تحقق انتصارات كاسحة ضد التكتلات الصليبية، الأمر الذي أدى إلى تصاعد العداء بين أوروبا المسيحية والدولة العثمانية.
ولذلك فإن الأوروبيين اعتقدوا بأن الدولة العثمانية هي الرمز الحيّ المجسِّد للإسلام[26]، وهكذا أصبحت عبارة الدولة العثمانية مرتبطة بالدين الإسلامي بعُروة وُثْقَى لا انفصام لها؛ مما أدى إلى تصاعد موجات الحقد والعداء بين الغالبية العظمى من الحكومات والشعوب الأوروبية للدولة العثمانية، بصفتها دولة إسلامية تحكم شعوبًا مسيحية أوروبية.
وهكذا عملت الشعوب الأوروبية التي خضعت للدولة العثمانية على تصفية الوجود العثماني من أراضيها، وأسهمت معها دول أوروبية لم يمتد إليها الحكم العثماني، ولكن جمعت بينها وحدة الهدف في الانتصار للمسيحية، والقضاء على الإسلام، ودعم مصالحها الاستعمارية بتوزيع الممتلكات العثمانية أسلابًا بينها.(/17)
وتأسيسًا على هذه النظرة الأوروبية: فإن التحالفات الدولية ضد الدولة العثمانية كانت في لحمتها وسداها محالفات صليبية ضد الإسلام، أَمْلَتْها روحٌ صليبية، ووجَّهَتْها روح صليبية، وكانت حكومات بعض الدول الأوروبية تُحَرِّض رعايا الدولة العثمانية المسيحيين على الثورة، وتمدهم بالأسلحة والذخائر والأموال؛ لإجراء مذابح عامة بين رعايا الدولة المسلمين أصلاً، ورعاياها الذين اعتنقوا الإسلام؛ لنشر الخوف والذعر بين هؤلاء الأخيرينَ؛ كي يعودوا إلى المسيحية، وكانت هذه الحكومات تعطيهم المنح والهدايا والعطايا نظير قيامهم بهذه الأعمال إذا فشلت الثورات عن تحقيق أهدافها، وأطلقت الحكومات الأوروبية على السلطان العثماني شتى الأوصاف، فهو "رجل أوروبا المريض" حِينًا، و"المريض الذي لا يرجى شفاؤه" حينًا ثانيًا، و"المريض الذي يجب الإجهاز عليه شفقةً به، ورحمة عليه حتى يستريح ويريح" حينًا ثالثًا[27].
مدى نجاح الدولة العثمانية في نشر الإسلام في أوروبا:
لم تنجح الدولة العثمانية نجاحًا كليًّا في نشر الإسلام بين جميع رعاياها المسيحيين في ولاياتها الأوروبية؛ بل حققت نجاحًا محدودًا في مجال الدعوة الإسلامية، فقد تركت الدولة العثمانية بصماتها قوية واضحة في مجال نشر الدعوة الإسلامية في أوروبا، فعلى امتداد قرون وتعاقب عصور ودهور ظلت جماعات إسلامية تعيش حتى اليوم في أوروبا، ولم تغيِّر دينها بأي شكل من الأشكال، رغم الضغوط التي بذلت من قِبَل الدول الأوروبية لتحويلها إلى المسيحية، ولم ترضَ هذه الجماعات الإسلامية عن دينها بديلاً[28].(/18)
والحق أن الوجود العثماني في أوروبا قد عجز من أن ينبت جذورًا تمده بالعناصر التي تحفظ عليه حياته، حين بدأ الضعف يتسلل إلى الدولة، ومنها الاندماج والانصهار، ونشر اللغة العربية، والثقافة الإسلامية التي تحفظ للإسلام وجوده؛ إذ لا يوجد روابط حضارية تربط بين العثمانيين وبين تلك الشعوب الأوروبية، فلما زال الوجود العثماني من أوروبا لم يخلف من بعده أثرًا ذا بال سوى بصمات في بعض الأقاليم البلقانية[29].
ومهما يكن من أمر، فإن الأتراك العثمانيين قد بذلوا جهدًا كبيرًا على نشر الإسلام في أوروبا، وكانوا يقيمون الأفراح إذا ما دخل فرد في الإسلام من المسيحيين طوعًا، مما يدل على غَيْرَةِ الأتراك العثمانيين على الإسلام ونشره، فكانوا يُحيون فيها من دَخَلَ طوعًا من المسلمين الجُدُد في الإسلام، فكان المسلم الجديد يمتطي حصانًا، ويطاف به في طرقات المدينة، وهم في نشوة النصر، فإذا توسموا فيه خُلوص النية في تغيير دينه، وعرفوا أنه دخل بمحض إرادته في حظيرة الإسلام، أو كان شخصًا ذا مكانة طيبة استقبلوه بتكريم عظيم، وأمدوه بما يعينه، ولا شك أن هناك دليلاً قويًّا يؤيد قول من قال: "إن في نفوس الأتراك غَيْرة، لا يكاد يصدقها العقل حين يبتهلون إلى الله أن يُحوِّل الناس المسيحيين إلى الإسلام، إنهم كل يوم يبتهلون إلى الله في مساجدهم مخلصين أن يؤمن المسيحيون بالقرآن، وأن يهتدوا على أيديهم، ولم يدعوا للتأثير وسيلة من وسائل الترغيب والترهيب، والعقاب والجزاء إلا فعلوها"[30].(/19)
وقد عامل العثمانيون الأتراكُ أهلَ أوروبا المسيحيين معاملةً تقوم على التسامح، النابعة من روح الإسلام، هذا التسامح الديني الذي جعل الكثيرين من الإغريق وغيرهم يَقبَلون بتغيير ديانتهم حمايةً لحياتهم وأموالهم، وكان العثمانيون يَلْقَوْنَ ترحيبًا من الإغريق بسبب الحكم الظالم المستبِدِّ، الذي واجهوه من حكم الفِرِنْجة وبيزنطةَ، فلم تعد في محاكمهم عدالةٌ، ولا في قلوبهم شجاعة، فقد أقام الحكم الإسلامي العدل والمساواة، وإصلاح المفاسد، وانتشر الأمن والنظام في البلاد، وكان النظام الإداري والقانوني رائعًا وقويًّا[31].
ويؤخذ على الدولة العثمانية ضريبة الأبناء المسيحيين، الذين كانوا يؤخذون من آبائهم في سن مبكرة كرهًا، وينتظمون في سلك الانكشارية، وربما كان ذلك بسبب تعرض البلاد للخراب من جراء الحروب، الأمر الذي أدى إلى هلاك كثير من الأسر جوعًا، ومن ثم كان الأبناء الذين يتبنون يتامى في كثير من الأحيان، ولولا تبنِّيهم لتعرضوا للهلاك، كما أن رعاية الدولة العثمانية للمسيحيين كان عليهم أن يدفعوا ضريبة الرأس في مقابل حمايتهم، وإعفائهم من الخدمة العسكرية.(/20)
وكانت الضرائب التي يدفعونها تعتبر قليلة إذا ما قورنت بالالتزامات الإقطاعية التي لا تنتهي، والإرهاق المستمر الذي كانوا يتكبدونه من البيزنطيين، ولا شك أن الولايات التركية العثمانية كانت أحسن حُكْمًا، وأكثرَ رخاء من معظم جهات أوروبا المسيحية، وأن المزارعين المسيحيين كانوا يَنعمون بقدر كبير من الحرية الشخصية، كما كانوا يَنعمون بثمار جهودهم في ظل حكومة السلطان أكثر مما كان يَنعم به معاصروهم في ظل كثير من الحكام المسيحيين، هذا فضلاً عن أن السلاطين العثمانيين كانوا دائمًا يعملون على إثراء النشاط الاقتصادي في مجالات الصناعة والتجارة بين رعاياهم، حتى غدت المدن الكبرى مزدهرةً أكثر من ذي قبل في عهد الدولة البيزنطية، التي كانت تعمل على طغيان ثروة، ومما عرقل نهضتها وشل حركتها[32].
وقد تعرضت الدولة العثمانية إلى حملات تشهير من الأوروبيين، والمتحاملين، وبعض المؤرخين العرب، ومن هذه الحملات حرمان الولايات العربية من عُلَمائها المبرِّزِين، وخاصة مصر، عندما أصدر السلطان سليم الأول فاتح مصر قرارًا بترحيل علماء مصر إلى إستانبول، ولكن معظم المؤرخين لم يذكروا تاريخ عودتهم، حيث إن إقامتهم في إستانبول قد امتدت إلى ثلاث سنوات ونيف، عاد بعدها جميعهم إلى القاهرة بأمر سلطاني من السلطان سليمان القانوني.
كما تعرضت الدولة العثمانية إلى حملة تشهير أخرى، هي دورها في عزلة الولايات العربية عن العالم، وكان لهذا الموقف ما يُبرره؛ ذلك بأن الدولة العثمانية منذ أن فتحت بلاد الشام عام 922 هـ / 1516 م، ومصر 923 هـ / 1517 م وتبعتها الحجاز، كان الغزو البرتغالي يهدد منطقة الخليج والعالم الإسلامي، وذلك لتحقيق أغراض صليبية واستعمارية واقتصادية؛ لذا كان على الدولة العثمانية أن تعمل على حماية الولايات العربية من أيِّ خطر استعماري يعزلها عن الاتصال بالعالم الخارجي[33].(/21)
وكانت هذه الأباطيل، والافتراءات، وحملات التشهير التي توجه للدولة العثمانية بقصد الإساءة للحكم العثماني الإسلامي، وبقصد النَّيْل منها والإطاحة بها، بعد أن رأى الأوروبيون أن هذه الدولة العثمانية دولة إسلامية حربية من الطراز الأول، وتريد تحويل دار الحرب (الكفر) إلى دار الإسلام.
ويجدر بنا أن نتناول إيجابيات الحكم العثماني، ثم سلبياته؛ إذ إن الدولة العثمانية لها جوانب إيجابية، وأخرى سلبية.
ومن إيجابيات الحكم العثماني:
1 – توسيع رقعة الأرض الإسلامية، إذ فتح العثمانيون القسطنطينية، وتقدموا في أوروبا، مما عجز المسلمون من قبلهم منذ أيام معاوية، وساروا فيها شَوْطًا بعيدًا؛ حتى وقفوا على أبواب فيينا، وحاصروها أكثر من مرة دون جدوى.
2 – الوقوف في وجه الصليبيين على مختلف الجبهات، فقد تقدموا في شرقي أوروبا؛ ليُخَفِّفوا الضغط عن المسلمين في الأندلس، كما انطلقوا إلى شمال البحر الأسود، ودعموا التتار ضد الصليبيين من الروس، هذا فضلاً عن التصدي للإسبان في البحر المتوسط، والبرتغاليين في شرق إفريقيا والخليج، ولم يُوَفَّقوا في حملاتهم؛ وذلك يرجع لعدم تكاتف المسلمين والتفافهم حولهم.
3 – عمل العثمانيون على نشر الإسلام، وشجعوا على الدخول به، وقدَّموا الكثير في سبيل ذلك، وعملوا على نشر الإسلام في أوروبا، وعملوا على التأثير في المجتمعات التي يعيشون بينها.
4 – أن دخول العثمانيين إلى بعض الأقطار الإسلامية قد حماها من بلاء الاستعمار الذي ابتليت به غيرُها، في حين أن المناطق التي لم يدخلوها قد وقعت فريسة للاستعمار، باستثناء دولة المغرب.(/22)
5 – كانت الدولة العثمانية تمثل الأقطار الإسلامية، فهي مركز الخلافة؛ لذا كان المسلمون في كل مكان ينظرون إلى الخلافة وإلى الخليفة نظرة احترام وتقدير، ويَعُدُّون أنفسهم من أتباعه ورعاياه، وبالتالي كانت نظرتهم إلى مركز الخلافة ومقرها المحبةَ والعَطْفَ، وكلما وجد المسلمون أنفسهم في ضائقة طلبوا الدعم من مركز الخلافة؛ كما كان الخلفاء.
6 – وكانت الخلافة العثمانية تضم أكثر أجزاء البلاد الإسلامية؛ فهي تشمل البلاد العربية كلها باستثناء المغرب، إضافة إلى شرقي إفريقيا، وتشاد، وتركيا، وبلاد القفقاس، وبلاد التتار، وقبرص، وأوروبا، بحيث وصلت مساحتها حوالي 20 مليون كليو متر مربع.
7 – كانت أوروبا تقابل العثمانيين على أنهم مسلمون لا بصفتهم أتراكًا، وتقف في وجههم بحقد صليبي، وترى فيهم أنهم قد أَحْيَوُا الروح الإسلامية القتالية من جديد، أو أنهم أثاروا الجهاد بعد أن خمد في النفوس مدة من الزمن، وترى فيهم مدًّا إسلاميًّا جديدًا بعد أن ضعف المسلمون ضعفًا جديًّا، وتنتظر أوروبا قليلاً لتدمرهم، والأتراك العثمانيون حالوا بينهم وبين المد الصليبي في الشرق والغرب الإسلامي، الأمر الذي جعل أوروبا تحقد على العثمانيين وتكرههم.
8 – كانت للعثمانيين بعض الأعمال الجيدة تدل على صدق عاطفتهم وإخلاصهم، مثل عدم قبول النصارى مع الجيش، وإعفاء طلبة العلم الشرعي من الجندية الإلزامية، وكذلك إصدار المجلة الشرعية التي تضم فتاوى العلماء في القضايا كافَّةً، وكذلك احترام العلماء، وانقياد الخلفاء للشرع الشريف والجهاد به، وإكرام أهل القرآن، وخدمة الحرمين الشريفين، والمسجد الأقصى، والحرم الإبراهيمي.(/23)
9 – وكان للعثمانيين دورهم في أوروبا إذ قضوا على نظام الإقطاع، وأَنْهَوْا مرحلة العبودية التي كانت تعيشها أوروبا؛ حيث يولد الفلاح عبدًا، وينشأ كذلك، ويقضي حياته في عُبوديته لسيده مالك الأرض[34]، واهتم السلاطين بتقديم الصدقات والعطايا للمواطنين.
ومن أهم سلبيات الخلافة العثمانية، والتي كان لها الأثر في إضعاف الحكم:
1 – إهمال اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم، والحديث الشريف، وهما المصدر الرئيس للتشريع، وكان يجب الاهتمام بها وتعلمها من قِبَلِ سلاطين آل عثمان أكثر من اللغة التركية، وفي هذا جهل؛ لأن العربية لغة الإسلام، بالرغم من أن بعض السلاطين قد عمل على اهتمام المدارس باللغة العربية، واهتموا بالعلم الشرعي بشكل محدود، وكان على الخلفاء أن يتعلموا هم العربية، ويشجعوا عليها.
2 – عدم الوعي الإسلامي الصحيح، إذ كان كثير من المسؤولين لا يعرفون من الإسلام سوى العبادات، لذا كانوا يحرصون عليها وعلى تأديتها، وهذا أدى إلى انتشار الطرق الصوفية، وضعف فكرة الجهاد، وعدم الإنتاج؛ مما أدى إلى ضعف الدولة.
3 – كان العثمانيون يحرصون على تغيير الولاة باستمرار، وخاصة في أواخر عهدهم، وذلك خشية استغلال المنصب، أو الاستقلال بالولاية.
4 – الحكم الوِرَاثِيّ الذي سار عليه العثمانيون غير مقبول من وجهة النظر الإسلامية، ولكن سبقهم الأمويون والعباسيون، كما كان بعض السلاطين يقومون بقتل إخوانهم؛ حتى لا يُنازِعوهم في السلطة، هذا علاوة على زواج بعض السلاطين من الأوروبيات، فيه إساءة للأمة.
5 – كان العثمانيون يكتفون من البلاد المفتوحة بالخَرَاجِ، ويتركون السكان على وضعهم القائم من العقيدة واللغة والعادات؛ إذ يُهملون الدعوة والعمل على نشر الإسلام، وإظهار مزايا الإسلام؛ من المساواة، والعدل، والأمن، وانسجامه مع الفطرة البشرية.(/24)
6 – ضَعْفُ الدولة العثمانية في أواخر عهدها جعل الدول الأوروبية تتآمر عليها، فأثاروا ضدها الحركات الانفصالية السياسية والدينية، كما استغل دعاة القومية والصهيونية هذا الضعف، مما جعلهم يقومون بحركات لتقويض هذه الدولة[35].
ومما يجدر ذكره أن الجوانب الإيجابية في الدولة كانت في مرحلة العصر العثماني الأولى، عصر القوة والتوسع، أما مراحلها الأخيرة للدولة العثمانية فتمثل الجوانب السلبية، وقت الضعف والتراجع والانهيار.
---
[1] عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، جـ 2 ، القاهرة 1980، ص 862.
[2] نفس المرجع، ص 862 – 863.
[3] نفس المرجع، ص 862 – 863.
[4] عبدالعزيز الشناوي: "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، جـ 2 ، ص 863.
[5] د . محمد أنيس، "الدولة العثمانية والشرق العربي"، القاهرة 1977، ص 45 – 46.
[6] عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية ..." مرجع سبق ذكره، جـ 2، ص 936.
[7] يرى الدكتور أنيس الصايغ أن العلاقات بين الأكثرية المسلمة السُّنية في الولايات العربية، والأقليات المذهبية والعنصرية فيها قد خلقتْ مشكلة شائكة ومزمنة بشكل عام، وقد أسهمت بريطانيا وفرنسا في توسيع شُقَّة الخلاف بين الأكثرية والأقلية، وشجعت الأقلية على عدم الاختلاط والاندماج، ونتج عن ذلك انكماش من الأقليات، وانقلابها على نفسها، مما عزلها عن الأكثرية. أنيس الصايغ، "الهاشميون وقضية فلسطين"، بيروت 1966، ص 95.
[8] المرجع السابق.
[9] [التوبة: 41].
[10] عبدالعزيز الشناوي، "الوحدة العربية في التاريخ الحديث والمعاصر"، القاهرة 1975، ص 8 وانظر كذلك: الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، القاهرة 1980، ج3، ص 88 ص 107.
[11] عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية ..." ص 946 – 947.
[12] أنيس الصايغ، "الهاشميون ، وقضية فلسطين"، بيروت 1966، ص 93 – 94.(/25)
[13] د/ محمد أنيس، "الدولة العثمانية والشرق العربي"، ص 88 – 89.
[14] د. عبدالعزيز الشناوي "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، ص 953 – 958.
[15] د/ عبدالعزيز الشناوي، المرجع السابق ص 958 – 959.
[16] د/ محمد فؤاد شكري، "مصر والسودان"، دار المعارف بمصر 1958، ص 473 – 518.
[17] دكتور محمد بديع شريف وآخرون، "دراسات تاريخية في النهضة العربية الحديثة"، القاهرة 1963، ص 269 – 275.
[18] د/ عبدالعزيز الشناوي، المرجع السابق، ص 961 – 963.
[19] د/ عبدالعزيز الشناوي، المرجع السابق، جـ 2 ص 964 – 966.
[20] نفس المرجع ص 966.
[21] د/ أنيس صايغ، "الهاشميون وقضية فلسطين"، بيروت 1966، ص 22.
[22] Stein Leonard. The Balfour Declaration London 1967, PP. 26 - 93
[23] "مذكرات هرتزل"، ص 275.
[24] Lewis, Bernard: The Emergence of Modern Turkey, 2nd Edition London. P. 2 1968.
[25] محمد جميل بيهم، "فلسفة التاريخ العثماني"، بيروت 1954، ص 24.
[26] عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية"، جـ 1، ص 14 – 15.
[27] المرجع السابق ص 15 – 16.
[28] د/ عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية"، ج1 ، ص 26.
[29] المرجع السابق، ص323 – 324.
[30] سير توماس أرنولد، "الدعوة إلى الإسلام"، ترجمة د/ حسن إبراهيم حسن، وآخرون، القاهرة، 1970، الطبعة الثالثة، ص 185.
[31] المرجع السابق ص 174.
[32] سير توماس، أرنولد، "الدعوة إلى الإسلام"، ص 174.
[33] د/ عبدالعزيز الشناوي، المصدر السابق ج2، ص 690 – 696.
[34] محمود شاكر، "التاريخ الإسلامي"، العهد العثماني، بيروت 1986 – ص 26 – 34.
[35] محمود شاكر ، "العالم الإسلامي" ، العهد العثماني ص 36 – 40.(/26)
العنوان: خصائص الأسر في استخدام العمالة المنزلية
رقم المقالة: 1125
صاحب المقالة: د. إبراهيم بن محمد العبيدي، ود. عبدالله بن حسين الخليفة
-----------------------------------------
الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية
للأسر المستخدِمة وغير المستخدِمة للعِمالة
النسائية والمنزلية
دراسة ميدانية
مشكلة البحث:
تُعَدُّ العمالة المنزلية في حجمها ونوعيتها ظاهرةً حديثةً في المجتمع العربي السعودي، وفي الدول العربية الخليجية، فمن ناحية الحجم كانت العمالة المنزلية محصورةً في فئة صغيرة من المجتمع، تتميز بخصائص اقتصادية أوِ اجتماعية أوِ سياسية، كما كانت العمالة المنزلية من ناحية نوعها وطنيةً في معظَمِها، أو عربيةً في مُجْملها. ولكن منذ اكتشاف البترول وتصديره بكمياتٍ تجارية، وارتفاع مردوداته بدأت التغيرات الاقتصادية تؤثر في كثير من أبعاد الحياة الاجتماعية في المجتمع العربي السعودي، ولقد كانت العمالة الوافدة بصفة عامة والعمالة المنزلية بصفة خاصة أحد الظواهر الاجتماعية التي صاحَبَتْ هذه التغيراتِ، ومع أن هناك نسبةً كبيرةً منَ الأُسَر السعودية تستعين بالعمالة المنزلية للقيام بالمهام المنزلية من غسيل وطبخ وتنظيفٍ وغيره، كما أَوْكلتْ بعضُ الأسر إلى العاملة المنزلية العناية بالأطفال، إلا أنَّ هناك أسرًا لم تدخل هذه التجربة، ومازالتْ تتولى شؤون منزلها بنفسها؛ فمحور المشكلة التي تركز عليها هذه الدراسة هو محاولة تَقَصِّي العوامل التي تدفع الأُسْرَةَ إلى استخدام العمالة المنزلية، من خلال التركيز على الفروق بين الأسر المستخدِمة وغير المستخدِمة للعمالة المنزلية.
مدخل نظري:
ليست العمالة المنزلية بمفهومِها الشامل حديثةً على المجتمع الإنساني، فقد عرفت المجتمعات الإنسانية أنواعًا وأشكالاً لهذه الظاهرة، تراوحت بين الرِّقِّ والاسْتِئْجار لجهد الفرد للقيام بأعمال معينة.(/1)
لقد كانت تجارة الرقيق شائعةً في العصر الجاهلي، حيث يتحول أَسْرَى الحرب إلى عبيد يُبَاعُون ويُشْتَرَوْنَ، وكانت موارد الرق مواردَ مستمرَّة باستمرار النزاع والحرب بين القبائل؛ حيث يؤخذ الأسرى والسبايا ويباعُون عبيدًا، ولعل ذَلِكَ ما دَفَعَ بَعْضَ القَبَائِلِ الضعيفة إلى وَأْدِ البَنَاتِ خوفًا عليْهِنَّ من السبي، كما كان للظروف الاقتصادية دورٌ هامٌّ، وفي هذا الصدد يشير حطب "وقد أدَّى هذا الصراع (أي بين التجار والحِرَفِيِّينَ) إلى خراب الحِرَفِيِّينَ، وتَحوُّلهم إلى جماعة من المُعْدَمِينَ أو العبيد يُستأجرون للقيام ببعض الأعمال الوضيعة، أو يُمْتَلَكُون للقيام بالأعمال المنزلية والخدمات الأخرى" (حطب، 1980: 33).
ومن صور الاستخدام التي كانت شائعة في الجاهلية ما يُطْلَقُ عليه المرضِعات؛ حيث كان سكان الحواضر وخاصة المقتدرين يبعثون بأبنائهم إلى البادية، حيث تَتَوَلَّى الرضاعةَ والتربيةَ نساءُ القبائل، وكانوا يهدُفون من وراء ذلك إلى تنشِئَة الطفل على مكارم الأخلاق واكتساب العادات العربيَّة وإلى تشرُّب اللغة العربية السليمة.
ولما جاء الإسلام ضيَّق أبواب موارد الرق، ووسع مخارجه فجعل له مورِدًا واحدًا وهو أسرى الحروب التي تَنْشُبُ بين المسلمين وغير المسلمين، وشرع أبواب العتق حيث جعله كفارة لكثير من المخالفات، كما جعل الإسلام العتق من أعظم الأعمال التي يتقرب بها العبد من ربه، حيث يقول الحقُّ سبحانه وتعالى: {فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11-13]، وقد كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يحض على إعْتاقِ الرقيق (السيد سابق، 1405، جـ2، ص: 688-691).(/2)
على أنَّ استئجار الآخَرينَ في قضاء الحوائج الخاصَّة كان معروفًا في صدر الإسلام؛ حيث كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – قدِ اسْتَخْدَمَ أنَسَ بْنَ مالك؛ حيث رُوِيَ عنه – رضي الله عنه – أنه قال: "خدمت النبي – عليه الصلاة والسلام – عشر سنين فما قال لي: أف، ولا: ألا صنعت" (الزَّبِيدِيُّ 469).
أما في الماضي القريب فلم تَكُنِ العِمالة المنزلية ظاهرةً تستقطب الانتباه في المجتمع العربي السعودي، ولكن منذ ما يسمى بالطفرة الاقتصادية التي عاشتها المملكةُ العربية السعودية بدأت هذه الظاهرةُ تنال الكثير من الاهتمام من قِبَلِ الجهات الرسمية، من خلال وضع القوانين الضابطة للتعامل مع هذه الظاهرة من ناحية إدارية ورسمية[1]، كما استحوذت هذه الظاهرة على اهتمام بعض الباحثين الاجتماعيين، كما شَغَلَتْ حيزًا كبيرًا في الإعلام العربي السعودي والخليجي بشكل عام[2]، ولعل الاهتمام المتزايد بهذه الظاهرة ناتج عما يرتبط بها من مشكلات اجتماعية واقتصادية وتربوية وخُلُقية وأُسرية وصحية ووطنية ودينية وسياسية تنعكس آثارها السلبية على الأسرة بوجه خاص وعلى المجتمع بشكل عام.
وإذا كانت العمالة المنزلية بشكلِها الحالي ظاهرة حديثة في المجتمع العربي السعودي؛ حيث كان استخدام العمالة المنزلية مقتصِرًا على شريحة صغيرة جدًّا من المجتمع، التي كانت تتميز بسمات اجتماعية وخصائصَ اقتصادية وسياسية، غير أن هذا الوضع قد تغير إلى حد كبير حيث بدأت شرائحُ اجتماعيَّةٌ جديدة في استخدام العمالة المنزلية[3]، إلى جانب ذلك تغيرت طبيعة العاملة المنزلية؛ حيث كانت النسبة العظمى من هذه العمالة وطنية وأصبحت بعد ذلك عمالة أجنبية تهيمن عليها الجنسية الآسيوية.(/3)
ومع أنه يمكن اعتبار العمالة المنزلية نوعًا من أنواع العمالة الأجنبية إلا أنَّ هناك اختلافًا بين ظاهرة العمالة المنزلية من جهة والعمالة الأجنبية أو الوافدة من جهة أخرى، فالعمالة المنزلية تتصل في علاقاتها وارتباطاتها وتفاعلاتها بأفراد الأسرة بطريقة مباشرة، وبما أنَّ العلاقة بين أفراد الأسرة والقائمات بالعمل المنزلي علاقة مباشرة أولية؛ فإن النتائج المترتبة على هذه العلاقة ستكون بطبيعة الحال مؤثرة في بعض أو كل أطراف هذه العلاقة بدرجات متفاوتة، وهذا ما يعطي هذه القضيةَ أهمية خاصة، ولا سيما إذا أخذنا في الحسبان الفروق الثقافية والاجتماعية والدينية بين المستخدِم والمستخدَم.
وعلى الرغم من أهمية هذه القضية على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والوطنية والسياسية إلا أننا لا نجد إطارًا نظريًّا يحيط بِمُخْتَلِفِ أبعاد هذه الظاهرة، لقد نظر كثير من الباحثين إلى هذه الظاهرة على أساس أنها جزء من قضية العمالة الأجنبية فتعاملوا معها على هذا الأساس من منظور الهجرة أنها قضية ديموغرافية صرفة، ومع أن بعض المراكز قد نفذت ندوة فكرية شاملة عن موضوع العمالة الأجنبية، إلا أننا لا نجد إلا نَزْرًا يسيرًا من الاهتمام بظاهرة العمالة المنزلية، تمثلت في البحث الذي قدمته جهينة سلطان العيسي، والتي تناولت فيه التأثيرات الاجتماعية للمربية الأجنبية على الأسرة، ومع أن موضوع هذا البحث في صميم هذه القضية إلا أن الباحثة قد تناولتْهُ في إطار الندوة حتى إن الإطار النظري المقترح لم يبرز الأسباب المختلفة لِتَفاقُمِ هذه الظاهرة، واكتفتِ الباحثة ضمن مفهوم التنشئة الاجتماعية، وضمن مفهوم أثر المربيات على الأسرة العربية (العيسي، 1983: 172-175).(/4)
كما تناولت دراسات وزارات العمل والشؤون الاجتماعية في كل من المملكة العربية السعودية والبحرين وعمان والكويت هذه الظاهرةَ، وقد ركزت هذه الدراسات بصفة عامة على تقصِّي الآثار المترتبة على وجود المربية، من خلال خصائص وسمات المربية نفسِها (مجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بالدول العربية الخليجية، 1407). وقد انفردت دراسة بدر العمر من بين هذه الدراسات بمحاولة حصر الأسباب المحتملة لنشوء وبروز ظاهرة استخدام المربيات الأجنبيات، وانتشارها في دول الخليج، وذلك من وجهة نظرية بحتة، وتَمْثُلُ هذه الأسبابُ وَفْقًا للعُمَرِ في كلٍّ من: "عمل المرأة، التخلص من الأعباء المنزلية، المكانة الاجتماعية، القصور في النظرة الاجتماعية، تقدير الأعمال المختلفة للأعمال ونتائجها، تأكيد سلطة ربة المنزل، الضبط الاجتماعي، كثرة زيارات ربة الأسرة، غياب الوعي بالآثار الناجمة عن استخدام الخدم، عدم القدرة على التنظيم، انخفاض أجور الخدم مقابل ارتفاع دخل الأسرة، سهولة استجلاب الخدم، وعدم وجود البديل (العُمَر، 1407، ص: 55).
إلى جانب ذلك ركزت مجموعة من الدراسات الأخرى على الخادمة نفسها من حيث تكيُّفُها وظروفُ العمل، ودوافع الهجرة وغير ذلك من الأبعاد، نذكر من ذلك دراسة Nasra Shah وآخرين عام 1991 والتي تناولوا فيها وضع العاملات الآسيويات في دولة الكويت، من ناحية حجم الظاهرة وخصائص العاملات إلى جانب سياسات الاستقدام في دولة الكويت والدول المرسلة (1991 Shah)، وكذلك دراسة Cynthia Enloe وقد ركزت هذه الدراسة بشكل خاص على مشكلة العاملات الفلبينيات في كل من إيطاليا وسنغافوره، والشرق الأوسط وأوروبا وهونج كونج، كما ركَّزت هذه الدراسة على مشكلات العاملات السرلانكيات وعلى الخصوص في المملكة العربية السعودية (1989 Enloe).(/5)
إن محاولة صياغة إطار نظري لظاهرة العاملة المنزلية يجب أن تنبع من محاولة فهم التغيرات التي طَرَأَتْ على النظام الاجتماعي والأسري والاقتصادي في المجتمع العربي الخليجي، فهذه الظاهرة لا يمكن أن نجد لها الجذور التاريخية، حيث كانت في الماضي البعيد أو حتى القريب محصورةً في شريحة من المجتمع، ولا يمكن أن نَعُدَّ العامل الاقتصادي نتيجة لاكتشاف البترول المسؤول الوحيد عن تفاقم هذه المشكلة، ولا يعني ذلك بطبيعة الحال التقليل من أهمية هذا العامل، إلا أننا إذا أخذناه بمعزل عن العوامل الأخرى لا يمكن أن يفسر تفاقم هذه الظاهرة، فهناك مجتمعات لا تقل في الثراء عن مجتمعات الخليج العربي ومع ذلك لا نجدها تستخدم عمالة بالشكل والكم الذي نجده في المجتمع العربي الخليجي، هناك مجموعةٌ من العوامل التي يمكن أن تساعدنا في فهم تفاقم هذه الظاهرة ولكن يجب علينا أن نَنْظُرَ إلى هذه العوامل متفاعلةً مع بعضها البعض، وتَتَمَثَّلُ هذه العوامل فيما يأتي:
العامل الاقتصادي: ونعني بذلك توفر المال لدى نسبة كبيرة من الأسر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى رِخَص الأجور للعاملة المنزلية، والذي يجعل كثيرا من الأسر في المجتمع الخليجي قادرةً على تحمُّلِ هذه الأجور، وتؤكد أهميةَ هذا العامل الدراسةُ التي قامت بها وزارةُ الشؤون الاجتماعية والعمل في دولة الكويت، وكذلك دراسة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بدولة البحرين، والتي وجدت أن ظاهرة المربيات الأجنبيات أكثر انتشارًا بين ذوي الدخول المرتفعة (قسم التخطيط والبحوث، 1983).(/6)
أمَّا العامل الثاني فيتمثل فيما أصاب منظومة العادات والتقاليد من تغير وتعقد، والتي جعلت من الأعمال المنزلية مُهِمَّةً شاقَّةً تفتقد البساطة وتتصف بالمبالغة في إعداد الطعام؛ حَيْثُ تَتَعَدَّدُ الأصناف والأطباق، وكثرة الملابس وكثرة تنوع الأجهزة والأثاث المنزلي، الأمر الذي جعل من القيام بالمهام المنزلية أمرا شاقًّا على المرأة، إضافة إلى ذلك العلاقات الاجتماعية وما يترتب عليها من زيارات ومناسبات تتحول إلى إجهاد للمرأة حيثُ المبالغةُ في إعداد الأطعمة التي قد تعد لعشرات الأشخاص.
العامل الثالث: هو ما طرأ على وظائف أفراد الأسرة من تغيرات وانتشار التعليم العامِّ للذكور والإناث، حيث كان أفرادُ الأسرة مهما صَغُرَتْ أعمارهم يشاركون في أعمال الأسرة؛ حيث يساعد الأبناءُ آباءَهُم في أعمالهم، والبناتُ يساعِدْنَ أُمَّهاتِهِنَّ في الأعمال المنزلية، أمَّا في الوقت الحاضر فإنَّ الأبناءَ والبَنَاتِ أصْبَحُوا مُهِمَّات جديدةً وإضافيَّة على الأسرة، حيث فُرِّغُوا تمامًا للواجبات المدرسية، بل أصبح على الأسرة أن تهيئَ مُتَطَلَّباتِهِم الخاصة كإعداد ملابسهم وسُرُرِهم ومساعدتهم في واجباتِهِم المدرسية وغير ذلك منِ احتياجاتهم الشخصية.
العامل الرابع: تَزايُدُ أعداد كبار السن، لقد أدى تحسُّن الظروف المعيشيَّة وتحسُّنُ الخدمات الصحيَّة في المَمْلكة العربية السعودية إلى ارتفاع مُعَدَّلِ العمر المتوقَّعِ للسكان؛ حيثُ ارتفع هذا المعدل من 44.5 سنةً في عام 1960 إلى 55.4 سنةً في عام 1985م وقد يعزى ارتفاع معدل العمر المتوقع إلى تحسن الدخل القومي وتحسن الخدمات الصحية في أهم مؤشراتها كعدد السكان لكل طبيب / طبيبة وعدد السكان لكل ممرض / ممرضة حيث انخفض عدد السكان من 13000 لكل طبيب و 5850 لكل ممرض في عام 1960 إلى 637 لكل طبيب و 304 لِكُلّ ممرض في عام 1985م (العبيدي، 1990 ص: 384).(/7)
وقد أدى ذلك إلى زيادة عَدَدُ كبار السِّنِّ في الأسرة السعودية، هذا وإذا أخذنا في الحسبان أن معظم الأسر تَتَحَرَّجُ في إيداع كبار السِّنِّ في المؤسسات الإيوائية، بَلْ تُفَضِّلُ بَقَاءَهُم في الأسرة، وتقوم برعايتهم، كما أن حالات إيداع كبار السن مازالت ضئيلة نتيجةً للعامل الديني ونظرةِ الازدراء التي تُلاحق مَنْ يُودِعُون ذَوِيهِمْ في المؤسسات الإيوائية[4]، كما أنَّ زوجةَ الابْنِ عادة ما ترفُضُ القيامَ بخدمة والِدَيِ الزوج إما لكثرة الأعباء التي تقوم بها، أو لأنها تأنف من القيام بمثل هذا العمل، الأمر الذي جعل بعض الأسر تَلْجَأُ إلى العامِلَةِ المنزلية كي تُسَاعِدَ في رعاية كبار السن.
العامل الخامس: ما طرأ على بناء الأسرة السعودية، حيث بدأت الأسرة النووية تأخذ مكان الأسرة الممتدة، ولا شك أن الأسرة الممتدة نتيجةً لعدد أفرادها تتعاون معًا في إنجاز المهمات المنزلية وبذلك تخف الأعباء على أفرادها، فكبار السن من القادرين على سبيل المثال يساعدون في العناية بالأطفال، كما تتقاسم النساءُ الأعباءَ المنزليَّةَ المختلفة، أما في الأسرة النَّوَوِيَّة؛ فإنَّ جميع الأعباء المنزلية ملقاةٌ على كاهل الزوجة، ومع تعقد وكثرة هذه الأعباء أصبح وجود العاملة المنزلية ضرورةً لكثير من الأسر.(/8)
العامل السادس: وَتَمَثَّلَ فيما طَرَأَ على المنزل السعودي من تغيُّر من حيث المساحةُ ومن حيث الفراغاتُ؛ لقد كان المنزلُ صغيرَ الحجْمِ، محدودَ الفراغات حيثُ إن الفراغ الواحد متعددُ الاستعمالات، فمجلس الرجال على سبيل المثال يستخدم إلى جانب كونِه مجلسًا للرجال غرفة لتقديم الطعام وغرفة للضيوف حيث الاستراحةُ والنوم، ومثل تعدد الاستخدامات للفراغ الواحد يقلل الأعباء المنزلية، أما اليوم فقد ساعد صندوق التنمية العقاري المواطنين على بناء المنازل الحديثة المتعددة الفراغات الكبيرة الحجم، مما يجعل العناية بها مهمة مجْهِدَة للمرأة، وفي هذا الصدد يشير الطياش في دِراسته لتقويم المبادئ والعناصر التصميميَّة لِلْفراغات الوظيفية للبيت المعاصر في مدينة الرياض إلى أنَّ البيت "قد وَلَّدَ شيئًا منَ الازدواجية داخل البيت المعاصر، ثم إن كثرة العناصر وتعدد الفراغات التي قد لا يحتاجُها الساكنُ قد زاد في مساحة البيت المعاصر وشكل عبئًا اقتصاديًّا "ويضيف:" .. وإرضاء لنزعة التباهي، وإبراز المَقْدِرَات في تلبية هذه الرغبات، والتسابق بين الأفراد نحو كل ما هو جديد وحديث، ومع الحنين والتعاطف مع الماضي والتراث، الشيء الذي أوجد ازدواجية في الفراغات تجمع بين متطلبات البيت التقليدي والبيت الحديث، حتى صار البيت المعاصر يحتوي على عدد من الفراغات التي قد لا يحتاجها الساكن، فكان نتيجة لذلك أن حدثت سلبيات اقتصادية واجتماعية وتصميمية عديدةٌ أصبحت بمرور الزمان عبئًا على الساكن (الطياش، 1412: 11-12).(/9)
العامل السابع: ويتعلق بالأنظمة الإدارية للاستقدام حيث سهَّلت تلك الإجراءات الإداريةُ عمليةَ استقدام العاملة المنزلية حيث نجد أن هذه الأنظمةَ قد وضعت بعض الشروط كالدخل الشهري لرب الأسرة، حجم الأسرة، وعمل المرأة، أو وجود أسباب صحية، أو غير ذلك من الشروط التي يمكن أن تنطبق على نسبة كبيرة منَ المجتمع إلى جانب التحايُل على هذه الأنظمة والقوانين (بدر العمر، 1407، ص: 63).
أما العامل الثامن فهو عامل نفسي اجتماعي ونعني بذلك الشعور بضرورة وجود الخادمة في المنزل، حيث أصبح وجود الخادمة عند كثير من الأسر الخليجية ضرورة ليس وظيفيًّا فحسب وإنما نفسيًّا واجتماعيًّا، لقد اعتادت الأسرة على وجود هذه الإنسانة في المنزل وعند رحيلها يشعر مُعْظَمُ أفراد الأسرة بفراغ سرعان ما يحاولون تعويضَهُ بعاملة أخرى، كما أصبح وجود الخادمة في الأسرة نوعًا من المظاهر الاجتماعية للتباهي والتقليد، كما تؤكد ذلك دراسة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بدولة الكويت والتي عدت أن عنصر المُحَاكاة أحدُ الدوافع الاجتماعية للاستعانة بالخدم والمربيات الأجنبيات (إدارة التخطيط والمتابعة، 1983).(/10)
مِمَّا سَبَقَ يمكن القولُ أنَّ تَفَاقُمَ ظاهرة العمالة المنزلية في دول الخليج العربي هي نتاج العديد من العوامل التي لعبت مجتَمِعَة لإيجاد مناخ مناسب لتفاقم هذه الظاهرة، فاكتشاف البترول وما أدى إليه من توفير الظروف الاقتصادية، وكذلك ما ارتبط به من تطور عام اجتماعيًّا واقتصاديًّا، إضافةً لانتشار التعليم بين الذكور والإناث على حد سواء، كذلك دخول المرأة للعمل خارج المنزل أو تقبل هذا الخروج، وكذلك ما طرأ من تحول في وظائف أفراد الأسرة، كل تلك العوامل هيأت بطريقة مباشرة وغير مباشرة لانتشار هذه الظاهرة، وعلى الرغم من انتشار ظاهرة العمالة المنزلية في المُجْتَمع العربي السعودي بين الأسر إلى حد عد بَعْضُ هذه الأسر أنَّ العمالة المنزلية حاجةٌ أساسية لا يمكن الاستغناءُ عنها، إلا أن هناك أُسَرًا أخرى لم تدخل تجربة العمالة المنزلية ومازالت تقوم بواجباتها المنزلية دون الحاجة إلى الاستعانة بأيْدٍ غريبة، والسؤال الذي يثار في هذا الصدد هو هل هناك فروق بين الأسر قد تساعد جزئيًّا في بناء إطار نظري لتحديد العوامل المرتبطة باستخدام العمالة المنزلية؟ فالمعرفة بالخصائص الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية للأسر المستخدِمة وغير المستخدِمة للعمالة المنزلية يمكن أن تسهم في صياغة إطار نظري لهذه الظاهرة.
فرضيات البحث:
تحاول هذه الدراسة بصفة عامة تَقَصِّي العواملِ المؤدية إلى استخدام العمالة المنزلية من خلال تقصي الفروقِ بين الأسر المستخدِمة وغير المستخدِمة للعمالة المنزلية، وتحاول هذه الدراسةُ بِشَكْلٍ خاصٍّ اختبارَ الفَرْضِيَّات التَّاليَة:
(أ) الفرضيات الاجتماعية والاقتصادية:(/11)
وتتمثل هذه الفرضياتُ في الخصائص الاجتماعيَّة والاقتصادية للأسرة، وتشمل هذه الخصائصُ المتغيرات التالية؛ المستوى التعليمي للزوج والزوجة، نسبة الأُمِّيِّينَ في الأسرة، نسبة العاملين في الأسرة، نسبة العاملات في الأسرة، دخل الزوج، دخل الزوجة، دخل الأسرة، نوع المنزل، ملكية المنزل ونوع الحي.
تعد الخصائص الاجتماعية والاقتصادية للأسرة من العوامل المهمة في تحديد القدرة على استخدام العاملة المنزلية، وتحديد الحاجة إليها.
فالمستوى التعليميُّ للزوجَيْنِ على سبيل المثال يمكن أن يؤثر في ظاهرة استخدام العاملة المنزلية بشكل مباشر وبشكل غير مباشر، فالزَّوْجَانِ المُتَعَلِّمَانِ يُمْكِنُ أن يكونا أكثر استخدامًا للعاملة المنزلية للقيام بالمهام المنزلية، وصرف اهتمام أفراد الأسرة للتعليم، كما أن المستوى التعليمي للزوجين يمكن أن يؤثر في المستوى الاقتصادي للأسرة، وبالتالي في قدرتها على الوفاء بالالتزامات الماليَّةِ لِلْعامِلَةِ المنزلية.
كذلك الحال مع متغير نسبة الأُمِّيِّينَ، كما أَنَّ نِسْبَةَ العاملين والعاملات يمكن أن تؤثر في مدى استخدام العاملة المنزلية، فالأسر التي ترتفع فيها نسبة العاملين والعاملات تكون حاجتُها إلى مَنْ يُسَاعِدُهَا في تدبير شؤون المنزل أكثر إلحاحًا، كما تكون أقدر على الوفاء بالأعباء المالية للعاملة المنزلية.
أمَّا بالنسبة للمُتَغَيِّرات الاقتصادية كدخل الزوج ودخل الزوجة فيؤثر بطريقة مباشرة؛ فارتفاع الدخل يجعل الأسرة أقدرَ على دَفْعِ تكاليف العاملة المنزلية، وإذا كان للزوجة دخل خاص فَإِنَّ ذَلِكَ قد يؤثر تأثيرًا مُهِمًّا في استخدام العاملة المنزلية؛ لأنها هي المعنيَّة بالأعباء المنزلية.(/12)
أما بالنسبة لمتغيرات المنزل، كنوع المنزل، وملكية المنزل ونوع الحي، فبالإضافة إلى أنها تعكس جوانبَ اقتصاديةً للأسرة، فَنَوْعُ المنزل يمكن أن يحدِّدَ مدى الحاجة للعاملة المنزلية فالأسر التي تقطُنُ قُصورًا أو "فللاً" تكون في حاجة أكبرَ من الأسر التي تقطُنُ شُقَقًا ومساكن شعبية، فالقصور و"الفلل" تتعدد فيها الفراغات وتتطلب جهودًا أكبرَ للعناية بها من الشقق والمساكن الشعبية، أمَّا نَوْعُ الحيّ فَيُمْكِنُ أن يؤثر من خلال المحاكاة، فالأحياء التي يقل فيها استخدام العمالة المنزلية تكونُ الأسرة فيها أقلَّ عرضةً للمحاكاة في استخدام العمالة المنزلية من الأسر التي تقطُنُ أحياءً ترتفع فيها نسبةُ استخدام العمالة المنزلية، أضف إلى ذلك أن الأحياء تَتَفَاوَتُ في نوعية المساكن؛ إذ تنتشر "الفلل" والقصور في الأحياء الراقية بينما تنتشر المساكن والشقق الصغيرة في الأحياء الشعبية (الخليفة، 1411هـ، ص: 185)، وفي ضَوْءِ ذَلِكَ تَمَّتْ صِيَاغَةُ الفَرْضِيَّاتِ التَّالِيَةِ:
1- يُؤَدِّي اخْتِلافُ المستوى التعليميِّ لِرَبِّ الأُسْرَةِ إلى فُرُوقٍ جَوْهَرِيَّةٍ ذَاتِ دَلالَةٍ إِحْصائِيَّةٍ بَيْنَ الأُسَرِ في استِخْدامِ العِمالَةِ المَنْزِلِيَّةِ.
2- يؤدِّي اختلافُ المستوى التعليمي لربَّة الأسرة إلى فروق جوهرية ذات دَلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
3- يؤدي اختلاف نسبة العاملين في الأسرة إلى فُروق جوهرية ذات دَلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
4- يؤدي اختلاف نسبة العاملات في الأسرة إلى فُروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
5- يؤدي اختلاف نسبة الأميين في الأسرة إلى فُروق جوهرية ذات دَلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
6- يؤدي اختلاف دخل ربّ الأسرة إلى فُروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.(/13)
7- يؤدي اختلاف دخل ربَّة الأسرة إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
8- يؤدي اختلاف نوع المنزل الذي تقطُنه الأسرة إلى فُروق جوهرية ذات دَلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
9- يؤدي اختلاف نَوْعِ ملكية المنزل الذي تقطُنُه الأسرة إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
10- يؤدِّي اختلافُ الحيِّ الذي تعيش فيه الأسرة إلى فُروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
(ب) الفرضيات الديموغرافية والثقافية:
وتَتَمَثَّلُ هَذِهِ الفَرضيات في الخصائص الديموغرافية والثقافية للأسرة وتشمل هذه الخصائص المتغيّرات التالية؛ حجم الأسرة، نمط الأسرة، مكان نشأة رب الأسرة، عمر الزوج، عمر الزوجة، نسبة الأطفال دون السادسة، نسبة كبار السِّنِّ، وجود متقاعدين في الأسرة، وجود معوقين. تُؤَثِّرُ هذه المتغيرات في حاجة الأسرة إلى استخدام العمالة المنزلية، فَحَجْمُ الأسرة الكبير، وارتفاع نسبة الأطفال دون السادسة من العمر يمكن أن تؤثر في الأسرة إيجابيًّا في استخدام العمالة المنزلية.
أمَّا نمط الأسرة من حيثُ كونُها ممتدة أو نَوَوِيَّة فيمكن أن تؤثر في استخدام العمالة المنزلية من حيثُ إِنَّ الأُسْرَةَ الممتدة تكونُ أقلَّ حاجة لاستخدام العمالة المنزلية نتيجةً لكثرة أفراد الأسرة الذين يمكن أن يتقاسموا المهمات المنزلية، بِعَكْسِ الأسرة النووية والتي عادةً ما تقع أعباء الأعمال المنزلية على الزوجة وَحْدَهَا.(/14)
أمَّا عمر الزوج وعمر الزوجة فيمكن أن يرتبطا إيجابيًّا باستخدام العمالة المنزلية، فمن ناحية فإن كبر عُمر الزوجة يَجْعَلُها غَيْرَ قادِرَةٍ على القيام بالمهامِّ المنزلية، ومن ناحية أخرى فإن كِبَرَ عمر الزوجين يجعلهما عادة أَقْدَرَ على تحمُّل الالتزامات الماليَّة المترتبة على استخدام العمالة المنزلية، أمَّا بالنِّسبة لوُجُود كبار السِّنِّ أوْ مُتَقَاعِدِينَ أو معوقين، فإنَّ وُجُودَ هذه الفئات في الأسرة يجعلها في حاجة إلى من يُسَاعِدُهَا في القيام بالواجبات المنزلية، وخدمة هذه الفئات في أُمورِها الشَّخْصِيَّةِ.
أمَّا بِالنِّسْبَةِ لمكان نشأة رب الأسرة، فَإِنَّ أربابَ الأُسَرِ الَّذِينَ نَشَأُوا في المناطق الريفيَّة يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ تَحَرُّجًا من وجود العاملة المنزلية ممن نشأوا في المناطق الحضرية، وذلك لأن العادات والتقاليد التي لا تحبذ وجود أجنبية في الأسرة عادة ما تكون أقوى في القرى والأرياف مما هي عليه في المناطق الحضرية. وعلى هذا الأساس تمت صياغة الفرضيات التالية:
1- يؤدي اختلاف حجم الأسرة إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
2- يؤدي اختلاف الأسرة في نسبة الأطفال دون السادسة إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
3- يؤدي اختلاف نمط الأسرة إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
4- يؤدي اختلاف حجم كبار السن في الأسرة إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
5- يؤدي اختلاف الأسرة في وجود المتقاعدين إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
6- يؤدي اختلاف الأسرة في وجود معوقين إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.(/15)
7- يؤدي اختلاف عمر رب الأسرة إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
8- يؤدي اختلاف عمر ربة الأسرة إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
9- يؤدي اختلاف مكان نشأة رب الأسرة إلى فروق جوهرية ذات دلالة إحصائية بين الأسر في استخدام العمالة المنزلية.
إجراءات البحث المنهجية:
في ضَوْءِ ما سَبَقَ يتضح أن هذه الدراسةَ تسعى إلى التعرف على تأثير مجموعة من المتغيرات التي تعكس خصائص الأسرة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والديموغرافية في ظاهرة استخدام الأسر للعمالة المنزلية النسائية (الخادمات)؛ وعليه فإِنَّ وحدة التحليل في هذه الدراسة تتمثل في الأسرة السعودية المقيمة في مدينة الرياض، بقطع النظر عن وجود خادمة أو أكثر في المنزل أم لا. ويرجع سبب اقتصار الدراسة على الأسر السعودية رغم وجود نسبة لا بأس بها في الأسر غير السعودية (45%) إلى أنَّ هذه الظاهرةَ خاصَّةٌ بالأسر السعودية دون غيرها؛ إذ منَ النادِرِ وجود أسر غير سعودية لديها خادمات للقيام بالأعباء المنزلية للأسرة.
مجتمع البحث والبيانات:
تعد مدينة الرياض – عاصمة المملكة العربية السعودية وأكبر مدنها سكانًا – الإطار الجغرافي لهذا البحث، في حين يتمثل المجتمع الإحصائي للدراسة في مجموعة الأسر السعودية المقيمة في مدينة الرياض عام 1407هـ 1987م بقطع النظر عن وجود خادمة أو أكثر أم لا لدى هذه الأسر.(/16)
ومن الجدير بالذكر أن بيانات البحث اللازمة لاختيار فروض البحث قد تم تأمينُها من بيانات المسح السكاني والاقتصادي واستعمالات الأراضي الذي أجرته الهيئةُ العليا لتطوير مدينة الرياض في الفترة ما بين أكتوبر 1986م حتى نهاية يناير من عام 1987م (6-1:, PP 1987HCFDR). هذا وقد اعتمد هذا المسح على عينة طبقية متعددة المراحل قوامها 5058 أسرة منها 55% أسر سعودية و45% أسر غير سعودية. وقد بلغت نسبة الأسر السعودية التي يوجد لديهِنَّ خادمات نحو 23% في حين بلغت نسبة الأسر التي لا يوجد لديهِنَّ خادمات نحو 77% تقريبًا، وَقَدِ اشتمل هذا المسح على العديد من البيانات الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية والثقافية مما جعل منها مصدرًا أساسيًّا لقياس متغيرات هذه الدراسة.
التعريف الإجرائي للمتغيرات:
في ضَوْءِ ما تَقَدَّمَ فإنه يمكن تقسيم متغيرات البحث إلى قسمين رئيسيْنِ، أولهما المتغير التابع الذي يمثل الظاهرة محور البحث، أما القسم الآخر فَيَتَمَثَّلُ في مجموعة من المتغيرات التي يفترض أنها تفسر تلك الظاهرة، أو ترتبط بها على الأقل.
فأما المتغير التابع فَيَتَمَثَّلُ في استخدام الأسر للعمالة النسائية المنزلية (الخادمات)، وقد تم قياس هذا المتغير من خلال تصنيف الأسر إلى صنفين: أحدهما الأسر المستخدمة للعمالة المنزلية؛ أي تلك التي يوجد لديها خادمة أو أكثر تعمل في المنزل، أما الثاني فَيَتَمَثَّلُ في الأسر غير المستخدمة للعمالة المنزلية؛ أي تلك التي لا يوجد لديها خادمة للعمل في المنزل.
أمَّا المتغيرات المستقلة فيمكن تصنيفها في صنفين: أحدهما المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، أما الصنف الثاني فهو المتغيرات الديموغرافية والثقافية.(/17)
أمَّا المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية فتتمثل في كل من الدخل الشهري لرب الأسرة، الدخل الشهري لربة الأسرة، نوع المنزل، ملكية المنزل، نوع الحي[5] الذي يقع فيه منزل الأسرة، المستوى التعليمي لرب الأسرة، المستوى التعليمي لربة الأسرة، نسبة العاملين من أفراد الأسرة، نسبة العاملات من أفراد الأسرة. أما المتغيرات الديموغرافية والثقافية فتتمثل في كل من حجم الأسرة، نمط الأسرة، مكان النشأة[6] لرب الأسرة، عمر رب الأسرة، عمر ربة الأسرة، نسبة الأطفال (دون سن السادسة) في الأسرة، نسبة المسنين (فوق سن الخامسة والستين) في الأسرة، وجود متقاعدين في الأسرة، وجود معاقين في الأسرة.
هذا وقد روعي في تحديد هذه المتغيرات المستويات العليا منَ الدِّقَّة في القياس كالمستوى التدريجي والمستوى النسبي (ratio and interval level )، أما متغيرات نوع المنزل، نمط الأسرة، ملكية المنزل، دخل رب الأسرة، دخل ربة الأسرة، المستوى التعليمي لربَّيِ الأسرة كلٌّ على حدة، مكان ولادة رب الأسرة، فقد تم استخدامها في التحليل متعدد التغاير كمتغيرات صورية (dummy variables) حيث يمثل الفئات المرجعية (أي تلك التي تحل القيمة صفر) لهذه المتغيرات، الفئات الآتية على التوالي: الأحياء الشعبية لمتغير نوع الحي، شعبي لنوع المنزل، والأسر غير النووية لمتغير نوع الأسرة، مستأجر لمتغير ملكية المنزل، المستوى المنخفض من الدخل لرب الأسرة، المستوى المنخفض من التعليم لكل من متغيري رب الأسرة وربة الأسرة كلٌّ على حدة، أرباب الأسر المولودين في التجمعات السُّكَّانية الريفية لمتغير التحضر.
أما بقية المتغيرات المقاسة على المستوى الاسمي أو الترتيبي فقدِ اسْتُبْعِدَتْ من التحليل متعدد التغاير لأسباب سيتم توضيحها لاحقًا.(/18)
هذا، ولتحليل هذه البيانات واستخلاص النتائج فَسَنَعْتَمِدُ على نَوْعَيْنِ من التحليل: أحدهما التحليل الثنائي، الذي يقوم على التعرُّف على أثر كل متغير مستقل على حدة في المتغير التابع من خلال الجداول الثنائية والمقاييس الإحصائية الخاصة بتلك الجداول لتحديد العلاقة بين هذه المتغيرات، أما الثاني فيتمثل في تحليل الانحدار اللوجستيكي (Logistic Regression) الذي يمكن من التعرف على الأثر الخالص لكل متغير مستقل في المعادلة الانحدارية في استخدام الأسرة للعمالة المنزلية النسائية وذلك بعد ضبط أثر المتغيرات المستقلة الأخرى في النموذج.
التحليل والنتائج:
مِمَّا سَبَقَ يَتَبَيَّنُ أنَّ هذه الدراسةَ تسعى إلى اختبار الفروض التي سَبَقَ توضيحها أعلاه والتي تشير إلى وجود فوارق واختلافات جوهرية بين الأسر التي تستخدم العمالة المنزلية النسائية وتلك الأسر التي لا تستخدم هذا النمط من العمالة في عدد من الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والتي سبق ذِكْرُهَا.
ولاختبار ذلك سنعتمد على نوعين من التحليل: أحدهما التحليل ثنائي الارتباط الذي سيسهم في التعرُّف على اختلاف الأسر في استخدام العمالة النسائية المنزلية باختلاف مستوياتها حسب المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية والثقافية كُلٌّ على حدة (الجدول رقم 1)، أما الآخر فيتمثل في تحليل الانحدار اللوجستيكي الذي سيساعد على تحديد الأثر الخالص لكل متغير من المتغيرات المستقلة في العمالة المنزلية النسائية بَعْدَ الأَخْذِ في الحُسْبَانِ بأثر المتغيرات المستقلة الأخرى في النموذج (الجدول رقم3).(/19)
فأما الجدول رقم (1) فيوضح توزيع الأسر حسب استخدام العمالة المنزلية النسائية (الأسر التي يوجد لديها خادمة أو أكثر في مقابل الأسر التي لا يوجد لديها أية خادمة للقيام بالأعباء المنزلية)، وحسب مستويات كل من المتغيرات المستقلة الموضحة أعلاه. هذا وبالتمعن في الجدول المذكور نلاحظ أن علاقة كل متغير من المتغيرات المستقلة باستخدام العمالة النسائية المنزلية قد جاءت إلى حد كبير طبقًا لنص الفرض.
فأما المتغيرات المستقلة التي جاءت علاقتها بالمتغير التابع طبقًا لفرضية البحث، فتشمل كلًّا مِنْ دَخْلِ رَبِّ الأسرة وَدَخْلِ رَبَّةِ الأسرة؛ إذ نلاحظ أن وجود خادمة أو أكثر لدى الأسرة يرتبط بارتفاع مستويات الدخل لكلا الزوجين؛ حيث إن نسبة الأسر التي يوجد لديها خادمة أو أكثر ترتفع تدريجيًّا مع ارتفاع مستوى الدخل لكلا الزوجين، إذ تتراوح هذه النسبة ما بين 51.5% لدى الأسر التي تتميز بارتفاع دخل رب الأسرة فيها إلى نحو 14.1% لدى الأسر التي تتميز بانخفاض دخل رب الأسرة فيها، والحال نفسُها بالنسبة لِدَخْلِ ربة الأسرة؛ إذ تتراوح هذه النسبة ما بين 50% لدى الأسر التي تتميز بارتفاع دخل ربة الأسرة فيها إلى نحو 17.9% لدى الأسر التي تتميز بانخفاض دخل ربة الأسرة فيها. ويقف على طرف نقيض من ذلك الأسرُ التي لا يُوجَدُ لديها خادمة؛ إذ ترتفع نسبة هذه الأسر تدريجيًّا مع انخفاض مستوى الدخل الشهريِّ لكلا الزوجين.(/20)
كما يتضح أيضًا ارتباطُ وجود خادمة أو أكثر لدى الأسرة بالمساكن الحديثة كالفلل والشقق بنسبة تفوق المساكن التقليدية كالمنازل الشعبية والمسلح؛ حيث بلغت النسبة 29.4% و10.5% للأسر التي تقطُن "الفلل" والشُّقَقَ على التوالي في مقابل 2.5% و8.2% للأسر التي تعيش في المنازل الشعبية وبيوتِ المسلح. كما ترتبط الظاهرة أيضًا بملكية المنزل حيث ترتفع نسبة الأسر التي يوجد لَدَيْهَا خادِمَةٌ أو أكثر لدى الأسر التي تملك مساكنها (28.1%) مقارنة بـ 12% للأسر المستأجِرَةِ للمساكن التي تعيش بها. والشيءُ نفسُه يَنْدَرِجُ على نَوْعِ الحي الذي يقع فيه مسكن الأسرة؛ إذ ترتفع نسبة الأسر التي يوجد لديها خادمة أو أكثر ارتفاعًا تدريجيًّا مع ارتفاع مستوى الحي، حيث تراوحت هذه النسبة ما بين 40.4% لدى الأسر التي تقع منازِلُها في أحياءٍ راقيةٍ مقارنة بـ 18.3% و16.1% لدى الأُسَرِ التي تقع منازلها في أحياء متوسطة وشعبية على التوالي.
كما تتأثر هذه الظاهرة طَرْدِيًّا بالمستويات التعليمية لكلا الزوجين؛ فمن الملاحظ ارتفاع نسبة الأسرة التي يوجد لديها خادمة أو أكثر بارتفاع المستوى التعليميِّ لكلا الزوجين، إذ بلغت هذه النسبة نحو 44% ، 31.8% ، 24.6% لدى الأسر التي يحمل رب الأسرة الشهادة الجامعية فما فوق، والشهادة الثانوية، والشهادة المتوسطة على التوالي، في حين لم تتجاوز النسبة نحو 14.6% ، 16.5% ، 9.6% ، 12.1% لدى الأسر التي يحمل رب الأسرة الشهادة الابتدائية، أو أنه يستطيع أن يقرأ ويكتب، أو أنه لا يستطيع إلا القراءة فقط، أو رب الأسرة غير المتعلم على التوالي.(/21)
والحال نفسُها تنطبق على المستوى التعليمي لربة الأسرة؛ إذ ترتفع نسبة الأُسر التي يوجد لديها خادمة أو أكثر بارتفاع المستوى التعليمي لربة الأسرة إذ بلغت هذه النسبة نحو 64% ، 43.5% ، 27.7%، لدى الأسر التي تحمل ربة الأسرة الشهادة الجامعية فما فوق، والشهادة الثانوية، والشهادة المتوسطة على التوالي، في حين لم تتجاوز النسبة نحو 21.4% ، 22.7%، 22.7%، 15.9%، لدى الأسر التي تحمل ربات الأسر الشهادة الابتدائية، أو أنها تستطيع القراءة والكتابة، أو أنها لا تستطيع إلا القراءة فقط، أو ربة الأسرة غير المتعلمة على التوالي.
وفيما يتعلق بنسبة العاملات في الأسرة فإنه من الملاحظ كما هو متوقع أن استخدام الأسر للعمالة المنزلية النسائية يتأثر طرديًّا بنسبة العاملات في الأسرة؛ حيث ترتفع نسبة الأسر التي يوجد لديها خادمة أو أكثر لدى الأسر المتميزة بارتفاع نسبة العاملات، فقد بلغت هذه النسبة نحو 69.1% في حين لم تتجاوز تلك النسبة لدى الأسر التي يوجد لديها خادمة أو أكثر، والتي تنخفض فيها نسبة العاملات خارج المنزل نحو 20.3% فقد.
هذا، وإذا ركزنا على قيم معامل "كريمر" للارتباط بين كل متغير من هذه المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية وبين استخدام الأسرة للعمالة المنزلية النسائية وقيم امتحان "كاي تربيع" ومستوى دلالاتها لتلك العلاقات نلاحظ أن "كاي تربيع" لعلاقة غالبية تلك المتغيرات باستخدام العمالة المنزلية قد جاءت دالَّةً إحصائيًّا عند مستوى الدلالة المقبول عادة في العلوم الاجتماعية (0.05 فما دون)، إذ تراوحت تلك القيم ما بين 4.27 كما هو الحال مع متغير نمط الأسرة إلى نحو 204.89 كما هو الحال مع متغير نسبة العاملات في الأسرة. ولم يخرج عن ذلك إلا متغيران هما كل من نسبة المتعلمين ونسبة العاملين، إذ أن قيم "كاي تربيع" لهذين المتغيرين لم تكن دالة إحصائيًّا عند مستوى 0.05.(/22)
أما قيم معامل "كريمر" للارتباط فقد تراوحت ما بين 0.01 كما هو الحال مع متغير نسبة العاملين في الأسرة إلى نحو 0.27 كما هو الحال مع متغيري دخل ربة الأسرة ونسبة العاملات في الأسرة، مما يمكن أن يستدل منه أن ظاهرة استخدام العمالة المنزلية النسائية تتأثر إلى حَدٍّ كبير بالخصائص الاقتصادية للنساء في الأسرة مقارنة ببقية المتغيرات الأخرى. ومن ذلك يمكن أن نقول: إن ثمانية من الفروض الخاصة بعلاقة الخصائص الاجتماعية والاقتصادية باستخدام العمالة المنزلية النسائية قد لاقت تأييدًا قويًّا، أمَّا الفرضَيْنِ المتبقيَيْنِ (والخاصة بمتغيرات نسبة المتعلمين ونسبة العاملين) فلم يُثْبِتِ التحليل الثنائي صِحَّةَ تلك الفروض.
أما فيما يتعلق بالمتغيرات الديموغرافية والثقافية فنلاحظ من الجدول رقم (1) أيضًا أن ظاهرة استخدام العمالة النسائية المنزلية تتأثر إلى حد كبير أيضًا بمعظم تلك المتغيرات.
ففيما يخص متغيري حجم ونمط الأسرة نلاحظ بوضوح ارتفاع نسبة الأسر التي يوجد لديها خادمة أو أكثر لدى الأسر المتميزة بِكِبَرِ حجمها، ولدى الأسر الممتدة في مُقَابِلِ الأُسَرِ الصغيرة والنووية. فمِنَ الملاحظ من الجدول أن نسبة الأسر التي يوجد لديها خادمة أو أكثر ترتفع تدريجيًّا مع ازدياد حجم الأسر، فقد تراوحت النسبة ما بين 31.5% للأسر التي يبلغ حجمها 9 أفراد فما فوق إلى نحو 23.3% و 6.5% للأسر التي يبلغ حجمها ما بين 5-8 أفراد وللأسر التي يبلغ حجمها ثلاثة أفراد فما دون على التوالي. كما ترتفع نسبة الأسر التي يوجد لديها خادمة أو أكثر لدى الأسر الممتدة مقارنة بالأسر النووية، ففي حين بلغت نسبة الأسر الممتدة التي يوجد لديها خادمة أو أكثر نحو 25.6% نلاحظ أن الأسر النووية التي يوجد لديها خادمة أو أكثر لم تتجاوز نسبتها 22%.(/23)
كما يتبين من الجدول المذكور أن ظاهرة استخدام العمالة النسائية المنزلية تتأثر بالخصائص الحضرية لرب الأسرة؛ فمن الملاحظ أنها ترتفع بشكل ملحوظ لدى أرباب الأسر المولودين في المراكز الحضرية مقارنة بنظرائهم الريفيين. ففي حين بلغت نسبة الأسر المستخدمة للعمالة المنزلية لدى الأسر التي ولد أربابها في المدن نحو 29.6% نلاحظ انخفاض تلك النسبة لدى الأسر التي ولد أربابها في القرى لتصل إلى نحو 19.2%.
كما تَتَأَثَّرُ ظاهرة استخدام العمالة النسائية المنزلية بالخصائص العمْرية لربي الأسرة؛ فمن الملاحظ من الجدول المذكور أن ظاهرة استخدام العمالة النسائية المنزلية تتناسب طرديًّا وتدريجيًّا مع ارتفاع عُمْرِ كلٍّ من رب وربة الأسرة؛ ففي حين بلغت نسبة الأسر المستخدمة للعمالة المنزلية لدى الأسر المتميزة بتقدم عمر رب الأسرة (51 عامًا فما فوق) نحو 27.8% نلاحظ أن هذه النسبة تأخذ في الهبوط التدريجي لدى كل من الأسر التي يبلغ عمر رب الأسرة ما بين 31 إلى 50 عامًا، ولدى الأسر التي يقل عمر رب الأسرة فيها عن 31 عامًا فقد بلغت على التوالي نحو 25% و 13.6% والحال نفسه فيما يخص عمر ربة الأسرة؛ فقد بلغت نسبة الأسر المستخدمة للعمالة المنزلية لدى الأسر المتميزة بتقدم عمر ربة الأسرة (51 عامًا فما فوق) نحو 31.8% نلاحظ أن هذه النسبة تأخذ في الهبوط التدريجي لدى كل من الأسر التي يَبْلُغُ عُمْرُ ربة الأسرة ما بين 31 إلى 50 عامًا ولدى الأسر التي يقل عمر ربة الأسرة فيها عن 31 عامًا فقد بلغت على التوالي نحو 28.9% و17.2%.
أما عن نسبة الأطفال ووجود كبار سِنٍّ ومُتَقَاعِدِينَ ومعوَّقين في الأسرة فيكشف الجدول المذكور عن أنَّ ظاهرة استخدام العمالة النسائية المنزلية تَتَأَثَّرُ بغالبية هذه الخصائص.(/24)
إذ نلاحظ على وجه الخُصُوصِ أَنَّ الأُسَرَ التي تتميز بوجود كبار السِّنِّ والمتقاعدين أكثرُ ميلاً لاستخدام العمالة المنزلية مقارَنَةً بالأسر التي لا يوجد بها كبار سن أو متقاعدون، ففي حين بلغت نسبة الأسر المستخدمة للعمالة المنزلية النسائية والتي يوجد بها كبار سن نحو 30.7% نلاحظ أن هذه النسبة لدى الأسر التي ليس لديها كبار سن نحو 25.9%.
والحال كذلك بالنسبة لوجود مُتَقَاعِدِينَ بالأسرة ففي حين بلغت نسبة الأسر المستخدمة للعمالة المنزلية النسائية والتي يوجد بها متقاعدون لم يتجاوز نحو 21.9%.
والوضع نفسه يمكن أن يقال إلى حد ما فيما يتعلق بوجود معاقين لدى الأسرة، فقد بلغت نسبة الأسر المستخدمة للعمالة المنزلية النسائية والتي يوجد بها معوقون نحو 25.3% في حين أن هذه النسبة لدى الأسر التي ليس لديها كبار سن نحو 22.4%.
هذا، وإذا ركزنا على قيم متغير من المتغيرات الديموغرافية والثقافية وعلى قيم امتحان "كاي تربيع" ومستوى دَلالتها لتلك العلاقات نلاحظ أن "كاي تربيع" لعلاقة غالبة تلك المتغيرات باستخدام العمالة المنزلية قد جاءت دالَّةً إحصائيًّا عند مستوى الدَّلالة المقبول عادة في العلوم الاجتماعية (0.05 فما دون)، إذ تراوحت تلك القيم ما بين 4.27 كما هو الحال مع متغير نمط الأسرة إلى نحو 135.01 كما هو الحال مع متغير حجم الأسرة. ولم يخرج عن ذلك إلا متغيران هما كل من متغير نسبة الأطفال ومتغير وجود معاقين في الأسرة إذ أن قيم "كاي تربيع" لهذه المتغيرات لم تكن دالة إحصائيًّا عند مستوى 0.05.(/25)
أما قيم معامل "كريمر" للارتباط فقد تراوحت ما بين 0.01 كما هو الحال مع متغيري وجود معاقين في الأسرة ونسبة الأطفال في الأسرة إلى نحو 0.22 كما هو الحال مع متغير حجم الأسرة، مما يمكن أن يستدل منه أن سبعة من الفروض المتعلقة بالخصائص الديموغرافية والثقافية قد لاقت تأييدًا واضحًا، أما الفرضيتان الأخريان والخاصتان بكل من متغير نسبة الأطفال ومتغير وجود معاقين في الأسرة فقد أوضح التحليل الثنائي عدم صحتهما، مما يدل على أن ظاهرة استخدام العمالة المنزلية النسائية لا تتأثر بهذين المتغيرين من بين بقية المتغيرات الديموغرافية والثقافية المدروسة.
هذا فيما يخص التحليل ثنائي الارتباط، أما فيما يتعلق بالنوع الثاني من التحليل والمتمثل في التحليل اللوجستيكي فتجدر الإشارة إلى بعض الإحصائيات الوصفية الخاصة بالمتغيرات المقيسة على المستوى التدريجي والنسبي وذلك لإعطاء تصور على مدى تباين الأسر المدروسة في هذه المتغيرات.
هذا والجدول رقم (2) يحتوي على تلك الإحصائيات الوصفية لعشرة من المتغيرات المستقلة. من الجدول يتضح أن الأسر تتباين تباينًا شديدًا في أعمار أرباب وربات الأسر وعدد العاملين بالأسرة وحجم الأسرة وعدد الأطفال بالأسرة فقد بلغ الانحراف المعياري لتلك المتغيرات 13.02، 9.41، 4.4، 3.71، 1.49 على التوالي، أما بقية المتغيرات فلم تبلغ حدة تباينها ذلك المستوى إذ يتراوح انحرافها المعياري ما بين 0.19 كما هو الحال لمتغير عدد المعوقين في الأسرة إلى نحو 0.32 كما هو الحال لمتغير عدد كبار السن في الأسرة. ومن المتوقع أن يترك مدى التباين في تلك المتغيرات انعكاسًا واضحًا على مدى تأثير تلك المتغيرات في استخدام الأسرة للعمالة المنزلية النسائية كما سَنُلاحِظُهُ أدناه.(/26)
أمَّا ما عدا ذَلِكَ من متغيِّرات الدراسة المستقلَّة والبالغ عددها أَحَدَ عَشَرَ متغيِّرًا والمنتظمة في الجدول رقم (1) فَلَمْ نُورِدْ لها أَيَّةَ إحصاءات وصفية هنا؛ نظرًا لأنه تم التعامل معها في تحليل الانحدار اللوجستيكي اللاحق ذِكْرُهُ كمتغيرات صورية؛ لأنها متغيرات مقيسة على المستوى الاسمي أو الترتيبي أساسًا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه تم استبعاد عدد من المتغيرات المُسْتَقِلَّة المقيسة على المستوى الاسمي والترتيبي من تحليل الانحدار اللوجستيكي كدخل ربة الأسرة، وذلك لعدم التناسب بين فئات هذا المتغير ذي الفئتين (dichotomy)؛ فمن الملاحظ كما هو في الجدول رقم (1) أن معظم الأسر تتركز إلى حد كبير في أحد فئتي هذا المتغير دون الفئة الأخرى (أي في فئة الدخل المنخفض لربة الأسرة لاشتمال هذه الفئة على رباب البيوت اللواتي ليس لهن دخول واللواتي يمثلن الشريحة الكبرى من ربات البيوت حيث بلغ عدد ربات البيوت اللواتي لهن دخول شهرية نحو 266 من بين 2732، فَمِنَ الملاحظ هنا أَنَّ مُعَدَّلَ عدد الحالات لأحد فئتي هذا المتغير الصوري إلى عدد الحالات في فئة المرجعية (category reference) يقل عن (2/10) الأمر الذي يترتب على إدخال هذا المتغير الصوري في تحليل الانحدار نشوء مشكلة ما يعرف بالقيم المتطرفة متعددة التغاير (outliers multivariate) مما دعانا إلى استبعاده من تحليل الانحدار (انظر:67 :,p 1989 tabachnik & fidell) . والحال كذلك بالنسبة لمتغير عدد الأطفال في الأسرة؛ إذ تم استبعاده من تحليل الانحدار اللوجستيكي؛ لارتباطه ارتباطًا عاليًا بمتغير حجم الأسرة (معامل بيرسون = 0.50)، وذلك لأن إدخال هذه المتغيرات في نموذج انحداري واحد يضمها مع تلك المتغيرات التي ترتبط بها ارتباطًا عاليًا ينتج عنه ما هو معروف بمشكلة تعدد التسامت (Multicollinearity) التي غالبًا ما تنعكس على عدم صحة المعاملات الانحدارية لتأثير(/27)
المتغيرات المنتظمة في النموذج الانحداري. وتجدر الإشارة إلى أن التحليل اللوجستيكي قد اقتصر على 2710 أسرة إذ تم استبعاد نحو 10 أسر من هذا التحليل وذلك لفقدان بعض بياناتها في بعض المتغيرات، كما استبعدت عشر أسر أُخْرى تفاديًا لمشكلة القيم المتطرفة متعددة التغير التي تمَّ اكتشافُها من خلال فحص القيم غير المفسرة من التباين (RESUDALS) واستخدام المقاييس الخاصة بكشف تلك المشكلة، انظر: (61 – b : p ,spss/pc Advanced stratistics).
هذا، وبالنظر إلى الجدول رقم (3) الذي يحتوي على إحصائيات تحليل الانحدار اللوجستيكي كمعامل الانحدار، الخطأ المعياري، امتحان "ووالد"، مستوى الدَّلالة، ومعامل الارتباط الجزئي، يتضح أن ثمانية من المتغيرات المستقلة (الأحياء الراقية، نوع المنزل، حجم الأسرة، عمر رب الأسرة، التعليم المرتفع لرب الأسرة، التعليم المتوسط لرب الأسرة، عدد العاملات في الأسرة، مكان ولادة رب الأسرة) ذات تأثير طردي ودال إحصائيًّا عند مستوى (0.05 فما دون) في استخدام الأسرة للعمالة النسائية المنزلية، مما يعني أنه كلما كانت الأسرة تعيش في أحياء راقية وتقيم في (فيلا) أو في شقة وكلما كبر حجم الأسرة وارتفع عمر رب الأسرة وكلما كان المستوى التعليمي للزوج متوسطًا ومرتفعًا وكلما زاد عدد العاملات فيها وكلما كان رب الأسرة مولودًا في المناطق الحضرية كلما كانت الأسرة أكثر ميلاً لاستخدام العمالة المنزلية النسائية. أما بقية المتغيرات المتمثلة في كل من (نمط الأسرة، عمر ربة الأسرة، دخل رب الأسرة، التعليم المتوسط لربة الأسرة، عدد المتعلمين في الأسرة، عدد المعوقين في الأسرة، عدد كبار السِّنِّ في الأسرة) فهي وإن كانت ذات تأثير إيجابي إلا أن ذلك التأثيرَ ليس قويًّا، حيث لم تحرز المعاملات الانحدارية لهذه المتغيرات المستوى المقبول من الدلالة المعنوية (0.05 فما دون).(/28)
كما يتضح أن اثنين من المتغيرات المستقلة (ملكية المنزل، التعليم المرتفع لربة الأسرة) ذات تأثير عكسي ودالٍّ إحصائيًّا عند مستوى (0.05 فما دون) في استخدام الأسرة للعمالة النسائية المنزلية، مما يعني أنه كلما كانت الأسرة تمتلك منزلها، وكلما كانت ربة الأسرة ذات تعليم مرتفع كلما كانت الأسرة أكثر ميلاً لعدم استخدام العمالة المنزلية النسائية. أما بقية المتغيرات المتمثلة في كل من (الأحياء المتوسطة، عدد العاملين في الأسرة) فهي وإن كانت ذات تأثير عكسي إلا أن ذلك التأثيرَ ليس قويًّا، حيث لم تحرز المعاملات الانحدارية لهذه المتغيرات المستوى المقبول من الدلالة المعنوية (0.05 فما دون).
هذا وإذا ركزنا على أي هذه المتغيرات الدالَّة إحصائيًّا أقوى تأثيرًا في استخدام الأسرة للعمالة المنزلية نلاحظ من خلال التركيز على قيم امتحان ووالد "wald" (الذي يمثل ناتج قسمة معامل الانحدار على قيمة خطئِه المعياري بعد ضرب الحاصل في نفسه) ومعامل الارتباط الجزئي (الذي يمثل المساهمة الخاصة لكل متغير على حدة بعد ضبط أو أخذ تأثير بقية المتغيرات المستقلة في النموذج في المتغير التابع) أن أقوى هذه المتغيرات هي على التوالي عدد العاملات في الأسرة، وحجم الأسرة، التعليم المرتفع لربة الأسرة، ملكية المنزل، التعليم المرتفع لرب الأسرة، التعليم المتوسط لرب الأسرة، الأحياء الراقية، حيث بلغت قيمة امتحان "ووالد" نحو 48.8، 74.6، 32.5، 31.8، 26.9، 14.5، 14.1. على التوالي، كما بلغت قيمة معامل الارتباط الجزئي لهذه المتغيرات نحو 0.41، 0.15، -0.10، -0.010، 0.09، 0.06، 0.060 على التوالي.(/29)
أما من حيث ملاءمةُ النموذج بكافة متغيراته (goodness of fit of the model) فيلاحظ من الجدول أن معظم الأسر قد تم التنبؤ بها من خلال النموذج حيث بلغت الأسر المتنبأ بها نحو 92.18% من مجموع الأسر المدروسة وهي نسبة عالية جدًّا، الأمر الذي يعني أنَّ نِسْبَةَ الخَطَأِ في التَّنَبُّؤِ ضئيلةٌ للغاية؛ إذ لم تَتَجاوَزْ نَحْوَ 7.82% من الأسر (أي نحو 212 من بين 2710 أسرة) كما أنَّ قيمة "كاي تربيع" البالغة 5238.12 دالة إحصائيًّا عند مستوى 0.0001 مما يشير إلى قوة ملائمة النموذج الانحداري اللوجستيكي للبيانات المستخدمة في الدراسة.
المناقشة والخلاصة:
سَبَقَتِ الإشارة إلى أن هذه الدراسة هدفت إلى التعريف على الخصائص الاجتماعية المرتبطة باستخدام الأسرة للعمالة المنزلية، وباستخدام مجموعة من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية والثقافية التي تعكس هذه الخصائصَ وتحليلَها وَفْقًا لمستويين من التحليل الإحصائي أحادي ومتعدد التغاير تبين لنا أهمية بعض هذه المتغيرات في ميل أو إحجام الأسرة عنِ استخدام العمالة النسائية المنزلية.
فعلى مستوى التحليل أحادي التغاير أوضحت الدراسة أن هذه الظاهرة تتأثر على وجه الخصوص بِكُلٍّ من نسبة العاملات في الأسرة، دخل رب الأسرة، مستوى تعليم رب الأسرة، مستوى تعليم ربة الأسرة، دخل ربة الأسرة، نوع المنزل ونوع الحي الذي تقيم فيه الأسرة، وحجم الأسرة، فقد تراوح معامل "كريمر" للارتباط لهذه المتغيرات ما بين 0.27 كما هو الحال لمتغير نسبة العاملات في الأسرة إلى نحو 0.22 كما هو الحال لمتغير حجم الأسرة.(/30)
أمَّا على مستوى التحليل متعدد التغاير والذي يساعد على تحديد الأثر الخاص بكل متغير على حدة بعد ضبط بقية المتغيرات الأخرى في النموذج، فقد تبين أن تسعة من بين تسعَةَ عَشَرَ متغيرًا ليست دالَّةً إحصائيًّا عند مستوى الدَّلالة المقبول في العلوم الاجتماعية (0.05 فما دون) إذ فقدت معظم هذه المتغيرات أهميتها نتيجة للضبط الإحصائي (statistical control) في التحليل اللوجستيكي. كما بين هذا التحليل الأهمية الخاصة لكل من متغيري عدد العاملات في الأسرة، وحجم الأسرة في دفع الأسر لاستخدام العمالة المنزلية النسائية، وكذلك الأهمية الخاصة لكل من ملكية المنزل والتعليم المرتفع لربة الأسرة، في صد الأسر عن استخدام الأسر للعمالة النسائية المنزلية؛ فقد تميزت هذه المتغيرات الأربعة بكبر قيم امتحان "ووالد" وقيم معامل الارتباط الجزئي الخاصة بها.
وعليه - وإذا ما وضعنا هذه النتائِجَ مع بعض في الحسبان -؛ فإنه يمكن القول إلى حد كبير: إِنَّ انتشار ظاهرةِ العمالة النسائية المنزلية في مدينة الرياض مرتبط بادئ ذي بدء بشكل مباشر بخروج المرأة إلى العمل ثم بازدياد عدد الأفراد بالأسرة. مما يعني أن استمرار هذه الظاهرة وارتفاع معدلاتها مستقبلاً أَمْرٌ متوقع في ضوء الازدياد المطرد في معدلات العمالة النِّسائية الوطنية، وفي ضوء المعدلات المرتفعة من الخصوبة الذي ينعكس بالضرورة على متوسط حجم الأسرة في المجتمع السعودي.(/31)
هذا، وتؤيد نتائِجُ هذا البحث دراسةَ مركز التخطيط والبحوث عن الظاهرة نفسها في دولة البحرين، والتي وجدت أنَّ المربيات الأجنبيات أكثرُ انتشارًا بين ذوي الدخول المرتفعة؛ إذ كشفت هذه الدراسة في تحليلها الثنائي أهمية دخل رب الأسرة ودخل ربة الأسرة في استخدام الأسرة للعمالة المنزلية النسائية، كما تشير نتائج التحليل الثنائي وتحليل الانحدار اللوجستيكي أن العمالة المنزلية النسائية أكثر انتشارًا في الأحياء الراقية من بقية الأحياء. كما تؤيد نتائج البحث بقوة ما ذهب إليه بدر العمر من أن عمل المرأة خارج المنزل يشكل أهمَّ الأسباب الكامنة وراء انتشار وتفاقُمِ ظاهرة العمالة المنزلية النسائية، فقد كشفت هذه الدراسة من خلال نوعي التحليل المستخدمة هنا أن متغير نسبة العاملات خارج المنزل هو أقوى المتغيرات على الاطلاق ارتباطًا وتأثيرًا في استخدام الأسرة للعمالة المنزلية النسائية.
جدول رقم (1) توزيع الأسر حَسَبَ وجود خادمة في المنزل وَحَسَبَ المتغيرات المستقلة
المتغيرات المستقلة ... فئات المتغيرات المستقلة ... لا توجد خادمة ... يوجد خادمة أو أكثر ... المجموع ... كاي تربيع ... مستوى الدلالة ... معامل كريمر للارتباط
1 ... دخل رب الأسرة ... 1- منخفض ... 85.9 ... 14.1 ... 588 ... 175.52 ... 0 ... 0.25
... ... 2- متوسط ... 80.2 ... 19.8 ... 1719 ... ... ...
... ... 3- مرتفع ... 48.5 ... 51.5 ... 295 ... ... ...
2 ... دخل ربة الأسرة ... 1- منخفض ... 82.1 ... 17.9 ... 78 ... 19.43 ... 0 ... 0.27
... ... 2- متوسط ... 53.3 ... 46.7 ... 184 ... ... ...
... ... 3- مرتفع ... 50 ... 50 ... 4 ... ... ...
3 ... نوع المنزل ... 1- شعبي ... 97.5 ... 2.5 ... 158 ... 156.9 ... 0 ... 0.23
... ... 2- مسلح ... 91.8 ... 8.2 ... 304 ... ... ...
... ... 3- فيلا ... 70.6 ... 29.4 ... 1843 ... ... ...(/32)
... ... 4- شقة ... 89.5 ... 10.5 ... 427 ... ... ...
4 ... ملكية المنزل ... 1- ملك ... 71.9 ... 28.1 ... 1776 ... 9.76 ... 0 ... 0.18
... ... 2- مستأجر ... 88 ... 12 ... 939 ... ... ...
5 ... نوع الحي ... 1- شعبي ... 83.9 ... 16.1 ... 1188 ... 154.77 ... 0 ... 0.23
... ... 2- متوسط ... 81.7 ... 18.3 ... 905 ... ... ...
تابع/جدول رقم (1) توزيع الأسر حسب وجود خادمة في المنزل وحسب المتغيرات المستقلة
المتغيرات المستقلة ... فئات المتغيرات المستقلة ... لا توجد خادمة ... يوجد خادمة أو أكثر ... المجموع ... كاي تربيع ... مستوى الدلالة ... معامل كريمر للارتباط
... ... 3- راقي ... 59.6 ... 40.4 ... 641 ... ... ...
6 ... مستوى تعليم رب الأسرة ... 1- غير متعلم ... 87.9 ... 12.1 ... 552 ... 195.27 ... 0 ... 0.26
... ... 2- يقرأ فقط ... 90.4 ... 9.6 ... 83 ... ... ...
... ... 3- يقرأ ويكتب ... 83.5 ... 16.5 ... 401 ... ... ...
... ... 4- ابتدائي ... 85.2 ... 14.8 ... 513 ... ... ...
... ... 5- متوسط ... 75.4 ... 24.6 ... 374 ... ... ...
... ... 6- ثانوي ... 68.2 ... 31.8 ... 406 ... ... ...
... ... 7- جامعي فما فوق ... 56 ... 44 ... 405 ... ... ...
7 ... مستوى تعليم ربة الأسرة ... 1- غير متعلمة ... 84.1 ... 15.9 ... 1089 ... 162.78 ... 0 ... 0.25
... ... 2- تقرأ فقط ... 77.3 ... 22.7 ... 97 ... ... ...
... ... 3- تقرأ وتكتب ... 77.3 ... 22.7 ... 396 ... ... ...
... ... 4- ابتدائي ... 78.6 ... 21.4 ... 318 ... ... ...
... ... 5- متوسط ... 72.3 ... 27.7 ... 238 ... ... ...
... ... 6- ثانوي ... 56.5 ... 43.5 ... 200 ... ... ...
تابع/جدول رقم (1) توزيع الأسر حسب وجود خادمة في المنزل وحسب المتغيرات المستقلة(/33)
المتغيرات المستقلة ... فئات المتغيرات المستقلة ... لا توجد خادمة ... يوجد خادمة أو أكثر ... المجموع ... كاي تربيع ... مستوى الدلالة ... معامل كريمر للارتباط
... ... 7- جامعي فما فوق ... 36 ... 64 ... 86 ... ... ...
8 ... نسبة المتعلمين في الأسرة ... منخفضة ... 76.3 ... 23.7 ... 1103 ... 1.69 ... 0.19 ... 0.02
... ... مرتفعة ... 78.4 ... 21.6 ... 1618 ... ... ...
9 ... نسبة العاملين ... منخفضة ... 77.2 ... 22.8 ... 1103 ... 0.07 ... 0.78 ... 0.01
... ... مرتفعة ... 77.7 ... 22.3 ... 1618 ... ... ...
10 ... نسبة العاملات ... منخفضة ... 79.5 ... 20.3 ... 2462 ... 204.89 ... 0 ... 0.27
... ... مرتفعة ... 30.9 ... 69.1 ... 165 ... ... ...
11 ... حجم الأسرة ... 1-4 أفراد فأقل ... 93.5 ... 6.5 ... 604 ... 135.01 ... 0 ... 0.22
... ... 2-من 5-8 ... 76.7 ... 23.3 ... 1149 ... ... ...
... ... 3-9 فأكثر ... 68.5 ... 31.5 ... 981 ... ... ...
12 ... نمط الأسرة ... 1- نووية ... 78 ... 22 ... 1834 ... 4.27 ... 0.03 ... 0.04
... ... 2- ممتدة ... 74.4 ... 25.6 ... 811 ... ... ...
13 ... مكان ولادة رب الأسرة ... 1- مدينة ... 70.4 ... 29.6 ... 867 ... 36.78 ... 0 ... 0.11
تابع/جدول رقم (1) توزيع الأسر حسب وجود خادمة في المنزل وحسب المتغيرات المستقلة
المتغيرات المستقلة ... فئات المتغيرات المستقلة ... لا توجد خادمة ... يوجد خادمة أو أكثر ... المجموع ... كاي تربيع ... مستوى الدلالة ... معامل كريمر للارتباط
... ... 2- قرية ... 80.8 ... 19.2 ... 1867 ... ... ...
14 ... عمر رب الأسرة ... 1- 30 سنة فأقل ... 86.4 ... 13.6 ... 734 ... 47.49 ... 0 ... 0.13
... ... 2- 31-50 ... 75 ... 25 ... 1427 ... ... ...
... ... 3- 51 سنة فأكثر ... 72.2 ... 27.8 ... 572 ... ... ...(/34)
15 ... عمر ربة الأسرة ... 1- 30 سنة فأقل ... 82.8 ... 17.2 ... 1224 ... 48.66 ... 0 ... 0.14
... ... 2- 31-50 ... 71.1 ... 28.9 ... 1088 ... ... ...
... ... 3- 51 سنة فأكثر ... 68.2 ... 31.8 ... 110 ... ... ...
16 ... نسبة الأطفال ... منخفضة ... 77.4 ... 22.6 ... 708 ... 0 ... 0.94 ... 0.01
... ... مرتفعة ... 77.5 ... 22.5 ... 2024 ... ... ...
17 ... وجود كبار سن في الأسرة ... 1- لا يوجد ... 78.2 ... 21.8 ... 2509 ... 9.29 ... 0 ... 0.05
... ... 2- يوجد ... 69.3 ... 30.7 ... 225 ... ... ...
18 ... وجود متقاعدين في الأسرة ... 1- لا يوجد ... 78.1 ... 21.9 ... 2626 ... 15.34 ... 0 ... 0.07
... ... 2- يوجد ... 62 ... 38 ... 108 ... ... ...
19 ... وجود معاقين في الأسرة ... 1- لا يوجد ... 77.6 ... 22.4 ... 2655 ... 0.36 ... 0.54 ... 0.01
... ... 2- يوجد ... 74.7 ... 25.3 ... 79 ... ... ...
جدول رقم (2) المتوسط، الانحراف المعياري، والقيم الصغرى والقيم الكبرى لكل متغير
من المتغيرات المستقلة المقيسة على المستوى التدريجي أو النسبي
... المتغيرات المستقلة ... المتوسط ... الانحراف المعياري ... القيمة الصغرى ... القيمة الكبرى ... عدد الحالات
1 ... عمر رب الأسرة ... 40.96 ... 13.02 ... 15 ... 99 ... 2732
2 ... عمر ربة الأسرة ... 32.89 ... 9.41 ... 14 ... 75 ... 2732
3 ... حجم الأسرة ... 7.44 ... 3.71 ... 1 ... 32 ... 2732
4 ... عدد المتعلمين في الأسرة ... 0.21 ... 0.26 ... 0 ... 1 ... 2732
5 ... عدد العاملين في الأسرة ... 0.98 ... 4.4 ... 0 ... 70 ... 2732
6 ... عدد العاملات في الأسرة ... 0.13 ... 0.25 ... 0 ... 1 ... 2732
7 ... عدد الأطفال في الأسرة ... 1.75 ... 1.49 ... 0 ... 14 ... 2732
8 ... عدد كبار السن في الأسرة ... 0.09 ... 0.32 ... 0 ... 3 ... 2732(/35)
9 ... عدد المعوقين في الأسرة ... 0.03 ... 0.19 ... 0 ... 2 ... 2732
10 ... عدد المتقاعدين في الأسرة ... 0.04 ... 0.2 ... 0 ... 2 ... 2732
جدول رقم (3) تحليل الانحدار اللوجستيكي لتأثير المتغيرات المستقلة
في استخدام العمالة المنزلية النسائية (عدد الحالات 2732 أسرة)
... المتغيرات المستقلة ... معامل الانحدار اللوجستيكي ... الخطأ المعياري ... امتحان وولد ... مستوى الدلالة المعنوية ... معامل الدلالة الجزئي
1 ... الأحياء الراقية ... 0.756 ... 0.2009 ... 14.155 ... 0.0002 ... 0.0651
2 ... الأحياء المتوسطة ... -0.0551 ... 0.1913 ... 0.0831 ... 0.7731 ... 0
3 ... نوع المنزل ... 0.7451 ... 0.3088 ... 5.8207 ... 0.0158 ... 0.0365
4 ... نمط الأسرة ... 0.0376 ... 0.1815 ... 0.0429 ... 0.8358 ... 0
5 ... ملكية المنزل ... -1.3334 ... 0.2362 ... 31.8735 ... 0 ... -0.1021
6 ... حجم الأسرة ... 0.2125 ... 0.0246 ... 74.6748 ... 0 ... 0.1592
7 ... عمر رب الأسرة ... 0.0292 ... 0.0115 ... 6.4234 ... 0.0113 ... 0.0393
8 ... عمر ربة الأسرة ... 0.0073 ... 0.0144 ... 0.2542 ... 0.6142 ... 0
9 ... الدخل المرتفع لرب الأسرة ... 0.2696 ... 0.2197 ... 1.5065 ... 0.2197 ... 0
10 ... التعليم المرتفع لرب الأسرة ... 1.4065 ... 0.2711 ... 26.9183 ... 0 ... 0.0932
11 ... التعليم المتوسط لرب الأسرة ... 0.896 ... 0.2353 ... 14.504 ... 0.0001 ... 0.066
12 ... التعليم المرتفع لربة الأسرة ... -1.9547 ... 0.3426 ... 32.5579 ... 0 ... -0.10320
13 ... التعليم المتوسط لربة الأسرة ... 0.2915 ... 0.2319 ... 1.5799 ... 0.2088 ... 0
14 ... عدد المتعلمين في الأسرة ... 0.1342 ... 0.4804 ... 0.0078 ... 0.78 ... 0
15 ... عدد العاملين في الأسرة ... -0.0757 ... 0.3004 ... 0.0635 ... 0.8011 ... 0(/36)
16 ... عدد العاملات في الأسرة ... 9.9526 ... 0.4502 ... 488.8245 ... 0 ... 0.412
17 ... مكان ولادة رب الأسرة ... 0.5067 ... 0.1678 ... 9.1199 ... 0.0025 ... 0.0498
18 ... عدد كبار السن في الأسرة ... 0.2162 ... 0.2251 ... 0.9223 ... 0.3369 ... 0
19 ... عدد المعوقين في الأسرة ... 0.0961 ... 0.3785 ... 0.0644 ... 0.7996 ... 0
20 ... عدد المتقاعدين في الأسرة ... 0.1119 ... 0.3401 ... 0.1082 ... 0.7422 ... 0
21 ... القيمة الثابتة – constant ... 8.1474- ... 0.7653 ... 113.3434 ... 0 ...
مقاييس مدى ملاءمة النموذج:
أ/ نسبة الحالات التي أمكن التنبؤ بها 92.18
ب/ "كاي تربيع" للنموذج بأكمله 5238.12
جـ/ مستوى الدلالة المعنوية 0.0001
عدد الحالات المحذوفة لفقد البيانات 11 أسرة.
عدد الحالات المحذوفة للتخلص من القيم المتطرفة 11 أسرة.
عدد الحالات الداخلة في التحليل 2710 أسرة.
المصادر العربية:
إدارة التخطيط والمتابعة
1983: أثر المربيات الأجنبيات على الأسرة الكويتية، الكويت: الكويت. الخليفة، عبدالله بن حسين.
1411: أثر العوامل الاجتماعية والاقتصادية في توزيع السكان على أحياء مدينة الرياض: دراسة ميدانية، الرياض: مركز أبحاث مكافحة الجريمة، وزارة الداخلية.
خليفة، إبراهيم
1405: المربيات الأجنبيات في البيت العربي الخليجي: عرض وتحليل لبعض الدراسات الميدانية، الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج.
حطب، زهير
1980: تطور بني الأسرة العربية، والجذور التاريخية والاجتماعية لقضاياها المعاصرة، معهد الإنماء العربي، بيروت: لبنان، الطبعة الثانية.
سابق، السيد
1405: فقه السنة، بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة السابعة.
الزبيدي، الإمام زيد الدين أحمد بن عبداللطيف
1405: مختصر صحيح البخاري، تحقيق إبراهيم بركة، بيروت:دار النفائس.
العيسي، جهينة سلطان(/37)
1983: التأثيرات الاجتماعية للمربية الأجنبية على الأسرة، في "العمالة الأجنبية في أقطار الخليج العربي"، تحرير نادر فرجاني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية.
العبيدي، إبراهيم
1990: الآثار الديموغرافية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في المملكة العربية السعودية" مجلة العصور، المجلد الخامس الجزء الثاني: 379-396.
العمر، بدر
1407: الأسباب الحقيقية لظهور وبروز ظاهرة استخدام المربيات الأجنبيات وانتشارها في دول الخليج العربي، بحث منشور في مجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية لدول الخليج العربية (1407) ظاهرة المربيات الأجنبيات، ص: 53-67، مكتب المتابعة لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية لدول الخليج العربية، المنامة: البحرين.
الطياش، خالد بن عبدالعزيز.
1412: تقييم المبادئ والعناصر التصميمية للفراغات الوظيفية للبيت المعاصر في مدينة الرياض، رسالة ماجستير غير منشورة، قسم العمارة وعلوم البناء، كلية العمارة والتخطيط، جامعة الملك سعود.
القاسمي، خالد
1988: العمالة الأجنبية وآثارها السلبية على دول مجلس التعاون الخليجي، الشارقة: دار الثقافة العربية.
قسم التخطيط والبحوث
1983: أثر المربيات الأجنبيات على خصائص الأسرة في البحرين، المنامة: البحرين.
مجلس القوى العاملة
1984: أثر العمالة الأجنبية على الأسرة السعودية، الرياض: المملكة العربية السعودية.
مجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية لدول الخليج العربية (1407) ظاهرة المربيات الأجنبيات، مكتب المتابعة لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية لدول الخليج العربية، المنامة: البحرين.
المديرية العامة للشؤون الاجتماعية
1984: دراسة أثر المربيات الأجنبيات على خصائص الأسرة العمانية، صلالة: عمان.
معوض، جلال عبدالله
1987: "التحضر والهجرة العمالية في الأقطار العربية الخليجية" مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، عدد: 51، ص: 189-214.(/38)
وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (1404هـ)، الكتاب الإحصائي السنوي.
ــــــــــــــــــــــ
[1] قامت وزارة الداخلية بإنشاء مكتب خاص يعنى بإجراءات استقدام العمالة ويعرف بمكتب الاستقدام والذي تنتشر فروعه في كبريات مدن المملكة.
[2] انظر إبراهيم خليفة (1405) المربيات الأجنبيات في البيت العربي الخليجي، وخاصة في أثر المربيات الأجنبيات في عملية التنشئة ص: 79-93.، وانظر أيضاً كلا من جلال عبدالله معوض ص: 204-210، وخالد القاسمي ص: 109-117.
[3] انظر على سبيل المثال جلال عبدالله معوض ص: 193-194.
[4] تشير بيانات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لعام 1404هـ إلى ضآلة أعداد الملتحقين بدور الرعاية الاجتماعية حيث لم يتجاوز عددهم 366 نزيلاً يمثل كبار السن من بينهم 62% أي أن عددهم لا يتجاوز 242 مسناً وهو عدد ضئيل جداً. ولمزيد من المعلومات انظر الكتاب الإحصائي السنوي لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية لعام 1404هـ وما بعده.
[5] تم تصنيف الحي إلى ثلاث فئات راقي، متوسط، شعبي ولمزيد من المعلومات عن الأسس التي اعتمد عليها هذا التصنيف انظر: الخليفة (1411هـ)، ص: 87-88.
[6] تم تصنيف مكان نشأة رب الأسرة إلى حضري وريفي؛ حيث عد أرباب الأسر الذين نشأوا في أحد المدن السبعة عشر حضريي النشأة وهذه المدن هي كل من (الرياض، مكة، المدينة، جدة، الدمام، الخبر، الطائف، بريدة، تبوك، حائل، أبها، نجران، خميس مشيط، جيزان، الهفوف، والمبرز) أما من نشأ في سوى هذه المدن فقد عدوا ريفيي النشأة وذلك أخذاً في الحسبان بطبيعة ظاهرة التحضر في المجتمع السعودي فيما قبل 1390هـ، حيث كانت إلى حد ما أوضح ما تكون في تلك الأماكن.(/39)
العنوان: خصائص الطفل
رقم المقالة: 1861
صاحب المقالة: محمد سعيد مرسي
-----------------------------------------
خصائص الطفل
1 – كثرة الحركة وعدم الاستقرار
2– شدَّة التقليد
3– العناد
4– عدم التمييز بين الصواب والخطأ
5– كثرة الأسئلة
6– ذاكرة حادة آلية
7 – حب التشجيع
8 – حبّ اللَّعب والمَرَح
9 – حبُّ التَّنافُس والتَّناحُر
10 – التفكير الخيالي
11 – الميل لاكتساب المهارات
12 – النمو اللغوي سريع
13 – الميل للفكِّ والتركيب
14 – حدَّة الانفعالات
• • • • •
إنَّ مرحلة الطفولة تعتبر أهمَّ مرحلةٍ في حياة الإنسان؛ ففيها بداية التشكيل والتكوين، وعليها سيكون الإنسان بعد ذلك: سَوِيًّا أو مريضًا، فجميع الأمراض النفسية تقريبًا تنشأ نتيجةً لسوء فهم طبيعة هذه المرحلة ومتطلَّباتِها؛ فالغضب، والخوف، والانطواء، والتبول اللاإرادي، والشِّجار، والكَذِب، والسرقة، وغير ذلك من أمراض تنشأ في بداية هذه المرحلة إن أُسِيء إلى الطفل فيها، ولم يعامَل المعاملةَ التربويَّةَ السليمة.
ولذا فنحن نَخُصُّ هذه المرحلةَ بالذِّكْر دون بقية المراحل السِّنِّيَّة الأخرى؛ ولكنَّنا نؤكِّد على أنَّ هذهِ الخصائِصَ غيرُ مصطنعة عند بعض الأطفال؛ بل إنَّها تدلُّ على أنَّ هذا الطفل سَوِيٌّ وطبيعيٌّ، وإن أتى ذلك على المربِّي بِبَعْضِ الضَّرر:
فمَثَلاً: الطفل حتَّى 6 سنوات لا يُمَيِّز بين الصواب والخطأ؛ فلذلك قد تجده يضع يده في الماء الساخن أو يضع يده على النار؛ ليَستكشِفَ هذا المجهولَ بالنسبة له، فلا بدَّ أن أُعامِل الطفل على أنه طفل غير مُدرِك، وأن ما يفعله طبيعيٌّ في هذه السِّنِّ، فعلينا فقط أن نُرشِد ونُهَذِّبَ هذه الصفة، ونحاول هنا التعرف على هذه الصفات وتلك الخصائص المميِّزَة للأطفال.
1 – كثرة الحركة وعدم الاستقرار:(/1)
فالطفل يتحرَّك كثيرًا، ولا يجلس في مكان واحد لفترة طويلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((عَرَامَةُ الصَّبِيِّ في صِغَرِهِ زيادةٌ في عَقْلِهِ عند كِبَرِهِ))؛ رواه الترمذي [الحكيم التِّرْمِذِيُّ في أماليه].
أي: إن الحركة الكثيرة، واللعِبَ الدائم، وعدمَ الاستقرار، والصعودَ والنزول، وغيرَ ذلك، يَزيد من ذكاء الطفل وخِبرَتِه بعد أن يكبُرَ، أمَّا الآخَرُ الذي لا يتحرك، ويجلس دائمًا وحيدًا في أحد الأركان فهو غير سِوِيٍّ، وغالبًا ما سَيُصابُ بعد ذلك بالانطواء والكَبْت والخوف والخجل نتيجة لذلك.
ولكن هناك بعض الأشياء التي تساعد في تهذيب وترشيد حركة الطفل الكثيرة في هذه المرحلة، ومنها:
أ– أن تحاول الأمُّ أن تَشْغَل فراغه معها في أعمال البيت؛ لأنَّ النفس عمومًا إن لم تَشْغَلْها بالطاعة شغلتك بالمعصية، والطفل كذلك إن لم تَشْغَلْهُ بما هو مفيد فسيُفَرِّغ طاقته فيما هو غير مفيد، فالأمُّ تُحَضِّر طَبَقًا صغيرًا وتطلب منه أن يغسل شرابه [جَوْرَبَهُ] أو ملابسه؛ لِيتعوَّدَ على الاعتماد على النفس، وكذلك يرتِّب أدواتِه وملابِسَهُ وحُجْرَتَهُ قَدْر الإمكان.
ب– الاشتراك في أحد الأندية؛ ليُفْرِغ الطفل طاقته في لِعْبَة ما، خاصَّةً الألعابَ العنيفة التي تُعَوِّده الشجاعة والثقة بالنفس؛ كالكاراتيه، والتايكوندو، والكونغ فو، والمصارعة.
ج– زيارة الأقارب والأصدقاء والجيران مِمَّنْ لهم أبناء في مثل هذه السِّنِّ، فيلعب الطفل مع أصدقاء له في سِنِّه، يُفرِّغ معهم طاقَتَهُ على أن يُراعَى اختيار الأقارب والأصدقاء والجيران الصالحين، الذين يربُّون أبناءَهُمْ على القِيَمِ السَّليمة، والأخلاق الفاضلة؛ لئلا يسمع ما تمنعه عنه من ألفاظ بذيئة وغيرها من فاسد الأخلاق؛ ولذا يمنع الطفل من النزول للشارع مع أقران السوء، أو سماع التليفزيون دائمًا؛ لأن ذلك يفسد ما تحاول إصلاحه.(/2)
د– (الفسحة) والخروج للمتنزهات، ولو مَرَّة كلَّ أسبوع على الأقلّ.
2– شدَّة التقليد:
فالطفل يقلِّدُ الكبير خاصَّةً الوالِدَيْنِ والمدرسين في الحَسَن والقبيح؛ فالأب يصلي فيحاول الابن تقليده، ويَشرَب الدُّخَان فيحاول الابن تقليده وهكذا، ومن طرق علاج ذلك ما يلي:
أ– نحكي له حكايات الصحابة والصالحينَ والعُلَماء والنماذج الطيبة؛ ليقلدهم.
ب– نَصْطَحِبُه في كُلّ ما هو حَسَنٌ؛ ليقلد، كالذهاب معه إلى المساجد وزيارة الصالحين.
ج– لا يجلس أمام التليفزيون ليشاهد غريندايزر، والنينجا، وسوبر مان؛ لئلا يصاب بالكبت والإحباط، نتيجة فشله في تقليدهم، أو أن يرمي بنفسه من الشباك؛ ليقلد سوبر مان مَثَلاً.
د– شرائط الكاسيت والفيديو الإسلامية، التي تحكي قِصَصًا وتراجِمَ للقادة المسلمين الفاتحين تساعدهم في ذلك؛ مثل أفلام: مُحمَّد الفاتح، والسندباد، ورحلة خلود، والرسالة وغيرها.
3– العناد:
فالطفل يتميَّزُ بِالعِناد الشديد، فلا نتعجَّبُ من ذلك ونتَّهم الطفل بتعمد العناد مع أبويه ومدرِّسيه؛ بل علينا أن نُشَجّعه ونحفزه على فعل النقيض، ونذكر له من القصص والحكايات ما يجعله يَنْفِر من العناد؛ كأن نُشَبّه الذي يُعاند بالشيطان الذي عاند مع الله ولم يطع أوامره؛ فغَضِبَ الله عليه وأدخله النار، ومثله الكافر القبيح وغير ذلك؛ مما يجعل الطفل يبتعد عن هذه الصفة، ولكن في النهاية نتأكَّد تمام التأكّد من أنَّ الطفل العنيد غير مريض، وغير عاقّ لوالديه، ولكن هذا العناد يرجع إلى طبيعة سِنّه، فإذا صعِد على الفراش برجله المتسخة ورفض النزول، أو رفض النوم، وصمَّم على الرفض، أو عاند في أي شيء، فالتحفيز والتشجيع لا الإهانة والتعذيب.
4– عدم التمييز بين الصواب والخطأ:(/3)
فالطفل قد رأى أمه تشعل الكبريت، فحاول تقليدها فلسعته النار، ووضع يده في الماء الساخن وهو لا يعرف ضرره، ويريد أن يضع يده بين ريش المروحة وهي تعمل، وغير ذلك من أمثلة تدل على عدم تمييز الطفل بين الصواب والخطأ، فلا يحاسب الطفل على ذلك بالضرب والإهانة؛ كما يحاسب الكبير المدرِك؛ لأن عقل الطفل لم ينضج بعد، وإن مَيَّزَ شيئًا لا يُمَيِّز الآخر، لكن علينا أن نبعده عما يضره؛ كالسكين، والكبريت، والمروحة و(الدفاية)، والماء الساخن.
5– كثرة الأسئلة:
فهو يسأل عن أيِّ شيء، وفي أي وقت، وبأي كيفية؟ ومنها الأسئلة التي يريد منها المعرفة؛ كسؤاله: أين الله؟ ومنها الأسئلة التي يريد منها إحراج الأبوين والمربي؛ كسؤاله: (لماذا أنت سمين يا بابا؟) ومنها الأسئلة التي تدل على قلقه وخوفه؛ فيقول: (هل ستموت يا بابا؟)، وغير ذلك من أنواع الأسئلة التي سيأتي الحديث عنها مفصلاً بإذن الله في موضع آخر، ولكن قبل ذلك نحذر من الكذب على الطفل، ولا نجيب عن أسئلته بما لا يحتمله عقله، ولنضبط ردود أفعالنا عند المفاجأة بسؤال غير متوقع، ولا نقول له: أنت ما زلت صغيرًا، ولا تتكلم في هذه الأمور؛ لأن الطفل عنيد، وسَيَزِيدُه ذلك شغفًا لمعرفة الإجابة عن سؤاله، وسيضطر لأن يسأل أحد أقاربه، أو مدرِّس الحضانة أو المَدْرَسَة، وقد يجيبه إجابة خاطئة تَعْلَقُ في ذِهنه، ولا تستطيع مَحْوَها أو تصويبَها بسهولة؛ فلنفتح قلوبنا وعقولنا لأسئلة أبنائنا قبل أن نندم.
6– ذاكرة حادة آلية:
فالطفل ذاكرته ما زالتْ نقيَّةً بيضاءَ، لم تُدَنِّسها الهموم ولا المشاكل، فهو لذلك يحفظ كثيرًا وبلا فهم، وهذا معنى الآلية؛ أي: أنْ يحفظَ بلا وعي وبلا إدراك، وتُسْتَغَلُّ هذه الحِدَّةُ والآلية في الذاكرة في: حفظ القرآن الكريم، والحديث الشريف، والأدعية، والأذكار، والأناشيد، وفي المذاكرة، ويصعُبُ نِسيان ما يحفَظُه في هذه السِّنِّ.(/4)
ولكن مع مراعاة أن يكون أُسلوبُ التَّحفيظِ سَهلاً شَيِّقًا، وفي أغنية جميلة فتعلمه التسمية في كل شيء من خلال النشيد:
أَبْدَأ لَعِبِي بِاسْمِ اللَّهْ أَقْرَأ أَكْتُب بِاسْمِ اللَّهْ
أَرْكَب أَسْبَح بِاسْمِ اللَّهْ آكُل أَشْرَب بِاسْمِ اللَّهْ
بِاسْمِ اللَّهْ بِاسْمِ اللَّهْ أَحْلَى كَلاَم اتْعَلِّمْنَاهْ
فنحن بذلك نفرِّغ طاقة الطفل فيما يفيد ونبعده – ضمنيًّا – عن الأغاني الفاسدة، ونحبب إليه البديل الإسلامي الجميل، ونملأ ذاكرته الحادَّة الآليَّة بالكلم الطيب.
وذاكرته الآلية تساعدنا كثيرًا في عدم بيان السبب، والحكمة والتفسير، فهو يحفظ بالتلقين وبالسماع – غالبًا – ويكفِي أن تقرأ له الآية والدُّعاء مَرَّتين أو ثلاثًا؛ لِيَحْفَظَهُ عَنْ ظَهْرِ قلب، أو نُحَضِّر له - في حفظ القرآن مثلاً - شريط المصحف المعلم ليردد خلفه، وطريقة الحفظ المُثْلى سيأتِي تفصيلٌ لها فيما بعد.
7 – حب التشجيع:(/5)
وهو عامل مشترك تقريبًا في كل الخصائص، ونحتاج إليه عند العِناد، وعند عدم التمييز بين الصواب والخطأ، وعند كثرة الحركة، وعدم الاستقرار، وعلينا أن نُنَوِّعَ التشجيع من ماديٍّ إلى معنويٍّ، وذلك حتَّى لا يتعوَّدَ الطفل على شيء معين، ولئلاَّ يصير نَفْعِيًّا، يأخذ على ما يعمله مقابلاً، ومن الأشياء الهامَّة عند التشجيع أن يربطَ الطفل بالثواب الأخروي، فنقول له: (الذي يسمع الكلام يَرْضَى اللَّه عَنْهُ)، (هذا الحرف بعشر حسنات)، (الصلاة التي صليتها في المسجد الآن بسبع وعشرين صلاةً في البيت)، ونَرْبِطُه بأفعال الصحابة والصالحين، فعندما يذهب للتَّدْرِيبِ في النَّادي نقول له: أنتَ سَتَكُونُ قَويًّا مِثْلَ سيّدِنا عُمَر وكان الكُفَّار يَخافون منه، أو نربطه بمن يحب؛ كأبيه؛ أو خالِه؛ أو عمّه؛ أو مُعَلّمه. وأساليب التَّشجيع كثيرةٌ ومُتَنوّعة، سيأْتِي الحديثُ عنها في موضوع الثَّواب والعقاب، ومنها: (إعطاؤه نجمة في كراسة الحضانة مثلاً) ومدحه أمام زملائه وأَبَوَيْهِ، ومناداته بأحب الأسماء إليه وغير ذلك.
8 – حبّ اللَّعب والمَرَح:
وهذا ليس عيبًا؛ بل إنَّ اللعب قد يكون وسيلة لاكتساب المهارات، وتجميع الخِبْرات، وتنمية الذكاء، وأفضل وسيلة للتعليم هي اللعب، وسوف نتحدث عن ذلك بالتفصيل في موضع آخَرَ في هذا الكتاب، ولكن ما نودّ أن نذكره هنا، هو أن اللعب والمرح ليس اختياريًّا لولي الأمر كما أنه ليس عيبًا في الطفل؛ حتَّى نقول عنه إنَّه (لِعَبِي مستهتِر)؛ بل إن ما يفعله هو طبيعة سِنِّه وخاصّيَّة من خصائصه التي بدونها يصير غير طبيعي، وما علينا إلاَّ أن نرشده ونوجهه إلى اختيار ألعابه وأوقات اللعب، وكيف يستفيدُ من هذا اللعب، واختيار مَن يلعب معهم.
9 – حبُّ التَّنافُس والتَّناحُر:(/6)
وهذه إن رُشِّدَتْ ووُجِّهَتْ لكانت عاملاً مهمًّا في التفوّق والابتكار، فتقول لابنك: لا أحب أن تكون متأخّرًا في شيء؛ بل لا بد أن تكون الأول دائمًا. وتقول: الولد فلان يفعل كذا، فلماذا لا تكون مثله؟ أنت يمكن أن تكون أفضل منه لو فعلت كذا وكذا، وهكذا تشجعه دائمًا على التنافس في الخير مع مراعاة عدم الإسراف فيه بصورة تورث الطفل العدوانية، والغيرة، والحقد على الآخر المتفوّق عليه.
10 – التفكير الخيالي :
فعقله لم ينضج بعد كما تحدثنا؛ لذلك فيغلب الخيال على تفكيره، وهو ما يسمى بأحلام اليقظة عند الكبار – خاصة المراهقين والمراهقات – فهو تفكير في غير الوَاقع، فلا تنزعج عندما تجد الطفل جالسًا يفكر في شيء ما.
فعندما نحدثه عن الجنة نقول: فيها كل ما تحبه، ونتركه يفكر فيها كيفما يشاء، وكذلك نقول له: (ربنا كبير وقوي جدًّا)، ونتركه يسبح بخياله كيفما يشاء؛ حتى يكبر وينضج عقله.
11 – الميل لاكتساب المهارات:
فلو أن أباه كان نجارًا، أو لاعبًا، أو حدادًا، أو مُعَلِّمًا، أو سَبَّاكًا، أو حتى عامل نظافة، فسوف نجد الطفل يحاول اكتساب تلك المهارة مِن أبيه بتقليده له، وذلك للطفل الصغير قبل 6 سنوات، وبعدها سيقل ذلك.
12 – النمو اللغوي سريع:
فمعجم الطفل اللغوي يزداد باستمرار، ويؤثر في ذلك الصحَّةُ العامَّةُ للطفل، خاصة التغذية السليمة، وكذلك العلاقات الأُسْرِيَّة، والمحتوى الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والمستوى اللغويّ للأب والأم، فالطفل المريض نُمُوُّهُ اللُّغَوِيُّ غير الطفل الصحيح، والطفل الذي يعيش وسط مشاكل بين أبيه وأمه غير الذي يعيش في حياة أسرية هادئة هانئة، والطفل الغنيّ غير الفقير، والطفل المُدَلَّلُ يختلف عن غير المُدَلَّل، والطفل الذي يتحدث أبواه الفصحى، أو اللغة العربية السليمة غير الذي يتحدث أبواه بألفاظ بذيئة، أو يغلب على كلامهما لغة أخرى غير العربية.(/7)
ولمراعاة النمُوِّ اللغويِّ السريع للطفل، ولتجنّب ما قد يظهر بعد ذلك من مشاكل مثل: التهتهة، والخنفة، واللَّجلجة، وغيرها يراعى الآتي:
1 – إبعاد الطفل عن الألفاظ السيئة، والبذيئة: كالسِّباب والشتائم.
2 – إبعاد الطفل عن الألفاظ المجرَّدة غير المحسوسة مثل: الإنسانية، والحرية، والاشتراكية.
3 – الكشف الدوري على الطفل ومتابعته صِحّيًّا، خاصة أذنه؛ لأنه ربما يكون ضعيف السمع.
4 – إبعاد المدارس الأجنبية قبل 6 سنوات.
5 – مخالطة الأقران الصالحين من الأطفال.
6 – الإكثار من القِصَص المحكيَّة عن طريق شرائط الكاسيت والفيديو.
7 – تصويب الألفاظ التي ينطِقُها الطفل معكوسة مثل (مرضان) بدلاً من رمضان، و(فناويس) بدل فوانيس، و(أنا ذهبت لأ) بدل أنا لم أذهب، وعدم الضحك عليه، أو السخرية منه لئلاَّ يُعانِد.
8 – تَشْجِيع الطفل على الاستماع.
9 – أن يُخرِج المُرَبّي – خاصَّةً الأَبَوَيْنِ – اللَّفْظَ من مَخْرَجِه، فيقول: مسجد بدل (مزجد) ويقول: رشد بدل (رجد)، ويقول رزق بدل (رسق)، وهذه كلها أخطاء شائعة ينبغي أن نجنبها أبناءنا.
10 – توقع ظهور خشونة وحدة وبحة الصوت من سن 5 سنوات تقريبًا.
11 – تطلب الأم منه أن يحضر الأطباق الحمراء، ثم الملاَّعق الكبيرة، ثم المَفْرَش الأزرق؛ ليزداد مُعجَمُهُ، وتَمْيِيزُهُ بين الألوان والأشياء، وتَخْلِطُ له الحبوب (قمح – ذرة – أرز – فول – لوبيا) وتطلب منه تجميعَ المتشابه منها، وتُعَرِّفُه باسم كل نوع على حِدَة.
12 - تغيير ما يمكن من الألفاظ العامِّية إلى غَيْرِها مِنَ الفصحى، وبعض الألفاظ يمكن تغييرها بسهولة مثل: قلم بدل (ألم)، ونعم بدل (إيه)، وآسف بدل (معلش)، وانتظر بدل (استَنَّى)، وبارك الله فيك أو حسنًا أو شكرًا بدل (كويس)... إلخ.
13 – الميل للفكِّ والتركيب:(/8)
وهذا يَعتبرُهُ البعض نوعًا من التخريب وهو ليس كذلك؛ بل هي طبيعة المرحلة فينبغي أن يُبعَدَ عنِ الطفل أيُّ شيء قابلٍ للفكِّ، أو ما يخشى عليه منه، ويؤتى له بألعاب متخصصة في ذلك مثل: القطار، والبازل، والكانو، والمكعبات، والقصص، والورق، والصلصال.
14 – حدَّة الانفعالات:
فهو يثور وينفعل بدرجة واحدة للأمور الهامَّة والتافهة: وأهم هذه الانفعالات:
1 – الخوف، وهو عند البنات أكثر، فلا ينبغي أن يعاقَب الطفل بالتخويف من الشرطي، أوِ الظلام، أو الأب، أو المدرس، أو العفريت، أو (أبو رجل مسلوخة)، أو (أُمِّنا الغولة)؛ لأن لهذا عواقبه الوخيمة فيما بعد، وسيترتب عليه الكثير من الأمراض النفسية، والتبول اللاإرادي، والكبت، والانطواء.
2 – الغَضَب: ومِنْ مَظاهِرِه: الامْتِناع عن الأكل، أو كَسْر الأشياء، أو أن يضرب نفسَهُ، وبواعث الغضب قد تكون: اللَّوْم والنَّقد، مقارنته بِغَيره دائمًا، إرغامه على اتّباع بعض العادات والأَنْظِمة، تكليفه بعملٍ فَوْقَ طاقَتِه، غضب الوالدين والشِّجار الدائم بينهما.
3 – الغَيْرة: وهي منتشرة بَيْنَ البنات أكثر، وغالبًا ما تكون بسبب مولود جديد، يَشعُر الطفل أنه أَخَذ منه حنان الأبوين، فيقوم بإيذائه، أو يتبوَّل لا إراديًّا، أو يحبو بعد أن كان يمشي ليجذِبَ إليه الانتباه، وتُعالَج هذه الغيرة – إن وجدت – بأن يطلب منهم تقبيلُ بعضهم البعض، وإهداء أحدهم هديَّة للآخَر، والإيثار، وعدم تمييز أحد على أحد في المعاملة، وإن كان الآخر معيبًا أو مريضًا، ويُعْطَى الكبير برتقالة يقسمها بالتساوي على الأصغر منه، وهكذا.
الخلاصة(/9)
- للطفل خصائصُ ينبغي تَقَبُّلُها وترشيدها وتهذيبها، والتربية على النقيض إن كانت تعود بالضرر على المربي أو الطفل، أو زيادتها والاهتمام بها إن كانت غير ذلك، وهذه الخصائص مشتركة في البنت والولد، وفي الأطفال بعامَّة على اختلاف درجاتها، وذلك لوجود الفروق الفردية بين البشر عمومًا، والأطفال خصوصًا.
- عدم اتّهام الأطفال بالعناد والتخريب والمشاكسة.
- مراعاة القدوة مهمّ جدًّا في هذه المرحلة، خاصَّةً أنَّ الطفل يقلّد ويحفظ ولا ينسى، ويزيد معجمه بما يسمع.
- رفع الأشياء التي تضرّ الطفل وإبعادها عنه؛ كالماء الساخن؛ والسكين؛ والنار.
- الاهتمام بتحفيظ الطفل القرآن، والحديث، والأدعية، والأذكار، والأناشيد.
- ربط الطفل دائمًا بالقدوات من الأنبياء والصحابة والصالحين.
- شراء ألعاب للطفل تُنَمّي قدراته وذكاءه، خاصة ألعاب الفك والتركيب، والتنويع فيها.
- مراعاة تطورات النمو الجسمي، فالبنت تزيد في الوزن عن الولد، والولد يزيد في الطول عن البنت، وهذا في معظم الحالات تقريبًا.(/10)
العنوان: خصائص شهر رمضان
رقم المقالة: 1252
صاحب المقالة: عبدالله بن صالح القصير
-----------------------------------------
لما كان للصوم تلك الفضائل العظيمة والعواقب الكريمة، التي سبقت الإشارة إلى طرف منها، فرضه الله على عباده شهرا في السنة، وكتبه عليهم كما كتبه على الذين من قبلهم، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فجعل سبحانه صيام رمضان فريضة على كل مسلم ومسلمة، بشروطه المعتبرة، التي جاء بها الكتاب والسنة. فدل على أنه عبادة لا غنى للخلق عن التعبد بها، لما يترتب على أدائها من جليل المنافع وطيب العواقب، وما يحدثه من خير في النفوس، وقوة في الحق وهجر للمنكر، وإعراض عن الباطل.
ومما اختص الله به شهر رمضان، ما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ))؛ رواه البخاري. وفيه أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ)).
ولا يخفى ما في ذلك من تبشير المؤمنين بكثرة الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة، وما يتيسر لهم من أسباب الإعانة عليها والمضاعفة لها، وما جعله الله في رمضان من دواعي الزهد في المعاصي والإعراض عنها، وضعف كيد الشياطين وعدم تمكنهم مما يريدون.(/1)
ومن فضائل صوم رمضان، ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) فمن صام الشهر مؤمنًا بفرضيته، محتسبًا لثوابه وأجره عند ربه، مجتهدًا في تحري سُنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيه فليبشر بالمغفرة.
وإذا كان ثواب الصيام يضاعف بلا اعتياد عدد معين، بل يؤتى الصائم أجره بغير حساب، فإن نفس عمل الصائم يضاعف في رمضان، كما في حديث سلمان المرفوع وفيه: ((مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً، كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ)) فيجتمع للعبد في رمضان مضاعفة العمل ومضاعفة الجزاء عليه {فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 57].
ومن فضائل رمضان، أن الملائكة تطلب من الله للصائمين ستر الذنوب ومحوها، كما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الصوام: ((وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُفْطِرُوا))؛ رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة. والملائكة خلق أطهار كرام، جديرون بأن يقبل الله دعاءهم، ويغفر لمن استغفروا له، والعباد خطاؤون محتاجون إلى التوبة والمغفرة كما في الحديث القدسي الصحيح، يقول الله تعالى: ((يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)) فإذا اجتمع للمؤمن استغفاره لنفسه واستغفار الملائكة له، فما أحراه بالفوز بأعلى المطالب وأكرم الغايات.(/2)
وهو شهر المواساة والإحسان، والله يحب المحسنين، وقد وعدهم بالمغفرة والجنة والفلاح. والإحسان أعلى مراتب الإيمان، فلا تسأل عن منزلة من اتصف به في الجنة وما يلقاه من النعيم وألوان التكريم. {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16].
ويتيسر في هذا الشهر المبارك إطعام الطعام وتفطير الصوام، وذلك من أسباب مغفرة الذنوب وعتق الرقاب من النار، ومضاعفة الأجور، وورود حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي: (من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا) نسأل الله بمنه وجوده أن يوردنا إياه. وإطعام الطعام من أسباب دخول الجنة دار السلام، ورمضان شهر تتوافر فيه للمسلمين أسباب الرحمة، وموجبات المغفرة، ومقتضيات العتق من النار، فما أجزل العطايا من المولى الكريم الغفار.
وهو شهر الذكر والدعاء وقد قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] وقال سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] وقال سبحانه: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] وقد قال تعالى في ثنايا آيات الصيام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] مما يدل على الارتباط بين الصيام والدعاء.(/3)
وفي شهر رمضان، ليلة القدر التي قال الله في شأنها: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] قال أهل العلم معنى ذلك: أن العمل فيها خير وأفضل من العمل في ألف شهر - وهي ما يقارب ثلاثًا وثمانين سنة - خالية منها، وكفى بذلك تنويهًا بفضلها وشرفها، وعِظَم شأن العمل فيها لمن وفق لقيامها - نسأل الله تعالى أن يوفقنا على الدوام لذلك بمنه وجوده - وجاء في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) وهذا من فضائل قيامها وكفى به ربحًا وفوزًا.
ومن خصائصه فضل الصدقة فيه عنها في غيره، ففي الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سئل أي الصدقة أفضل؟" قال: ((صَدَقَةٌ فِي رَمضَانَ))، وثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن. وكان جبرائيل يلقاه كل ليلة من شهر رمضان، فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة"؛ ورواه أحمد، وزاد: "ولا يُسأل شيئًا إلا أعطاه" والجود: هو سعة العطاء بالصدقة وغيرها.(/4)
وفي زيادة جوده - صلى الله عليه وسلم - في رمضان اغتنام لشرف الزمان، ومضاعفة العمل فيه والأجر عليه، فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -، كما في حديث سلمان أنه قال في رمضان -: ((مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً، كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ)) ولأن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا والوقاية من النار، ففي الحديث الصحيح: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ)) أي وقاية من النار، وفي الصحيح أيضًا قال - صلى الله عليه وسلم –: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ))
ومن خصائص رمضان أن العمرة فيه تعدل حجة، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً))، وفي رواية: ((حَجَّةً مَعِي)).(/5)
ومن خصائصه أنه شهر القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. فللقرآن فيه شأن في إصلاح القلوب والهداية للتي هي أقوم لمن تلاه وتدبره وسأل الله به، وكم جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيان لفضل تلاوة القرآن؟ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ)) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ)) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا)) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) وكلها أحاديث صحيحة، متضمنة لأعظم البشارات لتالي القرآن عن تفكر وتدبر، فكيف إذا كان في رمضان؟!! جعلنا الله من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.(/6)
العنوان: خصال الفطرة
رقم المقالة: 684
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي فطر الخلق على ما تستحسنه العقول، وأيد ذلك بما أنزله على الرسول، ففطرة الله التي جبل الناس عليها خلقاً أمرهم بها تعبداً وشرعاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عجزت عن إدراك حكمته الألباب، وذلت لعزته، وعظمته جميع الصعاب، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المبعوث بالحنيفية ملة إبراهيم الذي اجتباه ربه وهداه إلى صراط مستقيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم القويم وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى، وأقيموا وجوهكم للدين حنفاء متمسكين بالفطرة التي فطر الناس عليها، وهي طهارة الباطن والظاهر، فأما طهارة الباطن، فهي تطهير القلب من الإشراك، وإخلاص العبادة لله وحده، والقيام بالأعمال الصالحات، وأما طهارة الظاهر، فمنها ما في الصحيح صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء يعني: الاستنجاء)) قال الراوي، ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الختان من الفطرة، فهذه الأشياء العشرة كلها طهارة، وتنظيف تقضي بها الفطرة، وتستحسنها العقول، كما أن الشرع قد جاء بها، وحث عليها، فمنها قص الشارب وإحفاؤه، فإن بقاءه يجمع الأوساخ التي تمر به من الأنف، فإذا شرب الإنسان تلوث شرابه بها، فجاء الشرع والفطرة بإحفائه، وأما إعفاء اللحية وهو عدم التعرض لها بقص أو حلق أو نتف، فلأن الله خلقها تمييزا بين الذكور والإناث، وإظهاراً للرجولية، والقوة، ولذلك لا تظهر إلا عند الحاجة إليها في وقت قوة الإنسان وجلده وتكليفه بمهمات الأمور أما في حال صغره، فلا تظهر؛ لأنه حينئذ لا يتحمل الأعباء، فجاء الشرع والقدر والفطرة بوجودها وإبقائها، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعفائها وإرخائها وتوفيرها، وقال: خالفوا المشركين، وفروا اللحي، واحفوا الشوارب، وكان - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد هدوا إلى الفطرة، فكانوا يوفرون لحاهم، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإنهم على النور المبين والصراط المستقيم، فحلق اللحية حرام؛ لأنه خروج عن الفطرة، ومخالفة للرسل وأتباعهم، وموافقة للمشركين، وتغيير لخلق الله تعالى بلا إذن منه، وليس إبقاء اللحية من الأمور العادية كما يظنه بعض الناس،(/2)
وإنما هو من الأمور التعبدية التي أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأصل في أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - التعبد والوجوب حتى يقوم دليل على خلاف ذلك قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. الفتنة فتنة الدين قد يرد المرء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيزيغ قلبه، فيهلك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإعفاء اللحية، وأمر بمخالفة المشركين، فإذا فرض أن من المشركين الآن من يعفي لحيته، فإننا لن نترك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعفائها من أجل أن بعض المشركين يعفيها، لأن المشرك الذي يعفيها هو المتشبه بنا، ولسنا نحن المتشبهين به، ومن الفطرة السواك، لأن فيه تنظيفا للأسنان، وما يتسوك عليه من الفم، ويتأكد السواك عند المضمضة في الوضوء، وعند الصلاة، وعند القيام من النوم، وإذا دخل الإنسان بيته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل البيت، فأول ما يبدأ به السواك، ومن الفطرة استنشاق الماء؛ لأنه ينظف الأنف من الأوساخ، وقص الأظفار من الفطرة؛ لأن الأظفار إذا طالت اجتمع فيها من الأوساخ ما يكون ضرراً على الإنسان، وغسل البراجم من الفطرة والبراجم هي الفروض التي بين مفاصل الأصابع؛ لأنها قد تجمع أوساخاً، فمن الفطرة تعاهدها، وغسلها، ومن الفطرة نتف الآباط؛ لأن الشعر فيها يجمع أوساخاً تحدث منها رائحة كريهة، والنتف يزيل الشعر، ويضعف أصولها، فمن لم ينتف الإبط، فليلحقه، أو يجعل فيه شيئاً يزيله، وحلق العانة من الفطرة، وهي الشعر النابت حول القبل؛ لأن في ذلك تقوية للمثانة، ولأن بقاء الشعر يجمع أوساخاً قد يكون فيه ضرر على المثانة التي هي مجمع البول، وقد وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة، وأما الاستنجاء، فإنه من(/3)
الفطرة، لأنه تطهير للمحل الذي يخرج منه البول أو الغائط. وأما الختان وهو ما يسمى بالطهار فهو من الفطرة؛ لأنه يكمل الطهارة، وفعله في زمن الصغر أفضل. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.(/4)
العنوان: خطبة آخر جمعة من رمضان
رقم المقالة: 1211
صاحب المقالة: إعداد إخوانك في موقع : (مفكرة الدعاة)
-----------------------------------------
الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، وأشهد ألا إله إلا الله ذو الفضل والإحسان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا...وبعد:
فيا عباد الله: إنَّ بلوغ رمضان لنعمةٌ عظمى ومِنحةٌ كبرى، لا يقْدُرُها حق قدرِها إلا الموفَّقون، فلقد كنّا بالأمس القريبِ نتشوق للقائه، ثم- ولله الحمد - تنعمنا ببهائه، وعشنا في نفحاته لحظات مرَّت مرور الطيف، ولمعت لمعان البرق.
فخرج المسلم منها بصفحة مشرِقة بيضاء ناصعةٍ، مفعمَة بفضائل الخصال، مبرأةً من سيئات الأعمال، قد استلهم الصائم الصادق المحتسب من مدرسة رمضان قوَّةَ الإرادة والعزيمة على كل خير، وتقوى الله في كل حين، تقويمًا للسلوك، وتزكية للنفوس، وتنقيةً للسرائر، وإصلاحًا للضمائر، وتمسُّكًا بالخيرات والفضائل، وبُعدًا عن القبائح والرذائل؛ فغدا الصوم لنفسه حصنًا حصينًا من الذنوب والمآثم، وحمى مباحًا للمحاسن والمكارم، فصفتْ روحه، ورقَّ قلبه، وصلحتْ نفسه، وتهذَّبتْ أخلاقه.
هذا في الدنيا أما في الأخرى فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الصِّيَامُ وَالقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ القُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيَشْفَعَانِ))؛ رواه أحمد وصححه الألباني.(/1)
أما من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، فأمضى ليالي رمضان المباركة في لهو ومعصية، ونهاره في نوم وغفلة، لم يرعَ للشهر حرمته، وتجرأ على الحرمات، فليبكِ لعظيم حسراته، وليسعَ لاستدراك ما فاته؛ لئلا يكون ممن قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: ((أَتَانِي جِبْرَائِيلُ - عليه السلام - فقال: يَا مُحَمَّدُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ...)).
فهنيئًا لمن أحسن استقباله ... هنيئًا لمن أكرم وفادته .. هنيئًا لمن قام ليله وصام نهاره .. هنيئًا لمن أقبل فيه على الله بقلبه وجوارحه .. هنيئًا لمن تقرب إلى الله فيه بأعمال صالحة .. وكفَّ النفس عن سيئات قبيحة..
هنيئًا لمن تاب الله عليه، ورضي عنه، وأعتقه الله من النار في رمضان، وآهٍ على شخص أدرك رمضان ولم يغفر الله له!!.. وا حسرتاه على أناسٍ دخل رمضان وخرج، وهم في غيهم يسرحون! .. وخلف الشهوات يلهثون! .. وفي القربات مفرطين ومقصرين!!
أفلا يحق لنا أن نبكي على فراق شهرنا الكريم ولياليه الزاهرة، وساعاته العاطرة.. التي ولَّتْ مدبرة، وتتابعت مسرعة، فكانت سجلاَّتٍ مطويَّة، وخزائن مغلقة، حافظةٌ لما أودعناها، شاهدةً لنا أوعلينا، لا يُدرَى من الرابح فيها فيُهنَّا، ولا الخاسر منا فيُعزَّى .. حتى ينادي الله بنا يوم القيامة: (( يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ))؛ رواه مسلم.
فها هو رمضان آذن بوداع، والعيد على إقبال بإسراع.
يَا رَاحِلاً وَجَمِيلُ الصَّبْرِ يَتْبَعُهُ هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى لُقْيَاكَ يَتَّفِقُ
مَا أَنْصَفَتْكَ دُمُوعِي وَهْيَ دَامِيَةٌ وَلاَ وَفَى لَكَ قَلْبِي وَهْوَ يَحْتَرِقُ(/2)
فيا من صفَتْ له الأوقات في شهر الخيرات، وعمَّر ساعاته بالصالحات، وزكَّى نفسه بالطاعات، وفاضت عينُه بالعبرات، قد زال عنه تعب القيام وجوع الصيام وثبت له الأجر والثواب - إن شاء الله تعالى -، احمد الله! واذكر نعمة ربك القائل: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].
واجتهد فيما بقي من حياتك، ولا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا عَبْدَاللهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ)). فأنت لا تدري هل قبل الله عملك أو ردَّه عليك؟
روى الترمذي عن عبدالرحمن بن سعيد أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60].
فقلتُ: "أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟" قال: (( لاَ يَا بْنَتِ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينِ يَصُومُونَ وَيُصَلُّون وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ)).
قال ابن عمر - رضي الله عنه -: "لو أعلم أن الله تقبل مني ركعتين؛ لتمنيت الموت بعدها قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة:27].
وقال عبدالعزيز بن أبي رواد: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ أُيقبل منهم أم لا؟" وقال ابن رجب: "كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟!"(/3)
إخواني: إنه وإن انْقَضَى شهرُ رمضانَ فإن عمل المؤمنِ لا ينقضِي قبْلَ الموت، قال الله - عزَّ وجلَّ -:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا مَاتَ العَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ)) فلم يَجْعلْ لانقطاع العملِ غايةً إلا الموت.
ولقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم عن السفاسف؛ فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين عابدين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة، تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم، التي تدل على تشميرهم وعزيمتهم وهمتهم:
قال الحسن: "من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره."، وقال وهيب بن الورد: "إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل."، وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني: "ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد عبادة إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه."
وكان أبو مسلم الخولاني يقول: "أيظن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستأثروا به دوننا؟! كلا والله .. لَنُزاحمَنَّهم عليه زحامًا؛ حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً."
قال عمر بن الخطاب: "إن لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض."
فيا عجبًا لإنسان عاقل يعود إلى مرارة المعصية بعد أن ذاق حلاوة الطاعة!!
شَارِطِ النَّفْسَ وَرَاقِبْ لاَ تَكُنْ مِثْلَ البَهَائِمْ
ثُمَّ حَاسِبْهَا وَعَاتِبْ وَعَلَى هَذَا فَلاَزِمْ
ثُمَّ جَاهِدْهَا وَعَاقِبْ هَكَذَا فِعْلُ الأَكَارِمْ
لَمْ يَزَالُوا فِي سِجَالٍ لِلنُّفُوسِ مُحَارِبِينَا
فَازَ مَنْ قَامَ اللَّيَالِي بِصَلاَةِ الخَاشِعِينَا(/4)
فلئِن انقضى صيامُ شهرِ رمضانَ فإن المؤمنَ لن ينقطعَ من عبادةِ الصيام والقيام والصدقة والذكر وتلاوة القرآن؛ فصيامَ ستًّا من شوالٍ بعد رمضانَ كصيام الدهرِ.. وكذلك صيام ثلاثةِ أيام من كلِّ شهرٍ؛ فقافلة العمَل الصالح التي لا تتوقَّف رحالها، ولا تتصرم حبالها، فطاعة الله هي الطريق إلى رضاه، و الاستكثار من العبادة يحوِّلُ الأشقياءَ إلى سعداءَ، وتجلب محبة الله لعبده والدفاعِ عنه إذا أصابه من غير الله مكروه.
والمداومة على الأعمال الصالحة تُطهِّر القلوبَ، وتزكّي الأنفسَ، وتُهذب الأرواحَ، وتُريح الأبدانَ، وتُسعدُ العبدَ في الدنيا والآخرة.
• • • •
الخطبة الثانية
يا مَن كنت تصوم وتقوم في وقت واحد مع سائر المسلمين في سائر أنحاء الدنيا، إياك أن تتخلّى عن الإحساس بانتمائك إلى هذه الأمّة الواحدة، وتذكر تلك الطفلة اليتيمة.. والأرملة الكسيرة.. والشيخ العاجز.. وشاركهم في مآسيهم بدعوة صادقة أو صدقة جارية، واجعل فرحة هذا العيد المبارك تعم أرجاء عالمنا الإسلامي لاأريد منك أن تحزن يوم الفرح، ولاتحرم نفسك طيبات ما أحلَّ الله.
لكن كما أدخلت السرور على أهلك ونفسك بالجديد من اللباس والتوسعة في المال، فهلا سعيت لإدخال السرور على أسرٍ أخرى، قد كبلتهم الديون، وأسرتهم الحاجات، لم يبوحوا بسرهم إلا لله.. ولو أسرة واحدة ، فها هي طرق الخير مشرعة أبوابها، فهلموا إليها .. وما تقدموا لأنفسكم تجدوه عند الله. ولذلك شرع الله الحكيم العليم زكاة الفطر؛ طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين فتؤدَّى قبل الخروج لصلاة العيد، ومَن أداها قبل العيد بيوم أو يومين فلا حرج، ويجوز توكيل من يؤديها قبل ذلك، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد.(/5)
ومن السنة التكبير من غروبِ الشمس ليلة العيدِ إلى صلاةِ العيدِ لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] وصِفتُهُ أنْ يقولَ: الله أكبر الله أكبر لا إِله إِلاَّ الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ويُسَنُّ جهرُ الرجالِ به في المساجدِ والأسواقِ والبيوتِ؛ إعلانًا بتعظيم الله وإظهارًا لعبادتِه وشكرِه، ويُسِرُّ به النساءُ. فما أجملَ حالَ الناسِ، وهُمْ يكبِّرون الله تعظيمًا وإجلاَلاً في كلِّ مكانٍ عندَ انتهاء شهرِ صومِهم! يملئون الآفاق تكبيرًا وتحميدًا وتهليلاً، يرجون رحمةَ اللهِ ويخافون عذابَه.
كذلك من تمام ذكر الله - عزَّ وجلَّ - حضور صلاةَ العيدِ فقد أمَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلّم - بها أمَّتَه؛ حتى النساءَ لقول أم عطية - رضي الله عنها -: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحُيَّض، وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين".
ويسن أن يأتي لمصلى العيد من طريق ويرجع من آخر، وأن يأكل تمرات حين يخرج لصلاة العيد، ويَحرُم صوم يوم العيد، وتخصيص ليلته بقيام بدعة، فلم يصح في إحياء ليلة العيد حديث..(/6)
العنوان: خطبة استسقاء
رقم المقالة: 775
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والحمد لله مغيث المستغيثين ومجيب المضطرين ومسبغ النعمة على العباد أجمعين لا إله إلا الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا إله إلا الله الولي الحميد لا إله إلا الله الواسع المجيد لا إله إلا الله الذي عم بفضله وإحسانه جميع العبيد وشمل بحلمه ورحمته ورزقه القريب والبعيد فـ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل النبيين المؤيد بالآيات البينات والحجج الواضحات والبراهين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بهديهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم بهذا الماء الذي يسره الله لكم فأنزله من السماء ثم سلكه ينابيع في الأرض وخزنه فيها لتستخرجوه عند الحاجة إليه ولو بقي على وجه الأرض لفسد وأفسد الهواء ولكن الله بحكمته ورحمته خزنه لكم: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} فاحمدوا الله أيها المسلمون على هذه النعمة واعرفوا قدر ضرورتكم إلى الماء الذي هو مادة حياتكم وحياة بهائمكم وأشجاركم وزروعكم وإنه لا غنى لكم عن رحمة الله إياكم به طرفة عين {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30].(/1)
أيها المسلمون: إنكم لتعلمون ما يحصل من الضرر بتأخر هذا الماء أو نقصانه في الزروع والثمار والبهائم ولقد شاهدتم ما حصل من نزول المياه الجوفية الذي لعله يكون من أسبابه قلة الأمطار فأنتم أيها المسلمون مضطرون إلى المطر غاية الضرورة ولا يستطيع أحد أن ينزل المطر إلا الله تعالى الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء فهو غياث المستغيثين وجابر المنكسرين وراحم المستضعفين وهو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم يعطي لحكمة ويمنع لحكمة وهو اللطيف الخبير.
أيها المسلمون: إذا علمتم أنكم مضطرون إلى رحمة ربكم وغيثه غاية الضرورة وأنه لا يكشف ضركم ولا يغيث شدتكم إلا الرحمن الرحيم الجواد الكريم.
أيها المسلمون: إذا علمتم أن الدعاء مخ العبادة وأن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا وأن من دعا الله بإخلاص وصدق فلن يخيب فإما أن يعطى مطلوبه أو يدخر له ما هو أكثر منه وأعظم أو يدفع عنه من السوء ما هو أشد وأكبر إذا علمتم أيها المسلمون ذلك كله فارفعوا قلوبكم وأيديكم إلى ربكم مستغيثين به راجين لفضله آملين لكرمه وقدموا بين يدي ذلك توبة نصوحاً واستغفاراً من الذنوب.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك أن تغيث قلوبنا وتحييها بذكرك وتصلح باطننا بالإخلاص والمحبة لك وظاهرنا بالاتباع التام لرسولك - صلى الله عليه وسلم - والانقياد الكامل لشريعته حتى لا نجد في أنفسنا حرجاً مما قضى ونسلم تسليماً.(/2)
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مداراً اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأخرج لنا من بركات الأرض اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا عذاب ولا هدم ولا غرق.
أيها الإخوان: اقتدوا بنبيكم - صلى الله عليه وسلم - بقلب العباء فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقلب رداءه تفاؤلاً على ربكم أن يقلب حالكم إلى الرخاء وإشعاراً بالتزامكم تغيير لباسكم الباطن بلزوم التقوى بدلاً من التلوث بلباس المعاصي والردى. ثم يستقبل القبلة فيقلب رداءه ويدعو.
ثم يدعو الناس إلى التوبة وبيان أن ما أصابهم فإنما هو بذنوبهم وأنه ينبغي التوبة والإلحاح كل وقت ثم ينصرف.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والحمد لله مغيث المستغيثين ومجيب دعوة المضطرين وكاشف الكرب عن المكروبين ومسبغ النعمة على العباد أجمعين لا إله إلا الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وربك يخلق ما يشاء ويختار وهو الولي الحميد فسبحانه من إله كريم شمل بكرمه ورزقه وإحسانه القريب والبعيد فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها وربك على كل شيء حفيظ ولكنه يعطي لحكمة ويمنع لحكمة إن ربي على صراط مستقيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة يوم الوعيد وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل الرسل وخلاصة العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم الرشيد وسلم تسليماً.(/3)
عباد الله: قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34] وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:34] وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:95،96].
عباد الله: أنزل الله تعالى غيثين لعباده أحدهما أهم من الآخر والناس يحتاجون إليه أشد من الآخر أما الغيث الأول فهو غيث القلوب بما أنزل الله من الوحي على رسله وهذا الغيث مادة حياة القلوب وسعادة الدنيا والآخرة وبه يستجلب الغيث الثاني وهو غيث الأرض بما ينزله الله من المطر ولقد خرجتم تستغيثون ربكم لهذا الغيث وإنه لجدير بنا أن نهتم بالغيث الأول قبل الثاني لأن به سعادة الدنيا والآخرة وحصول الغيث الثاني قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} وقال تعالى على لسان نوح - صلى الله عليه وسلم -: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * رْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} إلى قوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:11،12] وقال تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52].(/4)
أيها المسلمون: يجب علينا أن نتفقد قلوبنا هل رويت من هذا الغيث أم هي ظامئة يجب علينا أن ننظر في صحائفنا هل هي ربيع بهذا الوحي أم مجدبة منه يجب علينا أن نصلح ما فسد وأن نطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد يجب علينا أداء الصلاة وإيتاء الزكاة والقيام بإصلاح الأهل وإصلاح المجتمعات يجب علينا أن نتوب إلى الله من جميع الذنوب وأن نحسن الظن بالله عندما نتوب فإن الله سبحانه يقول: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فارفعوا أيديكم واتجهوا بقلوبكم إلى ربكم داعين مؤملين منه الفرج وإزالة الشدة اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً اللهم وفقنا للتوبة النصوح التي تمحو بها ما سلف من ذنوبنا وتصلح بها أحوالنا وقلوبنا اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم واكشف الضر عن المستضرين وأسبغ النعم على المؤمنين.
اللهم اسقنا الغيث والرحمة ولا تجعلنا من القانطين اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا غيثا مغيثاً هنيئاً مريئاً غدقاً واسعاً شاملاً لجميع أراضي المسلمين اللهم أغثنا غيثا مباركاً تحيي به البلاد وترحم به العباد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع وأنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من بركات الأرض اللهم وسع أرزاقنا ويسر أقواتنا واجعل ما رزقتنا قوة لنا على طاعتك ومتاعا إلى حين اللهم إنا عبيدك مضطرون إلى رحمتك خائفون من عذابك فارحمنا برحمتك ونجنا من عذابك ولا تؤاخذنا بما فعلنا فإنك أهل العفو والإحسان اللهم تقبل منا دعواتنا بمنك وكرمك وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد.(/5)
عباد الله: اقتدوا بنبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - في قلب العباء فإن ذلك سنة وفيه تفاؤل بقلب الأحوال إلى حال أخرى وعنوان على التزامكم بقلب اللباس الباطن إلى لباس آخر ولباس التقوى ذلك خير.
ثم يستقبل القبلة فيقلب رداءه ويدعو ثم يتجه ويعظ الناس قليلاً وينصرف.(/6)
العنوان: خطبة الوداع دراسة بلاغية تحليليّة
رقم المقالة: 392
صاحب المقالة: جليل رشيد فالح
-----------------------------------------
تمهيد في بلاغة الرسول ((صلى الله عليه وسلم)):
ترقى البلاغة النبوية إلى أعلى مدارج الكمال البشري في حسن التأتي للمعاني بأدق ما يمكن أن تؤديه المفردات والجمل من دلالات ومعان تقع في النفوس موقعاً بالغاً من التأثير ما لا تنقضي عجائبه ولا يذهب بروائه ورونقه تقادم العهد وكثرة الترداد:
وإذا كان من شأن العرب أن يتكلفوا القول صناعة، يحسنها خطيبهم وحكيمهم، فإن الرسول ((صلى الله عليه وسلم)) – وقد صنعه الله على عينه – يرسل الحديث سليقة وإلهاماً، سليماً مما يعتري كلام الناس من خلل أو اضطراب، أو بعتور محدثهم من عىّ أو حصر.
والجاحظ خير من وصف بلاغة الرسول ((صلى الله عليه وسلم)) بقوله: "وهو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة ونزه عن التكلف.... واستعمل المبسوط في مواضع البسط والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي.... وهو الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الافهام، وقلة عدد الكلام"[1].
ولا غرو أن الرسول ((صلى الله عليه وسلم)) قد نشأ في أفصح القبائل، إذ كان مولده في بني هاشم، وأخواله من بني زهرة ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، لذا قال – عليه الصلاة والسلام: ((أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر))[2].(/1)
وحين تهيئه العناية الربانية للاضطلاع بأعظم ما عرفته البشرية في تاريخها الطويل من رسالات، وفي قوم لهم في ميدان البلاغة والفصاحة القدح المعلى، فلابد أن يكون النبي المرسل إليهم أفضلهم بياناً وأقدرهم على التصرف في فنون القول، وأبعدهم عن عيوب الكلام زللاً واضطراباً واستكراهاً ((فليس إلا أن يكون ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قد كان توفيقاً وإلهاماً من الله، أو ما هذه سبيله))[3].
والحديث الشريف كالقرآن الكريم يجري على سنن العرب في كلامها بحفوله بالأساليب والفنون العربية التي وقفنا عليها من خلال مباحث البلاغيين، إلا أن هذه الأساليب والفنون تأتي في البيان النبوي كما في القرآن الكريم على الصورة التي تتساوق فيها الفكرة مع الفن التعبيري على أدق وجه، فكل لفظة أو جملة أو فقرة لا تجدها تنبو عن موضعها، ولا يسع أحداً أن يخيلها عن ذلك الموضع أو يستبدل بها غيرها لتكون أو في دلالة وأشد إحكاماً...
((وليس أحكام الأداء وروعة الفصاحة وعذوبة المنطق وسلاسة النظم، إلا صفات كانت فيه صلى الله عليه وسلم عند أسبابها الطبيعية.... لم يتكلف لها عملاً، ولا ارتاض من أجلها رياضة بل خلق مستكمل الأداة فيها، ونشأ موفر الأسباب عليها، كأنه صورة تامة من الطبيعة العربية))[4].
وفي ضوء هذا كله كان جديراً بالدارسين أن تكون لهم وقفة بل وقفات متأنية متأملة عند البلاغة النبوية بعقد مباحث تحليلية تكشف عن مواطن البراعة والدقة في فن القول في أرفع مستوياته.
الغاية من البحث ومنهجه:
جدير بطلاب العربية ورادتها وباحثيها أن يلتمسوا في كلام أفصح من نطق بالضاد معالم الطريق إلى استشراف البلاغة العالية المنزهة عن العيوب والمثالب، لتكون أمامهم المثل الأعلى في الاستهداء بمعانيه وتمثل أساليبه:(/2)
ومن هنا كانت هذه المحاولة المتواضعة في الدخول إلى ساحة البلاغة النبوية من خلال دراسة نصّ كريم غنيّ بمعانيه السامية ومضامينه السديدة، مصوغ بالأسلوب البليغ والأداء الدقيق.
فالغاية أن نقف عن مقاطع من هذا النصّ النبوي وهو ((خطبة الوداع)) متأملين دلالالتها البلاغية للكشف عن جمالية توظيف الفن البلاغي الذي يرد في الحديث النبوي بعيداً عن معاناة للصنعة والاقحام أو ابتغاء الحلية اللفظية التي لا غناء فيها.
ومما حملني على هذه المحاولة – بل المركب الصعب – إني لا أجد كبير عناية بالنصوص واحتفال بتحليل صيغها وتراكيبها، وبيان المواقع الدقيقة للفنون والأساليب البلاغية متميزة عن وجودها في كلام سائر الناس، كي يقف القراء على لون من ألوان الدراسة التي هي في الوقت ذاته موازنة ضمنية لتوظيف فنون البلاغة بقدرات تعلو حتى تبلغ حد الإعجاز، وإسفاف ينبئ عن تمثل شكلي ورصف لفظي وخواه فكري... فالإيجاز في البلاغة القرآنية والنبوية غيره في موضع آخر، وكذلك الاطناب، فإن دلالالته المعنوية والفنية غير ما توحي به هذه الظاهرة في موطن آخر قد يكون به حاجة إلى الاطناب أو لا يكون، وهو – في جميع الأحوال – يكشف عن خلل مرئي أو محسوس به هنا وهناك في مواضع شتى من النصّ.
والدراسات التحليلية للبيان النبوي قليلة – كما اسلفت – غير ما كتبه الشريف الرضي في ((المجازات النبوية – إذ بنى منهجه على أن يأتي ((بأحاديث أو بأجزاء منه، بحسب ما وقع له في إطلاعه على مراجعه، ومنهجه أن يذكر النص، ويعقبه بالإشارة إلى اللون البياني، ويذكر ما يستدعي الذكر من المناسبة التي ورد فيها شارحاً موجهاً في إيجاز، مبيناً الوجه أو الوجوه التي يخرج عليها المعنى وكثيراً ما يجعل سر التعبير وأثره تعريفاً بالقيمة الجمالية التي تلزمه))[5].(/3)
وكذلك الزمخشري في كتابه ((الفائق في غريب الحديث)) حيث نعثر في غضونه لمحات وإشارات إلى جمال البلاغة النبوية ضمن مباحث في اللغة والنحو والإعراب.
أما كتاب ((إعجاز القرآن والبلاغة النبوية)) لمصطفى صادق الرافعي، فقد كان – ولا يزال – من أفضل الدراسات النظرية المستوعبة لخصائص الإعجاز القرآني والبلاغة النبوية، إلا أنه لم يلتمس لنفسه سبيل التحليل لنصوص من الحديث الشريف.
أما الكتاب الذي وقفت عليه مفيداً في هذا الباب فهو كتاب ((الحديث النبوي من الوجهة البلاغية)) الدكتور عز الدين علي السيد، إذ جنح فيه إلى تحليل أحاديث شريفة لبيان مواضع الدقة والفطرة في صوغ الأفكار وجلاء المعاني.
إن هذا البحث المتواضع يسهم بصورة أو أخرى في خدمة البلاغة النبوية من خلال دراسة ((خطبة الوداع)) دراسة تحليلية. تكشف من خلالها عن طواعية الفن الطاغي في الخطبة وعن دقة الموازنة بين الفن البلاغي وبين الغايات التي يهدف الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى تحقيقها من خلال سوقه للعبارة الفنية المستوفية لكل متطلبات البلاغة، ضمن ثلاثة مسارات حددها الدكتور عز الدين علي السيد وهي:
1 - صفاء اللفظ ووفاؤه افراداً وتركيباً.
2 - وضوح المعنى وظهور المغزى.
3 - وسائل التشويق والإيقاظ بعثاً للنشاط وإجابة للداعي، ومنها القولي ومنها الحسي[6].
النص في سيرة ابن هشام[7]
أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف أبداً.
أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، كحرمة شهركم هذا وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وان كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.(/4)
قضى الله أنه لا ربا، وان ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله، وان كل دم في الجاهلية موضوع، وان أول دمائكم اضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، كان مسترضعاً في بني ليث، فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد – أيها الناس – فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به، مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس: [إنما] النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان.
أما بعد أيها الناس: فإن لكم علي نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرح. فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما اخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا – أيها الناس – قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: أمراً بيناً كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه: تعلّمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه على طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم.
اللهم هل بلغت.
فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم). اللهم اشهد.
الدراسة:
يستهل الرسول (صلى الله عليه وسلم) خطبته بقوله:
((أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف أبداً)).(/5)
نلحظ أول ما نلحظ هذا النداء القريب إلى النفوس، إذ استغنى عن أداة النداء ((يا))، وغيرها تحقيقاً لهذا القرب والتلاحم مع أبناء الأمة الذين زالت الهوة بينهم وبين معلمهم وهاديهم.
إن حذف أداة النداء قد حقق هذا القرب والتلاحم، فكأن الناس قريبون إليه يناديهم بأرق النداء وأعذبه ليستميل قلوبهم إلى ما يلقي عليهم من حسن التوجيه وسديد الإرشاد.
ويا للنداء وضع في أصله لنداء البعيد، بدليل أنهم عدوا الأداتين ((الهمزة وأي)) للقريب[8].
وأما ((يا)) فقال ابن الحاجب: أنها حقيقة في القريب والبعيد لأنها لطلب الإقبال مطلقاً، وقال الزمخشري: إنها للبعيد))[9].
وإذا كان الأمر كذلك فإن من الواضح أن يكون حذف أداة النداء دالاً على قرب المنادي للمنادى، والالتصاق به والتحبب إليه:
وليس يسعنا في هذا الموضع أن نحمل حذف الأداة على خلاف مقتضى الظاهر، لأن ذلك يدعونا إلى القول إن المنادى ممن سها أو غفل، وما كان له أن يكون على ذلك الحال، إلا أن حذف الأداة هنا جاء على الحقيقة والحال وليس عدولاً عنها تنزيهاً من الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين عن السهر والغفلة.
((اسمعوا قولي)) اسمعول فعل أمر، وللأمر وجهتان في التعبير البلاغي: حقيقي ومجازي، وللمجازي أغراض متعددة.
ينبغي أن نحدد بادئ ذي بدء مدلول الأمر الحقيقي والمجازي لنتبين في أي المسارات تتجه هذه الصيغة.
الأمر الحقيقي: ((صيغته موضوعة لطلب الفعل استعلاماُ، لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك وتوقف ما سواه على القرينة))[10].
أما صيغة الأمر المجازي – فكما قال القزويني – قد تستعمل في غير طلب الفعل بحسب مناسبة المقام، كالإباحة... والتهديد... والتعجيز... والتسخير))[11].(/6)
وإني أرجح أن الأمر في هذا الموضع مجازي، وذلك بدلالة الاستهلال الرقيق، فلا يسوغ أن يكون النداء يحمل في تضاعيفه من معاني التودد والتلطف ثم يعثبه مباشرة بما يدل على الأمر خشية أن يقع ذلك من نفوس سامعيه موقعاً لا يرتضيه، ولما يحصل من التفاوت بين الرقة والتلطلف وبين الشدة التي يحملها الأمر الحقيقي مدلولاً من مدلولاته.
أقول ذلك من غير أن يتبادر إلى الذهن أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا قبل له بأن يأمر قومه بما يشاء فيطاع، هذا أمر لا مشاحة فيه بقدر ما نود أن نرسم من خلال هذا المقطع صورة التناغم البياني بين أجزاء المقطع، وتلك خصوصية من خصوصيات البلاغة النبوية الكريمة. ولذلك فإن المعنى المجازي الذي أرجحه من خلال صيغة الأمر هو لفت الأنظار وتوجيه النفوس أو تنبيه الجمع المخاطب إلى ما يعرضه عليهم من توجيهات.
وما يلي هذا الأمر من العبارات يعزز مجازيته، وذلك في قوله (صلى الله عليه وسلم):
((فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا...)) فجملة المقطع تتسم بالإنسيابية وهدوء النبرة، مما يتسق مع مجازية الأمر السابق على هذا المقطع، ولما في الأمر الحقيقي – لو كان المراد – من القوة والشدة.
فإني لا أدري...: إن: من أدوات التوكيد، وهي ترد في غضون الخطبة بكثرة ملحوظة، ولكل موضع ترد فيه ((إن)) دلالة التوكيد والأهمية.
فهل كانت ((إن)) من مؤكدات مضمون هذا القول، وهل هي من مقتضياته؟
أما كان منتظراً أن يقول: فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا؟.
أقول: لو جاء الكلام على هذه الشاكلة لما تأتى لهذا الكلام أن يفعل فعله التوجيهي العقائدي.
إن جو الكلام منذ استهلاله يوحي بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد وقف وقفة الوداع، فأراد أن يقرر حقيقة رحلة الإنسان من حياته الدنيا، بتقريره أنه – وإن كان رسولاً يوحى إليه – فهو لا يدري متى سيكون رحيله.(/7)
– فإني لا أدري –: أي حتى هو بوصفه نبياً يوحى إليه – يجهل حقيقة هذا الأمر، ولعل مما يخالج نفوس المسلمين من أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعلم بذلك، فلكي يستقر هذا المفهوم بكل أبعاده من غير أن يعتري السمع شك في ذلك جاء بصيغة التوكيد الذي من شأنه أن يرسخ الفكرة في الأذهان.
وربما يرد في هذا الموضع سؤال مفاده: أليس هذا يعني أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أوحي إليه بدنو أجله؟.
نقول: ربما أوحي إليه بذلك، ولكن لم يرد أن يقطع بشيء من ذلك، فالله وحده الذي يقرر. والاستشعار بدون الأجل ليس معناه معرفة ساعة الرحيل على وجه الدقة والضبط، ثم أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يشأ أن يجعل المسلمين في دوامة الاضطراب والقلق خشية أن ينفرط شملهم ويصيبهم من الذهول ما لا يرتضيه لهم.
ومن الملاحظ البلاغية في استخدام ((إن)) في هذا الموضع أنها جاءت في عقب جملة سابقة فقد كان مجيء ((إن)) ضرباً من ضروب التوثيق بين الجملتين.
قال الزملكاني: ((وتجيء – أي إنّ – اربط بين جملتين لتوصل أحداهما بالأخرى، فتراهما بعد دخولها كأنهما قد افرغا في قالب واحد))[12].
ويرى الزملكاني أنه يسع المتكلم أن يأتي بالفاء مكان ((إن)) ولكن لا تؤدي مؤداها من قوة الربط والتوكيد والامتزاج.
يقول في ذلك: ((... لرأيت الامتزاج والألف مقاصراً عما كان عليه))[13].
ولعل في هذا جواباً على تساؤلي في موضع سابق: ألم يكن منتظراً أن يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): ((اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم))، ففي كلام الزملكاني ما يغني عن التفصيل والبيان.
((لعلي)) أداة الترجي، هذه الأداة لم تحظ بعناية البلاغيين قدر ما عدوه أداة نحوية فحسب.
وكان الأجدر البلاغيين أن يتحدثوا عن هذه الأداة في جملة ما تحدثوا به عن غيرها من أساليب التعبير كالأمر والاستفهام والنهي والتمني وأن يعدوها في الإنشاء غير الطلبي بوجه خاص، كما فعلوا بصنوها ((ليت)).(/8)
والمعنى الأساس للأداة ((لعل)) هو الترجي. ولو تتبعنا دلالالتها المجازية لوجدت أنها تخرج إلى معان أخر، وربما كان التقرير أو التمويه أو التمني من جملة دلالالتها.
وإني انفي أن تكون دلالتها في الخطبة ترجياً، بل هو تقرير واشعار بدنو الأجل، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يجعل الأمر مرهوناً بالآجال التي قرر أنه لا يدري مواقيتها.
ويحجزنا الحياء عن القول إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يموّه على أصحابه الأمر، فيبعد أذهانهم من قضية رحيله وفراقه، فساق الموضوع بصيغة تقريرية تنسحب دلالتها على كل إنسان، فكلنا معرضون للموت في كل لحظة.
ترد بعد ذلك الحقائق التي أراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يغرسها في نفوس المسلمين على أنها أحكام للحياة لا تحتمل تأويلاً ولا تقبل حيدة أو جنوحاً. فجملة ما واجه به المسلمين وردت بصيغة التوكيد الحقيقي.
وقد قرر البلاغيون أن ((الإهتمام بالشيء وانفعال النفس به يستوجب ضرباً من تأكيده، أمراً أو نهياً أو خبراً يستلزم طلباً أو خبراً يقع في الجواب))[14].
وقد جاء التوكيد في مقاطع الخطبة بأكثر من وسيلة، وهي:
أداة التوكيد ((إنَّ)) والتكرار، وتقديم ما حقه التأخير (ومنه القصر)، وأدانا التحقيق والتوكيد ((قد وكل)).
ومما جاء مؤكداً بإن:
((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام...))
((وإنكم ستلقون ربكم...))
((وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله...))
((وإن كل دم في الجاهلية موضوع))
((وإن أول دمائكم أضع...))
ومما جاء مؤكداً بالتكرار:
((كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا...)).(/9)
إن حرمة الأموال والدماء ولقاء الله ووضع الربا والدماء مما تعد من كبريات القضايا التي كانت تسود حياة العرب، وكان لابد لها من الحسم القاطع، تنقية للمجتمع الإسلامي من كل بقايا الجاهلية ومواريثها، ولذلك تصدرت هذه المقاطع أداة التوكيد ((إن)) التي تضمن الإيصال والتثبيت إضافة إلى حسم التردد والشك في القبول والتلقي.
ولقد ذهب البلاغيون إلى أن استخدام أداة التوكيد واحدة ضمن العبارة هي لحسم الشك والتردد. قال القزويني: ((وإن كان متصور الطرفين، متردداً في إسناد أحدهما إلى الآخر طالباً له حسن تقويته بمؤكد))[15].
وليس هذا الأمر مطرداً على نسق متواصل، فقد يخرج استخدام الأداة في غير هذا الموضع مراعاة لغير الظاهر، كما قرر البلاغيون أنفسهم، فقد ذكر القزويني نفسه ذلك في قوله: ((وكثيراً ما يخرج على خلافه، فينزل غير السائل منزلة السائل – أي المتردد الشاك – إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر، فيستشرف له استشراف المتردد الطالب))[16].
ونحن نقول: إن أداة التوكيد سواء أكانت واحدة أم أكثر فإنها تقيد توثيق الأمر وضمان حسن تلقيه وأثره في نفس المتلقي واتخاذ موقف معين مضامينه، سواء أكان في الأمر شك أم لم يكن، وإلى جانب ذلك إشعار بأهمية الأحكام المعروضة ضماناً لحشد الطاقات النفسية والاجتماعية لاجتثاث ما علق بالنفوس والواقع المعيش من آثار وقيم نسخها الدين الإسلامي.(/10)
والتكرار هو الآخر إشعار بأهمية الأمر وإعظام لشأنه. قال (صلى الله عليه وسلم): كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا. والحرمة في حياة المسلمين قضية لها من الخطر والجلال ما لها، وتكرار اللفظة إيقاظ الحواس، ولا يغب عن البال ما أضافه تكرار (هذا) في نهاية كل مقطع من إيقاع لفظي زاد من جلال التوكيد جلالاً، وكان له من الواقع ما يحفز النفوس إلى تثبيت والتملي واستيعاب القضية بكل أبعادها النفسية والفكرية، وهذا ((على جانب من التنغيم النافذ إلى الروح، ندركه دائماً في حسن جرسه وتعانق معانيه وتتابع موجاته، يدفع بعضها في نشاط وتشابه))[17].
ويشير الزمخشري إلى القيمة الفنية والمعنوية في ظاهرة التكرار بأنها ((استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وطريقة الانصات لكل حكم نازل، وتحريك منهم لئلا يفتروا أو يغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به))[18].
((وقد بلغت)): في هذا المقطع أكثر من دلالة بلاغية.
1 – استخدام (قد) مفيدة التحقيق هو لون آخر من ألوان التوكيد التي تحفل بها كظاهرة معنوية موظفة للتبليغ والتثبيت ولفت الأنظار نحو الأحكام النبوية.
2 – حذف المفعول به:
يقول الإمام عبدالقاهر في بلاغة الحذف وأثره الجميل في تقوية الفكرة.
((هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فتلك ترى به ترك المذكور أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك انطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن))[19].
إن البيان النبوي قد استغنى عن المفعول به لعمومه، ودلالة ما سبقه عليه من جهة، إذ أنه ((يتناول كل ما يصح أن يدخل تحت هذا الفعل، فليس ذكر البعض بأولى من الآخر))[20]، ومن جهة أخرى فإن الاهتمام بالفعل هو المراد، أي أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أشهدهم على أنه قام بالتبليغ، إذن الحديث هو الأرجح في الذكر دون غيره من متعلقاته.(/11)
وفي بيان هذا المنحى البلاغي يقول الزمخشري في حديثه عن حذف المفعول.
((وقد يحذف المفعول لأن القصد إلى الفعل غير معتمد إلى شيء، يقول في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} وفي قوله: لا تقدموا من غير ذكر مفعول وجهان: أحدهما يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدم، والثاني إلا يقصد قصد مفعول ولا حذفه))[21].
3 – ورود المقطع بالصيغة الخبرية، ولعل في هذه الصيغة من الثقة والاعتداد بتجاوب المسلمين ما لم يجد معه حاجة إلى إلتماس الأساليب الإنشائية التي تساق غالباً في مواضع بها حاجة إلى استثارة الهمم وقرع النفوس التي قد تتلبس ببعض الغفلة أو التردد.
((وقد بلغت)): صيغة الحسم والقطع، بل صيغة الاشعار بأن هذا هو البلاغ النهائي الذي لا بلاغ من بعده.
ومن أساليب التوكيد التي وردت في غضون هذه المقاطع:
((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام))
((ولكن لكم رؤوس أموالكم))
نجد في المقطع الأول تقدم الجار والمجرور (عليكم) على خبر إن، وهو في عرف النحاة فضلة من حقها أن تتأخر، ولكن له في البيان النبوي تقدم ملموس ظاهر، ترى أكان التناغم اللفظي هو الذي استدعى هذا التقديم، أم أن وراء تقديمه غاية معنوية أخرى.
ليس بوسعنا أن نقطع بإجابة عن واحد من ذينك التساؤلين بقدر ما نود أن نوفق بين التساؤلين.
إن البيان النبوي قد توخى الإيقاع المتناغم الذي يكسب العبارة جمالية محببة إلى النفس من خلال توالي: دمائكم – أموالكم – عليكم –.
إذن نحن لا ننفي هذه الصيغة الجمالية التي هي من أجلى خصائص البلاغة النبوية التي اجتمعت فيها – على حد قول الرافعي – ثلاث صفات هي:
الخلوص والقصد والاستيفاء[22].
إلا أننا في الوقت ذاته نحسّ أن التقديم إن خلا من الفائدة المعنوية فإن الجانب الجمالي يظل حلية خاوية ننزه البلاغة النبوية عن أن تكون هدفاً من أهدافها.(/12)
إن الذهن ينتظر خبر (إن) ليكتمل به المعنى الأساس، فإذا بالذهن يقرع بالجار والمجرور (عليكم) خطاباً مباشراً إلى المسلمين؛ إذن الأمر الذي سيسمعونه خطير، فهو يعنيهم ويمس وجودهم وكيانهم، ففي هذه اللحظة يساق الخبر حكماً من الأحكام خطير الشأن، بعد أن هيأ تقديم الجار والمجرور الأذهان لتلقي الخبر.
وكذلك الأمر في قوله (صلى الله عليه وسلم): ((ولكن لكم رؤوس أموالكم)) فإنه إشعار إلى أن ما كان غير محذور يعود إلى أصحابه؛ فرؤوس الأموال حق مشروع من حقوقهم دون ما يتمخض عن الربا من أموال لا يباح لهم تملكها وحيازتها.
ومن أجل أن لا يظنوا أنهم سيضيعون كل شيء بعث في نفوسهم الطمأنينة من خلال (لكم) وهو خبر مقدم، لو قال: ولكن رؤوس أموالكم لكم، فلربما ذهبت الظنون أنها هي الأخرى ستضيع، فالخبر هو الأهم في أن يذكر أولاً، فإن تقدمه باعث على الطمأنينة وراحة البال وفي بلاغة التقديم يقول القزويني:
((إن تكون العناية بتقديمه والاعتناء بشأنه بكونه في نفسه نصب عينك، والتفات خاطرك إليه في التزايد.... أو لعارض يورثه ذلك، كما إذا توهمت إن مخاطبك ملتفت الخاطر إليه ينتظر أن تذكره، فيبرر في معرض أمر يتجدد في شأنه التقاضي ساعة فساعة، فمتى تجد له مجالاً للذكر صالحاً أوردته))[23].
ومن خلال المقاطع السابقة تلفت أنظارنا صيغ جديرة بالوقوف للتعرف على دلالتها الخاصة من خلال تراكيبها الخاصة.
((وإنكم ستلقون ربكم))
إن من أركان العقيدة أن يلقى العباد ربهم ليحاسبهم ويسألهم عن أعمالهم.(/13)
والفعل في الجملة مصدر بسين الاستقبال، وهذه السين قد حققت إحساس السامع يقرب هذا اللقاء، وقد عدل البيان النبوي عن ((سوف)) وهو أيضاً حرف استقبال ولكنه يدل على تحقق الفعل بزمن أبعد، وربما كان في استخدامه في ظاهر الحال أكثر دلالة على السين، إلا أن ((السين)) فيها من دلالة القرب ما يشعر أن الأمر واقع لا محالة، ليكون ذلك الإحساس باعثاً على التعجيل بالإلتزام والتمثل والتطبيق.
وحين تحقق السين هذا الإحساس دون سوف الدالة على التراخي الزمني فإن البلاغة النبوية قد حققت مبدأ المطابقة لمقتضى الحال بدقة متناهية متساوقة مع القدرة المتميزة لأعلى ذروة البلاغة البشرية أن تبلغها أو أن تحققها.
ونقف عند الفعل ((فليؤدها)) وهو مضارع مجزوم بلام الأمر جاء جواباً لشرط لا يحتمل إلا هذه المباشرة التي وضحت الحكم بكل أبعاده، فالأمانة ينبغي أن تؤدى، وإذا لم يكن هناك سبيل إلى غير ذلك فلا مناص للمخاطب إلا أن يفعل.
والأمر هنا حقيقي، وحقيقته هي من مقتضى الموقف الذي يتطلب ذلك، وقد سبق أن عرضنا لدلالة الأمر الحقيقي.
ويلفت أنظارنا أن المقاطع التي تصدرتها أدوات توكيد تخللتها مقاطع خلت من تلك الأدوات، مع أن مقتضى الظاهر أن تتصدر بها، لأن مضامينها ليست أدنى درجة من الأهمية عن مضامين تلك الجمل المؤكدة التي تكتنفها قبل وبعد.
((ومن هذه المقاطع قوله (صلى الله عليه وسلم):
((تظلمون ولا تظلمون))
((قضى الله أنه لا ربا))
والجواب عن ذلك يتطلب النظر إلى الموضوع من جهتين:
الأولى: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) استشهد بآية كريمة، والاستشهاد لا يحتمل الإضافة والزيادة.
الثانية: أن الاستغناء عن أدوات التوكيد في عرف البلاغيين لأمرين: إما أن المخاطب خالي الذهن، أي أنه غير متردد في قبول الحكم، أو غير منكر له حتى يتطلب أداة للتوكيد، وأما أن المتكلم ينزل المتردد أو المنكر منزلة خالي الذهن، لأن الموضوع مما لا يحتمل شكاً أو إنكاراً.(/14)
قال القزويني في بيان ذلك:
((فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر، والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم))[24].
((وكذلك ينزل المنكر منزلة غير المنكر، إذا كان معه إن تأمله ارتدع عن الإنكار، كما يقال لمنكر الإسلام ((الإسلام حق)) وعليه قوله تعالى في حق القرآن ((لا ريب فيه))[25].
وكأن الله تعالى جعل انتفاء ظلم المؤمن لأخيه المؤمن في معيار الإسلام أمراً لا مشاحة فيه، أي أنه من مستلزمات الروابط الإسلامية في ظل المجتمع الإسلامي أن يخلو من الظلم.
وقوله (صلى الله عليه وسلم): قضى الله أنه لا ربا.
أرى أن ننظر فيه من وجهتين:
الأولى: إن خلو المقطع من أدوات التوكيد هو أيضاً من باب إنزال المتردد أو المنكر منزلة خالي الذهن لوضوح الأمر وبداهته، فكيف يصح في شرع قوامه العدل والحق أن يكون فيه إباحة للربا وهو ظلم فاحش.
الثانية: إنني ألمح أن الصيغة التي سبقت بها العبارة مؤكدة لذاتها، وهذا يدعونا إلى القول أن في المقطع توكيداً ضمنياً يوحي به عموم العبارة، فهل يفهم من الفعل ((قضى)) غير الأمر الجازم الذي لا محيد عنه، وهل يفهم من قوله ((لا ربا)) بهذا النفي غير أن يكون الحكم حاسماً لا خلاف عليه.
ويشبه ذلك ما يستخدم من العبارات الشائعة من قولهم: يجب أن – ولابد أن – ولا مناص من، أليست هذه الصيغ مما يحمل التوكيد ضمناً من تضاعيفها.
وبهذا يمكننا أن نضيف نوعاً جديداً لأساليب التوكيد المعنوي واللفظي نسميه بالتوكيد الضمني. وهو ما يستفاد من عموم العبارة التي تساق بحيث لا تحتمل من المعاني إلا وجهاً واحداً يفيد الجزم والحسم والتوكيد.
وفي الختام تجسد الحرص النبوي على أن تبلغ جملة هذه التوجيهات من مكامن نفوس المسلمين إلى صورة التوكيد. ((فلا تظلمن أنفسكم)) وكان يسعه (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: فلا تظلموا أنفسكم، ولكن نون التوكيد هي بمثابة أداة القرع للنفس خشية أن تغفل فتضل.(/15)
ثم أعقب ذلك بصيغة إنشائية: اللهم هل بلغت... والصيغة المعتمدة هي الاستفهام، ليستوثق من يقظة المسلمين وتجاوبهم فيسمع منهم الجواب الذي يبعث في نفسه الطمأنينة على أن ما زرعه من كلمات إنما هي هي الشجرة التي ضربت بجذورها في الأعماق، وسمقت إلى الأعالي باسقة ظليلة آنية ثمراً طيباً.
وهنا تستوقفنا الصيغة الاستفهامية لنسأل أنفسنا: هل جاء الاستفهام في هذا الموضع حقيقة أم مجازاً؟
أود أن أعرض للأمر من جانبين: كل جانب يجدد مسار هذا الاستفهام.
الجانب الأول: يتصل بالرسول (صلى الله عليه وسلم) مبلغاً للأمانة، فقد عدل عن الصيغة الإخبارية على النحو الذي ورد في أول الخطبة ((وقد بلغت)) لكي يأتي التقرير أشد في النفس وأوقع، وادعى إلى الطمأنينة.
أي أن الاستفهام مجازي خرج إلى التقرير والتثبيت.
أما الجانب الثاني: فهو مما يتصل بجمهور سامعيه حين حملوا الاستفهام على معناه الحقيقي، فأجابوا: اللهم نعم.
ونحن نعلم أن الاستفهام المجازي هو ما لا يحتاج إلى جواب، لأنه ليس من قبيل طلب حصول الفهم – كما يقول البلاغيون))[26].
وبذلك حققت البلاغة النبوية نمطاً فريداً من التعبير راعى فيه حالة المتكلم وموقفه مبدئياً ونفسياً، وراعى في الوقت ذاته المخاطبين وما هم عليه من موقف إزاء ما يلقى عليهم، فوجدوا أنفسهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم): يستفهم بقوله ((هل بلغت)) ليجيء الجواب في إثره: اللهم نعم... وهو جانب يعزز الحالة النفسية للرسول المبلغ حيث استوثق أنه أدى الأمانة كاملة غير منقوصة.
ثبت المصادر والمراجع:
1 - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية – مصطفى صادق الرافعي، ضبط وتحقيق محمد سعيد العريان – مطبعة الاستقامة مصر – 1945م.
2 - الإيضاح في علوم البلاغة – لجنة من الأزهر – إشراف محمد محيي الدين عبدالحميد – القاهرة.(/16)
3 - البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن – كمال الدين الزملكاني – تحقيق. د.أحمد مطلوب. د.خديجة الحديثي – رئاسة ديوان الأوقاف – إحياء التراث الإسلامي – 9.
4 - البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية د.محمد حسنين أبو موسى – دار الفكر العربي – القاهرة.
5 - البيان والتبيين – الجاحظ – تحقيق وشرح – عبدالسلام محمد هارون ط3 – مؤسسة الخانجي – القاهرة.
6 - التلخيص في علوم البلاغة – القزويني – شرح وتحقيق عبدالرحمن البرقوقي – ط2 – القاهرة 1932م.
7 - الحديث النبوي من الوجهة البلاغية – د.عز الدين علي السيد. دار الطباعة المحمدية – الأزهر – القاهرة – 1973م.
8 - دلائل الإعجاز – عبدالقاهر الجرجاني – تحقيق أحمد مصطفى المراغي – القاهرة.
9 - السيرة النبوية – ابن هشام – تحقيق – مصطفى السقا – إبراهيم الأبياري – عبدالحفيظ شلبي – القاهرة 1955م.
10 - الفائق في غريب الحديث – الزمخشري – تحقيق – علي محمد البجاوي – محمد أبو الفضل إبراهيم – جـ1 – ط2 – مطبعة عيسى البابي الحلبي – 1366هـ.
11 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. الزمخشري – جـ4 – مطبعة الاستقامة.
12 - مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح – ابن يعقوب المغربي – ((ضمن شروح التلخيص)) مطبعة البابي الحلبي – 1937م.
ـــــــــــــــــــــ
[1] البيان والتبيين – 2/17.
[2] الفائق في غريب الحديث – 141.
[3] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية – 316.
[4] المصدر نفسه – 329.
[5] الحديث النبوي من الوجهة البلاغية 45.
[6] المصدر نفسه 60.
[7] السيرة النبوية لابن هشام. القسم الثاني – ص604 – 603.
[8] التلخيص في علوم البلاغة – الهامش 172.
[9] مواهب الفتاح (من شروح التلخيص) 334.
[10] الإيضاح في علوم البلاغة – 143 – ما سواه أي الأمر المجازي.
[11] المصدر نفسه 143.
[12] البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن – 156.
[13] المصدر نفسه – 165.(/17)
[14] لحديث النبوي من الوجهة البلاغية – 73.
[15] الإيضاح في علوم البلاغة 18.
[16] المصدر نفسه 19.
[17] الحديث النبوي من الوجهة البلاغية 265.
[18] الكشاف 4/279.
[19] دلائل الاعجاز 98.
[20] البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري 335.
[21] الكشاف 4/277.
[22] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية 373.
[23] الإيضاح في علوم البلاغة 115.
[24] الإيضاح: 18.
[25] الإيضاح: 20.
[26] التلخيص في علوم البلاغة – الهامش: ص153.(/18)
العنوان: خطبة أولى لعيد الأضحى
رقم المقالة: 1749
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
خطبة أولى لعيد الأضحى
يكبر تسع مرات ثم يقول :
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد . الله أكبر عدد ما أحرم الحجاج من الميقات وعدد ما رفعوا بالتلبية لله الأصوات ، الله أكبر عدد ما دخل الحجاج مكة ونزلوا بتلك الرحبات ، الله أكبر عدد ما طافوا بالبيت العتيق وعظموا الحرمات ، الله أكبر عدد ما خرجوا إلى منى ووقفوا بعرفات وعدد ما باتوا بمزدلفة وعادوا إلى منى للمبيت ورمي الجمرات ، الله أكبر عدد ما أراقوا من الدماء وحلقوا من الرؤوس تعظيما لفاطر الأرض والسماوات ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
نحمده على ما من به علينا من مواسم الخيرات وما تفضل به من جزيل العطايا والهبات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مسبغ النعم ودافع النقم وفارج الكربات ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل الخلق وأفضل البريات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات وسلم تسليما .(/1)
عباد الله : إن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر وهو عيد الأضحى والنحر هو يوم الحج الأكبر ؛ لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسك الحج يرمون الجمرة الكبرى ويذبحون الهدايا ويحلقون رؤوسهم ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة ، وهو عيد الأضحى والنحر لأن الناس يضحون فيه وينحرون هداياهم ، وما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم ، وان للمضحي بكل شعرة حسنة وبكل صوفة حسنة ، وهذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والسلام ، وإنها لسنة مؤكدة يكره لمن قدر عليها أن يتركها وإن ذبحها لأفضل من الصدقة بثمنها لما فيها من إحياء السنة والأجر العظيم ومحبة الله لها . فضحوا أيها المسلمون عن أنفسكم وعن أهليكم متقربين بذلك إلى ربكم متبعين لسنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم حيث ضحى عنه وعن أهل بيته ، ومن كان منكم لا يجد الأضحية فقد ضحى عنه النبي صلى الله عليه وسلم جزاه الله عن أمته خيرا . وإذا كان منكم أحد يريد أن يتبرع بالأضحية عن والديه فلا يحرم نفسه وذريته وأهله منها وفضل الله واسع ، واعلموا أنه لا أصل لما يسميه بعض الناس أضحية الحفرة ، وهي التي يضحونها عن الميت أول سنة من موته(/2)
يخصونه بها ولا يدخلون معه أحدا في ثوابها فإن هذا لا أصل له في الشرع فاجتنبوه . وتجزي الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة ، فلا يشترك شخصان في شاة واحدة ولا أكثر من سبعة في بدنة أو بقرة ، ولكن للإنسان أن يشرك في ثواب أضحيته من شاء سواء كانت شاة أم سبع بدنة أم سبع بقرة . واعلموا أن للأضحية شروطا ثلاثة الأول : - أن تبلغ السن المعتبر شرعا وهو خمس سنين في الإبل وسنتان في البقر وسنة كاملة في المعز ونصف سنة في الضأن . الشرط الثاني : - أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء وهي أربعة عيوب : العرجاء البين ظلعها وهي لا تعانق الصحيحة في الممشاء ، والمريضة البين مرضها وهي التي ظهرت آثار المرض عليها إما في أكلها أو مشيها أو غير ذلك من أحوالها ، ومن المرض البين الجرب والعوراء البين عورها بأن تكون عينها العوراء ناتئة أو غائرة ، أما إذا كانت لا تبصر بها ولكن عورها غير بين فإنها تجزئ مع الكراهة ، والعيب الرابع العجفاء وهي الهزيلة التي لا مخ فيها ، فأما عيب الأذن أو القرن فإنه لا يمنع من الإجزاء ولكنه يكره ، وكذلك الهثماء التي سقطت أسنانها أو بعضها فإنها تجزئ ولكنها تكره ، وكلما كانت الأضحية أكمل(/3)
في ذاتها وصفاتها فهي أفضل . الشرط الثالث : - من شروط الأضحية أن تقع في الوقت المحدد للتضحية شرعا وهو من الفراغ من صلاة العيد ، والأفضل أن ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبتين وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد فأيام الذبح أربعة يوم العيد وثلاثة أيام بعده ، وأفضلها يوم العيد والذبح في النهار أفضل ويجوز في الليل . ومن كان منكم يحسن الذبح بنفسه فليذبح أضحيته بيده ، ومن كان لا يحسن فليحضر ذبحها فإن ذلك أفضل ، فإذا ذبحت عنه وهو غائب فلا بأس ويسميها عند الذبح فيقول إذا أضجعها للذبح : بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك اللهم هذه عن فلان أو فلانة ، هذه هي التسمية الواردة ، وأما ما يفعله بعض العوام من مسح ظهرها من وجهها إلى قفاها فلا أصل له ، وإذا ذبحها ونوى من هي له ولم ينطق باسمه أجزأت النية لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » ولكن النطق باسم من هي له أفضل اتباعا للسنة .(/4)
واعلموا أن للذكاة شروطا منها أن يقول عند الذبح : بسم الله ، فمن لم يقل باسم الله على الذبيحة فذبيحته ميتة نجسة حرام أكلها لقوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ }{ عَلَيْهِ } وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل » ومن شروط الذكاة إنهار الدم بأن يقطع الحلقوم وهو مجرى النفس والمرئ وهو مجرى الطعام ، ويتمم ذلك بقطع الأوداج وهي الوردان عرقان غليظان محيطان بالحلقوم يثعب منهما الدم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبيحة التي لا تفري أوداجها ، وجميع الرقبة من أعلاها إلى أسفلها موضع للذبح ، لكن الأفضل نحر الإبل من أسفل الرقبة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ، وذبح البقر والغنم من أعلى الرقبة أي مما يلي الرأس ولو ذبحها من وسط الرقبة أجزأت ، واذبحوا برفق وحدوا السكين ولا تحدوها وهي تنظر ، ولا تذبحوها وأختها تنظر إليها ، وامروا السكين بقوة وسرعة واضجعوها على جنبها الأيسر أو الأيمن على حسب ما يتيسر لكم ويكون أريح لها ، ولا تلووا يدها على عنقها من خلفها عند الذبح فإن ذلك تعذيب لها وإيلام بلا فائدة لها ، ولا تسلخوها أو تكسروا
رقبتها قبل أن تموت . وكلوا من الأضاحي واهدوا وتصدقوا ، ولا تعطوا الجزار أجرته منها بل أعطوه أجرته من عندكم وأعطوه من الأضحية إن شئتم هدية إن كان غنيا أو صدقة إن كان فقيرا ، ومن أهدي إليه شيء منها أو تصدق به عليه فهو ملكه يتصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره .
أيها الناس : لقد علم الكثير منكم أن من أراد الأضحية فإنه لا يأخذ من شعره وظفره وبشرته من دخول العشر حتى يضحي لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، ولكن إذا لم يعزم أحدكم على الأضحية إلا في أثناء العشر وقد أخذ شيئا من ذلك من قبل فلا بأس أن يضحي وأضحيته تامة ؛ لأن الأخذ من ذلك لا ينقص الأضحية ولا يمنع منها بأي حال من الأحوال .(/5)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ }{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . . إلخ .(/6)
العنوان: خطبة عيد الأضحى المبارك
رقم المقالة: 1832
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
ظاهرتا الإرجاء والتكفير
{الحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
الحمد لله؛ خالق الخلق، وقاسم الرزق، ومدبر الأمر، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
{الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر ما هل هلال وأدبر، الله أكبر ما حج حاج واعتمر، الله أكبر ما لبى ملب وكبر.
الله أكبر عدد من وقفوا بعرفات، الله أكبر عدد ما رُفع لله تعالى من الدعوات، الله أكبر عدد ما قضى سبحانه من الحاجات.
الله أكبر، كم من قلب لله تعالى خشع! وكم من عين من خشيته دمعت! وكم من دعوة إليه رفعت!
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حج حجة واحدة سميت حجة الوداع.
سار عليه الصلاة والسلام في جموع غفيرة من المسلمين يريدون الائتمام به، ومعرفة المناسك منه، فكانوا مدَّ البصر رجالا وركبانا، بين يديه وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه، فحج بهم، وعلمهم مناسكهم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أتقى هذه الأمة قلوبا، وأزكاهم أعمالا، أثنى الله تعالى عليهم في كتابه العزيز، ورضي عنهم وإن رغمت أنوف مبغضيهم من أهل الرفض والشرك والنفاق، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحمدوه على ما هداكم، واشكروه على ما أعطاكم؛ هداكم للإيمان، وعلمكم الشرائع والأحكام، وفرض عليكم ما يصلحكم في الحال والمعاد..(/1)
ومن عظيم نعمته عليكم، وكبير إحسانه إليكم أن بلغكم هذه العشر المباركة، وخاتمتها هذا اليوم الأغر، الذي سُمِّي في القرآن: يومَ الحج الأكبر، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه أعظم الأيام عند الله تعالى.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الناس: في مكة والمشاعر المقدسة ضيوفُ الرحمن، وحجاجُ البيت الحرام، قد وقفوا بالأمس في عرفات، يعبدون ربا واحدا، ويلبسون لباسا واحدا، ويلبون تلبية واحدة..قد تباعدت بلدانهم، ولكن تقاربت في المناسك قلوبهم، اختلفت لغاتهم وألوانهم وأجناسهم فجمعتهم رابطة الإيمان؛ فجاءوا من شتى بلدانهم لهدف واحد، وغاية واحدة هي: تعظيم شعائر الله تعالى في المشاعر المقدسة، وأداء مناسك الحج والعمرة، فما ظنكم -يا عباد الله- برب جواد كريم يعطي العطاء الجزيل على العمل القليل، ويغفر الذنب العظيم..
ما ظنكم به سبحانه وقد وقف الحجيج في عرفات شعثا غبرا، تجردوا من لباسهم، وحسروا رؤوسهم ذُلاً له وتعظيما، ورفعوا أيديهم يسألونه باكين راجين متضرعين، أترونه يردهم وهذه حالهم، وهو الجواد الكريم؟!
كم من عبد طرح بالأمس نفسه على باب ربه، يتذكر ذنوبه فيخاف ويشفق، ثم يتذكر كرم ربه عز وجل وعفوه ورحمته التي وسعت كل شيء فيرجو ويرغب؟!
كم من عبد أظهر بعرفة من الذل لله تعالى، والندم على ما سلف من ذنوبه، والبكاء على خطيئته ما كان سببا في مغفرته ورحمته؟!
كم من عبد رفع يديه لله تعالى في عرفة فكان عفو الله تعالى ورحمته أسرع إليه من إرسال يديه حين أرسلها؟!
كم من عبيد لله تعالى ما غربت عليهم شمس الأمس إلا وقد غُفرت ذنوبهم، وحُطت خطاياهم، وقَبِل الله تعالى توباتهم؛ فغسل حوباتهم، واستجاب دعواتهم.(/2)
جاء في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي فلم يُرَ يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة) رواه أبو يعلى وصححه ابن حبان.
كم من عبيد ما خرجوا بالأمس من عرفة إلا وقد نالوا من الرحمن مرادهم، والبارحة باتوا ليلتهم في مشعر مزدلفة، ووقفوا فجر هذا اليوم عند المشعر الحرام يذكرون الله تعالى ويعظمونه، ويسألونه ويرجونه، وهم الآن في طريقهم إلى الجمرات؛ ليرموها مكبرين الله تعالى ومعظمين، ثم يتقربون إلى الله تعالى بهداياهم كما تتقربون أنتم اليوم إليه سبحانه بضحاياكم، ثم يُحلوا إحرامهم، ويطوفوا بالكعبة الشريفة {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج:29].
فما أجلها من شعائر! وما أعظمها من مناسك!! فاللهم اقبل منا ومن الحجاج ومن سائر عبادك المؤمنين.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون: في هذا اليوم العظيم تراق الدماء شكرا لله تعالى على ما سخر لنا من بهيمة الأنعام {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ} [الحج: 34].(/3)
أنعام وهبنا الله تعالى إياها، وسخرها لنا، ورزقنا أثمانها، وهدانا إلى التقرب إليه بها ، ثم ننتفع بلحمها، وهي لنا، ولا يأخذ ربنا منها شيئا، ثم يأجرنا عليها، فما أوسع كرم ربنا علينا! وما أكثر إحسانه إلينا! وما أشد رحمته بنا! {وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} [الحج:36-37] وقد أمرنا عز وجل بنحرها في هذا اليوم العظيم عقب الصلاة فقال سبحانه وتعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] وقد قال بعض العلماء بوجوبها لمن قدر عليها، فامتثلوا أمر الله تعالى، واحمدوه على هذه النعمة العظيمة، واشكروه عليها، وكبروه كما أمركم، وطيبوا بها نفسا، واختاروا أطيبها وأسمنها وأنفسها؛ فإنها قربة لله تعالى، ثم هي عائدة إليكم.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون: في هذه الأيام العظيمة قد جمع الله تعالى الحجاج في صعيد واحد، وبمنسك واحد، ولباس واحد، وإن تباعدت بلدانهم، واختلفت ألسنتهم وألوانهم، وتباينت ثقافاتهم وعاداتهم، وهذا الاجتماع في المشاعر؛ لأداء الشعائر والمناسك، وعلى هذه الهيئة الواحدة مُشْعِرٌ بلزوم اجتماع كلمة المسلمين، ودالٌ على وجوب تآلفهم وتكاتفهم؛ فإن رابطة الإيمان أقوى رابطة {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].(/4)
كيف؟! وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بذلك فقال سبحانه {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وفي الآية الأخرى {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
إن اجتماع كلمة المسلمين مطلب ديني، وواجب شرعي، وهو سبب العز والنصر والقوة، فواجب على المسلمين أن يسعوا إليه، ويعملوا به، ويجتنبوا أسباب الفرقة والاختلاف والتنافر والبغضاء، وإن أعداء الإسلام في القديم والحديث ما نالوا من المسلمين إلا بعد أن دسوا الدسائس فيهم، وسعوا بالوشاية بينهم، وأشعلوا فتيل الفتنة في أوساطهم، فكان التفرق والاختلاف، ونتج عنه تباغض القلوب وتنافرها، ومن ثم الاحتراب والاقتتال.
ونتيجة لهذا التفرق والاختلاف بلغ ضعف المسلمين مداه، وقرب عجزهم من منتهاه؛ حتى سبَّ الكافرون دينهم، ودنسوا قرآنهم، وسخروا من أحكام شريعتهم، واعتدوا على نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بالتنقص والازدراء والاتهام، والمسلمون لا يملكون حيال ذلك أكثر من الشجب والاستنكار.
لقد احتل الغاصبون أراضيهم، وعبثوا بأعراضهم، ونهبوا ثرواتهم، وأهانوا إخوانهم، وتطاولوا على مقدساتهم، ولهم مشاريع إجرامية خبيثة في تمزيق بلاد المسلمين، والاستيلاء عليها، تُعْرَفُ بالشرق أوسطية والشرق الأوسط الكبير ثم الجديد، ولا يملك أكثر المسلمين إزاء ذلك إلا الانتظار والترقب عما تسفر عنه الأحداث، وهذا منتهى الضعف وغاية العجز.
وقد نتج عن هذه المحنة العظيمة فتنتان كبيرتان هما: فتنة الإرجاء، وفتنة التكفير.
أما فتنة الإرجاء فحمل لواءها مبتدعة استهانوا بحرمات الله تعالى، وعظموا البشر أكثر من تعظيمهم للرب جل جلاله، وقدموا أقوالهم على نصوص الشريعة، وحرفوا المحكمات لإشباع أهوائهم، وإرضاء غيرهم..(/5)
يقتاتون بأعراض الصالحين والمصلحين، ويرتزقون بأذيتهم، ويحاولون الصعود على أكتاف غيرهم..
فيهم من الحمق والغفلة، والحقد والضغينة ما اسودت به قلوبهم، وغشى على أبصارهم، وغطى عقولهم فلم يميزوا صديقا من عدو، ولا ناصحا من مخادع، نعوذ بالله تعالى من الحمق والغفلة والضلال والهوى.
واستغلهم منافقون حاقدون لهم مشاريع تخريبية في بلاد المسلمين، وتغيير دينهم، وإبطال شريعتهم، وإفساد نسائهم وأولادهم، ولهم حبال ممتدة مع أعداء الخارج..
قد اجترئوا في هذا العصر على حمى الشريعة فتطاولوا علىها، وسخروا منها ومن حملتها، وطعنوا فيما لا يوافق أهواءهم الفاسدة، وآراءهم الكاسدة، فسلطوا ألسنتهم وأقلامهم على القضاء الشرعي، وعلى الاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولم تسلم من شرهم الجمعيات الخيرية ولا حلقات تحفيظ القرآن الكريم ولا الدعوة إلى الله تعالى ولا المنابر ولا حجاب المرأة وعدم اختلاطها.
إنه تحالف شيطاني، وتآزر نكد، تواصى فيه أهل الإثم والبغي والعدوان بالمنكر فيما بينهم، وتعاونوا فيه على أهل الخير والصلاح والإصلاح، ولن يجدوا عاقبة أمرهم إلا خسرا، ودين الله تعالى عزيز منصور ولو تخلوا عنه، أو تأكلوا به، أو حاربوه؛ فإنهم الأذلون، وإن المصلحين منصورون {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20].
وروى أَبو عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيُّ رضي الله عنه عن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يَزَالُ اللهُ يَغْرِسُ في هذا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ في طَاعَتِهِ) رواه ابن ماجه. فليموتوا بغيظهم فإن ما يسوؤهم باق لهم بحمد الله تعالى.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.(/6)
أما الفتنة الثانية وهي فتنة التكفير فقد حمل لواءها قوم لم يأخذوا من العلم والحكمة حظهم، وكان فيهم من حماس الشباب وتهورهم ما أدخلهم المضايق، وانتهى بكثير منهم إلى المهالك، فكفَّروا الحكومات، ولم يُصغوا إلى العلماء، ولا راعوا المصالح والمفاسد، ثم أَتَبَعُوا التكفير بالتفجير، فعمدوا إلى بلدان المسلمين الآمنة فأفسدوا فيها وفجروا، وراح ضحيةً لأعمالهم الخاطئة، وآرائهم الفاسدة أناس لا ذنب لهم! فيهم رجال وأطفال ونساء، قد عصم الله تعالى دماءهم بالإسلام، فأهدروها هم بلا حق.
وكانوا من حيث لا يشعرون عونا لأعداء الإسلام من الكفار والمنافقين على الطعن فيه، والنيل من عباد الله الصالحين، وما تكاد تقع بلية منهم في بقعة من البقاع المسلمة الآمنة إلا طار بها فرحا الكفار والمنافقون، ووجل منها المؤمنون والمصلحون.
وقد نتج عن تخريبهم في بلاد المسلمين مفاسد جمة، وتعطلت به مصالح عظمى، ومن له علم بالشريعة يرفض ذلك ويأباه؛ لأن الشريعة جاءت برعاية المصالح وتحصيلها، ودرء المفاسد وتعطيلها.
وواجب على المسلم طاعة إمامه الذي بايعه في المعروف، والنصح له، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، والتعاون معه على البر والتقوى، والصبر على الأذى في ذلك.
وحرام عليه أن يشق عصى الطاعة، أو يفارق الجماعة، روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خَلَعَ يَدًا من طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يوم الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ له وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) رواه مسلم.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة المؤمنون: هاتان الفتنتان العظيمتان -أعني فتنتي الإرجاء والتكفير- متقابلتان، فلا توجد إحداهما في بلد من البلدان إلا وجدت الأخرى في إثرها، وواجب على المسلمين أن يسعوا في القضاء عليهما جميعا.(/7)
إن التكفير لا يعالج بالإرجاء كما يظن ذلك المبتدعة والجهلة ومن في قلوبهم مرض، ولا يُقضى عليه بتسويغ الموبقات، والتشريع للمنكرات، وإيجاد المعاذير الباهتة للمخالفات، بل إن ذلك مما يزيد نار التكفير اشتعالا إلى اشتعالها.
وكذلك لا يعالج الإرجاء بالتكفير؛ فإن ما يقع من مخالفات، وما يُجاهِر به أهل السوء من منكرات، وما يُظهره أهل النفاق يعالج بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك.
إن هاتين الفتنتين العظيمتين: التكفير والإرجاء تعالجان بتعظيم الشريعة وتحكيمها، وحماية جنابها من عبث العابثين، وفتاوى النفعيين المضلين، ومن سخرية الأراذل والمنافقين، والأخذ بنصوصها جميعا بلا اجتزاء ولا انتقائية..
إنهما تعالجان باجتناب الهوى، واتباع الحق، وسلوك سبيل أهل العلم والعدل، واجتناب أراء أهل الجهل والهوى {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ} [ص: 26].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون: بعد صلاتكم تتقربون إلى الله تعالى بضحاياكم، فاشكروا الله تعالى على ما هداكم وأعطاكم، وأخلصوا له في أعمالكم، واعلموا أن مشروعية ذبح الأضاحي تستمر إلى غروب شمس يوم الثالث عشر، وهو آخر أيام التشريق.(/8)
وأيام التشريق أيام عظيمة جاء ذكرها في القرآن العظيم في قول الله تعالى {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وخُصت بذكر الله تعالى؛ كما جاء في حديث نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لله تعالى) رواه مسلم. فاعرفوا لها فضلها، واقدروها حق قدرها، واعمروها بذكر الله تعالى.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله: افرحوا بعيدكم، وأطيعوا فيه ربكم، وطهروا قلوبكم، واحذروا المنكرات في هذه الأيام العظيمة، فليس من شكر الله تعالى على نعمه وفضله أن يُعصى في أيام ذكره وشكره.
بَرْوا والدِيكم، وصلوا أرحامكم، وأكرموا جيرانكم، ولينوا لإخوانكم،ولا تنسوا المجاهدين والمرابطين والمهاجرين من صالح دعائكم؛ فإنهم أحوج ما يكونون إليه.
أعاده الله تعالى علينا وعليكم وعلى المسلمين جميعا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وتقبل الله تعالى منا ومنكم صالح الأعمال.
{إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].(/9)
العنوان: خطبة عيد الأضحى
رقم المقالة: 728
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
يكبر تسع مرات ثم يقول:
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر عدد ما أحرم الحجاج من الميقات وعدد ما رفعوا بالتلبية لله الأصوات، الله أكبر عدد ما دخل الحجاج مكة ونزلوا بتلك الرحبات، الله أكبر عدد ما طافوا بالبيت العتيق وعظموا الحرمات، الله أكبر عدد ما خرجوا إلى منى ووقفوا بعرفات وعدد ما باتوا بمزدلفة وعادوا إلى منى للمبيت ورمي الجمرات، الله أكبر عدد ما أراقوا من الدماء وحلقوا من الرؤوس تعظيماً لفاطر الأرض والسماوات، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
نحمده على ما من به علينا من مواسم الخيرات وما تفضل به من جزيل العطايا والهبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مسبغ النعم ودافع النقم وفارج الكربات، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أكمل الخلق وأفضل البريات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات وسلم تسليماً.(/1)
عباد الله: إن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر وهو عيد الأضحى والنحر هو يوم الحج الأكبر؛ لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسك الحج يرمون الجمرة الكبرى ويذبحون الهدايا ويحلقون رؤوسهم ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة، وهو عيد الأضحى والنحر لأن الناس يضحون فيه وينحرون هداياهم، وما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وان للمضحي بكل شعرة حسنة وبكل صوفة حسنة، وهذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والسلام، وإنها لسنة مؤكدة يكره لمن قدر عليها أن يتركها وإن ذبحها لأفضل من الصدقة بثمنها لما فيها من إحياء السنة والأجر العظيم ومحبة الله لها. فضحوا أيها المسلمون عن أنفسكم وعن أهليكم متقربين بذلك إلى ربكم متبعين لسنة نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث ضحى عنه وعن أهل بيته، ومن كان منكم لا يجد الأضحية فقد ضحى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - جزاه الله عن أمته خيراً. وإذا كان منكم أحد يريد أن يتبرع بالأضحية عن والديه فلا يحرم نفسه وذريته وأهله منها وفضل الله واسع، واعلموا أنه لا أصل لما يسميه بعض الناس أضحية الحفرة، وهي التي يضحونها عن الميت أول سنة من موته يخصونه بها ولا يدخلون معه أحداً في ثوابها فإن هذا لا أصل له في الشرع فاجتنبوه. وتجزي الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة، فلا يشترك شخصان في شاة واحدة ولا أكثر من سبعة في بدنة أو بقرة، ولكن للإنسان أن يشرك في ثواب أضحيته من شاء سواء كانت شاة أم سبع بدنة أم سبع بقرة. واعلموا أن للأضحية شروطاً ثلاثة الأول: أن تبلغ السن المعتبر شرعاً وهو خمس سنين في الإبل وسنتان في البقر وسنة كاملة في المعز ونصف سنة في الضأن.(/2)
الشرط الثاني: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء وهي أربعة عيوب: العرجاء البين ظلعها وهي لا تعانق الصحيحة في الممشاء، والمريضة البين مرضها وهي التي ظهرت آثار المرض عليها إما في أكلها أو مشيها أو غير ذلك من أحوالها، ومن المرض البين الجرب والعوراء البين عورها بأن تكون عينها العوراء ناتئة أو غائرة، أما إذا كانت لا تبصر بها ولكن عورها غير بين فإنها تجزئ مع الكراهة، والعيب الرابع العجفاء وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، فأما عيب الأذن أو القرن فإنه لا يمنع من الإجزاء ولكنه يكره، وكذلك الهثماء التي سقطت أسنانها أو بعضها فإنها تجزئ ولكنها تكره، وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل.
الشرط الثالث: من شروط الأضحية أن تقع في الوقت المحدد للتضحية شرعاً وهو من الفراغ من صلاة العيد، والأفضل أن ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبتين وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد فأيام الذبح أربعة يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وأفضلها يوم العيد والذبح في النهار أفضل ويجوز في الليل. ومن كان منكم يحسن الذبح بنفسه فليذبح أضحيته بيده، ومن كان لا يحسن فليحضر ذبحها فإن ذلك أفضل، فإذا ذبحت عنه وهو غائب فلا بأس ويسميها عند الذبح فيقول إذا أضجعها للذبح: بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك اللهم هذه عن فلان أو فلانة، هذه هي التسمية الواردة، وأما ما يفعله بعض العوام من مسح ظهرها من وجهها إلى قفاها فلا أصل له، وإذا ذبحها ونوى من هي له ولم ينطق باسمه أجزأت النية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) ولكن النطق باسم من هي له أفضل اتباعاً للسنة.(/3)
واعلموا أن للذكاة شروطاً منها أن يقول عند الذبح: بسم الله، فمن لم يقل باسم الله على الذبيحة فذبيحته ميتة نجسة حرام أكلها لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ}{عَلَيْهِ} وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل)) ومن شروط الذكاة إنهار الدم بأن يقطع الحلقوم وهو مجرى النفس والمرئ وهو مجرى الطعام، ويتمم ذلك بقطع الأوداج وهي الوردان عرقان غليظان محيطان بالحلقوم يثعب منهما الدم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الذبيحة التي لا تفري أوداجها، وجميع الرقبة من أعلاها إلى أسفلها موضع للذبح، لكن الأفضل نحر الإبل من أسفل الرقبة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، وذبح البقر والغنم من أعلى الرقبة أي مما يلي الرأس ولو ذبحها من وسط الرقبة أجزأت، واذبحوا برفق وحدوا السكين ولا تحدوها وهي تنظر، ولا تذبحوها وأختها تنظر إليها، وامروا السكين بقوة وسرعة واضجعوها على جنبها الأيسر أو الأيمن على حسب ما يتيسر لكم ويكون أريح لها، ولا تلووا يدها على عنقها من خلفها عند الذبح فإن ذلك تعذيب لها وإيلام بلا فائدة لها، ولا تسلخوها أو تكسروا رقبتها قبل أن تموت. وكلوا من الأضاحي واهدوا وتصدقوا، ولا تعطوا الجزار أجرته منها بل أعطوه أجرته من عندكم وأعطوه من الأضحية إن شئتم هدية إن كان غنياً أو صدقة إن كان فقيراً، ومن أهدي إليه شيء منها أو تصدق به عليه فهو ملكه يتصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره.
أيها الناس: لقد علم الكثير منكم أن من أراد الأضحية فإنه لا يأخذ من شعره وظفره وبشرته من دخول العشر حتى يضحي لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، ولكن إذا لم يعزم أحدكم على الأضحية إلا في أثناء العشر وقد أخذ شيئاً من ذلك من قبل فلا بأس أن يضحي وأضحيته تامة؛ لأن الأخذ من ذلك لا ينقص الأضحية ولا يمنع منها بأي حال من الأحوال.(/4)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:34-37].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.. إلخ.
الخطبة الثانية
يكبر سبع مرات متوالية ثم يقول: -
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الحمد لله الذي بعث نبيه محمداًً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين وقدوة للعاملين وحجة على العباد أجمعين، بعثه بدين الهدى والرحمة فأنقذ الله به من الهلكة وهدى به من الضلالة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.(/5)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من هذا الدين القويم الذي رضيه لكم، فلقد أنزل الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع وهو واقف بعرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3] وإنه لجدير بنا أن نغتبط بهذا الدين الذي وصفه ربنا سبحانه بالكمال من لدنه من لدن حكيم خبير رؤوف رحيم. أيها المسلمون: إن ديننا ولله الحمد كامل من جميع الوجوه، كامل من جهة عبادة الله، كامل من جهة معاملة عباد الله، فهو كامل من جهة العبادة حيث كانت العبادات المشروعة فيه مصلحة للقلوب والأبدان للشعوب والأفراد غير مفوتة لما تقتضيه مطالب الحياة، ولو أن الناس تفكروا في أنفسهم في هذا الدين تفكيراً عميقاً متعقلاً لوجدوا أنه لم يترك خيراً إلا أمر به ووضح طرقه بأوضح بيان وأيسره، وأنه لم يترك شراً إلا حذر منه وبين مغبته ومضرته، ولو تفكروا في أنفسهم لوجدوا أن تمسكهم بدينهم أمر ضروري لصلاح أعمالهم واستقامة أحوالهم، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70،71]. ولو تفكروا في أنفسهم لما حصل للكثير منهم تلك الزهادة في دينهم ولما آثروا عليه شيئاً من أمور الدنيا {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16،17]. أيها المسلمون: إن الإسلام لم يطلب منكم أمراً يشق عليكم ولا أمراً تفوت به مصالحكم بل هو بنفسه مصالح وخيرات وأنوار وبركات، فتمسكوا بها أيها المسلمون وقوموا بشرائعه مخلصين لله متبعين لرسوله، أحبوا الله ورسوله ليسهل عليكم طاعة الله ورسوله، فإن الوصول إلى المحبوب غاية يسهل دونها كل(/6)
الصعاب، أقيموا الصلاة بفعلها في أوقاتها مع الجماعة فإن التخلف عن الجماعة من علامات النفاق، أدوا الصلاة بطمأنينة فلا صلاة لغير مطمئن فيها، وإن الصلاة إذا أديت على الوجه المطلوب كانت عوناً على فعل الطاعات وترك المحرمات وتحمل المشقات، يقول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة:45] ويقول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] آتوا الزكاة التي أوجب الله
عليكم في أموالكم، ادفعوها إلى مستحقيها قبل أن تفارقوا هذا المال فيكون غنيمة لمن بعدكم وعليكم الغرم والإثم {مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:10] أنفقوا على من أوجب الله عليكم نفقته من الأهل والأقارب فإنكم مسؤولون عن ذلك، وإن الإنفاق عليهم من الإحسان والله يحب المحسنين ومن صلة الأرحام وسيصل الله الواصلين، واحترموا بعضكم بعضاً فإن نبيكم محمداًً - صلى الله عليه وسلم - وقف في مثل هذا اليوم في جماهير المسلمين بمنى يخطبهم ويعلن تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة، ولقد صارت الأموال منتهكة عند كثير من المسلمين، وإن لم يكن ذلك بطريق ظاهر تجدهم ينتهكون الأموال بالغش والكذب والدعاوى الباطلة والرشا المغرية واستعمال أموال الدولة للمصالح الخاصة، ولقد صارت الأعراض منتهكة هي الأخرى فأصبحت الغيبة التي تسمى السبابة أصبحت متفكها في كثير من المجالس، فاحذروا أيها المسلمون من تعدي حدود الله في النفوس والأموال والأعراض، وأدوا الحقوق قبل أن تؤخذ يوم القيامة من أعمالكم.(/7)
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
واعلموا رحمكم الله أن هذه الأيام الثلاثة المقبلة هي أيام التشريق التي لا يجوز صيامها كما لا يجوز صيام يوم العيد، وهي التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل فأكثروا فيها من ذكر الله بالتكبير والتهليل والتحميد في أدبار الصلوات وفي جميع الأوقات)).
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وإياكم والانجراف خلف التيارات المنحرفة التي تصدكم عن دينكم وتعوقكم في السير إلى ربكم خلف نبيكم، فإن كل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم انصرنا على أعدائنا وأصلح أمورنا واهد ولاتنا لما فيه الخير والصلاح في ديننا ودنياك إنك جواد كريم.(/8)
العنوان: خطبة عيد الفطر 1427
رقم المقالة: 256
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ خلقنا ورزقنا، وكفانا وآوانا، ومن كل خير أعطانا..هدانا للإيمان وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى، والحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، والحمد لله لا نحصي ثناء عليه كما أثنى هو على نفسه.
الحمد لله رب العالمين؛ هدى من شاء من عباده للإيمان، وفتح لهم أبواب البر والإحسان، وأعانهم على الصيام والقيام، فكان عملهم مبرورا، وسعيهم مشكورا.نحمده كثيرا فكم أنعم علينا، ونشكره على ما أسدى إلينا، ونستغفر لذنوبنا وتقصيرنا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يفيه العباد حقه، ولا يعبدونه كما ينبغي له أن يعبد، ولو شخصوا أعمارهم كلها قانتين له وراكعين وساجدين، فهو العظيم الذي خضع كل شيء لعظمته، وهو العزيز الذي ذل كل قوي لسطوته وعزته.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، رأى من آيات ربه ما رأى، وعلم من عظمته ما علم، فخشع قلبه لربه، وسحت بالدمع عينه، ونصبت في الطاعة أركانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه كانوا في مجلسه كأن على رؤوسهم الطير؛ هيبة له وتوقيرا، ومحبة وتعظيما والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - أيها المسلمون - وأطيعوه، وخذوا حظكم من الأعمال الصالحة قبل أن يحال بينكم وبينها، واعلموا أن كل عيد جديد يبعدكم عن دنياكم ويقربكم من أخراكم، فتزودوا من دار فنائكم ما يكون سببا لفوزكم في دار بقائكم (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار).(/1)
أيها الناس: مضى رمضان بما أودع العباد فيه من أعمالهم؛ فمحسن ومسيء، ومُشَمِّر ومفرط، ومستكثر ومقل، ومقبول ومردود، فيا لله العظيم كم من آية في رمضان تليت، وكم من جباه لله تعالى سجدت، وكم من عين من خشيته دمعت، وكم من دعوات إليه رفعت.
مضى رمضان وملايين المسلمين في كل الأقطار، ومن كل الأجناس، وبمختلف اللغات واللهجات قد عبدوا الله تعالى فيه يمسكون عن المفطرات بطلوع الفجر، ويفطرون وقت غروب الشمس، فمن فرض عليهم ذلك ؟ ومن راقبهم فيه ؟ ولماذا أذعنوا له ؟ وامتثلوا أمره ؟ فسبحان الذي عبَّدهم له، وهداهم إليه !!
مضى رمضان ومساجد المسلمين قد أضاءت في الليل بالقرآن والدعاء، والتهجد والوتر، فكم من حمد لله تعالى وثناء عليه قد رفع من الأرض إلى السماء (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وكم من حاجة طلبها المصلون من الله تعالى وأمن عليها المسلمون ؟! وكم من مسائل وأسرار أفضى بها العباد إلى ربهم في خلوتهم وسجودهم ؟! يسألونها ربهم، ويخافتون بها أصواتهم، يخفونها عمن يسجدون بجوارهم فسبحان من وسع سمعه أصواتهم حتى علم تخافتهم وتمتماتهم، وسبحان من أحاط علمه بلغاتهم ولهجاتهم، وسبحان من أحصى مسائلهم، وسبحان من وسعت خزائنه حاجاتهم.
ختم العباد شهرهم، واليوم يحضرون عيدهم، فمنهم المرحوم ومنهم المحروم، والعيد الحقيقي إنما هم عيد من قبل الله تعالى منه، ورضي عمله، وشكر سعيه؛ فاللهم اجعلنا برحمتك من المقبولين، ولا تجعلنا من المحرومين.
أيها المسلمون: من رحمة الله تعالى بعباده، وتفضله على هذه الأمة الفاضلة المباركة أن شرع لها العيدين الكبيرين: عيد الفطر وعيد الأضحى وجعل عيدها الأسبوعي الجمعة، وهداها لهذه الأعياد المباركة بعد أن ضلت عنها الأمم الضالة، وجعل العيدين الحوليين عوضا وبدلا عن أيام الجاهلية وأعيادها(/2)
روى أنس رضي الله عنه فقال:(قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) رواه أبوداود. وفي حديث عائشة رضي الله عنها قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا) رواه مسلم.
وهذه الأحاديث تفيد أن الأعياد ليست من العوائد التي يتواطأ الناس عليها فحسب، حتى يشرع الناس فيها ما يشرعون، ويخترعون منها ما يخترعون، ويتبعون غيرهم فيها، ولكن الأعياد من الدين والشرائع، فوجب الوقوف فيها وفي شعائرها عند النصوص، وكل عيد يخترع، أو يوم يعظم لم يرد في الشرع أنه عيد فهو من أمر الجاهليه، ولو ساغ للناس أن يخترعوا أعيادا من عند أنفسهم لأقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة على اليومين الجاهليين اللذين كانا عيدا لهم، ولو كان كذلك لما أخبرهم أن الله تعالى قد أبدلهم بهما العيدين الشرعيين؛ والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه.
إن كل عيد يصاحبه - ولا بد - جملة من الاحتفالات والشعائر والمراسم، وهذا عند كل الأمم السابقة والحاضرة، ويتضمن ذلك تعظيم اليوم الذي يتخذ عيدا، لميزة تميز بها حسب شريعة أو عادة من اتخذوه عيدا، وأعياد أهل الإسلام قد توجت بأعظم الشعائر الربانية التي فيها صلاح البشرية، كصلاة الجمعة وصلاة العيد وخطبتيهما، وارتباط العيدين الكبيرين بركنين من أركان الإسلام: الصوم والحج، فاستحقت هذه الأعياد الشرعية أن تكون أعيادا لأن الله تعالى قد ارتضاها للمسلمين أعيادا.(/3)
وأي أعياد غيرها، أو أيام من السنة تعظم وتتخذ عيدا، وترسم لها المراسم، ويحتفل الناس فيها فهي من أمر الجاهلية، ولا يحبها الله تعالى لعباده، ولا يرضاها لهم أعيادا.فنحمد الله تعالى الذي أغنانا بالأعياد الشرعية عن أعياد أهل الجاهلية، ونسأله الثبات على الحق إلى الممات.
أيها الإخوة: يكثر في هذا الزمن الحديث عن الوطن والوطنية، والدولة المدنية، وكل متكلم وكاتب يدلي في هذا الموضوع بحسب توجهاته الفكرية، وانتماءاته المذهبية، وكل طائفة من المختلفين تدعي أن الحق معها، وأنها أخلص للوطن من غيرها، وترمي سواها بالعداء للوطن، والحق في هذه القضية إن شاء الله تعالى: أن حب الأوطان، وصدق الانتماء إليها لا يكون إلا بالتناصح بين الراعي والرعية، والتواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، ولا خير في رعية لا يبذلون النصح لولاتهم، ولا خير في ولاة لا يقبلون نصح الناصحين من رعاياهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:(الدين النصيحة، قالوا: لمن ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.
إن حب الأوطان لا يكون إلا بالسعي فيما يصلحها، ولا إصلاح إلا في دين الله تعالى، ووفق شريعته، وكل ما عارض الشريعة فليس بإصلاح، ولكنه الفساد والإفساد، وهو ضد مصالح الأوطان.
إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم أكبر أمرا، وأعلى شأنا من مجرد التعلق بتراب أو حصى، أو رسم أيام لذلك، إنها عقد وثيق، وميثاق غليظ على التعاضد والتعاون، والنصح والنصرة، إنها دين يدين به العبد لربه في سره وعلانيته، وفي عسره ويسره، وفي منشطه ومكرهه، وفي حال الأثرة عليه، وفي ما أحب وما كره، وليست مجرد تجارة يطلب بها العبد جاها أو مالا، أو يبتغي بها ثناء بمقالة يتزلف بها، ويظهر التباكي بها على الوطن، والله تعالى وحده أعلم بما في قلبه من كراهية لهذا الوطن وأهله، بسبب انحرافاته الفكرية، وانتمائه ثقافيا ومذهبيا لأعداء وطنه.(/4)
ومن أراد حصر العلاقة بين الحاكم والمحكوم في تراب وحصى، واختزالها في أيام يحتفى بها فيها فهو يضعفها ويصدعها، ويفرغها من مضامينها الشرعية.
إن كثيرا ممن يلحون وبقوة من بني يعرب على مسألة الوطنية إنما يريدون أن يحل الانتماء إلى الوطن محل الانتماء للدين تمهيدا لنقل الناس من الإيمان إلى الإلحاد، ومن عبادة الله تعالى إلى عبادة الدنيا، فيما يسمى بالديموقراطية والدولة المدنية التي يتم بموجبها الاتفاق على تقاسم الدنيا، وبناء العلاقات على أساسها، وترك النظر في الأمور الدينية المتعلقة بالآخرة، وإقصائها عن واقع الناس، على غرار ما حصل في الغرب إبان نشوء ما يسمى بحركات التحرر الوطنية التي جُعلت الأوطان فيها بدائل للكنائس، وثار دعاتها على ملوك أوربة ورهبانها، وأعلنوا أن الدين لله وأن الوطن للجميع، وهذه الشعارات الجاهلية يقذف بها كثير ممن يسمون بالمفكرين والمثقفين والصحفيين في أحاديثهم عن الوطنية، ثم رأينا كثيرا ممن يستميتون في إحلال الوطنية محل الدين، ويتباكون في قنواتهم وصحفهم على ضعف الانتماء الوطني لدى الناس، رأيناهم يتصلون بالأعداء من وراء حكوماتهم، ويفشون أسرار دولهم، ويدلون على عورات مجتمعاتهم، ويحرضون الأعداء على بني أوطانهم، ولا يطرحون مما يزعمونه مشاريع إصلاح إلا ما رضيه لهم ملاحدة الغرب، عبر املاءات يملونها عليهم ، بأجور يدفعونها لهم، فيا لها من وطنية خانوا فيها أوطانهم، وجعلتهم مجندين لأعداء أمتهم. ثم رأينا إخوانهم الوطنيين في البلاد القريبة كانوا في مقدمة جيش العدو لاحتلال وطنهم، ولما مكّن لهم العدو في وطنهم الذي خانوه نهبوا ثرواته، وأحلوا الفوضى فيه، ولن يعدوا فعل هؤلاء فعل أولئك لو قدروا وتمكنوا.
ثم رأينا في البلاد القريبة من يتهمهم هؤلاء بأنهم أعداء الوطنية هم من حملوا لواء الدفاع عن الوطن لما احتله العدو الصائل الغاشم، فأي الفريقين أصدق؟ وأيهما كان أكثر انتماء لوطنه؟!(/5)
ومن خان الله تعالى فاطرح دينه، ورام تبديل شريعته، فخيانته لغير الله تعالى أهون، وبيعه لوطنيته التي يصيح بها أجدر وأحرى، ولا مبدأ لديه وإنما هو مع من يدفع أكثر، حمى الله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين من شرور أصحاب هذه التوجهات المشبوهة، والأفكار المنحرفة.
أيها الإخوة: ويوم العيد يوم من أيام الله تعالى، ونعمة اختص الله تعالى بها عباده المؤمنين، فوجب عليهم أن يشكروا الله تعالى عليها وعلى نعمة إدراك رمضان، وتمام الصيام، وليس من الشكر في شيء أن يكون يوم العيد يوم المنكرات، وكأن الناس قد أطلقوا من سجن رمضان، وكأنهم لم يستفيدوا من شهرهم شيئا.
إن الناس قد توسعوا في العيد توسعا تجاوز المباحات إلى كثير من المحرمات، كإقامة الحفلات الغنائية، والمسرحيات النسائية، والفعاليات المختلطة بين الرجال والنساء، وما يصاحب ذلك من تبرج النساء وسفورهن، وما ينتج عنه من الفتنة والفساد الكبير، وكل هذا الإثم العظيم، والمنكر الكبير يسوغ بفرحة العيد، والتوسعة على الناس فهل الفرح بما شرع الله تعالى للناس من الأعياد المباركة يكون بمبارزته سبحانه فيها بالعصيان، ليست هذه أخلاق المؤمنين، ولا ما تعلموه من الشهر الكريم، فاجتنبوا - رحمكم الله - المنكرات في العيد صيانة لدينكم، وشكرا لربكم (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم).
أيها المسلمون، أيها الصائمون القائمون: ما أحوج المسلمين إلى الطاعة بدل المعصية، والاتباع بدل الابتداع، والاستقلال بدل التبعية، والخضوع لله تعالى بدل الخضوع لغيره، والتسليم لأمره سبحانه في كل الأمور، ففي المسلمين من العلل والأوصاب والهموم والغموم ما لا كاشف له إلا الله تعالى.
لقد عانى المسلمون - ولا زالوا - من أدواء التفرق والاختلاف، ولن يلم شعثهم، ويقضي على تفرقهم إلا التزام الكتاب والسنة.(/6)
ويعاني المسلمون من تسلط أعدائهم من الكفار والمنافقين عليهم، باحتلال ديارهم، ونهب ثرواتهم، ومحاولة تقسيم بلدانهم فيما يعرف بالشرق أوسطية، ثم الشرق الأوسط الكبير ثم الجديد، في مشاريع وخطط يتأمرون بها على المسلمين، يبدونها ولا يخفونها، والمارينز العرب في صحفهم وفضائياتهم يسوقون لها، ويبشرون الناس بها، دون حياء ولا خوف.
لقد اعتدى أئمة الكفر والضلال في هذا العصر على قرآن المسلمين فدنسوه ومزقوه وأهانوه، واعتدوا على نبيهم فصوروه بأقبح الصور، ووصفوه بأبشع الأوصاف، واعتدوا على شريعتهم فاتهموها بالدموية والفاشية، وانبرى إخوانهم المنافقون للطعن في رجالات الإسلام وقادته وعظمائه بدءاً بالصحابة رضي الله عنهم، ومرورا بقادة المسلمين عبر العصور، وانتهاء بعلماء هذا العصر ودعاته، مع تشكيكهم في تاريخ المسلمين كله، ووصفه بالظلام والاستبداد، وكانوا من قبل يستثنون عهد الخلافة الراشدة، وأما الآن ومع ظهور الإلحاد، واستعلان النفاق فإنهم لا يستثنون أي شيء من طعنهم وتشكيكهم، إضافة إلى استهزائهم بشعائر الإسلام، وأحكامه التي أنزلها الله تعالى وفرضها على عباده المؤمنين، وسخريتهم بعادات الناس ولهجاتهم في مسلسلات هازلة، ومقالات ساخرة، وروايات فاجرة.
وقنواتهم الإعلامية من صحف ومجلات وإذاعات وفضائيات تقوم بمهمة مسخ العقول وتدميرها، وإفساد الفطر وتخريبها، مع تكريس كل أنواع الذل والتبعية، وتسويق ألوان الفساد والانحلال، في شبكات إعلامية ليس لها من عربيتها إلا أن ملاكها عرب، وإلا فهي إفرنجية التأسيس والمشرب، والتوجه والدعاية، والفكر والثقافة.(/7)
إنه تنسيق بين قوى الشر والباطل والضلال والظلام في هذا العصر لضرب كل ما له صلة بالإسلام، وتشويهه وتجريحه، وتخويف الناس منه، مع السعي الحثيث من قبل أرباب الطوائف الضالة، وأصحاب المذاهب الباطنية لاستغلال هذه الفرصة بتسويق باطلهم، ونشر مذاهبهم عند عامة الناس ، وقد رأينا كيف أن القوى العالمية المستكبرة، والمروجين لمشاريعها من المارينز العرب لا يتعرضون في هجومهم لمبادئ هذه الفرق الضالة، وأفعالها الشاذة، بل يدافعون عنها، ويجعلونها المثل المحتذى الذي يجب أن يسلكه المسلمون؛ لعلمهم أنها من أكبر أسباب هدم الإسلام وتشويهه، وليقينهم أن أرباب هذه الطوائف من أكبر حلفائهم ضد أهل الحق من المسلمين، ويكفي دليلا على ذلك تمكينهم لها في البلاد التي يحتلونها، لذبح أهل الحق وإبادتهم.
إنه لا خوف على الإسلام من تلك الحملات الصليبية والنفاقية المعاصرة ؛ فدين الله تعالى منصور، وشريعته ظاهره، وأمره سبحانه نافذ، ولكن الخوف كل الخوف على كثير من المسلمين أن يتركوا دينهم، ويطرحوا شريعة ربهم، ويتبعوا ما رضيه لهم الكفار والمنافقون من مناهج منحرفة، وأفكار ضالة. وإزاء ذلك لا بد أن تتظافر جهود الغيورين للدرء عن الإسلام، وحماية بيضته، والدفاع عن شريعته، ورد تشكيك المشككين، ودحض شبهات الكافرين والمنافقين، وحفظ عوام المسلمين وناشئتهم وشبابهم وفتياتهم من هذه الحملات المفسدة المضللة، وكل واحد من المسلمين مسئول في مجاله، ومطالب بالعمل على قدر طاقته ووسعه.
فأصحاب القرار والسياسة هم رؤوس الناس، وبأيديهم من الحلول وأوراق الضغط ما ليس بأيدي غيرهم، ويستطيعون تحجيم الفساد، وتقليل خطر المفسدين، كما يقدرون على الإصلاح، والتمكين للمصلحين.(/8)
وأهل العلم والدعوة، والفكر والثقافة يجب عليهم بيان الحق الذي يدينون الله تعالى به، وفضح أصحاب التوجهات المنحرفة الذين يريدون إخراج الناس من دينهم إلى مناهج أهل الكفر والضلال، وتحذير الناس من أساليبهم ووسائلهم، والأخذ على أيدي المحرفين والمبدلين ممن يتلبسون بلباس العلم ويحرفون النصوص لتوافق الأهواء، وتساير الواقع، مع إبداء الرأي والنصيحة للولاة والأمراء.
والأستاذ في جامعته، والمدرس في مدرسته، والمعلمة مع طالباتها، عليهم أن يربوا ويعلموا، وينشئوا جيلا ينفع نفسه ومجتمعه، ويعي التحديات التي تواجه أمته.
والرجل في بيته مسئول عن أسرته وولده بأن يحجزهم عن وسائل الشر والإفساد، ويوجد لهم البدائل النافعة، مع غرس الإيمان بالله تعالى في قلوبهم، وتربيتهم على التفاني في نصر دينهم ومجتمعهم وأمتهم؛ حتى يكونوا أصحاب همٍّ، وحملة رسالة، لا مجرد همل يأكلون ويشربون ولا يفقهون.
والمرأة - وما أدراك ما المرأة - عليها مسئولية كبيرة جدا، فقد شرفها الله عز وجل بأن وجهت إليها في هذا العصر أكثر سهام الكفار والمنافقين، فهي المجال الخصب عندهم، وهي الحديث المكرور لديهم، يريدون نزع حيائها مع حجابها، وسلخ دينها مع عفافها. وهذا ابتلاء عظيم لها، يعظم به أجرها، وتعلو منزلتها عند الله تعالى إذا ما ثبتت على دينها، وأطاعت ربها، وحافظت على حجابها، وجاهدت الكفار والمنافقين بلسانها وقلمها فأعلنت رفضها لمشاريعهم، وقدمت رضى ربها على شهواتهم، وآثرت آخرتها على دنياهم.
إنها المرأة الصالحة التي تغرس في قلوب أولادها محبة الله تعالى، ومحبة دينه، وكراهية ما يعارضه أيا كان مصدره، ومهما كان زخرفه.
إنها المرأة الصائمة القائمة التي تفشل مخططات الأعداء، وتغيظ الكفار والمنافقين برفض مشاريعهم، ورد طروحاتهم؛ طاعة لله تعالى، وطمعا في ثوابه، وخوفا من عقابه.(/9)
ولو قام كل واحد من المسلمين بواجبه، وأدى ما عليه، وثبت على دينه فلن يستطيع الكفار والمنافقون أن ينالوا من المسلمين شيئا (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط).
أيها المسلمون: حق لكم أن تفرحوا بعيدكم بعد أن منَّ الله تعالى عليكم بتمام شهركم، وأداء ما أوجب عليكم، فالعيد عيد المسلمين الصائمين.
بَرُوا والديكم، وصلوا أرحامكم، وأزيلوا الشحناء من قلوبكم، وأصلحوا بين المتخاصمين فيكم، وكونوا كما أمركم الله تعالى إخوانا متآلفين متعاونين على البر والتقوى. ولا تنسوا إخوانكم المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، أدّوا لهم شيئا من أموالكم، وخصوهم بصالح دعائكم؛ فإنهم إخوانكم، ابتلاهم الله تعالى وعافاكم، فاعرفوا لهم حقهم، واشكروا الله تعالى على عافيته.
واعبدوا الله في رمضان وبعد رمضان، وراقبوه سبحانه في كل الأحوال والأحيان، فما أشد حاجتكم إليه، وهو الغني سبحانه عنكم.
وأتبعوا رمضان بصيام ستة أيام من شوال، تكونوا كمن صام الدهر كله، ومن عليه قضاء من رمضان قدم القضاء على ست شوال.
أعاده الله علينا وعليكم وعلى المسلمين باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وتقبل الله منا ومنكم ومن المسلمين صالح الأعمال.
إن الله وملائكته يصلون على النبي .....(/10)
العنوان: خطبة عيد الفطر المبارك أيضًا
رقم المقالة: 712
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
يكبر تسع مرات متوالية ثم يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا. الله أكبر ما نطق بذكره وتعظيمه ناطق، الله أكبر ما صدق في قصده وعمله صادق، الله أكبر ما أقيمت شعائر الدين الله أكبر ما رفرفت بالنصر أعلام المؤمنين، الله أكبر كلما صام صائم، وأفطر، وكلما لاح صباح عيد، وأسفر الله أكبر، كلما لاح برق، وأنور، وكلما أرعد سحاب، وأمطر الحمد لله الذي سهل لعباده طريق العبادة، ويسر، ووفاهم أجورهم من خزائن جوده التي لا تنفد، ولا تحصر، ومن عليهم بأعياد تعود عليهم بالخيرات، والبركات، وتتكرر، وتابع لهم بين مواسم العبادة لتشيد الأوقات بالطاعة، وتعمر فما انقضى شهر الصيام حتى أعقبه بشهور حج بيت الله المطهر نحمده على نعمه التي لا تحصى، ولا تحصر، ونشكره على فضله وإحسانه، وحق له أن يشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله انفرد بالخلق والتدبير وكل شيء عنده بأجل مقدر، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل من تعبد لله، وصلى، وزكى، وحج، واعتمر صلى الله عليه، وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهر وعلى أصحابه الذين سبقوا إلى الخيرات، فنعم الصحب والمعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدا الفجر، وأنور، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعرفوا نعمته عليكم بهذا العيد السعيد، فإنه اليوم الذي توج الله به شهر الصيام، وافتتح به أشهر الحج إلى بيته الحرام، وأجزل فيه للصائمين والقائمين جوائز البر والإكرام عيد امتلأت القلوب به فرحاً وسروراً، وازدانت به الأرض بهجة ونورا؛ لأنه اليوم الذي يخرج فيه المسلمون إلى مصلاهم لربهم حامدين معظمين، وبنعمته بإتمام الصيام والقيام مغتبطين ولخيره وثوابه مؤملين راجين يسألون ربهم الجواد الكريم أن يتقبل عملهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، وأن يعيد عليهم مثل هذا اليوم، وهم في خير وأمن وإيمان واجتماع على الحق والعبادة وابتعاد عن الباطل والعصيان.(/2)
عيدنا معشر المسلمين ليس عيد مبتدعة، ولا مشركين، فالأعياد الشرعية ثلاثة عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة، وعيد الفطر وعيد النحر، وليس في الإسلام سواها عيد ليس في الإسلام عيد لميلاد، ولا لانتصار جيوش وأجناد، ولا لتسلم زمام الملك والرئاسة على العباد، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقم أصحابه، وهو أحب الناس إليهم لميلاده عيداً، وهذه انتصارات المسلمين في بدر واليرموك والقادسية وغيرها لم يقم المسلمون لها عيداً، وهذا قيام الخلافة لأبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وأكرم بهم قادة خلفاء وولاة أمناء لم يقم المسلمون لقيام الخلافة فيهم عيداً، ولو كانت إقامة الأعياد لمثل هذه الأمور خيراً لسبقنا إليه من سبقونا في العلم والعبادة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة المسلمين في العلم بعدهم، واعلموا رحمكم الله أنه قد ثبت دخول شهر شوال هذا اليوم ثبوتاً شرعياً، وإن اختلاف البلدان في دخول الشهر غير ضار، وذلك لأن مطالع القمر تختلف بحسب البلدان بإجماع أهل المعرفة في ذلك، فإذا كانت الشمس تزول هنا مثلاً قبل من كان غربا عنا، وتجب علينا صلاة الظهر، ولا تجب عليهم؛ لأن الشمس لم تزل عندهم كذلك ربما يرى القمر في منطقة ما، فيثبت دخول الشهر في حقهم دون من لم يروه، فيثبت العيد في حق من رأوه، ولا يثبت العيد في حق من لم يروه. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، والله أكبر، ولله الحمد، واشكروا أيها المسلمون نعمة الله عليكم بهذا الدين القويم والصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات والأرض صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ألا وهو دين الإسلام الذي أكمله الله لعباده، ورضيه لهم دينا، وأتم به النعمة عليهم، فهو دين الهدى والحق والصلاح والرشد دين يأمر بعبادة الله وحده، ويأمر بالصدق والنصح والعدل والإحسان، وينهى عن الشكر والكذب والغش والجور والطغيان(/3)
يأمر بكل خلق شريف فاضل، وينهى عن كل خلق رزيل سافل إذا تأمله العاقل المنصف عرف قدره، وأنه لو تجمع أذكياء العالم كلهم، واتعبوا قرائحهم وأذهانهم في تشريع نظم تساوي نظمه لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، ولعاد الذهن خاسئا كليلا، فلا حكم أحسن من حكم الله، ولا قوانين، ولا نظماً أقوم للعباد مما سنه الله، فتمسكوا به ترشدوا واسلكوا، طريقه تهتدوا، وتعبدوا الله به تسعدوا، وانصروه بمحاربة من عاداه تنصروا قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى}[البقرة:38].
أيها المسلمون: إننا اليوم بحاجة ماسة إلى التآلف والتناصح وتوحيد القصد والعمل والتعاون في الحق، وأن نعالج مشاكلنا وأمراضنا الدينية والاجتماعية معالجة المخلص الذي يقصد حصول المصلحة، واندفاع المضرة لا يقصد انتصارا لنفسه، ولا مجرد أخذ برأيه، ولا التنكيت واللوم على غيره، وإنما يقصد إصلاح الدين والمجتمع، وبهذه النية الطيية، وبسلوك الحكمة في الوصول إلى المطلوب يحصل الفلاح، والنجاح إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.
الخطبة الثانية
يكبر سبع مرات متوالية، ثم يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند، ولا مضاد، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المفضل على جميع العباد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليماً.(/4)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من إتمام الصيام والقيام فإن ذلك من أكبر النعم، واسألوه أن يتقبل ذلك منكم، ويتجاوز عما حصل من التفريط والإهمال، فإنه تعالى أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، واعلموا أن النبيي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر)) وتفسير ذلك أن صيام رمضان يقابل عشرة أشهر، وصيام ست من شوال يقابل شهرين، فذلك تمام العام، وأما الصيام يوم واحد بعد العيد، وتسميته يوم الصبر، فهذا غير صحيح، ويوم الصبر كل يوم تصوم فيه، فهو يوم صبر؛ لأنك تصبر نفسك، وتمنعها مما يمتنع في الصيام، وقد اعتقد بعض العوام أن من صام الست في سنة لزمه أن يصومها كل سنة، وهذا غير صحيح، فصيام الست سنة فيها ما سمعتم من الفضل، ولا بأس أن يصومها الإنسان سنة، ويتركها أخرى، ولكن الأفضل أن يصومها كل سنة، ولا يحرم نفسه من ثوابها. أيها الناس: تذكروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر حين تقومون يوم القيامة من قبوركم لرب العالمين حافية أقدامكم عارية أجسامكم شاخصة أبصاركم: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}. {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}{وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}{وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. يوم تفرق الصحف ذات اليمين وذات الشمال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}{وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً}{وَيَصْلَى سَعِيراً}. يوم توضع الموازين: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}{وَمَنْ خَفَّتْ(/5)
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي}{جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} يوم ينصب الصراط على جهنم، فتمرون عليه عليه بقدر أعمالكم ومسابقتكم في الخيرات، فمن كان سريعاً في الدنيا في مرضاة الله كان سريعاً في مروره على الصراط، ومن كان بطيئاً في الدنيا في مرضاة الله ومتثاقلاً فيها كان مروره على الصراط كذلك جزاء وفاقاً، فاستبقوا الخيرات أيها المسلمون، وأعدوا لهذا اليوم عدته لعلكم تفلحون، واعلموا أن السنة لمن خرج إلى مصلى العيد من طريق أن يرجع من طريق أخرى اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وإظهاراً لشعائر الله، وتعرفاً إلى عباد الله في كل طريق، ولقد جرت عادة الناس أن يتصافحوا، ويهنئ بعضهم بعضاً في العيد، وهذه عادة حسنة تجلب المودة، وتزيل البغضاء أما زيارة القبور في هذا اليوم بالذات، فلم أعلم لها أصلاً من الشرع، فزيارة القبور مشروعة في كل وقت، ولم يرد تخصيص يوم العيد بزيارتها. أيها الناس (قبل انتهاء خطبتنا هذه) أحب أن أوجه موعظة للنساء كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعظهن في صلاة العيد بعد الرجال. فأقول أيتها النساء: إن عليكن أن تتقين الله في أنفسكن، وأن تحفظن حدوده، وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله أيتها النساء: لا يغرنكم ما يفعله بعض النساء من الخروج إلى الأسواق بالتبرج والطيب وكشف الوجه واليدين أو وضع ستر رقيق لا يستر، فلقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، وذكر نساء كاسيات عاريات، مائلات، مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها)) وإذا مشيتن في الأسواق، فعليكن بالسكينة، ولا تزاحمن الرجال، ولا ترفعن أصواتكن، ولا تلبسن بناتكن ألبسة(/6)
مكروهة، ولا تتشبهن بالرجال فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وقال صلى الله وعليه وسلم للنساء: ((رأيتكن أكثر أهل النار؛ لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير)). اللهم إن عبادك خرجوا إلى هذا المكان يرجوان ثوابك وفضلك، ويخافون عذابك اللهم حقق لنا ما نرجو، وآمنا مما تخاف اللهم تقبل منا، واغفر لنا وارحمنا، اللهم انصرنا على عدونا، واجمع كلمتنا على الحق، ويسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى إنك جواد كريم.(/7)
العنوان: خطبة عيد الفطر المبارك
رقم المقالة: 711
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
يكبر تسع مرات متوالية، ثم يقول: - الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الحمد لله الذي سهل لعباده طرق العبادة، ويسر، وتابع لهم مواسم الخيرات، لتزدان أوقاتهم بالطاعات، وتعمر، فما انقضى شهر الصيام حتى حلت شهور حج بيت الله المطهر نحمده على أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ونعمه التي لا تنحصر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد المتفرد بالخلق والتدبير، وكل شيء عنده بأجل مقدر، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أنصح من دعا إلى الله، وبشر، وأنذر، وأفضل من تعبد لله، وصلى، وزكى، وصام، وحج، واعتمر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما بدا الصباح، وأنور، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمته عليكم بهذا الدين القيم دين الإسلام الذي أكمله الله لكم ورضيه لكم دينا، وأتم به عليكم النعمة، ثم اشكروه حيث هداكم له، وقد أضل عنه كثيراً، فأصبحت عقيدتكم أقوى العقائد وأعمالكم أكمل الأعمال وغايتكم أفضل الغايات أما عقيدتكم، فهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. تؤمنون بالله وأسمائه وصفاته؛ لأنكم تشاهدون آياته في كل شيء، فإن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد ففي أنفسكم آيات وفي السماوات والأرض آيات، وفي اختلاف الليل والنهار آيات، وفي تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض آيات، وفي كل مخلوق من مخلوقاته آيات تدل على كمال وحدانيته وتمام سلطانه وربوبيته وبالغ علمه وحكمته وواسع فضله ورحمته؛ لأن هذا الكون لا يمكن أن يوجد نفسه، ولا يمكن أن يوجد صدفة بل لا بد له من مدبر خالق هو الله وحده لا شريك له أما عملكم، فهو أكمل الأعمال؛ لأنكم تسيرون على نور من الله وبرهان مهتدين بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، فحققوا رحمكم الله السير على ذلك كما يجب أن تحققوه أقيموا الصلاة، وحافظوا عليها، فإنها عماد دينكم، ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة حافظوا عليها، ولا تضيعوها، فتكونوا ممن قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلاَ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شيئاً} [مريم:59،60]. أدوا الزكاة إلى مستحقيها كاملة من غير نقص، فإنها قرينة الصلاة في كثير من آيات القرآن، ولا تبخلوا بها، فتطوقوا بها يوم القيامة. صوموا رمضان حجوا البيت الحرام، فهذه أركان الإسلام من حافظ عليها سهل عليه بقية فروع الدين، وانشرح صدره لأوامر الله ورسوله، ومن لم يحافظ على أركان(/2)
الإسلام ضاق صدره بفروعه، وصعب عليه القيام به، فحافظوا رحمكم الله على دينكم، واتقوا الله ما استطعتم لتحققوا بذلك الغاية الحميدة، وهي رضا الله، والفوز بدار كرامته مع ما يتبع ذلك من الحياة الطيبة قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. عباد الله: لو سألتم أي واحد ما هي أمنيتك؟ لقال: أمنيتي أن أعيش سعيداً، وأموت حميداً، وأبعث آمنا، وهذه الأمنية تتحقق يقيناً لكل من عمل صالحاً وهو مؤمن، وما أيسر ذلك لمن يسره الله له.(/3)
عباد الله: إن التمسك بدينكم يكفل لكم الحياة الطيبة والأجر العظيم الحياة الطيبة حياة النصر والعز والرخاء والكرامة وأكبر شاهد على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث في قوم أميين متخلفين في العلم والحضارة والسيطرة، فما لبث هؤلاء القوم حين تمسكوا بالإسلام حتى صاروا قادة العالم في العلم والحضارة والأخلاق، وسادوا الناس عزة بعد الذل وتقدماً بعد التخلف، وإن الدين الذي تمسك به أولئك السادة لا يزال هو الدين محفوظاً في كتاب الله، وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلو تمسك به المسلمون تمسكاً صحيحاً، وطبقوه تطبيقاً إيجابياً في جميع أمورهم لسادوا العالم كما حصل ذلك لأسلافهم، قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40]. ولكن المسلمين فرطوا في كثير من أمور دينهم، وأعرض كثير منهم عن كتاب الله وسنة رسوله إلى نظم تخبطوا بها خبط عشواء ما أنزل الله بها من سلطان، فضلوا، وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل، فتفككت الأمة الإسلامية، وانتقضت عراها، وتداعت عليهم الأمم، وصاروا أذلة بعد العزة وضعفاء بعد القوة ومتفرقين بعد الألفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(/4)
عباد الله: إن الإسلام يأمر بإخلاص العبادة لله، وينهى عن الرياء يأمر باتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، وينهى عن البدع في الدين يأمر ببر الوالدين، وينهى عن العقوق، يأمر بصلة الأقارب، وينهى عن القطيعة، يأمر بالعدل، وهو إعطاء كل ذي حق حقه من غير نقص، وينهى عن الجور، وهو الظلم يأمر بالصدق والنصح والأمانة، وينهى عن الكذب والغش والخيانة يأمر بتطهير القلوب من الغل والحقد على المسلمين، وينهى عن البغضاء والعداوة يأمر بالحزم والقوة، وينهى عن الكسل والضعف، فهو دين يأمر بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شر وفساد.(/5)
عباد الله: إن من محاسن دين الإسلام هذا العيد السعيد اليوم الذي توج الله به شهر الصيام وافتتح أشهر الحج إلى بيته الحرام، وهو اليوم الذي يخرج فيه المسلمون فرحين بما أنعم الله به عليهم من إتمام الصيام والقيام. يؤدون صلاة العيد تعظيماً لله وإقامة لذكره، وبرهاناً على ما قام بقلوبهم من محبته وشكره يحسنون الظن بمولاهم؛ لأنه عند ظن عبده به يؤملون منه كل خير؛ لأنه صاحب الفضل والإحسان العميم يسألون الجواد الكريم الذي من عليهم بالعمل أن يمن عليهم بقبول ذلك، وأن يجعلهم من الرابحين. اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، يا منان يا بديع السماوات والأرض، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام أن تمن علينا بمحبتك والإخلاص لك ومحبة رسولك، والاتباع به، ومحبة شرعك، والتمسك به اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك الله يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم تقبل صيامنا، وقيامنا، وأعد علينا من بركات هذا اليوم، وأعد أمثاله علينا، ونحن نتمتع بالإيمان، والأمن، والعافية، اللهم صل، وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله.. الخ.(/6)
العنوان: خطبة في الحج
رقم المقالة: 1752
صاحب المقالة: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
-----------------------------------------
خطبة في الحج
الحمد لله الذي رتب على حج بيته الحرام كل خير جزيل ، وجعل قصده من أجل القربات الموصلة إلى ظله الظليل ، ويسر أسبابه وهون الوصول إليه والسبيل ، وسهله بلطفه وكرمه غاية التسهيل . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الجليل . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل الخلق في كل خلق جميل ، اللهم صل وسلم على محمد ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ، لهم في كل عمل نبيل .
أما بعد : أيها الناس ، اتقوا الله تعالى واغتنموا الفرص إلى حج البيت العتيق ، قال تعالى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه » ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة . تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة . الحجاج والعمار وفد الله ، إن سألوه أعطاهم ، وإن دعوه أجابهم ، وإن استغفروه غفر لهم ، يالها من وفادة عظيمة على ملك الملوك وأكرم الأكرمين ، وعلى من عنده ثواب الدنيا والآخرة وجميع مطالب السائلين ، ليست وفادة على أحد من المخلوقين الفقراء المساكين ، وإنما هي وفادة على بيته الذي جعله مثابة للناس وهدى ورحمة للعالمين ، قد غنم الوافدون فيها منافع الدنيا والدين ، غنموا تكميل إيمانهم وتتميم إسلامهم ، ومغفرة ذنوبهم وستر عيوبهم وحط آثامهم ، غنموا الفوز برضى ربهم ونيل رحمته وثوابه ، والسلامة من سخطه وعقوبته وعذابه ، قد وعدوا الثواب على المشقات وما ينالهم من الصعوبات ، ووعدوا(/1)
إخلاف ما أنفقوا أو مضاعفته ورفعة الدرجات ، ووعدوا بالغنى ونفي الفقر وغفران الذنوب ، وصلاح الأحوال وحصول كل مطلوب ومرغوب ، والسلامة من كل سوء ومكروه ومرهوب . يالها من وفادة تشتمل على تلك المواقف العظيمة ، والمشاعر الفاضلة الكريمة ، وفادة أهلها في مغنم عظيم في كل أحوالهم ، وتنوع في طاعة المولى في جميع أعمالهم . إذا أنفقوا ضوعف أجرهم بغير حساب ، أو نالهم نصب ومشقة فذلك يهون في طاعة الملك الوهاب ، أو تنقلوا في مناسكهم ومواقفهم نالوا به الخير والثواب ، فهم في كرم الكريم يتمتعون ، وفي خيره وبره المتواصل يرتعون ، إذا فرح الوافدون على الملوك بالعطايا الدنية الفانية ، فقد اغتبط هؤلاء الأخيار بالعطايا الجزيلة الباقية ، وإذا سارع المترفون إلى المصيف والنزهة في البلاد النائية مع كثرة النفقات ، تسابق هؤلاء الصفوة إلى المواقف الكريمة التي وعد أهلها بالخيرات الكثيرة والبركات . فهل يستوي من قدم أغراضه الدنية واتبع هواه ، ممن ترك محبوباته وسارع لرضى مولاه ؟! { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } .
من كتاب الفواكه الشهية في الخطب المنبرية
لمؤلفه : عبد الرحمن بن ناصر السعدي(/2)
العنوان: خطر السحر
رقم المقالة: 1571
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيأيها الناس: اتقوا الله - تعالى - فإنه {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق: 2 - 3].
أيها المؤمنون: تفرحُ جموعٌ من البشر بما أوتوا من علوم الدنيا؛ فيظنون أنهم بلغوا مبلغًا يخوّل لهم الفساد في الأرض، وعملَ ما يشاؤون فيها، وما علموا أنهم ما أوتوا من العلم إلا قليلاً.
وهذه الفئة من البشر هم أعداءُ الرسل والديانة، يستكبرون عن عبادة الله، ويستنكفون عن شريعته، ويمتنعون عن اتباع رسله؛ اكتفاءً وفرحًا بما لديهم من علوم. وقد قص علينا القرآن حالهم وما جرى لهم {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} {غافر: 83 - 85].[1](/1)
ومن أعظم علوم أهل الباطل - أعداءِ الرسل والشرائع - التي أُمِرْنا باجتنابها، وتكذيب أهلها: علوم السحر والشعوذة والكهانة والعرافة والنّجوم، وما يجري مَجراها ممَّا فيه ادعاءُ علم الغيب، وزعمُ النفع والضر من دون الله تعالى.
وكل هذا يُخِلّ بالتوحيد؛ بل يهدمه حتى يوصلَ صاحبَه إلى درجة الكفر والشرك بالله - تعالى - حينما يتعامل الساحر مع الشياطين ويذبح لهم ويعبدهم. وثمنُ ذلك: تعاونهم معه في أذى الناس، وإخباره بأخبارهم وخصوصياتهم؛ فيأتي ذلك الساحر أو الكاهن يخبر المصابين ببعض ماضيهم، ثم يكذب عليهم ألف كذبة بأخبار مستقبلهم؛ فيصدقهم الجهلة والرعاع ويظنون أنهم يعلمون الغيب، ويعتقدون أنهم يجلبون النفع ويدفعون الضر من دون الله - تعالى - فهذا هو الشرك في الربوبية.
والذهاب إليهم، وتصديقهم، والعمل بأقوالهم؛ هو القدح في توحيد الألوهية، وإذا ذهب توحيد العبد فماذا يبقى له من دينه؟!!(/2)
أيها الإخوة: السحر بلاء قديم في الأمم، أجمعت الشرائع على تحريمه[2]. وأخبر القرآن عن قِدمه في الناس {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، فقد نصت الآية على أن السحر كان موجودًا في بابل، ورجح ابن كثير أنها بابلُ العراق[3]. والناظر في تاريخ بابل يجد أن دينَ الصائبة ودينَ المجوس كان سائدًا فيها من عبادة النار إلى عبادة النجوم والكواكب، وهذا يعطي دلالة واضحة على تمازج السحر بالكفر، وأن هناك علاقة وطيدة بينهما.
كما أن العرب في الجاهلية قبل الإسلام كان يكثر فيهم السحرة والكهان؛ ولذا رمَوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما لما جاءهم بالقرآن؛ ولكن أشهرَ أمم الأرض تعاطيًا للسحر هم اليهود، وقد ألصقوا السحر والشعوذة بنبي الله سليمان - عليه الصلاة والسلام - وكذبهم الله - تعالى - {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] وزعم اليهود أن ما سخره الله لسليمان من الريح والشياطين إنما هو سحر، ويريدون إعادة هيكل سليمان ليحكموا الأرض بسحره كما يزعمون.(/3)
والسحر تعلمًا وتعليمًا كُفرٌ بالله - تعالى - قال ابن جريج - رحمه الله تعالى -: "لا يجترئ على السحر إلا الكافر"[4]. وقال القرطبي - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى - {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} قال: "فأثبت كفرهم بتعليم السحر"[5]، وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "وقوله - تعالى - {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر"[6]، وقد عده النبي - صلى الله عليه وسلم - من السبع الموبقات[7].
ويدخل في التحريم اقتناء الكتب التي تبين طريقة السحر، أو قراءتها، أو تحضير الشياطين أو الأفلام التي تعرض السحر وطرقه، لا على وجه الذم، وإنما على وجه التعليم أو الإعجاب فكل ذلك محرم.
وحدُّ الساحر: القتل؛ فقد قتلَتْ حفصةُ - رضي الله عنها - جارية لها سحرتها، وكتب أبوها عمر - رضي الله عنه - قبل موته بسنة إلى عمّاله أن يقتلوا كل ساحر وساحرة، وقتل جندب الأزدي - رضي الله عنه - رجلاً يلعب بالسحر أمام الناس، قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: "عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم –"[8].(/4)
هذا بعض ما يقال في الساحر، وأما المسحور والمريض فليعلم أنه مبتلى يجب عليه الصبر، والاحتساب مع الإخلاص في الدعاء، وصدق التوجه إلى الله - تعالى - والأخذ بالأسباب المشروعة في العلاج، من الرقية الشرعية؛ فرُبَّما تكلَّم المتلبّس به فأخبره عن مكان السحر، أو ربما رأى رؤيا تدلّه على مكانه فيبطله، أو ربما يخبر صالحو الجن الرجل الصالح من الإنس بمكان السحر فيُبطل. وهنا يلزم التنبيه على أنه لا يجوز أن تطلب المساعدة من الجن حتى ولو كانوا صالحين؛ لأنَّ هذا مزلق خطير لكن لو قدموها من غير طلب فلا حرج. والحجامة قد تنفع في استخراج السحر، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضررت أفعاله بالسحر من أنفع العلاج إذا استعملت على القانون الذي ينبغي". اهـ[9]
أما الذهاب للسحرة أو الكهان أو العرافين وأمثالهم من أجل الاستشفاء، أو معرفة المستقبل، أو تسليطهم على الناس فهذا إن سلم صاحبه من الكفر لم يسلم من الوقوع في كبيرة من الكبائر، وهذا يحصل كثيرًا بين الأقران والمتنافسين في التجارة أو الرياضة أو ما يسمونه الفن والتمثيل، كما يحصل كثيرًا بين النساء في التنافس على رجل معين، وهو سحر الصرف والعطف.(/5)
ومن البلاء العظيم أن يتخلَّى العبد عن دينه في سبيل إيذاء الآخرين، أو في اعتقاد جلب نفع له وهو ضررٌ مَحْضٌ، وقد جاء في حديث عمران بن حصين مرفوعًا: ((ليس منا من تطيَّر أو تُطيِّر له، أو تكهَّن أو تُكهِّن له، أو سحر أو سُحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -))؛ أخرجه البزار بسند جيد[10]. وفي صحيح مسلم قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة))[11] ، قال النووي: "معناه أنه لا ثواب له فيها"[12]، وقال البغوي: "العرَّاف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها كالمسروق من الذي سرقها، ومعرفة مكان الضالة"[13].
والتنجيم من السحر بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد))؛ أخرجه أحمد وأبو داود وصححه النووي[14]، قال شيخ الإسلام: "فقد صرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ علم النجوم من السحر" اهـ[15].
والصلة بين التنجيم والسحر أنَّ أهل التنجيم يزعمون أنَّ الكواكب روحانية، وأنها إذا قُوبلت بأنواع من اللباس والعطور صارت مطيعة، ثم إن المنجم قد يذبح لها ويتقرب إليها بأنواع من العبادات.
والكاهن: هو الذي يدعي علم الغيب في الماضي والمستقبل. والعرَّاف: يدعيه في الماضي. والرمال: الذي يخط بالحصى[16]، ويدخل في ذلك الذي يقرأ في الكف والفنجان، ويجمعها كلها: ادعاء علم الغيب، قال شيخ الإسلام: "العراف قد قيل إنه اسم عام للكاهن والمنجم والرَّمال ونحوهم ممن يتكلم في تقدم المعرفة بهذه الطرق". اهـ [17](/6)
فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم، واحذروا الإخلال بتوحيدكم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102- 103]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله كما أمر، واحذروا الذنوب ما خفي منها وما ظهر، واعلموا أن الله مع المتقين.
أيها الإخوة المؤمنون: إن من عظيم ما يندى له الجبين، ويأسى عليه صاحب القلب السليم، أن تغزو الخرافة والشعوذة أهل التوحيد في دورهم؛ يتربى عليها أطفالهم، ويتأثر بها نساؤهم.
فضائيات تنقل السحر، وكيفية استخدامه، وطرقَ الذهاب إلى السحرة، والاتصالَ بهم؛ عبر مشاهد في أفلام ومسلسلات وبرامج خصصوها للسحر والكهانة والعرافة وقراءة الفنجان ونحو ذلك.
ويتناهى قبحُ تلك الفضائيات حينما تجري اللقاءات والمقابلات مع السحرة والمشعوذين؛ لتلميع صورتهم وتحسينها لدى المشاهدين، يخبر فيها الساحر أنه تعاطى السحر من أجل نفع الناس، وتفريج كربهم ومساعدتهم، ويستتر بآيات وأذكار يزعم أنه يعالج بها، يُلبِّسُ بها على عقول المشاهدين. وكم والله تأثر بذلك من أشخاص يصنفون من أهل العقل والحكمة والصلاح؛ فأخذوا يدافعون عن هؤلاء السحرة، ويحاجّون عنهم، فكيف بمن هم دونهم عقلاً وحكمة!!(/7)
وتأسى أكثر وأكثر حينما يجتمع أهل البيت حول الشاشة لمشاهدةِ عروضٍ سحرية؛ يخرج الساحر فيها بلباس أنيق جذاب، وابتسامةٍ صفراءَ يسرق معها توحيد المشاهدين، كما سرق من قبل أموال الحاضرين، فيُظهر أمامهم أنه يحيل أوراقًا إلى طيور، أو يدخل جسمًا كبيرًا في حيّز أصغر منه، أو ينفث من فمه النار، أو نحو ذلك من أنواع التخييل واستخدام الشياطين. ويُنظر إلى هذا الساحر الخبيث بإعجاب، ويُحيَّا بالتصفيق والتصفير. والطفل المسلم الموحد يشاهد ذلك؛ فينغرس في قلبه أن هذا الساحرَ عظيمٌ من العظماء، وأن فعله مدعاة للإعجاب والإكبار، فيا ترى كيف ستكون عقيدة هذا الطفل؟! وما مصير توحيده؟! ونعوذ بالله من هذا البلاء الذي لم يَبْقِ ولم يذر.
عن أبي عثمان النهدي - رحمه الله - قال: "كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنسانًا وأبان رأسه، فعجِبنا، فأعاد رأسه كما كان، فقال الناس: سبحان الله! يُحْيِي الموتى، ورآه رجل صالح من المهاجرين يقال له جندب الأزدي؛ فنظر إليه فلمَّا كان من الغد اشتمل سيفه فجاء ذلك الرجل يلعب لعِبَه ذلك، فاخترط المهاجريُّ سيفه، فضرب عنقه، وهو يتلو {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء: 3]، وقال: "إن كان صادقًا فليُحْيِ نفسه"؛ أخرجه البخاري في التاريخ، والبيهقي في الدلائل وصحَّحه الذهبي[18].
ولقد قال العلماء: "إذا رأيتَ الرجل يطير في الهواء، ويمشي على الماء فلا تغتر به حتى تعرض عمله على الكتاب والسنة"[19].
ويدخل فيما سبق ما يسمى بالبروج والطوالع التي تعرض في بعض الصحف والمجلات، وما انتشرت عبارة: من حسن الطالع كذا، ومن سوء الطالع كذا، إلا تأثرًا بتلك الخرافات والأكاذيب؛ فاحذروا ذلك واحذروا السحر وأنواعه؛ فالمسألة مسألة توحيد وعقيدة، إذا انخرمت انخرم الدين كله.(/8)
أسأل الله - تعالى - أن يحفظنا والمسلمين من أسباب الزيغ والضلال، وأن يكفي المسلمين شر السحرة الأشرار، وأن يفضحهم بالليل والنهار، ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله كما أمركم ربكم بذلك.
---
[1] انظر: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" (417).
[2] المصدر السابق (386).
[3] تفسير ابن كثير (1/213).
[4] "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" (387).
[5] "الجامع لأحكام القرآن" (2/31).
[6] "فتح الباري" لابن حجر (10/225).
[7] حديث السبع الموبقات أخرجه البخاري في الوصايا باب قول الله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] (2766) ومسلم في الإيمان باب الكبائر وأكبرها (89).
[8] حديث قتل حفصة للساحرة: أخرجه عبدالرزاق (10/180) وابن أبي شيبة (9/416) والبيهقي في الكبرى (8/136) وكتابة عمر - رضي الله عنه - جاءت في حديث بجالة بن عبدة عند أبي داود في الخراج باب في أخذ الجزية من المجوس (3043) وسعيد بن منصور في سننه (2/90) وأحمد (1/190) والبيهقي في الكبرى (8/136) وعبدالرزاق (10/179) وابن أبي شيبة (10/136) وصححه ابن حزم في "المحلى" (11/396) وحديث جندب الأزدي سيأتي تخريجه - إن شاء الله تعالى - في ذكر قصته، وانظر مقولة الإمام أحمد في "فتح المجيد" (396).
[9] "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/126).
[10] أخرجه البزار كما في كشف الأستار (3044) ومختصر زوائد مسند البزار للحافظ ابن حجر (1170) والطبراني في الكبير (18/162) برقم (355) وجوّد إسناده المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/33) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة، انظر: "مجمع الزوائد" (5/117). وله شاهد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه البزار كما في كشف الأستار (3043) ومختصر زوائد البزار (1169) والطبراني في الأوسط (4262) وفي سنده زمعة بن صالح وهو ضعيف.(/9)
[11] أخرجه مسلم في السلام باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان (2230).
[12] انظر: شرح النووي على مسلم (14/226).
[13] شرح السنة (12/182).
[14] أخرجه أحمد (1/311) وأبوداود في الطب باب في النجوم (3905) وصححه النووي في "رياض الصالحين" (1671) والذهبي كما في "تيسير العزيز الحميد" (403) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (793) وصحيح الجامع (5950).
[15] مجموع الفتاوى (35/193) وانظر: "تيسير العزيز الحميد" (403) و"فتح المجيد" (401).
[16] انظر في الفروقات بينها: "المغنى" لابن قدامة (12/305) و"تيسير العزيز الحميد" (415) و"فتح المجيد" (414).
[17] مجموع الفتاوى (35/173) وانظر: "تيسير العزيز الحميد" (415).
[18] قصة جندب أخرجها عبدالرزاق (10/182) والبخاري في التاريخ الكبير (2/222) والطبراني في الكبير (1725) والدارقطني (3/114) والبيهقي في الكبرى (8/136) والحاكم (4/361) وابن عساكر كما في تهذيب تاريخه (3/413) وعزاها الحافظ في الإصابة لابن السكن ولابن منده (1/25) وصححها الذهبي في "تاريخ الإسلام" (3/3).
[19] انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (1/83).(/10)
العنوان: خطر السعال الديكي على الأطفال
رقم المقالة: 249
صاحب المقالة: ألماز برهان
-----------------------------------------
كثيراً ما تشكو الأمهات من إصابة أطفالهن بأمراض عدة، خاصة في فصل الشتاء، وأهمها الأنفلونزا والرشح والسعال، وقد تجهل الأم طبيعة مرض ولدها أحياناً لتختلط عليها الأمور، وحين يبدأ طفلها بالسعال تحاول علاجه بأدوية مهدئة للسعال فقط، غير مدركة أنه ربما يكون طفلها مصاباً بعدوى أحد أخطر أنواع السعال وهو: "السعال الديكي" الذي يتميز بنوبات من تأتي في سلسلة متكررة تسبقها شهقة، ولهذا سمي بالشاهوق.
ويعد السعال الديكي واحداً من أهم الأمراض التي تصيب الأطفال دون سن السادسة، ولنتعرف أكثر على هذا المرض بحثنا عن أسبابه وأعراضه وطرق الحماية والعلاج منه بمساعدة استشاري طب الأطفال الدكتور: محمد ميسرة.
حقيقة السعال الديكي:
هذا المرض تسببه جرثومة بكتيرية تسمى Bordetella pertussis، وهي شديدة الانتقال والعدوى بين الناس من المرضى المُصابين بها، وتكثر في فصل الشتاء، وعادة تنتقل بواسطة الرذاذ المتطاير من فم المريض وأنفه وتزداد مع السعال والعطاس، و يمكن انتقالها عن طريق استخدام أدوات المريض من ملابس وآنية قد استخدمها، والأطفال الرضع دون سن سنة من العمر، هم أكثر عُرضة لتقبل العدوى والإصابة بهذا المرض.
سوء التشخيص:
يتمكن الطبيب عادة من الوصول للتشخيص بمعرفة التاريخ المرضي، وخاصة وجود السعال الشديد المتبوع بشهاق، ويحتاج الطبيب أحياناً إلى إجراء بعض التحاليل المخبرية مثل إجراء مزرعة لبصاق الطفل أو للرذاذ الخارج أثناء السعال، وذلك بوضع طبق بتري (طبق الزراعة المخبرية) أمام فم الطفل أثناء السعال، ثم التعرف على الجرثومة المسببة للمرض.(/1)
يقول الدكتور كريستوفر كجازي من جامعة واشنطن بمدينة سياتل في ولاية واشنطن الأميركية: إن الدراسة أثبتت أن ثُلث الأطفال الرضَّع المصابين بالسعال الديكي قد عرضوا على الأطباء أكثر من ثلاث مرات قبل أن يتوصل الأطباء إلى التشخيص الصحيح وبدء المعالجة السليمة. وأضاف: إن الأطباء لا يُفكرون في مرض السعال الديكي كأمر قد يُصاب الأطفال به، لكن يجب عليهم أن يضعوه في الحسبان لدى معاينة أي شخص يُعاني سعالاً مستمراً، ويضيف: حتى المراهقون والبالغون قد يُصابون به، وهو ما قد يُشخَّص على أنه التهابات معتادة في الجهاز التنفسي.
أعراضه:
تظهر الأعراض المرضيَّة بعد مرور أسبوع إلى ثلاثة أسابيع من التقاط الجرثومة من المريض (مرحلة الحضانة) بشكل سعال متكرر غير مميز وخفيف لمدة أسبوعين تقريباً، والأعراض المبدئية قد تستمر أسبوعين على هيئة احتقان في الأنف وسيلان منه وعطس واحمرار في العين وارتفاع طفيف في درجة الحرارة، وفجأة يبدأ السعال بالازدياد حدة وتكراراً، حيث يأتي على شكل نوبات قوية تنتهي بشهقة مميزة تشبه صياح الديك، ومع كل نوبة قد يُصاب الطفل بازرقاق الشفتين والاختناق، وقد يتوقف التنفس للحظات، كما قد يُغشى على الطفل ويصاب بنوبة من التشنج، ومع شدة السعال قد تحدث حالة قيء ويرفض الطفل الرضاعة والأكل مما يؤثر في صحته، وتستمر هذه النوبات مدة أسبوعين ثم تخف حدة السعال تدريجياً لمدة أسبوعين قبل أن يشفى المريض.
الوقاية منه:(/2)
بما أن الوقاية خير من العلاج فمن المفترض أن يتلقى الأطفال الصغار لقاحَ السعال الديكي؛ لإكسابهم المناعة في وقت مبكر؛ وذلك لإثارة حساسية جهازهم إلى الجرعات التابعة، وإلى أي إصابة للمرض من المحتمل وقوعها، فيبدأ في تكوين الأجسام المضادة في وقت مبكر وبمقادير أكثر كفاية، وهذا التطعيم جزء من التطعيم الثلاثي البكتيري (الدفتيريا، السعال الديكي، الكزاز)، وغالباً ما يندر حدوث الحالة بعد التطعيم، وقد تتدنى المناعة التي يُحققها الطفل عند بلوغ مرحلة المراهقة ما يتطلب أخذ جرعة منشطة في ذلك العمر لضمان مستوى جيد من مناعة الجسم ضد جراثيم (ميكروبات) السعال الديكي.
عدد الإصابات:
كشفت دراسة بريطانية أن زهاء 40 بالمئة من الأطفال الذين يزورون طبيبهم بسبب سعال مستمر مصابون بالسعال الديكي.
وقالت جامعة أكسفورد: إن البحث الذي أجرته ضم 172 طفل، وأظهر أن السعال الديكي منتشر بكثرة لدى الأطفال الصغار، لكن الفريق الذي أجرى الدراسة التي تناولت 172 من الأطفال بين الـ5 سنوات والـ16 سنة الذين زاروا طبيبهم بسبب سعال دام ما لا يقل عن 14 يوماً أظهر أنه من المستحسن أن يفكر الأطباء بتشخيص مرض السعال الديكي حتى لدى الأطفال الذين تلقوا التطعيم الكامل.
وقد شهد عام 2004 تشخيص 237 طفل في نحو الرابعة من العمر أو أقل قليلاً، وقد ارتفع العدد إلى 289 عام 2005.
وقالت كاثرين وايمور من برنامج كاليفورنيا لظهور الأمراض المعدية: إن حالات السعال الديكي ارتفعت خلال العقد الماضي، لكن الزيادة الحقيقية كانت في غضون السنوات الخمس الماضية. وأضافت بأن الدراسة تؤكد أن على الوالدين أو على أيٍّ من البالغين المحيطين بالأطفال تلقي جرعات منشطة من اللقاح الخاص بهذا النوع من الأمراض المُعدية.
المضاعفات في حال إهمال الوالدين:
تُؤكد الرابطة الأميركية للطب الباطني أن المرض قد يتسبب في وفاة المصاب ما لم يُعالَج، وقد يتسبب في:(/3)
* الإصابة بالتهاب رئوي أو انقباض في الرئة.
* فتق سري بسبب ارتفاع الضغط داخل تجويف البطن أثناء نوبات السعال الشديدة.
العلاج المناسب وما يجب مراعاته في حال احتضان مصاب بالسعال الديكي:
* من الضروري أن تعمل الأم على تهيئة مكان إقامة المريض ومحاولة عزله عن الآخرين في المجتمع، على الأقل في بداية الأسبوع الأول من بدء تناوله المضاد الحيوي، وتوفير الغذاء الجيد له نظراً لإصابته بالمرض وتدهور صحته عموماً، ومن المهم كذلك إبعاد الطفل عن المحسسات ومهيجات السعال مثل الدخان والغبار وغيرها.
* أما العلاج الذي قد يقرَّر له فيعتمد على تناوله مضادات حيوية للجراثيم (البكتيريا) المسببة للمرض، وبعض المسكنات للتخفيف من حدة السعال. وقد تُوصف للأفراد الآخرين في منزل المريض لمنع إصابتهم و وقايتهم من المرض، خشية أن ينتشر ويصيب أفراداً آخرين في المجتمع.(/4)
العنوان: خطر على الأمة
رقم المقالة: 1167
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
عباد الله:
إن من أعظم الجرائم، ومن أكبر المشاكل التي تفشت في مجتمعاتنا، التي عرضت ديننا وقيمنا، وأمننا، وأموالنا للضياع، وللسفك، وللانسلاخ؛ هو ما تفشى في مجتمعاتنا من تعاطي المخدرات، وشرب الخمر.
إنها مصيبة نكراء، وجريمة شنعاء، فتكت بشبابنا، وأذهبت أموالنا، وأهدرت دمائنا، وزعزعت أمننا وسكينتنا، فنشكو حالنا إلى الله - تبارك وتعالى.(/1)
والله - عزَّ وجلَّ - تحدث عن المفسدين في الأرض، وعرض لجرائمهم، وبيَّن أحكامهم فقال: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33-34].
وقد كانت الخمر وكل مسكر تسمى عند العرب في الجاهلية ((أم الخبائث)) لا يشربها عقلاؤهم، ولا يتعاطاها حكماؤهم، حرمه كثير منهم على نفسه؛ منهم حاتم الطائي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وهرم بن سنان، وكانت تسمى عندهم ((السفيهة)) و((المؤذية))، و((القبيحة))، و((المكروهة)). فلما جاء الإسلام حرمها الله -تبارك وتعالى - في كتابه، وحرمها رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، وقال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام))[1] وقال - صلى الله عليه وسلم - وقد جاءه رجل من اليمن، يسأله عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المِزْر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أو مسكر هو؟)) قال: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مسكر حرام، إن على الله - عزَّ وجلَّ - عهداً لمن يشرب المسكر، أن يسقيه من طينة الخبال)) قال: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: ((عَرَق أهل النار، أو عُصارة أهل النار))[2].(/2)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من شرب الخمر وسكر، لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، وإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كان حقّاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة)) قالوا: يا رسول الله وما ردغة الخبال؟ قال: ((عصارة أهل النار))[3].
وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر))[4].
عباد الله:
إن شرب الخمر من الكبائر؛ فهي أم الفواحش، لعنها الله، ولعن عاصرها، ومعتصرها وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقاها، وآكل ثمنها[5].
إن شرب الخمر يجرئ المرء على معصية لله - عزَّ وجلَّ - ويهون عليه ارتكاب الموبقات، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - جلس بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو، أسأله عن ذلك، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأنكروا ذلك، ووثبوا جميعاً، فأخبرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((إن ملكاً من بني إسرائيل أخذ رجلاً، فخيّره بين أن يشرب الخمر، أو يقتل صبيّاً، أو يأكل لحم الخنزير، أو يقتلوه إن أبى، فاختار أن يشرب الخمر، وأنه لما شرب، لم يمتنع من شيء أرادوه منه))[6].
إن أضرار الخمر وبيلة، ومصائبها كثيرة، ويكفي ما نسمع، وما نرى، وما ينقل إلينا من تلك الأضرار الوخيمة، والعواقب الأليمة، التي تفشت في مجتمعاتنا.(/3)
لقد انتشرت العصابات الفاجرة المجرمة التي تجلب إلينا المسكرات والمخدرات، التي تسعى في الأرض فساداً، التي زعزعت أمن البلاد، وأمن العباد، وأرهبت أهل البيوت في بيوتهم، وسفكت الدماء، وهتكت الأعراض، وعرضت الأنساب للاختلاط، وعرضت الشباب للانحراف والضياع.
أيها الناس:
إن من أعظم أضرار المسكرات والمخدرات:
أولاً: إنها محاربة لله - تبارك وتعالى - ومعصية ظاهرة له، فمن تناول شيئاً منها، أو جلب شيئاً منها لغيره، أو روج لها، أو استحسنها، أو سكت عن مروج لها، فقد بارز الله بالمحاربة، واستوجب لعنة الله - تعالى - وغضبه، وأمن من مكره سبحانه، وقد قال الله - عزَّ وجلَّ - عن هؤلاء {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
إنها عداوة صريحة لله رب العالمين، وهي أعظم ما عصي الله - تعالى - به في أرضه، فإن الإنسان إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وإذا افترى، قتل، وزنا، واغتصب، وفعل كل فاحشة خبيثة.
ثانياً: أن فيها إذهاباً للعقل، الذي هو أعظم نعمة، أنعم الله - تعالى - بها على الإنسان، فإذا أذهب هذه النعمة، وهذه المنة، فقد تردى في الحضيض، وباء بالغضب واللعنة. يقول الله – سبحانه وتعالى - عن أصحاب العقول: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وقال عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
وقال عزّ من قائل: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [البقرة: 269] أي أهل العقول.
فالذي أذهب عقله، وأضاع لبه، فهو في مسلك البهيمة، وفي مستوى الحمار، أو الثور، لا يدرك شيئاً، ولا يعرف شيئاً، قلَّت قيمته، وخف وزنه، وهان على ربه، فلا رجولة فيه، ولا حياة، ولا مروءة، ولا دين، ولا خير.
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ إِنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ(/4)
أذهب الله بهاءه، ونزع رداءه، وهتك ستره، وفضحه على رؤوس الخلائق، فنسأل الله - تبارك وتعالى - الستر والعافية.
ثالثاً: إن في شرب المسكر والمخدر سفكاً للدماء، وهتكاً للأعراض، وإهداراً للأموال.
فأما الدماء؛ فإننا نسمع كل يوم عن تلك الجرائم البشعة التي تحدثها هذه العصابات الضالة وتلك الشلل التائهة، من قتل رهيب، وتعد على البيوت الآمنة، وترويع من فيها من عباد الله. ونسمع دائماً عن قضايا الإعدام التي تلحق بهؤلاء المفسدين، نسأل الله أن يقطع دابرهم، وأن يطهر البلاد من شرورهم.
وأما الأعراض فإن أكبر جريمة بعد شرب الخمر جريمة الزنا، وهي لا تأتي في الغالب إلا بعد أن يذهب العقل بالخمر، حتى أن بعضهم لما شرب الخمر وسكر، ثَنّى بالجريمة الفحشاء، والفعلة النكراء، على أمه التي ولدته!! فنفذ فيه حكم الله، جزاء على تلك الجريمة التي يتنزه عنها اليهود والنصارى والبوذيون، وتقشعر منها جلودهم، ولا تفعلها الكلاب ولا الحمير، وإنما حمله على ذلك شرب الخمر الذي أذهب عقله ففعل هذه الفعلة البشعة.
وفيها أيضاً إزهاق للأموال، فهي تؤدي إلى الميسر والقمار، وإلى إتلاف الآلاف؛ بل والملايين في غضب الله - تعالى - وسخطه ولعنته.
رابعاً: ومن أضرارها أنها ضياع لشباب الأمة، وإهدار لقوة الأمة ومستقبلها، فما ضاع أكثر شبابنا إلا بسبب هذه الخبيثة.
لقد امتلأت بهم السجون في جرائم ارتكبوها بسبب شرب الخمر، دعاهم ربهم - تبارك وتعالى - إلى المساجد، وإلى حِلَق الذكر ومجالس العلم، وإلى أن يرفعوا من أنفسهم ولكنهم أبوا إلا الضياع والانحطاط {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].
أدخلوا السجون بالعشرات، بل بالمئات، والإحصائيات التي سمعنا بها رهيبة رهيبة، تنذر بأشد الخطر، وأسوأ العواقب.(/5)
خامساً: وللخمر أضرار صحية لا حصر لها، وكذلك المخدرات، وقد شهد على ذلك أهلها، ومنتجوها، ومروجوها، ومصنعوها.
لقد دخل عن طريق إرسال المخدرات إلى مجتمعاتنا كثير من الأمراض، منها مرض الإيدز، وأمراض الالتهاب الرئوي، وسوء الهضم، والتشنج، والصرع، والسهاد، والقلق، والسهر، والارتباك، والأمراض النفسية، والعصبية، والغم والهم، والحزن، واللعنة في الدنيا والآخرة، إلى غير ذلك مما ذكره أهل الطب، مما يزيد على مائة مرض من أخطر الأمراض؛ ومن أعظمها مرضا الإيدز والسرطان اللذان يصاب بهما كثير من الناس في هذا العصر، حتى قال بعض الأطباء الأمريكان: إن كل أربعة من عشرة من الأمريكيين مهددون بالإيدز، بسبب المخدرات.
ويقول صاحب كتاب "دع القلق وابدأ الحياة": إن الأمريكان قد حفروا لأنفسهم قبوراً، يردونها؛ لأنهم ما عرفوا الله نصف ساعة في اليوم، ثم صرح بأن السبب الرئيس في ذلك هو تعاطي المخدرات، التي أذهبت عقولهم.
ويقول إلكسس كارلي في كتاب "الإنسان .. ذلك المجهول": إن من أكبر الأسباب التي أدت إلى انهيار الإنسان في أوروبا، هي تلك المخدرات التي انتشرت في مجتمعاتها.
سادساً: ومن أضرار المسكرات والمخدرات أيضاً، أنها ضربة للأمة في قوتها واقتصادها، في قوتها العسكرية وقوتها الصناعية، ولذلك ذكر أهل التاريخ، أنه في القرن السادس عشر الميلادي، تواجه الصينيون واليابانيون، فانهزم الصينيون وسحقوا، فلما بحثوا في أسباب الهزيمة، وجدوا أن من أعظم الأسباب، هو انتشار الأفيون انتشاراً رهيباً بين صفوف الجيش الصيني، مما اضطره إلى أن يترك المعركة وينسحب.
وهذا الأمر أيضاً كان معروفاً عند العرب، فقد كانوا في الجاهلية يسمون الأفيون ((عطر منشم)) إذا شمه الجيش وأروح رائحته في المعركة انهزم وولى الأدبار.
وفي ذلك يقول زهير بن أبي سلمى في ميميته وهو يمدح هرم بن سنان:(/6)
تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وَذُبْيَانَ بَعْدَمَا تَفَانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَمِ
أيها الناس:
إن معنى تعاطي المخدرات في مجتمعاتنا، والترويج لها، أن نعيش في جو من الإرهاب، بسبب تلك العصابات المجرمة؛ ألا نأمن في بيوتنا ولا في أعمالنا؛ ألا نأمن على زوجاتنا ولا أخواتنا، معناه أن نقدم شبابنا لقمة سائغة إلى تلك الفئات الضالة، فيصبحون شللاً من المجرمين والمنحرفين يهددون أمن هذه الأمة واستقرارها.
إن الصهيونية العالمية، تخطط لإفساد شباب المسلمين، ولذلك فإن إسرائيل عدوة الإنسانية من أكثر الكيانات التي تعمل على إغراق البلاد الإسلامية بالمخدرات، وقد نشر هذا في بعض الإحصائيات.
ولكن ما هي الأسباب التي أدت بشبابنا ومجتمعاتنا إلى هذا التهتك والانحلال؟ اذكر من ذلك بعضاً من أهم هذه الأسباب.
السبب الأول: ضعف مراقبة الحي القيوم، ومن لا يراقب الله يضيعه الله، ولا يحفظه، ومن لا يحفظه - سبحانه وتعالى - فقد هلك. قال - تعالى -: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} [الكهف: 17].
لما ضعفت مراقبة الله - تعالى - في قلوب كثير من الناس، بما فيهم الشباب سهل عليهم تعاطي المخدرات فاستحقوا غضب الله ومقته؛ ولذلك فإن أعظم ما يوصى به في هذا المقام وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله عنهما -: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك))[7] فمن حفظ الله - تبارك وتعالى - فأحل ما أحل الله، وحرم ما حرم الله، وأدى الفرائض، وانتهى عن النواهي، حفظه الله، ولم يضيعه.
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جهنم))[8].(/7)
فلما ترك هؤلاء صلاة الفجر في جماعة، ابتلاهم الله بالكبائر، وأخذهم من حيث لا يشعرون، حتى وقعوا في مستنقع الرذيلة، والجريمة، والقبح، والعياذ بالله.
والسبب الثاني: سوء التربية، فإن مسؤولية الأب والأم كبيرة، فالشاب الذي ينشأ على الأغنية والموسيقى، لا يستغرب ولا يستبعد أن يتناول كأس الخمر، أو يتناول الأفيون، أو يتعاطى الحشيش، أو يروج للمخدرات، وما الذي يمنعه من ذلك، وقد تربى على الأغنية الماجنة، والأفلام الساقطة وعلى الجريمة والفحش.
ما تربى على سورة {طه} و{الواقعة} و{ق} ما سمع حديثاً من صحيح البخاري أو مسلم، ما حضر درساً من دروس العلم.
فالأب والأم مسؤولان أمام الله - تعالى - يوم القيامة عن ضياع هؤلاء الشباب.
السبب الثالث: الفراغ، فلما فرغت قلوبهم من طاعة الله، ومن ذكر الله، ومن محبة الله، امتلأت من محبة الشيطان، فقاده كما تقاد الدابة حتى أورده مورد الهلاك.
والسبب الرابع: قرناء السوء، والشلل البائرة الفاسدة، التي مكرت بشبابنا، وصورت لهم الدين، وحلقات العلم، على أنها تخلف ورجعية، وتزمت وتأخر.
ولكن ها هو إنتاجهم على الصعيد الآخر، وها هو التقدم الذي يزعمون، حتى أصبحنا نعيش على هامش الحياة، وخلف سطور التاريخ.
مر أحدهم بأحد طلاب العلم وهو يقرأ في صحيح البخاري، فقال له ضاحكاً مستهتراً: الناس صعدوا على سطح القمر، وأنت تقرأ في هذا الكتاب! فرد عليه طالب العلم قائلاً: أنت ما قرأت في الكتاب وما صعدت على سطح القمر، فأينا أفضل!
إنهم ما قدموا شيئاً، ولم يحرزوا مجداً، إنهم لا يجيدون إلا تقليد أوروبا في ميوعتها، وخنوثتها، وتدنيها، وسخفها، وسفهها، لكنهم ما صنعوا لنا طائرة، ولا ثلاجة، ولا قدموا لنا خدمات كما تفعل أوروبا، فقد أضاعوا الدين والدنيا جميعاً.
كفقير اليهود لا دين ولا دنيا
{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} [النساء: 143].(/8)
{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
فتجد أحدهم يفتخر في المجال أنه سافر إلى أمريكا، وإلى لندن، وإلى باريس، وأنه عاش هناك، ودرس هناك، وهذا والله ليس بشرف، وإنما يحل لنا السفر إلى هذه البلاد للضرورة كما يحل لنا لحم الميتة.
قال أهل العلم: لا يسافر إلى بلاد الكفر إلا لعلاج لا يوجد في بلاد المسلمين أو دراسة دنيوية، لا تتحصل إلا في هذه البلاد، أو للدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ.
فهل يذهب هذا العدد الكبير إلى هذه الدول للدعوة؟!
هل يذكرون لا إله إلا الله في شوارع لندن وباريس؟!
هل رفعوا لواء محمد - صلى الله عليه وسلم - هناك؟!
هل نشروا القيم والأخلاق؟
لقد ذهبوا هناك، فأصبحوا أذل وأخس وأحقر من أبناء تلك الدول.
وما ذهبوا لعلاج، والحمد لله فإن في بلادنا ما يكفي في هذا المجال.
وما ذهبوا لطلب العلم؛ لأنهم ما قدموا لنا شيئاً، وما أنتجوا لنا شيئاً.
مِنْهُمْ أَخَذْنَا الْعُودَ وَالسِّيجَارَةْ وَمَا عَرَفْنَا نُنْتِجُ السَّيَّارَةْ!
فمن أعظم الأسباب التي أدت إلى فساد كثير من الشباب، السفر إلى هذه البلاد الغربية، وخاصة إذا سافر المراهقون، الذين لم يدركوا نعمة الإسلام، فيذهب أحدهم، فينسلخ من دينه ومن عقله، ومن حياته، ويعود في مسلاخ البهيمة والحيوان.
السبب الخامس: تعاطي بعض العقاقير عن طريق الخطأ، أو بزعم أن فيها شفاء من بعض الأمراض، أو أنها نافعة في تقوية شهوة الجنس، وقد كذبوا، لأنه ثبت عند أهل الطب من المسلمين أنها سبب لضعف شهوة الجنس، وضعف النسل وتهديده.
فهذه بعض الأسباب التي أحدثت هذا الاضطراب وهذا الخلل في شباب الأمة، فنسأل الذي بيده مفاتح القلوب، أن يرد شباب المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن ينقذنا من هذه الأزمات، وأن يتوب على شبابنا إنه سميع قريب.(/9)
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين؛ وقدوة الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله:
تكلمنا عن الأضرار وتكلمنا عن الأسباب، وما أنزل الله داء إلا وجعل له دواء، فما العلاج إذن، وما هو الدواء الشافي من هذه الأزمات التي هزت مجتمعاتنا هزّاً عنيفاً؟!
إن علاج ذلك يتلخص في عدة أمور:
أولها: وأعظمها وأشرفها العودة إلى الحي القيوم، ومراقبته - سبحانه وتعالى - وتقواه، فإنها النجاح في الدنيا والآخرة.
قال سعيد بن المسيب وقد ذكر له رجل شرب الخمر، ما سبب ذلك وقد كان معنا؟ فقال: ترك طاعة الله، فسقط من عين الله، فرفع الله ستره عنه، وإذا أراد الله أن يرفع كنفه عن العبد، خلاه ونفسه، ولم يستدركه بطاعة، ولم يلهمه رشده، فتردى على وجهه في النار.
فأعظم العلاج، أن نعود بشبابنا وأمتنا إلى الله - سبحانه وتعالى - وأن نعتبر بالأمم الأخرى التي سقطت على وجهها في الهاوية، وحلت بها الكوارث، وفسد شبابها ومجتمعاتها، ودب الاضطراب في كيانها، وأصبح الانتحار عندهم عادة مألوفة، ثم إنهم يستدركون الآن أخطاءهم، يقول كيرسيي ميريسون: الآن عرفت الله، لما رأيت أوروبا تزحف إلى النار.
والأمر الثاني: تربية شبابنا وأطفالنا على منهج: لا إله إلا الله، وإدخال الإسلام في حياتنا حقيقة لا اسماً، أما أن نزعم بأننا مسلمون فقط لأننا نذهب ونروح إلى المسجد، فهذا ليس بصحيح.(/10)
معنى الإسلام: أن يكون المهيمن على بيتك وعملك وحياتك كلها هو الله - سبحانه وتعالى - وأن لا نتحاكم إلى أحد غير الله - تعالى - في كل شئون الحياة {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].
والأمر الثالث: أن نتعلم النافع: الذي تحتاج له القلوب والأبدان، فنملأ به أذهان الناس، فراغ الناس، حياة الناس، نقود الناس إليه، نعمل على نشره وإيصاله إلى كل فرد من أفراد المجتمع، ونحارب تلك العلوم الخبيثة السخيفة التي لا تنفع ولا تقرب إلى الله - تعالى - فهي ليست علوماً على الحقيقة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: كل علم وفد إلى المسلمين فإن كان خيراً، فإن عندنا من الخير ما يكفينا، وإن كان شراً، فلسنا في حاجة إلى الشر.
فمن العلاج أن نأتي بشباب الأمة، ونجلسهم في ندوات العلم، وندعوهم إلى لقاءات العلماء والدعاة، نحبب إليهم الكتاب والسنة، ونرغبهم في دروس الفقه والتفسير والأصول، لترتفع أصولهم إلى الله الحي القيوم، ويملأها بالنور والإيمان.
والأمر الرابع: محاولة القضاء على الفراغ، فليس في حياة المسلم ما يسمى بوقت الفراغ، والله - عزَّ وجلَّ - يقول: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]. فمن كانت وجهته علمية فيذهب إلى المؤسسات العلمية، من جامعات ومعاهد، ومدارس - وقد انتشرت والحمد لله مما يسهل على طالب العلم الالتحاق بها - فعليه أن يبذل جهده في المذاكرة والتحصيل.
وإن كان له تميز وتخصص في مجال آخر فليذهب به إلى ما يجيده، من تجارة نافعة، أو صناعة، أو عسكرية شريفة، يحمي دينه ووطنه ومقدساته.
فالقضاء على الفراغ في حياة الشباب المسلم ينبغي أن يكون من أول ما يوجه المصلحون عنايتهم إليه.(/11)
خامساً: الحفاظ على أبنائنا من قرناء السو، فإن بعض الآباء من الذين قل تدينهم وفقههم في دين الله، يذهب ابنه الساعات والأيام، ولا يسأله أين ذهب، ومع من كان، وأين نام، ولا يدري هذا الأب أن ابنه كان في جولة مع شياطين الإنس، يسلخونه من دينه وعقله وإسلامه، ليصبح فرداً من أفراد تلك العصابات الضالة ثم لا ينتبه الأب، إلا وابنه خلف الأسوار، أو حين يطبق عليه حكم الله، فيكون عاراً وفضيحة لأسرته وأمته في الدنيا والآخرة.
سادساً: ومن العلاج أيضاً، أن لا نسكت على ترويج هذه السموم، وأن نحارب كل مروج ومهرج ومفسد، فنأخذ على يده، ونخبر عنه، إذا كان مجاهراً، فإن التستر على المجاهر تعاون معه ومساعدة له {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: 110].
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقه من الغد، فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ثم قرأ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78-79].
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كلا والله. لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً[9]، ولتقصرنه على الحق قصراً))[10].(/12)
أيها المسلمون:
إن السعادة ليست في أن نجمع الأموال، ولا أن نبني القصور، ولا أن نتفاخر بالدور، فإن قصور أوروبا وأمريكا أطول من قصورنا، ودورهم أعظم من دورنا، وسياراتهم أفخر من سياراتنا، قال - تعالى -: { وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33-35].
فسعادتنا – أيها المسلمون – في حمل رسالة الله، وسعادتنا في عبوديتنا لله، وسعادتنا في تطبيقنا لشرع الله - عزَّ وجلَّ.
وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفاً وَفَخْراً وَكِدْتُ بِأَخْمصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلَكَ يَا عِبَادِي وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا
فيا شباب الإسلام.
عودة إلى الله، عودة إلى المسجد، عودة إلى المصحف، عودة إلى حلقات العلم، عودة إلى ربكم.
شَبَابَ الدِّينِ للإسْلامِ عُودُوا فَأَنْتُمْ مَجْدهُ وَبِكُمْ يَسُودُ
وَأَنْتُمْ سِرّ نَهْضَتِهِ قَدِيماً وَأَنْتُمْ فَجْرَهُ الْبَاهِي الْجَدِيدُ
أسأل الله لنا ولكم عودة صادقة إليه.
عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
---
[1] أخرجه أبو داود (3/327)، رقم (3681)، والترمذي (4/258) رقم (1865) وقال: حسن غريب. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5530).
[2] أخرجه مسلم (3/1587)، رقم (2002).
[3] أخرجه ابن ماجه (2/1120) رقم (3377). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6313).(/13)
[4] أخرجه الترمذي (5/104، 105) رقم (2801) وقال: حسن غريب، وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6506).
[5] أخرجه أحمد (2/71) قال الهيثمي في المجمع (5/76): رواه أحمد والطبراني، ورجاله ثقات.
[6] قال الهيثمي في المجمع (5/70، 71): رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، خلا صالح بن داود التمار، وهو ثقة.
[7] أخرجه الترمذي (4/576) رقم (2516) وقال: حسن صحيح، وأحمد (1/293)، وصححه الألباني كما في صحيح رقم (7957).
[8] أخرجه مسلم (1/454) رقم (657).
[9] أصل الأطر: العطف والتثني، أي: لتردنه إلى الحق. ولتعطفنه عليه.
[10] أخرجه أبو داود (4/121، 122) رقم (4336) وأخرجه الترمذي (5/235) رقم (3047) وقال: حسن غريب.(/14)
العنوان: خطورة الشرك
رقم المقالة: 1416
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإنَّ أصدق الحديثِ كلامُ الله - تعالى - وخير الهدي هَدْيُ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأُمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون: تمر على العبد المتبصّر لحظات يتفكر فيها في هذا العالم الواسع، بما أودع الله - تعالى - فيه من كائناتٍ ومخلوقاتٍ، لها وظائفُ وأعمال، من إنسان وحيوان ونبات وجماد، من أرض وسماوات وأنجُمٍ وأفلاك، من بحار وأنهار وأحجار وجبال. كلُّها وغيرها خلقها الله - تعالى - لحِكَم بالغة، ومعانٍ عظيمة، يدرك البشر منها بما آتاهم الله من عقول ومبتكرات ما يدركون، ويجهلون كثيرًا من ذلك.(/1)
وحينما يحرك الإنسان ذاكرته، ويعود بها إلى الوراء يتذكَّر الأطوار التي مرّ ويمر بها من طفولة وصبا، وشباب وكهولة، وهَرَم وشيخوخة، وقبلَ تلك الأطوار كلِّها كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينًا ينتظر الخروج إلى الدنيا. وقبل ذلك لم يكن له وجود ولا أثر، ولا ذكر ولا خبر {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. [الإنسان: 1-3].
إذن فالغايةُ التي خُلق من أجلها هذا المخلوق الضعيف أن يكون شكورًا، يفرد الله - تعالى - بالعبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ومن أظلم الظلم، وأقبح القبائح أن يشرك العبد مع الله غيره بعد أن خلقه الله واصطفاه، وسخر له المخلوقات، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، فكان أعظم الذنوب الشرك بالله - تعالى - بأن يساوى غير الله بالله فيما هو من خصائص الله - تعالى - فكيف يُساوَى الخالق الرازق الملك المدبر بالمخلوق الذي لا يملك ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملك موتًا ولا حياة ولا نشورًا؟!(/2)
وهذه الحقيقة تظهر للمشركين يوم القيامة فيقولون لمعبوداتهم من دون الله - تعالى - {تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98]. وجاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكأنه أبطأ بهن، فأوحى الله إلى عيسى: إما أن يبلغهن أو تبلغهن، فأتاه عيسى فقال له: إنك أُمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال له: يا روح الله، أخشى إنْ سبقتني أن أعذب أو يخسف بي؛ فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأَ المسجد، فقعد على الشرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن: وأولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، فإن مثل من أشرك بالله كَمَثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو ورق ثم أسكنه دارًا فقال: اعمل وارفع إليّ - أي ائتني بما تكسبه - فجعل العبد يعمل ويرفع إلى غير سيده، فأيكم يرضَى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولاتشركوا به شيئًا)) ثم ذكر الصلاة والصيام والصدقة والذكر··· الحديث··· أخرجه أحمد والترمذي بإسناد صحيح[1].
فالشرك من الكبائر بل هو أكبر الكبائر؛ لذا حرمت على صاحبه المغفرة والجنة {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].(/3)
وكثيرًا ما يحذِّر الله من الشرك عقب الأمر بالتوحيد؛ لئلا يشوب التوحيد شرك {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] هذا أمر بالتوحيد، وسبب هذا التوحيد: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 21-22] ثم عقِب ذكر التوحيد وسببه حذّر من الشرك {فَلَا تَجْعَلُوا لله أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].
ويروي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله - تعالى - أنه قال: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))؛ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه[2]، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقال: ((لا تشرك بالله شيئًا وإن قُطّعت وحُرِّقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا. فمن تركها متعمدًا فقد برئت منه الذمة، ولاتشربِ الخمر فإنها مفتاح كل شر))؛ أخرجه ابن ماجه[3].
أيها الإخوة: يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أنَّ التحذير من الشرك والحديث عنه لا يناسب عند قومٍ الظاهر من أحوالهم أنهم موحّدون، وهذا ظنٌّ خاطِئٌ؛ لأن القرآن كله والشريعة كلَّها إنما جاءت لتُقَرِّرَ لُزومَ إفراد الله - تعالى - بما يستحقّ، وتحذر من سلوك سبيل المشركين وتبين مآلهم. فلو كان نصف حديث الناس أو أكثره عن التحذير من هذا الذنب العظيم - الذي هو أعظم الذنوب - لما كان ذلك مستكثرًا عند مَن يَفْهَمُ شريعةَ الله - تعالى - فهمًا صحيحًا.
فالقرآن العظيم جاء يحذر المشركين من شركهم؛ ليأخذ بأيديهم إلى التوحيد والهداية والنجاة {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50-51].(/4)
وكل رسول كان يقول لقومه {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] كما قال - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
ولم يقتصر التحذير من الشرك على الكفار فقط؛ بل حذر الله المؤمنين منه، وأمرهم بالإيمان مع إيمانهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ} [الحديد: 28] والعبد المؤمن قد هداه الله - تعالى - ودله طريقه المستقيم ومع ذلك يقرأ في كل ركعة من كل صلاة يصليها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
ولعظيم أمر الشرك لا يكتفي القرآن بتحذير المشركين والمؤمنين منه؛ بل يحذر الله الأنبياء والمرسلين من الوقوع في الشرك - وهم معصومون منه - {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج: 26] وبعد أن ذكر الله - تعالى - جملة من الأنبياء في كتابه قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] قال العلماء: "فإذا كان ينهى عن الشرك من لا يمكن أن يباشره فكيف بمن عداه"؟!(/5)
هذا الخليل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - يخبر الله - تعالى - عنه فيقول {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] إبراهيم الذي كسر الأصنام بيده، وتبرأ من قومه، فجعله الله - تعالى - أسوة للموحدين {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] وقد أخبر الله - تعالى - أنه أمة وحده، ونفى عنه الشرك {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل: 120]، إبراهيم الذي ألقاه قومه في النار من أجْلِ إزالة الشرك يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35-36] قال إبراهيم التيمي - رحمه الله تعالى -: "ومَنْ يأمن البلاء بعد إبراهيم"؟![4] وقال الشيخ سليمان بن عبدالله أحد أئمة الدعوة: "وهذا يوجِبُ للعبد شدَّة الخوفِ من هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله، وإنما كان كذلك لأنه أقبح القبح وأظلم الظلم؛ إذ مضمونه تنقيصُ رب العالمين، وصرفُ خالصِ حقه لغيره، وعدلُ غيره به كما قال - تعالى - {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] ولأنه مناقضٌ للمقصودِ بالخلقِ والأمر، منافٍ له من كل وجه، وذلك غايةُ المعاندة لرب العالمين والاستكبار عن طاعته والذل له". اهـ [5](/6)
ويقول أيضًا: "{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ} أي: اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيني وبينها. وإنما دعا إبراهيم بذلك؛ لأن كثيرًا من الناس افتتنوا بها كما قال {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} فخاف من ذلك، ودعا الله أن يعافيه وبنيه من عبادتها، فإذا كان إبراهيم - عليه السلام - يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام فما ظنك بغيره؟! وهذا يوجبُ للقلب الحيِّ أن يخاف من الشرك لا كما يقول الجهال: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة فأمِنُوا الشرك فوقعوا فيه". انتهى كلامه رحمه الله تعالى[6].
إذن ـ أيها الإخوة ـ يجب أن لا نأمن من الشرك، ولا نأمن النفاق؛ إذ لا يأمن النفاق إلا منافق، ولا يخاف النفاق إلا مؤمن، قال ابنُ أبي مليكة - رحمه الله تعالى -: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلُّهم يخاف النفاق على نفسه"؛ أخرجه البخاري[7]. وعمر - رضي الله عنه - يمسك حذيفة ويقول: "أنشدك الله، هل سمّاني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع من سمّى من المنافقين"[8].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الرُّوم: 30-32]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية(/7)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده وأشكُره وأتوبُ إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].
أيها الإخوة المؤمنون: كما حذّر الله الكافرين من الشرك، وحذّر المؤمنين والمرسلين منه؛ فإنه - تعالى - خاطب إمام الموحّدين وسيدَ المرسلين محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - يحذره من الشرك - وقد عصمه منه - وتحذيره - عليه الصلاة والسلام - تحذير لأمته {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ} [القصص: 87] وقال - تعالى - له {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] وفي آية آخرى {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39].
وأُمر - عليه الصلاة والسلام - أن يقول: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ} [الرعد: 36].
ويخبره - تعالى - بأنه أوحى إليه وإلى النبيين من قبله أن الشرك محبط للعمل {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزُّمر: 65-66].(/8)
وإذا كان الشرك بهذه الخطورة المتناهية فإنه يجب على العبد أن لا يأمنه على نفسه ولا سيما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاف على صحابته الوقوع في الشرك الأصغر، روى أبو سعيد مرفوعًا: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: "بلى يارسول الله"! قال: ((الشرك الخفي؛ يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل"[9].
قال العلماء: "فلذلك صار خوفُه - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه من الرياء أشدَّ لقوةِ الداعي وكثرته دون الشرك الأكبر، مع أنه أخبر أنه لا بد من وقوع عبادة الأوثان في أمته؛ فدلَّ على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر إذا كان الأصغر مخوفًا على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم، فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر؛ لنقصان إيمانه ومعرفته بالله - تعالى -..."[10].
أيها الإخوة: من صور الشرك القبيحة: الطواف بالقبور والأضرحة، والذبحُ عندها، والصلاةُ لها أو إليها، ودعاءُ الأموات مما هو منتشر في كثير من البلاد الإسلامية بسبب الجهل وتمكن البدعة.
كذلك من مظاهر الشرك: الحكمُ بغير ما أنزل الله - تعالى - وفصلُ الدين عن الدولة، ورفضُ بعضِ أحكام الشرع، والمناداةُ بالتحرير من تعاليم الإسلام بحجة أنه لا يواكب العصر مما يصيح به الأفاكون والمنافقون. وكل ذلك انتقاص لرب العالمين الذي شرع الدين وأوجبه.
كذلك من مظاهر الشرك: الهزل بشيء من تعاليم الشريعة مهما دق، والاعتراضُ على ما قدّر الله - تعالى - وسبُّ الدهر والريح، والحلفُ بغير الله - تعالى - والرياءُ، وإرادةُ الإنسان بعمله الدنيا، وغيرُ ذلك كثير مما يجب الحذرُ والتحذير منه.(/9)
ولا يكون العبد حذِرًا منه إلا إذا تعلَّمه وفهمه؛ حتى لا يقع في شيء يخل بإيمانه وهو لا يعلم، يقول حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما -: "كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكُنْتُ أسأله عن الشر مخافة أن يُدْرِكني"؛ أخرجه البخاري[11].
أسأل الله - تعالى - أن يُمِيتَنا على توحيده، وأن يتولانا برحمته، إنه سميع مجيب، وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه أحمد (4/130) والترمذي في الأمثال باب ماجاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة (2867) وأبو يعلى (1571) والطيالسي (1161) والطبراني في الكبير (3927) وصححه ابن خزيمة (930) وابن حبان (6233) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
[2] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله غير الله (2985) وابن ماجه في الزهد باب الرياء والسمعة (4202).
[3] أخرجه ابن ماجه في الفتن باب الصبر على البلاء (4034) وحسنه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/250).
[4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (13/228) وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" (4/160).
[5] "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" (117).
[6] "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" (118).
[7] أخرجه البخاري في الإيمان باب خوف المؤمن أن يحبط عمله هو لا يشعر معلقًا مجزومًا به (1/32).
[8] "كنز العمال" (13/344) و"سير أعلام النبلاء" (2/364).
[9] أخرجه أحمد (3/30) وابن ماجه في الزهد باب الرياء والسمعة (4/42) وحسنه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/296).
[10] "تيسير العزيز الحميد" (119).
[11] أخرجه البخاري في المناقب باب علامات النبوة في الإسلام (3606).(/10)
العنوان: خلافُ العلماء في حكم صيام يوم السبت
رقم المقالة: 1964
صاحب المقالة: صالح بن صبحي القيم
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
لقد جاء في السنة المطهرة عنه عليه الصلاة والسلام النهيُ عن تخصيص أيام بصوم النفل دون الفرض، ومن هذه الأيام يومُ السبت؛ ففي الحديث الذي يرويه ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر السلمي، عن أخته الصماء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرِض عليكم، وإن لم يجد أحدُكم إلا لحاءَ عنب أو عودَ شجرة -وفي لفظ: إلا عود عنب أو لحاء شجرة- فليمضغه))[1].
وقد اختلف العلماء قديماً وحديثًا في الحكم على هذا الحديث وحكم العمل به، فانقسموا بذلك إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:(/1)
هم القائلون بجواز صوم يوم السبت مطلقاً ومنهم الإمام مالك وأكثر أهل العلم، وحجتهم في ذلك ضعف هذا الحديث أو نسخه؛ فقد قال أبو داود: "هذا حديث منسوخ"[2]. وذكر أبو داود بإسناده عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام السبت، يقول ابن شهاب: "هذا حديث حِمصي"[3]، وعن الأوزاعي قال: "ما زلتُ له كاتمًا حتى رأيته انتشر بعد"[4] يعني حديث ابن بسر في صوم يوم السبت. قال أبو داود: قال مالك: "هذا كذب"[5] وقد بين الاضطرابَ فيه الحافظُ ابن حجر في "التلخيص"[6] وأكثرُ أهل العلم على عدم الكراهة، مستدلين بالنصوص الكثيرة التي تُحمل على جواز صيام يوم السبت؛ ومنها حديث جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهْىَ صَائِمَةٌ فَقَالَ: ((أَصُمْتِ أَمْسِ)). قَالَتْ لاَ. قَالَ: ((تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِى غَدًا)). قَالَتْ لاَ. قَالَ ((فَأَفْطِرِى))[7] قوله: ((تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِى غَدًا)) يعني يوم السبت.
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- قال:(/2)
((أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- أَنِّي أَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ فَقُلْتُ لَهُ قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَالَ فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ فَقُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ))[8].
ومن ذلك أيضاً حديث أنس بن مالك أنه سئل عن صوم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((كَانَ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَرَى أَنَّهُ لاَ يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَرَى أَنَّهُ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ مِنْهُ شَيْئًا وَكُنْتَ لاَ تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا وَلاَ نَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ نَائِمًا)). قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ[9].
وحديث أبي هريرة قال: ((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلاَّ بِيَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ يَوْمٍ بَعْدَهُ))[10].(/3)
وما رواه كُرَيب مولى ابن عباس قال: ((أرسلني ابن عباس، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثرها صيامًا؟ قالت: كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم"[11].
وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ))[12].
فمن المؤكد دخول يوم السبت في تلك الأيام التي يواصلها عليه السلام في شعبان وغيره. إلى غير ذلك من النصوص التي تحمل على جواز صيام يوم السبت مطلقاً في الفرض والنفل.
القسم الثاني:
وهم القائلون بتحريم صيام يوم السبت لغير الفرض، وحجتهم في ذلك الحديث الذي سبق عن الصمّاء -رضي الله تعالى عنها-، وقد قال به بعض العلماء، قاله الطحاوي في "معاني الآثار" بعد أن روى حديث عبد الله بن بسر السابق: (فذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا صوم يوم السبت تطوعاً. وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بصومه بأساً)[13].
فقالوا إن هذا الحديث صحيح فقد قال الحاكم: (صحيح على شرط البخاري)[14]. وأقره الذهبي على ذلك، وصححه ابن خزيمة[15]، وابن حبان[16]، وحسنه الترمذي، كما أنه صريح الدلالة؛ إذ تضمن التغليظ الشديد والزجر عن صيام يوم السبت لغير الفريضة، وأن النهي يقتضي عموم النفل سواء كان من الأيام التي ندب الشارع إلى صيامها مثل يوم عاشوراء ويوم عرفة وغيرها من الأيام التي شرع صيامها إذا وافقت يوم السبت، أخذاً بهذا الحديث.(/4)
وقد تكلم العلامة الألباني -رحمه الله تعالى- في كيفية الجمع بين حديث النهي والأحاديث المبيحة في كتابه "تمام المنة": (والذي أراه -والله أعلم- أن هذا الجمع جيد لولا أمران اثنان: الأول: مخالفته الصريحة للحديث على ما سبق نقله عن ابن القيم[17].
والآخر: أن هناك مجالاً آخر للتوفيق والجمع بينه وبين تلك الأحاديث إذا ما أردنا أن نلتزم القواعد العلمية المنصوص عليها في كتب الأصول ومنها: أولاً: قولهم: إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر على المبيح.
ثانياً: إذا تعارض القول مع الفعل قدم القول على الفعل.
ومن تأمل في تلك الأحاديث المخالفة لهذا وجدها على نوعين: الأول: من فعله -صلى الله عليه وسلم- وصيامه.
الآخر: من قوله -صلى الله عليه وسلم- كحديث ابن عمرو المتقدم.
ومن الظاهر البين أن كلاً منهما مبيح، وحينئذ فالجمع بينها وبين الحديث يقتضي تقديم الحديث على هذا النوع؛ لأنه حاظر وهي مبيحة، وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لجويرية: ((أتريدين أن تصومي غدا)) وما في معناه مبيح أيضا فيقدم الحديث عليه))[18].
القسم الثالث:
وهم الذين قالوا بالجمع بين أحاديث النهي والجواز، واستخلصوا منها أن المنع يكون بإفراد يوم السبت بالصيام، ويزول هذا المنع بضم غيره من الأيام إليه. ومنهم الإمام أحمد، وحجتهم كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه "اقتضاء الصراط": ((أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها حديث أم سلمة حين سئلت: ((أي الأيام كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثرصيامًا لها؟ فقالت: ((السبت والأحد)). ومنها: حديث جويرية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها يوم الجمعة: ((أصمت أمس؟)) قالت: لا، قال: ((أتريدين أن تصومي غدًا؟)) فالغد هو يوم السبت.(/5)
وحديث أبي هريرة: ((نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم الجمعة إلا بيوم قبله أو يوم بعده)). فاليوم الذي بعده هو يوم السبت. ومنها: أنه كان يصوم شعبان كله، وفيه يوم السبت. ومنها: أنه أمر بصوم المحرم وفيه يوم السبت، وقال: ((من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال))... وقد يكون فيها السبت. وأمر بصيام أيام البيض، وقد يكون فيها السبت. ومثل هذا كثير.
فهذا الأثرم، فهم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة، وذكر أن الإمامَ في علل الحديث (يحيى بن سعيد) كان يتقيه، وأبى أن يحدث به، فهذا تضعيف للحديث.
واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، ولا يقال: يحمل النهي على إفراده؛ لأن لفظه: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) والاستثناء دليل التناول، وهذا يقتضي أن الحديث عم صومه على كل وجه، وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فإنه لا إفراد فيه، فاستثناؤه دليل على دخول غيره، بخلاف يوم الجمعة، فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده.
وعلى هذا؛ فيكون الحديث: إما شاذاً غير محفوظ، وإما منسوخاً، وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه كالأثرم، وأبي داود))[19].
وقال رحمه الله:
((وأما أكثر أصحابنا ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث، وحمله على الإفراد، فإنه سئل عن عين الحكم، فأجاب بالحديث، وجوابه بالحديث يقتضي اتباعه. وما ذكره عن يحيى إنما هو بيان ما وقع فيه من الشبهة، وهؤلاء يكرهون إفراده بالصوم، عملا بهذا الحديث، لجودة إسناده، وذلك موجب للعمل به، وحملوه على الإفراد كصوم يوم الجمعة، وشهر رجب[20].(/6)
وقال ابن القيم في حاشيته على السنن: ((ونظير هذا الحكم أيضا كراهية إفراد رجب بالصوم وعدم كراهيته موصولا بما قبله أو بعده، ونظيره أيضًا ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبى هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه، وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول فلا يكره.
وقال أيضاً بعد ذكر حديث دخول الصماء على النبي عليه السلام، وعلى هذا فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم ((لا تصوموا يوم السبت)) أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض، فإن الرجل يقصد صومه بعينه بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده، وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يكره، ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضًا لا المقارنة بينه وبين غيره، وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك قالوا وأما قولكم إن الاستثناء دليل التناول إلى آخره فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أخرجت بالدليل الذي تقدم، فكلا الصورتين مخرج أما الفرض فبالمخرج المتصل وأما صومه مضافًا فبالمخرج المنفصل، فبقيت صورة الإفراد واللفظ متناول لها ولا مخرج لها من عمومه فيتعين حمله عليها))[21]. انتهى.
وهذا سرد لأقوال العلماء -رحمهم الله تعالى- في حديث صيام يوم السبت. ومع أن القلب يميل إلى القسم الثالث لقوة أدلته، فإنه من الضروري تأكيد أمر مهم، وهو احترام أقوالهم -رحمهم الله تعالى- وتقديرها وعدم التنازع والشحناء مع من يتبنون الأقوال الأخرى؛ لأن كلاً يؤخذ منه ويرد إلا النبي -عليه الصلاة والسلام-.(/7)
واعلم أن هذا الاختلاف كان من عصر الصحابة كما مر معنا في حديث كريب المتقدم عندما أرسله ابن عباس وناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إلى أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- ليسألها عن الأيام التي كان يصومُها النبي -عليه الصلاة والسلام-. فيجب علينا الاقتداء بهم -رضي الله تعالى عنهم-، إذا اختلفوا في أمر ردوه إلى الله ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
هذا ما تم تحريره، فإن أصبت فمن الله، وله الحمد على فضله وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي، وأستغفره من ذنبي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،،
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: سنن الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم السبت، حديث رقم (744)، (3 / 120)، وسنن أبي داود كتاب الصوم، باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم، حديث رقم (2421)، (2 / 805)، وصحيح ابن خزيمة (3 / 317)، حديث رقم (2164)، وابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في صيام يوم السبت، حديث رقم (1726)، (1 / 550)، وأخرجه أحمد في المسند من طريقين (6 / 368، 369). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، وقال: حديث صحيح (رقم : 7358)، والحاكم في المستدرك (1 / 435)، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه)).
[2] سنن أبي داود (2 / 806).
[3] ذكر ذلك الحاكم في المستدرك (1 / 436)، وأبو داود (2 / 807)، وقال في عون المعبود: (( (هذا حديث حمصي) يريد تضعيفه؛ لأن في حديث عبد الله بن بسر راويان حمصيان..)) إلخ. راجع: عون المعبود وشرح سنن أبي داود (7 / 74).
[4] سنن أبي داود (2 / 807).
[5] المرجع السابق.
[6] تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير (6 / 472).
[7] أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب صوم يوم الجمعة، الحديث رقم (1986) من فتح الباري (4 / 232)، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه.(/8)
(3 / 316)، الحديث رقم (2164)، وقال الألباني في تعليقه على الحديث: إسناده صحيح لكن أعله الحافظ (يعني ابن حجر) بالمخالفة.
[8] صحيح البخاري - (ج 7 / ص 89) رقم (1976) ومسلم (1159).
[9] سنن الترمذي (769).
[10] أخرجاه في الصحيحين. انظر: صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب صوم الجمعة، الحديث رقم (1985) من فتح الباري (4 / 232)، ولفظه: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يومًا قبله أو بعده)، وصحيح مسلم، كتاب الصيام، باب كراهية صيام يوم الجمعة منفردًا، الحديث رقم (1144)، ولفظه: (لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده) (2 / 801).
[11] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4 / 303)، وابن خزيمة في صحيحه (3 / 318)، حديث رقم (2167)، وقال الألباني في هامش الكتاب: (إسناده حسن وصححه ابن حبان)، وأحمد في المسند (6 / 324)، والحاكم في المستدرك (1 / 436)، وذكر أن إسناده صحيح، وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4 / 235).
[12] صحيح البخاري - (ج 7 / ص 78) 1969.
[13] شرح معاني الآثار - (ج 3 / ص 35).
[14] سبق تخريجه.
[15] سبق تخريجه.
[16] سبق تخريجه.
[17] يشير إلى كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في حاشيته على السنن (ج 2 / ص 117): ((قوله في الحديث لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم دليل على المنع من صومه في غير الفرض مفردًا أو مضافًا؛ لأن الاستثناء دليل التناول وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد لقال لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده كما قال في الجمعة، فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها)).
[18] تمام المنة - (ج 1 / ص 407).
[19] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - (ج 2 / ص 29).
[20] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - (ج 2 / ص 29).
[21] حاشية ابن القيم - (ج 2 / ص 118).(/9)
العنوان: خناق غزّة
رقم المقالة: 2044
صاحب المقالة: د. عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
"ابتُلِينا بزمان ليس فيه آدابُ الإسلام، ولا أخلاقُ الجاهلية، ولا أخلاقُ ذوي المروءة".
صدق -والله- أبو بكر الواسطي (ت321هـ) في عبارته السالفة، فها هي ذي غزة يُحكم خناقُها، ويعظم بلاؤها، ويُطفأ نورُها، وتخبو حركاتها، ويتعالى في أرجائها أنينُ المكلومين، وتوجعات المرضى والمصابين.
فأما آداب الإسلام وحقوق الأخوة الإيمانية تجاه أهل غزة، من إغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وفك العاني، ونصرة المظلوم؛ فقد أضحت عند الكثيرين نسياً منسياً، فلا تعدو دائرة البيانات والتوصيات.
رحم الله سيد التابعين في زمانه أويسًا القرني؛ كان إذا أمسى تصدّق بما في بيته من الطعام والثياب ثم قال:- "اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به، ومن مات عرياً فلا تؤاخذني به". (الحلية 2/87).
وها هو ذا الإمام محمد بن عبدوس (ت 260هـ) يطرق باب صاحبه في ليلة شاتية، ثم يقول: ما نمت الليلة غماً لفقراء أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وهذه مائة دينار غلة ضيعتي هذا العام، احذر أن يمسي الليل وعندك منها شيء. (ترتيب المدارك 1/435).
فرحم الله تلك الأرواح، لم يبق منها إلا الأشباح.
لا تعرضنّ لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيحُ إذا مشى كالمُقْعَدِ
وأما أخلاق الجاهلية ومروآتها فقد اندرست عند الأكثرين، فلا تكاد تُعرف إلا في التاريخ والأشعار.
ذهب التكرّمُ والوفاء من الورى وتَصَرَّما إلا من الأشعار
فلقد كان للعرب في الجاهلية من محاسن الأخلاق ومكارم الشيم ما لهم، وقد ورد الأثر بذلك -في حديث طويل- وفيه "أخلاق للعرب كانت في الجاهلية ما أشرفها بها يتحاجزون في الحياة الدنيا"، قال الحافظ ابن كثير (في البداية 3/145): "هذا حديث غريب جداً..".(/1)
ومن ذلك أن مشركي العرب بمكة قد رفضوا حصارَ الشِّعْب ونقضوا الصحيفة، وأما عربُ اليوم –إلا ما شاء الله وقليل ما هم– فلا تسل عن رذائل الأخلاق، ودناءة النفوس تجاه أهل غزة المظلومين.
لقد حوصر المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- وانحاز معه بنو هاشم، وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم، "فالمؤمن ديناً والكافر حميّة"، "فلما عرَفت قريش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد منعه قومُه، أجمع المشركون من قريش على مُنابذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشعب، وقطعوا عنهم الميرة، واستمر الحصار ثلاث سنين، حتى هلك من هلك".
ومع هذا الحصار الخانق، إلا أن مروآت العرب أسقطت هذا الحصار، ونقضت تلك الصحيفة الظالمة، بل إن هذه المروآت تبدو ظاهرة جلية في انحياز كفرة بني هاشم وبني المطلب حميّةً لقومهم، كما أن هذه المروآت استمرت في أثناء الحصار، فهشام بن عمرو يأتي ليلاً بالبعير قد أوقره طعاماً بالليل حتى يدفعه إلى المحاصرين في الشعب، ويأتي بالبعير قد أوقره بُرّاً فيفعل مثل ذلك، ولما عوتب في ذلك من قبل مشركي قريش، وبلغ ذلك أبا سفيان بن حرب -وكان مشركاً آنذاك-، قال: دعوه، رجل وصل أهل رَحمِه، أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا.
ثم اجتمع بعضهم ليلاً في الحجون بأعلى مكة، وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة، وتحقق ذلك وأنشد أبو طالب –عم رسول الله صلى الله عليه وسلم- في مدح هؤلاء النفر الذين نقضوا الصحيفة، فمما قاله:
جزى الله رهطاً بالحجون تتابعوا على ملأ يهدي لحزْم ويُرْشِدُ
قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا على مهل وسائر الناس رُقّدُ
(انظر سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد الصالحي 2/502، 503، 543، 545).
أرأيتَ إلى أخلاق العرب ومروآتهم حيال هذه النازلة، إذ لا تفارقك تلك المروآت سواء قبل الحصار أو في أثنائه أو بعده.(/2)
وأما عرب اليوم.. فكوارث ونكبات غزة ملء السمع والبصر، ومع ذلك فلا تسمع إلا جعجعة ولا ترى طحناً، فطموحهم لا يتجاوز "الإدانة"، وغاية سعيهم الشجب والثرثرة، وطلب الغوث من مجلس الأمن، الذي لم ينالوا منه حتى مجرد الإدانة!.
لا يزال موقف العرب وأهل الإسلام تجاه هذا الحصار بين الأثرة والأنانية. وبين الخور والجبن، فماذا قدمنا لأهل غزة؟ لا يتجاوز سعي الأكثرين في ذلك الدعاء، وقنوت النوازل في الصلوات، ولا نزاع في أهمية وعظم الفزع إلى الله عز وجل في مثل هذه الوقائع، لكن بمقدورنا أن نكون أكثر شجاعة، وأن نقدِّم بذل المال وإنفاق الصدقات وتعجيل الزكوات في حق هؤلاء الإخوة من أهل الإسلام والسنة، فهم فقراء مساكين غارمون، وقبل ذلك هم من أهل الثغور والجهاد في سبيل الله تعالى؛ أفليسوا أحق وأولى بالمواساة والانفاق؟!(/3)
وإذا كنا نتأسى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء وقنوت النوازل لأهل غزة، فعلينا أن نتأسى به -صلى الله عليه وسلم- في الصدقة وبذل المعروف وإغاثة الملهوف؛ كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر النهار، فجاء قوم حفاة عراة، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعّر (أي تغيّر) وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذّن، وأقام فصلى، ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم...} [النساء: 1]، والآية في الحشر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [لحشر: 18] تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برّه، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيتُ كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل (أي يستنير) كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء"، أخرجه مسلم .
وقد احتسب العلماء قديماً وحديثاً في جمع التبرعات لأهل الحاجات، ومن ذلك ما فعله علماء الأندلس من حثّ أهل الإسلام على بذل المال لأجل فَكاك الأسرى من النصارى، فهذا أبو عبد الله ابن الحجام (ت 614هـ) يقوم في جامع إشبيلية، ويحث المصلين على الإنفاق في فكاك الأسرى، فتسارع الناس إلى بذل ما عندهم، وخلع كثير منهم بعض ما كان عليه من الثياب..
وإذا كان الغرب قد نعق بـ "الفوضى الخلاّقة"، فنحن ندعو إلى القوة المُحكمة والمنضبطة.(/4)
وهذا الهوان الجاثم على العرب، وذاك الذل والصغار المتلاحق على أمة الإسلام لا يُرفع إلا بخلق الشجاعة، فهي خصلة الأنبياء -عليهم السلام- والصحابة الكرام -رضي الله عنهم- ومن سار على سبلهم من الأئمة الأعلام.
وأما إذا أهمل داء الهوان من ركون إلى الدنيا وكراهية للموت، فلن نجني إلا مزيداً من النكبات والمثلات، ويدوم مسلسل الإهانات واللطمات.
ولا يقيمُ على خَسْف يُراد به إلا الأذلاّنِ عيرُ الحي والوتدُ
هذا على الخسف معقول برُمّته وذا يُشج فلا يبكي له أحدُ(/5)
العنوان: خواطر حول عبارة (لا يعرف الحق بالرجال)
رقم المقالة: 1019
صاحب المقالة: أبو مالك وائل العوضي
-----------------------------------------
قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي في آخر (الاعتصام):
((إذا كان الحق هو المعتبر دون الرجال فهو أيضا لا يعرف دون وسائطهم فهم الأدلاء عليه)).
قرأت هذه العبارة في آخر كتاب الاعتصام للشاطبي منذ خمس عشرة سنة، وساءني أنه قد مات دون أن يتم هذا الكتاب الفذ الذي لم ينسج على منواله، فلم يذكر بعد هذه العبارة شيئا!!
ثم خطر لي أن أعلق على هذه العبارة بما يعِنُّ لي:
فإن كثيرا من الناس يقول هذه العبارة ولا يفهم مقتضاها ولا ما ينبغي أن تحمل عليه (الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق)!!.
نقول: إنما عُرف الحق عن طريق نقل الرجال، ولولا أن أحدنا وَقَفَ على ما نقله له العلماء والحكماء والفقهاء والثقات من الرواة لما أمكنه بحال من الأحوال أن يعرف الحق الذي يظن أنه هو الحق.
ثم إن هذا الحق إما أن تكون وقفتَ عليه لغيرك فعرفتَ أنه الحق، أو تكون عرفته من قبل نفسك، فإن كنت وقفت عليه لغيرك فقد جاءك الحق من الرجال، وإن كنتَ عرفته من قبل نفسك فلا يخلو إما أن تكون استنبطته من العقل أو من النقل، فإن كان من النقل فقد جاءك هذا النقل عن طريق الرجال، وإن كان من العقل فلا يخلو إما أن يوافقك عليه بعضُ العقلاء أو لا يوافقك عليه أحدٌ، فإن وافقك عليه بعضُ العقلاء فقد صار لقولك قوة بانضمام قول الرجال إلى قولك، فهذا اعتبار لقدر قول الرجال، وإن لم يوافقك عليه أحدٌ من العقلاء فقبيح بك أن تقول قولا لم تسبق إليه ولا يوافقك عليه أحد من عقلاء العالم.(/1)
والناس قسمان: عامة مقلدون و مجتهدون مستنبطون، ولا نزاع في أن القسم الأول أكثر من القسم الثاني، بل هو الكثرة الكاثرة والغالبية العظمى، وهؤلاء يكتفون بالتقليد في غالب أحوالهم، وأحسن أحوالهم الاتباع مع فهم الدليل، وفي الحالين إنما عرفوا الحق بالرجال.
والناس في اتباع الرجال أقسام: منهم من يأخذ بالمشهور من الأقوال، وإنما صار المشهور من الأقوال مشهورا بقول الرجال.
ومنهم من يأخذ بمذهب من المذاهب الأربعة، وإنما اشتهرت هذه المذاهب بشهرة رجالها، وبكثرة الرجال المتبعين لها، وبكثرة المصنفات فيها وفي أصولها وفروعها، وبكثرة من يتبعها ويلتزمها ويدافع عنها وينافح عنها.
ولهذا ذكر كثيرون أنه لا يصح اتباع غير هذه المذاهب الأربعة، وهذا القول إنما قاله من قاله لأنه يرى أن الحق إنما يعرف بالرجال.
بل ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الراجح في المسائل الفقهية لا يخرج عن المذاهب الأربعة إلا قليلا جدا.
بل صنف بعضهم المصنفات في وجوب اتباع المذاهب الأربعة وعدم الخروج عنها، وذكروا من الأدلة على ذلك ما لا يحصى، منهم ابن رجب الحنبلي.
وذهب بعضهم أبعد من ذلك، فصنفوا في وجوب اتباع أبي حنيفة فقط، أو مالك فقط، أو الشافعي فقط، أو أحمد فقط.
ففي أبي حنيفة قالوا: قد ثبتت الخيرية في الحديث للصحابة والتابعين وفي غيرهم خلاف، وأبو حنيفة هو الوحيد في الأربعة الذي يندرج في سلك التابعين.
وفي مالك قالوا: إمام أهل المدينة ولا يفتى ومالك في المدينة، وقد أخذ العلم عن أبناء الصحابة عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو أوثق وأقعد وأضبط، ولذا كان يحتج بعمل أهل المدينة كثيرا.
وفي الشافعي قالوا: أول من جمع بين علوم العقل والنقل ولغة العرب وأصول الفقه حتى كان الإمام أحمد رحمه الله يؤثر الحديث النازل على العالي لكي لا يفوت مجلس الشافعي.(/2)
وفي أحمد ذكر ابن رجب الحنبلي وغيره أنه لا يعرف غيره قد أحاط بالمنقول من أحوال الرسول وأصحابه، مع سعة علم بالأصول.
ولولا أن الحق يعرف بالرجال ما ذهب هؤلاء هذه المذاهب ولا قالوا هذه الأقوال.
والمصنفات في ترجيح مذهب على مذهب أو قول على قول لا تحصى.
ولهذا قال إسحاق بن راهويه: إذا اجتمع الثوري والأوزاعي ومالك على أمر فهو سنة.
فهذا معرفة للحق بالرجال، ولولا أن فلانا وفلانا من هؤلاء قد اشتهر علمه وذاع صيته وعرف قدره ما قال هذا القائل مثل هذا القول.
ولننظر في تفصيل العلوم الأساسية المتعلقة بالشرع كالفقه والحديث واللغة:
فعلم الحديث مبني على الأسانيد، وعلم الأسانيد نقل محض، ومعرفة ثقات الرواة من ضعفائهم إنما هو أيضا نقل عن اجتهاد هؤلاء الرجال، وليس لنا الآن أن نعرف القرائن والأحوال التي بنى عليها هؤلاء الرجال أحكامهم بأن فلانا ثقة أو فلانا ضعيف، وهذا في الأعم الأغلب، وإلا فقد نعلم بعض ذلك، ولكن كلامنا على أنه لا يشترط معرفة ذلك، وأكثر المتأخرين يكتفون بقولهم: وثقه أحمد وضعفه ابن معين، وهذا هو قول الرجال المحضُ، وإنما صار هذا هكذا لما عُرف عن هؤلاء من سعة العلم والحفظ والرواية والفهم والذكاء وسيلان الذهن، ولولا أن ذلك قد اشتهر وذاع لما كان لنا أن نقف عند التقليد المحض لمن هو غيرُ معروف.
وعلم اللغة مبني على نقل النقلة الثقات عن الأعراب والفصحاء، وهذا الأصمعي أو ابن الأعرابي أو الكسائي أو غيرهم ينقل لنا كلام العرب أو يذكر قاعدة أو استنباطا له فلا نعترض عليه ولا نقول له: سمِّ لنا من سمعتَ من العرب لنعرف أفصيحٌ هو أو لا، بل غالب اللغة إنما نقل هكذا عن هؤلاء الأعلام العلماء وأحيانا يذكرون: سمعتُ أعرابيا أو فلانا، ولا نعرف أن أحدا اشترط عليهم أن يبينوا مستندهم فيما يقولون، هذا فيما اتفقوا عليه أو انفردوا به، أما إذا اختلفوا فالأمر يختلف، إذ ليس قول أحدهم بأولى أن يقدم على قول الآخر.(/3)
والمقصود أن المسألة انصرفت إلى أن نوازن بين قول رجال ورجال، وليس أن يقال: اعرف الحق تعرف الرجال.
وإذا أتيت إلى النحو تجد الرجال لهم التأثير الكبير فيه في جميع الاتجاهات، وما أمر سيبويه منكم ببعيد، فكم منتصر له ومتعقب، والتأثر بعبقرية سيبويه النحوية كان له أثر كبير في ميل كثير من المتأخرين لمذهبه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته فأقضي له بنحو ما أسمع...)) فالنبي صلى الله عليه وسلم بين هنا أن ذا البيان الفصيح، أو ذا المنطق البليغ يمكنه أن يصوغ من الكلام جواهر ودررا بحيث يقتنع السامع بكلامه – وليس هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيصور الحق باطلا والباطل حقا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحرا))، ولولا أن البيان بهذه المنزلة ما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
فعلم مما سبق أن الجماهير الغفيرة قد تتأثر بقول الباطل إذا صدر ممن له مقدرة بيانية عالية بحيث يجيد وضع الباطل في صورة الحق، أو وضع الحق في صورة الباطل.
وليس شرطا أن يكون ذلك عن تعمد، بل قد يكون مقتنعا بما يقول، ولكنه يطوع مقدرته البيانية والبرهانية في إثبات ما يراه صوابا أو إبطال ما يراه باطلا.
وقد ذكر ابن رشد وغيره أنواع الخطاب ومنها الخطاب الجدلي والخطاب البياني والخطاب البرهاني، وذكر أن العامة لا يؤثر فيهم إلا الخطاب البياني.
وهناك مسألة أخرى، وهي أن العالم أو الباحث قد يكون مقتنعا بشيء وصل إليه بعد سنوات من البحث، وبعد سنوات من البحث والاطلاع، ولكنه لا يستطيع أن يبوح به؛ لأنه يعلم أن ذلك قد يضعه في قائمة المخالفين أو الشواذ، وبذلك يهدر قوله كله فيما أصاب فيه أو أخطأ، ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما يخفي بعض قوله على عهد عمر رضي الله عنه ثم أعلنه بعد وفاته، وكذلك غيره من الصحابة رضي الله عنهم.(/4)
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى الحق في بعض الأمور ولكن يمنعه خشية أن يظن الناس به ظنا خاطئا، كقوله لعائشة: ((لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة... إلخ))، وكقوله: ((لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)).
فلا نكير على العالم إن سار هذا المسير، أو نهج هذا النهج.
وأنت تلاحظ أن كبار العلماء وفحول الرجال ينهجون هذا النهج فلا يفتون الفتوى إلا منضبطة بالضوابط الشرعية والضوابط الكلامية حتى لا يؤخذ الكلام على عواهنه ويفهم بالفهوم الباطلة ثم يسير كل مسار وينكر عليه كل منكر.
وأنت ترى الناس حاليا إذا استشهدت بقول العالم في مسألة يحتجون عليك بأنه أخطأ في المسألة الفلانية أو شذ في المسألة الفلانية، ولولا أن الحق معتبر عندهم بالرجال لما كان لما قالوه فائدة، إذ لو سلمنا أنه أخطأ في مسألة فليس شرطا أن يكون قد أخطأ في كل مسألة كما هو واضح.
ولكن المشكلة أن الخطأ إذا كان واضحا أو شاذا فإن ذلك يؤدي إلى أن يطرح الناس قوله كله، وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال ((إياكم وزلة العالم... اجتنب من قول العالم الكلمة الشاذة التي يقال لها ما هذه)).
ولولا أن الرجال معتبرون في الحق وتأثيره على الناس ما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان))، وإنما كان ذلك كذلك لأن العالم إذا زل زل بزلته عالَم.
ولولا أن الحق معتبر بالرجال ما قال الناس أمثال هذه الجمل: هل أنت أعلم من فلان، هل فلان أعلم من فلان؟ وهذا إن اعترضنا عليه في أحيان فإنه لا يسعنا إلا أن نذعن له في كثير من الأحيان.
وكثير من الناس يطمئن قلبه للفتوى بمكانة من يفتون بها، فإن سمعت القائل يقول: أفتى بذلك ابن باز أو ابن عثيمين أو الألباني أو اللجنة الدائمة.. أو.. أو، فإن القلب يطمئن إلى هذا القول، ولذا صار بعضُ الكذبة يدعمون أقوالهم بنسبة فتاوى باطلة لأمثال هؤلاء الجبال.(/5)
وأما قول القائل من السلف: السنة معرفة الحق وإن كنتَ وحدك، فهو يعني – والله أعلم – ما بعد عصر السلف؛ لأن العبرة كما هو معلوم بأقوال السلف، فإن خالفها الخلف فالمرجع فهمُ السلف، ولولا أن قول الرجال معتبر ويعرف به الحق ما كان رجوعنا لفهم السلف – وهم رجال – فائدة.
غير أن معرفة الحق بالرجال مشروط بأن يكون لهؤلاء الرجال وصف زائد على وصف المخالَف، فالصحابةُ لا شك في قدرهم وتقديمهم على غيرهم، وأقوالهم أحب إلينا من أقوالنا لأنفسنا، ولولا أن أقوال الرجال لها قوة ما اختلف العلماء في حجية قول الصحابي.
وقد اختلفوا في حجية قول الجمهور، ولكن لا نزاع في التقوية به عند الخلاف، ولا جدال في قوة التأثير به عند الجدل البياني لا البرهاني.
وحجية الإجماع مشهورة عند علماء الأمة، وما الإجماع إلا أقوال الرجال، ولذلك ذهب بعضُ الشذاذ إلى عدم حجية الإجماع، وما كان ذلك منهم إلا غلوا في رفض أقوال الرجال، وذهبوا يتمحلون الأعذار في رد حجية الإجماع تارة بأنه لا يمكن ثبوته، وتارة بأنهم اختلفوا في تعريفه، وتارة في رد الدليل الدال على حجيته، وهذا الرد للدليل إما بالطعن في صحته، أو بالطعن في مدلوله.
وإذا نظرت إلى أي علم من العلوم، فلا تجد سبيلا إلى معرفة هذا العلم أو الاطلاع عليه إلا بالتلقي عن الشيوخ أو مطالعة الكتب، وكلاهما معرفة للحق بمعرفة الرجال، فالشيوخ رجال، والكتب إنما وضعها رجال، ولا ينفعك أن تقول: يكفيني كتاب الله، فالله عز وجل إنما أنزله ليبينه لنا أعظم رجل وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأنزلنا عليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما نقله لنا الرجال، وبينه لنا الرجال، ودلنا عليه الرجال، وإذا اختلفنا في فهمه فإنما نرجع عند الترجيح لفهم السلف من الرجال.(/6)
ولا يستطيع أي إنسان مهما كان حاليا أن ينكر الاستفادة من الكتب، ولا أظن أحدا على ظهر الأرض يستطيع أن يكتب أو يؤلف أو يخطب أو يفتي أو يناظر أو نحو ذلك إلا بالاستفادة من الكتب.
ولهذا كان للعلماء كلام طويل الذيل في أهمية الكتب وكثرة المطالعة، وإنما كرهها من كرهها لأنها تصد عن الحفظ؛ لا لذمها في ذاتها، والحفظ لا يغني عن الكتاب كما هو معلوم.
ولولا ما للكتب من تأثير على الحاضر والمستقبل ما كان لها هذه الشهرة العظيمة عند الناس.
ولولا ما للكتب من تأثير ما قام بعضهم بحرق كتب المخالفين أو بمصادرة بعض الكتب.
يقول ابن حزم:
فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
ولهذا عظم النكير على من يتصرف في كتب أهل العلم بلا بيان.(/7)
العنوان: خواطري مع الحج
رقم المقالة: 1829
صاحب المقالة: أريج الطباع
-----------------------------------------
كم تاقت نفسي لهذا اليوم الذي يُكْتَب لي فيه الحجُّ، في كل عام كنتُ أتوق لأن أكونَ هناك، وتَحُول الظروف دون ذهابي!
ما أروع منظرَ تجمُّع المسلمين مِن شَتَّى البقاع، على اختلاف ألوانِهم وجنسياتهم، وثقافاتهم، مُلبِّينَ، مُكبِّرين، يتوجَّهون لغاية واحدة، تَجْمعهم (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
كنتُ أُتَابِعُهم مِن خلف الشاشة، وعينِي تفيض بالعَبَرات، ليتني هناك.
حججْتُ فَرْضِي؛ لكنّي كنتُ صغيرةً وقتها، كانتْ صفحَتِي بَيضاءَ، وكُلُّ يوم يمضي بِحَياتِي كانتْ تَتَكَدَّرُ، ولَكَمْ تُقت أن أعيد مسحها من جديد!
أذْكُر مرَّةً حِينما كنتُ طالبةً بالثانوية، سألَتْنَا معلِّمة الدِّينِ: مَن منكُنَّ تتمنَّى لو خُلِقتْ شابًّا لا فتاة؟
كثيراتٌ رفَعْن أيديَهُنَّ وقتها، وكنتُ ضمن هذا الجَمْع، تعجَّبَتْ معلمتي لما تعرفه عني، وابْتدرَتْنِي بالسؤال: لِمَ يا ابْنَتِي؟! تبسمْتُ وقتها وأنا ألحظ تعجبها، وقلت لها بثقة: كي أتوجَّه للجهاد.
وَقْتَهَا كانتْ أحداثُ أفغانستان والروس، كلَّ يوم كانت تجمع التبرعات، يشيد الجميع بالمجاهدين، لم يكونوا إرهابيّينَ وَقْتَها! كم كنتُ أغبطهم، جادُوا بنفوسهم، وتركوا دُنْياهم؛ لغايةٍ تسمو عن غايات البشر، لا يذوقُ حلاوَتَها إلا مَنْ خالَطَ الإيمانُ شغاف قلبه. وقتها تبسَّمَتْ مُعَلّمَتِي، وقالتْ: بسيطة يا بُنَيَّتِي، توجَّهي لِلحجّ فهو جهاد المرأة؛ ربما أقْنعتْنِي وقتها وجلستُ راضية، أحلم بالحج.
وكان حلمي يكبر مع الأيام، وتَحُول بيني وبينه العوائقُ. اليوم كبر أولادي لدرجة تكفي لأن أتركهم وأتوجَّه للحج. فرحَتِي كانت لا تُوصَف وزوجي يُبشِّرُني بأنه حَجَزَ لنا مع حملة لهذا العام.(/1)
حتَّى أولادي شارَكُوني فَرْحَتِي، مِن شِدَّة ما رَأَوْا سَعَادَتِي بِهَذِه الرِّحْلَة، وصارُوا يُشارِكُونَنِي عَدَّ الأيام؛ لِلانْطِلاق لِلخيام بمِنى.
بدأنا الاستعداد للحج، واشترى زوجي ملابسَ الإحرام، بيضاء ناصعة، تلتفُّ على جسده دون تفصيل.
لوَهْلَة اقْشَعَرَّ بدني وأنا أقول له: كم تُشْبِه هذه المناشف الكَفَن!
تبسَّمَ وهو يقولُ لي: هذه الغاية منها، أن تذكِّرَنا بهذا اليوم، لِنَرى الدنيا ضئيلة قصيرة؛ لكننا اليوم نذْهَبُ بأرجُلنا، وغدًا نُساق مُكْرَهينَ.
قال لي: نعم؛ لذلك يسهل علينا الاستعداد، وهل أروع مِن أن تعودي كيوم ولدَتْكِ أمُّكِ؟ لم يبقَ سِوى حقوقِ العباد، فسارعي بسدادها.
شعرت برُعْب ثانية، كيفَ لي أن أجمع كل مَن عرفت؛ لأسْتَسْمحهُم ليُحلُّوني، فقد مَرَّ عليَّ بِحياتي الكثيرُ، ولا أعرف لمن أسَأْتُ! سارَعْتُ لجَوَّالِي، لِلمسنجر، للهاتف؛ أُرْسِل رسائل سريعة للجميع؛ أسألهن السَّماح، ويوصونني بالدعاء هناك.
سألَتْنِي إحداهُنَّ: هل مِن طبعك التشاؤم عادة؟ لماذا تودعينَ كأنكِ لن تعودي؟
تبسَّمْتُ وأنا أجيبها: أشْعُر بأن الحج لهذه الغاية، وسعيدة أني أستطيع الاستعداد اليوم، أسألُ الله أن يُحْسِنَ خِتامَنا، ويُمَكِّنَنا من الاستعداد قبله.
عادت لذهني صورةُ صحابِيّ كان على فراش الموت، فجمع الجميع يسألهم أن يُحلُّوه، ولم يغمض جفنه حتى اطمأن لذلك.. غفر الله له وبلَّغَنا هذا.
أعْددتُ حقيبة صغيرة، ضمنتها أساسيات فقط؛ كيلا يثقل حملها. كَوْنِي حججْتُ فرضِي، فقد نويتُ هذا العامَ أن أُهْدِيَ حجتي لأحد الأحبة، الذين فارقونا ورحلُوا.
كانتْ أُمّي ليلتها تزور أهل عبير - رحمها الله - عادت لزيارتي، وقالت لي: كدتُ أخبر أمها أنَّكِ ستُهْدِينَها الحَجَّ وتنوينَهُ عنها؛ لكنني آثرت أن أسألكِ قبلها.(/2)
فاضَتْ عيني، وأنا أفكّرُ بِأُمّي: كم هي رائعة! بالتأكيد عبير غالية - رحِمها الله - وما أروع أن يكون بيدي أن أُقَدِّم لها هَديَّةً، حتى بعد انقطاع التواصُل بالدنيا!
نَوَيْتُ الحج عن عبير - رحمها الله - ونواه زوجي عن جَدِّه، وتواصَيْنا أن نذكر أحبتنا بالدعوات.
حَضَنْتُ أولادي أُودِّعهم، وودَّعْتُ أهلي، ونظَرْتُ نظرةً أخيرة لبيتي الدافئ ومُستقرِّي، وركبت تختلط المشاعر بداخلي، وأشْعُر بشَوْق لِلوُصول للخيام بمِنى صباح يوم التَّرْوِية.
انطلقتِ السيارة، وخلَّفنا وراءنا كل ما يشدنا لهذه الأرض، لا نحمل سِوى متاعِنا الخفيف.
"صحبة الحج"
هناك داخل أسوار الخيام التقَيْنا. منهنَّ مَن أعرِفُها قبل الحج، ومنهن مَن لم تكُنْ لتجْمَعَنِي بها الأيامُ سِوى بهذه الخيام.
كانت خيامُنا مُعَدَّة لاستيعاب عدد كبير مِن الحاجَّات، تلْتَصِق أماكنُنا معًا دون فاصل، كان ذلك سببًا لتذمُّرِنا بالبداية؛ لكننا سرعان ما حمِدنا الله ونحن نشاهد حجيجًا افترشوا الأرض والتحفوا السماء، وحَمِدنا الله حينما تآلَفَتْ قلوبُنا التي اجتمعت لغاية واحدة.
إحدانا تندَّرتْ حينما دخلتْ وشبَّهتْ خِيامنا بِالمهاجع! فكانَتْ تُذكِّرُنا دومًا بدعوة لإخواننا الأسرى، الذين سُلِبوا حُرّيَّتَهُم؛ لقولهم لا إله إلا الله.
قبل الحج كنتُ أحلم بحج يجمعُني بكافَّة الثقافات، أشعر به بمعنى الحج الحقيقي، وبالفعل كنا بالخيمة أجناسًا مختلفة؛ أُخت من تونس، وأخت من اليمن، وأخت من الأردن، ومن مصر، ومن لبنان، ومن سوريا، ومنَ السعوديَّة... وبخيام مُجَاوِرة لنا جدًّا كان هناك حجَّاجٌ من الهند أيضًا.(/3)
وكما تفاوَتَتْ أجناسُنا، تفاوتَتْ أيضًا ثقافاتُنا، وخلفياتنا الشرعية. آلَمَنِي أن أجدَ إحداهُنَّ لا ترتدي الحجابَ أَصْلاً، وتُقَصِّر في صلاتِها، وتَمْلِكُ قلباً مُرْهفًا، ودموعًا قريبة تدرس بالغرب، وتستقي منه ثقافتها، وأخرى ارتدتِ الحجابَ قريبًا، ولم تقطع صلاتَها يومًا، وتُجاهِد ببيئة مُتفلِّتة، تمسك دينها كالماسِك على الجمر!
وبالمقابل كانتْ بيننا الداعيةُ الحريصةُ التي تزوَّدت بمراجعَ عن الحجِّ، ترجع لها البقية؛ يستَفْسِرْنَ منها، ويسألْنَها كُلَّما أشْكل عليهنَّ أمرٌ، وبيننا المِعْطَاءة الحنونة، التي تسعى لإيصال دعوتها بابتسامتها.
كان اجتماعنا معًا له طعمٌ آخر من مناسك الحج، أن نجتمعَ على اختلافنا لغاية واحدة؛ نسعى جميعًا لرضا الله بالنهاية مهما اختلفتِ الطرقُ، تدعو إحدانا الأخرى، وتُنبهها على تقصيرها بأي أمرٍ.
لا ينفي ذلك أن البعض افتقر للأُسْلُوب، والبعض كان الجهل سببًا لابتِعادِه عن الغاية؛ لكن هناك بذلك الجو، كانت تربية النفوس أيضًا، وجَبْلها على حُسْن الخُلُق.
كثيرة هي المواقِف التي تركَتْ أثرها بنفوسنا، ومن أشدها أثرًا على نفسي هذا الموقف:
كان يومُها باردًا جدًّا، استيقظنا مع الفجر، وجاء الإفطار لنتحلَّقَ حوله كعادتِنا، نستمد الدِّفْء من أكواب الشاي، ومن الطَّعام الذي يمدنا بالطاقة للاستمرار على العبادة، ونستعد بالملابس الثقيلة التي تدفع عنا البرد، يومها لم تدفأ أطرافنا برغم استعدادنا بالملابس، وتكوَّرنا تحت الأغطية، ودخَلَتِ الفتاة التشادية التي تحمل الطعام، وهي ترتدي ملابسَ خفيفة، لا تكاد تغطي جسدها النحيل!
سألْتُها: ألا تشعرينَ بالبرد؟ تابَعَتْ عملها وقالت همسًا: بل أكاد أتَجَمَّد! فسحبت غطائي عن كتفي، وأعطيتها إياه، كنتُ أرتدي ملابسَ تقيني البرد وقتها مع هذا الغطاء. دمِعَتْ عيني وأنا أرى أمارات الشكر مِن عينيها، وهي تلتحف به، وتنظر إليَّ مُمْتَنَّة.(/4)
فما كان مِن الأخت التي تُجاورني بالمكان إلا أن خرجت سريعًا إِثْرها، وعادت وهِي ترتَجِف من البرد، تحاول أن تغطيَ نفسها بغطاءٍ خفيف أبقَتْهُ لنفسها، لم يكن لديها سِوى رداءٍ واحد يقيها البرد، ووهبتْهُ لِلفتاة الأخرى التي تعمل حينَما رأتْهَا ترتعش مِن بردها!
دمعت عيوننا ونحن نسألها: ألَمْ تُبقِ لنفسكِ شيئًا؟
قالت باسمةً بشفاهها التي ازرقَّتْ مِن البرد: جسدي مُمْتَلِئ أكثر من أجسادهنَّ، ولديَّ هذا الغطاء سيكفيني!
فما كان من البقية إلا أن أعطينها ما يكفيها بردَ ذلك اليوم؛ لكنه كان درسًا بالعطاء لا يُنْسَى!
"يوم عرفة"
كنت أنتظر هذا اليوم بشَوْق، مِن كثرة ما سمعتُ عنه وعن فضله؛ لكنني بنفس الوقت تَهَيَّبْتُ منه، خشيت ألا أشعر بتلك اللذة التي منَّيتُ نفسي بها، خشيتُ أن تغلبني أمور الدنيا، فتسرق مني حظات طالما تقتُ إليها، خشيتُ أن لا تكفيني الساعاتُ هناك، أن يخذلني قلبي ونفسي..
الليلة التي سبقتها كنتُ أعاني صداعًا شديدًا، وأخشى أن يفسد عليَّ متعة الحج. كثيرات شاركْنَنِي تلك اللحظات بقلوبهنَّ، بدعواتهنَّ لِي أن يُخَفِّفَ الله صداعي، ويبلغَنِي يوم عرفة..
أخوات الخيمة لم يقصرْن بالاهتمام، حتى مَن لَمْ أعرفْ منهنَّ قبلُ.
الزنجبيل الدافئ، والليمون، وأقراص الدواء، كانت تأتيني مِن كل صَوْب، الأكف الصادقة التي ترتفع بالدعاء كانت تجعلني أشعر بشعور الجسد الواحد حقيقة.
جوَّالِي الذي كانت تَصِلُني به رسائل الاطمئنان، وسؤال الأقارب والصديقات ودعواتهم، وما يوصونني به من دعوات.
أيْقَظُونا فجرًا، لم نستطِعِ النومَ ليلتها جيدًا، واستيقظنا بوقت باكرٍ جدًّا؛ لنستعد وننطلقَ بعد الشروق.
تجمعنا وانطلقنا بالسيارات بعد أن صَلَّيْنَا الضُّحَى بالخيام. وصلنا عرفة العاشرة صباحًا تقريبًا، أختي كانت تطمَئِنُّ علينا، فقالت لي: هنيئًا لكم أن وصلْتُم بهذا الوقت، فحينما حجَجْتُ لم نستطعِ الوصول قبل الثانية ظهرًا.(/5)
كانت معنا بأوراقها ومَراجعها وحِرْصها على السُّنن، فعَينَّاها أميرةً على مجموعتنا الصغيرة، وأخبَرَتْنا أنه يُسَنُّ الدعاء خارجَ الخِيام، وأنَّ السُّنة بعد الزوال، ويكثر من الدعاء.
وأمسكْتُ دِفترًا صغيرًا، ضمنت به الدعوات التي أُوصِيتُ بها، وكانت صفحات كثيرةً، تبسَّمت وقتها، وقالت لي بعجل: أخشى أن أنسى أحدًا دون أن أنْتَبه.
هناك افْترشْتُ الأرض بجوار الخيمة، جلسْتُ على تراب الأرض، وتظلني السماء والشمس، وبدأتُ أسْتعيدُ كلَّ مَن أوصاني بدعاء، بدأتُ أدعو بلساني، كنتُ أسمع ضجيج الناس من حولي؛ دعاء جماعي يصدح، مجموعة يتحدثونَ، محاضرة عن فضل يوم عرفة، كنتُ أسمع وأشتت نفسي، لديَّ الكثير الذي أتوق لأن أدعوه، أحتاج خلوة بدعائي لأشعر بخشوع.
تداخَلَتْ أصواتُهم، ما عُدْتُ أُمَيّز بينها! ضجيج فقط كلمات مُتداخِلة بلا معنى، وصلْتُ بدعواتي لمن فارقونا ورحلوا، فاضَتْ عبراتي، وأنا أتخيل نفسي فيما صاروا إليه!
حمدت الله أن بلغني عرفات، أن أَتَاحَ لنا فرصة؛ نُكَفِّر بها عن خطايانا.
كم ظَلَمْنا أنفسنا! كم قصرنا! كم زهدنا بزوادة نحتاجها بيوم لا ينفع به إلا مَن أتى الله بقلب سليم!
رذاذ مِن الماء كان يُبلّل وجهي، ما عدت أدري أمِن عيني وعبراتي، أم من السماء؟ أم أنهم يرشّون ماء؛ يخففون به وهج شمس الظهيرة؟
لسْتُ أدري أيّهم بلَّلَ وجهي؟ أمِ اختلطت كلُّها معًا؟ لكنها جعلتني أشعر برحمة الله، وكيف يَسَّرَ لنا الحج، وسَهَّل سُبُلَه.
سبق لِي أن قُمْتُ بعمرة عن أشخاص أحببتهم ورحلوا؛ لكنني بهذا الحج كنتُ أشعر بشعور آخر، يختلف كثيرًا عن كل مشاعري التي سبقَتْ، شعور جعلني أشْعُر بالموت أقرب، وجعلني أشعر أنَّ الدنيا لا تدوم.(/6)
حينما تَشْعُرُ بِمرارة الظُّلْم مِنْ إِنْسَان، حينما تشعر بأن هناك من ترغب بأن تدعوَ عليه؛ ليكف أذاه عنك، أو عن مَن تحب من الناس. يأتيك شعورٌ قويٌّ يدفعك لرفع أكفكَ نحو السماء؛ لتدعوَ بصِدْق عن كُلّ ما تعجِز عنه بضعفكَ البشري؛ لتلجأ لِمَن تثق به وبقوته وبعدله.
هناك بهذا الموقف كنتُ قد خططت لدعاء كهذا؛ لكنني حينما شعرت بضآلة الدنيا وسخافتها، تضاءلَتْ مشاعري أيضًا، وصفا قَلْبِي بصِدْق، شعرتُ ألاَّ أحدَ بالدنيا يستحقُّ أن أحْمِلَ له مشاعِرَ سلبيةً، تؤذيني قبل أن تؤذِيَه!
وتذكَّرْتُ رحمةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مُشْرِكي قريش، حينما سأله جبريل: "أَأُطْبِقُ عليهِمُ الأخْشَبَيْن؟" فقال بما معناه: ((لا، لعل الله يُخرج مِن أصلابِهم مَن يوحده))، ودعا لهم بالهداية.
وحدهم اليهود والمنافقين، وكل مَن أراد بالإسلام سوءًا، لم أتمالك نفسي مِن الدعوات عليهم، وأنا أتذكَّرُ بُيوتًا هُدِّمَتْ، ومساجدَ حُرِّقَتْ، وأسْرَى يَئِنُّون، سُلِبُوا حق الحياة، وأنا أتذكَّرُ شعاراتٍ رُفِعَت، وأفواهًا كُمِّمَت، وأيادي قُطِّعَتْ!
شريط حياتي كان يَمُرُّ أمامي يومها، وأنا أعد أيامي التي مَضَتْ، وأسترجع ما بقي لي منها، بهذا الشريط مَرَّ عليَّ كلُّ مَن صادَفْتُ وأحبَبْتُ، كلُّ ما رأيتُ واكتسبْتُ (منه) مِن خبرات!
دعَوْتُ الله أن يلهمنا الصوابَ، وأن يقِيَنا شرَّ أنفسِنا، وأن يَحفظَنا ويبعدَنا عن مداخل الشيطان.
كانت نفسي تُطمئنني بأنك بخير، ففعلت وفعلت....
وتعود لي ذِكْرَى قصص الصحابة التي قرأتها، وعِشْتُ بين صفحاتها، وأنا أتصوَّر لحية عثمان - رضي الله عنه - المُبَلَّلَة بالدموع كلما تذكَّر عذاب القبر!
وأنا أرى قلق عُمر وخشيته أن يكون من المُنافقينَ، وسؤاله للصحابي الذي ائتمنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أسماء المُنافقينَ: "هل أنا منهم؟"(/7)
لله درُّك يا عمر، تَخْشَى النِّفاق وقد بشَّرَكَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة!
يقْشَعِرُّ بدني، وأنا أذكر استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه، وإكثاره منه!
بكاء أبي بكر الصديق الذي خَشِيَ المشركون أن يُفْتَنَ به نساؤهم وأطفالهم عن دينهم!
كانوا رجالاً بحق، حتَّى دموعهم تشعرُني بالقوة، بقوة إيمانهم، وقوة حُبِّهِم لله.
قوة لا يقابلها إلا شعوري بالخَجَل مِن حالنا، ساعات مَرَّتْ لَمْ أشعر إلا بصوت أذان العصر يرتفع وينادونني؛ لننضمَّ للصلاة وبعدها للغداء. كنت كمَنِ اقتلعوه؛ ليعود للأرض ثانية!
وأسرعنا بالغداء، فما هي إلا سُوَيعات وينتهي الوقت، وينتَهِي هذا اليومُ الذي طالما تُقْنا إليه.
ولسُنَّة أرادها الله بالكون، لابد لكل شيء بالدنيا من نِهايةٍ، وقد مَرَّ يومُ عرفة كما مَرَّتْ قبله أيامٌ كثيرة! لكنَّه لم يكُنْ كأيِّ يومٍ، ولَنْ يَمُرَّ أثرُه الذي تَرَكَهُ بِنُفُوسِنَا حتمًا ما دُمْنا.(/8)
العنوان: خيوط الشمس
رقم المقالة: 948
صاحب المقالة: نبيل الزبير
-----------------------------------------
اخلَعي قَلبي وطِيري حَلِّقي مِثلَ الطُّيورِ
وارسُمي لَوحاتِ حُزني واكتُبي بعضَ السُّطورِ
اكتُبي أنِّي غَريقٌ في دُموعٍ كالبُحورِ
اكتُبي أنِّي وَحيدٌ في رَحيلي والمَسِيرِ
في بُكائي في غِنائي في شُحوبي في سُروري
طَيفُ حُلمي ضاعَ منِّي واختَفَت شَمسي ونُوري
ليتَ قلبي كانَ طَيراً طائراً فوقَ الزُّهورِ
ليتَ قلبي كانَ زَهراً حامِلاً أَزكى العَبيرِ
ليتَ قلبي كانَ طِفلاً راحَ يلهو في حُبُورِ
ليتَ قلبي كانَ نَبعاً كان ماءً في الغَديرِ
ليتَ قلبي كانَ شَدواً من تَرانيمِ البُكورِ
ليتَ قلبي كانَ شَيئاً غيرَ قلبٍ كالأسِيرِ
عاشَ دَهراً في الأماني والأماني شَرُّ زُورِ
يا خُيوطَ الشَّمسِ هيا اخلَعي قَلبي و طِيري
واملَئي الكونَ جَمالاً فَيضَ دِفْءٍ وأَنِيري(/1)
العنوان: "داد الله" في ذمة الله..ماذا بعد؟
رقم المقالة: 835
صاحب المقالة: محمد مصطفى علوش
-----------------------------------------
صبيحة يوم الأحد؛ أُعلِن مقتلُ المسؤول العسكري لحركة (طالبان) "الملا داد الله"، المعلومات تؤكد أن "داد الله" قتل مع شقيقه - الذي أفرج عنه في عملية تبادل السجناء بالرهينة الإيطالي قبل شهرين - في مواجهات عنيفة بين حركة (طالبان) وقوات حلف (الناتو) المتعاونة مع القوات الأفغانية.
سقط "داد الله" ليلة الأحد في ولاية (هلمند) التي تشهد نفوذاً نامياً لـ(طالبان)، إلا أنه لم يعلن مقتله حتى صبيحة يوم الأحد، حيث نقل جثمانه إلى منزل حاكم إقليم (قندهار)؛ ليعرض أمام (كاميرات) الصّحَفيين؛ محاولةً من قوات الناتو لتأكيد مصرعه، بعد سلسلة تقارير كاذبة، كانت تقول بمصرعه سابقاً..
"داد الله" مات كما تمنى، على خلاف ما كان يرغب أعداؤه من قوات التحالف، وأنصارهم من الأفغان! ففي حديثه الأخير مع قناة الجزيرة حين سئل عن سبب ظهوره في وسائل الإعلام كاشف الوجه دوماً، على خلاف ما يفعل قادة (طالبان) - بمن فيهم الناطق الإعلامي باسم الحركة - أجاب "داد الله": "إني لا أخشى شيئاً، ولم أحاول الخروج من أفغانستان، وليس لي هدف سوى الاستشهاد، أو إخراج هؤلاء الكفرة من بلادي"، قاصداً قوات (الناتو).
جاء مصرع "داد الله" حافلاً بالرسائل، متزامناً مع سلسلة من الأحداث؛ فقد جاء مصرعه بعد سلسلة مجازر؛ ارتكبتْها قواتُ الناتو بحق المدنيين من الأفغان؛ كان آخرها مجزرة لأربعين مدنياً! في حينٍ تزداد فيه الضغوط على (كرازي)؛ لمطالبته بفتح حوار مع (طالبان).(/1)
وكان عدد من النواب الأفغان قد قدموا مشروع قانون جديد، يطالب بالحوار مع مقاتلي حركة (طالبان)، المنحدرين من أفغانستان؛ لإقناعهم بالاعتراف بالحكومة الأفغانية، داعين (كرازي)، ومن ورائه قوات الناتو؛ للتمييز بين مقاتلي (طالبان) الأفغان، والوافدين من باكستان ومن "تنظيم القاعدة".
ومع تراجع قدرات قوات الناتو على تدمير حركة (طالبان)؛ الذي أظهرته تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية (كوندوليزا رايس) سابقاً: أن الولايات المتحدة أصابها دهشة من قوة مقاتلي (طالبان)، وعودتهم أكثر تنظيماً وفعالية، بعد مضي خمس سنوات على إقصاء الحركة عن الحكم، عقب هجمات الحادي عشر من (سبتمبر)، إضافة إلى تحول مقاتلي (طالبان) من مجرد مقاتلين يعتمدون على الكر والفر؛ إلى جهة تدير شؤون الحياة؛ مثل حل المنازعات، وأحياناً تقديم بعض الخدمات، مثل إدارة مدارس دينية، وبعض المستوصفات الطبية.
كان لابد من اعتماد (إستراتجية) جديدة لقوات (الناتو)، قوامها التركيز على رأس الحركة، بدلاً من الانشغال بمقاتلتها في الجيوب هنا وهناك؛ لتفكيكها من الداخل، والقضاء على العنصر الجامع لها على الصعيد العسكري، وطبعاً لم يكن أحد يمثل هذا الدور - ميدانياً - كما يمثله "الملا داد الله".
طبعاً، للمشهد مغزى يتعدى تأكيد صدق تصريح قوات (الناتو) والقوات الأفغانية بمقتل داد الله؛ إلى أمور أكثر بعداً، حيث يقول الحاكم الإقليمي لـ(قندهار) أسد الله خالد: إن "الملا داد الله" كان العمود الفقري لحركة (طالبان) ولتنظيم القاعدة، وبالتخلص منه يتجه الوضع في أفغانستان نحو التحسن.
ويمكن تحديد الرسائل التي حملها مقتل "الملا داد الله" في النقاط التالية:(/2)
1- محاولة نظام (كرازي) تكريس شرعيته؛ أمام الشعب الأفغاني، بدعم من قوات التحالف من جهة، وأمام الأحزاب البرلمانية الأفغان، المنادين بفتح حوار مع (طالبان) من جهة أخرى. وبرغم أن الورقة ما زالت بيد الحكومة الحالية، وأن تأثير (طالبان) - وإن تنامي في الفترة الأخيرة - إلا أنه غير قادر على مسك زمام المبادرة. ومن هنا نفهم مغزى تصوير "داد الله" في حال مزرية كالحالة التي شُوهد عليها أبناء "صدام حسين" في العراق سابقاً، وهذا يعني أن المدبر واحد!
2- كما أنها رسالة تطمئن شعوب دول التحالف، ومن يناصرهم من الأفغان؛ بأن ما وعدت به حركة (طالبان)؛ بأن مقاتليها سيكثفون هجماتهم ضد القوات الأجنبية، مع قدوم فصل الربيع وانحسار موجات البرد القارس؛ لم يكن إلا وهماً تعيشه الحركة المعزولة في الجبال والكُفُور، وأنه لا مزيد من الخسائر في أفراد قوات (الناتو) بعد اليوم!!
3- خطوة للتأثير على نفسية قادة (طالبان) وأعضائها، بالوصول إلى القائد العسكري الأول فيها، الرجل الثاني بعد مقتل القائد الميداني السابق للحركة "الملا محمد أختار عثماني"، الذي قتلته قوات التحالف في غارة جوية جنوبي البلاد، بعد أن أطلعتها باكستان على مكانه. ويعتبر "داد الله" العقل المدبر لكثير من العمليات الأخيرة التي قامت بها (طالبان)، فضلاً عن النقلة النوعية التي بدأت الحركة باعتمادها - وهي زرع العبوات المتنقلة، وتحويل الأجساد إلى فخاخ - التي آتت أكلها على نحو كبير جداً في بنية قوات (الناتو) والقوات الأفغانية أخيراً.(/3)
4- يبدو أن "داد الله" - في آخر حياته - أصبح أكثر إحراجاً للساسة الأوروبيين في بلدانهم، حيث نسب إليه الفضل في التخطيط والتدبير لخطف الكثير من الأجانب المتواجدين على الأرض الأفغانية تحت مسميات عديدة؛ كان آخرهم الرهينة الفرنسي الذي أفرج عنه أخيراً، والذي كاد أن يسبب مشكلة سياسية داخلية في فرنسا وتوتراً دبلوماسياً بين فرنسا والحكومة الأفغانية. كما شهدت أيامه الأخيرة الظفر بالكثير من جواسيس الحكومة الأفغانية وقتلهم، ومن ثمَّ؛ فإنه مما لا شك فيه أن محاولة الوصول إليه ربما كانت الهدف الأول قبل "الملا عمر"، لتأثيره الشديد على مجريات الأحداث في أفغانستان، وأن عملية رصده ومتابعته نجحت في الوصول إليه ومن ثمَّ؛ قتله. وفي هذا يقول الخبير الاستراتيجي "اللواء سامي نجيب"، في حوار مع أحد المواقع: "إن (طالبان) شهدت خلال الأشهر القليلة الماضية إعادة بناء لها من جديد، وأرهقت قوات حلف شمال الأطلسي، وأدخلتها في حرب استنزاف طويلة، مثل تلك الحرب التي خاضها الأفغان من قبل مع السوفييت، التي أدت في النهاية إلى هزيمة الاتحاد السوفييتي ،وتفكك قوته ودولته".
5- في تقديري: إن الولايات المتحدة، وقوات (الناتو)؛ كانوا يريدون الوصول إليه حياً، وأسره؛ لما يحمله من معلومات خطيرة عن مكان ووجود "ابن لادن" من جانب، وطبيعة العلاقة بين (طالبان) والمقاومة العراقية من جانب آخر، خصوصاً أن "داد الله" قد أكد في حوار معه لقناة الجزيرة - سابقاً - أن "ابن لادن" هو من خطط للعملية العسكرية، التي قامت بها حركة (طالبان) في أفغانستان، صبيحة يوم الثلاثاء 27/2/2007، التي استهدفت نائب الرئيس الأمريكي "ديك تشيني"، الذي لجأ إلى قاعدة "باقرام" العسكرية الأمريكية - أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في أفغانستان - للمبيت فيها، وأفاد أن "ابن لادن" في حالة جيدة، وأنه سيظهر قريباً في شريط مصور.(/4)
أما عن خطورة العلاقة بين (طالبان) والمقاومة العراقية؛ فتعود لتطور ونوعية العمليات العسكرية التي تقوم بها (طالبان) ضد قوات (الناتو)، التي غدت تتطلب - في كثير من الأحيان - الاستعانة بطائرات حربية لقوات (الناتو)؛ للسيطرة على الوضع. وفي هذا الصدد يؤكد "الجنرال ميجور برت ديدن" قائد القوات الهولندية بأفغانستان: "أن حدود الإقليم الأفغاني مع باكستان تُعَدّ منفذاً لمقاتلي القاعدة و(طالبان)"، وبحسب ما نقل "راديو هولندا" في 3/5/2006 عن الجنرال المذكور آنفاً؛ "فإن (طالبان) بدأت تستخدم أنواعاً من القنابل لم تكن تُستخدم من قبل، وهي تشبه تمامًا تلك الأنواع المستخدمة في العراق، وإن هذه الاستنتاجات مبنية على بعض ما توصلت إليه وحدة الاستخبارات العسكرية والأمن الهولندية، العاملة في أفغانستان منذ عامين، بعملية مراقبة موضوعية دؤوبة؛ حيث رصدت الوحدة الهولندية - في تقريرها السنوي لعام 2005 - زيادة التفجيرات الاستشهادية، التي كانت نادرة للغاية في أفغانستان، والتي يستعمل فيها نوع من العبوات الناسفة المصنوعة يدوياً ارتحالاً؛ تُستخدم أساساً في العراق. الغريب في الأمر أن أجهزة الاستخبارات الغربية تؤكد أن" داد الله" هو العمود الفقري للحركة، وأن له الدور الأكبر في هذه النقلة لعمليات الحركة، حتى إنهم أطلقوا عليه: "زرقاوي أفغانستان"!!
ماذا بعد داد الله؟(/5)
بغض النظر عما تعتقده قوات (الناتو) وأزلامهم من الأفغان؛ أنهم انتصروا عليه؛ فالرجل في الحقيقة طالما كان يرغب في الاستشهاد، وهذا ما قدمه له أعداؤه، في حين لم يقدم لهم سوى الحسرة والندامة ، فهو انتصر عليهم حياً؛ حين أنزل بهم الفتك والتدمير، وانتصر عليهم ميتاً؛ حين لم يمكنهم من الظفر به حياً، للحصول منه على معلومات قد تكون نقلة مختلفة للقضاء على حركة (طالبان)، وربما ابن لادن أيضاً، وقد أظهر ذلك الرصاصاتُ الثلاث التي اخترقت جبهته وصدره، لتخبر أنه لم يحاول الحرب أو الاستسلام.
وعلى كل؛ فإن مقتل "داد الله" لن يوجه ضربة كبيرة لـ(طالبان) "التي تقاتل لطرد القوات الأجنبية، منذ أن طَوَّحت بها وأبعدتها عن السلطة بقيادة الولايات المتحدة، بعد هجمات 11 سبتمبر(أيلول) عام 2001 ".
وعلى الرغم من أن شجاعة "داد الله"، وقدرته على إدارة العمليات، والتحكم بعناصره على الأرض؛ تعتبر نادرة في ظل الأوضاع التي تتعرض لها الحركة؛ إلا أنه أنشأ جيلاً جديداً من الراغبين في تحويل أنفسهم لقنابل موقوتة؛ الذين كان يفتخر "داد الله" بهم ويقول: "قد من الله علينا بسلاح لا يتوافر لدى أعدائنا، إنها صواريخ (كروز طالبان)!!" قاصداً أولئك الراغبين بالاستشهاد.
ويشعر المتابع للوضع الأفغاني: أن مقتل "داد الله" لن يؤثر كثيراً على قوة (طالبان)؛ كما تأمل قوات (الناتو)، فالحركة خاضت مثل هذه التجربة سابقاً، حيث يقول أحد قادة (طالبان): "إن مقتل قادة ميدانيين لا يؤثر كثيراً على عمليات (طالبان) ونشاطهم، مستشهداً بالقائد الميداني السابق للحركة "الملا محمد أختار عثماني"، الذي قتلته قوات التحالف في غارة جوية جنوبي البلاد سابقاً، الذي خلفه القائد "داد الله" الذي كان أشد بلاء وفتكاً.(/6)
العنوان: دراسة أحاديث: الرؤيا من أجزاء النبوة
رقم المقالة: 909
صاحب المقالة: د. حسن محمد عبه جي
-----------------------------------------
دراسة أحاديث: الرؤيا من أجزاء النبوة
(رواية ودراية)
الملخص العربي
عنوان البحث: دراسة أحاديث الرؤيا من أجزاء النبوة (راوية ودراية).
مجال الدراسة: دراسة حديثية، وثيقة الصلة بعلمي الحديث الرواية والدراية.
الباحث: د. حسن محمد عبه جي - تخصص الحديث الشريف.
عدد الصفحات: (107) صفحة.
هدف الدراسة: تهدف إلى إيجاد إجابات علمية واضحة عن تساؤلات حول الأحاديث الواردة في الرؤيا التي هي من أجزاء النبوة، من أهمها: كيف نتعامل مع عدد من الأحاديث في هذا الموضوع، وهي مختلفة فيما بينها في نقطتين: عدد أجزاء النبوة، وصفات الرؤيا والرائي، ثم ما معنى جزء النبوة؟ وكيف يناله غير النبي؟ ومتى تكون الرؤيا من أجزاء النبوة؟.. الخ.
إجراءات البحث: قام الباحث بجمع الأحاديث الواردة في الباب، ثم خرجها، ودرس أسانيدها، وميز صحيحها من سقيمها، ولكثرة تلك الأحاديث - فقد بلغت ثمانية عشر حديثاً - تناول الباحث موضوع تواترها، ثم شرحها وسلط الضوء في الشرح على ثلاث نقاط، الأولى: صفات الرؤيا وصاحبها من خلال هذه الأحاديث، الثانية: التوفيق بين الروايات الصحيحة في اختلافها في عدد أجزاء النبوة، الثالثة: بيان معنى جزء النبوة.
أهم نتائج هذه الدراسة:
1- أن أصح الروايات خمسة، وهي على الترتيب: (46ثم 70ثم 45ثم 40) إضافة إلى الرواية المطلقة، والأخيرة تقيدها الروايات السابقة، وما سواها فروايات ضعيفة، أو لا سند لها أصلاً.
2- أن التواتر في هذا الخبر مقصور على القدر المشترك بين جميع الروايات، وهو أن الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، دون تحديد هذا الجزء بقدر معين.
3- أن الرؤيا لا تكون جزءاً من أجزاء النبوة إلا إذا كانت صادقة ورائيها صالحاً.(/1)
4- أن الاختلاف في عدد الأجزاء عائد إلى اختلاف حال الرائين في الصلاح، أو اختلاف الرؤى في دلالاتها، وقيل غير هذا.
5- أن جزء النبوة للرؤيا الصالحة لا يعلم حقيقته بشر إلا الأنبياء، مع الاعتقاد أن جزء الشيء لا يسلتزم ثبوت وصفه له.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن العناية بالسنة المطهورة من أشرف ما اشتغل به الباحثون وصرفو إليه هممهم؛ لما لها من المنزلة الرفيعة، والمكانة العالية في الدين، يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[1] ويقول سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله}[2]
وإن أوجه العناية بالسنة متعددة، منها: ما يعود إلى الأسانيد التي نقلت السنة إلينا بواسطتها، وذلك بدارستها، وبيان أحوال ناقليها، وغير ذلك، ومنها: ما يعود إلى المتون، وذلك بالتحري في نقلها، وضبطها، وشرحها، وتوضيح ما أشكل منها، والجمع بينها إذا كان ثمَّ تعارض... إلى غير ذلك من أوجه العناية.
وهذه دراسة حديثية أجمع من خلالها الأحاديث الواردة في الرؤيا التي هي من أجزاء النبوة، ثم أقوم بتخريجها، ودراستها، والتعليق عليها؛ خدمة للسنة الشريفة، ومساهمة في توضيحها وتقريبها للمسلمين، ودفاعاً عنها من خطر الأعداء، الذين يسعون دائبين إلى التشكيك فيها والنيل منها.
والباعث على هذه الدراسة أمور، أذكر منها:
1- أن الأحاديث الواردة في الرؤيا التي من أجزاء النبوة اختلفت ألفاظها اختلافاً كبيراً، فقد حددت بعض الروايات الؤيا بجزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة، وبعضها: بجزء من ستة وسبعين جزءاً، وبين الروايتين أحاديث كثيرة وأرقام مختلفة، مما حملني على جمع كل الأحاديث الواردة في هذا الباب وتخريجها ودراستها.(/2)
2- أن أعداء السنة الشريفة سواء أكانوا من المستشرقين أو من تسموا بالقرآنيين - وهم قد كفروا بالقرآن - قد يتخذون من الاختلاف الحاصل بين هذه الأحاديث وأمثالها ذريعة لنفث سمومهم ونشر شرورهم، في الصد عن السنة المطهرة، والتشكيك فيها، فجاءت هذه الدراسة لتمييز الروايات الصحيحة، والتوفيق بينها.
3- قد يستشكل البعض ممن يقف على ظواهر النصوص معنى هذا الحديث، في جعله الرؤيا الصالحة جزءاً من النبوة، ومعلوم أن النبوة قد ختمت بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد اشتملت هذه الرسالة على دفع هذا الاستشكال من خلال توضيح معنى الجزء في هذه الأحاديث، وتبيين المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم - ((من النبوة)).
وقد اشتملت هذه الدراسة على: تمهيد، ومبحثين، وخاتمة، على النحو التالي:
- التمهيد: ويشمل: أولاً: التعريف بالرؤيا.
ثانياً: حقيقة الرؤيا.
المبحث الأول: روايات الحديث، ويشمل ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الروايات الصحيحة.
المطلب الثاني: الروايات الضعيفة.
المطلب الثالث: حول تواتر الحديث.
المبحث الثاني: شرح الحديث، ويشمل ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الصفات التي تشترط للرؤيا وصحابها.
المطلب الثاني: التوفيق بين الروايات في تحديد الجزء.
المطلب الثالث: بيان معنى "النبوة".
الخاتمة: وتشمل أهم نتائج البحث.
هذا، وأسأل الله تعالى حسن القصد، والسداد في القول والعمل، وأن يجعل هذا البحث نافعاً مفيداً، ومقبولاً لديه، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
تمهيد
أولاً: التعريف بالرؤيا:
الرؤيا - في الأصل - مصدر: رأى في المنام يرى رؤيا، على وزن فُعْلَى، قال الشاعر:
عسى أرى يقظان ما أريت في النوم رؤيا أني سقيت[3]
ثم جعلت اسماً لما يراه الشخص في منامه.
قال الواحدي[4]: "هي في الأصل مصدر كاليسرى، فلما جعلت اسماً لما يتخيله النائم أجريت مجرى الأسماء" انتهى.(/3)
وفرق أهل اللغة بين (الرؤيا) و(الرؤية): فخصوا الأولى بما يراه الإنسان في النوم، والثانية بما يراه بحاسة البصر في اليقظة، فقالوا: رأى في المنام رؤيا حسنة، ورأى بعينه في اليقظة رؤية، الأولى بالبصيرة، والثانية بالبصر.
قال أبو البقاء[5]: "الرؤيا كالرؤية، غير أنها مختصة بما يكون في النوم؛ فرقاً بينهما.. ورأى رؤيا: اختص بالمنام، ورؤية: بالعين" انتهى.
قلت: ويفرق بينهما في الإعراب أيضاً، فإن (رؤيا) ممنوعة من الصرف؛ لأنها ختمت بألف التأنيث، و(رؤية) مصروفة، لا مانع فيها.
وقد تستعمل (الرؤيا) مصدراً في اليقظة فتكون بمعنى (الرؤية):
قال ابن بري[6] "قد جاء الرؤيا في اليقظة، قال الراعي[7]
فَكَبَّرَ لِلرُّؤيَا وَهَشَّ فُؤَادُهُ وَبَشَّر نَفْساً كَانَ قَبلُ يَلُومُهَا[8]
وعليه فسر قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}[9]
أخرج البخاري[10]بسنده إلى ابن عباس- رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية قوله: "هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به".
قال ابن حجر[11] "استدل به على إطلاق لفظ الرؤيا على ما يرى بالعين في اليقظة، وقد أنكره الحريري تبعاً لغيره، وقالوا: إنما يقال: رؤيا في المنام، وأما التي في اليقظة فيقال: رؤية، وممن استعمل الرؤيا في اليقظة المتنبي[12]في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغمض، وهذا التفسير يرد على من خطأه".
وهمزة (الرؤيا) محققة، ومن العرب من يسهل همزتها، فيقول: رويا.
قال الفراء[13]: "إذا تركت الهمزة من الرؤيا قالوا: الرويا: طلباً للهمزة[14]".(/4)
لكن تجتمع واو ساكنة بعدها ياء، والقاعدة فيها: أن تقلب الواو ياء، ثم تدغم الياء في الياء، فتصير ياء مشددة، تقول: رأيت ريَّا، كما تقول: لويته ليّاً، وكويته كيّاً، والأصل فيهما: لوياً وكوياً، وتقلب الضمة على راء (ريا) كسرة؛ لمناسبة الياء المشددة التي بعدها، وجوز بعضهم إبقاء الضمة؛ إشارة إلى الواو المنقلبة[15]، واقتصر الخليل[16] على الكسر فحسب.
قال الفراء[17]: "فإذا كان من شأنهم تحويل الهمزة قالوا: لا تقصص ريَّاك، في الكلام، وأما في القرآن فلا يجوز؛ لمخالفة الكتاب..".
وزعم الكسائي[18] أنه سمع أعرابياً يقرأ: إن كنتم للريَّا تعبرون".
واختلفوا في جمع (رؤيا): فذهب الجمهور إلى أنها تجمع على: رؤى.
قال ابن منظور[19]: "وجمع الرؤيا: رؤىً، بالتنوين، مثل: رُعى".
وقال أيضاً[20]: "رأيت عنك رؤى حسنة: حَلَمتها، وأرأى الرجل إذا كثرت رؤاه، بوزن: رعاه، وهي أحلامه، جمع: الرؤيا".
وقال الخليل[21] لا تجمع (الرؤيا)، ونقله ابن منظور[22]من غيره.
ثانياً: حقيقة الرؤيا:
تناول العلماء قديماً وحديثاً- على اختلاف تخصصاتهم واهتماماتهم- قضية الرؤى والأحلام بالبحث والدراسة، في محاولات دائبة للوقوف على طبيعتها، ودراسة أسبابها.
وسأذكر هنا أشهر النظريات والدراسات حول الرؤى والأحلام عند الفلاسفة وعلماء النفس والأطباء، ثم أعلق عليها بكلمات يسيرة، مظهراً من خلالها الصواب الذي يمكن قبوله، والخطأ الذي ينبغي أن يحذر منه، فأقول:
اشتملت آراء الفلاسفة وعلماء النفس والأطباء- قديماً وحديثاً- حول طبيعة الرؤى والأحلام وأسبابها، على أربعة تفسيرات رئيسية:
أولاً: الأحلام ناتجة عن مؤثرات جسمية.
فقد ذهب جالينوس[23]إلى أن الأحلام تتعلق بالحالة الصحية للإنسان[24]
وذهب أرسطو[25]إلى أنها عبارة عن تأثيرات عقلية ناجمة عن أسباب جسمية[26](/5)
ونسب جمهور الأطباء قديماً جميع الرؤى إلى الأخلاط، فقالوا: من غلب عليه البلغم رأى السباحة في الماء، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو، وهكذا يصنعون في بقية الأخلاط[27].
وأثبت الأطباء حديثاً أن الرؤى تنجم عن إثارات جسمانية وحسية، تأتي إلى النائم من العالم الخارجي ومن أعضائه الداخلية على حد سواء[28].
فأثبتوا قسماً من الرؤى بسبب تأثيرات الأعضاء الداخلية في الجسم.
فهذه الأقوال وما في معناها في دلالاتها على أن الرؤى والأحلام تعود لأسباب داخلية في جسم الرائي يمكن قبولها مع ملاحظة أمرين:
الأول: عدم تعميم هذا في كل الرؤى؛ إذ ليست جميع الرؤى من هذا القبيل، بل يقال: إن نوعاً من الرؤى يرجع لأسباب داخلية في جسم الإنسان، وهناك أنواع من الرؤى لها أسباب أخرى.
الثاني: عدم إضافة الرؤى التي من هذا القبيل إلى المؤثرات الجسمية، بمعنى أن يعتقد أن تلك المؤثرات صنعت تلك الرؤى، فهذا مما يخالف الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الخالق لكل شيء، والصحيح أنها مجرد أسباب خلق الله عندها هذا النوع من الرؤى.
قال المازري[29]: "وهذا مذهب وإن جوزه العقل، وأمكن عندنا أن يجري الباري جلت قدرته العادة بأن يخلق مثلما قالوه عند غلبة هذه الأخلاط، فإنه لم يقم عليه دليل ولا اطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط وجهالة، هذا لو نسبوا ذلك إلى الأخلاط على جهة الاعتياد، وأما إن أضافوا الفعل إليها، فإنا نقطع بخطئهم، ولا نجوز ما قالوه؛ إذ لا فاعل إلا الله سبحانه".
ثانياً: الأحلام ناتجة عن مؤثرات خارجية.
يعتقد ديموقريطس[30] أن الأحلام تتعلق بأشياء تدور في الفضاء، وعند محاذاتها لنفس النائم فإنها تهاجمها وتنتقش فيها[31].(/6)
وهذا القول فيه خلط ظاهر، وقد عده المازري فاسداً وتحكماً بما لم يقم عليه برهان، وأضاف قائلاً[32] "الانتقاش من صفات الأجسام، وكثيراً ما يجري في [المنام[33] الأعراض، والأعراض لا تنتقش ولا ينتقش فيها".
ثالثاً: الأحلام ناتجة عن تخيلات باطلة.
جاء في "المعجم الفلسفي[34]: "الرؤيا خيال باطل عند جمهور المتكلمين؛ إذ الغالب منه أضغاث أحلام، ولفقد شرائط الإدراك عند النوم، فالنوم ضد الإدراك فلا يجامعه، فلا تكون الرؤيا إدراكاً حقيقة، بل من قبيل الخيال الباطل".
قلت: لا ينكر عاقل أن من الرؤى ما هو من قبيل الأضغاث المختلطة التي لا تعبير لها ولا مدلول، وسيأتي ما يدل على هذا من النصوص الشرعية، لكن الذي يؤخذ على هذا القول هو التعميم والاعتقاد بأن كل الرؤى من هذا القبيل.
ثم إننا نحن المسلمين لا نوافق على الفلاسفة: (النوم ضد الإدراك فلا يجامعه)، بل نثبت إدراكاً خاصاً للنائم، تفاوت فيه الناس؛ فقد ثبت أن رؤى الأنبياء وحي من الله تعالى، ورؤى الصالحين جزء من أجزاء النبوة، وهذا الجزء متفاوت من شخص لآخر، كما سيتضح من خلال هذا البحث، مما يدل على أن في النوم إدراكاً خاصاً لا يصح نفيه.
رابعاً: الأحلام ناتجة عن مؤثرات نفسية.
عرف علماء النفس الأحام بأنها: (سلسلة ظواهر نفسية تحدث أثناء النوم، ويجري تذكرها نسبياً بعد اليقظة)[35].
ويرى فرويد[36] زعيم مدرسة التحليل النفسي أن الأحلام ظاهرة تكشف عن صراعات جنسية أو عداونية يعانيها الحالم، أو أنها تعبير عن رغبات قديمة مكبوتة، فيرمي الحلم إلى إشباع هذه الرغبة بطريقة رمزية، ويمكن بتأويل رموز الحلم عن طريق التداعي الحر، الكشف عن المضمون الكامن، أي: عن مكبوتات اللاشعور من عقد وصراعات[37].
وقد دلت أبحاث الأطباء العلمية الحديثة على أن هناك نوعين من الأحلام:
1- أحلام ذات علاقة مباشرة بالحياة، ويقولون: إن هذا النوع من نتائج أفعال ونشاط القشرة المخية في مقدمة الدماغ.(/7)
2- أحلام صادرة عن رغبات وأفكار مكبوتة في اللاشعور، وهذا النوع نتيجة نشاط في الجزء الخلفي من المخ[38]
والنوع الثاني عند الأطباء هو الذي ذكرناه عن (فرويد) قبل قليل، ولا يشك عاقل في أن نوعاً من الأحلام يكون تعبيراً عن رغبة مشتهاة أو تنفيساً عن كبت داخلي، لكن يبقى التساؤل عن جملة كبيرة من الأحلام التي لا يمكن تفسيرها بناء على هذه النظرية، وبخاصة تلك الرؤى التي تتنبأ بالمستقبل القريب أو البعيد، مما لا مجال للتردد في وجوده، فهو واقع في منامات الناس فعلاً، قديماً وحديثاً.
وقد قسم قدامى الفلاسفة الرؤى والأحلام إلى طبقتين، الأولى: أحلام تأثرت بالحاضر أو الماضي، ولكنها خالية من الدلالة على المستقبل، والثانية: أحلام تحدد المستقبل، وتشمل النبوءة المباشرة التي يسمعها المرء في الحلم، فتكون الرؤيا سابقة إلى حدث في المستقبل[39]
فالطبقة الثانية- أعني: الأحلام المستقبلية التنبؤية- لا يمكن أن تفسر إلا على أساس الاعتراف بصلة ما خفية بين الروح وعالم الغيب، مما يجعل نظرية (فرويد) قاصرة، لا تصدق على جميع أنواع الرؤى والأحلام.
وقال سيد قطب[40] بعد أن أثار تساؤلات عن طبيعة الرؤيا: "تقول مدرسة التحليل النفسي: إنها صور من الرغبات المكبوتة، تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي - قال - وهذا يمثل جانباً من الأحام، ولكنه لا يمثلها كلها".
وبعد، فهذه أبرز النظريات والآراء حول طبيعة الرؤى والأحلام، صدق بعضها على جملة من الأحلام، واشتمل بعضها الآخر على خلط وفساد - كما رأينا - ويرجع هذا للأسباب الآتية:(/8)
1- أن كل فئة ناقشت هذه القضية باللغة التي تحسنها، وتعاملت معها بالأدوات التي تمتلكها، فالفلاسفة تكلموا فيها بمنطق فلسفي، وعلماء النفس على أنها ظاهرة نفسية، والأطباء على أنها مشكلة متعلقة بجسم الإنسان، وأخضع كل فريق جميع ما يراه الناس في أحلامهم إلى ما توصل إليه من دراسات ونظريات تحكماً وتمحلاً، وهذا واضح جلي من خلال ما ذكروه.
وفات الجميع أن الرؤى والأحام تتعلق بعالم خاص، هو عالم الروح، يدرك الإنسان بعض آثاره، ويجهل إلى اليوم كثيراً من أسراره.
2- أن كلاً ممن تقدم أدلى بدلوه في هذا القضية بقدر ما لديه من معارف وخبرات وتجارب، لذا جاءت التفسيرات متفاوته، وفوق كل ذي علم عليم.
3- أن الاعتماد في كل النظريات والأقوال السابقة على التجارب المادية والعقل المحض، والرؤى والأحام من القضايا الروحية، التي لا تخضع للتجارب المادية، كما أن تحكيم العقل فيها إعمال له في ما هو أوسع من نطاقه.
فالواجب على العاقل- كي لا يضل الطريق- أن يهتدي في مثل هذه القضايا بما جاء عن الخالق العظيم الذي خلق الروح، وأناط بها الرؤى، وتركها سراً خفياً {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}[41]
الرؤى والأحلام عند المسلمين:
عمدة علماء المسلمين في هذا الباب: خبر الله تعالى، وخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، ولذلك جاء كلامهم في غاية الكمال والشمولية.
ولو توقفنا لنقارن بين ما جاء في الآيات والأحاديث حول الرؤى والأحلام، وبين أقوال الفلاسفة والأطباء وعلماء النفس من خلال دراساتهم ونظرياتهم وأبحاثهم، لوجدنا أن ما توصلوا إليه واكتشفوه بعد زمن طويل ولأي شيء وجهد متواصل، يعد نوعاً من أنواع الرؤى والأحلام، وقد فاتتهم بقية الأنواع التي نص عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة.(/9)
إن المسلم عنده الأدلة الشرعية الكافية للتصديق بالأحلام النفسية قبل أن يكتشفها علماء النفس، بل قبل ظهور علم النفس كله.
كما أن عنده الأدلة للتصديق بالرؤى التنبؤية، فالقرآن الكريم ذكر رؤيا يوسف عليه السلام، ورؤيا عزيز مصر، ورؤيا صاحبي السجن، وذكر غيرها من هذا القبيل، فهو يؤمن بها، ولا يضيره بعد ذلك عدم اعتراف علماء النفس بها.
وقد جاءت السنة الشريفة بتقسيم شامل كامل للرؤى والأحلام، بما لا يدع بعدها قولاً لأحد:
فقد أخرج الشيخان[42]من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه.. )) الحديث[43].
وفي رواية للترمذي[44]: ((الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان....)).
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وأخرج ابن ماجة[45] من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)).
قال[46]: قلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال البوصيري[47]: "هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات".
قلت: دل الحديثان السابقان على أن الرؤى والأحلام ثلاثة أنواع:
الأول: الرؤيا الصالحة: وهي الرؤيا الحق، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
الثاني: الحلم النفسي: نص عليه حديث أبي هريرة بلفظ: ((ورؤيا مما يحدث المرء نفسه))، وحديث عوف بن مالك بلفظ: ((ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه))، بيد أن الرواية الأولى أعم وأشمل من الثانية؛ لأن حديث النفس يشمل الهم وغيره.(/10)
والمراد هنا: جميع الأحلام الناشئة عن أمور نفسية، فمن أراد أمراً ما، أو تمناه، أو هم به، أو عزم على فعله، أو انشغل فكره بما له تعلق بمزاجه أو عادته المستمرة، وما إلى ذلك، فقد حدث به نفسه، فإذا رأى ذلك الأمر في منامه، فإن رؤياه من قبيل الأحلام النفسية.
الثالث: الحلم الشيطاني: نص عليه حديث أبي هريرة بلفظ: ((ورؤيا تحزين من الشيطان))، وحديث عوف بن مالك بلفظ: ((أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم)).
فالرؤيا التي اشتملت على الأهوال والشدائد والمناظر المفزعة، فأثارت عند رائيها الخوف، وأدخلت على قلبه الحزن، فإنها من قبيل الأحلام الشيطانية.
ولا يعني هذا أن كل حلم بدت آثاره على رائيه كذلك يكون من قبيل الأحلام الشيطانية، فقد تقع تلك الأحلام بسبب داخلي عند الحالم، إن كان يعاني من مشاكل أو اضطرابات نفسية أو جسمية، فتكون حينئذة من قبيل الأحلام النفسية.
ومن الأحلام الشيطانية: الاحتلام، نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية[48]
قلت: وهذا ليس على إطلاقه، فالمؤثرات النفسية قد تكون أحياناً سبباً في الاحتلام، كما لا يخفى، فيكون حينئذ من قبيل الأحلام النفسية أيضاً، والله أعلم.
ونسبة بعض الرؤى إلى الشيطان (حلم شيطاني) نسبة مجازية لا حقيقة، فخالق الرؤى والأحام جميعها هو الله سبحانه وتعالى: هذا مما لا يشك فيه مسلم.
قال المازري[49]: "يخلق الله تعالى الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علماً على ما يسر بحضرة الملك أو بغير حضرة الشيطان، ويخلق ضدها مما هو علم على ما يضر بحضرة الشيطان، فتنسب غليه مجازاً واتساعاً، وهذا المعني بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان))[50] ، لا على أن الشيطان يفعل شيئاً في غيره، وتكون الرؤيا اسماً يحب، والحلم لا يكره" انتهى.
تلك هي أنواع الرؤى والأحلام كما دلت عليها السنة الشريفة.(/11)
قال أبو عبدالله القرطبي[51]: "قد قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا أقساماً تغني عن قول كل قائل"، ثم ساق حديث عوف بن مالك المتقدم.
وقال أبو بكر ابن العربي[52]: " - أما - تقسيمه - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا على ثلاثة أقسام، فهي قسمة صحيحة مستوفية للمعاني" انتهى.
لكن الحافظ ابن حجر قال[53] "ليس الحصر مراداً من قوله "ثلاث"، لثبوت نوع رابع في حديث أبي هريرة في الباب، وهو: حديث النفس".
قلت: حديث أبي هريرة المشار إليه تقدم قريباً[54] وقد فرق ابن حجر في كلامه هذا بين: حديث النفس، وبين ما يهم الرجل في يقظته فيراه في منامه، وقد تقدم معناهما[55] وأن المراد منهما جميع الأحلام النفسية، هكذا فهم القرطبي وابن العربي وغيرهما، فلا داعي لهذا التنويع، والله أعلم.
ثم قال ابن حجر[56] "وبقي نوع خامس، وهو: تلاعب الشيطان".
واستدل له بحديث جابر بن عبد الله عند مسلم[57] قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن راسي ضرب فتدحرج، فاشتددت على أثره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- للأعرابي: ((لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك)).
وقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- بعد يخطب فقال: ((لا يحدثن أحدكم بتلعب الشيطان به في منامه)).
قلت: تلاعب الشيطان الوارد في هذا الحديث واضح أنه من الأحلام الشيطانية، وليس نوعاً زائداً كما قال الحافظ، وتقدم في حديث أبي هريرة: ((ورؤيا تحزين من الشيطان))، وفي حديث عوف بن مالك: ((أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم)).
فالأحلام الشيطانية إذا تشتمل على الأهوال؛ لإدخال الخوف والرعب والهلع على قلب رائيها، وما رآه الأعرابي أهاويل أحزنته وأفزعته، ولولا شدة هلعه مما رأى لما حدث به النبي - صلى الله عليه وسلم -.(/12)
ثم قال ابن حجر[58]: "ونوع سادس وهو: رؤيا ما يعتاد الرائي في اليقظة، كمن كانت عادته أن يأكل في وقت، فنام فرأى أنه يأكل، أو بات طافحاً من أكل أو شرب، فرأى أنه يتقيأ".
قلت: رؤيا ما يعتاده الرائي في اليقظة من الأحلام النفسية وقد تقدمت، وهي أخص منها فتندرج تحتها، ولا حاجة لإفرادها بنوع خاص، على أن الحافظ نفسه لم يأت بدليل على هذا النوع، وقد قال عقب ذلك: "وبينه وبين حديث النفس عموم وخصوص"!.
ثم قال ابن حجر[59]: "وسابع وهو الأضغاث" ولم يوضحه هنا بتعريف ولا مثال!
والأضغاث في اللغة: الأخلاط، قال القرطبي[60]: "واحد الأضغاث: ضغث، يقال: لكل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما: ضغث" انتهى.
وقال الأصفهاني[61]: "وبه شبه الأحلام المختلطة التي لا يتبين حقائقها {قالوا أضغاث أحلام}[62] أي: حزم أخلاط من الأحلام".
وبناء على هذا، فالأضعاث ليست نوعاً زائداً على الأقسام الثلاثة المذكورة في السنة المطهرة، وإنما هي أخلاط من نوعين، هما: الأحلام النفسية، والمرائي الشيطانية، فلا تستحق أن تفرد بنوع خاص.
وقد صرح بهذا الإمام أبو العباس القرطبي[63]فقال: "وقد يجتمع هذان السببان، أعني: هموم النفس، وألقيات الشيطان في منام واحد، فتكون أضغاث أحلام لاختلاطها".
ويرى بعذ الدارسين الاستقرائيين التجريبيين أن الأضغاث إنما تأتي للرائي بأحد سببين: بدني أو نفسي، فإما أن يكون المرء في وضع صحي بدني منحرف، أو مزاج نفسي مضطرب، فينعكس ذلك على صفحة النفس اختلالاً واختلاطاً وبلبلة، وتكون الأحلام أضغاثاً[64]
وبناء على هذا فالأضغاث من الأحلام النفسية فحسب.
ثم إن لابن حجر نفسه كلاماً آخر[65]حول هذه الأنواع، لا يتفق مع كلامه المتقدم، فقد قسم الرؤى هناك إلى قسمين: صادقة، وأضغاث، ثم جعل الأضغاث على أنواع، فارجع إليه إن شئت؛ لتقف على مدى الاختلاف بين كلاميه.(/13)
وتوسع النابلسي[66] في أقسام الرؤى، فذكر للصادقة خمسة أقسام، وللتي بسبب الشيطان سبعة أقسام، وقد أعرضت عن ذكر تلك الأقسام؛ لأن منها: ما يعود إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة الثابتة بالأحاديث الشريفة، ومنها: ما يتوقف القول فيه على دليل، ولم أجده؟.
وبهذا تبقى أقسام الرؤى ثلاثة، وهي التي نص عليها حديث أبي هريرة وحديث عوف بن مالك المتقدمين.
وقد وردت روايات متعددة تدل على أن القسم الأول - أعني: الرؤى الصالحة التي هي بشرى من الله تعالى - جزء من أجزاء النبوة، لكن هذه الروايات اختلفت فيما بينها حول تحديد جزء النبوة قلة وكثرة، كما أن فيها إشكالاً في نسبة جزء من النبوة إلى غير الأنبياء.
فقمت من خلال هذه الدراسة بجمع الروايات الواردة في الباب، وتخريجها، ودراستها، والتعليق عليها، وشرحها، وتوضيح ما أشكل من معناها، وهذا أوان الشروع في أول مباحثها:
المبحث الأول
روايات الحديث
إن الروايات الواردة في هذا الباب متفاوتة من حيث القوة والضعف، فقد بلغ بعضها أعلى درجات الصحة، وكان بعضها في أدنى درجات الضعف، وسأعرض في هذا المبحث تلك الروايات بأسانيدها ومتونها.
أما ما يتعلق بالأسانيد: فإني أسوق طرق الأحاديث، ثم أوضح درجتها، مع النص على مكمن الضعف وبيان العلة في السند الضعيف دون إسهاب، معتمداً على أقوال أئمة الجرح والتعديل في الرجال، ومستأنساً بأحكام الأئمة المتقدمين على تلك الأحاديث.
وكل حديث في الصحيحين أو أحدهما فهو دليل على صحته ولن أكثر الكلام عنه.
وأما ما يتعلق بالمتون: فقد اعتمدت في ذكرها على لفظ الرواية الأقدم.
وإذا اشتمل المتن على جمل أخرى غير الجملة التي أقوم بدراستها، فسأقتصر على موطن الشاهد منه؛ خشية الإطالة.
وقد قسمت هذه الروايات إلى مطلبين: الأول للروايات الواردة بأسانيد صحيحة، والثاني: للروايات الواردة بأسانيد ضعيفة، أو بدون إسناد أصلاً.(/14)
وبلغ مجموع الأحاديث الواردة في الباب ثمانية عشر حديثاً، مما جعلني أعقد مطلباً ثالثاً لمناقشة مسألة تواتر هذا الحديث.
ورقمت الأحاديث المذكورة برقم تسلسلي، وجعلت هذا الرقم هو المعتمد عند الإحالة إلى هذه الأحاديث.
المطلب الأول: الروايات الصحيحة
الأولى: رواية ستة وأربعين
قال المازري[67]: "الأكثر والأصح عند أهل الحديث: من ستة وأربعين".
قلت: وردت هذه الرواية من حديث أنس بن مالك، وعبادة بن الصامت، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وعوف بن مالك، وعبدالله بن عباس، وأبي رزين العقيلي[68]، ورواها عطاء بن يسار مرسلة:
1- حديث أنس: رواه عنه: إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، وثابت ابن أسلم البناتي، وحميد بن أبي حميد الطويل.
طريق إسحاق: أخرجها مالك[69]، عنه، ولفظه: ((الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)).
وأخرجها من طريق مالك: الشافعي[70]، وأحمد[71]، والبخاري[72]، والنسائي[73]، وابن
ماجة[74] والطحاوي[75] وابن حبان[76] والبغوي[77] وابن عساكر[78] والبرزالي[79]
طريق ثابت البناني: أخرجها أحمد[80]عن عفان.
والبخاري[81]عن معلى بن أسد.
والترمذي[82]عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، حدثنا معلى بن أسد.
وأبو يعلى[83]عن إبراهيم بن الحجاج السامي.
قال ثلاثتهم: حدثنا عبد العزيز بن المختار.
وأخرجها مسلم[84]عن عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة.
كلاهما قال: حدثنا ثابت.
وأخرجها أبو نعيم[85] عن أبي بكر بن خلاد، حدثنا الحارث بن أبي أسامة.
والبغوي[86] عن أحمد بن عبدالله الصالحي، أخبرنا أبو عمر بكر بن محمد المزني، حدثنا أبو بكر محمد بن عبدالله حفيد العباس بن حمزة، حدثنا أبو علي الحسين بن الفضل البجلي.
كلاهما قال: حثدنا عفان.
وخولف أحمد، والحارث، والحسين بن الفضل.
فرواه الحسن بن المثنى، عن عفان، بلفظ: ((من ستة وعشرين)).(/15)
أخرجه ابن عبدالبر[87] عن عبدالله بن محمد بن أنس، حدثنا بكر بن محمد بن العلاء، حدثنا الحسن بن المثنى بن دجانة، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا عبدالعزيز بن المختار، حدثنا ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... ورؤيا المؤمن جزء من ستة وعشرين جزءاً من النبوة)).
قال ابن عبدالبر عقب هذه الرواية: "هكذا في حديث أنس هذا، وهو حسن الإسناد" انتهى.
قلت: فيه (الحسن بن المثني بن دجانة) كذا في المطبوع، ولم أقف له على ترجمة بعد طول بحث، لكن في الرجال من اسمه: (الحسن بن المثنى بن معاذ) من نبلاء الثقات[88] يروي عن (عفان بن مسلم)، فهل يكون هو، وتكون (دجانة) محرفة عن (معاذ)؟ وإلا فهو مجهول.
ومع تقدير أنه هو، فروايته هذه مخالفة لرواية غير واحد من الثقات الذين رووه بلفظ "من ستة وأربعين"، فتكون رواية شاذة، ورواية جماعة الثقات هي المحفوظة، والله أعلم.
وأورد ابن حجر[89]رواية "من ستة وعشرين" ثم قال: "المحفوظ من هذا الوجه كالجادة"، وهذا واضح في الحكم على الرواية المذكورة بالشذوذ.
طريق حميد الطويل: أخرجها ابن أبي شيبة[90]عن العقيلي، عن حميد، وأوقف الحديث.
وأخرجها أحمد[91]عن ابن أبي عدي.
وأبو يعلى[92]عن محمد بن المنهال، حدثنا يزيد. وعن وهب بن بقية، أخبرنا خالد.
ثلاثتهم عن حميد.
قلت: هذا حديث صحيح، أخرجه الشيخان من طريق ثابت، والبخاري دون مسلم من طريق إسحاق.
وقال البغوي[93]بعد إخراجه للطريق الأولى: "هذا حديث صحيح".
وزعم بعضهم[94]أن الطريق الثالثة، وهي طريق (حميد الطويل عن أنس) ضعيفة، واحتج لهذا بأن حميداً كثير التدليس وقد عنعن، وهذا ليس بصواب، فقد نقل العلائي[95] عن مؤمل بن إسماعيل قوله: "عامة ما يرويه حميد عن أنس، سمعه من ثابت - يعني البناني -، عنه.
"وعن أبي عبيدة الحداد، عن شعبة، قوله: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثاً، والباقي سمعها من ثابت، أو ثبته فيها ثابت.(/16)
"قلت - القائل هو العلائي -:فعلى تقدير أن تكون مراسيل، قد تبين الواسطة فيها، وهو ثقة محتج به" انتهى.
ثم إن للحديث طريقاً رابعة:
قال البخاري[96]: "رواه ثابت وحميد وإسحاق ابن عبدالله وشعيب، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" انتهى.
قلت: تقدمت رواية ثابت، وحميد، وإسحاق، وأما رواية شعيب - وهو ابن الحبحاب - وصلهما ابن حجر[97] في كتاب "الروح" لابن منده، من طريق عبدالوارث بن سعيد، وفي الجزء الرابع من "فوائد أبي جعفر محمد بن عمرو الرزاز" من طريق سعيد بن زيد، كلاهما عن شعيب، ولفظه مثل حميد، وأشار الدارقطني إلى أن الطريقين صحيحان.
2- حديث عبادة: روي من طريق شعبة وسعيد بن أبي مريم، كلاهما عن قتادة، عن أنس، عن عبادة.
فطريق شعبة: أخرجها الطيالسي[98] عنه، بلفظ: ((رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)).
ومن طريقه: الترمذي[99]والبيهقي[100]
وقال مسلم[101] حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر وأبو داود. (ح) وحدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي. كلهم عن شعبة.
(ح) وحدثنا عبيد الله بن معاذ- واللفظ له-، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، به.
وأخرجها ابن أبي شيبة[102]قال: حدثنا شبابة بن سوار.
وقال الدارمي[103] أخبرنا الأسود بن عامر.
وقال أحمد[104] حدثنا محمد بن جعفر.
وقال أيضاً[105] حدثنا عبد الرحمن- بن مهدي-.
وقال كذلك[106] حدثنا حجاج.
وقال البخاري[107] حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر.
وقال أبو داود[108] حدثنا محمد بن كثير.
وقال النسائي[109] أخبرنا إسماعيل بن مسعود، حدثنا بشر.
وقال البزار[110]: حدثنا محمد بن المثنى، أخبرنا محمد بن جعفر.
وقال أبو يعلى[111]: حدثنا أحمد، حدثنا شبابة.
وقال الشاشي[112]: حدثنا عيسى بن أحمد وعلي بن سهل بن المغيرة، قالا: حدثنا شبابة.
وقال أيضاً[113]: حدثنا أبو مسلم، حدثنا عمرو بن مرزوق.(/17)
وقال البيهقي[114]: أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي، أخبرنا عبدالله بن محمد بن الحسن الشرقي، حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي.
قال الجميع: حدثنا شعبة.
وطريق سعيد بن أبي مريم: أخرجها أحمد[115] عن روح، عنه.
والطحاوي[116] عن علي بن شيبة، حدثنا روح.
قلت: هذا حديث صحيح، أخرجه الشيحان.
وقال الترمذي[117]: "حديث عبادة حديث صحيح".
3- حديث أبي هريرة: رواه عنه: عبد الرحمن بن هرمز (الأعرج)، وسعيد ابن المسيب، ومحمد بن سيرين، وأبو صالح السمان (ذكوان)، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهمام بن منبه، وسليمان بن عريب.
طريق الأعرج: أخرجها مالك[118] عن أبي الزناد، عنه. ولفظه: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة".
وقال الشافعي[119] أخبرنا مالك، به.
طريق سعيد بن المسيب: أخرجها عبد الرزاق[120] عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب.
ومن طريق عبد الرزاق: أحمد[121]ومسلم[122]والبيهقي[123]
وأخرجها ابن أبي شيبة[124]وأحمد[125] عن عبد الأعلى.
وقال ابن ماجة[126] حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، به.
وأخرجها البخاري[127]قال: حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن ابن المسيب.
طريق محمد بن سيرين: أخرجها عبدالرزاق[128] عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين.
ومن طريقة: أحمد[129]، ومسلم[130]، والحاكم[131]، والبيهقي[132]، والبغوي[133].
وأخرجها أحمد[134] عن يزيد، أخبرنا هشام - بن حسان -.
والبخاري[135] عن عبدالله بن صباح، حدثنا معتمر قال: سمعت عوفاً.
والترمذي[136] عن نصر بن علي، حدثنا عبدالوهاب الثقفي، حدثنا أيوب.
وابن ماجة[137] عن أحمد بن عمرو بن السرح المصري، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا الأوزاعي.
وقال الطبراني[138] حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا إبراهيم بن راشد الأدمي، حدثنا أبو ربيعة، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وحبيب بن الشهيد وهشام بن حسان.(/18)
وقال أيضاً[139] حدثنا أحمد بن خليد الحلبي، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن معمر، عن قتادة وأيوب.
وأخرجها الطحاوي[140]عن علي بن معبد، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ويزيد بن هارون، عن هشام بن حسان.
وابن عبد البر[141]عن عبد الوارث بن سفيان، حدثني قاسم بن أصبغ، حدثني مضر بن محمد المكي، حدثني إبراهيم بن عثمان بن زياد المصيصي، حدثني مخلد ابن حسين، عن هشام بن حسان.
وابن عدي[142]قال: حدثنا علي بن سعيد الرازي، حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا عبد الله بن عيسى، عن يونس.
سبعتهم عن ابن سيرين.
وطريق ابن عدي خاصة ضعيفة، فيها (عبدالله بن عيسى) وهو ابو خلف الخزاز، وقد اختلف عليه في هذا الحديث، فرواه محمد بن عبدالأعلى عنه بلفظ: "ستة وأربعين" كما تقدم، ورواه محمد بن مرادس عنه بلفظ: "أربعين".
أخرجه البزار[143] عن محمد بن مرداس، حدثنا أبو خلف، عن يونس، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رؤيا العبد المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوة".
وهذه رواية ضعيفة منكرة، والآفة فيها من أبي خلف هذا، فقد قال عنه أبو زرعة: منكر الحديث. وقال ابن عدي: يروي عن يونس وداود بن أبي هند ما لا يوافقه عليه الثقات، أحاديثه أفراد كلها. وقال النسائي: ليس بثقة[144]. وقال الهيثمي[145] بعد أن أورد حديثه: "فيه: عبدالله بن عيسى الخزاز، وهو ضعيف".
طريق أبي صالح: أخرجها ابن أبي شيبة[146] وأحمد[147]، قالا: حدثنا عبدالله بن نمير، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح.
وأخرجها مسلم[148] قال: حدثنا إسماعيل بن الخليل، أخبرنا على بن مسهر، عن الأعمش. (ح) وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش.
طريق أبي سلمة: أخرجها أحمد[149] عن عبدالصمد، حدثني أبي، حدثنا حسين.
وأخرجها مسلم[150]عن يحيى بن يحيى، أخبرنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير.(/19)
وأخرجها مسلم[151]أيضاً عن محمد بن المثنى، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا علي (يعني: ابن المبارك). (ح) وحدثنا أحمد بن المنذر، حدثنا عبد الصمد، حدثنا حرب (يعني: ابن شداد).
وأخرجها ابن عدي[152]عن عبيد الله بن جعفر بن أعين، حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير.
أربعتهم عن يحيى بن أبي كثير.
وأخرجها أحمد[153]عن يحيى (يعني: ابن سعيد).
والطحاوي[154]عن ابن أبي داود، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد.
وأخرجها البغوي[155]قال: أخبرنا أبو عبد الله الخرقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري حدثنا أحمد بن علي الكشميهني، حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر.
كلاهما عن محمد بن عمرو.
و (يحيى بن أبي كثير) و(محمد بن عمرو) عن أبي سلمة، به.
طريق همام بن منبه: أخرجها أحمد[156]عن عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه.
وأخرجها مسلم[157] قال:حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبدالرزاق.
قلت: هذا الحديث من طريق سعيد بن المسيب وابن سيرين أخرجه الشيخان، ومن طريق همام بن منبه وأبي سلمة وأبي صالح أخرجه مسلم، ومن طريق عبدالرحمن الأعرج إسناده صحيح، ورجاله أئمة ثقات.
وقال الترمذي[158] بعد إيراده الحديث من طريق ابن سيرين: "هذا حديث حسن صحيح".
وقال الحاكم[159] أيضاً: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقة الذهبي.
وقد وهما، فقد سبق إخراج الشيخين له من عدة طرق.
وأخرجه البغوي[160] من طريق أبي سلمة، وقال: صحيح.
طريق سليمان بن عريب: أخرجها البزار[161] عن إبراهيم بن زياد الصائغ.
والطبراني[162] عن محمد بن عبدالله الحضرمي.
قال: حدثنا علي بن حكيم، حدثنا عمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي.
وأخرجها ابن عبدالبر[163] عن خلف بن قاسم، حدثنا ابن أبي العقب، حدثنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا بن خالد الوهبي[164].(/20)
كلاهما عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن الأعرج، عن سليمان بن عريب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "رؤيا الرجل الصالح بشرى من الله، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة".
قال– أي: سليمان بن عريب-: فحدثت به ابن عباس، فقال: قال العباس بن عبد المطلب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((هي جزء من خمسين جزءاً من النبوة)).
وعند ابن عبد البر قال سليمان فحدثت به ابن عباس فقال: "من خمسين جزءاً من النبوة".
فقلت: إني سمعت أبا هريرة يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: ((جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة))؟.
فقال ابن عباس: سمعت العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((الرؤيا الصالحة من المؤمن جزء من خمسين جزءاً من النبوة)).
وعلقها البخاري[165]قال: قال عبيد بن يعيش، حدثنا يونس بن بكير، أخبرنا ابن إسحاق، به.
وأخرجها الطحاوي[166]قال: حدثنا أبو أمية، حدثنا الخضر بن محمد بن شجاع، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن سليمان بن عريب قال: سمعت أبا هريرة يقول: لابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "رؤيا العبد الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة". فقال ابن عباس: "من خمسين".
فجعل بين محمد بن إسحاق وبين الأعرج: أبا الزناد.
وبإسناد الطحاوي أخرجه أبو يعلى[167] عن عمرو بن محمد الناقد، حدثنا الخضر بن محمد به، ولفظه: قال سليمان بن عريب: سمعت أبا هريرة يقول لابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رؤيا المسلم جزء من أربعين جزءاً من النبوة)).
قال ابن عباس: "من ستين".
فقال أبو هريرة: تسمعني أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: من ستين؟
فقال ابن عباس[168]: وأنا أقول: قال العباس بن عبدالمطلب.(/21)
قال عمرو الناقد: قلت أنا وأصحابنا: فهو عندنا إن شاء الله: العباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قلت: طريق سليمان بن عريب ضعيفة معلومة مضطربة، وذلك ما يأتي:
1- هذه الطريقة مدارها على (محمد بن إسحاق) وهو مدلس[169]، وروايته عند الجميع بالعنعنة.
2- تفردت هذه الطريق بزيادة ليست موجودة في الطرق الأخرى.
3- اختلف فيها على (محمد بن إسحاق):
فرواها أبو مالك الجنبي وأحمد بن خالد الوهبي، عنه عن الأعرج.
ورواها محمد بن سلمة، عنه، عن أبي الزناد، عن الأعرج.
4- حصل اضطراب في متنها، فرواها البزار والطبراني والطحاوي وابن عبدالبر بلفظ: "من ستة وأربعين" عن أبي هريرة، ولفظ: "من خمسين" عن العباس، ورواها أبو يعلى بلفظ: "من أربعين" عن أبي هريرة، ولفظك "من ستين" عن العباس.
وواحدة مما تقدم كافية لرد هذه الرواية المخالفة للروايات الصحيحة المتقدمة.
وعزا ابن حجر[170]هذه الرواية أيضاً: لأحمد، والطبري في "تهذيب الآثار"، ولم أجدها في الأجزاء المطبوعة من "تهذيب الآثار"، ولا في "مسند أحمد"، والله أعلم.
4- حديث أبي سعيد: أخرجه البخاري[171]عن إبراهيم بن حمزة، حدثني ابن أبي حازم والدراوردي، عن يزيد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد- رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)).
وخولف إبراهيم بن خمزة عن الدراوردي خاصة:
قال أبو يعلى[172] حدثنا زهير، حدثنا محمد بن الحسن بن أبي الحسن المدني، حدثنا عبد العزيز بن محمد- الدراوردي-، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الرؤيا الصالحة جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة))، بدل: "من ستة وأربعين".(/22)
وهذه الرواية ساقطة، فيها (محمد بن الحسن بن أبي الحسن)، قال محقق "مسند أبي يعلى" الأستاذ حسين سليم أسد[173] "لم أعرفه، ولكن تابعه عليه إبراهيم بن حمزة عند البخاري" فجعل المخالفة متابعة!، ومحمد بن الحسن هذا هو: (ابن زبالة[174]) قال ابن حجر[175]: "كذبوه" وبهذا يحكم على مخالفته بالنكارة.
5- حديث عوف بن مالك: روي من طريق العلاء بن منصور، وهشام ابن عمار، ومحمد بن المبارك الصوري، والحكم بين موسى السمسار، وأبي مسهر الغساني، ويحي بن حسان.
جميعهم عن يحيى بن حموة، عن يزيد بن عبيدة، عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم، عن عوف بن مالك، مرفوعاً.
طريق العلاء بن منصور: أخرجها ابن أبي شيبة[176] عنه، ولفظه: "الرؤيا على ثلاثة، منها: تخويف من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها: الأمر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ومنها: جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة".
طريق هشام بن عمار: علقها البخاري[177] فقال: قال هشام بن عمار.
وأخرجها ابن ماجة[178] عن هشام، موصولة.
وأخرجها الطبراني[179] عن محمد بن أبي زرعة، وكذلك[180] عن أحمد بن المعلى.
وابن عبدالبر[181] عن خلف بن القاسم، حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد الحلبي القاضي، حدثنا محمد بن جعفر بن يحيى بن رزين بمحص.
قال ثلاثتهم: حدثنا هشام بن عمار[182]
ومن طريق الطبراني في "المعجم الكبير": أخرجها المزي[183]
طريق محمد بن المبارك الصوري: أخرجها الطبراني[184]عن أبي زرعة عبد الرحمن ابن عمرو الدمشقي[185] عنه.
طريق الحكم بن موسى السمسار: أخرجها الطبراني[186]عن إدريس بن عبد الكريم الحداد.
وابن حبان[187]عن أبي يعلى.
وابن عساكر[188]من طريق محمد بن أبان بن السراج، وأبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي، وأبي يعلى.
والمزي[189]من طريق البغوي.
قال جميعهم: حدثنا الحكم بن موسى.(/23)
طريق أبي مسهر الغساني: أخرجها الطبراني[190]عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي. والطحاوي[191]عن ابن أبي داود.
كلاهما قال: حدثنا أبو مسهر.
طريق يحيى بن حسان: أخرجها البزار[192] عن محمد بن مسكين، عنه.
قال البوصيري[193] عقب رواية ابن ماجة: "هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات".
وحسن إسناده ابن حجر[194] أيضاً.
وقال الهيثمي[195]: "رواه البزار، وفيه: يزيد بن أبي يزيد مولى بسر بن أرطاة، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح" انتهى.
وفيه وهم، فـ (يزيد) المذكور في سند الحديث هو: (يزيد بن عبيدة بن أبي المهاجر السكوني الدمشقي) أخرج له أبو داود في (المراسيل) حديثاً[196]، وأخرج له ابن ماجه هذا الحديث، وقال عنه الذهبي[197]: "ثقة"، وابن حجر[198]: "صدوق".
فلا ينزل إسناد هذا الحديث به عن درجة الحسن، وأما متنه فصحيح للشواهد المتقدمة.
و(يزيزد بن أبي يزيد مولى بسر بن أرطاة) الذي ذكره الهيثمي، رجل آخر، معدود في شيوخ (يزيد بن عبيدة) راوي هذا الحديث[199].
ثم إن الحديث ليس من الزوائد، فقد أخرجه ابن ماجه - كما تقدم -، فذكر الهيثمي له في "مجمع الزوائد" وهم أيضاً، والله أعلم.
6- حديث أبي رزين العقيلي: رواه عنه وكيع بن عدس، وعنه يعلى بن عطاء، ورواه عن يعلى: شعبة بن الحجاج، وحماد بن سلمة، وهشيم بن بشير، واختلف على كل منهم على ثلاثة أوجه، وهذا بيان الاختلاف:
أولاً: شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين، روي على ثلاثة أوجه:
الأول: بلفظ "أربعين":
أخرجه أبو داود الطيالسي[200]قال: حدثنا شعبة.
ومن طريقه: الترمذي[201]والخطيب البغدادي[202]
وأخرجه ابن حبان[203]عن عمر بن محمد الهمداني، حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا خالد بن الحارث.
والطبراني[204]قال: حدثنا عبيد بن غنام، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا غندر. كلاهما عن شعبة.
وقال البخاري[205] قال لنا آدم، حدثنا شعبة.
الثاني: بلفظ "ستة وأربعين":(/24)
أخرجه الترمذي[206]عن الحسن بن علي الخلال، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا شعبة. الثالث: بلفظ "أربعين أو ستة وأربعين":
أخرجه أبو القاسم البغوي[207]: حدثنا علي (بن الجعد)، أخبرنا شعبة.
وقال أبو محمد البغوي[208]: أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبدالرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي.
ومن طريقه: أخرجه الذهبي[209].
وقال الطبراني[210]: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة وهشيم، عن يعلى بن عطاء.
فأبو داود الطيالسي، وخالد بن الحارث، ومحمد بن جعفر (غندر)، وآدم بن أبي إياس، رووه جميعاً عن شعبة بلفظ "أربعين". ويزيد بن هارون رواه عنه بلفظ "ستة وأربعين". وعلى بن الجعد رواه عنه بلفظ: "أربعين أو ستة وأربعين"، وكل هؤلاء أئمة ثقات، لكن يترجح اللفظ الأول؛ لأن رواته الأكثر عدداً فهو المحفوظ، واللفظ الثاني شاذ، واللفظ الثالث لم يحفظه راوية فراوه بالشك.
ثانياً: حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين، روي على ثلاثة أوجه أيضاً.
الأول: بلفظ "أربعين":
أخرجه ابن عبدالبر[211] عن عبدالله [بن محمد بن أسد]، حدثنا بكر [محمد بن العلاء]، حدثنا الحسن بن المثنى، حدثنا عفان، حدثنا حماد، به.
وعلقه البخاري[212]فقال: قال حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة.
الوجه الثاني: بلفظ "ستة وأربعين":
أخرجه الطبراني[213]عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، حدثنا حماد بن سلمة.
الوجه الثالث: بلفظ "سبعين":
أخرجه ابن حبان[214]عن أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، حدثنا حماد بن سلمة.(/25)
قلت: روى عفان وحجاج عن حماد لفظ "أربعين" وهما ثقتان، واختلف على إبراهيم بن الحجاج عن حماد، فرواه عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل بلفظ "ستة وأربعين"، ورواه عنه أحمد بن علي بن المثنى بلفظ "سبعين"، وهذا الاختلاف يقدح في الرواية، وبخاصة أن (إبراهيم بن الحجاج) قال عنه ابن حجر[215] "ثقة يهم قليلاً"، فإن سُلِّم له هذا الحكم، فلعل هذا مما وهم فيه، وتظل الرواية الأولى هي المحفوظة من طريق حماد، والله أعلم.
ثالثاً: هُشيم بن بَشير، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين، روي على ثلاثة أوجه كذلك:
الأول: بلفظ "أربعين":
علقه البخاري[216] بقوله: قال أحمد بن أسد، حدثنا هُشيم، به.
الوجه الثاني: بلفظ "ستة وأربعين": أخرجه ابن أبي شيبة[217] وأحمد[218] عن هشيم.
وأخرجه من طريق ابن أبي شيبة: ابن ماجه[219] والطبراني[220].
وأخرجه ابن حبان[221] عن محمد بن عبدالله بن الجنيد، حدثنا قتيبة بن سعيد. والبغوي[222] من طريق يحيى بن يحيى.
وابن عساكر[223] من طريق زياد بن أيوب.
قال الأول والثالث: حدثنا، وقال الثاني: أخبرنا هشيم.
الوجه الثالث: بلفظ " أربعين أو ستة وأربعين":
أخرجه الطبراني[224] قال:حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة وهشيم.
قلت: رواية "أربعين" من طريق أحمد بن أسد، ورواية "أربعين أو ستة وأربعين" من طريق علي بن الجعد، ورواية "ستة وأربعين" من طريق ابن أبي شيبة، وأحمد، وقتيبة بن سعيد، ويحيى بن يحيى، وزياد بن أيوب، فلفظ هؤلاء هو المحفوظ من طريق هشيم، واللفظان الآخران شاذان، والله أعلم.
فترجح من طريق شعبة وحماد لفظ "اربعين"، ومن طريق هشيم لفظ "ستة وأربعين"، والثلاثة أئمة ثقات، وهشيم وإن كان كثير التدليس إلا أنه صرح بالسماع
عند أحمد وابن حبان، بيد أن سماعه من يعلى بن عطاء في الصغر، قال الدوري[225] "سمعت يحيى يقول: قد سمع هشيم من يعلى بن عطاء وكان صغيراً جداً".(/26)
قلت: فلعل مخالفته لشعبه وحماد بسبب ذلك، ومع هذا لا تطرح رواية "من ستة وأربعين" للشواهد الكثيرة المتقدمة التي تعضدها وتقويها.
ثم إن مدار الحديث على (وكيع بن عدس): لم يرو عنه غير يعلى بن عطاء، وقال ابن قتيبة والذهبي[226] لا يعرف.
وذكره ابن حبان في "الثقات[227].
وقال ابن حجر[228] "مقبول".
وقال الترمذي[229]عن حديثه: "حسن صحيح".
وقال الحاكم[230] "هذا حديث صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي.
وفيه تساهل؛ إذ لا يحكم على إسناد فيه (وكيع)- وحاله كما تقدم- بالصحة، نعم حديثه كشاهد لا بأس به، وقد حسَّن سنده الحافظ ابن حجر[231]
7- حديث عبد الله بن عباس: رواه عنه عكرمة، واختلف عليه:
فرواه عمر بن سعيد بن أبي حسين عنه بلفظ: "ستة وأربعين".
أخرجه أبو يعلى[232] عن سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي قال: حدثني أبي، حدثنا ابن جريج، عن عمر ابن أبي حسين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرؤيا الصالحة جزء - أحسبه قال – من ستة وأربعين جزءاً من النبوة".
وأخرجه الطبراني[233] عن محمد بن الحسين بن مكرم، حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي[234] به، ولفظه: ((رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)).
ورواه سماك بن حرب عنه عكرمة بلفظ "سبعين".
أخرجه أحمد[235] عن يحيى بن آدم وخلف بن الوليد.
وقال أبو يعلى[236]: حدثنا زهير، حدثنا حسين بن محمد.
وقال الطحاوي[237]: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي، حدثنا أسد بن موسى.
وقال الطبراني[238]: حدثنا بشر بن موسى، حدثنا خلف بن الوليد.
وقال ابن عبدالبر[239]: حدثنا سعيد بن نصر وعبدالوارث بن سفيان، قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا أبو بكر، حدثنا أسود بن عامر.(/27)
قال جميعهم: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي الله عنهما-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة))، وعند ابن عبد البر: "رؤيا المسلم...".
قال الهيثمي[240]في كل منهما: "رجاله رجال الصحيح".
قلت: رواية "ستة وأربعين" رواها (عمر بن سعيد بن أبي حسين) وهو متفق على توثيقه[241] ورواية "سبعين" رواها (سماك بن حرب) وقد ضعفه جماعة، وقواه آخرون، وقدح غير واحد في روايته عن عكرمة خاصة- وحديثه هذا عن عكرمة- فقال ابن المديني: "روايته عن عكرمة مضطربة"، وقال يعقوب بن شيبة "هو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين[242]
وقال ابن حجر[243] "صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بأخرة، فكان ربما تلقن"، ومع هذا فقد جود نفسه هذا الإسناد[244].
وهو غير مسلم، فالرواية شاذة، والرواية الأولى هي المحفوظة على ضعف في سندها أيضاً، ففيها (ابن جريج) وهو (عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج) قال ابن حجر[245] "ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل" انتهى، وقد عنعن عند أبي يعلى والطبراني، لكن شواهد الباب تعضد الحديث وتقويه
8- مرسل عطاء: أخرجه مالك[246] عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لن يبقى بعدي من النبوة إلى المبشرات))، فقالوا وما المبشرات يا رسول الله؟
قال: ((الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له، جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)).
هذا حديث مرسل، سنده صحيح، وتشهد له الأحاديث المتقدمة.
الرواية الثانية: رواية السبعين
وردت من حديث عبدالله بن عمر، وعبدالله بن مسعود، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وأبي سعيد، وابن عباس، وأبي رزين.(/28)
9- حديث عبدالله بن عمر: روي عن طريق عبيد الله بن عمر العمري، وشعيب بن أبي حمزة الحمصي، والضحاك بن عثمان، وعبدالله بن عامر الأسلمي، والليث بن سعد، والمعلى بن إسماعيل، وعبدالعزيز بن أبي رواد، جميعهم عن نافع، عن ابن عمر.
طريق عبيد الله بن عمر: أخرجها ابن أبي شيبة[247] عن عبدالله بن نمير وأبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، به. ولفظه: ((الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة)).
وأخرجها أحمد[248] عن يحيى.
وأخرجها أيضاً[249] عن سليمان بن داود الهاشمي، أخبرنا سعيد بن عبدالرحمن.
وقال مسلم[250] حدثناه ابن المثنى وعبيد الله بن سعيد، قالا: حدثنا يحيى.
وقال مسلم[251]أيضاً: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة. (ح) وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي.
وأخرجها النسائي[252]عن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا محمد بن بشر.
وابن ماجة[253]عن علي بن محمد، حدثنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير.
والطحاوي[254]عن محمد بن عمرو بن يونس، عن عبد الله بن نمير.
والبيهقي[255]عن أبي عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا ابن نمير، عن أبيه عبد الله بن نمير.
وابن عبد البر[256]عن سعيد بن نصر، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا ابن وضاح، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة.
خمستهم عن عبيد الله بن عمرو.
طريق شعيب: أخرجها أحمد[257]عن أبي اليمان، أخبرني شعيب.
طريق الضحاك: أخرجها مسلم[258]عن ابن رافع، حدثنا ابن أبي فديك، أخبرنا الضحاك. طريق عبدالله بن عامر: أخرجها ابن عدي[259] عن القاسم بن مهدي، حدثنا يعقوب بن كاسب، حدثنا ابن أبي حازم، عن عبدالله بن عامر الأسلمي.
وعزاه الهيثمي[260] إلى الطبراني في "الأوسط" ولم أجده فيه! والحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن - كما تقدم - فإدخاله في الزوائد وهم، إلا أن يقال: يدخل فيها للزيادة التي اشتملت عليها رواية أحمد، والله أعلم.(/29)
طريق الليث: أخرجها أحمد[261] قال: حدثنا هاشم. ومسلم[262] قال: وحدثناه قتيبة وابن رمح. ثلاثتهم عن الليث بن سعد.
طريق المعلى: أخرجها الطبراني[263] قال: حدثنا واثلة بن الحسن، حدثنا كثير ابن عبيد. (ح) وحدثنا يحيى بن عبدالباقي المصيصي، حدثنا يحيى بن عثمان الحمصي. قالا: حدثنا شريح بن يزيد، حدثنا أرطاة بن المنذر، عن المعلى بن إسماعيل.
قلت: هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وغيره من طريق عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال ابن عبدالبر[264]: "هذا حديث صحيح الإسناد، لا يختلف في صحته".
طريق عبدالعزيز بن أبي رواد: يرويها عنه محمد بن عبدالله بن الزبير أبو أحمد الزبيري، وعنه أحمد بن حنبل[265].
وخالف أحمد بن الوليد أبو بكر الفحام، فروى الحديث عن الزبيري بالإسناد المذكور، بلفظ: "خمسة وعشرين"، أخرجه الخطيب[266]عن علي وعبد الملك ابني محمد ابن عبد الله ابن بشران، قالا: أخبرنا حمزة بن محمد بن العباس، حدثنا أحمد بن الوليد حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: "الرؤيا الصالحة جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة".
و (أحمد بن الوليد) قال عنه الخطيب[267] "كان ثقة"، إلا أن مخالفته لسبعة طرق- بعضها في مسلم- جاء الحديث فيها بلفظ "سبعين"، يعد شذوذاً، ولم يتنبه الشيخ الألباني لهذا، فقال[268] "هذا إسناد جيد"!، والحق أن الرواية شاذة ضعيفة.
10- عبد الله بن مسعود: روي مرفوعاً وموقوفاً:
أما المرفوع: فقد روي من طريق الربيع والد الركين، وعمرو ابن عبد الله الأصم، وعمرو بن ميمون، ثلاثتهم عن ابن مسعود، مرفوعاً.
طريق الركين بن الرَّبيع، عن أبيه: رواها عنه مسعر بن كدام، وعنه الفضل بن موسى السيناني، ورواها عن الفضل ثلاثة اختلفوا فيها على ثلاثة أوجه، وهذا بيان الاختلاف:(/30)
أولاً: محمد بن يحيى بن مالك الضبي الأصبهاني، عن محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، بلفظ: "سبعين".
أخرجه الطبراني[269] قال: حدثنا محمد بن يحيى بن مالك الضبي الأصبهاني، حدثنا محمد بن عبدالعزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل بن موسى السيناني، حدثنا مسعر بن كدام، عن الركين بن الربيع، عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة)).
وقال أبونعيم[270]: حدثنا سليمان بن أحمد - يعني: الطبراني - وأبو محمد بن حيان، قالا: حدثنا محمد بن يحيى بن مالك الضبي، به.
قال الهيثمي[271]: "رجاله رجال الصحيح".
ثانياً: محمد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي، عن محمد بن عبدالله بن أبي رزمة، بلفظ: "أربعين".
أخرجه الشاشي[272] عن محمد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي، حدثنا محمد بن عبدالعزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل بن موسى، عن مسعر، عن الركين بن الربيع، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الرؤيا الصالحة جزء من أربعين جزءاً من النبوة)).
ثالثاً: علي بن سعد الرازي، عن محمد بن عبدالعزيز بن أبي رزمة، بلفظ: "ستة وسبعين".
أخرجه الطبراني[273] عن علي بن سعيد الرازي، حدثنا محمد بن عبدالعزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل بن موسى، عن مسعر بن كدام، عن الركين، عن أبيه، عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((الرؤيا الصادقة [الصالحة] جزء من ستة وسبعين جزءاً من النبوة)).
قلت: أما (علي بن سعيد الرازي) فقد قال عنه الدارقطني: "ليس بذاك، تفرد بأشياء[274]
وقال ابن حجر[275]عن روايته هذه: "سندها ضعيف".
وأما (محمد بن سليمان الحضرمي) المعروف بمطيَّن، فثقة إمام.(/31)
وكذلك (محمد بن يحيى بن مالك الضبي)، فقد قالوا في[276] "شيخ ثقة صاحب كتاب". فروايتاهما متكافئتان من حيث القوة، لكن تترجح رواية "سبعين" بشهرتها وكثرة من رواها وأخرجها، وهي في "صحيح مسلم" من حديث ابن عمر، ورواية "أربعين" لم تصل إلى تلك الدرجة.
وبناء على ما تقدم، فرواية "ستة وسبعين" ضعيفة منكرة، ورواية "أربعين" شاذة، والمحفوظة هي رواية "سبعين"، والله أعلم.
طريق عمرو بن عبد الله الأصم: أخرجها الطحاوي[277]قال: حدثنا أبو أمية. والشاشي[278]قال: حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد.
والطبراني[279]قال: حدثنا محمد بن العباس المؤدب.
قال ثلاثتهم: حدثنا عبيد بن إسحاق العطار، حدثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عمرو الأصم.
طريق عمرو بن ميمون: أخرجها البزار[280] قال: حدثنا محمد بن عبدالرحمن، حدثنا عبيد بن إسحاق العطار، حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون.
وأما الموقوف: فقد روي من طريق زاهر الأسلمي عن أبيه، وعمرو بن عاصم، وعمرو بن ميمون، ثلاثتهم عن ابن مسعود، موقوفاً.
طريق زاهر الأسلمي، عن أبيه: أخرجها ابن أبي شيبة[281] قال: حدثنا محمد ابن بشار، حدثنا مسعر، حدثني أبو حصين، عن زاهر، عن أبيه.
قلت: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.
طريق عمرو بن عاصم: أخرجها عبدالرزاق[282] قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن عاصم.
ومن طريقة: الخطيب البغدادي[283].
طريق عمرو بن ميمون: أخرجها الطبراني[284] قال: حدثنا عبدالله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، حدثنا الفريابي، حدثنا سفيان، حدثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون.
قلت: صح سند الطبراني من طريق الركين بن الربيع عن أبيه عن ابن مسعود مرفوعاً، وصح سند ابن أبي شيبة من طريق أبي حصين، عن زاهر، عن أبيه، عن ابن مسعود، موقوفاً.(/32)
وإذا ورد الحديث عن الصحابي من وجه مرفوعاً، ومن وجه موقوفاً، وكانا في الدرجة سواء، فالحكم لمن رفعه، ثم إن الموقوف في هذا الباب له حكم الرفع أصلاً؛ إذ لا مجال للرأي فيه، والله أعلم.
أما باقي طرق الحديث فضعيفة مضطربة، وإليك بيان هذا:
فقد أخرجه الطحاوي والشاشي والطبراني من طريق عبيد بن إسحاق، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عمرو ابن عبد الله الأصم، عن ابن مسعود، مرفوعاً.
وأخرجه البزار من الطريق المذكور، وفيه: عمرو بن ميمون، بدل: عمرو ابن عبد الله الأصم.
وأخرجه عبد الرازق- ومن طريقه الخطيب- وفيه: عمرو بن عاصم.
وأخرجه الطبراني، وعنده: عمرو بن ميمون، والأخيران وقفاه.
ولعل هذا الاختلاف بسبب اختلاط أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، فقد قال عنه ابن حجر[285] "ثقة مكثر عابد... اختلط بآخره"، والراوي عنه في الطريق المرفوعة: (زهير بن معاوية) نقل الذهبي[286]عن أحمد: "في حديثه عن أبي إسحاق لين، سمع منه بآخره".
وقال أبو زرعة[287] "ثقة، إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط".
وقال الذهبي[288] "لين روايته عن أبي إسحاق من قِبَل أبي إسحاق، لا من قبله".
ثم إن في سنده في الراوية أيضاً (عبيد بن إسحاق العطار):
قال الذهبي[289]: "ضعفه يحيى، وقال البخاري: عنده مناكير، وقال الأزدي: متروك الحديث، وقال الدارقطني: ضعيف، وأما أبو حاتم فرضيه، وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر".
وقال الهيثمي[290]: "عبيد بن إسحاق متروك، ووثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح".
وقال أيضاً[291]: "عبيد بن إسحاق العطار متروك، ورضيه أبو حاتم، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يغرب".
وأما ما يتعلق بالرواية الموقوفة - إضافة إلى الاختلاف المتقدم بين عمرو بن ميمون وعمرو بن عاصم - فقد أخرجها الطبراني عن شيخه (عبدالله بن محمد ابن سعيد بن أبي مريم، عن الفريابي).(/33)
قال ابن عدي[292]: "عبدالله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم مصري يحدث عن الفريابي وغيره بالبواطيل".
وقال الهيثمي[293]: "رواه الطبراني عن شيخه عبدالله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، وهو ضعيف".
11- حديث أبي هريرة: روي مرفوعاً وموقوفاً، والمرفوع له طريقان:
الأولى: عاصم بن كليب، عن أبيه، عن أبي هريرة.
أخرجها أحمد[294] عن محمد بن فضيل، حدثنا عاصم بن كليب به، ولفظه: "... إن رؤيا العبد المؤمن الصادقة الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة".
وأخرجها أحمد[295]أيضاً عن عفان، حدثنا عبد الواحد- يعني ابن زياد- قال: حدثنا عاصم، به.
الثانية: ابن إدريس، عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة.
أخرجها ابن حبان[296]عن أحمد بن حمدان بن موسى التستري بعبدان، حدثنا علي بن سعيد المسروقي، حدثنا ابن إدريس به، ولفظه: ((الرؤيا جزء من سبعين جزءاً من النبوة)).
وأما الموقوف: فقد أخرجه ابن أبي شيبة[297]قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
قلت: هذه أسانيد صحيحة.
وقول الهيثمي[298]في حديث أحمد المرفوع: "فيه (كليب بن شهاب) وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر"، لعله عني بهذا قول أبي داود[299] "عاصم بن كليب عن أبيه عن جده ليس بشيء"، وهذا غير مسلَّم.
فقد وثق (كليب بن شهاب): أبو زرعة[300] وابن حبان[301]
وقال ابن سعد[302] "كان ثقة... ورأيتهم يستحسنون حديثة ويحتجون به".
وبناء على هذا، فالرجل ثقة، وقول ابن حجر[303] عنه بأنه (صدوق) أدنى من حاله، والله أعلم.
وأما طريق ابن حبان: ففيها جد (ابن إدريس) وهو: (يزيد بن عبدالرحمن ابن الأسود الأودي) قال ابن حجر[304]: "مقبول"!.
وهذا غير مسلم أيضاً، فالرجل ليس فيه جرح، وقد وثقه العجلي[305]، وذكره ابن حبان في "الثقات"[306]، وصحح له الترمذي[307] حديثاً، فقال: "هذا حديث صحيح غريب"، فكيف يكون أقل من ثقة؟
وباقي رجال السند ثقات، وبذلك يكون الحديث صحيحاً من طريقيه.(/34)
وأما الموقوف: فقد أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، رجاله ثقات، وهذا مما لا مجال للرأي فيه، فحكمه الرفع أيضاً، والله أعلم.
12- حديث أنس بن مالك: أخرجه الطبراني[308] عن محمد بن الحسين الأشناني، حدثنا عباد بن أحمد العرزمي، حدثنا عمي، عن أبيه، عن عروة بن عبدالله بن كثير، عن محمد بن سيرين، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((رؤيا المؤمن جزء واحد من سبعين جزءاً من أجزاء النبوة)).
قال الهيثمي[309]: "فيه: محمد بن عبيد الله العرزمي، وهو ضعيف".
قلت: (محمد) هذا جدُّ (عباد العرزمي) المصرح باسمه في السند، قال فيه ابن حجر[310] (متروك).
أما عمُّه فهو: (عبد الرحمن) قال الذهبي[311] (ضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي).
و(عباد) نفسه ليس بأحسن حالاً من عمه وجدِّه، قال عنه الدارقطني[312] (متروك).
وبناء على هذا، فالإسناد ضعيف جداً، والثابت من حديث أنس رواية "ستة وأربعين" وقد تقدمت من عدة طرق صحيحة[313]
13- حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه ابن أبي شيبة[314]عند عبيد الله بن موسى، عن شيبان[315] عن فراس، عن عطية[316] عن أبي سعيد، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ((رؤيا الرجل المسلم الصالح جزء من سبعين جزءاً من النبوة)).
وأخرجه ابن ماجة[317]عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى.
وأخرجه أبو يعلى[318]عن زهير.
والطحاوي[319] عن أبي أمية.
قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى.
قلت: هذا إسناد ضعيف، مداره على (عطية بن سعد العوفي) وقد ضعفه جماعة[320].
وقال ابن حبان[321]: "لا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه على على جهة التعجب".(/35)
وقال أيضاً[322]: "سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث، فلما مات أبو سعيد جعل يجالس الكلبي، ويحضر قصصه، فإذا قال الكلبي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، فيحفظه، وكناه أبا سعيد، ويروي عنه، فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد به الكلبي".
وقال البوصيري[323]: "هذا إسناد ضعيف؛ لضعف عطية العوفي".
وقال الألباني[324]: صحيح، وأحال إلى كتابه "الروض النضير" وهو غير مطبوع، ويعد من أوائل كتبه في التخريج، وكان يريد إعادة النظر فيه[325].
- ووردت رواية "سبعين" من طريق سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، مرفوعاً. وهي رواية ضعيفة شاذة، تقدم الكلام عنها في الحديث السابع[326]
- ووردت رواية "سبعين" أيضاً من طريق إبراهيم بن الحجاج السامي، حدثنا حماد بن سلمة، عن يعلي بن عطاء، عن وكيع بن حدس[327] عن عمه أبي رزين العقيلي، مرفوعاً.
وهي رواية شاذة، سبق الكلام عنها في الحديث السادس[328]
الرواية الثالثة: رواية الخمسة والأربعين
وردت من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد.
14- حديث أبي هريرة: أخرجه مسلم[329]عن محمد بن أبي عمر المكي، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((... ورؤيا المسلم جزء من خمس[330]وأربعين جزءاً من النبوة...)) الحديث.
وأخرجه ابن حبان[331] عن أبي خليفة، حدثنا إبراهم ين بشار الرمادي، حدثنا سفيان، عن أيوب، به.
قلت: هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم في صحيحه.
- ووردت رواية "خمسة وأربعين" من حديث أبي سعيد، عند أبي يعلى[332]، وهي رواية منكرة، تقدم الكلام عنها في الحديث الرابع[333].
الرواية الرابعة: رواية الأربعين
- وردت هذه الرواية عن طريق شعبة وحماد وهشيم، ثلاثتهم عن يعلى بن عطاء، وعن وكيع بن عدس، عن أبي رزين العقيلي، مرفوعاً.(/36)
وإسنادها حسن، ونقدم الكلام عنها في الحديث السادس[334]
- ووردت رواية "أربعين" أيضاً من طريقين ضعيفين عن أبي هريرة:
الطريق الأولى: أخرجها البزار[335]عن محمد بن مرداس، حدثنا أبو خلف، عن يونس، عن محمد، عن أبي هريرة، مرفوعاً.
وهذه رواية منكرة.
الطريق الثانية: أخرجها أبو يعلى[336] عن عمرو بن محمد الناقد، حدثنا الخضر بن محمد الحراني، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن سليمان بن عريب قال: سمعت أبا هريرة... الحديث.
وهذه رواية ضعيفة مضطربة، وتقدم الكلام عن الطريقين في الحديث الثالث[337]
- ووردت رواية "أربعين" من حديث عبد الله بن مسعود أيضاً:
أخرجها الشاشي[338]عن محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل بن موسى، عن مسعر، عن الركين بن الربيع، عن أبيه، عن ابن مسعود- رضي الله عنه- مرفوعاً.
وهذه رواية شاذة، تقدم الكلام عنها في الحديث العاشر[339]
الرواية الخامسة: الرواية المطلقة
وردت من حديث أنس بن مالك، وجابر بن عبدالله، وسمرة بن جندب.
15- حديث أنس: أخرجه ابن أبي شيبة[340] عن عبدالله بن إدريس.
وأخرجه أحمد[341] عن عفان، حدثنا عبدالواحد بن زياد.
قالا: حدثنا المختار بن فلفل، حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي)). قال: فشق ذلك على الناس.
قال: قال: ((ولكن المبشرات)). قالوا: وما المبشرات؟
قال: ((رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة)).
هذا لفظ أحمد، وهو عند ابن أبي شيبة مختصر.
وأخرجه الترمذي[342] قال: حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني، حدثنا عفان به.
وعاه السيوطي[343] لابن مردوية أيضاً.
قلت: هذا الحديث مداره على (المختار بن فلفل) وقد وثقه كثيرون، منهم: الإمام أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والعجلي، والنسائي[344].(/37)
وذكره ابن حبان في (الثقات)[345] وقال: (يخطئ كثيراً).
وكأن الحافظ ابن حجر لم يلتفت إلى توثيق من تقدم، واعتمد كلام ابن حبان
خاصة، فقال عنه في "التقريب[346] (صدوق له أوهام)!.
وهذا غير مسلًّم[347] فقد صرح خمسة من الأئمة بتوثيقه، فهو ثقة، كما أنه من رجال مسلم، وأخرج الترمذي حديثه هذا، ثم قال[348] "حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه من حديث المختار بن فلفل".
وأخرجه الحاكم[349]من هذا الوجه أيضاً، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
16- حديث جابر: أخرجه أحمد[350]قال: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الزبير، أخبرني جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: ((رؤيا الرجل المؤمن جزء من النبوة)).
قلت: إسناده ضعيف؛ لأجل (ابن لهيعة) الذي اختلط بعد احتراق كتبه[351]
وقال الهيثمي[352] "فيه: ابن لهيعة وحديثه حسن، وفيه ضعف".
قلت: الهيثمي معروف بتساهله، وتحسينه لحديث ابن لهيعة فيه نظر، فقد قال الذهبي[353] "العمل على تضعيف حديثه".
17- حديث سمرة: أخرجه البزار[354]عن خالد بن يوسف، حدثني أبي- يوسف بن خالد.
وأخرجه الطبراني[355] عن موسى بن هارون، حدثنا مروان بن جعفر السمري، حدثنا محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان بن سمرة.
قالا: حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة، حدثنا خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول لنا: "إن أبا بكر يتأول الرؤيا، والرؤيا الصالحة حظ من النبوة" هذا لفظ البزار، وعند الطبراني: ".. تأول الرؤيا، وإن الرؤيا" والباقي سواء.
قلت: إسناده ضعيف، فيه: (سليمان بن سمرة)، و(خبيب)، و(جعفر) هؤلاء الثلاثة لم يوثقهم سوى ابن حبان[356]، وذكر الذهبي[357] في ترجمة (جعفر) حديثاً بالسند المذكور ثم قال: "هذا إسناد مظلم، لا ينهض بحكم".(/38)
يضاف إلى هذا أن في سند الزار: (خالد بن يوسف) وأبوه، قال الذهبي[358]: "أما ابوه فهالك، وأما هو فعضيف".
وقال الهيثمي[359]: "إسناد البزار ساقط".
وقال[360] أيضاً: "في إسناد الطبراني من لم أعرفه".
قلت: في إسناد الطبراني أيضاً (مروان بن جعفر السمري، حدثنا محمد بن إبراهيم ابن خبيب) قال أبو حاتم في (مروان السمري): "صدوق صالح الحديث"[361].
لكن نقل ابن حجر[362]عن أبي الفتح الأزدي قوله فيه: "يتكلمون فيه"، ثم قال: "له نسخة عن قراءة محمد بن إبراهيم، فيها ما ينكر، رواها الطبراني" وأورد له أحاديث بالسند المذكور.
المطلب الثاني: الروايات الضعيفة
الروايات السادسة: رواية أربعين أو ستة وأربعين
- وردت هذه الرواية من طريق شعبة وهشيم، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين العقيلي، مرفوعاً.
وهي رواية شاذة، تقدم الكلام عنها في الحديث السادس[363]
الرواية السابعة: رواية خمسة وعشرين
- وردت هذه الرواية عند الخطيب[364]من طريق أحمد بن الوليد، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: ((الرؤيا الصالحة جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة)).
وهي رواية شاذة، تقدم الكلام عنها في الحديث التاسع[365]
وعزاها السيوطي[366]لابن النجار.
وذكرها ابن أبي جمرة[367]، ونقلها عنه ابن حجر[368] ولم يخرجاها.
الرواية الثامنة: رواية ستة وعشرين
- وردت عند ابن عبدالبر[369] من طريق الحسن بن المثنى بن دجانة، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا عبدالعزيز بن المختار، حدثنا ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((.... ورؤيا المؤمن جزء من ستة وعشرين جزءاً من النبوة)).
- وهذه رواية شاذة، سبق الكلام عنها في الحديث الأول[370].
كما ذكر النووي[371] رواية "ستة وعشرين" من حديث ابن عمر، ولم يذكر من أخرجها؟.(/39)
قال ابن حجر[372]: "إلا أن بعضهم نسب رواية بن عمر هذه لتخريج الطبري".
الرواية التاسعة: رواية تسعة وأربعين
18- حديث عبدالله بن عمرو: أخرجه أحمد[373] عن حسن - الأشيب - حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن عبدالرحمن بن جبير، عن عبدالله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[374]قال: ((الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن هي جزء من تسعة وأربعين جزءاً من النبوة...)) الحديث.
وعزاه السيوطي[375]أيضاً لابن جرير، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي.
قال الهيثمي[376] "رواه أحمد من طريق ابن لهيعة عن دراج، وحديثهما حسن وفيهما ضعف، وبقية رجاله ثقات".
قلت: السند ضعيف من جهة (ابن لهيعة) خاصة، انظر ما تقدم عند حديث رقم (16).
أما (دراج): فقد قال عنه ابن حجر[377] "صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف" انتهى.
قلت: وليست الرواية هنا من هذا الوجه.
الرواية العاشرة: رواية خمسين
- وردت عند البزار[378]والطبراني[379]وابن عبد البر[380]من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن الأعرج، عن سليمان بن عريب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رؤيا الرجل الصالح بشرى من الله، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة".
قال - أي: سليمان بن عريب -: فحدثت به ابن عباس، فقال: قال العباس بن عبدالمطلب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هي جزء من خمسين جزءاً من النبوة)).
وهي عند الطحاوي[381] مختصرة من طريق ابن إسحاق، عن أبي الزناد، عن الأعرج.
وهذه رواية ضعيفة معلولة، تقدم الكلام عنها آخر الحديث الثالث[382].
الرواية الحادية عشرة: رواية ستين
- وردت عند أبي يعلى[383] من طريق ابن إسحاق، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن سليمان بن عريب، قال: سمعت أبا هريرة يقول لابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رؤيا المسلم جزء من أربعين جزءاً من النبوة)).(/40)
قال ابن عباس: ((من ستين)).
فقال أبو هريرة: تسمعني أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: من ستين؟
فقال ابن عباس[384]: وأنا أقول: قال العباس بن عبدالمطلب.
قال عمرو الناقد: قلت أنا وأصحابنا: فهو عندنا إن شاء الله: العباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
وهذه رواية ضعيفة معلولة كسابقتها، سبق الكلام عنها آخر الحديث الثالث أيضاً[385]
الرواية الثانية عشرة: رواية ستة وسبعين
- وردت عن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
أخرجها الطبراني[386]عن علي بن سعيد الرازي، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل بن موسى، عن مسعر بن كدام، عن الركين، عن أبيه، عن أبن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((الرؤيا الصادقة [الصالحة] جزء من ستة وسبعين جزءاً من النبوة)).
وهذه رواية ضعيفة منكرة، تقدم الكلام عنها في الحديث العاشر[387]
تلك هي الروايات المسندة التي وقفت عليها في الباب، واستكمالاً للفائدة رأيت إلحاق الروايات التي ذكرها شراح الحديث وغيرهم في مصنفاتهم دون إسناد أو تخريج، وهي:
رواية سبعة وعشرين، واثنين وأربعين، واثنين وسبعين.
وهذه الروايات الثلاث ذكرها ابن أبي جمرة[388]دون تخريج، ونقلها عنه ابن حجر[389]كذلك، ولم أقف عليها في مصدر آخر.
الرواية السادسة عشرة: رواية أربعة وأربعين.
عزاها ابن حجر[390] للطبري، من حديث عبادة، ولم أقف عليها.
الرواية السابعة عشرة: رواية سبعة وأربعين.
ذكرها القرطبي[391] من حديث عبدالله بن عمرو ابن العاص دون تخريج، ولم أقف عليها.
تنبيهان
الأول: قال الطبري[392]: "الصواب أن يقال: إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل منها مخرج معقول" انتهى.
وفيه تساهل من جهة التسوية بين أحاديث مختلفة، والحكم على جميعها بالصحة.(/41)
الثاني: قال ابن بطال[393]: "أصح ما في هذا الباب أحاديث الستة والأربعين جزءاً، ويتلوها في الصحة حديث السبعين جزءاً، ولم يذكر مسلم في كتابه غير هذين الحديثين.. وأما سائرها فهي من أحاديث الشيوخ" انتهى.
وهذا غير مسلم من وجهين:
الأول: حديث (خمسة وأربعين) أخرجه مسلم، وذهل الشيخ عنه، وتقدم برقم (14).
والثاني: رواية (40) من حديث أبي رزين رواية حسنة، تقدمت في الحديث السادس، وهي ليست في الصحيحين.
المطلب الثالث: حول تواتر هذا الحديث
قال ابن حجر[394] "إذا جمع- الخبر- هذه الشروط الأربعة، وهي: عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، ورووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء، وكان مستند إنتهائهم الحس. وانضاف إلى ذلك: أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه، فهذا هو المتواتر".
وإذا نظرنا إلى الحديث الذي نحن بصدده، لنعلم مدى توفر هذه الشروط فيه وجدنا خبراً رواه عدد كثير من الصحابة، وتلقاه عنهم عدد كثير مثلهم أو أكثر منهم من التابعين، وهكذا من بعدهم طبقة بعد طبقة، حتى وصل إلى الأئمة المصنفين الذين رووه ودونوه في مصنفاتهم المختلفة.
وهو- أيضاً- خبر ينتهي إلى محسوس من مشاهدة وسماع، وليس خبراً عقلياً[395] هذا من حيث الجملة.
وأما من حيث التفصيل: فإن هذا الحديث رواه اثنا عشر صحابياً وهم: أبو هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن العباس، وأبو سعيد الخدري، وعبادة بن الصامت، وعوف بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله ابن مسعود، وعبد الله
ابن عمرو، وجابر بن عبدالله، وسمرة بن جندب، وأبو رزين العقيلي، بالإضافة إلى رواية عطاء بن يسار المرسلة، ولبعضهم أكثر من رواية كما تقدم، فكان مجموع الأحايدث التي رووها ثمانية عشر حديثاً.
من أجل ذلك أدخل العلماء الذين عنوا بجمع الأحاديث المتواترة هذا الحديث في مصنفاتهم.
كالسيوطي في "قطف الأزهار المتناثرة"[396]، والكتاني في "نظم المتناثر"[397]، وغيرهما.(/42)
كما نص على تواتره عدد من العلماء في مصنفاتهم، كالشيخ محمد عبدالرؤوف المناوي[398]، والشيخ محمد بن عبدالباقي الزرقاني[399]، وغيرهما.
وأنا متوقف في الحكم على هذا الحديث بالتواتر المطلق، وذلك لسببين:
الأول: اختلاف الروايات في ألفاظ الحديث.
الثاني: تفاوت الروايات في تحديد جزء النبوة.
ومع هذا التفاوت والاختلاف لا يصح بحال أن نطلق الحكم بتواتره.
ومن المعلوم أن الأخبار إذا اختلفت ألفاظها، وزاد بعضها على بعض، لكنها اتفقت جميعاً في المضمون، كانت من قبيل المتواتر المعنوي لا اللفظي.
وقد قسم أهل الاصطلاح[400]المتواتر إلى: لفظي، وهو: ما تواتر لفظه، ومعنوي، وهو: ما تواتر معناه، كهذا الحديث.
كما أن اختلاف الروايات في تحديد جزء النبوة يحد من تواتره، ويجعله قاصراً على القدر المشترك بينها، وهو: أن هذا النوع من الرؤى جزء من أجزاء النبوة، دون تحديد هذا الجزء بعدد واحد مما تقدم، هذا هو القدر المشترك بين الروايات، وهذا القدر هو الذي نحكم بتواتره فقط.
وبناء على هذا: لا يسوغ إطلاق الحكم بالتواتر على رواية بعينها من بين الروايات السابقة؛ إذ لم يتجاوز عدد الصحابة الذين رووا حديث (46) جزءاً، وحديث (70) جزءاً- وهما أكثر الروايات طرقاً- سبعة من الصحابة.
فإن كان عدد السبعة كافياً للتواتر، فالحكم بالتواتر يكون لهاتين الروايتين خاصة، وإلا، فالحكم للقدر الذي اشتركت فيه الروايات جميعها كما أسلفت، علماً بأن المختار في أقل عدد التواتر عشرة؛ لأنه أول جموع الكثرة[401]
ولم أجد ممن نص على تواتر هذا الحديث من نبه إلى هذا أو أشار إليه، فالحمد لله على توفيقه.
وهذه خلاصة المبحث الأول:(/43)
بلغ مجموعة الروايات الواردة في الباب سبع عشرة رواية، صح منها خمس روايات، وهي بالترتيب: (46، 70، 45، 40) إضافة إلى الرواية المطلقة، والروايات الباقية: (40أو 46، 25، 26، 49، 50، 60، 76) كلها ضعيفة، بالإضافة إلى خمس روايات أخرى لا اسانيد لها، وهي: (27، 42، 44، 47، 72).
ويمكن ترتيب الأحاديث المتقدمة باعتبار الأصحية على النحو التالي:
أولاً: حديث أنس (1)، وعبادة (2)، وأبي هريرة (3)، وذلك للأمور التالية: 1- لاتفاق الشيخين على إخراجها.
2- لتحصيح الأئمة لها.
3- لكثيرة طرقها، فقد روي الأول من سبعة طرق، والثاني من أربعة طرق، والثالث من طريقين.
ثانيا: حديث أبي سعيد (4)؛ لإخراج البخاري له دون مسلم.
ثالثاً: حديث ابن عمر (9)؛ وحديث أبي هريرة (14) لانفراد مسلم بإخراجهما دون البخاري.
رابعاً: حديث عوف بن مالك (5)، وابن مسعود (10)، وأبي هريرة (11) فهذه الأحاديث رويت بأسانيد صحيحة رجالها ثقات، وقد نص الأئمة على صحة بعضها، وما عدا هذا فروايات ضعيفة، أو غير ثابتة.
ونظراً لاتفاق الأحاديث الواردة في الباب على أصل الموضوع دون الألفاظ، فقد توصلت إلى أن هذا الخبر متواتر تواتراً محدوداً بالقدر المشترك بين رواياته، وهو أن نوعاً من الرؤى جزء من أجزاء النبوة، دون تحديد ذلك الجزء بعدد معين.
المبحث الثاني
شرح الحديث
ويشمل المطالب التالية:
المطلب الأول: الصفات التي تشترط للرؤيا وصاحبها
اشتملت أحاديث الباب على صفات للرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة، وعلى صفات لصاحبها، وسأقتصر في هذا المطلب على ما ورد في الروايات الصحيحة:
فقد ورد: "الرؤيا الصالحة" في حديث (4، 9)، و"الرؤيا الصادقة الصالحة" في (10)، و"رؤيا العبد المؤمن الصادقة الصالحة" في (11)، و"الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح" في (1، 3)، و"رؤيا المسلم" في (14)، و"رؤيا الرجل المسلم" في (15)، و"رؤيا المؤمن" في (2).(/44)
فقد ذكرت هذه الروايات ثلاث صفات للرؤيا، وهي: الصالحة، والصادقة، والحسنة. وثلاث صفات لصاحبها، وهي: الإسلام، والإيمان، والصلاح.
والملاحظ أن صفة (الصلاح) للرؤيا وصحابها هي الصفة الغالبة في هذه الروايات، فقد ذكرتها تارة مفردة، وتارة مضافة إلى صفات أخرى، وفي هذا دليل على أن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلا إذا كانت صالحة، ورائيها صالحاً.
أما الرائي: فالصلاح في حقه مرتبة بعد الإسلام والإيمان، وتكون رؤياه من أجزاء النبوة إذا تحقق بالإسلام والإيمان وكان صالحاً، وهذا جمع حسن بين ألفاظ الروايات السابقة.
ومعنى صلاح العبد: استقامته على شرح الله تعالى في الأقوال والأفعال وسائر الأحوال.
ولما كان الناس متفاوتين في هذا، كانت رؤاهم متفاوتة في قدر جزء النبوة، دل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً))[402].
قال ابن حجر[403]:"وإنما كان كذلك؛ لأن من كثر صدقه تنور قلبه، وقوي إدراكه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب حاله الصدق في يقظته، استصحب ذلك في نومه، فلا يرى إلا صدقاً..".
وأما الكافر، والمنافق، والفاسق: فلا تضاف رؤياهم إلى النبوة أصلاً، وإن صدقت في بعض الأحيان، لانعدام بعض الأوصاف المذكورة أو كلها.
قال ابن عبدالبر[404]: "قد تكون الرؤيا الصادقة من الكافر ومن الفاسق، كرؤيا الملك التي فسرها يوصف عليه السلام[405]، ورؤيا الفتيين في السجن[406]، - وذكر أمثلة أخرى، ثم قال: - ومثل هذا كثير".
وقال القرطبي[407]: إن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوات، لا تكون من الوحي، ولأن النبوة؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبر ذلك نبوة، وقد تقدم في الأنعام[408] أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندرة والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء" انتهى.
وأما الرؤيا: فيشترط فيها أن تكون صالحة أيضاً.(/45)
والرؤية الصالحة: هي الصحيحة المستقيمة، المحققة الوقوع، التي لا تكون أضغاثاً، ولا من تشبيهات الشيطان، ولا ناتجة عن حديث النفس.
قال أبو بكر ابن العربي[409] "معنى صلاحها: استقامتها وانتظامها".
وقال المناوي[410] "وصفت بالصلاح لتحققها وظهورها على وفق المرئي".
وتكثر الرؤى الصالحة من أهل الإيمان والصلاح في آخر الزمان، قال - صلى الله عليه وسلم-: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب..." الحديث[411].
ومعنى اقتراب الزمان- على الصحيح-: انتهاء مدته إذا دنا يوم القيامة، يدل عليه رواية الترمذي[412] للحديث: ((في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب...)).
قال ابن بطال[413] وقوله- عليه السلام-: ((إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن)) فمعناه- والله أعلم- إذا اقتربت الساعة، وقبض أكثر العلم، ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة، فكان الناس على فترة من الرسل يحتاجون إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين، كما كانت الأمم قبلنا تذكر بالنبوة.
فلما كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- خاتم الرسل، وما بعده من الزمان ما يشبه الفترة، عوضوا بما منعوا من النبوة بعده بالرؤيا الصادقة...".
والرؤيا الصالحة: قد تشتمل على بشارة فتكون سارة، أو نذارة فتكون غير سارة، وعلى هذا تكون "الرؤيا الصالحة" تساوي من حديث المعنى: "الرؤيا الصادقة".
لكن يعكر على هذا حديث ابن مسعود المتقدم برقم (10): ((الرؤيا الصادقة الصالحة)) حيث جمع بين صدقها وصلاحها، والأصل في مثل هذا التغاير في المعنى، وهذا ما ذهب إليه نصر بن يعقوب الدينوري[414]، حيث جعل الصادقة عامة، والصالحة: الرؤيا السارة.
وقال ابن حجر[415]: "هما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا: فالصالحة في الأصل أخص، فرؤيا النبي كله صادقة، وقد تكون صالحة - وهي الأكثر -، وغير صالحة: بالنسبة للدنيا، كما وقع في الرؤيا يوم أحد[416].(/46)
وأما رؤيا غير الأنبياء: فبينهما عموم وخصوص إن فسرنا الصادقة بأنها التي لا تحتاج إلى تعبير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث، فالصالحة أخص مطلقاً".
قلت: تفسير (الصالحة) بـ (السارَّة) عند الدينوري وابن حجر، يجعلها تساوي من حيث المعنى (الحسنة) كما ورد في حديث أنس وأبي هريرة (1، 2).
ويؤيده قول ابن حجر[417] "ووقع في حديث أبي سعيد: "الرؤيا الصالحة" وهو تفسير المراد بالحسنة" انتهى.
وخلاصة ما تقدم: أن الرؤيا التي هي من أجزاء النبوة هي الرؤيا الصادقة، أي: المنتظمة المستقيمة، المحققة الوقوع، التي ليست بأضغاث، ولا من حديث النفس، ولا من تشبيهات الشيطان.
ثم إنها إن حملت بشارة، فأدخلت السرور على قلب رائيها، فتسمى أيضاً: (حسنة)، فتكون رؤيا صادقة حسنة.
وأما (الرؤيا الصالحة) فبعضهم فسرها بالصادقة، وبعضهم فسرها بالحسنة.
ويرجح الثاني: ما أخرجه البخاري[418]من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات" قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة".
فسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- المبشرات وهي الرؤى الحسنة: صالحة.
تنبيه: قال القرطبي[419] "هذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا- يعني: التي هي جزء من النبوة- بشرى على الإطلاق، وليس كذلك، فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رأيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقاً به ورحمة، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه.. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته، فكتب إليه بذلك؛ ليستعد لذلك" انتهى.
قلت: تقسيم الرؤيا إلى: مبشرة ومنذرة، باعتبار مضمونها، ولها تقسيم أخر باعتبار دلالتها:
قال ابن بطال[420]: "الرؤيا تنقسم إلى قسمين، لا ثالث لهما:(/47)
[القسم الأول] هو أن يرى الرجل رؤيا جلية، ظاهرة التأويل، مثل: أن يرى أنه يعطي شيئاً في المنام، فيعطى مثله بعينه في اليقظة، وهذا الضرب من الرؤيا لا إغراب في تأويلها، ولا رمز في تعبيرها.
والقسم الثاني: مايراه في المنامات المرموزة، البعيدة المرام في التأويل، وهذا الضرب يعسر تأويله إلى على الحذاق بالتعبير؛ لبعد ضرب المثل فيه" انتهى.
وخلاصته أن الرؤيا تنقسم باعتبار دلالتها إلى قسمين: جلية: ظاهرة التأويل، وخفية: بعيدة التأويل.
قال القرطبي[421]: "فإن أدرك - أي: تأويل الخفية - تأولها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك" انتهى.
المطلب الثاني: التوفيق بين الروايات في تحديد الجزء
تقدم الكلام على أن أحاديث الباب مختلفة في تحديد جزء النبوة، وهذا الاختلاف موجود حتى في الروايات الصحيحة منها.
ونظرت في كلام العلماء حول هذا التعارض، فرأيت أقوالاً كثيرة، وتأويلات شتى، منها ما هو سائغ، يشتمل على معنى واضح وجمع حسن، ومنها ما لا يسوغ إلا بتكلف، ولو أردت بسط المسألة، وسرد جميع الأقوال، لطال الكلام، ولما احتمله المقام، فرأيت الاقتصار على أهم الأقوال وأقربها، مسجلاً الملاحظات على تلك الأقوال، ومبيناً المختار منها.
الأول: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوحى إليه ثلاثاً وعشرين سنة، ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنين بالمدينة، وكان قد أوحي إليه في منامه أول الأمر بمكة ستة أشهر، فمدة الوحي المنامي تساوي نصف سنة، ونسبتها من وحي اليقظة تساوي جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
وهذا التأويل عزاه المصنفون[422]لبعض أهل العلم. وقد أورد عليه جملة أعتراضات، من أبرزها:
1- لم يثبت أن أمد رؤياه - صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة ستة أشهر، نعم ورد أن ابتداء الوحي كان على رأس الأربعين من عمره - صلى الله عليه وسلم.(/48)
وذلك في ربيع الأول، ونزول جبريل عليه وهو بغار حراء كان في رمضان، وبينهما ستة أشهر، وهذا على تقدير تسليمه ليس فيه تصريح بالرؤيا[423].
2- ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى منامات كثيرة بعد البعثة، وهذا يستدعي إضافتها إلى الأشهر الستة الأولى - لو سلمنا بها - فإذا ما جمعت وزيدت على أصل الحساب، تغيرت الأرقام، وفسدت النسبة.
وهذا الاعتراض اعتذر عنه بعض العلماء[424] بأن تلك الأوقات منغمرة في أوقات الوحي الذي في اليقظة، والاعتبار للغالب، بخلاف الأشهر الستة الأولى فإنها منحصرة بالوحي المنامي، قال ابن حجر[425]: "وهو اعتذار مقبول".
3- إن المناسبة المذكورة تقتضي قصر الخبر على صورة ما اتفق لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ولا يلزم من ذلك أن كل رؤيا لكل صالح تكون كذلك.
قال أبو بكر ابن العربي[426]: "وهذا - التأويل - لو ثبت بالنقل ما أفادنا شيئاً في غرضنا، ولا صح حمل اللفظ عليه"[427].
4- هذا القول لا ينسجم على الإطلاق مع جميع أحاديث الباب، وإنما هو توجيه لرواية واحدة فقط، نعم هي أصح الروايات في الباب، لكن لا يعني هذا إهمال باقي الروايات الصحيحة ما أمكن الجمع بينها، فقد تقرر أن الجمع بين الرويات أولى من إعمال إحداها، وإلغاء الباقي، ولذلك قال ابن القيم[428] في التأويل المذكور: "هذا حسن لولا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة أنها جزء من سبعين جزءاً".
قلت: وكذلك رواية أربعين، وخمسة وأربعين، فقد ثبتت صحتهما أيضاً.
الثاني: لقد اختص الله تعالى نبينا محمداً- صلى الله تعالى عليه وسلم- بطرق من العلم لم تحصل لغيره، والمراد من الحديث: أن نسبة المنامات مما حصل له - صلى الله عليه وسلم- وميز به من تلك الطرق جزء من ستة وأربعين جزءاً.
وهذا التأويل ذكره المازري[429] وقال: "قد مال شيوخنا إلى هذا الجواب".
لكن يرد عليه من الاعتراضات السابقة: الثالث والرابع.(/49)
الثالث: تفاوت الأعداد في الروايات عائد إلى تفاوت الأنبياء في المقامات، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ...} الآية[430] فتكون نسبة الرؤيا من أعلى الأنبياء المرسلين جزءاً من سبعين، ونسبتها من أقل النبيين غير المرسلين جزءاً من أربعين، وما بقي من الأعداد فبحسب تفاوت الأنبياء والرسل في الدرجات بينهم[431]
وهذا التأويل وإن سلم مما اعترض به على القولين السابقين، وفيه مراعاة لسائر الروايات، لكن يلزم منه استواء الرائين جميعهم في الجزء، على الرغم من اختلاف درجاتهم، وتباين منازلهم في الصلاح.
الرابع: تفاوت الأعداد عائد إلى اختلاف طرق الوحي، إذ منه: ما سمع من الله بلا واسطة، ومنه: ما كان بواسطة الملك، ومنه: ما ألقي في القلب من الإلهام، ومنه: ما أتاه في النوم، ومنه: ما جاء به الملك على صورته، ومنه: ما جاء به على صورة آدمي معروف، أو غير معروف، ومنه: ما أتاه به في صلصلة الجرس، ومنه: ما يلقيه روح القدس في رُوعه، إلى غير ذلك، فتكون تلك الحالات إذا عدت انتهت إلى العدد المذكور.
وهذا التوجيه عزاه ابن حجر[432] للقاضي عياض، وفيه تكلف ظاهر، لذلك لم يرتضه أبو العباس القرطبي، وتعقبه بقوله[433]: "ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد والتساهل، فإن تلك الأعداد كلها إنما هي أجزاء النبوة، وأكثر الأحوال التي ذكرت هنا ليست من النبوة في شيء، ككونه يعرف الملك أو لا يعرفه، أو يأتيه على صورته أو على غير صورته، ثم مع هذا التكلف العظيم لم يقدر أن يبلغ عدد ما ذكر إلى ثلاثين".
الخامس: تفاوت الأعداد عائد إلى التدرج في فضل الله تعالى وعطائه لأصحاب هذه الرؤى، فيحتمل أن يكون الله عز وجل جعل الرؤيا في البدء جزءاً يسيراً، فكان نسبتها إلى النبوة جزءاً من سبعين، ثم زاد هذا الجزء من فضله تدريجياً حتى بلغ جزءاً من أربعين، وهذا القول ذكره الطحاوي[434].(/50)
أقول: لكن هذا القول يتوقف على دليل يفيد أن الروايات التي ذكرت الجزء اليسير متقدمة، والروايات التي ذكرت الجزء الكبير متأخرة، وبدونه يبقى هذا القول ضرباً من الظن، والله أعلم.
السادس: تفاوت الأعداد يرجع إلى تفاوت الرؤى في الدلالات، فالمنامات تحمل دلالات، وهذه الدلالات منها خفي، ومنها جلي - كما تقدم في المطلب السابق- فكلما ازدادت دلالة الرؤيا وضوحاً عظم الجزء، وكلما ازدادت غموضاً صغر الجزء[435] وهذا وجه حسن.
السابع: تفاوت الأعداد عائد إلى اختلاف حال الرائي، فليس جميع من يرى الرؤيا الصالحة على درجة واحدة من الإيمان والصلاح- كما تقدم في تقسيم الرؤى باعتبار من أضيفت إليه- وبه قال جماعة من العلماء، كالإمام الطبري، وصححه أبن العربي وآخرون[436]
قال الطبري[437] "فأما قوله "من سبعين جزءاً من النبوة" فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة لكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان، وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة والنخعي: إن الرؤيا جزء من سبعين جزءاً من النبوة.
وأما قوله "إنها جزء من أربعين" أو "ستة وأربعين" فإنه يريد بذلك ما كان صاحبها بالحال التي ذكر عن الصديق- رضي الله عنه- أنه يكون بها.
روي ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة حدثه أن زياد بن نعيم حدثه أن أبا بكر الصدّيق كان يقول: لأن يرى الرجل المسلم يسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إليّ من كذا وكذا.
"فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات[438] والصبر في الله على المكروهات، وإنتظار الصلاة بعد الصلاة، فرؤياه الصالحة- إن شاء الله- جزء من أربعين جزءاً من النبوة، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين الجزء من الأربعين إلى السبعين، لا ينتقص عن سبعين ولا يزاد على أربعين".(/51)
قال ابن العربي[439]: "أصح ما في ذلك: تأويل الطبري عالم القرآن والحديث، قال: نسبة هذه الأعداد إلى النبوة إنما هو بحسب اختلاف الرائي، فتكون رؤيا الصالح على نسبته، والمحطوط عن درجته على دونها"[440].
قلت: هذا تأويل سائغ حسن، سالم من جميع الاعتراضات المتقدمة، جامع لكل الروايات الصحيحة في الباب.
الثامن: كل ما قيل في تفاوت أعداد أجزاء النبوة إنما هو من باب الظن والتخمين، وأما بالتحقيق فلا، لأن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره، وأجزاء النبوة لا يعلمها من البشر إلا الأنبياء، فالأولى أن نؤمن بما ورد، ونعتقد بأنه حق، ولا نظن بما جرى على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تقديرات لأجزاء النبوة بأنه جزاف، بل لا يتكلم عليه الصلاة والسلام إلا بالحق، فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وليس كل ما خفيت علينا علته، لا تلزمنا حجته، والقدر الذي أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبينه هو تحقيق أمر الرؤيا، وأنها جزء من النبوة في الجملة، وهذا رأي الخطابي، واختاره الكثير[441].
وخلاصة ما تقدم: أن الأقوال الخمسة الأولى لم تسلم من الاعتراض، وأقرب التأويلات - لمن رام مسلك التأويل - هو القول السادس والسابع، لاشتمال كل منهما على معنى صحيح، وتأويل سائغ يعضده الدليل، بيد أن ما جاء في القول الأخير من عدم التأويل، وترك الخوض في تفسير ما خفي علينا، هو مسلك إيماني
مشهور، اختاره كثير من العلماء، وهو ما تميل إليه النفوس، وتطمئن إليه القلوب، والله الهادي.
المطلب الثالث: بيان معنى "من النبوة"
اتفق العلماء على أن رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جزء من النبوة على الحقيقة، وأنها وحي من الله تعالى.
قال الخطابي[442] "إنما كانت جزءاً من أجزاء النبوة في الأنبياء صلوات الله عليهم دون غيرهم، وكان الأنبياء يوحى إليهم في منامهم، كما يوحى إليهم في اليقظة".(/52)
ثم روى بسنده إلى عبيد بن عمير- وهو من كبار التابعين- أنه قال: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}[443].
واختلفوا في رؤيا غير الأنبياء على قولين:
القول الأول: الرؤيا الصالحة من غير الأنبياء جزء من أجزاء النبوة على الحقيقة أيضاً، وبه قال الكرماني[444]وغيره.
واستدل أصحاب هذا القول بظاهر النصوص الواردة في الباب.
القول الثاني: الرؤيا الصالحة من غير الأنبياء جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز لا الحقيقة، وإليه ذهب ابن بطال[445] والخطابي[446] وابن عبد البر[447] وغيرهم وحجتهم في صرف اللفظ عن حقيقته:
أولاً: إن نسبة جزء من النبوة إلى غير الأنبياء ممتنع؛ فلا ينسب شيء من النبوة إلى غير أنبياء الله تعالى الموحى إليهم.
ثانياً: قد تتخذ هذه الأحاديث ذريعة من قبل الدجالين؛ ليحلوا ما حرم الله أو يحرموا ما أحل الله، أو يضيفوا إلى الدين الثابت بالأصول الصحيحة عن طريق الوحي ما ليس منه، بحجة أن ما جاؤوا به مستند إلى رؤيا صالحة وهي من النبوة.
ثم اختلف أصحاب هذا القول في تأويل الحديث على أقوال، أهمها:
1- الرؤيا كالنبوة في كونها أنباء صادقة من الله تعالى لا كذب فيها، وبه قال ابن بطال[448].
يقول رحمه الله[449]: "إن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ والإنباء، وهو الإعلام في اللغة، والمعنى: أن الرؤيا إنباء صادق من الله لا كذب فيه، كما أن معنى النبوة: الإنباء الصادق من الله الذي لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر عن الغيب".
2- الرؤيا جزء من أجزاء علم النبوة، وهذا التأويل ذكره الخطابي[450].(/53)
وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي)) قال: فشق ذلك على الناس. قال: قال: ((ولكن المبشرات)) قالوا: وما المبشرات؟ قال: ((رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة))[451].
3- الرؤيا كالنبوة في اشتمالها على خوارق العادات، والاطلاع على المغيبات ذكره ابن عبد البر[452]والقرطبي[453]
قال ابن عبد البر[454] "يحتمل أن تكون الرؤيا جزءاً من النبوة؛ لأن فيها ما يعجز ويمتنع، كالطيران، وقلب الأعيان" زاد القرطبي[455] "... والاطلاع على شيء من علم الغيب"، وقيل غير هذه من التأويلات.
المناقشة: إن حمل الكلام على الحقيقة إن كان ممكناً ولم يصرفه عنها صارف هو الأصل، ولا يلجأ إلى المجاز إلا عند تعذر المعنى الحقيقي، ولا تعذر هنا، فلا ضرورة للتأويل، والاستشكالان الواردان ممن حمل الحديث على المجاز مدفوعان:
أما الأول وهو في نسبة جزء من النبوة إلى غير الأنبياء: ذكره الكرماني وأجاب عنه بقوله[456] "إن قلت: هل يقال لصاحب الرؤيا الصالحة: له شيء من النبوة؟ قلتُ: جزء النبوة ليس نبوة؛ إذ جزء الشيء غيره، أو لا هو ولا غيره، فلا نبوة له".
وزاد ابن حجر الجواب إيضاحاً فقال[457] "إن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له، كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله رافاعاً صوته، لا يسمى أذاناً، ولا يقال: إنه أذن، وإن كانت جزءاً من الأذان، وكذا لو قرأ شيئاً من القرآن وهو قائم، لا يسمي مصلياً، وإن كانت القراءة جزءاً من الصلاة" انتهى.
وأما الاستشكال الثاني لهم في سد الباب بوجه الدجالين، فيجاب عنه بأنه لا خلاف بين المسلمين جميعاً في أنه ليس لغير رسل الله من التشريع شيء، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا رسول بعده ولا نبي، به أكمل الله الدين وختم الشريعة، وليس من حق أحد كائناً من كان أن يضيف أو ينقص في دين الله تعالى.(/54)
ومن وجه آخر: نقل الحافظ ابن حجر[458] عن بعض الشراح - ولم يسمه - في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من النبوة" أنه قال: "كذا هو في جميع الطرق، وليس في شيء منها بلفظ: (من الرسالة) بدل من "النبوة".
قال: وكأن السر فيه أن الرسالة تزيد على النبوة بتبليغ الأحكام للمكلفين، بخلاف النبوة المجردة فإنها اطلاع على بعض المغيبات، وقد يقرر بعض الأنبياء شريعة من قبله، ولكن لا يأتي بحكم جديد مخالف لمن قبله" انتهى.
وفي هذا إشارة واضحة إلى ما قدمناه من أنه لا يحق لصاحب الرؤيا أن يضيف إلى شرع الله تعالى أو ينقص منه شيئاً، وكأنه يقول: التشريع وظيفة الرسل خاصة، أما الأنبياء فمنهم من يأتي ليذكر بشريعة رسول سبقه، ولا يكون له تشريع مستقل، والرؤيا الصالحة إنما جعلها اله من النبوة لا من الرسالة.
القول الراجح: بعد عرض القولين في المسألة، وحجة كل قول، وجواب أصحاب القول الأول على ما استشكله الآخرون، يترجح القول الأول، لأنه هو الأصل والظاهر، ولا صارف لهذا الأصل، والله أعلم.
الخاتمة
وتتضمن أهم نتائج البحث
من أهم النتائج التي توصلت إليها خلال هذا البحث ما يلي:
1- بلغ عدد أحاديث الباب ثمانية عشر حديثاً، يرويها اثنا عشر صحابياً، تشتمل على اثنتي عشرة رواية، بالإضافة إلى خمس روايات أخرى ذكرها الشراح دون إسناد.
2- الروايات الثابتة منها: رواية "ستة وأربعين"، ثم رواية "سبعين"، ثم رواية "خمسة وأربعين"، ثم رواية "أربعين"، وأما الرواية التي لم تحدد جزء النبوة بعدد معين فهي رواية مطلقة قيدتها الروايات السابقة، وباقي الروايات ضعيفة، أو لا سند لها.
3- تواتر هذا الحديث معنوي ومفيد؛ للاختلاف في ألفاظه في صفات الرؤيا والرائي، وتحديد جزء النبوة.
لا تكون الرؤيا من أجزاء النبوة إلا بشروط فيها وفي رائيها، وهذه الرؤى قد تشتمل على بشارة، أو نذارة، وقد تكون واضحة الدلالة فلا تحتاج لتأويل، وقد تكون خفية تحتاج إلى من يؤولها.(/55)
4- الاختلاف بين الروايات في عدد أجزاء النبوة عائد إلى اختلاف حال الرائين وتفاوتهم في الصلاح، أو إلى تفاوت الرؤى في الدلالات، وقيل غير هذا.
5- قوله - صلى الله عليه وسلم- "جزء من النبوة" محمول على الحقيقة في حق الأنبياء اتفاقاً، وهو الراجح في حق غيرهم؛ إذ لا مانع منه، وجزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
المصادر والمراجع
- ابن أبي شيبة، عبدالله بن محمد.
1- المصنف، طبعة محمد عبدالسلام شاهين (بيروت، دار الكتب العلمية، الأولى 1416).
- ابن الأكفاني، محمد بن ساعد الأنصاري.
2- إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، اعتنى به حسن عبجي (جدة، دار القبلة للثقافة الإسلامية - الأولى 1414).
- ابن بطال، علي بن خلف بن عبدالملك.
3- شرح صحيح البخاري، تحقيق أبي نعيم ياسر بن إبراهيم (الرياض، مكتبة الرشد، الأولى 1420).
- ابن تيمية، أحمد بن عبدالحليم.
4- مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبدالرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد (السعودية طبعة الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين).
- ابن عبدالبر، يوسف بن عبدالله بن محمد، أبو عمر.
5- الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار، تحقق الدكتور عبدالمعطي قلعجي (دار قتيبة ودرا الوعي، الأولى 1414).
6- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبدالكبير البكري (المغرب، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، 1387).
- ابن العربي، محمد بن عبدالله، أبو بكر.
7- عارضة الأحوذي شرح الترمذي (بيروت، دار الكتاب العربي).
8- القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، تحقيق د. محمد عبدالله ولد كريم (بيروت، دار الغرب الإسلامي، الأولى 1992م).
- ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله.(/56)
9- تاريخ مدينة دمشق، تحقيق عمر بن غرامة العمروي (بيروت، دار الفكر، 1416).
- ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم.
10- الشعر والشعراء. (بيروت، دار إحياء العلوم، الخامسة 1414).
11- تاويل مختلف الحديث، تحقيق محمد زهري النجار (بيروت، دار الجبل 1393).
- ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر.
12- التفسير القيم، جمع محمد أويس الندوي، تحقيق محمد حامد الفقي (بيروت، دار الكتب العلمية).
- ابن معين، يحيى أبو زكريا.
13- تاريخ ابن معين (رواية الدوري)، تحقيق الدكتور أحمد محمد نور سيف (مكة المكرمة، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، الأولى 1399).
- ابن منظور، محمد بن مكرم.
14- لسان العرب (بيروت، دار صادر، الأولى 1410).
- الأبي، محمد بن خلفة أبو عبد الله.
15- إكمال إكمال المعلم (القاهرة، مطبعة السعادة، الأولى 1328).
- الأرنؤوط، شعيب. بالاشتراك مع د. بشار عواد معروف.
16- تحرير تقريب التهذيب (بيروت، مؤسسة الرسالة، الأولى 1417).
- الأزدي، عبد الله بن أبي جمرة.
17- بهجة النفوس وتحليلها بمعرفة مالها وما عليها (بيروت، دار الجيل، الثالثة).
- الأصبحي، مالك بن أنس.
18- الموطأ، رواية يحيى الليثي، طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (بيروت، مصورة دار إحياء التراث العربي).
- الأصبهاني، أحمد بن عبد الله، أبو نعيم.
19- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (بيروت، مصورة دار الكتب العلمية لطبعة مطبعة السعادة 1351).
20- كتاب ذكر أخبار أصبهان (ليدن، طبعة بريل 1934م).
- الأصفهاني، الراغب
21- مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي (دمشق دار القلم، وبيروت الدار الشامية، الأولى 1412.
- الألباني، محمد ناصر الدين.
22- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقها وفوائدها (الرياض، مكتبة المعارف، الرابعة 1408).
23- صحيح الجامع وزياداته (بيروت، المكتب الإسلامي، الثانية 1406).
- ألفا، روني إيلي.(/57)
24- موسوعة أعلام الفلسلفة العرب والأجانب، راجعة د. جورج نخل (بيروت، دار الكتب العلمية، الأولى 1412).
- الأنصاري، عبدالله بن محمد بن جعفر، أبو محمد.
25- طبقات المحدثين بأصبهان، تحقيق عبدالغفور عبدالحق حسين البلوشي (بيروت، مؤسسة الرسالة، الثانية 1412).
- باشا، د. حسان شمسي.
26- النوم والأرق والأحلام بين الطب والقرآن (جدة، دار المنارة للنشر والتوزيع الأولى 1411).
- البخاري، محمد بن إسماعيل.
27- التاريخ الكبير (بيروت، مصورة مؤسسة الكتب الثقافية).
28- الجامع الصحيح، المطبوع مع شرحه فتح الباري لابن حجر، طبعة قصي محب الدين الخطيب (القاهرة، دار الريان، 1407).
- البرزالي، القاسم بن محمد بن يوسف.
- 29- مشيخة قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، تحقيق موفق بن عبدالله بن عبدالقادر (بيروت، دار الغرب الإسلامي، الأولى 1408).
- البزار، أحمد بن عمرو بن عبدالخالق، أبو بكر.
30- البحر الزخار المعروف بمسند الزار، تحقيق د. محفوظ الرحمن زين الله (مؤسسة علوم القرآن ومكتبه العلوم والحكم، الأولى 1409).
- البستي، محمد بن حبان.
31- الثقات (طبعة دائرة المعراف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الأولى 1393).
32- كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، تحقيق محمود إبراهيم زايد (حلب، دار الوعي 1395).
- البغوي، الحسين بن مسعود.
33- شرح السنة، تحقيق شعيب الأرنؤوط (المكتب الإسلامي، الأولى 1403).
34- معالم التنزيل، المطبوع بحاشية (تفسير الخازن) (القاهرة، طبعة مصطفى البابي الحلبي، الثانية 1375).
- البوصيري، أحمد بن أبي بكر.
35- مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، تحقيق موسى محمد علي وعزت علي عطية (القاهرة، دار الكتب الحديثة).
- البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي.
36- الآداب، تحقيق محمد عبد القادر أحمد عطا (بيروت، دار الكتب العلمية، الأولى 1406هـ).(/58)
37- معرفة السنن والآثار، تحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي (جامعة الدراسات الإسلامية ودار قتيبة ودار الوعي ودار الوفاء، الأولى 1411).
38- دلائل النبوة، تحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي (القاهرة، دار الريان للتراث، الأولى 1408).
- الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة.
39- الجامع الصحيح، وهو سنن الترمذي، تحقيق أحمد شاكر وآخرين (بيروت، مصورة دار إحياء التراث العربي).
40- الشمائل المحمدية، طبعة محمد عفيف الزعبي (الأولى 1403).
- توماس، د. هنري
41- أعلام الفلاسفة كيف نفهمهم، ترجمة متري أمين، مراجعة د. زكي نجيب محمود (القاهرة ونيويورك، دار النهضة العربية ومؤسسة فرانكلين 1964م).
- الجرجاني، عبد الله بن عدي.
42- الكامل في ضعفاء الرجال، تحقيق د. سهيل زكار (بيروت، دار الفكر، الثالثة 1409).
- الجزري، المبارك بن محمد، ابن الأثير.
43- النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي (بيروت، مصورة دار الكتب العلمية عن طبعة عيسى البابي الحلبي 1383).
- الحاكم النيسابوري، محمد بن عبدالله.
44- المستدرك على الصحيحين (مصورة دار الكتاب العربي للطبعة الهندية).
- الحفني، د. عبدالمعنم.
45- المعجم الفلسفي (بيروت - دار ابن زيدون، والقاهرة - مكتبة مدبولي، الأولى 1992م).
- الخطابي، حمد بن محمد، أبو سليمان.
46- أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، تحقيق د. محمد بن سعد بن عبدالرحمن آل سعود (مكة المكرمة، جامعة أمر القرى، الأولى 1409).
47- معالم السنن، طبعة محمد راغب الطباخ (حلب، المطبعة العلمية، الأولى 1352).
- الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت، أبو بكر.
48- تاريخ بغداد (بيروت، دار الفكر).
49- المتفق والمتفرق، تحقيق د. محمد صادق آيدن الحامدي (دار القادري، الأولى 1417).
50- موضح أوهام الجمع والتفريق (بيروت، مصورة دار الكتب العلمية عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن 1378).(/59)
- الدارمي، عبدالله بن عبدالرحمن.
51- سنن الدرامي، طبعة محمد أحمد دهمان (دار إحياء السنة النبوية).
- الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان.
52- سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرنؤوط (بيروت، مؤسسة الرسالة، السابعة 1410).
53- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، تحقيق محمد عوامة وأحمد محمد الخطيب (دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن، الأولى 1413).
54- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق علي محمد البجاوي (القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، الأولى 1382).
- الرازي، عبد الرحمن بن أبي حاتم.
55- الجرح والتعديل، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (بيروت، مصورة دار الكتب العلمية لطبعة حيدر آباد 1371).
- الزرقاني، محمد بن عبد الباقي.
56- شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (بيروت، دار الكتب العلمية، الأولى 1411).
- الزيلعي، عبد الله بن يوسف.
57- نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية (مصر، دار المأمون 1357).
- السجتاني، سليمان بن الأشعث، أبو داود.
58- سنن أبي داود، طبعة عزت عبيد الدعاس (حمص، دار الحديث، الاولى 1388).
- السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد.
59- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف (المدينة المنورة، المكتبة العلمية، الثانية 1399).
60- الدر المنثور في التفسير المأثور (بيروت، دار الكتب العلمية، الأولى 1411).
61- قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة، تحقيق خليل محيي الدين الميس (بيروت، المكتب الإسلامي، الأولى 1405).
- الشاشي، الهيثم بن كليب.
62- مسند الشاسي، تحقيق د. محفوظ الرحمن زين الله (المدينة المنورة، مكتبة العلوم والحكم، الأولى 1410).
- الشيباني، أحمد بن محمد بن حنبل.
63- مسند أحمد بن حنبل (مصورة مؤسسة قرطبة للطبعة الميمنية).
- الشيباني، محمد إبراهيم.
64- حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه (الكويت، دار السلفية، الأولى 1407).(/60)
- الصنعاني، عبدالرزاق بن همام.
65- المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي (بيروت، المكتب الإسلامي، الثانية 1403).
- الطبراني، سليمان بن أحمد.
66- مسند الشاميين، تحقيق حمدي عبدالمجيد السلفي (بيروت، مؤسسة الرسالة، الأولى 1409).
67- المعجم الأوسط، تحقيق د. محمود الطحان (الرياض، مكتبة المعارف، الأولى 1405).
68- المعجم الصغير، (بيروت، مصورة دار الكتب العلمية).
69- المعجم الكبير، تحقيق حمدي عبدالمجيد السلفي (العراق، وزارة الأوقاف والشئون الدينية، الثانية 1404).
- الطحاوي، أحمد بن محمد بن سلامة.
70- شرح مشكل الآثار، تحقيق شعيب الأرنؤوط (بيروت، مؤسسة الرسالة، الأولى 1415).
- الطيالسي، سليمان بن داود بن الجارود.
71- مسند أبي داود الطيالسي، تحقيق د. محمد بن عبدالمحسن التركي (القاهرة هجر للطباعة والنشر، الأولى 1419).
- العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر.
72- تقريب التهذيب، تحقيق محمد عوامة (حلب، دار الرشيد، السادسة 1412).
73- تغليق التعليق على صحيح البخاري، تحقيق سعيد بن عبدالرحمن موسى القزقي (بيروت، المكتب الإسلامي. والأردن، دار عمار، الأولى، 1405.)
74- تهذيب التهذيب (بيروت، مصورة دار صادر).
75- شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، علق عليه محمد غياث الصباغ (دمشق، مؤسسة مناهل العرفان، الثانية 1410).
76- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، طبعة قصي محب الدين الخطيب (القاهرة، دار الريان، الأولى 1407).
77- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي (بيروت، دار المعرفة 1414).
- العلاني، خليل بن كيكلدي بن عبد الله.
78- جامع التحصيل في أحكام المراسيل، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي (بيروت عالم الكتب 1407).
- الفارسي، علي بن بلبان.
79- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط (بيروت، مؤسسة الرسالة، الأولى 1407).
- الفراء، يحيى بن زياد أبو زكريا.(/61)
80- معاني القرآن، تحقيق أحمد يوسف نجاتي ومحمد علي النجار (بيروت، عالم الكتب، الثانية 1980م).
- الفراهيدي، الخليل بن أحمد.
81- العين، تحقيق المخزومي والسامرائي (مؤسسة الأعلمي، الأولى 1408).
- فرويد، سيجموند
82- الحلم وتأويله، ترجمة جورج طرابيشي (بيروت، دار الطليعة، الأولى 1976م).
83- الأحلام، عرض وتقديم د. مصطفى غالب (بيروت، مكتبة الهلال 1978م).
- القرطبي، أحمد بن عمر، أبو العباس.
84- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، تحقيق محيي الدين مستو وآخرين (دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، الأولى 1417).
- القرطبي، محمد بن أحمد، أبو عبد الله.
85- الجامع لأحكام القرآن (دمشق، مؤسسة مناهل العرفان).
- القزويني، محمد بن يزيد، ابن ماجه.
86- سنن ابن ماجه، طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (القاهرة، مصورة دار الحديث)
- قطب، سيد
87- في ظلال القرآن (جدة، دار العلم للطباعة والنشر، الثانية عشرة 1406).
- قطب، محمد علي
88- دليل الحيران في تفسير الأحلام (القاهرة، مكتبة القرآن).
- الكتاني، محمد بن جعفر.
89- نظم المتناثر من الحديث المتواتر (بيروت، دار الكتب العلمية، الثانية 1407).
- الكرماني، محمد بن يوسف.
90- شرح صحيح البخاري (بيروت، دار إحياء التراث العربي، الثانية 1401).
- الكفوي، أيوب بن موسى، أبو البقاء.
91- الكليات، تحقيق د. عدنان درويش، ومحمد المصري (بيروت، مؤسسة الرسالة، الأولى 1412).
- لالاند، أندريه
92- موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل (بيروت، وباريس، منشروات عويدات).
- المازري، محمد بن علي بن عمر.
93- المعلم بفوائد مسلم، تحقيق الشيخ محمد الشاذلي النيفر (بيروت، دار الغرب الإسلامي، الثانية 1992م).
- المزي، يوسف بن عبدالرحمن.
94- تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، تحقيق عبدالصمد شرف الدين (بومباي - الدار القيمة، بيروت - المكتب الإسلامي، الثانية 1403).(/62)
95- تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق الدكتور بشار معروف عواد (بيروت مؤسسة الرسالة، الرابعة 1406).
- معروف، د. بشار عواد. انظر: الأرنؤوط، شعيب.
- المناوي، محمد عبدالرؤوف.
96- التيسير في شرح الجامع الصغير (القاهرة مصورة دار الريان عن الطبعة الأولى ببولاق 1286).
97- فيض القدير شرح الجامع الصغير (القاهرة، مصورة دار الحديث).
- الموصلي، أحمد بن علي بن المثنى، أبو يعلى.
98- مسند أبي يعلى الموصلي، تحقيق حسين سليم أسد (دمشق وبيروت، دار الثقافة العربية، الأولى 1412).
- النابلسي، عبد الغني
99- تعطير الأنام في تعبير المنام، المطبوع بحاشيته (تفسير الأحلام) لابن سيرين (بيروت مصورة دار الفكر).
- النسائي، أحمد بن شعيب.
100- السنن الكبرى، تحقيق د. عبد الغفار سليمان البنداري، وسيد كسروي حسن (بيروت، دار الكتب العلمية، الأولى 1411).
- النووي، يحيى بن شرف.
101- شرح صحيح مسلم (المطبعة المصرية- الثالثة).
- النيسابوري، مسلم بن الحجاج.
102- الجامع الصحيح، طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (بيروت، مصورة دار إحياء التراث العربي).
- الهيثمي، علي بن أبي بكر.
103- كشف الأستار عن زوائد مسند البزار على الكتب الستة، تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي (بيروت، مؤسسة الرسالة، الثانية 1404).
104- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (بيروت، مصورة دار الكتب العلمية عن طبعة مكتبة القدسي 1352 بالقاهرة).
- وهبة، د. مراد
105- المعجم الفلسفي (القاهرة، الثالثة 1979م).
106- المعجم الفسلفي، مجمع اللغة العربية (القاهرة، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 1399).
Abstract
The Research title: study of the dream Hadiethes from parts of prophesy;
The Narration & The Recognition.
Field of study: Hadieth study; the relation between two Hadieth sciences;
The Narration & The Recognition.(/63)
Researcher: Dr. Hasan Mohammed Abagi. specialization is Hadieth Sharif.
No of pages (107 P)
Objective of study: This study aims to find scientific answers & clearer for
questions about these Hadiethes that were mentioned about the dream that is
a part of prophesy, the most important of these questions are how we deal
with number of Hadithes in same subject, & these Hadiethes are different in
two points: The number of parts of prophesy, features of dream & The
dreamer, then what the mean of part of prophesy? & How the one who is not
a prophet obtain him? & when do we consider the dream a part of the
prophesy.
The Research procedures: The researcher collected the Hadiethes
mentioned in this chapter, then Narrated them & studied the Sanad of each
Hadieth, then distinguished between The Correct & The Non- correct.
Since these Hadiethes are too many - they are eighteen Hadiethes, He handled the succession of this narration then explained it, and cast light on three points: First: features of the dream & the dreamer through these Hadiethes, Second: Compromising between proper Narration in their differences concerning the number of part of prophesy, Third: Explanation of meaning of (part of prophesy). The Most important results of this study:
1 - The most proper of these five Narration are: (respectively): (46, then 70, then 45, then 40). The others are referred to these proper Narration or have no Sanad.
2 - The succession of this Narration is that this kind of dream with its conditions is a part of prophesy without determining the level of this part.(/64)
3 - The dream is not a part of the prophesy unless it was a good dream & the dreamer is also a good man.
4 - The difference in the number of parts is attributed to the difference of dreamers is he a good man or not, or attributed to dreams in its implications; antoher opinions were also said.
5 - The part of prophesy some thing does not mean assuring that thing; because parts of prophesy to the dreamer does not mean that this is a real prophesy.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] الآية (7) من سورة الحشر.
[2] الآية (80) من سورة النساء.
[3] نقلاً عن: الفراهيدي، الخليل بن أحمد، من أئمة اللغة والأدب (ت 170هـ)، "العين" 8: 307 تحقيق د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي (مؤسسة الأعلمي، الأولى 1408).
[4] الواحدي، علي بن أحمد، أبو الحسن الواحدي، من أئمة التفسير (ت 468هـ)، وهذا النقل ليس في كتابه "الوجيز" المطبوع، ولعله في "البسيط" أو "الوسيط" له، وهما حسب علمي لم يطبعا، وقد نقلته بواسطة ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (ت 852هـ) "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" 12: 369، طبعة قصي محب الدين الخطيب (القاهرة، دار الريان، الأولى 1407).
[5] أبو البقاء، أيوب بن موسى الكفوي (ت 1094هـ)، "الكليات" ص 475، تحقيق د. عدنان درويش، ومحمد المصري (بيروت، مؤسسة الرسالة، الأولى 1412).
[6] ابن بري، عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي الأصل المصري، من علماء العربية (ت 582 هـ) والنقل عنه بواسطة ابن منظور الإفريقي، محمد بن مكرم (لسان العرب) 14: 297 (بيروت، دار صادر، الأولى 1410).(/65)
[7] الراعي، عبيد بن حصين، أبو جندل النميري، من فحول الشعراء، وكان سيداً في قومه، ولقب بالراعي لأنه كان يصف راعي الإبل في شعره، عاصر جريراً والفرزدق، وكان يفضل الفرزدق فهجاه جرير هجاء مراً: ابن قتيبة "الشعر والشعراء" ص 270 (بيروت، طبعة دار إحياء العلوم، الخامسة 1414).
[8] الأبيات التي جاءت قبل هذا البيت تدل على أن الرؤية هنا في اليقظة، أفاده أبو بكر ابن العربي محمد بن عبد الله بن محمد المعاقري (ت 543 هـ) في "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" 3: 1135، تحقيق د. محمد عبد الله ولد كريم (بيروت، دار الغرب الإسلامي، الأولى 1992).
[9] الآية (60) من سورة الإسراء.
[10] البخاري، محمد بن إسماعيل: "الجامع الصحيح" المطبوع مع شرحه "فتح الباري"، طبعة قصي محب الدين الخطيب (القاهرة، دار الريان 1407): كتاب مناقب الأنصار –باب المعراج 7: 242 (3888)، وكتاب التفسير – باب (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) 8: 250 (4716).
[11] "فتح الباري" 8: 250.
[12] أبو الطيب، أحمد بن الحسين المتنبي، الشاعر المشهور (ت 354 هـ).
[13] الفراء، يحيى بن زياد، أبو زكريا، إمام في علوم العربية (ت 207هـ)الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان "سير أعلام النبلاء" 10: 118 تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين (بيروت، مؤسسة الرسالة، السابعة 1410هـ)، والنقل عن كتاب الفراء "معاني القرآن" 2: 35، تحقيق أحمد يوسف نجاتي ومحمد على النجار (بيروت، عالم الكتب، الثانية 1980م).
[14] علق محققه: "مراعاة لها كأنها موجودة، ومن ثم تجنب القلب والإدغام".
[15] المرجع السابق.
[16] "العين" 8: 307.
[17] "معاني القرآن" 2: 35.
[18] الكسائي، على بن حمزة بن عبدالله، أبو الحسن، إمام في القراءة والعربية (ت 189هـ). "سير أعلام النبلاء" 9: 131، والنقل عنه بواسطة "لسان العرب" 14: 297.
[19] "اللسان" 14: 297.
[20] المرجع السابق.
[21] "العين" 8: 307.
[22] "اللسان" 14: 287.(/66)
[23] جالينوس كلاوديوس، طبيب وفيلسوف يوناني، (ت 201م)، من مصنفاته: "منهج الطب" و"التاريخ الفلسفي" و"شروح على أبقراط" ألفا، روني إيلي "موسوعة أعلام الفلسفة العرب والأجانب" 1: 371- 372، راجعه: د. جورج نخل (بيروت، دار الكتب العلمية، الأولى 1412).
[24] باشا، د. حسان شمس "النوم والأرق والأحلام بين الطب والقرآن" ص 151 0جدة، دار المنارة للنشر والتوزيع، الأولى 1411).
[25] أرسطو طاليس، عالم وفيلسوف يوناني مشهور، (ت 322 ق.م)، كان أحد تلامذة أفلاطون، من مصنفاته أغاليط السوفسطائيين والمنامات والسيلسة. توماس، د. هيري "أعلام الفلاسفة كيف نفهمهم" ص 108 وما بعدها، ترجمة متري أمين، مراجعة د. زكي نجيب محمود (القاهرة ونيويورك، دار النهضة العربية ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1964م)، و"موسوعة أعلام الفلاسفة" 1: 72- 76.
[26] "النوم والأرق والأحلام" ص 151.
[27] المازري، محمد بني علي بن عمر، فقيه محدث إمام (ت 536هـ) "المعلم بفوائد مسلم" 3: 115، تحقيق محمد الشاذلي النيفر (بيروت، دار الغرب الإسلامي، الثانية 1992م).
[28] فرويد، سيجموند "الحلم وتأويله" ص7، ترجمة جورج طرابيشي (بيروت، دار الطليعة، الأولى 1976).
[29] "المعلم" 3: 115.
[30] ديموقريطس الأبديري، فيلسوف يوناني، (ت نحو سنة 370 ق.م)، أسس مدرسة أبدير سنة 420 ق.م، من مصنفاته: "فيثاغورس أو: تصرف الحكيم" و"في الفضيلة" و"في جهنم"، وقد فقدت سائر مصنفاته حوالي القرن الثالث بعد الميلاد. "موسوعة أعلام الفلسفة" 1: 455- 456، و"أعلام الفلاسفة" ص 74.
[31] "النوم والأرق والأحلام" ص 151.
[32] "المعلم" 3: 116.
[33] في مطبوعة "المعلم": [العالم]، والتصويب من الأبي، محمد بن خلفه في "إكمال إكمال المعلم" 6: 96 (القاهرة، مطبعة السعادة، الأولى 1328).
[34] الحفني، د. عبد المنعم "المعجم الفلسفي" ص 119 (بيروت دار ابن زيدون، والقاهرة مكتبة مدبولي الأولى 1992م).(/67)
[35] لالاند، أندريه "موسعة لالاند الفلسفية" 3: 1221، تعريب خليل أحمد خليل (بيروت وباريس منشورات عويدات)، ومجمع اللغة العربية "المعجم الفلسفي" ص 76 (القاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية 1399).
[36] فرويد، سيجموند (1856 - 1939م) يهودي، من أشهر علماء النفس في العصر الحديث، وصاحب نظرية التحليل النفسي، والتي استبانت في أشهر أعماله "تفسير الأحلام" الذي أصدر عام 1910م، وقد افتتن به الكثيرون ورددوا كلامه.
[37] وهبة، د. مراد "المعجم الفلسفي" ص180 (الطبعة الثالثة 1979م).
[38] "النورم والأرق والأحلام" ص 139- 141 بتصرف يسير.
[39] فرويد، سيجموند "الأحلام" ص 14 بتصرف، عرض وتقديم د. مصطفى غالب (بيروت، مكتبة الهلال، 1987م).
[40] سيد قطب، سيد بن قطب بن إبراهيم، مفكر إسلامي (ت 1387هـ) الزركلي، خير الدين "الأعلام" 3: 147 (بيروت، دار العلم للملايين، السادسة 1984م) والكلام المنقول عنه من كتابه "في ظلال القرآن" 4: 1972 (جدة، دار العلم للطباعة والنشر، الثانية عشرة 1406).
[41] الآية (85) من سورة الإسراء.
[42] البخاري: كتاب التعبير، باب القيد في المنام 12: 422 حديث (7017)، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، الجامع الصحيح: كتاب الرؤيا 4: 1773 حديث 6 (2263)، طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (بيروت، مصورة دار إحياء الكتب العربية).
[43] هذا لفظ مسلم، وعند البخاري: "قال: وكان يقال: الرؤيا ثلاث..." وذكره، قال الحافظ ابن حجر: "قائل (قال) هو محمد بن سيرين، وأبهم القائل في هذه الرواية، وهو أبو هريرة، وقد رفعه بعض الرواة ووقفه بعضهم" ثم ذكر ممن رواه مرفوعاً أحمد ومسلماً وأبا داود والترمذي والنسائي.
[44] الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة "الجامع الصحيح" المشهور بـ "سنن الترمذي": كتاب الرؤيا - باب في تأويل الرؤيا ما يستحب منها وما يكره 4: 537 (2280)، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرين (بيروت، مصورة دار إحياء التراث العربي).(/68)
[45] ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، أبو عبدالله، أحد الأئمة في علم الحديث، وكتابه "السنن" أحد الكتب الستة المعتمدة، توفي سنة 273، والحديث المذكور في سننه: كتاب تعبير الرؤيا - الرؤيا ثلاث 2: 1285 (3907) طبعة محمد فؤاد عبدالباقي (القاهرة، مصورة دار الحديث).
[46] القائل هو: أبو عبيد الله مسلم بن مشكم راوي هذا الحديث، قاله لعوف بن مالك تثبتاً وتأكداً.
[47] البوصيري، أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم الكناني الشافعي، أبو العباس، شهاب الدين، من حفاظ الحديث، توفي سنة 840، والنقل عن كتابه: "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" 3: 215 (1367)، تحقيق موسى محمد علي وعزت علي عطية (القاهرة، دار الكتب الحديثة).
[48] ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم "مجموع الفتاوى" 17: 522، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد (السعودية، طبعة الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين).
[49] "المعلم" 3: 116.
[50] أخرجه الشيخان من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، البخاري: كتاب التعبير - باب الرؤيا من الله (6984)، ومسلم كتاب الرؤيا 4: 1771 حديث1 (2261)، وتمامه عند مسلم: ((فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره".
[51] القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي الأندلسي، من كبار المفسرين، توفي سنة 671، والنقل عن كتابه "الجامع لأحكام القرآن" 9: 125 (دمشق، مؤسسة مناهل العرفان).
[52] ابن العربي: أبو بكر، محمد بن عبدالله "عارضة الأحوذي شرح الترمذي" 9: 127 (بيروت، دار الكتاب العربي).
[53] "فتح الباري" 12: 425 عند شرح حديث (7017).
[54] ص 17- 18.
[55] ص 24.
[56] المرجع السابق.
[57] مسلم: كتاب الرؤيا – باب لا يخبر بتلعب الشيطان به في المنام 4: 1776- 1777 حديث 15 (2268).
[58] "فتح الباري" 12: 425 عند شرح حديث (7017).
[59] المرجع السابق.(/69)
[60] "الجامع لأحكام القرآن" 9: 200.
[61] الأصفهاني، الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم، المعروف بالرغاب، عالم أديب، توفي سنة 502 والنقل عن كتابه "مفردات ألفاظ القرآن" ص509، تحقيق صفوان عدنان داوودي (دمشق دار القلم، وبيروت الدار الشامية، الأولى 1412).
[62] الآية (44) من سورة يوسف.
[63] أبو العباس القرطبي؛ أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي، ففيه مالكي ومن رجال الحديث، توفي سنة 656، والنقل عن كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 6: 9، تحقيق محيي الدين مستو وآخرين (دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، الأولى 1417).
[64] قطب، محمد علي "دليل الحيران في تفسير الأحلام" ص6 (القاهرة، مكتبة القرآن)".
[65] "فتح الباري" 12: 371 عند شرح حديث (6982).
[66] النابلسي، عبدالغني بن إسماعيل بن عبدالغني، العالم الأديب الشاعر المتصوف، تصانيفه كثيرة، توفي سنة 1143، والنقل عن كتابه "تعطير الأنام في تعبير المنام" 1: 4 المطبوع بحاشيته "تفسير الأحلام" لابن سيرين (بيروت، مصورة دار الفكر).
[67] نقلاً عن القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" 9: 122.
[68] ضبط الحافظ ابن حجر (العَقيلي) بفتح العين، وذلك في ترجمة (وكيع بن عُدُس) ابن أخي المذكور. "تقريب التهذيب" (7415)، تحقيق محمد عوامة (حلب، دار الرشيد، السادسة 1412)، لكن ظاهر كتب الرسم تؤيد ضم العين، والله أعلم.
[69] مالك بن أنس الأصبحي "الموطأ" رواية يحي الليثي 2: 956 (1)، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي (بيروت، مصورة دار إحياء التراث العربي عن طبعة البابي الحلبي).
[70] نقلاً عن البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي "معرفة السنن والآثار" 14: 484 (20857)، تحقيق الدكتور عبدالمعطي قلعجي (كراتشي، جامعة الدراسات الإسلامية، الأولى 1411).
[71] أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني "المسند" 3: 126، 149 (القاهرة، مؤسسة قرطبة للطبعة الميمنية).(/70)
[72] البخاري: كتاب التعبير - باب رؤيا الصالحين 12: 378 (6983).
[73] النسائي، أحمد بن شعيب "السنن الكبرى": التعبير - الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح 4: 383 (7624)، تحقيق د. عبدالغفار سليمان البنداري، وسيد كسروي حسن (بيروت، دار الكتب العلمية، الأولى 1411).
[74] "سنن ابن ماجه": تعبير الرؤيا –الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له 2: 1282 (3893).
[75] الطحاوي، أحمد بن محمد بن سلامة "شرح مشكل الآثار" 5: 416 (2147) تحقيق شعيب الأرنؤوط (بيروت، مؤسسة الرسالة، الأولى 1415).
[76] ابن بلبان، علي بن بلبان الفارسي "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" 13: 408 (6043)، تحقيق شعيب الأرنؤوط (بيروت، مؤسسة الرسالة، الثانية 1414هـ).
[77] البغوي، الحسين بن مسعود "شرح السنة" 12: 203 (3273) تحقيق شعيب الأرنؤوط (بيروت، المكتب الإسلامي، الأولى 1403).
[78] ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله "تاريخ مدينة دمشق" 7: 229، تحقيق عمر بن غرامة العمروي (بيروت، دار الفكر، 1416).
[79] البرازلي، القاسم بن محمد بن يوسف "مشيحة قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة" 1: 397- 398 تحقيق موفق بن عبد الله بن عبد القادر (بيروت، دار الغرب الإسلامي، الأولى 1408).
[80] "المسند" 3: 269.
[81] البخاري: التعبير –باب من رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- 12: 399- 400 (6994).
[82] الترمذي: محمد بن سورة، أبو عيسى "الشمائل المحمدية": باب ما جاء في رؤية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ص 324 (395)، طبعة محمد عفيف الزعبي (الأولى 1403).
[83] أبو يعلى الموصلي، أحمد بن علي بن المثنى، "مسند أبي يعلى" 6: 41 (3285)، تحقيق حسين سليم أسد (دمشق وبيروت، دار الثقافة العربية، الأولى 1412).
[84] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1774 عند 7 (2264).(/71)
[85] أبو نعيم الأصبهاني، أحمد بن عبدالله "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" 2: 330 (بيروت مصورة دار الكتب العلمية لطبعة مطبعة السعادة 1351).
[86] "شرح السنة" 12: 225 – 226 (3286).
[87] "التمهيد" 1: 282.
[88] انظر: "الجرح والتعديل" 3: 39(166) و"سير أعلام النبلاء" 13: 526 (258).
[89] "فتح الباري" 12: 380 عند شرح حديث (6983).
[90] ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد "المصنف" 6: 174 (30451)، طبعة محمد عبد السلام شاهين (بيروت، دار الكتب العلمية، الأولى 1416).
[91] "المسند" 3: 106.
[92] "مسند أبي يعلى" 6: 153- 154، 435، 400- 401 (3430، 3812، 3754).
[93] "شرح السنة" 12: 226 (3286).
[94] هو الأستاذ حسين سليم أسد في تعليقه على "مسند أبي يعلى" 6: 154.
[95] العلائي، خليل بن كيكلدي بن عبدالله "جامع التحصيل في أحاكم المراسيل" ص201-202، تحقيق حمدي عبدالمجيد السلفي (بيروت، عالم الكتب 1407).
[96] "صحيح البخاري" 12: 390 عقب حديث (6988).
[97] "تغليق التعليق" 5: 266، و"فتح الباري" 12: 391.
[98] الطيالسي، سليمان بن داود بن الجارود "مسند أبي داود الطيالسي" 1: 469 (576) تحقيق د. محمد بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة، هجر للطباعة والنشر، الأولى 1419).
[99] "سنن الترمذي": كتاب الرؤيا –باب إن رؤيا المؤمن جزء.... 4: 532 (2271).
[100] البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي "دلائل النبوة" 7: 7، تحقيق الدكتور عبد المعطي قلمجي (القاهرة، دار الريان للتراث، الأولى 1408).
[101] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1774 حديث 7 (2264).
[102] "المصنف" 6: 173 (30444).
[103] الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن "سنن الدارمي" 2: 123، طبعة محمد أحمد دهمان (دار إحياء السنة النبوية).
[104] "المسند" 5: 316.
[105] "المسند" 3: 185.
[106] "المسند" 5: 319.
[107] "صحيح البخاري": كتاب التعبير –باب الرؤيا الصالحة جزء... 12: 389 (6987).(/72)
[108] أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث "السنن": كتاب الأدب –باب ما جاء في الرؤيا 5: 281- 282 (5018)، طبعة عزت عبيد الدعاس (حمص، دار الحديث، الأولى 1388).
[109] "السنن الكبرى": كتاب التعبير – الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح 4: 383 (7625).
[110] البزار، أحمد بن عمرو بن عبدالخالق "البحر الزخار" المعروف بمسند البزار 7: 125 (2678) تحقيق د. محفوظ الرحمن زين الله (مؤسسة علوم القرآن ومكتبه العلوم والحكم، الأولى 1409).
[111] "مسند أبي يعلى" 6: 15-16 (3237).
[112] الشاشي، الهيثم بن كليب "مسند الشاشي" 3: 109 (1167)، تحقيق محفوظ الرحمن زين الله (المدينة المنورة، مكتب العلوم والحكم، الأولى، 1410).
[113] المرجع السابق3: 110 (1168).
[114] "دلائل النبوة" 7: 7.
[115] "المسند" 5: 316.
[116] "شرح مشكل الآثار" 5: 415-416 (2173).
[117] "سنن الترمذي" 4: 532.
[118] "الموطأ" 2: 956 عند حديث (1).
[119] نقلاً عن البيهقي "معرفة السنن والآثار" 14: 484 (20858).
[120] "المصنف" 11: 213 (20355).
[121] "المسند" 2: 269.
[122] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1774 حديث 8 (2263).
[123] "دلائل النبوة" 7: 9.
[124] "المصنف" 6: 173 (30441).
[125] "المسند" 2: 233.
[126] "سنن ابن ماجه": تعبير الرؤيا - الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له 2: 1282 (3894).
[127] البخاري: كتاب التعبير – باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة 12: 390 (6988).
[128] عبدالرزاق بن همام الصنعاني "المصنف" 11: 211-222 (20352)، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي (بيروت، المكتب الإسلامي، الثانية 1403).
[129] "المسند" 2: 269.
[130] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1773 عند حديث 6 (2263).
[131] الحاكم، محمد بن عبدالله النيساويوري "المستدرك على الصحيحين" 4: 390 (مصورة دار الكتاب العربية للطبعة الهندية).(/73)
[132] البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي "الآداب" ص445-446 (986)، تحقيق محمد عبدالقادر أحمد عطا (بيروت، دار الكتب العلمية، الأولى 1406).
[133] "شرح السنة" 12: 209-210 (3279).
[134] "المسند" 2: 507.
[135] "صحيح البخاري": كتاب التعبير - باب القيد في المنام 12: 422 (7017).
[136] "سنن الترمذي": الرؤيا - باب أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة 4: 532 (2270).
[137] "سنن ابن ماجة": تعبير الرؤيا - أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثاً 2: 1289 (3917).
[138] الطبراني، سليمان بن أحمد "المعجم الأوسط" 3: 42 (2078) تحقيق د. محمود الطحان (الرياض مكتبة المعارف، الأولى 1405).
[139] "المعجم الأوسط" 1: 249- 250 (395).
[140] "شرح مشكل الآثار" 5: 416- 417 (2175).
[141] ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله بن محمد، أبو عمر "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" 1: 287، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري (المغرب، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، 1387). و"الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار" 27: 126- 127 (40482)، تحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي (دار قتيبة ودار الوعي، الأولى 1414).
[142] ابن عدي، عبد الله بن عدي الجرجاني "الكامل في ضعفاء الرجال" ترجمة (عبد الله بن عيسى الخزاز) 4: 251، تحقيق سهيل زكار (دار الفكر، الثالثة 1409).
[143] نقلاً عن: الهيثمي، علي بن أبي بكر "كشف الأستار عن زوائد مسند البزار على الكتب الستة" 3: 13 (2126) تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي (بيروت، مؤسسة الرسالة الثانية 1404).
[144] "ميزان الاعتدال" 2: 470 (4496).
[145] "المجمع" 7: 174.
[146] "المصنف" 6: 173 (30442).
[147] "المسند" 2: 495.
[148] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1774 عند حديث 8(2263).
[149] "المسند" 2: 369.(/74)
[150] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1774 عند حديث 8 (2263).
[151] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1774 عند حديث 8 (2263).
[152] "الكامل" ترجمة (عبد الله بن يحيى بن أبي كثير) 4: 215- 216.
[153] "المسند" 2: 438.
[154] "شرح مشكل الآثار" 5: 418 (2177).
[155] "شرح السنة" 12: 206 (3276).
[156] "المسند" 2: 314.
[157] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1775 عند حديث 8 (2263).
[158] "سنن الترمذي": الرؤيا - رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة 4: 532 (2270).
[159] "المستدرك" 4: 390.
[160] "شرح السنة" 12: 206 (3276).
[161] "البحر الزخار" 4: 126-127 (1298).
[162] "المعجم الأوسط" 6: 380 (5808).
[163] "التمهيد" 1: 281.
[164] تحرف في المطبوع إلى: "الذهبي"، والتصويب من كتب الرجال.
[165] البخاري، محمد بن إسماعيل "التاريخ الكبير" 7: 2 (بيروت، مؤسسة الكتب الثقافية).
[166] "شرح مشكل الآثار" 5: 417 (2176).
[167] "مسند أبي يعلى" 12: 63-64 (6706).
[168] من قوله: "فقال ابن عباس.." إلى آخره، نقلاً عن ابن حجر العسقلاني: "المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية" 3: 43 (2833)، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي (بيروت، دار المعرفة 1414).
[169] "التقريب" (5725).
[170] "فتح الباري" 12: 380 عند شرح حديث (6983).
[171] "البخاري": التعبير –باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين... 12: 390 (6989).
[172] "مسند أبي يعلى" 2: 513 (1362).
[173] انظر التعليق على "مسند أبي يعلى" 2: 513 (1362).
[174] انظر "تهذيب الكمال" 25: 60.
[175] "التقريب" (5815).
[176] "المصنف" 6: 181 (30498).
[177] "التاريخ الكبير" 8: 348 رقم الترجمة (3276).
[178] "سنن ابن ماجة": كتاب تعبير الرؤيا - باب الرؤيا ثلاث 2: 1285 – 1286 (3907).
[179] "المعجم الأوسط" 7: 380 (6738).(/75)
[180] الطبراني، سليمان بن أحمد "المعجم الكبير" 18: 63- 64 (118) تحقق حمدي عبدالمجيد السلفي (العراق، وزارة الأوقاف والشئون الدينية، الثانية 1404).
[181] "التمهيد" 1: 285-286، و"الاستذكار" 27: 126 (40481).
[182] في مطبوعة "المعجم الكبير": (هشام بن عتمان)، والتصويب من كتب الرجال.
[183] "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" 32: 209 ترجمة (يزيد بن عبيدة بن أبي المهاجر السكوني)، تحقيق بشار معروف عواد (بيروت، مؤسسة الرسال، الرابعة 1406).
[184] "المعجم الكبير" 18: 63- 64 (118).
[185] (أبو زرعة) هذا، غير (محمد بن أبي زرعة) المتقدم قريباً، وكلاهما دمشقي وشيخ للطبراني، انظر: "المعجم الأوسط" 5: 328، و7: 364.
[186] "المعجم الكبير" 18: 63- 64 (118).
[187] "الإحسان" 13: 407 (6042).
[188] "تاريخ مدينة دمشق" 58: 119- 120، 65: 314.
[189] "تهذيب الكمال" ترجمة (يزيد بن عبيدة بن أبي المهاجر السكوني" 32: 209.
[190] "المعجم الكبير" 18: 63- 64 (118).
[191] "شرح مشكل الآثار" 5: 418 (2178).
[192] "البحر الزخار" 7: 177 (2743).
[193] "مصباح الزجاجة" 3: 215 (1367).
[194] "فتح الباري" 12: 425 عند شرح حديث (7017).
[195] "مجمع الزوائد" 7: 174.
[196] انظر "تهذيب الكمال" 32: 208.
[197] الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان "الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة" 2: 382 (6342)، تحقيق محمد عوامة وأحمد محمد نمر الخطيب (دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن، الأولى 1413).
[198] "التقريب" (7755).
[199] (تهذيب الكمال) 32: 208 (7029).
[200] "مسند الطيالسي" 2: 414 (1184).
[201] "سنن الترمذي": كتاب الرؤيا –ما جاء في تعبير الرؤيا 4: 536 (2278).
[202] الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت، أبو بكر "موضح أوهام الجميع والتفريق" 2: 333- 334. (بيروت، مصورة دار الكتب العلمية عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بيحدر آباد الدكن 1378).(/76)
[203] "الإحسان" 13: 413 (6049).
[204] "المعجم الكبير" 19: 205 (462).
[205] "التاريخ الكبير" 8: 178 رقم الترجمة (2615).
[206] "سنن الترمذي": كتاب الرؤيا - باب ما جاء في تعبير الرؤيا 4: 536 (2279).
[207] "مسند ابن الجعد" ص256 (1697).
[208] البغوي، الحسين بن مسعود "شرح السنة" 12: 213 (3281)، و"معالم التنزيل" المطبوع بحاشية "تفسير الحازن" 3: 263 (القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الثانية 1375).
[209] "سير أعلام النبلاء" 18: 397-398.
[210] "المعجم الكبير" 19: 204-205 (461).
[211] "التمهيد" 1: 283.
[212] "التاريخ الكبير" 8: 178 رقم الترجمة (2615).
[213] "المعجم الكبير" 19: 205- 206 (463).
[214] "الإحسان" 13: 420 (6055).
[215] "التقريب" (162).
[216] المرجع السابق.
[217] "المصنف" 6: 173 (30440).
[218] "المسند" 4: 10.
[219] "سنن ابن ماجة": تعبير الرؤيا - الرؤيا إذا عبرت وقعت.. 2: 1288 (3914).
[220] "المعجم الكبير" 19: 206 (464).
[221] "الإحسان" 13: 415 (6050).
[222] "شرح السنة" 12: 214 (3282).
[223] "تاريخ مدينة دمشق" 40: 3، وتحرف فيه (هشيم) إلى: هشام.
[224] "المعجم الكبير" 19: 204-205 (461).
[225] "تاريخ ابن معين" رواية الدوري، تحقيق الدكتور أحمد محمد نور سيف 4: 386 (4914)، (مكة المكرمة –مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى- الأولى 1399).
[226] ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم "تأويل مختلف الحديث" تحقيق محمد زهري النجار 1: 222 (بيروت، دار الجيل 1393)، والذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان "ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، تحقيق علي محمد البجاوي 4: 335 (9355) (القاهرة، مطبعة عيسى البابلي الحلبي، الأولى 1382).
[227] 5: 496.
[228] "التقريب" (7415).
[229] حديث رقم (2278- 2279).
[230] "المستدرك" 4: 390.(/77)
[231] "فتح الباري" 12: 377. وانظر: الألباني، محمد ناصر الدين في "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" 1: 187- 188 (120)، (الرياض، مكتبة المعارف، الرابعة 1408).
[232] "مسند أبي يعلى" 4: 249 (2361).
[233] "المعجم الكبير" 11: 245 (11627).
[234] في مطبوعة "المعجم الكبير": "حدثنا سعيد بن يحيى، عن سعيد الأموي" بتحريف "بن" إلى "عن" فصير سعيداً رجلين، والتصويب من إسناد أبي يعلى السابق وكتب الرجال.
[235] "المسند" 1: 315.
[236] "مسند أبي يعلى" 4: 466 – 467 (2598).
[237] "شرح مشكل الآثار" 5: 413 (2169).
[238] "المعجم الكبير" 11: 277 (11727).
[239] "التمهيد" 1: 282.
[240] "مجمع الزوائد" 7: 172.
[241] "تهذيب الكمال" 21: 364- 366 (4242).
[242] "الميزان" 2: 232- 234 (3548).
[243] "التقريب" (2624).
[244] "فتح الباري" 12: 379- 380 عند حديث (6983).
[245] "التقريب" (4193).
[246] "الموطأ" 2: 957 (3).
[247] "المصنف" 6: 173 (30446).
[248] "المسند" 2: 18.
[249] "المسند" 2: 137.
[250] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1775 عند حديث 9 (2265).
[251] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1775 حديث 9 (2265).
[252] "السنن الكبرى": كتاب التعبير – الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح 4: 283 (7626).
[253] "سنن ابن ماجه": تعبير الرؤيا – الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له 2: 1283 (3897).
[254] "شرح مشكل الآثار" 5: 413 (2170).
[255] "دلائل النبوة" 7: 9.
[256] "التمهيد" 1: 282.
[257] "المسند" 2: 122.
[258] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1775 عند حديث 9 (2265).
[259] "الكامل" ترجمة (عبدالله بن عامر الأسلمي) 4: 155.
[260] "مجمع الزوائد" 7: 174-175.
[261] "المسند" 2: 119.
[262] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1775 عند حديث 9 (2265).(/78)
[263] الطبراني، سليمان بن أحمد "مسند الشاميين" 1: 410 (714)، تحقيق حمدي عبدالمجيد السلفي (بيروت، مؤسسة الرسالة، الأولى 1409).
[264] "التمهيد" 1: 282.
[265] "المسند" 2: 49 – 50.
[266] الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت، أبو بكر "تاريخ بغداد" 5/ 189، (بيروت، دار الفكر).
[267] المرجع السابق 5: 188.
[268] "الصحيحة" 4: 487 (1869).
[269] الطبراني، سليمان بن أحمد "المعجم الصغير" 2: 56 (بيروت، مصورة دار الكتب العلمية).
[270] أبو نعيم الأصبهاني، أحمد بن عبدالله "كتاب ذكر أخبار أصبهان" 2: 221 (ليدن، طبعة ابريل 1934م).
[271] "مجمع الزوائد" 7: 173.
[272] "مسند الشاشي" 2: 240 (810).
[273] "المعجم الكبير" 10: 223 (10540).
[274] "ميزان الاعتدال" 3: 131 (5850).
[275] "فتح الباري" 12: 379 عند حديث (6983).
[276] أبو محمد الأنصاري، عبد الله بن محمد بن جعفر "طبقات المحدثين بأصبهان" تحقيق عبد الغفور عبد الحق حسين البلوشي 3: 437 (443)، (بيروت، مؤسسة الرسالة، الثانية 1412).
[277] "شرح مشكل الآثار" 5: 414 (2171).
[278] "مسند الشاشي" 2: 255 (829).
[279] "المعجم الكبير" 10: 221 (10532).
[280] "البحر الزخَّار" 5: 250 (388).
[281] "المصنَّف" 6: 173-174 (30450).
[282] "المصنف" 11: 213(20357).
[283] الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت، أبو بكر "المتفق والمفترق" 3: 1675 (1172، 1171) تحقيق د. محمد صاقد آيدن الحامدي (دار القادري، الأولى 1417).
[284] "المعجم الكبير" 9: 217-218 (9057).
[285] "التقريب" (5065).
[286] "الميزان" 2: 86 (2921).
[287] نقلاً عن المرجع السابق.
[288] السابق.
[289] "الميزان" 3: 18 (5411).
[290] "المجمع" 10: 388.
[291] "المجمع" 2: 37.
[292] "الكامل" 4: 255.
[293] "المجمع" 7: 173.
[294] "المسند" 2: 232.
[295] "المسند" 2: 342.
[296] "الإحسان" 13: 409 (6044).(/79)
[297] "المصنف" 6: 174 (30452).
[298] "المجمع" 7: 173.
[299] "سؤالات الآجري" 3: 167.
[300] الرازي، عبد الرحمن بن أبي حاتم "الجرح والتعديل" 7: 167 (946) تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (بيروت، مصورة دار الكتب العلمية لطبعة حيدر أباد 1371).
[301] ابن حبان، محمد بن حبان البستي: الثقات" 5: 337 (طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الأولى 1393).
[302] "الطبقات" 6: 123.
[303] "التقريب" (5660).
[304] "التقريب" (7746).
[305] نقلاً عن ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي "تهذيب التهذيب" 11: 345 (بيروت، مصورة دار صادر).
[306] 5: 542.
[307] "سنن الترمذي" 4: 363 (2004).
[308] "المعجم الأوسط" 6: 416 (5887).
[309] "المجمع" 7: 174.
[310] "التقريب" (6108).
[311] "الميزان" 2: 585 (4951).
[312] المرجع السابق 2: 365 (4108).
[313] انظر الحديث رقم (1).
[314] "المصنف" 6: 174 (30456).
[315] تحرف في المطبوع إلى: سفيان، والتصويب من مصادر التخريج الأخرى، ومن المزي، يوسف بن عبد الرحمن في كتابه: "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" 3: 422 (4225)، تحقيق عبد الصمد شرف الدين (بيروت، المكتب الإسلامي، الثانية 1403).
[316] (عن عطية) ساقط من مطبوعة "المصنف".
[317] "سنن أبن ماجه": تعبير الرؤيا –الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له 2: 1282 (3895).
[318] "مسند أبي يعلى" 2: 493 (1335).
[319] "شرح مشكل الآثار" 5: 415 (2172).
[320] "الميزان" 3: 79 (5667).
[321] ابن حبان، محمد بن حبان البستي "كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين" 2: 176، تحقيق محمود إبراهيم زايد (حلب، دار الوعي 1395).
[322] المرجع السابق.
[323] "مصباح الزجاجة" 3: 212 (1361).
[324] "صحيح الجامع وزياداته" 1: 650 (3459)، (بيروت، المكتب الإسلامي، الثانية 1406).(/80)
[325] الشيباني، محمد إبراهيم "حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه" 2: 571 (الكويت، دار السلفية الأولى 1407).
[326] ص 49.
[327] "حسدس" ويقال: (عدس) قال ابن حبان في "الثقات" 5: 496: "أرجو أن يكون الصواب بالحاء، سمعت عيدان الجواليقي يقول: الصواب حدس، وإنما قال شعبة: عدس، فتابعه الناس".
[328] ص 47.
[329] "صحيح مسلم": كتاب الرؤيا 4: 1773 حديث 6 (2263).
[330] كذا في النسخ المطبوعة من "صحيح مسلم" التي بين أيدينا، وهذا لا يتفق مع قاعدة العدد الذي هو بين الثلاثة والتسعة، حيث يكون العدد فيها مخالفاً للمعدود تذكيراً وتأنيثاً، ولما كان المعدود هنا (جزء) وهو مذكر، وجب تأنيث العدد فيقال: (خمسة) لا (خمس)، هذا هو الصواب، وحاشا أفصح من نطق بالضاد أن يقع منه هذا، فهو معصوم وكلامه معصوم، وكل الروايات التي تناهت إلينا عنه - صلى الله عليه وسلم - جاء العدد فيها مؤنثاً مع المعدود المذكر، انظر سائر الروايات السابقة واللاحقة، ففي ضوء هذا لا تشذ رواية (خمس وأربعين) عن شقيقاتها، بيد أن هناك دلائل تؤكد على أن هذا الخطأ من بعض النسخ:
1- ما جاء على حاشية الطبعة العثمانية من "صحيح مسلم" 7: 52 - وهي طبعة مصححة ومقابلة بعدة =
[331] "الإحسان" 13: 404 (6040).
[332] "مسند أبي يعلى" 2: 513 (1362).
[333] ص41.
[334] ص 45.
[335] نقلاً عن: الهيثمي، على بن أبي بكر "كشف الأستار عن زوائد مسند البزار على الكتب الستة"3: 13 (2126) تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي (بيروت، مؤسسة الرسالة الثانية 1404).
[336] "مسند أبي يعلى" 12: 63- 64 (6706).
[337] ص 36، 38.
[338] "مسند الشاشي" 2: 240 (810).
[339] ص 56.
[340] "المصنف" 6: 173 (30448).
[341] "المسند" 3: 267.
[342] "سنن الترمذي": كتاب الرؤيا - باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات 4: 533 (2272).(/81)
[343] السيوطي، عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد "الدر المنثور في التفسير المأثور" 3: 560 (بيروت، دار الكتب العلمية، 1411).
[344] نقلاً عن: المزي "تهذيب الكمال" 27: 320 – 321 (5827).
[345] "الثقات" 5: 429.
[346] "تقريب التهذيب" (6524)
[347] الدكتور بشار عواد معروف والشيخ شعيب الأرنؤوط "تحرير تقريب التهذيب" 3: 355 (6524) (بيروت، مؤسسة الرسالة، الأولى (1417).
[348] "سنن الترمذي" 4: 533 (2272).
[349] "المستدرك" 4: 391.
[350] "المسند" 3: 342.
[351] "التقريب" (3563).
[352] "المجمع" 7: 173.
[353] "الكاشف" 1: 590 (2934).
[354] نقلاً عن "كشف الأستار" 3: 11 (2120).
[355] "المعجم الكبير" 7: 260 (7057).
[356] "الثقات" 4: 314، 6: 474، 6: 137.
[357] "ميزان الاعتدال" 1: 408 (1504).
[358] "الميزان" 1: 648 (2488).
[359] "المجمع" 7: 173.
[360] "المجمع": 173.
[361] "الجرح والتعديل" 8: 276 (1261).
[362]ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني "لسان الميزان" 6: 18، تحقيق عادل أحمد عيد الموجود وعلي محمد معوض (دار الكتب العلمية، الأولى 1416).
[363]ص 45.
[364]الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت، أبو بكر "تاريخ بغداد" 5: 189، (بيروت، دار الفكر).
[365]ص 55.
[366] "الجامع الصغير" 4: 48 (4500).
[367] ابن أبي جمرة، عبدالله الأزدي "بهجة النفوس وتحليلها بمعرفة ما لها وما عليها" 4: 240 (بيروت، دار الجيل، الثالثة).
[368] "فتح الباري" 12: 380 عند شرح حديث (6983).
[369] "التمهيد" 1: 282.
[370] ص 28.
[371] "شرح صحيح مسلم" 15: 21.
[372] "فتح الباري" 12: 380 عند شرح حديث (6983).
[373] "المسند" 2: 219.
[374]سورة يونس (64).
[375] "الدر المنثور" 3: 559، وتحرف في المطبوع (عبد الله بن عمرو) إلى (عبد الله بن عمرو)، و"تسعة وأربعين" إلى: "ستة وأربعين"
[376] "المجمع" 7: 175.
[377] "التقريب" (1824).(/82)
[378] "البحر الزخار" 4: 126- 127 (1298).
[379] "المعجم الأوسط" 6: 380 (5808).
[380] "التمهيد" 1: 281.
[381] "شرح مشكل الآثار" 5: 417 (2176).
[382] ص49.
[383] "مسند أبي يعلى" 12: 63-64 (6706).
[384] من قوله: "فقال ابن عباس.." إلى آخره، نقلاً عن ابن حجر العسقلاني: "المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية" 3: 43 (2833)، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي (بيروت، دار المعرفة 1414)
[385] ص 40.
[386] "المعجم الكبير" 10: 223 (10540).
[387] ص 57.
[388] "بهجة النفوس" 4: 240.
[389] "فتح الباري" 12: 380 عند حديث (6983).
[390] المرجع السابق.
[391] القرطبي، أبو العباس "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 6: 12.
[392] نقلاً عن ابن بطال، علي بن خلف بن عبدالملك "شرح صحيح البخاري" 9: 516، تحقيق أبي نعيم ياسر بن إبراهيم (الرياض، مكتبة الرشد، الأولى 1420) 9: 516، والقرطبي: "الجامع لأحكام القرآن" 9: 122-123.
[393] ابن بطال "شرح صحيح البخاري" 9: 516.
[394] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي "شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر" ص 9- 10، تعليق محمد غياث الصباغ (دمشق، مؤسسة مناهل العرفان، الثانية 1410).
[395] كخبر الفلاسفة يقدم العالم، وانتفاء حشر الأجساد، وغيرهما من الأخبار العقلية التي لا يحكم بتواترها وإن بلغ رواتها ما عسى أن يبلغو كثرة.
[396] السيوطي، عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد "قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" ص174 (64) تحقيق خليل محيي الدين الميس (بيروت، المكتب الإسلامي، الأولى 1405).
[397] الكتاني، محمد بن جعفر "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" ص229، (بيروت، دار الكتب العلمية الثانية 1407).(/83)
[398] المناوي، محمد عبدالرؤوف المناوي "فيض القدير" 4: 48 (القاهرة، مصورة دار الحديث). و"التيسير" (القاهرة، مصورة دار الريان عن الطبعة الأولى ببولاق سنة 1286) كلاهما للمناوي، وهما شرحان كبير وصغير على "الجامع الصغير" للسيوطي.
[399] الزرقاني، محمد بن عبدالباقي "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" 4: 450 (بيروت، دار الكتب العلمية الأولى 1411).
[400] السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد "تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي" 2: 180، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف (المدينة المنورة، المكتبة العلمية، الثانية 1399).
[401] المرجع السابق 2: 177.
[402] هذا طرف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم: كتاب الرؤيا 3: 1773 حديث 6 (2263).
[403] "فتح الباري" 12: 423 عند شرح حديث (7017).
[404] "التمهيد" 1: 285.
[405] انظر سورة يوسف، الآية (43) وما بعدها.
[406] انظر سورة يوسف، الآية (36) وما بعدها.
[407] "الجامع لأحكام القرآن" 9: 124 - 125.
[408] المرجع السابق 7: 3.
[409] "عارضة الأحوذي" 9: 126.
[410] "فيض القدير" 4: 45.
[411] أخرجه البخاري: كتاب التعبير – باب القيد في المنام 12: 422 (7017)، ومسلم: كتاب الرؤيا 3: 1773 حديث 6 (2263) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وعند مسلم: "المسلم" بدل "المؤمن".
[412] "سنن الترمذي": كتاب الرؤيا - ما جاء في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - الميزان والدلو 4: 541 (2291).
[413] "شرح صحيح البخاري" 9: 538- 539.
[414] نقلاً عن "فتح الباري" 12: 371 عند شرح حديث (6982)، والدينوري هو: نصر بن يعقوب، أبو سعد البغدادي الشهير بالدينوري الأديب المعبر، المتوفي بعد سنة 397هـ، له من الكتب "تعبير القادري" صنفه للقادر بالله العباسي. "هدية العارفين" 2: 490.
[415] المرجع السابق.(/84)
[416] عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة.." الحديث، وفيه: "ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفاً، فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها أيضاً بقراً، والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخبر ما جاء الله به من الخير بعد..." الحديث أخرجه البخاري: كتاب المناقب - علامات النبوة 6: 725 (3622)، ومسلم: كتاب الرؤيا - رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - 4: 1779 حديث 20 (2272) قال الإمام النووي في "شرحه" 15: 32: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ورأيت فيها أيضاً بقراً.." قد جاء في غير مسلم زيادة في هذا الحديث: "ورأيت بقراً تنحر" وبهذه الزيادة يتم تأويل الرؤيا بما ذكر فنحر البقر هو قتل الصحابة رضي الله عنهم الذين قتلوا بأحد".
[417] "فتح الباري" 12: 379 عند شرح حديث (6983).
[418] البخاري: كتاب التعبير –باب المبشرات 12: 391 (6990)
[419] القرطبي، أبو عبد الله "الجامع لأحكام القرآن" 9: 127.
[420] "شرح صحيح البخاري" 9: 517.
[421] "الجامع لأحكام القرآن" 9: 127.(/85)
[422] كالخطابي، حمد بن محمد "أعلام الحديث" 4: 32315، تحقيق د. محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود (مكة المكرمة، جامعة أم القرى، الأولى 1409)، و"معالم السنن" 4: 139 طبعة محمد راغب الطباخ (حلب، المطبعة العلمية، الأولى 1352)، والمازري، محمد بن علي بن عمر "المعلم بفوائد مسلم" 3: 117، تحقيق محمد الشاذلي النيفر (دار الغرب الإسلامي، الثانية 1992م)، وابن العربي في "القبس" 3: 1137- 1138، وأبي العباس القرطبي "المفهم" 6: 13، وأبي عبد الله القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 9: 123- 124، والنووي في "شرح صحيح مسلم" 15: 21، وابن أبي جمرة في "بهجة النفوس" 4: 240 وابن الأكفاني، محمد بن ساعد الأنصاري "غرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد" ص 123، اعتنى به حسن عبجي (جدة، دار القبلة للثقافة الإسلامية – الأولى 1414)، وابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر في "التفسير القيم" ص 45، جمع محمد أريس الندوي، تحقيق محمد حامد الفقي (بيروت، دار الكتب العلمية)، وابن حجر في "فتح الباري" 12: 380 عند حديث (6983)، وغيرهم.
[423] انظر "فتح الباري" 12: 381 عند شرح حديث (6983).
[424] انظر: المازري "المعلم" 3: 117، والكرماني، محمد بن يوسف "شرح صحيح البخاري" 24: 100 (بيروت، دار إحياء التراث العربي، الثانية 1401)، وغيرهما.
[425] "فتح الباري" 12: 381 عند حديث (6983).
[426] "القبس" 3: 1137 - 1138.
[427] ونحوه في "بهجة النفوس" 4: 240.
[428] "التفسير القيم" ص45.
[429] "المعلم" 3: 117، ونحوه عند الكرماني في "شرح البخاري" 24: 100.
[430] الآية (253) من سورة البقرة.
[431] أنظر "المفهم" 6: 17- 18، و"بهجة النفوس" 4: 240، و"فتح الباري" 12: 385 عند حديث (6983).
[432] "فتح الباري" 12: 382 عند (6983).
[433] "المفهم" 6: 16.
[434] انظر "شرح مشكل الآثار" 5: 419 – 422.(/86)
[435] انظر: "المعلم" 3: 118، و"شرح صحيح مسلم" 15: 21، و"فتح الباري" 12: 382 عند (6983).
[436] انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال 9: 515- 516، و"القبس" 3: 1138، و"التمهيد" 1: 283- 284، و"الجامع لأحكام القرآن" 9: 123.
[437] نقلاً عن ابن بطال "شرح صحيح البخاري" 9: 515- 516.
[438] "السبرات: جمع سبرة –بسكون الباء- وهي شدة البرد". ابن الأثير، المبارك بن محمد الجزري "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2: 333، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي (بيروت، مصورة دار الكتب العلمية عن طبعة عيسى البابي الحلبي 1383).
[439] "القبس" 3: 1138.
[440] ونحوه في "التمهيد" 1: 283-284.
[441] انظر "اعلام الحديث" 4: 2318، و"معالم السنن" 4: 138-139، و"التمهيد" 1: 285، و"شرح الترمذي" لابن العربي 9: 25، و"المفهم" 6: 14، وغيرهم.
[442] "معالم السنن" 4: 138- 139، ومثله عند البغوي في "شرح السنة" 12: 203.
[443] الصافات (102)، والأثر أخرجه أيضاً البخاري: الوضوء- التخفيف في الوضوء 1: 139 (138).
[444] "شرح البخاري" 24: 98.
[445] "شرح صحيح البخاري" لابن بطال 9: 517.
[446] "معالم السنن" 4: 139.
[447] "التمهيد" 1: 585.
[448] "شرح صحيح البخاري" لابن بطال 9: 517.
[449] المرجع السابق.
[450] "معالم السنن" 4: 139، ومثله عند البغوي في "شرح السنة" 12: 203-204.
[451] أخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أنس، وقد تقدم برقم (1).
[452] "التمهيد" 1: 585.
[453] "الجامع لأحكام القرآن" 9: 124.
[454] "التمهيد" 1: 585.
[455] "الجامع لأحكام القرآن" 9: 124.
[456] "شرح البخاري" 24: 98.
[457] "فتح الباري" 12: 392 عند (6990).
[458] "فتح الباري" 12: 391 عند (6989).(/87)
العنوان: دراسة حديث شكاية امرأة صفوان بن المعطل
رقم المقالة: 585
صاحب المقالة: صالح بن فريح البهلال
-----------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه دراسةٌ موجزةٌ لحديثِ صفوانَ بنِ المعطَّل رضي الله عنه الذي فيه أن زوجَه جاءت تشكوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يضربها إذا صلت، ويفطِّرها إذا صامت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس.
وقد اجتهدت في تخريجه، والحكم عليه، وبيان غامضه، فإلى البيان، والله المستعان، فأقول:
أولاً: لفظ الحديث:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت امرأة صفوانَ بنِ المعطَّل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي صفوانَ بنَ المعطَّل، يضربني إذا صليت، ويفطِّرني إذا صمت، ولا يصلِّي صلاة الفجر حتى تطلعَ الشمس. قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عما قالت؟ فقال: يا رسول الله، أماقولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ سورتين، فقد نهيتها عنها، قال: فقال: ((لو كانت سورةً واحدةً لكفت الناس))، وأما قولها: يفطِّرني، فإنها تصوم وأنا رجلٌ شابٌّ فلاأصبر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ((لا تصومنَّ امرأةٌ إلاّ بإذن زوجها)). قال: وأما قولها: بأني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنّا أهل بيت قد عرف لنا ذاك، لانكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، قال: ((فإذا استيقظت فصل)).
ثانياً: شرح ألفاظه:
- صفوان بن المعطَّل: هو ابن رُبَيِّعة - بالتصغير - السُّلَمي، الذَّكواني، وأبوه ضُبِط بفتح الطاء بلا خلاف كما قال النووي في شرح صحيح مسلم 17 / 105، وكذا ضبطه الحافظ ابن حجر في الفتح 8 / 461.
كان صفوان رضي الله عنه صحابياً فاضلاً، وله ذكر في حديث الإفك المخرج في صحيح البخاري ح 4750 وصحيح مسلم ح 2770، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم عنه: ((ما علمت عليه إلا خيراً)).(/1)
قال ابن إسحاق: قتل صفوان في خلافة عمر رضي الله عنه في غزاة أرمينية شهيداً سنة تسع عشرة، وثبت في صحيح البخاري ح 4757 عن عائشة أنه قتل شهيداً في سبيل الله، ويقال: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه، فغزا الروم، فاندقَّت ساقه، ثم نزل يطاعن حتى مات، وكان ذلك سنة54 أو 58هـ وقيل: سنة ستين، وهذا الأخير يعارضه قول عائشة رضي الله عنها: قتل شهيداً؛ لأن عائشة رضي الله عنها ماتت سنة 58هـ.
ينظر: الإصابة لابن حجر2 / 190 - 191 والفتح 8 /461
- قوله: ((فإنها تقرأ سورتين، فقد نهيتها عنها)): هكذا جاء في غالب الروايات بدون إضافة، وجاء - كما سيأتي في التخريج - عند أحمد في إحدى الروايتين، وأبي يعلى، والطحاوي وفي بعض نسخ أبي داود - فيما ذكره السهارنفوري في بذل المجهود 11 / 340 - بإضافته إلى ياء المتكلم، هكذا ((سورتي)).
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت سورةً واحدةً لكفت الناس)): اختُلف في معناه بناءً على اختلاف لفظة: ((سورتين)) هل هي مجردة من الإضافة، أم هي مضافة إلى ياء المتكلم؟
- فمعناها بلا الإضافة: ما ذكره السهارنفوري في بذل المجهود 11 / 341: ((أي لو كانت قراءة الناس في الصلاة بسورة واحدة لكفت الناس، وفي هذا زجر لامرأة صفوان، على أنه لا ينبغي لها أن تطول القراءة بقراءة سورتين؛ فإنها يكفي لها أن تقرأ بسورة واحدة قصيرة)).
- ومعناها بالإضافة: ما ذكره الطحاوي في شرح المشكل 5 / 288: ((أن يكون ظن أنها إذا قرأت سورته التي يقوم بها، أنه لا يحصل لهما بقراءتهما إياها جميعاً إلا ثواباً واحداً، ملتمساً أن تكون تقرأ غير ما يقرأ، فيحصل لهما ثوابان، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك يحصل لهما به ثوابان؛ لأن قراءة كل واحد منهما إياها غيرُ قراءة الآخر إياها)).(/2)
وقال السهارنفوري في بذل المجهود 11 / 341: ((لو كانت سورة واحدة في القرآن لكفت الناس قراءتها في الصلاة، فلا ينبغي لك أن تنهاها عن السورة التي تقرأها، فعلى هذا، فالكلام زجرٌ لصفوان عن نهيها عن السورة التي يقرؤها))، ويؤيد هذا المعنى الثاني الرواية التي عند ابن سعد، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((إن الناس كلهم لو قرأوها لكفتهم))، و الرواية التي عند أحمد، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو قرأها الناس ما ضرك))، والرواية التي عند الطحاوي، وفيها أن صفوان قال: ((أما قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقوم بسورتي التي أقرأ بها فتقرأ بها))، والرواية التي حاءت في مرسل أبي المتوكل، وفيها أن صفوان قال: ((وأما الصلاة فإن معي سورة، ومعها سورة غيرها، فإذا قمت أصلي قامت تصلي، فتقرأ سورتي، فتغلطني)).
ثالثاً: تخريجه:
* أخرجه الإمام أحمد، وابنه عبدالله كما في المسند 18 / 281 ح 11759واللفظ لهما، وأبوداود 3 /193 ح 2451 ، وأبو يعلى في مسنده 2 /308 ح 1037و1174، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 5 /286 ح2044، وابن حبان في صحيحه 4 / 354ح 1488، والحاكم في المستدرك 1 /602، والبيهقي في السنن 4 / 303، والخطيب البغدادي في الأسماء المبهمة ص 142 ح 75، وابن عساكر في تاريخ دمشق 24 /165-164، كلهم من طريق جرير بن عبدالحميد.
وأحمد 18 / 323ح11801 من طريق أبي بكر بن عياش.
وابن سعد في الطبقات 5 / 157، وابن ماجه 3 / 236 ح 1726 من طريق أبي عوانة.
وعلقه البخاري عنه في التاريخ الأوسط 1 /123
والدارمي في سننه 2 / 1074 ح1760 من طريق شريك.
وعلقه البخاري في التاريخ الأوسط 1 /123عن أبي حمزة السكري.(/3)
خمستهم (جرير، وأبو بكر، وأبو عوانة، وشريك، وأبو حمزة) عن الأعمش، عن أبي صالح السمان، عن أبي سعيد الخدري، به، إلا أن رواية ابن ماجه والدارمي مقتصرة على نهي المرأة عن الصوم بغير إذن زوجها، دون ذكر بقية القصة، وفي إحدى روايتي أبي يعلى قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقرئي سورته))، وعند البخاري ذكر طرف القصة.
* وأخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده - كما في بغية الباحث للهيثمي 1 /340ح232 - عن روح، ثنا حماد، عن ثابت، عن أبي المتوكل، بمعناه مرسلاً، وفيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم امرأة صفوان أن تقرأ سورته.
وعلَّق هذا الإسناد أبو داود في سننه،عقب إخراجه الحديث متصلاً، فقال: ((رواه حماد - يعني ابن سلمة - عن حميد أو ثابت، عن أبي المتوكل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه الخطيب البغدادي في الأسماء المبهمة ص 142 ح 75 عن أبي محمد الخلال، قال: حدثنا علي بن عمرو بن سهل الحريري، قال: حدثنا أبو الدحداح التميمي، قال: حدثنا موسى بن عامر، قال: حدثنا عيسى بن خالد، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن عبدالله بن عبيد بن عمير الليثي، بمعناه مرسلاً.
رابعاً: درجته:
هذا الحديث ظاهر إسناده الصحة، فرجاله ثقات، وقد صححه ابن حبان، والحاكم، وصححه ابن حجر في الإصابة 2 / 191، والساعاتي في الفتح الرباني 16 / 231، والألباني في السلسلة الصحيحة 5 / 204 وفي الإرواء 7 / 65، وهو ظاهر صنيع ابن القيم؛ فإنه قد ناقش قول بعض من ضعفه، كما في تهذيب السنن 3 / 336 وإعلام الموقعين 4 / 317، إلا أن بعض الأئمة أعله بعدة علل، وهذا سردها، مع نقل كلام من ناقشها:(/4)
العلَّة الأولى: معارضته لحديث الإفك الوارد في صحيح البخاري ح4757، وفيه أن صفوان رضي الله عنه لما بلغه أمر الإفك قال: ((سبحان الله! ما كشفت كَنَفَ[1] أنثى قط))، وفي هذا الحديث إثبات زواجه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة 2 /191: ((ولكن يشكل عليه - يعني حديث زواج صفوان الذي معنا - أن عائشة قالت في حديث الإفك: إن صفوان قال: والله ما كشفت كنف أنثى قط، وقد أورد هذا الإشكالَ قديماً البخاري، ومال إلى تضعيف حديث أبي سعيد بذلك).
ولعل الحافظ يشير إلى كلام الإمام البخاري في "التاريخ الأوسط" 1 / 123؛ إذ قال: ((حدثني الأويسي، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال عروة: قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل - تعنى صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني - ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله، هذا في قصة الإفك.
وقال أبو عوانة، وأبو حمزة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، جاءت امرأة صفوان بن المعطل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن صفوان يضربني)).
وقد أجاب من صحح الحديث عن هذا الإشكال بما يلي:
- قال ابن القيم في "تهذيب السنن" 3 / 336: ((قال غير المنذري: ويدل على أن الحديث وَهْمٌ لا أصل له: أن في حديث الإفك المتفق على صحته: قالت عائشة: (وإن الرجل الذي قيل له ما قيل، ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط...) وفي هذا نظر، فلعله تزوج بعد ذلك))، وقال نحوه في "إعلام الموقعين" 4 / 317.(/5)
- وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 8 / 462: ((والجمع بينه - يعني قول صفوان: والله ما كشفت كنف أنثى قط - وبين حديث أبي سعيد - على ما ذكر القرطبي - أن مراده بقوله: ما كشفت كنف أنثى قط؛ أي بزنا، قلت: وفيه نظر؛ لأن في رواية سعيد بن أبي هلال، عن هشام بن عروة، في قصة الإفك، أن الرجل الذي قيل فيه ما قيل، لما بلغه الحديث، قال: (والله ما أصبت امرأة قط حلالاً ولا حراماً)، وفي حديث ابن عباس عند الطبراني: (وكان لا يقرب النساء)،فالذي يظهر أن مراده بالنفي المذكور ما قبل هذه القصة، ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك، فهذا الجمع لا اعتراض عليه، إلا بما جاء عن ابن إسحاق أنه كان حصوراً، لكنه لم يثبت، فلا يعارض الحديث الصحيح)).
خلاصة كلام هذين الحافظين: أنه بالإمكان الجمع بين هذين الحديثين: بأن صفوان في حادثة الإفك، لم يتزوج، ثم تزوج بعد، وكلامهما وجيه من حيث النظر؛ فإن حادثة الإفك وقعت بعد قفوله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، وكانت سنة خمس، فيجوز أن يكون صفوان قد تزوج بعدها، وليس في حديث الإفك ما يمنع، وقول صفوان: ((ما كشفت كنف أنثى قط)) أتى بصيغة الماضي،وما جاء عن ابن إسحاق أنه كان حصوراً، لم يثبته الحافظ، فالذي يظهر - والله أعلم - أن هذا ليس علة الحديث.
الثانية: أن الأعمش موصوفٌ بالتدليس، وقد عنعن هنا، وممن وصفه بالتدليس من الأئمة:
1 - ابن معين، نقله عنه ابن عبد البر في التمهيد 1 / 31.
2 - النسائي، في كتابه: ذكر المدلسين ص125.
3 - أبو الفتح الأزدي، كما في الكفاية للخطيب ص400، فإنه قال: ((نحن نقبل تدليس ابن عيينة ونظرائه؛ لأنه يحيل على مليء ثقة، ولا نقبل من الأعمش تدليسه؛ لأنه يحيل على غير مليء، والأعمش إذا سألته عمن هذا؟ قال: عن موسى بن طريف، وعباية بن ربعي....).
4، 5 - الكرابيسي، والدارقطني، ذكره عنهما الحافظ ابن حجر في تعريف أهل التقديس ص118.
6 - ابن حبان، في كتابه الثقات 4 / 204.(/6)
7 - الذهبي، في الميزان 2 / 224 فإنه قال: ((... وهو يدلس، وربما دلس عن ضعيف، ولا يدري به، فمتى قال: حدثنا، فلا كلام، ومتى قال: ( عن ) تطرق إليه احتمال التدليس..)).
8 - الحافظ ابن حجر، في التقريب رقم 2615.
* فإن قيل: قال أبو داود كما في سؤالاته ص 199: سمعت أحمد، سئل عن الرجل، يعرف بالتدليس، يحتج فيما لم يقل فيه: (سمعت)؟قال: (لا أدري)، فقلت: الأعمش، متى تصاد له الألفاظ؟ قال: (يضيق هذا؛ أي: أنك تحتج به). وقال الذهبي في الميزان 2 /224: (... متى قال - يعني الأعمش -: ( عن ) تطرق إليه احتمال التدليس ؛ إلا في شيوخ له أكثر عنهم، كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال...).
فيقال: إن هذا الكلام محمول على الغالب من حال الأعمش، لا أن يُسَّلم مطلقاً بقبول روايته عنهم، خاصةً إذا صاحب الحديث نكارة متن، فإن هذا قرينة تقوِّي تدليسه، كما هنا، وقد ورد عن بعض الأئمة - ومنهم الإمام أحمد - أنه وصف الأعمش بالتدليس، مع روايته عن أمثال هؤلاء الكبار،وإليك البيان:
قال العلائي في جامع التحصيل ص 189-190: (... وروى الأعمش عن أبي وائل، عن عبدالله: كنا لا نتوضأ من موطئ، قال الإمام أحمد: كان الأعمش يدلس هذا الحديث، لم يسمعه من أبي وائل، قلت له: وعمن هو؟ قال: كان الأعمش يرويه عن الحسن بن عمرو الفقيمي، عن أبي وائل، فطرح الحسن بن عمرو، وجعله عن أبي وائل، ولم يسمعه منه، وقال سفيان الثوري: لم يسمع الأعمش حديث إبراهيم في الوضوء من القهقهة، وروى الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، في حديث (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن) قال يحيى بن معين: لم يسمع الأعمش من أبي صالح).
وقد أعل الإمام أحمد حديث (الإمام ضامن...) كما في العلل المتناهية 1 /433:فقال: (ليس لهذ الحديث أصل، ليس يقول فيه أحد عن الأعمش، أنه قال: أنا أبو صالح، والأعمش يحدث عن ضعاف).(/7)
قال المعلمي في حاشية تقدمة الجرح والتعديل ص70: (كان الأعمش - رحمه الله - كثير الحديث، كثير التدليس، سمع كثيراً من الكبار، ثم كان يسمع من بعض الأصاغر أحاديث عن أولئك الكبار، فيدلسها عن أولئك الكبار، فحديثه الذي هو حديثه، ما سمعه من الكبار).
* فإن قيل: فإن الحافظين العلائي و ابن حجر ذكرا الأعمش في الطبقة الثانية من طبقات المدلسين كما في جامع التحصيل ص113وتعريف أهل التقديس ص118، وهي طبقة من احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في الصحيح لإمامته، وقلة تدليسه، فيقال: قال العلامة المعلمي في حاشية الفوائد المجموعة ص 351:
(ليس معنى هذا أن المذكورين في الطبقة تقبل عنعنتهم مطلقاً كمن ليس بمدلس البتة، إنما المعنى أن الشيخين انتقيا في المتابعات ونحوها من معنعناتهم ما غلب على ظنهما أنه سماع، أو الساقط منه ثقة، أو كان ثابتاً من طريق أخرى، ونحو ذلك... وقد أعل البخاري في تاريخه الصغير ص 86 خبراً رواه الأعمش، عن سالم، يتعلق بالتشيع: والأعمش لا يُدرى، سمع هذا من سالم أم لا؟ قال أبو بكر بن عياش عن الأعمش، أنه قال: نستغفر الله من أشياء كنا نرويها على وجه التعجب، اتخذوها ديناًَ).
أي، لا يمتنع إعلال حديث أمثال هؤلاء، إذا احتف بالخبر قرائن، تدل على أنه دلسه.
ثم إن الحافظ ابن حجر رحمه الله قد ذكرالأعمش في كتابه النكت 2 / 640في الطبقة الثالثة.
وممن أعل الحديث بذلك أبوبكر البزار، حيث قال – فيما حكاه عنه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (8/462): (قال البزار هذا الحديث كلامه منكر ولعل الأعمش أخذه من غير ثقة فدلسه فصار ظاهر سنده الصحة وليس للحديث عندي أصل انتهى)، وحكى صاحب عون المعبود 7 / 95 كلام البزار هكذا: (.... وإنما أتى نُكْرة هذا الحديث ؛ أن الأعمش لم يقل: حدثنا أبو صالح، فأحسب أنه أخذه عن غير ثقة، وأمسك عن ذكر الرجل، فصار الحديث ظاهرُ إسنادِه حسن).(/8)
* فإن قيل: فإن الحافظ ابن حجر قال في الفتح 8 / 462 متعقباً البزار: (وما أعله به ليس بقادح ؛ لأن ابن سعد صرح في روايته بالتحديث بين الأعمش وأبي صالح).
فيقال: إن الحديث جاء من طريق يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، ورواه عن يحيى راويان:
- محمد بن يحيى الذهلي، كما جاء عند ابن ماجه، وقد رواه بعنعنة الأعمش.
- ابن سعد في طبقاته، وقد رواه بتصريح الأعمش بالتحديث.
و محمد بن يحيى الذهلي أضبط وأحفظ من ابن سعد، وقد قال الحافظ عن الذهلي في التقريب (6388): (ثقة حافظ جليل) وقال عن ابن سعد (5903): (صدوق فاضل) مما يدل على أن رواية الذهلي هي الراجحة، وأن ابن سعد رحمه الله قد وهم فيه، فيكون التصريح بالتحديث شاذاً غير محفوظ، ومما يؤكد هذا أن من تابع أبا عوانة من الرواة، وهم: جرير، وأبوبكر بن عياش، وشريك، وأبوحمزة السكري، رووه بعنعنة الأعمش، ولا شك أن اتفاق الرواة، يدل على حفظهم، وعدم دخول الخطأ عليهم، والخطأ غالباً ما يكون في حديث الفرد، وهو عن الجماعة أبعد.
* فإن قيل: إن الأعمش قد توبع، فقال الحافظ ابن حجر في الفتح 8 / 462 - لما أورد الرواية المرسلة، التي أخرجها الحارث، وعلقها أبوداود - قال:(وهذه متابعة جيدة، تؤذن بأن للحديث أصلاً)، وقال صاحب عون المعبود 7 /94- وهو يتكلم على الرواية المرسلة في السنن - قال: (والحاصل أن أبا صالح ليس بمتفرد بهذه الرواية عن أبي سعيد، بل تابعه أبو المتوكل عنه، ثم الأعمش ليس بمتفرد أيضاً، بل تابعه حميد أو ثابت، وكذا جرير ليس بمتفرد، بل تابعه حماد بن سلمة، وفي هذا كله ردٌ على الإمام أبي بكر البزار...).
فيقال: إنما يسلم بأنها متابعة، لو كانت متصلة مسندة، عن أبي سعيد، أما والواقع أنها مرسلة، فإنه لا يفرح بها، ولا تعزِّز الطريق الأولى، بل إن بعض الأئمة قد جعلها علة للطريق الأولى،كما صرح به الحافظ في الموضع السابق من الفتح.(/9)
- وقد وهم صاحب عون المعبود، فظن أبا المتوكل يرويه عن أبي سعيد، وليس كذلك، ولعله أُتي بسبب نقص النسخة التي وقف عليها ؛ إذ ليس في بعض النسخ: (عن أبي المتوكل، عن النبي صلى الله عليه وسلم)، وإنما تقف على أبي المتوكل.
الثالثة: نكارة ألفاظه، فقد جاء في عون المعبود 7 / 95 أن المنذري قال:(قال أبو بكر البزار: هذا الحديث كلامه منكرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ولو ثبت احتمل إنما يكون إنما أمرها بذلك استحباباً، وكان صفوانُ من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم..... ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمدح هذا الرجل ويذكره بخير،وليس للحديث عندي أصل).
أي فلا يليق بصحابي أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما علمت عليه إلا خيراً) أن يضرب زوجه لأنها تطيل القراءة في الصلاة، أو لأنها تقرأ بسورته التي حفظها!
ومما يدل على نكارته: أن النبي صلى الله عليه وسلم كره احتجاج علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما طَرَقه هو وفاطمة - رضي الله عنهما - ليلةً، فقال:(ألا تصليان) فقال عليٌ رضي الله عنه: يا رسول الله، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، قال علي - رضي الله عنه -: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبرٌ يضرب فخذه ويقول:[...وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا]. أخرجه البخاري (1127) ومسلم (775).
فإذا كان النبي "كره احتجاج عليٍ رضي الله عنه بالنوم في ترك قيام الليل، وأراد منه أن ينسب التقصير إلى نفسه، كما أشار إلى ذلك ابن التين كما في الفتح 3 /11، فلأن يلوم النبي صلى الله عليه وسلم المتخلف عن الصلاة الفريضة على سبيل الديمومة والاستمرار من باب أولى، والله أعلم.(/10)
وقال الذهبي في السير 2 /549-550: (وقد روي: أن صفوان شكته زوجته أنه ينام حتى تطلع الشمس، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: إنا أهل بيت معروفون بذلك، فهذا بعيد من حال صفوان أن يكون كذلك، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم على ساقة الجيش، فلعله آخر باسمه).
وهذا العلة الثالثة لا تنفك عن العلة الثانية، بل تقويها وتؤكدها، فقد قال المعلمي في مقدمة الفوائد المجموعة ص (ح):
(إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة، فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا له علة قادحة مطلقاً، حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر، فمن ذلك إعلالهم بأن راويه لم يصرح بالسماع، هذا مع أن الراوي غير مدلس، أعل البخاري بذلك خبراً رواه عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عكرمة، تراه في ترجمة عمرو من التهذيب...)، ثم ساق أمثلة أخرى ثم قال: (وحجتهم في هذا، بأن عدم القدح في العلة مطلقاً، إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً، يغلب على ظن الناقد بطلانه، فقد يحقق وجود الخلل، وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة، فالظاهر أنها هي السبب، وأن هذا من ذاك النادر، الذي يجيء الخلل فيه من جهتها، وبهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقب، بأن تلك العلة غير قادحة، وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق).
الخلاصة:
أن الحديث لايصح مسنداً، وإن كان ثابتًا مرسلاً عمَّن أرسله، وهما أبو المتوكل، وعبيد بن عمير الليثي، والرجال إليهما ثقات ما خلا الطريق إلى عبيد بن عمير، ففيها: موسى بن عامر، صدوق له أوهام، كما في التقريب6979.(/11)
ثم إن الحديث ليس فيه مستمسك لمن اعتاد النوم عن الصلاة ؛ محتجاً بهذ الحديث، فإن القائلين به، حملوا الحديث على من يُشْبِهُ أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع، واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه، كما أشار إلى ذلك الخطابي في معالم السنن 3 /337، والله أعلم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] قال الحافظ في الفتح 8 / 462: ((أي ما جامعتها، والكنف بفتحتين: الثوب الساتر، ومنه قولهم: أنت في كنف الله؛ أي في ستره... )).(/12)
العنوان: دراسة فكر الدكتور محمد أركون (1)
رقم المقالة: 1461
صاحب المقالة: د. محمد بريش
-----------------------------------------
مدخل[1]
"إن انغماس الجماهير في الحركات الصوفية، الذي كان موضع استهجان وازدراء من المثقفين العلمانيين، ظاهرةٌ فشل المثقفون في فَهْم أسبابها ودواعيها. وكذلك فإن عودة الجماهير إلى الدين بأعداد كبيرة، وفي مختلف أقطار الوطن العربي، وخصوصًا بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، لم يستطع المثقفون أن يتنبؤوا بها قبل حدوثها، ولم يستطيعوا فَهْم دَلالتها ومغزاها. وبعبارة مختصرة: "إن سلوك الجماهير سواء إزاء الموروث أو الوافد لم يكن أبدًا موضع دراسة حقيقية مِن قِبَل المثقفين"[2]. هذه العبارة الصادرة عن أحد المثقفين العرب الذين يَعِيبون على الفكر الإسلامي والثقافة العربية "غياب المشروع العلماني البديل الذي سيحقق إشباع الحاجات الإسلامية الأساسية للجماهير"[3]، تفسر لنا الاهتمام المتزايد الذي يُولِيه عدد من هؤلاء المثقفين للإسلام والدعوة الإسلامية، بعد أن كانوا بالأمس القريب يتذبذبون بين الدعوة إلى العلمانية والحث على اختيار المادية كنهج "فكري ثوري" سيتيح للشعوب العربية الخلاص من قيود التخلف والخروج من ظلمات الجهل التي ساهمت في صنعها "العقائد الدينية" إلى عالم التقدم والعلم في رحاب المادية "والتحرر الفكري والثقافي" العلماني.(/1)
نفس العبارات نجدها عند كثير من المثقفين العرب المعاصرين، بصورة أكثر أو أقل حدة، لكن كلها تعبر عن نفس المبتغى وهو الاهتمام بالإسلام والفكر الإسلامي؛ لإعادة النظر فيه، وقلب موازينه، وفصله عن الغيبيَّات، وتفكيك أجزائه؛ لإخضاعها لعمليات البحث "التاريخاني"، وترك العبادة جانبًا بعيدًا عن الأحاديث النبوية ومقولات العلماء الفقهية، وللعمل على تغيير فكر المجتمعات البشرية التي تشكل الدعامة الأساسية لاستمرار الحركات الإسلامية "التقليدية "... بعض هؤلاء المثقفين لا يخلو من حسن في النية وصدق القول، لكن جُلَّهم متفقون على الدعوة إلى ثورة شاملة تهز فكر العالم العربي والإسلامي رأسًا على عقب مطالبين بعدم ترك الإسلام بأيدي الشيوخ و"علماء الدين". وإذا اقتصرنا على المغرب العربي، فإنه يمكننا تقديم الأمثلة التالية:
- د. محمد أركون: "إن اقتحام الإسلام لخشبة المسرح باعتباره قوة تعبئة للجماهير لم يُتخذ موضوعًا لتحليلات نظرية جادة، وأعتقد أننا نتوفر هنا على مادة جديدة لنراجع مقارباتنا وتعريفاتنا للظاهرة الدينية بصفة عامة.... إن مفهوم الدين لم يبلور بلورة كافية في الوقت الحاضر لتبيح لنا الكلام عنه علميًّا، ولنستطيع القيام بتلك النظرية التي تتردد بأن نجزم أن الأديان ما هي إلا أيديولوجيات"[4].
- د. محمد جسوس: "في هذا المجهود لإعادة التفكير والتخطيط للمستقبل، أتمنى أن تتاح الفرصة لكي نبدأ لأوَّلِ مَرَّةٍ بالطَّرْحِ العَلَنِيّ والعقلانِيّ للعديد من القضايا الأساسية التي تتخبط فيها المجتمعات العربية، والتي أعتقد أنه لا الحكم ولا الطبقات الحاكمة ولا المسار التاريخي، ولا اليسار العربي، بما فيه طليعة الطليعة، قد بدأت تطرح النقاشات حولها حتى بطرق لينة ومتواضعة.(/2)
هناك ما اقترحت تسميته بالقارات العربية الثلاث التي مازالت غائبة ومغيبة، مجهولة، خفية ومستترة، نتحدث عنها في الخفاء أو ندعي أننا نتحدث عنها ولا نحللها، بل ليست لنا مواقفُ منها ولا مخطَّطات.
أعتقد أن جزءًا كبيرًا من الإحباط والانكسار الذي حدث لليسار العربي يرجع إلى عدم شمولية نظرته، عدم شمولية استراتيجيته وممارسته. هذه القارات الكبرى الثلاث هي: الإسلام، الجنس، السلطة، أولى تلك القارات الغائبة والمغيبة هي الإسلام باعتبار أن الإسلام كان ولا يزال مركزَ الشرعية الأول والأخير بالنسبة للأغلبية الساحقة من الجماهير العربية التي تتعامل معها، وأن كل الطروحات الأيديولوجية الأخرى لم تتمكن من الحصول حتى على بصيص من الوفاء والالتزام الذي أمكن الوصول إليه عن طريق الإسلام. في حين أننا تركنا الإسلام في يد المشعوذين والمتطفلين والمنافقين وشيوخ الزوايا ومنعدمي الضمائر، وإن هذا الانفصام بين الثقافة السياسية وثقافة الجماهير قد أصبح من أخطر مكونات الأزمة الراهنة. لقد حان الوقت لكي تُطرح علنًا، بدون لفٍّ ولا دوران، مسألةُ موقف اليسار العربي من الإسلام ومختلف مكونات الإسلام، فلا نكتفي بمنطق المناورات والتعامل التاكتيكي معها في أحسن الأحوال، وبمنطق الانتهازية والشطارة والتحليل في أسوئها، فلا يكفي أن نستشهد فقط بالإسلام، وفي نهاية الأمر نحوله إلى مجرد سلعة ونتعامل معه بصفة أدواتية وانتهازية لا تختلف عن تعامُل ما سمَّيْته بالمُشَعْوِذين والمُتَطَفِّلين"[5].(/3)
- د. هشام جعيط: "لا وجود للشتات في الإسلام العربي. إن الإسلام كما بينه شبنغلر جيدًا: "له تربة تحت أقدامه". إن قدرته الهجومية المشكّلة لكيانه تحميه من كل تحطيم قادم من الخارج،... الإسلام لا يمكن أن ينزل منزلة موضوع تلاعب... الحقيقة أننا منذ عهد التنوير الأوروبي نمر بواحدة من تلك المراحل فوق التاريخية حيث يستعد الإنسان لمصير جديد محدد، بعد أن تخلص لا محالة من ثقل المجهول الأزلي. لكن إلى أن يأتيَ ما يخالف ذلك، فالإسلام باقٍ بالنسبة لملايين البشر بمثابة جواب صالح لقضية الموت وأسٍّ للسلوك الأخلاقي والاجتماعي أكثر من المسيحية؛ لكونه يتحرك في مجال ثقافي أقل تطورًا. ولذا فان مستقبلنا سيندرج في جدلية ذات الشيء وخلافه. لسنا بمتغربين ولا مغتربين، ولذا علينا أن نفصل حداثتنا في نسيج كياننا، إذًا نحن مجبورون على ذلك لا محالة. لقد قُضي علينا بالتحرك في دائرة الانتماء العربي الإسلامي لثقل معطياتنا التاريخية بالذات. وذلك مهما كان الشكل الذي نريد إضفاءه عليهما، ومهما تخيلنا من دور لهما. وبذا يتداخل التعبير الفردي عن إنسانيتنا، والإطار الشكلي على الأقل للكيونية التي نطمح إليها. وبعبارة أخرى، فتجاوزًا للنرجسية والمركزية العريقة والقومية من جهة، إنا لا نعتبر العروبة غاية قصوى لمصيرنا وقيمة في حد ذاتها. ومن جهة أخرى فنحن لا نقبل أن يكون الإسلام الأس الوحيد للأخلاق والمجتمع، والمحرك الأساسي الفعلي للعبة الاجتماعية، فارضًا قواعده الدينية وما يرتبط بها من فروض في العادات والقضاء، كما كان الأمر في الدولة الخاضعة للحكم الإلهي في العهد الوسيط وكما هي الحال في بعض الدول المعاصرة سواء كان حكمها تيوقراطيًّا أم لا. وعلينا تحمل تراثنا الثقافي والروحي وإحياؤه. وعلى مستوى أكثر عمقًا، علينا أن نشعر بأننا مستمرون من حيث التاريخ في عمل كل الذين شيدوا الحضارة العربية والإسلامية، والذين قاسوا من أجل الهُوية التي(/4)
منحتها لهم، وأخيرًا أن نفصل تطورنا في نسيج هذه الهُوية التي استرجعناها واستبطناها؛ حتى لا نحس بها كقوة إكراه خارجية فُرضت علينا فتحمَّلناها"[6].
هذه العبارات تُظهر حدة الأزمة التي تعيشها النخبة المثقفة اليسارية في العالم العربي تُجاه الدين الإسلامي والتراث العربي الإسلامي[7]، تلك الأزمة التي تجسد الصراع الدائر على الساحة الثقافية العربية بين المذاهب السياسية؛ لاكتساب العدد الأكبر من الجماهير والبزوغ بثقل على بساط الساحة. والصراع هذا يجد أصوله وجذوره في بداية الحقبة التاريخية المصطلح على تسميتها "باليقظة العربية"، أي تلك الفترة التي انتبه فيها العقل العربي من سُباته تحت الضغط القوي والمؤلم لأقدام المستعمر.
والمطلع عن كَثَبٍ على ما يجري من أحداث على الساحة الثقافية يمكنه أن يستنتج دون صعوبة أن رحى الحرب فيها تدور على واجهات ثلاث تُمثِّل كل منها "إشكالية" تستدعي بالنسبة للمثقفين "المتبارزين" بحثًا وتحليلاً واتخاذ موقف، ومرتبطة ارتباطًا عضويًّا يصعب معه فصل إحداها عن الأخرى. هذه " الإشكاليات الثلاث هي:
- المدارس السياسية والفكرية الغربية والشرقية بشقيها الليبرالي الديمقراطي، والاشتراكي الماركسي، ومدى صلاحيتها للتطبيق في العالم العربي والإسلامي؛ لتشخيص مشكلاته وتفسيرها وتقديم حلول عملية لها ترضاها الجماهير وتؤمن بها.
- "التراث العربي الإسلامي" بما فيه الوحي الإلهي "الكتاب والسنة" بالانكباب على تحديد واضح لمفهومه ووظيفته، واتخاذ موقف منه ينطلق إما من كون الكتاب والسنة وحيًا إلهيًّا سماويًّا، لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، وإمَّا مِنْ كَوْنِهما إرثًا ورصيدًا تاريخيًّا ثقافيًّا وحضاريًّا ليس غير.(/5)
- الواقع العربي المعيش وكيفية التعامل مع مشاكله المعاصرة كالتَّخَلُّف والتَّبَعِية والغزو الفكري والثقافي الغربي والتحدي الصِهْيَوْنِيِّ، وغياب الوَحْدة بين الحكومات العربية في المواقف السياسية، وانعدام الحرية في عديد منَ البُلدان العربية، وغيرها من المشاكل التي أثقلت الدراساتُ والأبحاث والمراسلات حولها رفوفَ مكتبات وأرشيف الجامعة العربية.
وازداد حجم هذه الإشكاليات أو الواجهات وتراكمت التساؤلات حولها بعد أن أحس مثقفو اليسار العربي أن انشغالَهُمْ بالثقافة السياسية، واستيرادهم لمفاهيم ومعطيات المدارس الفكرية الشرقية والغربية في شكلها الخام وصبَّهم لها على الواقع العربي، وأخذهم من الدين الإسلامي موقفًا غامضًا يعارض أكثر مِمَّا يُسانِد، وبعد أنْ أَدْرَكُوا أن ابتعادهم هذا جعل الهوة بينهم وبين الجماهير التي يُصَرِّحون أنَّهم يعملون من أجلها تَتَّسِعُ وتزداد، في حين أن الثقافة الإسلامية في شكلها الشعبي من مَوَاعِظَ دينية ودروس فقهية بالمساجد والدور الثقافية، وشكلها الأكاديمي من خلال المقالات والنشرات بالصحافة الوطنية والدولية، أو الأبحاث والدراسات من خلال الندوات والمحاضرات في اللقاءات الثقافية، أو المؤتمرات الفكرية من طرف جهابذة الفكر الإسلامي والدعاة الإسلاميين المعاصرين، تكسب الأنصار تلو الأنصار وتكتسح الساحة بعودة فئات كبيرة من الشعوب العربية الإسلامية إلى ممارسة شعائرها الدينية مع إيمان كبير ويقين صادق، واستعداد لنصر الملة الإسلامية والذود عن الشريعة المحمدية.(/6)
وإقبال هذه الفئات على تجديد إيمانها وإخلاص الدعاة لها وصدقهم في دعوتها؛ جعل مثقف اليسار العربي يحار بين نظريات تفجر الثورات وتحرك الشعوب على مُسَوَّدات الكتب وصفحات الجرائد والمجلات، وبين واقع معيش يُظهر تشبث تلك الشعوب بدينها والتفافها حول شريعة نبيِّها، وسرعة تأثير دعوة الإسلام فيها. فتأكد لغير واحد مِن أمثال هذا المثقَّفِ الحائِرِ أنَّ المدارس الفكرية المادية والليبرالية ليست دواء ناجعًا لكل مشاكل العالم العربي الإسلامي بحُكْم أنها تفترض قبل قيامها، كلٌّ حسَب أيديولوجيتها، " تكوين تقليد للتفكير والكفاح، وطليعة واعية يحركها إيمانٌ قويٌّ، ومسيرة طويلةٌ إلى الحُكْم، فضلاً عن ظروف تاريخية ملائمة. وإلا يكون ذلك جدلاً لفظيًّا، وذريعة لطموح طائفة تغطي ولعلها تعمق النقائص الهيكلية الدائمة"[8]، وإن الشعوب الإسلامية المخاطَبة بفكر تلك المدارس الغريبِ عن تراثها وأصالتها، والمعاكس لطموحاتها وآفاق مستقبلها، لا ترغب في الابتعاد عن دينها وعقيدتها؛ لكون هذه العقيدة علاوةً على صدقها وحقيقتها لا تقف معارضًا لركب الحضارة، وليست عائقًا في طريق النهوض بالأمة نحو التقدم والرقي بقدر ما هي المحرك والدافع لمجهودات ومقدرات هذه الأمة نحو الحضارة الراقية والازدهار المستمر. ولتأكدهم هذا مَرَقَ العديد مِن مثقفي اليسار مِن صفوف تَكَتُّلاتهم الحزبية ومدارسهم الفكرية، وأقبلوا على دراسة الإسلام؛ ليعيدوا نظرتهم إليه بعيدًا عن الآراء الاستشراقية والافتراءات المعادية.(/7)
وأمام هذا المروق الذي أحدث الصدع في التكتلات الثقافيَّة القائمة، ومناصرة عدد من منظِّري التجمعات اليسارية العربية للدعوة الإسلامية إنْ سرًّا وإن علنًا، وتصريح باقيهم بالخوف من هذا الانتشار الكاسح للشريعة الإسلامية والملة المحمدية بين صفوف الشباب بالمدارس والجامعات، بل إعلان بعضهم أنَّهُمْ يَعِيشُونَ فَتْرَةَ مَخاضٍ فِكْري تُنبِئ عنِ انقلابٍ على الأفكار المادية أو الليبرالية، وتُبَشِّرُ بالعودة إلى الإسلام قولاً وعملاً، ولوضع حد للأزمة المشار إليها بحسم الصراع الدائر حول المواقف الثلاثة السابق ذكرُها؛ عَكَفَ عَدَدٌ غَيْرُ يسير من المخلصين لمذاهبهم السياسية، والموفون بالتزاماتهم تُجاه أساتذتهم في جامعات ومدارس الكتلة الشرقية أو الغربية على تحرير مشاريع ثقافية وإعداد برامج فكرية "نهضوية"؛ لإعادة تشكيل العقل العربي، وبالتالي إعادة تأريخ الفكر العربي الإسلامي، تنقسم في معظمها إلى قسمين[9]:
- قسم يرى ضرورة تبني الأفكار المادية، واقتباس المناهج الاشتراكية الماركسية؛ للخروج بالفكر العربي من أوضاعه المتردية الراهنة، ويرى ضرورة البَدْء بإعادة كتابة التاريخ على ضوء مناهج المادية الجدلية.
- وقسم يرى أنَّ تَبَنِّي الأفكار المادية أو غيرها من أفكار المذاهب السياسية المعاصرة يستلزم المرورَ من مرحلة تاريخية تتم فيها علمنة الشعوب العربية الإسلامية، وجعل إيمانها بعقيدتها الإسلامية، وعملها بشريعتها المحمدية، ينقلب إلى تقديس لتلك العقيدة كإرث حضاري وثقافي إنساني، وتعظيم من طرفها لتلك الشريعة كعطاءات فكرية بشرية، تحمل في كيانها عناصرَ ثورية إذا ما قورنت بزمانها وفترة تاريخها، ثم سلْخ ذلك التقديس وذلك التعظيم عن كل إيمان بالدار الآخرة.(/8)
وإذا كان القسم الأول قد تناولته أقلام بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين بالبحث والتحليل، وتجلَّى للعيان مضمونُه وأهدافُه، وأساليبُه ووسائِلُه، فإن القسم الثاني بحُكْم تستُّرِه بستار الدعوة لتجديد الدين، وإحياء علومه وفنونه، وإعادة قراءة تراثه وكتابة تاريخه، لم يَنَلْ حَظَّهُ منَ الدراسة، ولم تسلط عليه الأضواء بالقدر الكافي، الذي يجعله بارزًا واضحًا لا غُبَارَ عَلَيْهِ خاليًا من كل أثر للتمويه أو التزييف.
من هذه المشاريع مشروع" إعادة القراءة للقرآن" للدكتور محمد أركون، وهو مشروع جزئي يدخل ضمن مشروعه العامّ المتعلق بإحياء جديد لعلوم الدين على ضَوْءِ ما استَجَدَّ من علوم في ميدان الآداب والعلوم الإنسانية كالألسنية والبنيوية والأنتروبولوجيا وغيرها. وحسَب ما وصل إليه عِلمُنا فإن مشروع محمد أركون لم يُتناول بالبحث والتحليل أو النقد والدراسة، لا من طرف المفكرين الإسلاميين ولا من طرف المفكرين اليساريين أو العلمانيين بشقَّيْهِم: الليبرالي والاشتراكي الماركسي، وإنما اكْتُفِيَ بتمجيده والإشادة به، وترجمة بعض مقالاته ونصوصه في بعض المجلات والدوريات العربية.
لذا، ولخطر هذا المشروع على مستقبل الدراسات الإسلامية بجامعاتنا العربية، ولفتح نافذة على التيارات المعاصرة الراغبة في قلب الدِّين رأسًا على عقب[10]، رأينا أن نقوم بجولة في أروقة القاعة الفكرية المجسدة لفكر ومشروع محمد أركون، والوقوف على بعض آرائه ومقترحاته ومدى صلاحيتها لتجديد الدين وإحياء شرعه القويم.
وسينقسم بحثنا إلى أربعة فصول هي:
1- الفصل الأول: من هو محمد أركون؟ وفيه سنعرف بصاحب المشروع وبمؤلفاته وبعض ما قيل فيه وكتب حوله.
2-الفصل الثاني: لماذا محمد أركون؟ وسنتناول فيه الأسباب التي دعتنا لدراسة مشروع محمد أركون دون بقية المشاريع المقترحة والمتداولة بالساحة الثقافية.(/9)
3-الفصل الثالث: ماذا يريد محمد أركون؟ وفيه سنعطي نظرة موجزة عن الغاية من المشروع والأهداف التي يرمي إلى تحقيقها.
4-الفصل الرابع: أركونيات، وفيه سنورد بعض الفقرات من مقالات وكتب محمد أركون؛ لاستكمال جولتنا في أروقة نتاج فكره ومشروعه.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] "الأوجه الاجتماعية والدينية للأنسية الإسلامية"، وهو بحث شارك به المستشرق روجي أرنالديز، أستاذ كرسي الفلسفة الإسلامية والإسلاميات سابقًا بجامعة باريس الرابعة، في اللقاء الثقافي الذي نظمه المجمع اليهودي الدولي – فرع فرنسا – في نوفمبر 1977 م والذي كان موضوعه: "الأمة الإسلامية". ويعني أرنالديز بالمفكرين المسلمين المعاصرين، خاصة أولئك الذين حصر نشاطهم في عبارته بباريس، ومنهم الدكتور محمد أركون والدكتور عبد المجيد تركي وغيرهما من المفكرين المقيمين بفرنسا والقاطنين أو المدرسين بجامعات باريس، والمفكران المشار إليهما شاركًا في اللقاء المذكور ببحثين وسنشير إلى بحث أركون منهما بشيء من التفصيل في الفقرة المعنونة: "لماذا محمد أركون؟".
"ASPECTS SOCIAUX ET RELIGIEUX DE L'HUMA-NISME MUSULMAN" par roger ARNAlDEZ, professeur de philosophie musulmane et d'islamdologie a l'Universite de Paris IV, "COMMUNAUTE MUSULMANE" Presses Universitaires de France, 1978, page 51 et 52.
[2] يسين السيد/ مدير الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، والمقولة التي أوردناها مقتبسة من عرضٍ قام به لصالح مجلة "المستقبل العربي" حول ندوة"التراث وتحديات العصر في الوطن العربي" التي عقدت بالقاهرة ما بين 24-27سبتمبر 1984، والتي شارك فيها محمد أركون موضوع مقالنا ببحث معنون:"التراث: محتواه وهُويته، إيجابياته وسلبياته". المستقبل العربي، العدد 69، نوفمبر1984، ص160.
[3] المرجع السابق.(/10)
[4] العبارة وردت ضمن مقابلة مطولة أجراها محمد أركون مع رئيس تحرير مجلة هيرودوت Herodote الفصلية والمتخصصة في الجغرافية السياسية "إيف لاكوست" نشرتها المجلة المذكورة في عددها الخاص بالجغرافية السياسية للعالم الإسلامي وقامت بنقل بعض فِقْراتها إلى العربية مجلة " الوحدة " الصادر عن المجلس القومي للثقافة العربية، عدد6، مارس1985، ص152-153.
[5] "أزمة المجتمع العربي وأزمة اليسار " محمد جسوس، وهو بحث شارك به في الندوة التي نظمها "منتدى الفكر والحوار " بالرباط ما بين 22-24نوفمبر 1984 م، نشر نص البحث في الملحق الثقافي لجريدة "الاتحاد الاشتراكي" العدد 54، الأحد / الاثنين 2 – 3 ديسمبر 1984، وفي مجلة "الوحدة" عدد 6 مارس 1985 م، ص21. وتجدر الإشارة إلى أن البحث يوضح تحولاً جذريًّا في فكر الدكتور محمد جسوس، وهو جدير بالقراءة.
[6] "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي"، د. هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الأولى مايو 1984، ص102و103.
[7] لدراسة أسباب هذه الأزمة ومظاهرها وطرق علاجها يمكن مراجعة الكتاب الأخير للدكتور محسن عبد الحميد:" أزمة المثقفين تجاه الإسلام في العصر الحديث " مكتبة أسامة بن زيد – الرباط 1405/1985م.
[8] د. هشام جعيط، الكتاب السابق، ص103.(/11)
[9] ظهرت في السنوات الأخيرة عدد من مشاريع الدراسة، وإعادة القراءة للدين الإسلامي والتراث العربي الإسلامي، تقترح مناهج فكرية مادية أو ليبرالية أو علمانية أو يسارية غير محددة المعالم؛ لإعادة النظر في الموروث الثقافي بما فيه الوحي الإسلامي وصياغة كتابة تاريخه من جديد، [يحتاج التاريخ العربي الإسلامي إلى إعادة قراءة وتدوين؛ لتَنْقِيحِه مِنَ الدَّخَن وإزاحة الأباطيل والشبهات عنه، والساحة الثقافية الإسلامية ما زالت تفتقر إلى مشاريع إسلامية معتمدة على برامج علمية للقيام بهذا العمل اللازم لتجديد الدين الإسلامي والفكر العربي الإسلامي] من ضمن المشاريع الثقافية اليسارية المطروحة على الساحة:
أ- مشروع الدكتور طيب تيزيني، أستاذ جامعي سوري، والذي سماه "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بدايته حتى المرحلة المعاصرة"، وهو مشروع يعتمد الماركسية كمذهب والمادية التاريخية كمنهج، ينوي صاحبه إصداره في اثني عشر جزءًا، صدر منها حتى اليوم جزءان، خصص الجزء الأول لعرض النظرية المقترحة قي قضية التراث العربي. وللدكتور تيزيني أفكارٌ وآراء في قضية التراث العربي، لا يوافقه عليها عديد من الماركسيين العرب علاوة على غيرهم من مفكري المذاهب السياسية الأخرى.
ب- مشروع الدكتور حسين مروة، باحث لبناني، والمعنون:"النزاعات المادية في الفلسفة الإسلامية" صدر في جزأين ابتداء من 1978 وهو موضوع رسالة دكتوراه ناقشها الباحث في جامعة موسكو، وقد نشرت دار الحداثة للطباعة والنشر ببيروت كتابًا ضَمَّ أغلب المقالات والمناقشات التي تناولت مشروع طيب تيزيني ومشروع حسين مروة بالبحث والدراسة من قِبَل مثقفي اليسار أنفسهم، وعنوانه "الماركسية والتراث العربي الإسلامي "، الطبعة الأولى 1980.(/12)
ج- مشروع الدكتور حسن حنفي، أستاذ جامعي مصري، سبق له أن درس في جامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس، عنوان مشروعه " التراث والتجديد" يقول عنه إنه سيشمل ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: موقفنا من التراث القديم وفيه 8 أجزاء.
- القسم الثاني: موقفنا من التراث الغربي وفيه 5 أجزاء.
- القسم الثالث: نظرية التفسير وفيه 3 أجزاء.
صدر حتى الآن من هذا المشروع كتاب واحد بعنوان "التراث والتجديد"وهو عبارة عن مقدمة للمشروع – دار التنوير للطباعة والنشر – الطبعة الأولى 1981، علمًا بأن للباحث كتبًا أخرى تناول فيها الموقف من الفكر العربي المعاصر، والفكر الغربي المعاصر، ودراسات في علم أصول الفقه وعلم أصول الدين والفكر الإسلامي المعاصر. وتجدر الإشارة إلى أن الدكتور حسن حنفي هو أبرز منظري ما اصطلح على تسميته "باليسار الإسلامي "، وله بحث في هذا الباب عنوانه "ماذا يعني اليسار الإسلامي"؟ كما أصدر مجلة عنوانها "اليسار الإسلامي" (صَدَرَ مِنْهَا عدد واحد فقط ). ولمن أراد مزيدًا من البحث في نقد مشروع باحثنا فليرجع إلى كتاب "ظاهرة اليسار الإسلامي"لمحسن الميلي- مطبعة تونس-قرطاج - أكتوبر1983 وهو يَتَنَاوَلُ الظاهرة من وجهة نظر إسلامية، ومقال الدكتور فؤاد زكريا بعنوان " مستقبل الأصولية الإسلامية"، مجلة فكر، العدد 4، ديسمبر 1984 ضمن ملف عن "الفكر الديني والفكر العلماني" ص16-50 وهو يتناول الظاهرة من موقع علماني
د- مشروع الدكتور محمد عابد الجابري، أستاذ جامعي مغربي، الذي بدأه بكتابه " نحن والتراث" وأعقبه بمحاولته الأخيرة " نقد العقل العربي "-صدر منه الجزء الأول "تكوين العقل العربي " دار الطليعة –بيروت الطبعة الأولى 1984، وهو مشروع ينطلق من منهجية مادية، لكن مختلفة عن منهجية طيب تيزيني أو حسين مروة، ومعتمدة على أفكار المدارس الفكرية الفرنسية الحديثة في ميدان العلوم الإنسانية كالأبستمولوجيا والبنيوية وغيرهما....(/13)
هـ-مشروع الدكتور محمد أركون وهو موضوع بحثنا هذا.
كما أن هنالك عددًا آخر من مشاريع الثقافة كمشروع الدكتور غالي شكري وغيرها لم نر ضرورةً لذكرها.
[10] يقول أمير الشعراء شوقي في مِثْل هؤلاء الدعاة المجددين:
لاَ تَحْذُ حَذْوَ عِصَابَةٍ مَفْتُونَةٍ يَجِدُونَ كُلَّ قَدِيمِ أَمْرٍ مُنْكَرَا
وَلَوِ اسْتَطَاعُوا فِي الْمَجَامِعِ أَنْكَرُوا مَنْ مَاتَ مِنْ آبَائِهِمْ أَوْ عُمِّرَا
مِنْ كُلِّ سَاعٍ فِي الْقَدِيمِ وَهَدْمِهِ وَإِذَا تَقَدَّمَ لِلْبِنَايَةِ قَصَّرَا.(/14)
العنوان: دراسة لمفكر قبطي... الإسلام لم ينتشر بحد السيف!
رقم المقالة: 1942
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
إذا كتب مسلم عن الإسلام ليصحح المعلومات الخاطئة عنه، ونصب نفسه محاميًا للدفاع ضد التُّهَم الباطلة التي يُتّهم بها الإسلام، وكشف أسباب الهجوم الشرس عليه من أعدائه الحاقدين، فهذا شيء طبيعي لا يثير الانتباه، ولا يدعو إلى الدهشة، وإذا كتب مسيحي عن المسيحية ودَافَعَ عنها ضد مُخالفيها في العقيدة، فهذا شيء طبيعي أيضًا، أمّا أن يَكْتُبَ مسيحي تَغلّبَتْ عليه فِطْرته، وحِيادِيّته مُدافعًا عن الإسلام بصفته دينًا سماويًّا، ومُناصرًا الحقَّ والعدل، فهذا هو الذي يَلْفِت الانتباه، ويدعو في الوقت نفسه إلى التفاؤل، ويؤكد أنَّ الباطل مهما كَثُر أنصاره، وقوي أتباعه، فإنَّ في النهاية ينتصر ويعلو، وإنَّ للحق جنودًا يمده بهم رب العباد لنُصْرَتِه.
الإسلام والسيف(/1)
فقد صدرت في مصر مؤخّرًا دراسة قبطيَّة للباحث المسيحي الدكتور/ نبيل لوقا بباوي، تحت عنوان "انتشار الإسلام بحدّ السَّيف بين الحقيقة والافتراء" ردَّ فيها على الذين يتَّهِمُون الإسلام بأنَّهُ دينٌ انتَشَرَ بِحَدّ السيف، وأنه أجْبَر النَّاسَ على الدُّخول فيه، واعتناقه بالقوة، وناقشت الدراسة هذه التُّهْمة الكاذبة بموضوعية علمية وتاريخية، وبرهنت على بطلانها وكذبها، مُوضّحة أن الإسلام لم ينفرد وحدة بالتناقض بين أحكامه وشرائعه ومبادئه التي ترفض الإكراه على الدين، وتُحَرّم الاعتداء على النفس البشرية، وبين سلوك وأفعال بعض أتْباعِه من الولاة والحكام وعامَّة المسلمين، والتي لا تَمُتّ إلى تعليم الإسلام بصِلة، وأشارت الدراسة إلى أنَّ المسيحيَّة أيضًا تُشارِك الإسلام في التناقُض بين تعاليمها ومبادئها التي تدعو إلى المحبة والتسامُح والسلام بين البشر، وعدم الاعتداء على الآخرين، وبين ما فعله بعضُ أتباعها في بعضهم من قَتْل، وسفك دماء، واضطهاد، وتعذيب، ترفضه المسيحية، ولا تقرّه مبادِئُها، وأشارت إلى الاضطهاد والتَّعذيب والتَّنْكِيل والمذابح التي وقعت على المسيحيين الأرثوذكس في مصر من الدولة الرومانية، ومن المسيحيين الكاثوليك.
التطرّف المسيحي
وأشار الباحث إلى الحروب الدمويّة التي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت في أوربا، وما لاقاه البروتستانت من العذاب، والقتل، والتشريد، والحبس في غياهِب السجون والإعدام بالجملة، إِثْرَ قِيام الرَّاهب مارتن لوثر بإنشاء المذهب البروتستانتي بعد أن فاض به الكيل من صُكُوك الغُفران التي كانت تُمْنَح لِبَعْضِ أتْباع الكنيسة من أجل جَمْعِ الأموال، وبعد أن أصبحت صُكُوك الغفران تجارةً رابِحةً للكَهَنَة.
وهَدَفَتِ الدراسة من وراء عَرْض هذا الصراع المسيحي إلى:(/2)
أوَّلاً: عَقْد مُقارَنَة بين هذا الاضْطِهاد الدّينيّ الذي وقع على المسيحيين الأرثوذكس من الدولة الرومانية، ومن المسيحيين الكاثوليك؛ وبين التسامُح الديني الذي حقَّقته الدولة الإسلامية في مصر، وحرية العقيدة الدينية التي أقَرّها الإسلام لغير المسلمين، وتركهم أحرارًا في ممارسة شعائِرهم الدينيَّة داخل كنائسهم، وتطبيق شرائع مِلّتِهِم في الأحوال الشخصية مِصْدَاقًا لقوله - تعالى - في سورة البقرة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وتحقيق العدالة والمُساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية؛ إعمالاً للقاعدة الإسلامية "لَهُم ما لنا، وعليهم ما علينا"، وهذا يُثْبِت أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقوة؛ ولكن تَمّ تخيير غير المسلمين بين قَبول الإسلام، أو البقاء على دينهم مع دَفْع الجزية، فمن اختار البقاء على دينه بقي على دينه حرًّا، وقد كان في قُدْرة الدولة الإسلامية أن تُجْبِر المسيحيين على الدخول إلى الإسلام بقوتها أو أن تَقْضِيَ عليهم بالقتل إذا لم يدخلوا في الإسلام قَهْرًا؛ ولكن الدولة الإسلامية لم تفعل ذلك؛ تنفيذًا لتعاليم الإسلام ومبادئه، فأين دعوى انتشار الإسلام بالسيف؟!
الجزية وعقود الأمان(/3)
ثانيًا: إثبات أن الجِزْية التي فُرضت على غير المسلمين في الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان، التي وقعت معهم؛ إنما هي ضَرِيبة دفاع عنهم في مُقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أي اعتداء خارجي؛ لإعفائِهم من الإشتراك في الجيش الإسلامي حتَّى لا يدخلوا حربًا يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به، ومع ذلك إذا اختار غير المسلم أن ينضمَّ إلى الجيش الإسلامي برضاه، فإنه يُعْفَى من دَفْع الجزية؛ كما أنَّها تأتي نظير التَّمتُّع بالخدمات العامَّة التي تُقدّمها الدولة للمُواطنين مسلمين وغير مسلمين، والتي يُنفَق عليها من أموال الزكاة التي يدفعها المسلمون بصفتها ركنًا من أركان الإسلام، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرًا ضئيلاً متواضعًا إذا قورنت بالضرائب الباهظة التي كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيّين في مصر، والتي كانت تفرض على كل شيء حتى على دفن الموتى، ولا يُعْفَى منها أحد، في حين أن أكثر من 70 % من الأقباط الأرثوذكس كانوا يُعْفَوْنَ من دفع هذه الجزية، فقد كان يعفى من دفعها: الصغار، والنساء، والشيوخ، والعجزة، وأصحاب الأمراض، والرهبان.
تصرفات فردية
ثالثًا: إثبات أنَّ تجاوُز بعض الولاة المسلمين أو بعض أفرادهم في معاملاتهم لغير المسلمين إنما هو تصرّفات فرديَّة شخصيَّة، لا تمتّ لتعاليم الإسلام بصلة، ولا علاقة لها بمبادئ الدين الإسلامي وأحكامه، فإنصافًا للحقيقة ينبغي ألا يُنسَب هذا التجاوز إلى الدين الإسلامي؛ وإنما ينسب إلى من تجاوز ذلك بتصرفات لا علاقة لها بالإسلام، كما أن المسيحية لا تقر التجاوزات التي حدثت من الدولة الرومانية، ومن المسيحيين الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس، فلماذا يغمض بعض المستشرقين عيونَهم عن التجاوُزِ الَّذي حدث على أيدي المسيحيين، ولا يتحدَّثون عنه، في حين يجسّمون التَّجاوز الذي حدث في جانب المسلمين ويتحدثون عنه؟! ولماذا الكيل بمكيالين، والوزن بميزانين؟!
المستشرقون والحقد(/4)
وأكد الباحث أنه اعتمد في دراسته على القرآن والسنة، وما ورد عن السلف الصالح من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - لأنهم جميعًا من المصدر الأساسي الذي يحدّد الإطار الصحيح لانتشار الإسلام، وكيفيَّة معاملة غير المسلمين. أمَّا ما يفعله المستشرقون من الهجوم على الإسلام والحضارة الإسلامية، من خلال إيراد أمثلة معينة في ظروف معينة لموقف بعض أولي الأمر من المسلمين، أو لآراء بعض المجتهدين والفقهاء في ظروف خاصة في بعض العهود، التي سيطر فيها ضيق الأفق والجهل والتعصّب؛ فإنَّ هذه الاجتهادات بشريَّة تحتمل الصواب والخطأ.
أما ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية فلا يحتمل إلا الصواب، وإذا كانت هناك أفعال لبعض الولاة المسلمين، أو بعض الجماعات تخالف أحكام الكتاب أو السنة، فهي تنسب إلى أصحابها، ولا يمكن أن تُنْسَبَ إلى الإسلام بصِفَتِه عقيدة.
الإسلام عبر التاريخ(/5)
وعبر التَّسلسل التاريخي لرسالة الإسلام أخذت الدراسة تدحض ما يقوله بعضهم من أن الإسلام انتشر بحد السيف، وأنَّهُ قتل أصحاب الديانات المخالفة، أوْ أَجْبَرَهُم على الدخول في الدين الإسلاميّ قهرًا وبالعنف، موضّحة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدأ بدعوة أصحابه في مكة ممن كان يثق فيهم، وكان الرسول يعرض الإسلام في موسم الحج على القبائل في مكة، وقد اقتنع جماعة من الأوس والخزرج بدعوته، وحين عادوا إلى يثرب دعوا أهلها للدّخول في الإسلام، وتمَّ ذلك من دون أن يستلَّ الرَّسولُ سيفًا، أو يقاتل أحدًا؛ بل العكس هو الصحيح، فقد تعرَّض المسلمون لاضطهاد المشركين في قريش، وكان سلاحهم المهانة، والضرب المفرط، والتنكيل بالمسلمين بأبشع ألوان التعذيب، ولم يفكّروا في إخراج السيوف من أغمادها، وقد أمضى الرسول في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو للدخول في الإسلام بالحُجَّة والموعظة الحسنة، وبعد أنِ استتبَّ الأمرُ له داخلَ المدينة بَدَأَ نَشْرَ الإسلام خارجَها بِالحُجَّة والإقناع لِلْمُشركين العرب؛ وإلا فالقتال. أمَّا أصحابُ الدّيانات السماويَّة؛ كاليهوديَّة والمسيحيَّة (أهل الكتاب)، فكان يُخَيّرهم بالإقناع في دخول الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال، وهذا التخيير يعني أنّ الإسلام لم ينتشر بحدّ السيف كما يردّد بعض المستشرقين.(/6)
ولم تكن موقعة "بدر" من أجل أن ينتشر الإسلام بحد السيف؛ بل كانت بسبب رغبة المسلمين في استرداد جزء من حقوقهم المغتصبة، وأموالهم ومنازلهم التي تركوها في مكة مرغمين قبل الهجرة، فخرج المسلمون لأخذ قافلة تجارية لقريش، وحين علم زعماء قريش بذلك خرجوا بأسلحتهم لقتال المسلمين، ثم كانت موقعة "أُحُد" دفاعًا عن النفس والدعوة الإسلامية؛ لأن كفار قريش بقيادة أبي سفيان توجهوا من مكة إلى جبل أُحد بالقرب من المدينة؛ للقضاء على الدعوة الإسلامية في مهدها قبل أن تنتشر في شبه الجزيرة العربية، ثم كانت موقعة "الخندق" التي كانت أيضًا دفاعًا عن النفس، بعد أن قام اليهود بتجميع الأحزاب من القبائل، وعلى رأسهم قريش؛ لمهاجمة المسلمين في المدينة، وقَتْلِ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في موقعة الخندق أنَّ اليهودَ هُمُ المُحَرّضون الأساسيّون لها؛ فقد حرَّضوا قريشًا، ثم توجَّهوا إلى قبيلة غطفان وقبيلة بني مُرَّة، ثم توجَّهوا إلى قبائل سليم وأشجع وفزارة وسعد وأسد، وحرَّضوهم على قتال المسلمين، لذلك فقد كان الرسول معه كل الحق في طردهم من المدينة؛ لأنَّهم نقضوا العهد الذي أبرمه معهم، وانضمّوا في موقعة الخندق إلى أعداء الإسلام، وكانوا كالشوكة في ظهر المسلمين في أثناء وُجودهم قرب المدينة، بإعطاء أسرارهم لكفار قريش، وإحداث المشكلات داخل المدينة، ومحاولة الوقيعة بين الأنصار والمهاجرين، وبعد صلح الحديبية نجد الإسلام ينتشر بين قادة قريش عن اقتناع، فقد أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وتوجها بإرادتهما الحرة إلى المدينة لمقابلة الرسول، وأسلما أمامه وبايعاه.
الموقف من اليهود(/7)
ويدعي بعضُ المستشرقين أن الإسلام يقتل أصحاب الديانات الأخرى، ويجبرهم على الدخول في الإسلام، ولكن الرسول بعد قدومه إلى المدينة المنورة عقد تحالُفًا مع اليهود المقيمين هناك، وذكرت الوثيقة أن اليهود الموجودين في المدينة لهم عهد وذمة، وأنهم آمنون على حياتهم، وعلى دينهم وأموالهم، ويمارسون شعائرهم الدينية، وعلى رغم ذلك فقد خانوا المسلمين، ونقضوا العهود، ويقول بعض المستشرقين، وعلى رأسهم مرجليوث: إن الغرض الأساسي من إغارة المسلمين على اليهود إنَّما هو الحصول على الغنائم، وهذا غير صحيح؛ فبنو قينقاع وبنو النضير أخذوا معهم حين إجلائهم ما تستطيع رواحلهم أن تحمله، ثم إن السبب الرئيسي في طرد اليهود من المدينة أنَّهم نقضوا العهد، ولم يتعاونوا مع المسلمين في الدفاع عن المدينة، وتحالفوا مع أعداء المسلمين، ولذا كان جلاء اليهود ضرورة لتأمين الجبهة الداخلية حماية للدولة الإسلامية الوليدة، وهو حق مشروع، وكان رأي الصحابة هو قتلَ جميع اليهود؛ ولكن الرسول رضي بوساطة عبدالله بن أبيٍّ ابن سلول في يهود بني قينقاع، وأمر بإجلائهم أحياء من المدينة، ولم يقتل منهم أحدًا على رغم أن أعداد المسلمين أضعاف اليهود، كما أجلى يهود بني النضير من دون قتل، بعد محاولتهم الفاشلة لاغتيال رئيس الدولة، المتمثل في شخص النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من دون أن يقتل منهم أحدًا، ثم كان حُكم الصحابي الجليل سعد بن معاذ بقتل الرجال من يهود بني قريظة، بعد أن خانوا عهدهم، وألبوا القبائل على المسلمين في غزوة الخندق. وبعد أن علم المسلمون بخطة يهود خيبر في الهجوم على المدينة بدأ المسلمون بالهجوم، ولم يقتلوهم ولم يُجْبِروهم على الدخول في الإسلام بعد أن قبِلُوا بدفع الجزية، وقد أرسل الرسول رسائله إلى جميع الملوك والأمراء في السنة السابعة من الهجرة يدعوهم إلى الإسلام، ولم يرسل الرسول أي قوات لإجبار أحد على الدخول في الإسلام، وأرسل(/8)
حملة لتأديب أمير مؤتة، الذي قتل رسوله الحارث بن عُمَيْر الأزدي حين كان في طريقه إلى أمير بصرى ليدعوه إلى الإسلام، ولم يكن هدف الحملة نشر الإسلام بحد السيف؛ ولكنها كانت لمعاقبة أمير مؤتة شرحبيل بن عمرو الغساني لفعلته اللا إنسانية في جمادى الأولى من السنة الثامنة من الهجرة عام 629م، ولو كان الرسول يريد القتل لَنَشَرَ الإسلام بحد السيف، أو يريد الغنائم كما يدعي بعض المستشرقين لكان تَرَكَ تبوك، وتوجَّه إلى قوات قيصر الروم المتحصنة داخل الحصون في بلاد الشام، وحاصرها من الخارج وقطع عنهم الطعام والمؤن، ومن المؤكد أنها كانت سوف تستجيب لمطالبه إذا طال الحصار عليها؛ ولكنَّه لم يفعل ذلك مع أهل تبوك، ولا مع أهل ثقيف قبلهم بعد غزوة "حنين"؛ لأن غرضه الأساسي هو الدفاع عن النفس، والدفاع عن الدعوة الإسلامية في مهدها، وإن كان هذا لا يمنع البدء بالهجوم إذا علم أنه سيهاجم، باعتبار أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم.
والسؤال الذي يطرح نفسه على بعض المستشرقين هو أين انتشار الإسلام بحد السيف في عام الوفود؟ وها هي وفود القبائل على رأسها زعماؤها وسادتها يأتون طواعية إلى المدينة المنورة، ويتحملون عبء السفر على رغم وعورة الطرق في ذلك الوقت، وإثر دخولهم المدينة يتوجهون لمقابلة الرسول بِحُرّ إرادتهم، يعلنون إسلامهم باسم قبائلهم. وتؤكد الدراسة أن حروب الردة التي قادها الخليفة الأول أبو بكر الصديق لم تكن لنشر الإسلام؛ ولكنها كانت للحفاظ على وحدة الدولة الإسلامية، وبعد أن دخلت جميع قبائل العرب في حيز الدولة الإسلامية بكامل إرادتها، ومنها من يدفع الجزية، ومنها من يدفع الزكاة، وتشير الدراسة إلى أنَّ الذي قتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يصلّي في المسجد كان رجلاً من أهل الذمة، وعلى رغم ذلك أوصى عمر مَنْ بعده بأهل الذمة خيرًا، وأن يَفِي بعهدهم، وأن يقاتل عنهم، وألا يكلِّفَهُم فوق طاقتهم.(/9)
العنوان: درسٌ من النبوَّة
رقم المقالة: 1692
صاحب المقالة: مصطفى صادق الرافعي
-----------------------------------------
درسٌ من النبوَّة
قالوا: إنَّه لما نصر الله تعالى رسولَه، وردَّ عنه الأحزاب، وفتح عليه قُريظة والنَّضير[1] -: ظنَّ أزواجه - صلى الله عليه وسلم - أنه اختُصَّ بنفائس اليهود وذخائرهم؛ وكُنَّ تسعَ نسوةٍ: عائشة، وحَفْصَة، وأم حبيبة، وسَوْدَة، وأم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينب، وجُوَيْرِيَة؛ فقعدنَ حوله وقُلْنَ: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصرَ في الحَلْيِ والحُلَل، والإماء والخَوَل[2]، ونحن ما تراه من الفاقة والضِّيق...". وآلمن قلبه بمطالبتهنَّ له بتَوْسِعَة الحال، وأن يعاملهنَّ بما تعامِل به الملوكُ وأبناءُ الدنيا أزواجَهم؛ فأمره الله تعالى أن يتلو عليهنَّ ما نزل في أمرهنَّ من تخييرهنَّ في فراقه، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28-29][3].
قالوا: وبدأ - صلى الله عليه وسلم - بعائشةَ - وهي أحبُّهنَّ إليه - فقال لها: "إني ذاكرٌ لكِ أمرًا ما أُحِبُّ أن تَعْجَلِي فيه حتى تستأْمِري أبوَيْكِ":
قالت: ما هو؟:
فتلا عليها الآية، قالت: أفيك أَستأمِرُ أبوَيَّ؟ بل أَختارُ اللهَ تعالى ورسولَهُ.
ثم تتابعْنَ كلُّهنَّ على ذلك؛ فسمَّاهنَّ الله (أمهاتِ المؤمنين)؛ تعظيمًا لحقِّهنَّ، وتأكيدًا لحُرمتهنَّ، وتفضيلاً لهنَّ على سائر النساء.
• • • • •(/1)
هذه هي القصة كما تُقرأ في التاريخ، وكما ظهرت في الزمان والمكان، فلْنقرأها نحن كما هي في معاني الحكمة، وكما ظهرت في الإنسانية العالية، فسنجد لها غَوْرًا[4] بعيدًا، ونعرف فيها دَلالةً ساميةً، ونتبيَّن تحقيقًا فلسفيًّا دقيقًا للأوهام والحقائق.
وهي - قبل كلِّ هذا، ومع كلِّ هذا -: تنطوي على حكمةٍ رائعةٍ، لم يَتنبَّه لها أحدٌ، ومن أجلها ذُكرت في القرآن الكريم؛ لتكون نصًّا تاريخيًّا قاطعًا، يدافِع به التاريخ عن هذا النبي العظيم في أمرٍ من أمور العقل والغريزة، فإنَّ جَهَلَةَ المبشِّرين في زمننا هذا، وكثيرًا من أهل الزَّيْغ[5] والإلحاد، وطائفةً من قِصار النَّظر في التَّحقيق -: يزعمون أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إنما استكثر من النساء لأهواءٍ نفسيَّةٍ محضةٍ، وشهواتٍ كالشَّهوات، ويتطرَّقون من هذا الزَّعم إلى الشُّبهة، ومن الشُّبهة إلى سوء الظنِّ، ومن سُوء الظنِّ إلى قُبْح الرأي؛ وكلهم غبيٌّ جاهلٌ؛ فلو كان الأمر على ذلك، أو على قريبٍ منه، أو نحوٍ من قريبه، لما كانت هذه القصة التي أساسها نفي الزينة، وتجريد نسائه جميعًا منها، وتصحيح النيَّة بينه وبينهنَّ على حياةٍ لا تحيا فيها معاني المرأة، وتحت جوٍّ لا يكون أبدًا جوَّ الزَّهْر... وأمرُهُ من قِبِل ربِّه أن يُخَيِّرَهُنَّ جميعًا بين سراحهنَّ؛ فيكنَّ كالنساء، ويَجِدْنَ ما شِئْنَ من دنيا المرأة، وبين إمساكهنَّ، فلا يَكُنَّ معه إلا في طبيعة أخرى تبدأ من حيث تنتهي الدنيا وزينتها.
فالقصة نفسها ردٌّ على زعم الشهوات؛ إذ ليست هذه لغةَ الشَّهوة، ولا سياسةَ معانيها، ولا أسلوبَ غضبها أو رضاها، وما ها هنا تمليقٌ ولا إطراءٌ ولا نعومةٌ، ولا حرصٌ على لذَّةٍ، ولا تعبير بلغة الحاسَّة.(/2)
والقصة - بعدُ - مكشوفةٌ صريحةٌ، ليس فيها معنًى ولا شِبْه معنًى من حرارة القلب، ولا أثرٌ ولا بقيَّة أثرٍ من مَيْل النَّفْس، ولا حرفٌ أو صوتُ حرفٍ من لغة الدَّم، وهي على منطق آخر غير المنطق الذي تُستمال به المرأة، فلم تقتصر على نفي الدنيا وزينة الدنيا عنهنَّ، بل نفتِ الأملَ في ذلك أيضًا إلى آخِر الدهر، وأماتتْ معناه في نفوسهنَّ بقَصْر الإرادة منهنَّ على هذه الثلاثة:
- الله في أمره ونهيه.
- والرسول في شدائده ومكابدته[6].
- والدار الآخرة في تكاليفها ومكارهها.
فليس هنا ظرفٌ، ولا رقةٌ، ولا عاطفةٌ، ولا سياسةٌ لطبيعة المرأة، ولا اعتبار لمِزاجها، ولا زُلْفى[7] لأنوثتها، ثم هو تخييرٌ صريح بين ضدَّيْن لا تتلوَّن بينهما حالةٌ تكون منهما معًا، ثم هُوَ عامٌّ لجميع زوجاته، لا يَستثني منهنَّ واحدةً ولا أكثر.
والحريص على المرأةِ والاستمتاعِ بها لا يأتي بشيءٍ من هذا؛ بل يخاطب في المرأة خيالها أوَّلَ ما يخاطِب، ويُشبِعه مبالغةً وتأكيدًا، ويُوسِعُه رجاءً وأملاً، ويقرِّب له الزَّمن البعيد، حتى لو كان في أوَّل الليل وكان الخلاف على الوقت؛ لحقَّق له أنَّ الظهر بعد ساعة!
• • • • •
وبرهانٌ آخر: وهو أنَّ - النبي صلى الله عليه وسلم - لم يتزوَّج نساءه لمتاعٍ مما يمتَّع الخيال به، فلوْ كان وضْع الأمر على ذلك لما استقام ذلك إلا بالزينة، وبالفَنِّ النَّاعم في الثوب والحِلْيَة والتشكُّل كما نرى في الطبيعة الفنيَّة، فإن الممثِّلة لا تمثِّل الرواية إلا في المسرح المهيَّأ بمناظره وجوِّه...
وقد كانت نساؤه - صلى الله عليه وسلم - أعرفَ به؛ وها هو ذا ينفي الزينة عنهنَّ ويُخَيِّرهنَّ الطلاقَ إذا أصررْنَ عليه، فهل ترى في هذا صورةَ فِكْرٍ من أفكار الشَّهوة؟! وهل ترى إلا الكمال المحض؟! وهل كانتْ متابعة الزوجات التِّسع إلا تسعةَ برهاناتٍ على هذا الكمال؟!(/3)
وكأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُلقي بهذه القصة درسًا مستفيضًا في فلسفة الخيال وسوء أثره، على المرأة في أنوثتها، وعلى الرجل في رجولته؛ وأنَّ ذلك تعقيدٌ في الشهوات يقابله تعقيدٌ في الطَّبْع، وكَذِبٌ في الحقيقة ينشأ عنه كَذِبٌ في الخُلُق، وأنه صَرْفٌ للمرأة إلى حياة الأحلام والأمانيِّ والطَّيْش والبَطَر والفراغ، وتعويدها عاداتٍ تُفْسِد عاطفتَها، وتضيف إليها التصنُّع؛ فتُضعِف قوَّتها النفسيةَ القائمةَ على إبداع الجمال من حقيقتها لا من مظهرها، وتحقيق الفائدة من عملها لا من شكلها.
وكلُّ محاسن المرأة هي خيالُ متخيِّلٍ، ولا حقيقةَ لشيء منها في الطبيعة، وإنما حقيقتها في العين الناظرة إليها؛ فلا تكونُ امرأةٌ فاتنةً إلا للمفتونِ بها ليس غيرُ، ولو ردَّتِ الطبيعة على مَنْ يُشَبِّب[8] بامرأةٍ جميلةٍ فيقول لها: هذه محاسنكِ، وهذه فِتْنَتُكِ، وهذا سحرُكِ، وهذا وهذا؛ لقالت له الطبيعة: بل هذه كلها شهواتُكَ أنت"!
وبهذا يختلف الجمال عند فَقْد النَّظر؛ فلا يَفتِن الأعمَى جمالُ الصُّورة ولا سِحرُ الشَّكل ولا فَرَاهَةُ المنظر، وإنما يَفْتِنُه صوتُ المرأة ومَجَسَّتُها[9] ورائحتُها.
فلا حقيقةَ في المرأة إلا المرأةُ نفسها؛ ولو أُخذت كلُّ أنثى على حقيقتها هذه؛ لما فَسَدَ رجلٌ، ولا شَقِيتِ امرأةٌ، ولانتظمت حياةُ كلِّ زوجَيْن بأسبابها التي فيها، وذلك هو المثل المضروب في القصة.(/4)
يريد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِيُعَلِّمَ أُمَّته أنَّ حَيْفَ[10] الغريزة على العقل إفسادٌ لهذا العقل، وأنَّه متى أُخضعت المرأة لحظِّ الغريزة واختيارها؛ كانت حياتها استجابةً لجنون الرجل، وملأتها معاني التزيُّد والتصنُّع؛ فيوشك أن ينقُلها هذا عن طبيعتها السامية التي أكثرها في الحرمان والإيثار والصبر والاحتمال، ويردَّها إلى أضداد هذه الصفات؛ فيقوم أمرُها بعدُ على الأَثَرَة والمصلحة والتفادي، والضجر والتَّبرُّم[11]، والإلحاح والإزعاج، ويُضعف معنى السَّلْب الراسخ في نفسها من أصل الفطرة؛ فيتبدَّل حياؤها، وفي الحياء ردُّها عن أشياء؛ ويقلُّ إخلاصها، وفي الإخلاص ردٌّ لها عن أشياءَ أخرى؛ ويكثر طمعها، وفي قناعتها محاجزةٌ بينها وبين الشَّرِّ.
وبهذا ونحوه يَفسد ما بين الرجل والمرأة المتصنِّعة؛ فإذا أكثر المتصنِّعات لا يكون من النساء مشاكلُ فقط، بل تكون من حلول المشاكل معهنَّ مشاكلُ أخرى.
• • • • •
ولُباب هذه القصةِ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يجعل نفسه في الزواج المَثَلَ الشعبيَّ الأكمل، كما هو دأبه[12] في كل صفاته الشريفة؛ فهو يريد أن تكون زوجاته جميعًا كنساء فقراء المسلمين؛ ليكون منهنَّ المَثَل الأعلى للمرأة المؤمنة العاملة الشريفة، التي تبرع البراعة كلَّها في الصبر والمجاهدة، والإخلاص والعفَّة، والصَّراحة والقناعة، فلا تكون المرأة زينةً تُطلَب، زينةً لتتمَّ بها في الخيال، ولكنْ إنسانيةً تطلب كمالها الإنسانيَّ لتتمَّ به في الواقع.(/5)
وهذه الزِّينة التي تتصنَّع بها المرأة تكاد تكون صورةَ المكر والخداع والتعقُّد، وكُلَّما أسرفت في هذه أسرفت في تلك، بَلْهَ الزِّينة لوجه المرأة وجسمها سلاحٌ من أسلحة المعاني؛ كالأظافر والمخالب والأنياب، غير أنَّ هذه لوحشية الطبيعة الحية المفترسة، وتلك لوحشية الغريزة الحية التي تريد أن تفترِس، ولا تنكر المرأة نفسُها أنَّ الزينة على جسمها ثرثرةٌ طويلةٌ تقول وتقول وتقول.
وإنما يكون أساسُ الكمال الإنساني في الإنسان العامل المجاهِد: لا يحصر نفسه في شيءٍ يسمَّى متاعًا أو زينةً، ولا يقدِّر نفسه بما يجمع لها أو بما يجمع حولها، ولا يعتدُّ ما يكون من ذلك إلا كالتعبير من عمل الشهوات عن الشهوات.
ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - هو الغاية في هذا، دخل عليه مرةً عمرُ بن الخطاب، فإذا هو على حصيرٍ وعليه إزاره، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه، قال عمر: وإذا أنا بقبضةٍ من شَعير نحوِ الصَّاع، وإذا إهابٌ معلَّقٌ[13]، فابتَدَرَتْ عينايَ[14]؛ فقال: ((ما يُبكيكَ يا ابن الخطاب؟)) قال عمر: يا نبيَّ الله، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصير قد أثَّر في جنبكَ، وهذه خزائنكَ لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصرُ في الثمار والأنهار، وأنت نبيُّ الله وصفوته وهذه خزائنك؟!
وجاء مَرَّةً من سفرٍ، فدخل على ابنته فاطمةَ - رضي الله عنها - فرأى على بابها سِتْرًا وفي يديها قُلْبَيْن[15] من فضة؛ فرجع، فدخل عليها أبو رافع وهي تبكي، فأخبرته برجوع أبيها، فسأله في ذلك؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من أجل السِّتْر والسِّوَارَيْن".(/6)
فلمَّا أخبرها أبو رافعٍ هتكتِ[16] السِّتْر ونزعت السِّوارَيْن، فأرسلت بهما بلالاً إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم – وقالت: قد تصدَّقتُ به؛ فَضَعْهُ حيثُ ترى. قال لبلال: "اذهب فبعه، وادفعه إلى أهل الصُّفَّة"[17]. فباع القُلْبَيْن بِدِرهمين ونصف، نحو ثلاثةَ عَشَرَ قرشًا، وتصدَّق به عليهم.
يا بنت النبي العظيم، وأنت أيضًا لا يرضى لك أبوكِ حِلْيَةً بدرهمَيْن ونصف، وإنَّ في المسلمين فقراءَ لا يملكون مثلها؟!
أيُّ رجل شعبيٍّ على الأرض كمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فيه للأمَّة كلِّها غريزةُ الأب، وفيه - على كل أحواله - اليقينُ الذي لا يتحوَّل، وفيه الطبيعة التَّامَّة التي يكون بها الحقيقيُّ هو الحقيقي؟!
يا بنت النبي العظيم، إنَّ زينةً بدرهمَيْن ونصف لا تكون زينةً في رأي الحقِّ إذا أمكن أن تكون صدقةً بدرهمين ونصف؛ إنَّ فيها حينئذٍ معنًى غير معناها؛ فيها حقُّ النفس غالبًا على حقِّ الجماعة؛ وفيها الإيمان بالمنفعة حاكمًا على الإيمان بالخير؛ وفيها ما ليس بضروريٍّ قد جار على ما هو الضروري؛ وفيها خطأٌ من الكمال، إن صحَّ في حساب الحلال والحرام لم يصحَّ في حساب الثواب والرحمة.
تعالوا - أيها الاشتراكيون - فاعرفوا نبيَّكم الأعظم؛ إنَّ مذهبكم ما لم تُحْيِهِ فضائلُ الإسلامِ وشرائعُه - إن مذهبكم لَكالشجرة الذابلة، تُعلِّقون عليها الأثمار تَشُدُّونها بالخيط... كلَّ يوم تحلون، وكلَّ يوم تربطون، ولا ثمرة في الطبيعة.
ليست قصة التخيير هذه مسألةً من مسائل الغَنِيِّ والفقير في معاني المادة، ولكنها مسألةٌ من مسائل الكمال والنَّقص في معاني الرُّوح؛ فهي صريحةٌ في أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أستاذ الإنسانية كلِّها؛ واجبُهُ أن يكون فضيلةً حيَّةً في كل حياة، وأن يكون عزاءً في كل فقر، وأن يكون تهذيبًا في كل غِنًى، ومن ثَمَّ فهو في شخْصِه وسيرته القانونُ الأدبيُّ للجميع.(/7)
وكأنه - صلى الله عليه وسلم - يريد ليُعلِّم الأُمَّة بهذه القصة أنَّ الجماعاتِ لا تصلح بالقوانين والشرائع والأمر والنهي، ولكنْ بعمل عظمائها في الأمر والنهي؛ وأنَّ الحاكم على النَّاس لا ينبغي أن يَحْكُمَ إلاَّ إذا كان في نفسه وطبيعته يُحِسّ فتنة الدنيا إحساسَ المتسلِّط[18] لا الخاضع، ليكون أوَّلُ استقلاله استقلالَ داخلِهِ.
فليس ذلك فقرًا ولا زهدًا؛ كما ترى في ظاهر القصة، ولكنها جُرأةُ النَّفس العظمى في تقرير حقائقها العملية.
وتنتهي القصة في عبارة القرآن الكريم بتسمية زوجاته - صلى الله عليه وسلم -: "أمهاتِ المؤمنين" بعد أنِ اخْتَرْنَ اللهَ ورسوله والدار الآخرة؛ وعلماء التفسير يقولون: إن الله تعالى كافأهنَّ بهذه التسمية؛ وليس ذلك بشيءٍ، ولا فيه كبيرُ معنًى، وإنما تُشعِر هذه التسميةُ بمعنًى دقيق، هو آيةٌ من آيات الإعجاز؛ فإنَّ الزوجةَ الكاملة لا تَكْمُل في الحياة ولا تَكْمُل الحياة بها إلا إذا كان وصفها مع رجلها كوصف الأم؛ ترى ابنها بالقلب ومعانيه، لا بالغريزة وحظوظها؛ فكلُّ حياة حينئذ ممكنةُ السعادةِ لهذه الزوجة، وكلُّ شقاءٍ محتملٌ بصبرٍ، وكلُّ جهادٍ فيه لذَّتهُ الطبيعية؛ إذ يقوم البيت على الحُبِّ الذي هو الحُبُّ الخالص لا المنفعة، وتكون زينة الحياة وجودَ الحيِّ نفسه لا وجودُ المادَّة، وتُبْنَى النفس على الوفاء الطبيعي كوفاء الأم، وذلك خُلُقٌ لا يَعْسُرُ عليه في سبيل حقيقته أن يتغلَّب على الدنيا وزينتها.
وآخِر ما نَستخْرِجُ منَ القِصَّة في درس النبوة هذه الحكمة: بحَسْبِ المؤمن إذا دخل داره أن يجد حقيقة نفسه الطيِّبة، وإن لم يجد حقيقة كسرى ولا قيصر.
---
[1] قريظة والنضير: هما قبيلتان وحيَّانِ من أحياء اليهود في المدينة.
[2] الخَوَل: الخَدَم والحَشَم.
[3] السَّراح: الطلاق، أما متعة الطلاق فهي الصَّداق المتأخَّر.
[4] غَوْرًا: عمقًا.
[5] الزَّيْغ: الانحراف عن الدين والكفر.(/8)
[6] مكابدته: عاش فيه بجهدٍ ومشقَّةٍ.
[7] زُلْفى : تقرُّب.
[8] يتشبَّب: يتغزَّل.
[9] مَجَسَّتُها: لَمْسُها.
[10] حَيْفٌ: ظلمٌ، جَوْرٌ.
[11] التَّبرُّم: إظهار الملل والضَّجَر.
[12] دأبه: عادته.
[13] الإهاب: هو كيسٌ من جلد كان يتخِّذه العرب وعاءً.
[14] ابتدرت عينايَ: دمعت.
[15] القُلْبُ - بالضم -: هو سوارٌ من فضة.
[16] هتكتِ السِّتْرَ: مزَّقته.
[17] الصُّفَّة – بالضم -: هي الغرفة.
[18] المتسلِّط: المسيطر.(/9)
العنوان: دروس من الهجرة النبويَّة
رقم المقالة: 1908
صاحب المقالة: الشيخ عبدالرحمن السديس
-----------------------------------------
دروس من الهجرة النبويَّة
ملخَّص الخطبة:
1- إقبال عامٍ جديد.
2- الحَدَث الذي غيَّر مجرى التَّاريخ.
3- دروس الهجرة.
4- تذكر المسلمين في العالم.
5- دور الشَّباب والمرأة في الدَّعوة إلى الله تعالى.
6- التأريخ بالهجرة النبويَّة.
7- التَّذكير بنصر الله موسى على فرعون.
8- فضل شهر الله المحرَّم.
9- فضل صيام يوم عاشوراء.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمَّا بعد:
فأوصيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله، فهي أربح المكاسب، وأجزل المواهب، وأسمى المناقِب، وبها تُنال أعلى المراتب، وتتحقَّق أعظم المطالب.
عباد الله:
تعيش الأمَّة الإسلاميَّة هذه الأيام إشراقةَ سنةٍ هجريَّة جديدة، وإطلالةَ عامٍ مباركٍ بإذن الله، بعد أن أَفَلَت شمسُ عامٍ كامل، مضى بأفراحه وأتراحه، فقوِّضت خيامه، وتصرَّمت أيامه، فالله المستعان عباد الله، ما أسرع مرور الليالي والأيام، وتصرُّم الشهور والأعوام! لكن الموفَّق الملهَم مَنْ أخذ من ذلك دروسًا وعِبرًا، واستفاد منه مُدَّكَراًً ومُزدَجَراً، وتزوَّد من المَمَرِّ للمَقَرِّ، فإلى الله - سبحانه - المرجِع والمستقرّ، والكيِّس المُسَدَّد مَنْ حاذَر الغفلة عن الدَّار الآخِرة حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرَّة، فيكون بعد ذلك عظةً وعبرة، واللهَ نسألُ أن يجعل من هذا العام نُصْرَةً للإسلام والمسلمين، وصلاحًا لأحوالهم في كلِّ مكان، وأن يعيده على الأمَّة الإسلاميَّة بالخير والنَّصر والتَّمكين، إنه جوادٌ كريم.
إخوة الإسلام:(/1)
حديث المناسبة في مطلع كلِّ عامٍ هجريٍّ: ما سطَّره تاريخنا الإسلاميّ المجيد من أحداثَ عظيمة، ووقائعَ جسيمة، لها مكانتها الإسلاميَّة، ولها آثارها البليغة في عزِّ هذه الأمَّة وقوَّتها وصلاح شريعتها لكلِّ زمانٍ ومكان، وسعيها في تحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد.
معاشر المسلمين:
ما أجمل أن نشير إشارات عابرة لعدد من القضايا المهمَّة الجديرة بالإشادة والتَّذكير ونحن في بداية هذا العام الجديد، علَّها تكون سببًا في شَحْذ الهِمَم، واستنهاض العزمات للتمسُّك الجادِّ بكتاب الله وسنَّة رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم - وحاملةً على الاتِّعاظ والاعتبار، ووقفاتِ المحاسبة الدقيقة، ونظراتِ المراجعة المستديمةِ في الأمَّة، تجديدًا في المواقف، وإصلاحًا في المناهج، وتقويمًا للمسيرة في كافَّة جوانبها.
إخوة العقيدة:
وأوَّل هذه الإشارات - مع حَدَث السَّاعة وحديثها -: الحدث الذي غيَّر مجرى التاريخ، الحدث الذي يحمل في طياته معاني الشجاعة والتَّضحية والإباء، والصَّبر والنَّصر والفداء، والتوكُّل والقوَّة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، إنَّه حَدَثُ الهجرة النبويَّة، الذي جعله الله - سبحانه - طريقًا للنَّصر والعزَّة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يُشِعَّ في جميع أرجاء المعمورة لو بقيَ حبيسًا في مَهْدِه، ولله الحكمة البالغة في شَرْعِه وكَوْنِه وخَلْقِه.(/2)
إنَّ في هذا الحدث العظيم من الآيات البيِّنات والآثار النيِّرات والدروس والعِبَر البالغات ما لو استلهمته أمَّة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطُّرُق؛ لتحقَّق لها عزُّها وقوَّتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنَّه لا حلَّ لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلاَّ بالتمسُّك بإسلامها، والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فوَالذي بعث محمَّدًا بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا ما قامت الدُّنيا إلا بقيام الدِّين، ولا نال المسلمون العزَّة والكرامة والنَّصر والتَّمكين إلاَّ لما خضعوا لربِّ العالمين، وهيهات أن يحلَّ أمنٌ ورخاءٌ وسلامٌ إلاَّ باتِّباع نهج الأنبياء والمرسلين.
إذا تحقَّق ذلك - أيُّها المسلمون - وتذكَّرتِ الأمَّة هذه الحقائق النَّاصعة، وعملت على تحقيقها في واقع حياتها؛ كانت هي السلاح الفاعل الذي تقاتل به، والدِّرع الحصين الذي تتَّقي به في وجه الهجمات الكاسحة والصراع العالمي العنيف، فالقوة لله جميعًا، والعزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين.
أمَّة التَّوحيد والوَحْدة:
لقد أكَّدت دروس الهجرة النبويَّة أنَّ عزَّة الأمَّة تكمن في تحقيق كلمة التَّوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأنَّ أيَّ تفريطٍ في أمر العقيدة أو تقصيرٍ في أخوَّة الدِّين مآله ضعف الأفراد وتفكُّك المجتمع وهزيمة الأمَّة، وإنَّ المتأمِّل في هزائم الأمم وانتكاسات الشُّعوب عبر التاريخ - يجد أنَّ مَرَدَّ ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة والتَّساهل في جانب الثَّوابت المعنويَّة مهما تقدَّمت الوسائل الماديَّة، وقوَّة الإيمان تفعل الأعاجيب، وتجعل المؤمن صادقًا في الثِّقة بالله والاطمئنان إليه والاتكال عليه، لا سيَّما في الشَّدائد.(/3)
ينظر أبو بكر الصدِّيق - رضيَ الله عنه - إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار فيقول: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصَرَنَا! فيجيبه جواب الواثق بنصر الله: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟!))[1].
الله أكبر! ما أعظم لطف الله بعباده ونصره لأوليائه، وفي هذا درسٌ بليغٌ لدعاة الحقِّ وأهل الإصلاح في الأمَّة: أنه مهما احْلَوْلَكَتِ الظُّلمات فوعد الله آتٍ لا محالة: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].
أمَّة الإسلام:
ودرسٌ آخَر من دروس الهجرة النبويَّة، يتجلَّى في أنَّ عقيدة التَّوحيد هي الرَّابطة التي تتضاءل أمامها الانتماءات القوميَّة والتمايزات القَبَلِيَّة والعلاقات الحزبيَّة، واستحقاق الأمَّة للتبجيل والتَّكريم مدينٌ بولائها لعقيدتها وارتباطها بمبادئها، يُقال ذلك - أيُّها المسلمون - وفي الأمَّة في أعقاب الزَّمن منهزمون كُثُر، أمام تيَّارات إلحاديَّة وافدة ومبادئ عصريَّة زائفة، ترفع شعارات مصطنَعة وتطلق نداءات خادعة، لم يجنِ أهلها من ورائها إلا الذلَّ والصَّغار، والمهانة والتَّبار، والشَّقاء والبَوَار، فأهواءٌ في الاعتقاد، ومذاهبٌ في السياسة، ومشاربٌ في الاجتماع والاقتصاد، كانت نتيجتها التخلُّف المهين والتمزُّق المشين.
وفي خضمِّ هذا الواقع المُزْرِي يحقُّ لنا أن نتساءل بحرقةٍ وأسى: أين دروس الهجرة في التَّوحيد والوَحْدة؟! أين أخوَّة المهاجرين والأنصار مِن شعارات حقوق الإنسان المعاصِرة ومدنيَّته الزَّائفة؟! فقولوا لي بربِّكم: أيُّ نظامٍ راعَى حقوق الإنسان وكرَّمه أحسن تكريمٍ وكفل حقوقه كهذا الدِّين القويم؟! فلتَصُخَّ منظَّمات حقوق الإنسان العالمية إلى هذه الحقائق، وتطَّرِح الشَّائعات المغرِضة عن الإسلام وأهل الإسلام وبلاد الإسلام، إن أرادت توخِّي الصِّدق والموضوعيَّة.(/4)
إنَّ هذه الإلماحة إلى درس الهجرة في التَّضحية والبَذْل والفداء، ومراعاة كرامة الإنسان والحفاظ على حريَّته وحقوقه، يجرُّ - يا رعاكم الله إلى تذكُّر أحوال إخواننا في العقيدة في بقاعٍ شتَّى من العالم؛ حيث حلَّت بهم مصائب وبلايا، ونكبات ورزايا.
سائلوا أرضَ النبوَّات ومهد الحضارات ومنطلَق الرسالات وبلاد المعجزات؛ فلسطين المجاهِدة: ماذا تعاني من صلفٍ يهوديٍّ سافر، ومن حقدٍ صهيونيٍّ أرْعَن؟!
سائلوا الشِّيشانَ وكشميرَ وغيرها عن الأوضاع المأساوية؛ علَّ دروس الهجرة النبويَّة تحرِّك نخوةً وتَشْحَذُ همَّةً وتستَنْهِض عزمًا، وما ذلك على الله بعزيز.
إخوة الإيمان:
وفي مجال تربية الشَّباب والمرأة، وميدان البيت والأسرة - يبرز الأثر العظيم في حدث الهجرة المصطفَوِيَّة، على صاحبها أفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم؛ ففي موقف عبدالله بن أبي بكر - رضيَ الله عنهما - في خدمة ونُصْرَة صاحب الهجرة عليه الصَّلاة والسَّلام - بأبي هو وأمي - ما يجلِّي أثرَ الشَّباب في الدَّعوة، ودورهم في الأمَّة ونُصْرة الدِّين والملَّة. أين هذا ممَّا ينادي به بعض المحسوبين على فكر الأمَّة وثقافتها من تخدير الشَّباب بالشَّهوات، وجَعْلِهم فريسةً لمهازل القنوات وشبكات المعلومات، في الوقت الذي يعدُّون فيه للاضطلاع بأغلى المهمَّات؛ في الحفاظ على الدِّين والقِيَم، والثَّبات على الأخلاق والمبادئ، أمام المتغيِّرات المتسارِعة، ودعاوَى العَوْلَمَة المفضوحة؟!
أيُّها الإخوة والأخوات:(/5)
وفي موقف أسماء بنت أبي بكر - رضيَ الله عنها، ورضيَ الله عن آل أبي بكر وأرضاهم - ما يجلِّي دورَ المرأة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها؛ فأين هذا من دعاة المدنيَّة المأفونة، الذين أجلبوا على المرأة بخيلهم ورَجْلِهم، زاعمين - زورًا وبهتانًا - أنَّ تمسُّك المرأة بثوابتها وقِيَمها، واعتزازها بحجابها وعفافِها - تقييدٌ لحريَّتها وفقدٌ لشخصيَّتها، وبئس ما زعموا؟! فخرجت من البيت تبحث عن سعادةٍ موهومة وتقدميَّة مزعومة، لتظنّها في الأسواق والشوارع والملاهي والمصانع، فرجعت مسلوبةَ الشَّرف، مدنَّسةَ العِرْض، مُغتصَبةَ الحقوق، عديمة الحياء، مؤودة الغَيْرَة، وتلك صورةٌ من صور إنسانيَّات العصر المزعومة وحريَّته المأفونة ومدنيَّته المدَّعاة. ألا فليعلم ذلك اللاهثون واللاهثات وراء السَّراب الخادع، والسائرون خلف الأوهام الكاذبة.
أيُّها الأحبَّة في الله:
وإشارةٌ أخرى إلى أمرٍ يتعلَّق بحَدَث الهجرة النبويَّة، في قضيةٍ تعبِّر بجلاءٍ عن اعتزاز هذه الأمَّة بشخصيتها الإسلاميَّة، وتُثبِت للعالم بأسره استقلال هذه الأمَّة بمنهجها المتميِّز المستَقى من عقيدتها وتاريخها وحضارتها، إنها قضيَّةٌ إسلاميَّةٌ، وسنَّةٌ عُمَرِيَّة أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - إنَّها التَّوْقيت والتَّأريخ بالهجرة النبويَّة المبارَكة، وكم لهذه القضيَّة من مغزًى عظيم يَجْدُر بأمَّة الإسلام اليوم تذكُّره والتقيُّد به، كيف وقد فُتِنَ بعض أبنائها بتقليد غير المسلمين والتشبُّه بهم في تاريخهم وأعيادهم، أين عزَّة الإسلام؟! وأين هي شخصية المسلمين؟! هل ذابت في خضمِّ مُغرِيات الحياة؟!(/6)
فإلى الذين تنكَّروا لثوابتهم وخدشوا بهاء هُوِيَّتهم، وعملوا على إلغاء ذاكرة أمَّتهم، وتهافتوا تهافتًا مذمومًا، وانساقوا انسياقًا محمومًا خلف خصومهم، وذابوا وتميَّعوا أمام أعدائهم، ننادي نداءَ المحبَّة والإشفاق: رويدكم؛ فنحن أمَّة ذات أمجاد وأصالة، وتاريخ وحضارة، ومنهج متميِّز مُنْبَثِق من كتاب ربِّنا وسنَّة نبيِّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا مساومةَ على شيءٍ من عقيدتنا وثوابتنا وتاريخنا، ولسنا بحاجةٍ إلى تقليد غيرنا؛ بل إن غيرُنا - في الحقيقة - بحاجة إلى أن يستفيد من أصالتنا وحضارتنا، لكنَّه التَّقليد والتَّبعيَّة، والمجاراة والانهزاميَّة، والتَّشبُّه الأعمى من بعض المسلمين - هداهم الله - وقد حذَّر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَّته من ذلك بقوله فيما أخرجه الإمام أحمد وأهل "السُّنن": ((مَنْ تشبَّه بقومٍ فهو منهم))[2]، والله المستعان.
أيُّها الإخوة المسلمون:
وثالث هذه الإشارات إلى حدث عظيم في شهر الله المحرَّم، فيه درسٌ بليغٌ على نصرة الله لأوليائه وانتقامه من أعدائه مهما تطاولوا، إنَّه حدث قديم، لكنَّه بمغزاه متجدِّدٌ عبر الأمصار والأعصار، إنه يوم انتصار نبيِّ الله وكليمه موسى عليه السَّلام وهلاك فرعون الطاغية، وكم في هذه القصة من الدروس والعِبَر والعظات والفِكَر للدعاة إلى الله في كلِّ زمانٍ ومكان، فمهما بلغ الكَيْد والأذى والظُّلْم والتسلُّط؛ فإن نصر الله قريبٌ، ويا لها من عبرةٍ لكلِّ عدوٍ لله ولرسوله ممَّن مشى على درب فرعون، أنَّ الله منتقمٌ من الطُّغاة الظَّالمين، طال الزمن أو قَصُرَ؛ فيوم الهجرة ويوم عاشوراء يومان من أيام النَّصر الخالدة.
ألا فلتقرَّ بذلك أعين أهل الحقِّ ودُعاته؛ فالعاقبة للمتَّقين، وليتنبَّه لذلك قبل فوات الأوان أهلُ الباطل ودُعاته، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشَى} [النازعات: 26]، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].(/7)
إنَّ في الحوادث لعِبَرا، وإنَّ في التاريخ لخَبرا، وإنَّ في الآيات لنُذُرا، وإنَّ في القَصَص والأخبار لمُدَّكَرًا ومُزْدَجَرا، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
اللهمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخِرها، وخير أيَّامنا يوم نلقاكَ.
اللهم اجعل حاضرنا خيرًا من ماضينا، ومستقبلنا خيرًا من حاضرنا، إنَّك خير مسؤولٍ وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، من كلِّ الذنوب والخطايا والسيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه كان توابًا.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله الملك القدُّوس السلام، مُجري الليالي والأيام، ومُجدِّد الشهور والأعوام، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل شهر المحرَّم فاتحة شهور العام، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله سيد الأنام، وبدر التَّمام، ومِسْك الختام، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله البَرَرَة الكِرام، وصَحْبِه الأئمَّة الأعلام، والتَّابعين ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ ما تعاقب النُّور والظَّلام.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - عباد الله - وتمسَّكوا بدينكم، فهو عصمةُ أمركم، وتاج عزِّكم، ورمزُ قوتَّكم، وسبب نصركم، واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْيُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ.
أيُّها الإخوة في الله:(/8)
إشارةٌ رابعةٌ إلى فاتحة شهور العام؛ شهر الله المحرَّم، إنه من أعظم شهور الله - جلَّ وعلا - عظيم المكانة، قديم الحُرْمَة، رأس العام، من أشهر الله الحرام، فيه نصَرَ الله موسى وقومه على فرعون وملئه، ومن فضائله: أنَّ الأعمال الصَّالحة فيه لها فضلٌ عظيمٌ، لا سيَّما الصِّيام؛ فقد روى الإمام مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضيَ الله عنه - قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفضل الصِّيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصَّلاة بعد الفريضة صلاة اللَّيل))[3].
وأفضل أيام هذا الشَّهر - يا عباد الله - يوم عاشوراء، وفي "الصحيحَيْن" عن ابن عبَّاسٍ - رضيَ الله عنهما - قال: "قدم النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء؛ فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)). قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا؛ فنحن نصومه. فقال: ((نحنُ أحقُّ بموسى منكم))؛ فصامه وأمر بصيامه[4].
وفي "صحيح مسلم" عن أبي قَتادة - رضيَ الله عنه - أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - سُئل عن صيام يوم عاشوراء؛ فقال: ((أحتسبُ على الله أن يكفِّر السَّنة التي قبله))[5].
الله أكبر! يا له من فضلٍ عظيم لا يفوِّته إلا محروم.
وقد عزم على أن يصوم يومًا قبله مخالفةً لأهل الكتاب؛ فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التَّاسع))؛ أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، من حديث ابن عبَّاس - رضيَ الله عنهما[6].
لذا فيستحبُّ للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم اقتداءً بأنبياء الله، وطلبًا لثواب الله، وأن يصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده؛ مخالفةً لليهود، وعملاً بما استقرَّت عليه سنَّة المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم - فيا له من عملٍ قليلٍ وأجرٍ كبيرٍ وكثيرٍ من المُنعِم المتفضِّل سبحانه!(/9)
إنَّ ذلك - أيها الأحبَّة في الله - لمَنْ شكر الله - عزَّ وجلَّ - على نعمه، واستفتاحُ هذا العام بعملٍ من أفضل الأعمال الصَّالحة التي يُرجَى فيها ثواب الله - سبحانه وتعالى - والكَيِّس الواعي والحصيف اللبيب يدركُ أنَّه كَسْبٌ عظيمٌ ينبغي أن يُتَوِّج به صحائف أعماله، فيا لفوز المشمِّرين.
نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم منهم بمنِّه وكرمه.
هذا، واعلموا - رحمكم الله - أنَّ من أفضل الطَّاعات وأشرف القُربات كثرة صلاتكم وسلامكم على خير البريَّات، صاحب المعجزات الباهرات، والآيات البيِّنات؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم - جلَّ وعلا - فقال تعالى قولاً كريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا وحبيبنا وقدوتنا محمَّد بن عبدالله، وارضَ اللَّهم عن خلفائه الرَّاشدين ذوي المقام العليّ، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصَّحابة والتَّابعين...
ـــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري في المناقب (3653)، ومسلم في الفضائل (2381) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1163).
[4] أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130).
[5] أخرجه مسلم في الصيام (1162).
[6] أخرجه مسلم في الصيام (1134).(/10)
العنوان: دروس من سيرة أبي عُبَيْدَة رضيَ الله عنه
رقم المقالة: 1383
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد، فيا أيها المؤمنون:
تحيا القلوبُ بذكر الصالحين من عباد الله تعالى، ولاسيَّما إذا كانوا خيارَ هذه الأمَّة ممَّن عايشوا التَّنْزيل، وصحبوا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونشروا الإسلام في بقاع الأرض، فتذاكُرُ أخبارهم وسِيَرِهم يُفْرِحُ قلوب المؤمنين، ويُغيظُ المنافقين، ويقود إلى التأسِّي بهم، وهذه قطوفٌ من سيرةِ أحدهم في فضله ومناقبه، وزهده وأخلاقه، وجهاده وتضحياته، وإيثاره وإنفاقه.(/1)
كان منَ السابقين الأوَّلين، أسلمَ قبل دخول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دار الأَرْقَم بن أبي الأَرْقَم، وهو من المهاجرين، غزا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقاد الصحابة والتابعين في معارك كبرى، ويكفي في فضله: أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد شهد له بالجنَّة.
ذلكم هو أبو عُبَيْدَة عامرُ بن الجَرَّاح؛ أمين هذه الأمَّة، رضيَ الله عنه.
روى أنس بن مالك - رضيَ الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ لكلِّ أمَّةٍ أمينًا، وإن أميننا أيتها الأمَّة أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح))؛ رواه الشَّيْخان[1].
وفي لفظٍ لمسلم: إنَّ أهل اليمن قَدِموا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلِّمنا السُّنة والإسلام. قال: فأخذ بيد أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح فقال: ((هذا أمين هذه الأمَّة))[2].
وقال عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه -: "ما تعرضتُ للإمارة، وما أحببتها، غير أنَّ ناسًا من أهل نَجْرَان أتوا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاشتكوا إليه عاملهم؛ فقال: ((لأبعثن عليكم الأمين)). قال عمر: فكنتُ فيمَن تطاول؛ رجاء أن يبعثني، فبعث أبا عُبَيْدَة"؛ أخرجه الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذَّهبيُّ[3].
وقال فيه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نِعْمَ الرجل أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح))[4].
لقد كان لهذا الصحابي منزلةٌ جليلةٌ، ومقامٌ رفيعٌ عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث سئلت عائشة - رضيَ الله عنها -: "مَنْ كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مستخلِفًا لو استخلَفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثمَّ مَنْ بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. ثم قيل لها: مَنْ بعد عمر؟ قالت: أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح. ثم انتهت إلى هذا"؛ رواه مسلمٌ[5].(/2)
ولما توفَِّي النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال أبو بكر يوم السَّقيفة: "قد رضيتُ لكم هذَيْن الرجلَيْن؛ فبايعوا أيهما شئتم". فأخذ بيد عمر ويد أبي عُبَيْدَة"[6].
إن هذا الفضل كلُّه جعل عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - يقول لمَّا وقع الوباء في الشَّام: "إن أدركني أَجَلِي وأبو عُبَيْدَة حيٌّ اسْتَخْلَفْتُه، فإن سألني الله - عزَّ وجلَّ -: لم استخلفته على أمَّة محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟ قلتُ: إني سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ لكلِّ نبيِّ أمَّةٍ أمينًا، وأميني أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح))[7]. لكنَّ أبا عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - توفِّي في خلافة عمر بالطَّاعون.
ولمَّا بلغ معاذ بن جبل أنَّ بعضَ أهل الشام استعجزَ أبا عُبَيْدَة أيامَ حصار دمشق، ورجَّح خالد بن الوليد عليه؛ غضب معاذٌ وقال: "أبأبي عُبَيْدَة يُظَنُّ، والله إنه لمن خيرة مَنْ يمشي على الأرض"[8].
وقال عمر بن الخطاب يومًا لجلسائه: تمنوا، فتمنّوا، فقال عمر: "لكني أتمنَّى بيتًا ممتلئًا رجالاً مثل أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح"[9].
ما بلغ أبو عُبَيْدَة هذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، وعند رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وعند الصحابة رضيَ الله عنهم، إلا بسَبْقِه في الإسلام، وتضحيته بكلِّ غالٍ في سبيل الله تعالى، مع زهدٍ في الدنيا، وإيثارٍ لدين الله تعالى على حظوظ نفسه، وحُسْنٍ في الأخلاق والسَّجايا.
أما الجهاد في سبيل الله تعالى فلقد شهد المَشاهد مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولما توفِّي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقيَ أبو عُبَيْدَة مجاهدًا خلافة الصديق - رضيَ الله عنه - وأوَّل خلافة الفاروق - رضيَ الله عنه - حتى كان رأس الجيش، وقائد المسلمين في وقعة اليرموك، التي استأصل الله فيها جيوش الروم، وقُتل منهم خَلْقٌ عظيمٌ.(/3)
لقد كان له - رضيَ الله عنه - خلال جهاده الطويل مواقفُ مشهودة، وبطولاتٌ محمودة؛ ثَبَتَ في أُحُدٍ مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين انهزم الناس، وهو الذي نزع بثَنْيَتَيْه حَلْقَتَي المِغْفَر من وجْنَتَي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسقطت ثناياه، وتألَّم من أجل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولكن ثَغْرَهُ حَسُنَ بذهابهما، حتى قيل: "ما رُؤيَ هَتْمٌ قَطُّ أحسن من هَتْم أبي عُبَيْدَة"[10]. هذا مَثَلٌ يضربه أبو عُبَيْدَة في محبَّته لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفدائه له بكلِّ شيءٍ.
ومَثَلٌ آخَر من تضحيات أبي عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - التي قلَّ أن توجد في البشر، هذا المَثَل يدلُّ دلالةً واضحةً على أن دين الله تعالى في قلب أبي عُبَيْدَة أهمُّ من أيِّ شيءٍ آخَر، فهو لا يوالي إلاَّ في الله، ولا يعادي إلاَّ فيه سبحانه وتعالى. ولقد صَدَقَ أبو عُبَيْدَة في موالاته ومعاداته مع الله تعالى، ولم يكن مجرد زاعم؛ بل حوَّل هذا الإيمان إلى واقعٍ محسوسٍ، حينما قَتَلَ أباه في غزوة بدرٍ على الشِّرك!
عن عبدالله بن شَوْذَب قال: "جعل أبو أبي عُبَيْدَة يتصدِّى لأبي عُبَيْدَة يوم بدرٍ، فجعل أبو عُبَيْدَة يحيد عنه، فلما أكثر، قَصَدَه أبو عُبَيْدَة فقتله؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - فيه هذه الآية: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22][11].(/4)
الله أكبر، يقتلُ أبو عُبَيْدَة أباه في أوَّل معركةٍ في الإسلام بين الإيمان والكفر؛ ليثبت أن دين الله تعالى لا هوادة فيه، وليُدخل الرُّعب في قلوب المشركين، وليُعْلِمَهم أن المؤمنين عندهم الاستعدادُ التام للتضحية بأقرب قريبٍ، وبكلِّ غالٍ ونفيسٍ في سبيل الله تعالى.
إن هذا لهو الإيمان واليقين، فكيف إذا انضمَّ إلى ذلك إيثارُ دين الله تعالى على حظوظ النَّفس وهواها، وهل يحقِّق ذلك إلا الخُلَّص من عباد الله تعالى؟!
روى موسى بن عقبة: "أن عمرو بن العاص استمدَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غزوة ذات السلاسل، فانتدب أبا بكر وعمر في سريَّةٍ منَ المهاجرين، فأمَّر نبي الله عليهم أبا عُبَيْدَة، فلما قدموا على عمرو بن العاص قال: أنا أميركم. فقال المهاجرون: بل أنت أميرُ أصحابك وأميرُنا أبو عُبَيْدَة، فقال عمرو: إنما أنتم مَدَدٌ أُمْدِدْتُ بكم. فلما رأى ذلك أبو عُبَيْدَة - وكان رجلاً حَسَنَ الخُلُق، ليِّن الشِّيمة، متَّبِعًا لأمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعهده - فسلَّم الإمارة لعمرو". وفي رواية: "أن المُغِيرَةَ قال لأبي عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه -: إن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَّرك علينا، وإن ابن النَّابغة ليس لك معه أمرٌ – يعني: عمرو بن العاص. فقال أبو عُبَيْدَة: إن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمرنا أن نتطاوع، فأنا أطيعه لقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -"[12].
رضيَ الله عن أبي عُبَيْدَة، كيف انتصر على نفسه وهواه، ودحر الشَّيطان، ولم يجعل للخلاف موضعًا.
إن هذا الانتصار على النفس هو الذي جعل جيوش الصحابة - رضيَ الله عنهم - تنتصر على قوى البغي والعدوان من المشركين العرب، والمنافقين، واليهود، وفارسَ والروم. كلُّ هذه الأمم حَطَّم الإسلامُ ظلمَ قادتها وساستها، ودخلت جماهيرهم في دين الله تعالى أفواجًا.(/5)
المشركون العربُ بشجاعتهم، والمنافقونُ بدسائسهم، واليهود بمكرهم وغدرهم، وفارسُ والرومُ بأعدادهم وعتادهم - لم يستطيعوا الصمود أمام جيش الإسلام؛ لأن أفراده انتصروا على أنفسهم، وقهروا رغباتهم لصالح الإسلام، فلم تُجْدِ فيهم الدَّسائس، ولم تنفع معهم المؤامرات والمكائد، فكانوا صفًّا واحدًا على أعدائهم، رغم قلَّة العدد والعتاد، لكن هذه القلَّة من أمثال أبي عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - قويةٌ من داخلها، متماسكةٌ في بنائها، تنهار أمامها قوى الأعداء مهما كانوا.
روى ابن المبارك: "أن عمر - رضيَ الله عنه - بلغه أن أبا عُبَيْدَة حُصر بالشام، وتألَّب عليه العدوُّ، فكتب إليه عمر:
أما بعد: فإنه ما نزل بعبدٍ مؤمنٍ شدَّةٌ إلا جعل اللهُ بعدها مخرجًا، وإنه لا يغلبُ عسرٌ يسرين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200].
فكتب إليه أبو عُبَيْدَة:
أما بعد: فإن الله تعالى يقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [الحديد: 20]، فخرج عمر بكتابه، فقرأه على المنبر، فقال: يا أهل المدينة: إنما يعرِّض بكم أبو عُبَيْدَة أو بي، ارغبوا في الجهاد"[13].(/6)
ولما كان أبو عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - مجاهدًا حاثًّا على الجهاد؛ كان متقلِّلاً من الدنيا، همُّه الآخِرة، لا يدَّخر شيئًا من المال، فقد أرسل عمر إلى أبي عُبَيْدَة بأربعة آلاف درهم أو بأربعمائة دينار، وقال للرَّسول: "انظر ما يصنع بها، قال: فقسمها أبو عُبَيْدَة، ثمَّ أرسل إلى معاذ بمثلها، وقال للرَّسول مثلَ ما قال، فقسمها إلا شيئًا يسيرًا، قالت له امرأته: نحتاج إليه، فلما أخبر الرسول عمر قال: الحمد لله الذي جعل في الإسلام مَنْ يصنع هذا"[14].
لقد كان أبو عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - زاهدًا في الدنيا، وكان زهده حقيقةً لا تصنُّعًا وتكلُّفًا، وليس زهدًا من قلَّة، بل عن غنىً وجِدَةٍ وسَعَةٍ؛ فلقد كان أمير الشام لعمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - وقدم عمرُ إلى الشام لتفقُّد أحوال الناس، فقال لأبي عُبَيْدَة: "اذهب بنا إلى منزلكَ. قال: وما تصنعُ عندي؟ ما تريد إلا أن تُعصِّر عينيك عليَّ! قال: فدخل، فلم يَرَ شيئًا. قال: أين متاعُكَ؟ لا أرى إلا لِبْدًا وصَحْفَةً وشَنًّا، وأنت أميرٌ؟! أعندكَ طعامٌ؟ فقام أبو عُبَيْدَة إلى جَوْنَةٍ، فأخذ منها كُسَيْرَاتٍ؛ فبكى عمر، فقال له أبو عُبَيْدَة: قد قلتُ لكَ: إنك ستعصِّر عينيكَ عليَّ يا أمير المؤمنين، يكفيك ما يبلغك المقيل. قال عمر: غيَّرتنا الدنيا كلَّنا غيركَ يا أبا عُبَيْدَة"[15].
فيا لروعة تلك النفوس العظيمة التي ملكها أصحابها، فخطموها وألزموها كتابَ الله تعالى وسنةَ رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يكترثوا بالدُّنيا وقد حُطَّت عند أقدامهم، وتملَّكوها بأيديهم؛ وبذلك دانت لهم الأرض، وفتحوا البلدان.
فاللهم ارضَ عنهم وأرضهم، اللهم إنا نُشْهِدُكَ على محبَّة أصحاب نبيكَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - اللهم إنا نتقرَّبُ إليك بذلك، ونتقرَّبُ إليك ببغض من أبغضهم، فارضَ اللهم عنهم، واحشرنا في زُمْرَتهم، واجمعنا بهم في دار النعيم.(/7)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة:100].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله؛ فهو المستحقُّ للحمد وحده، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فالتقوى جماع الأمر كله، وما نال أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما نالوا إلا بتقوى الله تعالى.
أيها الإخوة:
مع هذه المناقب العظيمة، والمواقف المشهودة، والعجائب التي لا تنقضي في سيرة أبي عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - هل رأى أعماله تلك، أو داخله العُجْبُ بها؟!
كلا؛ بل كان - رضيَ الله عنه - مُزْرِيًا بنفسه، محتقرًا لها، يرى أن التَّسابق في الفضل إنما يكون بالطَّاعة؛ فيقول - رضيَ الله عنه -: "يا أيها الناس: إني امرؤٌ من قريش، وما منكم من أحمرَ ولا أسودَ يَفْضُلُني بتقوى إلا وَدِدْتُ أنِّي في مسلاخه"[16].
وبالرغم من أعماله الجليلة، وسَبْقِه في الإسلام، وجهاده الطويل؛ فإنه لم يأمن مكر الله تعالى، وكان مع رجائه في الله تعالى خائفًا منه، يقول - رضيَ الله عنه -: "وَدِدْتُ أني كنت كبشًا، فيذبحني أهلي، فيأكلون لحمي ويشربون مَرَقِي"[17].(/8)
يقول هذا أبو عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - ويخاف هذا الخوف منَ الله تعالى، وهو مَنْ هو، صحبةً لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسابقةً في الإسلام، وزهدًا في الدنيا، وجهادًا في سبيل الله تعالى، فما عسانا أن نقول نحن وإيماننا ضعيفٌ، وأعمالنا قليلةٌ، وحرصنا على الدُّنيا كما نرى، وإذا عملنا عملاً فيه ما فيه من القصور والمخالفات؛ تعاظمنا ذلك في أنفسنا، كأننا نمنُّ على الله تعالى بعبادته، ونحن نعصيه وهو يعطينا؟! فغفرانك اللَّهمَّ.
وإذا كان كبارُ الصحابة، وخيار الأمَّة يُزْرُونَ بأنفسهم، ويحقِّرون أعمالهم، فنحن أوْلى بهذا الإزراء والتَّحقير والمحاسبة، فهل نعقل ذلك، ونسير على الجادَّة حتى نوافي القوم؛ علَّنا نُحْشَرُ في زُمْرَتِهم؟! عسى أن نكون كذلك، ونسأل الله المغفرة والرحمة.
كانت تلك سيرة أبي عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - الذي مات بالطَّاعون، والطَّاعون شَهَادَةٌ؛ روى أبو سعيد المَقْبُرِيُّ - رحمه الله تعالى - قال: "لمَّا طُعِنَ أبو عُبَيْدَة قال: يا معاذ، صلِّ بالناس. فصلَّى معاذ بالناس، ثم مات أبو عُبَيْدَة، فقام معاذٌ في الناس، فحثَّهم على التوبة، ثم قال: إنكم أيها الناس قد فُجعتم برجلٍ، والله ما أزعم أني رأيتُ من عباد الله عبدًا قطُّ أقلَّ غمزًا، ولا أبرَّ صدرًا، ولا أبعدَ غائلةً، ولا أشدَّ حبًا للعاقبة، ولا أنصحَ للعامَّة منه؛ فترحَّموا عليه رحمه الله، ثم اصحروا للصلاة عليه، فوالله لا يلي عليكم مثلُه أبدًا.(/9)
فاجتمع الناس، وأُخْرج أبو عُبَيْدَة، وتقدم معاذٌ فصلَّى عليه، حتى إذا أتى به قبره؛ دخل قبرَه معاذٌ بن جبل وعمرو بن العاص والضَّحَّاك بن قيس، فلما وضعوه في لَحْده وخرجوا فشنُّوا عليه التراب - قال معاذ بن جبل: يا أبا عُبَيْدَة، لأُثنينَّ عليكَ، ولا أقول باطلاً أخافُ أن يلحقني بها من الله مَقْتٌ، كنتَ والله - ما علمتُ - منَ الذَّاكرين اللهَ كثيرًا، ومنَ الذين يمشون على الأرض هَوْنًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، ومنَ الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا، وكنتَ والله منَ المخبِّتين المتواضعين، الذين يرحمون اليتيم والمسكين، ويبغضون الخائنين المتكبِّرين"؛ رواه الحاكم[18].
فهل نعتبر يا عباد الله، ونجعلُ هذا الصاحب الجليل وأمثاله قدوةً لنا في الأعمال الصالحة، وقدوةً لأولادنا ومَنْ تولَّيْنَا، خاصةً مع انقلاب الموازين، واختلاط المفاهيم، التي جعلت القدوة أسافلَ الناس، وحثالةَ البشر، من أرباب الشَّهوات، وأهل الفسوق والعصيان.
إننا نرجو بتَذَاكُر أخبار هؤلاء الأعلام أن تحيا قلوبنا، وأن نعود إلى رُشْدنا؛ فنسير على الجادَّة التي ساروا عليها، والتي رسمها نبيُّ الأمَّة - صلَّى الله عليه وسلَّم - طريقًا إلى الجنَّة، فمَنِ ابتغى الجنَّة في غير تلك الجادَّة التي سار عليها القوم؛ فقد أخطأ الطريق.
ثم صلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم، كما أمركم بذلك ربُّكم.
---
[1] أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح رضيَ الله عنه (3744) ومسلم في فضائل الصحابة رضيَ الله عنهم باب فضائل أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح رضيَ الله عنه (2419).
[2] هذه الرواية لمسلم (2419).(/10)
[3] أخرجه الحاكم في معرفة الصحابة وصححه وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (3/266)، وجاء بنحوه من حديث حذيفة - رضيَ الله عنه - عند البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح - رضيَ الله عنه - (3745) ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح رضي الله تعالى عنه (2420).
[4] أخرجه أحمد (2/419) والترمذي في المناقب باب مناقب معاذ بن جبل وزيد ابن ثابت وأبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح - رضيَ الله عنه -م وقال: حديث حسن (3795) والحاكم وصححه وقال: على شرط مسلم ووافقه الذهبي (3/289 - 425) وصححه ابن حبان (7129).
[5] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضيَ الله عنه - (2385) وأحمد في فضائل الصحابة (204).
[6] أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (9758) وانظر: فتح الباري (7/69).
[7] أخرجه أحمد في المسند (1/18) وفي فضائل الصحابة (1287) وعمر بن شبه في تاريخ المدينة (3/886) وهو منقطع لأنه من رواية شريح بن عبيد وراشد بن سعد ولم يدركا عمر - رضيَ الله عنه -، ولكن للحديث شواهد منها حديث أنس - رضيَ الله عنه - المخرج في هامش (1).
[8] عزاه الحافظ في الإصابة لابن سعد وحسنه (3/589).
[9] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/413) وأحمد في فضائل الصحابة (1280) والحاكم في معرفة الصحابة (3/227-263) وقال الذهبي في التلخيص: "على شرط البخاري ومسلم" (5005).
[10] تهذيب الكمال (14/55) والنهاية لابن الأثير (5/242) وسير أعلام النبلاء (1/8).
[11] أخرجه البيهقي (2719) والحاكم (3/265) والطبراني في الكبير (1/154) برقم (360) وجوّد إسناده الحافظ في الإصابة (3/587).(/11)
[12] سير أعلام النبلاء (1/8-9) وجاء نحوه مسندًا مرسلاً عن عامر الشعبي أخرجه أحمد (1/196) وقال الهيثمي في الزوائد (6/206): "رواه أحمد وهو مرسل ورجاله رجال الصحيح" وضعفه الشيخ أحمد شاكر لإرساله في شرحه على المسند (1698) وانظر: زاد المعاد (3/387) والإصابة (3/588).
[13] أخرجه ابن المبارك في الجهاد (217) واللفظ له، وأخرجه مختصرًا مالك في الموطأ (961) وابن أبي شيبة في مصنفه (4/222) برقم (19486) وابن عبدالبر في الاستذكار (5/18) والحاكم وصححه وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (2/300-301).
[14] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/413).
[15] سير أعلام النبلاء (1/17) وعزاه الذهبي لسنن أبي داود برواية ابن الأعرابي.
[16] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ثابت البناني (7/116) برقم (34620) وابن سعد في الطبقات (3/412) وعزاه الحافظ لابن أبي الدنيا في الإصابة وجود إسناده (3/589).
[17] أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (20615) والبيهقي في الشعب (790).
[18] أخرجه الحاكم في معرفة الصحابة (3/263-264).(/12)
العنوان: دعوة إلى علماء أهل السنة وأغنيائهم وأولي الأمر فيهم
رقم المقالة: 421
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
هذه دعوةٌ إلى السادة العلماء الذين هم ورثةُ الأنبياء، وإلى الإخوة الأغنياء، وإلى أولي الأمر من المسلمين، دعوة ليواجهوا الواقعَ المؤلم الذي يتعرَّض له أبناء ملَّتهم، والذي سنشير إلى جانب منه في هذه الكلمة.
إنَّ من أكبر نعم الله علينا أن هدانا إلى الإسلام، وما كنَّا لنهتديَ لولا أن هدانا الله، وإننا نَدين الله على أنَّ مذهب أهل السنَّة والجماعة هو الحقُّ، وهو الإسلامُ الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم. ذلك أمرٌ لا ريبَ فيه.. فالحمد لله حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه، وإننا لنفخَرُ بذلك، ونستمسكُ به، وليس لأحد أن يُنكر ذلك علينا، والله تبارك وتعالى يقولُ لرسوله صلى الله عليه وسلم: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ*}، ويقولُ سبحانه: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [البقرة: 148].
لقد استقرَّ في أعماق قلوبنا وعقولنا معنى قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِْسْلاَمُ } [آل عمران: 19]، ومعنى قوله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران: 85].
والإسلام الذي لا يقبلُ الله ديناً سواه يقومُ عندنا - نحن أهلَ السنة والجماعة - على أصلَين هما: الكتاب والسنَّة. وهذان المصدران حملهما إلينا الصَّحابةُ الكرام، والتابعونَ لهم بإحسان، والعلماءُ على مرِّ العصور رضي الله عنهم وجزاهُم عنَّا وعن المسلمينَ الخير.(/1)
هذا الكتابُ الذي هو كلامُ الله المعجِز ووحيُه المنزَل على محمَّد صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المتعبَّد بتلاوته، المنقول إلينا بالتواتُر.
هذا الكتابُ الذي وصل إلينا محفوظاً بحفظ الله، فقد تكفَّل سبحانه بحفظه فقال: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، ولم يَكِل حفظَه إلى البشر كما كان الأمرُ في الكتب السابقة قال تعالى:
{ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } [المائدة: 44] ولكنهم لم يحفظوه، بل زادوا فيه ونقصوا، كما أخبرنا ربّنا سبحانه بقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيدِيهِمْ وَوَيلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].
وبقوله سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].
وأمَّا السنَّة فهي قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعلُه، وتقريرُه ووصفُه، وقد نُقلت إلينا منقَّحة صافية، ذلك لأن علماءنا الأبرارَ الصادقين هُدوا إلى طرائقَ علميَّةٍ وقواعدَ موضوعيَّةٍ دقيقةٍ رائعة لحمايتها من الدخيل والشوائبَ، فنقَّوا عنها كلَّ ضعيف، ولم يقبلوا منها إلا ما ثبتَ عندهم وفقَ تلك القواعد، وديننا لا يُثبت العصمةَ لأحد من هذه الأمَّة إلاّ للرسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.(/2)
وليست هناك أمَّةٌ تستطيع أن تزعمَ أنَّ دينها وصل إليها كما أنزله الله إلاَّ هذه الأمَّة التي جعلها الله خيرَ أمَّة أُخرجَت للناس { كُنتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله } [آل عمران: 110] فللَّه الحمدُ والمنَّة، قال الإمامُ ابن حزم في الفَصْل الذي عقده في وجوه النقل عند المسلمين: [وليس عند اليهود والنصارى من هذا النقل شيءٌ أصلاً][1].
وقام الدعاةُ المجاهدون بنشر هذا الدين في الأرض المعمورَة كلِّها، ودخل الناسُ في دين الله أفواجاً، وعاش مَنْ كان في ظلِّ دولة الإسلام من غير المسلمينَ بأمن وأمان لهم ذمَّةُ الله وذمَّةُ رسوله.. ولم يُكره الإسلام فرداً على تغيير عقيدته إذا أدَّى الجِزيةَ المفروضَةَ عليه.. لم يفعل كما فعلت الصليبيَّةُ على مدار التاريخ تذبَحُ وتقتُلُ وتُبيدُ شعوباً بأسرها كشَعب الأندلس قديماً لتُكرهَهُم على التنصُّر، وما خبرُ البوسنة والهرسك عنا ببعيد، وكما تفعلُ اليهوديَّةُ اليومَ في فلسطين.
وقد بلَغَنا أنَّ طائفةً منحرفةً تُعادي أهلَ السنة تقوم اليومَ بدور مُشابهٍ لأولئك القوم.. وقد قَويَ سلطانُ هذه الطائفة عندما وَصَلَت إلى الحُكم في بلدٍ من بلاد المسلمين، وكان بأيديها المالُ الوفيرُ بسبب ما وهب الله ذاك البلدَ من الثروة، فسخَّرت هذا المالَ وذاك السُّلطانَ للتغرير بأبناء المسلمينَ من أهل السنَّة والجماعة والعدوان على عقيدتهم، ولاسيَّما الفقراء منهم، فجعلت تُغريهم بالمال للدُّخول في مذهبها المنحرف الزَّائغ، واستغلَّت حاجةَ هؤلاء الفقراء، فاستجابَ لها نفرٌ منهم في عدد من بلاد المسلمينَ في الشام ومصرَ وتونسَ والجزائر وغيرها..(/3)
ولم تكتفِ هذه الطائفةُ بالإغراء، بل سلكت سبيلَ العُنف والتهديد والتشريد والقتل، ومَضَت في ذلك أشواطاً عدَّة.. والمثلُ الواضح الصارخ عملُهم وإجرامُهم في العراق، وا أسفاه هذا البلدُ الذي هو مَعقِلُ أهل السنَّة.. البلدُ الذي خرَّج عدداً لا يكاد يُحصى من العلماء والأئمَّة نذكر منهم على سبيل المثال أبا حنيفةَ النعمان وتلامذتَه، والشافعيَّ وتلامذتَه، وأحمدَ بن حنبل وتلامذتَه. وغيرهم كثير.
لقد عملت هذه الطائفةُ على إخراج أهل السنَّة من ديارهم في العراق وحمَلَتهُم على الهجرة ومغادرة البلاد. واحتلَّ أفرادُها بيوتَهم، وصادروا أموالَهم، واستباحوا منازلَهم وحرماتهم، واستَولَوا على مساجدهم وجعلوها (حُسَينيَّات) بعد أن قتلوا أئمَّتها ومؤذِّنيها.
إنَّهم الآن يقتلون الناسَ الأبرياءَ كلَّ يوم، يريدون إبادةَ أهل السنَّة والجماعة..
يا أيها السادةُ العلماء.. يا قومَنا.. ويا زعماءنا.. إن الأمرَ جِدٌّ وليس بالهزل، لا يكفي أن نعلنَ استنكارنا لذلك، وإن كان الأمرُ جديراً بالاستنكار.. بل لابدَّ من علاج سريع لهذه الفتنة الماحِقَة... إنَّهم يُخطِّطون وينفِّذون بمعونة الكَفَرَة المحتلِّين.
وهذا أمرٌ خطيرٌ خطيرٌ.. ولا يجوز السُّكوت عليه، وفي أهل السنَّة والحمدُ لله علماءُ أجلاَّء، وأغنياءُ أثرياء.. نعم.. لا يجوز السُّكوتُ.. إنها مُهمَّة العلماء والأغنياء وأولي الأمر من أهل السنَّة.
وأنا لا أستطيع اقتراحَ العلاج الذي يَدرأُ الخطر.. ولكنَّني أضعُ هذه المشكلةَ بين أيدي علمائنا وأغنيائنا وأولي الأمر فينا.
إننا نريدُ الدِّفاعَ عن ديننا وعن أبنائنا وبناتنا وعن إخواننا في الله.
وأهلُ السنَّة – ولله الحمد – لديهم القُدرةُ على علاج ذلك الخطَر الدَّاهم.
والقادرون مسؤولونَ..(/4)
إنَّ هذا النداءَ.. وهذه الصَّرخةَ لن تعملَ شيئاً، ولن يكونَ لها أثرٌ ما لم تَقُم لجنةٌ من السادة العلماء وأولي الأمر وذوي الوَجاهة والثَّراء تعملُ على إيقاف هذا الإفساد والعُدوان الذي استشرى.
إننا إن لم نفعل ما نستطيعُ تفاقَمَ أمرُ الباطل والشرِّ، وإنَّ المسؤوليَّةَ على قَدر الطاقة والقُدرة.
وإنَّ تجاهلَ المشكلة لا يحلُّها بل يُضاعف من خطَرها. وإنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله ربِّ العالمين.
ـــــــــــــــــــ
[1] الفِصَل في المِلَل والنِّحَل 2/82-83.(/5)
العنوان: دعوة لإعادة النظر في الابتعاث
رقم المقالة: 932
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
جاء في كتاب (المشكلة الشرقية)[1] ما نصه: "لاشك أن المبشرين - فيما يتعلق بتخريب وتشويه عقيدة المسلمين - قد فشلوا تماماً، ولكن هذه الغاية يمكن الوصول إليها عن طريق الجامعات الغربية؛ فيجب أن نختار طلبة من ذوي الطبائع الضعيفة، والشخصية الممزقة، والسلوك المنحل، من الشرق، ولاسيما من البلاد الإسلامية، ونمنحَهم المِنَحَ الدراسيةَ، بل ونبيعَ لهم الشهادات بأي ثمن، ليكونوا المبشرين المجهولين لنا... إن اعتقادي القويَّ أن الجامعات الغربيةَ يجبُ عليها أن تَستغِل - استغلالاً تاماً - جُنونَ الشرقيين بالدرجات العلمية والشهادات، واستعمالُ أمثال هؤلاء الطلبةِ مُبَشِّرينَ ووُعَّاظاً لأهدافنا ومآربنا، باسم تهذيب المسلمين والإسلام"[2]!!
ويؤكد (إسمث)، صاحبُ (الإسلام في التاريخ الحديث) ذلك بقوله:
"إن من أهم أسباب حركة الحرية والإباحية - التي تسود اليوم العالم الإسلامي - ومن أكبر عواملها؛ نفوذُ الغرب، فقد بلغت هذه الحركة أوجَها في أوروبا، من أواخر القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الأولى.
وقد سافر كثيرٌ من الشباب المسلم إلى الغرب، واطلعوا على روح أوروبا وقيمِها، وأُعجِبوا بها أيَّما إعجاب، وينطبق هذا - بخاصة - على الطلاب الذين دَرَسوا في جامعات أوروبا، الذين لم تزل أعدادهم في ازدياد مع الأيام، وهم الذين سببوا استيراد كثير من أفكار الغرب وقيمِه إلى العالم الإسلامي"[3].
وقد قال أحد المجرِّبين الناصحين: "إن التعليم - الغربي- هو الحامض الذي يُذيبُ شخصيةَ الكائن الحي، ثم يكون كما يشاء! إن هذا الحامض هو أشدُّ قوة وتأثيراً من أية مادة كيماوية أخرى، فبإمكانه أن يحول جبلاً شامخاً إلى كومة من تراب"[4]!!(/1)
ومن وحي واقعه وعصره؛ صوَّرَ أحدُ الأدباء حالَ بعض أولئك المُبتَعَثين فقال: "ذهب فلانٌ إلى أوروبا، وما ننكر من أمره شيئاً، فلبث بضع سنين، ثم عاد، وما بقي مما كنا نعرفه عنه شيء!!
ذهب بوجهٍ كوجه العذراءِ ليلةَ عُرسِها، وعاد بوجه كالصخرة الملساء في الليلة الماطرة.. ذهب بقلب نقيٍّ طاهرٍ، يأنس بالعفو، ويستريح إلى العذر، وعاد بقلب مظلِمٍ مدخولٍ، لا يفارقه السُّخْطُ على الأرض وساكنِها، والنِّقْمةُ على السماءِ وخالقِها.
ذهب بنفسٍ غضَّةٍ، خاشعة، ترى كل نفسٍ فوقَها، وعاد بنفس ذهَّابةٍ، نَزَّاعة، لا ترى شيئاً فوقها، ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها.
ذهب، وما على الأرض أحبُّ إليه من دينه وأهله، وعاد، وما على وجهها أصغرُ في عينيه منهما"..
هكذا يصورُ حالَ بعض مبتعثينا الأديبُ البارعُ مصطفى لطفي المنفلوطي[5]، الذي عاصر حِقبة الاحتلال الإنكليزي، التي حرص الغربُ على صناعة كثير من رجالها تحت أعينهم، ثم جاء بُعَيدَه - من الطرف الآخر لإفريقيا - المفكرُ الجزائريُّ مالكُ بن نبي[6] - الذي كانت بلاده تَئِطُّ تحت وطأةِ الاحتلال الفرنسي - ليُسجِّلَ ملاحظة قريبةً من ملاحظة المنفلوطي بشأن المبتعثين، الذين يرجعون بالشهادات، بعد أن يغادروا أرواحَهم في خَمَّارات الحيِّ (اللاتيني) في (سان حرمان)!
ولا يزال الغربيون يقدِّمون المِنَحَ من أجل التغريب، مع إتقانهم الفرز والاختيار للمرشَّحين، وقد لفتَ الأنظارَ قبلَ أَمَدٍ خبرٌ نشرته بعضُ الصحف، عن منحٍ قدَّمها وزير الخارجية البريطاني، لأربعة طلاب وتسع طالبات من دولة محافظة؛ أظهرت صورةٌ مشتركةٌ بعضَ الطالبات سافراتٍ، بل فيهن حاسراتٌ، بين الرجال! وحسبك بهذه البداية، مؤشِّراً يشعر بالحال عند النهاية[7]!!
ولهذا لم يكن مستغرَباً منعُ بعض أهل العلم الابتعاثَ إلى الخارج سدّاً لباب الرِّدَّةِ والنشأةِ الكُفريةِ، وقطعاً لمادة الفتنة[8].(/2)
وللأسف فقد أثبتت التجارب - التي كان فئرانَها بعضُ فلذاتِ أكبادِ البلادِ الإسلاميةِ - عِظَمَ الآثار السيئة للبِعثات، في الوضع الراهن على الأقل، ولا أَدَلَّ على سوئها من أنها بدأت منذ قرن ونيِّف، ولا يزال المسلمون في تأخر وتقهقر يستحكِم بفعل المستغربين، فقد كان من آثار تلك البعثات إخراجُ أجيال من الشباب المثقف؛ صَدَقَ فيهم وصفُ الشاعر (إقبال) حينما قال:
"فارغُ الأكوابِ، ظمآنُ الشفتينِ، مصقولُ الوجهِ، مظلمُ الروحِ، مستنيرُ العقلِ، كليلُ البصرِ، ضعيفُ اليقينِ، كثيرُ اليأسِ، لم يشاهد في هذا العالم شيئاً، هؤلاء الشبان أشباهُ الرجال ولا رجال، ينكرون نفوسَهم ويؤمنون بغيرهم، يبني الأجانب من ترابهم الإسلامي كنائسَ وأدياراً، شبابٌ ناعمٌ رِخْوٌ، رقيقٌ في الشباب كالحرير"[9]!!
ويقول: "قد يكون لَبِقاً في الحديث، متشدِّقاً في الكلام، ولكنَّ عينيه لا تعرفان الدموعَ، وقلبُه لا يعرف الخشوعَ"[10]!
إننا بحاجة إلى النظر في واقع البعثات، والتأملِ فيها، وتقييمها، فإن لم يكن ذلك؛ فلعله خيرٌ للأمة إيقافُها.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] (التغريب في التعليم في العالم الإسلامي)، الدكتور محمد عبد العليم مرسي، ص48، طبع إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام، 1409هـ.
[2] نقلاً عن السابق، ص48.
[3] (نحو التربية الإسلامية الحرة)، للندوي، ص34، الرسالة، ط5، 1405هـ، وقد نقله عن كتاب (سمث Wilfred Cantwell Smith) المشار إليه، واسمه بالإنجليزية: (Modern History in Islam)، وقد ظهر عام 1957م.
[4] القائل هو محمد إقبال، نقلاً عن: (نحو التربية الإسلامية الحرة)، للندوي، ص31، وقد ترجمه عن: (ضرب كليم).
[5] ولد في عام 1876م، وتوفي عام 1924م، والقطعة المنقولة جزء من قصة قصيرة، فيها عِظة وعِبرة لأولئك السُّذَّجِ الذين فُتِنوا بالغرب.
[6] كان مولده عام 1905م، ووفاته عام 1973م.(/3)
[7] انظر صحيفة (الوطن) السعودية، العدد 1265، بتاريخ الأربعاء 1425.
[8] انظر (فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم) 13/217.
[9] (نحو التربية الإسلامية الحرة)، للندوي، ص45.
[10] السابق، ص46.(/4)
العنوان: دعوة موسى (عليه السلام) لفرعون
رقم المقالة: 923
صاحب المقالة: سليمان بن قاسم العيد
-----------------------------------------
دعوة موسى (عليه السلام) لفرعون في القرآن الكريم والتوراة المحرفة: دراسة مقارنة
ملخص البحث: يهدف البحث إلى بيان جانب من جوانب التحريف في التوراة، وذلك من خلال الدراسة التفصيلية لدعوة موسى (عليه السلام) لفرعون في القرآن الكريم والتوراة المحرفة، ومن ثم مقارنة ما ورد في التوراة بما ورد في القرآن الكريم، وإن دعوة نبي الله موسى (عليه السلام) للطاغية فرعون جاءت مفصلة في القرآن والتوراة، ولذا فإن ما كان في التوراة صحيحاً فلابد أن يطابق القرآن الكريم؛ لأنهما من مصدر واحد، وإن خالفت التوراة القرآن دل ذلك على تحريف التوراة. وبعد إجراء المقارنة بين النصوص المتعلقة بالموضوع، ابتداءً بكيفية تلقي موسى للوحي، ثم ما أيده الله به من الآيات، وكذلك حواره مع فرعون، وأخيراً نجاة موسى (عليه السلام) وقومه وهلاك فرعون وقومه، تبين مخالفة التوراة للقرآن الكريم بأمور، منها أن التوراة حصرت ألوهية الله سبحانه وتعالى للعبرانيين وآبائهم، كما جاء في التوراة عدم تسليم موسى (عليه السلام) لربه في بعض ما يأمره به، وقدرة سحرة فرعون على مقابلة موسى ببعض الآيات، كما وصفت التوراة موسى (عليه السلام) بالألوهية لفرعون، ووصفت هارون بأنه نبي لموسى، وجاءت بتمييز بني إسرائيل بأنهم شعب الله، وغير ذلك من المخالفات التي تدل دلالة صريحة على تحريف التوراة.
تقديم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد.(/1)
فلقد أنزل الله سبحانه وتعالى كتابه المبين وجعله هدى للعالمين، وحفظه من أيدي المحرفين، كما في قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، كما أنزل قبله جملة من الكتب السماوية، فما هو موجود منها الآن قد نالته يد التحريف والتبديل، كما حصل للتوراة والإنجيل. وقد بذل العلماء في القديم والحديث جهوداً كبيرة لبيان ما وقع في تلك الكتب من التحريف. وإن مقارنة ما في هذه الكتب مع ما في القرآن الكريم إنما هو طريقة لبيان ما فيها من تحريف وتبديل.
وإن دعوة نبي الله موسى عليه السلام للطاغية فرعون جاءت مفصلة في القرآن والتوراة، ولذا فإن ما كان في التوراة صحيحاً فلابد أن يطابق القرآن الكريم ؛ لأنهما من مصدر واحد، وإن خالفت التوراة القرآن دل ذلك على تحريف التوراة، وهذا البحث سيتناول هذا الجانب في المقارنة بين القرآن والتوراة في دعوة موسى لفرعون، لبيان جانب من جوانب التحريف في التوراة.
ولقد اعتمدت في دراسة المقارنة على التوراة التي صدرت عن دار الكتاب المقدس المترجمة للعربية، وهي: جملة الأسفار الخمسة من العهد القديم[1]، وهي: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر التثنية. علماً بأن قصة موسى وفرعون محصورة في سفر واحد هو سفر الخروج.
وسأسير في البحث بإذن الله تعالى على النحو الآتي:
1 - أبدأ بعرض القضية من القرآن الكريم، مع ذكر ما يتيسر من أقوال المفسرين وأهل العلم حول الآيات المقصودة. ويكون عزو الآيات في المتن بعد نهايتها، هكذا (اسم السورة، رقم الآية).(/2)
2 - أذكر القضية بنصوص من التوراة - ولا شك أن التوراة الموجودة اليوم توراة محرفة [2] - وألتزم في نقل النص بهيئته في المرجع من حيث الفواصل والفقرات ونحوها، وسأفصل بين كل فقرة وفقرة من فقرات السفر بنجمة (*) أما النقطة (.) الموجودة في نصوص التوراة فهي حسب الأصل دون التدخل في تغييرها. ويكون التوثيق في المتن بعد نهاية النص، هكذا (اسم السفر، رقم الإصحاح، رقم الفقرة).
3 - أذكر بعد ذلك المقارنة في الموضوع بين ما ورد في القرآن الكريم والتوراة، مقتصراً على ما وجد فيه الاختلاف بين القرآن والتوراة.
وأسأل المولى سبحانه وتعالى التوفيق والسداد والعصمة من الزلل، ومن القول عليه بغير علم، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
بداية نبوة موسى عليه السلام وإرساله إلى فرعون
أولاً: في القرآن الكريم:
وقت ومكان تلقي موسى الوحي من ربه:
ذكر المولى سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وقت ومكان تلقي موسى (عليه السلام) للنبوة، ومن ذلك:
قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:29،30](/3)
قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:9 - 14].
هذه الآيات تشير إلى الوقت والحالة والمكان الذي تلقى فيه موسى (عليه السلام) الوحي من ربه وإبلاغه الرسالة، فقد كان ذلك حين رجوعه من مدين إلى مصر بعد أن قضى الأجل، وكان قد ضل الطريق في مسيره، قال ابن كثير: " فأضل الطريق، وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال، في برد وشتاء وسحاب وظلام وضباب، وجعل يقدح بزَنْد معه ليوري ناراً كما جرت له العادة به، فجعل لا يقدح شيئاً ولا يخرج منه شرر ولا شيء، فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً، أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه، فقال لأهله يبشرهم: إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس، أي: شهاب من نار، وفي الآية الأخرى {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} وهي الجمر الذي معه لهب، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} دل على وجود البرد، وقوله {بقبس} دل على وجود الظلام، وقوله {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أي من يهديني الطريق، دل على أنه قد تاه عن الطريق " [3، جـ 3، 144].
وقال الطبري في - تفسير قوله تعالى: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} - : "دلالة تدل على الطريق الذي أضللناه، إما من خبر هاد يهدينا إليه، وإما من بيان وعلم نتبينه به ونعرفه " [4، جـ 16، ص 142].(/4)
وفي سورة النمل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7]. معنى تصطلون: أي تستدفئون من البرد، يقال: اصطلى يصطلي إذا استدفأ [5، جـ 13، ص 106 ؛ 6، جـ 14، ص 468]. فدل ذلك على وجود الشتاء.
وأما المكان الذي حصل فيه الوحي فدل عليه قوله سبحانه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12]، وأظهر الأقوال في معنى طوى أنه اسم للوادي فهو بدل من الوادي أو عطف بيان [7، جـ 4، ص 292]. وفيه أقوال أخر.[3]
وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]. قال القرطبي: " أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة و{مِنَ الشَّجَرَةِ} بدل من قوله: {مِن شَاطِئِ الْوَادِي} بدل الاشتمال؛ لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، وشاطئ الوادي وشطه جانبه، والجمع شطان وشواطئ" [5، جـ 13، ص 186]. وقال ابن كثير: " أي: من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب " [3، جـ 3، ص 388].
وقوله: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} [مريم:52].
قال ابن جرير: " ونادينا موسى من ناحية الجبل، ويعني بالأيمن: يمين موسى؛ لأن الجبل لا يمين له ولا شمال، وإنما ذلك كما يقال: قام عن يمين القبلة وعن شمالها " [4، جـ16، ص 94]. ويجوز أن يكون الأيمن من اليُمن وهو البركة [9، جـ16، ص 103].
وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44]. قال ابن كثير: " يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطئ الوادي" [3، جـ 3، ص 392].(/5)
جاء وصف المكان في هذه الآيات بكلمات مختلفة، فذكره في الآية الأولى أنه الوادي المقدس، والمقدس هو المطهر، وطوى اسم ذلك الوادي [10، جـ 3، ص 358]. وفي الآية الثانية أنه شاطئ الوادي الأيمن من البقعة المباركة , وفي الآية الثالثة أنه جانب الطور الأيمن، وفي الآية الرابعة أنه جانب الغربي.
وقال ابن كثير في الجمع بين هذه المواضع: كان موسى في واد اسمه طوى، فكان موسى مستقبل القبلة وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب فناداه ربه بالوادي المقدس طوى" [11، جـ 1، ص 247 ؛ 12، جـ 2، ص 26].
كلمات الوحي الأولى:
جاء بيان ما أوحى الله سبحانه وتعالى به إلى موسى في بداية النبوة في مواضع عدة من القرآن الكريم، ومن ذلك السياق الذي ورد في سورة طه من قوله سبحانه: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} إلى قوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:13 - 36].
وقد تضمن هذا السياق من كلمات الوحي الأولى إلى موسى (عليه السلام) موضوعات عدة، على النحو التالي:(/6)
الأول: التعريف بالله سبحانه وتعالى والأمر بتحقيق العبودية له وحده ونفي ما سواه من الآلهة بقوله سبحانه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]. قال ابن كثير في هذه الآية: " هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وقوله: {فَاعْبُدْنِي} أي وحدني، وقم بعبادتي من غير شرك، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} قيل: عناه صل لتذكرني. وقيل: معناه أقم الصلاة عند ذكرك لي" [3، جـ 3، ص 145]. وجاء في موضع آخر قوله: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل:9]، أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز الذي عز كل شيء وقهره وغلبه، الحكيم في أقواله وأفعاله [3، جـ 3، ص 358]. وفي موضع ثالث قوله: {إني أنا الله رب العالمين} [القصص: 30]، أي: الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين، الفعال لما يشاء، لا إله غيره، ولا رب سواه، تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته، وصفاته، وأقواله، وأفعاله سبحانه" [3، جـ 3، ص 389]. فأخبر الله سبحانه وتعالى موسى بألوهيته وربوبيته، ويلزم من ذلك أن يأمره بعبادته وتألهه [13، جـ 6، ص 20]. واختلاف صيغ النداء المذكورة قد يدل على تكرر النداء، والله أعلم.
الثاني: الساعة وأنها موعد الجزاء على الأعمال، بقوله سبحانه {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى* فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15، 16].
الثالث: تأييد موسى بالآيات التي تدل على صدقه، بقوله سبحانه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا...} [طه:17،18] إلى قوله: {لنريك من آياتنا الكبرى} [طه:23].(/7)
الرابع: الإرسال إلى الطاغية فرعون، بقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24]، قال الطبري: "في الكلام محذوف استغني بفهم السامع بما ذكر منه، وهو قوله: فادعه إلى توحيد الله وطاعته، وإرسال بني إسرائيل معك" [4، جـ 16، ص 159]. وقال الرازي: " إنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى (عليه السلام) كان مبعوثاً إلى الكل[4]؛ لأنه ادعى الألوهية وتكبر وكان متبوعاً؛ فكان ذكره أول" [14، جـ22، ص27]. وقال القرطبي: " لما آنسه بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول، أمره بالذهاب إلى فرعون، وأن يدعوه" [5، جـ 11، ص 129].
الخامس: دعاء موسى (عليه السلام) ربه بإعانته على الرسالة وإشراك أخيه هارون معه، واستجابة الله له، وذلك في قوله سبحانه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:25 - 36]، أي: قد أجبناك إلى ما سألت، وأعطيناك ما طلبت، وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل، حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "فامتثل [موسى] أمر ربه، وتلقاه بالانشراح والقبول، وسأله المعونة وتيسير الأسباب التي هي من تمام الدعوة قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}، أي: وسعه وأفسحه، لأتحمل الأذى القولي والفعلي، ولا يتكدر قلبي بذلك، ولا يضيق صدري، فإن الصدر إذا ضاق لم يصلح صاحبه لهداية الخلق ودعوتهم" [13، جـ 5، ص 153].
ثانياً: في التوراة:(/8)
تصور التوراةُ ابتداءَ نزول الوحي على موسى (عليه السلام) بالنص: "وأما موسى فكان يرعى غنم يَثْرُون حَمِيه كاهن مِدْيَان، فساق الغنم إلى وراء البرية، وجاء إلى جبل الله حوريب. وظهر له ملاك الرب بلهيب نار وسط عليقة[5]. فنظر فإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق * فقال موسى: أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم، لماذا لا تحترق العليقة * فلما رأى الربُّ أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى موسى، فقال: هأنذا * فقال: لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة * ثم قال: أنا إله أبيك؛ إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه؛ لأنه خاف أن ينظر إلى الله * فقال الرب: إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم. إني علمت أوجاعهم * فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة. إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً إلى مكان الكنعانيين[6] والحثيين[7] والأموريين[8]... والآن هو ذا صراخ بني إسرائيل قد أتى إلي ورأيت أيضاً الضيقة التي يضايقهم بها المصريون * فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون وتُخرج شعبي بني إسرائيل من مصر" (سفر الخروج: 3: 1 – 10).(/9)
وفي نص آخر عجيب: " قال الرب لموسى: عندما تذهب لترجع إلى مصر انظر جميع العجائب التي جعلتُها في يدك واصنعها قدام فرعون. ولكني أشدد قلبه حتى لا يطلق الشعب * فتقول لفرعون هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر * فقلت لك: أطلق ابني ليعبدني فأبيت أن تطلقه، ها أنا أقتل ابنك البكر" (سفر الخروج 4: 21 - 23). في هذا النص زعم من اليهود أنهم أبناء الله، ولقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك في كتابه العزيز: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]. ويعلق ابن حزم على نص التوراة قائلاً: "ليت شِعري ماذا ينكرون على النصارى بعد هذا؟ وهل طرق النصارى سبيل الكفر في أن يجعلوا لله ولدا، ونهج لهم طريق التثليث، إلا هذه الكتب الملعونة المبدلة؟! إلا أن النصارى لم يدعوا بنوة الله تعالى إلا لواحد أتى بمعجزة عظيمة، وأما هذه الكتب السخيفة، وكل من تدين بها فإنهم ينسبون بنوة لله إلى جميع بني إسرائيل [16، جـ 1، ص 247].
وتصور التوراة مقابلة موسى لهذا الأمر بقوله: " من أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر" (سفر الخروج، 3: 11). ومن الأمور الغريبة في التوراة أن تذكر لله أسماء علمها الله لموسى، كما في النص: " فإذا قالوا لي ما اسمه فماذا أقول لهم * فقال الله لموسى: أهْيَهِ الذي أهْيَهِ[9]. وقال هكذا تقول لبني إسرائيل أهيه أرسلني إليكم * وقال الله أيضاً لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه[10] إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم هذا اسمي إلى الأبد" (سفر الخروج، 3: 13 - 15).(/10)
ثم يمضي سياق التوراة بذكر توجيه الرب لموسى (عليه السلام) بالذهاب إلى شيوخ بني إسرائيل وتبليغهم بهذا الوحي وبوعد الله لهم بإخراجهم من مصر، ثم يمضي هو وإياهم إلى فرعون ويبلغونه قائلين: "الرب إله العبرانيين التقانا. فالآن نمضي سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا" (سفر الخروج،3: 18)، كما جاء الوعد بالتأييد بالآيات حتى يستجيب فرعون، وذكر من هذه الآيات العصا واليد وتحول ماء النهر إلى دم (سفر الخروج، 3: 12 - 22، 4: 1 - 9).
وبعد هذا كله تصور التوراة موقف موسى (عليه السلام) وعدم التسليم له بالرسالة، كما يدل عليه النص: "فقال موسى للرب استمع أيها السيد، لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا من أول أمس ولا من حين كلمت عبدك. بل أنا ثقيل اللسان *...
فقال موسى استمع أيها السيد أرسل بيد من ترسل * فمحي غضب الرب على موسى * (سفر الخروج، 4: 10 – 14).
ومن العجائب في التوراة أنها بعد ذكر هذا الموقف نسبت لله سبحانه وتعالى أمره لموسى بأن يكون هارون فماً له وهو يكون إلهاً لهارون، كما يدل عليه النص: "وهو يكون لك فماً وأنت تكون له إلهاً" (سفر الخروج، 4: 16، 17).
ولم تتوقف ألوهية موسى (عليه السلام) على هارون، بل زعموا أن الله جعله أيضاً إلهاً لفرعون، كما يدل عليه النص: " فقال الرب لموسى انظر، أنا جاعلك إلهاً لفرعون. وهارون أخوك يكون نبيك" (سفر الخروج، 7: 1).
وهذا مما يخالف الغاية من إرسال الرسل، فإن الله سبحانه أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب لتوحيده ونفي الآلهة سواه. فكيف يأتي الرسول من الله ويكون إلهاً لغيره من البشر؟
كما يفيد سياق التوراة أن موسى (عليه السلام) بعد أن تلقى الوحي من ربه رجع إلى حميه (يثرون) فاستأذنه بالخروج إلى مصر فأذن له بذلك، وخرج موسى (عليه السلام) بامرأته وبنيه.
ثالثاً: المقارنة:
تتمثل الفروقات بين عرض القرآن الكريم والتوراة لبداية نبوة موسى (عليه السلام) بما يلي:(/11)
1 - يشير القرآن الكريم إلى أن موسى (عليه السلام) تلقى الوحي حينما كان عائداً من مدين مع أهله، وذلك حين قضى الأجل. أما التوراة فتذكر أن موسى تلقى الوحي حينما كان يرعى الغنم لحميه، أي: أنه ما زال في الخدمة ولم يقض الأجل بعد، وهذا مخالفة صريحة من التوراة لنص القرآن الكريم.
2 - يصرح القرآن الكريم بأن موسى (عليه السلام) ذهب إلى النار لطلب الهدى أو الاستدفاء، وهذه الإشارات تفيد أن ذلك وقع في ليلة ظلماء باردة، في حين أن التوراة تشير إلى أن السبب الذي جاء من أجله موسى إلى النار هو عجبه من اشتعال النار بالعليقة، والعليقة لا تحترق.
3 - جاء في القرآن الكريم في كلمات الوحي الأولى إلى موسى (عليه السلام) التأكيد على ألوهية الله سبحانه وتعالى ونفي الآلهة سواه، وهذه هي القضية الأساسية التي بعث الله من أجلها موسى وغيره من المرسلين. في حين أن التوراة لم تؤكد هذا الجانب واكتفت بذكر ألوهية الله سبحانه وتعالى للعبرانيين، وخصت منهم إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وهم آباء بني إسرائيل. بل إن التوراة فوق ذلك جعلت موسى إلهاً لفرعون.(/12)
4 - جاء في القرآن الكريم في كلمات الوحي الأولى إلى موسى (عليه السلام) تعريف الله سبحانه وتعالى بالأسماء الحسنى والصفات العلا، كقوله: {يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم} [النمل: 9]، وقوله: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، التي تفيد صفات الكمال لله سبحانه وتعالى، مصداقاً لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وهذه قاعدة جليلة في أسماء الله سبحانه وتعالى؛ فكلها تحمل الحسن في معانيها ودلالتها ونحو ذلك. أما ما ورد في التوراة بتسمية الله سبحانه وتعالى بـ(أهيه) و(يهوه)، وهذه الكلمات بالعربية ليس لها معنى، وليست من أسماء الله سبحانه وتعالى ولا من صفاته، ولا تحمل معنى حسناً يليق بالله سبحانه وتعالى، كما تؤكد أن (يهوه) هو اسم إلى الأبد بمعنى لا يدعى بغيره.
يقول العقاد: "إن اسم (يهوه) لا يعرف اشتقاقه على التحقيق، فيصح أنه من مادة الحياة، ويصح أنه نداء لضمير الغائب (يا هو)؛ لأن موسى علم بني إسرائيل أن يتقوا ذكره توقيراً له، وأن يكتفوا بالإشارة إليه" [18، ص 113]. ويَرِد هنا سؤال: أليس (يهوه) كلمة عبرية معناها (الله) باللغة العربية؟ يجيب عن هذا السؤال أحمد شلبي فيقول: "إن الإجابة عن هذا السؤال تجيء بالنفي القاطع؛ لأن الصفات التي ذكرها اليهود لـ(يهوه) تبعد كل البعد عما يتصف به الإله عند أي جماعة من جماعات المتدينين، وتجعله هذه الصفات لا مرشداً ولا هادياً، وإنما تجعله يمثل انعكاساً لصفاتهم واتجاهاتهم؛ فهو ليس خالقاً لهم، بل مخلوق لهم. وهو لا يأمرهم، بل يسير على هواهم، وكثيراً ما يأتمر بأمرهم، وفي (يهوه) صفات الحربية إن هم حاربوا، وصفات التدمير لأنهم مدمرون، وهو يأمرهم بالسرقة إن أرادوا أن يسرقوا، ويتعلم منهم ما يريدونه أن يعلم" [19، ص ص 189، 190].(/13)
5 - نسبت التوراة الولد لله (سبحانه وتعالى) في سياق إرسال موسى إلى فرعون، وأنهم هم ابن الله البكر، فرب إسرائيل - حسب زعمهم - بشر يلد، وولده البكر هو إسرائيل، أما في القرآن الكريم فقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم هذا القول، بقوله سبحانه: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18].
ولقد عظم الله سبحانه وتعالى جرم من قال مثل هذه المقولة، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:88 - 91].
6 - جاء في القرآن الكريم ذكر اليوم الآخر، والجزاء، والحساب في كلمات الوحي الأولى التي أوحى الله سبحانه وتعالى إلى موسى (عليه السلام)؛ أما التوراة فلم تذكر شيئاً من ذلك، ليس في هذا الموضع فحسب، بل إن ذكر اليوم الآخر لم يرد في توراتهم إلا نادراً، علماً بأن التذكير باليوم الآخر من القضايا الأساسية في دين الله سبحانه وتعالى عند جميع الرسل. يقول أحمد شلبي: "إن فكرة البعث لم تجد لها أرضاً خصبة في عالم اليهود، وقد حاول بعض طائفة الفريسيين القول بها، ولكن هذه المحاولة لقيت معارضة شديدة، أما باقي الفرق اليهودية فلم تعرف عنها شيئاً" [19، ص 207].(/14)
7 - يفيد سياق القرآن الكريم امتثال موسى أمر ربه واستعانته به، كما سبق بيان ذلك، أما سياق التوراة فيفيد اعتراض موسى (عليه السلام) على هذا الأمر، ومراجعته لربه سبحانه وتعالى حتى غضب الرب سبحانه وتعالى عليه، فتكاد التوراة تجعل موسى ندّاً للرب، فهو يتحدث إلى هذا الرب حديث الندّ للندّ. وهذا معارض لقوله سبحانه: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13]، وقوله: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144]، فاختيار الله سبحانه وتعالى واصطفاؤه لنبيه موسى كان عن علم بحاله وامتثاله لأوامره، فكيف تحصل منه المعارضة لربه في بداية الوحي، كما يدل على ذلك سياق التوراة؟
8 - جعلت التوراة الهدف الأساسي من الرسالة هو تخليص بني إسرائيل من الذل، حتى أن الرب سبحانه وتعالى نزل لينقذ بني إسرائيل ويخرجهم إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً، فكأن الهدف من هذه الرسالة تحسين الحالة المعيشية لبني إسرائيل.
آيات موسى عليه السلام لفرعون
أولاً: في القرآن:(/15)
لما أوحى الله سبحانه وتعالى إلى موسى، وكلفه بالرسالة أيده بالآيات، ولقد كانت أول هذه الآيات التي أعطاها الله موسى (عليه السلام) هي العصا، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى} [طه:17 - 22]، قال ابن كثير: " هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام، ومعجزة عظيمة، وخرق للعادة بباهر، دل على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل، وقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} قال بعض المفسرين: إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له. وقيل: إنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها، فسترى ما نصنع بها الآن" [3، جـ 3، ص 145].(/16)
ثم أردف بعد هذه الآية بآية اليد، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى} [طه: 22]، قال ابن كثير: "وهذا برهان ثان لموسى (عليه السلام)، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه، كما صرح به في الآية الأخرى، وههنا عبر عن ذلك بقوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ}، وقال في مكان آخر: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ} [القصص: 32]. قال مجاهد: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ}: كفك تحت عضدك، وذلك أن موسى (عليه السلام) كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ، كأنها فلقة قمر، وقوله: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي: من غير برص، ولا أذى، ومن غير شين. قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم. وقال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل " [3، جـ3، ص ص 146، 147].(/17)
ولم تقتصر آيات موسى (عليه السلام) على هاتين الآيتين، بل أيده الله سبحانه وتعالى بآيات أخرى، كما في قوله سبحانه: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [النمل: 12]. وقوله {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} [الإسراء:101]. قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون، وهي: العصا، واليد، والسنين، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات. قاله ابن عباس، وقال محمد بن كعب: هي اليد، والعصا، والخمس في الأعراف، والطمس، والحجر. قال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هي يده، وعصاه، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي. وجعل الحسن البصري السنين ونقص الثمرات واحدة، وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا" [3، جـ3، ص 67].
ويصور القرآن الكريم موقف فرعون وقومه من هذه الآيات بقوله سبحانه: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} [الأعراف:132، 133]. قال ابن كثير: " هذا إخبار من الله عز وجل عن تمرد قوم فرعون وعتوهم وعنادهم للحق وإصرارهم على الباطل يقولون: أي آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها رددناها فلا نقبلها منك، ولا نؤمن بك، ولا بما جئت به" [3، جـ2، ص 241].(/18)
ولكن وجد القوم أنه لا طاقة لهم بهذه الآيات وما يحل عليهم من النكال بسبب عنادهم، وعدم إيمانهم، وإرسال بني إسرائيل، فكانوا في كل مرة يتجهون إلى موسى طالبين منه أن يكشف عنهم الرجز فيؤمنوا ويرسلوا بني إسرائيل، ولكنهم لا يفون بوعدهم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 134، 135].
كما نجد في القرآن الكريم تأثير هذه الآيات التي جاء بها موسى (عليه السلام)، ومن ذلك ما حصل من إيمان السحرة لما رأوا عصا موسى (عليه السلام) قد التقمت ما صنعت أيديهم من السحر، وعلموا أن ما جاء به موسى ليس سحراً، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:113 - 122].(/19)
قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى (عليه السلام) في ذلك الموقف العظيم، الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل، يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه، {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} أي: تأكل[11] {مَا يَأْفِكُونَ} أي: ما يلقونه ويوهمون أنه حق وهو باطل. قال ابن عباس: فجعلت لا تمر بشيء من حبالهم ولا من خشبهم إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء، ليس هذا بسحر، فخروا سجداً وقالوا: {قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}، وقال محمد ابن إسحاق: جعلت تتبع تلك الحبال والعصي واحدةً واحدة، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت، ووقع السحرة سجداً {قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} لو كان هذا ساحرا ما غلبنا" [3، جـ2، ص 238].
ثانياً: في التوراة:
جاءت الآيات التي أعطاها الله إلى موسى وهارون مفصلة في التوراة، ومرتبة على النحو التالي:
1 - تحول العصا إلى حية، ويدل على ذلك النص: " فقال له الرب ما هذه في يدك؟ فقال: عصا * فقال: اطرحها إلى الأرض. فطرحها إلى الأرض. فصارت حية. فهرب موسى منها * ثم قال الرب لموسى مد يدك وأمسك بذنبها. فمد يده وأمسك به. فصارت عصا في يده" (سفر الخروج، 4: 2 – 4). ولكن تنسب العصا مرة إلى الله: " وأخذ موسى عصا الله في يده" (سفر الخروج،4: 20)، ومرة إلى هارون: "ولكن عصا هارون ابتلعت عصيهم" (سفر الخروج، 7: 12). وأما عن موقف السحرة فتذكر التوراة أنهم فعلوا مثل هذه الآية، كما يدل عليه النص: " ففعل عرّافو مصر أيضاً بسحرهم كذلك، طرح كل واحد عصاه فصارت العصيُّ ثعابين" (سفر الخروج، 7: 11، 12).(/20)
2 – تحول اليد إلى برصاء مثل الثلج، ويدل عليه النص: " ثم قال الرب أيضاً أدخل يدك في عُبِّك. فأدخل يده في عبه، ثم أخرجها وإذا يده برصاء مثل الثلج * ثم قال له: رد يدك في عبك. فرد يده إلى عبه، ثم أخرجها من عبه وإذا هي قد عادت مثل جسده" (سفر الخروج، 4: 6 - 8).
3 - تحول ماء النهر إلى دم على اليابسة، كما يدل عليه النص: "تأخذ من ماء النهر وتسكب على اليابسة فيصير الماء الذي تأخذه من النهر دماً على اليابسة" (سفر الخروج، 4: 9)
4 - موت السمك الذي في النهر بعد أن يتحول ماء النهر إلى دم وينتن، ويدل عليه النص: "ها أنا أضرب بالعصا التي في يدي على الماء الذي في النهر فيتحول دماً ويموت السمك الذي في النهر" (سفر الخروج، 7: 17، 18).
5 - تحول جميع مياه المصريين إلى دم، حتى في الأخشاب والأحجار، ويدل عليه النص: " ثم قال الرب لموس: قل لهارون: خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين على أنهارهم وعلى سواقيهم وعلى آجامهم وعلى مجتمعات مياههم لتصير دماً. فيكون دم في كل أرض مصر في الأخشاب وفي الأحجار" (سفر الخروج، 7: 19، 20). ثم تعقب التوراة بعد ذلك: " وفعل عرّافو مصر كذلك بسحرهم" (سفر الخروج، 7: 22). أي أن السحرة قدروا على الإتيان بمثل ما جاء به موسى وهارون، وكيف يقدرون على ذلك، ومن أين لهم الماء وقد تحولت جميع مياه مصر إلى دم؟! قال ابن حزم: " فأي ماء بقي حتى تقلبه السحرة دماً، كما فعل موسى وهارون؟ أبى الله إلا فضيحة الكذابين وخزيهم. فإن قالوا: قلبوا ماء الآبار التي حفرها المصريون حول النهر. قلنا لهم: فكيف عاش الناس بلا ماء أصلاً؟ أليست هذه فضائح مردودة؟ وهل يخفى أن هذا من توليد ضعيف العقل أو زنديق مستخف لا يبالي بما أتى به من الكذب. ونعوذ بالله من الضلال" [16، جـ1، ص 250].(/21)
6 - انتشار الضفادع في كل مكان من أرض مصر، كما يدل عليه النص: " فقال الرب لموسى: قل لهارون: مد يدك بعصاك على الأنهار والسواقي والآجام، وأصعد الضفادع على أرض مصر" (سفر الخروج، 8: 5). وتعقب التوراة على ذلك بالنص: "وفعل كذلك العرافون بسحرهم وأصعدوا الضفادع على أرض مصر" (سفر الخروج، 8: 7). وهنا قد يتساءل الإنسان، كيف يسعى سحرة فرعون إلى زيادة العذاب على المصريين، والأحرى بهم أن يدفعوا هذه الضفادع عن المصريين؟! وتذكر التوراة بعد ذلك أن فرعون طلب من موسى وهارون أن يدعُوَا ربهما ليرفع عنهم هذه الضفادع حتى يطلق بني إسرائيل، ففعل موسى وهارون وماتت الضفادع، لكن فرعون قسا قلبه ولم يف بوعده.
7 - انتشار البعوض في جميع أرض مصر، كما يدل عليه النص: " ثم قال الرب لموسى: قل لهارون مد عصاك واضرب تراب الأرض ليصير بعوضاً في جميع أرض مصر" (سفر الخروج، 8: 16). وتعقب التوراة بعد ذلك: "وفعل كذلك العرافون بسحرهم ليخرجوا البعوض فلم يستطيعوا. وكان البعوض على الناس وعلى البهائم * فقال العرافون لفرعون: هذا أصبع الله" (سفر الخروج، 8: 18، 19). في هذه المرة لم يستطع العرافون مجاراة موسى وهارون فيما فعلاه من الآيات حسب سياق التوراة.
8 - انتشار الذباب في أرض مصر، كما يدل عليه النص: "... فدخلت ذبان كثيرة إلى بيت فرعون وبيوت عبيده. وفي كل أرض مصر خربت الأرض من الذبان" (سفر الخروج، 8: 24)، ولكن الأرض التي يسكنها بنو إسرائيل سلمت من الذبان كما يدل عليه النص: "ولكن أميز في ذلك اليوم أرض جاسان حيث شعبي مقيم حتى لا يكون هناك ذبان" (سفر الخروج: 8: 22). وبعد حصول هذه الآية طلب فرعون من موسى وهارون أن يدعوَا الرب ليرفع عنهم هذه الذبان، فحصل ذلك، ولكن فرعون قسا قلبه فلم يطلق الشعب.(/22)
9 - موت مواشي المصريين بالوَبَأ، أما مواشي بني إسرائيل فلم يضرها شيء، ويدل على ذلك النص: "فها يد الرب تكون على مواشيك في الحقل على الخيل والحمير والجمال والبقر والغنم وباً ثقيلاً جداً... فماتت جميع مواشي المصريين، وأما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها واحد" (سفر الخروج، 9: 3 – 7). ثم تعقب التوراة بعد ذلك بأن فرعوهن غلظ قلبه فلم يطلق الشعب.
10 – ظهور الدمامل في الناس والبهائم من أثر الرماد، ويدل على ذلك النص: "ثم قال الرب لموسى وهارون: خُذَا ملء أيديكما من رماد الأتون، وليذره موسى نحو السماء... فصار دمامل بثور طالعة في الناس وفي البهائم" (سفر الخروج، 9: 8 - 7). ثم ذكرت التوراة بعد ذلك أن العرافين عجزوا أن يقفوا أمام موسى في هذه الآية من أجل الدمامل.(/23)
11 - نزول بَرَد عظيم على مصر لم تر مصر مثله منذ تأسيسها إلى عهد موسى، كما يدل على ذلك النص: "ثم قال الرب لموسى: مد يدك نحو السماء ليكون برد في كل أرض مصر على الناس وعلى البهائم وعلى كل عشب الحقل في أرض مصر *... فكان برد ونار متواصلة في وسط البرد. شيء عظيم جداً لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أمة" (سفر الخروج، 9: 22 - 24). ولكن جاء في النص استثناء أرض جاثان التي يسكنها بنو إسرائيل فلم يصبها البرد (سفر الخروج، 9: 26). ومن الملاحظ على سياق هذه الآية في التوراة أن البرد أهلك مواشي المصريين، وقد ورد في آية سابقة أن المواشي أهلكها الوبأ، فلم يبق للمصريين شيء منها، فما هي المواشي التي أهلكها البرد؟ وفي هذا يقول ابن حزم: "فليت شِعري!! أي دابة بقيت لفرعون وأهل مصر، وقد ذُكر أن الوبأ أهلك جميعها؟ وأين الإبل والحمير والخيل والغنم؟ أليس هذا عجبا!!... ولم يكن بين آية وآية بإقرارهم وقت يمكن فيه جلب أنعام إليهم من بلد آخر؛ لأنه لم يكن بين الآية والآية إلا يوم أو يومان أو قريب من ذلك، ومصر واسعة الأعمال" [16، جـ 1، ص 252]. ثم إن هناك أمراً آخر وهو قول موسى لفرعون: "فالآن أرسل احم مواشيك وكل مالك في الحقل وجميع الناس والبهائم الذين يوجدون في الحقل... " (سفر الخروج، 9: 19)، فكيف يوحي الله إليه بإهلاكهم بالبرد، ثم بعد ذلك يأمره بأن يحمي الناس والبهائم؟! وبعد حصول هذه الآية طلب فرعون من موسى وهارون أن يدعُوَا ربهما من أجل أن يكشف عنهم ذلك، فحصل، ولكن "اشتد قلب فرعون فلم يطلق بني إسرائيل، كما تكلم الرب عن يد موسى" (سفر الخروج، 9: 35).(/24)
12 – خروج جراد على أرض مصر أكل كل شيء، كما يدل عليه النص: "ثم قال الرب لموسى: مد يدك على أرض مصر لأجل الجراد؛ ليصعد على أرض مصر ويأكل كل عشب الأرض، كل ما تركه البرد *... فصعد الجراد على كل أرض مصر وحل في جميع تخوم مصر شيء ثقيل جداً لم يكن قبله جراد هكذا مثله ولا يكون بعده كذلك * وغطى كل وجه الأرض حتى أظلمت الأرض، وأكل جميع عشب الأرض وجميع ثمر الشجر الذي تركه البرد. حتى لم يبق شيء في الشجر ولا في عشب الحقل في كل أرض مصر" (سفر الخروج، 10: 12 - 15). ثم بعد ذلك طلب فرعون من موسى وهارون أن يدعوَا الرب، فدعا موسى، فرفع الرب الجراد، ولكن شدد الرب قلب فرعون فلم يطلق بني إسرائيل" (سفر الخروج، 10: 20).
13 - حلول الظلام على أرض مصر ثلاثة أيام، فلم يبصر أحد أخاه، ولا قام أحد من مكانه، أما بنو إسرائيل فقد كان لهم نور في مساكنهم، كما يدل على ذلك النص: "ثم قال الرب لموسى: مد يدك نحو السماء... فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام * فلم يُبصر أحد أخاه، ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام، ولكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم" (سفر الخروج، 10: 21 - 23).
14 - موت كل بكر في أرض مصر من أثر خروج الرب في وسطهم، كما يدل على ذلك النص: "وقال موسى هكذا يقول الرب: إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر* فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى وكل بكر بهيمة" (سفر الخروج، 10: 4 - 6)، أما بنو إسرائيل فلم يمسهم سوء، حيث قد جاء في التوراة تمييز الرب لبني إسرائيل "لكي تعلموا أن الرب يميز بين المصريين وإسرائيل" (سفر الخروج، 10: 7).(/25)
وجملة هذه الآيات المذكورة هي: العصا، واليد، وتحول ماء النهر إلى دم على اليابسة، وموت السمك في النهر بعد أن يتحول إلى دم وينتن، وتحول جميع مياه المصريين إلى دم، والضفادع، والبعوض، والذبان، وموت المواشي والدمامل، والبرد، والجراد، والظلام، وموت الأبكار.
ثم عقبت التوراة بعد ذكر جميع هذه الآيات مرتبة بموقف فرعون بعدها بالنص: "وكان موسى وهارون يفعلان كل هذه العجائب أمام فرعون. ولكن شدد الرب قلب فرعون فلم يطلق بني إسرائيل من أرضه" (سفر الخروج، 11: 9).
ثالثاً: المقارنة:
تتمثل الفروق بين عرض القرآن الكريم وعرض التوراة للآيات بالأمور التالية:
1 - عجز السحرة:
لقد صور القرآن الكريم عجز السحرة عن الإتيان بما جاء به موسى (عليه السلام) بقوله سبحانه: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 119]؛ أما التوراة فكانت تذكر قدرة السحرة على مقابلة موسى وهارون ببعض الآيات، وكانت هذه المقابلة من السحرة سبباً لعناد فرعون، فكانت التوراة تعقب على بعض الآيات أن السحرة استطاعوا أن يفعلوا مثل ذلك، كما في آية العصا، وتحويل جميع مياه مصر إلى دم، وإخراج الضفادع على أرض مصر.
قال ابن حزم معلقاً على زعم التوراة أن السحرة استطاعوا أن يفعلوا كثيراً مما جاء به موسى وهارون من الآيات: "ولو صح هذا لبطلت نبوة موسى (عليه السلام)، بل نبوة كل نبي، ولو قدر السحرة على شيء من جنس ما يأتي به النبي، لكان باب السحرة وباب مدعي النبوة واحداً، ولما انتفع موسى بازدراد عصاه لعصيهم، ولا بعجزهم عن البعوض، وقد قدروا على قلب العصيّ حيات، وعلى إعادة الماء دماً، وعلى المجيء بالضفادع، ولما كان لموسى (عليه السلام) عليهم بنبوته أكثر من أنه أعلم بذلك العمل منهم فقط، ولو كان كما قال هؤلاء الكذابون الملعونون، لكان فرعون صادقاً في قوله: إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" [1، جـ 1، ص 248].
2 – عصا موسى وعصى السحرة:(/26)
عرض القرآن الكريم لآية العصا يختلف عن عرض التوراة لها، فالقرآن الكريم بين أن السحرة ألقوا عصيهم قبل موسى بعد مشاورته، كما في قوله سبحانه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف 115، 116]. وأما التوراة فتذكر أن الذي طرح العصا في الأول هو هارون، ثم بعد ذلك طرح أصحاب فرعون عصيهم، كما ورد النص بذلك: "فدخل موسى وهارون إلى فرعون وفعلا هكذا كما قال الرب: طرح هارون عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعباناً. فدعا فرعون أيضاً الحكماء والسحرة ففعل عرّافو مصر أيضاً بسحرهم كذلك * طرح كل واحد عصاه فصارت العصيّ ثعابين. ولكن عصا هارون ابتلعت عصيَّهم. فاشتد قلب فرعون ولم يسمع لهما كما تكلم الرب" (سفر الخروج، 7: 10 - 12).
ومن جانب آخر فإن القرآن يصور تحول عصيّ السحرة إلى ثعابين إنما هو مجرد تخييل لا حقيقة، كما في قوله سبحانه {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]. أي: أنه مجرد تخييل في أعين الناظر لا حقيقة، كما يدل عليه قوله سبحانه: قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]. قال ابن كثير: "أي: خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال" [3، جـ 3، ص 238]. وأما تحول عصا موسى إلى ثعبان فإنه تحول حقيقي بقدرة الله سبحانه وتعالى، بدليل أنها التقمت عصيهم، وعلم السحرة أن هذا ليس من قبيل السحر.
3 - إيمان السحرة:(/27)
يصور لنا القرآن الكريم النتيجة الإيجابية من تلك الآيات، كما في قوله سبحانه: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]. وأما التوراة فتعرض عن ذلك وتقتصر على الجانب الآخر وهو عناد فرعون وعدم تسليمه.
4 - حالة اليد:
جاء في القرآن الكريم وصف تحول اليد إلى بيضاء أن ذلك من غير سوء، قال المفسرون: من غير برص ولا أذى [3، جـ 3، ص 147 ؛ 5، جـ 11، ص 128]. أما التوراة فجاءت بوصف اليد بما نفاه القرآن عنها، جاءت بوصفها بالبرص.
5 - الإجمال والتفصيل:
جاء القرآن الكريم بذكر التفصيل في آيتين من الآيات هي العصا واليد، أما بقية الآيات فقد ذكرها مجملة؛ أما التوراة فقد ذكرت جميع الآيات بالتفصيل والترتيب واحدة تلو الأخرى، فإذا لم يستجب فرعون للآية جاءه بالأخرى.
6 - الواسطة في الآيات:
تصور التوراة أن موسى (عليه السلام) واسطة في بعض الآيات بين الله وبين هارون، فكان الله يأمر موسى، وموسى يأمر هارون، كما حصل في تحويل مياه المصريين إلى دم، وإخراج الضفادع، والبعوض وغيرها. ولعل هذا يتفق مع ما ورد بأن هارون نبي موسى، كما يدل عليه النص: "فقال الرب لموسى: انظر أنا جاعلك إلهاً لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك" (سفر الخروج، 7: 1). فالإله لا يكلم فرعون إلا بواسطة النبي وهو هارون.
7 – الآيات الإضافية في التوراة:
ورد في التوراة بعض الآيات التي لم ترد الإشارة إليها في القرآن الكريم، مثل الدمامل، والبرد، والظلام.
الحوار بين موسى وفرعون
أولاً: في القرآن:
لما أوحى الله سبحانه وتعالى إلى موسى أرسله إلى فرعون قائلاً: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24]. فطلب موسى من ربه سبحانه وتعالى أن يعينه بأخيه هارون، فاستجاب الله له وأشركه معه، ووجه الأمر إليهما معا بقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43]. وكان الهدف من الرسالة يتمثل في أمرين:(/28)
الأول: الدعوة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده، ويدل على ذلك قوله: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18]. قال الطبري: "فقل له: هل لك أن تتطهر من دنس الكفر وتؤمن بربك؟" [4، جـ30، ص 39].
والثاني: أن يطلق بني إسرائيل لعبادة الله سبحانه وتعالى، ويدل على ذلك قوله سبحانه: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 16، 17]. وفي موضع آخر: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 47، 48]، في هذه الآية إشعار لفرعون منذ اللحظة الأولي إلى أن هناك إلهاً هو ربه، وهو رب العالمين، وليس خاصاً بموسى وهارون أو ببني إسرائيل، كما كان سائداً في خرافات الوثنية يومذاك أن لكل قوم إلهاً أو آلهة، أو كما كان سائداً في بعض العصور من أن فرعون مصر إله يعبد فيها؛ لأنه من نسل الآلهة. كما جاء في الآية الترغيب لفرعون لعله يتلقى السلام ويتبع الهدى، وعقب بعد ذلك بالترهيب بالعذاب لمن كذب وتولى [20، جـ 4، ص 2337].
وفي موضع ثالث: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 104، 105]، ومعنى حقيق أي: جدير أن لا أقول عليه إلا الحق، ولا أكذب عليه [3، جـ 2، ص 236؛ 13، جـ 3، ص 71].(/29)
ولكن فرعون استخف بموسى (عليه السلام) وذكره بما كان من حاله في صغره، كما حكى الله سبحانه وتعالى عنه قوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 18 - 22].
وبعد هذا الحوار أخذ فرعون يتجاهل رب العالمين ويستخف بدعوة موسى، كما في قوله سبحانه: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:23– 27]، من أجل أن يصرف الناس عن كلام موسى يصفه بالجنون، ولكن موسى (عليه السلام) يواصل كلامه بالتعريف بربه سبحانه: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28].(/30)
وفي موضع آخر من تعريف موسى بربه سبحانه قال تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُولِي النُّهَى} [طه:50 - 54]. في هذا التعريف يبين موسى (عليه السلام) جملةً من نعم الله سبحانه على خلقه، وكذا صفاته العلا التي استحق بها سبحانه الألوهية دون من سواه، ولكن الطاغية فرعون لم يلتفت إلى هذا كله.(/31)
ولما عجز فرعون عن مواصلة الحوار مع موسى لجأ إلى التهديد والوعيد: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] ولم يخف موسى من ذلك التهديد والوعيد، ثقة بوعد الله له بالنصر والتأييد، فلفت نظر فرعون إلى ما معه من الآيات البينات: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 30 - 33]. ومع هذه الآيات البينات لم يزدد فرعون إلا تكبراً وعناداً، وبان عجزه وضعفه، فالتفت إلى السحرة يستشيرهم في أمره، ويستعين بهم: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء: 34 - 42]، ولكن فشلت الخطة وخسر فرعون وجنوده، وكانت الطامة الكبرى على فرعون أن آمن السحرة: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:46 - 48].(/32)
عند ذلك توجه فرعون للسحرة بالكلام محاولة منه أن يثنيَهم عن إيمانهم: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 49 - 51].
ثانياً: في التوراة:
تبدأ التوراة بذكر خبر موسى مع فرعون ببيان الهدف من الرسالة، كما في النص: "وبعد ذلك دخل موسى وهارون وقالا لفرعون هكذا يقول الرب إله إسرائيل: أطلق شعبي ليعدوا لي في البرية * فقال فرعون من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل. لا أعرف الرب وإسرائيل لا أطلقه * فقالا إله العبرانيين قد التقانا. فنذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا. لئلا يصيبنا بالوبأ أو بالسيف..." (سفر الخروج، 5: 1 - 5). وفي موضع آخر: "فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون فتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر" (سفر الخروج، 3: 10).
وتذكر التوراة أن موسى (عليه السلام) قال لربه بعد أن أمره أن يذهب إلى فرعون: "هو ذا بنو إسرائيل لم يسمعوا لي فكيف يسمعني فرعون وأنا أغلف الشفتين" (سفر الخروج، 6: 12).
ويرد فرعون في بادئ الأمر بعدم إطلاق الشعب محتجاً بما هم فيه من الشغل قائلاً: "لماذا يا موسى وهارون تبطلان الشعب من أعماله؟ اذهبا إلى أثقالكما" (سفر الخروج، 5: 4).
وبعد هذا الطلب تذكر التوراة أن فرعون زاد في تسخير بني إسرائيل، فتوجه موسى إلى ربه قائلاً: "يا سيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب. لماذا أرسلتني * فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب. وأنت لم تخلص شعبك" (سفر الخروج، 5:23).(/33)
وكان تركيز التوراة في حوار موسى مع فرعون على إطلاق شعب إسرائيل وبخاصة مع سياق الآيات، فكان موسى يقول لفرعون: "الرب إله العبرانيين أرسلني إليك قائلاً أطلق شعبي ليعبدوني في البرية، وإن لم تفعل أصيبك بكذا وكذا".
وكان فرعون يتنازل أحياناً للخلاص من المصائب، فيطلب من موسى أن يدعو ربه ليكشف عنه هذه الآيات، وبعد سياق آية (الذبان) قال فرعون لموسى: "أنا أطلقكم لتذبحوا للرب إلهكم في البرية. ولكن لا تذهبوا بعيداً. صليا لأجلي" (سفر الخروج، 8: 28).
وبعد سياق آية (البرد) ذكرت التوراة ما دار بين موسى وفرعون بالنص: "فأرسل فرعون ودعا موسى وهارون وقال لهما: أخطأت هذه المرة، الرب هو البار وأنا وشعبي الأشرار * صليا إلى الرب وكفى حدوث رعود الله والبرد فأطلقكم ولا تعودوا تلبثون * فقال له موسى: عند خروجي من المدينة أبسط يدي إلى الرب فتنقطع الرعود ولا يكون البرد أيضاً لكي تعرف أن للرب الأرض * وأما أنت وعبيدك فأنا أعلم أنكم لم تخشوا بعد من الرب الإله" (سفر الخروج، 9: 27 - 31).(/34)
وبعد سياق آية (الجراد) ذكرت التوراة ما دار بين موسى وفرعون بالنص: "فرد موسى وهارون إلى فرعون. وقال لهما اذهبوا اعبدوا الرب إلهكم، ولكن من ومن هم الذين يذهبون * فقال موسى نذهب بفتياننا وشيوخنا. نذهب ببنينا وبناتنا بغنمنا وبقرنا؛ لأن لنا عيداً للرب... اذهبوا أنتم الرجال واعبدوا الرب" (سفر الخروج، 10: 8 - 11). ثم بعد ذلك اعترف فرعون بالخطأ بعد أن أصابهم الجراد، حيث قال لموسى وهارون: "أخطأت إلى الرب إلهكما وإليكما * والآن اصفحا عن خطيتي هذه المرة فقط، وصليا إلى الرب إلهكما ليرفع عني هذا الموت فقط" (سفر الخروج، 10: 16، 17). وبعد أن انكشف عنهم الجراد بدعاء موسى قال فرعون: "اذهبوا واعبدوا الرب غير أن غنمكم وبقركم تبقى. أولادكم أيضاً تذهب معكم * فقال موسى: أنت تعطي أيضاً في أيدينا ذبائح ومحرقات لنصنعها للرب إلهنا * فتذهب مواشينا أيضاً معنا. لا يبقى ظلف، لأننا منها نأخذ لعبادة الرب إلهنا... [قال فرعون لموسى]: اذهب عني، احترز، لا ترى وجهي أيضاً؛ إنك يوم ترى وجهي تموت * فقال موسى: نعماً قلت أنا لا أعود أرى وجهك أيضاً" (سفر الخروج، 10: 24 - 29).
وبعد أن أصيب فرعون وقومه بموت الأبكار ذكرت التوراة استسلام فرعون وإطلاقه لبني إسرائيل، حيث قال فرعون لموسى: "قوموا اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعاً. واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم * خذوا غنمكم أيضاً وبقركم كما تكلمتم واذهبوا، وباركوني أيضاً" (سفر الخروج، 13: 31 - 32).
من هذه النصوص نرى النازلات المتوالية من فرعون، فأول الأمر سمح لهم بعبادة الرب في الأرض دون الذهاب بعيداً، ثم بعد ذلك سمح للرجال فقط بالذهاب دون الأولاد والمواشي، ثم سمح لهم جميعاً دون المواشي، ثم أخيراً وبعد أن تكررت الضربات - حسب سياق التوراة - سمح لهم ولمواشيهم بالخروج لعبادة الرب.(/35)
كما جاء في التوراة تحديد سن موسى وهارون عند تكليمهما لفرعون، كما يدل على ذلك النص: "وكان موسى ابن ثمانين سنة وهارون ابن ثلاث وثمانين سنة حينما كلما فرعون" (سفر الخروج، 7: 7).
وتدل أيضاً على أن فرعون هو الذي طلب من موسى آية، كما في النص: "إذا كلمكما فرعون قائلاً: هاتيا عجيبة تقول لهارون خذ عصاك واطرحها أمام فرعون فتصير ثعباناً" (سفر الخروج، 7: 9).
ثالثاً: المقارنة:
يتمثل الفرق بين القرآن والتوراة في حوار موسى لفرعون بالأمور الآتية:
1 - جاء في القرآن الكريم بيان ربوبية الله سبحانه وتعالى للعالمين أجمعين، أما التوراة فقصرت ذلك على العبرانيين وآبائهم.
2 - حوار موسى لفرعون في التوراة مقصوراً على طلب إخراج بني إسرائيل من مصر، وليس فيها إشارة إلى دعوته إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله سبحانه: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:15 - 19].
3 - لم يرد في القرآن الكريم نسبة شعب بني إسرائيل إلى الله بقول: (شعبي)، أما التوراة فكانت تركز على هذا المعنى.
4 - جاء في القرآن الكريم بيان ما وصل إليه فرعون من الطغيان، وذلك بادعائه للربوبية والألوهية، وليس للمصريين فحسب، بل زعم أنه إله موسى، وهدده إذا لم يقبل ذلك بالسجن. أما التوراة فلم تدل على ذلك، وكان التركيز فيها على طغيان فرعون فيما يتعلق بالشعب الإسرائيلي.(/36)
5 - جاء في التوراة اعتراض موسى (عليه السلام) على ربه سبحانه وتعالى بالرسالة، ووصفه بأنه أساء إلى هذا الشعب، وأنه لم يخلصهم من فرعون. لذلك لم يستجب له فرعون وزاد في تسخير بني إسرائيل. وأما في القرآن الكريم، فإن الله سبحانه وتعالى قد ذكّر بني إسرائيل بصنوف النعم التي أنعم بها عليهم، ومن ذلك قوله سبحانه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47].
6 – تضمن حوار موسى (عليه السلام) لفرعون في القرآن الكريم التعريف بالله سبحانه وتعالى، وبيان ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأما في التوراة فلم يظهر في الحوار شيء من ذلك.
7 - جاء في القرآن الكريم خذلان فرعون أمام موسى (عليه السلام)؛ وذلك بإيمان السحرة الذين استعان بهم فرعون على موسى (عليه السلام)، وأما التوراة فإنها تذكر للسحرة مواقف جيدة ومقابلة لما جاء به موسى، مما كان سبباً في زيادة طغيان فرعون وعدم استجابته، كما سبق بيان ذلك في الحديث عن الآيات.
8 - لا يحتوي القرآن الكريم على معطيات خاصة بعمر موسى وهارون عندما تحدثا إلى فرعون، بينما تؤكد التوراة على عمر موسى (عليه السلام) على أنه ابن ثمانين سنة وهارون ابن ثلاثة وثمانين سنة.
نجاة موسى وقومه وهلاك فرعون وقومه
أولاً: في القرآن الكريم:(/37)
يصور القرآن نجاة موسى وهلاك فرعون بقوله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ* فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ* فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ* وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ* وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:57 - 66]. يتضح من هذا السياق أيضاً ثقة موسى من نصر ربه له وتأييده وخذلان أعدائه وذلك حين خشي قومه إدراك فرعون لهم.
وفي موضع آخر يأتي تصوير حال فرعون عند الغرق بقوله سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:90 - 92].(/38)
هكذا كان هلاك فرعون وجنوده، فإن موسى وقومه لما اكتملوا خارجين من البحر، واكتمل فرعون وقومه داخلين فيه، وهمّ أَوّلُهم بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم، فارتطم عليهم فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، فآمن حيث لا ينفعه الإيمان. ذلك أن الإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبولين. ورماه البحر على ناحية ليتحقق الناس موته ويكون لهم آية [3، جـ2، ص 431 ؛ 5، جـ 18، ص 241؛ 21، جـ 11، ص ص 270، 271].
وقد جاء في السنة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال: ((لما أغرق الله فرعون، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. فقال جبريل: يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر[12] فأدسه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة))[13]، [14].
ثانياً: في التوراة:
تذكر التوراة أن موسى وقومه خرجوا من مصر، كما يدل على ذلك النص: "وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى. طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً * وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم. فسلبوا المصريين" (سفر الخروج، 13: 35، 36). وكان هذا الأمر من موسى بناءً على أمر الرب له بذلك.(/39)
وتصف التوراة نجاة موسى وقومه وغرق فرعون وقومه بالنص: "ومد موسى يده على البحر فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة، وانشق الماء * فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم * وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم جميع خيل فرعون ومركباتهم وفرسانهم إلى وسط البحر * وكان في هزيع الصبح أن الرب أشرف على عسكر المصريين في عمود النار والسحاب وأزعج عسكر المصريين * وخلع بكر مركباتهم حتى ساقوها بثقلة. فقال المصريون نهرب من إسرائيل؛ لأن الرب يقاتل المصريين عنهم * فقال الرب لموسى: مد يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين على مركباتهم وفرسانهم * فمد موسى يده على البحر فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة والمصريون هاربون إلى لقائه. فدفع الرب المصريين في وسط البحر * فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون[15] الذي دخل وراءهم البحر. لم يبق منهم ولا واحد" (سفر الخروج، 14: 26 - 29).
ثالثاً: المقارنة:
تتمثل المقارنة بين القرآن الكريم والتوراة في نجاة موسى وقومه وهلاك فرعون وقومه بالأمور الآتية:(/40)
1 - جاء في التوراة ذكر استعداد الإسرائيليين للخروج من مصر بسلب المصريين حليهم وأمتعتهم وذلك بأمر موسى لهم بناءً على أمر الله له بذلك، كما نسبوا إلى الله قوله: "فيكون حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين * بل تطلب امرأة من جاريتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم. فتسلبون المصريين" (سفر الخروج، 3: 21، 22). وهذا النص يدل على خيانة الإسرائيليين للمصريين؛ لأن السلب في اللغة بمعنى الاختلاس. والله سبحانه وتعالى لا يأمر بالغدر والخيانة والاختلاس، وقد ورد في القرآن الكريم إشارة إلى ما كان مع المصريين من الحلي بقوله تعالى عن بني إسرائيل في جوابهم لموسى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا} [طه:87]. قال الطبري: "اختلفت القراء في قراءة (حملنا)، فقرأ عامة قراء المدينة وبعض المكيين: {حُمِّلنا} بضم الحاء وتشديد الميم بمعنى أن موسى يحملهم ذلك. وقرأته عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض المكيين: {حَمَلنا} بتخفيف الحاء والميم وفتحهما. بمعنى أنهم حملوا ذلك من غير أن يكلفهم حمله أحد. قال أبو جعفر: والقول عندي في تأويل ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى؛ لأن القوم حملوا، وأن موسى قد أمرهم بحمله، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب" [4، جـ 16، ص 199].(/41)
وذهب بعض المفسرين إلى معنى آخر، فقال القرطبي: "قيل: هو ما أخذوه من آل فرعون، لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزاراً بسبب أنها كانت آثاماً، أي: لم يحل لهم أخذها، ولم تحل لهم الغنائم، وأيضاً فالأوزار هي الأثقال في اللغة" [5، جـ11، ص 156]. وقال الشنقيطي في تفسير كلمة {أوزاراً}: "قال بعض العلماء معناها الأثقال. وقال بعضهم: معناها الآثام. ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم. ووجه الثاني أنها آثار وتبعات؛ لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب، وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي؛ ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم. والتعليل الأخير أقوى" [7، جـ 4، ص 496].
الحاصل أنه لم يرد في القرآن الكريم أمر الله ولا أمر موسى لبني إسرائيل أن يسلبوا المصريين كما جاء في التوراة.
2 - تذكر التوراة أن الرب أشرف على عسكر المصريين بعمود نار فأزعج عسكرهم، وخلع بكر مركباتهم، حتى أدرك المصريون ذلك فأرادوا الهرب، ولم يرد في القرآن شيء من ذلك، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى نصر موسى وقومه ولكن ليس كما تذكر التوراة.
3 - جاء في القرآن الكريم الإشارة إلى إيمان فرعون عند الغرق، ولكن هذا الإيمان لم ينفعه، كما في قوله سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:90،91] فلم يقبل الإيمان من فرعون لفوات وقته. وأما التوراة فلم تشر إلى شيء من ذلك.(/42)
4 – أوضح القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى نجا فرعون ببدنه ليكون لمن خلفه آية كما في قوله سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92]. وأما التوراة فلم تشر إلى شيء من ذلك.
الخاتمة
بعد استعراض دعوة موسى (عليه السلام) لفرعون في القرآن والتوراة، ابتداءً بكيفية تلقي موسى للوحي، ثم ما أيده الله به من الآيات، وكذلك حواره مع فرعون، وأخيراً نجاة موسى (عليه السلام) وقومه وهلاك فرعون وقومه، تبين مخالفة التوراة للقرآن الكريم بأمور، أهمها ما يلي:
1 - جاء في التوراة حصر ألوهية الله سبحانه وتعالى للعبرانيين وآبائهم.
2 - جاء في التوراة تسمية الله سبحانه وتعالى بأسماء غير مفهومة ولا تحمل معنى حسناً.
3 - جاء في التوراة نسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى.
4 - جاء في التوراة عدم تسليم موسى عليه السلام لربه في بعض ما يأمره به.
5 - جاء في التوراة ذكر قدرة سحرة فرعون على مقابلة موسى ببعض الآيات.
6 - جاء في التوراة وصف موسى بالألوهية لفرعون، ووصف هارون بالنبوة لموسى.
7 - جاء في التوراة تمييز بني إسرائيل بأنهم شعب الله.
8 - جاء في التوراة وصف الله سبحانه وتعالى بالإساءة إلى بني إسرائيل.
9 - جاء في التوراة أمر الله لبني إسرائيل بسلب المصريين.
10 - تذكر التوراة أن الله نزل وحارب مع الإسرائيليين.(/43)
هذه المخالفات من التوراة للقران الكريم وغيرها تدل دلالة واضحة على ما في التوراة من التحريف والتبديل الذي أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم حيث يقول: {مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:46]. فنعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التثبيت والرضوان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراجع
1 - الأعظمي، محمد ضياء الرحمن. اليهودية والمسيحية. المدينة المنورة: مكتبة الدار، 1409 هـ.
2 - ابن تيمية، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم. "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح". د. م.: مطابع المجد التجارية، د. ت.
3 - ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل. "تفسير القرآن العظيم". د. م: دار الفكر، 1400هـ/ 1980م.
4 - الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، "جامع البيان". القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، 1373 هـ.
5 - القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد. "الجامع لأحكام القرآن". بيروت: دار الكتب العلمية، 1413 هـ.
6 - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم. "لسان العرب". بيروت: دار صادر، د. ت.
7 - الشنقيطي، محمد الأمين. "أضواء البيان". الرياض: المطابع الأهلية. 1403هـ/1982م.
8 - ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن. "زاد المسير". المكتب الإسلامي.
9 - الألوسي، شهاب الدين السيد محمد. روح المعاني. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1405هـ.
10 – الشوكاني، محمد بن على. "فتح القدير". د. م: دار الفكر، د. ت.(/44)
11 - ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل. "البداية والنهاية". بيروت: مكتبة المعارف، 1402هـ.
12 - ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل. "قصص الأنبياء". تحقيق عبد المجيد طعمه حلبي. بيروت: دار المعرفة، 1420هـ.
13 - السعدي، عبد الرحمن بن ناصر. "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان". الرياض: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1410هـ.
14 - الرازي، الفخر محمد بن عمر. "التفسير الكبير". بيروت: دار الكتب العلمية، 1411 هـ.
15 - كحالة، عمر رضا. "معجم قبائل العرب"، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1412هـ.
16 - ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد. "الفصل في الملل والأهواء والنحل". بيروت: دار الجيل، 1416هـ/1996 م.
17 - فتاح، عرفان عبد الحميد. "اليهودية عرض تاريخي". عمّان: دار عمار، 1417هـ.
18 - العقاد، عباس محمود. "الله". ط5. القاهرة: دار المعارف، د. ت.
19 - شلبي، أحمد. اليهودية. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1997م.
20 - قطب، سيد. "في ظلال القرآن". بيروت: دار الشروق، 1406هـ.
21 - ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله. "عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي". د. م: دار الكتاب العربي، د. ت.
22 - الترمذي، الحافظ محمد بن عيسى بن سَوْرة، السنن. بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ت.
23 - ابن حنبل، الإمام أحمد. "المسند". تحقيق أحمد شاكر. القاهرة: دار المعارف، 1368هـ.
24 - الألباني، محمد ناصر الدين. "صحيح سنن الترمذي"، بيروت: المكتب الإسلامي، 1408هـ.
25 - السيد صالح، سعد الدين. "العقيدة اليهودية وخطرها على الإنسانية". عين شمس: دار التابعين، 1416 هـ.
ــــــــــــــــــــــــ(/45)
[1] ما يمسى بـ"الكتاب المقدس" ينقسم إلى قسمين، القسم الأول يسمى العهد القديم، والقسم الثاني يسمى العهد الجديد، والعهد القديم هو القسم الخاص باليهود ويتكون من 39 سفراً، على خلاف بينهم في عدد الأسفار، والأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم تسمى التوراة، أو أسفار موسى، أو الناموس (1، ص 101).
[2] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأما التوراة، فمن المعلوم عند المسلمين واليهود والنصارى أن بيت المقدس خرب الخراب الأول، وخلا أهله منه وسبوا، ولم يكن هناك من التوراة نسخ كثيرة ظاهرة، بل إنما أخذت عن نفر قليل كما يقولون: إن عزيراً أملاها، وإنهم وجدوا نسخة أخرى فقابلوها بها. والمقابلة تحصل باثنين، وقد يغلط أحدهما [6، جـ 2، ص ص 18، 19].
[3] قال ابن الجوزي: وللمفسرين في معنى طوى ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم للوادي، والثاني: طإ الوادي، والثالث: أنه قدس مرتين [8، جـ 5، ص ص 274، 275].
[4] لا يعني ذلك عموم رسالته، فعموم الرسالة خاص بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
[5] عن وهب بن منبه قال: شجرة من العليق وبعض أهل الكتاب يقول: إنها من العوسج، وقال قتادة: هي من العوسج، وعصاه من العوسج [3، جـ 3، ص 389]
[6] كان مسكن الكنعانيين من بحيرة طبريا إلى البحر الأبيض من الغرب، وكانت حكومتهم من أقوى الحكومات في أرض فلسطين عند دخول بني إسرائيل فيها [1، ص 18؛ 15، جـ 3، ص 1001].
[7] من الشعوب الهند وأوروبية القديمة، كانت مملكتهم من شمال سوريا إلى البحر المتوسط إلى جبال لبنان [1، ص 18].
[8] الأموريون نزحوا في القرن الثلاثين قبل الميلاد من جنوب غربي آسيا واستولوا على بابل. كما استولوا على أجزاء من سوريا وفلسطين، وقبل خروج بني إسرائيل من مصر افتتحوا ما وراء الأردن من نهر أرنون في الجنوب إلى جبل جرمان في الشمال [1، ص 18].(/46)
[9] (أهيه الذي أهيه ) فسرها الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح بـ(أنا من أنا)، وهذا المعنى لا يتناسب مع سياق الكلام؛ لأنه قال بعد ذلك: أهيه أرسلني إليكم. فدل على أن (أهيه ) اسم (17، ص31).
[10] قال الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح: (يهوه) هو اسم الإله القومي لإسرائيل، إله الآباء الأول: إبراهيم وبنيه، ونسبةً إليه جاءت التسمية باليهودية [17، ص 22].
[11] و(تلقف) لها معنى أبلغ من هذا، وهو أنها تبتلع بسرعة [6، جـ 9، ص 321].
[12] أي: طينه الأسود.
[13] أي: خشية أن يقول: لا إله إلا الله. فتناله رحمة الله.
[14] أخرجه الترمذي في سننه، وقال: هذا حديث حسن [22، جـ 5، ص 287]. والإمام أحمد في المسند، حديث رقم 2821. والحديث صححه أحمد شاكر في تحقيقه لمسند الإمام أحمد [23، جـ 4، ص 295] والألباني في صحيح سنن الترمذي [24، جـ 3، ص 61].
[15] هناك خلاف بين المؤرخين حول شخصية فرعون الذي غرق في البحر، هل هو رمسيس، أو منفتاح، أو تحتمس الثالث. ورجح أحمد شلبي أنه منفتاح [25، ص 62 ؛ 19، ص 73].(/47)
العنوان: دعوى الإلهام والحجية في أسفار العهد الجديد
رقم المقالة: 856
صاحب المقالة: د. ناجي محمد داود سلامة
-----------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
لا شك أن المهمة الأساسية للإنسان في حياته الدنيا هي: إحقاق الحق، والتمسك به، وإبطال الباطل والتنكب عنه. وأول هذه المهمة هو عبادة الله وحده لا شريك له، وتصديق رسله، وقبول رسالاته، دون تبديل ولا تغيير ولا تزييف، والعمل بما جاءت به.
ولقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى، أن تكون هذه الرسالات متدرجة فيما تدعو إليه من هداية وتوجيه، إلى أن انتهت إلى الرسالة الخاتمة: رسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى الخلق أجمعين، عامة شاملة إلى يوم الدين. إلا أن أقواماً، وهم اليهود والنصارى، بدلوا وغيروا وزيفوا في نصوص كتبهم وفقاً لما أملته عليهم أهواؤهم، فجحدوا الحق، وأعلنوا الباطل، وظلوا ينافحون ويجادلون ليؤكدوا أن أسفار العهد القديم، وأسفار العهد الجديد، - كما وضعوها - هي الوحي المنزل لهم بواسطة موسى وعيسى عليهما السلام؛ منكرين نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته إلى الناس أجمعين، ومشركين بوحدانية الله سبحانه وتعالى.
و ما الجهود التي تبذلها حركات التنصير المعاصرة إلا مواصلة لما بدأه الأقدمون من الأحبار والرهبان، لطمس الحقيقة وتزييفها وتبديلها تنكبا عن كلمة الحق وإعلاء لكلمة الباطل.(/1)
ولقد بذل المؤمنون قديماً وحديثاً، جهوداً علمية مخلصة لكشف هذه الأباطيل والترهات، وإبطال حج أصحابها والمروجين لها، مبرزين تناقضاتهم، وملفتين النظر إلى تهافتاتهم وضلالاتهم. ومن هذه الجهود، هذه الدراسة التي يسعد مركز البحوث التربوية بكلية التربية – جامعة الملك سعود- أني قدمها للنشر، تحت عنوان "دعوى الإلهام والحجية في أسفار العهد الجديد ومدى صدقها "للباحث الدكتور ناجي محمد داود سلامة، وهي لا شك دراسة هامة تدعم موقف الرد على دعاوى النصارى في وصف أسفار العهد الجديد بصفة الإلهام والوحي من عند الله، وتعضد السعي إلى إبطال حججهم في ذلك، وتساهم في رفع كلمة الحق، وإخذال كلمة الباطل، خدمة لأجيال المؤمنين، ممن يسعون إلى معرفة الحق، ويرغبون في التمسك به.
نسأل الله أن ينفع بهذه الدراسة، وأن يجزي الباحث عن قصده وجهده خير الجزاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،،،،
مدير مركز البحوث التربوية
د. محمد بن عبد الرحمن الديحان
ملخص البحث
مجال البحث: الدراسات الإسلامية.
الباحث: ناجي محمد داود سلامه.
عنوان البحث: دعوى الإلهام والحجية في أسفار العهد الجديد ومدى صدقها.
أهداف البحث:
التعريف المجمل بكتب النصارى.
الكشف عن بطلان دعوى النصارى فيما يتعلق بكتب العهد الجديد.
موضوع البحث:
مناقشة دعوى يطلقها النصارى من أن كتب العهد الجديد مكتوبة بإلهام (بوحي) وبالتالي فهي حجة تلزم الناس بما جاء فيها.
وهذا البحث يكشف بأدلة واضحة بطلان هذه الدعوى، وأنها دعوى داحضة ليس لها من الحجة والبرهان أي نصيب. ومن هذه الأدلة:
أن الشك قائم في صحة نسبة هذه الكتب إلى مؤلفيها باعتراف علمائهم أنفسهم.
وأن كتبهم مملوءة بالاختلافات والأغلاط، وهذا ينقض دعوى الإلهام (الوحي) فيها.
كما أن النسخ الأصلية لكتبهم مفقودة ولهذا أثر بالغ في الثقة بحجية هذه الكتب.(/2)
ثم إن عدم تحقق الأخبار الغيبية الواردة في كتبهم يدل بوضوح على عدم الإلهام (الوحي) فيها.
كما أن التشابه الكبير بن عقائد النصارى الأساسية، وبين عقائد الأمم الوثنية السابقة فيه دلالة واضحة على مدى استقاء النصارى عقائدهم من تلك الأمم.
المقدمة:
ما من شك أن الصراع بين الحق والباطل قديم، ولكل أنصار وأتباع.
وأصحاب الحق يمتازون بسهولة العقائد وعمقها ووضوحها؛ حيث إنها مدعمة بحجج وبراهين دامغة، خلافًا لأنصار الباطل ودعاته؛ حيث إن عقائدهم باطلة، وحججهم داحضة، كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء.
ولما كان دعاة التنصير – في عصرنا الذي نعيش – جدوا واجتهدوا في نشر ديانتهم بوسائل وأساليب مختلفة – حتى في ديار أهل الإسلام – زاعمين أن كتابهم المقدس – الذي تقوم دعوتهم على أساسه ويستشهدون به على مخالفيهم – وقد كتب بإلهام "بوحي"، وما دام كذلك فبِه تقوم الحجة على الناس.
لذلك: رأيت أن أسهم ببحث متواضع في الكشف عن بطلان هذه الدعوى – كما فعل سلفنا من علماء الإسلام الأفاضل عبر العصور – متوخياً الاختصار غير المخل؛ ليتمكن القارئ من معرفة الحق بأقصر طريق دونما كلل أو ملل.
فجعلت تمهيداً بين يدي البحث: وهو التعريف بكتبهم الموجودة بين أيديهم الآن. ثم عرضت عقيدتهم في كتابهم المقدس من خلال أقوال علمائهم.
ثم شرعت – بعد ذلك – بإيراد الأدلة على بطلان دعوى لإلهام في العهد الجديد.
التمهيد:
التعريف[1] المجمل بكتبهم الموجودة بين أيديهم:
يقسم النصارى[2] كتبهم المقدسة إلى قسمين:
العهد القديم، والعهد الجديد[3]. ويطلقون على كلا العهدين، الكتاب المقدس.
أولاً: التعريف بالعهد القديم
ويقصدون به تلك الأسفار (الكتب) التي يزعمون أنها وصلت إليهم بإلهام من زمن موسى – عليه السلام – إلى قبيل زمن المسيح – عليه السلام-.
واختلف أهل الكتاب في عدد أسفاره:(/3)
فجمهور اليهود، ومعهم البروتستنت من النصارى يرون أن العهد القديم يشتمل على تسعة وثلاثين سفراً.
والكاثوليك، يزيدون على ذلك سبعة أسفار أخرى؛ إذ يرون أن العهد القديم يشتمل على ستة وأربعين سفراً. وهذه الأسفار السبعة الزائدة لا يعتبرها البروتستنت مقدسة، وبالتالي فهي غير واجبة التسليم عندهم.
ويرى السامرية من اليهود أن العهد القديم يشتمل على سبعة أسفار فقط – وهي غير الأسفار المتبعة التي أضافها الكاثوليك -.
ويرى أهل الكتاب أن التوراة: جزء أساسي من العهد القديم.
وأن التوراة لفظ عبري معناه: التعليم والشريعة.
ولفظ التوراة إذا أطلق: ينصرف إلى أسفار موسى الخمسة (الناموس) وهي:
سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر الأحبار (اللاويين)، وسفر العدد، وسفر التثنية، وهم ينسبون تأليف هذه الأسفار الخمسة إلى موسى – عليه السلام – وأحياناً – ومن باب التوسع في اللفظ – يطلق لفظ التوراة على كافة[4] أسفار العهد القديم.
والسامرية من اليهود يؤمنون بأسفار موسى الخمسة (الناموس) إضافة إلى سفري يشوع بن نون، والقضاة.
ويقع الزبور[5] ضمن أسفار العهد القديم التي يؤمن بها أهل الكتاب عدا السامرية، ويسمونه سفر المزامير.
ثانياً: العهد الجديد
المقصود به كما يرى النصارى: تلك الأسفار التي يزعمون أنها وصلت إليهم بإلهام الروح القدس[6]، بواسطة تلامذة المسيح – عليه السلام - وغيرهم.[7]
ويشتمل هذا العهد على سبعة وعشرين سفراً، منها الأناجيل الأربعة، وهي جزء أساسي من هذا العهد.
والإنجيل لفظ يوناني معرب معناه: البشرى السارة، أو الخبر الطيب.
وينصرف لفظ الإنجيل إذا أطلق: إلى الأناجيل الأربعة وهي:
إنجيل متى – إنجيل مرقس – إنجيل لوقا – إنجيل يوحنا.
وأحياناً – ومن باب التوسع في اللفظ – يطلق لفظ الإنجيل على كل أسفار العهد الجديد[8].
دعوى النصارى حول الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد[9]:(/4)
يرى النصارى أن الكتاب المقدس واجب التسليم، وأن ما اشتمل عليه من عقائد وأخبار.. يجب تصديقها والإيمان بها؛ والسبب في ذلك إيمانهم بأن هذا الكتاب قد كتب بإلهام[10] الروح القدس لأولئك الأشخاص الذين قاموا بكتابته وتدوينه.
لذا نجدهم يحتجون على من خالفهم – وبخاصة المسلمين – بكتب العهدين: القديم والجديد.
ومع ما قيل في الكتاب المقدس من كلام كثير مدعم بالأدلة على عدم الإلهام فيه وبالتالي عدم حجيته إلا أنهم لا يلتفتون إلى تلك الأدلة ولا يعطونها الوزن الذي تستحقه.
فالكاثوليك والأرثوذكس يتمسكون بشدة بعقيدة الإلهام. وأن العهدين القديم والجديد قد كتبا بإلهام من الروح القدس.
كما أن طائفة المحافظين من البروتستنت تشاركهم هذا الرأي.
يقول تيموني دير مبيناً عقيدة الأرثوذكس: إن الكتاب المقدس هو التعبير عن وحي الله لإنسان، وأن على المسيحيين أن يكونوا دائماً أهل كتاب...[11].
وفي قاموس الكتاب المقدس ما يؤكد هذه العقيدة عند النصارى فقد جاء فيه:
فالوحي يعني: أن الله هو مصدر الكتاب المقدس، وأن أشخاص الكتاب المقدس لم يتكلموا باسمهم الشخصي... وهذا يعني أن الروح القدس أوحى لكتاب الأسفار المقدسة ما كتبوا وأرشدهم فيما كتبوا[12].
وجاء فيه أيضاً أن الكتاب المقدس: "مجموع الكتب الموحاة من الله والمتعلقة بخلق العالم وفقدانه وتقديسه، وتاريخ معاملة الله لشعبه، ومجموع النبوات عما سيكون حتى المنتهى، والنصائح الدينية والأدبية التي تناسب جميع بنى البشر في كل الأزمنة.. ومع أن الأسفار التي يتألف منها الكتاب تختلف من جهة وقت كتابتها، وأسلوب الكتابة نفسه، فإنها لا تخرج عن كونها نظاماً واحداً مؤسساً على وحي واحد رغم التنوعات التي لابد منها في الأحوال المختلفة التي كتب فيها الكتاب.. والكتاب أصل الإيمان المسيحي ومصدره وهو خالٍ من الأخطاء والزلل[13].(/5)
كما جاء فيه: ولما كتب الآباء والأنباء والرسل أسفار الكتاب المقدس كانوا مسوقين من الروح القدس، والذي أرشدهم فيما كتبوا، وحفظهم من الخطأ، وفتح بصائرهم ليكتبوا عن أمور مستقبلية[14].
فمن خلال هذه النصوص يتبين أنهم يعدون الكتاب المقدس بعهديه قد كتب بوحي من الله تعالى، وأنه خال من الأخطاء والزلل، وهذا يعني أنه حجة ويجب التسليم بكل ما جاء فيه.
الأدلة على بطلان الحجية والإلهام في العهد الجديد:
إن أي كتاب سماوي حتى يكون حجة لابد أن يصل إلى الناس بسند متصل، فيه تثبت صحة نسبة الكتاب إلى من نسب إليه.
ومن المعلوم أن النصارى يزعمون أن الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد كتبه أشخاص ملهمون، وبالتالي فهو حجة واجب التسليم.
والسؤالان المطروحان هما: هل كتب العهد الجديد هي من تأليف من نسبت إليهم ثم هل كتبها أصحابها بوحي من الله – عز وجلَّ؟
هذان السؤالان يمكن معرفة الجواب عنهما من خلال هذا البحث إن شاء الله – تعالى.
إن المتأمل في كتب العهد الجديد يرى أدلة متعددة تنقض دعوى الإلهام والحجية فيها. ومن هذه الأدلة:
أولاً: الشك في صحة نسبة هذه الكتب إلى مؤلفيها.
يبدأ العهد الجديد بالأناجيل الأربعة وهي – كما مر – جزء أساسي منه. وأول هذه الأناجيل حسب الترتيب المتداول: إنجيل متَّى.
ينسب النصارى هذا الإنجيل إلى متَّى تلميذ المسيح – عليه السلام – وكان هذا التلميذ يعمل جابيا للضرائب – وهي وظيفة محتقرة عند اليهود - وبينما كان المسيح – عليه السلام – يسير مرَّ بمتَّى فدعاه إلى اتباعه والإيمان به ففعل، ولبَّى الدعوة على الفور[15].
من هو مؤلف الإنجيل:
بدأ الشك قديماً في كون متى صاحب المسيح – عليه السلام – هو الكاتب للإنجيل. فقد قال أحد علماء فرقة ماني كيز[16] في القرن الرابع: "إن الإنجيل المنسوب إلى متى ليس من تصنيفه"[17].(/6)
ولم يقتصر هذا الشك على هذا العالم المبتدع في نظر النصارى، بل شاركه علماء آخرون أتوا بعده – وهم أصحاب علم في نظر النصارى أنفسهم.
يقول موريس بوكاي حول شخصية متى: "ولنقل جملة واحدة: إنه لم يعد مقبولاً الآن بأن يقال: إنه أحد أصحاب عيسى – عليه السلام –"[18]
ويقول السيد ج.ب فيليبس أستاذ علم اللاهوت بالكنيسة الإنجيلية عن هذا الإنجيل ومؤلفه: "نسب التراث القديم هذه البشارة إلى الحواري متى، ولكن معظم علماء اليوم يرفضون هذا الرأي، فالكاتب الذي ندعوه اليوم متى، ندعوه بذلك الاسم من أجل الراحة واختصار الوقت[19]. لقد اعتمد الكاتب على مصادر غامضة التي ربما كانت مجموعة من التراث الشفهي"[20].
فهذا العالم يرى: أن علماء اليوم يرفضون نسبة هذا الإنجيل إلى متى الحواري.
وجاء في الموسوعة البريطانية: "إن إنجيل متى كتب من أجل كنيسة يهودية مسيحية في محيط يهودي قوي، ولكن كون متى هو مؤلف الإنجيل أمر مشكوك فيه بجد"[21].
وجاء في المدخل إلى الأناجيل المتشابهة في ترجمة العهد الجديد للكاثوليك: "... أما المؤلف لإنجيل متى، فالإنجيل لا يذكر عنه شيئاً، ولما كنا لا نعرف اسم المؤلف معرفة دقيقة، يحسن بنا أن نكتفي ببعض الملامح المرسومة في الإنجيل نفسه[22].
ومن يقرأ بعض ما جاء في هذا الإنجيل يرى: أن متى لم ينصف هذا الإنجيل، فقد جاء فيه: "وفيما يسوع مجتاز من هناك رأى إنساناً جالساً عند مكان الجباية اسمه متى. فقال له: اتبعني. فقام وتبعه"[23].
ويعلق جون فنتون في تفسيره لهذا الإنجيل على هذا النص بقوله: "لقد ذكر المؤلف نفسه في هذه الفقرة، أو بالأحرى فإنه يصف دعوة شخص يدعى متى على الرغم من أن ربط شخصيته كمؤلف بهذا التلميذ إنما هي محض خيال[24].(/7)
وكما يعلق الشيخ أحمد ديدات على هذا النص بقوله: "لا يحتاج المرء ذكاءً خارقاً ليستنتج أن الضمائر هذه لا تعني أن يسوع أو متى هما المؤلفان لهذه الرواية، بل هو شخص ثالث كان يسجل الوقائع من الشائعات[25].
وكان صاحب كتاب إظهار الحق قد أكد هذه الحقيقة من قبل ونفى أن يكون متى الحواري هو مؤلف هذا الإنجيل المتداول معللاً رأيه بأنه: لو كان متى الحواري هو المؤلف، وهو الذي سمع الكثير من أقوال المسيح – عليه السلام – ورأى الكثير من أفعاله، لعبر عن نفسه في هذا الإنجيل بصيغة المتكلم كما جرت العادة بذلك سلفاً وخلفاً، ولظهر من كلامه في موضع من المواضع أنه يكتب الأحوال التي رآها[26].
ثم إن من العلماء من يؤكد أن إنجيل مرقس هو مصدر أساس لإنجيل متى[27]، فالسيد ج.ب فيليبسن – وهو أستاذ علم اللاهوت بالكنيسة الإنجيلية – يقول: "لقد استغل متى بشارة مرقس استغلالاً كبيراً..."[28]
ويعلق الشيخ ديدات على النص بقوله: "ألا تتساءلون: كيف يقوم شاهد عيان – مثل متى وهو أحد حواري المسيح – عليه السلام – بسرقة معلومات رآها بعينه – كما يدعون – من كتابات مرقس الذي كان لا يزال في العاشرة من عمره حين كان عيسى – عليه السلام – يدعو بني إسرائيل! إن الحواري متى لم يفعل هذه الحماقات، فهذه أكاذيب ألصقها به أشخاص مجهولون مدعين أنه هو الذي كتبها"[29].
وخلاصة القول: إن كون هذا الإنجيل الموجود الآن هو من تصنيف متى الحواري صاحب المسيح – عليه السلام – أمر مشكوك فيه، وبخاصة عند العلماء المحققين في هذا الزمان.
إنجيل مرقس:
ينسب النصارى هذا الإنجيل إلى مرقس. واسمه يوحنا، ومرقس لقب له، ويرى علماؤهم القدامى أنه هو المترجم لبطرس كبير الحواريين، وأنه تلميذ له. ويقولون: إن مرقس رافق برنابا وبولس في أثناء عملهم الدعوي.
ويرون أنه كتب إنجيله في روما للمسيحيين الرومانيين. وأنه أول من بشر بإنجيله في الإسكندرية، ومات فيها[30].(/8)
هذا ما عليه عامة النصارى، لكن ابن البطريق – المؤرخ النصراني – يقول: "في عهد نيرون قيصر كتب بطرس رئيس الحواريين إنجيل مرقس في مدينة رومية، ونسبه إلى مرقس"[31].
والحقيقة أن هذا القول مثير للعجب؛ إذ كيف برئيس الحواريين يكتب إنجيلاً، ثم ينسبه إلى شخص ليس بتلميذ!!
ثم تجد أن ايرينوس أحد آباء الكنيسة الأولين يذكر– على ما جاء في قاموس الكتاب المقدس – أن مرقس كتب البشارة التي تحمل اسمه بعد أن نادى بطرس وبولس بالإنجيل في روما، وبعد خروجهما منها، سلم مرقس كتابة مضمون ما نادى به بطرس[32].
ويلاحظ أن ما قاله ايرينوس يخالف ما قاله مؤرخ النصرانية ابن البطريق. ثم نجد نينهام[33] أستاذ اللاهوت بجامعة لندن في كتابه تفسير إنجيل مرقس يشكك في شخصية مرقس المنسوب إليه هذا الإنجيل بقوله: "لم يوجد أحد بهذا الاسم عرف أنه كان على صلة وثيقة، وعلاقة خاصة بيسوع، أو كانت له شهرة خاصة في الكنيسة الأولى... ومن غير المؤكد صحة القول المأثور الذي يحدد مرقس كاتب الإنجيل بأنه يوحنا مرقس المذكور في أعمال الرسل صح 12: 12، 25... أو أنه مرقس المذكور في رسالة بطرس الأولى صح 5: 13... أو أنه مرقس لمذكور في رسائل بولس: كولوسي صح 4: 10، وتيموثاوس الرسالة الثانية صح 4: 11 والرسالة إلى فليمون صح 24. لقد كان من عادة الكنيسة الأولى أن تفترض أن جميع الأحداث التي ترتبط باسم فرد ورد ذكره في العهد الجديد، إنما ترجع جميعها إلى شخص واحد له هذا الاسم، ولكن عندما نتذكر أن اسم مرقس كان أكثر الأسماء اللاتينية شيوعاً في الإمبراطورية الرومانية... فعندئذ تتحقق من مقدار الشك في تحديد الشخصية في هذه الحالة[34].
فهذا الكلام فيه تشكيك كبير في كون مرقس المذكور اسمه في العهد الجديد هو نفسه المؤلف للإنجيل المتداول.
والموسوعة البريطانية تشكك في ذلك أيضاً، فقد جاء فيها:(/9)
"بالرغم من أن مؤلف إنجيل مرقس غير معروف على الأرجح، فإن قيمة هذا الكتاب وسلطته مستمدة تقليدياً من علاقة مؤلفه المفترضة بالحواري بطرس"[35].
وخلاصة القول: إن هناك شكاً في كون مرقس هو محرر الإنجيل المتداول، وأنه ليس هناك من الأدلة ما يثبت من قلمه.
إنجيل لوقا:
ينسب النصارى هذا الإنجيل إلى أممي اسمه لوقا، كما ينسبون إليه أيضاً سفر أعمال الرسل.
يقولون إنه ولد في أنطاكية، ودرس الطلب واشتغل به.
ويرون أنه صاحب بولس في رحلاته الدعوية، وأن بولس أشار إلى ذلك؛ لذا فهو تلميذ له[36].
والدكتور بوست – وهو أحد العلماء المعتبرين عندهم – يخالف رأي الكثيرين الذين يرون أنه مولود في أنطاكية. ويرى أنه روماني نشأ بإيطاليا، ويعلل مخالفته؛ بأن بعضهم ظن ذلك؛ لخلطه بين لوقا وشخص آخر اسمه: بلوكيوس.
ثم إن مهنة لوقا محل اختلاف أيضاً، حيث يرى بعضهم: أنه كان مصوراً، وليس طبيباً[37]. ثم إن اختلافاً حصل أيضا في تاريخ تدوين هذا الإنجيل فقال بعضهم: دوِّن سنة60م[38] وجزم المحققون أنه دوِّن ما بين 80 – 90م[39].
ومقدمة الإنجيل تخبر أن مؤلفه أرسله إلى شخص يدعى "ثاوفيلس"، والاختلاف امتد إلى شخصية المرسل إليه أيضاً فمن قائل: إنه كان مصرياً، ومن قائل، إنه شخص عظيم من عظماء اليونان، فإذا تحددت شخصية المرسل إليه يتحدد بالتالي: إلى أي الأقوام كتب المؤلف بشارته[40].
ثم إن من علماء اليوم من يشكك في صحة نسبة هذا الإنجيل إلى لوقا الذي ذكره بولس في رسائله. يقول د. جورج كيد[41] في كتابه "تفسير إنجيل لوقا": ".... على أنه من النادر ذكر لوقا كشخصية بارزة في سجلات التاريخ للقرن الأول من المسيحية[42].
وفي هذا الكلام إشارة إلى أن لوقا ليس هو محرر الإنجيل المتداول؛ إذ لو كان كذلك لشاع ذكره في القرن الأول الميلادي.(/10)
وها هو كاتب الموسوعة البريطانية أيضاً يؤكد جهالة مؤلف الإنجيل بقوله: "باختصار إن مؤلف هذا الإنجيل يظل مجهولاً"[43]. وهذا يعني: أنه ليس لوقا المذكور في رسائل بولس.
والخلاصة: أن الاختلاف في هذا الإنجيل ومحرره كبير، فقد اختلف في: مهنة الكاتب، وفي أصله، ولمن كتب، وفي تاريخ تدوين الإنجيل. والأهم من ذلك كله: أن الكاتب لم يعرف على وجه اليقين، أهو الذي أشار إليه بولس في رسائله أم لا[44]؟. وهذا كله يقدح في حجية هذا الكتاب ولا شك.
إنجيل يوحنا:
ينسب النصارى هذا الإنجيل بن زبدي الحواري تلميذ المسيح – عليه السلام – ويعدونه من أقرب المقربين إليه. كما ينسبون إليه أربعة أسفار أخرى من العهد الجديد عدا الإنجيل المعنْوَن باسمه.
ويصرح علماؤهم بأن غاية يوحنا من تأليف هذا الإنجيل إثبات ألوهية المسيح – عليه السلام – والرد على المنكرين.
يرون أنه توفى بافسس سنة 98م، وقيل بعد ذلك[45].
والذي يلاحظ أن الفرق شاسع وكبير بين هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى، حتى عبر أحد شراح الأناجيل عن ذلك بقوله: "إنه عالم آخر"[46].
الشك كبير في نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري:
يقول موريس بوكاي: "تؤكد الترجمة المسكونية للتوراة أن أغلبية الناقدين لا تتبنى فكرة التحرير من الرسول يوحنا..."[47].
ويقول جون مارش في مقدمته لتفسير إنجيل يوحنا تحت عنوان "استحالة التوكيد": حين تأتي لمناقشة المشاكل الهامة والمعقدة التي بالإنجيل الرابع ومؤلفه نجد أنه من المناسب والمفيد أن نعترف مقدماً بأنه لا توجد مشكلة للتعريف بالإنجيل وكاتبه يمكن إيجاد حل مؤكد لها... ثم يختم مقدمته بقوله:
وبعد أن نفرغ كل ما جعبتنا، نجد أنه من الصعب- إن لم يكن من المستحيل- تحقيق أي شيء أكثر من الاحتمال حول مشاكل إنجيل يوحنا"[48].(/11)
أما دائرة المعارف البريطانية ففيها الجزم، والقطع بأن هذا الإنجيل ليس من تأليف يوحنا بن زبدي الحواري، فقد جاء فيها: "أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور أراد صاحبه مضادة اثنين من الحواريين بعضهما ببعض، وهما القديسان: يوحنا ومتى. وقد ادعى هذا الكاتب المزور في متن الكتاب أنه هو الحواري الذي يحبه المسيح، فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاتها، وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري ووضعت اسمه على الكتاب نصاً، مع أن صاحبه غير يوحنا يقيناً. ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين من نسبت إليه. وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا ولو بأوهى رابطة، ذلك الرجل الفلسفي الذي ألف هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا، فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى"[49].
ويلاحظ في هذا الكلام الجزم والقطع بأن هذا الإنجيل مزور، ولا علاقة للحواري يوحنا به.
وأن المؤلف لهذا الإنجيل له غرض غير نزيه عندما زعم أنه الحواري الذي يحبه المسيح – عليه السلام.
ثم إن الكنيسة لم تدقق في الأمر عندما نسبت هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري. كما أن مؤلف هذا الإنجيل له نظرات فلسفية بعيدة كل البعد عن أصحاب المسيح – عليه السلام.
وأن كل جهد يبذل لإيجاد علاقة بين يوحنا الحواري وهذا الإنجيل سوف يضيع سدى، وبالتالي يستحق صاحبه الشفقة لسيره على غير هدى.
ومؤلفو دائرة المعارف الفرنسية المشهورة باسم لاروس القرن العشرين ذكروا أنه: "ينسب ليوحنا هذا الإنجيل.. ولكن البحوث الحديثة في مسائل الأديان لا تسلم بصحة هذه النسبة[50].(/12)
يتضح مما سبق أن هذا الإنجيل المنسوب إلى يوحنا ليس من قلمه، وأن هذا الإنجيل لا حجة فيه على أحد؛ لجهالة مصنفه، فكيف إذا عُلم أن النصارى يحتجون كثيراً بنصوص هذا الإنجيل على ألوهية المسيح – عليه السلام-؟! ثم ليعلم أن الشك في نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا قديم؛ ففرقة الوجين التي كانت في القرن الثاني كانت تنكر هذا الإنجيل وجميع ما نسب إلى يوحنا[51].
سفر أعمال الرسل:
ينسب النصارى هذا السفر إلى لوقا تلميذ بولس، وصاحب الإنجيل الثالث ويعللون رأيهم؛ بأن هذا السفر يبدأ بالقول: "الكلام الأول أنشأته يا ثاوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله.. "فهو موجه إلى شخص يدعي ثاوفيلس، وكذلك الإنجيل الثالث موجه إلى الشخص نفسه.
وقول الكاتب "الكلام الأول الذي أنشأته..." فيه إشارة إلى الإنجيل الثالث، وإن خلا سفر الأعمال من ذكر اسم المؤلف.
ثم إنهم يقولون: التشابه واضح بين السفرين من حيث اللغة، فكلاهما مكتوب باللغة اليونانية، كما أن هناك تشابهاً واضحاً في الأسلوب والموضوع، ثم إن ثقافة المؤلف العالية تبدو واحدة في السفرين.
ويبرز سفر الأعمال الحديث عن بطرس، وما ظهر على يديه من عجائب. كما يبرز على وجه الخصوص أعمال بولس. وإن كان في السفر أيضا إشارة إلى أعمال غيرهما[52].
ولكن هل لوقا المذكور في رسائل بولس هو صاحب السفرين بحق؟
لقد مضى القول في صاحب الإنجيل الثالث، وكيف أن علماءهم اختلفوا في أصله، ومنته، وفي شخصية ثاوفيلس الذي وجه إليه الكاتب هذين السفرين.
إن هناك من يشكك في صحة نسبة سفر الأعمال إلى لوقا تلميذ بولس. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن هناك من يشكك في كون صاحب الإنجيل الثالث هو عينه مؤلف سفر الأعمال.(/13)
فالموسوعة البريطانية تشير إلى اختلاف في وجهات النظر بين كاتب سفر الأعمال وبين رسائل بولس، وتمثل لذلك بالتضارب بين الإصحاح الخامس عشر من كتاب أعمال الرسل، وبين الإصحاح الثاني من رسالة بولس إلى أهل غلاطية، حيث يفهم من سفر " الأعمال: أن الرسل[53] كانوا متفقين على إسقاط الختان عن المهتدين الجدد. بينما يفهم من رسالة بولس: أنهم كانوا مختلفين حول هذه المسألة[54].
قلت: وهذا الاختلاف وإن دل على انتفاء الإلهام، إلا أنه يجعل القارئ يتساءل: إذا كان لوقا صاحب سفر الأعمال هو تلميذ بولس المصاحب له، فكيف تخفي عليه هذه المسألة ويناقض فيها رأي أستاذه؟!
وينقل صاحب كتاب اختلافات في تراجم الكتاب المقدس عن علمائهم ما نصه: "إن وجود الأجزاء بصيغة (نحن) يوحي بأن المؤلف كان منتميا إلى بيئة بولس فيكون لوقا المرشح الممكن الوحيد. ولكن هناك أموراً لابد من النظر فيها: فالتوافق بين سفر أعمال الرسل وأفكار بولس في رسائله يبقى على أقل تقدير غير أكيد في شؤونٍ بعضها مهم.... و لكن هل يستنتج من ذلك أنه لا يمكن أن يكون مؤلف الإنجيل الثالث وسفر الأعمال رفيقا لبولس، وأن اقتراح اسم لوقا مستبعد تماما؟! أقل ما يقال: إن هذا الأمر قابل للبحث[55]. والعلماء الأمريكان والألمان يرون أن مؤلف الإنجيل الثالث وسفر الأعمال شخصان مختلفان؛ ذلك لمخالفة سفر الأعمال رسائل بولس في نقاط كثيرة.
وهذا يعني – في نظرهم – أنه من غير المعقول أن يسطر هذا السفر شخص له معرفة مباشرة ببولس ورحلاته[56].
كما أن وجود اختلاف في الخبر الواحد بين إنجيل لوقا وبين سفر الأعمال ليؤكد أن هذين السفرين من تصنيف شخصين مختلفين[57].(/14)
وجملة القول: إن كون سفر الأعمال من تصنيف لوقا الذي ذكره بولس في رسائله أمر مشكوك فيه، وإلا لما قال علماؤهم: "أقل ما يقال: إن هذا الأمر قابل للبحث". ولما خالف مؤلف سفر الأعمال رسائل بولس في نقاط كثيرة. ثم إن سفر الأعمال والإنجيل الثالث من عمل شخصين مختلفين وإلا لما اختلفا في حكاية الخبر الواحد.
حال بعض الرسائل في العهد الجديد:
العهد الجديد المتداول يشتمل على سبعة وعشرين سفرًا منها ما يعرف بالأسفار التاريخية وهي: الأناجيل الأربعة، وسفر أعمال الرسل، وقد سبق التعريف بهذه الأسفار الخمسة.
ومنها ما يعرف بالأسفار التعليمية وهي اثنتان وعشرون رسالة، منها: أربع عشرة رسالة لبولس، ورسالتان لبطرس، وثلاث رسائل ليوحنا، ورسالة ليعقوب، ورسالة ليهوذا، ورؤيا يوحنا "مشاهدات يوحنا".
هذه الرسائل لم تكن جميعها محل اتفاق بين علماء النصارى القدامى، حيث إن بعض هذه الرسائل مشكوك في صحة نسبتها إلى أصحابها. وهذه الرسائل هي:
1- رسالة بولس إلى العبرانيين.
2- الرسالة الثالثة لبطرس
3- الرسالة الثانية ليوحنا
4- الرسالة الثالثة ليوحنا
5- رسالة يعقوب
6- رسالة يهوذا
7- مشاهدات يوحنا (سفر الرؤيا).
ولما عقد أكبر مجمع لهم عام 325م في نيقية وإذا به لم يعترف بهذه الرسائل ولم يعتبرها مقدسة.
ثم جاء بعد ذلك مجمع آخر عام 364م وأقر بوجوب تسليم هذه الرسائل، عدا سفر مشاهدات يوحنا، فلم يعتبره ضمن الكتب المقدسة.
ثم عقد مجمع ثالث عام 397م فأدخل سفر مشاهدات يوحنا ضمن الأسفار القانونية المعتمدة[58].
قال د. بلسن من علماء البروتستنت: "والكنائس السريانية ما سلموا أن الرسالة الثانية لبطرس، والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا، ورسالة يهوا، وكتاب المشاهدات، واجبة التسليم، وكذا حال كنائس العرب"[59].
فيعلم من هذا القول: أن الكنائس السريانية، وكنائس العرب لا تسلم بصحة هذه الرسائل إلى الآن مخطئين رأي علمائهم في المجمعين الأخيرين.(/15)
أما رسالة يوحنا الأولى فلنقرأ ما جاء في قاموس الكتاب المقدس بشأنها: "أما الرسالة الأولى هي أطول الرسائل الثلاث فهي خالية من التحية... والتشابه الذي بينها وبين البشارة الرابعة (إنجيل يوحنا) يدعو إلى الاعتقاد أن مؤلفها هو شخص واحد ولكن على الرغم من هذا التشابه فهناك تباين أساسي حتى ليرجح البعض أن كاتبها كان تلميذاً ليوحنا الرسول..."[60].
فانظر إلى هذا القول المضطرب من كون الرسالة تتشابه مع الإنجيل الرابع، ثم إن بينه وبينها تبايناً أساسياً جعل بعضهم يرجح أنها من قلم تلمذ ليوحنا، مع أنها معنونة باسم يوحنا الحواري.
القول في رسائل بولس:
نقل صاحب إظهار الحق عن يوسي بيس في الباب الخامس والعشرين من الكتاب السادس من تاريخه قوله: قال أريجن – في المجلد الخامس من شرح إنجيل يوحنا -: إن بولس ما كتب شيئا إلى جميع الكنائس، والذي كتبه إلى بعضها فسطران، أو أربعة سطور".
ويعلق صاحب إظهار الحق على هذا الكلام بقوله: "فعلى قول أريجن فإن الرسائل المنسوبة إلى بولس ليست من تصنيفه، بل هي جعلية نسبت إليه، ولعل مقدار سطرين أو أربعة سطور يوجد في بعضها من كلام بولس أيضًا"[61].
ومعلوم أنه ينسب إلى بولس وحده من أسفار العهد الجديد أربع عشرة رسالة.
بعد هذا العرض يتبين للقارئ حال العهد الجديد بأسفاره التاريخية والتعليمية، وكيف أن الشك قائم في صحة نسبة تلك الأسفار إلى مؤلفيها، إذ السند المتصل لتلك الأسفار مفقود. ألا ترى كيف أن بعض أسفارهم رفضها أكابر علمائهم القدامى، ثم إذا بمن يأتي بعدهم يخطئهم في رفضها، ويمنح تلك الأسفار القدسية والحجية!!
إن أسفاراً هذا حالها لا يمكن أن تقوم بها حجة على أحد، ولا تلزم أحداً بما فيها.(/16)
وأخيراً لنختم الحديث عن هذه الأسفار ببعض الأقوال المتعلقة بهذه الأسفار بشكل عام ليتأكد القارئ المصنف أن بمثل هذه الأسفار المنقطعة السند إلى مؤلفيها لا تقوم الحجة؛ وبخاصة لاشتمال هذه الأسفار على عقائد ذات أهمية بالغة.
يقول الشيخ رحمت الله الهندي:".... ولذلك طلبنا مراراً من علمائهم الفحول السند المتصل فما قدروا عليه. واعتذر بعض القسيسين في محفل المناظرة التي كانت بيني وبينهم فقال: إن سب فقدان السند عندنا وقوع المصائب والفتن على النصارى إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة[62].
قال لاردنز في المجلد الخامس من تفسيره: "حكم على الأناجيل المقدسة لأجل جهالة مصنفيها بأنها ليست حسنة بأمر السلطان أناسطيثوس... فصححت مرة أخرى".
ويعلق صاحب إظهار الحق على هذا القول بما نصه: "لو كانت هذه الأناجيل إلهامية، وثبت عند القدماء في عهد السلطان المذكور بالإسناد الجيد أنها من تصنيفات الحواريين وتابعيهم، فلا معنى لجهالة المصنفين وتصحيحها مرة أخرى. فثبت أنها كانت إلى ذلك العهد غير ثابت إسنادها، وما كانوا يعتقدون أنها إلهامية، فصححوا على قدر الإمكان أغلاطها وتناقضاتها... وثبت أنها غير ثابتة الإسناد والحمد لله"[63].(/17)
ويقول صاحب كتاب ديانات العالم: "بالإضافة إلى رسائل بولس يتكون العهد الجديد من الأناجيل الأربعة التي تنسب إلى أربعة من الرسل، وإن كانت هذه الأناجيل في الحقيقة ليست من إنتاج هؤلاء الرسل"[64]. يقول فاستس – وهو من أعظم علماء فرقة ماني كيز[65] في القرن الرابع – ما نصه: "أنا أنكر الأشياء التي ألحقها في العهد الجديد آباؤكم بالمكر، وعيبوا صورته الحسنة وأفضليته؛ لأن هذا الأمر محقق: أن العهد الجديد ما ألفه المسيح ولا الحواريون، بل صنفه رجل مجهول الاسم، ونسبه إلى الحواريين؛ خوفا عن أن لا يعتبر تحريره، ظانيين أنه غير واقف على الحالات التي كتبها، وأذى المريدين للمسيح إيذاء بليغاً بأن ألف الكتب التي توجد فيها الأغلاط والتناقضات"[66].
وكان سلسوس من علماء الوثنيين يصيح في القرن الثاني: "إن النصارى بدلوا أناجيلهم ثلاث أو أربع مرت أو أزيد من هذا تبديلاً كأن مضامينها أيضاً بدلت"[67].
قال هورن: "الحالات التي وصلت إلينا في باب زمان تأليف الأناجيل من قدماء مؤرخي الكنيسة أبتر،وغير معينة، ولا توصلنا إلى أمر معين. والمشايخ القدماء الأولون صدقوا الروايات الواهية وكتبوها، وقبل الذين جاؤوا بعدهم مكتوبهم تعظيماً لهم. وهذه الروايات الصادقة والكاذبة وصلت إلينا من كاتب إلى كاتب آخر وتعذر تنقيحها بعد انقضاء المدة[68]"
والذي يجب ألا يغيب عن البال أن كتب العهد الجدي المعتمدة عند النصارى اليوم لم تكن وحدها في الساحة في الزمان السابق، بل اختيرت من كتب كثيرة وجدت في ذلك الزمان، وقد ذكر العلماء هذه الكتب على النحو التالي:
سبعة كتب منسوبة إلى المسيح – عليه السلام.
وثمانية كتب منسوبة إلى مريم – عليها السلام.
وأحد عشر كتاباً لطبرس الحواري.
وتسعة كتب ليوحنا الحواري.
وكتابان نسبا إلى متى الحواري.
وكتابان نسبا إلى فيلبس لحواري.
وإنجيل منسوب إلى برتولماوس الحواري.
وخمسة كتب تنسب إلى توما الحواري.(/18)
وثلاثة كتب إلى يعقوب الحواري.
وثلاثة كتب إلى متياس الحواري.
وثلاثة كتب تنسب إلى مرقس.
وكتابان منسوبان إلى برنابا.
وإنجيل منسوب إلى تهيودوشن.
وخمسة عشر كتاباً إلى بولس[69].
والمؤسف أن الكنيسة لم تقدم إلى الآن البرهان المقنع على السبب الذي من أجله رفضت تلك الكتب، وتم إخفاؤها عن أعين الباحثين، إذ الكثير منها غير موجود الآن، وإن كانت موجودة حتى نهاية القرن الرابع على ما يراه الأب بولمار[70].
ثالثاً: الاختلافات والأغلاط بين العهد القديم والجديد
من المعلوم أن كلا العهدين في نظر النصارى قد كتبا بإلهام، وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن لا يحصل اختلاف في أخبارهما في المسألة الواحدة؛ إذ لو حصل فإن ذلك يدل على عدم الإلهام.
ومن الأمثلة على الاختلاف في كتب العهدين:
* الاختلاف في سلسلة نسب (يوسف) متبني المسيح – عليه السلام – بين العهد القديم وبين إنجلي متى ولوقا:
* فنجد أن لوقا يذكر قبل إبراهيم – عليه السلام – عشرين اسماً، بينما لا يذكر لعهد القديم سوى تسعة عشر اسماً فقط[71].
* ومن ذلك ما جاء في رسالة يوحنا الأولى[72]: "وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الأب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً".
وجاء في سفر الأمثال[73]: "الشرير فدية الصديق، ومكان المستقيمين الغادر".
فيفهم من النص الأول: أن المسيح البار هو الكفارة، ويفهم من النص الثاني: أن الأشرار يكونون كفارة لخطايا الأبرار[74].
* ومن ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا على لسان المسيح: "وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء. ابن الإنسان الذي هو في السماء"[75].
وهذا غلط؛ لأن أخنوخ وإيليا رفعا وصعدا[76] حسب ما جاء في كتبهم المعتمدة.
جاء في سفر التكوين: "فكانت كل أيام أخنوخ ثلاثمائة وخمساً وستين سنة، وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه[77].(/19)
جاء في قاموس الكتاب المقدس: "وقد فسر كاتب الرسالة إلى العبرانيين (بولس) هذا القول – لأن الله أخذه – بأن الله نقله لكي لا يرى الموت"[78].
ومن المعلوم أن هذه الرسالة من الأسفار المقدسة عند النصارى. وهذا يعني أن أخنوخ رفع إلى السماء.
وكذلك رفع إيليا (إلياس) حيث جاء في سفر الملوك الثاني: "وفيما هما يسيران ويتكلمان (اليشع وإيليا) إذا مركبة من نار، وخيل من نار ففصلت بينهما، فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء"[79].
والأمثلة على مخالفة العهد الجديد للعهد القديم كثيرة أكتفي بهذا القدر منها، مع أن العهدين قد كتبا بإلهام في نظر النصارى.
رابعاً: فقدان النسخ الأصلية لكتبهم المقدسة، وتباين المخطوطات المتأخرة.
يعترف علماؤهم بأن النسخ الأصلية لكتب العهد الجديد مفقودة، وما الموجود الآن إلا نسخ عن تلك الأصول.
ومن المناسب أن يكون بداية لحديث عن إنجيل متى؛ إذ هو أول كتاب من كتب العهد الجديد حسب الترتيب المتداول.
يرى جمهور العلماء من النصارى أن إنجيل متى كتب بالعبرية، ثم ترجم إلى اليونانية.
وبعضهم يرى أنه كتب باليونانية ابتداء.
جاء في قاموس الكتاب المقدس: "واختلف القول بخصوص لغة هذا الإنجيل الأصلية، فذهب بعضهم: إلى أنه كتب أولاً بالعبرانية أو الآرامية التي كانت لغة فلسطين في تلك الأيام.
وذهب آخرون: إلى أن كتب باليونانية كما هو الآن.
أما الرأي الأول: فمستند إلى شهادة الكنيسة القديمة، فإن آباء الكنيسة قالوا: إنه ترجم إلى اليونانية، ويستشهدون بهذه الترجمة. فإذا سلمنا بهذا الرأي التزمنا[80]: بأن نسلم بان متى نفسه ترجم إنجيله أو أمر بترجمته[81].
والذي يفهم من هذا الكلام: أن الإنجيل الموجود هو باللسان اليوناني لا العبراني. وأن القدماء من آباء الكنيسة يرون أن متى ألف إنجيله بالعبرية ثم ترجم إلى اليونانية.(/20)
والشيخ رحمت الله الهندي ينقل عن حشد من علمائه القدامى أن متى دون إنجيله بالعبرية، وأن النص اليوناني ما هو إلا ترجمة للنص العبري[82].
من هو المترجم؟
يرى بعضهم أن متى هو المترجم من العبري إلى اليوناني[83]. لكن هذا الأمر ليس مجزوماً به على وجه اليقين.
ويرى بعضهم كابن البطريق النصراني: أن يوحنا – صاحب الإنجيل الرابع – هو المترجم[84].
وينقل صاحب إظهار الحق عن لاردنز قوله: "كتب بي بيس أن متى كتب إنجيله بالعبرانية، وترجمه كل أحد على قدر لياقته". ثم علق الشيخ رحمت الله الهندي على هذا القول: "ترجمه كل أحد على قدر لياقته" بقوله: هذا يدل على أن أناسا كثيرين ترجموا هذا الإنجيل، فما لم يثبت بالسند الكامل أن هذا الموجود ترجمة فلان، وأنه كان ذا إلهام، فكيف تعد ترجمته من الكتب الإلهامية؟![85]
أما كون متى هو الذي ترجمه فيعترف جيروم من علمائهم أن هذا الأمر لم يتحقق ولم يتأكد، كما أنه لم يحقق من معرفة من هو المترجم[86].
ومن المعلوم أن فقدان الأصل المترجم عنه، وكذلك عدم معرفة من هو المترجم يقدح في الحجية ولا شك. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "لقد وددنا أن نعرف ذلك الأصل، لنعرف أكانت الترجمة طبق الأصل أم فيها انحراف؟
ولنعرف أفهم المترجم مرامي العبارات ومعانيها سواء أكانت هذه المعاني تفهم بظاهر القول أو بإشارته، أم بلحن القول وتلويحاته، أم بروح المؤلف وغرضه ومرماه الكلي من الكلام، ولكن عزَّ علينا العلم بالأصل. ولقد كنا نتعزى عن ذلك لو عرفنا المتر جم، وأنه ثبت ثقة أمين في النقل، عالم لا يتزيد عن العلماء، فقيه في المسيحية حجة فيها، عارف للغتين فاهم لها مجيد في التعبير بهما، فعندئذ نقول: ثقة روى عن ثقة بترجمة، ونسد الخلة بتلك الرواية، ونرأب الثلم بتلك النظرة ولكن قد امتنع هذا أيضاً"[87].(/21)
يعلم مما سبق أن أنجيل متى كتب بالعبرية على ما عليه جمهورهم، وان النص اليوناني الموجود الآن ما هو إلا ترجمة، وأن المترجم لم يعرف على وجيه اليقين. إضافة إلى ذلك يمكن القول:
إن النسخ الأصلية لبقية كتب العهد الجديد مفقودة، وما الموجود الآن إلا النسخ عن تلك الأصول. جاء في قاموس الكتاب المقدس تحت عنوان نص الكتاب المقدس: "...... إلا أنه لم يصل إلينا بعد شيء من النسخ الأصلية التي كتبها هؤلاء الملهمون أو كتابيهم، وكل ما وصل إلينا هو نسخ مأخوذة عن ذلك الأصل"[88].
ومعلوم أن الكتاب المقدس عند النصارى يشتمل على العهدين القديم والجديد.
ويقول كاتب الموسوعة البريطانية: "إن جميع النسخ الأصلية للعهد الجديد التي كتبت بأيدي مؤلفيها الأصليين قد اختفت"[89].
ثم إن أقدم نسختين كاملتين للعهد الجديد[90] مكتوبتان باللغة اليونانية، وترجعان إلى القرن الرابع الميلادي وهما: النسخة السينائية وقد عثر عليها في سيناء، والنسخة الفاتيكانية وهي موجودة الآن في الفاتيكان[91].
ثم إن هذه النسخ متفاوتة فيما بينها، وفيها فوارق متفاوتة الأهمية وعددها من حيث الكثرة يلفت النظر كما يقول علماؤهم[92].
يقول كاتب الموسوعة البريطانية "... إن مقتبسات أباء الكنيسة من كتب العهد الجديد والتي تغطية كله تقريباً تظهر أكثر من مائة وخمسين آلفاً من الاختلافات بين النصوص"[93].
بل إن نسخة الفاتيكان وهي غاية في الأهمية – في نظرهم – قد تعرضت للتصحيح والتنقيح[94].
هذا وقد شعر بمشكلة اختلاف النسخ جيروم – من علماء القرن الرابع – حيث قال: "إني لما أردت ترجمة العهد الجديد قابلت النسخة التي كانت عندي فوجدت اختلافاً عظيماً"[95]
وهذه الاختلافات ليست مقتصرة على المخطوطات المختلفة للعهد الجديد بشكل عام، بل هي قائمة حتى بين النسخ المتعددة للكتاب الواحد.(/22)
يقول نينهام[96] في كتابة تفسير إنجيل مرقس: " سوق يتحقق القرآن من أن الإنجيل (أي إنجيل مرقس) قد كتب أولاً باليد، واستمرت هذه الطريقة اليدوية تستخدم لقرون طويلة في إنتاج نسخ منه... ومن بين مئات المخطوطات لإنجيل مرقس والتي عاشت إلى الآن، فإننا لا نجد أي نسختين تتفقان تماماً"[97].
كما أن إنجيل لوقا يعاني من الاختلافات الكثيرة بين النسختين المتعددة على ما يصرح به علماؤهم[98].
لذلك – وبسب فقدان النسخ الأصلية – يقر علماؤهم بوجود إضافات ألحقت بكتبهم المقدسة، بدليل أن النسخ القديمة لتلك الكتب قد خلت منها.
فالأعداد من 9-10 من الإصحاح السادس عشر من إنجيل مرقس كلام مضاف لا يوجد في المخطوطات القديمة[99]. مع أن هذه العداد تضمن عقائد في غاية الأهمية، حيث تحكي ظهور المسيح – عليه السلام – لتلاميذه بعد القيامة من الموت، ومطالبتهم لهم بنشر تعاليم الإنجيل في العالم اجمع، وأن من آمن ينجو، ومن لم يؤمن يدان، كما تخبر عن فعله لبعض المعجزات، وأخيراً تحكي هذه الأعداد صعوده إلى السماء، وجلوسه عن يمين الله – تعالى-.
والعدد الثالث عشر من الإصحاح السادس من إنجيل متى كلام أضيف إلى الدعاء الذي علمه المسيح- عليه السلام- لتلاميذه، ليقولوه في صلاتهم، ونص العدد المضاف: "لأن لك الملك والقوة والمجد آمين". وفرقة الروم والكاثوليك تجزم بإضافة هذه العبارة. وكذلك لا توجد هذه العبارة في الترجمة اللاتينية.
كما رد هذه الإضافة بعض محققي فرقة البروتستنت[100].
وكذلك الإصحاح الحادي والعشرون من إنجيل يوحنا عمل مضاف على ما رجحه بعض علمائهم[101].(/23)
وكثير من علمائهم يقطعون بإضافة العدد الثالث والخمسين من الإصحاح السابع من إنجيل يوحنا وكذلك العدد الأول إلى الحادي عشر من الإصحاح الثامن من الإنجيل نفسه[102]، حيث إن أحدث طبعات الإنجيل حذفت منها هذه الأعداد، وبدأ الفصل الثامن بالعدد الثاني عشر، ومع أن هذه الطبعة تعتبر عن رأي أثنين وثلاثين عالماً من أساتذة النصرانية[103].
ومما حكم بإضافته ما جاء في الرسالة الأولى ليوحنا[104] فقد جاء فيها: " إن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الأب والكلمة والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد".
لكن المحققين من علمائهم جزموا أن العبارة على النحو التالي: " لآن الشهود الذين يشهدون ثلاثة وهم: الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد"[105].
ومما يؤكد هذه الإضافة أن العبارة في ترجمة العهد الجديد للكاثوليك هي" والذين يشهدون ثلاثة 7 الروح والماء والدم. وهؤلاء الثلاثة متفقون 8".
ثم تذكر الترجمة في الحاشية تعليقاً على العدد 7 ما نصه: "في بعض الأصول: الأب والكلمة الروح والقدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد". لم يرد في الأصول اليونانية المعول عليها، والأرجح: أنه شرح أدخل إلى المتن في بعض النسخ[106]. والذي يلفت النظر في هذه الإضافة بالذات هي أنها تعطي الشهادة الصريحة على وجود عقيدة التثليث في كتبهم، تلك العقيدة التي يجمع النصارى على الإيمان بها.
كذلك فإن من علمائهم من شكك في صحة النص المتضمن لعقيدة التثليث، والمنسوب إلى المسيح- عليه السلام – والموجود في خاتمة إنجيل متى، والنص كما في الإنجيل المتداول والذي يحكي قول المسيح لتلاميذه: "أذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم: الأب والابن والروح القدس"[107].
والسبب في الشك كما يرى صاحب كتاب تاريخ العقيدة د. أدولف هرنك[108].(/24)
يعود إلى الأتي: " لم يرد ألا في الأطوار المتأخرة من التعاليم المسيحية من يتكلم عن المسيح وهو يلقى مواعظ، ويعطي تعليمات بعد أن أقيم من الأموات وأن بولس لا يعلم شيئاً عن هذا.
ثم إن صيغة التثليث هذه هي التي تتكلم عن الأب والابن والروح القدس، غريب ذكرها على لسان المسيح ولم يكن لها نفوذ في عصر الرسل، وهو الشيء الذي كانت تبقى جديرة به لو صدرت عن المسيح شخصياً[109].
هذا وقد حمل علماؤهم النساخ لأسفارهم المقدسة هذه الأخطاء الكثيرة من زيادات وإضافات واختلافات في النسخ المتعددة لتلك الأسفار، حيث أعترف هؤلاء العلماء بأن من النساخ من غلط عن قصد، ومنهم من وقع في الخطأ عن غير قصد[110].
يتبين من خلال ما سبق كم كان الأثر عظيماً من جراء فقدان النسخ الأصلية، إذ ما كانت مثل تلك الاختلافات والإضافات في نسخ العهد الجديد توجد ولو كانت النسخ الأصلية موجودة.
ووجود مثل هذه الاختلافات والإضافات في نسخ العهد الجديد بعامة، وفي النسخ المتعددة للكتاب الواحد، ليدل على أن الأيدي المجهولة قد لعبت دوراً في تلك الكتب، ونسبت إلى مصنفي تلك الأسفار ما لم تخطه أقلامهم، فأي حجية- بعد ذلك- تبقى لمثل هذه الكتب بعد اعتراف المحققين المقدسين لها- من علمائهم- بوجود الاختلافات والإضافات فيها.
خامساً: عدم تحقق الأخبار الغيبية الواردة في كتبهم
أي أن كتاب سماوي سطره صاحبه بوحي وإلهام يجب أن يكون كل ما فيه حق وصدق. فإذا تضمن هذا الكتاب أخباراً عن المستقبل، فالمفروض أن تتحقق، وإلا فإن صفة الإلزام تكون منتقية حينئذ. وفي كتب العهد الجديد من الأخبار التي لم تحقق الشيء الكثير. ومن النماذج على ذلك:(/25)
- أن نهاية العالم ستكون في القرن الأول الميلادي، وأن النظام الكوني سيختل ويضطرب، وأن عودة المسيح- عليه السلام- ثانية، ليدين الناس سيكون قبيل إتمام تلاميذه التبشير في مدن إسرائيل، وان الجيل المعاصر للمسيح سيشاهد عودته على ما صرحت به كتبهم.
جاء في إنجيل متى: "لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب هكذا يكون أيضاً مجيء ابن الإنسان.... للوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه، والنجوم تسقط من السماء، وقوات السموات تتزعزع. وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة عظيمة ومجد كثير..... فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه... الحق أقول لكم: لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله. السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول"[111].
وفي إنجيل متى أيضاً: " أن المسيح أوصى تلاميذه قائلاً: إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامرين لا تدخلوا. بل اذهبوا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. وفيما أنتم ذاهبين أكرزوا قائلين: إنه قد أقترب ملكوت السماوات. أشفوا مرضى. طهروا برصاً. أقيموا موتى. أخرجوا شياطين... ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فاخرجوا خارجاً من ذلك البيت أو تلك المدينة، وانفضوا غبار أرجلكم..... وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي... ومتى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى. فإني الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان"[112].
كما جاء فيه أيضاً على لسان المسيح: " فإن أبن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله. والحق أقول لكم: إن من القيام ها هنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته[113].وهل هو القرن العشرين على وشك الانتهاء، ولم يعد المسيح – عليه السلام- ثانية ليدين الناس ويحاسبهم!!(/26)
- ومن ذلك: أن تلاميذ المسيح الاثني عشر سيصحبونه في العالم الأخر، لأنهم آمنوا به واتبعوه وتركوا الدنيا وزخرفها، لأجل دعوته. ومن المعلوم أن الذين وجه إليهم الخطاب تلاميذه الاثني عشر، وكان من ضمنهم التلميذ الخائن الذي دل اليهود على مكان المسيح- عليه السلام- وبالتالي أستحق الهلاك وعدم مرافقة المسيح في العالم الآخر، وهذا يعني: أن هذه النبوءة لن تتحقق بسبب خيانة التلميذ يهوذا الأسخريوطي.
جاء في إنجيل متى[114]: فقال يسوع لتلاميذه: "الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت الله.... فأجاب بطرس حينئذ وقال: ها نحن تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا؟ فقال لهم يسوع إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً تدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ويلاحظ أن لوقا حذف اثني عشر ولعل ذلك يرجع كما يقول فنتون[115]: إلى أنه كان يفكر في يهوذا الاسخريوطي[116]. والنص كما جاء في إنجيل لوقا: "أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً. لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر"[117].
ومن ذلك: أن المسيح- عليه السلام- سيجلس على كرسي داود. ومن المعلوم أنه ما جلس قط، بل كان مضطهداً حتى صلب ومات- على زعمهم[118].
جاء في إنجيل لوقا: أن جبرائيل الملك جاء مريم العذراء وبشرها بقوله: " ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسميه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على... بيت يعقوب إلى الأبد"[119].
- ومن ذلك أيضاً: ما جاء في الأناجيل أن المسيح يدفن في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. وهذه النبوءة لم تتحقق، إذ لم يمكث في باطن الأرض- على ما صرحت به كتبهم- سوى يوم واحد وليلتين[120].(/27)
جاء في إنجيل متى: "حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسييين قائلين: يا معلم! نريد آية. فأجاب وقال: جيل شرير وفاسق يطلب آية. ولا يعطي له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال"[121].
ويفهم من إنجيل مرقس[122] أن المصلوب مات بسرعة، وأنزل عن الصليب مساء الجمعة وهو ذلك اليوم الذي صلب فيه، ثم دفن.
ويفهم من إنجيل متى[123] وإنجيل يوحنا[124] إنه عند فجر أول الأسبوع (الأحد) لم يكن الميت في القبر، بل قام من الأموات.
وهكذا فإن عدم تحقق الأخبار الغيبية في الكتب التي يزعم أهلها بقدسيتها يطعن بحجية تلك الكتب، وكونها كتبت بإلهام.
سادساً: الاختلاف والتضارب في كتب العهد الجديد
ما من شك في أن الاختلاف والتضارب في الكتب المقدسة يبطل الحجة والإلهام فيها، لذا لا يمكن أن تكون مثل هذه الكتب بوحي من الله- تعالى- ألا ترى أن البشر وهم يخطون بنات أفكارهم في كتبهم التي يؤلفون يحرصون كل الحرص على أن لا يقعوا في التناقض والاختلاف، لأنه ينم عن عمل غير دقيق، فكيف بكتب يدعى أصحابها أن ما فيها وحي من الله- تعالى-.
والمتأمل لكتب العهد الجديد يجد فيها من الاختلاف والتضارب الشيء الكثير، ومن الأمثلة على ذلك:
1- الاختلاف في نسب يوسف [125] مربي المسيح- عليه السلام-:
مما لا شك فيه أن المسيح- عليه السلام- ولد على غير عادة البشر إلا أن إنجيل متى في بداية الإصحاح الأول منه يطالعنا بما يلي: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود... إبراهيم ولد إسحق. اسحق ولد يعقوب... ومتان ولد يعقوب، ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح وعلى هذا فالنسب هو نسب يوسف رجل مريم، ولكن النصارى يجعلون هذا النسب للمسيح- عليه السلام-.(/28)
ومن يطالع الإصحاح الثالث من إنجيل لوقا- حيث ذكر هو النسب أيضاً ليقارن بين النسبين يجد اختلافاً بيناً وواضحاً:
- فيعلم من إنجيل متى: أن يوسف ابن يعقوب، ومن إنجيل لوقا: أنه ابن هالي.
- ويعلم من إنجيل متى: أن عيسى من أولاد سليمان بن داود، ومن إنجيل لوقا: أنه من أولاد ناثان بن داود.
- وعلم من إنجيل متى: أن جميع آباء المسيح من داود جلاء بابل سلاطين مشهورون. ومن إنجيل لوقا: أنهم ليسوا بسلاطين ولا مشهورين غير داود وناثان.
- ويعلم من إنجيل متى: إن شألتئيل هو ابن يكُنيا. ومن إنجيل لوقا أنه ابن نيري.
- ويعلم من إنجيل متى: إن أسم زر بابل: أبيهود. ومن إنجيل لوقا: أن أسمه ريسا.
- ويعلم من إنجيل متى: أن من داود إلى المسيح- عليهما السلام- ستة وعشرون جيلاً. خلافاً لما سطره لوقا حيث ذكر واحداً وأربعين جيلاً[126].
وهذا الاختلاف في النسب بين إنجيلين كتبا بإلهام- على زعمهم- يدل على أمرين:
1- أن إنجيل متى لم يكن مشهوراً في عهد لوقا، وإلا فكيف يخالفه هذه المخالفة؟! ولا مناص من هذا إلا القول كان يعرفه واطلع على مقولة النسب فيه، وخالفه عن بينه منه، لأنه لم يصدقه، وبناء على ذلك لا يكون لوقا معترفاً بأن متى كتب إنجيله بإلهام وإلا لما خالفه مع علمه[127].
2- أن أحد الإنجيلين لم يكن بإلهام يقيناً، ولما كان الصادق منهما غير متعين فالشك يرد على الاثنين حتى يثبت الصحيح[128].
2- عدد من شفي بالعمى على يد المسيح- عليه السلام-:
جاء في إنجيل متى[129]: أن المسيح- عليه السلام- لما خرج من أريحا وجد أعميين طلبا منه أن يزيل ما بهما من عمي، فلمس أعينهما فأبصرا على الفور.
بينما جاء في إنجيل مرقس[130]: أن أعمى واحداً قد نال الشفاء على يد المسيح- عليه السلام- عند خروجه من أريحا[131].
3- هل كان يحي أبن زكريا يأكل ويشرب؟
جاء في إنجيل متى[132]: ".... لأنه جاء يوحنا لا يأكل ويشرب فيقولون: هو ذا أكول وشريب خمر".(/29)
بينما جاء في إنجيل مرقس [133]: " وكان يوحنا يلبس وبر الإبل، ومنطقة من جلد على حقوية، ويأكل جراداً وعسلاً برياً".
ففهم من إنجيل متى: أنه كان لا يأكل ولا يشرب، وفهم من إنجيل مرقس أنه كان يأكل[134].
4- خبر اللصين.
جاء في إنجيل متى: "....... وبذلك أيضاً كان اللصان معه يعيرانه".[135] أي عند صلب المسيح- عليه السلام- على زعمهم.
بينما يفهم من إنجيل لوقا[136]: "أن واحداً منهما هو الذي عير المسيح- عليه السلام-، وأن الآخر لم يفعل، بل أنتهر صاحبه، وطالب من المسيح- عليه السلام- أن يذكره إذا جاء في ملكوته، وأن المسيح- عليه السلام- قال له: إنك تكون معي في الفردوس"[137].
5- كيفية التعرف على المسيح- عليه السلام-
جاء في إنجيل متى[138]: والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلاً: الذي أقبله هو هو أمسكوه. فللوقت تقدم إلى يسوع وقال: السلام عليك يا سيدي وقبله".
بينما جاء في إنجيل يوحنا[139]: فأخذ يهوذا الجند من عند رؤساء الكهنة، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع، فقال لهم: أنا هو. وكان يهوذا مسلمه واقفاً معهم... ثم إن المسيح كرر عليهم الكلام نفسه ثانية...".
فيفهم من إنجيل متى: أن علامة التعرف عليه التقبيل من تلميذه الخائن يهوذا. ويفهم من إنجيل يوحنا: أن المسيح هو الذي عرف بنفسه ولم يحدث التقبيل[140].
6- خلو القبر من المصلوب
يعلم من إنجيل متى[141]: "أن مريم المجدلية ومعها امرأة أخرى جاءتا لتنظر القبر، وإذا بملاك يطلب إليهما الذهاب إلى تلاميذ المسيح لإخبارهم بأنه قام من الأموات، وأنه سيسبقهم إلى الجليل، وأنهم سيرونه هناك، وبينما هما ذاهبتان لإخبار التلاميذ، إذ بالمسيح يراهما، ويطرح السلام عليهما. فأمسكتا بقدميه وسجدتا له.
ثم أمرهما بإخبار التلاميذ أن الملتقى في الجليل.(/30)
بينما يعلم من إنجيل يوحنا[142]: "أن مريم وحدها جاءت إلى القبر، ولما رأت الحجر مرفوعاً عن القبر ركضت إلى بطرس وإلى تلميذ آخر (يوحنا) وأخبرتهما أن السيد أخذ من القبر، وأنهما أتيا القبر وتأكدا من صحة الخبر ثم ذهبا. أما مريم فبقيت عند القبر تبكي، ثم انحنت نحو القبر فرأت ملكين حيث كان الجسد موضوعاً، فقالت للملكين: إنهما اخذوا سيدي ولا أدري أين هو. ثم التفتت إلى الوراء فرأت المسيح، ولكنها ظننته البستاني، وطلبت منه أن يخبرها عن موضع الجسد، فإذا به يناديها باسمها، فعرفته عندئذ، ثم طلب منها الذهاب إلى التلاميذ وإخبارهم بأنه سيصعد إلى الله تعالى.
والمتأمل يرى أن الاختلاف واضح بين الروايتين:
فرواية متى: تدل على إن مريم كان معها أمرأة أخرى.
بينما رواية يوحنا: تدل على إنها كانت وحدها.
وفي رواية متى: أن الملاك ثم المسيح - بعد أن التفتا به وعرفتاه - طلب كل منهما من مريم وصاحبتها الذهاب لإخبار التلاميذ.
بينما رواية يوحنا: أن مريم لما وجدت القبر خالياً أخبرت بطرس ويوحنا، وبعد ذهابهما بقيت عند القبر تبكي، ثم رأت الملكين فلم يأمراها بشيء، وإذ بالمسيح خلفها ولم تعرفه لأول وهلة. فلما عرفته أمرها هو بالذهاب لإخبار التلاميذ بأنه سيصعد إلى ربه سبحانه[143].
فهذه نماذج من الاختلافات والتضاربات في كتب العهد الجديد، مما يدل بوضوح على عدم الإلهام فيها.
بل إن إنجيل يوحنا باعتراف علمائهم يختلف كثيراً عن الأناجيل الثلاثة الأخرى مما جعل دائرة المعارف الأمريكية تنص على انه: "إذا صحت الأناجيل الثلاثة بطل إنجيل يوحنا"[144].
ومن المعلوم أن هذا الإنجيل في نظر النصارى من أهم الأناجيل، لأنهم يظنون أن مؤلفه هو يوحنا الحواري. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لأنهم فهموا من بعض نصوصه ألوهية المسيح- عليه السلام[145].(/31)
من خلال ما تقدم يظهر للمتأمل أن كتب العهد الجديد ما كتبت بإلهام وإلا لما تضمنت التضاربات والاختلافات فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين كتب العهد القديم من جهة أخرى. ثم لو كتبت بإلهام لتحققت الأخبار الغيبية الواردة فيها، فعدم تحققها ينفي دعوى الإلهام فيها.
والذي يجب ألا يغيب عن البال أن بعض من ننسب إليه بعض هذه الكتب - على فرض صحة النسبة – أمثال مرقس ولوقا ملهمين. جاء في قاموس الكتاب المقدس: "... كتب بابيوس مستنداً من يوحنا الشيخ لهذه العبارة التي أقتبسها يوسيبيوس في تاريخه الكنسي: "هذا أيضاً ما قاله الشيخ: أن مرقس كان مفسراً لبطرس ومترجماً لآرائه، سجل جميع الأشياء التي ذكرها من أقوال المسيح أعماله، لأنه لم يسمع الرب، ولا كان من أتباعه، ولكنه أتبع بطرس فيما بعد كما ذكرت أنفاً"[146].
فقوله: سجل جميع الأشياء التي تذكرها من أقوال المسيح... يدل على أنه غير ملهم فيما كتب، حيث إنه سجل ما تذكره من أقوال المسيح- عليه السلام- وأعماله حسب ما اخبره به بطرس شيخه.
أما لوقا المنسوب إليه الإنجيل الثالث فمقدمة الإنجيل تدل على أنه غير ملهم فقد جاء فيها: "إذا كان كثيرون قد اخذوا بتأليف قصة في الأمور المستيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين، وخداماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب إليك على التوالي أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به"[147].
والذي يلاحظ من هذه المقدمة أن لوقا لم يدع الإلهام فيما كتب، بل يقرر صراحة أن معلوماته جاءت نتيجة لاجتهاده الشخصي، لأنه قد تتبع كل شيء من الأول بتدقيق[148].
سابعاً: الوثنيات السابقة في العقائد النصرانية
مما لا شك فيه أن اللاحق يتأثر بالسابق فيما يتعلق بالعقائد المتشابهة والنصارى هم اللاحقون، وبالتالي هم المتأثرون بوثنيات من سبقهم.(/32)
واكتفى هنا بذكر نماذج فقط من العقائد التي أخذها النصارى عمن سبقهم من الأمم الوثنية، وأحيل القارئ اللبيب إلى ما سطره الشيخ محمد طاهر التنير في كتابه القيم (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) حيث أجاد وأفاد عندما فصل القول في عقائد الأمم الوثنية السابقة، وما شابهها من عقائد النصارى[149].
أما العقائد التي سأذكرها- كنماذج فقط وبإيجاز – فهي:
عقيدة التثليث، والجسد، والفداء، تاركاً التفصيل في هذه العقائد وغيرها لكتاب التتير، ذلك الكتاب النافع المفيد.
عقيدة التثليث:
يقول موريس صاحب كتاب الآثار الهندية القديمة: "كان عند أكثر الأمم الوثنية البائدة تعاليم دينية جاء فيها القول باللاهوت الثالوثي".
وقال دوان صاحب كتاب خرافات التوراة والإنجيل وما يماثلها في الديانات الأخرى: "إذا رجعنا البصر نحو الهند نرى أن أعظم واشهر عبادتهم اللاهوتية هو التثليث، ويدعون هذا التعليم بلغتهم: (ثري مورتي). ومعنى ثري: ثلاثة. ومورتي معناها: هيئات أو أقاليم. وهي: برهمة الخالق، وفشنو الحافظ، وسيفا المهلك. وهذه الأقاليم الثلاثة: عبارة عن آله واحد[150].
ويقول دوان أيضاً: "والبوذيون وهم – أكثر سكان الصين واليابان يعبدون إلهاً مثلث الأقاليم يسمونه (فو).
ويرى فابر في كتابه (أصل الوثنية) أن الصينيين يعبدون بوذا ويقولون: إنه ذو ثلاثة أقاليم، تماماً كما يقول الهنود[151].
وكذلك قال اليونانيون القدماء بالتثليث حيث جاء عند أحد شعراء اليونان- وكان قبل المسيح بقرون – ما نصه: "كل الأشياء عملها الإله الواحد مثلث الأسماء والأقاليم"[152].
وبهذه العقيدة قال الفرس والآشوريون والفينيقيون وغيرهم[153].
أما عقيدة التثليث عند النصارى فهي الأساس. جاء في قاموس الكتاب المقدس: " عرف قانون الإيمان هذه العقيدة بالقول: نؤمن بإله واحد: ألآب، والابن، والروح القدس اله واحد، جوهر واحد، متساوين في القدرة والمجد"[154].(/33)
وجاء في القاموس عند التعريف بطبيعة الله- عزَّ وجلَّ- ما نصه: "الله واحد وهو ثلاثة أقانيم متساوية في الجوهر: الله ألآب والله الابن، والله الروح القدس، فالآب خلق العالمين بواسطة الابن. والابن هو الذي أتم الفداء وقام به- والروح القدس هو الذي يطهر القلب.
غير أن الأقاليم الثلاثة يشتركون معاً في جمع الأعمال الإلهية على السواء"[155].
هذا ما يقوله علماء النصارى في التثليث، فهم يسيرون على درب من سبقهم من الثنيين.
عقيدة التجسد:
كثير من الأمم الوثنية تدين بهذه العقيدة فالإله عندهم ينزل إلى الأرض، ويولد من عذراء ويسكن مع البشر، وأمه تدعى والدة الإله.
وهذا المعتقد مشتهر عند الهنود، والصينيين، والمصريين القدماء، واليونانيين، والفرس، وسكان المكسيك، وغيرهم[156].
عقيدة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة:
ينقل التنير- رحمه الله- عن علماء مشهورين قولهم: إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم جداً عند الهنود الوثنيين: فهم يرون أن كشنا (الذي هو الإله فشنو) تحرك حنواً لكي يخلص الأرض من ثقل أحمالها، فأتاها وخلص الإنسان بتقديم نفسه ذبيحة عنه، حيث مات معلقاً على شجرة سمر بها بضربة حربة بعد تجسده وظهور بالناسوت، ويرسمونه مثقوب الجنب واليدين.
كما أن هذه العقيدة موجودة أيضاً عند الصينيين، وأن كتبهم المقدسة تحدثت عن (تيان) القدوس الواحد صاحب الفضائل السماوية والأرضية الذي سيعيد الكون إلى البر، وأنه سيتألم كثيراً، وإنه هو الوحيد القادر على أن يقدم للرب ذبيحة تليق به... وأنه لأجل الناس يموت، كي يخلص الصالح، وأنه واحد مع الله في الأزل قبل كل شئ[157].
وهناك أمم أخرى كثيرة تدين بهذه العقيدة، ويدعون من قام بمهمة الفداء بأسماء متعددة:
فبعضهم يدعونه: بالمخلص الفادي، وإله الحياة، والواحد الأبدي، والمولود الوحيد.
وبعضهم يدعونه: بالمخلص المصلوب، والإله المولود البكر من عذراء.(/34)
ومنهم من يسميه: الإله الحي.
وآخرون يسمونه: الابن الوحيد، والذبيح حامل الخطايا، الفادي المولود من عذراء.
كما يطلق عليه بعضهم: الابن الوحيد والكلمة[158].
والتجسد والفداء من أبرز العقائد عند النصارى:
جاء في قاموس الكتاب المقدس: "وكلا البشيرين – متى ولوقا – يتفقان على أن الرب يسوع حبل به في البطن بالروح القدس، وولد ابن الله من مريم العذراء البتول الطاهرة، وتمشيا مع هذه الحقيقة يفتتح يوحنا البشير بشارته بهذه الكلمات: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله.... والكلمة صار جسداً، وحل بيننا، ورأيناه مجده: مجد الابن الوحيد من الآب ممتلئاً نعمةً وحقاً"[159].
وجاء فيه بشأن عقيدة الفداء: ".... وحمل خطيئة الكثيرين، وأخذ على كاهله إثم البشرية الخاطئة الأثيمة، وقدم نفسه طوعاً واختياراً للقبض عليه... وللصلب... فقدم نفسه عن رغبة واختيار كحمل الله الذي يرفع خطيئة العالم"[160].
وجاء في القاموس أيضاً: "ومن التأمل في الشرائع التي كانت سائدة في العهد القديم تنجلى أمور كثيرة تشير إلى مبدأ الفداء الذي أكمله المسيح إذ قدم نفسه لفك كل قيد، ورفع كل مسؤولية، وافتداء جميع من كانوا تحت رق عبودية الخطيئة، بشرط أن يقبل الخاطئ الفادي بإيمان قلبي"[161].
وهذه الأسماء التي نادى بها الوثنيون من قبل هي بعينها يطلقها النصارى على المسيح – عليه السلام – فمن أسمائه كما جاء في قاموس الكتاب المقدس:
إله، الابن الوحيد، مخلص، الفادي، كلمة الله، وحيد من الأب، الأول والآخر[162].
هذا وقد ذكر الله- تعالى- في كتابه الكريم أن أهل الكتاب قد قالوا بقول من سبقهم من الوثنيون الكفار.(/35)
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]
تنبيه:
وأخيراً: يجب ألا يغيب عن البال: أن النصارى بعد نجاة المسيح - عليه السلام - من الصلب والقتل ظلوا مضطهدين حتى بداية القرن الرابع حيث جاء الملك قسطنطين الأمان، ومكن لهم. وفي خضم هذه الاضطهادات التي- قل نظيرها في التاريخ- ظهرت كتبهم التي يقدسون، وعما بها من عقائد يدافعون، كما أهملت كتب أخرى كثيرة اعتبرت غير مقدسة.
وما من شك أن مثل هذه الظروف – والتي استمرت لفترة طويلة –أسهمت إسهاماً كبيراً في ضياع الدين الذي أتى به المسيح – عليه السلام- والذي بشر به حواريوه من بعده[163].
الخاتمة
المتأمل في كتب العهد الجديد يظهر له بجلاء ووضوح أنها لم تكتب بإلهام، وبالتالي لا تقوم بها الحجة على احد.
وكيف تقوم بها الحجة وسندها إلى مؤلفيها غير متصل كما أنها مملوءة بالاختلافات والأغلاط فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين كتب العهد القديم- الذي هو مقدس عند النصارى – من جهة أخرى.
كما أن نسخ تلك الكتب الأصلية مفقودة، وما الموجود منها الآن إلا الترجمات.
أضف إلى ذلك عدم تحقق الأخبار الغيبية الواردة فيها.
وأخيراً فهي تشمل على عقائد مماثلة لما عند الوثنيين السابقين.
كل هذا يجعل القارئ المنصف يقطع ببطلان دعوى الحجية والإلهام في هذه الكتب.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
قائمة المصادر والمراجع
** اختلافات في تراجم الكتاب المقدس، عبد الوهاب، أحمد مكتبة وهبة، ط1، 1407هـ - 1987م.
** أدلة الوحدانية، القرافي، أحمد بن إدريس. ت: عبد الرحمن دمشقية. ط1، 1708هـ - 1988م.(/36)
** الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام، وافي، على عبد الواحد. نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.
** إظهار الحق، الهندي، رحمت الله الهندي. ت: د. محمد ملكاوي مطبوعات الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. السعودية. ط1، 1400هـ.
** الإنجيل دراسة وتحليل، شتيوي، محمد شلبي. مكتبة الفلاح الكويت. ط1، 1404هـ - 1984م.
*** التجسد والصلب بين الحقيقة والافتراء، د. حماية، محمود علي.
** تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب، الترجمان، عبد الله الميورقي. ت: عمر الداعوق، دار البشائر الإسلامية، بيروت – لبنان، ط1، 1408هـ - 1988م.
** التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، بوكاي، موريس.
ترجمة الشيخ: حسن خالد. المكتب الإسلامي، ط2، 1407هـ - 1987م.
** الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية، أحمد.
ت: د. علي بن حسن – د. حمدان الحمدان، د. عبد العزيز العسكر. دار العاصمة ط1، الرياض – السعودية.
** دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة، السعدي، محمد دار. الثقافة – قطر – الدوحة، ط1، 1405هـ - 1985م.
** الرد على النصارى، الجعفري، صالح بن الحسين. ت: د. محمد محمد حسانين. مكتبة وهبة – القاهرة. ط1، 1409هـ - 1988م.
** العقائد الوثنية في الديانة النصرانية، التنير، محمد طاهر. نشر وتعليق: محمد إبراهيم الشيباني. مكتبة ابن تيمية – الكويت. ط1، 1408هـ - 1987م.
** الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، على بن أحمد. ت: د. محمد إبراهيم نصر، د. عبد الرحمن عميرة. دار الجيل – بيروت.
** في مقارنة الأديان "بحوث ودراسات" د. محمد الشرقاوي. دار الجيل – بيروت.
** قاموس الكتاب المقدس، هيئة التحرير: د. جون طمسن، إبراهيم مطر. منشورات مكتبة المشعل، بيروت، ط6، 1981م.
** الكتاب المقدس، دار الكتاب المقدس في العالم العربي.(/37)
** محاضرات في النصرانية، أبو زهرة، محمد. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض ط4، 1404هـ.
** المسيح في مصادر العقائد المسيحية، عبد الوهاب، أحمد. مكتبة وهبة، ط1، 1398هـ - 1978م.
المناظرة الكبرى بين الشيخ رحمت الله الهندي و د. فندر ت: د. محمد عبد القادر ملكاوي. دار ابن تيمية للنشر السعودية، ط1، 1405هـ.
** هل الكتاب المقدس كلام الله، ديدات، أحمد. ترجمة: نورة أحمد النومان، نشر مكتبة التوعية الإسلاميةكتاب سماوي حتى يوكو.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] هذا التعريف المجمل هو من وجهة نظر أهل الكتاب.
[2] حيث يؤمن النصارى بكتب اليهود (العهد القديم) إضافة إلى كتب العهد الجديد، خلافاً لليهود الذين ينكرون كتب العهد الجديد؛ لأنهم لا يعترفون بنبوة المسيح أصلاً.
[3] يطلق النصارى على الأسفار المقدسة لليهود اسم العهد القديم؛ للتفرقة بين أسفار الديانة اليهودية وأسفار ديانتهم فيسمون أسفار ديانتهم بالعهد الجديد.ويراد بكلمة العهد في هاتين التسميتين ما يرادف معنى الميثاق، أي: إن ما في تلك لمجموعتين من الأسفار تمثل ميثاقًا أخذه الله – تعالى – على الناس وارتبطوا به معه. فمجموعة أسفار العهد الجديد تمثل في نظر النصارى ميثاقاً جديداً بدأ من عصر المسيح – عليه السلام – انظر وافي، على عبد الواحد: الأسفار المقدسة السابقة للإسلام (3،13).
[4] وهذا موجود في كتب علماء الإسلام السابقين حيث يقولون مثلاً: (جاء في التوراة كذا..) وإذا النص موجود في غير التوراة من أسفار العهد القديم فقولهم هذا هو من قبيل التوسع في اللفظ.
[5] ذكر عدد من علماء الإسلام في كتبهم أن أهل الكتاب يجعلون الزبور ضمن أسفار العهد القديم وإن كانوا اليوم يسمونه سفر المزامير.
قال ابن تيمية – رحمه الله –: "وقد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد- صلى الله عليه وسلم- ورأي نسخة أخرى من الزبور قلم أر ذلك فيها".(/38)
ابن تيمية، أحمد: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (3: 50).
[6] الإله عند النصارى: واحد ذو ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب "الله" أقنوم الابن "المسيح" أقنوم الروح القدس، وعلى هذا فالروح القدس عندهم إله وليس هو جبريل – عليه السلام – إذ إن جبريل عندهم ملك من الملائكة. انظر قاموس الكتاب المقدس: (414.232) وانظر المرجع نفسه (245) حيث التعريف بجبريل – عليه السلام..
[7] حيث يوجد في العهد الجديد رسائل لغير تلامذة المسيح باعتراف النصارى أنفسهم، فبولس وحده له أربع عشر رسالة، ولوقا – تلميذ بولس – ينسب إليه الإنجيل الثالث وسفر أعمال الرسل، وهما ليسا من تلامذة المسيح – عليه السلام-.
[8] انظر التعريف بكتبهم: الهندي: إظهار الحق (1: 98) وما بعدها، وافي: عل عبد الواحد، الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام (13)وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس (644، 762، 764 – 767).
[9] لأن ما سننقل من كلامهم لا يقتصر على العهد القديم فقط بل على العهدين معاً: لذا كان العنوان حول الكتاب بعهديه.
[10] المقصود بالإلهام هنا "الوحي" فالروح القدس هو الذي أوحى لكتاب الأسفار المقدسة – في نظرهم بما كتبوه. انظر قاموس الكتاب المقدس (762 – 763).
[11] انظر هذه الآراء في: عبد الوهاب، أحمد المسيح في مصادر العقائدية المسيحية(16).
[12] قاموس الكتاب المقدس (1020 – 1021).
[13] قاموس الكتاب المقدس (762 – 763).
[14] المرجع نفسه (415).
[15] انظر قاموس الكتاب المقدس (832).
[16] هذه الفرقة يعدها النصارى فرقة مبتدعة.
[17] انظر الهندي: إظهار الحق (2:538).
[18] بوكاي مرويس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (81).(/39)
[19] يقصد بالراحة واختصار الوقت كما يرى الشيخ ديدات أن نقول: إنجيل متى دون الحاجة إلى القول: الكتاب الأول من العهد الجديد الفصل كذا وكذا... فالأفضل أن نعطيه اسماً مثل: متى مثلاً فهو اسم كغيره ديدات، أحمد: هل الكتاب المقدس كلام الله(41).
[20] المرجع نفسه (38).
[21] السعدي، محمد: دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة (15 – 16).
[22] عبد الوهاب، أحمد: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس (83).
[23] إنجيل متى صح 9: 9.
[24] عبد الوهاب: أحمد: المسيح في مصادر العقائد المسيحية (57 – 58).
[25] ديدات، أحمد: هل الكتاب المقدس كلام الله (38).
[26] انظر الهندي: إظهار الحق (2: 537).
[27] انظر: عبد الوهاب، أحمد: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس (82)، المسيح في مصادر العقائد الغربية للمؤلف نفسه (35، 46)، السعدي، محمد: دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة (17)، بوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (82).
[28] ديدات، أحمد: هل الكتاب المقدس كلام الله (41).
[29] المرجع نفسه (41 – 42).
[30] انظر قاموس الكتاب المقدس (853) وما بعدها.
[31] انظر ابن تيمية، أحمد: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4: 188 – 189)، وانظر وافي، على عبد الواحد: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام (87)، أبو زهرة، محمد: محاضرات في النصرانية (56)، شتيوي، محمد: الإنجيل دراسة وتحليل (59)، ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل (2: 14) حيث نقل عنهم قولهم إن بطرس ألفه ونسبه إلى مرقس.
[32] قاموس الكتاب المقدس ( 855).
[33] انظر التعريف به وبكتابه: عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد الغربية (7).
[34] عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد الغربية (52).
[35] السعدي، محمد: دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة (18).
[36] انظر التعريف به: قاموس الكتاب المقدس (822 – 823).(/40)
[37] انظر وافي، على عبد الواحد: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام (85)، أبو زهرة، محمد: محاضرات في النصرانية (58).
[38] قاموس الكتاب المقدس (822).
[39] عبد الوهاب، أحمد: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس (85)، بوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (88).
[40] انظر ابن تيمية، أحمد: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4: 189) وانظر وافي، على عبد الواحد الأسفار المقدسة السابقة على الإسلام (88)، أبو زهرة، محمد: محاضرات في النصرانية (59).
[41] انظر التعريف بالدكتور المذكور في: عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد المسيحية (7).
[42] المرجع نفسه (65).
[43] السعدي، محمد: دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة (19).
[44] سيأتي إن شاء الله عند الحديث عن سفر أعمال الرسل أن هناك اختلافا بين رسائل بولس، وبين ما ينسب إلى لوقا.
[45] انظر قاموس الكتاب المقدس (1110) وما بعدها، أبو زهرة: محاضرات في النصرانية (64).
[46] انظر بوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (90).
[47] المرجع نفسه (91).
[48] انظر عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد الغربية (70 – 71).
[49] ابو زهرة، محمد: محاضرات في النصرانية (61)، وافي، على عبد الواحد: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام (84).
[50] انظر وافي، عل عبد الواحد: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام (89).
[51] الهندي: إظهار الحق (1: 156).
[52] انظر قاموس الكتاب المقدس (87)، وافي، على عبد الواحد: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام (113 – 114).
[53] لفظ يقصد به: تلامذة المسيح، وأحياناً غيرهم.
[54] انظر السعدي،محمد: دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة (20).
[55] عبد الوهاب، أحمد: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس (90).
[56] عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد الغربية (65).(/41)
[57] بوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (89).
[58] انظر الهندي: إظهار الحق: (1: 105 – 107)، وافي، على عبد الواحد: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام (118 – 120)، عبد الوهاب، أحمد: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس (6)، والمسيح في مصادر العقائد الغربية للمؤلف نفسه (35 – 36).
[59] انظر الهندي: إظهار الحق (1: 159 – 163).
[60] قاموس الكتاب المقدس (1112).
[61] الهندي: إظهار الحق (1: 164).
[62] الهندي: إظهار الحق (1: 3، 4، 616).
[63] المرجع نفسه (2: 56).
[64] انظر السعدي، محمد: دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة (22) حيث نقل ذلك عن كتاب ديانات العالم.
[65] النصارى يعدونها فرقة مبتدعة.
[66] الهنديِ: إظهار الحق (1: 155، 2: 551 – 552).
[67] المرجع نفسه (1: 155، 2: 386).
[68] المرجع نفسه (1: 157).
[69] انظر الهندي: إظهار الحق (2: 544 – 548) حيث ذكر أسماء هذه الكتب، وانظر بعض هذه الكتب في قاموس الكتاب المقدس (122)، وانظر وافي: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام (106) ما بعدها، وانظر عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد الغربية (36 – 38).
[70] انظر بوكاي/ موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (100)، حيث ينقل عن الأب بوامار تأسفه على غياب كمية ضخمة من الكتابات التي اعتبرتها الكنيسة مشكوكاً فيها؛ وذلك لما فيها من الفائدة التاريخية.
[71] بوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (115).
[72] رسالة يوحنا الأول صح 2: 1 – 2.
[73] سفر الأمثال صح 21: 18.
[74] الهندي: إظهار الحق (1: 230).
[75] إنجيل يوحنا صح (3 – 13).
[76] الهندي: إظهار الحق (2: 329).
[77] سفر التكوين صح 5: 23 – 24.
[78] قاموس الكتاب المقدس (32).
[79] سفر الملوك الثاني: صح 2: 11، والغرض من سوق مثل هذه الأخبار، لبيان الاختلاف بين كتب العهدين وأنهما ليسا بوحي، لا الإقرار بصحة ما ورد.(/42)
[80] لا أدري لماذا الالتزام بهذا الرأي وبخاصة أن الدليل مفقود على كون متى هو المترجم أو الآمر بالترجمة.
[81] قاموس الكتاب المقدس (833).
[82] انظر الهندي: إظهار الحق (2: 531) وما بعدها.
[83] قاموس الكتاب المقدس (833)، وافي، على عبد الواحد: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام (87).
[84] انظر ابن تيمية، أحمد: الجواب الصحيح (4: 186)، وافي: على عبد الواحد: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام (87)، أبو زهرة، محمد: محاضرات في النصرانية (52).
[85] الهندي: إظهار الحق ( 1:151، 2: 532 – 533).
[86] المرجع نفسه (2: 533 – 534).
[87] أبو زهرة محمد محاضرات في النصرانية (55).
[88] قاموس الكتاب المقدس. ( 763).
[89] السعدي محمد: دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة (53).
[90] وكذلك العهد القديم.
[91] أنظر قاموس الكتاب المقدس (846)، وبوكاي، موريس: التوراة والنجيل والقرآن والعلم ( 100 )، عبدالوهاب، أحمد: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس(32).
[92] بوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (101)، عبد الوهاب، أحمد: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس (24).
[93] السعدي محمد: دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة (37).
[94] بوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (101).
[95] الهندي إظهار الحق (2: 570)
[96] أستاذ الأصوات بجامعة لندن، انظر عبد الوهاب، احمد: المسيح في مصادر العقائد المسيحية (7).
[97] المرجع نفسه (55).
[98] المرجع نفسه (67).
[99] أنظر قاموس الكتاب المقدس (846)، وبوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (68)، السعدي، محمد: دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة (18)، عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد المسيحية (55)، واختلافات في تراجم الكتاب المقدس (84).(/43)
[100] أنظر الهندي إظهار الحق (2: 805 – 509) ويعلق صاحب إظهار الحق على هذه الإضافة بقوله فعلى هذا ما ترك المحرفون الصلاة المشهورة أيضاً.
[101] أنظر بوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (91)، وأنظر عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد المسيحية (72 – 73).
[102] انظر الهندي: إظهار الحق ( 2: 509)، بوكاي، موريس: التوراة والنجيل والقرآن والعلم (91).
[103] ديدات، أحمد،مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء (31).
[104] الرسالة الأولى ليوحنا صح 5: 7- 8
[105] الهندي إظهار الحق (2: 497 – 498)، أنظر ديدات، أحمد: هل الكتاب المقدس كلام الله (24).
[106] عبد الوهاب، أحمد: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس(40)، والرقمان 8،7 الموجودان في النص يعنيان: العدد 7-8
[107] إنجيل متى صح (28: 19).
[108] وهو أستاذ تاريخ الكنيسة بجامعة برلين أنظر عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد المسيحية(8).
[109] المرجع نفسه (61).
[110] بوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (102).
[111] إنجيل متى صح 24: 27 – 31، 34، 35.
[112] المصدر نفسه صح 10- 5-9، 14، 22،23
[113] إنجيل متى صح 16: 27-28، وأنظر انجيل مرقس صح 13: 24-31، إنجيل لوقا صح 21:25-32، حيث ذكر خراب الكون وعودة المسيح ثانية في ذلك الجيل الذي عاصر المسيح- عليه السلام- وانظر تعليقات على هذا الخبر في: ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل(2: 59) الهندي: إظهاراً الحق (2: 318) وما بعدها، عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد الغربية (102 – 103).
[114] إنجيل متى صح (19: 23،27-28) وأنظر تعليق ابن حزم: الفصل في الملل والهواء والنحل (1: 110).
[115] عميد كلية اللاهوت بليتشفيلد بإنجلترا وصاحب كتاب: تفسير إنجيل متى، انظر عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد المسيحية (7).
[116] المرجع نفسه (99).(/44)
[117] إنجيل لوقا صح 22: 28- 29، وهذا الإنجيل يصرح بأن يهوذا التلميذ الخائن كان ضمن المخاطبين انظر صح 22: 14، 21، والغريب أن يهوذا منح كما غيره من التلاميذ القدرة على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين وإحياء الموتى، وإذا كان المسيح إلهاً – على زعمهم – فلم يمنحه وهو يعرف حقيقته وخبث نفسه! فهذه مصيبة كما يقول – ابن حزم- وتقديم لمن لا يستحق وسخرية بالدين، والإله منزه عن ذلك، أو انه خفي على المسيح الإله—في زعمهم- أمره وهذه أدهى وأمر، أنظر أبن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل (2: 57 – 58) ثم انظر منح التلاميذ هذه القدرات: إنجيل متى ص 10: 5-8.
[118] انظر ديدات، أحمد: هل الكتاب المقدس كلام الله (86)، السعدي، محمد: دراسة في الأناجيل الأربعة والتوراة (46).
[119] إنجيل لوقا صح 1: 26،31، 33 وانظر أسفل أعمال الرسل صح 2:29.
[120] انظر أبن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل (3: 78،94)، الهندي: إظهار الحق (2:316 – 317)، ديدات، أحمد: مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء (142) وما بعدها، بوكاي،موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم (83)، عبد الوهاب، احمد: المسيح في مصادر العقائد المسيحية (100 – 101).
[121] إنجيل متى صح 12: 38 – 40، وانظر إلى الإشارة إلى الثلاثة أيام في بطن الأرض في: متى صح 21:16، مرقس صح8: 31، صح9:31، صح 10: 34، وإنجيل يوحنا صح 2: 19.
[122] إنجيل مرقس صح 15: 42- 46.
[123] إنجيل متى صح 82: 1- 6
[124] إنجيل يوحنا صح 20: 1.
[125] النصارى يجعلون هذا النسب للمسيح- عليه السلام- مع انه في الحقيقة ليس كما هو واضح من النص- ومع هذا فالغرض هو: بيان الاختلاف بين الإنجيلين في ذكر النسب.(/45)
[126] أنظر ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل(2: 32 – 33)، القرافي، أحمد: أدلة الوحدانية (103 – 104)، الهندي: إظهار الحق (1: 187) وما بعدها، بوكاي، موريس: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم(20)، عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد المسيحية(79).
[127] أنظر الهندي: إظهار الحق(1: 197)، محاضرات في النصرانية (103).
[128] أبو زهرة محمد: محاضرات في النصرانية (301).
[129] إنجيل متى صح 20: 29 – 33.
[130] إنجيل مرقس صح: 10: 46 – 52.
[131] أنظر الترجمان، عبدالله: تحفة الأريب (209)، إظهار الحق (1: 208).
[132] إنجيل متى صح 11: 18 – 19.
[133] إنجيل مرقس ص 1: 6.
[134] أنظر الترجمان، عبد الله: تحفة الأريب (318)، إظهار الحق ( 1: 209).
[135] إنجيل متى صح 37: 44.
[136] إنجيل لوقا صح 23: 40 – 43.
[137] أنظر الفراقي، أحمد: أدلة الوحدانية (105)، الجعفري، صالح: الرد على النصارى(81)، الترجمان، عبد الله: تحفة الأريب( 210 – 211).
[138] إنجيل متى صح 26: 48 – 49. إنجيل يوحنا صح 18: 2 – 8.
[139] إنجيل يوحنا صح 18: 2 – 8.
[140] أبو زهرة، محمد: محاضرات في النصرانية (501)، شتيوى، محمد: الإنجيل دراسة وتحليل(99).
[141] إنجيل متى صح 28: 1 -10.
[142] إنجيل يوحنا صح 20: 1 - 18.
[143] أنظر القرافي، أحمد: أدلة الوحدانية(106)، الجعفري، صالح: الرد على النصارى(82).
[144] أنظر الشرقاوي، محمد: مقارنة الأديان(51).
[145] لذلك جعله علمائهم إنجيلاًَ للكنائس كلها، وأنظر ص 25 -29 من البحث الآراء في هذا الإنجيل.
[146] قاموس الكتاب المقدس (854).
[147] إنجيل لوقا صح 1: 4.
[148] أبو زهرة، محمد: محاضرات في النصرانية(98)، عبد الوهاب، أحمد: المسيح في مصادر العقائد المسيحية(62).(/46)
[149] حيث فصل كتابة إلى فصول تتضمن عقائد تلك الأمم متناولا كل واحدة من هذه العقائد بفصل مستقل موثقاً لقوله بأقوال علماء مختصين من غير المسلمين، ثم يذكر مع نهاية كل فصل عقيدة النصارى المتشابهة، ليرى القارئ بأم عينيه كيف إن عقائد النصارى الإنسانية مأخوذة كلها من الوثنيات السابقة. ثم نجده رحمه الله يختم كتابه بعمل مقابلة بين ما يقول به الهنود الوثنيون عن كرشنا (فشنو) وبين ما يقوله النصارى عن المسيح- عليه السلام-.
ومقابلة أخرى بين ما يقوله الوثنيون عن بوذا وبين ما يقول به النصارى عن المسيح- عليه السلام- والقارئ لهاتين المقابلتين الموثقتين يجزم بان النصارى وثنيون في عقائدهم وأنه لا خلاف بينهم وبين تلك الأمم إلا في السماء الآلهة فقط.
[150] أنظر التنير، محمد: العقائد الوثنية في الديانة النصرانية( 36، 40).
[151] المرجع نفسه (39).
[152] المرجع نفسه (39).
[153] المرجع نفسه ( 43 – 45).
[154] قاموس الكتاب المقدس (232).
[155] قاموس الكتاب المقدس (107 – 108).
[156] انظر في تفصيل ذلك في التنير، محمد: العقائد الوثنية في الديانة النصرانية(60) وما بعدها حيث ينقل عن حشد من علمائهم المتتبعين لتاريخ الأديان بوجود هذه العقيدة عند الأمم السابقة.
[157] أنظر التنير، محمد العقائد الوثنية في الديانة النصرانية (48 -52).
[158] المرجع نفسه (52 – 55) ومن أراد معرفة العقائد الأخرى المتشابهة فعليه قراءة كتاب العقائد الوثنية -كما أشرت من قبل-.
[159] قاموس الكتاب المقدس (865)، وأنظر إنجيل يوحنا صح 1: 1، 14.
[160] قاموس الكتاب المقدس (869).
[161] المرجع نفسه (672).
[162] المرجع نفسه (886).
[163] أنظر: تفصيل هذه الاضطهادات في: الهندي إظهار الحق ( 2: 609) وما بعدها، أبو زهرة،محمد: محاضرات في النصرانية (36) وما بعدها.(/47)
العنوان: دعيني أسامر أمتي!!
رقم المقالة: 787
صاحب المقالة: د. محمد سليمان
-----------------------------------------
في زحمة مألوفة تتكاتف فيها الأحذية لا فرق بين حذاء وحذاء، فكلها مشرية،
وكلها تمشي على أرض عربية، وكلها مسكونة بقدم مغسولة، وأصابع مكتوفة، عندما
رفعت نظري إلى أعلى وجدت وجوهاً مختلفة؛ مبتسمة فرحة، وأخرى مقهورة وجلة.
تبصرت ثانية فيها، لم يطاوعني قلبي أن أرى الفقر مبسوطاً، طأطأت رأسي من جديد،
أتأمَّل أحذية حرة تحبس أنفاس أصابع بالحديد، طأطأت أكثر لاحظت أصابع تتململ،
تتحرك رافضة تتحلل، أمسكت بالجوال لأخبر عنها قلبي الأرعن.
لماذا تتحرك أصابعك في جسد أمَّن لك القهر والذل ثم الموت الأسعد؟؟!!
لماذا تكره من دشن لك المأتم؟؟!! ولماذا؟؟
صحيح، لماذا تلبَس حذاء أسود؟؟!! انطِقْ من صيدا أنت أم من بيروت الطريدة؟؟!!
ألا تذكر؟؟!! أنت من المدينة الدفينة.
يا خسارة الخسارة أوتحزن على لبس حذاء أسود؟؟!! تهمتك: سرقت الحجر الأسود.
صرخت: لم أحزن!! إنه ما أملكه في جسدي الحزين!(/1)
العنوان: دفاعاً عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
رقم المقالة: 1548
صاحب المقالة: عبدالرحمن الراجح
-----------------------------------------
الشيخ الصغير يفند مزاعم "القنيعير" حول "الواصلة"!
رد الشيخ الدكتور "فالح بن محمد الصغير" أستاذ السنة النبوية وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والمشرف العام على "شبكة السنة وعلومها" على مزاعم الدكتورة "حسناء القنيعير" حول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "لعن الواصلة والمستوصلة" وطالب الشيخ الصغير الدكتورة بصفتها أكاديمية وباحثة أن تتحرى الحق، ولا تتطاول على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم، وتلتزم بالمنهجية العلمية عند النظر إلى الأحاديث النبوية أو تستشير من هم أعلم بعلوم الحديث.
جاء ذلك في رد الدكتور فالح الصغير على الدكتورة حسناء القنيعير، حول مقال لها عنونته بـ "من أجل هذا تطرد المرأة من رحمة الله" والذي تحدثت فيه عن حديث ابن مسعود رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة" وقد زعمت الدكتورة حسناء القنيعير أن هذا الحديث موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد فند الشيخ الصغير آراء الكاتبة بعلمية ومنهجية، وطالبها بالتروي عند النظر في الأحاديث، وعدم إحكام العقل بطريقة مطلقة عند تناول المسائل الشرعية.
وقد أرسل الدكتور الصغير رده على الدكتورة القنيعير إلى الجريدة اليومية التي نشرت فيها مقالها، عملا بحق الرد، والذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ولكن رفضت الجريدة نشر المقال، ومن هذا الباب كان حريا بموقع آسية أن ينشر هذا الرد.
وقد توقف الشيخ الصغير عدة وقفات عند مقال الدكتورة حسناء القنيعير، وقال: إنني أقف وقفات منهجية علمية عند مقالها، بعيداً عن الجزئيات أو الألفاظ الساخرة، وما حمله مقالها من اتهامات ولمز للآخرين.(/1)
وأضاف الدكتور الصغير قائلاً: إننا نريد الوصول إلى الهدف المنشود وهو سعادة الدارين للرجل والمرأة، وقال: إذا كانت الدكتورة صدرت مقالها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولا يمكن أن يأتي بما يتعارض مع القرآن الكريم فالواجب أن نلتزم بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله، وأن نفتخر بهذين المصدرين، ونتمثل ما جاء فيهما علماً وفهماً وسلوكاً حتى في أصغر شؤون حياتنا، وبالطرق المنهجية العلمية الصحيحة، فلا نتجرأ على القول فيهما - كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم - بدون علم فنضل ونضل.
ولقد امتلأت المكتبات الإسلامية بمصادر السنة النبوية وشروحها، وهذا من فضل الله، وعليه فإنه لا يعجز طالب علم، فضلاً عن متخصص في السنة النبوية وعلومها أن يصل إلى درجة الحديث التي أشارت إليه الدكتورة، حتى لا تصدر أحكاماً ونتائج، وتتهم فيها أجيالاً سابقة، وأجيالاً لاحقة لا تعمل العقل.
وقال الدكتور الصغير: إن الحديث الذي استشهدت به الدكتورة القنيعير صحيح ومرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكون المرأة لم تفقه ما قصده ابن مسعود رضي الله عنه لا يلغي كونه مرفوعاً وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه "ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله". ألا يعني هذا أنه نقل اللعن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! أم نتجرأ بأن نتهمه بأن أضاف اللعن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لم يكن؟!! حاشا وكلا.
ومع هذا فيمكن أن ترجعي للحديث في مظانه الأصلية وأعظمها بعد كتاب الله تعالى: الصحيحان وستجدينه في صحيح البخاري في أكثر من ثلاثة مواضع: منها برقم (5476) وبرقم (45077) وبرقم (5483) كما هو في صحيح مسلم برقم (3966) كما هو في بقية السنن والمسانيد.
أظن أنه ليس شكاً من الناحية العلمية الحديثية أنه حديث صحيح مرفوع، ولم يخالف أحد من المحدثين في ذلك من السابقين أو اللاحقين.(/2)
ومع هذا فلو سلمنا أنه موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه فحكمه حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمثله لا يقال بالرأي، لأنه نسب اللعن إلى الله تعالى وما نقله الصحابي فيما لا يقال بالرأي فحكمه حكم الرفع، وهذه القاعدة مقررة عند المحدثين، فضلا عن أنه مرفوع منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وبعد أن عرفت أنه صحيح مرفوع هل ستغيرين النتائج التي بنيت عليها مقالك؟!
العلماء ورثة الأنبياء
وقال الدكتور الصغير: إن مرجعيتنا الكتاب والسنة، ومن فضل الله تعالى أن المبلغ لهما هو حبيبنا الرسول صلى الله عليه وسلم ونقلهما إلى الصحابة رضوان الله عليهم ثم علماء الأمة من بعدهم فقرر هذا عليه الصلاة والسلام بقوله: "العلماء ورثة الأنبياء" فديننا غال، وقرآننا غال وسنة نبينا غالية، وإذا تبارى الناس في علومهم الدنيوية وحق لهم ذلك؛ فلنا الحق لأن نفتخر ونباري بأن القرآن الكريم والسنة النبوية لهما علماؤهما ومختصوهما نص على ذلك الله تعالى بقوله: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل من الآية 43) وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (الزمر من الآية 9)، والآيات والأحاديث أكثر من أن تحصر في هذا المعنى وما ضل من ضل من أصحاب الغلو والتكفير أو أصحاب الانحراف المقابل إلا بسبب الجهل، أو التعالم بغير علم، أو التطاول على النصوص، دون الرجوع إلى المصادر الحقة، وهم العلماء الراسخون الذين أفنوا حياتهم العلمية لفهم القرآن والسنة. وأقول ليتك رجعت إليهم لتستفيدي حتى لا تقعي في الخطأ مرة أخرى.
ومن باب الإضافة العلمية أو تأكيدها للمحدثين قواعد أشاد بها الأعداء مع إيمان العلماء بها، هذه القواعد للتصحيح والتضعيف والرفع والوقف والتعارض والترجيح والناسخ والمنسوخ وغيره.(/3)
وأضاف: كم كنت أود من الدكتورة وفقها الله أن تكلف نفسها قليلاً بالبحث الحديثي أو تستشير أهل الاختصاص قبل أن تكتب فتقع في المحذور، فليس من السهل مصادرة هذه القواعد وتجاهلها وتجاوزها لتعطي ذلك الحكم القاطع بأن الحديث موقوف، ومن ثم تلغي دلالة الحديث.
ولعلها فرصة لي أن أدعوها وغيرها من الكتاب ممن يريد البحث في القضايا الشرعية للتأمل والنظر في المراجع العلمية، بالذات فيما ينسب إلى الحبيب عليه الصلاة والسلام.
وقال: لقد اجتهدت الدكتورة في حصر من لعنهم الله تعالى في القرآن وقارنت ذلك بالحديث المذكور، ووصلت إلى نتيجة رأت أنها قطعية ودعت في نهاية المقال إلى دراسة مقارنة مع القرآن، بعد أن شجبت الدراسات الشرعية بأنها خلت من هذه المقارنات.
وأقول:
أولاً: دراسة المقارنة عمل جيد بل مهم للوصول إلى الفهم السليم، لكن نحتاج إلى تكامل عناصر المقارنة، فهلا علمت مقارنة مع ما ورد من أحاديث اللعن في السنة النبوية كما حصرت الآيات التي ورد فيها اللعن. فإن لم تعملي بقصد أو بدون قصد، فالمنهجية العلمية تحتم عليك ذلك لئلا تكون مقارنتك مبتورة.
وللعلم هناك رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة حصر فيها صاحبها الأستاذ الدكتور "باسم الجوابرة" جميع أحاديث اللعن، فلعلك أن ترجعي إليها وتكملي الدراسة، لتنضج الفكرة التي أردتيها.
ثانياً: تعلمنا في الدراسات العلمية أن الوصول إلى نتيجة يتطلب هدوءاً وتكامل عناصر لنصل إلى نتيجة عملية، كيف وأنت تريدين الوصول إلى حكم قطعي بالحل والحرمة، وتفتين بنات جنسك بحكم يخالف ما قالت المصادر العلمية، على مدى أجيال متعاقبة فلم ترجعي لمرجع واحد ولا اعتمدت على أي مصدر علمي، بل لم تستفهمي حتى من المعاصرين، وهل ينال العلم وتصدر الأحكام الشرعية بهذه الطريقة؟ حاشا وكلا.(/4)
وأضاف الدكتور الصغير: وأشارت الدكتورة في نهاية المقال إلى قضية منهجية خطيرة قائلة: "لقد أدت إشكالية عدم إعمال العقل في بعض الروايات إلى وضع الدين في قالب جامد.." الخ.
وأقول: هذا كلام بغض النظر عما يتضمنه من اتهام خطير للسلف والخلف الذين نقلوا لنا هذا الدين، أقول: ليت الدكتورة دللت على هذا الكلام بأدلة منطقية تخالف ما تحويه مراجعنا العلمية التي نعرفها من إكرام العقل ووضعه في مكانه اللائق به، فما شريعة أعظم من شريعتنا أعملت العقل الإعمال الإيجابي، لكن أن يصل تقديس العقل إلى تقديمه على النصوص فهذا سبب ضلال الطوائف السابقة كالخوارج والمعتزلة ومن نحا نحوهم والقضية مبسوطة في مظانها.
أما منهج المقارنة التي أشارت إليه بقولها: "إضافة إلى افتقار الفكر الإسلامي لمنهج مقارن يمحص الأحاديث الموقوفة والضعيفة ومقارنتها بالقرآن الكريم" أسألك بالله تعالى وأنت "دكتورة" هل رجعت إلى أي مكتبة علمية في السنة النبوية؟ أو أقراص الحاسب الآلي في برامجه الحديثية الجديدة، لتصلي إلى هذه النتيجة الخطيرة؛ فطالب العلم بالمستوى الجامعي يعلم عشرات الكتب المختصة في الصحيح والموضوع والجرح والتعديل، وغيرها وأظن هذا يكفي عن التعليق؛ لكن أؤكد لك ولغيرك ممن يخوض في الحديث وعلومه أننا نحن المسلمين لم نفتخر منذ تاريخنا الأول إلى يوم القيامة بمثل ما نفتخر بثبوت السنة النبوية ووضوحها، ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعظم الدراسات القديمة والحديثة فيها، مما يتميز به الصحيح والضعيف والموضوع، ونحمد الله تعالى ونشكره على ذلك.
أمانة الكلمة!(/5)
دعوة محب من القلب لكل من يكتب عن شيء ينسبه إلى الله تعالى أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، بالتمهل والتأني واقتفاء المنهجية العلمية بأدواتها المعلومة أو سؤال أهل العلم عند الإشكال فالكلمة أمانة ومسؤولية، ومثله من يؤيد أو يعارض والإنسان محاسب بلا شك على ما يقول في الدنيا وفي الآخرة. {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
ولا يفهم من هذا ما يروق للبعض أن يروجه بما يسمى بحكر الدين أو العلم أو نحو ذلك فهذه أصبحت قضية معلومة وكما يقال: شنشنة معروفة من أخزم، ولكن لكل علم مختصوه.
مرة أخرى محبة ومودة لئن لا نقول على الله ورسوله بغير علم فينطبق علينا قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وغيرها من الآيات الدالة على هذا المعنى، نتحرى الحق بمنهجيته العلمية، ثم لا مانع أن نختلف إذا كان للخلاف مسوغ، وله أدلته وصدر من أهله.(/6)
العنوان: دليل الباحث إلى مصادر تاريخ المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية
رقم المقالة: 1842
صاحب المقالة: د. عبدالرحمن فراج
-----------------------------------------
دليل الباحث إلى مصادر تاريخ
المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية
تَهْدُفُ هذه الورقايةُ إلى إعلام الباحثين بالإنتاج الفكري المتَّصِل بمصادر تاريخ المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية، قديمًا وحديثًا, وتشتمل الورقاية على 95 وعاء معلومات، رتبت هجائيًّا وفقًا لرؤوس موضوعات دقيقة ومتخصِّصة، هي على التوالي: الآثار، والأرشيف الألماني، والأرشيف العثماني، وأوراق المبعوثين الأجانب، والدوريات، والرحلات، والسالنامات (الكتب السنوية)، وعروض الكتب، وكتب الأنساب، وكتب المنازل، والمخطوطات، والمراسلات، والمصادر بصفة عامة، والمصادر الأدبية، ومصادر تاريخ المدن والقرى، والمصادر الدينية الإسلامية، والمصادر الشفاهية، والمصادر القانونية، والمصادر الكلاسيكية، والمؤلفات المغربية والأندلسية، والمؤلفات اليمنية، والوثائق (عامة)، والوثائق البريطانية، والوثائق السودانية، والوثائق المحلية، وأخيرًا الوثائق المصرية.
ونلاحظ هنا تعدد مستويات التحليل الموضوعي.
فقد تم التركيز حينًا على نَوْعِيَّة المصدر، مثل: الآثار والأرشيف، والمؤلفات والمصادر الشفاهية.
وتم التركيز حينًا آخَرَ على القِطاع الموضوعيّ للمصدر، مثل: المصادر الأدبية, والدينية, والقانونية.
كما قد تم التركيز مرة على الانتماء الزمني للمصدر، مثل: المصادر الكلاسيكية.
وتم التركيز مرات على الانتماء الجغرافي للمصادر، مثل: المصادر المحلية والمؤلفات اليمنية والوثائق المصرية, وقد فرضت علينا ذلك طبيعةُ موضوعات مواد المعلومات نفسها.(/1)
وقد تم ترتيب أوعية المعلومات تحت رؤوس الموضوعات هذه هجائيًّا وَفقًا لأسماء المؤلفين، وتحت كل رأس موضوع، تم البدء أولاً بأوعية المعلوماتِ عربيةِ اللغة تليها أوعية المعلوماتِ أجنبيةِ اللغة.
الآثار
1- حسن الباشا
أهمية شواهد القبور كمصدر لتاريخ الجزيرة العربية. في: دراسات في تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الأول، ج1 الرياض: جامعة الرياض، [1399هـ/1979م]. ص 81-126.
2- عبد الرحمن الطيب الأنصاري
أضواء جديدة على دولة كِنْدَةَ من خلال آثار نُقوش قرية الفاو. المنهل. ع5و6 (جمادى الأولى – جمادى الآخرة 1397 هـ/ مايو – يونيو 1977م). ص ص 1061-1067.
3- عبد الرزاق الريس
ثاج من الناحية الأثرية التاريخية. العرب، ع7 (محرم 1388هـ/ أبريل 1968م). ص ص 629-645.
4- Dostal, Walter
The development of Bedouin life in Arabian seen from the archaeological material. In: Sources for the history of Arabia. Vol.1. Riyadh: University of Riyadh press,1979. Pp. 125 - 144 .
(تطور الحياة البدوية في الجزيرة العربية كما يُرى في المواد الأثرية).
الأرشيف الألماني
5- فهد بن عبد الله السماري
تاريخ الجزيرة العربية الحديث في الوثائق الألمانية. الدارة. س16، ع3 (ربيع الآخر – جمادى الآخرة 1411هـ). ص ص 49-59.
6- فهد بن عبد الله السماري
نظرة على وثائق أرشيف (بوتسدام) المتعلقة بتاريخ المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبد العزيز. عالم الكتب. مج14، ع6 (الجماديان 1414هـ/ نوفمبر – ديسمبر 1993م). ص ص 602-608.
الأرشيف العثماني
7- سهيل صابان
الأرشيف العثماني مصدرًا من مصادر تاريخ الجزيرة العربية: مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية. مج3، ع1 (المحرم – جمادى الآخرة 1418هـ/ مايو – أكتوبر 1997م). ص ص 54-76.
8- عايض بن خزام الروقي
المصادر العثمانية وأهميتها في دراسة تاريخ الجزيرة العربية. الدارة. س 23، ع2 (1418هـ/1998م). ص ص 81-106.(/2)
9- عبد الفتاح حسن أبو علية
الأرشيف العثماني: أرشيف إستانبول، في كتابه: دراسات في مصادر تاريخ شبه الجزيرة العربية الحديث والمعاصر. ط1. الرياض: دار المريخ، 1399هـ/ 1979م. ص ص 181-221.
10- عبد اللطيف بن محمد الحميد
وثائق شؤون الجزيرة العربية في سجلات الدُّستور العثماني، 1289-1240هـ/ 1872-1922م، مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية. مج2، ع1 (المحرم – جمادى الآخرة 1417هـ/ يونية – ديسمبر 1996م) ص ص 133-174.
11- عبد اللطيف بن محمد الحميد
وثائق لسكة حديد الحجاز في الأرشيف العثماني الدارة، س 8، ع3 (ربيع الآخر – جمادى الآخرة 1413هـ). ص ص 61-74.
12-محمد حسين زيدان
الوثائق تتكلم: الدارة. س1، ع1 (ربيع الأول 1395هـ/ مارس 1975م). ص ص 161-193.
13- محمد داود التميمي:
الجزيرة العربية في الوثائق العثمانية في الفترة بين 1257-1337هـ: في: دراسات في تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الأول، ج2. الرياض: جامعة الرياض [1399هـ/ 1979م]. ص ص 163-175.
14- محمد عبد اللطيف هريدي:
تاريخ شبه الجزيرة العربية من المصادر التركية العثمانية: القاهرة: دار الزهراء للنشر، 1411هـ/ 1990م، ص 56.
15- محمد مهدي إيلهان:
ملاحظات وآراء حول الأرشيف العثماني وأهميته في دراسة التاريخ العثماني: الدارة. س15، ع4 (شوال1410هـ/فبراير 1990). ص ص 93-89.
16- مصطفى فايد
أهمية المصادر التاريخية التركية لتاريخ الشعوب العربية: في البحوث المقدمة إلى مؤتمر دراسات تاريخ شرق الجزيرة العربية، ج2. الدوحة: اتحاد المؤرخين العرب: لجنة تدوين تاريخ قطر، 1396ه/ 1976م. ص ص 940-946.
17- نجاة عبد القادر القناعي
أهمية الوثائق العثمانية في دراسة تاريخ الخليج العربي وشبه جزيرة العرب. مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية (الكويت). س8، ع30 (جمادى الآخرة 1402هـ/ أبريل 1982م). ص ص 143-192.
18- MaCarthy, Justin(/3)
Ottoman sourses on Arabian population. In: Sources for the history of Arabia. Vol. 2. Riyadh: University of Riyadh Press, 1979. Pp. 113 - 113 .
(المصادر العثمانية عن سكان جزيرة العرب).
19 - Ochsenwald, William
Ottoman sources for the history of the Hijaz. In: Sources for the history of Arabia. Vol. 2. Riyadh: University of Riyadh Press, 1979. Pp. 163 - 175 .
(المصادر العثمانية لتاريخ جزيرة العرب)
20- Ozbaran, Salih
The importance of Torkish archives for the history of Arabia in the sixteenth century (with particular reference to the Beylerbeyliks of the Yemen and Lahsa). In: Sources for the history of Arabia. Vol. 2. Riyadh: University of Riyadh Press, 1979. Pp. 105 - 112 .
(أهمية دور الوثائق التركية لتاريخ الجزيرة العربية في القرن السادس عشر مع إشارة خاصة لنظام (البيلربيكية) في اليمن والأحساء).
أوراق المبعوثين الأجانب
21- عمر بن صالح بن سليمان العمري
أوراق المبعوثين الأجانب مصدرًا لتاريخ الخليج: دراسة للنموذج البريطاني من خلال سجلات المقيم والوكالات البريطانية في الخليج: ط1. الرياض: ع. ص. العمري، 1418هـ/ 1997م. 68- ص.
الدوريات
22- حسين بن حمزة آل حسين الشريف
المدينة المنورة وما يتصل بها في بعض الدوريات العربية: المنهل، مج59، ج10، 11 (شوال – ذو القعدة 1418هـ/ فبراير – مارس 1998م). ص ص 122-125.
23- عبد الفتاح حسن أبو علية
التقارير والدوريات: في كتابه: دراسات في مصادر تاريخ شبه الجزيرة العربية الحديث والمعاصر. ط1. الرياض: دار المريخ، 1399هـ/ 1979م. ص ص 309-340.
24- Nabti, Michel
Sources for the history of Arabia in professional journals. In: Sources for the history of Arabia. Vol.2. Riyadh: University of Riyadh Press, 1979. Pp. 153 - 162 .(/4)
(مصادر تاريخ الجزيرة العربية في المجلات المتخصصة).
الرحلات
25- ابن الريف النجلاني إمحند
المدينة المنورة في كتب الرحالين المغاربة: المنهل. مج54، ع499 (الربيعان 1413هـ/ سبتمبر – أكتوبر 1992م). ص ص 186-208.
26- عبد القدوس الأنصاري
الجزيرة العربية في رحلة ابن جبير والعبدري: المنهل. ع5، 6 (جمادى الأولى – جمادى الآخرة 1397هـ/ مايو – يونية 1977م). ص ص 1100-1107.
27- عبد اللطيف بن عبد الله بن دهيش
دراسة موجزة لبعض مؤلفات ((كريستيان سنوك هروغرونيه)) عن تاريخ الجزيرة العربية: العرب. س11، ع11، 12 (الجماديان 1397هـ/ آيار – حزيران 1977م). ص ص 942-948.
28- عواطف محمد نواب
الرحلات المغربية والأندلسية مصدر من مصادر تاريخ الحجاز في القرنين السابع والثامن الهجريين: الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1417هـ/1996م. 502 ص. في الأصل: رسالة (ماجستير) – جامعة أم القرى – 1411هـ.
29- كوبرلي ديفيد.
كتابات الرحالة الأجانب كمرجع لدراسة الحركة الوهابية في القرن التاسع عشر الميلادي: ترجمة وتعليق عبد الله بن ناصر الوليعي، الرياض: دار روتا برنيت، 1412هـ/1991م. 93ص. في الأصل: أطروحة ماجستير – جامعة أريزونا – 1984م.
30- محمد محمود الصياد
الرحالة الأجانب في الجزيرة العربية قبل القرن التاسع عشر: المؤرخ العربي. ع14 (1980). ص ص 44-61.
31- محمد همام فكري
الرحالة والمستكشفون الغربيون في الجزيرة العربية: آفاق الثقافة والتراث (دبي)، س5. ع18 (ربيع الثاني 1418هـ/ أغسطس 1998م) ص ص 41-48.
32- منصور إبراهيم الحازمي
رحلات العرب في جزيرة العرب: البلاد العربية السعودية، 1901-1972م. الدارة س5، ع3 (ربيع الآخر 1400هـ/ مارس 1980م). ص ص 8-53.
السالنامات (الكتب السنوية)
33- سهيل صابان
سالنامة ولاية الحجاز، 1301- 1309هـ: مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية، مج1، ع1 (المحرم ـ جمادى الآخرة 1416هـ/ يوليو – ديسمبر1995م) ص ص 192-203.(/5)
34- محمد حرب
السالنامة العثمانية وأهميتها في بحوث الخليج والجزيرة العربية: مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية (الكويت) س9. ع33 (ربيع الأول 1403هـ/ يناير 1983م). ص ص 145-175.
عروض الكتب
35- عبد الوهاب الدهلوي
بحث فريد في بابه تعريف بالكتب المؤلفة عن الحرمين والطائف وجدة: المنهل. مج7، ع7 (رجب 1366هـ/ يونيو 1947م). ص ص 293-298. [وأيضًا مج7، ع8 وع9 وع10].
كتب الأنساب
36- عبد العزيز الدوري
كتب الأنساب وتاريخ الجزيرة العربية: في: دراسات في تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الأول، ج1. الرياض: جامعة الرياض، [1399هـ/1979م] ص ص 129-141.
كتب المنازل
37- حمد الجاسر
كتب المنازل من روافد الدراسات عن جغرافية جزيرة العرب: العرب، س12، ع5و6 (ذو العقدة – ذو الحجة 1397هـ/ كانون الأول 1977م) ص ص 321-345.
المخطوطات
38- خليل ساحلي أغلو
مخطوطات عن الجزيرة العربية في مكتبة جامعة إستانبول: الدارة. س 3، ع3 (شوال 1397هـ/ سبتمبر 1977م). ص ص 124-147.
39- عادل الألوسي
الجزيرة العربية في المخطوطات وفي مصادر التاريخ الحديث: التوثيق الإعلامي. مج8، ع2 (1989م). ص ص 79-86.
40- عبد الكريم كريم
بلاد الحجاز في المخطوطات المغربية المدونة خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر للهجرة: التاريخ العربي (الرباط). ع5 (شتاء 1418هـ/1998م). ص ص 105-126.
المراسلات
41- عبد العزيز بن عبد الله الخويطر
الملك عبد العزيز ومراسلاته: الرياض: المجلة العربية، 1418هـ/ 1997م 480 ص. (كتيب المجلة العربية/6).
42- عبد الله بن صالح العثيمين
الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب: الدارة. س7، ع3 (ربيع الثاني 1402هـ/ فبراير 1982م). ص ص 64-91.
43- عيثان بن علي بن جريس
من رسائل الملك عبد العزيز آل سعود إلى الشيخ عبد الوهاب أبو ملحة: العرب. س28، ع5و6 (ذو القعدة – ذو الحجة 1413هـ/ آيار – حزيران 1993م). ص ص 341-358.
44- عيثان بن علي بن جريس(/6)
من رسائل الملك عبد العزيز آل سعود ورجال حكومته إلى بعض الشيوخ والعشائر العسيرية: العرب. س27، ع11 و12 (الجماديان 1413هـ/ تشرين الثاني – كانون الأول 1993م). ص ص 735-751.
45- محسن محمد
فيصل من خلال وثائق بريطانية تنشر لأول مرة: الدارة، س1، ع3 (شعبان 1395هـ/ سبتمبر 1975م). ص ص 256-271.
46- محمد عمر توفيق
خطاب بقلم فيصل: الدارة، س1، ع3 (شعبان 1395هـ/ سبتمبر 1975م)، ص ص 8-15.
المصادر (عام)
47- أحمد مصطفى أبو حاكمة
مقدمة في المصادر: في كتابه: محاضرات في تاريخ شرقي الجزيرة العربية في العصور الحديثة، القاهرة، معهد البحوث والدراسات العربية، 1967م ص ص 3-28.
48- حسن أحمد محمود
التهديد البرتغالي لسواحل جزيرة العرب ومصادر دراسته: العرب. س12, ع7 و8 (محرم-صفر 1398هـ/ كانون الثاني-شباط 1978م).
49- عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم
مصادر تاريخ الدولة السعودية الأولى: [تسجيلة مرئية]، تقديم عبد اللطيف بن محمد الحميد، الرياض، دارة الملك عبد العزيز، 1418هـ/ 1998م، 1 كاسيت (حوالي 80د): ناطق، ملون، وسط (VHS ). ضمن فعاليات الموسم الثقافي لدارة الملك عبد العزيز.
50- عبد الفتاح حسن أبو علية
دراسة في أهم مصادر التاريخ السعودي: مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ع5 (1395هـ/1975م)، ص ص 487-544.
المصادر الأدبية
51- عبد الله الصالح العثيمين
الشعر النَّبَطِيّ كمصدر لتاريخ نجد: المنهل، ع5و6 (جمادى الأولى – جمادى الآخرة 1397هـ/مايو-يونيو1977م). ص ص 1084-1098
52- محمد مصطفى هدارة
تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام في المصادر الأدبية: الفيصل، ع5 (ذو القعدة 1397هـ/اكتوبر 1977م)، ص ص 12-21.
مصادر تاريخ المدن والقرى
53-إمحند بن علال البخلاني
مؤلفات عن مكة المكرمة: المنهل، س56. مج51، ع475 (الربيعان 1410هـ/ أكتوبر-نوفمبر 1989م)، ص 200-209.
54- بهجت كامل التكريتي(/7)
الطائف في كتب الجغرافيين العرب في دراسات في تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الأول، ج2 الرياض، جامعة الرياض، [1399هـ/1979م] ص ص 357-371 .
55- صالح العلي
المؤلفات العربية عن المدينة والحجاز: المجمع العلمي العراقي، مج11 (1384هـ/1964م)، ص 118-157 .
56-عاتق بن غيث البلادي
مؤلفات عن مكة المكرمة: المنهل، س56، مج51، ع475 (الربيعان 1410هـ/ أكتوبر – نوفمبر1989م). ص ص 194-199.
57- عبد الله الماجد
الأفلاج في المصادر العربية القديمة: للدارة، س1، ع2 (جمادى الآخرة 1395هـ/ يونيو 1975م). ص 214-220.
58- علي عبد الله عبد الدائم
مصادر تاريخ قبيلة سليم: المنهل، ع9 (رمضان 1387هـ/ ديسمبر 1967م) ص993.
59- لطف الله قاري
من تاريخ المدن والقرى لدى مؤرخي العرب: المنهل، مج31 (جمادى الأولى 1390/ يولية 1970م)، ص 692-695 .
60-محمد ربيع
الباحة في بعض المدونات العربية والأجنبية: [عرض]، تجارة الباحة، س10، ع58 (ذو القعدة- ذو الحجة 1415هـ/ أبريل – مايو 1995م). ص ص 58-59.
المصادر الدينية الإسلامية
61- Ziadeh, FarhaT
Al – Muwatta as sources for the social and economic history of the Hijaz. In: Sources for the history of Arabia. Vol. 1. Riyadh: University of Riyadh Press, 1979. Pp. 25 -33.
(الموطأ كمصدر لتاريخ الحجاز الاجتماعي والاقتصادي)
62- Goyunc, Nejat
Some documents concerning the Ka'ba in the 16th century. In: Sources for the history of Arabia. Vol.1. Riyadh: University of Riyadh Press, 1979. Pp. 177 - 181 .
(بعض المصادر عن الكعبة في القرن السادس عشر)
المصادر الشفاهية
63-عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان
المدينة المنورة، مصادر شفهية ومفقودة في تاريخها: المنهل. مج54، ع499 (الربيعان 1413هـ/ سبتمبر – أكتوبر 1992م)، ص 106-111.
المصادر القانونية
64- Serjeant, R.B .(/8)
Customary law documents as a source of history. In: Sources for the history of Arabia. Vol.2. Riyadh Press, 1979 . Pp. 99 - 103.
(وثائق القانون العرفي العربية كمصدر للتاريخ).
المصادر الكلاسيكية
65- سامي أحمد
نظرة في جغرافية شبه الجزيرة العربية في المصادر اليونانية القديمة: العرب، س3، ع7 (محرم 1389هـ/ نيسان 1969م)، ص 596-605.
66- لطفي عبد الوهاب يحيى
الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية: في: دراسات في تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الأول، ج1، الرياض، جامعة الرياض، [1399هـ/1979م]، ص 55-71.
المؤلفات المغربية والأندلسية
67- حمد الجاسر
بلاد العرب في بعض مؤلفات الأندلس والمغرب: 1/ محمد بن محمد الإدريسي؛ [مراجعة] حمد الجاسر، العرب، س4، ع6 (ذو الحجة 1389هـ/ شباط 1969م). ص ص 481-484.
68- حمد الجاسر
ملامح للتراث المغربي عن جزيرة العرب: العرب، س16، ع9 و10 (الربيعان 1402هـ/ كانون الثاني – شباط 1982م). ص ص 641-750.
69- رشاد محي الدين الإمام
الوثائق والمخطوطات العربية لتاريخ الجزيرة العربية [في تونس]، المؤرخ العربي، ع13 (1980)، ص 189-198.
70- عبد الفتاح حسن أبو علية
خزينة الوثائق بتونس: في كتابه: دراسات في مصادر تاريخ شبه الجزيرة العربية الحديث والمعاصر، ط1. الرياض، دار المريخ، 1399هـ/ 1979م، ص 83-88.
71- محمد المنوني
الخزانات المغربية من خلال ما تتوفر عليه من مصادر لتاريخ المملكة العربية السعودية: المنهل، س56، مج51، ع477 (جمادى الآخرة 1410هـ/ يناير 1990م)، ص 137-144.
72- نورة معجب سعيد الحامد
صورة الحجاز في مؤلفات بعض العلماء التونسيين في رسالتها: صلات تونس بالحجاز: دارسة في النواحي الثقافية, والاقتصادية, والاجتماعية، (1256 – 1326هـ/ 1840-1908م)، إشراف خيرية قاسمية الرياض، جامعة الملك سعود، كلية الدراسات العليا 1419هـ/ 1998م، ص 113- 141. فصل من بحث مكمل لدرجة الدكتوراه.(/9)
المؤلفات اليمنية
73-حمد الجاسر
من تاريخ الدولة السعودية الأولى في المؤلفات اليمنية: العرب، س26، ع7 و8 (محرم – صفر – 1412هـ/ حزيران – آب 1991م). ص ص 433- 447.
الوثائق (عام)
74-صلاح العقاد
استخدام الوثائق في منازعات الحدود بمنطقة الخليج: مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، (الكويت)، س11، ع43 (شوال 1405هـ/يوليو 1985م)، ص 141-153.
الوثائق البريطانية
75- عبد الأمير محمد أمين
مصادر تاريخ الجزيرة العربية في دار السجلات الحكومية في بومباي: المؤرخ العربي، ع5 (1976)، ص 207-227 .
76- عبد الفتاح حسن أبو علية
أرشيف السجلات البريطانية العامة: في كتابه: دراسات في مصادر تاريخ شبه الجزيرة العربية الحديث والمعاصر، ط1، الرياض، دار المريخ، 1399هـ/ 1979م، ص 257-284 .
77- عبد الفتاح حسن أبو علية
وثائق سجلات حكومة بريطانيا في الهند: في كتابه: دراسات في مصادر تاريخ شبه الجزيرة العربية الحديث والمعاصر، ط1، الرياض، دار المريخ، 1399هـ/ 1979م، ص 223-256 .
78-مصطفى عبد القادر النجار
الوثائق البريطانية وأهميتها في كشف المصالح البريطانية في جزيرة العرب بعد الحرب العالمية الأولى (1918-1926): في: دراسات في تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الأول، ج2، الرياض، جامعة الرياض، [1399هـ/1979م]، ص 197-205 .
79- نجدة فتحي صفوة
الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية: نجد والحجاز: اختيار وترجمة وتحرير، ط1. بيروت، دار الساقي، 1416هـ/ 1996م، مجلدان.
80- Hopwood, Derek
Papers relating to Arabia in the archives of the Middle East Centre, St. Antony's College, Oxford. In: Sources for the history of Arabia. Vol.2. Riyadh: University of Riyadh Press, 1979. Pp. 145 - 151 .
(الأوراق الخاصة ذات الصلة بالجزيرة العربية في مخطوطات كلية سانت أنطوني بإكسفورد).
81- Pearson, J.D .(/10)
Western language documents in the British Isles relating to Arabia. In: Sources for the history of Arabia. Vol.2. Riyadh: University of Riyadh Press, 1979. Pp. 135 - 143 .
(الوثائق المكتوبة باللغات الأوربية والمتعلقة بالجزيرة العربية في الجزر البريطانية)
الوثائق السودانية
82- عبد الفتاح حسن أبو علية
دار الوثائق المركزية بالخرطوم: في كتابه: دراسات في مصادر تاريخ شبه الجزيرة العربية الحديث والمعاصر، ط1، الرياض، دار المريخ، 1399هـ/ 1979م، ص 82-83 .
الوثائق المحلية
83- عبد العزيز الخويطر
المصادر المحلية لتاريخ المملكة العربية السعودية: جريدة الجزيرة، ع9012 (26 المحرم 1418هـ)، الأصل: محاضرة ضمن الموسم الثقافي لدارة الملك عبد العزيز.
84- عبد العزيز بن فيصل المبارك
وثائق الأحوال الشخصية من الناحية التاريخية: العرب، س2، ج1 (رجب 1387هـ/ تشرين 1967م). ص ص 51-59 .
85- عبد الفتاح حسن أبو علية
وثائق عن تاريخ الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز، 1902-1953م: الدارة، س4، ع1 (ربيع الآخر 1398هـ/ مارس 1978م). ص ص 144-173 .
86- محمد أمين التميمي
وثيقتان تاريخيتان في تاريخ الدولة السعودية: الدارة، س1، ع2 (جمادى الآخرة 1395هـ/ يونيو 1975م). ص ص 88-97 .
87- منيرة العرينان
الوثائق المحلية وأهميتها في كتابة تاريخ المملكة: الرياض، دارة الملك عبد العزيز، 1419هـ/1988م، محاضرة غير منشورة (ضمن الموسم الثقافي النسائي).
الوثائق المصرية
88- صلاح أحمد هريدي علي
الحجازيون وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية في مدينة الإسكندرية في العصر العثماني: دراسة وثائقية من سجلات المحكمة الشرعية بالشهر العقاري، 923-1213هـ/ 1517-1798م: المؤرخ العربي، س 13، ع33 (1407هـ/1987م)، ص 274-289 .
89- عبد الحميد محمد البطريق(/11)
أشراف الحجاز في الوثائق المصرية: الفترة العثمانية المصرية (1228-1256هـ) (1813-1840م): في: دراسات في تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الأول، ج2، الرياض، جامعة الرياض[1399هـ/ 1979م]. ص ص 229-245 .
90- عبد الفتاح حسن أبو علية
محفوظات دار الوثائق القومية في القاهرة، في كتابه: دراسات في مصادر تاريخ شبه الجزيرة العربية الحديث والمعاصر، ط1، الرياض، دار المريخ، 1399هـ / 1979م، ص 21-32 .
91- عبد اللطيف إبراهيم
وثائق الوقف على الأماكن المقدسة، في: دراسات في تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الأول، ج2، الرياض، جامعة الرياض، [1399هـ/1979م]، ص 251-257.
92- محمد مرسي عبد الله
وثائق القلعة: محمد علي في الجزيرة العربية وعلاقاته بالخليج العربي، 1807-1842، الوثيقة: ع16 (جمادى الثانية 1410هـ/ يناير 1990م) ص ص 10-19 .
93- مصطفى محمد رمضان
وثائق مخصصات الحرمين الشريفين في مصر إبان العصر العثماني: في: دراسات في تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الأول، ج2، الرياض، جامعة الرياض، [1399هـ/ 1979م]، ص ص259-274.(/12)
العنوان: دليل الحاجِّ والمعتمر وزائر مسجد الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم
رقم المقالة: 1707
صاحب المقالة: مجموعة من العلماء
-----------------------------------------
دليل الحاجِّ والمعتمر وزائر مسجد الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم
تأليف
مجموعة من العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
أيها الأخوة الحُجاج الكرام..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بكم في الدِّيار المقدسة والرِّحاب الطاهرة، ضيوفًا للرحمن جلَّ جلاله.
ويسرُّ هيئة التوعية الإسلامية في الحج أن تقدِّم لكم هذا الدليل الموجز، المحتوي على أهمِّ ما يجب أن يعرفه الحاج الكريم عن مناسك حجِّه وعمرته، بادئين ببعض الوصايا الهامة، التي نوصي بها أنفسنا أولاً ثم نوصيكم بها؛ انطلاقًا من قول الحق سبحانه في وصف النَّاجين من عباده، الرابحين منهم في الدنيا والآخرة: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، وعملاً بقوله جلَّ شأنه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وكل ما نرجوه منك أيها الحاجُّ أن تحرص على قراءة هذا الكتيِّب قبل دخولك في أعمال الحج لتؤدي هذه الفريضة على بصيرة من أمرك، وستجد فيه ما يغنيك عن كثير من الأسئلة.
كما نأمل أن تحافظ عليه لعامِك هذا ولما بعده إن كتب الله لك الحج.
كما نطلب منك أن تُهديه لإخوانك ممن تلمس فيهم الرغبة للقراءة؛ لتعمَّ الفائدة ويحصل النفع إن شاء الله، نسأل الله للجميع حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وعملاً صالحًا متقبَّلاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصايا هامة:
أيها الحجاج، نحمد الله أن وفَّقكم لحجِّ بيته وزيارة حَرَمه، ونسأله أن يتقبَّل منا ومنكم صالح الأعمال، ويضاعف لنا ولكم الثواب، ونتقدَّم إليكم بهذه الوصايا رجاءَ أن يجعل الله حجَّنا جميعًا مبرورًا وسعينا مشكورًا.(/1)
1- اذكُروا أنكم في رحلة مباركة، وهجرة إلى الله، تقوم على توحيده والإخلاص له، وتلبية دعوته وطاعته، ولا أعظم من ذلك أجرًا؛ فالحج المبرور جزاؤه الجنة.
2- احذروا أن يُوقع بينكم الشيطانُ؛ فإنه عدوٌّ متربِّصٌ؛ فتحابُّوا بروح الله، وتجنبوا الجدال ومعصية الله. واعلموا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحِبُ لنفسه)).
3- اسألوا أهل العلم فيما أشْكَل عليكم من أمور دينكم وحجِّكم؛ حتى تكونوا على بصيرة من ذلك؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرِدِ الله به خيرًا يُفقهه في الدِّين)).
4- اعلموا: أن الله فرض علينا فرائض وسنَّ لنا سننًا، ولا يقبل الله السنن ممَّن ضيَّع الفرائض، وقد يغفل بعض الحجاج عن هذه الحقيقة، فيؤذون المؤمنين والمؤمنات ليُقبِّلوا الحَجَر، أو يرْمَلُوا في الطواف، أو يُصَلُّوا خلف المقام، أو يشربوا من زمزم - مثلاً - وذلك سنَّةُ، وإيذاء المؤمنين حرامٌ، فكيف نفعل حرامًا لنأتي بسنَّة؟ فتجنَّبوا إيذاء بعضكم بعضًا، والله يكتب لكم الثواب ويعظم لكم الأجر.
ونزيدكم بيانًا فنقول:
- لا ينبغي لمسلم أن يصلي بجوار امرأة أو خلفها، في المسجد الحرام أو غيره، لأي سبب مع القدرة على السلامة من ذلك. وعلى النساء أن يصلِّينَ خلف الرجال.
- أبواب الحرم ومداخله طرقٌ لا ينبغي إغلاقها بالصلاة فيها، ولو كان لإدراك الجماعة.
- لا يجوز تعطيل الطواف بالجلوس حول الكعبة أو الصلاة قربها، أو الوقوف عند الحِجْر أو مقام إبراهيم، وخاصة عند الزحام؛ لما في ذلك من الضَّرر والإيذاء.
- تقبيل الحجر الأسود سنَّة، والمحافظة على كرامة المسلم فريضة؛ فلا تضيَّع فريضة لإقامة سنَّة. ويكفيك عند الزحام أن تشير إليه وتكبِّر، وتمضي مع الطائفين، ولا تخترق الصفوف؛ بل سايرها حتى تخرج من المَطاف برفق.(/2)
- الرُّكن اليماني ليس من السنَّة تقبيله، وإنما يُستلم باليمين عند عدم الزحام. ويقول عند استلامه: "بسم الله والله أكبر"، ولا يقبِّله؛ فإن شقَّ عليه استلامه تركه ومضى في طوافه، ولا يشير إليه، ولا يكبِّر عند محاذاته؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
ويستحب له أن يقول بين الرُّكنين اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].
وأخيرًا نوصي الجميع بالالتزام بالكتاب والسنة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].
نواقض الإسلام
اعلم أيها الأخ المسلم:
أن هناك أمورًا تنقض الإسلام، وأكثرها وقوعًا عشرة نواقض فاحذرها؛ وهي:
الأول: الشرك في عبادة الله؛ قال الله تعالى: {إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، ومن ذلك دعاء الأموات والاستغاثة بهم، والنذر والذبح لهم.
الثاني: مَنْ جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم؛ فقد كفر إجماعًا.
الثالث: مَنْ لم يكَفِّر المشركين أو يَشُكَّ في كفرهم أو صحَّح مذهبهم - كَفَرَ.
الرابع: من اعتقد أن هَدْي غير النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أكمل من هَدْيه، أو حُكم غيره أحسن من حُكمه، كالذين يُفضِّلون حكم الطواغيت على حكمه - فهو كافرٌ، ومن ذلك:
- اعتقاد أن الأنظمة والقوانين التي يسنَّها الناس أفضل من شريعة الإسلام.
- أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين.
- أو أن الإسلام كان سببًا في تخلُّف المسلمين.
- أو أنه يُحْصَرُ في علاقة المرء بربه، دون أن يتدخَّل في شؤون الحياة الأخرى.
- القول بأن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصَن لا يُناسب العصر الحاضر.(/3)
- اعتقاد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله في المعاملات الشرعية أو الحدود أو غيرهما، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة؛ لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرَّم الله إجماعًا، وكلُّ مَن استباح ما حرَّم الله مما هو معلومٌ من الدين بالضرورة؛ كالزنا والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله - فهو كافرٌ بإجماع المسلمين.
الخامس: من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمشروعيته ولو عمل به - فقد كفر لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9].
السادس: مَن استهزأ بشيءٍ من دين الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو ثوابه أو عقابه فقد كفر؛ لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66].
السابع: السِّحْر ومنه الصرفُ - أي: صْرف الرجل عن محبة زوجته إلى بغضها - ومنه العطف - أي: ترغيب الإنسان فيما لا يهواه بطرق شيطانية. فمن فعله أو رضيَ به كفر؛ لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102].
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
التاسع: مَن اعتقد أن بعض الناس يَسَعُهُ الخروج عن شريعة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو كافرٌ؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].(/4)
العاشر: الإعراض الكلِّي عن دين الله أو عمَّا لا يصحُّ الإسلام إلا به، لا يتعلمه ولا يعمل به؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22].
- ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجادِّ والخائف، إلاَّ المُكْرَه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.
كيف تؤدِّي مناسك الحجِّ والعمرة
وتزور مسجد الرسُول صلَّى الله عليه وسلَّم؟
أيها المسلم الكريم:
الأنساك ثلاثةٌ: التمتع، والقران، والإفراد.
التمتُّع: هو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج (شوَّال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة)، ويفرغ منها الحاجُّ، ثم يُحْرِم بالحجِّ من مكة أو قُرْبها يوم التَّرْوية في عام عُمرته.
القِران: وهو الإحرام بالعمرة والحج معًا، ولا يُحِلُّ منهما الحاجُّ إلا يوم النَّحر، أو يُحْرم بالعمرة، ثم يُدْخِلُه عليها قبل الشُّروع في طوافها.
الإفراد: وهو أن يُحرم بالحج من الميقات، أو من مكة إذا كان مقيمًا بها، أو بمكان آخر دون الميقات، ثم يبقى على إحرامه إلى يوم النحر إذا كان معه هَدْيٌ، فإن لم يكن معه هَدْيٌ شُرِعَ له فَسْخ حجِّه إلى العمرة؛ فيطوف ويسعى ويقصر ويحلّ كما أمر به النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين أحرموا بالحجِّ وليس معهم هَدْيٌ. وهكذا القارِن إذا لم يكن معه هَدْيٌ - يُشرع له فَسْخ قرانه إلى العمرة لما ذكرنا.
وأفضل الأنساك: التمتُّع لمن لم يَسُقِ الهَدْيَ؛ لأن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمر به أصحابه وأكَّده عليهم.
صفة العُمْرَة
1- إذا وصلتَ إلى الميقات فاغتسل وتطيَّب إن تيسر لك ذلك، ثم البس ثياب الإحرام إزارًا ورداءً، والأفضل أن يكونا أبيضَيْن، والمرأة تلبس ما تشاء من الثياب غير متبرِّجة بزينة.(/5)
ثم تنوي الإحرام بالعمرة وتقول: "لبَّيْك عُمْرَةً"، ((لبَّيْك اللهم لبَّيْك، لبَّيْك لا شريك لك لبَّيْك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)). ويجهر بها الرجال ولا تجهر بها النساء.
ثم تُكثر من التَّلْبية والذِّكْر والاستغفار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- فإذا وصلت مكة فَطُفْ بالكعبة سبعةَ أشواط، تبتدئ من الحجر الأسود مكبِّرًا وتنتهي إليه، وتذكر الله وتدعوه بما تشاء من الذِّكر والدعاء، والأفضل أن تختم كلَّ شوط بقولك: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، ثم تصلِّي خلف مقام إبراهيم ولو بعيدًا عنه إن تيسَّر، وإلا ففي أيِّ مكانٍ من المسجد.
3- ثم اخرج إلى الصَّفا، واصعد عليه مستقبلاً الكعبة، واحمد الله تعالى وكبِّره ثلاثًا رافعًا يديك، وادعُ وكرِّر الدعاء ثلاثًا. هذا هو السُّنة، وقل: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير", "لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" ثلاثًا، وإن اقتصرتَ على أقلِّ من ذلك فلا حرج.
- ثم انزل فاسعَ سعيَ العمرة سبعَ مرات، تُسرِع في سعيك بين العَلَمَيْن الأخضرَيْن، وتمشي المشي المعتاد قبلهما وبعدهما، ثم تصعد على المروة، وتحمد الله، وتفعل كما فعلت على الصَّفا، وتكرِّره إن تيسَّر لك ذلك ثلاثًا.
- وليس للطواف والسعي ذكرٌ واجبٌ مخصوصٌ؛ بل يأتي الطائف والساعي بما تيسَّر من الذِّكر والدعاء أو قراءة القرآن. مع العناية بما ثبت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ذلك من الذِّكر والدعاء.
4- فإذا أتمَمْتَ سَعْيَكَ فاحلق أو قصِّر شعرَ رأسِك، وبذلك تمَّت عمرتك، وبعدها يُباح لك كلَّ شيءٍ من محظورات الإحرام.(/6)
- فإن كنت متمتِّعًا وَجَبَ عليك هَدْيُ يوم النحر؛ شاةً أو سُبُعُ بَدَنَة أو بقرة، فإن لم تجد فعليك صيام عشرة أيام، ثلاثة في الحجِّ وسبعة إذا رجعت إلى أهلكَ.
- والأفضل أن تصوم الثلاثة قبل يوم عرفة إن كنت متمتِّعًا أو قارنًا.
صفة الحَجِّ
1- إذا كنت مُفْرِدًا للحجِّ أو قارِنًا له مع العمرة؛ فأحرِم من الميقات الذي تأتي عليه، وإذا كنت دون المواقيت؛ فأحرِم بالحجِّ من مكانك يوم التَّرْوِيَة، وهو اليوم الثامن من ذي الحجَّة.
- اغتسل وتطيَّب إن تيسَّر لك ذلك، والبس ثياب الإحرام، ثم قل: ((لبَّيْك اللهم لبَّيْك ...)) الخ.
2- ثم اخرج إلى مِنى وصلِّ بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، تصلِّي الرباعيَّة ركعتين، قصرًا في أوقاتها بدون جمع.
3- فإذا طَلَعَتْ شمس يوم التاسع من ذي الحجَّة فَسِرْ إلى عرفات بسَكينة، واحذر من إيذاء إخوانك الحجاج، وصَلِّ بها الظهر والعصر جمعَ تقديمٍ، قصرًا بأذانٍ واحدٍ وإقامتين.
- ثم تأكَّد من دخولك حدودَ عرفات، وأكثِرْ فيها من الذِّكْر والدعاء مستقبِلاً القبلة، رافعًا يديك؛ تأسِّيًا بالمصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم. و((عرفة كلها موقِفٌ))، وتبقى داخل عرفات حتى تغيب الشمس.
4- فإذا غربت الشمس فَسِرْ إلى مُزْدَلِفَة بسكينةٍ ووقارٍ ملبِّيًا، ولا تُؤذِ إخوانك المسلمين، وصلِّ بها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا حين وصولك مُزْدَلِفَة، ثم تبقى بها إلى أن تصلِّي الفجر ويُسْفِر الصبح، وأكثِر من الدعاء والذِّكر بعد صلاة الفجر، مستقبِلاً القبلة، رافعًا يديك؛ اقتداءً بالنبي - صلِّى الله عليه وسلَّم.(/7)
5- ثم سِرْ قبل طلوع الشمس إلى مِنى ملبِّيًا. وإذا كان لك عذرٌ - كالنساء والضعفاء - فلا بأس بأن تسير إلى مِنى في النصف الأخير من الليل، وخذ معك سبعَ حَصَيَاتٍ فقط؛ لترمي جمرةَ العقبة، أما باقي الحصى فالتقِطْه من مِنى، وهكذا السَّبع التي ترمي بها يوم العيد جمرةَ العقبة - لا بأس بأَخْذِها من مِنى.
6- وإذا وصلت إلى مِنى فاعمل ما يأتي:
- ارْمِ جمرةَ العقبة - وهي القريبة من مكة - بسبع حَصَيَاتٍ متعاقبات، تُكبِّر مع كلِّ حصاةٍ.
- اذْبحِ الهَدْيَ - إن كان عليك هَدْيٌ - وكُلْ منه وأطعم الفقراء.
- احلقْ أو قصِّر شعرَ رأسك، والحَلْق أفضل، والمرأة تقصر منه قدر أُنْمُلَة.
- وهذا الترتيب أفضل، وإن قدَّمت بعضها على بعضٍ فلا حرج.
- وإذا رميتَ وحَلَقْتَ أو قصَّرت؛ تحلَّلْتَ التحلُّل الأوَّل، وبعده تلبس ثيابك، وتحلُّ لك المحظورات سوى النساء.
7- ثم انزل إلى مكة وطُفْ طواف الإفاضة، واسعَ بعده إن كنت متمتِّعًا أو لم تَسْعَ مع طواف القدوم إن كنت قارِنًا أو مُفْرِدًا، وبهذا تحلُّ لك النساء.
- ويجوز تأخير طواف الإفاضة إلى ما بعد أيام مِنى، والنزول إلى مكة بعد الفراغ من رمي الجمار.
8- ثم بعد طواف الإفاضة - يوم النَّحر - ارجعْ إلى مِنى وبِتْ فيها لياليَ إحدى عشرة واثنتي عشرة وثلاث عشرة - أيام التَّشريق الثلاثة - وإن بِتَّ ليلتين فجائزٌ.
9- ارْمِ الجمرات الثلاث في اليومين أو الثلاثة التي تبقاها بمِنى بعد الزوال، تبدأ بالأولى - وهي أبعدهنَّ من مكة - ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، كلُّ واحدةٍ بسبع حَصَيَاتٍ متعاقبات، تُكبِّر مع كلِّ حصاة.
- وإن اقتصرتَ على يومين تخرج من مِنى قبل غروب شمس اليوم الثاني، فإن غَرَبَتْ عليك الشمس بمِنى بقيت لليوم الثالث ورميت فيه كذلك، والأفضل أن تبيت ليلة الثالث.
- ويجوز للمريض والضعيف أن يُنيبَ عنه في الرَّمي، ويجوز للنائب أن يرمي عن نفسه أولاً، ثم عن مُنيبه، في موقفٍ واحدٍ.(/8)
10- إذا أردت الرجوع إلى بلدكَ بعد انتهاء أعمال الحج فطُفْ بالكعبة طواف الوداع، ولا يُعفى من ذلك إلا الحائض والنفساء.
ما يجب على المُحْرِم
يجب على المُحْرِم بحجٍّ وعُمْرة ما يلي:
1- أن يلتزم بما أوجبه الله عليه من فرائض دينه؛ كالصلاة في أوقاتها جماعةً.
2- أن يتجنَّب ما نهى الله عنه من الرَّفَث والفسوق والجدال والعصيان.
3- أن يتحاشى إيذاء المسلمين بالقَوْل أو الفعل.
4- أن يتجنَّب محظورات الإحرام؛ وهي:
- لا يأخذ من شعره أو أظفاره شيئًا، وإن سقط منها شيءٌ بدون قصدٍ؛ فلا شيء عليه وقت الإحرام.
- لا يتطيَّب في بدنه أو ثوبه أو مأكله أو مشربه، ولا بأس بما بقيَ من أثر الطِّيب الذي فعله قبل إحرامه.
- لا يتعرَّض للصَّيد البري بقتلٍ أو تنفيرٍ أو إعانةٍ عليه ما دام مُحرمًا.
- لا يقطع المُحْرِم ولا الحلال شجرَ الحرم ونباته الأخضر، ولا يلتقط لُقَطَته إلا لتعريفها؛ لأن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عن ذلك كلِّه.
- لا يخطب النساء، ولا يَعْقِد عليهنَّ عقد النِّكاح لنفسه أو لغيره، ولا يجامعهنَّ - ما دام مُحْرِِمًا، ولا يباشرهن بشهوةٍ. وهذه المحظورات على الذكر والأنثى.
ويختصُّ الذِّكر بما يلي:
- لا يغطِّي رأسه بمُلاصِق، أما تظليله بالشَّمسية أو سقف السيارة أو حمل المتاع عليه - فلا بأس به.
- ولا يلبس القميص وما في معناه من كل مَخِيط للجسم كله أو بعضه، ولا البرانس، ولا العمائم، ولا السراويل، ولا الخِفاف، إلا إذا لم يجد إزارًا فيلبس السراويل، أو لم يجد النعلين فيلبس الخفَّيْن ولا حرج.
- يَحْرُم على المرأة وقت الإحرام أن تلبس القفَّازين في يديها، وأن تستر وجهها بالنقاب أو البُرْقُع، لكن إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب عنها - وجب عليها ستر وجهها بالخِمار ونحوه، كما لو لم تكن مُحْرِمة.(/9)
- وإن لبس المُحْرِم مَخِيطًا، أو غطَّى رأسه، أو تطيَّب، أو أخذ من شعره شيئًا، أو قلَّم أظافره، ناسيًا أو جاهلاً الحكمَ - فلا فدية عليه، ويزيل ما تجب إزالته متى ذَكَرَ ذلك أو عَلِمَه.
- ويجوز لبس النعلين، والخاتم، ونظَّارة العين، وسماعة الأذن، وساعة اليد، والحزام، والمِنْطَقَة التي يُحفظ بها المال والأوراق.
- ويجوز تغيير الثياب وتنظيفها، وغسل الرأس والبدن. وإن سقط بذلك شعرٌ بدون قصدٍ فلا شيء عليه، كما لا شيء في الجُرح يُصيبه.
صفة زيارة مسجد الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم
1- يُسَنُّ لك أن تذهب إلى المدينة في أيِّ وقتٍ بنية زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه؛ لأنَّ الصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه، إلا المسجد الحرام؛ لقول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك.
2- ليس لزيارة المسجد النبوي إحرامٌ ولا تلبيةٌ، ولا ارتباط بينها وبين الحجِّ بتاتًا.
3- إذا وصَلْتَ إلى المسجد النبوي فقدِّم رِجْلَك اليمنى عند دخوله، وسمِّ الله تعالى، وصلِّ على نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - واسأل الله أن يفتح لك أبواب رحمته، وقل: ((أعوذ بالله العظيم، ووجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم. اللهم افتح لي أبواب رحمتك)) كما يُشرع عند دخول سائر المساجد.
4- بادرْ بعد دخولك بصلاة تحية المسجد، وإن كانت في الروضة فحسنٌ، وإلا ففي أيِّ مكانٍ من المسجد.
5- ثم اذهب إلى قبر النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقف مستقبلاً له، ثم قُلْ بأدبٍ وخفض صوت: "السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته". وصلِّ عليه، وإن قلت: "اللهم آتِهِ الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، اللهم اجْزِه عن أمته أفضل الجزاء" فلا بأس.
- ثم تتحوَّل قليلاً إلى يمينك؛ لتقف أمام قبر أبي بكر - رضيَ الله عنه - فتسلِّم عليه، وتدعو له بالمغفرة والرحمة.(/10)
- ثم تتحوَّل قليلاً - مرةً أخرى - إلى يمينك؛ لتقف أمام قبر عمر - رضيَ الله عنه - فتسلِّم عليه، وتدعو له.
6- يُسَنُّ لك أن تذهب متطهِّرًا إلى مسجد قُباء، فتزوره وتصلِّي فيه؛ لفِعْل النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك وترغيبه فيه.
7- ويُسَنُّ لك أن تزور قبور أهل البَقيع، وقبرَ عثمان - رضيَ الله عنه - وشهداء أُحُد، وقبر حمزة - رضيَ الله عنه. تسلِّم عليهم، وتدعو لهم؛ لأنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يزورهم ويدعو لهم، وعلَّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية))؛ رواه مسلم.
وليس بالمدينة مساجد ولا أماكن تُشرع زيارتها غير ما ذُكِرَ، فلا تشقَّ على نفسك وتتحمَّل ما ليس لك فيه أجرٌ؛ بل ربما لحقك فيه وزرٌ. والله ولي التوفيق
أخطاءٌ يرتكبها بعض الحجَّاج
أولاً: أخطاءٌ في الإحرام
مجاوزة الحاجِّ ميقاتَ جهته دون أن يُحْرِمَ منه حتى يصل إلى جدة أو غيرها من داخل المواقيت فيُحْرِمَ منها، وهذا مخالفٌ لأمر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأن يُحْرِمَ كلُّ حاجٍّ من الميقات الذي يمرُّ عليه.
فعلى مَنْ وَقَعَ منه ذلك أن يرجع إلى الميقات الذي تجاوزه، فيُحْرِمَ منه - إن تيسَّر ذلك - وإلا فعليه فديةٌ يذبحها في مكة، ويطعمها كلَّها للفقراء، سواءٌ كان قدومه عن طريق الجوِّ أو البرِّ أو البحر.
فإن لم يمرَّ على ميقاتٍ من المواقيت الخمسة المعروفة؛ أحرم إذا حاذى أوَّل ميقاتٍ يمرُّ به.
ثانيًا: أخطاءٌ في الطَّواف
1- ابتداء الطواف قبل الحجر الأسود، والواجب الابتداء به.
2- الطواف من داخل حِجْر إسماعيل؛ لأنه حينئذٍ لا يكون قد طاف بالكعبة، وإنما طاف ببعضها؛ لأن الحِجْر من الكعبة، وبذلك يبطل طوافه.(/11)
3- الرَّمَل - وهو الإسراع- في جميع الأشواط السبعة، وهو لا يكون إلاَّ في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم خاصةً.
4- المزاحمة الشديدة لتقبيل الحجر الأسود، وأحيانًا المضاربة والمشاتمة، وذلك لا يجوز؛ لما فيه من الأذى للمسلمين، ولأن الشتم والضرب لا يجوز من المسلم لأخيه بغير حقٍّ.
وتَرْك التقبيل لا يضرُّ الطواف؛ بل طوافه صحيحٌ وإن لم يُقبِّل، وتكفيه الإشارة والتكبير إذا حاذاه ولو بعيدًا عنه.
5- تمسُّحهم بالحجر الأسود التماسًا للبركة منه، وهذه بدعةٌ لا أصل لها في الشرع، والسُّنة استلامه، وتقبيله فقط إن تيسَّر ذلك.
6- استلام جميع أركان الكعبة - وربما جميع جدرانها - والتمسُّح بها، ولم يستلم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الكعبة سوى ركن الحَجَر الأسود والرُّكن اليماني.
7- تخصيص كلِّ شوطٍ من أشواط الطواف بدعاءٍ خاصٍّ؛ إذ لم يثبت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - غير أنه كان يكبِّر كلما أتى على الحجر الأسود، ويقول بينه وبين الرُّكن اليماني في آخِر كلِّ شوطٍ: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].
8- رفع الصوت في الطواف من بعض الطائفين أو المطوِّفين، رفعًا يحصل به التشويش على الطائفين.
9- التزاحم للصلاة عند مقام إبراهيم، وهذا خلاف السُّنة، مع ما فيه من الأذى للطائفين، ويكفيه أن يصلِّيَ ركعتي الطواف في أيِّ مكانٍ من المسجد.
ثالثًا: أخطاءٌ في السعي(/12)
1- إذا صعدوا إلى الصَّفا والمروة استقبل بعض الحجَّاج الكعبة، ويشيرون بأيديهم إليها عند التكبير، وكأنهم يكبِّرون للصلاة، وهذه الإشارة خطأٌ؛ لأن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يرفع كفَّّيْه الشريفتَيْن للدُّعاء فقط - يحمد الله ويكبِّره ويدعوه بما يشاء - مستقبلاً القبلة، والأفضل أن يأتيَ بالذِّكر الذي أتى به النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الصَّفا والمروة.
2- الإسراع في السعي بين الصَّفا والمروة في كلِّ الشوط، والسُّنة أن يكون الإسراع بين العَلَمَين الأخضرَيْن فقط، والمشي في بقية الشوط.
رابعًا: أخطاءٌ في عرفات
1- نزول بعض الحجَّاج خارج حدود عرفة، وبقاؤهم في أماكن نزولهم حتى تغرب الشمس، ثم ينصرفون إلى مُزْدَلِفَة دون أن يقفوا بعرفات، وهذا خطأٌ جسيمٌ، يفوِّت عليهم الحجَّ؛ لأنَّ الحجَّ عرفة، والواجب عليهم أن يكونوا داخل الحدود لا خارجها.
فليتحرّوا ذلك، فإن لم يتيسَّر ذلك؛ دخلوها قبل الغروب، وبقوا فيها إلى الغروب، ويجزئ دخولهم إيَّاها ليلاً، في ليلة النَّحر خاصةً.
2- انصراف بعضهم من عرفة قبل غروب الشمس، وهذا غير جائزٍ؛ لأن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقف بعرفة حتى غربت الشمس تمامًا.
3- التزاحم من أجل صعود جبل عرفة والوصول إلى قمته، مما يترتَّب عليه كثيرٌ من الأضرار، وعرفة كلها مَوْقِفٌ، والصعود إلى الجبل غير مشروع، وهكذا الصلاة فيه.
4- استقبال بعضهم جبل عرفة في الدعاء، والسُّنة هي استقبال القِبْلة.
5- تكويم بعضهم التراب والحصى في يوم عرفة في أماكنَ معينة، وهو عملٌ لم يثبت في شرع الله.
خامسًا: أخطاءٌ في مُزْدَلِفَة
1- انشغال بعض الحجاج أوَّل نزولهم بمُزْدَلِفَة في لَقْطِ الحصى قبل أن يُصَلُّوا المغرب والعشاء، واعتقادهم أن حَصَى الجِمَار لابدَّ أن يكون من مُزْدَلِفَة.(/13)
والصواب: أنه يجوز أَخْذُه من أيِّ مكانٍ من الحرم، والثابت عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه لم يأمر بأن يُلْتَقَط له حصى جمرة العقبة من مُزْدَلِفَة، وإنما التُقِطَ له في الصباح حين انصرف من مُزْدَلِفَة، بعدما دخل مِنى، وهكذا بقية الحصى أخذه من مِنى.
2- بعضهم يغسل الحصى بالماء، وهو غير مشروع.
سادسًا: أخطاءٌ عند الرَّمي
1- اعتقاد بعض الحجَّاج أنهم يرمون الشياطين عند رميهم الجمار؛ فهم يرمونها بغيظٍ مصحوبٍ بسبٍّ لهذه الشياطين، وما شُرع رمي الجِمار إلاَّ لإقامة ذِكْر الله.
2- رميهم الجمرات بحصى كبيرة، أو بالحذاء، أو الأخشاب!! وهذا غلوٌّ في الدين، نهى عنه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنما المشروع رميها بالحصى الصغار؛ مثل حصى الخَذَفَ، ويشبه بَعْر الغنم الذي ليس بكبير.
3- التزاحم والتقاتل عند الجمرات من أجل الرمي، والمشروع الرِّفق وتحرِّي الرمي من دون إيذاء أحدٍ حسب الطاقة.
4- رمي الحصى جميعًا دفعةً واحدةً! وقد قال أهل العلم: لا يُحسَبُ له حينئذٍ إلا حصاةً واحدةً، والمشروع رمي الحصى واحدةً فواحدةٍ، والتَّكبير مع كلِّ حَصَاةٍ.
5- الإنابة في الرمي مع القدرة عليه؛ خوفًا من المشقَّة والزِّحام، والإنابة لا تجوز إلاَّ عند عدم الاستطاعة بالنَّفس لمرضٍ ونحوه.
سابعًا: أخطاءٌ في طواف الوداع
1- نزول بعضهم من مِنى يوم النَّفر قبل رمي الجمرات، فيطوف للوداع، ثم يرجع إلى مِنى فيرمي الجمرات، ثم يسافر من هناك إلى بلده؛ فيكون آخِر عهده بالجمار لا بالبيت. وقد قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يَنْفِرنَّ أحدٌ من الحاج حتى يكون آخِرُ عهده بالبيت)).
فطواف الوداع يجب أن يكون بعد الفراغ من أعمال الحج وقبيل السفر مباشرةً، ولا يمكث بمكة بعده إلا لعارضٍ يسير.(/14)
2- خروجهم من المسجد بعد طواف الوداع القَهْقَرَى، مستقبلين الكعبة بوجوههم؛ يزعمون بذلك تعظيم الكعبة! وهذه بدعةٌ في الدين لا أصل لها.
3- التفات بعضهم إلى الكعبة عند باب المسجد الحرام بعد انتهائهم من طواف الوداع، ودعاؤهم بدعوات كالمودِّعين للكعبة، وهذا أيضًا بدعةٌ لم تُشرع.
ثامنًا: أخطاء عند الزيارة للمسجد النبوي
1- التمسُّح بالجدران وقضبان الحديد عند زيارة قبر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وربط الخيوط ونحوها في الشبابيك تبرُّكًا. والبركة في ما شرع الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا في البدع.
2- الذهاب إلى المغارات في جبل أحد، ومثلها غار حراء وغار ثور بمكة، وربط الخِرَق عندها، والدعاء بأدعية لم يأذن بها الله، وتحمُّل المشقَّة في ذلك. كل هذه بدعٌ لا أصل لها في الشَّرع المطهَّر.
3- زيارة بعض الأماكن التي يزعمون أنها من آثار الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كمَبْرَك الناقة وبئر الخاتم أو بئر عثمان، وأخذ ترابٍ من هذه الأماكن للبركة.
4- دعاء الأموات عند زيارة مقابر البقيع ومقابر شهداء أُحُد، ورمي النقود عندها؛ تقرُّبًا إليها وتبرُّكًا بأهلها، وهذه من الأخطاء الجسيمة؛ بل من الشرك الأكبر كما ذكره أهل العلم، ودلَّ عليه كتاب الله وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّ العبادة لله وحده، لا يجوز صرف شيءٍ منها لغيره؛ كالدعاء والذَّبح والنذر ونحو ذلك، لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، ولقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً} [الجن: 18].
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، ويمنحهم الفقه في الدِّين، ويعيذنا وإيَّاهم من مضلاَّت الفِتن؛ إنه سميعٌ مجيبٌ.
توجيهات موجزة للحاج والمعتمر وزائر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
يجب على الحاجِّ:(/15)
1- المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب، وأن ينتخب لحجِّه وعمرته المالَ الحلال.
2- وأن يصون لسانه عن الكذب والغِيبة والنميمة والسخرية.
3- وأن يقصد بحجِّه وعمرته وجهَ الله والدارَ الآخِرة، بعيدًا عن الرِّياء والسُّمعة والمفاخَرة.
4- وأن يتعلَّم ما يُشرع له في حجِّه وعمرته من أعمال، ويسأل عمَّا أشكل عليه.
5- الحاج إذا وصل إلى الميقات مخيَّرٌ بين الإفراد بالحج والتمتُّع والقِران، والتمتُّع هو الأفضل لمن لم يَسُقْ هَدْيًا، أما مَنْ ساق هَدْيًا فالأفضل له القِران.
6- وإذا خاف المُحْرِم ألاَّ يتمكَّن من أداء نُسُكه بسبب مرض أو خوف اشترط؛ ((إِنَّ مَحِلِّي حيث حَبَسْتَني)).
7- يصحُّ حجُّ الصبي والجارية الصغيرة، ولا يجزئها عن حجَّة الإسلام.
8- يجوز للمُحرم أن يغتسل، ويغسل رأسه ويحكَّه إذا احتاج إلى ذلك.
9- يُباح للمرأة سَدْلُ خمارها على وجهها إذا خشيت أن يراها الرجال.
10- ما اعتاده كثيرٌ من النساء من جعل العُصْابة تحت الخمار لترفعه عن وجهها لا أصل له في الشرع.
11- يجوز للمُحْرِم غسل الثياب التي أحرم فيها ثم لبسها، ويجوز له تبديلها بغيرها.
12- إذا لبس المحرم مَخِيطًا أو غطَّى رأسه أو تطيَّب ناسيًا أو جاهلاً - فلا فدية عليه.
13- يقطع الحاجُّ التَّلْبية إذا وصل إلى الكعبة قبل أن يشرع في الطواف إن كان متمتِّعًا أو معتمرًا.
14- لا يشرع الرَّمَلُ والاضطباع إلا في طواف القدوم فقط، ويختصُّ الرَّمَل بالأشواط الثلاثة الأولى، وللرجال فقط دون النساء.
15- إذا شكَّ الحاجُّ: هل طاف ثلاثة أشواط أو أربعة - مثلاً - جعلها ثلاثةً، وهكذا في السعي.
16- لا بأس بالطواف من وراء زمزم والمقام عند الزحام، والمسجد كله محلٌّ للطواف.
17- من المنكرات طواف المرأة بالزينة والروائح الطيبة وعدم التستُّر.
18- إذا حاضت المرأة أو نفست بعد إحرامها - لا يصحُّ لها الطواف بالبيت حتى تَطْهُر.(/16)
19- يجوز للمرأة أن تُحْرِم فيما شاءت من الثياب، مع الحذر من التشبُّه بالرجال في لباسهم، مع مراعاة عدم التبرُّج بالزينة؛ بل تكون في ملابس غير فاتنة.
20- التلفُّظ بالنية في غير الحجِّ والعمرة - من العبادات الأخرى - بدعةٌ مستحدَثةٌ، والجهر بها أقبح.
21- يُحْرِم على المسلم المكلَّف أن يتجاوز المواقيت بدون إحرام إذا كان قاصدًا الحج أو العمرة.
22- الحاجُّ والمعتمر القادم عن طريق الجو يُحْرِم إذا حاذى الميقات، ويُشرع له التأهُّب للإحرام قبل ركوب الطائرة.
23- من كان سكنه دون المواقيت فليس عليه أن يذهب إلى شيءٍ منها؛ بل سكنه هو ميقاته للإحرام بالحجِّ والعمرة.
24- ما يفعله بعض الناس من الإكثار من العمرة بعد الحج من التنعيم أو الجعرانة لا دليل على شرعيَّته.
25- الحاجُّ في يوم التَّرْويَة يُحْرِمُ من محلِّ إقامته بمكة، ولا يلزم الإحرام من داخل مكة، ولا من عند الميزاب كما يفعله الكثير، وليس عليه وداعٌ عند خروجه إلى مِنى.
26- التوجُّه من مِنى إلى عرفة في اليوم التاسع الأفضل أن يكون بعد طلوع الشمس.
27- لا يجوز الانصراف من عرفة قبل غروب الشمس، وإذا انصرف الحاجُّ بعد الغروب فبسكينةٍ ووقار.
28- صلاة المغرب والعشاء تُؤدَّى بعد الوصول إلى مُزْدَلِفَة، سواءٌ في وقت المغرب أو بعد دخول وقت العشاء.
29- يجوز لَقْطُ حصى الرَّمي من أيِّ موضعٍ كان، ولا يتعيَّن لَقْطُه من مُزْدَلِفَة.
30- لا يستحبُّ غسل حصى الرمي؛ لأن ذلك لم يُنْقَل فعله عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا أصحابه، ولا يرمي بحصى قد رُميَ به.
31- يجوز للضعفاء من النساء والصبيان ونحوهم أن يدفعوا من مُزْدَلِفَةَ إلى مِنى في آخِر الليل.
32- إذا وصل الحاجُّ إلى مِنى يوم العيد قطع التَّلْبية، ورمى جمرة العقبة بسبع حَصَيَاتٍ متعاقبات.
33- لا يُشترط بقاء الحصى في المرمى، وإنما المُشترَط وقوعه فيه.(/17)
34- يمتدُّ وقت الذبح إلى غروب شمس اليوم الثالث من أيام التَّشريق في أصح أقوال أهل العلم.
35- طواف الإفاضة أو الزيارة يوم العيد ركنٌ من أركان الحج، لا يتمُّ إلا به، ويجوز تأخيره إلى ما بعد أيام مِنى.
36- القارِن بين الحجِّ والعمرة ليس عليه إلا سعيٌ واحدٌ، وكذلك من أفرد بالحجِّ وبقيَ على إحرامه إلى يوم النَّحر.
37- الأفضل للحاجِّ ترتيب أعمال يوم النَّحر؛ فيبدأ برمي جمرة العقبة، ثم النَّحْر ثم الحَلْق أو التَّقصير، ثم الطواف بالبيت، ثم السعي بعده. فإن قَدَّمَ أو أخَّر أجزأه ذلك.
38- الأمور التي يحصل بها التحلُّل التَّام:
- رمي جمرة العقبة.
- الحَلْق أو التَّقْصير.
- طواف الإفاضة مع السعي.
39- إذا أراد الحاجُّ أن يتعجَّل من مِنى لَزِمَه أن يخرج منها قبل غروب الشمس.
40- الصبيُّ العاجز عن الرمي يرمي عنه وليُّه بعد أن يرمي عن نفسه.
41- يجوز للعاجز عن الرمي لمرض أو كِبرِ سنٍ أو حملٍ أن يُوكِّلَ مَنْ يرمي عنه.
42- يجوز للنائب أن يرمي عن نفسه، ثم عن مُستنيبه، كل جمرة من الجمار الثلاث وهو في مَوْقِفٍ واحد.
43- يجب على الحاجِّ إذا كان متمتعًا أو قارنًا - ولم يكن من حاضري المسجد الحرام – دمٌ، وهو شاةٌ أو سُبُعُ بَدَنَة أو سُبُعُ بقرة.
44- إذا عجز المتمتِّع أو القارِن عن الهَدْي؛ وَجَبَ عليه أن يصوم ثلاثة أيامٍ في الحجِّ وسبعةً إذا رجع إلى أهله.
45- الأفضل للحاجِّ أن يُقَدِّم صوم الأيام الثلاثة على يوم عرفة؛ ليكون في عرفة مفطرًا، وإلا صام أيام التشريق.
46- يجوز صوم الثلاثة أيام المذكورة متتابعةً ومتفرقةً، وكذا صوم السبعة أيام.
47- يجب طواف الوداع على كلِّ حاجٍّ، إلا الحائض والنفساء.
48- تُسَنُّ زيارة مسجد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - سواء قبل الحج أو بعده.
49- يُسَنُّ لزائر المسجد النبوي أن يبدأ بركعتَيْن تحيةً للمسجد، في أيِّ مكانٍ منه، والأفضل أن يؤدِّيها في الرَّوضة الشريفة.(/18)
50- زيارة قبر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وغيره من المقابر تُشرع للرجال فقط دون النساء، بشرط أن يكون ذلك بدون شدِّ رَحْلٍ.
51- التمسُّح بالحُجْرَة الشريفة أو تقبيلها أو الطواف بها بدعةٌ منكرةٌ، لم تُنْقَل عن السَّلف الصالح، وإن قصد بالطواف التقرُّب إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو شركٌ أكبر.
52- لا يجوز لأحدٍ أن يسأل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قضاءَ حاجةٍ أو تفريجَ كُرْبة؛ فذلك شركٌ.
53- حياة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قبره بَرْزَخِيَّة، وليست من جنس حياته قبل الموت، وإنما هي حياة لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا الله سبحانه.
54- ما يفعله بعض الزوار من تحرِّي الدعاء عند قبر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مستقبِلاً للقبر رافعًا يديه - من البدع المستحدَثة.
55- ليست زيارة قبر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - واجبةً ولا شرطًا في الحجِّ كما يظنه بعض العامَّة.
56- الأحاديث التي يحتجُّ بها مَنْ يقول بشرعية شدِّ الرِّحال إلى قبر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إما ضعيفة الأسانيد أو موضوعة.
أدعيةٌ
يناسب الدعاء بها - أو ما تيسَّر منها - في عرفات وفي المشعر الحرام، وفي غيرها من مواطن الدعاء:
اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي.
اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري. لا إله إلا أنت.
اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، ومن عذاب القبر، لا إله إلا أنت.
اللهم أنت ربي لا إله ألا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.(/19)
اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، ومن البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدَّيْن وقهر الرجال.
اللهم اجعل أول هذا اليوم صلاحًا، وأوسطه فلاحًا، وآخِره نجاحًا، وأسألك خيرَيِ الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين.
اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وبَرْد العيش بعد الموت، ولذَّة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مضرَّة، ولا فتنة مضلة، وأعوذ بك أن أظلم أو أُظلم، أو أعتدي أو يُعتدى عَليَّ، أو اكتسب خطيئةً أو ذنبًا لا تغفره.
اللهم إني أعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر.
اللهم اهدني لأحسن الأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت.
اللهم أصلح لي ديني، ووسِّع لي في داري، وبارك لي في رزقي.
اللهم إني أعوذ بك من القسوة والغفلة، والذلة والمسكنة، وأعوذ بك من الكفر والفسوق والشقاق، والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصَّمم والبَكَم والجذام وسيء الأسقام.
اللهم آت نفسي تقواها، وزِّكها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا يُستجاب لها.
اللهم إني أعوذ بك من شرِّ ما عملت، ومن شرِّ ما لم أعمل.
اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إني أعوذ بك من الهدم والتردِّي، ومن الغرق والحرق والهرم، وأعوذ بك من أن يتخبَّطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك من طمعٍ يهدي إلى طبع.
اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء، وأعوذ بك من غَلَبَة الدَّين، وقهر العدو، وشماتة الأعداء.
اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخِرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلِّ خير، واجعل الموت راحةً لي من كلِّ شرّ.(/20)
ربِّ أعِنِّي ولا تُعِنْ عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، واهدني ويسِّر الهدى لي.
اللهم اجعلني ذكَّّارًا لك، شكَّارًا لك، مطواعًا لك، مخبتًا إليك، أوَّاهًا منيبًا.
ربِّ تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبِّت حجتي، واهدِ قلبي وثبِّت لساني، واسْلُلْ سَخيمة صدري.
اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرُّشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شرِّ ما تعلم، واستغفرك مما تعلم، وأنت علام الغيوب.
اللهم ألهمني رشدي، وقِني شرَّ نفسي.
اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردتَ بعبادك فتنةً فتوفَّني إليك منها غير مفتون.
اللهم إني أسألك حبَّك، وحبَّ من يحبك، وحبَّ كلِّ عملٍ يقرِّبني إلى حبِّك.
اللهم إني أسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير الثواب، وثبِّتني وثقِّل موازيني، وحقِّق إيماني، وارفع درجتي، وتقبَّل صلاتي، واغفر خطيئاتي، وأسألك الدرجات العُلى من الجنة.
اللهم إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، وجوامعه، وأوَّله وآخِره، وظاهره وباطنه، والدرجات العُلى من الجنة.
اللهم إني أسألك أن ترفع ذِكْري، وتضع وِزْري، وتطهِّر قلبي، وتحصِّن فَرْجي، وتغفر لي ذنبي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة.
اللهم إني أسألك أن تبارك في سمعي، وبصري، وفي روحي، وفي خَلقي، وفي خُلقي، وفي أهلي، وفي محياي، وفي عملي، وتقبَّل حسناتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة.
اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودَرْك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
اللهم مقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك. اللهم مصرِّف القلوب والأبصار، صرِّف قلوبنا على طاعتك.
اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهِنَّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثِر علينا.(/21)
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخِرة.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنَّتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّاتنا ما أحييتنا، واجعلها الوارث منَّا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل برٍّ، والسلامة من كل شرٍّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا عيبًا إلا سترته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخِرة هي لك رِضًا ولنا فيها صلاح - إلاَّ قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم إني أسألك رحمةً من عندك، تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شَعَثي، وتحفظ بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتبيِّض بها وجهي، وتزكِّي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وتردَّ بها الفِتَن عنِّي، وتعصمني بها من كل سوء.
اللهم إني أسألك الفوز يوم القضاء، وعيش السعداء، ومنزل الشهداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء.
اللهم إني أسألك صحةً في إيمان، وإيمانًا في حسن خُلُق، ونجاحًا يتبعه فلاح، ورحمةً منك، وعافية منك، ومغفرة منك، ورضوانًا.
اللهم إني أسألك الصحة والعافية، وحسن الخُلُق، والرضا بالقدر.
اللهم إني أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ كلِّ دابةٍ أنت آخِذٌ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم.(/22)
اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سرِّي وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري، وأنا البائس الفقير، والمستغيث المستجير، والوَجِل المشفِق المُقِرُّ المعترف إليك بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، دعاءَ مَنْ خضعت لك رقبته، وذلَّ لك جسمه، ورغم لك أنفه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/23)
العنوان: دمعة في الحج
رقم المقالة: 1735
صاحب المقالة: د. محمد بن محمد الأمين المختار الشنقيطي
-----------------------------------------
دمعة في الحج
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن سار على نهجه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد:
فيا إخواني في الله:(/1)
الحج ركن من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره العظام، دعا إليه رب العالمين، وأوجبه على عباده المستطيعين، نادى به نبيُّه الخليل، كما قص الله - عز وجل - خبَرَه في التنزيل، نادى به فأذَّن، فبلَّغ اللهُ أذانه، فلما عَلِم عبادُ الله المؤمنون بذلك الدعاء وذلك النداء، تفتحتْ له أسماعُهم، وتفتحت له قلوبهم؛ فصاروا له مجيبين، ولداعيه ملبِّين، قطعوا الوهاد، وساروا الفيافي، وجاوزوا النجاد؛ محبةً ومرضاة لرب العباد، ساروا إلى الله ملبِّين، ولرحمته خرجوا راجين، وما للدنيا خرجوا، خرجوا لرحمة الله طامعين، وفي جوده وإحسانه وعظيم كرمه آملين، خرجوا إلى الله يرجون رحمة الله بقلوب مليئة بالإجلال والشوق والحنين إلى عفو الله، خرجوا وما كانت الدنيا نصب أعينهم إذ خرجوا، خرجوا وكلهم أمل في الله - تبارك وتعالى - أن يناديَهم: حجٌّ مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور. لذلك - أحبتي في الله - ما ضربت قَدَمٌ على الأرض أشرف عند الله - عز وجل - ولا أزكى مِن قَدَمِ المطيع لربه، وما وَفَدَ وافدٌ يسير على الفجاج أحب إلى الله مِن وافدٍ على بيته، وما من رَكْب أحبُّ إلى الله مِن هذا الركْب العزيز، الذي فارق كل عزيز؛ إنه رَكْب الله، ووفْد الله القادم على الله، لذلك - أحبتي في الله - قصة هذا الركب قصةٌ مليئة بالعِبَر والعظات، فهو الوفد الذي لله خشع، وفي رحمة الله طمع، إنه وفد الله الذي تذكرك أقواله وأفعاله برحمة الله، أقوام باعوا اللحظات، وباعوا الساعات؛ لكي يتقربوا إلى رب البريات، خرجوا إلى الله - تبارك وتعالى - بهذه الرحلة التي سطرت في دواوين الحسنات، فأُقِيلتْ بها العثرات، ورُفِعت بها الدرجات، فيا لله! كم فائز منهم برحمة الله! ويا لله كم سعيد منهم برضوان الله! لذلك - أحبتي في الله - نسير مع هذه الركاب، وننتقل مع هذه الرحلة مرحلة مرحلة، لماذا عزَّ عند الله شأنُهم؟ وارتفع عند الله قدْرُهم؟ لأن الحاج إلى بيت الله في جهاد(/2)
وجلاد من أول لحظة تدخل فيها تلك الكلمة، تدعوه إلى الإقبال إلى بيت الله، يعيش الصراع: هل أحج هذا العام أم أرجئه إلى العام القادم؟ يعيش أول ما يعيش
في صراع مع نفس متخاذلة عن طاعة الله متثاقلة؛ يصارعها، يجالدها، يجاهدها، ثم مع الزوجات، ثم مع الأبناء والبنات، ثم مع الأموال والتجارات: أأحج أم لا أحج؟! أأنتظر أم أبادر؟! حتى يشاء الله - عز وجل - أن يختاره في الركاب، فإذا عَقَدَتِ النفسُ النيةَ، وعقد القلب العزم على المسير إلى الله، والانتقال إلى رياض رحمة الله، إلى البيت العتيق، حتى إذا صَدَقَ عزمُه، وقوي يقينه، عندها تكون أول وقفة لنا مع الحاج إلى بيت الله الحرام، إذا عَقَدَ الحاج النية، أوعقدتَ الحج إلى بيت الله الحرام، كانت أول وقفة حينما تشد الرحال، وتعزم على المسير إلى الكبير المتعال، فتقف على الباب؛ لكي تنظر إلى الابن والبنت؛ لكي تنظر إلى الأخ والأخت؛ لكي تنظر بدمعة تسح على الخد لفراقهم، حتى إذا أصابت سويداء قلبك تلك الحسرةُ على فراقهم، إذا بنداءٍ من الأعماق يذكِّرك بيوم عظيم، يذكرك بساعة من فراق، وأي ساعة فراق؟! تناديك نفسك: يا عبد الله، اليوم تودعهم وأنت قادر على الوداع بكلمات رقيقات، فكيف إذا انقطع الأثر وخسف البصر، وجرى القَدَر؟! كيف بك إذا أصبحت أسيرًا للمسير إلى الله؟! فلذلك يتحرك في النفس داعي ذِكْرِ الآخرة، تتحرك في سويداء القلب تلك العظةُ البالغة: اليوم تُودعهم وغدًا يُودعونك، واليوم تَنظر إليهم وغدًا يَنظرون إليك، اليوم تبادلهم الكلمات، فمَن لك إذا انقطع لسانك، ووجل جنانك، ولم تستطع أن تبيح بما في النفس من حسراتها؟! فهذه أول وقفة، ومِن هذه الوقفة إلى ختام الحج، تنتقل من مرحلة إلى مرحلة، تُذكِّرك بالآخرة؛ فتجيش في النفس عبرتها، وتُحرِّك في القلوب خشوعها.(/3)
أما الوقفة الثانية، فبعد لحظات يسيرة فارقتَ الأهل والإخوان، وودعتَ الأحباب والخلان، فإذا بأوامر الشرع تأتيك عند الميقات: انزع ثيابك، وتجردْ عن مخيطك، واغتسل لحجك وعمرتك؛ فاستجبتَ ولبيتَ، وقلت: سمعًا وطاعة، فغسلت واغتسلت، وأزلت عنك الثياب، وما إن رفعت الثوب عن الجسد حتى تحركت في النفس أشجانها، وانبعثت في القلوب أحزانها؛ اليوم أزيل لباسي، فكيف بغدٍ إذا أزيل عني لباسي؟! اليوم أرفع ثوبي، وأجرد عن مخيطي، فكيف بي غدًا إذا جردت من الثياب، وولجت من ذلك الباب، مسيرًا إلى رب الأرباب؟! اليوم أغسل نفسي، فكيف بي غدًا إذا أغسل؟! وكيف بي إذا أكفن؟! وما هي إلا لحظات حتى تلبس الإزار والمخيط، وتنخرط مع تلك الجماعات: تلبية، توحيدًا، تكبيرًا، تمجيدًا، لا إله إلا الله! ما أعزها من خُطًا عند الله! وما أكرمها من وفود على الله! منذ أن تجردت من لباسك، وأصبحت في عداد المحرِمين؛ كأن هيئتك تقول لك: الآن أصبحت مع المحرِمين، وغدًا ستصير في عداد المغتربين؛ كما أن صاحب الإحرام تحظر عليه محظورات الإحرام؛ فلا طيب، ولا متعة من الأمور المرفهة، كذلك إذا أوسد في لحده، واضجع في قبره، فكأنه في المرحلة الثانية بعد لبس إزاره وردائه، فالله أكبر، ما أجلها من عظات! الله أكبر ما أعظمها من آيات! دلت وشهدت بوحدانية رب البريات، وسارت الخُطا على تلك الأرض، التي والله مارفعتَ قَدَمًا، ولاحططتَ أخرى إلا سطرت في ديوانكَ، ولقيت بها ربًّا يبيض بها الوجوه إذا لقيه أصحابها، وسرت مع الوافدين في عِداد المسافرين؛ كأن سفر الحج يذكرك بالسفر الطويل، يذكرك بالمسير إلى العظيم الجليل، سرت معهم فرأيت عِبَرًا لا تنسى، وآيات عظيمة جلَّ مَن وضعها وعلا، تسير في الركاب فترى في السفر عجبًا، وأي عجاب! تسير مع الأصحاب والأحباب؛ لكي ترى - إن نظرت أمامك - إلى قفار ووهاد، إلى أشجار وثمار، إلى جبال وأنهار تذكر بالواحد العظيم القهار، ما تقدمتَ ولا(/4)
خطوتَ إلا وكان في قلبك أثر يذكرك بأن لا إله إلا الله، كَوْنٌ مليء بالعِبَر، وعبادة تهز كيانك لأن تكون من المعتبِرين، وسرت مع الراحلين، وسرت مع المغتربين، وما هي إلا لحظات، وما هي إلا أيام حتى وطئت دار السلام، وعندها أخي في الله لتصدع بشكر الله، والثناء على الله؛ فكم من وفود تمنت! وكم من قلوب حنت وأنت لكي تدخل بيت الله الحرام! كم من عيون تمنى أصحابها رؤية البيت الحرام! وكم من أجساد وأرواح طمعت أن تطوف ببيت الله! اخترمتها البحار، والتقمتها القفار، وصارت إلى العزيز القهار، والله تفضل فاختاركَ من بين العباد حاجًّا وافدًا، فما أجلها من نعمة! وما أعظمها من مِنَّة! حتى إذا وطئتَ بيت الله، وطئته وأنت تجل نعمة الله، وتعظم منحة الله، وطئت البيت الحرام وكُلُّك إجلال وإعظام للملك العلام، أي بيت؟! أي مكان؟! أي بلد؟! أي منزل؟! إنه البلد الذي اختاره الله من بين البلاد، صحيح أنه لا أنهار ولا أشجار، ولا فِتَن من الدنيا بادية، وليس فيه من فتن الدنيا وأنهارها ونعيمها؛ ولكن فيه الرَّوْح والريحان، فيه الرضا والغفران، فيه الصفح والإحسان، فيا لله ما أعظمها من منازل! عظَّمها الله ورفع شأنها، ما أعظمها من منازل! لو أُذِن لتلك البقاع أن تتحدث! لو أُذن لتلك المواضع أن تنطق! فكم عليها من دعوات أُجيبتْ! وكم عليها من هموم فرجت! وكم عليها من غموم نفست! إنها منازل الله، ومحط رحمة الله، حتى إذا وطئتَها، وطئتَها بقلب يعظمها {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].(/5)
يا عبد الله، إذا نزلت إلى بيت الله فادخله لله منكسرًا، ومن هيبته خاشعًا، ادخله بذلة لله، ادخله بالسكينة والوقار؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح في يوم أعز الله فيه أهل دينه، دخل - صلوات الله وسلامه عليه - مطأطِئًا رأسَه ذلةً لله؛ حتى إن لحيته تكاد تمس قربوس سرجه - صلوات الله وسلامه عليه - ذلة وضعة، منازل لا ترفع فيها الرؤوس خشية لله، ولا يُظهِر الإنسان فيها إلا الفاقةَ والحاجة إلى الله، فيها بيت توجهت إليه القلوب والقوالب، وصفا ومروة، ومنى ومزدلفة، وعرفات وأي عرفات؟! منازل مباركات، منازل عند الله جليلة، وأماكن عند الله عظيمة، لذلك - أحبتي في الله - إذا دخل الحاج إلى تلك المواطن دخلها بقلب يُعظِّم الله، دخلها وكله ثناء على الله إذ بلغها، وأما إجلالها فكله شوق وطمع في الله أن يرزقه الأدب في جوار بيته المحرَّم، فما أسعده من عبد رزقه الله - عز وجل - عفة السمع والبصر! وما أسعده من عبد رزقه الله - عز وجل - الأدب معه، والأدب مع خَلْقه في جوار كعبته وبيته!
وما هي إلا لحظات، حتى يرى العبدُ بيتَ رب البريات، وعندها يخشع القلب لله، ويذل لله - تبارك وتعالى - ويبتدئ في طوافه وينتهي من مطافه، حتى يرقى الصفا، فقد رقاها - صلوات الله وسلامه عليه - من نبي مجتبى، فلما رقاها قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لماذا هلَّلَ؟ هلَّل لأنه بالأمس القريب كان يقف على الصفا يقول لهم منذرًا ومحذرًا ومبينًا: ((سلوني من مالي ما شئتم، لا أغني عنكم من الله شيئًا)) فقال له أبولهب: تبًّا لك؛ ألهذا جمعتنا؟!(/6)
فبالأمس يُكَذَّب، وبالأمس يهان، وهو على هذا المكان، ويشاء الله - عز وجل - يوم حجة الوداع مائة ألف نفس تضع رأسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -! فلما رقي الصفا تَذَكَّرَ إذ أُهين في البيت، فكان أول ما لفظ به توحيد الله، فقال: لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، تذكرَ نعمة الله - عز وجل - وهذا هو شأن الأخيار، شأن الصفوة الأبرار، إذا أصابهم الله بنعمته، وتفضل عليهم بمنته، أجلُّوا الله - عز وجل - حق إجلاله، وأعظموه حق إعظامه، حتى إذا شاء الله - عز وجل - ما شاء، فمضيتَ بين الصفا والمروة، تنتقل من مَعْلَم توحيدٍ إلى مَعْلَم توحيد لرب العبيد، حتى إذا شاء الله لك أن تبلغ الموطن المبارك، الذي هو الحج الأكبر والذي بعده المشعر، إنه عرفات، وما أدراك ما يوم عرفات؟! يوم تفطرت فيه القلوب لرب البريات! ما طلعت الشمس على يوم أفضل عند الله من يوم عرفة.
أخي! إذا طلعت عليك شمس ذلك اليوم فنادي النفسَ نداءً صادقًا: هو يوم واحد، وقد كان من لطف الله وتيسيره أن جعل الموقف بعد الزوال سويعات، فاحتسب عند الله - تباك وتعالى - فيها بالدعوات، وادخل إلى عرفات بقلب منكسر لرب البريات، واقصد من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بَيَّن لك، حتى إذا انتهيت من صلاتك، وسمعت المواعظ التي ينبغي لكل مؤمن بالله واليوم الآخر أن يترسم نهجها، وأن يسير على سبيلها، حتى إذا قضيت ذلك كله سِرْتَ إلى الموقف، سِرْتَ بذلك القلب المنكسر إلى الله تبارك وتعالى، سرت وأنت تتذكر ذنوبًا بينك وبين الله.(/7)
والله يسير العبد إلى الموقف والخُطا ثقيلة، يسير إلى الموقف بخطًا ثقيلة حينما يتذكر الذنوب فيما بينه وبين الله، يسير وهو ينكسر إلى العلي الكبير، يسير وهو يحس من نفسه أن الذنوب تؤرقه، وأن الخطايا تحطه وتهده، حتى إذا صار إلى موقفه، ووقف بين يدي الله - تبارك وتعالى - نسي الدنيا وما فيها، وأَقْبَلَ على الله يناجيه ويناديه بين لوعتين: لوعة الماضي، ولوعة المستقبل؛ أما الماضي فبينه وبين الله حدودٌ طالما جاوزها، ومحارم طالما أصابها، وبينه وبين الله حدودٌ لعباده أصابها، وحقوق لخلقه ضيعها، فإذا صار العبد إلى ذلك الموقف، يسير بذلك القلب الخاشع الذليل، ويا لله ما أعظمه من موقف! لو أن الإنسان استشعر تلك الساعة المباركة، التي يدنو الله - عز وجل - فيها دنوًّا يليق بجلاله وعظمته لأهل الموقف، ويقول لملائكته: ما أراد هؤلاء؟ يقول بعض العلماء: استفهام إجلال وإعظام وإكبار؛ أيْ: أيَّ شيء أراد هؤلاء؟ يدل على أن الله سيصيبهم من رحمته ورضوانه بما لم يخطر على بال، ماذا أراد هؤلاء؟ أينسى الله - تبارك وتعالى -؟! وما كان ربك نَسِيًّا!
تلك الخُطا التي قَدِمْتَ بها عليه، أينسى إذ تغبر الخطا إليه؟! أينسى الشعث الذي تقربت به إليه؟! حتى إن الإمام أحمد - رحمه الله – سئل: هل ينظر الحاج في المرآة؟ قال: "إن كان ينظر من أجل إصلاح شعره؛ فلا حتى لا يذهب شعثه"، يقول بعض العلماء: إن الله – تعالى - يباهي بشعث الإنسان وغَبَره، ولذلك استحب العلماء إذا كان الإنسان له إزار فاتسخ أو أصابه شيء من القذر، أن يقف به حتى يكون أبلغ في الذِّلة لله - عز وجل - حتى يكون أبلغ في التجرد من الدنيا؛ حتى يكون أبلغ في أنه يحس بالآخرة، وأنه والله ما قدم لكي يتعالى على عباد الله؛ ولكن ليَذل لله عز وجل، وحق – والله - للعبد أن يتذلل، وحق له أن ينكسر لله(/8)
- تبارك وتعالى - وذكرُ الله أعظم ما فاهت به الأفواه، فسبحان مَن ذلت له الأشراف، أكرم مَن يُرجى ومَن يُخاف.
وإذا لم يذل العبدُ لربه فلمَن يذل؟! ثم ارمِ بطرْفك إلى هذه الأمم التي اجتمعت على عرفات؛ ذابت أنسابهم، وذهبت أحسابهم، وأصبحوا لا تستطيع أن تفرق بين الغني والفقير، لا تستطيع أن تميز بين الجليل والحقير، أكف إلى الله رافعة، وعيون من خشيته دامعة، وقلوب وأفئدة لجلاله منكسرة، كم فيها من مظاهر! تراهم كأنهم على صفة رجل واحد؛ ولكن بين بعضهم وبعض من الفضل والدرجات؛ كما بين السماء والأرض، بماذا؟! بالقلوب.. وقفوا في تلك المواقف وقلوبهم متباينة في الإجلال والإعظام والانكسار والذكر للعظيم القهار، لذلك يوم عرفة يوم مشهود، ويوم يذكرك هذا اليوم، يذكر بالموقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك إذا وقف العبد بعرفات، ونظر إلى تلك البريات، ونظر إلى تلك الأصوات والصيحات، فسبحان مَن عَلِم لغاتها! وسبحان مَن ميَّز ألفاظها! وسبحان مَن قضى حوائجها! لا يخفى عليه صوت، ولا تعجزه حاجة، أحد فرد صمد، لا يعييه سؤال سائل، لذلك - أحبتي في الله - فالنظر في حال يوم عرفة يُذكِّر بالله تبارك وتعالى، وقف بعض السلف مع بعض الخلفاء، فجاءت صاعقة والناس وقوف بعرفة، ففزع الناس فزعًا شديدًا، وفزع الخليفة سليمان - رحمه الله - فزعًا شديدًا من تلك الصاعقة، فقال له عمر: يا أمير المؤمنين، هذه بين يدي رحمته، فكيف بالتي بين يدي عذابه؟! إذا كان هذا والناس ينتظرون المطر، وهم وقوف بين يدي الله يرجون رحمته، فكيف إذا وقفوا بعرصات يوم القيامة؟! وكما ثبت بالخبر يقول: لقد غضب الله في هذا اليوم غضبًا لم يغضب قبله قط، لم يغضب مثله قط! وهذا يدل على عظيم الموقف بين يدي الله - تبارك وتعالى - اللهم سلمنا من ذلك الموقف، اللهم سلمنا منه بعظمتك يا عظيم، ورحمتك يا رحيم!!(/9)
أحبتي في الله، يوم عرفة وما يوم عرفة؟! كل مَن حولك يحرك وجدانك، كل مَن حولك يحرك إحساسك، إن كان القلب قاسيًا، والله يصير خاشعًا؛ تسمع هذا يبكي، وهذا يشتكي، وهذا يشجي، فتقول سبحان الله! مَن لهذه الحاجات سوى الله؟! مَن لهذه الدعوات غير الله؟! جاءوا إليه من بلاد بعيدة، وقطعوها في أزمنة مديدة، جاءوا بهموم لا يفرجها سواه، وكربات لا يُنفِّسها أحدٌ عَداه، جاءوا وكلهم يقين في أنه ليس لحاجتهم أحد غيره، وحق لهم ذلك، لذلك أحبتي في الله، وما هي إلا لحظات حتى يشاء الله - عز وجل - للعبد أن ينقضي موقفه، وتغيب عليه شمسه، ويأذن الله لأهل ذلك الموقف بالانصراف، وتأتي تلك الساعة العصيبة، والله إنها لمن أمر الساعات في الحج، وأعظم ساعة في الحج!! يتألم الإنسان فيها ساعة الانصراف من عرفة، لا يدري هل الله - عز وجل - قَبِلَ دعوته أم لم يقبلها؟! لا يدري هل أجاب الله سؤاله أم لم يجبه؟! لا يدري أمرحومًا أم محرومًا؟! لا يدري أيعطيه أم يحرمه؟! فلذلك يبلغ بالإنسان من الشجى والأسى ما لا يعلمه إلا الله، أأفيض ربي؟! فهل أنت راضٍ عني أم لست راضٍ عني؟! يناديه بقلب متقطع منفطر: ربَّاه إن لم ترضَ عني فارضَ عني قبل أن أفارق موقفي! يناديه بحسرة، يناديه بقلب متقطع شوقًا إلى رحمة الله، حتى لا يكون محرومًا من عفو الله وفضل الله، لذلك - أحبتي في الله – فهي ساعة مؤلمة، ساعة تهز وجدان المؤمن، حينما يتذكر أنه ينصرف من ذلك الموقف، ولذلك كان بعض السلف إذا حضرت ساعة النفر من عرفة والدفع منها يشتد بكاؤه، ويعظم تضرعه إلى الله تبارك وتعالى، وقال بعضهم: والله لو نادى منادي الله في أهل هذا الموقف: قد غفرت لهم إلا واحدًا، لعددت نفسي ذلك الرجل. حتى إذا سرت بين الشعاب، وسرت بين تلك الوهاد، فلا إله إلا الله! كم يسير عليها عبد كيوم ولدتْه أمه من ذنوبه! لا إله إلا الله، يدفعون من عرفات، دخلوها مثقلين، يخرجون منها من الذنوب والخطايا(/10)
مغسولين، ما أعظمه من فضل لا إله إلا الله! يسيرون بين تلك الشعاب، يسيرون بين تلك الأودية كيوم ولدتهم أمهاتهم! ما نظر الله إلى سيئات مضتْ، ما نظر الله إلى ماضيهم، يسيرون بين تلك الشعاب، يسيرون وهم من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم؛ مغسولين مطهرين مرحومين، فيا لله كم دعوة كُتب لصاحبها سعادة لا يشقى بعدها أبدًا! ويا لله كم دعوة كُتب لصاحبها رحمة لا يُعذب بعدها أبدًا! يسيرون بين تلك الشِّعاب العزيزة عند الله، بقلوب مليئة بإجلال الله، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.(/11)
يحسون معناها، ويتلذذون حلاوتها، ويصيبون فضلها وبغيتها، ثم إلى المشعر، وعند المشعر يفيضون إليه بقلوب مغسولة، مليئة بالخشوع، مليئة بالإنابة والخضوع، قلوب تعظم الله تبارك وتعالى، كيف وقد حُطَّت الخطايا؟! كيف وقد غسلت الرزايا؟! يقفون بالمشعر حتى إذا شاء الله - عز وجل - لهم منسكهم، فصلُّوا فجْرَهم، ووقفوا موقفهم، فأنابوا وتضرعوا ورفعوا الأكف إلى الله: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، يحسون بهيبة المشعر وجلال ذلك الموقف، يقفون وكلهم شوق إلى رحمة الله بعد أن أفاضوا وأنابوا إلى ربهم، ولرحمته أصابوا. ثم إلى مِنًى، ومن مِنًى إلى البيت العتيق؛ ليقضوا تفثهم، وليوفوا نذورهم، وليطوفوا بالبيت العتيق، ثم الأيام المباركات الأيام المعدودات، ذكر وشكر واستغفار وتعظيم للعظيم القهار، أيام مِنًى أيام الذاكرين، أيام الشاكرين، أحسوا بأن الله أصابهم برحمته، وأصابهم بعفوه ولطفه، فأخذت الألسن لا تفتر عن ذكره وشكره، وحق لها - والله - بعد أن أصابت رحمة الله أن تثني عليه، وكيف لا تثني عليه، وقد أعطاها عطاء هو العطاء في الدنيا؟! فليس هناك عطاء أعظم من أن يغفر الله ذنبك، وأن يضع عنك وزرك، وهي المنة التي امتنَّ الله بها على عباده، وذكرها منة على خير خَلْقه - صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين - وفي منى تلك الساعات الطيبات، تلقى فيها الوجوه مضيئة، تلقى فيها الوجوه مشرقة من آثار العبادة، تلقى فيها إخوانًا لك في الإسلام، تلقى إخوانًا لك في الدين، لم يجمعك بهم حسب ولا نسب، ولم تجمعك بهم قربى؛ بل لم ترهم عينك من قبل قط، ولكن ترى وجهه فتعلم أنه يشهد أن لا إله إلا الله؛ فتحبه وتسلِّم عليه، وتهنيه برحمة الله عليك وعليه! يا أحبتي في الله أيام مِنى أيام جمع للمسلمين، لا يليق بالمسلم وهو يسير أمام إخوانه إلا ومفشيًا للسلام ومحسنًا لهم بالإجلال والإكرام، إذا ضاعت أخوة الإسلام أيام منى،(/12)
وأنت مع إخوانك الطيبين المباركين، الذين أصابهم الله برحمته، فأين توجد أخوة الإسلام؟!! لذلك أحبتي في الله إنها الأيام الطيبات، أيام تتلذذ فيها الأسماع بالتكبير والتحميد، أين المكبرون؟ أين الحامدون؟ أين المهللون؟ أين الذاكرون؟ لقد كان الحج منذ أعوام يسيرة، كنا إذا مضينا إلى الجمرات - والله ثم والله - لا يفتر سمعك عن ذكر الله! الله أكبر ترتج بها أسواق منى! وترتج منها خيام منى! فأين تلك الصفوة المباركة؟! ما بالنا قد نسينا شرعنا؟! ما بالنا نظرنا إلى هذا الحج وكأنه طقوس لا معنى لها؟! لذلك - أحبتي في الله - حق لمن وقف بها، وحق لمن نزل إليها أن يرفع لسانه بالتكبير إعظامًا للعلي الكبير، وشكرًا للعزيز الغفور بذلك.
أحبتي في الله، وبعد ذلك.. وما بعد ذلك؟ يصير العبد إلى آخر مرحلة من حجه، وهي طواف الوداع وهي اللحظة الأخيرة التي يودع فيها الإنسان بيت الله الحرام، يودع فيها دار السلام، يطوف بذلك البيت؛ لكي يكون آخر عهده بالبيت طوافًا، ولطواف الوداع حلاوة، ولطواف الوداع لذة وطلاوة، طواف الوداع يذكِّرك بفضل هذه المنازل، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة - رضي الله عنها وأرضاها - أنها قالت: "كان الناس يصدرون من فجاج مِنًى وعرفات". كان الناس يصدرون؛ يعني يخرجون إلى ديارهم، ويرجعون إلى أمصارهم من فجاج منى وعرفات، فأُمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافًا، فإذا طاف الإنسان طواف الوداع، طافت به أشجان وأحزان؛ لأن العبد الصالح، من أقسى ما يؤلمه، وأشد ما يجده في دينه، مفارقةُ الطاعة والعبادة، ولذلك كان بعض السلف إذا كانت آخر ليلة من رمضان جلس يبكي، ويقول: ألا ليت شعري مَن هو المحروم فنعزيه! ألا ليت شعري من هوالمقبول فنهنيه!(/13)
فالإنسان إذا قضى عبادته وانتهى من حجه، فإنه لا يدري أقَبِل الله حجته أم لم يقبلها؟! وإن كان الظن بالله حسنًا، فوالله لو عاملَنا الله بما نحن أهله، ما طمعنا في شيء؛ ولكن هو رحمته وهو حلمه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يدخل أحدٌ منكم الجنةَ بعمله!)) قالوا: "ولا أنت يا رسول؟!"، قال: ((ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته!)). فما هذه العبادة التي قمت بها؟ وما هذا الموقف الذي وقفته؟ وما هذه الجمرات التي رميت؟ وما هذه الليالي التي بت في جنب نِعَم الله، وفي جنب مِنَن الله، وفي جنب فضائل الله وإحسان الله بي؟، فتأتي تلك الساعة وهو يحتقر العبادة.
إياك ثم إياك أن يأتي عليك ذلك الطوافُ وأنت تدلي على الله بالعمل، إياك ثم إياك أن تحس من النفس غرورها، أو يلتهب في النفس شرورها؛ فتقول: أنت العبد الصالح، ها قد أديت فريضة الله، ها قد فعلت، وها قد فعلت؛ لا، إنها ساعة الفراق التي يمتلئ فيها القلب ذلة لله - عز وجل - وطمعًا أن يتقبل عمله، ولذلك لما حضرت الوفاة عبدالله بن عمر - كان عبدالله بن عمر صحابيًّا جليلاً، حتى ورد في بعض كتب السير كما في "الحلية" وغيرها(/14)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشَّره بالجنة من صلاحه - رضي الله عنه وأرضاه - وكان إذا رأى عبدًا يصلي ويكثر الصلاة أعتقه لوجه الله، قالوا له: إنهم يخدعونك بكثرة الصلاة! قال: من خدعنا لله انخدعنا له - هذا الصحابي الجليل حضرته الوفاةُ، فجلس يبكي، فجاءه ابنه سالم وقال: يا أبتاه ألمْ تكن كذا وكذا وكذا، يذكره بما كان عليه من صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر عليه بذكر الفضائل التي فضله الله - عز وجل – بها، حتى أكثر عليه، فقال - رضي الله عنه -: أجلسوني! ثم قال: يا بني أتدري ممن يتقبل الله؟! {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. ما عدَّ نفسه شيئًا! إنما يتقبل الله من المتقين، إذا كان هذا عبدالله بن عمر، فكيف نطمع نحن بحسناتنا وصالح أقوالنا وأفعالنا؟! وما يدري العبد لعل ذنبًا أصابه أوجب عليه سخطًا لا رضا بعده! ولعل كبيرة أصابها، ولعل عبدًا من عباد الله ظلمه بمظلمة لم يُقبِل الله - عز وجل - عليه بعدها، والأمور مردها إلى الله - عز وجل - {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105] ما أحد يدري هل قَبِل الله العبادة أم لم يقبلها؟! لذلك فإن الإنسان في هذه اللحظات يوصَى باحتقار العمل، ولذلك قال العلماء: إن احتقار العمل من مظانِّ القبول، إذا جاءت هذه اللحظة وصدرت عن البيت، وكلُّك شوق ورحمة وحنين أن يرحمك الله؛ بقبول الحجة، وناديه وناجيه وقل: يارب اقبَل حجتي، واغفر ذنبي، وضعْ عني إصري، ادعه دعاء المضطر، ادعه دعاء المستغيث المستجير به - جل شأنه - حتى إذا انتهيت من ذلك فاجعل في نفسك طمعًا عند الله ألاَّ يجعله آخر العهد ببيته.(/15)
ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عن بعض السلف أنه وقف بالمزدلفة بالمشعر، وقال: والله الذي لا إله إلا هو لي ثلاثون عامًا أسأل الله ألا يجعله آخر العهد بهذا الموضع، وقد استجاب الله دعوتي، وإني لأستحيي أن أسأله هذا العام، فرجع فقبضه الله، عز وجل. ولذلك مَن طمع في أن الله - عز وجل - لا يجعلها آخر حجة، فإن الله كريم قد لا يخيبه في طمعه، فاجعل في نفسك حنيًا ألا يجعلها آخر العهد ببيته، وألا يجعلها آخر العهد بطاعته، حتى إذا رجعت إلى الديار وأقبلت على الأمصار، عندها تذكر ما بينك وبين الله من العهود، تذكر ما بينك وبين الله من المواثيق، وقل بلسان الحال والمقال: توبة نصوح، لا ذنب بعدها إن شاء الله.
قال بعض العلماء: من علامة قبول الحج أن يكون العبد بعد الحج أصلح منه حالاً قبل الحج.
يا عبد الله إذا لبيت لله فاعلم أنك قد عاهدت الله على توحيده، فإياك أن ترجع - والعياذ بالله - بالله مشركًا، إياك بعد أن ناديته وتشرفت بالوقوف بين يديه وناجيته، أن تستغيث بأحدٍ سواه، أوتستجير بمن عداه، فقد وجدته حليمًا رحيمًا، ووجدته جوادًا كريمًا، فإلى أين تصد إلى؟! أين تعرض؟! فلذلك اجعله عهدًا بينك وبين الله: ألا معاذ ولا ملاذ ولا منجا ولا ملجأ من الله إلا إلى الله، اجعله عهدًا مؤكدًا، واجعله عهدًا موثقًا أن تكون على استدامة وطاعة واستقامة إلى لقاء الله تبارك وتعالى، إذا كنت بالمعاصي مبتلى؛ فخذها طريقًا إلى التوبة النصوح، خذها حجة تمنعك وتحجبك عن معاصي الله عز وجل؛ فقد حللت به ضيفًا، وضيف الله يستحيي من الله، فبعد أن أقدمك الله إلى هذه الديار، وتشرفت بذكر العظيم القهار، عندها ترجع عبدًا صالحًا تقيًّا ورعًا.(/16)
اللهم إنا نسألك أن تيسر لحجاج بيتك الحرام حجهم، اللهم يسر لهم حجهم، اللهم ارحم ضعفهم، اللهم ارحم غربتهم، اللهم ارحم فقرهم، اللهم ردهم إلى ديارهم سالمين غانمين رابحين، اللهم ردهم إلى ديارهم مردًّا جميلاً، اللهم ردهم إلى ديارهم مردًّا جميلاً، وهب لهم عملاً صالحًا مباركًا جليلاً برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تؤمِّنهم في حجهم بأمنك، اللهم أمنهم في حجهم بأمنك، اللهم أمنهم في حجهم بأمنك، اللهم الطف بهم حضرًا وسفرًا، اللهم الطف بهم حضرًا وسفرًا، اللهم ادفع عنهم الوباء وأزل عنهم الشعث والعناء، اللهم أزل عنهم الوباء واجعلهم في صحة وعافية وبلغهم رضوانك يارب العلمين.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ولمن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
انتهت المحاضرة.
والآن إلى الأسئلة،
الأسئلة
السؤال الأول:
س: ما حُكْم مَن حضر عرفة وجمرة العقبة، ثم سافر إلى بلده دون أن يؤدي باقي المناسك؟
الجواب: بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه..أما بعد:
فاعلموا - رحمكم الله - أن المقصود من الحج أن يحقق الإنسان طاعة الله - عز وجل - ويترسم هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعل المناسك على الوجه الذي يرضي الله، ومن ثَمَّ فإنه من الخطأ كل الخطأ التساهلُ في المناسك، والنظر إلى وجود جبرانها، ولذلك كان من الخطأ تركُ المبيت ورمي الجمار، فمَن فعل هذا فعليه دم؛ لتركه المبيت.
وهل ذلك لكل ليلة بحسبها؟ أم أن جميع الليالي تعتبر ليلة واحدة؟ وجهان للعلماء.(/17)
أما الأمر الثاني (رمي الجمار) فعليه دم أيضًا على ترك رمي الجمرة، لأن رمي الجمار في باقي أيام التشريق التي تلي يوم العيد واجبٌ ما عدا يوم النفر، الذي يُخيَّر الإنسان فيه بين التعجل والتأخر، وبِناءً على ذلك، فإنه يلزمه دم.
وهنا مسألة أحب أن أنبه عليها: بعض الناس يفعل المحظورات، فيقال له لا شيء عليك إلا أن تذبح دمًا.
لا، مَن ترك واجبًا من واجبات الحج عليه أمران؛ أحدهما: التوبة والندم والاستغفار، وهذا أمرٌ مهم جدًّا يُغفل كثيرًا في الفتاوى، أولاً الندم والاستغفار؛ لأنه ترك أمرًا أوجب الله عليه فِعْله، أما الأمر الثاني: ضمان ذلك الحق، وذلك بالدم الذي يسمى دم الجبران. فليس كون وجود الدم يعفي الإنسان من وصول الإثم عليه، ينبغي على الإنسان أن يتوب إلى الله، وأن يستغفر الله، وإذا قصَّر في واجب من واجبات الحج دون أي عذر، عليه أن ينيب إلى الله وأن يستغفر الله؛ لأنه نوع استخفاف بشعيرة من شعائر الله، والله – تعالى - أعلم.
س: هل يتكرر على الحاج الدم مع تكرر مُوجِبه ممن ترك واجبًا أو غيره؟(/18)
جواب: هذه المسألة فيها تفصيل: إذا كان الواجب أو المحظور، إذا ترك الإنسان شيئًا متحدًا من جنس واحد؛ مثلاً في محظورات الإحرام لو تطيب فإنه لا يخلو إما أن يكرر هذا الموجب مع اتحاد الجنس، أو يتعدد الموجب، فقولك وجوب الدم إذا ارتكب الإنسان محظورًا من جنس واحد وكرره، وجبت عليه فدية واحدة، مثلاً تطيب أربع مرات، تطيب المرة الأولى الساعة الثانية، المرة الثانية الساعة الثالثة، المرة الرابعة الساعة الخامسة، فإذا كان ما افتدى عن الطيب الأول؛ يفتدي بفدية واحدة عن الأربع؛ لأنها من جنس واحد، كما لوجامع في نهار رمضان أكثر من مرة في يوم واحد، فإن عليه كفارة واحدة، هذا بالنسبة إذا كان قد اتحد الموجب. وأما إذا كان اختلف النوع، ومن أمثلة ذلك: أن يكون مثلاً أصاب طيبًا وحَلَق شعرًا، وقلَّم أظفاره، فللشَّعر فدية، وللطيب فدية، ولتقليم الأظفار فدية؛ لأن كل نوع منها مستقل، أما إذا اتحدت الأسباب، وكانت من جنس واحد؛ فإنه ولو تعددت، فإنه تجب فدية واحدة، ويجب أيضًا دم واحد، والله – تعالى - أعلم.
س: سائل يقول أنا مِن سكان جدة، وذهبت للعمل في مكة يوم السابع من ذي الحجة، وفي صبيحة يوم عرفة أحرمتُ من مِنى بنية حج مفرد، فهل يصح ذلك؟(/19)
جواب: هذا فيه تفصيل؛ إذا كان الشخص قد خرج من جدة للعمل في مكة في أيام الحج، فلا يخلو حال خروجه من حالتين: إما أن يخرج وفي نيته أن يحج ذلك العام، فحينئذ يجب عليه أن يُحرِم من جدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ))، فهذا أنشأ الحج من هذا الموضع؛ فوجب عليه الدم في هذا الموضع. وأما إذا كان قد خرج من جدة وهو على إحدى حالتين: الحالة الأولى أن يقول لا أريد أن أحج، وليس في نيته الحج. الحالة الثانية: متشكك كأن يكون لا يدري هل يسمح له أو لا يسمح؟ ففي هاتين الحالتين يجوز له الدخول، فإذا عقد العزم أحرم من موضعه الذي عزم فيه، ولا دم عليه. والله – تعالى - أعلم.
س: سائل يقول: هل للشيخ أن يخبرنا أو ينبئنا عن مواضع التكبير والتلبية والدعاء في الحج؟
جواب: أما بالنسبة للتلبية: فإنه يُسنُّ الإكثار منها ولذلك ورد في حديث ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مسلم يضحى لله – الضحى: أول النهار - ما من مسلم يضحى لله يلبي فتغيب عليه الشمس، إلا غابت بذنوبه؛ فرجع كيوم ولدته أمه))، يعني إذا استدام التلبية، وورد عنه - عليه الصلاة والسلام - أيضًا في حديث ابن ماجه أنه قال: ((ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه ويساره من حجر وشجر ومدر حتى تنقطع الأرض))، فكل شيء يحب ذكر الله - عز وجل - من الجمادات وغيرها من مخلوقات الله عز وجل، ولكن ما أقسى الثقلين! فلذلك يُسنُّ للإنسان أن يكثر التلبية على كل حال، أن يستديمها وأن يكثر منها وهي ذكر مشروع، والسنة أن يرفع صوته بها ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الحج: العج والثج))، العج: رفع الصوت، وذلك بالتلبية والنسك، وأما الثج فهونحر الأضاحي، فهونحر الهدي، وذلك لمن كان متمتعًا أوقارنًا. فالمقصود أن الإنسان ينبغي أن يكثر من التلبية.(/20)
وأما التهليل والتكبير: فهو واسع للحاج؛ يجوز له أن يهلل يوم عرفة، كما ثبت في الصحيح من حديث أنس - رضي الله عنه وأرضاه - أنه قال: "غدونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عرفة فمِنَّا الملبي، ومنا المهلِّل، ومنا المكبِّر" فدل هذا على أنه يُسن أن يذكر بالتلبية، وأن يذكر بالتهليل، وأن يذكر بالتكبير، والله أعلم.
لكن بالنسبة للتكبير يكبر عند رمي الجمار، ويكبر مع كل حصاة؛ لأنها سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكبِّر أيام مِنى، وذلك إحياء لذكر الله في ذلك الموضع المبارك، كما أمر الله – تعالى - بذلك في قوله:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، فينبغي للحاج أن يشتغل بالذكر والتكبير في هذه الأيام، وهذه سُنة - كما قلنا - أضاعها والله كثيرٌ!
إذا مضيت في شوارع مِنى وفي أسواقها فارفع صوتك؛ فما جُعلت مِنى إلا لهذا الصوت، ما جعلت إلا لأجل هذا التكبير، تكبر الله، تحمد الله، تهلل الله، تجل الله - عز وجل - حق إجلاله، والله – تعالى - أعلم.
س: رجل يريد أن يحج من جدة؛ ولكنه قبل الحج يريد الذهاب إلى أبها؛ لزيارة بعض الأقارب في شهر ذي الحجة، ويعود إلى جدة ليحرم منها، هل هذا يصح، علمًا بأنه قد ارتبط مع جماعة للحج مِن هنا؛ فعليه أن يعود إلى جدة؟(/21)
جواب: مَن خرج إلى أبها، أو خرج إلى موضع غير جدة قاصدًا زيارة أو رحمًا أو غير ذلك، ثم قدم وفي نيته الحج؛ فإنه يجب عليه أن يحرم من ميقات يلملم، لماذا؟ لأنه يمر بالميقات ناويًا الحج بذلك السفر، صحيح أنه سيمر بجدة؛ ولكنه يمرها متوقفًا، وهذا السفر إلى جدة ليس أصالةً، والمقصود أصالة أن ينزع منها إلى مكة؛ فلذلك يجب عليه أن يحرم من ميقات أهل أبها، وذلك لما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في المواقيت: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)). صحيح أنك من أهل جدة؛ ولكن لما مررت بميقات أبها وما جاورها وهو يلملم؛ فإنك أخذت حُكْم أهلها، والله – تعالى - أعلم.
س: سائل يقول: هل يجوز أن آتي بعمرة التمتع يوم الثامن من ذي الحجة؟
جواب: نعم، يجوز للإنسان أن يأتي بالعمرة في اليوم الثامن من ذي الحجة، وبعد ذلك يتحلَّل، ولو بتقصير شعره، فإن نزع ولبسَ ثيابه، يعود مرة ثانية ويلبس إزاره وردائه، ويمضي إلى مِنى؛ وإلا مضى إلى عرفات إن تأخر إلى يوم عرفة، والله – تعالى - أعلم.
س: رجل له بيت في مكة وبيت في جدة، وعمله في جدة، يمكث في جدة مع أهله أربعة أيام، وبقية أيام الأسبوع يقضيها في مكة أيضًا مع أهله، حيث يذهب بهم من جدة إلى مكة، فمن أين يُحرِم؟!(/22)
جواب: هذه المسألة يعتبرها العلماء - رحمهم الله - مسألة المكي الذي يأخذ حُكْم الأفاقي من وجه؛ يعني يُعَدُّ صاحب منزلين، يعد أفاقيًّا من وجه، ويعد مكيًّا من وجه آخر، ومثلوا لها بصاحب التجارة، بصاحب مزرعة، أو يكون له بيت مَثَلاً في غير مكة؛ كالمدينة مثلاً، يكون له بيت في المدينة وبيت في مكة؛ فيعطى حُكْم أهل مكة إن كان بمكة، ويعطى حُكْم أهل المدينة إن كان بالمدينة، ولذلك نقول: إذا أنشأتَ نية الحج، فإن كنتَ في جدة أخذت حكم أهل جدة، وإن كنتَ في مكة أحرمت من مكة، وأخذت حُكْم أهلها، فينظر إلى الحالة التي عقدتَ العزم فيها على الحج، فيجب عليك الإحرام من موضعك، والله – تعالى - أعلم.
س: سؤال يتكرر مثله كثيرًا، يقول: أريد أن أحج متمتعًا، هل تكفيني العمرة التي فعلتُها في رمضان؟
جواب: بالنسبة للمُتَمَتِّع لا يعد الإنسان متمتعًا إلا إذا أوقع العمرة في أشهر الحج، وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وتوضيح ذلك أنك إذا أحرمتَ بالعمرة في رمضان، وتحللتَ منها في رمضان، ثم حججت في عامك ذلك دون أن تقرن مع حجك عمرة؛ فأنت مُفْرِد، ولست بمتمتع، هذا إذا وقعت العمرة بكاملها في رمضان، ولذلك أقول مَن أحرم في رمضان لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يوقع العمرة بكاملها في رمضان، وحكمه أنه مُفرِد، كما قلنا.
الحالة الثانية: أن يوقع بعض العمرة في رمضان وبعضها في شوال، مثال ذلك: شخص قبل غروب شمس آخر يوم في رمضان لبَّى بالعمرة ونوى، ولم يطُفْ ولم يسعَ؛ إلا صبيحة يوم العيد أو ليلة العيد؛ فهذه مسألة خلافية عند العلماء - رحمهم الله - فمذهب طائفة من العلماء أن العبرة بالإحرام بالنية، قالوا: إذا أتى الميقات، ونوى قبل غروب شمس آخر يوم؛ فهو مفرد، وإن نوى بعد غروب شمس ذلك اليوم؛ فهو متمتع، وهذا مذهب طائفة، ومنهم الظاهرية.(/23)
القول الثاني يقول: العبرة بدخوله لمكة، وهو مذهب بعض السلف، ومنهم عطاء، فإن دخلها قبل غروب الشمس؛ كان مفردًا، وإن دخلها بعد الغروب كان متمتعًا.
والقول الثالث: العبرة بطوافه، فإن كان قد ابتدأ الطواف قبل غروب الشمس؛ فهو مفرد، وإن ابتدأ الطواف بعد غروب الشمس؛ فهو متمتع.
والقول الأخير قول الحنفية: أن العبرة بأكثر الطواف، وقول المالكية: أن العبرة بالتحلل، وهذه قرابة خمسة أقوال في المسألة، أصحها - والعلم عند الله - أن العبرة ببداية الطواف، فإن ابتدأت الطواف في ليلة العيد، بعد مغيب شمس آخر يوم من أيام رمضان؛ فأنت متمتع، وإن كان قد وقع بداية طوافك قبل الغروب؛ فأنت مفرد، والله – تعالى - أعلم.
س: [وماذا عليه] إذا خرج من مكة بعد العمرة؟
[فالجواب]: إذا خرج من مكة، بالنسبة للمتمتع يشترط فيه ألا يرجع إلى بلده بعد العمرة؛ لأن حقيقة التمتع أن يجمع بين النسكين في سفر واحد، فإذا كان رجع وسافر للعمرة بسفر مستقل، وللحج بسفر مستقل؛ فما تمتع؛ هذا يُعدُّ مفرِدًا. ومن هنا أهل جده لو نزلوا للعمرة، ثم رجعوا بعد العمرة وأقاموا بجدة، ثم حجوا من عامهم؛ فهم مفردون لا متمتعون، ولا دم عليهم، والله – تعالى - أعلم.
س: سائل يقول: هل أوتر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة مزدلفة؟(/24)
جواب: هذه المسألة للعلماء فيها وجهان: بعضهم يقول: إنه لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر ليلة العيد، وهي ليلة النحر؛ فلذلك نقول بأنه لا يُسَنُّ فعل الوتر ليلة العيد، وقالوا إنه ما دام قد سكت النقل؛ فإن هذا يدل على أنه لا يسن فعل الوتر. وطائفة من العلماء، وهم الجمهور، على أنه يسن للإنسان أن يوتر ليلة العيد؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أوتروا يا أهل القرآن))، ولم يقل إلا ليلة النحر، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((أوتروا قبل أن تصبحوا))، وقال: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر؛ فليوتر بواحدة))، ولم يقل إلا ليلة النحر، قالوا: فهذه نصوص تأمر بالوتر، وتحث عليه؛ كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ((إن الله أمركم بصلاة، هي خير لكم من حمر النَّعم، وهي الوتر))، فلذلك قالوا: هذه النصوص ليس فيها تخصيص، وسكوت الصحابي عن الرواية لا يدل على الإسقاط؛ إذ قد يكون الصحابي سكت عنه للعلم به، وعدم اطلاع الصحابي لا يدل على النفي أيضًا، ثم أكدوا ذلك بأمرٍ ثانٍ، قالوا: لو أن إنسانًا قال: لا يشرع للإنسان أن يصلي رغيبة الفجر صبيحة يوم العيد، هل يكون مصيبًا أم مخطئًا؟ قالوا لا؛ نقول في الوتر فقط، قالوا: إنه لم ينقل لنا في رغيبة الفجر أنه صلاها أيضًا صبيحة العيد.
فالذي يظهر - والعلم عند الله - أن يأخذ الإنسان بالأحوط، وإن أخذ بالقول الثاني، فلا حرج عليه، والأمر على السعة؛ مَن ترك يتأول السُّنة كُتِب له الأجر، ومَن فعل يتأول السُّنة كُتِب له الأجر، والله – تعالى - أعلم.
س: سؤال يتكرر كثيرًا، يقول: هل يجوز للحاج رجلاً أو امرأة أن يمشط شعره؟
وإن تساقط شعر من رأسه، فهل عليه دم؟(/25)
جواب: يجوز للإنسان أن يمشط شعره؛ لكن على سبيل لا يوجب سقوط الشعر، ومن العلماء مَن منع ذلك؛ لأنه عدَّه نوع ترفُّهٍ، وليس هناك نص يدل على المنع؛ ولكن الأَوْلى والأسلم أن يحتاط الإنسان ولا يمشطه؛ لأنه نوع من الترفه، فلو تركه كان أولى؛ لكن الحُكْم بحرمة ذلك وتحريمه يحتاج إلى دليل، وقالوا إنه ليس هناك دليل يدل على منعه من ذلك، والأصل الإباحة، والله – تعالى - أعلم.
س: سائل يقول: هل يجوز لي القصر في الصلاة في مِنى، حيث إنني لا أريد الحج؛ ولكن جئت للبيع والشراء، وأيضًا في صلاة الجمعة هل أصليها قصرًا، وهل السنن واجبة؟
جواب: أما بالنسبة للقصر للصلاة في منى ففيه تفصيل: إن كنت من أهل السفر؛ كأن تكون قدمت مثلاً من المدينة للتجارة في الحج؛ تقصر، ولا يشترط أن تكون من الحجاج؛ فالقصر رخصة للمسافر مطلقًا، وأما بالنسبة لقولك صلاة الجمعة هل أصليها قصرًا؟ لا أعرف جمعة تقصر! الجمعة ركعتان، هذا مذهب جديد، تصلي ركعة واحدة!! ما نحفظ هذا القصر!
على العموم تصلي الجمعة، إن صليت مع المجمعين فأنت مجمع إن كنت مسافرًا، وإن كنت غير مسافر تصلي الجمعة بناء على الأصل، والله – تعالى - أعلم.
س: سائل يقول: هل يجوز أن يخرج الحاج من مِنى قبل الظهر، ويطوف طواف الوداع، ثم يعود إلى منى ويرمي، ثم يخرج إلى بلده؟
جواب: بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.. أما بعد؛(/26)
فإن السُّنة المطلوبة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بطواف الوداع، أن يكون آخر عهدك بالبيت طوافًا، فإذا طاف الإنسان طواف الوداع، ورجع إلى منى؛ لم يكن آخر عهده بالبيت طوافًا، ومِن ثَمَّ فإن الإنسان ينبغي له أن يؤخر الطواف إلى ما بعد الرمي، وهذا قد يرخص فيه بعض من المتأخرين؛ ولكن لا أحفظ دليلاً يدل عليه، فالظاهر حديث عائشة في الصحيح وغيره، أنها قالت: "كان الناس يصدرون من فجاج مِنى وعرفات، فأُمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافًا" يدل على تعين المسير إلى البيت، ولو أنه بقى في رميه للجمار، والله - تعالى - أعلم.
س: سائل يقول: هل يصح لأهل جدة أن يؤخروا طواف الوداع إلى بعد النزول من الحج بيوم أويومين؟ حيث يقول: إنني سمعت بعض العلماء يقول: يصح لأهل جدة أن يؤخروا طواف الوداع؛ أي قبل نهاية شهر ذي الحجة؟
جواب: طواف الوداع يُشَرَع للحاج إذا صَدَرَ عن البيت، فلو صَدَرَ بعد اليوم واليومين - كما ورد في السؤال - فلا حرج عليه، سواء كان من أهل جدة أو من غيرهم؛ بل لو أنه تأخر صدوره إلى آخر شهر ذي الحجة؛ فإنه يطوف طواف الوداع عند صدوره، والله – تعالى - أعلم.
س: هل يصح لأهل جدة أن يؤخروا طواف الوداع إلى بعد النزول من الحج - يقصد النزول إلى جدة - بيوم أويومين؟.
[فالجواب]: نقول فيه تفصيل؛ إن كان نزولهم إلى مكة، يبقون حتى يعقدوا العزم على الذهاب إلى بلدهم وهو جدة، فيطوف إذا صدر. وأما إذا كان نزولهم إلى جدة، ورجوعهم بعد ذلك إلى مكة لطواف الوداع، فهذا محل نظر؛ لأن النص عام شامل لمن جاور البيت، ومن كان بعيدًا عن البيت، وتخصيصُه بالاجتهاد محلُّ نظر، ولذلك الذي يظهر من ظاهر النص أنه يطوف عند صدره من حجه، وانتهائه من حجه، لا يؤخر ذلك إلى نزلة أخرى أو ذهاب آخر، والله – تعالى - أعلم.
س: ما معنى كلمة التشريق المذكورة في أيام التشريق؟(/27)
جواب: هذا من تشريق اللحم، لكن الثلاجات أضاعت التشريق، كانوا يشرقون اللحم؛ يقطعونه ويعرضونه على الشمس.
س: سائل يقول: إنني رجل عليَّ ديون كثيرة لا أستطيع سدادها، حيث إنني أملك سيارة كبيرة، وأرغب في الحج، والعمل في السيارة، فهل يصح لي الحج وأنا مديون؟
جواب: أما بالنسبة للشخص المديون فإن الأصل فيه أن يقضي دَيْنه، ولا يجب الحج على المديون، حتى يؤدي دينه؛ لأنه مطالب بقضاء حقوق عباد الله، وبعد أداء الحقوق يتوجه إليه الخطاب بالحج، فإذا كانت عليه ديون، فإنه غير مستطيع للحج، فلا يجب عليك الحج؛ لكن لو استئذنت صاحب الدين، فأَذِنَ لك، فحججت، صحَّ حجُّك وأجزأك، ولا حرج عليك؛ لأنك استأذنت، وأما إذا كان الإنسان لم يستأذن، فإن حجه أيضًا صحيح، ومسألتك التي ذكرتها من كونك ذاهبًا إلى مكة من أجل التجارة فيها، وجه للترخيص؛ لأن ذهابك من أجل التجارة معونةٌ على قضاء الدَّيْن، وليس المقصود الحج بأصله، فلذلك لما كان ذهابك متعينًا، وأردت أن تصيب الأمرين: الحج والحاجة، فلا حرج عليك، وقد ورد الشرع بالإذن في ذلك قال – تعالى -: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، ولذلك ورد في الحديث: أنها نزلت في قوم يحجون بنية التجارة؛ أي يجمعون بين نية الحج والتجارة، على أن الحج أصل، والتجارة تبع، والله – تعالى - أعلم.
السؤال الرابع عشر:
س: هل غطاء الرأس بالنسبة للمرأة يكون عليها طول الوقت؛ حتى في الخيمة، وهي بعيدة عن الرجال؟ وإذا أزالت الغطاء هل يفسد الإحرام؟(/28)
جواب: المرأة يشرع لها أن تغطي رأسها إذا رأتِ الأجانب، أو كان هناك أجانب، أو كانت بين الأجانب؛ لحديث أسماء الصحيح - رضي الله عنها وأرضاها - أنها قالت: "فإذا مر بنا الرَّكْب سدلتْ إحدانا خمارها"، فدل هذا على مشروعية سدل المرأة لخمارها عند مرور الرجال الأجانب، وأما إذا كانت بين محارمها، أوكانت في خيمتها، أوكانت بمعزل عن رؤية غير محارمها لها؛ فإنه يجب عليها كشف وجهها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بذلك ضمنًا؛ كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في "صحيح البخاري" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين))، فنهاها عن سترها لوجهها، وأما بالنسبة لقولك: هل تكشف؟ نعم، القاعدة تقول: إن ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها، فهي في الأصل يمنع عليها السدل؛ لكن لمكان الحاجة، شُرِع لها السدل، والقاعدة أن ما شُرِع لحاجة يبطل بزوالها. فإذا لم يوجد الأجانب، فإنه قد زالت الحاجة، فيجب عليها الرجوع إلى الأصل، والله – تعالى - أعلم.
س: كأنها يا شيخ تقصد غطاء الرأس.
جواب: الشَّعر ما فيه حرج.. الشعر لا حرج عليها في تغطيته.. المرأة تغطي شعرها وجوبًا إذا كانت بين الرجال الأجانب، وأما بالنسبة لمحارمها فإنه يجوز لهم النظر إلى شعرها؛ ولكن كَرِهَ علماء من السلف ذلك، وقال: أخشى على محرمها الفتنة، ولذلك من ناحية الأصل، لا يجب عليها كشف شعرها، شعر الرأس لا يجب كشفه في الإحرام، الإحرام للمرأة في الوجه والكفين، لحديث ابن عمر الذي سبقت الإشارة إليه، وأما الرأس فإنها تغطيه، وهذا مما يختلف في الرجل والمرأة، والله – تعالى - أعلم.
س: سائل يقول: مَن كانت له أضحية فهربت يوم العيد أو ماتت، هل يجب عليه أن يشتري أخرى أم هذا يكفي ويجزئ؟ وهلاَّ حدثتنا عن الأضحية؟(/29)
جواب: إذا كانت الأضحية تلفت أو ماتت أو فرَّت، ولم يستطع الإنسان إليها سبيلاً، فإنه في هذه الحالة لا يخلو من حالتين: إما أن يستطيع شراء غيرها، وإما لا، فإن كان لا يستطيع فهو عفو، وسقط عنه ذلك، وأما إذا كان يستطيع فإنه يضحي بغيرها، وعظم الله أجره فيما فَقَدَ.
وأما بالنسبة للأضحية، الشاة تذبح يوم الأضحى، وقيل سميت بذلك لأنه يُسنُّ ذبحها في أضحى يوم العيد، لأن بداية الذبح تكون في أضحى يوم العيد، هي سُنة عن النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وينبغي للمسلم أن يراعي فيها أمورًا:
أولاً: لا تصح الأضحية إلا من بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم، سواء كانت الإبل عرابًا أو بختية، وسواء كانت الغنم من الماعز، أوكانت من الضأن، فهذه الأصناف هي التي يجوز التضحية بها.
وأما بالنسبة للأمر الثاني، فينبغي أن تتوافر فيها الشروط المعتبرة؛ منها ما يرجع إلى السِّنِّ، فلا يجوز التضحية إلا بالثَّنِي من الماعز والإبل والبقر، أما بالنسبة للماعز فهو ما أتمَّ سَنةً، وأما بالنسبة للبقر فما أتم سنتين ودخل في الثالثة، وأما بالنسة للإبل فما أتم الرابعة ودخل في الخامسة، هذا بالنسبة للثني؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تذبحوا إلا مُسِنَّة))، فإذا أراد أن يضحي بالضأن، الذي يسمى بلغة العوام (الطلي)، هذا يجوز التضحية بالجذع منه، وهو ما أتم نصف العام ستة أشهر، وقال بعض العلماء: ما قارب السنة؛ ولكن هذا يختلف باختلاف المرعى وحال الشاة، فلذلك يضحي بالضأن إذا كان جذعًا؛ فإن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تذبحوا إلا مسنة؛ إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جَذَعَة من الضأن))، فأجاز التضحية بالجذع من الضأن خاصة، دون غيره من بهيمة الأنعام.(/30)
أما بالنسبة للشرط الثالث: فإنه ينبغي براءتها وسلامتها من العيوب؛ فلا تجزئ العوراء البيِّن عورُها، ولا العرجاء البيِّن ظلعها، ولا الكبيرة التي لا مخ فيها، ولا الهزيلة، كل هذه الأصناف لا تجزئ في الأضحية؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البين عورها، والعرجاء البين ظلعها، والكبيرة التي لا تنقي، والمريضة البين مرضها))، فإذا كانت الشاة مريضة لمرعاها، أو لتخمة في مرعاها، أو غير ذلك، فإنه لا يضحي بها خشية تلفها.
أما بالنسبة للشرط الآخر، الذي ينبغي توافره، فهو شرط الوقت، فينبغي للإنسان ألا يضحي إلا بعد الصلاة، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومَن لم يذبح فليذبح باسم الله))، فدلَّ هذا على أن شرط الصحة أن تقع بعد الصلاة، فإذا ذبح قبل الصلاة فشاتُه شاةُ لحم، وأهل البادية إذا كانوا لا يصلُّون العيد لتفرقهم لمنازلهم، فإنهم يحسبون الوقت بقدر ما تصلى صلاة العيد، ثم يضحُّون بعد ذلك، وأما بالنسبة لأهل المدن والأمصار فإنهم يؤدُّون الصلاة، ويضحُّون بعد صلاة إمامهم، لأن الصحابة ربطوا بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وينبغي للإنسان أن يبحث عن طيبها؛ فإن أعزها عند الله، وأعظمها أجرًا هو أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها، ويجوز التضحية بالخصي منها إذا كان سمينًا طيبًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحَّى بكبشين أملحين أقرنين موجوءين؛ يعني خصيين، فدل هذا على أن الخصي لا يؤثر ولا يعدُّ عيبًا؛ لأنه قد يقال نقص في الخلقة، فالمقصود أن هذا مما ينبغي على الإنسان أن يفعله، فإذا ذبح فالسُّنة أن يلي ذبحها بنفسه، حتى يكون ذلك أبلغ في طاعتة لربه، وهو مأجور على ذلك، ويُفضَّل له أن يترك الأضحية في البيت إذا كان حاجًّا؛ حتى تبقى في نفوس الأبناء وتبقى الشعيرة باقية؛ لأنه هذا مقصود الشرع.(/31)
والتضحية في غير البلاد؛ كأن يدفع مالها إلى مكان آخر من البلدان يضحى فيه عنه، هذا شيء طيب؛ ولكن لعل الأَوْلى والأفضل أن يضحي في بلده؛ لأنه إذا ضحى في مكان آخر، خلا بيتُه عن هذه السُّنة، وخلوُّ بيوت المسلمين عن السُّنة يوم النحر فيه إضاعةٌ لشعيرة من شعائر الإسلام، لا ينبغي فعله ما أمكن.
وأما الأمر الأخير: ما الذي يفعله بالأضحية؟ قيل يقسمها أثلاثًا لقوله – تعالى -: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، فقال: كلوا منها وأطعموا القانع - هذا الغني – والمعتر، السائل الذي يعتورك، فقالوا تقسم أثلاثًا، واحتجوا بقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((كلوا وتصدقوا وادخروا أو واهدوا))، فدلَّ هذا على تقسيمها أثلاثًا واستحباب تقسيمها ثلثًا ثلثًا ثلثًا، ثلث له، وثلث لجيرانه وأهل مودته من الأغنياء، وثلث للفقراء والضعفة والمساكين.
ومِن العلماء مَن قال باستحباب تقسيمها قسمين، نصف له، ونصف لأهله؛ لقوله – تعالى -: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، والذي يظهر أنه إذا ضحى أو أعطى الثلث للفقراء والمساكين أجزأ، وأن النصف ليس بمتعين، ويجوز له أن يدخر من لحوم الأضاحي، ولو إلى بعد أيام العيد؛ لما ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: ((كنت قد نهيتكم عن الادخار، فادخروا فادخروا)). والله – تعالى - أعلم.
س: هل يجوز الجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع؟ وكيف تكون الصفة في ذلك؟
جواب: نعم، إذا أخر الحاج طواف الإفاضة، أوكانت المرأة عليها عذر، فلم تطُفْ طواف الإفاضة، وطهرت ثم أرادت أن تجمع بين طواف الوداع والإفاضة، جاز لها؛ لأن المقصود من طواف الوداع أن يكون آخر عهده بالبيت طوافًا، وهذا يتحقق بطواف الإفاضة، فينوي طواف الإفاضة أصلاً، وطواف الوداع اندراجًا، ينويه تحت طواف الإفاضة، فإذا نوى ذلك أجزأه، وسقط عنه طواف الوداع، والله – تعالى - أعلم.(/32)
س: سائل يقول: لو تحدثت يا شيخ عن العشر الأوائل من هذا الشهر، وعن فضلها والعمل فيها، وعن صيام يوم عرفة، وجزاكم الله خيرًا!
جواب: أما العشر الأوائل من ذي الحجة، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أنه قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله مِن عشر ذي الحجة))، قالوا: "ولا الجهاد في سبيل الله؟!"، قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء من ذلك))، فدل هذا على فضل هذه الأيام المباركات، يغتنمها الإنسان في ذكر الله وطاعة الله، ويستكثر فيها من خصال الخير، وإن صامها فحسن صيامها، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أيام العمل الصالح))، والعمل الصالح يشمل الصيام؛ بل إن الصيام من أفضل الأعمال الصالحة، وأحبها إلى الله - تبارك وتعالى - لما فيه من عبادة الصبر، ولما فيه أيضًا من كسر شهوة النفس، إلى غير ذلك من فضائله.(/33)
وأما أحكام هذه العشر، فيُسَنُّ فيها التكبير {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، قالوا: هي عشر من ذي الحجة، وهو التكبير المطلق، يكبر الإنسان سواءً كان تكبيره شفعًا أو وترًا: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، وإن شفع فلا حرج عليه، يكبر ويحيي التكبير، وقد كان السلف الصالح يفعلون ذلك، كان عبدالله ابن عمر - رضي الله عنهما - يغدو إلى السوق وليس له حاجة في السوق، فيكبرُ، فيكبرُ أهلُ السوق بتكبيره، إحياءً لهذه السُّنة، فينبغي للإنسان أن يحرص على إحيائها، وأن يرفع صوته إحياءً لهذه الشعيرة؛ علَّ الله أن يرفعه، فما رفع عبدٌ شعيرةً إلا رفعه الله – عز وجل – بها، ومَن أحيا سُنةً أحياه الله؛ كما أحياها، فلذلك ينبغي إحياء هذه السُّنة، والحرص عليها، والدَّلالة عليها، وقد كان الناس إلى عهد قريب يُكثرون من ذكر الله في هذه العشر لفضلها، قال بعض العلماء في قوله – تعالى -: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 – 2]، قالوا: هي عشر من ذي الحجة؛ لأن الله أقسم بها للدَّلالة على فضلها وشرفها، وهذا يدل على فضلها.
أما أحكامها: فإن الإنسان إذا نوى الأضحية في عشر من ذي الحجة، فإنه لا يمس شعره، ولا يقلم ظفره؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمسن شيئًا من شعره)). والله – تعالى - أعلم.
س: ما المراد بالحج الأكبر الوارد في كتاب الله، ولماذا سمي بالحج؟
جواب: قيل: هو يوم عرفة، وقيل: يوم النحر، وقول بعض العلماء الأخير: إنه يوم النحر، وقالوا: إنه أكبر؛ لأنه يجتمع فيه طواف الإفاضة، وكذلك تجتمع فيه الشعائر؛ من رمي الجمار، وحلق الرأس، والتحلل. وأما يوم عرفة؛ فلأن عرفة هي الحج؛ ولكن القول الثاني قواه بعض العلماء؛ لاجتماع الفضائل التي لا توجد في غيره، والله – تعالى - أعلم.
وماذا عن صيام عرفة؟(/34)
أما صيام عرفة فقد سئل عنه مَن هو أفضل منا - صلوات الله وسلامه عليه – فقال: ((أحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والباقية))، فصيام يوم عرفة مَسنونٌ، وله فضل؛ لكن لغير الحاج، أما الحاج فيُسنُّ له أن يفطر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم – أفطر، وقد جاء بها حنيفية سمحة، لا حرج فيها ولا مشقة ولا عنت، فأفطر - صلوات الله وسلامه عليه - لأن الفطر يقوي على الذِّكْر، الذي هوالمقصود من يوم عرفة، والصيام منفك، فتُقدَّم العبادة المتصلة على العبادة المنفصلة، ولذلك لم يشرع للمقاتل - إذا كان في وجه العدو - أن يكون صائمًا؛ لأنه بالصيام يضعف عن البلاء المقصود من قتاله، فهكذا بالنسبة لمن وقف في يوم عرفة، فإن مقصوده ذِكْر الله، فينبغي أن يتقوى، وأن يأخذ بالأسباب التي تقويه على ذلك، والله – تعالى - أعلم.
وماذا عن موافقته ليوم الجمعة؟
أما بالنسبة لموافقته يوم الجمعة، فالذي يظهر، والذي يستحب للإنسان أن يصوم الخميس والجمعة، وأما السبت فيوم عيد ولا يصام، وقد اجتمع فيه النهي عنه على الانفراد، وكذلك أيضًا كونه يوم عيد، فلذلك يُسنُّ أن يصوم الإنسان الخميس والجمعة، والله – تعالى - أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. انتهى.(/35)
العنوان: دور المسجد في رمضان
رقم المقالة: 1212
صاحب المقالة: أبو محمد التميمي
-----------------------------------------
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:
أخي الداعية، حيث أن عدد المصلين يزداد في المساجد، خلال شهر رمضان المبارك، ونفوس المسلمين تصبح أقرب إلى ربها؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم –: ((إذا جَاءَ رَمَضانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ، وصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ)) متفق عليه، فإنه ينبغي الاستفادة من هذه المزايا؛ لتكثيف النشاط الدعوي خلال هذا الشهر الكريم وخاصة في المساجد. وعليه - أخي الداعية - إليك برنامجًا دعويًّا مُقترَحًا يمكن تطبيقه في مسجد الحي، وأظنه لا يخفى عليك ولكنه من باب الذكرى التي تنفع المؤمنين، وأنت منهم إن شاء الله:
1- توزيع الأشرطة والكُتيِّبات الإسلامية:
يقترح أن يقف صغار السن عند أبواب المسجد بعد صلاة المغرب؛ ليقوموا بتوزيع الأشرطة؛ والكتيبات الإسلامية، ويفضل أن يبدأ بتوزيع أشرطة القرآن الكريم.
2- توزيع الفتاوى:
هناك فَتَاوَى مهمة عبارة عن مطوية أو وَرَقة واحدة فقط لكبار العلماء؛ كالشيخ عبدالعزيز بن باز؛ والشيخ ابن عُثيمين - رحمهما الله - والشيخ بن جبرين - حفظه الله - ومن هذه الفَتَاوى: "حُكم العمل في البنوك الربويَّة، كثرة خُروج النساء إلى الأسواق، تأجير المحلات لبيع المُحرمات، الدِّش".
3- تنظيم مسابقة للصغار:
وذلك بحفظ مجموعة من سور القرآن، وكذلك بعض الأذكار النبوية، ويتم تكريمهم، وإعطائهم الجوائز أمام أولياء أمورهم وجماعة المسجد في الوقت الناسب.
4- تنظيم مُسابقة للنساء:(/1)
وذلك بإعداد وتوزيع أسئلة في مُصَلَّى النساء؛ ليقمن بالإجابة عليها، ووضعها في صندوق خاص عندهن، وبالإمكان أن تكون الأسئلة عن مواضيع معينة في الأشرطة والكتيبات، التي تم توزيعها عليهن؛ لتكون دافعا للاستماع والقراءة، ويفضل الأسئلة التي لها أثرٌ تربوي، فمثلاً بدل أن يوضع سؤال يقول من هي ذات النطاقين؟ يوضع سؤال لماذا سميت ذات النطاقين بهذا الاسم؟
5- القراءة على المُصَلِّين بعد صلاة العصر:
وذلك للفتاوى المتعلقة بالصيام، أو الأحاديث والآثار الدالة على فضل شهر رمضان وصيامه.
6- القراءة على المُصَلِّين قبل الإقامة لصلاة العشاء:
وذلك في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، والسلف الصالح؛ كالإمام أحمد؛ وابن تيميَّة؛ والبخاري؛ نظرًا لما في السيرة من أحداث، وعظات، ودروس تشتاق النفوس لسماعها، وتتأثر بها بإذن الله، وكذلك قراءة فصول في الرقائق؛ كعذاب القبر ونعيمه؛ والجنة والنار، أو في أعمال القلوب؛ كالإخلاص؛ والمحبة؛ والتوكل، وفي مواضيع مختارة في العقيدة؛ كالولاء والبراء؛ والذهاب إلى السحرة والكهان، أو مواضيع عامة؛ كأهمية الرفقة الصالحة؛ وفضل الأخوة في الله؛ وصلة الرحم؛ وفضل الأذكار؛ والاهتمام بأمور المسلمين.
7- استضافة بعض العلماء والدعاة:
وذلك لإلقاء كلمات قبل الإقامة لصلاة العشاء، أو بين صلاة العشاء والتراويح.
8- الاستفادة من لوحة الإعلانات بالمسجد:
وتكون بخط واضح وجَذَّاب على أن يتم تغييرها كل يومين، وتتناول محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال أو غير ذلك.
9- جمع التبرعات لصالح المشاريع الخيرية الإسلامية، أو لصالح المنكوبين من المسلمين والفقراء.
وأخيرًا، أخي الداعية الفاضل.. لا تنس أمرًا مهمًا - قبل القيام بهذا البرنامج، وخلال تنفيذه وبعده - ألا وهو الدعاء بأن ينفع الله بتلك الأنشطة، ويبارك فيها، ويجعل عملك خالصا لوجهه تعالى.. فهنا سوف تتحقق النتائج المرجوة بإذن الله.(/2)
أسأل الله لك التوفيق والإعانة والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/3)
العنوان: دور النبي محمد – صلى الله عليه وسلم - في تحضر العرب
رقم المقالة: 435
صاحب المقالة: محمد مسعد ياقوت
-----------------------------------------
للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم- الفضل الأعظم في الارتقاء ـ حضارياً ـ بمستوى العرب، بعد عصور الظلام في أوربا، وعهود الجهل في الجزيرة العربية، وفي هذه المقالة نحاول أن نثبت هذه الحقيقة، ليس فقط من أفواه العلماء المسلمين، بل من أفواه المفكرين والباحثين من غير المسلمين.
النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يصنع من قبائل العرب أُمة:
تقول إي?لين كوبلد: "كان العرب قبل محمد – صلى الله عليه وسلم - أمة لا شأن لها، ولا أهمية لقبائلها، ولا لجماعتها، فلما جاء محمد – صلى الله عليه وسلم - بعث هذه الأمة بعثاً جديداً يصح أن يكون أقرب إلى المعجزات فغلبت العالم وحكمت فيه آجالاً وآجالاً، لقد استطاع النبي – صلى الله عليه وسلم - القيام بالمعجزات والعجائب، لَمّا تمكن من حمل هذه الأمة العربية الشديدة العنيدة على نبذ الأصنام، وقبول الوحدانية الإلهية، لقد وُفّق إلى خلق العرب خلقاً جديداً، ونقلهم من الظلمات إلى النور"[1].
فلقد كانت الحياة العربية قبل الإسلام تقوم أساساً على نمطية خاصة؛ فالقبيلة هي التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي يضم حياة الفرد في القبيلة، فكان انتماء العربي الجاهلي انتماءً قبلياً، وليس هناك أية رابطة عملية توحد القبائل وتجمعها، بل على النقيض؛ كانت القبائل متناحرة متحاربة، وإذا ما قامت أحلاف قبلية، فلِمُنَاصرة قبيلة على أخرى، وبالتحديد كانت القبيلة العربية تصنع وحدة سياسية مستقلة.
ومن هنا كان الانقلاب الذي أحدثه الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم - عميقاً في حياة الجزيرة العربية؛ إذ استطاع بسياسته الكفاحية التي تُمليها روح الإسلام أن يحول هذه الوحدات القبلية المستقلة ويرتقي بها لتظهر في إطار الأمة الإسلامية[2].(/1)
إن "الأمة الإسلامية" ـ القائمة على الإيمان ـ التي أسسها النبي محمد – صلى الله عليه وسلم - كانت ولا زالت أقوى رباطاً، وأوثق عرى من فكرة القبلية التي سادت في القرون الغابرة.
ويؤكد ذلك المفكر الألماني رودي بارت[3] بقوله:
"كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة، يعيثون فيها فساداً، حتى أتى محمد – صلى الله عليه وسلم - ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد، خالق بارئ، وجمعهم في كيان واحد متجانس"[4].
ويقول رودي بارت، في موضع آخر:
"جاء محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم - النبي العربي وخاتمة النبيين، يبشر العرب والناس أجمعين، بدين جديد، ويدعو إلى القول بالله الواحد الأحد، كانت الشريعة [في دعوته] لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلها بسلطة إلهية ملزمة، لا تضبط الأمور الدينية فحسب، بل أيضاً الأمور الدنيوية؛ فتفرض على المسلم الزكاة، والجهاد ضد المشركين، ونشر الدين الحنيف، وعندما قُبض النبي العربي – صلى الله عليه وسلم - عام 632م، كان قد انتهى من دعوته، وانتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيراً فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وتمت للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة،لم تعرف مثلها من قبل.."[5].
فضل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - على العرب لا حد له:
هذا، ولقد أثار موضوع فضل الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم - على العرب، اهتمام المنصفين؛ فهو الذي وحد الجزيرة العربية أول مرة في التاريخ في ظل حكم إسلامي، متنور نقل العرب من الجاهلية إلى الحضارة والمدنية، يقول الباحث الروسي آرلونوف في مجلة الثقافة الروسية، في مقالة: "النبي محمد – صلى الله عليه وسلم –":(/2)
"في شبه جزيرة العرب المجاورة لفلسطين ظهرت ديانة، أساسها الاعتراف بوحدانية الله، وهذه الديانة تعرف بالمحمدية، أو كما يسميها أتباعها الإسلام، وقد انتشرت هذه الديانة انتشاراً سريعاً، ومؤسس هذه الديانة هو العربي محمد – صلى الله عليه وسلم - ، وقد قضى على عادات قومه الوثنية، ووحد قبائل العرب، وأثار أفكارهم وأبصارهم بمعرفة الإله الواحد، وهذب أخلاقهم ولين طباعهم وقلوبهم وجعلها مستعدة، للرقي والتقدم، ومنعهم سفك الدماء ووأد البنات، وهذه الأعمال العظيمة التي قام بها محمد– صلى الله عليه وسلم - تدل على أنه من المصلحين العظام، وعلى أن في نفسه قوة فوق قوة البشر، فكان ذا فكر نير، وبصيرة وقيادة، واشتهر بدماثة الأخلاق، ولين العريكة، والتواضع وحسن المعاملة مع الناس، قضى محمد – صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة مع الناس بسلام وطمأنينة، وكان جميع أقاربه يحبونه حباً جماً، وأهل مدينته يحترمونه احتراماً عظيماً، لما عليه من المبادئ القويمة، والأخلاق الكريمة، وشرف النفس، والنزاهة"[6]
إن فضل الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم - على العرب لا حد له؛ إذ أخرجهم من الجاهلية إلى نور الإسلام؛ يقول المستشرق الأيرلندي المستر هربرت وايل في كتابه: "المعلم الكبير":
"بعد ستمائة سنة من ظهور المسيح ظهر محمد – صلى الله عليه وسلم - فأزال كل الأوهام، وحرم عبادة الأصنام، وكان يلقبه الناس بالأمين، لما كان عليه من الصدق والأمانة، وهو الذي أرشد أهل الضلال إلى الصراط المستقيم"[7].
ويضيف هنري سيروي أن "محمداً – صلى الله عليه وسلم - لم يغرس في نفوس الأعراب مبدأ التوحيد فقط، بل غرس فيها أيضاً المدنية والأدب"[8].(/3)
ويتحدث الباحث الأمريكي جورج دي تولدز( 1815-1897)، عن فضل الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم - على العرب حين نقلهم من الهمجية إلى المدنية، وعن دور الرسالة في تبديل أخلاق عرب الجاهلية، حين عمر ضياء الحق والإيمان قلوبهم، فيقول:
"إن من الظلم الفادح أن نغمض الجفن عن حق محمد – صلى الله عليه وسلم - والعرب على ما علمناهم من التوحش قبل بعثته، ثم كيف تبدلت الحالة بعد إعلان نبوته، وما أورته الديانة الإسلامية من النور في قلوب الملايين من الذين اعتنقوها بكل شوق وإعجاب من الفضائل؛ لذا فإن الشك في بعثة محمد– صلى الله عليه وسلم - إنما هو شك في القدرة الإلهية التي تشمل الكائنات جمعاء"[9].
من أعظم الآثام أن نتنكر لدور النبي محمد – صلى الله عليه وسلم -:
يؤكد ذلك م. ج. دُرّاني[10] بقوله:
".. وأخيراً أخذت أدرس حياة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم - فأيقنت أن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني الذي أقام مملكة لله بين أقوام كانوا من قبل متحاربين لا يحكمهم قانون، يعبدون الوثن، ويقترفون كل الأفعال المشينة، فغير طرق تفكيرهم، لا بل بدل عاداتهم وأخلاقهم، وجمعهم تحت راية واحدة، وقانون واحد، ودين واحد، وثقافة واحدة، وحضارة واحدة، وحكومة واحدة، وأصبحت تلك الأمة التي لم تنجب رجلاً عظيماً واحداً يستحق الذكر منذ عدة قرون، أصبحت تحت تأثيره وهديه تنجب ألوفاً من النفوس الكريمة التي انطلقت إلى أقصى أرجاء المعمورة تدعو إلى مبادئ الإسلام وأخلاقه ونظام الحياة الإسلامية وتعلم الناس أمور الدين الجديد"[11].
وتقول الشاعرة الإنكليزية اللايدي إيفلين كوبرلد في كتابها: "الأخلاق":(/4)
"لعمري لقد استطاع محمد– صلى الله عليه وسلم - القيام بالمعجزات والعجائب، لما تمكن من حمل هذه الأمة العربية الشديدة العنيدة على نبذ الأصنام، وقبول الوحدانية الإلهية، ولقد كان محمد– صلى الله عليه وسلم - شاكراً حامداً إذ وفق إلى خلق العرب خلقاً جديداً، ونقلهم من الظلمات إلى النور، ومع ذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - سيد جزيرة العرب، وزعيم قبائلهم، فإنه لم يفكر في هذه، ولا راح يعمل لاستثمارها، بل ظل على حاله، مكتفياً بأنه رسول الله، وأنه خادم المسلمين، ينظف بيته بنفسه، ويصلح حذاءه بيده، كريماً باراً كأنه الريح السارية، لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه، وكان يعمل في سبيل الله والإنسانية"[12].
كان فضل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - على العرب من العمق وبُعد الأثر لا يحصره زمان أو يحده مكان، عاشته أمة الإسلام، وما زال وسيظل باقياً خالداً، يقول الباحث قسطاكي حمصي (1858-1941) :
"إذا كان سيد قريش نبي المسلمين ومؤسس دينهم، فهو أيضاً نبي العرب، ومؤسس جامعتهم القومية، وإنه من الحمق والمكابرة أن ننكر ما لسيد قريش من بعيد الأثر في توحيد اللهجات العربية، وقتل العصبيات الفرعية في نفوس القبائل، بعد أن أنهكها القتال في قتال الصحراء، وتناحر ملوكها في الشام والعراق تناحراً أطال أمد الحماية الرومانية والفارسية في البلدين الشقيقين حتى الفتح الإسلامي، فمن الخطأ أن ننكر ما للرسول العربي الكريم، وخلفائه من يد على أن الشرق، في إثارة تلك الحماسة والبطولة النادرة المتدفقة في صدور أولئك الصحب الميامين، الذين كانوا قابعين في حزون الجزيرة وبطاحها، في سبيل الفتح، والمنافحة لتحرير الشرق من رق الرومان وأسر الفرس، إن سيد قريش هو المنقذ الأكبر للعرب من فوضى الجاهلية، وواضع حجر الزاوية، في صرح نهضتهم الجبارة المتأصلة في تربة الخلود"[13].(/5)
ويبين آرنولد توينبي[14] أن النبي محمداً قد وقف حياته لتحقيق رسالته في كفالة مظهرين أساسيين في البيئة الاجتماعية العربية؛ هما الوحدانية في الفكرة الدينية، والقانون والنظام في الحكم. "وتم ذلك فعلاً بفضل نظام الإسلام الشامل الذي ضم بين ظهرانيه الوحدانية والسلطة التنفيذية معاً؛ فغدت للإسلام بفضل ذلك قوة دافعة جبارة لم تقتصر على كفالة احتياجات العرب، ونقلهم من أمة جهالة إلى أمة متحضرة، بل تدفق الإسلام من حدود شبه الجزيرة، واستولى على العالم السوري بأسره من سواحل الأطلسي إلى شواطئ السهب الأوراسي"[15].
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: ((يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ كُلَّمَا قَالَ شَيْئاً قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ))[16].
كيف حول النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -العرب من قبائل متناحرة إلى أمة محترمة؟
بهذا الإيمان الواسع العميق، والتعليم النبوي المتقن، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته، بعث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في الإنسانية المحتضرة حياة جديدة.
عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غناءها، ولا يعرف محلها وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة وبعث فيها الروح الجديدة، وأثار من دفائنها وأشعل مواهبها، ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له، وكأنما كان المكان شاغراً لم يزل ينتظره ويتطلع إليه، وكأنما كان جماداً؛ فتحول جسماً نامياً وإنساناً متصرفاً، وكأنما كان ميتاً لا يتحرك؛ فعاد حياً يملي على العالم إرادته وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائداً بصيراً يقود الأمم.(/6)
عمد إلى الأمة العربية الضائعة وإلى أناس من غيرها فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ كانوا من عجائب الدهر وسوانح التاريخ، فأصبح عمر الذي كان يرعى الإبل لأبيه الخطاب، وينهره وكان من أوساط قريش جلادة وصرامة، ولا يتبوأ منها المكانة العليا، ولا يحسب له أقرانه حساباً كبيراً - إذا به يفاجئ العالم بعبقريته وعصاميته، ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما، ويؤسس دولة إسلامية، تجمع بين ممتلكاتهما، وتفوقهما في الإدارة وحسن النظام، فضلاً عن الورع والتقوى والعدل، الذي لا يزال فيه المثل السائر[17].
للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -الفضل الأكبر في رقي العالم كله:
ويبين المستر سنكس أن لمحمد- صلى الله عليه وسلم - الفضل الأكبر ليس فقط في رقي العرب بل في رقي العالم كله حتى اليوم، فيقول سنكس:
"ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة ..." إلى أن قال: "إن الفكرة الدينية الإسلامية، أحدثت رقياً كبيراً جداً في العالم، وخلّصت العقل الإنساني من قيوده الثقيلة التي كانت تأسره حول الهياكل بين يدي الكهان، ولقد توصل محمد ـ بمحوه كل صورة في المعابد وإبطاله كل تمثيل لذات الخالق المطلق ـ إلى تخليص الفكر الإنساني من عقيدة التجسيد الغليظة"[18].
وهكذا، ارتقى العرب ـ وغير العرب ـ ارتقاءً حضارياً ضخماً من عصور الجاهلية والظلام إلى عصور التحضر، بفضل دعوة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــــ
[1] إي?لين كوبلد: البحث عن الله، ص51، 66، 67.
[2] انظر: محمد شريف الشيباني: الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة، ص 68 وما بعدها.(/7)
[3] مفكر وباحث ألماني، عكف على الدراسات الشرقية والعربية في جامعة هايدلبرج، ووقف حياته لدراسة الإسلام، وصنف عدداً كبيراً من الكتب والأبحاث، منها ترجمته للقرآن الكريم، التي أصدرها في عامي 1964 و1965، وله كتاب عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم.
[4] رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ص 20.
[5] رودي بارت: تاريخ الحضارات العام، 3 / 112.
[6] آرلونوف: النبي محمد، مجلة الثقافة الروسية، ج 7، عدد 9.
[7] هربرت وايل: المعلم الأكبر، ص 17.
[8] هنري سيروي: فلسفة الفكر الإسلامي، ص 8.
[9] جورج دي تولدز: الحياة، ص 6.
[10] سليل أسرة مسلمة منذ القدم، أصبح نصرانياً في فترة مبكرة من حياته، تحت تأثير إحدى المدارس التبشيرية المسيحية، وقضى ردحاً من حياته في كنيسة إنكلترا؛ حيث عمل قسيساً منذ عام 1939 وحتى عام 1963، ثم عاد إلى دين الإسلام.
[11] رجال ونساء أسلموا، 4 / 28 – 29.
[12] ايفلين كوبرلد: الأخلاق ص 66.
[13] مجلة الفتح القاهرية، عام 1930م.
[14] المؤرخ البريطاني، الذي انصبت معظم دراساته على تاريخ الحضارات، وكان أبرزها مؤلفه الشهير (دراسة للتاريخ) الذي شرع يعمل فيه منذ عام 1921 وانتهى منه عام 1961، وهو يتكون من اثني عشر جزءاً عرض فيها توينبي رؤيته الحضارية للتاريخ.
[15] سومر ?يل و آرنولد توينبي: مختصر دراسة للتاريخ 10 / 381.
[16] صحيح البخاري،ج 13 / ص 224.
[17] انظر: أبي الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص 155 وما بعدها.
[18] آن بيزينت: حياة وتعاليم محمد، ص5.(/8)
العنوان: دول الثمانية تجنبت أحداث العراق
رقم المقالة: 1051
صاحب المقالة: حوار: عبدالحق بوقلقول
-----------------------------------------
الخبير الاقتصادي د. بشير مصيطفى:
دولُ الثمانية تجنبت أحداثَ العراق وتخشى دخول الصين في محفل الكبار
اختتمت قبل أيام في منتجع هايلنغدام بألمانيا قمةُ 'الثمانية الكبار' التي انعقدت هناك وسط إجراءات أمنية مشددة قل نظيرها على المستوى العالمي، بالنظر إلى ثقل الزعماء المشاركين في الأشغال، وكثرة الملفات التي جرى بحثها والتطرق إليها، والتي تراوحت بين المسائل السياسية إلى القضايا الاقتصادية العالمية مرورا بمشكلات التنمية والتحديات البيئية التي أضحت هي أيضا هَمًّا عالميا أقلُّ أعراضه هذه التحولات المناخية التي لا شك أن الجميع لاحظها.
ولأجل تسليط مزيد من الضوء على هذه القمة والأبعاد الاقتصادية والاستراتيجية لها بالنظر إلى مدلولاتها العالمية، اتصلنا بالدكتور بشير مصيطفى الباحث والخبير الاستراتيجي الجزائري لكي نحاول من خلاله تعميم فهم أفضل للقضية من جوانبها المتعددة.
محاورنا الدكتور الشاب بشير مصيطفى الذي نشكر له بداية تواضعه وتجاوبه السريع مع طلبنا، هو باحث وخبير اقتصادي ذو شهرة عالمية فهو خريج جامعة بيرمنغهام في المملكة المتحدة، وقد ألقى فيها بعد تخرجه أولى محاضراته، قبل أن يعود إلى الجزائر ليشتغل بالتدريس في المدرسة العليا للتجارة، ثم بالمعهد الوطني الجزائري للتخطيط والإحصاء.(/1)
انتقل الدكتور مصيطفى بعد ذلك إلى العمل في منصب كبير الباحثين بمعهد الأبحاث العربية في بيروت ثم مستشارا اقتصاديا في جامعة دبي إلى جانب اضطلاعه بالمنصب نفسه في قناة CNBC الأميركية قبل أن يلتحق مؤخرا بالإشراف على الدائرة الاقتصادية في مؤسسة عربية كبرى بدولة قطر، وزيادة على ذلك فمحاورنا باحث نشيط وكاتب معروف تنشر له مقالات دورية في صحف عديدة من أبرزها أسبوعية "ذي إيكونوميست" اللندنية.
• ابتداءً: ما تعليقُكم على أن يقوم أكثر من 16 ألف رجل بحراسة مقر انعقاد قمة الثمانية؟ هل يعني هذا أن هذا اللقاء الدوري لم يعد يسير في صالح التنمية العالمية وهو الذي تأسس أصلا لأجل التعاون في هذا الاتجاه؟
الاجتماعات الدورية للثمانية الكبار لم تكن قط في اتجاه التنمية العالمية بدليل أن الدول الناشئة التي فتحت لها أسواقا كبيرة فعلت ذلك بعيدًا عن قرارات الدول الصناعية الكبرى، وما زالت الدولُ الفقيرة التي أفضّل أن أسميها (دول الجنوب الحزين) والتي ارتبطت بمساعدات البنك العالمي ومساعدات الدول الكبرى ما زالت تعاني من تدنّي نسب النمو وانتشار ظاهرة الفقر.
يمكننا أن نضرب مثالا واضحا لهذه الحقيقة، فكوريا الجنوبية تطورت سريعا بفضل نموذج متميز لتدخل الدولة والاستثمار في الإنسان من حيث المعرفة والإبداع التكنولوجي، وهو اتجاه معاكس تماما لتفضيلات الدول الصناعية من حيث الإنفاق الحكومي وحرية الأسواق. في حين نجد دولا مثل لبنان الذي استسلم سريعا لتوجيهات البنك العالمي مثقلا بأكثر من 40 مليار دولار ديونًا خارجية دون أن يتمكن هذا البلدُ من تحقيق أي تقدم للتنمية.(/2)
واقع الحال أن مسعى الدول الصناعية الكبرى هو ترجمة حرفية لنظرية السفير الفرنسي الأسبق (ألان بلانتي) في الدبلوماسية بين الدول؛ إذ تقفز المصلحة على حساب التوازن العالمي، وتبيح الدول الكبرى استخدام جميع أنواع السلاح من أجل تحقيق مصالحها، وهذا ما لاحظناه في قمة ألمانيا الأخيرة؛ إذ طغى موضوعُ نشر الدرع الصاروخي على أراضي دول قريبة من مصادر الطاقة والمياه: بحر قزوين، العراق، تركيا، الحدود الإيرانية، بولندا حيث يمر مشروع إمداد أوروبا بغاز تركمنستان. أما حكاية 16 ألف عنصر أمن الذين جندوا لحراسة الاجتماع فيعكسُ حقا حجمَ ردودِ الفعل المحتملة لطبقات واسعة من المجتمعات الغربية، تلك الطبقات التي أصبحت تشك في نيات الكبار بل تتهمها بتثبيت أوضاع التخلف والفوضى في تلك الدول التي نسميها بالدول المستعمرة.
• لقد طغى الشق السياسي على اللقاء بشكل كاد يلغي بقية الجوانب، وبرغم ذلك فإن القضية السياسية الأكثر إلحاحا التي هي الوضع في العراق، لم يجرِ التطرقُ لها على المستوى العلني على الأقل. ما رأيكم في ذلك؟(/3)
السبب في ذلك واضح؛ فأمريكا تعد الملف العراقي ملفا أمريكيا يخص الشأن الداخلي للولايات المتحدة الأمريكية، كما كانت فرنسا تعد الملف الجزائري -إبان الاحتلال- ملفا فرنسيا لا يمكن التدخل فيه إلا عبر مجلس الأمن. والغريب في ذلك أن يتقدم الزعيم الروسي (فلاديمير بوتين) باقتراح تحويل الدرع الصاروخي المزمع نشره في بولونيا إلى كل من تركيا والعراق، وهما دولتان مسلمتان قريبتان من إيران، وهي أيضا دولة مسلمة، الشيء الذي يرسخ نظرةَ الغرب المسيحي إلى العالم الإسلامي والعربي على أنه ساحة للتجارِب، لقد كان من الأولى أن يناقش اجتماع الثمانية أجندة انسحاب القوات الأمريكية وحلفائها من العراق ووضع خطة دبلوماسية لإنهاء الصراع في منطقة الشرق الأوسط وإيران، على اعتبار أن الثمانية الكبار هم المؤثرون الأساسيون في المنطقة في الوقت الراهن.
• ماذا يعني في تفسيركم رفض ضم الصين إلى هذه القمة كعضو مراقب على الأقل؟ أليست الصين هي صاحبة الاقتصاد العالمي الأكثر نموا في السنوات الأخيرة؟(/4)
لا يمكنُ الدولَ الصناعية الثمانية أن تسمح بانضمام الصين إلى محفل الكبار على خلفية مذهبية واضحة، فالصينُ تمثل الطريقَ الاقتصادي الثالث الذي يهدد الشركات الرأسمالية الكبرى التي لا تتصور نفسها تعمل خارج النظام الرأسمالي بحريته المعروفة ونظامه في هندسة التجارة بين الدول، كما أن الصين تملِك مخططا للتوسع التجاري جنوبا في إفريقيا والمنطقة العربية، وانضمامُها لمجموعة الكبار يعني حقَّها في صياغة القرارات التي ستحكم العالم الاقتصادي لسنوات قادمة، وخاصة تلك القرارات التي من شأنها أن ترسُم مستقبل إفريقيا والعالم العربي وبعض دول أمريكا اللاتينية. إنه الخوف من تحول مصادر القرار من المركز الرأسمالي في الغرب إلى مناطق أخرى محتملة مثل آسيا الوسطى وشرق آسيا، خاصة وأن المفهوم الصيني للتنمية في العالم -أي مفهوم التنمية المتوازنة- ما زال يستقطب يوميا اهتمام الدول في الجنوب الحزين ويحظى بتقدير جمعيات مناهضة العولمة في الغرب العدو الأبرز لمسعى الثمانية الكبار.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا ينبغي لنا نسيان التاريخ، فقبول روسيا ضمن صفوف الكبار كان على خلفية تأمين إمدادات الطاقة من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، والتنازل عن الاتحاد السوفيتي كقطب سياسي استراتيجي في التوازن الدولي، في حين ترفضُ الصين رفع سقف تنازلاتها فوق الاعتبارات التجارية التي تمليها قواعد الانضمام للمنظمة العالمية للتجارة كمحاربة الإغراق مثلا وهو السقف الذي لم يعد يرضي الثمانية الكبار بأي حال من الأحوال، وترفض أيضا أن ترفع من سعر صرف اليوان مقابل الدولار الأمريكي.
• وصفت جريدة دير شبيغل الألمانية -في عددها الأخير- هذه القمةَ الأخيرة بقولها: "قمة الظلم". فما تعليقكم؟(/5)
نعم، هذا تحصيل حاصل، فالمتتبعون لمسار عمل الثمانية الكبار ولسياساتهم تجاه العالم النامي يشعر بتحكم القوة والمال في مصير شعوب بأكملها، وقد نبهنا مرارا على خطورة الوضع في دول الجنوب كساحات لتجارب البنك العالمي في التنمية وكأسواق للسلاح ولمنتجات الدواء التي تروج لها شركات رأسمالية معروفة. والظلم في تعبير الجريدة الألمانية المرموقة لا يعني فقط استغلال ثروات الدول الفقيرة منذ بداية القرن الماضي في صورة مواد زراعية ومنجمية وفي تجارة الرقيق بل تعدى ذلك اليوم إلى ربط اقتصاديات هذه الدول بالمركز الرأسمالي عن طريق ما يعرف بمساعدات التنمية. وقد أسفر الاجتماع الأخير المنعقد بألمانيا على وعد بمد الدول الفقيرة بمبلغ 110 مليار دولار ترسيخا لهذه النظرة الضيقة لشروط التنمية الحقيقية. يبدو لي أن قمة الظلم أنك تغلق أسواقك أمام منتجات الجنوب الزراعية وتعمل على خفض قيمة الدولار العملة الدولية الوحيدة في مبادلات (المحروقات) والذهب بدل أن تمد هذه الدول بالاستثمارات اللازمة لبناء قواعد اقتصادية متينة ومستدامة.
• لقد جرى استدعاء عدد من الرؤساء الأفارقة، كالرئيس بوتفليقة مثلا، ثم تم الحديث عن تخصيص غلاف مالي قيمته 60 مليار دولار لأجل التنمية في القارة السمراء. أليس في هذا دليل على أن قادة الدول الكبرى جادون فعلا في التنمية؟(/6)
لا، هذا غير صحيح؛ فإجمالي المبالغ التي قررها اجتماع ألمانيا هذه السنة هو 60 زائد 50 مليار دولار، الأول لمحاربة الأمراض، والثاني للتنمية في أفريقيا أي ما مجموعه 110 مليار دولار، وهي مبالغ تمثل نوعا من الدعم غير المباشر لشركات الدواء والمعدات الزراعية الأمريكية والأوربية. إنها نوع من خطوط القرض التي استعملها نادي باريس في التسعينات لتمكين الدول الفقيرة من شراء البضائع الأوروبية المعرضة للكساد. والدليل على ذلك أن مخصصات مكافحة الأمراض من نوع الإيدز والملاريا لا يمكنها القضاء على المرض بقدر ما تمكن من تخفيف الألم ومكافحة أعراضه عن طريق الأدوية التي تصدرها الدول الصناعية بأثمان باهظة تؤمن أرباحا طائلة للشركات الرأسمالية المتخصصة في تكنولوجيا الدواء. ويبدو لي أن ممثلي النيباد في قمة الثمانية أخفقوا في تمرير رسالة للأفارقة كان مطلوبا تمريرها، وهي: توطين التكنولوجيا، ودعم البحث العلمي في الجامعات الإفريقية، والشركة الحقيقية في البنى التحتية وبناء محطات الكهرباء، ودعم المزارعين وإطلاق المؤسسات، ومحاربة البطالة وفساد الحكم وسوء إدارة الاقتصاد، بدل المساعدات التي غالبا ما تذهب لجيوب العائلات الحاكمة.
• في ذات المقال الذي أوردته دير شبيغل يمكننا أن نقرأ ما يلي: "لقد استطاعت سياسة فتح الأسواق في كل من الصين، والهند، ودول ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي، وحتى في بلدان الخليج العربية، أن تضاعف تقريبا عدد العمال بشكل تاريخي غير مسبوق". هل يعني هذا يا دكتور أنه في وسع بقية العالم أن يحقق نموا وتطورا بعيدا عن الدول الكبرى؟(/7)
بكل تأكيد هذا صحيح، بل إن الارتباط بقرارات الدول الكبرى لم يعد يسمح بأي تقدم على سلم التنمية الاقتصادية لدى دول الجنوب، والتاريخ يؤكد هذا، فجميع الدول التي حققت نموا متواصلا في أمريكا اللاتينية ووسط آسيا هي دول تحمل رؤى تنموية معاكسة للنظام الرأسمالي وناقدة لسياسة البنك العالمي وغير متفقة تماما مع مسعى الدول الصناعية الكبرى. وفي هذا الصدد أنقل للقارئ الكريم ما ذهب إليه أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا جفري ساش من أن تحرر الصين من إملاءات البنك العالمي كان واحدا من أهم العوامل التي أوصلت هذا البلد إلى تحقيق نسب نمو تقارب 13 بالمئة سنويا.
• ما المتوقع أن تجره مقررات هذه القمة في تصوركم على مستقبل الاقتصاديات العربية التي لا تزال -برغم الفورة النفطية- عاجزة عن تحقيق نمو يضاهي هذه الإمكانات الهائلة؟
لا شيء يذكر، فمستقبل الاقتصاد العربي لم يدرج على طاولة اجتماعات الثمانية الكبار، وأهم الملفات لبست صبغة سياسية بحتة مثل تجنب حرب باردة بين موسكو وواشنطن كانت في الأفق، والبت في ملف الدرع الصاروخي في بولندا والتشيك، ومواصلة العمل للحد من الاحتباس الحراري إلى جانب المساعدات للقارة الأفريقية. لا يبدو أن العالم العربي يمثل قطبا اقتصاديا ذا بال خارج دائرة أسواق الطاقة وأسواق المال، الملاذ الآمن لرءوس أموال كبيرة تنشد أرباحا أكبر.
• في الأيام القليلة الماضية، قرر البنك المركزي الكويتي تحرير الدينار هناك و'فك ارتباطه' بالدولار. ما تقديركم لهذه الخطوة؟ هل تنصحون بقية الدول الخليجية بالشيء نفسه؟(/8)
عندما تعلم أن الدولار فقد 13 بالمئة من قيمته خلال سنة واحدة، وأنه من أبرز البوابات لنقل التضخم من الاقتصاد الأمريكي إلى خارجه، وأن موجة عالمية تجتاح الدول لنقل احتياطيها من العملة الصعبة من الدولار إلى اليورو أقوى عملة صعبة على الإطلاق، إلى جانب إصرار الصين على أن يبقى اليوان محتفظا بسعر صرفه الحالي تجاه الدولار. عندما نعلم هذا كله، فإنني أتساءل هنا: إلى متى تبقى عملات الدول مرتبطة بالدولار مع حجم الخسائر التي تنجر من ذلك في مبادلاتها الخارجية؟ فأمريكا -وهي تعيش ركودا اقتصاديا قاتما- ستستمر في خفض عملتها حتى تستدرك خسارتها المستمرة في منافسة الصادرات والخاسر الأكبر من ذلك هي الدول النفطية المرتبطة بسلة عملات يهيمن عليها الدولار. ولذا كنت قد دعوت منذ أكثر من سنة ومنذ حرب إسرائيل على لبنان الصيف الماضي إلى فك الارتباط بالدولار الأمريكي والارتباط بسلة عملات متعددة.
• وما نصيحتكم بالتالي لبعض الاقتصاديين في باقي البلاد العربية كمصر والجزائر والمغرب مثلا، الذين ينصحون بالعكس بمعنى: ربط العملات المحلية بالدولار؟
ربما تكون أغلى نصيحة العودة مرة أخرى إلى قراءة التاريخ على خلفية مصلحة شعوبنا العربية والإسلامية، واحتساب الخسائر جراء بيع النفط بالدولار الرخيص (تمثل صادرات النفط ما نسبته 95 بالمئة من إجمالي صادرات الجزائر على سبيل المثال) وشراء السلع باليورو المتقدم (50 بالمئة من الواردات). إن عملية حسابية يسيرة تكفي هنا لأجل حساب الخسائر!!
نشكر لكم أستاذنا الكريم، هذا الحوار المفيد
على الرحب و السعة.(/9)
العنوان: دولة دينية أم مدنيّة
رقم المقالة: 1991
صاحب المقالة: د. عدنان علي رضا النحوي
-----------------------------------------
نقلتْ بعضُ الفضائيات حواراً بين بعض الدعاة المسلمين، كان أساس الحوار حول الدولة الدينية والمدنيّة. وقال أحدهم: إننا نريد دولة مدنيّة لا دينية يتساوى فيها المواطنون مهما اختلفت دياناتُهم وأجناسهم.
إن الذي طرح هذه الفكرة داعيةٌ مسلم يتحدَّث باسم الإسلام. ولا شك أن هذا الداعية ينضم -أو سبق وانضم- إلى القافلة التي أخذت تُفتي في دين الله بما ليس من دين الله.
انحرافاتٌ كثيرة أخذت تظهر في واقع المسلمين اليوم، وأخذت تتزايد عدداً وجرأةً على دين الله. لقد عالجتُ عدداً من هذه الانحرافات ورددتُ على أصحابها في كتب ودراسات ومقالات. ولكن هذه الردود كلها صارت لا تكفي؛ لتزايد الانحرافات وما يتبعها من فتاوى خاطئة.
لقد زادت الجرأة كثيراً حتى إن بعضهم حرّفوا حديثاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرويه أنس -رضي الله عنه-: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حَرُمَتْ علينا دماؤهم وأموالهم، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم"[1].
فقد حذفوا الحديث كله إلا آخر جملة: فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، المعتمدة على شروط رئيسة فصّلها الحديث الشريف. وأخذت هذه الجملة المجزوءة تنتشر بين الدعاة المسلمين وغير الدعاة مع مخالفتها الصريحة للآية الكريمة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11].
هذا مثال واحد من طوفان هادر تدفعه قوى كثيرة في العالم الإسلامي. وكان الأمل أن يقف الدعاة كلهم في وجه هذا الطوفان، لا أن ينزلقوا إلى فتنة بعد فتنة.(/1)
والفتنة الجديدة هي حوارهم، حوار الدعاة بعض المسلمين، حول دولة دينيّة أم مدنيّة. ولو دار مثل هذا الحوار بين النصارى فربما كان له مسوّغ. أما بين دعاة مسلمين يحملون أمانة رسالة ربانيّة فهذا مصدر دهشة وذهول!
ويحسن أن نبدأ بالقضية من جذورها بصورة مختصرة:
فعندما جاءت النصرانيةُ إلى أوروبا، في ظل الدولة الرومانية، اصطدمت مع الوثنية السائدة المسيطرة. وظل الصراع قرابة ثلاثمائة من السنين، حتى استطاعوا أن يصلوا إلى الإمبراطور قسطنطين، وتدور بينهما مساومات انتهت بإيقاف التعذيب عنهم من ناحية، وتنازلهم عن قواعد أساسية في النصرانية، ليتبنّوا حلاً وسطاً مع الوثنية، تلا ذلك مؤتمر في نيقية سنة 325م، المسمَّى "بالمجمع المسكوني" الذي أقرّ عقيدة نيسين المنحرفة عن رسالة عيسى عليه السلام، رسالة الإسلام، وعقيدة نيسين أقرت الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام، ثم قضى هذا الحلف -بين النصرانية المنحرفة والدولة- على النصارى الذين تمسكوا بعقيدة التوحيد قضاءً تاماً.
وقامت الكنيسة الكاثوليكية ولها سلطان ونفوذ، وكأنها أصبحت تمثل السلطة الدينية، ثم اصطدمت مع العلماء ومع الملوك والسلطة الزمنية، حتى انهار سلطان الكنيسة وظلمها، وقامت سلطة علمانية دنيوية حصرت الدين في الكنيسة في عصر سُمّي عصر التنوير. وبذلك حملت القرون الوسطى في أوروبا مصطلح السلطة الدينية، ثم السلطة الدنيوية في عصر التنوير، وفي الحالتين كانت السلطة خارجة كلِّية عن رسالة عيسى عليه السلام، رسالة جميع الأنبياء والرسل الذين ختموا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-.(/2)
هذه الرسالة السماوية الربانية، رسالة جميع الأنبياء والمرسلين الذين كانوا جميعاً مسلمين مؤمنين بربٍّ واحد هو الله الذي لا إله إلا هو، وبدين واحد هو الإسلام، وجاءت رسالة محمد –صلى الله عليه وسلم- رسالة خاتمة للعالمين بمنهاج رباني؛ قرآناً وسنة؛ بلسان عربي مبين، منهاجاً متكاملاً يأمر الله به عبادَه أن يقيموه بينهم، ويحكم بينهم، ليقيموا أمة مسلمة واحدة يحكمُها منهاجٌ رباني واحد، تكون كلمةُ الله فيهم هي العليا. فالذين يؤمنون بالله ربّاً واحداً وبالرسل والأنبياء جميعهم وبمحمد –صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين، يؤمنون كذلك بأن الإسلام في رسالته الخاتمة منهج كامل متكامل متناسق، منهج حياة وحكم في الدنيا، ومنهج حياة وجزاء في الآخرة، يقدّم تصوّراً ربّانيّاً للدولة وللحكم، تصوّراً ربانيّاً واحداً نسميه دولة الإسلام وحكم الإسلام وشريعة الإسلام، فليس فيه تصوّر لدولة دينيّة وتصور آخر لدولة مدنية. للدولة في الإسلام تصوّر واحد، تصوّر رباني، مهمته التي أمر الله بها أن يقيم حكم الله في الأرض، ويبلّغ رسالة الله الخاتمة إلى الناس كافة كما أُنزِلت على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. هذه هي الأمانة التي حملها الإنسان، والعبادة، والخلافة والعمارة والتي سيحاسب عليها بين يدي الله.
لذلك أعجب من داعية يقول إنه يؤمن بالله ربّاً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً، ثمَّ يقول: لا نريد أن نقيم حكم الله في الأرض، نريد دولة مدنية يتساوى فيها كل الناس مهما اختلفت نزعاتهم ومواقفهم.(/3)
ولقد بيّنا الآن أن مصطلح دولة مدنية أو دولة دينية لا وجود له في التصور الإسلامي، وأن هذين المصطلحين وفدا إلينا من الغرب العلماني الذي أعلن رفضه لسلطة الكنيسة في العصور الوسطى، وكل تحرّكاتها فيما بعد. وأن الإسلام له تصوّر واحد للدولة والحكم، ومنهج كامل يصلح لكل مكان وزمان وواقع، ويعالج مشكلات الإنسان مهما تنوّعت. إنه حكم الإسلام، دولة الإسلام، تكون فيها كلمة الله هي العليا، وشريعته هي التي تحكم، إنها شريعة الله!
ولقد كان كثير من الدُّعاة في الحركات الإسلامية ينادون بذلك ويعلنونه، فما الذي حدث حتى تنازل بعضُ المسلمين، وتنازل بعضُ الدعاة عن أهم ركن في التصوّر الإيماني الإسلامي؟!
لابد من تثبيت أسس التصور الإسلامي في قلوب المؤمنين وقلوب الدعاة. وأهم تلك الأسس ما عرضناه من كتاب الله وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في كتابنا "حتى نغير ما بأنفسنا".
ذلك أن الله خلق عباده ليحقِّقوا في الحياة الدنيا رسالته إليهم، وأن يبلِّغ المؤمنون رسالة الله إلى الناس كافَّة كما أُنزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم- ويتعهدوهم عليها حتى تكون كلمة الله هي العليا وشريعته هي التي تحكم في الأرض. وكانت المهمة مسؤولية النبوّة الخاتمة وجنودها المؤمنين الذين انطلقوا في الأرض يبلّغون ويتعهّدون ويجاهدون من أجل ذلك في سبيل الله. ثم أصبحت هذه المهمة مسؤولية الأمة التي اختارها الله لتتابع هذه المهمة مع الزمن:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...} [آل عمران:110].
وبهذه المهمة تكون هذه الأمةُ صفّا واحداً كالبنيان المرصوص حتى تستطيع الوفاء بهذه المهمة العظيمة الممتدة مع الزمن:
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف :4].(/4)
ولما انفرط عقد هذه الأمة، وتمزّقت شيعاً وأحزاباً؛ {...كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم :32] ضاع تبليغُ الرسالة إلى الناس كافة كما أنزلت على محمد –صلى الله عليه وسلم-، وضاع تعهدهم عليها، وأصبح لكل حزب طريقة وتصور وأسلوب، يعلن ذلك شعاراتٍ تضجّ، لا نهجَ معها ولا خطَّة! فزادت الخلافات وبدأ الجهل يمتدّ، وغلبت العصبيات الحزبيّة، وأصبح الولاء الأول للحزب وقيادته والعهد الأول مع الحزب وقادته، والحب المضطرب بين أفراد الحزب، وغابت أخوّة الإيمان التي تربط المؤمنين أمّة واحدة، والتي لا تتحقّق إلا إذا كان الولاء الأول لله والعهد الأول مع الله والحبّ الأكبر لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وغلبت شهوات الدنيا في كثير من المواقع، والتنافس عليها، وأصبح المنتسبون إلى الإسلام يقتل بعضهم بعضاً في فلسطين والصومال والعراق وأفغانستان، وامتدت الفتن، وتساقطت الديار في هجمة مجنونة وحشية على العالم الإسلامي، هجمة تخضع لنهجهم وخطتهم مستفيدين من جميع نواحي ضعف المسلمين.
وضَعُفَ إيمان بعض المسلمين، وبدأ مسلسل التنازلات الفكرية، والتنازلات عن الأرض، مسلسلاتٌ طويلة ما زالت ممتدة حتى الآن، متحفّزة لتنطلق إلى مدى أبعد ونطاق أوسع.
وأخذت النكبات والفواجع والمجازر تمتد وتتسع في العالم الإسلامي كله، ويبدو أن العالم الإسلامي غير قادر الآن على إيقاف ذلك، أو دفع الغزو والطوفان القادم من الغرب. بل على العكس من ذلك أصبحت بعضُ نفوس المسلمين تُشْتَرى بدراهم معدودة أو غير معدودة، سرّاً أو جهاراً.
لقد أصبح هناك نفوس تلتجئ إلى أمريكا أو إنكلترا أو فرنسا أو غيرها تطلب عندها النجاة. ونسوا أن النجاة هي من عند الله وحده. ولقد رأينا مصير الذين فزعوا إلى الأوثان يطلبون نصرتهم والنجاة عندهم، فإذا هم أول ضحايا تلك الأوثان، سرعان ما يخذلونهم ويرمونهم أذلاء خاسرين.(/5)
"اللهم أسلمتُ نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيّك الذي أرسلت"[2].
إن الإيمان الصافي من الشرك، الصادق في وعيه واستسلامه لرب العالمين، إن هذا الإيمان هو الذي يدفع إلى اللجوء إلى الله، والاستعانة بالله، دون أن يشرك به شيئاً.
في حديث بيني وبين داعية مسلم، قلتُ له : ألاحظ أنكم أخذتم تتقرّبون من أمريكا وتلجؤون إليها وتطلبون العون منها. لم ينكر، وإنما قال: سنستعين بالشيطان حتى نحقق ما نريد. فقلت له: إذا استعنتم بالشيطان في أمر ما كالذي ذكرته، فإن عَلِمَ الشيطانُ أن في تحقيقه خيراً لكم فلن يعينكم وسيخذلكم ويستحوذ عليكم. وإن علم أن في تحقيق هذا الأمر شرّاً لكم ومصائب تتوالى أسرع في عونكم لتدميركم، والأمر أولاً وآخراً لله وحده، وإنما هو ابتلاء من الله وتمحيص، ويوم القيامة يكون الحساب والعقاب، يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا شياطين الإنس أو الجن، ولا أولياء الدنيا!
الأمثلة مثل هذا المثال كثيرة، تكشف عن انحراف التصور الإيماني واضطرابه، حتى صرنا نسمع من يدعو إلى العلمانيّة جهاراً، أو يدعو إلى الدولة المدنية، أو مساواة المواطنين في شرع دنيوي بشري، أو بمساواة المرأة بالرجل، ودفع المرأة إلى أجواء لا يأذن الإسلام للمرأة بدخولها، فكأن بعض الناس رأوا في أنفسهم أنهم أعلم من الله بخلقه وبما يصلح لهم.
لن يجد أحد العدالة إلا في الإسلام وفي دولة الإسلام حين يطبّق شرع الله بإيمان وأمانة. فشرع الله أعطى لكل طائفة ولكل إنسان حقّه على ميزان ربّاني. وعدالة الإسلام شريعة تطبق وتمارس في الواقع، وعدالة غيره شعار لا يطبّق وإنما هو شعار للتخدير والمكر والإفساد.(/6)
لن يجد أحد الإنسانيّةَ التي يتغنى بها بعضُ الدعاة إلا في الإسلام، وخارج الإسلام وحوش كشرت عن أنيابها، ومدّت أظفارها، وانقضّت على فرائسها نهشاً وقتلاً وعدواناً لا يعرف الرحمة. وأمامك الأحداث في الأرض، فانظر إلى جرائم المبادئ كلها: الشيوعية، والديمقراطية، والاشتراكية، والعلمانية، وعدِّد ما شئت من مبادئ الفتنة والضلال.
والآخَر! الآخَر الذي يطالِب بعضُ الدعاة بإعطائه حقوقَه، والاعتراف به، والقسط معه! سل النصارى كلَّهم واليهودَ كلهم هل وجدوا في حياتهم كلها أرحم من الإسلام بهم؟!
لقد أوفى الإسلام الأمانة مع الجميع عدلاً وقسطاً ورحمة وإنسانيّة! ولم يوفِ أحدٌ مع الإسلام والمسلمين إلا من رحم الله. فالآخر الذي يريد أن يُنْصَفَ ويُعَتَرف به، هو المسلم!
وبهذه المناسبة -مناسبة مطالبة بعض الدعاة بدولة مدنيّة لا دينيّة، يتساوى فيها المواطنون من ديانات مختلفة وجنسيات مختلفة- نودّ أن نذكّر بقاعدة رئيسة في الإسلام أكدها الكتاب والسنة، تلك القاعدة هي أنه لا يوجد في التصوّر الإسلامي ديانات سماوية توحيدية كما يُشاع في الصحف والفضائيات والمؤتمرات.
فالله واحد لا إله إلا هو، والدين واحد هو الإسلام، دين جميع الأنبياء والمرسلين ودين من آمن بهم وصدّقهم واتبعهم، فكلهم مسلمون، وكلهم مع التاريخ يكوّنون أمة واحدة، أمة مسلمة واحدة:
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53،52].
وكذلك:(/7)
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19].
وكذلك:
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83].
وكذلك:
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وآيات كثيرة تؤكد هذه الحقيقة الرئيسة التي يجب أن تكون مغروسة في قلب كلِّ مؤمن يقول كما قال إبراهيم عليه السلام:
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131].
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67].
آيات كثيرة تثبت هذه الصورة وهذا الأساس، فأعجب وأدهش من داعية مسلم ينسى هذا كله، ثم يدعو في مؤتمرات إسلامية إلى العلمانية، وآخر يدعو إلى الديمقراطية، وثالث يدعو في المؤتمرات الإسلامية إلى العولمة، حتى إن كلمة الإسلام ودعوة الإسلام كادت تختفي من بعض هذه المؤتمرات.
في أحد هذه المؤتمرات يقول داعية مسلم: "لا نملك إلا أن نندمج في النسيج الثقافي والديني الفرنسي"، وآخر يقول: "إن العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها"! عجباً كل العجب، فالإسلام يريد من المؤمن أن يؤثر الآخرة على الدنيا وأن يكون هدفه الأكبر والأسمى الدار الآخرة والجنة ورضوان الله، والعلمانية تريد الدنيا فقط لا دينية! وآخرون يقيمون عرسا للديمقراطية.
دعوات منحرفة آخذة بالانتشار، ويتخفّى معظمها تحت شعار الإسلام، وإلى أين نسير؟!(/8)
طوفان الغزو على العالم الإسلامي كبير وشديد، والذين يتساقطون فيه كثيرون، والخطر حقيقيّ لا وهم فيه، خطر زاحف في الدنيا، ولا يعقبه إلا خطر أشدّ في الآخرة!
فهل من محاسبة للنفس، ووقفة إيمانية، ومراجعة للمسيرة، وتحديد للأخطاء ومعالجتها؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح ابن حبان: رقم 5895، وأخرجه أحمد والنسائي، وأبو داود، والترمذي، وأبو نعيم في الحلية، والخطيب في تاريخه، والبيهقي، وهو صحيح على شرط الشيخين.
[2] أخرجه البخاري ومسلم.(/9)
العنوان: دِيَة العقْل
رقم المقالة: 1443
صاحب المقالة: د. بندر بن فهد السويلم
-----------------------------------------
المقدّمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
فإنَّ الله تعالى قد مَنَّ على الإنسان بنعم عظيمة، وآلاء جسيمة لا تُعَدُّ ولا تحصى.
والعقل من أعظم هذه النِّعم وأغلاها، وهو أفضل ما وهب الله لعباده؛ لأنَّ الله تعالى خصَّ به الإنسان دون سائر الحيوان، وميَّزه به عن سائر المخلوقات؛ لينظر في ملكوت السَّماوات والأرض، ويتدبَّر خلْق الله، ويتأمَّل كتاب الله وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم – فيقوَى إيمانه، وتزيد طاعاته، ويميز الخبيث من الطِّيِّب، يجلب به المصالح ويدفع به المضارَّ، فلا يأتي إلا صالحًا ولا يترك إلا طالحًا.
فالعقل هو عُمْدة التكاليف، وبه يُعرف الله ويُفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلّا أنَّه لمَّا لم ينهض بكلِّ المراد من العبد بُعثِت الرُّسل، وأنُزلت الكتب. فمثال الشَّرع الشَّمس، ومثال العَقل العينُ، فإذا فُتِحت وكانت سليمةً رأت الشَّمس، وأدْركَت تفاصيل الأشياء[1].
قال الشَّاعر:
وأفْضَلُ قَسْمِ اللهِ لِلمَرْءِ عَقْلُهُ فَلَيْسَ مِنَ الخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقارِبُهْ
إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلمَرْءِ عَقْلَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ وَمَآرِبُهْ
يَعِيشُ الفَتَى فِي النَّاسِ بالعَقْلِ إِنَّه عَلَى العَقْلِ يُجْري عِلمَه وتَجَارِبُهْ
يَزِيدُ الفَتَى فِي النَّاسِ جَوْدَةُ عَقْلِه وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مَكَاسِبُهْ[2]
ولمَّا كان العقل بمنزلةٍ شريفةٍ عالية؛ فإنَّه ممَّا قد قَصَد إليه الدِّين بالحفظ؛ فحِفْظه والقيامُ بما يَكْفل صحَّته وسلامَته ضرورةٌ من ضَرُورات الدِّين الحنيف. ويكون حفْظُه بأمرين:(/1)
الأوّل: مراعاته من جانب الوُجود بفعل ما به قيام العقل وثبَاته.
والآخر: مراعاته من جانب العَدَم بمنْع الاختلال الواقع فيه والمتوقَّع، مما يؤدِّي إلى مَفْسدته وفَوَاته[3].
فحرَّم الشَّرع كلَّ ما يُفْضي إلى تعْطيله، أو هَلاكه مِنَ المُسْكِرات والمُخَدِّرات ونحوهما، وحرَّم الاعتداء عليه بأيَّة وسِيلةً كانت، وأَوْجب الشَّرع العُقوبة على تناول ما يَضُرُّ بالعقلِ أو يُغَيِّبه ويزيله. كما حرَّم الجناية عليه بالضَّرب أو التَّرويع وغير ذلك.
وقد رأيتُ أن أبيِّن حكمَ الشَّرع، واجتهاد الفقهاء في دِيَة العقل والمسائل المُتعلِّقة بها؛ لتوضيح الأمر وتحقيق الحكم، ضاربًا عن الأحكام المُتعلِّقة بالاعتداء على العقل بشرب الخمر، أو الجناية عليه بتناول المُخدِّر.
وجعلتُ ذلك بعُنوان (دِيَة العقل) ورسَمْته في مباحث:
المبحث الأوَّل: معنى الدِّيَة ومعنى العقل، وبيان مشروعيَّة الدِّيَة.
المبحث الثاني: مَحَلّ العقل ومسكنه.
المبحث الثّالث: دِيَة ذَهَاب العقل.
المبحث الرّابع: دِيَة ذَهَاب بعض العقل.
المبحث الخامس: إنكار الجاني زَوال عقل المجْنيِّ عليه.
أرجو الله تعالى أن يكون خالصًا لوجْهه الكريم، وأن ينفع به، ويجعل أثره في موازين العمل يوم لا ينفع مالٌ ولا بَنون.
وصلَّى الله وسلَّم على أشرف نبيِّ، وأكرم هاد؛ نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجْمعين.
المبحث الأوَّل: معنى الدِّيَة ومعنى العقل، وبيان مشروعيِّة الدِّيَة:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطْلب الأوَّل: معنى الدِّيَة:
1- التَّعريف اللُّغويِّ:
الدِّيَة: مصدر الفعل وَدَى، والأصل وِدْيَة، يقال: وَدَيْتُه وِدْيَة. فحذفت الواو وهي فاء الكلمة، والهاء عِوضٌ عنها.
وهي حقُّ القتيل، أي: المال الذي هو بدل النَّفس، يقال: وَدَى فلان فلانًا إذا أدَّى دِيَته إلى وليّه.
ويقال: وَدَيْتُ القتيلَ أَدِيهِ، إذا أعطَيْتُ دِيَتَه[4].
2- التَّعريف الاصطلاحيِّ:(/2)
في المذهب الحنفيِّ: (اسم لضمان يجب بمقابَلة الآدميِّ أو طرَف منه)[5].
وفي المذهب المالكيِّ: (مالٌ يجب بقتل آدميٍّ حرٍّ عِوضًا عن دمه)[6].
وفي المذهب الشَّافعيِّ: (المال الواجب بجناية على الحرِّ في نفس أو فيما دونها)[7].
وفي المذهب الحنبليِّ: (المال المؤدَّى إلى مجنيٍّ عليه أو وليِّه بسبب جنايةٍ)[8].
وبعد تأمُّل هذه التَّعريفات وما بينها من أَوْجُه اتّفاق واختلاف، وقصور وتكامل، فإنّه يحسن وضع تعريف نصْطلح عليه وعلى ضوْئه يكون الحديث عن دية العقل وهو:
(مالٌ مُسْتَحَقٌّ بمقابَلَة إتلاف نفس مسلم معْصوم حرٍّ أو ما دونها).
فقولنا: "مال" هو ما يُباح نفعه في كلِّ الأحوال، أو يُباح اقتناؤه بلا حاجة فخرج بذلك ما لا نفع فيه؛ كالحشرات وما فيه نفع محرَّم؛ كالخمْر وما لا يُباح إلا عند الاضْطرار؛ كالمَيْتة، وما لا يُباح اقتناؤه إلا لحاجة؛ كالكلْب[9].
وقولنا: "مُسْتَحق" يدلّ على أنّه حقٌّ للمجنيِّ عليه أو لوليِّه.
وقولنا: "بمقابلة إتلاف" يعني بسبب جناية مؤدِّية إلى الإتلاف.
وقولنا: "نفس مسلم معصوم حرٍّ أو ما دونها" يشمل دية النفس كاملةً، وما دونها من الأعضاء والمنافع، ويَخرُج به المال المستحق بمقابلة إتلاف مال الغَير أو استهلاكه.
ويَخرج بالمسلم غيره؛ كالذِّمِّيِّ، والمُعَاهَد. ويَخرج بالمعصوم نفْسُ غير المعصوم؛ كزانٍ مُحْصَنٍ وحَرْبيٍّ، وما ليس بمعصوم ممّا هو دون النّفس؛ كمن وجب عليه قِصاصٌ في طرَف.
وتُسمّى الدِّيَة عقلاً، وإنّما سمِّيت بذلك لأمرين:
1- أنَّ العقل هو المنْع، والدِّيَة تَعْقل الدِّماء من أن تُسْفك، أي تَمْنع إراقةَ الدِّماء أو تمسك الدّماء عن الإراقة[10].
وقيل: الدِّيَة تَعْقِل لسانَ وليِّ المقتول، أي تَمْنعه.
قال الموفَّق بن قَدَامَة -رحمه الله-: "العَاقِلَة: من يَحْمِل العقل، والعقل: الدِّيَة، تسمَّى عقلا، لأنَّها تعقِل لسان وليِّ المقتول.(/3)
وقيل: إنِّما سمِّيت العاقلة؛ لأنهَّم يَمنعون عن القاتل، والعقل: المنع، ولهذا سُمِّي بعض العلوم عقلاً، لأنّه يمنع من الإقدام على المضارِّ"[11].
2- أنّ الدِّيَة إذا أُخِذت من الإبل تُجمَع فتُعقَل ثمّ تُساق إلى وليِّ الجناية[12].
قال الحافظ ابن حَجَر-رحمه الله-: وسُمِّيت الدِّيَة عقلاً تسْميةً بالمصدر؛ لأنَّ الإبل كانت تُعْقل بفِناء وليِّ القتيل، ثُمَّ كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدِّيَة ولو لم تكن إبلاً"[13].
المطلب الثّاني: معنى العقل:
1- التّعريف اللّغويّ:
العقل مصدر عَقَل يَعْقِل عَقْلاً ومَعْقُولاً.
والعقل: العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشرِّ الشّرَّين، أو مطلق الأمور، أو قوَّةٌ بها يكون التَّمييز بين القبح والحسن. وابتداء وجوده عند اجْتِنان الولد ثمَّ لا يزال ينمو إلى أن يكمُل عند البُلوغ.
والعقل: الحِجْر، والنُّهى ضدّ الحُمْق.
والعقل: التَّثبُّت في الأمور.
والعقل: القلب.
والقلب: العقل.
وسُمِّي العقل عقلاً؛ لأنّه يَعقل صاحبه عن التَّورُّط في المهالك؛ أي: يِحْبِسه ويَمْنعه، فالعقل: المنع؛ ومنه: عقل النَّاقة بالعِقِال، وهو الحبل الذي يمنعها من الشُّرودِ إذا نَفَرت.
والعقل: الدِّيَة، يقال: عَقَل القتيل عقلا: وَدَاه.
ويقال: رجل عاقِل، وهو الجامِع لأمره ورأيه، مأخوذ من عَقَلْتُ البعير، إذا جَمَعْتُ قَوَائِمَه.
وقيل العاقِل: الذي يَحْبس نفسه ويَرُدُّها عن هواها. أخذًا من قولهم: قد اعتُقِل لسانُه، إذا حُبِس ومُنِع الكلام. وهذا راجعٌ إلى المنع كما سبق.
والمعقول: ما تعْقِله بقلبك، والمعقول: العقل، يقال: ما له معقول؛ أي: عقل[14].
فالمَعْنى الجامِع لمادَّة العقل: المنع؛ لأنّه يَمنع من الوُقُوع في الضَّرر والهوى وهذا يسْتدعي التّأمُّل والحِلْم والتَّثبُّت.
2- التَّعريف الاصطلاحيُّ:(/4)
اختُلف في تحديد مفهوم العقل اختلافًا كبيرًا وتعدَّدت الآراء في ذلك، ولا يكاد أحدٌ ممَّن تناول تعريف العقل إلّا ويشير إلى هذه الأقوال أو بعضها.
فمن العلماء من قال: "هو قوة يُفْرق بها بين حقائق المعلومات".
ومنهم من قال: "هو مادَّة وطبيعة".
ومنهم من قال: "هو جَوْهر بسيط".
ومنهم من قال: "هو عَرَض يُخالف سائر العلوم والأعْرَاض".
ومنهم من قال: "هو جملة العلوم الضَّروريَّات".
ومنهم من قال: "هو ما حَسُنَ معه التَّكليف".
ومنهم من قال: "العقل غريزة وحكْمة وفطْنة".
ومنهم من قال: "ليس بجسم ولا عَرَض وإنّما هو نور في القلب".
ومنهم من قال: "ليس بجَوْهر ولا عَرَض، وإنّما هو فضل من الله يؤتيه من يشاء".
ومنهم من قال: "هو بعض العلوم الضَّروريَّات" خلافًا لمن قال: هو جوهرٌ، وخلافًا لمن قال: عَرَض يخالف سائر العلوم والأعْراض، وخلافًا لمن قال: "هو جُمْلة العلوم الضَّروريَّات"[15].
وأجْمع شيء في بيان معنى العقل وأجمله: أنّ العقل لا يُحَدُّ بِحَدٍّ واحد، وإنّما هو اسمٌ مشترك يطلق على عدَّة معانٍ، وهي:
الأوّل: أنّه بعض العلوم الضَّروريَّة؛ كجواز الجائزات واستحالة المُستحيلات، وكالعلْم بأنّ الواحد ينقُص عن الاثنين، وأنَّ الشَّخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد.
الثّاني: أنَّه الغريزة التي في الإنسان، يتهيَّأ بها لإدراك العلوم النَّظريَّة وتدبُّر الأمور الخفيَّة، وبها يعلم ويُميِّز المنافع والمضارَّ، وهذا المعنى هو مَحَلُّ الفكر وأصله، وهو في القلب كالنّور، وضوؤه مشرقٌ إلى الدِّماغ، ويكون ضعيفًا في مبتدأ العمر فلا يزال يَربَى حتّى تتم الأربعون، ثمَّ يَنْتهي نَماؤه، فمن النَّاس من يكثر ذلك النُّور في قلبه، ومنهم من يقلُّ، وبهذا كان بعض النَّاس بليدًا وبعضهم ذكيًّا بحسب ذلك.(/5)
الثّالث: أنّه شيءٌ يستفاد من التَّجارِب، فيُطْلق على العلوم المستفادة من التَّجرِبة حتّى إنَّ من لم تحنِّكه التَّجارِب بهذا الاعتبار لا يسمَّى عاقلاً، والعلوم المستفادة بالتَّجرِبة فرع الغريزة، وبعض العلوم الضَّروريَّة.
الرّابع: أنّه جمْع العمل إلى العلم، فيطلق على العلم والعمل به.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله-: "والمقصود هنا أنَّ اسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء إنَّما هو صفة، وهو الذي يسمَّى عَرَضًا قائمًا بالعاقل، وعلى هذا دلَّ القرآن في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[16]. وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}[17]. وقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}[18]. ونَحو ذلك ممَّا يدلُّ على أنَّ العقل مصدر عَقَلَ يَعْقِل عَقَلاً، وإذا كان كذلك، فالعقل لا يسمّى به مجرَّد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم، بل إنّما يسمّى به العلم الذي يعمل به والعمل بالعلم، ولهذا قال أهل النَّار:
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[19]. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}.
والعقل المشروط في التَّكليف لابدَّ أن يكوِّن علومًا يميِّز بها الإنسانُ بين ما ينفعه وما يضرُّه؛ فالمجنون الذي لا يميِّز بين الدَّراهم والفُلوس، ولا بين أيّام الأسبوع، ولا يفقه ما يقال من الكلام - ليس بعاقل. أمَّا من فَهِم الكلام وميَّز بين ما ينفعه وما يضرّه فهو عاقل".
فالعقل بهذا الاعتبار ما ينظر به صاحبه في العواقب، ويقْمَع به الشَّهوات، وهذا هو النِّهاية في العقل والثَّمرة الأخيرة، وهو المراد بقول القائل:
"إِذَا تَقَرَّبَ النَّاسُ بِأَبْوَابِ البِّرِّ، فَتَقَرَّبْ أَنْتَ بِعَقْلِكَ[20].(/6)
المطلب الثالث: الأصل في شرعيَّة الدِّيَة:
الأصل في شرعيّة الدِّيَة في الإسلام الكتاب والسُّنَّة والإجماع والمعقول.
1- الكتاب:
قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً}[21].
فقد دلَّت الآية على أنَّ القتل الخطأ فيه الدَّية، وهذا يدلُّ على مشروعيَّتها.
قال الماورديُّ: "فنصَّ على دِيَة أُجْمل بيانها حتَّى أخذ من السُّنَّة"[22].
(ب) وقال عزّ من قائل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[23].
عن ابن عبّاس – رضي الله عنهما – قال: كانت في بني إسرائيل قِصَاص، ولم تكن فيهم الدِّيَة، فقال الله لهذه الأمّة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}[24] إلى هذه الآية: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ...}[25] قال ابن عبّاس: فالعَفْو أن يقبلَ الدِّيَة في العمْد، قال {فاتِّباعٌ بالمَعْرُوفِ} أن يطلُب بمعروف، ويؤدِّي بإحسان[26].
وللنَّسائيِّ: "ذلك تخفيفٌ من ربِّكم ورحمة ممَّا كُتِب على من كان قبلكم"[27].
2- السُّنَّة النَّبويَّة:(/7)
(أ) عن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: إنَّه عامَ فتْحِ مَكَّةَ قََتَلَتْ خُزَاعةُ رجُلاً مِنْ بَني لَيْثٍ بقَتيلٍ لهم في الجَاهِليَّة فقامَ رسُولُ الله – صلَّى الله علَيْه وسلَّم – فقالَ: ((إنَّ اللهَ حَبَسَ عنْ مكَّةَ الفِيلَ وسَلَّطَ عَلَيْهِم رَسُولَه والمُؤمِنِينَ، أَلَا وإنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي، ألَا وإنَّها أُحِلَّتْ لِي سَاعةً مِنْ نَهَار، ألا وإنَّها - سَاعَتِي هذه - حرامٌ: لا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلَّا مُنْشِدٌ، وَمَنْ قُتِلَ له قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ أَنْ يُقَادَ )) مُتَّفَق عليه، واللَّفظ للبُّخَارِيِّ[28].
(ب) وَعنْ أبي شُرَيْحٍ الكَعْبِيِّ[29] أنَّ النَّبِيَّ – صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم – قالَ: ((ثمَّ إنَّكُم يا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُم هذا الرَّجُلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وإنِّي عَاقِلُه فََمَنْ قُتِلَ له قَتِيلٌ بَعْدَ اليَوْمِ فأَهْلُه بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ إمَّا أنْ يَقْتُلُوا أوْ يَأْخُذُوا العَقْلَ))[30].
(جـ) وعَنْ عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ[31] عَنْ أبِيه عَنْ جَدِّه أنَّ رسُولَ الله – صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم – قالَ: ((مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دَفَعَ إلَى أَوْلِيَاءِ المَقْتُولِ فَإِنْ شَاؤوا قَتَلُوا وإِنْ شَاؤوا أَخَذُوا الدِّيَةَ وَهِيَ ثَلاثُونَ حِقَّةً، وَثَلاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً ومَا صَالَحُوا عَلَيْه فَهُوَ لَهُم))[32].(/8)
(د) عن عَمْرو بْنِ حَزْمٍ[33] أنَّ النَّبِيَّ – صلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم – كَتَبَ إلَى أَهْلِ اليَمَنِ بِكِتَابٍ فِيه الفَرَائضُ والسُّنَنُ والدِّيَاتُ، وكانَ في الكِتَابِ: ((أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلاً عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِئَةً مِنَ الْإِبِل))[34].
3- الإجْماع:
انعقَد الإجْماع على مشروعيَّة الدِّيَة في الجُمْلة، وقد حكى الإجماعَ غيرُ واحد.
قال ابن المنذر: "وأجمع أهل العلْم على أنَّ على أهل الإبل مِئةً من الإبِل"[35].
قال ابْن حَزْم: "واتَّفقوا على أنَّ الدِّيَة على أهل البادية مئةٌ من الإبل في نفس الحرِّ المسلم المقتول خطأ، لا أكثر ولا أقلَّ"[36].
وقال الموفَّق بنُ قُدامَة: "وأجْمع أهل العلم على وجُوب الدِّيَة في الجملة"[37].
4- المَعقُول:
فإنَّ التَّعدِّي على الغَير قد يكون له أثرٌ بتفويت النَّفس أو ما دونها، وقد تتعذَّر مُقابَلة الجِناية بعقاب مُماثل لها، أو يَرْغب من له الحقُّ في مال يَجْبُر ما أصابه، فشُرِعت الدِّيَة لجبْر الإصابة وتخفيف الضَّرر، ولو قلنا بعدم مشروعيَّة الدِّيَة لكَثُر القِصَاص من ناحية، وسَقَط حقُّ المجْنيِّ عليه عند تعذُّر القِصَاص، وفي هذا إضرارٌ بالغٌ بالمجْنيِّ عليه أو وليِّه، والشرع قد جاء برفع الضَّرر ومنْعه.
وفي تشريع الدِّيَة جانبٌ آخرٌ مَعقُولٌ، وهو زجْر المُعتدين، وقمْع عُدوانهم، وصيانة الإنسانِ وأعضائه ومنافعه، وحفْظها من التَّلف، وتعْظيم ذلك، وبيان ما فيه من خَطر ومسؤوليَّة كبيرة لا يسْلَم منها الجاني.
المبحث الثّاني: مَحَلُّ العقل ومسْكنه
العقل قائمٌ بالنَّفس البشريَّة التي تعقل، متعلِّق بها، ومتعلِّقٌ بالبدن[38]. واختلف أهل العلم في مَحَلِّ العقل من البَدَن على أقوال:(/9)
القول الأوَّل: مَحَلُّه القلب، وهو المشهور من مذهب مالك[39]، وبه قال أصحاب الشَّافعيَّة[40]، وأكثر أصحاب الحنابِلة[41]، وهي أشهر الرِّوايتين عن أحمدَ، وهو قول جماعة من الفلاسفة[42]، وبه قال القاضي أبو زيد وشَمْس الأئمَّة السَّرَخْسِيِّ[43].
وحُكي عن الأطبَّاء حتَّى قيل: العقل القلب، والقلب العقل[44].
القول الثَّاني: مَحَلُّه الدِّماغ أو الرَّأس، وبه قال قومٌ من أصحاب أبي حنيفة[45] وهو مرويٌّ عن أبي حنيفة، وقال القرطبيُّ: وما أراها عنه صحيحةً[46].
وبه قال ابنُ الماجِشُونِ[47]، وهو روايةٌ عن أحمد[48]، وهو قول أكثر الفلاسفة[49] وقال به جماعةٌ من الأطبَّاء[50]، وبه قال أبو المعين النَّسَفِيُّ[51].
القول الثَّالث: لا مَحَلَّ له[52] قال الشَّيخ محمَّد الأمين الشِّنقيطيُّ -رحمه الله- في بيان فساد هذا القول: "من زَعَم أنَّ العقل لا مركز له أصلاً في الإنسان لأنَّه زمانيٌّ فقط لا مكانيٌّ، فهو في غاية السُّقوط والبُطلان كما ترى"[53].
القول الرَّابع: إنَّه إن قيل هو جوهرٌ وإلا في القلب[54]: أي إن قلنا جوهرٌ فهو في الرأس، وإن قلنا ليس بجوهر فمَحَلُّه في القلب. وهذا القول غير منسوب لأحَد.
ولم أقف على أدلَّة للقول الثَّالث ولا القول الرَّابع، والمشهور من الأقوال الأوَّل والثَّاني، فيكون الاستدلال لهما بخصوصهما.
الأدلَّة والمناقشات:
أوَّلاً: حُجَّة من يرى أنَّ العقل مَحَلُّه الدِّماغ:
الدَّليل الأوَّل:
أنَّ العقلاء يُضِيفُون العقل إلى الرأس، ويظهر هذا جليًّا في أقوالهم، حيث يُعَبِّرون عن العاقل بأنَّه ثقيل الرأس، أو في دماغه عقلٌ، ويعبّرون عن خلافه بأنَّه فارغ الدِّماغ، وليس في رأسه عقلٌ؛ فهذا يدلُّ على أن مَحَلَّه الرأس[55].(/10)
ونُوقش: أنَّ العقل يَفِيض إلى الرَّأس، كما يَفِيض إلى سائر الحواسِّ، فصحَّ أن يُقال: هذا ثقيل الرَّأس، وهذا في دماغه عقلٌ. وصحَّ أن يقال: هذا فارغ الرأس، وهذا ليس في دماغه عقلٌ لحُصُول الجفاف لمَّا لم يَفِضِ العقل إلى الرَّأس[56].
ويُجاب عن هذا بأنَّ التَّسليم بإفاضة العقل إلى الرأس دليلٌ على تعلُّق العقل بالدِّماغ، ويعني أنَّ العقل ليس في الدِّماغ، فعلم أنَّه في القلب وأنَّه ينتهي إلى الرأس بالإفَاضَة.
الدَّليل الثَّاني:
أنَّ الإنسان لا يزول عقله لو ضُرِب على غَير رأسه، أمَّا إذا اختَلَّ رأسه أو ضُرب عليه فَسد عقله، وبَطِلت العلوم والأنظار والفكر وأحوال النَّفس، وإن كان قلبه سليمًا، وأنَّ القلب قد يَمرض ويَبقى العقل سليمًا، ولو كان مَحَلّه القلب لتأثَّر العقل بمرض القلب[57].
ونوقش: الاحتجاج بأنَّ العقل يزول بالضَّرب على الرَّأس دون غيره بعدم التَّسليم، فإنَّ الوسائل التي يزول بها عقل الإنسان كثيرةٌ، فكما أنَّه يزول بضرب الرَّأس يزول كذلك بالتَّرويع، ويزول بقطع عضو من أعضاء الجسم، ولم يقل أحدٌ: إنَّ العقل في ذلك العضو المقطوع[58].
ونوقش: أيضًا بأنَّ ضرب الرَّأس لا يمنع زوال العقل، وهو في القلب بفساد الدِّماغ؛ لما بينهما من الارتباط[59].
كما نُوقش: بأنَّ استقامة الدِّماغ شرْطٌ في حصول أحوال العقل والقلب على وجه الاستقامة، والشَّيء قد يفسد لفساد محلِّه، وقد يفسد لفساد شرطه، ومع الاحتمال فلا جزم، ويُصار إلى النُّصوص[60].
كما أنَّ وجود الصِّلة بين القلب والدِّماغ، وما للدِّماغ من أثر على التَّصوُّر والوعي لا يعني لُزوم أن يكون مَحَلُّ العقل والتَّصرُّف في البدن والتَّحكُّم فيه هو المخَّ.
أمَّا ما يتعلَّق بمرض القلب مع بقاء العقل سليمًا؛ فلأنَّ العقل قوَّةٌ معنويَّةٌ، وليس قوَّةً حسِّيَّةً؛ ولذا لا يؤثِّر فيه المرضُ الحسِّيُّ الذي حلَّ بمحلِّه وهو القلب[61].
الدَّليل الثَّالث:(/11)
دلَّ العلْم الحديث على أنَّ المخَّ هو الذي يتحكَّم في تصرُّف الإنسان، وهذا يعني أنَّ العقل يَسْكن في الدِّماغ الذي في الرأس.
ونوقش: من وجْهين:
الوجه الأوَّل: أنَّ العقل قوَّةٌ معنويَّة لا يمكن أن يُدْرك بواسطة الحسِّ، فمن الجائز أنَّ الله تعالى قد أَوْدع العقل في أيِّ جزء أو عضو من البدن، ونحن لا نشعر إلا عن طريق الوحي بذلك، والوحي قد دلَّ على أنَّ محلَّ العقل القلب، فتعيَّن اعتبار ذلك لدلالة الشَّرع.
والوجه الآخر: أنَّ العلم الحديث علمٌ مَخْلوقٌ مَبنيٌّ على نظر واستنتاج يَعْرض له الخطأ كما يَعْرض له الصَّواب، وعلم الوحي هو علم خالق يعلم ما خلق، ولا مقارنة بين علم الخالق وعلم المخلوق، وقد قال-الله تعالى-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[62].
فاللَّطافة هي العلم بدقائق الأمور، والخِبْرة هي العلم ببواطن الأمور، والدَّقيق الخَفِي، والباطن المستور كلُّه ممَّا يَخفَى على المخلوق، كما هو الشَّأن في الرُّوح حيث يقول-سبحانه-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}[63].
ثانيًا: حُجَّة من يرى أنَّ العقل مَحَلُّه القلب
الدّليل الأوّل:
قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا}[64].
فالفِقْه هو الفَهْم والعلم والمعرفة، وهذه الأشياء هي العقل، وذلك يكون بالقلب[65]. أي: إنَّه على الرَّغم من وجود مَحَلِّ العقل وهو القلب إلَّا أنَّهم لا يَفْقهون.
الدّليل الثّاني:
قوله تعالى-: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[66].
فأضافَ الله –سبحانه- العقل إلى القلب؛ لأنَّه محلُّه، كما أنَّ السَّمع محلُّه الأُذُن[67].(/12)
قال ابن القيِّم – رحمه الله – في الاستدلال بالآية: "ولم يُرِد بالقلب هنا مُضْغَة اللَّحم المُشترَكَة بين الحيوانات؛ بل المراد ما فيه من العقل واللُّبِّ"[68].
وقوله –سبحانه-: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} يدلُّ على أنَّ القلب الذي في الصَّدر هو الذي يبصر المعاني ويميِّز بينها ويعقلها، فهو محلُّ العقل[69]. وليس معنى عمى القلب عمى المضغة، وإنِّما الذي يعمى هو ما فيه من العقل.
الدَّليل الثَّالث:
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}[70].
فعبَّر الله- عزَّ وجلَّ- بالقلب عن العقل من باب ذِكْر المَحَلِّ وإرادة الحال[71].
الدَّليل الرَّابع:
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ((....أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)) متفَّق عليه[72].
فجعل مدار تصرُّف الجسد كلِّه على القلب. وكم من آية وحديث يدلُّ على مُجَازاة العبد على ما في قلبه[73].
قال الحافظ بن حَجَر: "ويُستدلُّ به على أنَّ العقل في القلب"[74].
القول الرَّاجح:
بعد النَّظر في الأقوال السَّابقة واستبعاد القولين الأخيرين، وتأمُّل الأدلَّة التي استدلَّ بها القائلون بأنَّ العقل في الدِّماغ، وما ورد عليها من نقاش، ووضوح قوَّة الاستدلال للقول بأنَّ العقل في القلب ووجاهتها، يظهر أنَّ القول بأنَّ مَحَلَّ العقل القلب هو أرجح القولين، وذلك لوُضوح دَلالة الكتاب والسُّنَّة على ذلك وسلامتها من المُعَارِض،، والله أعلم.(/13)
وإذا تقرَّر أنَّ العقل يسْكن في القلب لدَلالة النَّصِّ الشَّرعيِّ. فإنَّ العَلاقة بين العقل والدِّماغ مَوْجودةٌ ثابتةٌ عند أهل العلم، كما أنَّ الرُّوح التي هي النَّفس متعلِّقةً بالقلب والدِّماغ، ولكن اختُلف في تفسير ذلك على قولين:
القول الأوَّل: أنَّ أصل العقل ومنشأه ومادَّته في القلب وانتهاءه يكون في الدِّماغ، فكأنَّ فروعه وثمرته في الدِّماغ[75].
الآخر: أنَّ أصل العلم والعمل الاختياريِّ الإرداةُ، وأصل الإرادة في القلب، ولا تكون الإرادة إلَّا بعد تصوُّر المراد، وهذا يكون في الدِّماغ، فمنه المبتدأُ، ثمَّ لابدَّ أن يكون القلب مُتصوِّرًا، وإذا تصوَّر وأراد صعد ذلك إلى الدِّماغ؛ فكان منه المبتدأُ وإليه الانتهاءُ[76].
قال فضيلة الشَّيخ محمَّد بن صالح بن عُثَيْمِينَ – حفظه الله -: "والذي ترجَّح عندي الآن أنَّ التَّصوُّر والإدراك للمعاني محلُّه الدِّماغ، ثم يبعث بذلك إلى القلب، والقلب يأمر ويدبِّر فيبعث بأوامره إلى الدِّماغ، والدِّماغُ يحرِّك الأعضاء"[77].
ثمرة الخلاف في محلِّ العقل:
للخلاف السابق ثَمرةٌ في تَدَاخُل الدِّيَات أو عدمه؛ إذا زال العقل بعدوان على طَرَف الإنسان أو بسبب جرحه الذي يُوجِب غرمًا، كأنْ يَجْرحه أو يقطع عُضوًا من أعضائه فيزولَ عقله.
وستظهر هذه الثَّمرة عند الحديث عن دِيَة ذَهاب العقل بجنايةٍ تنوَّع أثرُها.
وقد ذُكِر أيضًا أنَّ القِصاص لا يجري في العقل للاختلاف في محلِّه[78]، فكأنَّ المانع من القِصاص في العقل وجود الخلاف، وأنَّه لو لم يكن الخلاف مَوْجودًا، وكان المتقرِّر من القولين أحَدَهُما لساغ القِصاص، وهذا محلُّ نَظَر، وليس ثَمرةً للخلاف فيما يَظْهر، لأنَّ عدم القِصَاص فيه إنَّما هو لتعذُّره، سواءٌ قلنا إنَّ محلَّه القلب، أو قلنا إنَّ محلَّه الدِّماغ، فليس لهذا الخلاف أثرٌ في جريان القصاص فيه من عدمه،، والله أعلم.
المبحث الثّالث: دِيَة ذَهَاب العقل.(/14)
وفيه مطلبان:
المطلب الأوَّل: دِيَة ذَهَاب العقل عند عدم رجاء عَوْد العقل
وفيه فرعان:
الفرع الأوَّل: دِيَة ذَهَاب العقل بجنايةٍ لم يتنوَّع أثرها:
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في وجوب الدِّيَة:
إذا جنَى شخصٌ على آخر فزال عقل المجنيِّ عليه، وأُمِن من عَوْد العقل، ولم يتنوَّع أثر الجناية؛ بأن جنى عليه جنايةً يزول بها عقله ولا تُوجب غُرمًا؛ كالتَّخويف واللَّطمة واللَّكمة، وما لا يؤثِّر من الخشب ونحوه في الجسد غير الألم. فللعلماء في وجوب الدِّيَة قولان:
القول الأوَّل: تَجِب فيه الدِّيَةُ، وهي الدِّيَة الكاملة للنَّفس.
وبهذا قالت الحنفيَّة[79] والمالكيَّة[80] والشَّافعيَّة[81] والحنابلة[82].
وحُكِي الإجماعُ على هذا. قال ابن المنذر: "وأجْمعوا أنَّ في العقل ديةً"[83].
وقال الوزير ابن هُبَيْرَة: "وأجْمعوا على أنَّ في ذَهَاب العقل الدِّيَة"[84].
وقال الموفَّق بن قُدَامة: "مسألةٌ، قال: وفي ذَهَاب العقل الدِّيَة" لا نعلم في هذا خلافًا، وقد رُوي ذلك عن عمر وزيد – رضي الله عنهما – وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء"[85].
القول الثَّاني: لا ديةَ في ذَهَاب العقل بالجناية عليه لا عمْدًا، ولا خطأً، غير أنَّه إذا كانت الجِناية عمْدًا، فإنَّما هي ضربةٌ كضربة ولا مزيد، فإن لم يذهب عقل المقتصِّ منه فلا شيء عليه. وبهذا قال ابن حَزْمٍ - رحمه الله-[86].
الأدلَّة والمُناقَشات:
أولاً: حُجَّة ابن حَزْمٍ:
أنَّ الواجِب في الجناية إذا كانت عمْدًا القِصاص من الجاني، فيُعتَدى عليه بمثل ما اعتدى به على المجنيِّ عليه، فالمجنيُّ عليه له أن يُرَدَّ له بالقِصَاص من الجاني بمثل ما اعتدى به الجاني عليه[87].
أمَّا إذا كانت الجناية خطأً، فالخطأ مَعْفوٌّ عنه، لا جناح على الإنسان فيه، فلا يُوجَب على أحد غُرمٌ في جناية خطأ، إلَّا أن يُوجِب ذلك نصٌ صحيحٌ أو إجماعٌ متيقَّنٌ، وإلا فهو مَعْفوٌ عنه[88].(/15)
ويُناقَش قوله "بالقِصَاص" في العمْد بأنَّ مُماثَلَة العُقوبة للجناية في هذا غير واردة؛ لاختلاف النَّاس في القدرة على التَّحمُّل؛ فقد يتحمَّل الإنسان ضربةً ولا يضرُّه بسببها شَيءٌ، وقد يُزيل قدْر هذه الضَّربة عقل الآخر، وقد يقتل غيره فيكون في الاستيفاء حَيْفٌ.. فلمَّا تعذَّر استيفاء القَوَدِ تعيَّن البدل وهو الدِّيَة.
ولأمر آخر وهو اختلاف الناس في مَحَلِّ العقل[89]، والقول بالقَوَدِ إنما يعني المُماثلة في إيقاع أثر الجناية على الجاني كما كان لجنايته أثرٌ بزوال العقل عن المجنيِّ عليه، وليس هناك من طريق مَعلُومة مؤكَّدة بيقين يمكن أن تُفْضي بأثر مماثل لأثر جنايته.
ويُناقَش قوله "بالعَفْو" عن الخطأ بأنَّ المقصود من العفو في حال الخطأ هو رفع الإثْم، لا رفع الواجب من الدِّيَة، ولهذا جاء تفسير قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[90]؛ أي: ما تَعمَّدت قلوبُكم فعليكم الجُناحُ، وما أخطأتم فيه فليس عليكم به جناحٌ، وكان الله غفورًا للعمْد ورحيمًا برفْع إثمِ الخطأ[91]. ويؤيِّد ذلك ما رواه ابن عبَّاس – رضي الله عنهما- قال: أنزل الله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[92]. (قال: قد فعلت)؛ أخرجه مسلمٌ[93].
قال الحافظ ابن رجب: "والأظهر - والله أعلم - أنّ النَّاسي والمخطئ إنَّما عُفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما، لأنَّ الإثم مُرتَّبٌ على المقاصد والنِّيَّات، والنَّاسي والمُخطئ لا قصد لهما فلا إثم عليهما. أمَّا رفع الأحكام عنهما فليس مرادًا من هذه النُّصوص فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر)[94].
ثانيًا: حُجَّة القول بوجوب الدِّيَة
الدليل الأوَّل:(/16)
رَوَى البَيْهَقِيُّ حَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا: (وفي العَقْلِ الدِّيَةُ مائةً مِنَ الإبِلِ)[95]. فالحديثُ صريحُ الدَّلالةِ في إيجَاب الدِّيَة الكاملةِ عند إزالَة العَقْلِ.
ونُوقِشَ: بأنَّ الحديثَ في سَنَده عبدُالرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أنْعُم[96]، ولا يُحْتَجُّ بروايتِه. قال عنه الحافِظُ بْنُ حَجَرٍ وغَيْرُه: ضعيفٌ في حفْظِه[97].
الدَّليل الثَّاني:
أنَّ عُمَرَ – رَضِيَ الله عنه – قَضَى في رَجُلٍ رَمَى رجُلاً بِحَجَرٍ في رَأْسِه فذَهَبَ سمْعُه ولسَانُه وعَقْلُه وذَكَرُه فلمْ يَقْرَبِ النِّسَاءَ، فقَضَى فيه عُمَرُ بأربَعِ دِيَاتٍ[98].
فجناية هذا الرجل أتْلَفَت أربع منافع، والقضاء فيها كان بأربع دِيَات على الجاني، فدلَّ هذا على أنَّ لكلِّ منفعةٍ ديةً كاملةً، والعقل أحد هذه المنافع، فكانت الجناية على العقل المفضية إلى زواله موجبةً للدِّية الكاملة.
ونُوقش: بأنَّ الخبر في هذا عن عمر لا يصحُّ؛ لأنَّ أبا المهلَّب عبدالرَّحمن بن عمرو[99] لم يدرك عمر بن الخطَّاب فزاد الأمر وهنًا على وَهْن[100].
ويُجاب بعدم التَّسليم بهذه المناقشة؛ فقد ذكَر الحافظ بن حجر: أنَّ أبا المهلَّب قد روى عن عمر – رضي الله عنه – وأنَّه ثِقةٌ فيما يرويه[101].
الدليل الثَّالث:
عنْ زيدِ بْنِ ثابِتٍ – رَضِيَ الله عنه – قال: في الرَّجُلِ يُضْرَب حتَّى يَذْهَبَ عقلُه الدِّيَةُ كاملةً[102].
فأَوْضح زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنَّه مَتَى اعتدي على شخص، وزَال عقْله فعلى الجاني الدِّيَة كاملةً.
وناقشه ابنُ حَزْم بأنَّ المالكيَّة يُخالفون زيد بن ثابت في غير وجوب الدِّيَة كاملةً عند إتلاف العقل، وأنَّه لا مسوِّغ يجعل بعض كلام زيد حُجَّةً وبعضه ليس بحُجَّة[103].(/17)
ويُجاب بأنَّ ما أورده ابنُ حَزْم من نقاشٍ؛ فإنَّما هو في موضوع آخر، فلا تستقيم هذه المناقشة على الأثر ذاته، أمَّا إذا استقرَّ هذا الأثر من جهة سنده، وتوجَّه الاستدلال وسَلِم من النِقاش فإنَّه حُجَّةٌ يُعوَّل عليها.
الدليل الرَّابع:
أنَّ العقل هو أكبر المعاني قدْرًا، وأعظم الحواسِّ نفعًا، فبه يَعرِف الإنسان حقائق المعلومات، ويتعلَّق التكليف به، وهو شَرط في ثُبوت الوِلايات، وصحَّة التَّصرُّفات وأداء العبادات، وبه يتميَّز الإنسان عن البَهِيمة؛ فإنَّ أفعال المجانين تخرج مخرج أفعال البهائم، وتفويت العقل تفويتٌ لمنفعة الإدراك؛ لأنَّه ينتفع بنفسه في معاشه ودنياه وآخرته فكان زواله؛ كتفويت الحياة، وصار العقل أحقَّ بإيجاب الدِّيَة من بقيِّة الحواسِّ، وأَوْلى منها بكمال الدِّيَة[104].
القَول الرَّاجح:
بعد استِعراض أقوال العلماء وأدلَّتهم وما ورد من مُناقشات يظهر أنَّ القَول بوجوب الدِّية كاملةً عند إتلاف العقل أرْجَحُ لقوَّة أدلَّة هذا القول، حيث أُجيب على المناقشات الواردة على بعض ما وجَّه به القائلون بهذا القول، ولسلامة التَّوجيه الأخير ووضوحه. ولوُرود المناقشة على ما ذهب إليه ابن حَزْم.
المسألة الثانية: التَّعزير على اللَّطمة ونحوها التي ذهب بها العقل:
إذا تقرَّر وجوب الدِّيَة في العقل إذا زال من الضَّرب والتَّرويع واللَّكم ونحو ذلك، ففي تَعْزير الجاني على اللَّطم ونحوه مع دفع دية العقل قولان، هما وجهان عند الشَّافعيِّة[105]:
القول الأوَّل: لا تعزير في هذه الحالة؛ لأنَّ الجاني مَسؤولٌ عن غُرْم الدِّيَة وتسليمها، وهذا أغلظ وأشدُّ من التَّعزير.
القول الثاني: يعزَّر الجاني على الألم؛ لأنَّ تغريم الدِّيَة في غير مَحَلِّ الألم، ومَحَلِّ الألم ليس فيه غُرْمٌ، وإذا كان الأمر كذلك وجب ألا يخلو من تعزير يقابل هذا الألم لعدم الغُرْم الذي يقابله.(/18)
وبهذا يقول مالكٌ - رحمه الله – "في العمْد الذي يتعذَّر فيه القصَاص حيث تَجِب الدِّيَة والأدَب"[106].
وهذه المسألة لا نصَّ فيها فدارتْ على الاستظهار، والذي يبدو أنَّ القول بالتعزير أَوْلى، تخريجًا على ما يأتي ترجيحه في الفرع الآتي، وهو وجوب الأرْشِ مع دِيَة ذَهَاب العقل بالجناية التي تَنَوَّع أثرها.
الفرع الثّاني: دِيَة ذَهَاب العقل بجناية تَنَوَّع أثرها.
إذا جنى شخص على آخر؛ فزال عقل المجنيِّ عليه، وأُمِن من عَوْد العقل، وتنوَّع أثر الجناية، بأن جَنَى عليه جناية يزول بها عقله وتُوجِب غُرْمًا؛ كأنْ يَجْرحه، أو يقطع عُضوًا من أعضائه ويذهب عقل المجنيِّ عليه، فخلافٌ بين أهل العلم في تداخل الدِّيَات:
القول الأوَّل: أنَّ دِيَة العقل لا تسْقط بما عداها، ولا يسقط بها ما عداها، سواءٌ أكان ما وجب بالجناية أقلَّ من دِيَة العقل أو أكثر؛ كالأُذُنين والأنف، فتَجِب دِيَة العقل للعقل، ويجب غُرْم الجرح أو العضو.
وإلى هذا ذهب المالكيَّة في القول المشهور[107]، والشافعيُّ في قوله الجديد[108]، والحنابلة[109]، وبه قال الحسن بن زياد وزُفَر من فُقهاء الحنفيَّة[110].
القول الثاني: يَدْخُل الأقلُّ في الأكثر، فإن كان ما وجب بالجُرح أو القطع أقلَّ من دِيَة العقل فلا يجب على الجاني أكثر من دية العقل. وإن كان أكثر من دية العقل دخلت دية العقل في دِيَة الجرح أو القطع؛ كما لو قَطَع أذنيه، وجَدَع أنفه فزال عقله، فيؤخذ بدِيَة الأذنين والأنف وتدخل دِيَة العقل فيهما، ليكون الأقلُّ داخلاً في الأكثر.
وهذا قوْل أكثر الحنفيَّة[111]، والمالكيَّة في غير المشهور[112]، وقول الشَّافعيِّ في القديم[113].
الأدلَّة والمناقشات:
أولاً: حُجَّة القائلين بالتداخل:
الدليل الأوَّل:(/19)