المطلب الثاني: إحصاء وصفي مقارن يوضح عدد نقاط الاتفاق والاختلاف لكل فقرة من فقرات كل مقرر.
المطلب الثالث: نتيجة إحصائية لنسبة الاتفاق والاختلاف بين المقررات.
المبحث الثالث: مدى تغطية المقررات للأهداف المنشودة في ظل المستجدات، ومدى الضرورة إلى تغطيتها.
المبحث الرابع: ضرورة تغطية النقص وآلية ذلك.
ويتضمن ما يلي:
- المطلب الأول: تغطية النقص بالإفادة من المقررات الأتم.
- المطلب الثاني: تغطية النقص بإضافة مفردات جديدة.
- المطلب الثالث: تغطية النقص بتوحيد المقررات بين جميع الجامعات، وآلية ذلك.
- الخاتمة.
- توصيات.
- المراجع.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يجعل في هذا البحث القبول والنفع إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول:
أهداف مقررات الثقافة الإسلامية في جامعات في المملكة:
إن الأهداف من تدريس مقررات الثقافة الإسلامية تنطلق من التطور المستقبلي لشخصية الطالب والطالبة المؤهلين إيمانياً، وسلوكياً، وعلمياً، وفكرياً للسير باستقامة في أداء الواجب الديني والدنيوي دون انحراف وانعطاف، مع القدرة على مواجهة التحديات ضد الثقافة الإسلامية، والتمكن من تجاوز العقبات النفسية، والعلمية، والفكرية التي تستجد في حياة الطالب والساحة المعاصرة، في حين أن الثقافة الإسلامية علم بكر متجدد يدرس الواقع والمستجدات وسبل العلاج، لأن الإسلام دين حياة، وعلم، وعقل، وعلاج واقع، في كل زمان ومكان.
هذا وقد استخلصت الأهداف مما رسمته أيدي المتخصصين في كل جامعة حسب ما جاء في مقدمة كل توصيف لمقرراتها الثقافية المعنية. فجاءت كالتالي:
• توطيد ارتباط الطالب بالله عز وجل، والنبي عليه الصلاة والسلام، ودينه الإسلامي، وأمته.
• إبراز التجربة العملية التطبيقية للإسلام وأنظمته من خلال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.(/3)
• تعميق معاني العقيدة الإسلامية في نفوس الطلاب وإبراز خصائصها.
• رسم التصور الإسلامي للكون والحياة.
• نقد نظرية التطور والنشؤ في خلق الإنسان.
• إيضاح منهج الإسلام في التفكير العلمي وإنتاجه الإيجابي البنّاء.
• حل المشكلات العلمية المثارة من أعداء الإسلام ضد نُظُمه في: الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والعقوبات... وغير ذلك.
• التعريف بخصائص الإسلام وعالميته.
• التعريف بقضية التجديد والتحديث في الرؤية الإسلامية، ونقد التصورات المخالفة.
• إظهار تفوق الإسلام كنظام حياة شامل على جميع المذاهب والمناهج والأديان في ذلك.
• تكوين رصيد علمي عند الطالب، ليتمكن من التعامل مع جوانب الحياة المتعددة ومستجداتها.
• ترسيخ القيم الإسلامية.
• غرس المناعة في الطالب ضد التيارات والتحديات ضد الثقافة الإسلامية في الماضي والحاضر.
• تقوية الوازع الديني عند الطالب.
• إعداد الطالب للتأثير في بناء ذاته، وأسرته ومشاركته في النهضة لمجتمعه وأمته.
• اكتساب مهارة فن التعامل مع الآخرين.
• تشخيص حال الأمة الإسلامية في مجال الفكر والسلوك، والحضارة، ومواطن الخلل فيها، ومنهج علاجها.
المبحث الثاني:
المقارنة بين مقررات الثقافة الإسلامية في الجامعات وجوداً وعدماً، وإجمالاً وتفصيلاً.
ويتضمن ما يلي:
المطلب الأول: جدول إحصائي مقارن يوضح فقرات الاتفاق والافتراق.
المطلب الثاني: إحصاء وصفي مقارن يوضح عدد نقاط الاتفاق والاختلاف لكل فقرة من فقرات كل مقرر.
المطلب الثالث: نتيجة إحصائية لنسبة الاتفاق والاختلاف بين المقررات.
المطلب الأول:
جدول إحصائي مقارن يوضح فقرات الاتفاق والافتراق.
جدول المقررات التي قررت تدريسها أكثر الجامعات:(نموذج1)(/4)
اسم الجامعة ... التعريف بالثقافة: لغة واصطلاحاً، خصائصها، أهميتها، علاقتها بالثقافات الأخرى، ونحو ذلك. ... مفهوم العقيدة الإسلامية: خصائصها، ركائزها، أهميتها، أركان الإيمان، نواقض الإيمان، ونحو ذلك. ... التعريف بالعبادة: لغة واصطلاحاً، خصائصها، دوافعها الفطرية والتكليفية، أهميتها، حكمها، شروطها، ونحو ذلك.
جامعة الملك عبد العزيز ... ? ... ? ... ?
جامعة طيبة ... ? ... ? ... ?
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ... X ... الإيمان نواقضه وخصائصه فقط. ... X
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – كلية الشريعة بالرياض ... ? ... أركان الإيمان فقط. ... X
جامعة الملك خالد ... ? ... ? ... ?
جامعة أم القرى ... ? ... X ... ?
جامعة الملك سعود ... ? ... ? ... X
جامعة الملك فيصل ... ? ... ? ... X
جدول المقررات التي قررت تدريسها أكثر الجامعات (نموذج2)
اسم الجامعة ... مصادر التشريع الإسلامي: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس. ... نظم إسلامية: نظام الأخلاق، الاجتماع،العقوبات، السياسة، العلاقات الدولية، الاقتصاد. ... تحديات تواجه الثقافة الإسلامية: الغزو الفكري، الاستشراق، التبشير، التغريب، العولمة، الحداثة، ونحو ذلك. ... حقوق الإنسان في الإسلام: تعريفها، أهميتها، مصادرها، ضوابطها، موقف المملكة العربية السعودية منها.
جامعة الملك عبد العزيز ... ? ... ? ... ?العولمة فقط ... ?
جامعة طيبة ... ? ... ? ... ?العولمة فقط ... ?
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ... X ... نظام الأخلاق وأخلاق المهنة فقط. ... X ... ?
جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية – كلية الشريعة، الرياض ... X ... ? ... ? ... ?
جامعة الملك خالد ... X ... ? ... ? ... ?
جامعة أم القرى ... ? ... ? ... ? ... ?
جامعة الملك سعود ... ? إجمالاً ... ? ... ? ... ?
جامعة الملك فيصل ... ? إجمالاً ... ? ... ? ... ?(/5)
جدول المقررات التي لم تقرر تدريسها أكثر الجامعات: (نموذج1)
اسم الجامعة ... السيرة النبوية ... خصائص الإسلام ... عالمية الإسلام ... موقف الثقافة الإسلامية من الحوار بين الحضارات
جامعة الملك عبد العزيز ... ? ... X ... X ... X
جامعة طيبة ... ? ... X ... X ... X
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ... ? اختياري ... X ... X ... X
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية_ كلية الشريعة، الرياض ... خصائص النبي صلى الله عليه وسلمإجمالاً فقط ... ? ... ? ... ?
جامعة الملك خالد ... X ... X ... X ... X
جامعة أم القرى ... X ... X ... X ... X
جامعة الملك سعود ... X ... ? من خصائصه دين خلقي فقط. ... ? ... ?
جامعة الملك فيصل ... X ... X ... X ... X
جدول المقررات التي لم تقرر تدريسها أكثر الجامعات: (نموذج2)
اسم الجامعة ... ضوابط الاجتهاد والفتوى ... الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة ... قضايا معاصرة : الإرهاب، الغلو في الدين ... الاستدلال العقلي على الخالق ... التفسير المادي للوجود
جامعة الملك عبد العزيز ... ? ... X ... ? ... X ... X
جامعة طيبة ... ? ... X ... ? ... X ... X
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ... X ... ? اختياري ... X ... X ... X
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية_ كلية الشريعة، الرياض ... X ... X ... X ... ? ... ?
جامعة الملك خالد ... X ... X ... X ... X ... X
جامعة أم القرى ... X ... X ... X ... ? ... X
جامعة الملك سعود ... X ... X ... X ... X ... X
جامعة الملك فيصل ... X ... X ... X ... X ... X
جدول المقررات التي لم تقرر تدريسها أكثر الجامعات: (نموذج3)(/6)
اسم الجامعة ... فقه السنن الإلهية في الكون ... الإسلام والعلم: مفهومه، حكمه، أهميته، آداب طالب العلم. ... المجتمع المسلم في العهد الأول: بداية الانحراف، المجتمع المسلم، سماته، مشكلات، علاجها. ... الإنسان وموقعه من الكون ... النظريات التطويرية في الإنسان وإبطالها
جامعة الملك عبد العزيز ... X ... X ... X ... X ... X
جامعة طيبة ... X ... X ... X ... X ... X
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ... X ... X ... ? العالم المعاصر اختياري. ... X ... X
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية_كلية الشريعة،الرياض ... ? ... ? دون ذكر الأدب وحكم تعلم العلوم. ... X ... X ... ?
جامعة الملك خالد ... X ... X ... X ... X ... X
جامعة أم القرى ... X ... أدب طالب العلم فقط. ... ? ... ? ... X
جامعة الملك سعود ... X ... X ... X ... X ... X
جامعة الملك فيصل ... X ... X ... X ... X ... X
المطلب الثاني: إحصاء وصفي مقارن يوضح عدد نقاط الاتفاق والاختلاف لكل فقرة من فقرات كل مقرر.
إحصاء وصفي للمقررات التي قررت تدريسها أكثر الجامعات، مقروناً بذكر عدد الجامعات المقررة فقط:
سأذكر في هذا الإحصاء عنوان المقرر، ثم عدد الجامعات المقرّرة، علماً أن عدد جامعات المملكة (8).
م ... اسم المقرر ... عدد الجامعات المقرّرة له
1 ... التعريف بالثقافة: تعريفاً لغوياً واصطلاحياً، خصائصها، أهميتها، علاقتها بالثقافات الأخرى، ونحو ذلك. ... (7)
2 ... مفهوم العقيدة: خصائصها، ركائزها، أهميتها، أركان الإيمان، نواقض الإيمان، ونحو ذلك. ... (5) واقتصر الباقون على دراسة ما يتعلق بالإيمان.
3 ... التعريف بالعبادة: تعريفها، خصائصها، دوافعها الفطرية والتكليفية، أهميتها، حكمها، شروطها، ونحو ذلك. ... (4)
4 ... مصادر التشريع الإسلامي. ... (5)(/7)
5 ... نظم إسلامية: نظام الأخلاق، نظام الاجتماع، نظام العقوبات، نظام الاقتصاد، نظام السياسة، نظام العلاقات الدولية، ونحو ذلك. ... (7)
6 ... تحديات تواجه الثقافة الإسلامية: الغزو الفكري، الاستشراق، التنصير، التغريب، العولمة، ونحو ذلك. ... (5)
7 ... حقوق الإنسان في الإسلام. ... (8)
إحصاء وصفي للمقررات التي لم تقرر أكثر الجامعات تدريسها، مقروناً بذكر عدد الجامعات المقررة فقط:
م ... اسم المقرر ... عدد الجامعات المقرّرة
1 ... السيرة النبوية ... (3) قررت جامعة الملك عبد العزيز وجامعة طيبة مقتطفات من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته عند الله عز وجل، مضمنة في مفهوم الثقافة الإسلامية، وقررت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن منهج السيرة النبوية كمقرر اختياري، واقتصرت كلية الشريعة في الرياض من جامعة الإمام على ذكر بعض خصائص النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً، ونماذج تطبيقية خلقية من سيرته صلى الله عليه وسلم.
2 ... خصائص الإسلام. ... (2)
3 ... عالمية الإسلام. ... (2)
4 ... موقف الثقافة الإسلامية من الحوار بين الحضارات. ... (2)
5 ... فقه السنن الإلهية في الكون. ... (1)
6 ... الإسلام والعلم، مفهومه، حكمه، فضله وأهميته، آداب طالب العلم. ... (2) جامعة الإمام محمد بن سعود، واقتصرت جامعة أم القرى على آداب طالب العلم فقط.
7 ... المجتمع المسلم في العهد الأول، بداية الانحراف، المجتمع المسلم، سماته المثالية، مشكلاته، علاجها. ... (2) أم القرى إجباري، جامعة الملك فهد اختياري.
8 ... الإنسان وموقعه من الكون ... (1)
9 ... النظريات التطويرية في الإنسان وإبطالها. ... (1)
10 ... ضوابط الاجتهاد والفتوى، وصفات المفتي. ... (2)
11 ... الإعجاز العلمي في القرآن والسنة. ... (1) اختياري.
12 ... قضايا معاصرة. ... (2)
13 ... الاستدلال العقلي على الخالق. ... (2)
14 ... التفسير المادي للوجود. ... (1)(/8)
نتيجة إحصائية لنسبة الاتفاق والاختلاف بين مقررات الثقافة الإسلامية:
معدل الاتفاق والاختلاف بين الجامعات في المقررات التي اتفق أكثرهم على تدريسها:
الاتفاق: 75?
الاختلاف: 25?
معدل الاتفاق والاختلاف بين الجامعات في المقررات التي لم تتفق أكثرها على تدريسها:
الاتفاق: 21 ?
الاختلاف: 79?
ملاحظة:
هناك تفاوت بين الجامعات في اقتصار بعضها على تقرير جزء من فقرة هي مقررة في جامعة أو جامعات أخرى، وقد اعتمدت في استخراج هذه النسبة على اعتبار تقرير الجزء كتقرير الكل، وإلا فالنسبة أقل من ذلك.
المبحث الثالث:
مدى تغطية مقررات الثقافة الإسلامية في الجامعات للأهداف المنشودة:
قبل معرفة مدى تغطية المقررات للأهداف لا بد قبل ذلك من القول: بأن جميع الأهداف إيجابية وضرورية وإن تفاوتت نسبة الضرورة شيئاً قليلاً فيما بينها، وبالنظر إلى الواقع المعاصر ومستجداته نجد أن جميع الأهداف تتساوى في نسبة الضرورة دون تفاوت وخاصة إذا تيقنا أن علم الثقافة الإسلامية علم بكر متجدد يعالج الواقع المتغير والمتجدد.
وبناء على ذلك يمكن معرفة مدى التغطية بالتالي:
1- إن جميع الأهداف المذكورة رسمتها أيدٍ متخصصة في كل جامعة، مستنبطة إياها من معطيات المقررات؛ وذلك بالاجتهاد والتدبر فيما بين تصور الأهداف من جهة، ومعطيات المقررات التي قد تحقق تلك الأهداف من جهة أخرى، وبذلك أقرت المقررات، ورسمت الأهداف.
وللإيضاح أقول: إن الأهداف ترتكز على أساسين:
أولهما: تعميق الإيمان والقناعة العلمية والفكرية لدى الطالب بربه عز وجل، ونبيه عليه الصلاة والسلام، ودينه الإسلام.
ثانيهما: غرس المناعة من التأثر سلبياً بالتيارات المعادية للإسلام والمنحرفة عنه.
أما الأساس الأول فيتم عن طريق الآتي:
أ) إبراز معاني العقيدة الإسلامية بدراستها تحليلاً علمياً وفكرياً لتظهر خصائصها ومميزاتها، فتتمكن من قلب الطالب عندئذ أكثر.(/9)
ب) إيضاح خصائص الثقافة الإسلامية، وخصائص الإسلام، وعالميته.
ج) دراسة نظام الإسلام في العبادة، والأخلاق، والمجتمع، والسياسة، والاقتصاد، والعقوبات.
د) دراسة مجملة عن مصادر التشريع الإسلامي، تعريفاً، ومنهجاً.
هـ) دراسة شمولية الإسلام لنظام الحياة، وتفوقه في ذلك على جميع المذاهب والمناهج والأديان، في ذلك.
و) دراسة بعض شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، ومقتطفات من سيرته العطرة ليرتسم للطالب صورة الإسلام الكامل متجسداً بشخصيته الكاملة عليه الصلاة والسلام قولاً وفعلاً.
أما الأساس الثاني فيتم عن طريق الآتي:
أ) شرح المدارس والتيارات المعادية للإسلام كالغزو الفكري، والتغريب، والاستشراق، والتنصير، ونحو ذلك.
ب) إيضاح منهج الإسلام من التيارات والقضايا المعاصرة (العولمة، العلمانية، الماسونية، الشيوعية... ونحو ذلك).
ج) بيان منهج الإسلام في التفكير العلمي الإيجابي البناء.
د) الرد على أهم الشبهات المثارة ضد الإسلام، سواء في بعض أحكامه أو نظمه.
هـ) التعريف بالتاريخ العلمي والفكري والحضاري للإسلام، وما قدمه الإسلام للحياة الإنسانية عامة.
و) وضع يد الطالب على حال العالم الإسلامي، ومواطن الضعف وأسبابه وسبل علاجه.
2- وبالنظر شمولياً إلى الأهداف نظرة مقارنة بالتفاوت الواضح بين المقررات في جميع الجامعات، مع ملاحظة أن الطالب في كل جامعة كطالب واحد في هذا الشأن، سيتضح بالضرورة أن مقررات الثقافة الإسلامية على ما عليه الآن لا تغطي الأهداف المنشودة.
3- بالنظرة الجزئية أو الإقليمية إلى مقررات جامعة ما مقارنة بالأهداف، فإن مقررات كلية الشريعة بالرياض، ومقررات جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وجامعة طيبة في المدينة المنورة، قد تكون أكثر تغطية من غيرها، لاشتمالها على أكثر الفقرات المذكورة سابقاً، والتي تلامس حاجة الواقع المعاصر، والجدول التفصيلي السابق يوضح ذلك.(/10)
4- بالنظرة الواقعية إلى الطالب المعاصر بعد تخرجه من الجامعة لا يُنكر ضعف المناعة لدى الأكثر في وجه التيارات المعادية، وكذلك ندرة القدرة على التأثير إيجابياً في الآخرين، ووجود ظاهرة التعالم والانحراف الفكري، ونحو ذلك من المظاهر السلبية التي تدعو إلى إعادة النظر في المقررات لتطويرها في ضوء الواقع والأهداف المنشودة.
ومما تقدم، يتضح مدى الحاجة الملحة إلى تغطية مقررات الثقافة للأهداف في ضوء ما ظهر من تفاوت بين الجامعات في مقررات الثقافة الإسلامية، بالإضافة إلى الواقع الملموس من ظهور مستجدات على الساحة، وعدم قدرة الأكثرين على الوقوف في وجه العواصف الجارفة.
المبحث الرابع:
ضرورة تغطية النقص وآلية ذلك:
ويتضمن ما يلي:
المطلب الأول: تغطية النقص بالإفادة من المقررات الأتم.
المطلب الثاني: تغطية النقص بإضافة مفردات جديدة.
المطلب الثالث: تغطية النقص بتوحيد المقررات بين جميع الجامعات وآلية ذلك.
المبحث الرابع:
ضرورة تغطية النقص وآلية ذلك:
بتدبر الواقع المعاصر مقارناً بالأهداف، تظهر الحاجة الملحة إلى سد العجز في المقررات - بوجه عام - لتغطي الأهداف بشكل مرض، وهذا الأمر يتم بالمطالب الآتية:
المطلب الأول: الإفادة من التوصيف الأتم لبعض الجامعات.
تقدم في المقررات والفقرات التي لم تقررها أكثر الجامعات_ وعددها (14) _ كان العديد منها مما يحتاجه الطالب المعاصر لتغطي الأهداف؛ فالسيرة النبوية مثلاً:
- تعتبر مصدراً أساسياً وعاملاً فعالاً في تغذية انتماء وارتباط الطالب بربه، ونبيه، ودينه من خلال تعريفه بالمثالية السامية الصحيحة - المتجسدة في شمائله عليه الصلاة والسلام - وسيرته التي رضيها ربنا سبحانه وتعالى، وأمرنا باتباعها، وجعلها الأسوة الحسنة لنا، وذلك بشمائله الكريمة عليه الصلاة والسلام.(/11)
- كما تعتبر الأنموذج النظري والتطبيقي للأخلاق الحميدة التي رفعت قدر الإنسانية إلى مستواها الصحيح، ومنحتها حقوقها الكاملة ليعم بعد ذلك السلام والتواد بين الفئآت والمجتمعات الإنسانية على وجه العموم والإسلامية على وجه الخصوص.
- وذلك بدوره يمنح الطالبَ مناعة من التأثر بالتيارات المعادية لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم الإنسانية ثانياً، في حين لم تقرر (5) جامعات فقه السيرة كمقرر أو فقرات منه.
- وعلى سبيل المثال أيضاً مقرر: الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، والذي قررته جامعة واحدة كمقرر اختياري.
فبالنظر في واقع الطالب المعاصر نجد أن هذا المقرر يعمق إيمان الطالب بربه ونبيه عليه الصلاة والسلام، ويزيد من ارتباطه بدينه واعتزازه به، لذا أوصي بتدريس مقتطفات منه في مقرر مفهوم العقيدة الإسلامية والإيمان، ونحو ذلك لتعميق الإيمان في قلب الطالب بأسلوب علمي غير تقليدي.
- ومثل ذلك أيضاً: خصائص الإسلام التي تضم أهم القضايا التي تعالج عدداً من مشاكل الشباب الفكرية المعاصرة - لو قررت بعناية - في حين لم تقررها سوى جامعتين فقط، علماً أنها تضم من القضايا ما يلي:
1- عالمية الإسلام، بحيث لو درست هذه الخصيصة بأدلتها ومدلولاتها لأثمرت:
- نسيان جذور الإقليمية الإسلامية الضيقة العالقة في أذهان كثير من شبابنا، والتي نجم عنها العداء التلقائي وغير المنضبط لغير المسلم، ونسيان شمولية الإسلام للإنسانية بأكملها.
رفع الحواجز العقدية والنفسية بين الأمم.
ترسيخ مفهوم إيجابية الإسلام في التعامل مع جميع الأفراد والمجتمعات الإنسانية، علماً أن حسن التعامل مع الطرف الآخر، هو الوجه الجميل للإسلام في نظر غير المسلم.
2- وسطية الإسلام التي تضم أهم الوسائل لمعالجة التطرف الفكري، والغلو في الدين.
3- أهمية العقل والتعقل في الإسلام التي تعالج السطحية، والعشوائية، والهمجية.(/12)
4- أهمية العلم في الإسلام التي ترسخ أن الإسلام دين حياة، وحضارة، وعلاج واقع، كما تعالج سلبية الغلو في الدين.
5- يسر الإسلام الذي يعالج أيضاً الغلو، والتشدد في الدين، والتطرف فيه.
- ومثل ذلك أيضاً: الدراسة الإجمالية المختصرة المفيدة لمقاصد الشريعة الغراء، لأنها ترسم الخطوط العريضة للحضارة الإسلامية الراقية، والآمنة المستقرة، وذلك بإعداد المتحضر قبل بناء الحضارة؛ وذلك باحترام الإنسان وحقوقه المادية، والمعنوية، وسبل ذلك.
- ومثل ذلك أيضاً: قضايا معاصرة، والتي تضم أهم القضايا المطروحة على الساحة؛ مثل ما يسمى بالإرهاب وأسبابه، ودواعيه، وطرق علاجه.
وكذا حرب الاصطلاحات، والانحراف الفكري، أسبابه وعلاجه. والتعالم. والجرأة في الفتوى دون احترام ضوابطها الذي أوقع الناس في اضطراب، وتخبط في بعض القضايا الإسلامية. والحرص على النقد دون احترام التخصص مع الإعجاب بالرأي.
وبتدبر المقررات التي لم تقررها أكثر الجامعات يظهر مدى الضرورة إلى العديد منها للطالب الجامعي.
المطلب الثاني: تغطية النقص بإضافة مفردات جديدة
إن الواقع المعاصر يحتم تدريس الطالب المعاصر فقرات مهمة لحياته العلمية والفكرية والسلوكية، لم تتوفر بالشكل الكامل في مقررات الثقافة الإسلامية، وأقترح بعضاً منها، وهي:
مشكلات الشباب.
ضوابط استغلال وسائل الإعلام والاتصال.
فقه الموازنة بين المهم والأهم، والخطأ والصواب مما قد يشتبه على غير المتخصص.
ضوابط الاستدلال بالنص إجمالاً.
الصفات التي يجب توفرها في الداعية.
ضوابط إزالة المنكر باليد.
ضوابط الاجتهاد والفتوى.
حكم قيام الفرد بتنفيذ بعض الأحكام الخاصة بالسلطان.
أخلاقيات المهنة.
المطلب الثالث: توحيد المقررات بين الجامعات وآلية ذلك:(/13)
إن الطالب الجامعي في المملكة العربية السعودية يعتبر واحداً غير متعدد بالنظر إلى الأهداف من تدريسه لمقررات الثقافة الإسلامية، ثم بالنظر إلى الوطنية فإنه طالب واحد أيضاً، ومثل هذا الحال يتعين أن تكون الأهداف والمقررات للثقافة الإسلامية واحدة أيضاً، لأن الهدف منها تعميق القناعة، وغرس المناعة لدى الطالب ليسير فكرياً وتربوياً في مسار واحد، واتجاه واحد دون اختلاف أو تفاوت بين الطلاب مهما اختلفت أماكنهم.
ومقررات الثقافة الإسلامية قررت في جميع الجامعات لهذه الغاية الفكرية والتربوية، فلها شأنها الخاص، لذا فان توحيد المقررات يتم الآتي:
• وحدة الهدف.
• وحدة الموضوع.
• الوحدة الفكرية.
• الوحدة التربوية.
الوحدة في الدفاع عن القضية الواحدة والقضايا المتعددة، وكل ذلك من الإيجابية بمكان، وتطمح إليه أعين الحريصين.
كما يتم بذلك حل مشكلة المراجع للمقررات، وغياب التفاوت بين المقررات في الجامعات في الزيادة والنقصان، مما لا يتم معه تحقيق النتائج الإيجابية السالفة الذكر بالشكل الكافي.
كما يتم بذلك عدم الحاجة إلى معادلة مقررات الثقافة الإسلامية للدارسين لها في أي جامعة من جامعات المملكة لظروف معينة، والاستغناء عما يكلف ذلك من جهد وزمن.
أما آلية توحيد مقررات الثقافة الإسلامية فإنه يتم بتشكيل لجنة علمية تضم أقدم المتخصصين في الثقافة الإسلامية والممارسين تدريسها على مستوى جامعات المملكة لتقوم بدورها في:
في إعادة النظر في المقررات ثم تعديلها بما يتفق مع تحديد الأهداف.
وضع هيكلة معينة لها تناسب وضعها الجديد.
وضع خطة ومنهج لتأليف كتب لتلك المقررات تتفق مع الاستعداد الفكري للطالب من جهة، ويتسع لها زمن الفصل الدراسي من جهة أخرى، وغير ذلك من ضوابط تأليف الكتاب الدراسي الجامعي.
الخاتمة:(/14)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الذي جعل رسالته خاتمة الرسالات، وعلى آله وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه خاتمة أسأل الله حسنها، أسجل فيها أهم ما توصلت إليه في بحثي هذا من فوائد، وهي:
إن أي جهد مهما اجتمعت له الأسباب، لا يخلو من نقص لأن الكمال لله عز وجل والعصمة للرسل عليهم الصلاة والسلام.
إذا اتضح الهدف من أي عمل قبل الشروع فيه يجب في المنهج الكفاية لبلوغ ذلك الهدف؛ وذلك بتوفر كلياته وجزئياته دون نقصان.
إن الجامعات والمؤسسات العلمية إنما أنشأت لإعداد المثقف قبل الثقافة، والمتحضر قبل الحضارة، بمنهج جدير بتخريج أجيال جديرة بتحمل المسؤولية، علماً أن التعليم أخطر مسؤولية تربوية وعلمية.
اتضح من البحث التفاوت كماً وكيفاً بين مقررات الثقافة الإسلامية في جامعات المملكة، مما يفتح ثغرة في بلوغ الأهداف المنشودة، ويحتم إعادة النظر فيها بجدية لتغطية النقص وبلوغ الكمال.
توحيد المقررات ومراجعها خير عامل يؤدي إلى تغطية النقص وبلوغ الأهداف.
التوصيات:
1- لا حاجة إلى تدريس النظام الاقتصادي كمقرر مستقل كما تفعل ذلك بعض الجامعات، وإنما يكفي تدريسه كفقرة من فقرات مقررات الثقافة الإسلامية بما يكفي إعطاء صورة عن أن الإسلام دين حياة اقتصادية أيضاً وله منهجه في ذلك، وبذلك يمكن استغلال فقرات أخرى هي أهم من الإطناب في تدريسه.
2- البعد عن النظرة التخصصية في التقرير ودراسة التعاريف للثقافة الإسلامية، دراسة تحليلية مقارنة؛ لأن مقررات الثقافة الإسلامية لم تقرر بهدف أن تدرس كتخصص، وإنما بهدف التغذية الإيمانية والفكرية، وغرس المناعة، ومعالجة واقع.
3- تقرير مفهوم العقيدة بما يتناسب مع عقلية الطالب الجامعي المعاصر مما يعمق إيمانه بالأسلوب العقلي والعلمي بعيداً عن الأسلوب التقليدي.(/15)
4- إعادة النظر في المقررات كل (5) سنوات من قبل لجنة علمية عليا، ليتسنى حذف وإضافة ما يمليه الواقع آنذاك، فالثقافة الإسلامية علم بكر، متجدد، معالج.
المراجع:
1) توصيف مقررات جامعات المملكة المحفوظة في خزانة قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فيصل.(/16)
العنوان: ثق بنفسك
رقم المقالة: 487
صاحب المقالة: إبراهيم عبد الفتاح
-----------------------------------------
إن الثقة تكتسب وتتطور، ولم تولد الثقة مع إنسان حين ولد؛ فهؤلاء الأشخاص الذين تعرف أنت أنهم مشحونون بالثقة، ويسيطرون على قلقهم، ولا يجدون صعوبات في التعامل والتأقلم في أي زمان أو مكان - هم أناس اكتسبوا ثقتهم بأنفسهم، اكتسبوا كل ذرة فيها.
انعدام الثقة في النفس:
ماذا تعني كلمة نقص، أو انعدام الثقة في النفس؟ إننا كثيراً ما نردد هذه الكلمة، أو نسمع الأشخاص المحيطين بنا يرددون: إنهم يفتقرون إلى الثقة بالنفس.
إن عدم الثقة بالنفس سلسلة مرتبطة بعضها ببعض، تبدأ بـ:
أولا: انعدام الثقة بالنفس.
ثانياً: الاعتقاد بأن الآخرين يرون ضعفك وسلبياتك؛ وهو ما يؤدي إلى القلق.
ثالثاً: القلق بفعل هذا الإحساس والتفاعل معه؛ بأن يصدر عنك سلوك وتصرف سيئ أو ضعيف، وفي العادة لا يمت إلى شخصيتك ولا أسلوبك؛ وهذا يؤدي إلى الخجل من النفس.
رابعاً: الإحساس بالخجل من نفسك؛ وهذا الإحساس يقودك مرة أخرى إلى نقطة البداية، وهي انعدام الثقة بالنفس، وهكذا تدمر حياتك، بفعل هذا الإحساس السلبي تجاه نفسك وقدراتك.
لكن: هل قررت - عزيزي القارئ - التوقف عن تعذيب نفسك بتلك الأفكار السلبية، التي تُعَدُّ موتاً بطيئاً لطاقاتك ودوافعك؟ إذا اتخذت ذلك القرار بالتوقف عن إيلام نفسك وتدميرها، فابدأ بالخطوة الأولى:
تحديد مصدر المشكلة:(/1)
أين يكمن مصدر هذا الإحساس؟ هل ذلك بسبب تعرضي لحادث وأنا صغير؛ كالإحراج، أو الاستهزاء بقدراتي ومقارنتي بالآخرين؟ هل السبب أنني فشلت في أداء شيء ما، كالدراسة مثلاً؟ أو أن أحد المدرسين أو رؤسائي في العمل قد وجه لي انتقاداً بطريقة جارحة أمام زملائي؟ هل للأقارب أو للأصدقاء دور في زيادة إحساسي بالألم؟ وهل مازال هذا التأثير قائماً حتى الآن؟ … أسئلة كثيرة، حاول أن تسألها نفسك؛ لتصل إلى الحل، كن صريحاً مع نفسك، ولا تحاول تحميل الآخرين أخطاءك؛ وذلك لكي تصل إلى الجذور الحقيقية للمشكلة؛ لتستطيع حلها، حاول ترتيب أفكارك، استخدم ورقة وقلماً، واكتب كل الأشياء التي تعتقد أنها ساهمت في خلق مشكلة عدم الثقة لديك، تعرَّف الأسباب الرئيسة والفرعية التي أدَّت إلى تفاقم المشكلة.
البحث عن حل:
بعد أن توصلت إلى مصدر المشكلة؛ ابدأ في البحث عن حل، وبمجرد تحديدك للمشكلة تبدأ الحلول في الظهور، اجلس في مكان هادئ وتحاور مع نفسك، حاول ترتيب أفكارك، سل نفسك: ما الذي يجعلني أسيطر على مخاوفي وأستعيد ثقتي بنفسي؟
إذا كان الأقارب أو الأصدقاء - مثلاً - طرفاً أو عاملاً رئيساً في فقدانك لثقتك - فحاول أن توقف إحساسك بالاضطهاد، ليس لأنه توقف، لكن لأنه لا يفيدك في الوقت الحاضر، بل يسهم في هدم ثقتك، ويوقف قدرتك في المبادرة بالتخلص من عدم الثقة.
أقنع نفسك وردد:
- من حقي أن أحصل على ثقة عالية بنفسي وبقدراتي.
- من حقي أن أتخلص من هذا الجانب السلبي في حياتي.
ثقتك بنفسك تكمن في اعتقاداتك:
في البداية احرص على ألاَّ تتفوه بكلمات يمكن أن تدمر ثقتك بنفسك؛ فالثقة بالنفس فكرة تولدها في دماغك، وتتجاوب معها؛ أي إنك تخلق الفكرة، سلبية كانت أو إيجابية ثم تغيرها وتسيرها حسب اعتقاداتك عن نفسك؛ لذلك: تبنى عباراتٍ وأفكاراً تشحنك بالثقة، وحاول غرسها في ذهنك.(/2)
انظر إلى نفسك بوصفك شخصاً ناجحاً واثقاً بنفسه، واستمع إلى حديث نفسك جيداً، واحذف الكلمات المحملة بالإحباط.
إن ارتفاع روحك المعنوية مسؤوليتك وحدك؛ لذلك حاول دائماً إسعاد نفسك، اعتبر الماضي بكل إحباطاته قد انتهى.
أنت قادر على المسامحة فاغفر لأهلك، ولأقاربك، ولأصدقائك ... اغفر لكل من أساء إليك؛ لأنك لست مسؤولاً عن جهلهم وضعفهم الإنساني.
ابتعد كل البعد عن المقارنة؛ أي لا تسمح لنفسك - ولو من قبيل الحديث فقط - أن تقارن نفسك بالآخرين؛ حتى لا تكسر ثقتك بقدرتك، وتذكر أنه ليس هناك إنسان عبقري في كل شيء، ركز فقط على إبداعاتك، وعلى ما تعرف؛ أبرزه للآخرين، وحاول تطوير هواياتك الشخصية.
ونتيجة لذلك: حاول أن تكون ما تريده أنت، لا ما يريده الآخرون، ومن المهم جداً أن تقرأ عن الأشخاص الآخرين، وكيف قادتهم قوة عزائمهم إلى أن يحصلوا على ما أرادوا، اختر مثلاً أعلى لك، وادرس حياته، وأسلوبه في الحياة، ولن تجد أفضل من الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم – وأصحابه - رضوان الله عليهم - مثلاً في قدرة التحمل، والصبر، والجهاد من أجل هدف سامٍ ونبيل؛ وهو إعلاء كلمة الله - تعالى - ونشر دينه.
(بنك) الذاكرة:(/3)
يقودنا النقص الكبير في الثقة بالنفس - مباشرة - إلى ذاكرة غير منتظمة؛ فالعقل يشبه (البنك) كثيراً؛ إنك تودع يومياً أفكاراً جديدة في بنكك العقلي، وتنمو هذه الودائع، وتُكَوِّن ذاكرتك، وحين تواجه مشكلة ما، أو تحاول حل مشكلة، فإنك - في واقع الأمر - تسأل بنك ذاكرتك: ما الذي أعرفه عن هذه القضية؟ ويزودك بنك ذاكرتك - تلقائيّاً - بمعلومات متفرقة، تتصل بالموقف المطلوب؛ لذا مخزون ذاكرتك هو المادة الخام لأفكارك الجديدة، أي إنك عندما تواجه موقفاً صعباً، يجب عليك أن تفكر في النجاح، ولا تفكر في الفشل، استدع الأفكار الإيجابية، والمواقف التي حققت فيها نجاحاً من قبل، ولا تقل: قد أفشل كما فشلت في الموقف الفلاني، نعم أنا سأفشل... بذلك تتسلل الأفكار السلبية إلى بنكك، وتصبح جزءاً من المادة الخام لأفكارك.
حين تدخل في منافسة مع آخر، قل: أنا قادر أن أكون الأفضل، ولا تقل: لست مؤهلاً، اجعل فكرة (سأنجح) هي الفكرة الرئيسة السائدة في تفكيرك؛ فيهيئ تفكيرُك في النجاح عقلَك ليعد خططاً تُنتج النجاح، أما التفكير في الفشل، فهو يهيئ عقلك لوضع خطط تنتج الفشل.
لذلك: احرص على إيداع الأفكار الإيجابية فقط في بنك ذاكرتك، واحرص على أن تسحب من أفكارك الإيجابية، ولا تسمح لأفكارك السلبية أن تتخذ مكاناً في بنك ذاكرتك.
عوامل تزيد ثقتك بنفسك:
* عندما نضع أهدافاً وننفذها - سواء على المستوى الشخصي أو على صعيد العمل، ومهما كانت تلك الأهداف صغيرة - فإن ذلك يزيد ثقتنا بأنفسنا.
* اقبل تحمل المسؤولية؛ فهي تجعلك تشعر بأهميتك، تقدم ولا تخف، اقهر الخوف في كل مرة يظهر لك فيها، افعل ما تخشاه؛ يختفِ الخوف، كن إنساناً نشيطاً، اشغل نفسك بأشياء مختلفة، استخدم العمل لمعالجة خوفك؛ تكتسب ثقةً أكبر.(/4)
* حدّث نفسك حديثاً إيجابياً في صباح كل يوم، وابدأ يومك بتفاؤل، وابتسامة جميلة، وسل نفسك: ما الذي يمكنني عمله اليوم لأكون أكثر قيمة؟ تكلم؛ فالكلام يدعم بناء الثقة، ولكن: تمرَّن على الكلام أولاً.
* حاول المشاركة في المناقشات، واهتم بتثقيف نفسك من خلال القراءة في كل المجالات، كلما شاركت في النقاش، أضفت إلى ثقتك، وكلما تحدثت أكثر، سهل عليك التحدث في المرة التالية، ولكن: لا تنسَ مراعاة أساليب الحوار الهادئ والمثمر.
* اشغل نفسك بمساعدة الآخرين، وتذكر أن كل شخص آخر، هو إنسان مثلك تماماً، يمتلك نفس قدراتك، وربما أقل، ولكن: هو يحسن عرض نفسه، وهو يثق في قدراته أكثر منك.
* اهتم بمظهرك ولا تهمله؛ فالمظهر أول ما يقع عليه نظر الآخرين.
* لا تنس الصلاة، وقراءة القران الكريم؛ فالصلاة تمد الإنسان بالطمأنينة والسكينة، وتذهب الخوف من المستقبل، وتجعل الإنسان يعمل قدر استطاعته، ثم يتوكل على الله في كل شيء.(/5)
العنوان: ثقافةُ القضاء في مهب التمثيل (المؤدلج)! ولطيفة!
رقم المقالة: 1489
صاحب المقالة: د. سعد بن مطر العتيبي
-----------------------------------------
تناقلَ عددٌ من وسائلِ الإعلامِ دفاعَ وزيرِ الداخلية الإيطالي (جوليانو أماتو) عن الحجاب الإسلامي في مقابلةٍ مع صحيفة (إل كوريري ديلا سيرا)، بقوله: "المرأةُ التي حظيت بأكبر نصيب من المحبة على مر التاريخ، ألا وهي السيدة العذراء، تُصوَّرُ دائماً وهي محجبة"، وتابع جوليانو: "ولكن على أن لا يغطى كامل الوجه، ولا أود أن يصل التطرفُ بالبعض إلى درجة المطالبة بتعديل رسوم مريم العذراء بحيث تُصور وهي سافرة لكي تتلاءم وشعاراتهم".
الجملةُ الأخيرةُ المروية عن (جوليانو أماتو)، أشعرتني أنه يخاطبُ بعضَ بني جلدتنا، عندما يتعرضون لمسألة شرعية من خلال الحديث عن شخصية علمية أو مؤسسة يتولاها أهلُ العلم الشرعي فيتجاوزون ثوابتَ الدين ومسلماتِ الأمة..
1) وقبل الدخول في الموضوع أودّ تأكيدَ أمرين:
الأول: أنَّ تدخل الكتّاب والصحفيين من غير أهل العلم والتخصص فيما يكتبون فيه، فضلاً عن كتّاب الأفكار وممثلي الأدوار ممن هم أقلّ شأناً من أن يعبِّروا عن رأيٍ في القضايا الكبار – أقول: إن تدخل هؤلاء في الأمور الكبيرة التي لا يعي حقائقَها إلا أهلُ الشأن وأهلُ المعرفة من المثقفين الحقيقيين، لهي من الابتلاءات التي تمرّ بها الأمّةُ، وإنني لأتذكر في هذا الشأن الحديثَ العظيم الذي هو إعجاز نبوي: أن يتحدث الرويبضةُ في أمر العامة!
ومن تلك الأمور: ما يُعرف باختلاف الأحكام أو تفاوت العقوبات التي تصدر من القضاة! وهو موضوع لا يختص ببلد دون بلد، ولا بمدرسة قانونية دون أخرى، وهذا ما سأوضّحه إن شاء الله تعالى في الأسطر الآتية..(/1)
علماً أن مجالَ التفاوت لا يتطرقُ إلى الأحكام المقرّرة في الشرع؛ كالحدود والقصاص والإرث ونحوها، ومع ذلك لم تَسْلَم من نقدِ حَمَلة الأفكار الأجنبية والتأثرات الخارجية، وقد أوضحتُ شيئاً من ذلك في مقالات: (محاولات التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا)، ومقال: (الحملة الصحفية على المحاكم الشرعية).
الثاني: أنني هنا لا أكتبُ دفاعاً عن عالمٍ شرعي، أو جهازٍ قضائي له مؤسساته التي يجب عليها حمايتُه، ولا عن خطأ قد يقع من شخصٍ أو مؤسسة ما؛ ولكنني أكتب دفاعاً عن (قاضٍ في الجنّة)، أراد بعضُ كتبة الأفكار وممثلي الأدوار أن ينالوا منه في مشاهدَ ساخرةٍ، تحت ذرائع باطلة ووسائل قديمة، قِدَم الحرب على الإسلام، ليس أخبثها بناء مسجدِ ضرارٍ ودعوة محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- لافتتاحه!! في كمين ماكرٍ فضحه الله من فوق سبع سماوات..
كتبةُ الأفكار وممثلو الأدوار ممن لا تقبل شهادتهم –عند قاضٍ في الجنّة- في دخول شهر رمضان فضلاً عن خروجه، يبدو أنهم أقلّ ثقافة من حاملي (الكاميرات) التي تصورهم وهم يمارسون الإثم والتلبيس، كما لو كان عملهم نيابة عن مردة الشياطين المصفّدة في هذا الشهر الكريم الذي جعلوه وقتاً لبثّ ما أُشربوه من سموم أجنبية..(/2)
2) إنَّ تفاوتَ القضاء في الوقائع المتقاربة في حدود سلطة القاضي التقديرية، لا يُعدّ تناقضاً عند أهل الشأن المتمرسين من قضاة الشرع، بل وقضاة الوضع، وكذا عند من له معرفة بأمور القضاء من دارسي الشريعة وخريجي كليات الحقوق، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.. وهنا لن أُعرِّج على الثقافة القضائية في الفقه الشرعي المستهدَف من أهل الباطل، ولا بتفاصيل التفريد القضائي ومعايير تحقيق العدالة عند التقدير، فهذا موضوعٌ تخصصيّ يطول الحديث عنه؛ ولكنني أكتفي بذكر بعض ما يتعلقُ بهذا الموضوع في القوانين الغربية التي يركن إليها بعضُ القوم ؛ مُفيداً من مؤلّفات متخصِّصة، ومقالاتٍ علمية بهذا الشأن. وذلك تفريقاً بين (السياسات القضائية العقابية، وتفاوت العقوبات تبعاً لذلك)، وبين (التناقض في الأحكام الذي يُريد المغرضون الإيحاءَ بأنه صفة من صفات القضاء الإسلامي في بلادنا).
فربما لا يعلم كَتَبةُ الأفكار وممثلو الأدوار ومن يُصفِّق لهم من تلاميذ المسلسلات: أنَّ النظام القانوني الإنجليزي والنظم التابعة لمدرسته كالأسترالي مثلاً، تُعد أكثرَ النظم توسعاً فيما تمنحُه للقاضي من سلطة تقديرية في تطبيق العقوبة، فلا يقيِّد القاضيَ إلا الحدُّ الأقصى الذي يقرِّره القانون لكل جريمة إن كانت العقوبة مدونة في تقنين أو سابقة.(/3)
وأنَّه إذا وجد خطأ خارج هذا الإطار، فليس مردّه السلطة التقديرية التي يُفتَرضُ فيها توخّي العدالة، وإنَّما يرجع إلى أسباب أخرى تمثل انحرافاً عن العدالة المطلوبة في القانون العقلي، وهذا أمر يشهد به أساتذة القانون، من مثل king وradzinowicz إذ قالا: "لقد اتخذ القضاةُ في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وإنجلترا وفرنسا من السلطة التقديرية الممنوحة لهم ذريعةً لإرضاء الرأي العام عند اختيار العقوبة، وقاموا بتوجيه الاستجواب وجهة غالباً ما تكون غير ذات صلة بموضوع الجريمة، ومن ثمّ استُخدمت هذه السلطة كأداة خرجت عن الغاية التي من أجلها مُنحت".
ولكشف ما يرمي إليه الأستاذان، يحسُن أن أذكر أن الدراساتِ الإحصائيةَ التي قام بها متخصصون في مقاطعة نيويورك الجنوبية سنة 1972م، قد أسفرت عن وجود تفاوت في العقوبة، ولو تساوت في النوع، إذ قد تبيّن أنّ الأحكام الصادرة بعقوبة السجن، أطولُ في مدتها تجاه المتهمين السود عن نظرائهم من البيض! في الجرائم نفسها التي يرتكبونها، ومع تماثل ظروف ارتكابها.
3) إن وجود قضاء لا يتفاوتُ فيه تقديرُ العقوبة -تبعاً لبعض المتغيرات المؤثِّرة في العقوبة تخفيفًا وتغليظًا، أو ما يُعرف بظروف الواقعة: المشدّدة أو المخفّفة- هو في الحقيقة قضاءٌ ظالم، والحلم به جهل بالحقائق، وحلم بالظلم.
ولذلك أخفقت محاولاتُ التجاوب المتعدِّدة مع الانتقادات التي وُجِّهت للنظرية القضائية الأمريكية بسبب اختلاف عقوبات الجنايات والجرائم المتشابهة بعد أن اقتُرِح تشريع قانون بعقوبات إجبارية محدّدة بدقة وغير خاضعة لأي تغيير أو تبديل، ومثالُها معاقبة اللصوص جميعاً بالسجن لمدة سنة واحدة، مهما كانت الدوافع والأحوال! ولكن تعدد نوعية السرقات وأحوال اللصوص، واختلاف درجات خطورتها، جعل هذا الحكم فاسدًا من الناحية الموضوعية باعتراف القوم أنفسهم.(/4)
وقد اعترض القضاةُ والمحامون وشُرّاح القانون على بعض القوانين التي تسلب القاضي سلطتَه التقديرية، مع أنَّها وُضعت كحلٍّ لمنع التفاوت؛ وذلك بحجة عدم ملاءمتها، وبعدها عن تحقيق العدالة.
وتقريبًا للصورة، وبياناً لجهالة كتّاب الأفكار فضلاً عن ممثلي الأدوار، فإننا كثيراً ما نسمع بين العامّة جواباً لمعترضٍ على تغليظ كلامٍ أو عقوبة على آخر، يقول له الجملة الدّارجة: (أنت ما تدري وش سوّى!) وما إن يُفصِّل له بعضَ الأمور ويفسِّر له مثلَها، حتى يجيبه المعترِض: أعوذ بالله! آسف، لا والله! أجلْ! أنت على حق!
إنَّ علاج مرض السكّر يختلف من شخصٍ إلى آخر! فربّ مريضٍ بهذا الداء -ذي المسمّى الواحد- ينفعه الله بالحِمْية، وآخر يجعل الله شفاءه في أكل الحبوب، وثالث لا يفيده بإذن الله إلا حقنة الإنسولين..
إنّ وجودَ قضاءٍ لا يتفاوتُ فيه تقديرُ العقوبة تبعاً لشخصية الجاني الإجرامية ومؤثِّرات التفاوت المعروفة، هو في الحقيقة قضاء ظالم، والحلم به جهل بالحقائق، و حلم بالظلم.
هذه باختصار حكاية التفاوت في الأحكام القضائية إذا صدرت من قاضٍ يقضي قضاءَ قاضٍ في الجنّة. أمَّا تناقضُ الأحكام فشأن آخر، أوضّحه بمثال من القوانين (الفيدرالية)، ذلك أنَّ جريمة القتل: تكون عقوبتها في ولايةٍ القتل! وفي ولاية أخرى السجن! مع أنَّهما تحت حكم دولة واحدة! يحمل مواطنوها جنسيةً واحدة، وهذا ما يجعل بعض محترفي الإجرام يستدرج ضحيته للولاية الأخف عقوبة!!
4) ومن لطيفِ ما يكشفه اللهُ ولو بعد حين، ما كشفته الحلقةُ التي أظهرت (المتلبرلين) من أهل الشراب والسكر! وفقدان التربية -وفاقد الشيء لا يعطيه- وإن كانت الهداية بيد الله تعالى، إلا أنَّه قد صح في الحديث (كلُّ مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهوِّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)..(/5)
ولئن ساد انطباع مقزِّز من الليبرالية عند مشاهدي هذه الحلقة من البريئين، وانطباع ناقم من كشف شيءٍ من المستور من المُتَّهمين، إلا أنَّني تذكرت –وأنا أتابعُ ردود الفعل تجاه هذه الحلقة- عدداً من المقالات الغاضبة -في أوقات مضت- على المؤسسات الحكومية، التي تكشف مصانعَ خَمْرة متستِّرة بين حين وآخر، وتُريق كمياتٍ هائلة من منتجاتها المحرّمة علناً، كما تذكّرت تلك المقالات الناقمة من حماة الفضيلة الرسميين في بلاد الفضيلة على جميع المستويات، وهكذا المؤسسات التي تلاحِق مَنْ وراء هذا النوع من المجرمين وتُقدِّمه للعدالة، وصولاً إلى المحاكم الشرعية، ولا سيما تلك التي تختص بنظر مثل هذا النوع من القضايا..
فهل يمكن للمتابع أن يقرأ تلك المقالاتِ مرة أخرى في ضوء مشهد الشارب والساقي من جهة، ومشهد الغفلة عن التربية أو عدم الاهتمام بالقيم الفاضلة باسم الحرية من جهة أخرى!! وهل له أن يتأوّل قول الله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] في مواقفَ يمثلها مَن له عند القوم احتفاءٌ ومِن أجندتهم قرب؟!
نسألُ الله أن يحفظَ لنا إيمانَنا وأمننا، وأن يبطلَ كيدَ الكائدين، ويهديَ ضالَّ المسلمين.(/6)
العنوان: ثماني طرق لتكوني قيادية ناجحة
رقم المقالة: 542
صاحب المقالة: سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
ليس من العيب أن يخطئ الفرد إذا ما اجتهد وبذل جميع الأسباب، ولكن الخطأ الأكبر أن ينظر إلى الآخرين وكأنهم معصومون من الخطأ، ومنزهون عن التقصير والزلل، فالنقص من طبيعة البشر والكمال لله تعالى، والعصمة لنبيه- صلى الله عليه وسلم- ومن هنا يقول الشاعر:
ومَن ذا الَّذي تُرْضى سَجاياهُ كُلُّها كَفى المرْءَ نُبلاً أَنْ تُعَدَّ مَعايِبُه
فن القيادة الناجحة:
إذا كنت تتقلَّدين منصباً قيادياً؛ فإليك بعضَ القواعد في فنِّ القيادة الناجحة التي تجعلك تملكين زمام الناس دون أن تسيئي إليهم، أو تستثيري عِنادهم:
(1) الثناء على المرؤوسين:
حتى تكسبي ثقة مرؤوسيك ومحبتهم؛ عليك بالثناء عليهم والتشجيع المستمر لهم ودعمهم، مما يجعلهم يبذلون أقصى جهدهم ويقدِّمون أفضل ما لديهم، فإذا كنت مديرة لمستشفىً مثلاً وجاءتك طبيبة من جهة أخرى تعلمين أنها مقصرة فلا تخبريها بذلك؛ بل عليك أن تثني عليها بما تعلمينه عنها من صفات جيدة وسترين النتيجة، فربما جعلها ذلك تبدأ صفحة جديدة في مؤسستك تتخلَّص فيها من الصفات السلبية التي نمت إلى علمك.(/1)
وقد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع الصحابة: روى سالم عن أبيه عبد الله بن عمر، قال: كان الرجل في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا، قصها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت غلاماً عَزَباً شاباً، فكنت أنام في المسجد فرأيت كأن ملكين أتياني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، ولها قرون كقرون البئر، فرأيت فيها ناساً قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا مَلَك، فقال: لن تراع، فذكرتها لحفصة، فقصتها حفصة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "نِعْمَ الرجلُ عبد الله لو كان يصلي من الليل" قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً. [أخرجه البخاري].
فقد بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالثناء "نِعْمَ الرجل..." ثم استدرك عليه ما يكمِّله بقوله: "لو كان يصلي من الليل".
(2) لفت النظر إلى الأخطاء من طرف خفي:
النصيحة على رؤوس الأشهاد فضيحة، فإذا كان هناك خطأ فلا تعنفي في الحال، ومن الأفضل أن ترسلي للمخطئ خطاباً موثقاً، فذلك أدعى في ردعه وأحفظ لماء وجهه، ويمكنك أيضاً ألا تشيري إليه مطلقاً، ووتكتفي بإصدار تعميم عام يتناول السلوك الذي رأيته من مرؤوسك، وقد كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - عدم مواجهة بعض المخطئين بالخطأ والاكتفاء بالبيان العام:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم- : "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم" فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لَيَنتَهُنَّ عن ذلك أو لتُخطَفنَّ أبصارهم" [رواه البخاري].
فأسلوب التعريض بالمخطئ وعدم مواجهته له فوائد عديدة، منها: تجنُّب رد الفعل السلبي للمخطئ، وإبعاده عن تزيين الشيطان له بالانتقام الشخصي، والانتصار للنفس، كما أنَّه أكثر قبولاً وتأثيراً في النفس، فضلاً عن ازدياد منزلة القائد وزيادة المحبة للناصح.(/2)
وينبغي الانتباه أنَّ أسلوب التعريض هذا لإيصال الحكم إلى المخطئ دون فضحه وإحراجه؛ إنَّما نلجأ إليه حين يكون أمر المخطئ مستوراً لا يعرفه أكثر الناس، أما إذا كان أكثر الحاضرين يعرفونه وهو يعلم بذلك، فإنَّه حينئذ قد يكون أسلوب تقريع وتوبيخ وفضح بالغ السوء والمضايقة للمخطئ، بل إنَّه ربما يتمنى لو أنَّه واجهه بخطئه ولم يستعمل معه ذلك الأسلوب، فالأسلوب غير المباشر أسلوب تربوي نافع للمخطئ ولغيره إذا استعمل بحكمة.
(3) ضعي نفسك مكان الآخر:
لا شك أنك مررت بمراحل الوظيفة التي تعيشها مرؤوساتك؛ ولذا من المهمِّ أن تضعي نفسك مكانهن فذلك أدعى للحكم الصحيح عليهن، لكن ذلك لا يعني أن يكون نسخةً مكررةً منك، ولا تقيسي الأخريات على نفسك، فمن المهم أن تستدعي الظروف التي وقع فيها أي فعل منهن، فالإنسان ليس معصوماً من الخطأ، فحينما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - أرسل إلى كفار قريش يخبرهم بنية المسلمين في التوجه إلى مكة لفتحها؛ قال له: "ما حملك يا حاطب على ما صنعت؟" قال: ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله وما غيرت ولا بدلت، أردت أن تكون لي عند القوم يدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك هناك إلا وله من يدفع الله به عن أهله وماله، قال: "صدق فلا تقولوا له إلا خيراً". فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنَّه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؛ فدعني أضرب عنقه، فقال : "يا عمر، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. [صحيح البخاري].
والفوائد التي يمكن أن نستخلصها من القصة:
* معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابي المخطئ خطأً بالغاً بقوله له: ما حملك على ما صنعت؟!
* على القائد أن يكون واسع الصدر في تحمل أخطاء مرؤوسيه ليداوموا معه على المنهج السوي فالغرض إصلاحهم لا إبعادهم.(/3)
* على القائد أن يُقدِّر لحظات الضعف البشري التي قد تمر بمن معه.
* المدافعة عمن يستحق الدفاع عنه من المخطئين.
* أن المخطئ إذا كانت له حسنات عظيمة سابقة فلابد أن تؤخذ في الاعتبار عند تقويم خطئه واتخاذ موقف منه.
(4) نعم للاقتراحات.. لا للأوامر:
النفس البشرية تنفر من الأمر المباشر، وقد تلمسين ذلك في أبنائك وأقرب الناس منك، فلا تعجبي إذا نفر مرؤوسوك من طريقة إلقاء الأمر، لذا فعليك أن تقدمي الأمر في شكل اقتراح، مثل: "ما رأيك في هذا؟، هل لك أن تفعل هذا؟" كما يمكنك أن تقدمي الأمر في شكل قرار جماعي، وقد كان من أدبه - صلى الله عليه وسلم - وحسن خلقه أنه لا يصدر أوامر مباشرة في كل أمر وفي كل حال، بل كان يدل إلى ما يريد في أدب وخلق، ومن ذلك:
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: هلك أبي وترك سبع بنات - أو تسع بنات - فتزوَّجت امرأة ثيباً فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تزوجتَ يا جابر؟" فقلت: نعم، فقال: "بكراً أم ثيباً؟" قلت: بل ثيباً، قال: "فهلا جاريةً تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك؟" فقلت له: إن عبد الله هلك وترك بنات، وإني كرهت أن أجيئهن بمثلهن فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن فقال: "بارك الله لك - أو قال: خيراً". [رواه البخاري].
وعن سليمان بن صُرَد-رضي الله عنه- قال: استبَّ رجلان عند النبي- صلى الله عليه وسلم- ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسبُّ صاحبه مغضباً قد احمرَّ وجهه، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد؛ لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". [متفق عليه].
(5) تحبيب العمل إلى نفس الآخَر:(/4)
إذا أردت من الآخر القيام بالأمر أو العمل المقترَح فعليك تحبيب هذا العمل إلى نفسه حتى يقوم به على أفضل وجه، فعلى سبيل المثال إذا أنيط بمعلِّمة مهمةُ تدريس مناهج جديدة لم يسبق لها أن درستها، فسترفض بحجَّة أنها قد اعتادت مناهجها، وفي هذه الحالة من الممكن أن تستخدمي معها طريقة: المساعدة المحنَّكة؛ بأن تحبِّبي إليها العمل بقولك لها مثلاً: إن التعرف إلى منهج جديد يعطيك فرصة للاطلاع والبحث وزيادة معرفتك بمعلومات جديدة، أو مثلاً: هناك معلِّمة جيدة بالصف الأول ولكن تخشى زيادة الجهد مع هذه المرحلة، فتحببي إليها المساعدة، بأن تجعليها مثلاً معلمةً أولى، وهكذا...
(6) عدم إحراج المخاطب:
القيادة الناجحة هي التي تحرص على مشاعر مخاطبيها، ومناداتهم بأحب الأسماء إليهم كأم فلان أو الأستاذة فلانة فذلك يقربك من قلوب مرؤوسيك ويجعلهم يعطون أفضل ما لديهم من إنتاج، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "...هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئاً - وذكروا أشياء - فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال "ما الذي تخوضون فيه؟" فأخبروه فقال: "هم الذين لا يَستَرقون ولا يتطيَّرون، وعلى ربِّهم يتوكلون"، فقام عكاشة بن محصن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم"، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: "سبقك بها عكاشة". [أخرجه البخاري].
واختلف العلماء لماذا قال له: سبقك بها عكاشة؛
أ – قال بعضهم: لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أنه منافق، والمنافق لا يدخل الجنة فضلاً عن كونه بغير حساب ولا عذاب.(/5)
ب – وقال بعضهم: بل قال ذلك حتى لا ينفتح الباب فيقوم من لا يستحق أن يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.
وعلى كل حال ليس لدينا علم يقيني بسبب عدم دعاء الرسول-صلى الله عليه وسلم- له.
لكننا نستفيد من هذا فائدة وهو الرد الجميل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لأن قوله: "سبقك بها عكاشة"، لا يجرحه ولا يحزنه.
(7) الثناء بدل الانتقاد:
المقصود بذلك امتداح المرؤوسين وبث الأمل في نفوسهم بلفت أنظارهم إلى مواهبهم المكنونة، فعلى سبيل المثال: عند وجود شكوى من إحدى المعلمات، مثل: عدم تعاونها، أو عطاؤها في العمل سلبي؛ حاولي أن تمتدحي فيها أقل الإجادة تحفيزاً لها على مواصلة الإجادة.
وانظري إلى أثر افتخار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإعجابه بما عند زيد من القرآن، فعن خارجة، عن أبيه، قال: أُتِي بي للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين مَقدَمه المدينة، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ مما أُنزل عليك سبع عشرة سورة، فقرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه ذلك، وقال: "يا زيدُ، تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمنهم على كتابي".
قال زيد: فتعلمته، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، وكنت أكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كتب إليهم. فكان زيد بن ثابت بعد ذلك يلقَّب بـ: الإمام الكبير، وشيخ المقرئين، ومفتي المدينة، وكاتب الوحي. (كل هذا بسبب تشجيع المهارات).
(8) احتفظي بهدوئك:(/6)
الغضب أكثر أسباب القرارات الخاطئة، وأياً كان خطأ مرؤوسيك فيجب ألا يخرجك عن طورك، لأن ذلك بداية الطريق نحو معالجة الأخطاء بأخطاء أخرى، فإذا أخطأ الآخر فلا تضخِّمي الأمور وكأن ما فعله غلطة لا تُغتفَر، وأنه بسبب هذه الغلطة قد تُفقَد الثقة به تماماً فلا توليه أمراً ذا أهمية، وإنما الصحيح أن تعطيه فرصة لإصلاح الخطأ، وأنك مازلت تثقين بمقدرته على العطاء والإبداع والإنتاج؛ لأن من يعتاد كلمات التحطيم والإذلال والمهانة يستمر على الخطأ ويحطم كل دافع قد يدفعه إلى التحسن والإجادة.
ومثال ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد: فعن أنس بن مالك قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْ مَهْ"، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُزرموه دعوه"، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له : "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن"، فأمر رجلاً من القوم فجاء بدَلو من ماء فشنَّه عليه. [صحيح مسلم].
لقد تحمس الصحابة - رضوان الله عليهم - لإنكار المنكر حرصاً على طهارة مسجدهم، وروايات الحديث تدلُّ على ذلك، ومنها:
"فصاح به الناس"، "فثار إليه الناس"، "فزجره الناس"، "فأسرع إليه الناس"، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "مَهْ مَهْ".
ولكن أسلوبه - صلى الله عليه وسلم - في المعالجة أحدث أثراً بالغاً في نفس ذلك الأعرابي، يتضح من عبارته كما جاء في رواية ابن ماجه: "فقال الأعرابي بعد أن فَقِه: فقام إليَّ بأبي وأمي فلم يؤنِّب ولم يسبَّ فقال: "إن هذا المسجدَ لا يُبال فيه..." [صحيح ابن ماجه].(/7)
فعلينا أن نتعلَّم من رأفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسن خلقه، فالرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف - إذا لم يكن ذلك منه عِناداً - أمر مهم وضروري.
لكي تنتفعي بهذه القواعد:
* أوجدي في نفسك رغبة قوية وعميقة في زيادة مقدرتك على معاملة مرؤوسيك.
* اقرئي كل قاعدة مرة أو مرتين واسألي نفسك: كيف يمكن تطبيقها؟
* راجعي هذه القواعد كل شهر مرة على الأقل.
* طبقي هذه المبادئ في كل مناسبة، واتخذيها مرجعاً عملياً يساعدك على حل مشكلاتك الشخصية.
* راجعي نفسك كل أسبوع فيما جنيت أو خسرت من خلال التقويم الذاتي.(/8)
العنوان: جائزةُ الغباء الكبرى
رقم المقالة: 1494
صاحب المقالة: هيثم الكناني
-----------------------------------------
الغباءُ أنواعٌ؛ فمنه ما يكون حسابياً، ومنه ما يكون عاطفياً، ومنه ما يكون اجتماعياً، ومنه ما يكون سياسياً.. إلى غير ذلك. وكما تتعدد أنواعُ الغباء في مجالات شتى، تتعدد مستوياتُ الغباء ودرجاته كذلك.
بعضُ أنواع الغباء ربما لا يكون لصاحبه دورٌ فيه، إذ يكون مركوزاً في أصل خلقته، أو يكون نتيجةً لإساءة تربيته؛ فمِن الناس مَن لا تؤهله قدراتُه العقلية أن يتعامل مع الأرقام ولو بحسابات يسيرة، في حين إنك قد تراه مبدعاً في مجال الآداب مثلاً؛ وهناك من يخفق في إقامة علاقات عادية مع من حوله بسبب أخطاء في تربيته كانت تَحُولُ بينه وبين الاختلاط بالمجتمع في سني طفولته المبكرة، مع أنك قد تراه مبدعاً في دراسته.
ومما لا شك فيه أنه مع تعدد أنواع الغباء فإنَّ أشدَّ أنواعه ما يكون أكثر ضرراً على صاحبه أو مَن حوله.
منذ سنوات قلائل ابتدع البعضُ "جائزة أغبى شخص في العالم"، وهي جائزة مبتكرة؛ فالناس قد اعتادوا جوائز التفوق الحقيقي التي ينالها الأفضل لا الأسوأ، ولم يعتادوا مثل هذا النوع من الجوائز الذي لن يسعى أي عاقل للفوز به بكل تأكيد!
ويعجب المرء عندما يكتشف أن زعيماً سياسياً، ورئيسَ دولةٍ منتخبًا من قِبل الشعب ليتخذ في حقه قراراتٍ مصيرية، يفوز بهذه الجائزة، ويزداد العجب عندما يحصل هذا الرجل على هذا اللقب بجدارة لعامين متتاليين! لكن العجب يتحول إلى جزع، عندما تكون قراراتُ هذا الرئيس لا تؤثر في دولته وشعبه فحسب، بل تؤثر في كل شعوب الأرض؛ لأنه رئيسٌ لدولة عظمى، يمكنه في لحظة تَجَلٍّ -انتشاءً بهذه الجائزة!- أن يُشعِل الكوكب كله بحركة واحدة، وهذا بلا ريب مظهر صارخ من مظاهر الغباء!(/1)
نحن نختلف مع منظمي هذه الجائزة، فبرغم أن المسوِّغات التي ساقوها تبدو مقنعة إلى حد كبير في اختيار الأغبى في العالم، إلا أن مقاييسهم تختلف عن مقاييسنا؛ نحن المسلمين الموحدين.
إن إضرار المرء بنفسه في حاضره ومستقبله -مع علمه بذلك تمام العلم- نوعٌ قبيح من أنواع الغباء، وكلما ازداد هذا الضررُ كماً وكيفاً وامتداداً في الزمن، ارتقى صاحبُه في سلم الغباء درجات.
في عقيدتنا، نجدُ أعظمَ الضرر كماً وكيفاً، أن يُعرِّض المرءُ نفسَه لما أنذر الله عباده إذ قال: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، وأعظم الضرر امتداداً في الزمن، هو ما كان بلا نهاية أبد الآباد. ويجتمع هذا الضرر في الكم، والكيف، والامتداد غير المتناهي في الزمن، لمن يكفر بالله عز وجل بعد أن يتبين له الحق، كمن قال تعالى في حقهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، فلمثل هؤلاء قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 64-65].
إن أعظم الخلق غباء، هو من يبيع نعيماً أبدياً في جنة عرضها السماوات والأرض، بعذاب أبدي سرمدي في أضيق مكان، وكلُّ ذلك من أجل نعيم زائل على هذه الأرض الفانية، نعيم لا يخلو -مهما عظم- من الشوائب والكدر، وأهل الحساب يقولون: إن أي عدد مهما كبر لو نُسب إلى (ما لا نهاية) فإن المحصلة تكون صفراً، فهؤلاء الذين يبيعون نعيم حياتهم الذي لا ينفد، بنعيم حياتهم المحدودة في الدنيا، لو لم يكن عليهم بعدها من تبعة لكانوا إنما يبيعونه بلا شيء، فكيف إن كان عليهم من التبعة ما عليهم؟ ذلك هو الخسران المبين!(/2)
فجائزة الغباء المطلق الكبرى هي بلا شك منحصرة في هؤلاء، وهو غباء مستحكم لا شفاء منه؛ لأنهم بعد أن يعاينوا عذاب الله -سبحانه وتعالى- يوم القيامة يقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]!
ولطالما أثار دهشتي واستغرابي مواقفُ بعض هؤلاء، وأخص بالذكر منهم ثلاثةً؛ أما الأول فهو النمروذ الذي حاجَّ إبراهيم -عليه السلام- في ربه عز وجل، فادعى -لظلمه وتجبره وملكه مشارقَ الأرض ومغاربها أربعمائة سنة- أنه هو الإله وأنه لا إله غيره!
وأما الثاني فهو على نفس خُطا صاحبه يَسِيرُ، وأعني به فرعون الذي قال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، ولا أكاد أعرف مِن أهل الأرض مَن هو أغبى منهما؛ فأن يصل الغباء بالإنسان إلى أن يكفر بخالق السماوات والأرض؛ هذا شيءٌ، وأن يدعي أنه هو الإلهُ، وهو الخالق مع ما يرى من عجز نفسه وافتقارها لغيرها؛ شيءٌ آخر!
إن كلاً من الرجلين يعلم علم اليقين أنه كان طفلاً لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء، وأنه كان يجوع، فيبكي طلباً للطعام، ويُجرح، فيبكي من الألم، ويشتكي، فيبكي من السقم، إن كلاً منهما يعلم أن كل ملكه وسلطانه وجبروته لا يدفع حاجته -بعد أن يشرب أو يأكل- إلى الخروج للخلاء في اليوم مرة أو مرتين، لا فرق في ذلك بينه وبين سائر الحيوان، فأي إله هذا؟!(/3)
وقد أخبرنا الله عز وجل عن غباء الرجلين فقال عن الأول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، فقد أتاه عليه السلام بدليل على وجود الله سبحانه وتعالى، وهو ما يراه كل صاحب عينين من آثار قدرة الله ومشيئته في إحياء الخلق وإماتتهم، فهذا لا يكون إلا من فاعل قادر مختار، فَلَجَّ النمروذ في الجدال وادعى أنه هو الذي يحيي ويميت[1]، فانتقل إبراهيم عليه السلام إلى حجة أظهر من الأولى، إذ قال له: إن الذي يحيي ويميت حقاً، هو ربي وربك، وهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، فإن كنت تزعم أنك أنت هذا الرب فأت بالشمس من المغرب، فبهت النمروذ وأسقط في يده، ولكن منعه كبره وغباؤه من الإيمان!(/4)
وأما الثاني فكان أفجرَ في الخصومة، وأعرقَ في الغباء، فلم يقرّ بعجزه وإفلاسه مع ما رأى من الآيات البينات والحجج الباهرات، إلى أن أحاط به اليمُّ من جميع الجهات؛ قال الله: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، وإن كان للمرء أن يعجب، فمِن إلهٍ دَعِيٍّ يقول لمن حوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ويقول لمن لا ينقاد لعبادته: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] ثم هو بعد ذلك يطلب ممن ينكر ألوهيته وربوبيته ويدعي أنها لغيره أن يأتيه بدليل على دعواه، لا على سبيل التحدي المحكوم على من يقبله بالعجز والإخفاق كما قال الله سبحانه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]، بل على سبيل الطلب الحقيقي!
ولهذا لما قال له موسى عليه السلام: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 30]، أي على وجود الله وأنه عليه السلام رسول الله، قال اللعين: {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:31]، قال الله جل وعلا: {فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى} [النازعات:20، 21]، وقد أخبر ربنا عن بقية القصة فقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}! [غافر:36-37]، أي: وإني لأظنّ موسى كاذباً فيما يقول ويدّعي من أن له في السماء رباً أرسله إلينا[2].(/5)
فعجباً لإله يشكُّ في ألوهيته وربوبيته، ويريد أن يتيقن من كذب من يدعي ألوهية وربوبية غيره! وهذا بالتأكيد مظهر من مظاهر الغباء المنقطع النظير، وليس بأقلَّ منه غباءً مَنْ أطاعوه؛ قال الله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف :54]، فحق عليه وعليهم قول ربنا: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98].
وأما ثالثُ الثلاثة، فهو مقدم أهل النار وزعيمهم؛ أعني به من خاطبه ربنا بقوله: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء:63]، ذلك أنه كان واحداً من أهل العالم العلوي، وكان يعبد الله عز وجل، ويطّلع على ملكوت السماوات، ويشاهد قدرة الله عز وجل عياناً، وبرغم كونه من الجن إلا أنه كان يكون في صحبة الملائكة، حتى إن الله عز وجل لما أمر الملائكة بالسجود لآدم كان معهم وكان مخاطَباً بأمر الله، كما قال تعالى: {ثمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:11-12]، ثم إن الله عز وجل قد تفضل عليه بعدم أخذه بذنبه في الامتناع عن السجود، ثم بخطابه وسؤاله عما منعه من السجود، وكانت هذه فرصة للعاصي كي يتوب كما تاب آدم عليه السلام، لكنه تمادى في غيه وأصر على باطله، فقال معترضاً على إرادة ربه وحكمة خالقه: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فقاس الغبي قياساً لا أفسد منه، إذ هو أولاً قياس في مقابلة نص مباشر من الله سبحانه وتعالى لا يحتمل التأويل، ثم هو ثانياً مبني على باطل، فالطين من شأنه الرزانة والحلم، والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو، والزيادة والإصلاح. والنار من شأنها الإحراق، والطيش والسرعة، ولهذا خان(/6)
إبليسَ عنصرُه، ونفع آدمَ عنصرُه[3].
فكان العقاب الأول، بأن طُرد الشقي من الجنة: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13]، ثم إنه قد تمادى في غبائه فقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62]، فقد ظهر لعدو نفسه فساد قياسه، وأن الله سبحانه وتعالى قد كرم آدم عليه إذ خلقه بيده، فكان من البدهي أن يعود ويسلِّم لحكم الله، وتفضيله من شاء على من شاء، لكنه أصر على ضلاله، ومع علمه بعاقبة عصيانه الوخيمة وأن الله سبحانه وتعالى لن يفلته، فإنه -يا للعجب-لم يطلب لنفسه النجاة من العذاب بل طلب فقط المهلة والإنظار!
فأجابه سبحانه وتعالى لما طلب، فكان العقاب الثاني: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18].
وكل هذا من أجل ماذا؟ من أجل حقد اللعين على أبينا آدم عليه السلام، ولكي يملأ الشقي نار جهنم مِن ذريةِ مَن فضَّله الله عليه حسداً من عند نفسه، أترى يُغني هذا عنه من عذاب الله من شيء؟!
قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} فبئس الخطيب هو!
قال تعالى في تتمة الآية: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].(/7)
إن العقل لا يستطيع أن يتصور مخلوقاً أغبى من هذا، يتلقى الخطاب من الله، ويسأله ويجيبه، ثم هو يكفر به مع علمه أنه لا مفر له من عذابه! فهو أكثر من يستحق جائزة الأغبى في العالم، بل هو يستحقها بلا منازع إلى يوم الدين، ثم يأتي من بعده فرعون فالنمروذ، ثم كل متكبر مدع للألوهية أو الربوبية بلسان مقاله أو لسان حاله.
أما صاحب الجائزة المبتكرة لدورتين متتاليتين، فإنه غير بعيد عن هذه الدعوى، فيوشك إن بقي على حاله أن يتبوأ موقعاً متقدماً في المرشحين لهذه الجائزة وفق معاييرنا نحن المسلمين، فضلاً عن معايير بني جنسه!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هذا اختيار ابن كثير، خلافاً لمن قال: إنه أتى برجلين قد حكم عليهما بالقتل، فقتل الأول وعفا عن الثاني.
[2] ينظر تفسير الطبري للآية.
[3] ينظر تفسير ابن كثير.(/8)
العنوان: جاد الله القرآني والزُّولو؛ في دارفور
رقم المقالة: 799
صاحب المقالة: د. حيدر عيدروس علي
-----------------------------------------
جاد الله القرآني والزُّولو[1]؛ في دارفور
لا شك أن أيَّ مسلم يفرح بدخول غير المسلمين في دين الله الإسلام، وهذا أمرٌ جِبِلِّيّ في بني آدم؛ فالنصراني يفرح بدخول غيره في دينه، وهو ما ينطبق على معتنقِ كلِّ مِلَّةٍ ونِحْلَة، وشذ اليهود، فخالفوا هذه الجِبِلِّيَّة، فمن تحريفهم في دين الله ربطوا الدين بالعِرق.
وقد تناولتْ بعض مواقع الشبكة الأثيرية العربية - بفرح ساذَج - قصة الداعية الفرنسي المسلم المدعو (جاد الله القرآني)، الذي ترك اليهودية، واعتنق الإسلام؛ بعد معاملة كريمة تلقاها من إبراهيم التركي، الذي كان يعمل في محل لبيع المواد الغذائية في فرنسا.
ثم ذكرت هذه الوسائل أن جاد الله ترك فرنسا - حيث الحياة السهلة والعيش الرغيد - وذهب إلى إفريقيا - حيث الأحراش والوحوش - يدعو عباد الله إلى دين الإسلام، فدخل بدعوته ما يزيد عن ستة ملايين من قبيلة الزولو! دون سواها من القبائل الأخرى، التي أهملتْ ذكرَها هذه الرواية، وعاش جاد الله هناك يدعو إلى الإسلام، إلى أن أصيب بداء عياياء، لا يوجد إلا في القارة المسكينة السمراء، ومع ذلك فلا يُعرَف له فيها دواء!!
ثم صورت الدراما التراجيدية القصة كلها في فيلم سينمائي، ذكرت فيه رجوع جاد الله مرة أخرى إلى فرنسا، ليبحث عن علاج المرض الإفريقي؛ إذ لم يجده في إفريقيا المسكينة؛ التي يموت أهلها من الأوبئة بالمئات، ولا باكي لهم، فإذا حدث صراع فيما بينهم أججه بائعو السلاح، ليجربوه فيهم، ثم يذرفون عليهم دموع التماسيح، ويتنادون ليقضوا على القوي فيهم، حتى يصبح الضعيف سهل القياد!(/1)
وذكر الراوي أن جاد الله القرآني مات في بلاده فرنسا، عن عمر ناف قليلاً على الخمسين عاماً، أمضى جلها في الدعوة إلى الله تعالى. وفات راوي التراجيديا أن يعرض مأساة الإنسان الإفريقي في الحصول على الدواء، فضلاً عن الحصول على استقلال الإرادة، ذلك الإنسان الذي لو تركه المستعمرون للأمراض والبؤس والشقاء؛ لكان ذلك أرحم به مما يراد له من استعمار حديث؛ بعد أن ذاق أجدادُه شر ألوان العذاب، مما لا تحتمله الأنعام، وسائر الدواب، في أبشع صور المعاملة، على يد قادة وأفراد الاستعمار القديم، فليت أحفاد السود في أمريكا وأوروبا يعلمون ذلك، ولعل كبار السن فيهم ما زالوا يتجرعون مرارة التفرقة العنصرية في المرافق العامة، مما لم يفعله آل فرعون في رعيتهم، وفوق كل ذلك فليت أهلي يدركون ما يراد بهم.
وبعد أن صورت الدراما - بخيالها الغبي - دخولَ الملايين في دين الإسلام بفضل الجهود المزعومة لجاد الله القرآني؛ ذكرت أن أحد أبناء دارفور - من شيوخ قبيلة الزولو – كان من بين هذه الملايين، وقد التقى بالدكتور صفوت حجازي في لندن، أثناء انعقاد مؤتمر دعوي، بقصد تقديم مساعدات إنسانية لمسلمي دارفور، لمواجهة الجهود الجبارة التي تقوم بها جهات تنصيرية، باسم خدمة الإنسانية، ورعاية حقوق الإنسان!
إن وجود جماعة مسلمة تتنادى لخدمة سكان دارفور، في هذه الظروف الحرجة؛ لهو أمر يفرح له المسلم بصفة عامة، والمسلم السوداني بصفة خاصة؛ ويسره جداً وجود مثل هذه الجماعة، التي تحمل الهم الإسلامي - إذا كان ذلك حقاً - أما إذا كان ذلك من قبيل العمل الدرامي المجرد؛ فهو أمر ينبغي أن يخضع للدراسة.
فقد تميز الإسلام - وهو دين الله الخاتم - بالعصمة من التحريف والتبديل، خلافاً لما حدث في دين اليهود، ودين النصارى، إذ قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].(/2)
وتبعاً لقضاء الله بهذا الحفظ؛ فقد قامت مناهج المسلمين لتمحيص الأخبار، وتحريهم في قبولها ورفضها. فإذا جاءهم مخبر بخبر تبينوا صحة ما قال؛ فإن وجدوا دعائم الصدق واضحة في نقله قبلوا ذلك، وإن رأوا دلائل الكذب في قوله نبذوه وراء ظهورهم، وكانت جهودهم في ذلك مثار إعجاب القلة من أهل الإنصاف من المستشرقين.
وما أريد الإشارة إليه - في هذه القصة - هو وجود بعض الأمور، التي تدل على زيادات غير صحيحة، في قصة جاد الله القرآني؛ إذا سلمنا بواقعية أصلها، وسلمنا بوجود جاد الله نفسه..!!
ومن هذه الأمور:
لماذا ستة ملايين من قبيلة الزولو وحدها؟
وأين أعداد المسلمين الجدد من القبائل الأخرى، مِن الذين استقطبهم جاد الله القرآني، وكان سبباً في دخولهم الإسلام؟
وهل انحصرت جهود جاد الله القرآني في قبيلة الزولو فقط؟!
ما أرى في ذلك إلا المبالغة المتعمدة، من أجل الإثارة الإعلامية، التي هي من روافد الكذب المحض. وعلاوة على ذلك فقبيلة الزولو أصلها في جنوب إفريقيا، ولم يمتد وجودها إلى الشمال من خط الاستواء!(/3)
ولما كنت من أبناء السودان، وتربطني وشائج قوية بكثير من أهل دارفور، وكثير من أهل جنوب السودان؛ فإنني أعلم يقيناً - ويعلم غيري من أبناء السودان - أن قبيلة الزولو لا وجود لها في جنوب السودان، فضلاً عن دارفور! فالزولو قبيلة من مجموعة القبائل الناطقة بلغة البانتو التي تختلف لهجاتها باختلاف قبائلها. وفي جنوب السودان قبائلُ أخرى - غير الزولو - من القبائل المنتمية لهذه المجموعة، ويوجد فيهم كثير من المسلمين، ممن اعتنقوا الإسلام قبل مئات السنين، وإذا علمنا أن الزولو لا وجود لهم في جنوب السودان؛ فكيف يُعقَل أنهم رحلوا إلى الشمال ليستقروا في دارفور، التي لا يوجد بين سكانها من غير المسلمين أحد، إلا نفر قليل من الذين خرجوا عن الإسلام؛ ممن غررت بهم الماركسية اللينينية الهالكة المندحرة، نسأل الله أن يردهم إلى الحق، أو أن يخرج من أصلابهم من ينشأ في الحق؟!
فإذا كان ذلك كذلك؛ فكيف نعقل أن شيخا يرأس قبيلة كاملة من قبائل دارفور المسلمة، يُسْلم على يد جاد الله القرآني؟!
وإذا كانت قصة جاد الله القرآني قصة واقعية؛ فكان من الأحرى أن يلتزم القائمون على عرضها في دور العرض السينمائية أن يتحروا الصدق في معلوماتهم، ويحترموا عقول المتلقين، وألا يلبسوا الحق فيها بالباطل؛ حتى لا تكون أسطورة من الأساطير.
وفوق كل ذلك، فهل رصدت منظمة الدعوة الإسلامية، أو لجنة إفريقيا بالندوة العالمية للشباب الإسلامي، أو الدكتور عبد الرحمن السميط، أو غيرهم من المهتمين بالدعوة في إفريقيا، هذه الجهود الجبارة؟
أما إذا كانت هذه القصة من بنات الخيال، وكان الدكتور صفوت حجازي من ورائها؛ فليعلم أنه قد ارتكب خطأ فاحشاً، لا يليق بالدعاة إلى الإسلام؛ فيجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى منه، خاصة أنه معدود في الدعاة إلى الإسلام؛ إن صدقت المصادر.(/4)
وليعلم الدكتور صفوت حجازي - وغيره - أن المسلمين إذا شكُّوا في حديثِ من يحدثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم - أخضعوا قوله للتمحيص والنقد؛ فإن صح قبلوه، وإن طاش في الميزان أسقطوه، وأسقطوا معه راويه. فهذا يعلى بن الأشدق العُقَيلي - وكان من الفقراء الذين يتكففون الناس - جاء يحدث الناس، عن عبد الله بن جراد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأحاديث سبعة، فقبلوها منه على الظن، فلما أعجبه سكوتهم عنها، جعلها عشرة أحاديث، ثم تمادى فجعلها عشرين، ثم أربعين!! فأسقطها نُقَّاد الحديث كلَّها، وأسقطوا معها راويها يعلى بن الأشدق من دواوين الرواة العدول الصادقين، إلى يوم الدين[2]. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
ــــــــــــــــــــــــ
[1] الزولو: اسم قبيلة افريقية تعيش الآن في جنوب إفريقيا، وتشترك في اللسان مع غيرها من القبائل في بلادٍ إفريقيةٍ أخرى.
[2] انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي (9/303).(/5)
العنوان: جاذبيتك.. تبدأ من تفكيرك
رقم المقالة: 783
صاحب المقالة: إبراهيم الديب
-----------------------------------------
الجاذبية والإحساس بالحب والاحترام وتقدير الآخرين حلم كل امرأة، وهو شغلها الشاغل واهتمامها الدائم، فإذا ما تحقق وشعرت بذلك امتلكتها السعادة والأمان، وتفجرت فيها كل معاني الحب والعطاء بلا حدود.
والجاذبية: هي القدرة على لفت النظر، والاستحواذ على انتباه الآخرين، ومن ثَمَّ قلوبهم وعقولهم، ولكي تتحقق الجاذبية هناك سبع خطوات أساسية:
• الإنجاز والنجاح والتميز والإبداع.
• بلوغ قدر الجمال والكمال الخَلْقي والخُلُقي والمعرفي.
• الإتقان والدقة والجودة والتميز.
• الإخلاص والمصداقية.
• المناسبة والمواءمة.
• المرونة والقدرة الدائمة على التطور والابتكار.
• الشمول والتوازن.
وذلك ما أكده الفلاسفة، فقد قال سقراط: جمال بلا فضيلة زهرة بلا عبير. وقال راجي الراعي: الجمال (الخُلُق والخِلقة والمعرفة)، وهو هذه القوة الغامضة التي تطالعنا في منظرٍ ما، فتثير فينا انفعالاً يستولي على النفس ويخلق فيها حالة من النشوة والارتياح، ومن ثم الميل والجاذبية التلقائية له.
وهذا ما نظمه الشعراء وقرره الحكماء وجرت عليه ألسنة الناس، قال الشاعر:
لَيْسَ الْجَمَالُ بِمِئْزَرٍ فَاعْلَمْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْداً
إِنَّ الْجَمَالَ مَعَادِنٌ وَمَنَاقِبٌ أَوْرَثْنَ مَجْداً
وجمال المرآة وإبداعها وجاذبيتها لابد أن تتنوع أدواته ووسائله، حتى يستمر هذا الجمال وتدوم هذه الجاذبية، فلا يؤثِّر فيها تقدم سن، ولا ترهل جسد، ولا تنوع وسخونة المنافسات الخارجية، وإنما تمنحها إدارة الذات ونضج العقل وسعة الأفق وجمال النفس والروح والخلق جاذبيةً وجمالاً يوماً بعد يوم.(/1)
ويبلغ الجمال والإبداع قمته والجاذبية ذروتها عندما تجتمع كل هذه الأدوات؛ لتعزف على القلوب والعقول سيمفونية عذبة من الجاذبية المتجددة والمتألقة والمحلقة في السماء عالية سامية، تخطف أبصار وآذان وقلوب وعقول المحيطين بها، وتمتد إشراقات الروح لتجدد من ذاتها أدوات ديمومة جاذبيتها.
ولبلوغ هذا الجمال والكمال والإبداع والجاذبية لابد من: فهم وإدراك وتخطيط وتنفيذ ومتابعة وترقي.
أنت وقدرتك على إدارة وتطوير ذاتك
مسلسل ... الاهتمامات والأفكار والسلوكيات ... قليلاً ... أحياناً ... دائما ً
1 ... أهتم كثيراً بكسب حب وود واحترام وتقدير المحيطين، من خلال طريقة تفكيري، واهتماماتي وسلوكياتي المميزة. ... ... ...
2 ... أنشغل كثيراً بأهمية تطوير ذاتي ورفع كفاءتي الشخصية في مجالات: الدراسة، والعمل، والعلاقات الاجتماعية، ومواهبي الخاصة. ... ... ...
3 ... أعرف قائمة مواهبي وميولي الخاصة، وأحددها بدقة وترتيب. ... ... ...
4 ... أركز اهتمامي بالنظر إلى الناجحات، وصاحبات الصف الأول، والتميز في المجتمع وفي شتى مجالات المرأة. ... ... ...
5 ... كثيراً ما أحلم بأن أكون سيدة أولى في المجتمع، إصلاحية أو فنية أو علمية أو ثقافية. ... ... ...
6 ... لا أرضى مطلقاً بالأمر الواقع، وأكره بشدة شعار: ليس في الإمكان أفضل مما كان. ... ... ...
7 ... أحب التعلُّم من الأخريات، بأن أجمع أسباب نجاحهن وفشلهن، وأستفيد منهن، لكني لا أرضي مطلقاً التقليد فقط لمجرد التقليد. ... ... ...
8 ... لا أحب الفشل وأخشاه كثيراً، ويدفعني ذلك الخوف إلى العمل المستمر والنشاط الدؤوب للتغلب عليه وتحقيق النجاح. ... ... ...
9 ... لدي اهتمامات متعددة، حول زوجي وأبنائي ودراستي وعملي وأهلي ومجتمعي، لكنها لا تشغلني عن الاهتمام الخاص بتطوير ذاتي. ... ... ...
10 ... لدي جدول أعمال يومي، أستخلصه من خطتي الشهرية والسنوية. ... ... ...(/2)
عندما تضعين أكبر عدد من العلامات- من 7 إلى 8- في المربع (دائماً)، فأنت أقرب كثيراً إلى النجاح والتميز، خاصةً بعد الأخذ بالأسباب العملية التالية، وعندما تختيارين عدداً كبيراً في العمودين: الأول والثاني؛ فيعني ذلك حاجتك الملحة لدراسة الموضوع التالي بتأنٍ وعناية.
• حقيقة إدارة وتطوير الذات في حياة المرأة المعاصرة:
إدارة الذات هي: القدرة على فهم واستثمار وتوجيه القدرات الذهنية، والنفسية، والعاطفية، والمادية- ما تمتلكه من إمكانيات وموارد، والتي تختلف من إنسان لآخر- نحو الأهداف التي تصبو إلى تحقيقها، فالذات إذن هي ما يملكه الشخص من موارد وقدرات، وإداراتها تعني: استثمار ذلك كله الاستثمار الأمثل في تحقيق الأهداف والآمال، وهذه القدرات على ثلاثة أشكال:
الأولى: موجودة بالفطرة بوصفها منحة من الله تعالى، وبصورة بارزة وجيدة ومتميزة، وهذا ما يُطلق عليه الموهبة.
الثانية: موجودة بالفطرة بوصفها منحة من الله تعالى أيضاً؛ ولكنها عادية ومحدودة، ليس فيها نبوغ ولا تميز، مما يعني أنها تحتاج لصقل وتنمية.
ويؤيد ذلك علماء النفس فيقولون: إن كل إنسان يولد وفي تكوينه بذور النبوغ والعبقرية، والكفاءة والفاعلية في أحد أو بعض المجالات، ويتوقف نمو هذه البذور أو موتها على نوع التربية والرعاية التي يتلقاها الإنسان من أسرته وبيئته ومجتمعه.
الثالثة: غير موجودة ولكنها يمكن اكتسابها بالحصول على المعارف الخاصة بها، وبالتدرب عليها ومن ثم اكتسابها، وهذا ما يطلق عليه: الموهبة بالممارسة والمران لفنون الكفاءة والفاعلية.
وإدارة الذات تعني أولاً التعرف الدقيق على هذه الموارد والمواهب الخاصة الموجودة لديكِ، بالإضافة إلى العمل على تنميتها واستثمارها وتفعيلها جيداً، يمنحك الكثير من النجاحات والإنجازات التي تُكسبكِ مكانةً متميزةً ومرموقةً في المجتمع، ومن ثم الجاذبية والاحترام والتقدير من الجميع.(/3)
وتكون ترجمة إدارة وتطوير الذات على هيئة برامج عملية تجيبك عن الأسئلة التالية- بمعنى كيف تكتسبين هذه المهارات وتحققين هذه الأشياء المهمة في حياتك؟- والأسئلة هي:
- كيف تحددين أهدافك؟
- كيف تنظمين وقتك؟
- كيف تسيطرين على ذاتك؟
- كيف تكتسبين الثقة بنفسك؟
- كيف تتقنين فن التركيز؟
- كيف تفكرين بطريقة صحيحة؟
- كيف تتخذين قرارك؟
- كيف تقوين ذاكرتك؟
- كيف تحافظين على صحتك؟
- كيف تَكسبين الآخرين؟ وكيف تقيمين معهم علاقات ناجحة؟
- كيف تفهمين الشخصيات التي تتعاملين معها؟
- كيف تتعاملين مع كل نمط من الأنماط الشخصية المختلفة بما يناسبه أو يناسبها ويضمن تحقيق أهدافك في العلاقة معه أو معها؟
- كيف تديرين عملك؟
- كيف تديرين أموالك ؟
- كيف تديرين عواطفك ومشاعرك؟
- كيف تديرين العلاقة مع زوجك وأبنائك؟
- كيف تديرين اجتماعاتك؟
- كيف تتعاملين مع المشكلات والتحديات التي تواجهك؟
- كيف ترفعين إنتاجيتك؟
- كيف تتقنين فن التفاوض؟
- كيف تخططين لعملك؟
- كيف تطورين عملك وتضعين لك رؤية مستقبلية؟
وهكذا "كيف" لسلسة ممتدة من المعارف، والمهارات العصرية اللازمة لتنمية قدرتك على الفعل، والتحول من ميادين: الخيال، والتمني، والنظرية، إلى ميادين: الفعل، والإنجاز.
وغير ذلك من فنون إدارة الذات التي تمنحك النجاحات المتعددة، على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي.
وما من شك في أن هذا هو المفتاح الأساسي لكل امرأة ناجحة، تتربع على قمة مجالات الحياة المتنوعة، من مديرة ناجحة، وسيدة أعمال متفوقة ومرموقة، إلى إعلامية متميزة، وكذلك مربية وداعية مُؤثِّرة.
• الطريق إلى الإدارة والتطوير الأمثل للذات:
ويتحقق ذلك عبر ثلاثة محاور:(/4)
1 - محور الأفكار والمفاهيم: عبر تكوين تصور علمي شامل عن عملية إدارة وتطوير الذات، من خلال الفهم الصحيح للعوالم الثلاثة التي تعيشين فيها، وهي: (الذات، العالم المحيط بنا، أدوات ومهارات الفعل والتطوير والإنجاز).
2 - محور المهارات والتطبيق: بامتلاك منظومة معرفية ومهارية عصرية متكاملة لإدارة وتطوير الذات.
3 - المحور الثالث: تجارِب ونماذج عَمَليَّة لفتيات، وسيدات ناجحات في مجالات متعددة.
• الفهم والتعرف الجيد على العوالم الثلاثة:
(الذات، العالم المحيط بنا، أدوات ومهارات الفعل والتطوير والإنجاز).
• تنظيم وتبويب العناصر الأساسية لإدارة وتطوير الذات:
ويمكن تنظيم وتبويب العناصر الأساسية لإدارة وتطوير الذات في هذه العناصر السبعة، والتي تعد أدوات ووسائل عصرية تمتلكها المرأة؛ فتعزز قدرتها على التطور والفعل الصحيح المؤثر.
• البرامج السبعة لإدارة الذات:
1- إدارة الوقت.
2- إدارة التغيير الشخصي (نفسي، أخلاقي، اجتماعي).
3- إدارة وتطوير العقل (المحافظة على العقل وتقويته والتفكير الموضوعي والابتكاري المتجدد).
4 - إدارة المواهب والقدرات الخاصة.
5 - إدارة المعرفة (المعارف والثقافة العامة والخاصة).
6 - إدارة المستقبل (الخاص والعام).
7 - إدارة الأزمات والتحديات الخاصة.(/5)
العنوان: جدول عملي للمرأة في رمضان
رقم المقالة: 1207
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أختي المسلمة، ها قد أَظَلَّنا شهر فضيل لطالما انتظرناه، شهر الرحمة، والغفران، والعتق من النار، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، ونحن ها هنا نقدم لك برنامجًا مُقْتَرحًا؛ لتقسيم وقتَكِ في هذا الشهر الفضيل.. ونتمنى من الله تعالى أن يعيننا وإياكِ على فعل الخير، وأن يعيده علينا جميعًا بموفور الصِّحَّة والعافية، وأن نكون من عتقائه.
و حتى لا يذهب وقتكِ سُدًى في هذه الأيام الفضيلة، فتضيع ساعات السحور والغروب المباركة في إعداد الطعام وما شابه ذلك، فإليكِ عددًا من الأمور التي يجب أن تَتَنَبَّهي لها؛ حتى خلال قيامك بأعمالك اليومية المعتادة أيًّا كانت، وفي هذا الشهر الفضيل بشكل خاص..
الأولى: استحضار النية والإخلاص في إعداد الفطور، والسحور، واحتساب التعب، والإرهاق، فى إعدادها عند الله تعالى، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر فمنا الصائم، ومنا المفطر قال: فنزلنا يَوْمًا مَنْزِلاً حارًّا، وأَكْثَرُنَا ظِلاًّ صَاحِبُ الْكِسَاءِ، ومنا من يَتَّقِى الشمس بيده قال: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةِ وَسَقَوْا الرِّكَابَ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ)). فبذلك - أختي المسلمة - تكوني قد أخذت أجر صيامك؛ ناهيك عن أجر القائم على الصائم. فيمكنك استغلال هذه الساعات في الغنيمة الباردة وهى كثرة الذكر والتسبيح والاستغفار والدعاء وأنت تعملين، فبدلاً من أن يضيع الوقت في رمضان بدون فائدة، فإنها تجمع بين الحسنيين: استحضار النية؛ وكثرة الذكر. والدعاء خلال العمل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(/1)
الثانية: الاستماع للقرآن والمحاضرات عبر جهاز التسجيل الخاص بالمطبخ: وأقول الخاص بالمطبخ؛ لأحث الرجال، والإخوان على الحرص على توفير جهاز تسجيل خاص بالمطبخ، لماذا؟ لأن المرأة تقضي كثيرًا من وقتها في المطبخ، فلعلها أن تستغل هذا الوقت في مثل هذه الأمور تارة باستماع شريط، وتارة بالتسبيح والتهليل والتحميد، وأيضاً بالاحتساب واستحضار النية الخالصة في إطعامها، وعملها، وتعبها لها، ولأولادها، وزوجها.
الثالثة: شراء ملابس وحاجيات العيد في رمضان: فلا بأس من ذلك لاستغلال أيام وليالي رمضان، وخاصة العشر الأواخر أكثر في العبادة. فما الذي يحدث؟ يضيع وقت كثير من النساء، وكذلك أولياء أمورهن في الذهاب للخياط تارة، أو الذهاب للمعارض، أو الأسواق. وهكذا تضيع الأوقات الثمينة في أمور يمكن قضاؤها، والانتهاء منها قبل دخول الشهر، أو في أوله حيث تكون الأسواق شبه فارغة والأسعار رخيصة، فلماذا ننتظر إلى وقت الزحام وغلاء الأسعار؟!، أمر أخر: وهو تفريغ الزوج وعدم إشغاله في أعظم الليالي وهى العشرة الأواخر، ولماذا أفتن ولدي أو زوجي أو غيره بمخالطة النساء المتبرجات في مثل هذه الأيام الفاضلة؟!
الرابعة: احرصي على صلاة التراويح في المسجد: فصلاة التراويح من السنن الجماعية، ومن الآثار النبيلة التي تعطي هذا الشهر الكريم روحانية متميزة، فتجد صفوف المسلمين والمصلين متراصَّة وتسمع التسبيح والبكاء. إلا أن هذا الخير قد تحرمه بعض نسائنا لا إهمالاً منها؛ وإنما انشغالا ًبالأولاد والجلوس معهم، وهى بهذا بين أمرين كلاهما ثقيل أولاً: إما الذهاب إلى المسجد وأخذ صغارها، وقد يؤذون المصلين فتنشغل بهم؛ أو بين الجلوس في البيت وحرمان النفس من المشاركة مع المسلمين، وربما حاولت الصلاة في بيتها، ولكنها تشكو من ضعف النفس، وقلة الخشوع، وكثرة الأفكار، والهواجس فماذا تفعل إذن؟(/2)
أسوق هذا الاقتراح: لم لا تتفق مع بعض أخواتها بالاجتماع في أحد البيوت؛ للصلاة جماعة مع اهتمام إحداهن بالصغار، أو تجلس إحداهن مع الصغار، والأخريات يذهبن للصلاة في المسجد، وهكذا إذا اتفقت الأخوات على أن تقوم واحدة منهن كل ليلة بالاهتمام بالصغار، فإنها على الأقل ستكسب كثيرًا من أيام وليالي رمضان مع المسلمين. وأقول: على الأزواج والآباء الحرص على حث أزواجهم، وأخواتهم، وبناتهم على الذهاب معهم إلى المساجد، فإلى متى ونحن نترك المرأة أيها الأخيار وحدها في البيت، ونحرمها من الدروس، والتوجيه، والروحانية في الصلاة مع المسلمين، وسماع الخير الكثير؟! فإن في ذهابها خيرًا كثيرًا إذا خرجت بصفة شرعية غير مُتعطِّرة، ولا متجملة، أو متبرجة. كذلك ينبغي عليها ألا تخضع بالقول، وألا ترفع صوتها في المسجد فتؤذى المصلين، وعليها أن تتجنب الحديث في المسجد لغير حاجة؛ خشية أن تقع في المحرم من غيبة، أو نميمة. وخلاصة القول: ينبغي أن يُعْلَم أن صلاة المرأة في بيتها أفضل، وخروجها للمسجد لتحصيل منافع لا يمكن تحصيلها في البيت وإلا فبيوتهن خير لهن. ولا ننسى أن في صلاح المرأة صلاح المجتمع. فلذلك نحث الآباء والأخوة على الحرص على أخذ أزواجهم، وبناتهم إلى المساجد، وألا يُتْرَكْن في البيت؛ لأنهن إن تُرِكْن في البيت بلا عون ولا توجيه وإرشاد أصبحن عُرْضَة للغَفْلَة: " فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الغَنَمِ القَاصِيَةِ "(/3)
الخامسة: ضَعِي جدول غذائي منتظم: فإذا نظرنا إلى المأكولات الكثيرة، والمشروبات وتنوع أصنافها على سفرة الإفطار، فإنك تضطر إلى أن تقول: لماذا - يا أيتها المرأة المسلمة - لا تجعلي لك جدولاً غذائيًّا منتظمًا؛ لتقسيم هذه الأصناف على أيام الأسبوع. فهل يُشْتَرط أن نرى جميع الطعام في كل يوم ؟ لا يشترط هذا. وهل يشترط أن نرى جميع أنواع العصير في كل يوم؟ أيضًا لا يشترط. ولا شك أننا بهذا التنظيم نكسب أمورًا كثيرة منها:
أولاً: عدم الإسراف في الطعام والشراب، وقد نُهينا عن ذلك.
ثانياً: قلة المصاريف المالية، وترشيد الاستهلاك.
ثالثاً: التجديد في أصناف المأكولات والمشروبات، وإبعاد الروتين والملل بوجود هذه الأصناف يوميًّا.
رابعاً: حفظ وقت المرأة وطلب راحتها، واستغلاله بما ينفع خاصَّة في هذا الشهر المبارك. فهذا شيء من الثمار ومن الفوائد في تطبيق هذا الاقتراح. فيا ليت أن بعض الأخوات يفعلن مثل هذه الجداول، ولعلهن أن ينفعن غيرهن من أخواتهن في توزيعه في مدارسهن، وأماكن اجتماعهن فإن فعل ذلك؛ كما ذكرنا فيه فوائدُ جمة. ثم أختم الاقتراح الخاص بالمرأة بتحميلها المسؤولية أمام الله - سبحانه وتعالى - عن الإسراف في بيتها، فهي المسئولة الأولى عن الإسراف في الطعام والشراب، وتعدد الأنواع وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. ثُمَّ قَالَ: ((وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا)).(/4)
السادسة: استغِلِّي وقت الحَيْض، والنفاس في الذكر، وأعمال البر: فالصلاة في أول وقتها من أعظم الوسائل لاستغلال رمضان، والملاحظ خاصة عند المرأة تأخير الصلاة عن وقتها؛ وذلك لعدم ارتباطها بالجماعة والتكاسل عنها، ثم نقرها كنقر الغراب، وذلك بحجة: إمَّا العمل في المطبخ؛ أو التعب في الدراسة؛ أو التعب من الصوم؛ أو غيرها من الأعذار. فعلى المرأة أن تحرص على المحافظة على الفرائض الخمس في وقتها بخشوع، وخاصة في هذا الشهر المبارك والذي كما ذكرت، تتضاعف فيه الحسنات، وتتنوع فيه العبادات، وأيضاً فبعض النساء إذا حاضت أو نفست تركت الأعمال الصالحة، وأصابها الفتور مما يجعلها تحرم نفسها من فضائل هذا الشهر وخيراته، فنقول لهذه الأخت وإن تركت الصلاة والصيام: فهناك - ولله الحمد - عبادات أخرى مثل الدعاء، والتسبيح، والاستغفار، والصدقة، وهناك أيضًا زكاة الفِطْر فهي فريضة فرضها الله، وهى مطهِّرة للصائم، مما عسى أن يكون قد وقع فيه من اللغو والرفث؛ ولتكون عونًا للفقراء والمحتاجين، وهي حبل وصال بين قلوب المحتاجين والقادرين، وتُعَدُّ بابًا من أبواب التعود على البر والتقوى والتكافل الاجتماعي. فتفطير الصائمين وإطعام الطعام وصِلَة الأرحام، كل عمل من هذه الأعمال له ثواب عظيم عند الله، والقيام على الصائمين وتفطيرهم وغيرها من الأعمال الصالحة الكثيرة. ثم أبشرك أنه يكتب لك من الأجر مثل ما كنت تعملين، وأنت صحيحة قوية.كيف ذلك؟ لحديث رسول - صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه، وآله وسلم - الذي قال فيه ((إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللهُ لَهُ تَعَالَى مِنَ الأَجْرِ مِثْل مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا)). إذن فلتبشري، المهم استحضار النية الصالحة والخالصة، والحرص على كثير من الخيرات، والعبادات التي تستطيعينها. ثم عن قراءة القرآن للحائض والنفساء فيه خلاف مشهور بين العلماء لكن شيخ الإسلام بن تيميَّة - رحمه(/5)
الله تعالى - رأى جواز قراءة القرآن للحائض والنفساء بدون شرط أو قيد.
السابعة: أَكْثِري من الاستغفار والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ((مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ فِي يَوْم مِائَةَ مَرَّةٍ حطَّتْ خَطايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مَثْلَ زَبَدِ البَحْرِ))؛ رواه البخاري. ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟)) فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: ((يُسَبِّحُ اللهَ مِائة تَسْبِيحَةٍ، فيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحْطُّ عَنْه أَلْفُ خَطِيئةٍ))؛ صحيح مسلم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ))؛ أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي. وعن أبي أمامة قال: "قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟" قال - صلى الله عليه وسلم -: ((جَوْفُ اللَّيْلِ الآخر، ودُبُر الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبات))؛ رواه الترمذي، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، ومِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ))؛ مستدرك الحاكم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا))؛ رواه مسلم(/6)
الثامنة: لا تنسي فضل القيام: فقد قال تعالى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالْذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا * وًالْذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [سورة الفرقان: 63- 65]. وقال - صلى الله عليه وسلم – ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))؛ أخرجه البخاري ومسلم. فلم لا تستغِلِّي الوقت الباقي بعد السحور في القيام، ولعل ارتيادك للمساجد يعينك على تنظيم وقت القيام بسهولة.
التاسعة: ضَعِي جَدْولاً لتوزيع الصدقات، واعملي على تنفيذه لكل يوم: و أشركي أبنائك وقريباتك وصديقاتك في هذا البرنامج؛ لتوزيع الصدقات، اقْضِي بعضًا من الوقت في هذا. ولقد كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فكان أجود بالخير من الرِّيح المُرْسَلة..، وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - ولا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إلاَّ الطَّيِّبُ - فإنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُها بيمينه ثم يُرَبِّيهَا لصَاحِبِهَا؛ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّه حَتَّى تَكُونَ مِثْل الجَبَلِ))؛ كلمة فلوه تعنى: المهر الصغير.(/7)
العاشرة: قرري وِرْدًا يوميًّا من القرآن الكريم: وليكن قراءة جزء يوميًّا، واجتهدي في قراءته، ولم لا تحاولي أن تحفظي سورة النساء أو النور، فلو حفظت كل يوم صفحتين لتمكنتي من حفظها قبل العشر الأواخر بإذن الله، ويمكنك حينها أن تختمي القرآن في العشر الأواخر بقراءة ثلاثة أجزاء يوميًّا. ولعلك - أختي المسلمة - تعرفين حديث الرسول - صلى الله عليه و سلم - إذ قال: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))، وذلك في إفراد البخاري عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اقْرَأُوا القُرْآنَ، فَإنَّه يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ))؛ رواه مسلم.(/8)
العنوان: جديد كتب السنة وعلومها
رقم المقالة: 599
صاحب المقالة: د. محمد بن تركي التركي
-----------------------------------------
1- إضاءات بحثية في علوم السنة النبوية وبعض المسائل الشرعية، للشريف حاتم العوني، مكتبة الصميعي.
2- رسالة في اختلاف ألفاظ الحديث النبوي، للصنعاني، تحقيق صبري المحمودي، دار التوحيد.
3- سؤالات السهمي للدارقطني، طبعة جديدة بتحقيق أبي عمر محمد الأزهري، دار الفاروق الحديثة.
4- سؤالات ابن بكير للدارقطني، طبعة جديدة بتحقيق أبي عمر محمد الأزهري، دار الفاروق الحديثة.
5- سؤالات ابن الجنيد لابن معين، طبعة جديدة بتحقيق أبي عمر محمد الأزهري، دار الفاروق الحديثة.
6- سؤالات عثمان بن طالوت لابن معين، طبعة جديدة بتحقيق أبي عمر محمد الأزهري، دار الفاروق الحديثة.
7- سؤالات أبي بكر الأثرم للإمام أحمد، طبعة جديدة بتحقيق أبي عمر محمد الأزهري، دار الفاروق الحديثة.
8- سل السنان في الذب عن معاوية بن أبي سفيان، تأليف سعد السبيعي , دار المحدث.
9- شرح المنظومة البيقونية في مصطلح أهل الحديث والأثر (على ضوء مناهج المتقدمين وتحريرات المتأخرين) للشيخ خالد بن صالح الغصن، باعتناء سلطان الجردان، دار المحدث.
10- فتح العليم في شرح أدعية وأذكار الصلاة من التكبير إلى التسليم، للشيخ حسين العوايشة، دار ابن حزم.
11- شرح مسند الشافعي، لأبي القاسم الرافعي، تحقيق أبي بكر زهران، مطبوعات وزارة الأوقاف بقطر.
12- الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري، (تعليقات الشيخ ابن باز رحمه الله في شرحه لصحيح البخاري) للشيخ عبد الله ابن مانع الروقي، يوزع عند مؤسسة العويضة، شارع الظهران، 4 ج.
13- مصطلحات أئمة الحديث الخاصة، ويليها: القرائن الموصلة إلى فهم مقاصدهم في عبارات الجرح والتعديل، تأليف إبراهيم بن عبدالله المديهش، مطابع الحميضي.(/1)
14- المقتفى على كتاب الروضتين، المعروف بتاريخ البرزالي، للقاسم بن محمد البرزالي، تحقيق عمر تدمري، المكتبة العصرية، 4 ج.
15- المنهج المبتكر شرح نخبة الفكر، تأليف حازم الشربيني، دار الكيان.
16- منسك عطاء، تأليف د. عادل الزرقي، دار المحدث.
19 / 3/ 1428 هـ(/2)
العنوان: جرائم الفكر
رقم المقالة: 1132
صاحب المقالة: محمد معافى المهدلي
-----------------------------------------
لعلَّ أخطرَ الجرائم على الإطلاق هي تلك الجرائم التي تمارَس مع الشعوب والأمم، ونعني بها تلك التي تمارس مع الوعي والفكر البشري، ووجهُ خطورتها أنّ ضحاياها ليسوا أفراداً معدودين، بل ضحايا هذا النوع من الجرائم أممٌ وشعوب بأسرها، وهذا بعينه هو الفرق بين الجاهلية القديمة ذات الطابع الأمي البدائي والمحيط المحدود، وبين الجاهلية الحديثة ذات الطابع العلمي الحديث، القائم على تكنولوجيا الأقمار الصناعية، وأجهزة الاتصالات والإنترنت، والفضائيات، وغيرها من الوسائل الجماهيرية ذات التأثير العالمي الكبير والواسع.
أرى أنّ هذه مقدمة ضرورية للحديث عن موضوعنا، للتفريق بين جرائم الأخلاق -التي ربما تُرتكب في جنح الظلام، وعلى خوف أو استحياء- وبين جرائم الفكر التي تُرتكب في وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع من الملايين، فكم سمعت واستجابت أممٌ وشعوب لصرخات العلمانيين واللبراليين ودعاة التغريب، الذين يروّجون لأفكارهم وعلى أوسع نطاق، بلا حياء ولا خجل، فكانت النتيجة أرقاما مفجعة، وجرائم مخيفة، ودمارا شاملا رهيبا حاق بهذه الأمم، وما كانت لتقع هذه الجرائم لولا أنها وجدت قبولا فكريا ونظريا وعملياً لدى البعض، وصمت عنها العقلاءُ والحكماء ونخبُ الأمة وسادتها.
أسرد في هذا المقام بعض الأمثلة ليتضح المرادُ:(/1)
في بعض بلدان الجزيرة والخليج، تغاضى البعض عن بنوك الربا، وشركات الأسهم، إلا نفراً قليلا من العلماء والحكماء ظلّوا يرددون حرمة الربا، ويحذرون من شركات الأسهم، المجهولة الأهداف والمرامي، والمجهولة المصادر والانتماء، وفي وسط هذه المعمعة والفوضى، تأتي الطامة الكبرى، فيتحول شعب من شعوب المنطقة من غني وثري ربما على مستوى العالم، إلى مستوى من الفقر والحاجة والعوز، وخسر المليارات من ثرواته وأمواله ومدخراته، وما كان هذا ليقع لولا جرائم الفكر، واغتيال الوعي، الذي يمارس على الضمير العربي المسلم.
لقد وجدتُ أحدَهم يبكي دهره وزمانه، لقد خسر في هذه الأسهم أكثر من 13 مليون ريال، وآخر خسر كل ثروته وماله ومدخراته، ووصل حجم الكارثة حتى إلى العامة وصغار الموظفين ممن باعوا كل ما يملكون من ذهب ومدخرات قليلة، أملاً منهم في توديع الفقر، واستقبال غد أكثر إشراقاً وجمالاً، في حين حُمل البعض منهم إلى المصحات والمشافي، ومنهم من وافته المنية من جراء سكتة قلبية، أودت بحياته.
وفي يمن الإيمان والحكمة، شبّت حرب طاحنة في محافظة صعدة لمواجهة "الحوثية" وقدّم الشعبُ اليمني مئات من الجنود، ومليارات الدولارات، وحاقت بالشعب اليمني الكثير من النكبات والجراحات والمآسي، من جراء هذه الحرب غير المعلومة الأهداف والغايات، ثم فجأة وكأن شيئا لم يحدث، تمت المصالحة بين قيادتي الفتنة، على أساس وقف إطلاق النار، وعلى أن ينقل كبار الحوثيين إلى دولة قطر، ليحظوا بالعناية الكريمة، بناءً على تدخل أميركي سام، الأمر الذي يجعل كل عاقل يتساءل لِمَ قامت هذه الحرب وما مسوغاتها؟ و لِمَ أوقفت فجأة؟ ولم أزهقت مئات الأنفس المؤمنة، وأنفقت المليارات وبددت الثروات؟!.
ألم يكن من المناسب أصلا ألا تقوم هذه الحرب ابتداءً، ولم يكن ثمة حاجة لا لتدخل أميركي ولا غيره.(/2)
في بلد ثالث -والحديث غير بعيد عن جرائم الفكر وتزييف الوعي- تعالت أصواتُ العلمانيين بضرورة خروج المرأة من البيت، لتشارك الرجل همومَ الحياة، ولتثبتَ المرأةُ شخصيتَها ووجودها وذاتها، وأن هذا يعد حقاً من حقوق المرأة، وأن القوى الظلامية وضعت المرأة في تابوت مظلم حالك السواد وأغلقت عليها بقفل محكم، إلى آخر هذه الجمل المزيفة، وجاءت الإحصائيات التي نشرت في بعض المجلات والصحف بأن 80% من العاملات في هذا البلد تعرضن إما إلى فقدان عفتهن وشرفهن، أو تحرش بهن، كما تعرضت الطفولة إلى الضياع والإهمال، أو الانحراف السلوكي، ولم تحقق المرأة أي مكاسب تذكر في مجال الخروج من البيت والاختلاط إلا هذه المآسي، ولعلّ هذا هو ما يريده العلمانيون من المرأة وهو الأمر الذي كشفته لغة الإحصائيات والأرقام.
إنه في الوقت الذي ينادي العلمانيون بخروج المرأة والاختلاط والتفسخ، نرى الغرب وهو على نصرانيته بدأ يتراجع عن هذه البهيمية، ففي قلب أمريكا هناك أربع مدارس يقوم التعليم فيها على أساس عدم الاختلاط بين الجنسين، ومن الطريف في الأمر واللافت للنظر أن هذه المدارس الأربع مخصصة لعلية القوم من التجار والدبلوماسيين وأساتذة الجامعات والطبقة الراقية والمثقفة في المجتمع الأمريكي، وبدأت كثير من القيادات الواعية في الغرب تدعو إلى التعليم غير المختلط، وتدعو إلى حق المرأة في القرار في البيت والتفرغ لتربية الأطفال، والعناية بالزوج والبيت والأولاد، على الطريقة الشرقية، حتى قالت دراسة غربية أجراها مركز ستارش البريطاني للأبحاث العالمية: إن السعوديات أكثر البنات دلالاً على مستوى العالم، حيث يحظين بالخدمة من الجميع، ويتسابق كل من في البيت لخدمتها وإسداء الجميل لها، بالإضافة إلى أنهن لسن بحاجة للعمل فمصروفهن متوفر لهن من أولياء أمورهن دون الحاجة للعمل.
إن نساء العالم إذن يحسدن المرأة المسلمة على ما هي عليه من دلال ونعيم وتكريم.(/3)
هذا في الوقت الذي يتبارى فيه المعتوهون من العلمانيين لجرّ المجتمع الإسلامي إلى ثقافة تنكّر لها أصحابُها، وباتوا ينادون صباح مساء بخلافها، ونسمع بين الفينة والفينة عن المظاهرات العارمة بعودة المرأة إلى البيت والسكن فيه، بعيداً عن عذابات المصانع والشغل المهين في البيوت وأعمال الحدادة و(البويا) والميكانيكا.. الأمر الذي أفقد المرأة أنوثتها وكرامتها وجمالها.
إن أعظم جناية وجرم يمارَس على الضمير المسلم المعاصر هي جرائم الفكر وتزييف الوعي، ومخادعة ملايين البشر، وسَوْق الملايين من القطعان البشرية بسوط التضليل والخداع والتزييف والغش المفضوح والمكشوف، فهل آن لنا الأوان لأن نفرّق بين الحق والباطل، وبين الحقيقة والزيف، وأن نتصدى لهذه الجرائم الفكرية التي يريد منها أهلها أن يلقوا بالمجتمع المسلم في الهاوية السحيقة؟!!.(/4)
العنوان: جزء فيه فوائدُ من رواية أبي العباس الذُّهْلي
رقم المقالة: 1041
صاحب المقالة: د. جمال عزون
-----------------------------------------
جُزْءٌ فِيهِ فَوَائِدُ
مِنْ رِوَايَةِ أَبِي العَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِاللهِ
ابْنِ نَصْرِ بْنِ بُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحِ
ابْنِ أُسَامَةَ الذُّهْلِيِّ المُتَوَفَّى سَنَةَ 322 هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله.
أمّا بعد :
فهذا جزء حديثيّ لطيف فيه جملةٌ من أحاديث إلى سيّد الخَلْق مرفوعة، وآثار على بعض أصحابه موقوفة، وأخبار إلى التّابعين مقطوعة، وأشعار عن بعض الأعلام مسموعة، وكلّها من رواية أبي العبّاس أحمد بن عبد الله بن نصر بن بُجَيْر بن عبد الله بن صالح بن أسامة الذّهلي المتوفى سنة (322هـ) ((من شيوخ القضاة ومتقدّميهم، ولي قضاء البصرة وواسط وغيرهما من البلدان ... وكان ثقة))[1].
وهو والد القاضي أبي طاهر محمّد بن أحمد الذّهلي نزيل مصر وقاضيها (367هـ) الذي لم يمنعه اشتغالُه برواية الحديث والقضاء بين الناس أن يهتمّ بالأدب والشّعر والتّاريخ حتّى قال الصّفدي: ((كان مفوّهاً حسن البديهة، شاعراً حاضر الحجّة، علاّمة عارفاً بأيّام النّاس، وكان غزير الحفظ لا يملُّه جليسُه))[2].
ولقد كان لوالده المصنِّف ابن بُجَيْرٍ رحلاتٌ علميّة أخذ فيها عن عدد من شيوخه أمثال صالح بن علي بن الفضل النَّوْفَلِي الحلبي 290هـ، وأبي أميّة محمّد بن إبراهيم الطّرسوسي 273هـ، والعبّاس بن الوليد البيروتي 270هـ، ويعقوب بن إبراهيم الدّورقي 252هـ، وغيرهم من شيوخ الحديث والرّواية.(/1)
وقُصد هو بالرّحلة للاستفادة منه والرّواية عنه فروى عنه جملةٌ من الحفّاظ أمثال أبي طاهر محمّد بن عبد الرّحمن المخلّص 393هـ، وأبي الحسن عليّ بن عمر الدّارقطني 385هـ، وأبي الفرج المعافى بن زكريّا الجريري 390هـ، وأبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين 385هـ، وأبي الحسين عبد الباقي بن قانع البغدادي 351هـ، وغيرهم[3].
وهذا الجزء اللّطيف رواه عن صاحبه ابنُ بُجَيْرٍ محدّثُ العراق أبو طاهر محمّد بن عبد الرّحمن بن العبّاس بن عبد الرّحمن بن زكريّا البغدادي الذّهبي المخلِّص (305 - 393هـ)، وثّقه الخطيب[4].
ورواه عن المخلِّص أبو القاسم عليّ بن أحمد بن محمّد بن عليّ البُسْرِي البغدادي البُنْدَار (386 - 474هـ) وثّقه عبد الكريم بن محمّد السّمعاني وقِوامُ السُّنّة إسماعيل بن محمّد الأصبهاني، وقال الخطيب البغدادي: ((كتبتُ عنه وكان صدوقاً))[5].
ورواه عن ابن البُسْرِي أبو منصور موهوب بن أحمد الجَواليقي (466 - 540هـ) أحد مشاهير اللّغة والأدب وثّقه ابن السّمعاني[6].
ورواه عن الجَواليقي الشّيخ الإمام العالم الرّئيس الواعظ الفقيه[7] زين الدّين أبو الحسن عليُّ بن إبراهيم بن نَجا بن غَنائمَ الأنصاري الدّمشقي الحنبلي المعروف بابن نُجَيَّةَ (508 - 599هـ). وسمعه على ابن نُجَيَّةَ كاتبُ النّسخة إبراهيم بن محمّد بن خلف المقدسي.
وهذا إسناد رجاله كلّهم علماء ثقات أجلاّء وابن نُجَيَّة إمام عالم مشهور روى عنه محدّثون كبار أمثال أبي الحجّاج يوسف بن خليل الدّمشقي 648هـ، وضياء الدّين محمّد بن عبد الواحد المقدسي 643هـ، وعبد العظيم بن عبد القويّ المنذري 656هـ، وعبد الغنيّ بن عبد الواحد المقدسي 600هـ، وغيرهم.(/2)
أمّا كاتب النّسخة وراويها عن ابن نُجَيَّةَ : ((إبراهيم بن محمّد بن خلف المقدسي)) فلم أظفر به[8]، وقد ورد ذِكْرُه في أحد سماعات هذا الجزء عام 575 هـ: ((صاحبه الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف))، واستفدنا من هذا أنّ كنيته ((أبو إسحاق))، كما وصفه كاتبُ طبقة السّماع بالفقيه.
وقد كان في هذا المجلس الذي سُمع فيه جزؤنا عددٌ من الأعلام في طليعتهم الشّيخُ المُسَمِّع وهو ابن نُجَيَّة راويه عن الجواليقي.
والذي تولّى قراءةَ الجزءِ على ابن نُجَيَّة الحافظُ الكبير يوسف بن خليل الدّمشقي، وسمعه بقراءة ابن خليل جمعٌ في طليعتهم ناسخُه وصاحبه الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف، والضّياءُ المقدسي، وغيرُهم من مشاهير الأعلام الذين يجزم الباحثُ أنّهم ارتضوا نسخةَ أبي إسحاق النّاسخ، ولا أستبعد أن يكون معروفاً لديهم بالضّبط والإتقان.
والحاصل أنّ نسخة الجزء التي وصلت إلينا بخطّ أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف لا يتطرّق إلى صحَّتها شكٌّ، ثمّ هي وجادةٌ لجزء بخطّه رواه عن محدّث مشهور وسمعه عليه بقراءة ابن خليل ووجود الحافظ الضّياء وغيره من المشاهير.
فالجزء إذاً هو من رواية أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف المقدسي، عن ابن نُجَيَّةَ، عن الجواليقي، عن ابن البُسْرِي، عن المخلِّص، عن مؤلّفه ابن بُجَيْرٍ.
ويقوّي الاطمئنانَ إلى هذا الإسناد اعتمادُ الحافظ ابن عساكر الدّمشقي في تاريخ دمشق[9] على عدد من نصوص هذا الجزء رواها من طريق شيخه أبي القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السّمرقندي 536هـ، عن أبي الحسين أحمد بن محمّد بن النّقّور 470هـ وأبي القاسم عليّ بن أحمد بن محمّد بن عليّ البُسْرِي البغدادي البُنْدَار 474هـ - راوي نسختنا هذه -، عن أبي طاهر محمّد بن عبد الرّحمن المخلِّص 393هـ، عن ابن بُجَيْرٍ.
وهذا يعضد سندَ نسختنا.(/3)
وأقوى من هذا متابعةٌ تامّة - في رواية هذا الجزء - لأبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف المقدسي من الشّيخ المحدّث الجليل زين الدّين[10] أبي العبّاس أحمد بن سلامة بن إبراهيم الحنبلي (589 - 678هـ)، إجازةً عن ابن نُجَيَّة به كما في طبقة سماع مثبتةٍ على غاشية الجزء كتبها عام 673هـ الإمامُ الحافظ المتقن محمّد بن محمّد بن عبّاس بن أبي بكر بن جعوان الأنصاري الدّمشقي الشّافعي النّحوي 682هـ.
ولا يبقى بعد هذا بتاتاً مجالٌ للشّكّ في صحّة إسناد هذا الجزء اللّطيف إلى صاحبه ابن بجير.
نستفيد من بداية الجزء وأحد سماعاته أنّه كان متداولاً في بغداد[11] عام 539هـ إذ سُمع على الجواليقي في منزله بدار الخلافة، وفي عام 575هـ سُمع على ابن نُجَيَّةَ[12]، ونراه أيّام الحافظ ابن عساكر المتوفّى عام 571هـ قد استفاد منه ونقل عنه نصوصاً أودعها في تاريخه الكبير، ثمّ نراه مسموعاً عام 673هـ على المحدّث أبي العبّاس أحمد بن سلامة الحنبلي المتوفّى عام 678هـ.
وأخيرا يستقرّ به النّوى في المكتبة الضّيائية التي أنشأها الحافظ الضّياء المقدسي على سفح جبل قاسيون بصالحيّة دمشق، ونقرأ عبارة الوقف على غاشية الجزء: ((وقفٌ مستقرُّه بالضّيائيّة بجبل قاسيون))، ثمّ يؤول بعد مدّة إلى المكتبة الظّاهريّة فالعُمَرِيَّة[13] ضمن مجموع نادر حوى رسائل حديثيّة نادرة.
عنوان الجزء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تاريخ بغداد 4/229.
[2] الوافي بالوفيات 1/171.
[3] انظر شيوخه والرّواة عنه في بغية الطّلب 2/958 - 959 لابن العديم الحلبي، وتاريخ الإسلام - وفيات سنة 322هـ، ص 100 للحافظ الذّهبي.
[4] تاريخ بغداد 2/322، وانظر سير أعلام النّبلاء 16/478 - 479.
[5] تاريخ الإسلام - وفيات 474هـ، وانظر سير أعلام النّبلاء 18/402.
[6] الأنساب 3/337، وانظر تاريخ الإسلام - وفيات 540هـ، وسير أعلام النّبلاء 20/89 .
[7] سير أعلام النّبلاء 21/393.(/4)
[8] ثمّة علم اسمه أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف العبّاسي السّلمي الأندلسي يعرف بابن الحاجّ توفّي سنة 616هـ، ترجمه الذّهبي في تاريخ الإسلام، وأستبعد أن يكون هو المراد فخطّ صاحبنا مشرقي يختلف عن خطوط أهل الأندلس، كما لم يذكر أهل التّراجم في شيوخ الأندلسي ابن نُجَيَّةَ، ثمّ هو مقدسي لا أندلسي، والعلم عند الله تعالى.
[9] انظر موارد ابن عساكر في تاريخ دمشق 2/914 - 915 للدّكتور طلال الدّعجاني. وفي حواشي التّحقيق مواضع الرّوايات التي نقلها الحافظ ابن عساكر عن جزء ابن بجير.
[10] انظر عن ابن سلامة الوافي بالوفيات 1/857.
[11] وسُمع أيضاً حزؤنا في مدينة القاهرة كما في غاشيته، ولا أستبعد أن يكون ذلك بخطّ ناسخ الجزء وراويه أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف المقدسي.
[12] تشير الشّخصيّات الدّمشقيّة الواردة في هذا السّماع أنّ الجزء سُمع أيضاً في دمشق الشّام .
[13] ضمن المجموع رقم 40 ( 26 - 30 ) انظر فهرس المجاميع العمريّة 207 - 208 للأستاذ ياسين محمّد السّوّاس. وقد آلت المكتبة العمريّة مع خزائن أخرى إلى مكتبة الأسد الوطنيّة.(/5)
العنوان: جزيرة الإسلام
رقم المقالة: 1880
صاحب المقالة: عبدالله بن إبراهيم الهويش
-----------------------------------------
كتيب صغير صدر منذ فترة، وقد شدَّني فيه هذا العنوان، فانطلقت من خلاله إلى آفاق بعيدة، عشت فيها لحظاتٍ انجابَ أمامي الماضي كله في صور شتى، وانثالت عليَّ الخواطر والأفكار بمجرَّد التأمل فيه، وما يعنيه الربط بين هذه الجزيرة والإسلام، فهو - بغض النظر عن صدقه وواقعيته - يُثِيرُ موضوعًا نحن في أمَسِّ الحاجة إلى إثارَتِه في الأَذْهَانِ، والتركيز عليه، وتذكير النَّاس بواقعٍ هم عنه غافلون، في وقت كثرت فيه المطامع، وكشَّر كل ذي ناب عن نابِه، وليس لهذه الأمة من ولي ولا نصير إلا خالقُها وربّها - سبحانه وتعالى - وليس لها من طريق إلا طريقُ الاستقامة على دينه وشرعه، وأخْذه بقوة وعزة وعزم أكيد، وإلا فهو الاضمحلال والتلاشي والخسار {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].(/1)
نعم هذه الجزيرة هي جزيرة الإسلام، وإنه اسم وافق مسمًّى، فبأي مقياس تقيس، وبأي عين تنظر إلى هذه الجزيرة؛ فلن تستطيع أن تَفْصِلَها عن الإسلام الذي هو قدرها وقدر أبنائها، مهما تغيرت الظروف والأحوال، وأيُّ اتجاه - بأي دعوى كانت - يخرجها عن هذا الطريق، أو يَسومها التجافيَ عنه -: هو في الواقِعِ رجوعٌ بِها إلى عهْدِ جاهلِيَّتها وظلامها وضلالها، فعندما كان الإسلام غيبًا من غيوب الله المستترة، كانتْ هذه الجَزِيرَةُ بُقْعَةً من الأرض، لا يُعبَأ بها ولا يُلتفَت إليها، ولم تستوقف أحدًا، وما عاج عليها التاريخ ليسجّل ما يدور بداخلها؛ إلا وقفات لا تُشرِّف؛ بل هي العار، عندما يَجِدُ بِنتًا تُدْفَن حيَّة! أو ساجدًا لحَجَر يتخذه إلهًا! أو حربًا تزهَق فيها الأرواحُ أربعين سَنة من أجل ناقة! ولكن عندما أشرق على بطْحائها نورُ الحق، فكان ذلك إيذانًا بِولادتها، وبداية تاريخها الناصع، ومجدها التلِيد، فعلى جبل نورها تجلَّى الوحيُ بكلمة (اقرأ) رمزًا للعلم والمدنية.
وَقِيلَ إِقْرَأْ تَعَالَى اللَّهُ قَائِلُهَا لَمْ تَتَّصِلْ قَبْلَ مَنْ قِيلَتْ لَهُ بِفَمِ
هُنَاكَ أُذِّنَ لِلرَّحْمَنِ فَامْتَلأَتْ أَصْقَاعُ مَكَّةَ مِنْ قُدْسِيَّةِ النَّغَمِ[1]
وفي أفق سمائها انبثق النور الذي ملأ المشرق والمغرب، وعلى أرضها طُبِّق منهج الله واقعًا حيًّا في ظِل دولة الإسلام، ومنها انطلقت مواكب الفتح أمواجًا لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتهدي البشرية وتصلح فساد قلوبها وأخلاقها، وتعمر الأرض بعد خرابها، وتقيم عليها أسمى حضارة عرفتها الإنسانية وسعدت بها.(/2)
فَسَلْ صحراءها وقِفارها ووِهَادَها وجبالها تُنبئْك عن أخبارها؛ فما مِن بقعة فيها إلا وقد تَشرَّفَتْ بأن يطأها قَدَمُ مُجاهدٍ في سبيل الله، أو كانَتْ قَبْرًا لشهيدٍ في معركة حاسمة، أو وقف عليها قانتٌ لِلَّه ساجدًا وراكعًا، أو وطئتها سنابك خَيْلِ أبطالِها الفاتحين، وما من واحد من أبنائها إلا هو سليل أولئك الأمجاد، الذين حَمَلُوا للناس الهدى والنور، يوم حَمَلَ غيرهم الخراب والدمار.
فإذا فخرت بلاد بأنهارها، وأشجارها، وطِيب هوائها، فحُقَّ لهذه الجزيرة أن تفخر بنورها، الذي عمَّ الأفق، وملأ الأسماع، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم الصراط المستقيم.. إنه الإسلام.
وإذا فخرت بلاد بفكرها، وأدبها، وشِعرها، فحسْبُ هذه الجزيرة أن تفخر وتُطاوِل السماء بمعجزة الله الخالدة، حجةِ الله على العالمين، الذي شرُفت لغتها أن تكون وعاءه المختار.. إنه القرآن الكريم.
وإذا شَرُفَتْ بلاد برجالها وأبطالها وزعمائها، فإن هذه الجزيرةَ تَشرُف وتعتز برحمة الله للعالمين... إنه محمد بن عبدالله، فأي تاريخ كتاريخها؟! وأي مجد كمجدها؟! فأي يدٍ تريد أن تطمس ذلك، أو تتخلى عنه لتعيش على حثالات الأفكار، وفُتات موائد الآخرين -: إنها اليد الآثمة، والفكرة المجرمة، والعقول المريضة التي سلخت من أمتها؛ كما يُسلخ الأديم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الشوقيات جـ1/205 من قصيدة نهج البردة.(/3)
العنوان: جلسات الحج
رقم المقالة: 1731
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
جلسات الحج
من آداب البيان والفتيا
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإنه يطيب لنا أن نبتدئ موسم الحج لهذا العام عام (1409هـ) في هذه الليلة ليلة الثلاثاء الموافق للسابع عشر من شهر ذي القعدة، وذلك لأن الناس في حاجة إلى من يرشدهم ويبين لهم شريعة الله عز وجل في كل مناسبة، وقد كان من هدي الرسول أن يتكلم في الناس بما يناسب الوقت وبما يناسب الحال، ولهذا ينبغي لطلبة العلم بل يجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس ما أنزل إليهم من ربهم في كل حال تقتضي ذلك، وفي كل مكان يقتضي ذلك، وفي كل زمان يقتضي ذلك؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر من ميراثهم، ولا تحقرن شيئاً من العلم، فقد قال النبي: ((بلغوا عني ولو آية)) ولكن يجب عليك أن تتثبت وأن تتأنى وألا تقول شيئاً إلا عن علم أو عن غلبة ظن تقرب من العلم حتى يكون لكلامك وزن بين الناس، لا تستعجل فتقول اليوم قولاً تنقضه غداً، أو تصر على ما أنت عليه من الباطل بعد أن يتبين لك الحق، الأمر خطير جداً، خطير من وجهه الإيجابي ومن وجهه السلبي؛ إن منعت بيان الحق فأنت على خطر، وإن تكلمت بما لا تعلم فأنت على خطر، فالإنسان يجب عليه بذل الجهد في طلب الحق والوصول إليه، ثم بذل الجهد في نشره بين الناس وتبليغه الناس، مع التأني وعدم التسرع.
ما ينبغي فعله في عشر ذي الحجة(/1)
إننا الآن نستقبل موسم الحج، ونستقبل أيضاً موسم عمل صالح ألا وهو عشر ذي الحجة، وعشر ذي الحجة هي الأيام التي قال عنها رسول الله: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر))، قالوا: "ولا الجهاد في سبيل الله؟" قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) هذه العشر التي يجهل كثير من الناس فضلها، ومن علم فإنه قد يتهاون في إعطائها حقها من الاجتهاد في العمل الصالح. وإذا كان رسول الله يقول: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) فإنه ينبغي لنا أن نجتهد غاية الاجتهاد في الأعمال الصالحة في هذه الأيام العشر أشد مما نجتهد في أيام عشر رمضان؛ لأن الحديث عام: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) ولكن: ما الذي نعمل؟ نعمل كل عمل صالح من الصلاة والذكر وقراءة القرآن، والصدقة والصيام والإحسان إلى الخلق وغير ذلك؛ ولهذا يشرع في هذه الأيام التكبير؛ أن يكبر الإنسان ليلاً ونهاراً رافعاً صوته بذلك إن كان رجلاً، وتسر به المرأة، فيقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، أو يثلث التكبير، فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. كذلك أيضاً ينبغي في هذه الأيام أن نصوم؛ لأن الصوم من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قال فيه الرب عز وجل في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" فهذا دليل واضح أن الصوم من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل، فيكون داخلاً في هذا العموم، سواء ثبت الحديث الذي فيه أن رسول الله صامها ولم يدع صيامها أو لم يثبت، لأن الصوم من العمل الصالح، هذا بالنسبة للعمل(/2)
الصالح فيها عموماً.
الحج عبادة بدنية مالية
أما بالنسبة للحج فإننا نقول: إن الحج أحد أركان الإسلام؛ لأن الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وهذا واحد، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، حج بيت الله الحرام، وهذه العبادات تجمع بين الفعلية والمالية أعني البدنية والمالية، وهي أيضاً فعل وترك، كالصلاة: عبادة بدنية وهي فعل، والصوم عبادة بدنية لكنه ترك، والحج عبادة بدنية لكن قد يكون معه شيء من المال كالهدي مثلاً لكنه تابع وإلا الحج الأصل فيه أنه عبادة بدنيه، وأما قولنا: إنه فعل وترك فلأن الصلاة والزكاة والحج كلها أفعال والصوم ترك، وهذا من حكمة الله عز وجل ليتم اختبار العبد، لأن بعض الناس يشق عليه الفعل دون الترك، وبعض الناس قد يشق عليه الترك دون الفعل، وبعض الناس قد يشق عليه بذل المال دون عمل البدن، وبعض الناس بالعكس، فلهذا صارت العبادات الخمس جامعة بين الأمور التكليفية كلها.
من أحكام السفر
من المعلوم أن الحج سفر حتى لأهل مكة، فإن القول الراجح أن خروجهم إلى الحج سفر، أما الآفاقيون فالسفر في حقهم واضح، ولهذا ينبغي أن نعرف شيئاً من أحكام السفر: أسفل النموذج
قصر الصلاة الرباعية
فمن أحكام السفر: أنه يشرع للإنسان أن يقصر الصلاة فيه؛ أن يقصر الصلاة الرباعية فيه إلى ركعتين؛ الظهر والعصر والعشاء يصليها ركعتين لأن هذا هو هدي النبي وواظب عليه ولم يتم يوماً من الأيام في سفره، وما روي عنه أنه أتم فإنه حديث ضعيف لا يصح عنه.(/3)
والقصر سنة مؤكدة، حتى قال بعض أهل العلم أنه واجب، أي أنه يجب على الإنسان أن يصلي الرباعية في السفر ركعتين، وأنه لو أتم كان تاركاً للواجب، ولكن الذي يظهر لي أن القصر ليس بواجب، ودليل ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم لما أتم عثمان بن عفان في منى وأنكر عليه من أنكر من الصحابة، حتى ابن مسعود رضي الله عنه لما قيل له: إن أمير المؤمنين صلى أربعاً استرجع ورأى أن هذا من المصائب، ومع ذلك كان يصلي خلفه أربعاً، فكون الصحابة رضي الله عنهم يصلون خلف أمير المؤمنين عثمان أربعاً يدل على أن القصر ليس بواجب، لأنه لو كان واجباً لكان إثماً وحراماً، وإذا كان حراماً بطلت الصلاة به، وكون الصحابة يصلون ويعتدون بصلاتهم يدل على أن إتمام الصلاة بمبطل، وهذا يدل على أن القصر ليس بواجب، لكن لا شك أنه مؤكد إلا إذا صلى الإنسان خلف إمام يتم، فإن الواجب عليه أن يتم، سواء أدرك الصلاة من أولها أو في أثنائها، لعموم قول النبي: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به))، وقوله: ((ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)).
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما: ما بال الرجل - أي المسافر- يصلي ركعتين ومع الإمام أربعاً، قال: [تلك هي السنة] وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى وحده صلى ركعتين ومع الإمام يصلي أربعاً، فالحاصل أن المشروع في حق المسافر هو القصر ما لم يصل خلف إمام يتم، فإنه يجب عليه الإتمام. وهنا مسألة: إذا كان المسافر في البلد، فهل تسقط عنه صلاة الجماعة مع قرب المسجد وسماع الأذان؟(/4)
الجواب: يظن كثير من العامة أن المسافر لا تلزمه صلاة الجماعة وهذا ليس بصحيح، فالمسافر تلزمه صلاة الجماعة، لعموم الأدلة الدالة على وجوب صلاة الجماعة من غير استثناء، ولأن الله سبحانه وتعالى أوجب على المؤمنين المقاتلين أن يصلوا جماعة، فقال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] فإذا أوجب الله على المقاتلين في السفر صلاة الجماعة فالمسافرون الذين لا يقاتلون من باب أولى، نعم لو فرض أن الإنسان معه عابر سبيل لا يريد النزول فهذا لا يلزمه أن ينزل ليصلي مع الجماعة؛ لأن هذا يرهقه عن سفره، أو كان الإنسان في محل بعيد عن المسجد فإنه يعذر وله أن يصلي في رحله، أو كان الإنسان في بلد ليس فيه مسجد كما لو كان في بلد غير إسلامي فإنه يعذر، أو كان كذلك في بلد ولا يعرف المساجد فهو معذور، المهم أن المسافر تلزمه صلاة الجماعة مع المسلمين في المساجد إلا لعذر، خلافاً لما يظنه بعض الناس من أنه لا تلزمه الجماعة.
مشروعية الجمع(/5)
إذاً: الأفضل في حق المسافر بالنسبة للصلاة القصر، فهو سنة مؤكدة جداً، أما بالنسبة للجمع فله أن يجمع، سواء كان سائراً أم نازلاً، أي سواء جد من السير أم لم يجد من السير، لأن السفر إذا كان الشرع قد رخص فيه بنقص الصلاة نقص كميتها، فكذلك نقص صفة من صفاتها وهي الجماعة وهو إفرادها في وقتها، ولأن ظاهر حديث أبي جحيفة حين وصف خروج النبي من خيمته في الأبطح في مكة المكرمة أنه جمع بين الظهر والعصر، لأنه لا ذكر أنه خرج من الخيمة فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين، فظاهر هذا أنه جمع بينهما مع أنه كان نازلاً. ولكن إن كان المسافر سائراً فالجمع أفضل من عدم الجمع، وإن كان نازلاً فترك الجمع أفضل، لأن الرسول لم يجمع في منى في حجة الوداع حين كان نازلاً، إذاً: الجمع هل هو من رخص السفر كالقصر يسير مطلقاً أو فيه تفصيل؟ فيه تفصيل: إن كان الإنسان نازلاً فترك الجمع أفضل، وإن كان سائراً فالجمع أفضل، فإذا قال قائل: هل الأفضل جمع التقديم أو جمع التأخير؟ فالجواب: إن الأفضل ما كان أيسر له، إن كان الأيسر له جمع التقديم فجمع التقديم أفضل، وإن كان الأيسر جمع التأخير فجمع التأخير أفضل، فمثلاً: إذا دخل وقت الصلاة الأولى وهو سائر والسير مستمر، فما هو الأيسر عليه؟ التأخير، وإذا دخل وقت الأولى قبل أن يركب فالأيسر له التقديم، وهكذا كان فعل رسول الله إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر، وإن زالت الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب، فصار الجمع تقديماً أو تأخيراً حسب ما هو أيسر للإنسان.
طهارة المسافر(/6)
أما بالنسبة للطهارة فإن المسافر يجب عليه أن يتطهر بالماء كالمقيم تماماً، لكن إذا لم يكن معه من الماء إلا ما يحتاجه لشربه وأكله فإنه يجوز له التيمم، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] فله أن يتيمم، ولكن إذا وصل الماء فإنه يتطهر به، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي قال: ((الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته)) فإذا تيممت ثم وصلت إلى الماء وأردت أن تصلي وجب عليك أن تتوضأ بالماء إن كان تيممك عن طهارة صغرى، ووجب عليك الغسل إن كان تيممك عن طهارة كبرى. فإذا قال قائل: هل التيمم يرفع الحدث بحيث إذا بقي الإنسان على طهارته فله أن يصلي ما شاء، أو هو طهارة استباحة يتقدر بقدر الضرورة؟ فالجواب: إن العلماء اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: إن التيمم طهارة استباحة يتقدر بقدر الضرورة، فلا يتيمم للصلاة قبل دخول وقتها، وإذا خرج الوقت بطل التيمم، ومن العلماء من قال: بل إن التيمم طهارته رافعة للحدث لأن الله تعالى حين ذكر الوضوء والغسل والتيمم قال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6] وهذا يدل على أن التيمم مطهر، كما أن الاغتسال والوضوء مطهران، فكذلك التيمم مطهر، ولقول النبي: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) (والطَهور) بالفتح ما يتطهر به، وعلى هذا فأقول: التراب مطهر، بل يكون التيمم مطهراً، ومعنى كونه مطهراً أنه رافع للحدث. فإذا قال قائل: إذا جعلتموه رافعاً للحدث فلماذا تقولون: إنه إذا وجد الماء فلا يصلي إلا بعد(/7)
الطهارة به، وضوءاً إن كان تيممه عن حدث أصغر، وغسلاً إن كان تيممه عن حدث أكبر؟ فالجواب أن نقول: هذا مقتضى الأدلة، فإن في حديث أبي سعيد الذي رواه البخاري مطولاً، وفيه: أن النبي رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم، فقال: (ما منعك أن تصلي؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك -فأرشده النبي إلى التيمم - ثم حضر الماء واستقى الناس منه وبقي منه شيء فأعطاه النبي الرجل، وقال: ((خذ هذا أفرغه على نفسك)) وهذا يدل على أن التيمم لا يرفع الحدث إلا ما دامت الضرورة باقية، أما إذا زالت الضرورة ووجد الإنسان ماء فإنه لا بد من استعماله، ولحديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه آنافاً: ((فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته)). وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى إجماع العلماء على أنه إذا وجد الماء فإنه لا يصلي حتى يتطهر به، وإذا قدر أن في المسألة خلافاً فإنه خلاف ضعيف، فالصواب إذاً: أن المتيمم إذا وجد الماء فلا بد له من استعماله، فإذا قال قائل: لو تيممت لصلاة الظهر، وبقيت على طهارة إلى صلاة العصر وأنا لم أجد الماء، فهل أصلي صلاة العصر بالتيمم لصلاة الظهر؟ الجواب: إن قلنا: إن التيمم يبيح فإنك لا تصلي صلاة العصر بالتيمم لصلاة الظهر، بل لا بد من إعادة التيمم، وإذا قلنا: إنه رافع وهو الصحيح فإنه يجوز أن تصلي صلاة العصر بالتيمم لصلاة الظهر، حتى لو فرض أنك بقيت إلى المغرب وإلى العشاء فإنك على طهارتك ما لم تنتقض بأحد النواقض المعروفة.
تكلمنا الآن عن ثلاث مسائل: العمل الصالح في أيام العشر، والثاني: صلاة المسافر، والثالث:
طهارة المسافر
تنفل المسافر بالصلاة(/8)
الرابع: تنفل المسافر بالصلاة، يعني: هل يشرع للمسافر أن يتطوع بالصلاة أم لا يشرع؟ الجواب أن نقول: يشرع للمسافر أن يتطوع بالصلوات المشروعة في الحضر، إذ لا فرق بين الحضر والسفر، كل صلاة تشرع في الحضر فإنها مشروعة في السفر، إلا راتبة الظهر وراتبة المغرب وراتبة العشاء، هذه الثلاث دلت السنة على أنها لا تفعل في السفر، وما عداها فإنه يصلى لعدم وجود الدليل على تركها، فما هو الذي يمكن أن يصلي ما دام الضابط عندنا، أنه لا يصلي من النوافل ثلاثاً، وهي: راتبة الظهر وراتبة المغرب وراتبة العشاء، أما العصر فليس لها راتبة، فما الذي يصلي من النوافل إذاً؟ سنة الفجر، والوتر وصلاة الليل، وصلاة الضحى، وتحية المسجد، والاستخارة، والنوافل المطلقة التي يقوم فيها الإنسان يتعبد بما شاء، فأنت اعرف ما لا يصلى وما عدا ذلك فإنه يصلى. فالذي لا يصلى من النوافل في السفر: راتبة الظهر وراتبة المغرب وراتبة العشاء، هذه لا تصلى من النوافل وما عدا ذلك فإنه يصلى، ما الذي يصلى؟ النوافل وصلوات التطوع وصلاة الليل، نحن نتكلم عن التطوع، أما الفرائض لابد أن تفعل، نعم! سنة الفجر والوتر وصلاة الليل، وصلاة الضحى والاستخارة وتحية المسجد، وسنة الوضوء، كل النوافل تفعل في السفر إلا هذه الثلاث.
صفة الحج والعمرة(/9)
ثم بعد ذلك ننتقل إلى صفة الحج والعمرة، يقول أهل العلم: إن الأنساك ثلاثة أنواع: تمتع، وإفراد، وقران، كل نوع منها له حكم يختلف عن الآخر، فما هو التمتع؟ التمتع هو: أن يحرم الإنسان بالعمرة في أشهر الحج، ثم يفرغ منها ويحرم بالحج من عامه -في نفس العام- وسمي تمتعاً لأن الإنسان يتمتع فيه بما أحل الله له بين النسكين العمرة والحج، مثال ذلك: رجلٌ قدم إلى مكة في الخامس عشر من شهر ذي القعدة متمتعاً فأحرم بالعمرة وفرغ منها؛ طاف وسعى وقصر أو حلق، فماذا يصنع الآن؟ يحل من كل شيء، يلبس الثياب ويتطيب ويأتي أهله، كل شيء يحل له إلى أن تأتي أيام الحج، فهو إذاً متمتع بما أحل الله له، من أين إلى أين؟ من انتهاء العمرة إلى ابتداء الحج سواء طال أو قصر، فإن أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، كأن يحرم بها في رمضان لأن أشهر الحج تبتدئ من شوال، أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ثم أتمها في أشهر الحج، ولنفرض أنه أحرم في اليوم الثلاثين من رمضان وقدم مكة ليلة العيد وأدى مناسك العمرة، فهل يكون متمتعاً؟ الجواب لا. لماذا؟ لأنه أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، وأما ما اشتهر عند العامة من أنه صام في مكة رمضان فليس بمتمتع، ومن لم يصم فإنه متمتع فهذا لا أصل له، المدار والأصل على إحرامك بالعمرة، إن أحرمت بالعمرة قبل دخول أشهر الحج التي أولها شوال فلست بمتمتع، وإن أحرمت بعد دخولها فأنت متمتع؛ لأنك أحللت بين النسكين وتمتعت بما أحل الله لك، ثم تحرم بالحج من عامك في اليوم الثامن من ذي الحجة وتأتي بأفعال الحج، ولو اعتمر في أشهر الحج عام (1409هـ) ولم يحج إلا في عام (1410هـ) هل هو متمتع؟ لا. لماذا؟ لأنه لم يحج في عامه، والمتمتع لا بد أن يحج في عامه، إن حج في عام آخر فليس بمتمتع.(/10)
أما الإفراد: فإنه إحرام الإنسان بالحج وحده، فيحرم به من الميقات ويبقى على إحرامه إلى يوم العيد، ليس فيه تمتع، يبقى على إحرامه إلى يوم العيد، لكنه لا يحصل له إلا نسك واحد وهو الحج، فماذا يصنع هذا المفرد إذا وصل إلى مكة؟ يطوف ويسعى ويبقى على إحرامه إلى أن يأتي وقت الحج ويخرج مع الناس؛ لأنه محرم بالحج، والحاج لا يتحلل إلا إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق أو قصر فإنه يحل التحلل الأول، وإذا طاف وسعى أحل التحلل الثاني.
القارن في الإحرام كالمفرد، يعني: أنه يحرم بالعمرة والحج جميعاً ويبقى على إحرامه إلى يوم العيد فإذا وصل إلى مكة فإنه يطوف ويسعى ويبقى على إحرامه إلى أن يحل منه في يوم العيد، إذا رمى جمرة العقبة وحلق حل التحلل الأول، ثم إذا طاف حل التحلل الثاني، لأنه سعى من قبل.
فإذا قال قائل: ما الفرق بين هذه الأنساك في الأفضلية وفي الحكم؟ نقول: الفرق: أن التمتع أفضل الأنساك؛ لأن النبي أمر أصحابه به، وقال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم))، ولأن فيه توفيراً على المكلف، فإن المكلف -أي: الإنسان- يبقى مترفهاً بما أحل الله له من حين انتهاء العمرة إلى أن يبدأ الحج، وهذا لا شك أنه نعمة، والله تعالى يحب التيسير على العباد.
الثالث: أن المتمتع يأتي بالنسكين جميعاً بأفعالهما تامة، فالعمرة تامة والحج تام ليس فيه نقص.(/11)
رابعاً: أن المتمتع يلزمه هدي، ولزوم الهدي هذا فضيلة ليس غرماً وخسراناً، بل هو فضيلة ونعمة من الله عز وجل، لأنه لولا أن الله أوجب عليك الهدي لكان الهدي بدعة؛ لأن كل من تعبد لله بما لم يشرع فهو مبتدع، فكون الله عز وجل يشرع لعباده الهدي ليذبحوه ويتمتعوا بما يتمتعون به ويتصدقون ويهدون هذا نعمة من الله عز وجل، وهذه الميزة الأخيرة يشاركه فيها القران، إلا أنه إذا ساق الهدي معه فالقران أفضل لأن هذا فعل النبي ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لولا أن معي الهدي لأحللت معكم)) وهذا يدل على أن من ساق الهدي فالقران في حقه أفضل، وهو كذلك.
القران والإفراد بالنسبة للأفعال واحد؛ لأن كلاً من القارن والمفرد يبقى على إحرامه إلى يوم العيد، وهذا يدل على أن القران والإفراد بالنسبة للأفعال على حد سواء، لكن القران أفضل من الإفراد، لماذا؟ لأنه يحصل له حج وعمرة، والإفراد ليس فيه إلا حج، ولأن فيه الهدي، والإفراد لا يجب فيه الهدي، وإيجاب الهدي مثلما قلنا نعمة من الله عز وجل، لولا أن الله أوجبه لم يكن واجباً بل لم يكن مشروعاً، فلهذا نقول: إن القران أفضل من الإفراد، ثم يأتي بعد ذلك الإفراد في المرتبة الثالثة.
شروط الحج والعمرة
إذا قال قائل: هل لهذا الحج والعمرة من شروط؟ الجواب: نعم. لهما شروط:
الأول: الإسلام.
الثاني: البلوغ.
الثالث: العقل.
الرابع: الحرية.
الخامس: الاستطاعة.(/12)
خمسة شروط: الإسلام وضده الكفر، فالكافر لا يجب عليه الحج، بل ولا يصح منه الحج، فلو أن رجلاً حج ولكنه لا يصلي فإن حجه مردود عليه، وحرام عليه أن يدخل مكة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ولا يحل لأحد قدر على منعه وهو يعلم أنه لا يصلي إلا منعه؛ لأنه كافر نجس لا يجوز أن يقرب المسجد، حرام، لكنه لو حج مع الناس وهو لا يصلي فحجه غير صحيح ومردود عليه.(/13)
الثاني: البلوغ: فالصغير لا يجب عليه الحج، ولكن يصح منه، وهل يجزئه؟ لا يجزئه، إذاً: لا يجب عليه الحج لأنه غير مكلف، وقد قال النبي: ((رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم:- الصبي حتى يبلغ)) فيصح منه، ما الدليل؟ الدليل: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي لقي ركباً بالروحاء، فقال: ((من القوم؟)) قالوا مسلمون، ((فمن أنت؟)) قال: رسول الله، ثم رفعت إليه امرأة صبياً، فقالت: "ألهذا حج؟" قال: ((نعم. ولك أجر)) وجه الدلالة: أنه قال: نعم. لما قالت: ألهذا حج؟ وهذا يدل على أن حجه صحيح، ولكن: كيف يكون حج الصبي؟ نقول: إن كان الصبي مميزاً قيل له: افعل كذا.. افعل كذا، فعند الإحرام نقول له: انوِ الإحرام، ونأمره بالاغتسال والتجرد من المخيط إذا كان ذكراً، ونقول: انوِ الإحرام لأنه مميز يعرف، وهل يلزمه الطواف؟ نعم. يلزمه الطواف، ويلزمه السعي إلا إذا عجز فإنه يحمل. وإن كان الصغير غير مميز فإن وليه ينوب عنه في تعيين النسك، فيقول: لبيك (لفلان الصبي) مثلاً: نفرض أن اسمه عبد الله، فيقول: لبيك لعبد الله أو عن عبد الله؟ لعبد الله؛ لأن لبيك عن فلان معناها أنك تحج عنه، لكن لبيك له يعني: أن هذه التلبية لفلان يتلبس فيها بالنسك، فيقول: لبيك لفلان. إذا قال: لبيك لفلان وهو عبدالله هذا الصبي صار بذلك محرماً، ويطوف به ويسعى به، لكن يطوف به وحده ويسعى به وحده؛ لأنه لا يعقل النية ولا يمكن لوليه أن يأتي بنيتين لفعل واحد؛ لأن الفعل الآن من الولي، والصبي ليس منه فعل ولا نية، فلا ينو عن نفسه وعن الصبي إذا كان الصبي لا يدرك النية، فإذا قال قائل: هل الأفضل أن نحج بالصبيان، أي: نجعلهم يحجون ويعتمرون، أو الأفضل ألا نفعل؟ الجواب: إن كان الحج بهم يؤدي إلى التشويش عليك وإلى المشقة التي تحول بينك وبين إتمام نسكك فالأفضل ألا تحج بهم، وهذا حاصل في أيام المواسم؛ كالعمرة في رمضان، وكأيام الحج، ولهذا نقول: الأفضل ألا تحججهم أو تعتمر(/14)
بهم في
هذه المواسم؛ لأن ذلك مشقة عليهم ويحول بينك وبين إتمام نسكك على الوجه الأكمل، أما إذا كان في الأمر سعة فإن الإنسان يعتمر بهم، وكذلك لو قدر أن الحج صار سعة فإنه يحج بهم، والمهم ألا تحج بهم فتفعل سنة لغيرك على وجه يضر بك ويمنعك من إتمام النسك.
الأسئلة
كيفية إثبات دخول العشر من ذي الحجة
السؤال: يشكل على كثير من الناس دخول شهر الحج حيث أنه ليس كشهر رمضان يتحرى له في أول يوم منه، فهل يعتمد على التقويم في دخوله، أو على الأحوط، أو بإكمال الشهر؟ أرجو التفصيل لأن هذا يشكل حتى في صيام أيام البيض وفي الكفارات؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب: الحمد لله رب العالمين لقد أعطانا رسول الله قاعدة نبني عليها، فقال: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) فإذا أشكل عليك الأمر فأكمل الشهر ثلاثين فمثلاً: إذا صار اليوم التاسع والعشرون من ذي القعدة فإن اليوم الثلاثين منه لا يعتبر من ذي الحجة بل هو من ذي القعدة؛ لأن الرسول قال: ((أكملوا العدة ثلاثين)) فإذا أكملنا عدة ذي القعدة ثلاثين فلازم ذلك ألا نصوم إلا إذا أكملنا الثلاثين، وكذلك يقال بالنسبة لأيام البيض مع أن أيام البيض وقوعها في اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر على سبيل الأفضلية وإلا فإن أجرها يحصل سواء صامها الإنسان في هذه الأيام أو قبلها أو بعدها، فقد كان النبي يصوم من الشهر ثلاثين يوماً ولا يبالي من أي الشهر صامها من أوله أو وسطه أو آخره، والأمر فيها واسع. لكن بالنسبة لدخول شهر ذي الحجة، نقول: إذا لم يثبت دخوله ببينة فإننا نكمل عدة شهر ذي القعدة ثلاثين يوماً.
الجمع بين فضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان
السؤال: كيف نجمع بين فضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة وبين عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان في رمضان أجود ما يكون؟ وجزاكم الله خيراً.(/15)
الجواب: كان النبي أجود ما يكون في رمضان بالنسبة لبذل المعروف والإحسان لأنه شهر جود الله عز وجل وكرمه، فكان النبي يتعرض لجود الله عز وجل بما يبذله من النفع البدني والمالي؛ لأن من جاد على عباد الله جاد الله عليه، أما شهر ذي الحجة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر لنا سنة قولية وإذا ثبت القول عن رسول الله فإننا لسنا بحاجة إلى أن يثبت الفعل على وجه التطبيق، ومن زعم أن القول لا يعمل به حتى يثبت تطبيقه فقد قال شططاً، فإذا ثبت القول عن رسول الله وجب العمل به سواء علمنا أنه طبق أم لم نعلم؛ لأن الأصل هو التطبيق حتى وهو دليل على عدم التطبيق وإذا وجد عدم تطبيق فإنه لابد أن يكون هناك سبب يمنع من التطبيق وقضايا الأعيان كما نعلم ليس لها حصر.
حكم القصر بالنسبة لأهل مكة بمنى وساكن العزيزية
السؤال: كيف يكون ساكن العزيزية مسافراً إذا كان بمنى وهو يجلس بالنهار في بيته وينام فقط بالليل بمنى؟(/16)
الجواب: الذي أرى أنه لا ينبغي لساكن العزيزية أن ينزل إلى بيته في النهار، والسنة بلا شك أن يبقى في الخيمة في منى؛ لأن الحج نوع من الجهاد في سبيل الله، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لعائشة حين قالت: هل على النساء جهاد؟ قال: ((نعم. جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة)) فالمشروع في حق الحاج أن يبقى ليلاً ونهاراً في منى، ولكن بالنسبة لمنى في الوقت الحاضر أنا أتردد في أنها سفر بالنسبة لأهل مكة؛ لأن البيوت اتصلت بها، وصارت كأنها حي من أحياء مكة، أما مزدلفة وعرفة فهي خارج مكة بلا شك حتى إلى الآن لم تصلها منازل، فالأحوط لأهل مكة بمنى أن يتموا الصلاة لا سيما وأن المشهور من مذهب الإمام أحمد وجماعة كثيرة من أهل العلم أن أهل مكة ليسوا مسافرين حتى في عرفة، لكن القول الراجح: أنهم مسافرون لأنهم كانوا يصلون مع النبي في منى وفي عرفة ويقصرون، إنما بالنسبة لمنى في الوقت الحاضر أنا أتردد في أنها تعتبر سفراً بالنسبة لأهل مكة، لأنها -كما قلت- أصبحت وكأنها حي من أحياء مكة.
الحج أفضل الأعمال في عشر ذي الحجة
السؤال: أيهما أفضل: الأعمال الصالحة أم حج التطوع في عشر ذي الحجة؟
الجواب: الحج أفضل بلا شك؛ لأن الحج من أكبر الأعمال الصالحة، والإنسان المسافر للحج هو في عمل الحج من حين أن يسافر وقبل أن يسافر يستطيع أن يعمل العمل الصالح، فمثلاً: إذا قدرنا أنه سافر في اليوم الخامس من ذي الحجة فالأيام الخمسة الأولى سيعمل فيها العمل الصالح الذي يعمله المقيم، وإذا سافر فهو نشاء في حج لأنه قاصد للحج، والحج بلا شك أفضل من العمل الصالح، بل هو عمل صالح في الحقيقة، وعمل صالح كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
الحج واجب على الفور إذا تمت شروطه(/17)
السؤال: هناك شباب وكهول يتهاونون في أداء فريضة الحج مع العلم أن باستطاعتهم ذلك، فما حكم الله فيهم؟ وما الحكم إذا ماتوا على ذلك وهم يتعذرون بأعذارٍ واهية؟
الجواب: القول الراجح من أقوال أهل العلم أن الحج واجب على الفور إذا تمت شروطه، وأن الإنسان إذا تمت الشروط في حقه يجب عليه أن يبادر، فإذا أخر كان مسيئاً وعاصياً وآثماً، وهؤلاء الذين يتهاونون بالحج مع وجوبه الفوري هم كالمتهاونين بالصلاة والمضيعين لها وإن كان الحكم يختلف، فإن تارك الصلاة كافر وتارك الحج ليس بكافر، على كل حال أنا أنصح هؤلاء الإخوة المتهاونين الذين منَّ الله عليهم بالاستطاعة بأن يتوبوا إلى الله عز وجل وأن يبادروا بأداء الفريضة، وهم إذا ماتوا فقد ييسر الله لهم ورثة يقومون بأداء الواجب عنهم، وقد يتهاون الورثة أيضاً ولا يؤدون عنهم هذه الفريضة.
حكم عصيان الوالدين في الذهاب إلى الحج
السؤال: حججت في أحد الأعوام ولكن لم يكن الحج على الوجه المشروع، ولقد نويت أن أحج هذا العام، لكن والدتي غير موافقة بحجة أنني سبق أن حججت، مع العلم أنه يوجد أخ لي كبير يقوم بحاجتها، أرجو الإفادة؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب: الذي أرى أنه يجب عليك أن تقنع الوالدة بأن حجك السابق ليس حجاً كما ينبغي، وأنك تريد أن تحج حجاً يكون موافقاً للشرع، وفي ظني أنك إذا أقنعتها واستعنت عليها بمن يشير عليها بترك نهيك عن هذا، أي: يشير عليها ألا تنهاك وأعتقد أنها سوف توافق وسوف يكون في ذلك خير لك ولها أيضاً، ولا يحل لوالدتك أن تمنعك من الحج حتى وإن كان نفلاً كما في حالتك هذه؛ لأن الإنسان أو الوالد لا يحل له أن يمنع ولده من أي تطوع يتطوع به لله عز وجل.
متى يصير المتمتع مفرداً
السؤال: أحرم بالعمرة متمتعاً إلى الحج وبعد أن تحلل منها رجع إلى جدة أو إلى أهله، فهل هذا متمتع؟(/18)
الجواب: إذا أحرم الإنسان بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج ثم سافر بعد أن حل من العمرة وعاد إلى مكة محرماً بالحج وحده، فإن القول الراجح من أقوال أهل العلم أنه متمتع، وأن هذا السفر لا يقطع التمتع، إلا إذا سافر إلى بلده ثم عاد من بلده فأحرم بالحج وحده فإنه يكون مفرداً في هذه الحال؛ لأنه سَفَرٌ قطع بين العمرة والحج وأنشأ للحج سفراً جديداً، هذا هو المروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلى هذا: فإذا خرج الإنسان من مكة إلى جدة وهو متمتع نظرنا: إن كان من أهل جدة فقد انقطع تمتعه، وإن كان من غيرهم فإن تمتعه لا ينقطع، وهكذا إذا ذهب إلى المدينة بين العمرة والحج وليس من أهل المدينة فإن تمتعه لا ينقطع فهو باق على تمتعه. وخلاصة القول أن من سافر من المتمتعين بين العمرة والحج فإن كان سافر إلى بلده ثم رجع محرماً بالحج فإنه مفرد وليس بمتمتع، وإن سافر إلى بلد سوى بلده ثم رجع محرماً بالحج فإنه لا يزال على تمتعه.
حكم الصلاة خلف الإمام بنية أخرىالسؤال: إذا أراد المسافر أن يجمع الظهر مع العصر ثم وصل إلى قريته أو إلى قرية من القرى في وقت العصر فوجد الجماعة يصلون العصر، فهل يصلي العصر معهم قبل الظهر؟ أم يصلي الظهر ثم يصلي العصر، ولو فاتته الجماعة؟ أم ماذا يصنع؟
الجواب: إذا دخل الإنسان المسجد وهو جامع فوجد الناس يصلون الصلاة الثانية، يعني: دخل وقد نوى الجمع بين الظهر والعصر المسجد والناس يصلون صلاة العصر فإننا نقول له: ادخل معهم بنية الظهر وإن كان الإمام يصلي العصر؛ لأن اختلاف النية بين الإمام والمأموم لا يضر، فادخل معهم بنية الظهر وإذا سلمت فأت بصلاة العصر، ومعلوم أنك سوف تصلي الظهر مع الإمام أربعاً، وسوف تصلي العصر إذا كان البلد غير بلدك ستصلي ركعتين لأنك مسافر.
بيان متى يكون على المشقة أجر.(/19)
السؤال: هل العمل إذا كان شاقاً على النفس كان أعظم للأجر؟ وما رأيك فيمن يقول: أحج على بعير أو على قدمي لأنه أعظم للأجر، ويأخذ هذا من حديث عائشة رضي الله عنها عندما أمرها الرسول أن تعتمر من التنعيم؟
الجواب: الجواب على هذا أن نقول: المشقة إن كانت من لازم فعل العمل فإنك تؤجر عليها، وإن كانت من فعلك فإنك لا تؤجر عليها بل ربما تأثم عليها، فمثلاً: إذا كان الإنسان حج على سيارة أو طيارة لكن في أثناء المناسك حصل له تعب من الشمس أو من البرد في أيام الشتاء أو ما أشبه ذلك فإنه يؤجر على هذه المشقة لأنها حصلت بغير فعله، أما لو كانت المشقة بفعله مثل أن يتعرض هو بنفسه للشمس فإنه لا يؤجر على هذا، ولهذا لما رأى النبي رجلاً قد نذر أن يقف بالشمس منعه عن ذلك ونهاه؛ لأن تعذيب الإنسان لنفسه إساءة إليها وظلم لها والله سبحانه وتعالى لا يحب الظالمين.
فالحاصل: أن المشقة الحاصلة في العبادة إن كانت بفعلك فأنت غير مأجور عليها، وإن كانت بغير فعلك فأنت مأجور عليها، وأما حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي أمرها أن تخرج إلى التنعيم فليس هذا من باب طلب المشقة ولكن لأنه لا يمكن للإنسان أن يحرم بالعمرة من الحرم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن أبي بكر وقد أمره أن يخرج بعائشة: ((اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة)) فأشار النبي إلى أن الحكمة من خروجها إلى التنعيم هو أن تخرج من الحرم لتأتي بالعمرة من الحل، إذ لا يمكن للإنسان أن يأتي بالعمرة من الحرم.
حكم من ألغت العمرة أو ألغت الإحرام من الميقات لكونها حائض(/20)
السؤال: امرأة حائض مرت على ميقات المدينة في أواخر شهر رمضان ولجهلها ظنت أن الحائض لا تصح منها العمرة فلم تنو العمرة عند الميقات مع أنها كانت ناوية قبل أن يأتيها الحيض، السؤال: إذا طهرت هذه المرأة من الحيض في شهر شوال، فهل تخرج من الحل وتحرم؟ أم أنها تذهب إلى الحرم وتطوف وتسعى وتقصر من شعرها أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب: إذا وصلت المرأة إلى الميقات وهي حائض ثم ألغت العمرة أي: فسخت نيتها، وقالت: ما دام جاءها الحيض فإنها تلغي العمرة وتأتي بها في سفر آخر، فهذه إذا قدر أنها طهرت في وقت يمكنها أن تأتي بعمرة، فإنها تحرم من المكان الذي نوت فيه العمرة، مثلاً: مرت بميقات أهل المدينة وهي ذي الحليفة المسماة بـ"أبيار علي"، مرت وهي حائض فقالت: ما دام الحيض قد أتاها فإنها ستفسخ النية ولا تريد عمرة، ألغتها نهائياً، ولما وصلت إلى جدة طهرت، فقالت: ما دمت طهرت فإني سأعتمر، ففي هذه الحالة تحرم من جدة ولا حرج عليها، وذلك لأنها ألغت النية الأولى نهائياً، أما لو لم تلغ النية الأولى، يعني: مرت بالميقات وهي حائض وظنت أن الحائض لا يصح منها التلبس بالإحرام، فقالت: سألغي التلبس بالإحرام الآن وإذا طهرت أحرمت بالعمرة، فإن هذه يجب عليها إذا طهرت أن ترجع إلى الميقات الذي تجاوزته وتحرم منه، ولا يحل لها أن تحرم من مكانها الذي طهرت فيه؛ لأن هذه لم تلغ العمرة وإنما ألغت الإحرام من الميقات، وفرق بين من ألغى النسك نهائياً، وبين من ألغى الإحرام من الميقات. إذاً: ما هو العمل الصحيح إذا مرت المرأة وهي تريد العمرة بالميقات وهي حائض؟ نقول: العمل الصحيح أن تحرم وهي حائض لأن إحرام الحائض صحيح، ولهذا لما ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما أرسلت إلى النبي: كيف أصنع؟ فقال: ((اغتسلي واستذفري بثوب وأحرمي) فلم يجعل النبي النفاس مانعاً من الإحرام، بل قال: ((اغتسلي واستذفري وأحرمي)) فنقول للمرأة إذا مرت(/21)
بالميقات وهي حائض تريد العمرة: أحرمي بالعمرة ولكن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري.
حكم تارك الصلاة وحكم دخوله الحرم
السؤال: إذا قلنا: إن الرجل الذي لا يصلي لا يجوز له أن يدخل مكة، إن هو استدل بالآية التي تدل على عدم دخول المشركين، فهل تارك الصلاة يعتبر مشركاً؟
الجواب: نعم. تارك الصلاة يعتبر مشركاً، لقول النبي: ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) ثم إن المشرك عندما منع لفساد عقيدته، والكافر فاسد العقيدة وفاسد العمل، ولا فرق بين المشرك والمرتد بل المرتد أسوء حالاً من المشرك؛ لأن المرتد لا يقر على ردته والمشرك يقر على شركه، بمعنى: أن المشرك ربما يكون بينه وبين المسلمين عهد لا يعتدون عليه، لكن المرتد ليس له عهد بل يجبر على الرجوع إلى الإسلام فإن لم يفعل قتل.
حكم من حج على نفقته وفي ذمته دين
السؤال: إذا أراد الإنسان الحج وهو عليه دين مثل أن يكون عليه أقساط في البنك العقاري وبقي عليه قسطان لم يسددهما، فهل يجوز له الحج قبل تسديدهما أم لا؟(/22)
الجواب: أولاً: الحج سيأتي إن شاء الله من شروطه: الاستطاعة، وسنقسمه إن شاء الله في الدرس القادم، والإنسان الذي ليس بمستطيع وإذا لم يكن مستطيعاً فالحج ليس واجباً عليه، والدين واجب عليه، والإنسان العاقل لا يأتي بالشيء الذي ليس بواجب ويدع الشيء الواجب، بل العاقل يبدأ أولاً بالواجب ثم يأتي بغير الواجب، فنقول: الدين يجب عليك أداؤه، وأما الحج فليس بفريضة عليك الآن، ما دمت مديناً لا تقدر على الوفاء فاحمد الله على العافية ولا تحج، الدرهم أو الريال الذي تجعله في الحج اجعله في قضاء الدين، لو قدر أن عليك خمسمائة ألف وأنك سوف تحج بخمسمائة ريال، نقول: أوف شيئاً من الدين بخمسمائة ريال ولا تحج، وأنت إذا أعطيت خمسمائة ريال من له عليك خمسمائة ألف صار له عليك خمسمائة ألف إلا خمسمائة ريال فنقص الدين، وهذه فائدة، نعم لو فرض أن المدين وجد من يحمله مجاناً، مثل أن يأتي إليه إنسان، ويقول له: حج معنا ساعدنا ونحن نقوم بنفقتك. ففي هذه الحال يحج لأنه لا يضر غرماءه شيئاً، أما إن كان يريد أن يبذل المال فإننا نقول له: لا تحج واقض دينك فهذا هو الأفضل لك.
حكم من حلف يميناً على شيء ثم لم يفعله
السؤال: شخص حلف يميناً على أنه يتزوج على زوجته ولو بعد عشرين سنة ولكنه ندم، فماذا يفعل؟(/23)
الجواب: ما دامت السنة مؤجلة إلى عشرين سنة فليصبر فلعله يندم اليوم ولا يندم في المستقبل، لكن لو مضى عشرون سنة ولم يتزوج فحينئذ يجب عليه كفارة يمين بأن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم أو يعتق رقبة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، لكن قد يقول: إنني أحب أن أتحلل من هذا اليمين لأستريح فنقول: نعم. الحمد لله قد شرع الله للإنسان أن يتحلل من يمينه، كما قال الله تعالى للنبي: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فأنت الآن أطعم عشرة مساكين، كفر كفارة يمين وكأنك حنثت في يمينك. ثم إنني أشير على هذا الأخ وعلى غيره من الناس ألا يكثروا الحلف بالله، فإن كثيراً من المفسرين فسروا قول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] أي: لا تكثروا الحلف. ونحن نرى كثيراً من الناس يحلفون ثم يندمون، فأنت لا تحلف، إذا كنت مصمماً على الشيء فافعله بدون يمين إذا كان خيراً، أو إذا ابتليت بكثرة الأيمان فقل: إن شاء الله، فإن الإنسان إذا قال: إن شاء الله لم يحنث، حتى لو قال يميناً مغلظة فإنه لا يحنث، أي لو قال: والله! ثم والله! ثم والله! لأفعلن إن شاء الله. فإنه إذا لم يفعل فلا حنث عليه ولا كفارة، قال النبي: ((من حلف على يمين ثم قال: إن شاء الله لم يحنث)).
حكم قصر الصلاة في الحضر
السؤال: ما رأيكم في رجل صلى بقوم صلاة العشاء في ليلة مطيرة وقصر الصلاة الرباعية ركعتين وهو في الحضر؟
الجواب: رأينا أن صلاته هذه غير صحيحة، وأنه يجب عليه الآن أن يصلي أربعاً قضاءً لما فعل، وأن يخبر الجماعة الذين هو إمامهم بأنه يلزمهم أن يصلوا الآن صلاة العشاء أربعاً؛ وذلك لأنه لا يوجد سبب للقصر إلا السفر فقط، والمرض يبيح الجمع ولا يبيح القصر، والمطر يبيح الجمع ولا يبيح القصر.(/24)
وأذكر أنني عدت مريضاً فسألته: كيف تصلي؟ وهكذا ينبغي إذا عاد أحدكم مريضاً، أن يسأله كيف يصلي، وكيف يتطهر ليخبره بالشرع إذا كان مخطئاً، فقال هذا الرجل: والله! إنني عشرين يوماً وأنا الحمد لله -إخبار لا شكوى- أجمع وأقصر، وهو في بلده، قوله: (أجمع) يوافق على هذا لأن المريض إذا شق عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها فله الجمع، لكن قوله: (وأقصر) هذا لا يوافق عليه، بماذا نأمر هذا المريض؟ نأمره أن يعيد الصلاة، صلاة العشاء خاصة لأنه صلاها ركعتين والواجب عليه أن يصليها أربعاً، وكذلك صلاة العصر وصلاة الظهر إن كان يقصرهما يجب عليه أن يعيدهما أربعاً.
حكم من نسي وصلى غير صلاة الوقت
السؤال: أنا شاب صليت في البر صلاة المغرب، فلما رجعت من البر صليت في المسجد صلاة العشاء وحسبت أنها صلاة المغرب ولم أنتبه إلا في الركعة الثالثة أنها صلاة العشاء، وكانت نيتي أني أصلي صلاة المغرب، فهل يجب علي إعادة الصلاة أم لا؟
الجواب: نعم. يجب على الإنسان إذا نسي وصلى صلاة غير صلاة الوقت وعزم وصمم على أنها الصلاة التي هي غير صلاة الوقت يجب عليه أن يعيد الصلاة، لقول النبي: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) وعلى هذا: فإذا ذكر في أثناء الصلاة أنها ليست الصلاة التي نواها فإنه يخرج منها، أي: ينوي قطعها ويستأنف الصلاة الحاضرة من جديد.
حكم قصر الصلاة لمن زار موطنه الأصلي
السؤال: أنا رجل قدمت إلى القصيم لطلب العلم والدراسة قبل عدة سنوات، ووالدي وإخواني وأقاربي في بلد آخر من المملكة، وفي أيام الإجازة أسافر لزيارة أهلي، فهل أقصر الصلاة مدة الزيارة علماً أني لا أزيد في الغالب على عشرة أيام ثم أرجع إلى القصيم؟(/25)
الجواب: هذه المسألة لا تختص بطالب العلم بل تكون لطالب العلم ولغيره، إذا انتقل الإنسان من بلده الأصلي إلى بلد آخر ثم عاد إليه لزيارة أو لقضاء حاجة أو ما أشبه ذلك فإنه يعتبر مسافراً وإن كان بلده الأصلي، ودليل ذلك: أن رسول الله قصر في مكة و مكة هي بلده الأصلي، وقد تزوج بها ووُلِدَ له فيها أولاد، كل أولاده وُلدوا بمكة إلا إبراهيم، وعلى هذا فنقول لهذا السائل: إذا كان مجيئك إلى القصيم مجيء انتقال من بلدك الأصلي فإن زيارتك لأهلك تعتبر سفراً، وإن كانوا في بلدك الأصلي، وأما إذا كنت تعتبر أن القصيم وطناً لك، وأن بلادك الأصلية وطن لك صار لك وطنان، ولا مانع من أن يكون للإنسان وطنان، ولهذا لو كان شخص يأتي في أيام الشتاء إلى القصيم وفي أيام الصيف يذهب إلى الطائف، قد اتخذ له وطنين؛ الطائف في أيام الصيف، والقصيم في أيام الشتاء، أنت الآن لك وطنان.. لا تقصره لا في القصيم ولا في الطائف؛ لأن البلدين كلاهما اتخذته وطناً، بخلاف الإنسان الذي استوطن في مكان ثم ذهب إلى مكانه الأصلي لزيارة أو لشغل فإن هذا يعتبر مسافراً وإن كان قد جاء إلى بلده الأصلي.
حكم وصف مكة بـ(المكرمة) والمدينة بـ(المنورة)
السؤال: هل لفظ (المكرمة) وصفاً لمكة، أو (المنورة) وصفاً للمدينة من البدع؟ وهل الأفضل أن يقال: مكة المكرمة المحرمة و المدينة النبوية أفيدونا جزاكم الله خيراً.(/26)
الجواب: لا أعلم أن مكة توصف بمكة المكرمة في كلام السلف، وإنما يقال: مكة فقط، وكذلك المدينة لا توصف بأنها منورة في كلام السلف وإنما يسمونها المدينة، لكن حدث أخيراً بأن يقال في مكة: المكرمة، ويقال في المدينة: المنورة، و مكة سماها الله سبحانه وتعالى بلداً آمناً، وسماها بلداً محرماً، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل:91]، وكذلك مباركة، وأما المدينة فهي لا شك المدينة النبوية وأنها طيبة كما سماها النبي بطيبة، لكن الناس اتخذوها عادة أن يقولوا: المدينة المنورة و مكة المكرمة، وليتهم يقولون: مكة فقط والمدينة فقط؛ لأننا لسنا أشد تعظيماً لهذين البلدين ممن سلفنا.
حكم الزواج بأخوات الأخت من الرضاعة من أمة، أو ممن رضعت ثلاث رضعات
السؤال: أنا لي أخت أصغر مني ولقد رضعت معها بنت مع أمي ليلة كاملة رضعت خلالها ثلاث رضعات فقط، فهل هذه البنت تكون أختاً لي أم لا؟ وإن لهذه البنت أختاً أصغر منها، فهل يحل لي أن أكون زوجاً لها أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب: أولاً: يجب أن نعلم أن الرضاع لا يحرم إلا إذا كان خمساً معلومة، لما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات" فلا يؤثر الرضاع إذا كان مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وفي السؤال أن الرضاع كان ثلاثاً، وعلى هذا فلا يؤثر شيئاً، يجوز لك أن تتزوج حتى بالبنت التي رضعت من أمك ما دامت لم ترضع إلا ثلاث مرات، أما لو رضعت خمس مرات فإن هذه البنت تكون أختاً لك ولجميع إخوتك من أبيك أو أمك، وأما أخواتها فإنه لا علاقة بينك وبينهن، فيجوز لك أن تتزوج من أختها الصغيرة التي لم ترضع من أمك وأنت لم ترضع من أمها.
حكم من أخر التقصير إلى بعد طواف الوداع(/27)
السؤال: امرأة اعتمرت في رمضان وعندما طافت طواف الوداع خرجت من مكة فقصرت من شعرها لتحل من العمرة، فهل عليها شيء - علماً بأن هذا كله كان في نفس اليوم-؟
الجواب: أما إذا تعمدت فلاشك أنها قد أساءت، يعني: إذا أخرت التقصير عن طواف الوداع فإنها قد أساءت بلا شك، وأما إذا كانت ناسية وذكرت بعد أن طافت طواف الوداع فإنه لا حرج عليها في ذلك؛ لعموم قول الرسول: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) فجعل النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة المنسية تصلى إذا ذكرت، فهذا التقصير إذا كانت قد نسيت نقول لها: قصري متى ذكرت.
حكم من أجنب في الحج
السؤال: إذا حصلت الجنابة في أيام الحج، فهل تخل به؟ وهل لها كفارة نرجو الإيضاح؟
الجواب: إذا حصلت الجنابة على الإنسان يجب عليه أن يغتسل سواء في الحج أو في غيره؛ لأنه لا يمكن أن يصلي وعليه جنابة، فإن لم يتمكن ولا أظنه الآن يعجز في الوقت الحاضر اللهم إلا نادراً، فإذا تمكن أن يغتسل وجب عليه أن يغتسل، وإذا لم يتمكن فإنه يتيمم حتى يجد الماء، وأما أن يدع التيمم والغسل بحجة أنه حاج فهذا حرام، لابد أن يغتسل من الجنابة أو يتيمم إذا تعذر
الاغتسال.
جلسات الحج [2]
ابتدأ الشيخ هذه الجلسة بمذاكرة شروط الحج والعمرة، ثم دخل في موضوع مهم ألا وهو آداب الإحرام واستفاض في ذكرها، وذكر فروع بعض الآداب، ثم عقب ذلك بذكر محظورات الإحرام مبيناً الملابسات فيها، ذاكراً لقواعد تضبط هذه المحظورات.
شروط الحج والعمرة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:(/28)
فإننا في هذه الليلة نلتقي اللقاء الثاني للكلام على ما يتعلق بالعمرة والحج؛ وذلك لأن معرفة ما يتعلق بالعمرة والحج أمر مهم جداً، فإن مسائله كثيرة متشابهة تشتبه حتى على طلاب العلم، ولهذا ينبغي أن يعتني الإنسان بمعرفة أحكام الحج والعمرة وما يتعلق بذلك حتى يؤدي هذا النسك على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
سبق لنا أن قلنا: إن الحج والعمرة لا يجبان إلا بشروط وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة، خمسة شروط لا يجب حج ولا عمرة إلا باستكمال هذه الشروط. الإسلام والعقل شرطان للوجوب وللصحة، ولهذا لا يصح الحج ولا العمرة من كافر، ولا يصح الحج ولا العمرة من مجنون، والبلوغ شرط للوجوب والإجزاء وليس شرطاً للصحة، فما هو الدليل أن البلوغ ليس شرطاً للصحة؟ حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن امرأة رفعت إلى رسول الله صبياً، فقالت: "ألهذا حج؟" قال: ((نعم. ولك أجر))، والحرية شرط للوجوب والإجزاء وليست شرطاً للصحة؛ لأن الرقيق عاقل مسلم فيكون حجه وعمرته صحيحاً ولكن لا يجب عليه الحج ولا العمرة ولا يجزئ عنه، وهذه المسألة فيها خلاف، والقول الراجح: أن الرقيق إذا حج فحجه صحيح مجزئ إذا كان بالغاً عاقلاً مسلماً، والاستطاعة شرط للوجوب فقط، فلو أن الإنسان تكلف الحج وحج مع المشقة فحجه صحيح مبرئ للذمة، وذكرنا فيما سبق أن الاستطاعة وضدها العجز تكون بالمال وبالبدن، فالاستطاعة بالمال والبدن شرط للوجوب والأداء، والاستطاعة بالمال دون البدن شرط للوجوب دون الأداء، ولهذا من كان عاجزاً عن الحج والعمرة عجزاً لا يرجى زواله وعنده مال فإنه يلزمه أن يقيم من يحج عنه وأن يعتمر.
آداب الإحرام
ثم إن الإنسان إذا أراد الإحرام فإن له آداباً ينبغي له أن يقوم بها، منها:
الاغتسال(/29)
أن يغتسل كما يغتسل للجنابة، ولا فرق في هذا بين الذكر والأنثى ولا بين المرأة الحائض والطاهر، ولهذا لما ولدت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر رضي الله عنه محمد بن أبي بكر في ذي الحليفة أرسلت إلى النبي كيف تصنع، قال: ((اغتسلي واستذفري بثوب وأحرمي)) فالاغتسال سنة لا يجب للإنسان أن يدعها إلا إذا لم يجد الماء أو خاف ضرراً باستعماله، وإذا لم يجد الماء أو خاف ضرراً باستعماله، فهل يتيمم لأنه غير قادر على الماء أو لا يتيمم؟ في هذا أيضاً خلاف بين العلماء، وذكرنا فيما سبق أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إنه لا يتيمم؛ لأن هذا ليس عن جنابة والتيمم إنما ورد فيما إذا كان الغسل عن حدث أو الوضوء عن حدث.
التطيب
كذلك ينبغي بعد الاغتسال أن يتطيب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته كما كان النبي يفعل ذلك، قالت عائشة رضي الله عنها: كنت أطيب النبي لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت وقالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله وهذا يدل على أنه ينبغي أن يكثر من الطيب؛ لأن البريق واللمعان في المفارق يدل على أن الطيب كان كثيراً وهو كذلك.
التجرد من الثياب ولبس الإزار
وينبغي أيضاً: أن يتجرد من الثياب ليلبس إزاراً ورداءً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين)) فيلبس الإزار والرداء، ويتجرد من المخيط، والأفضل أن يكون الإزار والرداء أبيضين نظيفين أو جديدين. هذا بالنسبة للرجل، أما بالنسبة للمرأة فلتلبس ما شاءت من الثياب، غير أنها لا تتبرج بالزينة، بل تلبس ثيابها العادية ولا حرج عليها.
مسائل متفرقة في باب الإحرام(/30)
هل يشرع أن يطيب ثوب الإحرام؟ الجواب: لا. لأن الرسول قال: ((لا تلبسوا ثوباً مسه الزعفران ولا الورس)) فلا يجوز للإنسان أن يطيب الإزار والرداء، ولا أن تطيب المرأة ثيابها التي تحرم بها، لأن رسول الله يقول: ((لا تلبسوا ثوباً مسه الزعفران ولا الورس)) وبعد هذا يَشْرَعُ في النسك، أي: ينوي الدخول فيه كما ينوي الإنسان الدخول في الصلاة، فينوي أنه دخل وتلبس بالنسك، ويلبي ويذكر نسكه فيقول: لبيك اللهم عمرة إذا كان معتمراً، ويقول: لبيك اللهم حجاً إذا كان حاجاً، وإن كان قارناً قال: لبيك عمرة وحجاً، وهل يقول: لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج؟ الجواب: لا. لا حاجة أن يقول هذا لأن مجرد نية الإنسان الحج في هذا العام هو التمتع في الواقع، فالتمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه، ولا حاجة أن يقول: متمتعاً بها إلى الحج. بل يقول: لبيك عمرة. وإذا كان من نيته أن يحج فهذا هو التمتع.
وهل يشترط عند الإحرام أن محله حيث حبس فيما لو حبسه حابس؟ فيه خلاف بين العلماء، والقول الراجح: أنه لا يشترط؛ لأن النبي لم يشترط، إلا إذا كان يخشى من عائق يمنعه من إتمام النسك، فإذا كان يخشى من ذلك كما لو كان يخشى أن يفوته الوقوف بعرفة أو يخشى أن يمرض أو ما أشبه ذلك فإنه لا بأس أن يشترط؛ لأن النبي قال لضباعة بنت الزبير وقد أتت إليه تخبره أنها تريد الحج وأنها شاكية، قال: ((حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني فإن لك على ربك ما استثنيت)).
أما من كان لا يخاف من عائق فالأفضل ألا يشترط وأن يعتمد على الله وأن يحسن الظن بالله، فإن هذا هو الأتبع لرسول الله فإن قال قائل: الحوادث يخشى منها؛ كحوادث السيارات، والإنسان إذا أصيب بالحادث ربما لا يتمكن من إتمام النسك أفلا نقول أنه يشرع الاشتراط على كل حال؟ فالجواب: لا.(/31)
أولاً: لأن الحوادث لو نسبتها إلى السيارات لوجدت أنها قليلة جداً، آلاف السيارات وتجد الحوادث لا تتجاوز المائة، فالحوادث قليلة، ثم إن الحوادث موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لم يشرع لأمته أن يشترطوا على كل حال، ألم تسمعوا قصة الرجل الذي وقصته ناقته وهو واقف بعرفة حتى مات، فهذه حادثة، فالحوادث موجودة حتى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى يومنا هذا، لكن الأصل السلامة فالأفضل إذاً ألا تشترط إلا إذا خفت من عائق يمنعك من إكمال النسك. وهل تهل بالنسك إذا ركبت أو إذا علوت على البيداء إن كنت محرماً من ذي الحليفة أو من مكان الصلاة التي عقدت الإحرام بعدها؟ في هذا خلاف بين أهل العلم أيضاً بناء على اختلاف الروايات في هذا، والراجح: أن الروايات المختلفة يمكن الجمع بينها بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله أَهلَّ دبر الصلاة فسمعه قوم، فقالوا: أهل دبر الصلاة، ولما ركب أهل فسمعه قوم، فقالوا: أهل حين ركب، ولما علا على البيداء أهل فسمعه قوم، فقالوا: أهل حين علت به ناقته على البيداء، وهذا الجمع جمع حسن، وعلى هذا فيكون الإهلال من حين أن تنتهي الصلاة؛ لأن المشروع أن يهل الإنسان عقب صلاة، فإذا وصلت إلى الميقات مثلاً في الضحى وتغسلت وحان وقت صلاة الظهر فصل الظهر ثم أحرم إذا فرغت من الصلاة، وإن لم تبق حتى صلاة الظهر فصل ركعتين سنة الضحى مثلاً وأحرم بعد هاتين الركعتين، وإن لم يكن وقت ضحى فصل ركعتين تنوي بهما سنة الوضوء، وأحرم بعدهما، وإن لم تفعل وأحرمت بدون دبر الصلاة فإحرامك صحيح. ثم تسير إلى مكة متجهاً إليها، وتلبي إلى أن تشرع في الطواف إن كنت في العمرة، أو إلى أن ترمي جمرة العقبة يوم العيد إن كنت في حج، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان صفة الحج والعمرة في مكان آخر، ولكننا الآن نتكلم على الذي يترتب على الإحرام.
محظورات الإحرام(/32)
ما الذي يترتب على الإحرام؟ يترتب على الإحرام اجتناب محظورات الإحرام، واجتناب جميع المحرمات، لقول الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] فمن حين أن يحرم الإنسان بحج أو عمرة تترتب عليه أي: على إحرامه أحكام الإحرام من تجنب المحظورات، ولنبدأ بالمحظورات حتى نعرفها ونتجنبها، فالمحظورات:
الطيب
أولاً: الطيب، فلا يجوز للإنسان بعد نية الإحرام أن يتطيب، والدليل على ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الرجل الذي وقصته ناقته، قال النبي: ((لا تحنطوه)) أي: لا تجعلوا فيه طيباً، لأن الحنوط أخلاط من الطيب يطيب بها الميت، وهذا دليل على أنه لا يجوز للإنسان بعد نية الإحرام أن يتطيب، ولكنه قبل نية الإحرام يتطيب، وإذا بقي الطيب بعد نية الإحرام فلا حرج عليه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كنت أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله (وهو محرم) فإذا قال قائل: ما تقولون فيما إذا تطيب الإنسان قبل الإحرام وبقي الطيب ومسه الإنسان، أي: مس الطيب لغرض صحيح؛ كمسح رأسه في الوضوء وتخليل شعره في الغسل، وفي هذه الحال لابد أن يمس الطيب فهل يلزمه فدية ذلك؟ الجواب لا. لا يلزمه في ذلك فدية؛ لأن الرسول كان يتطيب قبل إحرامه وينظر إلى وبيص المسك في مفارقه، وهو يتوضأ بلا شك ويغتسل ويفرك رأسه، ولابد أن يعلق بيده شيء من الطيب، لكنه لم يستأنف الطيب بعد الإحرام، فهذا لا يضر، أولاً: لأن ذلك ظاهر السنة، والثاني: لأن التحرز منه شاق؛ لا يمكن للإنسان أن يتحرز من الطيب الذي تطيب به قبل الإحرام. الطيب الذي يجب على المحرم أن يتجنبه، هل هو خاص بطيب الثوب أو بطيب البدن، أو بطيب المأكول أو المشروب أو المفروش أم ماذا؟ نقول: هو عام، فلا يجوز للإنسان أن يستعمل الطيب بعد نية الإحرام لا في ثيابه ولا في بدنه، ولا في أكله ولا في شربه، ولا في أدوات التغسيل، وعلى هذا: فلا(/33)
يجوز للمحرم أن يشرب قهوة فيها زعفران؛ لأن الزعفران من الطيب، وإذا شربها فقد مس الطيب، وكذلك أيضاً: لا يجوز أن يرش على فراشه شيئاً من الطيب ثم يضطجع عليه لأن هذا استعمال للطيب، هذا واحد من محظورات الإحرام.
الجماع ووسائله وذرائعه
الثاني: الجماع ووسائله وذرائعه، لقول الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} - والرفث هو: الجماع - {وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] فلا يجوز للمحرم أن يجامع زوجته بعد نية الإحرام، ولا تجوز مقدمات الجماع كالتقبيل واللمس بشهوة وما أشبه ذلك، بل ولا يجوز عقد النكاح الذي قد يكون ذريعة إلى الجماع وانشغال القلب بالزوجة الجديدة، بل ولا يجوز أن يخطب الإنسان امرأة؛ لأن هذا ذريعة إلى العقد ثم الدخول؛ ولأن هذا يوجب انشغال القلب عن النسك، فهذه أربعة أشياء: الجماع، ومقدمات الجماع، وعقد النكاح، والخطبة، كل هذا حرام وهو من محظورات الإحرام وأعظمها الجماع، قال أهل العلم: والجماع إذا كان قبل التحلل الأول ترتبت عليه أحكام:
أولا: الإثم.
ثانياً: فساد النسك.
ثالثاً: وجوب المضي فيه.
رابعاً: وجوب قضائه من العام القادم.
خامساً: الفدية: وهي بدنة يذبحها ويفرقها على المساكين.(/34)
إذاً: الجماع أعظم محظورات الإحرام، وليس في محظورات الإحرام شيء يفسد النسك إلا الجماع قبل التحلل الأول، فإن وقع أعني الجماع بعد التحلل الأول تعلق فيه: أولاً: الإثم، ثانياً: فساد الإحرام، ثالثاً: فدية يخير فيها بين ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام، والفدية على ما قال العلماء كفدية الأذى، أي يخير فيها بين أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يذبح شاة يتصدق بها على الفقراء، المثال: رجل رمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق وجامع زوجته قبل أن يطوف طواف الإفاضة، هذا الجماع حصل بعد التحلل الأول، فيكون آثماً بذلك، ويفسد الإحرام دون النسك، إذاً: ماذا يصنع إذا فسد الإحرام؟ قال العلماء: يجدد إحرامه من الحل، أي: يذهب إلى التنعيم أو إلى عرفة ويحرم بإزار ورداء، ثم يطوف طواف الإفاضة وعليه الإزار والرداء ويسعى كذلك. المباشرة والتقبيل من المحظورات لأنها وسائل للجماع، فإن الإنسان إذا قبل أو باشر كان من اليسير عليه أن يجامع؛ لأنها تثور شهوته فيجامع وقد لا يملك نفسه، ولهذا منع المحرم من المباشرة والتقبيل، فإن فعل باشر أو قبل ولم ينزل فعليه فدية مخير فيها بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، وإن أنزل فإن كان قبل التحلل الأول فقد قال بعض العلماء: إن عليه بدنة، وقال آخرون: إنه ليس عليه بدنة بل عليه فدية أذى، فيخير بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة. وهذا القول هو الصحيح لأنه لا سواء بين الجماع وبين الإنزال بالمباشرة، بل بينهما فرق عظيم، فيكف نلزمه بفدية الجماع بدون دليل؟ الثالث: مما تعلق في الجماع: عقد النكاح، فلا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح لنفسه ولا لغيره، ولا يجوز أن يعقد عليه، فلو زوج الرجل ابنته وهو محرم فإن ذلك حرام عليه والنكاح فاسد غير صحيح، ولو تزوج هو بنفسه فإنه حرام عليه والنكاح فاسد،(/35)
ولو عقد على ابنته المحرمة وهو محل فهو آثم والنكاح فاسد غير صحيح. بقي الأمر الرابع وهو: الخطبة، فلا يحل للإنسان أن يخطب امرأة وهو محرم، لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن النبي قال: ((لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب)) ولا يخطب عليه أيضاً، فلا يجوز للإنسان المحرم أن يخطب امرأة، ولا يجوز أن تخطب المرأة المحرمة، فإن فعل وخطب امرأة وهو محرم فليس له حق في هذه الخطبة، فيجوز لإنسان آخر أن يخطب هذه المرأة؛ لأن خطبة هذا الرجل المحرم فاسدة غير مشروعة فلا حق له، مع أن الخطبة على خطبة أخيه في الأصل حرام، لكن لما كانت خطبة المحرم خطبة فاسدة صار لا حق له في ذلك، وجاز لغيره أن يخطب هذه المرأة؛ لأن خطبة المحرم لها خطبة منهي عنها لا أثر لها ولا يترتب عليها أحكام الخطبة.
تغطية الرأس(/36)
الثالث: تغطية الرجل رأسه، فلا يحل للرجل أن يغطي رأسه بملاصق وهو محرم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل الذي وقصته ناقته فمات: ((لا تخمروا رأسه)) فلا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه بملاصق حال الإحرام؛ لنهي النبي عن ذلك. فإذا قال قائل: هذا في الميت؟ فإننا نقول: لا فرق بين الميت والحي، لقوله: ((فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)) فدل هذا على أن من كان حاله التلبية يثبت له هذا الحكم. وقولنا: أن يغطي رأسه بملاصق، هل يشترط أن يكون معتاداً أم لا؟ يعني: لو ضع منديلاً على رأسه هل يحرم أو لا يحرم؟ يحرم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ((لا تخمروا رأسه)) فالفرق بين المعتاد كالطاقية والغترة والعمامة، وغير المعتاد كالمنديل مثلاً، فإن كان غير ملاصق فهو جائز، مثل الشمسية والخيمة ونحو ذلك؛ لأن النبي إنما نهى عن تغطية الرأس لا عن تظليل الرأس، والشيء البائن عن الرأس المبتعد عنه لا يقال: إنه غطى الرأس بل ظلل الرأس، ولهذا قالت أم الحصين:رأيت النبي ضحى يوم العيد راكباً على ناقته ومعه بلال و أسامة وأحدهما يظلله بثوب من الحر حتى رمى جمرة العقبة، فدل هذا على أن التضليل ليس تغطية، وإذا قال قائل: لو وضع الإنسان يده على رأسه، هل يحرم؟ الجواب: لا. لأن هذا لا يعد ستراً في العادة ولا تغطية، فلو وضع إنسان يده على رأسه من شدة الحر مثلاً وهو محرم فلا بأس، ولو حمل عفشه على رأسه وهو محرم، فهل يجوز؟ نعم يجوز؛ لأن هذا لا يسمى ستراً في العادة ولا جرت العادة أن الإنسان إذا أراد أن يخمر رأسه ذهب يحمل المتاع، ولكن بعض أهل العلم قال: إن أراد بالحمل أي بحمل المتاع على رأسه الستر فإن ذلك حرام؛ لقول النبي: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ولكن الظاهر أن ذلك لا يضر مطلقاً؛ لأن هذا يسمى حملاً ولا يسمى ستراً. أما المرأة فإنها تغطي رأسها وتغطي كذلك وجهها إذا مر الرجال قريباً منها، كما سيأتي إن شاء(/37)
الله.
قتل الصيد
الرابع: قتل الصيد، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] أي: محرمون، فلا يجوز للمحرم أن يقتل الصيد سواء في داخل الحرم أو في خارج الحرم، وعلى هذا: فلو أنه رأى صيداً وهو واقف بعرفة وأراد أن يصطاده، قلنا: إن هذا حرام، ولو رآه وهو في الحرم وأراد أن يصطاده، قلنا: هذا حرام من وجهين: من جهة أنك محرم، ومن جهة أنك في الحرم. ما هو الصيد؟ قال العلماء: الصيد هو حيوان البر الحلال المتوحش أصلاً. فقولنا: (حيوان البر) خرج به حيوان البحر فلا يحرم على المحرم أن يصطاد السمك، فلو فرض أن هذا الرجل أحرم في جدة وذهب إلى البحر واصطاد سمكاً فإن هذا جائز لأنه ليس حيوان بر بل هو حيوان بحر، ولهذا قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96]، واشترطنا أن يكون حلالاً: (حيوان البر الحلال) احترازاً من الحرام، فلا يحرم على المحرم أن يقتل حيواناً حراماً، كالذئاب والسباع وشبهها؛ لأنها ليست صيداً شرعاً، اشترطنا أن يكون (متوحشاً أصلاً) المتوحش: هو الذي ليس بأليف، هو الذي ينفر من الناس ولا يألفهم ولا يركنوا إليه، بل يفر ويهرب مثل الضباء والأرانب والحمام والوز وغير ذلك من الأشياء التي تعتبر متوحشة. وقولنا: (أصلاً) دخل فيه ما لو استأنس الصيد وصار أليفاً فإنه لا يجوز صيده أو لا يجوز ذبحه، فلو استأنس الأرنب فهل يجوز للمحرم أن يذبحه؟ الجواب: لا. لأن أصله صيد، ولهذا قلنا: (المتوحش أصلاً) فأصل هذا صيد فلا يجوز للمحرم أن يذبحه، ولو توحش صيد أليف أو حيوان أليف، مثل أن يهرب الكبش ويكون كالصيد يفر إذا رأى الناس، فهل يعتبر صيداً يحرم صيده للمحرم؟ الجواب: لا. لماذا؟ لأنه غير(/38)
متوحش في أصله، والتوحش طارئ عليه، فإذا ند البعير أو هرب الكبش وأدركه إنسان وهو محرم فإنه يحل له أن يرميه ويكون حلالاً؛ لأنه ليس بصيد لأن الصيد هو المتوحش أصلاً.
لبس الثياب على الوجه المعتاد
الخامس: لبس الثياب على الوجه المعتاد، مثل: القميص والسراويل والبرانس والعمائم والخفاف، واخترت أن أقول: لبس الثياب دون لبس المخيط؛ لأن لبس المخيط لم تأت به السنة، وقد قيل أن أول من قاله إبراهيم النخعي، أحد فقهاء التابعين، والتعبير به موجب للإشكال طرداً وعكساً، كيف ذلك؟ لأن بعض الناس يفهم من كلمة المخيط أي ما فيه خياطة، وعلى هذا فإذا كان هناك قميص قد نسج على صفة القميص بدون خياطة يكون على هذا الفهم جائزاً لأنه ليس فيه خياطة، ولو رقع الإزار أو الرداء لظن بعض الناس أو لتوهمهم أن ذلك حرام لا يجوز لأنه مخيط، فهذا التعبير موهم لخلاف المقصود طرداً وعكساً.(/39)
ولهذا نقول: أفضل ما نذكر هذا المحظور بما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام، فإن النبي سئل: ما يلبس المحرم؟ قال: ((لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرانس ولا العمائم ولا الخفاف)) فقط، ولم يتعرض للخياطة وغير الخياطة، وما أكثر الذين يسألون عن النعال المخروزة: هل يجوز للمحرم أن يلبسها؟ لماذا؟ لأنهم يظنون أن المحرم لبس ما فيه خياطة، لبس المخيط، ولكن إذا عبرنا بما عبر به أفصح الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - سلمنا من هذا الوهم، فلا يلبس القميص، والقميص هو: الثوب الشامل للبدن كله المكمم، كثيابنا هذه لا يجوز للمحرم أن يلبسها، ولا يلبس السراويل، والسراويل: هو اللباس الذي يكون على أسفل البدن وله أكمام، يعني: له حجول، ولا يلبس البرانس، والبرانس: ثياب واسعة يتصل بها غطاء للرأس، ولا يلبس العمائم، والعمائم هي: ما يدور على الرأس من الخرق وهي لباس الرأس، ولا الخفاف، وهي: ما يلبس في الرجل، هذه الأشياء الخمسة هي المحرمة على المحرم. طيب فإذا قال قائل: ما تقولون في (الفنيلة) هل تحرم؟ الجواب: نعم. تحرم؛ لأنها لباس على بعض البدن فهي كالسراويل، وهي أيضاً كالعمامة التي نهى الشارع عنها، فلا يجوز للرجل المحرم أن يلبس (الفنيلة) وإن لم يكن فيها خياط؛ لأنها مصنوعة على بعض البدن فأشبهت السراويل، ولو قال قائل: هل يجوز لباس المشلح للمحرم؟ الجواب: لا. لأنها تشبه البرانس - الثياب الفضفاضة - فلا يجوز أن يلبسها الإنسان. ولا يلبس الخفاف أيضاً، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إلا من لا يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل)) فإذا كان الإنسان لا يجد إزاراً فإنه يلبس السراويل، وإذا لم يجد نعلين فإنه يلبس الخفين، وهنا مسألة تقع ولننظر كيف نحلها: رجل سافر بالطائرة يريد أن يحرم إذا حاذى الميقات، ولكن كانت ثياب الإحرام في الشنطة في خزينة العفش في الطائرة لا يمكنه أن يصل إليها، فماذا يصنع؟ نقول:(/40)
يخلع ثوبه ويخلع غترته وطاقيته ويبقى في سرواله؛ لأنه لم يجد إزاراً، والثوب يجعله رداءً، أي: يلفه لفاً لا يلبسه لبساً؛ لأن الرسول قال: ((لا يلبس القميص)) ولم يقل: ((لا يرتدِ بالقميص)) فتزول هذه المشكلة في هذا العمل، نقول: اخلع الثوب والقميص والغترة والطاقية وأبق السروال واجعل الثوب رداءً ارتدِ به، أي: لفه على صدرك وعلى كتفيك، وحينئذ لا يبقى علينا إشكال في هذا الأمر.
حكم استخدام الخيام وسائر خدمات الحج دون مقابلالسؤال: هناك مخيمات خاصة في الحج ببعض الجهات وفيها جميع الخدمات حتى الأكل والشرب يكون بدون مقابل، وقد يحدث أني أعرف شخصاً من منسوبي هذه الجهات، فيستطيع أن يدخلني ضمن مخيمات الحج، فهل يحق لي هذا ويجوز فعله أو عدمه أو لا؟ وهل حجي صحيح؟ أفيدونا أثابكم الله.
الجواب: الحمد لله رب العالمين المخيمات بل فيما يظهر الخيام التي تحجر ويتحجرها أصحابها في منى لا حرج على الإنسان أن يطلب خيمة منه؛ لأن له الحق في أن ينزل في منى، وأما الأكل والشرب والكهرباء وما أشبهه فإن أذن المسئول عن هذه المخيمات فلا بأس بذلك، وإن لم يأذن فإنه لا يجوز أن يأكل أو أن ينتفع بالكهرباء والمكيفات التي جعلت لهذه الأماكن، والغالب أن المسئول عن هذه الخيام يسمح للإنسان أن ينتفع وأن يأكل ويشرب ضمن الناس، وتكون هذه بمنزلة الضيافة، وحينئذ يكون الأكل والشرب والانتفاع بالكهرباء وكذلك بالنزول في الخيمة يكون أمراً جائزاً إذا ما صدر الإذن به عن المسئول عنه.
حكم الإنابة في الحج للمستطيع
السؤال: هل يجوز إعطاء المال لشخص يحج عني وأنا مستطيع؟(/41)
الجواب: أما إذا كان الحج فريضة فإنه لا يجوز أن تعطي من يحج عنك وأنت مستطيع؛ لأن الفرض مطالب به الإنسان أن يقوم به بنفسه، وأما إذا كان نفلاً فقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من قال: إنه لا استنابة في النفل؛ لأن الاستنابة إنما وردت في الفرض والفرض أمر ملزم به الإنسان، فإذا تعذر قيامه به فلينب عنه من يقوم به، أما النفل فليس هناك ضرورة إلى أن تنيب عنك من يحج عنك أو يعتمر، وعلى هذا: فلا يجوز أن تنيب عنك من يحج عنك أو يعتمر نفلاً وأنت قادر على ذلك، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن الشرع له حكمة وهدف في أن يقوم الإنسان بنفسه في عبادة الله عز وجل، وكما أنه لا يجوز أن تقول لإنسان: صل عني تطوعاً بدراهم، أو صم عني تطوعاً بدراهم، فكذلك لا يجوز أن تقول: حج عني تطوعاً بدراهم وأنت قادر على أن تحج، أما إذا كنت عاجزاً عن الحج ولا يمكنك أن تحج لا حاضراً ولا مستقبلاً، فهو أيضاً محل نظر: هل يجوز أن تقيم من يحج ويعتمر عنك أو لا يجوز، وذلك أنه قد يقول قائل: إنه لا يجوز؛ لأن الاستنابة وردت في حج الفرض دون حج النفل، وليس هناك ضرورة في أن تقيم من يحج عنك حج نفل، وقد يقول قائل: إذا كانت الاستنابة قد جازت في حج الفرض وهو أوكد للعاجز فجوازها في حق النفل الذي هو أخف من باب أولى، والذي أرى أنه للاحتياط لا يوكل من يحج عنه النفل ولو كان غير قادر، وإذا أحب أن يكون له أجر الحج، فليعن عليه، أي: فليدفع دراهم لإنسان يحج بها لنفسه فإن: ((من جهز غازياً فقد غزا)) وكذلك من جهز حاجاً فقد حج؛ لأن الحج نوع من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
حكم إفراد النساء في مركب مستقل أثناء السفر
السؤال: إذا سافر الزوج معه زوجته في الحج أو غيره، هل يجب عليه أن يركب معها في نفس السيارة التي فيها الزوجة إذا كان هناك أكثر من سيارة لهذه السفرة؟(/42)
الجواب: لا شك أن ركوب الإنسان مع محرمه من زوجة أو قريبة في نفس السيارة أحسن وأحوط، ولكن إذا كانت القافلة سيارات تمشي جميعاً تنزل منزلاً واحداً وتسير مسيراً واحداً فلا بأس أن يجعل النساء في سيارة وأن يجعل الرجال في سيارة أخرى، ولكن لا بد أن يحرص قائد السيارة على ألا يغيب عن السيارة التي فيها الرجال المحارم حتى يكون المحرم مراقباً للسيارة التي فيها محرمه.
حكم لبس المرأة للثوب الأخضر أو الأصفر أو غيرهما في الحج
السؤال: لبس الثوب الأخضر أو الأصفر أو غيرهما من الألوان للمرأة في الحج ما حكمه؟
الجواب: لا بأس به، أي: لا بأس على المرأة أن تلبس ما شاءت من الثياب بأي لون كان إلا ما يعد تبرجاً وتجملاً فإنها لا تفعل؛ لأنها سوف تلاقي رجالاً ويشاهدها الرجال، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الأحزاب:33] فمثلاً: الثوب الأبيض يعتبر في عرفنا نحن من ثياب الجمال بالنسبة للمرأة، فلا تلبس المرأة في حال الإحرام ثوباً أبيض؛ لأن ذلك يلفت النظر إليها ويرغب النظر إليها؛ ولأن المعروف عندنا أن الثوب الأبيض بالنسبة للمرأة ثوب تجمل والمرأة مأمورة بأن لا تتبرج في لباسها.
حكم السفر مع من يفعل مُحرماً وبيان أن شرب الدخان من الفسوق
السؤال: هل يجب على الشخص إذا أراد الحج أن يختار من يثق بعلمه ودينه وهل عليه إثم لو حج مع أشخاص يدخنون ويغتابون وغير ذلك؟ وهل شرب الدخان من الفسوق الذي ورد في قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]؟(/43)
الجواب: لا شك أن من الفقه والعقل أن يختار الإنسان رفقة ذات علم ودين؛ لأن الرسول قال: ((مثل الجليس الصالح كحامل المسك، إما أن يبيعك أو يحذيك أو تجد منه رائحة طيبة)) ولا سيما في سفر الطاعة كسفر الحج، فإن الإنسان محتاج إلى أن يكون معه طالب علم يرجع إليه عند الإشكال، ويوجهه طالب العلم عند المشاعر، ولكن لا حرج أن يحج مع أناس دون ذلك بشرط ألا يفعلوا محرماً في سفرهم، فإن فعلوا محرماً حرم السفر معهم إلا لمن أراد أن يمنعهم من المحرم، فلو اصطحبت رفقة تفتح الأغاني المحرمة، أو يشربون الدخان فإن ذلك حرام عليك، إلا إذا كان يسعك أن تمنعهم من هذا فلا بأس لأنك تكسب منعهم من المحرم وصحبتهم. وأما السؤال الثاني: فهل شرب الدخان في حال الإحرام من الفسوق الذي نهى الله عنه في قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] فجوابه أن نقول: نعم. شرب الدخان من الفسوق، فالإنسان المحرم إذا كان يشرب الدخان لم يمتثل حكم الله عز وجل لأنه فسق في شربه للدخان، فإن الإصرار على شرب الدخان يجعل شرب الدخان من الفسوق، وكذلك لو ابتلي الإنسان بقوم يغتابون الناس ويسخرون بهم فإنه لا يجوز أن يصحبهم إلا إذا كان -كما قلت أولاً- يمكنه أن يمنعهم من ذلك.
حكم من اعتمر في رمضان ثم خرج إلى التنعيم ليكون متمتعاً
السؤال: من اعتمر في رمضان ثم جلس في مكة ولكنه يريد أن يحج متمتعاً، فهل يشرع له أن يخرج إلى التنعيم ليعتمر في أشهر الحج ويجعل حجه تمتعاً؟(/44)
الجواب: هذا لا يمكن لأن التمتع لابد أن يحرم الإنسان بالعمرة من الميقات، ومن أحرم من أدنى الحل لم يكن متمتعاً بل ولا يشرع له أن يخرج ليحرم من التنعيم، فهذا الرجل الذي أتى إلى مكة في رمضان وأحرم بالعمرة وانتظر إلى الحج نقول: إنه مفرد؛ لأنه أتى بالعمرة في غير أشهر الحج، وأتى بالحج مفرداً، وفي هذه الحال يرى بعض العلماء أن هذا أفضل من التمتع؛ لأنه أتى بعمرة منفردة عن الحج، ولكن في النفس من هذا شيء، والصواب أن التمتع لا يعدله شيء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه به، إلا من ساق الهدي فإن القران في حقه أفضل.
حكم من أراد أن يبر بوالديه بعد موتهما بحج أو يضحي عنهما
السؤال: فضيلة الشيخ! هل الأفضل لمن أراد أن يبر بوالديه بعد موتهما أن يحج عنهما بنفسه أو ماله أو أحد أبنائه أو يضحي عنهما؟ وكل ذلك تطوعاً وليس بوصية، أو يصرف ذلك في بناء المساجد والجهاد في سبيل الله؟(/45)
الجواب: أحسن ما يُبر به الوالدان ما أرشد إليه النبي وهو الدعاء والاستغفار لهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا صلة لك فيها إلا بهما، هذه هي التي نص عليها الرسول حين سأله السائل فقال: يا رسول الله! هل علي من بر أبوي شيء بعد موتهما؟ فأجابه بذلك، وأما الحج عنهما والأضحية عنهما والصدقة عنهما فهي جائزة لا شك، ولا نقول: إنها حرام، لكنها مفضولة؛ لأن الدعاء لهما أفضل من هذا، وهذه الأعمال التي تريد أن تجعلها لوالديك اجعلها لنفسك، حج أنت لنفسك، تصدق لنفسك، ضح لنفسك وأهلك ابذل في المساجد والجهاد في سبيل الله لنفسك؛ لأنك أنت سوف تكون محتاجاً إلى العمل الصالح كما احتاج إليه الوالدان، والوالدان قد أرشدك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هو أنفع وأفضل، هل تظنون أن الرسول عليه الصلاة والسلام غاب عنه أن الأفضل أن تحج أو تتصدق؟ أبداً. لا نعتقد أن الرسول غاب عنه ذلك، بل نعلم أن الرسول اختار هذه الأشياء الأربعة: الدعاء، والاستغفار، وإكرام الصديق، وصلة الرحم لأنها هي البر الحقيقة، ولهذا صح عنه أنه قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) لم يقل: أو ولد صالح يتصدق عنه أو يضحي عنه، أو يحج عنه أو يصوم عنه مع أن الحديث عن الأعمال، فعدل النبي عليه الصلاة والسلام عن جعل الأعمال للميت إلا الدعاء، ونحن نشهد الله ونعلم علم اليقين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لن يعدل إلى شيء مفضول ويدع الشيء الفاضل أبداً؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أعلم الخلق وأنصح الخلق، فلو كانت الصدقة أو الأضحية، أو الصلاة أو الحج أو الصيام مشروعة لأرشد إليها رسول الله.(/46)
وأنا أقول: إنه ينبغي لطلبة العلم في مثل هذه الأمور التي يكون فيها العامة سائرين على الطريق المفضول أن يبين وأن يوضح وأن يقول هذه النصوص. ائتوني بنص واحد يأمر النبي أن يتطوع الإنسان لوالديه بصوم أو صدقة، أبداً لا يوجد، لكن قال: ((من مات وعليه صيام - عليه صيام - صام عن وليه)) فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن نصوم الفرض عن الميت، لكن التطوع أبداً وقلب في السنة كلها من أولها إلى آخرها، هل تجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر أن يتصدق الإنسان عن والديه، أو أن يصوم تطوعاً عن والديه، أو يحج تطوعاً عن والديه، أو يبذل دراهم في المصالح العامة لوالديه؟ أبداً. لا يوجد، وغاية ما هنالك أن الرسول أقر هذا الشيء، وإقرار الشيء لا يعني أنه مشروع، فقد أقر سعد بن عبادة حين استأذن منه أن يجعل مخرافه أي: بستانه الذي أوقفه صدقة لأمه، قال: نعم، وكذلك أقر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي قال: إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفأتصدق عنها، قال: نعم، لكن أمر أمته أن يتطوعوا لله وأن يجعلوها للأموات.. هذا لا يوجد، ومن عثر على شيء من ذلك فليتحفنا به، إلا بشيء واجب فالواجب لا بد منه.
حكم تثبيت الإحرام بدبابيس أو نحوها
السؤال: فضيلة الشيخ! ما حكم ما يفعله الناس من مسك الإحرام بالدبابيس أو المشابك حتى يصل البعض أن يجعلها كالثياب؟
الجواب: الأولى ألا يشبك الإنسان رداءه، بل يلفه على كتفيه، أما إذا كان يعمل كالطباخ والقهوجي وما أشبه ذلك وأراد أن يزره بمشبك فلا بأس بذلك، أما ما أشار إليه في السؤال من أن بعض الناس يزره بمشابك من الرقبة إلى السرة، حتى يكون كأنه قميص فأنا أشك في جواز هذا؛ لأنه حينئذ يشبه القميص، والنبي قال في المحرم: ((لا يلبس القميص)).
حكم الحج عن العاصي إذا كان غير قادر على الحج(/47)
السؤال: لدي قريب يبلغ من العمر سبع عشرة سنة، وهو مشلول لا يستطيع المشي، فهل أحج عنه رغم أن عليه بعض الملاحظات مثل: تأخير الصلاة أحياناً عن وقتها، أم أؤخر الحج إلى الأعوام القادمة بعد أن يكبر ويعقل؟
الجواب: لا بأس أن تحج عن هذا المشلول الذي أيس من قدرته على الحج في المستقبل، ولكن الأولى أن تستأذن منه لتكون نائباً عنه قائماً مقامه في أداء النسك، وإن لم تفعل فلا حرج؛ لأن النبي لم يستفسر المرأة التي قالت: إن أباها أدركته فريضة الله على عباده في الحج لا يستطيع الركوب على الراحلة، لم يقل: هل استأذنت منه فدل هذا على أنه يجوز للإنسان أن ينوب عن غيره في أداء النسك وإن لم يستأذن منه، لكن الأفضل أن يستأذن. أما كون هذا الرجل المشلول مقصراً في بعض الطاعات، فإنه ربما إذا رأى أن هذا الرجل حج عنه يكون ذلك سبباً في هدايته على يده.
حكم التمتع بعد العمرة في اليوم الثامن من ذي الحجة
السؤال: هل لي أن أؤدي العمرة في اليوم الثامن من ذي الحجة، وبعد أن أحل من العمرة أحرم مباشرة بالحج ولو لم يكن هناك وقت طويل بين التحلل من العمرة والإحرام في الحج؟
الجواب: الذي يظهر لي أن الإنسان إذا قدم مكة بعد أن خرج الناس إلى الحج فلا يعتمر؛ لأن الله قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] فدل هذا على أن هناك مسافة بين العمرة والحج يحصل بها التمتع، أما أن تقدم مكة في ضحى اليوم الثامن حين يخرج الناس إلى الحج أو بعد ذلك ثم تأتي بعمرة ففي نفسي من هذا شيء، وإن كان ظاهر كلام أهل العلم الجواز لكني في نفسي من هذا شيء؛ لأن الآية: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وإذا لم يكن هناك مسافة يحصل بها التمتع لم يكن مشروعاً للإنسان أن يتمتع، وعلى هذا فنقول: إذا قدمت في هذا الوقت بعد أن خرج الناس إلى منى فاجعل نسكك قراناً لتحصل على العمرة والحج جميعاً.
حكم التنفل في السفر(/48)
السؤال: إذا كان الإنسان يقيم في مكة وهو في حكم المسافر، هل الأولى أن يصلي رواتب الظهر والمغرب والعشاء أم الأفضل تركها؟
الجواب: الأفضل للإنسان المسافر حقيقة أو حكماً ألا يتطوع براتبة الظهر والمغرب والعشاء؛ لأن النبي (لم يتطوع بذلك في حجه، أما غير هذه الثلاث من التطوع فإنه يفعله ولا حرج عليه، كسنة الضحى وصلاة الليل، والوتر وسنة الفجر، وغير ذلك من النوافل، لكن راتبة الظهر والمغرب والعشاء لا تفعل في حال السفر سواء كان حقيقة كما لو كان في البر، أو حكماً كما لو كان مقيماً ينتظر الحج ثم إذا حج رجع إلى بلده.
جلسات الحج [3]
استذكر الشيخ في هذه الجلسة محظورات الإحرام، ثم شرع بعد ذكرها ببيان ما يجب على من فعل محظوراً من محظورات الإحرام وأقسام الناس فيها، وما يترتب على فعلها، ثم ذكر مسائل متفرقة، مثل: حكم لبس الرجل للقفازين، وحكم تغيير ثياب الإحرام، وحكم تغطية المرأة وجهها وهي محرمة، وحكم اغتسال المحرم دون جنابة أو انغماسه في الماء.
محظورات الإحرام
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد سبق الكلام على شيء من محظورات الإحرام فلنستذكر ما تكلمنا عليه، منها:
الأول: الطيب، أي: أن يتطيب الإنسان بالبخور أو بالتدهن، أو استعمال الطيب على أي وجه كان من الاستعمال وبأي نوع كان من الطيب، والدليل: الرجل الذي وقصته ناقته وهو واقف بعرفة فمات، فقال النبي: ((لا تحنطوه)) والحنوط: أطياب تجعل على الميت.
الثاني: تغطية الرأس بأي غطاء كان، والدليل: حديث الرجل الذي وقصته ناقته فمات فقال الرسول: ((لا تخمروا رأسه)) أي: لا تغطوه.
الثالث: قتل الصيد وهو: الحيوان البري المتوحش أصلاً. صيد البحر هل هو من محظورات الإحرام أو لا؟(/49)
ليس من محظورات الإحرام، كيف يخرج من الصيد؟ نحن قلنا: إن الصيد: هو الحيوان البري، وهذا حيوان بحري، الدليل: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96]، ومن الصيد الأرانب، أما الدجاج فلا يدخل لأنه ليس متوحشاً. ما حكم نعجة هربت ولم يقدر عليها صاحبها حتى صارت كالضباء: هل يجوز ذبحها أو لا وهو محرم؟ الكبش إذا ند فهو مستوحش استيحاشاً غير أصلي؛ لأن الأصل في الكبش أن يكون مستأنساً فلهذا لا يدخل في الصيد.
كذلك من محظورات الإحرام: الجماع ومقدماته ووسائله وذرائعه. أيضاً من المحظورات التي أخذنا: لبس الثياب المنصوص على تحريمه، والمنصوص على منع لبسه خمسة أشياء، عبر بعض العلماء عن هذه الخمسة بتعبير قد يكون فيه نظر وهو تعبيرهم عنه بـ"لبس المخيط"، وهو يصح طرداً وعكساً، يعني: لو أخذنا بظاهر هذا اللفظ لقلنا كل لباس فيه خياط فهو حرام، وكل لباس لا خياطة فيه بل نسج نسجاً فهو حلال والعلماء لا يريدون هذا المعنى وهو غير مراد أيضاً، نقول: إذا كنا لا نريد به هذا المعنى فلنقل كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرانس ولا العمائم ولا الخفاف)) ويدخل فيها ما كان مثلها بالقياس؛ لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين.
من محظورات الإحرام:(/50)
حلق الرأس، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] انتبه! {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ففهم من هذه الآية الكريمة أن حلق الرأس محرم إلى أن يحل الإنسان، لقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] وبلوغ الهدي محله يكون يوم العيد، وقد بينت السنة أن الحل يكون برمي جمرة العقبة يوم العيد والحلق، فمن رمى وحلق يوم العيد فقد حل التحلل الأول، ولكن حلق بعض الرأس، هل هو حرام؟ الجواب: نعم. هو حرام لأن الشرع إذا نهى عن الشيء فالمطلوب ترك جميعه، ولا يرتكب ولا شيء منه إلا ما أباحته الضرورة، كما أنه إذا أمر بشيء فهو أمر بجميعه ويأتي الإنسان منه ما يستطيع، وإذا نهى الشرع عن شيء فهو نهي عن جميعه وكل أجزائه إلا ما أباحته الضرورة منه، وما أمر به الشرع فهو أمر بجميعه وجميع أجزائه إلا ما لا يقدر عليه منه. إذاً: حلق بعض الرأس كحلق جميع الرأس، فلا يجوز للإنسان أن يحلق وهو محرم رأسه ولا شيئاً منه إلا ما أباحته الضرورة، فقد ثبت عن النبي أنه احتجم وهو محرم، ومن المعلوم أنه لا يحجم الرأس إلا بإزالة الشعر لموضع المحاجم، لا بد أن يحلق شيئاً لموضع المحاجم، وهذا من باب الضرورة، وكذلك أيضاً ثبت من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه حمل إلى رسول الله والقمل يتناثر على وجهه من رأسه، فأذن له أن يحلق رأسه وأن يفدي بما ذكر الله عز وجل في الفدية من صيام أو صدقة أو نسك، ففعل رضي الله عنه، هذا دعت إليه الضرورة لأنه أذى، وكل إنسان يتأذى من القمل عندما يتناثر على وجهه من رأسه، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] يعني: فليحلق وعليه الفدية من الصيام أو الصدقة أو النسك.(/51)
هل حلق شعر غير الرأس كحلق الرأس؟ فلو حلق الإنسان عانته وهو محرم أو نتف إبطه وهو محرم، فهل هذا حرام؟ الجواب: جمهور العلماء على أنه حرام، وأن الإنسان لا يجوز أن يأخذ من بقية شعر البدن، قالوا: لأن العلة من النهي عن حلق الرأس هو الترفه؛ فالإنسان يترفه بحلق رأسه ليزيل عنه الأذى، والترفه بحلق العانة ونتف الإبط كالترفه بحلق الرأس، وإلا فليس هناك دليل يدل على تحريم حلق شعر غير الرأس. هل تقليم الأظفار كإزالة شعر الرأس؟ الجواب: نعم. جمهور العلماء على ذلك، قالوا: إن تقليم الأظفار كحلق شعر الرأس، وعللوا هذا بأن الجامع بينهما هو الترفه. هل إزالة الشعر بغير الحلق كإزالته بالحلق؟ يعني: لو قص الشعر قصاً دون حلق، هل يكون كالحلق؟ الجواب: نعم. لأن العلة واحدة وهو زوال الشعر. حينئذ يتلخص لنا أن نقول: من محظورات الإحرام: إزالة الشعر وتقليم الأظافر، وإن كان النص لم يرد إلا بحلق الرأس فقط. بقي علينا من المحظورات: انتقاب المرأة، دليله: قول النبي: ((لا تنتقب المرأة)) وكذلك لبسها القفازين -وهو: شراب اليدين- لقوله: ((ولا تلبس القفازين)) وعلى هذا فنقول: من محظورات الإحرام: انتقاب المرأة ولبسها القفازين. هذه هي محظورات الإحرام، فإذا جاءنا آت، وقال: هذا من محظورات الإحرام. قلنا له: هات الدليل وإلا فالأصل الحل، ولهذا لما سئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الحلال فيما يلبسه المحرم أجاب بالحرام الخارج عن الأصل؛ ليفهم السامع أن الأصل الحل، لأنك إذا عرفت الممنوع عرفت ما يقابله وهو الحلال، فإن الرسول عندما سئل: "ماذا يلبس المحرم؟" أجاب بما لا يلبس؛ لأن الأصل حل اللباس كله للمحرم.(/52)
إذا أتانا آت، وقال: ما تقولون في لبس الساعة للمحرم في يده، هل هو من محظورات الإحرام أم لا؟ الجواب: لا. ليس من المحظورات؛ لأن الأصل هو الحل. ونقول لمن قال: إنه من المحظورات: هات الدليل، إن جاء بالدليل وإلا فإن الرسول قال: لا يلبس كذا ولا يلبس كذا ولا يلبس كذا، ومعناه: أن ما سوى ذلك فهو حلال يلبس، ولا يجوز لأحد أن يضيق على عباد الله فيمنعهم مما لم يحرمه الله؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116]. ومن الحاكم بين عباده؟ الله عز وجل هو الحاكم بين عباده والحاكم على عباده، فليس لنا أن نقول: هذا ممنوع إلا بدليل؛ لأن الله سوف يسألنا، ويقول: لماذا منعتم عبادي من كذا وأنتم لا تعلمون؟ ونقول أيضاً: لبس الخاتم جائز عندكم، أنتم تقولون: لبس الخاتم جائز. أي: فرق بين لبس الخاتم الذي يوضع على الإصبع محيطاً به، وبين وضع الساعة التي توضع على الذراع محيطة به؟ هل هناك فرق؟ كل منهما محيط ولو جاءنا آت، وقال: ما تقولون في لبس نظارة العين هل هي حلال أو حرام؟ الجواب: حلال. ما هو الدليل؟ الجواب: نقول: الدليل عدم الدليل؛ لأنه ليس عندك دليل على المنع، فإذا لم يكن عندك دليل على المنع فالأصل الحل. ولو جاءنا رجل آخر وقال: إنه لا يسمع سماعاً قوياً وإنه يلبس سماعة في أذنه، هل يجوز أم لا؟ لو علقها على رقبته نعم يجوز، فإذا قال قائل: هذا ممنوع. قلنا: عليك بالدليل، وإلا فالأصل الحل. جاءنا آت، وقال: أنا أسناني ساقطة وقد اتخذت أسناناً مركبة صناعية، فهل يجوز أن ألبسها وأنا محرم؟ نقول: يجوز. إذا قال قائل: ما الدليل؟ أقول: الدليل عليك أنت، أنت إن قلت: إنها ممنوعة فعليك الدليل وإلا فالأصل الحل. المهم أنا قد لا أستطيع الإحاطة بكل ما يفعل لكن(/53)
أعطيكم أصلاً، ما هو الأصل فيما يلبسه المحرم: أهو الحلال أو الحرام؟ الأصل الحلال، ما الدليل؟ أن النبي لما سئل: ماذا يلبس المحرم؟ أجاب عما لا يلبس، فكأنه قال للسائل: البس كل شيء ما عدا هذه الأشياء، فإذا ادعى مدع أن هذا ممنوع فإن كان من هذه الأشياء أو بمعنى هذه الأشياء قبلنا قوله: إنه ممنوع أو رفضنا قوله: إنه ممنوع، وليعلم أن العطاء أحب إلى الله من المنع، وأن الحل أحب إلى الله من التحريم، وأن التيسير أحب إلى الله من التعسير، هذه ثلاث قواعد أحب أن تفهموها، لأنها تفيدكم فائدة عظيمة في كثير من مسائل الدين.
ما يجب على من فعل محظوراً من محظورات الإحرام
انتهينا الآن من المحظورات ونحتاج إلى أن ننظر ماذا على من فعل المحظور؟ نقول: هذه المحظورات تنقسم إلى أقسام أربعة: منها: ما له فدية معينة لا يشركه فيها غيره، الجماع له فدية معينة، ما هي؟ البدنة إن كان قبل التحلل الأول في الحج، البدنة بشرطين: أن يكون قبل التحلل الأول في الحج، إذاً: الجماع في العمرة لا يوجب البدنة أبداً، الجماع في العمرة لا يوجب البدنة أصلاً، الجماع في الحج بعد التحلل الأول لا يوجب البدنة؛ لأننا اشترطنا لوجوب البدنة شرطين: أن يكون الجماع قبل التحلل الأول وأن يكون في الحج، هل يجزئ عن البدنة الغنم أو البقر؟ نعم. يجزئ عن البدنة بقرة أو سبع من الغنم. القسم الثاني: ما فديته معينة ولا يشركه فيها غيره، لكن تعيينها خلاف تعين البدنة وهو الصيد، الصيد إن كان له مثل فالإنسان مخير بين أن يذبح مثله ويتصدق به على الفقراء، أو يقوم بدراهم يشترى بها طعاماً، أو إن كان عنده طعام أخذ من بيته بقيمة ما قومه ويطعمه الفقراء لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً، كم شيئاً يخير به إذا كان الصيد من ماله؟ ثلاثة:
الأول: ذبح النسك.
الثاني: تقويمه وإطعام المساكين طعاماً بقيمته.(/54)
الثالث: الصيام. الدليل: قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة:95] هذه ثلاثة أشياء؟ إذا لم يكن له مثل فالإطعام أو الصيام، بمعنى: أن يقوّم هذا الصيد بما يساويه ويدفع بدل قيمته طعاماً للفقراء، لكل مسكين نصف صاع، أو يصام عن إطعام كل مسكين يوماً، هذان قسمان.(/55)
القسم الثالث: ما لا فدية فيه، وهو عقد النكاح والخطبة، هذا ليس فيه فدية، ليس فيه إلا الإثم فقط. القسم الرابع: ما فديته على التخيير بين أمور ثلاثة: إما إطعام ستة مساكين، أو لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة يوزعها على الفقراء، أو صيام ثلاثة أيام، كم المخيرات فيها؟ ثلاثة، هي: ذبح شاة، صيام ثلاثة أيام، إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والدليل: قوله تعالى في حلق الرأس: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] وقد بين النبي مقدار هذه المكفرات، فقال في الإطعام: إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وقال في الصيام: صيام ثلاثة أيام، هذه الفدية في جميع محظورات الإحرام سوى ما ذكرنا وهي ثلاثة أشياء: ما لا فدية فيه، وما فديته معينة ببدنة، وما فديته معينة بين ثلاثة أشياء أو شيئين، ما عدا هذه فإن فديته التخيير بين هذه الأمور الثلاثة. وحلق الرأس فديته التخيير بين هذه الثلاثة، وفدية استعمال الطيب: التخيير بين هذه الأمور الثلاثة، أما الجماع في العمرة ففديته أيضاً التخيير بين هذه الأشياء الثلاثة، لأنا ذكرنا لكم أن البدنة واجبة في الجماع في الحج قبل التحلل الأول فالآن هذا جماع في عمرة، فما الذي فيه؟ التخيير بين الأمور الثلاثة، فإذا جاءنا رجل يسأل عن جماعه في العمرة ما فديته؟ قلنا: أنت مخير بين الصيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، والجماع في الحج بعد التحلل الأول ما فديته؟ التخيير بين هذه الأمور الثلاثة. وأما فدية لبس المخيط على رأي الجمهور، وأنا قلت: لبس المخيط تبعاً لما يعبر به وإلا فلبس ما ينهى عنه من اللباس، التخيير بين هذه الأشياء الثلاثة، اتضحت أقسام المحظورات بالنسبة للفدية. وهل يجوز إخراج غير المثل في الصيد؟ هذه المسألة فيها خلاف والراجح المنع؛ لأن الله عين، قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فلا بد من المماثلة والله(/56)
حكيم عز وجل، لولا أن هناك حكمة في أنه يجب المثل ما أوجب الله المثل. السائل: هل وضح الرسول مثل هذا؟ الشيخ: الصحابة بينوا هذا قالوا: في النعامة بدنة والحمامة شاة، وقضى النبي في الضبع بشاة.
أقسام الناس في فعل المحظورات وما يترتب على فعلها
هل الفدية لازمة لكل من فعل محظوراً؟ أو هل يترتب ما يلزم بفعل المحظور على كل فاعل؟ نقول: هذا ينقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام:
من يفعل المحظورات ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً
القسم الأول: من فعل هذه المحظورات ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً، فهذا ليس عليه إثم وليس عليه فدية، فلو جاءنا رجل، وقال إنه غطى رأسه ناسياً أو نام فغطى رأسه، فماذا عليه؟ ليس عليه شيء. لو جاءنا رجل، وقال إنه غطى رأسه لكن لا يدري أنه حرام، فماذا عليه؟ ليس عليه شيء. مكره أكره على أن يفعل محظوراً من المحظورات فليس عليه شيء؟ ما هو الدليل؟ الدليل من كتاب الله وسنة رسول الله، من كتاب الله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]، وقال تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] فقال الله: "قد فعلت"، ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))؛ بل جاء النص في خصوص الصيد، قال الله تعالى فيه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فقيد ذلك بالتعمد مع أن الصيد الفدية فيه فدية عن نفس محترمة وهو الصيد، ليس بسبب الترفه أو ما أشبه ذلك.(/57)
إذاً: نقول: من فعل هذه المحظورات ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فليس عليه شيء، أي محظور كان من المحظورات من أعلاها وهو الجماع إلى أقلها وهو عقد النكاح مثلاً الذي ليس فيه فدية، نقول: من فعل شيئاً من هذه المحظورات ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فليس عليه شيء، لا إثم ولا فدية ولا فساد نسك للأدلة التي ذكرناها.
من يفعل المحظورات متعمداً لعذر يبيح الفعل
القسم الثاني: من يفعلها متعمداً لعذر يبيح الفعل، فهذا ليس عليه إثم ولكن عليه الفدية، الدليل: قوله تعالى في حلق الرأس: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فأباح حلق الرأس للعذر لكن مع وجوب الفدية. أتانا رجل، فقال إنه مضطر إلى لبس القميص وهو محرم مضطر، وأتانا رجل آخر وقال إنه مضطر للبس السراويل وهو محرم، فما الحكم؟ نقول: البس هذا وعليك على رأي جمهور العلماء الفدية. اضطر رجل إلى قتل الصيد ضرورة؛ يموت إن لم يصده ويقتله، نقول له: صده وعليك الفدية، لكن عليك إثم أو لا؟ ليس عليك إثم، إذاً: القسم الثاني: من فعل شيئاً من هذه المحظورات لعذر يبيحه فهذا متعمد فعليه الفدية ولا إثم عليه.
من يفعل المحظورات متعمداً لغير عذر يبيح الفعل(/58)
القسم الثالث: من فعله غير معذور بجهل ولا نسيان ولا إكراه، ولا عذر يبيح له الفعل، فهذا عليه الإثم وعليه الفدية، وذكرنا في الجماع في لقاء سبق أنه يترتب عليه خمسة أشياء إذا كان في الحج قبل التحلل الأول: الإثم، فساد النسك، وجوب المضي فيه، قضاؤه في العام المقبل، والفدية بدنة، وإذا كان بعد التحلل الأول ترتب عليه ثلاثة أشياء: الإثم، الفدية، فساد الإحرام، ما هي الفدية في الوطء بعد التحلل الأول؟ التخيير بين ثلاثة أشياء، وفساد الإحرام ماذا يفعل إذا فسد إحرامه؟ قال العلماء: يخرج خارج الحرم من أي جهة كانت من مكة، المهم أن يخرج خارج حدود الحرم ويخلع ثيابه ويلبس ثياب الإحرام ويطوف طواف الإفاضة وهو محرم. هذا هو خلاصة القول فيما يتعلق بمحظورات الإحرام.
مسائل تتعلق بمحظورات الإحرام
حكم لبس الرجل للقفازين
وهنا سؤال: المرأة لا تنتقب في الإحرام ولا تلبس القفازين؛ لأن النبي نهى عن ذلك، لكن هل الرجل يجوز أن يلبس القفازين؟ نقول: لا يجوز للرجل أن يلبس القفازين؛ لأن النبي نهاه أن يلبس الخفين، ففي الخفين ستر الرجلين وفي القفازين ستر اليدين. فإذا قال قائل: إذاً: ما وجه تخصيص النهي للمرأة؟ نقول: لأن المرأة جرت العادة بأنها تلبس القفازين، أما الرجل فلم تجر العادة بأنه يلبس القفازين، ولهذا كان النساء في عهد النبي يعتدن لبس القفازين لأجل ستر اليد، وقد بدأ النساء ولله الحمد منذ عهد قريب يلبسن القفازين لستر اليد كعادة نساء الصحابة.
حكم تغيير المحرم ثياب الإحرام ومس الثوب الجديد بالطيب(/59)
فإذا قال قائل: هل يجوز للمحرم أن يغير ثوب الإحرام؟ فالجواب: نعم. يجوز أن يغيره لكن إلى ثوب يجوز لبسه فيجوز أن يغير الرداء إلى رداء آخر، أو الإزار إلى إزار آخر، أو المرأة تغير ثيابها، ولا حرج في ذلك ما دام قد غيره إلى لباس جائز؛ لأن الأصل الحل والجواز حتى يقوم دليل على المنع، رجل اتسخ رداؤه فأراد أن يخلعه ليغسله، هل هذا جائز؟ نعم. هل يجوز أن يجعل فيه طيباً قبل أن يلبسه ثانياً؟ لا يجوز. لأنه لا يجوز للمحرم أن يستعمل الطيب ابتداءً، فإذا خلع رداءه ليغسله فلا يجوز أن يعيده مطيباً لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تلبسوا ثوباً مسه الزعفران ولا الورس)).
حكم تغطية المرأة وجهها وهي محرمةهل يجوز للمرأة أن تغطي وجهها بدون نقاب؟ يقول بعض العلماء: نعم. يجوز؛ لأن النبي إنما نهى عن الانتقاب، والانتقاب لباس الوجه، ولم ينه عن تغطية الوجه، بل نهى عن النقاب، فيجوز للمرأة أن تغطي وجهها وهي محرمة، ولهذا لو أن الإنسان لف على رجليه خرقة، هل يحرم عليه ذلك أو لا؟ لا يحرم عليه، لأنها ليست خفاً، والنبي لم ينه عن ستر الرجل بل نهى عن لبس الخف، وفرق بين الأمرين، فإذا كان النبي نهى أن تنتقب المرأة، أي: أن تلبس النقاب، فإنه لا يلزم من ذلك أن تنهى عن ستر الوجه، لكن أكثر أهل العلم يرون أنها منهية عن ستر الوجه، إلا إذا كان حولها رجال غير محارم فيجب عليها أن تستر الوجه، لأنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها ورجل أجنبي ينظر إليها أو يمكن أن ينظر إليها، بل عليها أن تستره لأنها مأمورة بذلك، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها: "أن النساء كن يسترن وجوههن إذا مر الركبان قريباً منهن".
حكم اغتسال المحرم دون جنابة أو انغماسه في الماء(/60)
هل يجوز للمحرم أن يغتسل بدون جنابة؟ نعم. يجوز، ما الدليل؟ الدليل: عدم الدليل؛ لأنه لا يوجد دليل على المنع بل ثبت الجواز عن النبي أنه كان يغتسل وهو محرم وهذا يؤيد الأصل. هل يجوز للمحرم أن ينغمس في الماء لأنه إذا انغمس تغطى رأسه؟ نقول: يجوز أن ينغمس في الماء؛ لأن هذا لا يسمى ستراً للرأس، ولم يعتد الناس بأن يستروا رءوسهم بالانغماس في الماء، فإذا كان الإنسان مثلاً عنده بركة عميقة ونزل يسبح بها وغمس نفسه فيها فلا حرج عليه ولو كان محرماً، لأن الأصل الحل وليس هذا من تغطية الرأس، وأظن أن الرأس يُرى في وسط الماء، لكن هذا ليس هو السبب؛ لأن الإنسان لو غطى رأسه بزجاجة يجوز أو لا؟ لا يجوز، ولو كان الرأس يرى من وراء الزجاجة، إنما العلة في ذلك أن الانغماس في الماء لا يعد ستراً للرأس والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا تخمروا رأسه)). نكتفي بهذا القدر ونسأل الله تعالى أن يجعل فيه خيراً وكفاية لنتلقى الأسئلة الواردة حول هذا الموضوع.
الأسئلة
حكم الصغير إذا فسخ الإحرام
السؤال: إذا أحرم الصبي بالحج أو العمرة ولم يكمل حجه أو عمرته وهو لم يَشترط أو لم يُشترط له، فهل على وليه شيء؟ ومثله فتاة لم تبلغ تلبست بالإحرام للعمرة وعندما وصلت مطار جدة كانت متعبة لمرض ألم بها ففسخت الإحرام ولم تعتمر من عامها ذلك؟(/61)
الجواب: الصحيح في هذه المسألة أنه لا بأس إذا أحرم الصبي أو الصبية التي لم تبلغ أن تلغي الإحرام بالحج أو العمرة فإذا أحرم الصبي بالعمرة أو بالحج رأى وليه أنه يتعب ويشق عليه ففسخ النية فلا حرج في ذلك؛ لأن الصبي غير مكلف، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((رفع القلم عن ثلاثة...))؛ وكما أنه لو شَرَعَ الصبي في الصلاة؛ صلاة الظهر ثم خرج منها لم يأثم، فكذلك إذا شرع في الحج ثم خرج منه أو في العمرة ثم خرج منها لم يأثم، وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] إنما يتوجه الخطاب للمكلف، أما غير المكلف فلا يتوجه إليه الخطاب على سبيل الإلزام وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وإليه ميل صاحب الفروع تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، وفيه توسعة على الناس في الواقع، لأنه أحياناً مع الزحام والمشقة والحر يتعب الصبي، يبدأ يصيح ويصرخ يتضجر وربما يهتك إحرامه ويمزقه، فكونه يلزم هذا بإتمام النسك مع أنه غير مكلف لم يجب عليه الحج ولا يتوجه إليه الخطاب إلزاماً بدون دليل قطعي أو ظني غالب يكون في نفوسنا شيء، وما دامت المسألة ليست فيها دليل من القرآن والسنة وليست فيها إجماع يجب اتباعه فإن القول الراجح أنه لا يلزم غير البالغ إكمال النسك.
حكم الصبي إذا فعل محظوراً
السؤال: إذا فعل الصبي محظوراً يوجب الدم فهل على وليه شيء؟
الجواب: الصحيح أنه لا شيء فيه لأن عمد الصبي خطأ، والخطأ كما ذكرنا فيما سبق لا تلزم فيه الفدية، وكما أن هذا الصبي لا يأثم، فإنه لا فدية عليه، فإذا قدر أن هذا الصبي حلق رأسه مثلاً أو تطيب أو فعل أي محظور فإنه ليس عليه شيء، لكن يلزم وليه أن يعلمه ويبين له أن هذا ليس بجائز.
حكم خروج الدم في كونه مفسداً للإحرام
السؤال: بعض الناس من العامة يظنون أن خروج الدم بسبب الجرح ونحوه يفسد الإحرام، فهل في هذا أصل في الشرع؟(/62)
الجواب: ليس لهذا أصل في الشرع، خروج الدم من المحرم قصداً أو بغير قصد لا يؤثر على إحرامه شيئاً، وليس فيه إثم وليس فيه فدية، ولكن هذا أصله من قول لبعض العلماء رحمهم الله: إن من جرح نفسه أو تعمد أو تسبب في جرح نفسه فخرج الدم فعليه الفدية. ولكن هذا قول ضعيف، فإن الرسول احتجم والحجامة يخرج منها دم ولم يفْدِ، مع أن حجامة الرسول عليه الصلاة والسلام استلزمت أن يحلق شيئاً من شعر رأسه ومع ذلك لم يفْدِ، فهذا لا أصل له في الشرع وإن كان بعض العلماء قد قال به لكنه قول ضعيف. وأنتقل من جواب هذا السؤال إلى ما يفعله بعض المتنطعين المتشددين إذا حكه رأسه ماذا يصنع؟ لا يحك رأسه بل يقرعه بطرف إصبعه، قد تكون الحكة شديدة ويبقى عدة دقائق وهو يقرع رأسه! لماذا؟ خوفاً من أن تسقط شعرة، وهذا غريب! حتى إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "لو لم أقدر على حكه بيدي لحككته برجلي" مما يدل على أن حك الرأس لا بأس به للمحرم، حتى لو فرض أنه سقط منه شعرة أو شعرتان أو ثلاث أو أربع أو خمس فلا شيء عليه، أولاً: لأنه بغير قصد، والثاني: أنه ليس هناك دليل على أن الشعرة والشعرتين والثلاث والأربع والخمس فيها فدية، الفدية في حلق الرأس، وحلق بعض الرأس ليس هناك دليل على أن فيه فدية وإن كان محرماً بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حلق بعض رأسه للحجامة ولم يفْدِ.
حكم اللقطة وقطع الشجر للمحرم
السؤال: هل قطع الشجر من محظورات الإحرام أو من محظورات الحرم، وكذلك إذا وجد الإنسان شيئاً ساقطاً على الأرض سواء كان ثميناً أو غير ثمين، هل يأخذه أو يتركه؟(/63)
الجواب: قطع الشجر لا علاقة له بالإحرام وإنما علاقته بالحرم الذي هو خلاف الحل، وعلى هذا فمن كان داخل أميال الحرم حرم عليه قطع الشجر قبل التحلل وبعد التحلل، وإذا كان خارج أميال الحرم حل له قطع الشجر قبل أن يحل وبعد أن يحل، وعلى هذا: فالحاج بعرفة يحل له قطع الشجر، ومن كان في مزدلفة أو منى لا يحل له قطع الشجر، أما اللقطة فإن كانت في الحرم أي: داخل الأميال فإن النبي قال: ((لا تحل ساقطتها - أي مكة - إلا لمنشد)) أي: إلا لشخص يريد أن ينشدها، أي: يطلب صاحبها مدى الدهر، أما إذا كانت خارج الحرم فإن التقاطها كالتقاط أي لقطة في أي مكان، إن أمن الإنسان على نفسه وضمن أن يعرفها لمدة سنة، التقطها وعرفها لمدة سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فهي له، وإن لم يضمن نفسه عليها فليتركها، ولكن إن كان هناك هيئة أو لجنة أو طائفة من قبل ولي الأمر لتلقي الضائع فليأخذها وليؤدها إلى هذه اللجنة أو الهيئة التي عينها ولي الأمر، لأن أخذها وتسليمها لهؤلاء خير من أن تبقى في الأرض فتضيع أو يأخذها إنسان لا يهتم بها ويتملكها.
مقدمات الجماع هل لها فدية؟
السؤال: هل مقدمات الجماع لها فدية مثل الجماع؟
الجواب: ربما يفهم جواب السؤال مما سبق أن شرحناه، مقدمات الجماع فيها الفدية لأن مقدمات الجماع هي التقبيل والمباشرة وما أشبه ذلك وفديتها من القسم الرابع الذي فيه التخيير بين ثلاثة أشياء.
حكم لبس السراويل ضرورة للمحرم
السؤال: هل يجوز لبس السروال عندما يتأذى الإنسان من شدة الحر ويصيبه الحرق وهو محرم؟(/64)
الجواب: هذا أيضاً الظاهر أنا أجبنا عليه وقلنا: إنه يجوز؛ يجوز أن يلبسه دفعاً للضرورة ولكن هل فيه الفدية على قول من يلزم الفدية بلبس الثياب الممنوعة؟ أو نقول: إن الضرورة إلى لبسه لدفع الحروق أو الانسلاخ؛ انسلاخ الجلد تبيح لبسه؟ وإذا أبيح لبس السروال فلا فدية فيه، لقول النبي: ((من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل)) ولم يذكر فدية؟ الظاهر أنه لا فدية عليه؛ لأن هذه ضرورة، فإذا كان مضطراً إلى لبس السروال فكأنه عادم للإزار.
حكم التقاط الصور في الحرم
السؤال: بعض الناس هداهم الله يلتقطون الصور في المشاعر المقدسة وربما رفع الشخص يديه للدعاء من أجل التصوير فقط، فهل هذا جائز؟ وهل يخل بالحج أم لا؟
الجواب: التقاط صور الحجاج في أماكن العبادة غير جائز لوجهين:
الوجه الأول: أنهم يلتقطون ذلك للاحتفاظ بالصور والذكرى، وكل تصوير يقصد به الاحتفاظ بالصورة للذكرى فإنه حرام.(/65)
الوجه الثاني: أنه لا يخلو غالباً من رياء، فالإنسان يأخذ هذه الصورة ليريها الناس وأنه حج، ولهذا يفعل كما قال السائل: يرفع يديه للدعاء وهو لا يدعو، لكن من أجل أن تلتقط له الصورة، أما إذا احتيج إلى ذلك لكون هذا الرجل نائباً عن شخص وقال ألتقط الصورة لأثبت أني حججت، فإذا وصلت إلى صاحبه الذي أنابه ومزق الصورة فإن هذا لا بأس به لأن الحاجة داعية إلى ذلك ولم يقصد به مجرد الذكرى أو الاقتناء، والتقاط الصورة بواسطة الآله الفوتوغرافية الفورية لا تدخل في التصوير الذي لعن النبي فاعله وإن كانت صورة، ومن أراد زيادة البحث في هذا فليقرأ بحثاً كتبه أخونا الشيخ عبدالرحمن عبد الخالق في جريدة الفرقان التي بدأت تصدر أخيراً، أنا أقول جريدة وهي مجلة مفيدة فيها بحوث جيدة، إن استمرت على هذه البحوث فإنها تعتبر من خير المجلات التي اطلعت عليها، فقد بحث هذا الموضوع بحثاً علمياً شرعياً وأظنه بحثه في حلقتين، لكنه أجاد فيه وأفاد جزاه الله خيراً. فلو قال قائل: يمكن الاستغناء بالشهود عن الصورة؟ فنقول: على كل حال الاستغناء بالشهود عن الصورة كفى به ولكن الشهود قد يلحقهم مانع من أداء الشهادة وقد لا يثق المنيب بهم تمام الثقة.
حكم الحج من مال لم تخرج منه زكاة
السؤال: ما حكم الحج الذي من مال لم تخرج منه الزكاة؟(/66)
الجواب: الحج من مال لم تخرج زكاته صحيح، لكن عجباً لهذا الرجل! كيف يحج ويدع الزكاة مع أن الزكاة أوكد من الحج بإجماع المسلمين، ولهذا أوجبها الله تعالى كل عام ولم يوجب الحج إلا مرة واحدة في العمر؟! وأعجب من ذلك وأغرب من لا يصلي ثم يحج! وهذا الذي لا يصلي أقول: لا يحل له أن يدخل مكة ولا يقبل منه حج ولا صدقة، ولا جهاد، ولا أي عمل صالح؛ لأن ترك الصلاة كفر مخرج من الملة، والكافر المرتد خارج عن ملة الإسلام لا يقبل الله منه أي عمل صالح، فأنا أعجب من بعض المسلمين الذين إن شئت قلت: إن إسلامهم عاطفي أكثر منه عقلي واستسلام، تجدهم مثلاً: يحرصون على الصوم وهم لا يصلون الصلاة في وقتها، يصوم فيتسحر في آخر الليل وينام ولا يصلي الفجر إلا مع الظهر، أين الصيام؟ أو ربما لا يصلي أبداً، وفي الحج أيضاً يحرص الإنسان غاية الحرص، حتى إنه يحرص على أن يحج مع عدم وجوب الحج عليه وهو مضيع لكثير من الواجبات. الواجب أن يكون إسلام الإنسان استسلاماً لله وإسلاماً عقلياً يحكم فيه الإنسان العقل على العاطفة، وينظر ما قدمه الله ورسوله فيقدمه، دون أن يقدم ما ترضاه نفسه ويدع ما لا تهواه؛ ولهذا قال العلماء: إن العبادة هي: التذلل لله عز وجل بحيث يتبع الإنسان ما أمر الله دون ما نفسه تهواه.
جلسات الحج [4]
ابتدأ الشيخ هذه الجلسة بالتذكير بوجوب الإخلاص لله ومتابعة النبي في كل عمل، ثم أردف ذلك ببيان كيفية صفة الحج والعمرة، مقتصراً في هذه الصفة على صفة حج المتمتع، مبيناً كثيراً من المسائل من وقت الخروج للحج والعمرة وإلى الوصول إلى الميقات، ومن وقت دخول الحرم وحتى التحلل من العمرة، ثم ذكر أخطاء الطواف، ثم شرع بتبيين أعمال اليوم الثامن من ذي الحجة من الإحرام وغيره وحتى الدفع من مزدلفة، ثم ختم هذه الجلسة ببيان أعمال يوم العيد.
وجوب الإخلاص لله ومتابعة النبي في العمل.(/67)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
أيها الإخوة: فإننا في هذه الليلة نحب أن نتكلم على صفة الحج والعمرة، وذلك لأننا مأمورون بأمرين هما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله في جميع عباداتنا؛ في الطهارة، في الصلاة، في الزكاة، في الصيام، في الحج، في كل عمل نتقرب به إلى الله لا بد من هذين الأمرين، أحدهما: الإخلاص لله، والثاني: المتابعة لرسول الله. فمن لم يخلص لله في عبادته فإن عبادته مردودة عليه كما يدل على ذلك كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسوله قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وقال تعالى لنبيه محمد: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3]. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال النبي: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) فالله سبحانه وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك لا يريد عملاً يكون له فيه شريك، من عمل عملاً أشرك فيه مع الله، فإن الله تعالى يتركه وشركه، أي: وما أشرك به فلا يقبل منه. وأما اتباع النبي فلابد في كل عبادة منه، لقول الله(/68)
عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وقال النبي: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي: مردود عليه. وإذا كان لابد في العبادة من اتباع الرسول فإنه يلزم على كل إنسان يريد أن يتعبد: أن يعرف كيف كان النبي يؤدي هذه العبادة حتى تتحقق له المتابعة، لأنك لا يمكن أن تتابع الرسول عليه الصلاة والسلام وأنت لا تدري كيف يفعل، لهذا يجب عليك أن تعلم كيف كان النبي يتوضأ، كيف كان يصلي، كيف كان يتصدق، كيف كان يصوم، كيف كان يحج؛ حتى تعبد الله عز وجل متبعاً لرسول الله، أما أن تعبد كما يعبد الناس فهذا لا شك أنه إذا كان الناس على صواب فإنك على صواب لكنك لست مطمئناً كما ينبغي وأنت لا تدري على أي أساس بنى الناس عبادتهم، ولهذا قال أهل العلم: إن العلم فرض عين في كل عبادة يريد الإنسان أن يقوم بها. أي أنه يجب عليك أن تعلم كيف كان النبي يتعبد في العبادة التي تريد أن تقوم بها، فمثلاً: رجل عنده مال يجب عليه أن يتعلم أحكام الزكاة، ورجل لا مال عنده لا يجب عليه أن يتعلم أحكام الزكاة، رجل مستطيع الحج ويريد أن يحج يجب عليه أن يتعلم أحكام الحج، وآخر لا يستطيع الحج ليس عنده مال فلا يريد الحج فلا يجب عليه أن يتعلم أحكام الحج. ولهذا ينبغي لكل من أراد الحج أن يتعلم كيف يحج؛ إما عن طريق المشافهة عن أهل العلم، وإما عن طريق القراءة من الكتب الموثوق بمؤلفيها وليس كل كتاب مؤلف في المناسك أو غيرها يكون موثوقاً؛ لأن صاحبه قد يكون قليل علم وقد يكون من الناس الذين لا يبالون فيما يتكلمون به. على كل حال طرق تعلم أحكام الحج ثلاثة: المشافهة، وقراءة الكتب، والاستماع إلى(/69)
الأشرطة المسجلة من أناس موثوق بهم، حتى يعبد الإنسان ربه على بصيرة.
أنواع النسك في الحج
في هذه الليلة سنتكلم مستعينين بالله عز وجل مهتدين بما أنعم الله به علينا من العلم فيما يتعلق بصفة الحج والعمرة فنقول: الحج والعمرة لهما ثلاث صفات:
الصفة الأولى: أن يفرد الحج في سفر والعمرة في سفر.
الصفة الثانية: أن يفرد الحج في عمل والعمرة في عمل والسفر واحد.
الصفة الثالثة: أن يقرن الحج والعمرة جميعاً بعمل واحد.
فهذه ثلاث صفات. أما الصفة الأولى: أن يفرد العمرة في سفر والحج في سفر، ويسمى هذا الإفراد، لأنه أتى بالعمرة في سفر مستقل وأتى بالحج في سفر مستقل، مثال ذلك: رجل ذهب اعتمر في شوال وهو يريد الحج ثم رجع إلى بلده ثم أحرم بالحج ولم يحرم بالعمرة نقول: هذا مفرد، وسواء كان نوى الحج في عمرته الأولى أم لم ينوِ، المهم أنه أفرد العمرة بسفر والحج بسفر، ولهذا كان القول الراجح من أقوال أهل العلم أن المتمتع إذا قطع تمتعه بالرجوع إلى بلده؛ فإنه إذا رجع يحرم بالحج مفرداً، ولا يكون متمتعاً، وإن شاء تمتع بعمرة جديدة فلا حرج. هذه الأنساك الثلاثة ما هو الأفضل منها؟ نقول: الأفضل هو التمتع، إلا لمن ساق الهدي فالأفضل في حقه القران، ودليل ذلك: أن النبي أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يجعلوها عمرة ليكونوا متمتعين، أما هو فقال: ((إن معي الهدي فلا أحل حتى أنحر)) أي: حتى يأتي يوم النحر، لأنه كان قد ساق الهدي، ومن ساق الهدي فالقران في حقه أفضل، وقد ظن بعض الناس أن القران لا يصح إلا لمن ساق الهدي، وهذا خطأ، فالقران يصح وإن لم يسق الإنسان الهدي، لكن إن ساق الهدي فلا يصح منه إلا القران، وإن شاء أفرد، المهم ألا يحل حتى يوم العيد.
صفة الحج والعمرة للمتمتع
سيكون كلامنا على المتمتع ما دام هو الأفضل.
ما يشرع للمتمتع من حين خروجه من بلده حتى وصوله إلى الميقات(/70)
فنقول: أولاً: ينبغي للإنسان إذا عزم على السفر إلى الحج أن يكون مخلصاً لله سبحانه وتعالى في هذا السفر، وأن يشعر بأنه سفر طاعة، لأنه من حين أن يغادر بلده وهو قاصد لعبادة فيكون في عبادة من حين أن يخرج، وينبغي أن يأتي بالسنن القولية والفعلية في السفر؛ فيدعو عند ركوبه بدعاء السفر المشهور، ويستمر في السير وكلما علا كبر وكلما انخفض سبح؛ لأن هذا دأب الصحابة رضي الله عنهم، وليحرص على فعل الصلاة في أوقاتها مع الجماعة إن كان ممن تطلب منه جماعة، وليحرص كذلك على أن يتطهر بالماء ولا يتهاون كما يفعله بعض الناس، يكون الماء عنده ميسراً ولكن يتيمم بحجة أنه في سفر، والله عز وجل يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] فلابد من عدم الماء، ليس مجرد السفر مبيحاً للتيمم بل لا بد من عدم الماء. وليحرص على أن يأتي بكل خلق طيب في معاملة إخوانه من السماحة وطلاقة الوجه، والبش والتبسم، والإنفاق وغير ذلك من طرق الإحسان، ويجوز للمسافر بل يشرع له أن يأتي بجميع سنن الصلاة، كل الصلوات النوافل مشروعة في حق المسافر إلا ثلاثاً، وهي: راتبة الظهر وراتبة المغرب وراتبة العشاء، فهذه الثلاث الرواتب السنة تركها وما عدا ذلك من النوافل فهو مشروع كما هو مشروع في الحضر.
وقد ظن بعض الناس أنه لا يتنفل في السفر إلا بالوتر وراتبة الفجر ولكن هذا لا دليل عليه، بل الدليل يدل على أن جميع النوافل مشروعة ما عدا الرواتب الثلاث التي ذكرت.
ما يشرع للمتمتع عند وصوله إلى الميقات(/71)
فإذا وصل إلى الميقات فإنه يسن له عند الإحرام أن يتجرد من ثيابه ويغتسل ويتطيب في رأسه وبدنه، ولا يطيب ثياب الإحرام، ثم يلبس ثياب الإحرام، إن كان رجلاً إزاراً ورداءً وإن كانت امرأة فإنها تلبس ما شاءت من الثياب إلا أنها لا تتبرج بجميل الثياب، أي: لا تلبس ثياباً جميلة، تلبس ما شاءت، ثم بعد هذا بعد الاغتسال والتطيب ولباس الإحرام إن كان الوقت وقت صلاة مفروضة صلى الفريضة إذا جاء وقتها ثم أحرم عقبها، وإن شاء أحرم إذا ركب، وإن لم يكن وقت صلاة الفريضة وصار يريد أن يغادر الميقات قبل أن يأتي وقت الصلاة فلا بأس أن يصلي الصلاة المشروعة إن كان في الضحى فصلاة الضحى، وإن كان في الليل فصلاة الليل، وإن كان في وقت آخر كصلاة الوضوء لأن الوضوء له سنة، ثم يحرم بعد هذا، فيقول: "لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" يصوت بها الرجل بصوت مرتفع، وأما المرأة فلا تجهر بها إلا بقدر أن يسمع من بجنبها، ويستمر في هذه التلبية إلى أن يشرع في الطواف.
ما يشرع للمتمتع في طواف القدوم
وإذا دخل المسجد الحرام قدم رجله اليمنى وقال: (باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك).. (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) ثم يتقدم إلى المطاف فيبدأ الطواف من الحجر إن تيسر له أن يصل إلى الحجر بدون أذية ولا تأذي فليفعل، وإن لم يتيسر كأوقات المواسم فإنه يكتفي أن يستقبل الحجر ويشير بيده، ويقول: (باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد.(/72)
وقد كان الناس يعانون فيما سبق من موافقة محاذاة الحجر الأسود، لأنه لا بد أن تحاذي الحجر الأسود، فكان بعض الناس يعاني من ذلك، لأنه لا يضبط إنه حاذاه ضبطاً كاملاً، ومن توفيق الله عز وجل أن الحكومة وفقها الله وزادها توفيقاً وضعت هذا الخط البني الذي ينطلق من قلب الحجر على خط مستقيم إلى نهاية المطاف وعلى هذا فليكن ابتداء الطواف من هذا الخط، ثم تجعل الكعبة عن يسارك وتطوف سبعة أشواط، وهذا أي طواف؟ هذا طواف العمرة، وهو طواف عمرة وطواف قدوم في نفس الوقت، لأن طواف القدوم هو الطواف أول ما يقدم الإنسان إلى مكة، في هذا الطواف يسن للرجل سنتان السنة الأولى: الاضطباع، والسنة الثانية: الرمل.(/73)
أما الاضطباع فهو: أن يبدي الإنسان كتفه الأيمن ويجعل الرداء من تحته ويجعل طرفي الرداء على الكتف فلا يستر، هذا هو الاضطباع، وهو مشروع في الطواف فقط، يفعله إذا ابتدأ الطواف ويعيد رداءه على كتفه إذا انتهى الطواف. أما السنة الثانية وهي الرمل فلا يكون في جميع الطواف بل في الأشواط الثلاثة الأولى، والرمل قال العلماء: هو سرعة المشي مع مقاربة الخطى، أي: تسرع في مشيك لكن بدون أن تمد خطوتك، بل تجعل الخطى قريبة بعضها من بعض، لكنه في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، وذلك من أجل راحة الطائف، لأنه لو قيل له، استمر في الرمل جميع الأشواط السبعة لشق عليه هذا، والرمل سنة لكن إذا كان المطاف زحاماً لا يمكنك أن ترمل إلا بمشقة أو تأذي فإنه لا يلزمك أن ترمل، بل تمشي على حسب الحاجة، وكلما وجدت فجوة ومتسعاً فارمل ما دامت الأشواط الثلاثة الأولى. فماذا يقول الإنسان؟ في طوافه يقول في طوافه ما شاء من ذكر ودعاء وقراءة قرآن، إلا أنه كلما حاذى الحجر الأسود قال: (الله أكبر) ويقول بينه وبين الركن اليماني: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]. الإشارة إلى الحجر الأسود تكون عند نهاية الشوط أو عند ابتداء الشوط؟ تكون عند ابتداء الشوط، وعلى هذا فإنه في آخر شوط لا يشار إلى الحجر الأسود عند انتهائه؛ لأن الإشارة إنما تشرع عند ابتداء الشوط، فإذا انتهى الشوط آخر السبعة فاستمر متقدماً إلى مقام إبراهيم ولا تشر؛ ولأنك إذا وصلت إلى الحجر عند آخر نقطة انتهى الطواف، فإذا حاذيت الحجر فقد حاذيته وأنت في غير طواف وحينئذ لا حاجة إلى الإشارة.
إذاً: لا يشير لسببين:
السبب الأول: أن الإشارة في بداية الشوط لا في انتهائه.
والسبب الثاني: أن الطائف ينتهي طوافه عند آخر نقطة قبل أن يصل إلى الحجر، فإذا وصل الحجر فهو في غير طواف فلا يشرع له أن يشير.
الصلاة خلف مقام إبراهيم(/74)
ثم تتقدم إلى مقام إبراهيم وتقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} [البقرة:125] وتصلي ركعتين خفيفتين تقرأ في الأولى: (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية: (قل هو الله أحد) والمهم أن تجعل المقام بينك وبين البيت، بينك وبين الكعبة، سواء قربت منه أو بعدت عنه، لكن إن حصل الدنو منه فهو أفضل، وإن لم يحصل فإنك تدرك السنة ولو كنت بعيداً ما دام المقام بينك وبين الكعبة.
هل هناك دعاء عند المقام؟ لا. ليس عند المقام دعاء، لا قبل الركعتين ولا بعد الركعتين، وإنما تصلي الركعتين خفيفتين لتدع المجال لغيرك. ثم إذا فرغت من الركعتين تتقدم إن تيسر لك إلى الحجر الأسود فتمسحه بيدك، وإن لم يتيسر فلا تشر إليه لأنه لم يرد عن النبي أنه أشار إليه.
ما يشرع للمتمتع عند السعي بين الصفا والمروة إلى أن يتحلل تحلالاً كاملاً(/75)
ثم تخرج إلى المسعى، فإذا دنوت من الصفا فاقرأ قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] ابدأ بما بدأ الله به، فترقى على الصفا وتتجه إلى الكعبة وترفع يديك رفع دعاء، ترفع يديك هكذا وتكبر الله عز وجل وتحمد الله، وتقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله والحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ثم تدعو بما شئت، ثم تعيد هذا الذكر: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ثم تدعو مرة ثانية، ثم تعيد الذكر وتنزل من الصفا متجهاً إلى المروة فإذا حاذيت العمود الأخضر فاسعَ سعياً شديداً، أي: اركض ركضاً شديداً بقدر ما تستطيع، إلا أن يكون هناك زحام تتأذى لو ركضت أو تؤذي غيرك فلا تفعل، فإذا وصلت إلى العمود الأخضر الثاني مشيت على عادتك إلى أن تصل إلى المروة، فإذا وصلت إلى المروة فاصعد عليها واستقبل القبلة وارفع يديك وقل مثل ما قلته على الصفا، ثم تنزل من المروة متجهاً إلى الصفا، تمشي في موضع مشيك وتركض في موضع ركضك.. وهكذا، تفعل هذا سبع مرات، تبدأ بالصفا وتختم بالمروة، ذهابك من الصفا إلى المروة شوط ورجعوك من المروة إلى الصفا شوط آخر.(/76)
إذاً: يكون الابتداء بالصفا والختام بالمروة، فإن ختمت بالصفا وظننت أنك أتممت سبعة أشواط فاعلم أنك مخطئ إما زائد وإما ناقص، إما أنك زائد وسعيت ثمانية أشواط أو ناقص ولم تسع إلا ستة أشواط. إذا كنت لا أدري الآن أنا الآن ختمت بالصفا ولا أدري هل أنا زدت شوطاً أو نقصت شوطاً، فما الحكم؟ آتي بشوط آخر، آتي بشوط آخر لأجل أن أختم بماذا؟ بالمروة، أختم بالمروة، فإذا قدرت في نفسك حين وصلت الصفا أن السعي انتهى فاعلم أن هذا خطأ، لأنه لا بد إمَّا أن تكون زدت شوطاً أو نقصت شوطاً، فإذا قلت: لا أدري، إذاً: نقول: ائت بالشوط الأخير للتحقق أنك أتممت سبعة أشواط، وبعد انتهاء السبعة الأشواط تقصر من شعر رأسك، بمعنى أنك تقص جميع الشعر لا تقص جانباً واحداً فقط، بل جميع الشعر، والمرأة تأخذ من جديلتها أنملة، أي: قدر فسطة الإصبع، وبهذا تحل حلاً كاملاً يجوز لك جميع محظورات الإحرام من الطيب واللباس والنساء وغير ذلك.
أخطاء يقع فيها الحاج والمعتمر عند الطواف
وهنا نقف يسيراً لنتكلم على أشياء في الطواف يخطئ فيها بعض الناس: أولاً: بعض الناس يحمل معه كتيباً فيه دعاء لكل شوط في الطواف وفي السعي، فهل لهذا أصل عن رسول الله أو عن الصحابة؟ لا. ولهذا يعتبر هذا الكتيب بدعة من البدع، لأن النبي لم يجعل لأمته دعاءً لكل شوط، لا في الطواف ولا في السعي، فالواجب على الإنسان أن يتجنب هذه الكتيبات وأن ينصح إخوانه أيضاً بعدم اقتنائها، وهذه الكتيبات فيها مفاسد:
المفسدة الأولى: أنها بدعة، وقد قال النبي: ((كل بدعة ضلالة)).
المفسدة الثانية: أن كثيراً من العامة يظنون أن هذا شيء واجب وليس هذا بواجب.(/77)
المفسدة الثالثة: أن كثيراً ممن يقرأ هذه الكتيبات لا يفهم معناها، لا يفهم معنى الدعاء الذي يدعو به، ولهذا نسمع أخطاءً كثيرة، أخطاءً يختلف بها المعنى؛ لأن الذي يقرأ لا يعرف ما يقول، وكيف تدعو الله بشيء لا تعرفه!! قد تدعو الله بشيء هو ضرر عليك وأنت لا تعرف.
الرابع من مفاسد هذه الكتيبات: أنها تحول بين الإنسان وبين دعائه الذي في نفسه، كل إنسان في نفسه دعاء يحب أن يدعو الله به، هذا يحب أن الله يرزقه علماً، وهذا يحب أن الله يرزقه مالاً، وهذا يحب أن الله يرزقه ولداً، وهذا يحب أن الله يرزقه زوجة صالحة.. وهكذا. هذه الكتيبات تحول بين الإنسان وبين طلبه الدعاء الذي يريد، ولهذا سُمع بعض الطائفين يقول: اللهم ارزقني فقهاً كفقه شيخ الإسلام، ونحواً كنحو ابن هشام، كل إنسان له رغبة خاصة، وهذا يعني كون هذه الكتيبات بدعة لا فرق فيه بين الطواف والسعي، ففي السعي يحمل بعض الناس كتيباً فيه دعاء لكل شوط، وهذا لا أصل له. ثانياً: بعض الناس يظنون أن الاضطباع أي: إخراج الكتف الأيمن يكون في الطواف والسعي وفي كل الإحرام، ولهذا تجده من حين أن يحرم وهو مضطبع، لو شاهدت الحجيج الآن لوجدت الحجيج كلهم أو أكثرهم يضطبعون من حين الإحرام، وهذا خطأ، إذ السنة أن يكون الاضطباع في طواف القدوم، أي في الطواف أول ما تقدم، لا في السعي ولا في غيره.(/78)
ثالثاً: بعض الناس مع الزحام الشديد يختصر الشوط، فيدخل من بين الكعبة القائمة والحِجْر، وهذا خطر عظيم جداً، لماذا؟ لأنه يجب أن يكون الطواف من وراء الحجر، فإذا طاف إنسان من دون الحجر بينه وبين الكعبة القائمة فإن شوطه لا يصح، وحينئذ يرجع فإنه لم يطف، وقد وقع هذا فعلاً؛ فإن من الناس من طاف طواف الإفاضة ولكنه دخل من الباب الذي بين الحجر وبين الكعبة حتى تحلل ورجع إلى بلده، وسأل فقيل له: إن طوافك طواف الإفاضة لم يصح، وعليك أن ترجع الآن لتطوف طواف الإفاضة على وجه صحيح، لماذا لم يصح؟ لأنه لم يطف من وراء الحجر والطواف من وراء الحجر شرط لصحة الطواف.
خامساً: بعض الناس يطوف من سطح المسجد، فهل هذا جائز؟ الجواب: إن كان هناك مشقة في الطواف أسفل فلا حرج أن يطوف الإنسان في السطح، ولكن ينبغي أن يحترز من أن يطوف فوق المسعى، لأن المسعى ليس من المسجد، والعلماء يقولون: لا بد أن يكون الطواف داخل المسجد، وإذا طاف خارج المسجد فإنه طوافه لا يصح، والمسعى إلى الآن ونحن نعتبره خارج المسجد، ولهذا لو أن المرأة حاضت بعد الطواف وقبل السعي، قلنا: اسعي ولا حرج عليك.
ما يشرع للمتمتع بعد الإحرام للحج يوم الثامن
في اليوم الثامن من ذي الحجة يحرم الناس بالحج، ويسن عند الإحرام بالحج ما يسن عند الإحرام بالعمرة، فيغتسل ويطيب رأسه ولحيته ويلبس ثياب الإحرام، ويبقى في منى يصلي بها ظهر اليوم الثاني والعصر والمغرب والعشاء والفجر.(/79)
النزول بنمرة والوقوف بعرفة يوم التاسع فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة وهو يلبي، يقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك اللهم حجاً) فينزل بنمرة إن تيسر، وهي مكان قرب عرفة ينزل بها إلى أن تزول الشمس، فإن لم يتيسر كما هو الغالب في هذه الأعصار فإنه لا حرج عليه أن ينزل في عرفة ويبقى هناك ويصلي بها الظهر والعصر جمع تقديم، ثم يتفرغ بعد ذلك للدعاء والتضرع إلى الله عز وجل والذكر، ويحرص على أن يكثر من ذكر الله ودعائه ويصبر ويصابر ويرابط لأن هذا اليوم يوم عظيم، يوم ذكر ودعاء، وخير الدعاء دعاء يوم عرفة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))، فيكثر من الدعاء من حين أن يصلي الظهر والعصر جمع تقديم، لكن النفوس ضعيفة والإنسان ضعيف ربما يتعب ويمل يبقى نصف النهار كله وهو يدعو ويذكر قد يمل ويتعب فلا بأس أن يتجاذب الأحاديث النافعة مع رفقائه ولا سيما ما يرقق القلوب ويوجب حضورها واستحضارها لمثل هذا الموقف العظيم، فيكون تارة يتكلم بهذا وتارة يدعو وتارة يقرأ القرآن، وليحرص على أن يكون آخر النهار مشتغلاً بالدعاء، ويلح على الله، يلح: يا رب! يا رب! يا رب! ويلح لأن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء؛ لأنه كلما كثر إلحاح العبد ظهر افتقاره إلى ربه عز وجل، والإنسان مفتقر إلى الله في جميع أحواله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. فإذا أظهر الإنسان افتقاره إلى ربه ولجأ إليه وألح عليه في الدعاء فليبشر بالإجابة، فإن الله تعالى يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] واختلف العلماء(/80)
رحمهم الله: هل الأفضل أن يقف راكباً أو غير راكب؟
فقال بعض العلماء: الأفضل أن يقف راكباً، يعني يركب على السيارة ويتجه إلى القبلة ويدعو، قالوا: لأن رسول الله وقف راكباً، فهو واقف راكباً عليه الصلاة والسلام رافع يديه، حتى إنه لما سقط زمام ناقته أمسكه بإحدى يديه وهو رافعاً اليد الأخرى، وما زال هكذا حتى غربت الشمس.
المبيت بمزدلفة ليلة العاشر
فإذ غربت الشمس وتيقن الغروب دفع من عرفة إلى مزدلفة يلبي الله عز وجل: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ويرفع صوته بذلك، ويقول أيضاً: (لبيك اللهم حجاً) حتى يصل إلى مزدلفة، فإذا وصل صلى بها المغرب والعشاء جمعاً؛ لأن النبي جمع فيها جمع تأخير، وذلك أنه لم يصل إليها إلا بعد دخول وقت العشاء، فإن قدر أنك وصلت إليها وقت المغرب فالأفضل أن تصلي المغرب ثم تنتظر حتى يأتي وقت العشاء فتصلي العشاء، إلا أن يكون في ذلك شيء من المشقة عليك فلا حرج أن تجمع جمع تقديم، وتبقى في تلك الليلة في مزدلفة، ولا ينبغي أن تحيي تلك الليلة بذكر أو دعاء، أو قرآن أو تهجد، لا. الأفضل أن تنام؛ لأن الرسول لما صلى المغرب والعشاء اضطجع ونام حتى طلع الفجر، ولم يقم تلك الليلة ولم يشتغل بالتسبيح ولا بالقرآن ولا بشيء أبداً، نام لأجل أن ينقض التعب الذي حصل في عرفة ويستجد النشاط للعمل الذي يكون في يوم النحر، هذا هو السنة. وظاهر الأحاديث أن النبي لم يوتر تلك الليلة؛ لأنه لم يذكروا أنه أوتر، ولكن هناك أحاديث عامة تدل على أن النبي لم يدع الوتر حضراً ولا سفراً، وعلى هذا: فتصلي العشاء ركعتين ثم توتر بما شاء الله، ثم تنام إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر فصل الفجر مبكراً إلى حين أن يتبين الصبح، وهنا ينبغي أن تؤذن لصلاة الفجر ثم تصلي راتبة الفجر ثم تصلي صلاة الفريضة، وبعد هذا تقف داعياً الله عز وجل إلى أن تسفر جداً ويتبين السفر، ثم تنطلق متوجهاً إلى(/81)
منى، فإن رسول الله فعل ذلك؛ وقف عن المشعر الحرام، وقال: ((وقفت هاهنا و عرفة كلها موقف)).
مسائل متعلقة بالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفةونحن نقف الآن لنذكر بعض المسائل المتعلقة بالوقوف والمبيت في مزدلفة: في الوقوف لو أن الإنسان وقف خارج حدود عرفة وانصرف وهو لم يقف بعرفة، فماذا يكون حجه؟ الجواب: لا حج له، لقول النبي: ((الحج عرفة)) ومن هنا نعلم أنه يتأكد علينا أن نتأكد من حدود عرفة؛ لأن بعض الناس ينزلون قبل أن يصلوا إلى عرفة ويبقون هناك وينصرفون إذا غابت الشمس من مكانهم، وهؤلاء رجعوا بلا حج؛ لأن النبي قال: ((الحج عرفة)) فيجب علينا أن نتأكد من الحدود، والحدود ولله الحمد مبينة؛ فيها علامات ظاهرة واضحة، وهناك أناس مرشدون يرشدون الناس ويبينون لهم أنهم خارج الحدود. ثانياً: هل من السنة أن تشق على نفسك لتصل إلى الموضع الذي وقف فيه عليه الصلاة والسلام؟ لا. ليس هذا من السنة، بل السنة أن تقف في مكانك إذا كان يشق عليك الذهاب، وذلك لقول النبي: ((وقفت هاهنا و عرفة كلها موقف)) وفي هذا -والله أعلم- إشارة إلى أننا لا نكلف أنفسنا بالذهاب إلى موقف الرسول عليه الصلاة والسلام فالأمر واسع والحمد لله، والإنسان إذا ذهب يخشى عليه من الشمس والحر والعطش والاختلاط بالنساء عند الجبل وربما يضيع ويتيه، فيتعب هو ويُتعِب رفقاءه أيضاً.
ثالثاً: هل المشروع استقبال الجبل أو استقبال القبلة ولو كان الجبل خلف ظهرك؟
الجواب: الثاني، المشروع استقبال القبلة ولو كان الجبل خلف ظهرك، فالجبل ما هو إلا علامة للمكان الذي وقف فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس له أي مزية على بقية أرض عرفة، فاستقبال القبلة حال الدعاء هو المشهور دون استقبال الجبل، أما إذا كنت خلف الجبل من الناحية الشرقية فيحسن لك استقبال الجبل واستقبال القبلة معاً.(/82)
المسألة الرابعة: هل يجوز للإنسان أن يدفع من عرفة قبل غروب الشمس؟ الجواب: لا. لأن النبي وقف حتى غربت الشمس، وقال: ((خذوا عني مناسككم)) ولو كان الدفع من عرفة قبل الغروب جائزاً لفعله النبي لأنه أيسر للأمة إذا دفعوا في النهار، فلما لم يفعل ذلك علم أنه حرام، وأنه لا يجوز للإنسان أن يدفع قبل غروب الشمس، بل يجب أن ينتظر حتى يتيقن غروب الشمس أو يغلب على ظنه، وإذا كنا معشر المسلمين لا نفطر ونحن صائمون إلا إذا غربت الشمس فلا يجوز لنا أن نسير من عرفة إلا إذا غربت الشمس؛ لأن الرسول وقف حتى غربت الشمس. ولكن لو دفع قبل أن تغرب الشمس، فماذا يكون؟ نقول: إنه يكون آثماً، عاصياً وعليه دم يذبحه في مكة ويوزعه على الفقراء؛ لأنه ترك واجباً من الواجبات، وقد قال أهل العلم: كل من ترك واجباً من واجبات الحج فعليه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على الفقراء. في مزدلفة ذكرنا أنه يصلي المغرب العشاء في مزدلفة، ولكن لو فرض أن السيارة تعطلت ولم يصل إلى مزدلفة، أي: أنه انتصف الليل قبل أن يصل إلى مزدلفة، هل يؤخر صلاة المغرب والعشاء إلى ما بعد نصف الليل؟ لا. لا يجوز أن يؤخر صلاة المغرب والعشاء إلى ما بعد نصف الليل، بل إذا خاف أن ينتصف الليل وهو لم يصل إلى مزدلفة وجب إن يصلي ولو في الطريق، ولا يجوز أن يؤخر إلى ما بعد نصف الليل.(/83)
ثانياً: فهمنا أن الإنسان يبقى حتى يصلي الفجر ويدعو الله تعالى ثم ينصرف بعد أن يسفر، لكن لو دفع من مزدلفة قبل طلوع الفجر، فهل هذا جائز؟ الجواب: إذا كان الإنسان يشق عليه أن يزاحم الناس فإنه لا بأس عليه أن يدفع في آخر الليل ويرمي الجمرة؛ جمرة العقبة، وأما إذا كان قوياً لا يخشى على نفسه من الزحام فإن النبي بقي في مزدلفة حتى صلى الفجر ووقف ودفع، ولكن إذا كانت الرفقة فيهم ضعفاء كثيرون يحتاجون إلى أن ينصرفوا من مزدلفة قبل الفجر فماذا يكون الحكم؟ الحكم أن يدفعوا جميعاً إذا كان لا يمكن البقاء في مزدلفة، أما إذا كان يمكن كما لو كان أحد الركاب ليس معه امرأة وليس معه ضعيف يستطيع أن يبقى في مزدلفة ويأتي إلى منى بنفسه فهذا يبقى، لكن إذا كان لا يمكن فليدفعوا جميعاً وإذا وصلوا إلى منى فالضعيف يرمي الجمرات متى وصل والقوي الأفضل له أن يؤخر حتى تطلع الشمس، وإن رمى مع رفقائه فلا بأس.
ثالثاً: هل يلزم الإنسان أن يلقط الحصى من مزدلفة؟ لا. لا يلزم بل ولا يسن؛ لأن الرسول لم يفعله ولم يأمر أمته به، فلم يلقط الحصى من مزدلفة ولا أمر الأمة أن يأخذوا من مزدلفة، وإنما استحبه بعض التابعين، قال: لأجل أن يكون متهيئاً ومتأهباً لرمي الجمرة أول ما يصل إلى منى، ولكن هذا لا أصل له من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا يلقط الحصى من مزدلفة.
أعمال الحج يوم النحر(/84)
فإذا دفع من مزدلفة بعد أن يصلي الفجر ويسفر يدفع وهو يلبي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) وإذا تيسر له أن يسرع المشي في وادي محسر وهو مجرى الماء، مجرى الشعيب الذي بين منى و مزدلفة فليفعل؛ لأن الرسول أسرع السير فيه، فإذا وصل إلى منى فليكن أول ما يبدأ به رمي جمرة العقبة، يرميها بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة، فيقول: الله أكبر، وكل حصاة منها أكبر من الحُمُّصِ قليلاً، ثم ينصرف إلى المنحر فينحر هديه. ثم يحلق رأسه أو يقصر، والمرأة تقصر، والحلق أفضل من التقصير؛ لأن النبي دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة واحدة، بعد أن ألح الصحابة عليه أيضاً، وبهذا يحل التحلل الأول، فيحل من كل محظورات الإحرام إلا من النساء، وعلى هذا فإذا رمى ونحر وحلق خلع ثوب الإحرام ولبس ثيابه المعتادة، وتطيب وقلم أظفاره وأزال الشعر الذي تسن إزالته؛ لأنه حل من كل شيء إلا من النساء، ثم بعد هذا يتطيب، يعني: يسن أن يتطيب ليطوف بالبيت، وينزل إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة، وهو: طواف الحج، ويسعى بين الصفا و المروة سعي الحج وبهذا يحل التحلل كله، ثم يرجع إلى منى فيبيت فيها. أظن أنه اتضح لنا أن الإنسان يفعل يوم العيد خمسة أنساك:
أولها: رمي جمرة العقبة، والثاني: النحر، والثالث: الحلق أو التقصير، والرابع: الطواف، والخامس: السعي، والأفضل أن يرتبها هكذا، فيبدأ بالرمي، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف، ثم السعي، وإن قدم بعضها على بعض فلا حرج عليه لأن النبي كان يسأل يوم العيد عن التقديم والتأخير فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج)).(/85)
ويبيت في منى اليلة الحادية عشرة واليلة الثانية عشرة، وينبغي له أن يستغرق الوقت في الذكر وقراءة القرآن والعلم والأشياء النافعة؛ لأن هذه أيام فاضلة لا ينبغي أن تذهب عليك سدىً. وإذا زالت الشمس من اليوم الحادي عشر رميت الجمرات الثلاث؛ تبدأ بالأولى فترميها بسبع حصيات متعاقبات، تكبر مع كل حصاة، ثم تتقدم قليلاً وتجعلها خلف ظهرك، ثم تقف وترفع يديك فتدعو الله تعالى دعاءً طويلاً، وقد جاء في بعض الروايات أنه بقدر سورة البقرة، فإن تيسر لك هذا وإلا كفى ما تيسر، ثم ترمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات متعاقبات تكبر مع كل حصاة، ثم تنحدر على اليسار وتقف مستقبل القبلة رافعاً يديك تدعو الله تعالى دعاءً طويلاً، ثم ترمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات ولا تقف عندها. تفعل هذا الرمي في اليوم الحادي عشر وفي اليوم الثاني عشر، ثم إن شئت بعد رمي اليوم الثاني عشر أن تبقى في منى فتتأخر فلك ذلك، وإن شئت أن تنزل وتتعجل فلك ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203].(/86)
نعود الآن لننظر ماذا يكون في منى؟ يكون في منى المكث يوم العيد ويوم الحادي عشر ويوم الثاني عشر، لكن لك أن تخرج من منى في آخر اليوم الثاني عشر، والمكث فيها ليلاً ونهاراً هو السنة، ولكن يجوز لك أن تخرج من منى في النهار وترجع فتبيت فيها، والمراد أن تبيت معظم الليل، ولكن لا تفعل كما يفعل بعض الناس اليوم، تجده إذا نزل يوم العيد إلى مكة وطاف وسعى ذهب إلى بيته واشتغل بترفه وكأنه غير حاج، فإذا قارب نصف الليل خرج إلى منى وبقي فيها حتى يصلي الفجر ثم رجع إلى بيته، هذا في الحقيقة ليس حجاً على صفة ما حج عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، بل النبي بقي في منى ليلاً ونهاراً، والمسألة ما هي إلا يومان أو ثلاثة أيام فقط، فاصبر نفسك حتى تحج كما حج النبي.
وإذا أردت أن تخرج من مكة إلى بلدك فلا تخرج حتى تطوف للوداع، وهو واجب على كل من خرج من معتمر وحاج إلا المرأة الحائض أو النفساء فليس عليهما وداع.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يحجون حجاً مبروراً، وأن يجعل سعينا سعياً مشكوراً، وذنبنا ذنباً مغفوراً إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الأسئلة
حكم التلبية الجماعية
السؤال: هناك من يلبون بشكل جماعي مع أنه ربما كان فيه تشجيع لهم وتنشيط، فهل ينكر عليهم، رغم أن بعضهم يستدل بما ورد في صحيح البخاري، قال: كان ابن عمر و أبو هريرة يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، أو أن المراد من فعلهما التذكير فقط؟(/87)
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. التلبية تشرع لكل واحد بانفراده ولا تسن جماعة، ولهذا قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "خرجنا مع النبي فمنا المهلل ومنا المكبر ومنا الملبي" وهذا يدل على أن كل واحد منهم يذكر الله تعالى بانفراده، هذا يقول: الله أكبر ولله الحمد، وهذا يقول: لا إله إلا الله، وهذا يقول: لبيك، فهذه هي السنة. وما يذكره السائل من أنهم كانوا جماعة فإنه ينشط بعضهم بعضاً، فنقول: التنشيط بغير ما ورد لا ينبغي ولا يهم نشط نفسك على ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو خير، وأما ما ذكر من أثر عبد الله بن عمر و أبي هريرة رضي الله عنهم فليس فيه دليل على ذلك؛ لأنه قوله: (يكبر الناس بتكبيرهما) يحتمل أن يكون الناس يدفعونهم على التكبير فيكبر مثلاً عبد الله بن عمر فيتبعه الناس، ويحتمل من المعنى: (يكبرون بتكبيرهم) أي: مثل تكبيرهم، وإن كان كل واحد يكبر على انفراد وهذا هو الأقرب.
حكم الالتزام ما بين الحجر والبابالسؤال: ماذا يقول أو يفعل قبل بدء الطواف، هل يسمي ويكبر، أو يكبر فقط؟ وهل يستقبل الحجر أو ماذا؟ وما حكم الالتزام ما بين الحجر والباب وكذا جميع أجزاء البيت؟
الجواب: هذه فقرات أجبنا عنها في الواقع بما تكلمنا فيه ولا حاجة إلى إعادة الجواب فليرجع إلى الشريط، أما بالنسبة للالتزام فإن الالتزام فعله الصحابة رضي الله عنهم، وهو أن يلصق الإنسان صدره وخده ويمد يديه ما بين الحجر الأسود والباب هذا هو محل الالتزام، وبقية أركان الكعبة، وبقية جدران الكعبة ليست محلاً للالتزام فلا يسن التزامها، وينبه على من فعل ذلك، أي: على من التزم في غير موضع الالتزام ينبه عليه بأن هذا ليس من السنة.
حكم الطواف مقفياً(/88)
السؤال: يعمد كثير من الرجال إذا كان معهم نساء أن يمسك بعضهم بيد بعض ويتحلقوا على من معهم من النساء حتى أن بعضهم ربما طاف على قفاه والكعبة عن يمينه، ثم إنه قد تكون بعض النساء لسن محارم لهم، أرجو بيان ذلك؟
الجواب: هذا من الأمر الخطير من وجه، والمؤذي من وجه آخر، أما كونه مؤذياً فلأنهم إذا جاءوا هكذا مجتمعين آذوا الناس وضايقوهم، ومعلوم أنه لا يحل للإنسان أن يتعمد ما فيه أذية المسلمين، وأما الخطر فلأنه كما قال السائل: بعض الناس يطوف والكعبة خلف ظهره، أو الكعبة أمام وجهه وهذا لا يصح، لأن من شرط الطواف أن تجعل الكعبة عن يسارك، فإذا جعلتها خلف ظهرك أو على يمينك أو أمامك فإن الطواف لا يصح.
السنة في الإشارة إلى الحجر الأسود
السؤال: هل السنة الإشارة إلى الحجر إذا لم يستطع الاستلام في كل شوط بيدين أو بيد واحدة؟
الجواب: السنة أن تشير بيد واحدة فقط؛ لأن النبي كان يستلمه بيد واحدة، فكذلك الإشارة إنما تكون بيد واحدة وهي اليمنى.
حكم المرور بين يدي المصلي في الحرم أثناء الزحامالسؤال: نظراً للزحام في موسم الحج خاصة، فهل يجوز المرور بين يدي المصلي في الحرم؟
الجواب: لا. لا يجوز المرور بين يدي المصلي في الحرم، كما لا يجوز المرور بين يدي المصلي في غيره، والأحاديث الواردة في تحريم المرور بين يدي المصلي عامة لم يخصص منها شيء، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه) وقد فسر (الأربعين) بأنها: أربعين سنة، لكان خيراً من أن يمر بين يديه، وبإمكان الإنسان إلا يمر بين يدي المصلي، بل يمر بينه وبين صاحبه الذي إلى جانبه فيشق الصفوف شقاً ولا يمر بينها عرضاً.
حكم المرأة التي تخاف على جنينها في طواف الحج
السؤال: امرأة خافت على جنينها وهي حامل، فماذا عليها في طواف الحج؟(/89)
الجواب: إذا خافت امرأة حامل على جنينها فإنها تُحْمَل، كما هو معروف الآن في كل من عجز عن الطواف أنه يحمل لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29]، وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].
حكم من يحمل كتيباً للأدعية في الحج للاستذكار فقط
السؤال: لو قال قائل: سأحمل كتيباً لأتذكر الأدعية ولا أجعلها ديدناً لي، بل مجرد التذكر، أو أحمل ورقة فيها بعض الأدعية المأثورة للتذكر فقط، فما الحكم؟
الجواب: هذا لا بأس به، إذا كان الإنسان لا يعرف دعاء مأثوراً وأراد أن يكتب أدعية مأثورة يحملها معه يقرأ بها فلا بأس، لكن الذي تكلمنا عنه أنه قد خصص كل شوط بدعاء معين، وهذا الدعاء قد لا يعرفه الإنسان فضلاً عن أن يكون مقصوداً له، وأما دعاء مقصود لك تعرفه ولم تخصص كل شوط بدعاء معين فهذا لا بأس به ولا حرج فيه.
حكم من حاضت قبل طواف الإفاضة
السؤال: امرأة حجت وحاضت قبل طواف الإفاضة، فماذا تعمل؟(/90)
الجواب: إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة فإنه يجب عليها أن تنتظر حتى تطهر، وإن شاءت خرجت من مكة لكنها تخرج على ما بقي من إحرامها، فإذا كانت ذات زوج فإن زوجها لا يقربها، فإذا طهرت عادت إلى مكة وطافت طواف الإفاضة، ويحسن في هذه الحال أن تحرم بالعمرة فتطوف وتسعى للعمرة وتقصر ثم تأتي بطواف الإفاضة، لكن إذا كانت في بلد لا يمكنها الرجوع ولا يمكنها البقاء، مثل أن تكون في إندونيسيا أو في باكستان أو في بنجلاديش أو في مصر أو في المغرب أو في مكان لا يمكنها أبداً أن ترجع فإننا في هذه الحال نقول: تتحفظ، أي: تضع على فرجها شيئاً تحفظ به نزول الدم، ثم تطوف ولو كانت حائضاً، وطوافها هنا جاز للضرورة، لأننا بين ثلاثة أمور: إما أن نقول: لا تطوفي وارجعي إلى بلدك وأنت على ما بقيت عليه من الإحرام، وفي هذا من المشقة ما لا يحتمل؛ لأن مقتضى ذلك أن تبقى إن كانت متزوجة لا يستمتع بها زوجها، وإن كانت غير متزوجة تبقى بلا زوج؛ لأنه لا يمكن أن يعقد عليها وهي لم تحل التحلل الثاني، وهذا لا شك أن فيه مشقة شديدة، وإما أن نقول: اعتبري نفسك محصرة وتحللي بهدي وهذه الحجة ليست لك ضاعت عليك، وهذا أيضاً فيه مشقة عظيمة لا سيما في امرأة لم يتيسر لها الحج إلا في هذه السنة ولن يتيسر لها في المستقبل، وإما أن نقول: تلجمي، أي: تحفظي بحفاظة وطوفي وأنت على حيضك للضرورة، ولا شك أن هذا القول هو أقرب الأقوال إلى قواعد الشرع، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وعلى هذا فنقول لهذه المرأة التي لا يمكنها أن تبقى: أولاً: دون أن ترجع تلجمي، أي: تحفظي وطوفي ولا حرج عليك.
حكم استخدام ما يقطع الحيض لمن أرادت الحج
السؤال: ما حكم استخدام الإبرة الموقفة للعادة الشهرية، وكذلك الحبوب التي توقف العادة الشهرية علماً بأنها يمكن أن توقف لمدة ساعات فقط؟(/91)
الجواب: كأن السائلة تريد هذا في أيام الحج، نقول: إنه لا بأس بذلك للضرورة، لكن بشرط أن يكون هذا بعد موافقة الطبيب، فإذا قال الطبيب: لا بأس أن تستعمل هذه الإبرة وهذه الحبوب. فلا بأس أن تستعملها من أجل الضرورة، سواء كان لساعات أو كان لأيام.
حكم شرب ماء زمزم والدعاء عنده
السؤال: هل شرب ماء زمزم بعد الطواف من السنة؟ وما معنى قوله: ((ماء زمزم لم شرب له))؟ وبماذا يدعو؟
الجواب: إن رسول الله بعد أن طاف طواف الإفاضة يوم العيد شرب من ماء زمزم؛ ولهذا استحب العلماء أن يشرب من ماء زمزم بعد طواف الإفاضة، وأما قوله: ((ماء زمزم لما شرب له)) فمعناه: أنك إذا شربته عن عطش رويت به، وإن شربته عن جوع شبعت به، فهو ((طعام طعم، وشفاء سقم)) إن شربته أيضاً من مرض كان فيك فإنك تشفى بإذن الله.
حكم رفع اليدين فوق الصفا والمروة كالمكبر للصلاة
السؤال: ما حكم رفع اليدين عند التكبير فوق الصفا أو فوق المروة، وأقصد رفع اليدين كهيأة من يريد الدخول في الصلاة، فأنا أرى أناساً يفعلون ذلك؟
الجواب: نعم، هؤلاء الذين يرفعون أيديهم على الصفا و المروة ويشيرون بها كأنما يريدون أن يكبروا للصلاة ليس عندهم علم، والمشروع في رفع اليدين على الصفا وعلى المروة أن يرفعهما رفع دعاء، وقد بينا هذا في كلامنا على صفة الحج والعمرة فليرجع إليه في الشريط، وهكذا أيضاً عند الإشارة للحجر الأسود كثير من الناس يشير إليه كأنما يريد الدخول في الصلاة وهذا أيضاً لا أصل له، وإنما يشير إليه بيد واحدة وهي اليمنى إشارة علامة وتعيين فقط.
حد الصفا والمروة
السؤال: قد يشق على الساعي الصعود على الصفا و المروة من الزحام، فهل يوجد حد أدنى للصعود عليهما نأمل تحديده تماماً حيث يوجد بلاط خشن مع بداية الصعود ثم ينقطع ويأتي بلاط ناعم، ثم يأتي الحجران أعني الصفا أو المروة؟(/92)
الجواب: حد المسعى الواجب استيعابه هو الحد الفاصل للعربيات، أي: طريق العربيات منتهاه هو حد المكان الذي يجب استيعابه في السعي؛ لأن الذين وضعوا طريق العربيات وضعوه على منتهى ما يجب السعي فيه، وعلى هذا: فلو أن الإنسان إذا وصل إلى حد طريق العربيات ثم تقدم قليلاً بنحو متر ثم رجع فقد تم سعيه وإن لم ينته به الصعود إلى أعلى الصفا وأعلى المروة.
حكم إسراع المرأة بين العلامتين أثناء السعي
السؤال: ما هي السنة في سعي المرأة بين العلامتين الخضراوين، هل تسرع في السعي أم لا؟
الجواب: لا. المرأة لا تسرع لا في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى، ولا بين العلمين الأخضرين، وقد حكى بعض العلماء إجماع أهل العلم على أن المرأة ليست من أهل السعي، أي: ليست من أهل الركض ولا من أهل الرمل، وعلى هذا فيكون الدليل المخصص هو إجماع العلماء رحمهم الله فليس عليها أن تسعى ولا أن ترمل.
حكم تقديم السعي على طواف الإفاضة
السؤال: هل يجوز للحائض أن تسعى قبل طواف الإفاضة، ويبقى عليها طواف الإفاضة إذا طهرت ويكون في نفس الوقت طواف الوداع؟
الجواب: يجوز للحائض وغير الحائض أن يقدم السعي على طواف الإفاضة، ولكن الأفضل أن يبدأ بالطواف ويسعى بعده، وهذا مجزئ عن طواف الوداع إذا جعله الإنسان عند خروجه، أي أن السعي بعد الطواف لا يمنع من كون الطواف آخر ما يكون، لأن هذا السعي تابع للطواف.
الفرق بين الحج عن النفس وعن الغير من حيث النية والأقوال والأفعال
السؤال: ما الفرق بين شخص يحج عن نفسه وشخص يحج عن غيره من حيث النية والأقوال والأفعال؟
الجواب: لا فرق بينهما إلا أن الذي يحج عن غيره يقول: لبيك عن فلان وينويه عنه، أما الحاج عن نفسه فيقول: لبيك ويريد أنه يلبي عن نفسه؛ ولهذا ينبغي لمن أخذ حجاً عن الغير ألا يخص نفسه بالدعاء، بل يدعو لنفسه ويدعو لمن وكله في الحج عنه.
أفضلية من كان معه نساء في الدفع من مزدلفة(/93)
السؤال: إذا كان الشخص معه نساء، فأيهما أفضل: أن يدفع من مزدلفة بعد غياب القمر، أو أن يؤخر الرمي إلى بعد العصر؟
الجواب: الذي يظهر لي أن الأفضل أن يتقدم؛ لأن النبي أذن للضعفة من أهله أن يتقدموا ولم يأمرهم أن يتأخروا وأن يرموا العصر، وهذا لا شك أنه من تيسير الله عز وجل؛ لأنه إذا تقدم ورمى وحل صار في ذلك تيسر عليه وفرح بالعيد كما يفرح الناس، أما لو تأخر إلى العصر فإنه يبقى محرماً وفيه شيء من الحرج والمشقة على المكلف، فالأفضل لمن كان يشق عليه الزحام أن يتقدم من مزدلفة ليرمي قبل أن يأتي الزحام.
حكم من مات ولم يكمل المناسك
السؤال: رفقة مات معهم شخص؛ فما الذي تعمله بشأن مناسكه المتبقية؟
الجواب: إذا مات الإنسان وهو متلبس بالنسك فإنه لا يقضى عنه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل الذي وقصته ناقته في عرفة فمات، قال عليه الصلاة والسلام: ((اغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تحنطون، وكفنوه في ثوبيه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)) وهذا يدل على أن الإنسان إذا مات أثناء النسك لا يقضى عنه ما بقي.
حكم الحج لمن يعمل في مؤسسة أثناء الحج
السؤال: وزارتي تنتدبني للعمل بالمشاعر، فهل يحق لي أن أؤدي الحج علماً أنها ليست الفريضة؟ وإذا أثر الحج بشكل يسير على مهمتي الرسمية، فهل يمنع ذلك من الحج؟
الجواب: المنتدَب لمهمة رسمية في أيام الحج لا يعقد الحج إلا بعد مراجعة مسئوله، فإذا أذن له بأن يحج فلا بأس أن يحج، أما أن يحج بدون إذن مسئوله فإن هذا خلاف ما يقتضيه العقد؛ لأن الذي يقتضيه العقد بين الموظف وبين الحكومة أن يلتزم ما تقتضيه الأنظمة إذا لم تكن مخالفة للشرع.
بيان موقع المشعر الحرام
السؤال: ما هو المشعر الحرام؟ هل هو مكان في مزدلفة أو هو مزدلفة نفسها؟(/94)
الجواب: المشعر الحرام هو مكان في مزدلفة، لكن قد يطلق على مزدلفة كلها أنها مشعر حرام لأنها مكان نسك، وسميت مشعراً حراماً لأنها داخل أميال الحرم؛ ولهذا يقال المشعر الحلال والمشعر الحرام، فالمشعر الحلال هو: عرفة والمشعر الحرام هو: مزدلفة، لكن حديث جابر رضي الله عنه يقول: ركب النبي (حتى أتى المشعر الحرام) أي: ركب من مكانه في مزدلفة حتى أتى المشعر الحرام وهو المكان الذي فيه المسجد اليوم.
حكم من يريدون أن يدفعوا إلى مزدلفة وليس بينهم من الضعفة إلا قلة
السؤال: إذا كانت حافلة فيها مجموعة من الناس ومن بينهم رجل مسن وامرأة كبيرة، فهل يجوز لهم جميعاً أن يدفعوا من مزدلفة بحجة هذا الرجل وهذه المرأة أم لا؟
الجواب: لا. لا يجوز لهم أن يدفعوا بحجة رجل أو امرأة أو رجلان أو امرأتان، ولهذا لم يدفع النبي من مزدلفة من أجل الضعفة من أهله، بل أذن للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة وبقي هو، فإذا كان الذي في القافلة رجلاً أو رجلين أو امرأة وامرأتين فإن هذا الرجل أو المرأة الضعيفة تبقى مع الناس وتدفع معهم، ثم تنتظر يوم العيد حتى يخف الزحام وترمي أو يرمي الضعيف ولو بعد صلاة العصر.
حكم من يتعجل الخروج من منى
السؤال: يتعمد بعض الناس الذهاب إلى مكة في اليوم التاسع ويتعجل الخروج من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق ويفعل ذلك احتساباً، فما رأيكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب: ما معنى احتساباً: لأن هذا الحج حج ضعيف عسى أن تبرئ به الذمة كونه لا يحرم حتى اليوم التاسع وينصرف في اليوم الثاني عشر؟ لا شك أنه حج ناقص، وأن الأفضل للإنسان أن يحرم بالحج في اليوم الثامن ويصلي في منى خمسة أوقات؛ الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ويقف بعرفة يومه كله، ويدفع من عرفة بعد غروب الشمس، ويبقى في مزدلفة حتى يصلي الفجر، ويبقى في منى إلى اليوم الثاني عشر ولكن بعد أن يرمي الجمرات في اليوم الثاني عشر إن شاء تعجل وإن شاء تأخر.(/95)
حكم تأخير طواف الحج خوفاً من الزحام
السؤال: هل يجوز تأخير طواف الحج عن اليوم العاشر إلى اليوم الحادي عشر أو اليوم الثاني عشر إذا خفت من الزحام؟
الجواب: نعم. يجوز تأخير طواف الحج عن يوم العيد إلى الحادي عشر والثاني عشر، وإلى الخامس عشر وإلى العشرين من شهر ذي الحجة، وإلى الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة، وإلى آخر يوم من ذي الحجة، ولكنك تبقى على ما بقى من إحرامك، يعني: لا تحل التحلل كله إلا بعد أن تطوف وتسعى، وهذا القول الذي ذكرته أنه له إلى منتهى شهر ذي الحجة قول وسط بين من يقول: إنه ليس له أن يؤخره عن أيام التشريق، وبين قول من يقول: إنه يؤخره إلى الأبد، فالصحيح أن له أن يؤخره إلى آخر يوم من أيام ذي الحجة، وإذا كان هناك عذر كما لو كان هناك امرأة نفساء؛ امرأة نفست قبل العيد؛ قبل أن تطوف طواف الإفاضة ولم تطهر إلا بعد أن خرج شهر ذي الحجة فإنها تطوف متى طهرت.
ضابط الزحام أثناء المشاعر في الحج المبرر بالزحام
السؤال: هل الزحام مبرر للرمي ليلاً أو لجمع اليومين في يوم، أو لتوكيل المرأة لمحرمها؟
الجواب: نعم. لا بأس، الزحام يبرر الرمي ليلاً؛ فإذا كان هناك زحام فلا حرج أن ترمي في الليل ولك الليل كله، فمثلاً: في اليوم الحادي عشر رأيت أنه زحام لك أن تؤخر الرمي إلى طلوع الفجر من اليوم الثاني عشر، فيكون كل الليل وقتاً للرمي، ولا يجوز أن تؤخر إلى الليل فتجمعه في آخر يوم إلا إذا كان يشق عليك المجيء إلى الجمرة، ليس هو من أجل الزحام لكن من أجل البعد، ولهذا رخص النبي للرعاة أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً. أما التوكيل فلا يجوز أبداً إلا لشخص لا يستطيع أن يأتي بنفسه لا ليلاً ولا نهاراً، هذا له أن يوكل، فصار الإنسان له ثلاث حالات.
الحالة الأولى: ألا يستطيع الوصول إلى الجمرات لا ليلاً ولا نهاراً فهذا يوكل.
الحالة الثانية: أن يستطيع أن يأتي ليلاً لا نهاراً فهذا يرمي ليلاً ولا يرمي نهاراً.(/96)
الحالة الثالثة: ألا يستطيع الوصول إلى الجمرات كل يوم فله أن يجمع ذلك في آخر يوم، كما رخص النبي للرعاة أن يرموا يوماً ويَدَعوا يوماً.
حكم الرمي قبل الزوال
السؤال: شخص رمى قبل الزوال في اليوم الثاني بقليل، فهل له أن يرمي في اليوم الثالث عن اليوم الثاني أم يجزئه ذلك؟
الجواب: لا يجزئ الرمي قبل الزوال ولو بقليل، وعلى هذا: فإن من رمى قبل الزوال في اليوم الثاني وهو اليوم الحادي عشر فإنه يرميه في الليل، فإن لم يمكن رماه في اليوم الثاني عشر، ولكنه يبدأ برمي اليوم الحادي عشر الثلاث كلها ثم يرجع من الأولى فيرمي عن اليوم الثاني عشر.
الأفضل في رمي الجمرات
السؤال: أيهما أفضل رمي الجمرات من فوق الجسر أم من تحته؟
الجواب: الأفضل أن تنظر ما هو أيسر لك، فما كان أيسر فهو أفضل، قد يكون الأيسر الأعلى فيكون هذا هو الأفضل، وقد يكون الأيسر الأسفل فيكون هذا هو الأفضل، لأن المهم أن تؤدي العبادة بطمأنينة وحضور قلب وتيسر.
حكم من خرج من مكة يوم العيد إلى مناطق قريبة
السؤال: هل الخروج إلى ما قرب من مكة كجدة مثلاً يوم العيد غير مخل بالحج؟
الجواب: نعم. لا يخل بالحج، ولكني كما قلت أثناء المحاضرة أو الكلام على صفة الحج، قلت: إن الأفضل أن يبقى الإنسان ليلاً ونهاراً في منى، كما بقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً ونهاراً.
حكم المرور بمنى بعد طواف الوداع
السؤال: من مر مع منى ليلة الثالث عشر وهو في طريقه إلى بلده بعد طواف الوداع، هل عليه شيء؟
الجواب: ليس عليه شيء، أي: أن الإنسان إذا خرج من منى قبل أن تغيب الشمس ليلة الثاني عشر فلا بأس أن يرجع إليها بعد ذلك لغير نسك لأن النسك انتهى، ولا بأس أن ينزل إلى مكة ويطوف طواف الوداع ثم يخرج ماراً بمنى.
وجوب طواف الوداع في الحج والعمرة
السؤال: طواف الوداع هل يفرق فيه بين العمرة والحج؟(/97)
الجواب: الصحيح أنه لا فرق فيه بين العمرة والحج، وأن طواف الوداع واجب في العمرة كما هو واجب في الحج، إلا لمن دخل معتمراً وهو يريد أن يسافر من حين انتهاء العمرة، فإذا كان كذلك فإنه لا يحتاج إلى طواف الوداع.
جلسات الحج[5]
كان موضوع هذه الجلسة هو الأضحية وما يتعلق بها، وقبل ذلك بدئت بذكر فضل أيام عشر ذي الحجة، ثم بيان ما يجب على المضحي، ثم ذكر حكم الأضحية ولمن تكون وما هي شروطها، ثم ختمت بذكر أحكام العقيقة.
فضل أيام عشر ذي الحجة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فإننا نلتقي وإياكم في هذه الليلة ليلة الثلاثاء المتممة لشهر ذي القعدة عام (1409هـ) وهذا اللقاء سيكون موضوعه: الأضحية وما يتعلق بها، وربما نشير إلى شيء من فضائل عشر ذي الحجة، فنقول: إن هذه الأيام العشر - عشر ذي الحجة - من أفضل الأيام عند الله عز وجل، بل وقد ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله أنه قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر))، وفي رواية: ((أفضل عند الله من هذه الأيام العشر))، قالوا: "ولا الجهاد في سبيل الله؟" قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)).(/98)
وعلى هذا: ينبغي لنا أن ننتهز هذه الفرصة العظيمة وهذا الموسم العظيم لنعمل فيه العمل الصالح؛ لكونه أحب إلى الله عز وجل من أي عمل كان في يوم آخر، حتى إن العمل في هذه الأيام، أيام عشر ذي الحجة الأولى أفضل عند الله وأحب إلى الله من العمل في العشر الأواخر من رمضان، وهذا شيء غفل عنه الناس وأهملوه، حتى إن هذه العشر -عشر ذي الحجة- تمر بالناس وكأنها أيام عادية ليس لها فضل وليس للعمل فيها مزية، فلنكثر فيها من كل عمل صالح يقربنا إلى الله عز وجل؛ من الصلاة والذكر، والصدقة والصوم، وكذلك الإحسان إلى الخلق في الجاه والبدن وكل ما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى. ولكن هناك أعمال صالحة خصصت بأيام معينة كالاعتكاف مثلاً، فلا يشرع أن نخص هذه الأيام العشر بالاعتكاف وأن نعتكف فيها كما يعتكف في العشر الأواخر من رمضان؛ لأن العشر الأواخر إنما كان الرسول يعتكف فيها تحرياً لليلة القدر، ولهذا اعتكف العشر الأول ثم الأوسط، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر فاعتكف في العشر الأواخر.
ويكون الذكر على حسب ما جاء عن السلف: [الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد] أو التكبير ثلاثاً: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) يجهر بذلك الرجال في المساجد والأسواق والبيوت والمكاتب وغيرها، وتسر بها المرأة بقدر ما تسمع من إلى جانبها، من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر يوم من أيام التشريق، فتكون الأيام ثلاثة عشر يوماً، عشرة أيام آخرها العيد وثلاثة أيام وهي أيام التشريق.
مسائل تتعلق بالأضحية(/99)
أما موضوع الأضحية، فإن الأضحية من نعمة الله سبحانه وتعالى ومن رحمته ومن حكمته أن شرع لأهل الأمصار الذين لم يقدر الله لهم أن يحجوا ويهدوا إلى البيت ما يشاركون به إخوانهم الحجاج، فشرع لهم الأضاحي، وشرع لهم إن دخلوا في العشر الأول من ذي الحجة ألا يأخذوا شيئاً من شعورهم وأظفارهم وأبشارهم، أي: جلودهم، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك، أو فلا يأخذن من شعره أو بشره أو ظفره شيئاً حتى يضحي)) وهذا الخطاب موجه لمن يضحي وليس لمن ضحي عنه، وعلى هذا فالعائلة الذين يضحي عنهم قيم البيت لا يحرم عليهم أخذ شيء من شعورهم وأظفارهم وأبشارهم؛ لأن النبي خاطب من يضحي، وكان عليه الصلاة والسلام يضحي عنه وعن أهل بيته ولم يأمرهم أن يمسكوا عن شعورهم وأظفارهم وأبشارهم، فدل هذا على أن الحكم خاص بمن يضحي، وأما قول بعض أهل العلم: من يضحي ومن يضحى عنه فهذا لا دليل عليه.
حكم الأضحية(/100)
الأضحية اتفق علماء المسلمين على مشروعيتها، وأنها من أفضل العبادات، ولهذا قرنها الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصلاة، فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163] وبعد اتفاق العلماء - علماء المسلمين - على مشروعيتها وأنها من أفضل الطاعات اختلفوا هل هي واجبة يأثم الإنسان بتركها، أو سنة مؤكدة يكره له تركها ولا يأثم عليها؟ على قولين لأهل العلم، وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله. فذهب أبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أن الأضحية واجبة وأن من كان قادراً ولم يضح فهو آثم عاصٍ لله ورسوله. وذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أنها سنة مؤكدة، لكن أصحاب الإمام أحمد رحمهم الله صرحوا بأنه يكره للقادر أن يترك الأضحية، وقد مال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى القول بالوجوب، وقال: إن الظاهر وجوب الأضحية، لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، ولهذا كان ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، حتى أنك لو ملأت جلدها دراهم وتصدقت بهذه الدراهم لكان ذبحها أفضل من ذلك، وليس الحكمة من الأضحية حصول اللحم وأكل اللحم، ولكن الحكمة: التقرب إلى الله تعالى بذبحها، قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] فظن بعض الناس أن المقصود من ذلك الأكل والانتفاع باللحم وهذا ظن قاصر، بل أهم شيء أن تتعبد لله تعالى بذبحها، ولهذا كان من الخطأ أن يصرف الإنسان الدراهم إلى الجهاد في أفغانستان ويدع الأضحية في بلده، فإن هذا يعني ترك شعيرة من شعائر الإسلام، وهؤلاء الأفغانيون وغيرهم من المجاهدين في سبيل الله يمكن أن يرسل لهم الإنسان دراهم ويجعل هذه الشعيرة في(/101)
بيته وفي
بلده لتقام شعائر الله عز وجل في أرض الله تعالى عموماً.
لمن تكون الأضحية؟
الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، ولكن لمن تكون الأضحية؟ الأضحية في الحقيقة مشروعة للأحياء وليست للأموات، فإن النبي ضحى عنه وعن أهل بيته، والصحابة رضي الله عنهم كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، ولم أعلم إلى ساعتي هذه أن النبي ضحى لأحد من أمواته، فقد مات له أقارب من أعز الناس عليه؛ استشهد عمه حمزة في أحد، وماتت زوجته خديجة، وماتت بناته وأولاده ما عدا فاطمة ولم يضحِ عن أحد منهم أبداً، ولم أعلم إلى ساعتي هذه أن أحداً من الصحابة ضحى عن أحد من أمواته، فلم يكن من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا من هدي أصحابه إفراد الميت بالأضحية، ومن وجد شيئاً من هذا -أي: وجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أو أن أحداً من أصحابه ضحوا عن الميت- فليسعفنا به فإنا له شاكرون، ولما ثبت من شرع الله تعالى منقادون إن شاء الله، لكن لا يمكن أن يجد.
إذاً: فالأصل في مشروعية الأضحية أن تكون عن الأحياء لا عن الأموات، الأضحية عن الميت لم ترد في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا في هدي الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا اختلف العلماء هل تشرع أو لا تشرع؟ فقال بعض العلماء: إنها ليست بمشروعة، وقال آخرون: بل هي كالصدقة، فقاسوها قياساً على الصدقة، لأنهم لم يجدوا لها أصلاً في السنة فقاسوها على الصدقة، ولا شك أن الصدقة جاءت السنة بجوازها، فقد جاء رجل إلى رسول الله فقال: "يا رسول الله! إن أمي افتتلت نفسها وإنها لو تكلمت لتصدقت، أفأتصدق عنها؟" قال: ((نعم)). واستأذنه سعد بن عبادة رضي الله عنه أن يتصدق بمخرافه، أي: بنخله لأمه وقد ماتت، فأذن له، أما أن أحداً من الصحابة ضحى عن ميت، أو استأذن النبي أن يضحي عن ميت فهذا لم يرد، والأضحية عن الميت تنقسم إلى ثلاثة أقسام:(/102)
القسم الأول: أضحية أوصى بها الميت، فهنا نعمل بها، ونضحي له؛ لأننا نضحي من ماله ومن وصيته، وهذه الأضحية لا إشكال فيها؛ لأنها تنفيذ أمر أوصى به الميت واكتسبه في حياته بما أوصى به.
القسم الثاني: أن يضحى عن الميت تبعاً، مثل أن يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته وينوي كل أقاربه الأحياء والأموات فهذا أيضاً جائز، ويمكن أن يقال: إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إن هذا عن محمد وآل محمد)) يشمل الحي والميت منهم، ولكن الميت هنا دخل تبعاً لا استقلالاً، والشيء الذي يتبع ليس كالشيء الذي يستقل.(/103)
القسم الثالث: أن يضحى للميت استقلالاً بدون وصية، فهذا هو ما ذكرته لكم بأنه لا دليل فيه من السنة؛ لا عن رسول الله ولا عن خلفائه الراشدين أنهم ضحوا لأحد من الأموات استقلالاً بدن وصية، وإذا قلنا: إن الأضحية للأحياء وليست للأموات إلا تبعاً، فهل مطلوب من أهل البيت أن يضحي كل واحد منهم عن نفسه؟ الجواب: لا. السنة أن يضحي رب البيت عمن في البيت، لا أن كل واحد من أهل البيت يضحي، ودليل ذلك أن رسول الله ضحى بشاة واحدة عنه وعن أهل بيته، وقال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: كان الرجل على عهد النبي (يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته) ولو كان مشروعاً لكل واحد من أهل البيت أن يضحي لكان ذلك ثابتاً في السنة، ومعلوم أن زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام لم تقم واحدة منهن تضحي اكتفاء بأضحية النبي فإن قال قائل: لعل ذلك لفقرهم؟ فالجواب: إن هذا احتمال وارد لكنه غير متعين، بل إنه جاءت الآثار بأن من أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام من كانت غنية. وهاهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جاءت بريرة إليها تستعينها في قضاء دين كتابتها، بريرة أمة اشترت نفسها من أسيادها بتسع أواق من الفضة، والأوقية أربعون درهماً، فتكون التسع الأواق ثلاثمائة وستين درهماً، فجاءت تستعين أم المؤمنين عائشة قالت: أعينيني، فقالت: عائشة لها: "إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت" أي: أن أنقدها لهم نقداً وهذا يدل على أنها كان عندها مال. أتدرون كم نحصل من الغنم في ثلاثمائة وستين درهماً، كم نحصل؟ أي كم تساوي الشاة في ذلك الوقت؟ تساوي والله أعلم عشرة دراهم، ودليل ذلك: أن النبي في مسألة الجبران في الزكاة قال: ((إنه يعطي معها شاتين إن استيسرتا لها أو عشرين درهماً)) وهذا يدل على أن الشاة في ذلك الوقت تساوي عشرة دراهم، إذاً: فالحصول على الأضحية في ذلك الوقت متيسر ومع ذلك لم يكن كل واحد من أهل البيت يذبح أضحية. وفي عهدنا الآن لما أيسر الله(/104)
على الناس صار بعض أصحاب البيوت يضحي كل فرد بأضحية، ولعلهم يظنون هذا من جنس زكاة الفطر؛ لأن زكاة الفطر فرض على كل واحد، فهم يظنون أن الأضحية - والله أعلم - تشبه زكاة الفطر مطلوبة من كل واحد، وليس كذلك.
شروط الأضحية
الأضحية: شاة يذبحها قيم البيت عن الجميع، هذه هي السنة، ثم إن الأضحية -كما أشرت إليه آنفاً- هل المقصود منها اللحم؟ أو المقصود التقرب إلى الله بالذبح؟ المقصود التقرب إلى الله بالذبح، بدليل أن الإنسان لو اشترى لحم عشر من الإبل ووزعه على الفقراء وضحى بشاة واحدة، أيهما أفضل؟ الأضحية بالشاة الواحدة، مع أن لحم عشر إبل أنفع للفقراء وأكثر نفعاً، لكن المقصود هو التقرب إلى الله تعالى بالذبح، وعلى هذا فنقول: إذا كانت الأضحية عبادة مشروعة فإن هذه العبادة يجب أن يتمشى فيها الإنسان على ما تقتضيه الشريعة، والشريعة جاءت بشروط معينة للأضاحي، انتبهوا لها:
الشرط الأول: أن تكون من بهيمة الأنعام.
الشرط الثاني: أن تبلغ السن المعتبرة شرعاً.
الشرط الثالث: أن تكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء.
الشرط الرابع: أن تكون في الوقت المحدد لها شرعاً.
الشرط الأول: بهيمة الأنعام هي: الإبل والبقر والغنم، لو أن الإنسان ضحى بفرس عن شاة هل تجزئ؟ لا. لا تجزئ الأضحية، لماذا؟ لأنه ليس من بهيمة الأنعام، وإن كان ثمن الفرس يساوي أضعاف أضعاف قيمة الشاة فإنه لا يجزئ لأنه من غير الجنس الذي جاءت به السنة.
الشرط الثاني: أن تبلغ السن المقدرة شرعاً، وهو في الإبل: خمس سنوات، وفي البقر: سنتان، وفي الماعز: سنة، وفي الضأن: ستة أشهر، أي: نصف سنة، فما دون ذلك لا يجزئ، ودليله: قول النبي: ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن))؛ أخرجه مسلم من حديث جابر.(/105)
الشرط الثالث: أن تكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء، والعيوب المانعة من الإجزاء أربعة، حصرها النبي حين سئل: "ماذا يتقى من الضحايا؟" فقال: ((أربع، وأشار بأصابعه الأربعة تأكيداً: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكبيرة التي لا تنقى)) - أي: التي ليس فيها نقي، والنقي هو: المخ - هذه أربع لا تجزئ في الأضاحي.
فالمريضة البين مرضها: التي يظهر آثار المرض عليها؛ إما على أكلها، أو على مشيها، أو على حالها، أو على جسمها كالحرارة وشبهها، المهم أنها لا تشكل على أحد رآها أنها مريضة، هذه المريضة البين مرضها، العوراء البين عورها: التي إذا رآها الإنسان عرف إنها عوراء، قال أهل العلم: وذلك من انخساف العين أو نتوء العين، انخساف العين: أن تكون غائرة؛ أو أن تكون ناتئة كالزر، فإن كانت العين قائمة إذا رأيتها لا تحس بأنها عوراء فإنها تجزئ. العرجاء البين ضلعها، العرجاء: قد يكون عرجها يسير، وقد يكون عرجها بين، قال العلماء: وبيان العرج ألا تستطيع معانقة الصحاح في الممشى، أي: تتأخر عن الصحاح، هذه عرجاء بين ضلعها، أما العجفاء أو الكبيرة التي لا تنقي: التي ليس فيها مخ، أي: تكون أعضاؤها، اليدان والرجلان ليس فيها مخ، لأن هذه هزيلة، فهذه أربعة عيوب. هل يلحق بهذه العيوب ما يماثلها، أو ما يكون أولى منها؟ الجواب: نعم. لأن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين متماثلين، كما لا تساوي بين مفترقين، فهل العمياء تجزئ؟ لا تجزئ، لماذا؟ لأنها أشد من العوراء، هل مقطوعة إحدى اليدين تجزئ؟ لا، لماذا؟ لأنها أشد من العرج، هل التي لا تستطيع أن تقوم من الهزال، التي لو أقمتها سقطت تجزئ أو تجزئ؟ لا تجزئ لأنها في الواقع ليس فيها نقي، ليس فيها مخ. إذاً: ما كان في معنى هذه العيوب أو أولى منها فإنه لا يجزئ.(/106)
الشرط الرابع: أن تكون في الوقت المحدد شرعاً، وهو: من صلاة العيد يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، فتكون أربعة أيام يجزئ فيها الذبح ليلاً أو نهاراً، فمن ذبح قبل الصلاة فليس له أضحية، ومن ذبح بعد غروب الشمس من آخر أيام التشريق فليس له أضحية، ماذا تكون شاته؟ تكون شاة لحم. خطب النبي فقال: ((من ذبح قبل الصلاة فلا نسك له وإنما هو لحم قدمه لأهله))، فقام رجل، فقال: "يا رسول الله! نسكت قبل أن أصلي؟" فقال: ((شاتك شاة لحم)) فقام أبو بردة بن نيار رضي الله عنه - الذي قال له: ((شاتك شاة لحم))- وقال يا رسول الله! إن عندي عناقاً هي أحب إلي من شاتين، فقال النبي: ((اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك)) فهذا دليل على أن من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم قدمه لأهله، ولا تجزئه عن الأضحية، ولكن هل نقول: إن هذا الرجل الذي ذبح الأضحية قبل الصلاة ليس عليك شيء؟(/107)
الجواب: لا. لأن النبي لما قال: ((من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها)) وعلى هذا فيلزمه أن يذبح بدلها؛ لأن الرسول قال: ((فليذبح أخرى مكانها))، ويجب أن تكون مثل الذي ذبح، لا يذبح أدنى، ولو ذبح بعد أن مضت أيام التشريق، فهل تجزئ عن أضحية؟ لا. لا تجزئ عن أضحية، لأنه فات وقتها، فإن قال: أنا نسيت، أو لم يحصل لي دراهم إلا بعد مضي أيام التشريق، قلنا: هذه عبادة فات وقتها، وإذا كانت السنة القادمة فضح، أما هذه السنة فقد فاتت، لأنها لا تكون إلا في أيام معلومة، لا تتقدم ولا تتأخر. هناك عيوب لا تمنع من الإجزاء لكنها تكره؛ كالعور إذ لم يكن بيناً، وكالنقص في الأذن، والنقص في القرن، والنقص في السن، والنقص في الذيل كأن تكون مجبوبة الذيل، من المعز أو من البقر أو من الإبل، فأما مجبوبة الإلية فقد قال العلماء: إنها لا تجزئ لأن الألية عضو نافع مقصود، بخلاف الذيل في المعز والبقر والإبل فإنه غير مقصود فلهذا يقطع ويرمى به، ومثل ذلك ذيل الغنم الأسترالية فإنه ليس كالإلية وإنما هو كالذيل من البقر، ليس فيه شيء مقصود، فتجزئ الأضحية في الغنم الأسترالية لأن ذيلها المقطوع لا يساوي شيئاً. هذه هي الأضاحي التي جاء ذكرها في القرآن وفي السنة، وأجمع المسلمون على مشروعيتها، ولا ينبغي للإنسان أن يدعها، فإذا قال قائل: هل يجزئ أن يشترك جماعة في أضحية واحدة؟ الجواب: إن كانت من الإبل أو البقر فيجزئ أن يشترك فيها سبعة، والسُّبُعُ من الإبل أو البقر يقوم مقام الواحدة من الضأن أو المعز، وعلى هذا: فيجوز أن يضحي الإنسان بالسبع من البقر أو الإبل عنه وعن أهل بيته؛ لأن الشرع جعل سبع البقرة وسبع البدنة قائماً مقام الشاة، وأما ظن بعض الناس أنه لا يجوز أن يجعل السبع عنه وعن أهل بيته فهذا ليس له أصل، لا من السنة ولا كلام أهل العلم، وإنما يجزئ السبع عما تجزئ عنه الشاة، فكما أن الإنسان يجوز أن يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته ولو كانوا(/108)
مائة، يجوز بأن يضحي بالسبع من الإبل أو البقر عنه وعن أهل بيته ولو كانوا مائة.
فإذا قال قائل: هل يجوز أن نجمع الوصايا في أضحية واحدة إذا كانت لا تكفي؟
فالجواب: لا. لا يجوز؛ لأن كل واحد من الموصين يريد أضحية مستقلة، فإذا جمعناها خالفنا نص الموصي، هذا من جهة الإيصاء؛ ولأن الشرع لم يأت باشتراك أكثر من واحد أو في الواحدة من الضأن أو المعز، وإنما جاء الاشتراك في الإبل والبقر، ولو جوزنا مثلاً أن نجمع سبع وصايا في شاة واحدة لحكمنا بأن الشاة الواحدة تجزئ عن سبع وهذا خلاف ما جاءت به السنة، قد يقول قائل: أليس المراد الصدقة، ولو أنك تصدقت بعشرة دراهم عن عشرة رجال لكان جائزاً؟ قلنا: لا. المقصود بالأضحية التقرب إلى الله عز وجل بالذبح، وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون جارياً على ما تقتضيه الشريعة. وإذا قال قائل: لو كانت الوصية لواحد ولكنها نقصت عن العدد الذي عينه، مثل أن يأتي شخص بثلثه ويجعل فيه عدة ضحايا، يقول في أضحية له وأضحية لوالديه، وأضحية لزوجته، وأضحية لأجداده، المهم فيها عدة ضحايا فنقص الريع عن هذه الأضاحي، فهل يجوز أن نجمعها في أضحية واحدة؟ الجواب: نعم. يجوز لأن الموصي واحد، ونحن نعلم علم اليقين أنه لو كان حياً لأجاز ذلك.
والاشتراك في الثواب ليس كالاشتراك في الملك، بمعنى أنه يجوز أن أشرك في الثواب من شئت، حتى في الشاة الواحدة، فيجوز أن أقول: هذه عني وعن أهل بيتي ولو كانوا عشرة، بل يجوز أن أقول: هذه عني وعن جميع المسلمين، وهي شاة واحدة، فالثواب لا حصر لها، لكن الملك لا يشترك اثنان فأكثر في أضحية واحدة، إلا فيما ورد الشرع فيه بالتعدد كالإبل والبقر، ولعلنا نتمم ذلك بالكلام على العقيقة.
العقيقة(/109)
العقيقة: هي التي تذبح للمولود، وقد ثبتت بها السنة، ومن العلماء من قال بوجوبها، وأن من لا يعق عن ولده فهو آثم، ولا شك أن العقيقة - التي نسميها التميمة - سنة مؤكدة، عن الولد الذكر شاتان، وعن الولد الأنثى شاة واحدة، تذبح في اليوم السابع، وإنما اختير اليوم السابع لأن الأيام أيام الدهر تمر على هذا الصبي، تمر عليه الأيام كلها، فلما مرت عليه الأيام كلها صار أنسب ما يكون أن تذبح في اليوم الذي يكون في التكرار، إذا ولد المولود في يوم فإن العقيقة تكون في اليوم الذي قبله في الاسم، يعني: ليس في الواقع، إذا ولد يوم الاثنين متى تكون العقيقة؟ يوم الأحد، إذا ولد يوم الأحد فالعقيقة يوم السبت.. يوم السبت فالعقيقة يوم الجمعة.. يوم الجمعة فالعقيقة يوم الخميس، المهم أن تكون العقيقة في اليوم الذي قبل يوم ولادته، أي: في الاسم وليس قبل أن يولد، لماذا؟ لأنه إذا جاء اليوم الذي ولد فيه فهذا اليوم الذي ولد فيه مكرر، فتتم الأيام السبعة عليه في اليوم الذي يليه يوم ولادته. وهذه العقيقة تؤكل ويطعم منها الجيران والفقراء ويدعا إليها أيضاً، فهي جامعة بين الدعوة إليها والإطعام منها والصدقة، وأما الأضاحي فإنه يأكل منها ويهدي ويتصدق. العقيقة إذا فات اليوم السابع، فمتى تكون؟
قال العلماء: تكون في اليوم الرابع عشر، وإذا فات فتكون في اليوم الحادي والعشرين، وإذا فات لم تتقيد بالأسابيع، إذا فات اليوم الحادي والعشرون تذبحها في أي يوم شئت، ولكن ينبغي للإنسان أن يحرص على أن تكون في اليوم السابع. أما تسمية المولود فتكون عند ولادته إلا إذا لم يكن الاسم قد أعد فيؤجل إلى اليوم السابع، أي إذا كنت قد هيأت الاسم فسمه من حين ولد، وإذا لم تهيئ الاسم فأجل تسميته إلى اليوم السابع ليكون في اليوم الذي تكون فيه العقيقة.
التكبير المطلق والمقيد في عشر ذي الحجة(/110)
السؤال: هل التكبير في هذه الأيام مقيد أم مطلق؟ وهل يقدم على الأذكار الواردة بعد الصلوات نرجو التفصيل؟ وهل ورد دليل على الفرق فيها؟ وما وقتها من حيث الابتداء والانتهاء؟
الجواب: العلماء رحمهم الله تكلموا في هذه المسألة في المقيد والمطلق بكلام كثير، لكن ليس فيه شيء مأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام، والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن التكبير المطلق أي: الذي في كل وقت من دخول شهر ذي الحجة إلى صلاة يوم العيد، وأما المقيد فهو من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر يوم من أيام التشريق، وعلى هذا فتكون الأيام الثلاثة عشر بالنسبة للتكبير منقسمة إلى ثلاثة أقسام: قسم ليس فيه إلا مطلق، وقسم ليس فيه إلا مقيد، وقسم فيه مطلق ومقيد: القسم الأول: الذي ليس فيه إلا مطلق: من دخول شهر ذي الحجة إلى فجر يوم عرفة هذا مطلق، ومعنى (مطلق) أنه لا يشرع أدبار الصلوات بل تقدم أذكار الصلاة عليه.
القسم الثاني: المقيد وهو: الذي ليس فيه مطلق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر يوم من أيام التشريق، وهذه الأيام الأربعة فيها تكبير مقيد أي: يكون دبر الصلاة ولا يكون في بقية الأوقات.(/111)
القسم الثالث: الجمع بين المطلق والمقيد من متى إلى متى؟ من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العيد، أي: أربعاً وعشرين ساعة تقريباً، ولكن الصحيح أن التكبير المطلق من هلال شهر ذي الحجة إلى غروب شمس آخر يوم من أيام التشريق. كل الأيام الثلاثة عشرة فيها تكبير مطلق، لكن من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق فيها مقيد أيضاً، يذكر دبر الصلاة مع أذكار الصلوات، والمسألة هذه أمرها واسع، يعني لو أن الإنسان لم يكبر التكبير المقيد واكتفى بأذكار الصلوات لكفى، ولو كبر حتى في أيام المطلق دبر الصلوات لجاز ذلك، الأمر في هذا واسع، لأن الله تعالى قال في أدبار الصلوات: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، وقال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:34]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] فكلها ذكر والأمر في هذا واسع، والمهم أن نعمر أوقات هذه العشر وأيام التشريق بالذكر.
كيفية معرفة دخول شهر ذي الحجة
السؤال: فضيلة الشيخ! نحن في حيرة من دخول الشهر فحسب التقويم يعتبر أوله غداً على أن الشهر الذي قبله كان ثلاثين يوماً، فهل يحتاط الإنسان مع أن هناك احتمالاً أن يعلن الشهر على خلاف ما صنع؟ وهل تؤثر رؤية القمر في الصباح وقد شوهد بوضوح يوم الأحد، نرجو التوضيح؟(/112)
الجواب: أما شرعاً فإنه لا يدخل شهر ذي الحجة إلا يوم الأربعاء، وذلك لقول النبي: ((إن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ولم يثبت دخول شهر ذي القعدة ليلة الاثنين، بل لم يثبت ليلة الأحد، وإذا لم يثبت ليلة الأحد صار أوله ليلة الاثنين وآخره المكمل للثلاثين يوم الثلاثاء؛ لأن شهر شوال دخل في يوم السبت، فلا يوجد إشكال، عيد الفطر يوم السبت، يوم السبت يكمل تسعة وعشرين ويوم الأحد يكمل ثلاثين، يدخل شهر ذي القعدة يوم الاثنين، ويوم الاثنين من شهر ذي القعدة تسعة وعشرون يكمل يوم الثلاثاء، والذي جاءنا من رئاسة القضاء أنه لم يثبت دخول شهر ذي القعدة في يوم الاثنين، وعلى هذا: فتعتبر الليلة ليست من ذي الحجة، وأول ذي الحجة هو يوم الأربعاء إلا إذا جاء إثبات، والظاهر والله أعلم أن الليلة من شهر ذي الحجة؛ لأن القمر لم ير اليوم، وأما قول السائل: إذا رُئي في الأفق في الصباح، هل يمكن أن يهل؟ فالمشهور عند العامة أن هذا أمر ممكن، فيمكن أن يرى صباحاً في الشرق ويهل ليلاً في المغرب، ولكن المعروف عند الفلكيين أن هذا أمر غير ممكن والله أعلم، لكن نحن نتبع ما أمرنا به الرسول عليه الصلاة والسلام، قال في رمضان: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)).
وقت حرمة أخذ المضحي شيئاً من شعره
السؤال: متى يتحدد أخذ المضحي شيئاً من شعره وأظفاره وبشرته، هل يبدأ من نهار اليوم الأول من ذي الحجة أم من الليلة السابقة وفي أي ساعة؟
الجواب: الرسول يقول: ((إذا دخل العشر)) ونحن الآن قررنا بأن العشر لا تدخل شرعاً إلا ليلة الأربعاء أي أن الليلة ليست من العشر ما لم يثبت أنها من العشر فحينئذ لا يدخل المنع إلا من الليلة القابلة ليلة الأربعاء ما لم يثبت الشهر.
كيفية الجمع بين الهدي والأضحية(/113)
السؤال: ما موقف الحاج الذي يريد أن يضحي، هل يشرع له الأضحية أم يكفي أن يهدي -مع الدليل؟- ومن أراد أن يحج متمتعاً وله أولاد صغار لم يحجوا معه، فهل يكفي الهدي له أم لابد من الأضحية؟ وما حاله بالنسبة للأخذ من الشعر والأظفار؟
الجواب: أما الإنسان الذي سوف يحج هو وأهله فإنه لا حاجة إلى الأضحية في حقه لأنهم سوف يهدون والهدي في مكة للآفاقيين أفضل من الأضحية، وأما من كان يريد أن يحج بنفسه أو ببعض عائلته ويبقى البعض في البلد فهذا يشرع له أن يضحي لأهله الباقين، أضحية عندهم لا يذهبوا بها معه إلى مكة، وحينئذ يثبت في حقه حكم المنع من أخذ الشعر والأظفار والبشرة، إلا أنه إذا تمتع لا بد أن يقصر من شعر رأسه ويسمح له في ذلك لأن التقصير حينئذ نسك مأمور به ومن واجبات العمرة، فهذا هو الكلام والتفصيل فيمن يريد الحج ويريد الأضحية، وخلاصته: أن من أراد أن يحج بأهله فلا حاجة به إلى الأضحية اكتفاء بالهدي، ومن كان أهله سيبقون أو بعض أهله فإنه يضحي: أي يوصيهم بالأضحية وحينئذ يكون مضحياً لأهله في بلده ويكون مهدياً لنفسه ومن معه في مكة، ويتجنب أخذ الشعر والأظفار والبشرة إلا أخذ الشعر في التقصير للعمرة لأنه نسك.
حكم الزيادة في الأضحية ممن يُضحى عنه
السؤال: إذا كان لي أولاد ولي دخل ماليّ وأسكن مع والدي وترغب نفسي في الأضحية، فهل أكتفي بأضحية والدي وأحرم نفسي كما أشرتم أم ماذا أصنع؟ وهل هذا مقيد بمن تجب له النفقة على والده فقط؟ وجزاكم الله خيراً.(/114)
الجواب: السنة كما ذكرت أن الرجل يضحي عنه وعن أهل بيته، كل من في البيت من أولاد كبار أو صغار، ذكور أو إناث تكفيهم الأضحية الواحدة يقوم بها رب البيت، أما إذا كان الإنسان منفصلاً عن أبيه؛ هو في بيت وأبوه في بيت فلكل واحد منهما أضحية، الأب يضحي عنه وعن أهل بيته، والابن يضحي عنه وعن أهل بيته وإذا كان يسكن مع والده فالأضحية الواحدة تكفيهم، وهل هو مقيد بمن تجب عليه النفقة أي الأب؟ لا. أبداً. هو يضحي عنه وعن أهل بيته، كل من في البيت يكفيهم أضحية واحدة. ولكن يجب أن تلاحظوا بارك الله فيكم أنا إذا قلنا هذه السنة ليس معناه أنه يحرم، لكن لا شك أن التمسك بالسنة خير من عدمه، وأضرب لكم مثالاً: رجلان أحدهما قام يصلي سنة الفجر لكن يخففها والثاني قام يصلي سنة الفجر لكن يطيل فيها، أيهما الأوفق للسنة؟ الأول الذي يخفف، لكن الثاني لا يأثم وإن كان يطول ويفعل خلاف السنة ولكن لا يأثم، وإذا قلنا: إن السنة أن يقتصر أهل البيت على أضحية واحدة يقوم بها رب البيت فليس معنى ذلك أنهم لو ضحوا بأكثر من واحدة أنهم يأثمون، لا يأثمون لكن المحافظة على السنة أفضل من كثرة العمل، والله سبحانه وتعالى يقول: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ولهذا لما بعث النبي رجلين في حاجة فلم يجدا الماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء، أما أحدهم فتوضأ وأعاد الصلاة، وأما الآخر فلم يتوضأ ولم يعد الصلاة، فذكر ذلك لرسول الله فقال للذي لم يعد: أصبت السنة، وقال للثاني: لك الأجر مرتين، فأيهما أفضل؟ الذي أصاب السنة وإن كان هذا له الأجر مرتين، لأنه إنما كان له الأجر مرتين لأنه عمل عملين ينوي بهما التقرب إلى الله عز وجل، فكان له أجر عملين لكن ليس كالذي أصاب السنة.
حكم الاستدانة لشراء الأضحية
السؤال: هل يشرع للفقير أن يستدين لكي يضحي؟(/115)
الجواب: نقول: في هذا تفصيل: الفقير الذي ليس بيده شيء عند حلول عيد الأضحى لكنه يأمل أن يحصل، كإنسان له راتب شهري صادف أنه في يوم العيد ليس بيده شيء لكن يستطيع أن يستقرض من صاحبه ويوفيه إذا جاء الراتب فهذا ربما نقول له أن يستقرض وأن يضحي ثم يوفي، أما إذا كان لا يأمل الوفاء عن قرب فإننا لا نستحب له أن يستقرض ليضحي؛ لأن هذا يستلزم إشغال ذمته بالدين ومنة الناس عليه، ولا يدري هل يستطيع الوفاء أو لا يستطيع.
حكم مشاركة رب البيت بقيمة الأضحية
السؤال: أيهما أفضل: أن يدفع رب البيت قيمة الأضحية لوحده، أو يشرك معه من يستطيع من أفراد عائلته بقيمة الأضحية، خاصة إذا كان في هذا تطييباً لنفوسهم؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب: الأفضل أن يقوم بها وحده كما في الحديث أنه: كان الرجل في عهد النبي يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته وأما لتطييب نفوسهم، فبأن يقال لهم: السنة هي التي فيها طيب النفس، والناس إذا عودوا على الشيء اعتادوا عليه وسهل عليهم، لا شك أن الناس الآن اعتادوا أن كل واحد يضحي ولكن إذا قيل لهم: السنة أن يكون المضحي رب البيت وأنتم إذا كان لديكم وفرة من المال فتصدقوا بها، تصدقوا بها على من شئتم من الناس، ومع هذا لا نمنعكم من أن تضحوا، لو أنكم ضحيتم ليس عليكم إثم، ولكن المحافظة على السنة وعلى ما كان عليه الصحابة لا شك أنه أولى.
حكم من لم يبت بمزدلفة من غير تعمد
السؤال: إذا فرض أن الإنسان لم يتمكن من المبيت بمزدلفة لأي سبب من الأسباب كضياعه أو غير ذلك، هل يلزم عليه دم؟
الجواب: نعم. الظاهر أنه يلزمه دم على حسب قواعد أهل العلم، لكنه لا إثم عليه، وذلك أن تارك الواجب إن كان معذوراً فلا إثم عليه لكن عليه البدل وهو الدم، وإن كان متعمداً صار عليه الإثم والدم، والظاهر أنه يلزمه دم على حسب قواعد أهل العلم، نعم لو أن الإنسان منع من أن يبيت بمزدلفة فهذا لا شيء عليه؛ لأنه منع من ذلك على سبيل الإكراه.(/116)
حكم إرسال الخادمات بدون محرم
السؤال: لقد ذكرت في خطبة الجمعة قبل الماضية أن من أرسل الخادمة بدون محرم أنه آثم، فماذا نقول إذا كان صاحب الخادمة قد قطع عهداً في العقد بينه وبين صاحب المكتب الذي أتى بالخادمة أنه سوف يحج بها؟
الجواب: نقول: إن الخادمة أنثى، امرأة، وقد قال النبي: ((لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم)) فأي إنسان يقول: إن الخادمة يجوز أن تسافر مع مستخدميها، نقول له: هات الدليل على إخراج هذه المرأة من هذا الحديث وإلا فاستعد لمحاسبة الله لك يوم القيامة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين، قال: ((لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم)) فهل هذه امرأة أم لا؟! لا يمكن أن يقول: ليست امرأة، فإذا قال: هي امرأة، نقول: ما الذي أخرجها من العموم؟ هات الدليل وإلا فاستعد للجواب أمام الله يوم القيامة، فإذا قال أنه قطع عهداً على نفسه أن تحج، فالجواب أن يقال: نعم. هذا العهد يجب أن يوفي به، لكن على حسب القواعد، على حسب ما تقتضي الشريعة، لا على مخالفة الشريعة: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط). فنقول: هذا الشرط يجب عليك أن تلتزم به وذلك بأن تقوم بتحجيجها إذا حضر محرمها، وبالإمكان أن تقطع فيزة لمحرمها ليقدم للحج، أو لأي عمل شئت ثم يحج معها، فإن تعذر ذلك فإنك تضمن لها قيمة الحجة، لأنها مشروطة عليك، فإذا قيل: إن هذه المرأة يكلف حجها ألفي ريال فعليك أن تعطيها ألفين.
الأفضل في أضحية الموصي
السؤال: إذا أوصى بأضحية، فهل الورثة مخيرون بين ذبح شاة وبين الاشتراك في سبع بدنة أم لا؟
الجواب: إذا أوصى الميت بأضحية فإن الواجب على الوصي أن يختار ما هو أفضل وأكمل، ومعلوم أن الشاة أفضل من سبع البدنة أو البقرة لكن إذا كانت الوصية قليلة لا تكفي للواحدة من الضأن أو الماعز وتكفي للسبع من البدنة أو البقرة فحينئذ يشتري سبع بدنة أو بقرة.
حكم التوكيل في ذبح الهدي(/117)
السؤال: ماذا ترى بتوكيل الشركة التي عن طريق مصرف الراجحي بأن تقوم بذبح الهدي وتوزيع لحمه خارج فقراء الحرم، وخاصة إذا كانت الحملة فيها عدد كبير من الناس؟ وهل الأفضل أن يذبحها الإنسان بنفسه ويوزعها مع المشقة ومظنة عدم الاستفادة منها، أم يدفعها لهذه الشركة حتى ولو لم تذبح إلا في اليوم الرابع؟
الجواب: الأفضل أن يباشر الإنسان الذبح بنفسه أو بوكيل يكون حاضراً عنده؛ لأن النبي هو الذي باشر الذبح؛ ذبح هديه بيده عليه الصلاة والسلام، فإنه أهدى مائة بدنة ذبح منها ثلاثاً وستين بيده، وأعطى علي بن أبي طالب الباقي فذبحه، حتى وإن حصل لك مشقة احتسب الأجر، وهنا ما يفعله بعض الناس، ينزل إلى مكة في يوم العيد أو في يوم من أيام التشريق ويشتري من المجزرة في مكة ويذبحها هناك ويجد من يأخذها منه يتقاتلون عليها، فبإمكانك أن تنزل إلى مكة في يوم من أيام التشريق وتذبح هناك كما يفعله بعض الناس هناك بدون مشقة وبدون تعب. وإنما إذا كان عليك مشقة أو تعب ولا تستطيع، كما لو كانت الهدايا كثيرة وأنت رجل واحد فلا بأس أن تعطي هذه الشركة لذبحها، لأن القائمين عليها حسب علمي أناس موثوقون، والتوكيل في الهدي جائز، كما سمعتم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وكل علي بن أبي طالب فنحر الباقي.
بماذا يتعلق التحلل؟
السؤال: هل للذبح أثر في التحلل؟(/118)
الجواب: لا. الذبح ليس له أثر، أو ليس التحلل معلقاً بالذبح، فيمكن أن يتحلل الإنسان وإن لم يذبح؛ وذلك لأن الإنسان يتحلل التحلل الأول يوم العيد إذا رمى الجمرة وحلق أو قصر حل التحلل الأول وجاز له جميع محظورات الإحرام إلا النساء، فإذا أضاف إلى ذلك الطواف والسعي حل الحل كله حتى وإن لم يذبح، ومعنى قولنا: حل الحل كله أنه يجوز له جميع محظورات الإحرام حتى النساء. فإذا فعل الإنسان أربعة أشياء حل التحلل كاملاً وهي: رمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير، والطواف، والسعي، إذا فعل هذه الأربعة حل الحل كله، وإن فعل اثنين من ثلاثة حل التحلل الأول، الثلاثة هي: الرمي، والحلق، والطواف، السعي في التحلل الأول ليس له دخل. السعي لا يتعلق به حل بالنسبة للتحلل الأول، إنما التحلل الأول باثنين من ثلاثة، وهي: الرمي، والثاني: الحلق، والثالث: الطواف، فلو رمى وطاف حل التحلل الأول، لو حلق ورمى حل التحلل الأول، لو حلق وطاف حل التحلل الأول، لكن الأفضل ألا يحل التحلل الأول حتى يرمي، حتى لو طاف وحلق فالأفضل ألا يتحلل حتى يرمي.
حكم طاعة ولي الأمر في تأخير الحج
السؤال: أنا رجل عسكري ونظامنا في العمل بالنسبة للحج لا يسمح في كل سنة إلا لخمسة أشخاص ممن يعملون معي في العمل، فلو مت قبل أن يأتي دوري في الحج هل أكون آثماً أم لا؟ وهل هذا طاعة للمخلوق في معصية الخالق؟(/119)
الجواب: نقول في الجواب الأول: إذا كانت الحكومة قد رتبت حج أفراد العسكر فإنه إذا مات الإنسان قبل أن يأتي دوره فلا إثم عليه؛ لأنه مأمور بطاعة ولي الأمر؛ ولأنه داخل على أنه ملتزم بما يقتضيه هذا العقد مع الدولة، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فلو مت قبل أن تأتي بالواجب فإنه لا شيء عليك. ثم إني أقول: إن بعض العلماء قال: إن الحج لا يجب على الفور، بمعنى أنه يجوز للإنسان أن يؤخر الحج ولو بدون عذر حتى وإن كان غنياً ويرى أن الحج أمره واسع، لقول النبي: ((الحج مرة فما زاد فهو تطوع)) فإذا حججت مرة ولو في آخر عمرك فقد أتيت بالواجب، وأنا أتيت بهذا القول من أجل أن يتسع صدر مثل هذا الأخ السائل، وإلا فإن القول الراجح: هو أن الحج واجب على الفور، وأن من تمت فيه شروط الحج وجب عليه أن يبادر به.
حكم من أرادت الأضحية وأرادت تقصير شعرها للضرورة
السؤال: امرأة تريد أن تضحي ولكنها لا تستطيع ترك رأسها دون تسريح لمدة أيام، لأنه ربما تساقط معظمه، فهل يجوز لها تسريحه مع المحافظة أو المحاولة على عدم سقوطه، وأحياناً ربما يكون عليها غسل واجب؟
الجواب: نعم. إذا كان يشق عليها أن تبقى بدون تسريح لمدة عشرة أيام فإن لها أن تسرحه لكن برفق، وإذ سقط شيء من التسريح بغير قصد فلا شيء عليها، ولكن تأتي مسألة تعدد الضحايا في البيت الواحد، هذه المرأة كيف تضحي وعندها قيم البيت، إذا كان عندها قيم في بيتها فإن أضحية القيم تجزئ عنها، لكن قد تكون أحياناً هي قيمة البيت ليس في البيت رجل، هي التي تقوم بالبيت، لأنه ليس عندها رجال فحينئذ تكون أضحيتها في محلها، ويلزمها أن تتجنب أخذ الشعر والظفر والبشرة ولكن لها أن تسرح شعرها إذا كان يشق عليها تركه ويكون التسريح برفق.
حكم من تجاوز الميقات ولم يحرم(/120)
السؤال: مجموعة من الحجاج عقدوا العزم على الحج بإذن الله وهم من مدينة الرياض، وقد كلفوا للعمل في مطار جدة، وبعضهم عقد نيته على الإفراد وبعضهم عقدها على التمتع والآخرون على القران، ولكنهم تجاوزا الميقات ولم يحرموا حيث أن هناك زمناً طويلاً بين بداية عملهم في المطار وبين موسم الحج بما يقارب الشهر، فما موقفهم الآن وقد تجاوزوا الميقات، هل عليهم دم كلهم أو بعضهم حسب النية؟
الجواب: أما من أراد منهم التمتع فالحقيقة أن عدم إحرامه من الميقات خطأ مخالف للحكمة؛ لأن الأولى به أن يحرم من الميقات ويأتي بالعمرة ويخرج إلى جدة، وأما من أراد القران والإفراد فصحيح أنه سيشق عليه أن يبقى شهراً كاملاً في إحرامه، لكن نقول: إنه لا حرج عليهم أن يبقوا في جدة وإذا جاء وقت الحج خرجوا إلى الميقات الذي تجاوزوه وأحرموا منه، مثال ذلك: لنفرض أنهم من أهل الرياض ومروا بميقات أهل نجد بالسيل وذهبوا إلى جدة، نقول: إذا أردتم الإحرام بالحج فلا بد أن تذهبوا إلى السيل وتحرموا منه لتحرموا من الميقات الذي يجب عليكم الإحرام منه، فإن قدر أن تعذر هذا ولم تتمكنوا من الذهاب إلى الميقات فلكم أن تحرموا من جدة وعليكم عند أهل العلم دم يذبح في مكة ويوزع على الفقراء، والمتمتع الآن مثلهم ما دام إلى الآن لم يحرم، فإذا أراد الإحرام بالعمرة فلا بد أن يذهب إلى السيل ويحرم منه، ويطوف ويسعى ويقصر ويحل.
حكم لزوم الهدي لمن خرج من مكة لغير بلده
السؤال: جماعة من أهل القصيم أحرموا بالعمرة متمتعين إلى الحج في الخامس والعشرين من هذا الشهر، وبعد الانتهاء من العمرة ذهبوا إلى جدة للنزهة ونووا العودة إلى مكة في اليوم السابع من ذي الحجة، فهل عليهم هدي أم يعاملون معاملة أهل مكة؟ وإذا كان أحدهم قد حج متمتعاً منذ سنوات بنفس الطريقة ولم ينحر هدياً فماذا يجب عليه الآن؟(/121)
الجواب: نقول: إن هؤلاء الذين ذهبوا من القصيم متمتعين وأتوا بالعمرة في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة وخرجوا إلى جدة وهم سيحرمون بالحج في وقته -هو يقول: في اليوم السابع ولعله في اليوم الثامن- فهؤلاء يعتبرون متمتعين وسفرهم إلى جدة لا يسقط عنهم الهدي؛ لأنهم لم يرجعوا إلى بلدهم الذي يبطل تمتعه، هو الذي يرجع إلى بلده بعد العمرة ثم يحرم من ميقات بلده بالحج، وأما الذي يخرج إلى جدة أو إلى الطائف ويحرم بالحج من هناك فإنه على تمتعه ويجب عليه الهدي. وعلى هذا فنقول لهؤلاء: إذا كان اليوم الثامن أحرموا بالحج وعليكم هدي التمتع، والذين فعلوا مثل هذا الفعل في سنوات مضت ولم يهدوا هدياً عليهم أن يهدوا الآن، يذبحوا هدياً الآن قضاء لما سبق، لأن سفرهم إلى جدة لا يسقط عنهم الهدي، وإنما الذي يسقط به الهدي كما أشرت إليه أن يرجع الإنسان إلى بلده ثم يعود من بلده محرماً بالحج.
الضعفة إذا تعجلوا في الرمي قبل الفجر بعد الدفع من مزدلفة
السؤال: إذا تعذر الضعفة بالدفع من مزدلفة بعد مغيب القمر مباشرة وتمكنوا من الرمي والسعي والطواف قبل الفجر فما الحكم في عمله؟
الجواب: عمله جائز ولا بأس به؛ لأنه إذا جاز للإنسان أن يدفع من مزدلفة جاز له أن يفعل كل ما يترتب على ذلك، فإذا دفع الضعفة من مزدلفة في آخر الليل بعد مغيب القمر ووصلوا إلى منى فليرموا الجمرة ولينزلوا إلى مكة ويطوفوا ويسعوا ويرجعوا، ولو رجعوا قبل الشمس في هذا المثال فلا بأس لأنه إنما جاز الدفع للضعفة من أجل أن يأتوا بمناسك الحج قبل زحمة الناس.
حكم تخصيص بعض أيام العشر بالصيام وهل يلزم إتمام العشر
السؤال: ما حكم من يصوم يوماً ويفطر يوماً في عشر ذي الحجة، أو يصوم يوم السابع والثامن والتاسع فقط وينوي بها صيام ثلاثة أيام من الشهر؟ وهل يلزم من صام يوماً منها أن يصومها كلها فإن هذا يتناقله بعض العوام؟(/122)
الجواب: إذا صام يوماً وأفطر يوماً من عشر ذي الحجة لا باعتقاد أنه سنة فهذا لا بأس به، لأن الإنسان قد يكون له أشغال ويحب أن يفطر فيما بين صيامه لينشط على شغله، وأما إن اتخذ ذلك سنة فهذا لا يجوز؛ لأنه لم يرد عن النبي إلا صيامها كاملة، وأما إذا صام الثلاثة الأخيرة من التسعة وهي السابع والثامن والتاسع بنية أنها عن ثلاثة أيام من كل شهر فهذا أيضاً لا بأس به.
أما إذا صامها بالنية التي يقولها العوام وهو صيام ثلاث من ذي الحجة فهذا لا أصل له ولم يرد بما يتعلق بصيام عشر ذي الحجة إلا صيام الجميع أو صيام يوم عرفة، أما تخصيص ثلاثة أيام على أنها ثلاث ذي الحجة فهذا لا أصل له، فتخصيص ثلاثة أيام إذا كان الإنسان خصصها من أجل أن يجعلها عن الأيام الثلاثة من كل شهر فهذا لا بأس به؛ لأن ثلاثة أيام من كل شهر كان الرسول لا يبالي أن يصومها من أول الشهر أو وسطه أو آخره. وأما من صامها باعتقاد أن السابع والثامن والتاسع من هذا الشهر يسن صومه فهذا لا أصل له.
وأما من صامها سنة من السنوات فلا يلزمه أن يصومها في المستقبل؛ لأن كل نفل قام به الإنسان في وقت فإنه لا يلزمه أن يقوم به في كل وقت لأنه نفل إن شاء فعله وإن شاء تركه، لكن ينبغي للإنسان إذا عمل عملاً أن يثبته وأن يستمر فيه، ولا يلزم من صام يوماً من العشر أن يصومها كلها، من صام يوماً وتركها فلا حرج عليه لأنه صيام نفل، والنفل -كما قلت- يجوز للإنسان أن يستمر فيه وأن يقطعه لأنه ليس بواجب.
هذه الجلسة هي الأولى من جلسات الحج، وكان لابد من بيان ما ينبغي فعله في عشر ذي الحجة، ولأجل ذلك تكلم الشيخ فيها، منبهاً للأعمال التي فيها معقباً ذلك ببيان أن الحج عبادة بدنية مالية، ثم بين الشيخ رحمه الله ما يحتاج إليه الناس من مسائل الشريعة كأحكام السفر، مبيناً كل المسائل فيه؛ من القصر والجمع وكيفية طهارة المسافر وبماذا يتنفل، ثم ختم الجلسة بذكر صفة وشروط الحج والعمرة.(/123)
العنوان: جمال البنَّا.. علامَ يعدُّونه مفكراً إسلامياً؟!
رقم المقالة: 1763
صاحب المقالة: خباب بن مروان الحمد
-----------------------------------------
الحمدُ لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فحينما تختلفُ مع عالم أو مفكِّر وتجد عنده رؤية منبعثة من الدليل، فإنَّك قطعاً ستحترم قوله ما دام يدور داخل حدود الشريعة ولم يخرج عن مدارها.
لكن حينما تجدُ أهل الهوى وضعافَ الفهم يتحدَّثون في ديننا الإسلامي، ويحرِّفونه بدعوى التجديد، وينقضونه باسم النقد، وينسفون منهجَ السلف الصالح في التعامل مع النصوص بحجَّة إعادة قراءة النص، وما إلى ذلك من شبهات وأهواء؛ فلن تستطيع أن تجد لهؤلاء عذراً...
حين تتحدَّث مع متخصِّص يعي حقيقةَ الشريعة ومقاصدها، وينطلق من مصادر التلقي المعتمدة لدى أهل السنَّة والجماعة، يسهُل عليك أن تناقشه، ولكنَّك حين تتحدَّث مع من ليست لديه أهليةٌ للحديث في القضايا الشرعيَّة، أو أنَّه يتحايل على دين الله، ويلتوي ويتغيَّر كالحرباء مع كل موقف وقضيَّة، فإنَّك تحتار لتفهُّم منطلقاته؛ لأنَّه ينطلق بلا قيم أو مبادئ؛ وربما لا تخرج بشيء؛ لأنَّ الهوى جثم على قلبه، فـ:
من كان يخلُقُ ما يقو لُ فحيلتي فيه قليلةْ
ومن بين هؤلاء المحرِّفين لديننا ومبادئنا وثوابتنا (جمال البنَّا) شقيق الشيخ حسن البنَّا -رحمه الله- فتستغلُّ أخوته للشيخ حسن ليظهر في الوسائل الإعلاميَّة، ويطلق عليه بعدئذٍ: المفكِّر الإسلامي!(/1)
والمراقب لأطروحات (جمال البنا) أو المتتبع لها سيجد أنَّه يخرج بين فينة وأخرى بآراء فكريَّة عجيبة غريبة، يبدي من خلالها مخبآتِ الأفكار المكنوزة في عقليته، ومن أحسن من رأيته قد كتب عنها وفضح صاحبَها، الدكتور محمد زنجير -وفقه الله- في كتابه (اتجاهات تجديديَّة متطرفة)، والدكتور محمد إبراهيم مبروك؛ فقد كتب أربع حلقات عنونها بـ:(جمال البنَّا مفكِّر إسلامي أم علماني؟!)، والأستاذ عقيل الشمَّري في بحثه المتخصِّص (جمال البنا ومنهجه في التفسير) فأسأل الله -تعالى- أن يثيبهم على جهدهم في الدفاع عن حوزة الدين وحياض الشريعة.
نماذج من الفتاوى والآراء التي يراها جمال البنا مع مناقشتها:
المتابع لفكر جمال البنَّا، سيدرك أنَّه ينطلق برؤيةٍ لا منهجيَّة لها، وأنَّ جملة كثيرة من أعماله قائمة على الشذوذات والأوهام الفكريَّة، وقد استقرَّت لديَّ هذه النتيجة بعد متابعتي لفكره وكتاباته، ووجدت أفكاره قائمة على مشكلات عدَّة خطيرة، ومنها ما يلي:
1) هدمُ السنَّة بحجَّة أنَّ قلَّة قليلة من أحاديثها صحيحة، والبقية منكرة وشاذة وموضوعة، وعدم الأخذ بأحكام الأحاديث النبويَّة الصحيحة عنده، إلاَّ بما وافق القرآن حسب زعمه.
2) التحايلُ على الشريعة وأدلتها من نصوص الوحيين، وتحكيمه الكامل لهواه فحسب، باسم المصلحة والضرورة وعموم البلوى وغير ذلك!
3) نقضُ الشريعة بحجَّة النقد البناء!
4) انتهاجُه وانتهازه لزلاَّت بعض العلماء، وترويجها بين عوام الناس، ونثرها في مؤلفاته وكأنَّها أقوال لا مغاير لها ولا مخالف!(/2)
ومن المعلوم لدى أهل العلم؛ أنَّهم كانوا يعدُّون مَنْ تتبعَ رخصَ العلماء وزللهم بأنَّه قد تزندق، وأنَّه خلع ربقة الإسلام من عنقه، وأنَّه يَهْلِك ويُهْلِك، ويقرِّرون أنَّ تتبُّعَ زلاَّتِ العلماء ورخصِهم ليس من العلم في شيء، بل ذكر الشيخ الفقيه الطوفي في شرحه لحديث (لا ضرر ولا ضرار)، أنَّ (من اتَّبع رخص المذاهب إذا اختلفت وتعدَّدت فقد أفضى فعلُه ذاك إلى الانحلال والفجور، كما قال بعضهم:
فاشربْ ولُطْ وازْنِ وقامِرْ، واحتجج في كل مسألةٍ بقول إمامِ
يعني بذلك شرب النبيذ، وعدم الحد في اللواط على رأي أبي حنيفة، والوطء في الدبر على ما يُعزى إلى مالك، ولعب الشطرنج على رأي الشافعي)[1]
وسأضرب مثلاً للقرَّاء ليعرفوا من خلالِه قبحَ تتبعِ الرخص من زلاَّت بعض العلماء:
فلو أنَّ رجلاً ادعى أنَّه فقيه وقال: يجوز للرجل أن يتزوج بنكاح المتعة دون ولي ولا شهود، كما يجوز له أن يكشف عن فخذيه إلى قرب عورته، وأنَّ المرأة يجوز لها أن تكشف عن شعرها، وأنَّه يجوز حلق اللحية بالكليَّة، وأنَّه يجوز إتيان المرأة في دبرها، وأنَّه يجوز شرب النبيذ، وأنَّ ربا الفضل جائز، وأنَّ الاستماع للموسيقى جائز، وأنَّه يجوز إمامة المرأة للرجال، ويجوز شربُ الدخان لمن يقدر على شرائه، وأنَّه لا ينبغي إقامةُ حدِّ الردَّة على المرتد، وأنَّه يجوز للرجل تقبيل المرأة ومصافحتها، كما يجوزُ النظر بصورة فوتوغرافيَّة أو (فيديو) لامرأة عارية بحجَّة أنَّه لا يراها حقيقة بل يرى صورتها، وهكذا!
لو جاءنا رجل يدِّعي الفقهَ وقال: أختار القول بجميع هذه الآراء التي قال بها بعض الفقهاء، ثم أراد للأمَّة المسلمة أن تنتهج هذا المنهجَ في هذا الزمان ؛ فما الذي سيقوله العقلاء في ذلك؟!
أدع الجواب للقارئ الكريم!!
ولو عُرِضَ صاحبُ هذه الأقوال وجامعُها على السابقين من أهل العلم والدين، لقالوا فيه الأقاويل واتَّهموه بفساد النيَّة وسوء القصد.(/3)
بل قرَّر العلماءُ المحقِّقون أنَّ بعضَ أهل العلم الذين زلُّوا في مسألة، أو اختاروا قولاً من هذه الأقوال، لم يمتطوا الترخصَ منهجاً في تلقي الفقه، أو الإفتاء به، فمن كان يقول بقول لا يقول بالقول الآخر، ومن زلَّ في مسألة بعينها لم يزلَّ في الأخرى، وإلاَّ لكان للعلماء قولٌ في توضيح وتحديد موقفهم تُجاهَ من أخذ بهذه الأقوال بالكليَّة، وقد ورد في سنن البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: "دخلت على المعتضد بالله فدفع إليّ كتابًاً، فنظرت فيه، فإذا قد جُمِعَ له من الرُّخص من زلل العلماء، وما احتج به كل واحد منهم؛ فقلت: مصنِّفُ هذا زنديق! فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديثُ على ما رُوِيت، ولكن من أباح المسكر النبيذ لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلّة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينُه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب"[2].
وعليه فمن تأمَّل فكر (جمال البنَّا) فسيوقن أنَّه يتبنَّى عدَّة أقوال، بعضها رخص وزلاَّت زلَّ بها بعض العلماء، وبعضها الآخر بل الأكثر (ضلالات وجهالات) استقاها من عقله المضطرب فأورثت هذا المنهج الضال الذي ينشره بين الناس، ومنها:
(1)
رفضُه قواعدَ المحدِّثين، وقوله بعدم عدالة الصحابة:
يرفض (جمال البنا) قواعدَ المحدثين في الجرح والتعديل التي من خلالها يثبت الحديثُ، وعلى رأسها "عدالة الصحابة"؛ إذ ينفي وجوبَ تعديلهم إلزاماً كما استقر المنهجُ عند أهل السنة والجماعة، ويرى أنهم قد يكذبون في الحديث، وإذا لم يكذبوا فهم ينسون، والنسيان أخو الكذب، وكثرة رواية الصحابي للحديث عنده تجرحه؛ إذ إن أفاضل الصحابة وكبارهم عنده أقلهم رواية للحديث، والعكس بالعكس![3]
وعلى هذا الرأي سيكون من ورائه هدمُ أحاديث كثيرة، بل ستهدم السنَّة، بحجَّة خطأ قواعد الجرح والتعديل التي تداولها العلماءُ القرون تلو القرون، وانطلقوا من خلالها، وحكموا في ضوئها على الأحاديث!(/4)
ثمَّ إذا نفينا قواعدَ الجرح والتعديل التي أطبق عليها المحدِّثون؛ فإلى أي قواعد جرح وتعديل نستند؟
هل لآراء (جمال البنَّا)؛ التي يختلف معه فيها كلُّ علماء الجرح والتعديل سلفاً وخلفاً؟
وهل كان المسلمون يتعبَّدون الله -تعالى- بدين باطل قائم على جملة من الأكاذيب حتى جاء جمال البنا بكشفها؟
وأين الدليل على كذب صحابة رسول الله على رسولنا -محمد صلَّى الله عليه وسلَّم-؟!
ثمَّ لو كذب أحدٌ منهم -وحاشاهم- فهل سيوافقُه جميعُ الصحابة على كذبته تلك؟
إنَّها لإحدى الكبر!
هل يرضى (جمال البنَّا) أن يُقول القائلُ عنه شخصياً: ما الذي أدرانا بأنَّك لا تكذب على الناس في آرائك وفتاويك؛ لأنَّك إنسانٌ، ويجوز عليك الكذب والنسيان!! فهل يرضى ذلك لنفسه إذا ارتضى ذلك للصحابة الكرام!
وأمَّا قوله: (إذ إن أفاضل الصحابة وكبارهم أقلهم رواية للحديث، والعكس بالعكس!).
فلا يعني هذا أن يكون المكثر من الرواية كذاباً، فإنَّ الذين أكثروا من رواية الحديث كانوا معنيين بسماعها وإسماعها، وكثير منهم كان أكثر مخالطة لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من غيرهم من الصحابة، وكثيرٌ منهم نال بركةَ دعاء النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالحفظ والفقه؛ فقد دعا -عليه الصلاة والسلام- لابن عبَّاس بأن يفقهه الله في الدين، ودعا لأبي هريرة بحفظ الحديث، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- يكتب أحاديث رسول الله ولا ينكر عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعلَه ذاك، وكانت عائشة -رضوان الله عليها - زوج رسول الله؛ تعلم عنه -صلى الله عليه وسلم- أموراً لم يعلمها الصحابة، وهكذا الأمر ممَّن أكثروا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.(/5)
ولقد ذكر علماءُ الحديث أنَّ إكثار بعض الصحابة من رواية الحديث كان بعد عهد الخلفاء الراشدين عندما اقتضى الأمرُ جمعَ حديث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- خشية ذهاب الصحابة ووفاتهم، إذ إنَّ بعضهم كان يتورع عن الرواية، وحين رأى الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- أنَّ كثيراً من الصحابة قد توفاهم الله، قاموا يروون الحديث ليبلغوا لنا الدين حتى لا تندرس آثاره، وتنطمس حججُه.
ونحن على يقين بأنَّ الصحابة الكبار -رضوان الله عليهم- لو علموا أنَّ أحداً من الصحابة الصغار كذبوا -حاشاهم- لوقفوا في وجوههم، وبيَّنوا الحقيقة والصواب.
والمعلوم عن الصحابة الكبار أنَّهم كانوا يحترمون مجالسَ أولئك الصحابة الحفظة والنقلة لأحاديث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وكان الصحابة الكبار كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضوان الله عليهم أجمعين- مشغولين بهموم الأمَّة العامَّة، وشؤون الخلافة وهموم رعيَّتهم، وليسوا كأولئك الصحابة الذين كان يتوفر لهم وقتٌ في التعليم والتدريس ما لا يتوفر لغيرهم.
والحاصل أنَّ (جمال البنا) خالفَ القطعياتِ القرآنيةَ الصريحةَ في تعديل الله عز وجل وتزكيته للصحابة، فجوَّز عليهم الكذب، ولعله لما شعر أنه بهذا قد خالف القرآن الكريم، عاد فجوَّز عليهم النسيان، ليُسْقِطَ بذلك روايتهم حسبما يريد، وتلك خطيئةٌ أكبر من أختها؛ فالأولى تخالف نصًّا قطعياً قرآنياً، والثانية تخالف نصًّا قطعياً آخر؛ لأن القرآن الكريم قد نص صراحة على تعهُّد الله بحفظ الوحي (القرآن والسنة) والذي يُجوِّز على مجموع الصحابة الكذب أو النسيان لمعالم الدين، وأصول الشريعة؛ فإنَّه يخالف النصوصَ القطعية في القرآن الكريم في تزكية الصحابة بمثل قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] وفي التعهد بالحفظ للدين في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].(/6)
ولنكن أكثر صراحة من أولئك الذين يستَخْفون خلف الشعارات، ويرفضون التصريح بمقاصدهم فنتساءل:
- هل المقصود الكلام عن شخص الصحابة ومكانتهم عند ربّهم؟
- أو المقصود الكلام عن روايتهم للدين؟
إن كان الأول فهذا معناه تكذيب الوحي الذي جاء بالترضي عنهم، وذكر ممادحهم وفضائلهم.
وإن كانت المسألة عن روايتهم للدين فقد حسم دينُ الإسلام القضيةَ عندما تعهد الله -عز وجل- بحفظ دينه فلا بد أن يكون الدين محفوظًا، فالذي يرفض روايات الصحابة ويُجوِّز عليهم الكذب أو النسيان لا مفر له من أحد أمرين: إما أن يأتينا بروايات أخرى وأناس آخرين يحملون لنا الدين، ولم يوجد ولن يوجد، فإن لم يستطع ولن يستطيع، فعليه أن يُنكر القرآن والسنة ويُنكر الدين نفسه، وبهذا أو ذاك، فهو خارج نطاق العقل والمعقول؛ لأن الذي اتفقت عليه عقولُ البشر قاطبة مسلمهم وكافرهم أن هناك ديناً اسمه الإسلام رواه قوم اسمهم الصحابة فهذه حقيقة مسلَّمة حتى لدى الكافرين!
(2)
التشكيك بصحَّة كثير من أحاديث الصحيحين
يضعِّفُ (جمال البنَّا) جمعاً من الأحاديث التي تواترت صحتُها عند علماء الحديث النقاد والمدققين؛ لأنَّه يراها تصطدم بالقرآن؛ فهو يرى أنَّ كل كتب السنة تعج بالموضوعات، ولا يستثني صحيحي البخاري ومسلم، ولهذا فقد ألَّف كتاباً في نقدهما سمَّاه (تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم)!
والجواب عن ذلك أن يُقال: ما يدَّعيه (جمال) بأنَّ هناك أحاديث تصطدم بالقرآن، فإنّها في الحقيقة تصطدم بعقله المضطرب ليس إلاَّ؛ فمن طالع كتبه ومقالاته وسمع أقواله، فسيعلمُ حقيقةَ ما أقول، ومَنْ علم حجَّةٌ على مَنْ لم يعلم.(/7)
لقد وضَّح علماءُ الإسلام أنَّه لا يتعارض حديث مع آية، وكان لعلماء المسلمين طرائق منهجيَّة في التعامل مع النصوص القرآنية والنبويَّة التي قد يُشكِلُ ظاهرها، أو يتوهم بعضُ الناس تعارضَ بعضها مع بعضها الآخر، وإذا كان التعارضُ يدور في عقل (جمال) فليس له أن يضعِّف أحاديث اتَّفق العلماءُ على تصحيحها أو تحسينها وبيَّنوا وجه الدلالة منها، بل عليه أن يتَّهم عقله، الذي لم يستطع أن يجمع بين تلك الأحاديث والآيات التي ظاهرها التعارض لديه، وعليه أن يرجع إلى كتب العلماء ليتعلَّم كيف يتعامل مع النصوص التي ظاهرها التعارض.
وأمَّا قوله بأنَّ كتب السنَّة تعجُّ بالموضوعات، فإنَّ هذا قول مجمل! فأي كتب السنَّة يقصد؟ ثمَّ ما الأحاديث الموضوعة التي تعج وتضجُّ منها تلك الكتبُ بزعمه والتي يدعو لاستخراج ما بها من أحاديث مكذوبة وموضوعة حتَّى لا تفسد العقول؟
أليس أهل العلم والحديث المتخصِّصون قد بيَّنوا الأحاديث الموضوعة والضعيفة، وأفردوها بكتب وأسفار خاصَّة بذلك؟
فما الذي سيأتينا به الدخلاءُ على علم الحديث وأهله؛ حتَّى يوضِّحوا الأحاديث الموضوعة والمكذوبة المنتشرة في كتب السنة؟
ومن ثمَّ فليبينوا ما القواعد التي سينتهجونها ولا يكون فيها تعارض؟
ومن الذين يوافقهم على ذلك؟ لأن الأمَّة لا تجتمع على ضلالة!
والذي يظهر -مع الأسف- أنَّ جمال البنَّا يريد من كلامه المضي قدماً للطعن في أصح كتابين بعد كتاب الله، وحينها فسيحلو لأهل الأهواء التلاعبُ بنصوص الكتاب والسنَّة وضرب بعضها ببعض، استناداً إلى أهوائهم!(/8)
ومِمَّا يبيِّن ما أقوله أنَّ (جمال البنا) قال: إنَّ هناك أحاديث في صحيحي البخاري ومسلم لا تلزم، وليته اعتمد منهجَ أهل الحديث في التصحيح والتضعيف، بل كان تضعيفُه قائماً على الهوى والحكم المطلق بما يمليه عليه عقلُه، وهو بهذا يريد أن ينقضَّ على الكتب الصحيحة ويبدأ بمعاوله في نقضها قبل غيرها، حتَّى يُشعِر الناس أنَّ دينَهم الذي قاموا عليه عمايةٌ وضلالة، وأنَّ تعبدهم لله قائمٌ على الجهل، إلى أن أتى (جمال البنَّا) فكشف الله به الضلال الذي كانوا عليه!!
(3)
دعوته إلى الاحتكام بما في صحيح السنَّة إلى صريح القرآن
يدعو (البنا) إلى الاحتكام بما في صحيح السنَّة إلى الصريح من القرآن! وهي المرجعية الإسلامية الملزمة عنده فقط، ولنتأمَّل قوله عن المرجعيَّة الملزمة لنا بأنَّها: "القرآن الكريم والصحيح المنضبط من السنة النبوية، أما أحكام الفقهاء وأئمة المذاهب والصحابة إلخ.. فلا تعد ملزمة"[4].
وإجابة عن ذلك؛ فإنَّ معنى هذا أنَّ أي حديث لم يأتِ عليه دليلٌ من كتاب الله فليضرب به عرض الحائط، ولا يستدلَّ به، وكلام (جمال البنَّا) في هذا المجال يشبه قول القرآنيين الذين نسبوا أنفسهم إلى القرآن وقالوا: لا نأخذ إلا به، وأنكروا السنة، وقد كفَّرهم الأزهرُ وغيره من المؤسسات الدينية في دعواهم الأخذَ بكتاب الله وترك الاحتجاج بكتب السنَّة!(/9)
و(جمال البنَّا) عبر كلامه هذا يبطلُ الآياتِ التي جاءت بالأمر بالأخذ بالأحاديث؛ لأنَّها وحي يوحى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال -تعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ومن الآيات التي تدلُّ على أنّ السنة وحي قول الله -عزَّ وجل-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].
وقد أخرج الإمامُ البخاريُّ عن عبد الله بن مسعود قال: "لعن الله الواشماتِ والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله"، فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت! فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن هو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأتُ ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه؛ أما قرأت: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه[5].
وفي هذا الحديث دليل واضح على أنَّ الصحابة -رضوان الله عليهم- استيقنوا بأنَّ السنَّة شارحة للقرآن ومبيِّنة له، استنباطاً منه وأخذاً بقوله -تعالى-: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن المقدام بن معدي كرب مرفوعا: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه! ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله"[6].(/10)
يقول الإمام الشافعي: "فذكر الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"[7].
فكل هذه الآيات والأحاديث والآثار ترد على (جمال البنا) الذي لا يرى أنَّ أحاديث السنَّة الثابتة عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حجَّة يلزم الأخذ بها وتصديقها، إلاَّ الأحاديث التي جاءت بما جاء به كتاب الله، ولم تضف شيئاً جديداً! وهذا يعني أنَّ كثيراً من العبادات التي نتعبَّد بها الله -جلاَّ وعلا- ستكون غامضة؛ لأنَّ تفصيلاتها وتفريعاتها موجودة في كتب السنَّة، لأنَّها شارحة وموضحة لما في كتاب الله تعالى.
(4)
دعوته لنسف الثوابت
يدعو (جمال البنَّا) لنسف الثوابت إذ يقول: (أهم ما يُفترَض أن تتجِهَ إليه الحريةُ هو هذه الثوابت بالذات التي وإن كانت تقوم بالحفاظ والاستقرار للمجتمع وتمسكه من الانزلاق أو التحلل، إلا أن عدم مناقشتها يجعلها تتجمد، بل وتتوثن وتأخذ قداسة الوثن المعبود؛ هذا كله بفرض أن الثوابت هي دائماً صالحة ولازمة؛ ولكنها لا تكون كذلك دائماً)[8]
وتعقيباً على ما قال، فإني أضع بين يدي (جمال البنا) سؤالاً ينبغي أن يجيب عنه، فأقول له: ما الثوابت التي لا تريدنا أن نتعبَّد الله بها؟
وهل يمكن أن تكتب كتاباً يفصِّل هذه الثوابت التي جعلتك تنتفض حينما رأيتها ثابتةً على قلبك فأردت نسفها بحجَّة التجديد والنهضة! حتَّى نعرف رأيك كاملاً ولا يكون منها ما هو مختبئ في الجحور وإن كنت قد أبديت بعضاً منها!
نعم! جميل قولك بأنَّ (الثوابت تقوم بالحفاظ والاستقرار للمجتمع وتمسكه من الانزلاق أو التحلل)، ولكن... هل يعني ذلك حين تقوم بنقض هذه الثوابت أنَّنا سنعيش فيما بعد في قلق وعدم أمن، وفساد وإفساد، وتحلل خلقي، وانزلاق قيمي؟ وكلُّ هذا أتى من تحت قلمك الذي دعا لكسر الثوابت، فيكون المجتمع منحلاً بإرادتك؟! وهو الذي سيكون!(/11)
ما أنت بالحكم التُرْضى حكومتُه ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
(5)
نفيه أن يكون الإسلام ديناً ودولة
يرى (جمال البنَّا) نقض مفهوم (الإسلام دين ودولة) ويرى أنَّ الصحيح (الإسلام دين وأمة)، وليس ديناً ودولة، حتى بلغ به الأمرُ أن يصدر كتاباً بهذا العنوان كان قد نشر معظمه بجريدة القاهرة، وفيه دعا للفصل بين الدين والسلطة!
وحقاً! فما أجملَ بك أن تقولَ: جمال البنَّا والعلمانيون (تشابهت قلوبهم)! لأنَّ الرأي الذي ذكره (جمال البنا) تأصيلٌ لعداوة العلمانيين للإسلام ودعاته؛ بل هو يتطابق مع العلمانيين حين يقولون: الإسلام لا دخل له بالسياسة، بل هو محصور في زوايا المسجد، وتكايا الذكر، ويعني ذلك أن ننسف كلَّ تاريخ الإسلام، الذي كان قائماً على حفظ السياسة الشرعيَّة للمسلمين، وعلى حماية دولهم، بل حتَّى الدولة التي أقامها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في المدينة المنوَّرة والتي كانت منطلقاً للجيوش الإسلاميَّة لفتح الدول التي صدَّت عن الإسلام أو قاومت جيوشه، فهذه الدولة على مقتضى آراء جمال البنَّا كانت خطأً شنيعاً؛ وذلك لأنَّ الأصل أن تقوم هذه الدولة بالفصل بينها وبين الدين؛ لأنَّ الإسلام في نظره (دين وأمَّة) وليس (ديناً ودولة) وهذه توصية من (جمال البنا) للإسلاميين بأن (يتقزَّموا) و(يتقوقعوا) على أنفسهم وألاَّ يتدخَّلوا في قضايا السياسة، أو أن يسعوا لإقامة دولة الإسلام، فهذا حرام عليهم، أمَّا على العلمانيين والليبراليين فحلال لهم ذلك! فليحكمنا العلمانيون والزنادقة، وليكن الإسلاميون مقتصرين على السبحة والدروشة فقط!
(6)
تقديمه للعقل (الهوى) على النصوص الشرعيَّة(/12)
يرى (جمال البنا) أنَّه لا مانع أن يكون العقلُ حاكماً على القضايا الدينيَّة والشرعيَّة، وكان هذا واضحاً من خلال مناظرته مع الأستاذ محمد إبراهيم مبروك في قناة الجزيرة ببرنامج (الاتجاه المعاكس)[9]، وكذلك في عدد من كتاباته، فهو يرى إعمال العقل في كل ما يتعلق بالدين والدنيا والإيمان بالقيم، إذ يقول: (إنَّ كل ما يتعلق بالشريعة من علاقات يفترض أن تتفق مع العقل أولا، ولا يكون الوحي إلاَّ مؤكداً ومكمِّلاً له، أي إعمال العقل في فهم النص، وهذا يجعل العقلانيَّة هي المرجعيَّة الإسلاميَّة فيما يتعلَّق بالشريعة)[10]!! ومن هنا فإنَّ هذا الأمر قد أثر تأثيراً بالغاً في منهجه في التفسير بحيث إنه لا يعتدُّ بتفسير أهل العلم، ولا يقيد القرآن بالسنة، بل يكون العقل -أي الهوى- هو الحاكم على نصوص الكتاب والسنَّة.
كما يرى أنَّ المسائلَ التي يحصلُ فيها خلافٌ بين الفقهاء والعلماء؛ فإنَّ أفضل حل أن يكون الرجوعُ ليس لنصوص الكتاب والسنَّة بالفهم الصحيح، بل بالرجوع إلى العقل فحسب!
إذ يقول عن القرآن والسنة: (وأقوى منهما جميعًا الرجوعُ إلى العقل وتحكيم المنطق السليم وطبيعة الشريعة ومقاصدها، حتى وإن كان الموضوع عباديا، لأنه ما دام بعيدًا عن ماهية الله تعالى وعالم السمعيات فإنه يخضع لحكم العقل والنظر، وما يهدي إليه المنطقُ السليم، والقول بذلك يحرم الناس من استخدام عقولهم، ويعطل ملكات التفكير ويجعلهم أسرى للروايات)[11].
والجواب عن دعواه أن نقول: من المقطوع به أنَّ للعقل عملَه في بلورة الأفكار، إلاَّ أنَّ النص القرآني أو النبوي حاكم على العقل، فالحكم يكون مقدَّماً لشريعة الإسلام على عقل الإنسان، وليس العكس، ثمَّ لو تحاكمنا للعقل فلأي عقل نتحاكم ونحتكم؟ إلى عقلك يا (جمال) أم إلى عقل مَنْ؟(/13)
إنَّ العقول مختلفة، والآراء بعدها ستكون متضاربة، وإنَّ أفضل حل أن نجعل الوحي والنقل هو الحكم على اختيارات العقل، فهناك عقول كبيرة وعقول صغيرة، وهناك عقول كليلة وعقول صحيحة، وهناك عقول ذكيَّة وعقول غبيَّة، فأفضل طريق لنا لكي نوحد مصدر التلقي أن تكون الشريعة والوحي حاكماً على العقل، ولن يتعارض العقلُ الصحيح مع النقل الصريح كما قرَّره علماء الإسلام.
وللَّه درُّ الإمام ابن قتيبة إذ قال عن هؤلاء المتَّبعين لمنهج تقديم العقل على النقل: (وقد كان يجب -مع ما يدَّعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر- ألا يختلفوا كما لا يختلف الحُسَّاب والمسَّاح والمهندسون؛ لأن آلتهم لا تدلُّ إلاَّ على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذَّاق الأطبَّاء في الماء وفي نبض العروق؛ لأنَّ الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد؛ فما بالهم أكثر الناس اختلافاً، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين) (انظر:تأويل مختلف الحديث/ص63). وصدق الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
(7)
السنَّة في نظره موضع شك وريبة
يقول جمال البنَّا: "إن السنة بما دخلها من الوضع، وبما أدرجه رواة السنة الموثقون من كلامهم في متن الحديث، وما لحق الحديثَ من شذوذ واضطراب ورواية بالمعنى، كل هذا جعل السنة كلها في موضع الشك والريبة بحيث لم تعد محلاً للثقة والاعتماد"[12](/14)
قد يرى بعضُهم أنِّي قد بالغتُ في اتهامي لجمال البنا بإنكاره لما انفردت به السنَّة النبويَّة المطهَّرة بالأحكام عن القرآن، أو أنَّها جاءت بتفصيلات إضافة على ما في كتاب الله -عزَّ وجل-، ولكن ما ذكرته آنفاً نصُّ كلامه، وهنا يتَّضح مرادُ هذا الرجل؛ حيث إنَّه ينظر النظرة الكالحة للسنَّة النبويَّة المطهرة، ويرى أنَّها اختُرِقت من قبل الرواة، وأدرجوا فيها كلامهم، وعلى هذا فإنَّ أفضل حل عنده أن يجعل السنَّة محلّ شك وارتياب -عياذاً بالله-، وأنَّه لا يجوز روايتها؛ لأنَّها لم تعد محلاً للثقة والاعتماد، وصدق من قال:
يقولون: هذا عندنا غير جائزٍ ومن أنتم حتَّى يكون لكم (عندُ)؟!
فليبيِّن إذاً ما المواضعُ التي حصل فيها شذوذ واضطراب؟ ولا يلقِ الكلام جزافاً، فإنَّ له أهلَ الحديث المتخصِّصين الذين سيفرمون أقواله فرماً، ويوضِّحون عوارها وضلالها.
ومن كان لديه أدنى إلمام بهذا العلم فسيعلم أنَّ (جمالا) يتحدَّث فيما لا يعلمه ولا يحسنه، وعلى غير قواعد علماء الجرح والتعديل، فهو يحكم بالشذوذ والاضطراب والضعف والنكارة على أحاديث بمقتضى ما يمليه عليه هواه، دون أثارة من علم، ولا مستند من قواعد منهجيَّة وأصول مرعيَّة حكاها أهل العلم أو أجمعوا عليها.
فمن أين أو أنَّى وكيف ضلالهم هدى، والهوى شتَّى بهم متشعِّب؟!
(8)
إلغاؤه لجهاد القتال
يرى (جمال البنا) أنَّ الجهاد في سبيل الله أُلغِيَ؛ فيقول: "أمَّا جهاد اليوم بلفظه فهو جهاد بلا قتال، وإنَّ جهاد القتال أُلغي!"[13](/15)
وجواباً عنه؛ فلا أدري أين سيذهب (جمال البنَّا) بمئات الآيات والأحاديث التي تأمر بجهاد الكفَّار والذي يعني القتال في سبيل الله، والتي توضِّح أنَّ علم الجهاد لا يزال قائماً حتَّى قيام السَّاعة، ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد من حديث ثوبان -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
وروى الصحابي الجليل عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك).
وفي حديث جابر بن سمرة مرفوعاً إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: (لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقوم الساعة)، وكلُّ هذه الأحاديث في صحيح مسلم!
وفيها برهان واضح أنَّ راية الجهاد والقتال في سبيل الله ستكون خفَّاقة عالية مرفوعة إلى قيام السَّاعة، والله تعالى يقول في محكم التنزيل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وفي هذه الآية برهان واضح، ودليل ساطع على وجوب الدفاع عن أراضي المسلمين، وذلك حين يحتل الكفَّار أراضي المسلمين وديارهم، والخلاصة التي نستوحيها ونفهمها من كلام (جمال البنَّا) أن ننحني أمام المحتل الأمريكي والصهيوني والروسي والهندوسي الغاشم في بلاد الإسلام (فلسطين - العراق - أفغانستان - الشيشان - الصومال - كشمير) ويهنأ الكافر المحتل في احتلاله لبلاد المسلمين بلا مقاومة جهاديَّة عسكريَّة!!
(9)
تجويزه نكاح المتعة بدون ولي ولا شهود
يجوز نكاح المتعة، كما يرى صحة الزواج بلا ولي ولا شهود![14](/16)
بهذه الفتوى يبيح (جمال البنَّا) لعموم المسلمين الزنى -عياذاً بالله- في صورة باطنية (حيث نكاح المتعة بلا ولي أو شهود)، مع أنَّ جماهير علماء المسلمين أطبقوا على نسخ نكاح المتعة، وأنَّ الأحاديث المجيزة له قد نسخت إلى يوم القيامة؛ فقد أخرج البخاري -رحمه الله- من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحُمُر الإنسيَّة)[15]، وفي حديث الربيع بن سَبْرَة عن أبيه أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- نهى عن نكاح المتعة [16].
والحقيقة أنَّ (جمال البنَّا) قد شابهَ الروافضَ الشيعة الإماميَّة في قولهم بجواز نكاح المتعة بغير ولي أو شهود، وكتبهم تطفح بذلك، فليرجع لها من أراد التوثق من ذلك، وليهنأ (جمال البنَّا) بمشابهته لهم، والحمد لله:
ففي السماء طيور اسمها البقعُ إنَّ الطيورَ على أشكالها تقعُ!
(10)
تجويزه لكشف المرأة عن شعرها وصلاتها كاشفة الشعر
يجوِّز جمال البنا للمرأة المسلمة أن تكون كاشفةً عن شعر رأسها، وذكر أن شعر رأس المرأة ليس من الزينة المأمور بتغطيتها، ولهذا فإنَّه يرى أنَّ شعر المرأة ليس عورة، إذ قال: (القرآن الكريم لم يأمر صراحة إلاَّ بستر الجيوب أي فتحة الصدور وإدناء الأزياء)[17] بل يمكنها برأي (جمال) أن تؤدي صلاتها بمفردها وهي كاشفة الشعر .[18](/17)
حين يستجمع المرء شُعَبَ الضلال فإنَّه حتمًا سيرتكس في حمأة الأقوال الضالَّة؛ فمن أين أتى جمال بجواز كشف المرأة عن شعر رأسها؟ وما دليله على ذلك؟ مع أنَّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31]، وقد روى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المرأة عورة؛ فإذا خرجت استشرفها الشيطان"[19] وقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن المرأة بأنَّها عورة؛ لفتنتها للرجال؛ فكيف تبيح الشريعة إخراج شعرها أمام الرجال، والشعر زينة للمرأة، بل هو علامة على جمالها؟
ثمَّ ما دليل جمال على جواز كشف المرأة في الصلاة عن شعرها؟ مع أنَّه -عليه الصلاة والسلام- قال كما في حديث عائشة -رضي الله عنها-: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" أخرجه الخمسة إلا النسائي.
والحائض هي المرأة البالغة، قال ابن قدامة في المغني: "أجمع أهل العلم أن المرأة تخمر رأسها إذا صلت؛ فإن صلت وجميع رأسها مكشوف فقد أجمع أهلُ العلم على وجوب إعادة الصلاة" وقال الشوكاني -رحمه الله-: "والحديث استدل به على وجوب ستر المرأة لرأسها"[20]ولهذا فإذا صلَّت المرأة وكشفت عن شعرها في الصلاة فإنَّ صلاتها باطلة على رغم أنف جمال بإجماع العلماء!
هذا عرض مع مناقشة يسيرة لبعض الأقوال الضالَّة لهذا المدعو زوراً بالمفكِّر الإسلامي، مع أنَّ له أقوالاً وضلالات كثيرة ومنها:
تجويزه لإمامة المرأة للرجال مطلقاً، وقد ذكر ذلك في كتابه (جواز إمامة المرأة للرجال) والكتاب واضح من عنوانه!
وقوله بأنَّ التدخين لا يفسد الصوم!
وتأييده الأخذ من فوائد البنوك (الربا) إن كانت للمودع؛ بدعوى ربطها بعدم الاستغلال إن كانت للمقترض!
وإنكاره لحدِّ الرجم للزاني المحصن!
وإنكاره لحدِّ السارق!
وتجويزه بأن تتزوج المسلمة من نصراني أو يهودي!(/18)
وسبُّه لجمع من صحابة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ومنهم الصحابي وكاتب وحي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ قال عنه: (معاوية بن أي سفيان لو لُعِن من سنة 40 هجرية، عندما جعل الخلافة ملكًا عضوضا، حتى اليوم فهذا إنصاف؛ لأنه من سن سنة سيئة عليه وزرُها حتى يوم القيامة، خاصة عندما يحول الملك الشورى القائم على المبايعة والشعب يراقب الحاكم ويعزله عند الضرورة إلى ملك عضوض يقول الرجل فيه: من قال لي اتق الله قطعت عنقه)[21]
وكذلك من الأقوال الشنيعة التي قالها الضال (جمال البنا) عن الصحابي معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- ما نصُّه: (معاوية بن أبي سفيان الذي يترضَّى عليه السلف (أي يقولون رضي الله عنه)؛ لأنَّه من الصحابة! كان الرجل الذي انبعث كما انبعث أشقاها ليشق صفوف المسلمين ويفرقهم ويجعلهم يحاربون بعضهم بعضاً...)[22]
ومن أقواله الغريبة والمضحكة في الوقت نفسه، والتي لا تحتاج لنقد بل لاستغراب وتعجُّب؛ ما أفتى به قائلاً: (ويجوز للمرأة أن تتيمم بدلا من الوضوء بالماء إذا كان الماء يؤذي جمال وجهها،كأن يظهر من أثر الوضوء في الشتاء ما يشين هذا إذا كان الوضوء يؤثر على جمال المرأة في وجهها)[23]ا.هـ.
قصدتُ من ذكر هذه الآراء التنبيهَ على الآراء الخطيرة التي يحملها (جمال البنا)، وخصوصاً أنَّه يطرحها ويسوِّقها في وسائل الإعلام.
ومع أقواله تلك التي بان ضلالها وفسادها، فإنَّنا – مع الأسف - نشاهد مقابلات إعلاميَّة أو صحافيَّة معه يصفه فيها كثيرٌ من الإعلاميين والصحافيين بأنَّه مفكِّر إسلامي، أو رجل ذو ثقافة واسعة!
وما هو إلاَّ محتال على دين الله، ومتتبع لزلاَّت العلماء ورخصهم، ومحرِّف لمراد الله ومراد رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فشتَّان بينه وبين أهل العلم أأأو الفكر الراسخين!
هل جمال البنَّا مفكر إسلامي؟(/19)
من المعروف أنَّ (جمال البنا) اشتُرِيَ من قِبَلِ أرباب الضلال، وأعطي شهاداتٍ وألقاباً، إذ إنَّه لم ينل الشهادة الثانويَّة، وذلك ليضرب الإسلام من الداخل، مع أنَّه في حقيقة الأمر لم يستطع سوى إثارة فرقعات ليس إلاَّ!
كما أنَّ اسمه قد استُغلَّ ليظهر في الوسائل الإعلاميَّة؛ باعتباره أخاً شقيقاً للشيخ حسن البنا -رحمه الله-، مع أنَّنا حين نراه يتحدَّث في وسائل الإعلام، ندرك أنَّ الرجل أقرب إلى السذاجة والهوى من الطرح العقلاني.
كما أنَّ من يتابع سيرة هذا الرجل فسيدرك عمق اتِّصالاته مع مركز ابن خلدون الذي يديرُه ويشرف عليه العلماني سعد الدين إبراهيم، بل لقد اعترف جمال البنَّا بأنَّه عضو من أعضاء مجلس الأمناء في هذا المركز العلماني، في حوار أجراه معه موقع اسمه (عربهم) فاعترف أنَّه عضو في المركز وأمين من أمنائه[24]!
ومركز ابن خلدون مشتهر ومعروف عنه عمق الصلة مع الجهات الأمريكيَّة، والمدعوم من قِبَلِها كما أنَّ (جمال البنا) ممَّن يُشهَد لهم ويُعرَفون بحضورهم المؤتمرات الأمريكيَّة عميقة الصلة مع مؤسَّسة (راند) التي أقيمت بمصر.
(جمال البنَّا) صدرت فيه تقارير من مجمع البحوث الإسلاميَّة في مصر، والتي حكمت بكفر بعض أقواله التي جاءت في بعض كتبه التي خاضت في الزندقة والفساد والفكري، بل إنَّها منعت وأمرت بمصادرة كتابه (مسؤولية فشل الدولة الإسلاميَّة في العصر الحديث) ومنعه من الطبع والتوزيع، للضلالات والترَّهات التي ذكرت فيه!
ومع هذا فالعجب العجاب أن نقرأ عنه في وسائل الإعلام أنَّه مفكر إسلامي! فأي تفكير إسلامي يحمله هذا الرجل، وهو ينسف عرى الإسلام عروة عروة؟!
لقد فضح (جمال) نفسه، في مقابلة مع "رويترز" حين سئل عن علاقته بأخيه الشيخ حسن البنَّا -رحمه الله- فقال: (كنت دائماً مستقلاً. أنا وأخي لدينا وجهات نظر مختلفة. لقد كان مسلماً تقليدياً تماماً، بينما تلقيت أنا تعليماً علمانياً"[25]!!(/20)
وهذا نصُّ ما قاله (جمال البنَّا) عن نفسه، فكيف إذاً نطلق على هذا الذي تلقَّى تعليماً علمانياً، ونقول بأنَّه مفكِّر إسلامي؟!
نعم! لا يُلام بعض الإعلاميين حين يطلقون عليه ذلك؛ لجهلهم وعدم معرفتهم بحقيقة هذا الرجل، وأقواله الضالَّة، وكما قيل: فاقد الشيء لايعطيه!
ولكنَّ هناك كثيراً منهم يتلقَّط هذه الفتاوى، ليسيء بها إلى أسماعنا نحن المسلمين، وحقيق بـ (جمال البنَّا) أن يقال فيه ما قاله بعضُ العلماء في فقهاء الجهل والضلالة:
وقال الطانزون له: فقيه فصعَّد حاجبيه به وتاها
وأطرق للمسائل:أي بأني ولا يدري لعمرك ما طحاها
المأمول من علماء المسلمين ومفكريهم:
من هذا المقال فإنِّي أوجه دعوةً للعلماء والدعاة بأن يقوموا بنقض أقواله، ليعرف قبح ما رأى وفساد ما قاله! وعلى رأسهم مجمع الفقه الإسلامي فهو على رأس القائمة، التي ينبغي لها أن تمتطي ركاب الذب والدفاع عن مبادئ الإسلام، وكشف عوار المتسلِّقين والمفسدين لنصوصه وتعاليمه.
إنَّ من المهم بمكان أن يقرأ العلماءُ كتبَ هذا الرجل، ويصدروا الحكم اللائق به، ويثبتوه عليه في المحاكم -هذا إن حكمت عليه بما قيل عنه- ثمَّ ينال جزاء ما قاله وكتبه من أقوال ضالَّة؛ فقد ارتقى مرتقى صعباً أنَّى له الوصول إليه، وهو ما بين وقت وآخر يستصدر حكماً من عقله (المضطرب) لإلغاء قضيَّة من قضايا الشريعة.(/21)
وما زالت قناعتي تزداد بأنَّ هذا الليبرالي أولى أن يسمَّى بـ(جمال الماجن)، ولقد عقد قديماً بعضُ علماء الحنفيَّة فصولاً في كتب الفقه في باب (الحجر) حول ضرورة الحجر على من أسموه بالمفتي الماجن، بل لقد جعل الإمام أبو حنيفة (المفتي الماجن) أحطّ من منزلة السفيه، مع أن مذهبه عدم الحجر على السفيه إن كان حراً عاقلاً بالغاً، وإنما استثنى (المفتي الماجن) من ذلك لعموم الضرر به في الأديان؛ فإنه يفسد دين المسلمين، ومن أراد التوسع فليرجع لبدائع الصنائع للكاساني، وتبيين الحقائق للزيلعي، وغيرهما من كتب الفقه الحنفي.
وقد نقل الإمامُ ابن القيِّم عن أبي الفرج ابن الجوزي قوله: "... وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق, وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة, وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس, بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم, وإذا تعيَّن على ولي الأمر منعُ من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى؛ فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة, ولم يتفقه في الدين ؟".
ثمَّ قال ابن القيِّم -رحمه الله- عن شيخه ابن تيميَّة: "وكان شيخنا -رضي الله عنه- شديد الإنكار على هؤلاء, فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسباً على الفتوى؟! فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟!"[26].
فأين المؤسَّسات والمجامع والهيئات العلميَّة والعلماء الذين يستطيعون فضح هذا الرجل وإسكاته أو الحد من خروجه في وسائل الإعلام للتحدث في كل مسألة وكأنَّه بها إمام، وفي فهمها همام، وما هو إلاَّ مخرِّب وللدين هدَّام.(/22)
وأخيراً: ما أحسنَ أن نروِّح عن أنفسنا بقوله -تعالى-: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 8-9].
ولو أنَّ (جمال البنَّا) عرض تلك الآراء على علماء الشريعة المتخصِّصين، حتَّى يعلم جرم ما قاله وأن فهمه كان مخالفاً للصواب؟ لكنَّه – مع الأسف- لا يعتدُّ إلاَّ برأيه، بل نظرته للفقهاء المعاصرين نظرة سيئة للغاية، إذ لا يرى أحداً منهم يستحق أن يعرض فكره ورأيه عليه، أو أن يشاوره به، وهذا أمر ملاحظ في كتاباته، وخرجاته الفضائيَّة.
كتبت هذا التعقيب والتوضيح في التنبيه على ضلالات (جمال البنَّا)، توضيحاً لضلال من ضل، خشية أن يفتتن به بعضُ الناس، ورداًَ وذباً عن حمى الشريعة.
نعم... قد يكون في الكلام قسوة، وفي النقاش شدَّة، بيد أنَّ من قسا على الشريعة، وأراد ضربها بمعاوله الرديئة، فينبغي أن يُقْسَى عليه، وقد قيل:
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
لا بدَّ يوماً أن تُصادي فاصبري
كما ينبغي أن يُعْلَم أنَّ خلافنا مع جمال البنَّا، ليس خلافاً يسيراً يُعذرُ المخالف بمخالفة المسلمين فيه، بل هو خلاف في مبادئ الشريعة وثوابتها أصلاً!
اللهم إنِّي أسألك بهذا التوضيح لضلالات هذا الرجل القبول والأجر، وأسألك الثبات حتَّى الممات، وأن تحمينا وتعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله حمدًا كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبه ربنا ويرضاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بتصرف يسير من: المصلحة في التشريع الإسلامي، للدكتور مصطفى زيد، ص217، وفي هذا الكتاب قطعة من شرح الطوفي في شرح حديث (لا ضرر ولا ضرار) حقَّقها وعلَّق عليها الدكتور مصطفى زيد، وهي جزء من شرح كامل للطوفي للأربعين النووية.(/23)
[2] جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (1/784)، والبحر المحيط (6/326).
[3] جمال البنَّا: قراءة في مشروعه النقابي والفقهي، للأستاذ حسام تمَّام، على هذا الرابط:
http://www.alwihdah.com/view.php?cat=1&id=1364
[4] (ما هي المرجعية الإسلامية الملزمة: القاهرة: 15- 8- 2000).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه برقم (4886).
[6] سنن أبي داود (4604).
[7] الرسالة، للشافعي: ص78.
[8] كتابه:(الحرية ص77).
[9]http://www.aljazeera.net/NR/exeres/B8CF1D75-D8BC-45FC-864A-803C9DDA85C7
[10] جريدة القاهرة (15/8/2000).
[11] كتابه: لا حرج: ص94.
[12] (السنة في الفقه الجديد) لجمال البنَّا.
[13] (الجهاد أضغاث أحلام) لجمال البنا.
[14] انظره في كتابه: (مسؤوليَّة فشل الدولة الإسلاميَّة في العصر الحديث).
[15] صحيح البخاري برقم (4723).
[16] أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2505).
[17] (المرأة المسلمة، ص34).
[18] العربية نت، على هذا الرابط:
http://www.alarabiya.net/articles/2006/03/09/21816.html
[19] أخرجه الترمذي (117).
[20] نيل الأوطار (2/81).
[21] http://www.shiaparlement.com/modules.php?name=News&file=article&sid=1091
[22] انظر مقاله: هل للصحابة عصمة أو حصانة (2/2).
[23] http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?p=33608
[24] http://www.arabhom.com/chat/227200619.htm
[25] http://www.tunezine.com/breve.php3?id_breve=875
[26] أعلام الموقعين (4/167).(/24)
العنوان: جناية العلمانية على ((شقائق النعمان))
رقم المقالة: 139
صاحب المقالة: حيدر قفة
-----------------------------------------
الأديب الناشئ –وفي محاولته الأولى– يكون غير مستقر الرؤية، والغالبية العظمى من هؤلاء يكون عملهم الأول متصفًا بصفتين:
الأولى: أنّ فيه شيئًا من تجربته الخاصة، بل ربما في معظمها يتحدث عن نفسه، ذلك لأن محيطه وذاته هما الأقرب إلى إمكاناته الفنية، وليست له المقدرة بعدُ للابتعاد عن ذاته، ومن هنا تكون كتاباته أقرب للمذكرات أو الاعترافات، لكنها تكون مشحونة بالصدق، والعاطفة الجياشة، وإن كانت –على المستوى الفني– دون ذلك.
الثانية: أنه يحاكي السائد في مجتمعه من النماذج الأدبية التي تستهويه، لأنه يعتبرها الحائزة على جواز السفر إلى عالم الأدب والشهرة، وهما عالمان يدغدغان رؤاه وأحلامه، فهو يقلد هذه النماذج ويحوك على منوالها بكل إيجابياتها وسلبياتها، ولا يستقل بشخصيته، ويترسم لنفسه خطًّا مميزًا إلا بعد أن يترسخ قدمه، وتعلو قامته، عندها يستطيع أن يجاهر بخطه أو يتميز بنهجه. وقد يصبح فيما بعد صاحب مدرسة خاصة في هذا الفن من الأدب تخالف السائد المتعارف عليه.
وأديبتنا السيدة سحر ملص واحدة من هؤلاء، لاسيما في مجموعتها الأولى ((شقائق النعمان)) – التي نحن بصدد دراستها – وقد صدر لها بعد ذلك مجموعات أخر، لم أطلع عليها بعد، ولذا سيكون حديثي محصورًا في ((شقائق النعمان)) وحدها.
((شقائق النعمان)) مجموعة قصصية تقع في أربع وتسعين صفحة من القطع المتوسط، تحتوي على سبع عشرة قصة قصيرة، تدور كلها حول الهَمِّ الأنثوي العام:
طفولة الطفلة، ومعاناة الصبية، وحُرقة الشابة في البحث عن زوج أو انتظاره، وحنين المرأة للأمومة، ومعاناة الزوجة لهجر الزوج، وربما تجنح إلى تحميل الرجل وحده مسؤولية هذه المعاناة.(/1)
والملاحظ أنها في قصصها الأولى (ليلة زفاف، ليل بوذي، عشاء اللصوص، الهذيان، ليلة حب، السراب، حريق المدينة، اللحظة الحرجة، حصاد العمر) أي إلى ص51 كانت قصصها تحمل صدقًا في الإحساس، وعمقًا في المعاناة، فلكأني بها جزء من حياتها أو معاناتها، وإن لم تكن كذلك، فإنها تحمل الكثير منه.
على حين في القصص الأخيرة – أي القسم الثاني من الكتاب – كانت القصص تفوح منها رائحة الصنعة، لا حرارة التجربة، فكأنها قد وضعت لنفسها هدفًا في كل قصة تريد توصيله للقراء، بتعبير آخر، كانت قصصًا وليدة قصد وتعمد؛ لتبليغ رسالة محددة.
ويلاحظ القارئ أيضًا، أن ((الليل)) قاسم مشترك بين قصص المجموعة كلها، وهذا يقوي الإحساس بالمعاناة لدى النماذج النسائية التي طرحتها، فكما تقول العرب: ((الليل أخفى للويل))، وهنا يكون الليل رمزًا للقتامة التي تغلف رؤية المرأة للمستقبل، كما أنه الوعاء الذي يحمل أرقها وهمَّها وخوفها من المستقبل المجهول.
واستخدام الكاتبة لضمير ((المتكلِّم)) في البنية السردية لقصص المجموعة كلها له دلالته الخاصة، حيث يقوي الإحساس بصدق التجربة في بعض قصصها، وفي تقمُّص شخوص أخرى في قصص مماثلة، هذا من جانب، ومن جانب آخر يدل على قوة شخصية الكاتبة. وهذا الأسلوب في السرد القصصي يمكّن القاص من التعمق في نفسية الشخصية؛ حتى يستخرج من مكنونها الداخلي كل الانفعالات.(/2)
والسيدة سحر ملص سيدة مسلمة، من بيت طيب، له جذوره الممتدة في التقوى والخوف من الله، وهذا يجعلها دائمة الحنين إلى هذا النمط من السلوك، لكن فترة التفتح على الحياة، والتي تمثل عندها مرحلة الصبا الأولى، كانت في الستينات والسبعينات وفي هذه الفترة كان القدح المعلى في الفن القصصي – لاسيما عند النساء – لسيدات ثلاث هن: ليلى بعلبكي، وكوليت خوري، وغادة السمان، وهؤلاء الثلاث كُنَّ يمتلكن ثقافة أجنبية، مع افتتان بالغرب المادي بلغ حد الهوس، وكن يقدسن كلَّ شيء تأتي به الريح من أقطاره، ولو كانت رياح السموم، فكن يقدسْنَ ثقافته وأدبه تقديسًا يبلغ حد المعارضة للدين، وكل ما تعارف عليه أهل الشام من قيم، مع جرأة تبلغ حد القمة أحيانًا في طرح بعض الأفكار، والمجاهرة بسلوكيات يندى لها الجبين، وكُنَّ – تحت ستار الحرية والتحديث والتطور – يُرِدْن تجذير هذه الرؤى، وتجريء الفتيات والنساء على تحطيم كل القيم، بحجة محاربة التقاليد البالية، فكان إنتاجهن مما تخجل العذارى من قراءته في خدورهن.
وساعد في انتشار هذه النماذج، سيطرة العلمانية بكل اتجاهاتها – وعلى رأسها اليسار – على وسائل الأعلام، فدفعوا بهن إلى الصدارة، لتحطيم الدين والقيم.
في هذا الجو المحموم كان تفتح برعم سحر ملص الأدبي، وتلك هي النماذج التي تقلدها، وتنسج على منوالها، دون انتباه منها إلى خلفية هؤلاء النسوة الدينية، أو توجههن الفكري، وانتمائهن العقائدي (الأيديولوجي). ودون وعي منها استنشقت زفيرهن.
بهذه المقدمة عن خلفية الفترة التي تفتح فيها برعم سحر ملص الأدبي، ومكوناتها الثقافية نستطيع الولوج إلى مجموعتها ((شقائق النعمان)). بَيْدَ أنّ دخولنا عالم شقائق النعمان لا يعني أن نقف عند كل قصة، وحسبنا أن نشير إلى المكونات الأساسية للمجموعة كلها، وأظهر ما لفت نظرنا فيها.(/3)
فعلى مستوى اللغة، نجدها، تملك لغة قصصية جيدة، ولها تعبيرات رائعة، وصور جميلة، تتغلغل في نسيج قصصها كلها، مما يعجز الباحث أن يتقصاها كلها، أو يرهق القارئ في تتبعها، وحسبنا أن ندلل على قولنا ببعض هذه العبارات، فتقول: ((أنا كبرت وأحلامي صغرت، انفرطت حلمًا تلو الآخر ص7))، ((سندخل كهوفًا لن يجرؤ البرق على إضاءتها ص28)) ((سور واحد.. وطَرَقَاتُ الليل على الجدران التي كانت تنفذ عبر الزنازين ما زالت تطرق أذني، كنت أناغم الطرق بمثله، إيقاع طالبي الحرية لا يختفي عبر الزمن، يميزه حتى طفل رضيع تقيده ثيابه ص70)) وصور أخرى.
بَيْدَ أنَّ القاصة تقع في أخطاء، ربما سببها قلة التجربة، وعثرات بداية الطريق، وبُعد الاختصاص – فهي صيدلانية – وهيمنة لغة الجرائد والإعلام على الناس قاطبة. فعلى مستوى الكتابة تُغفل الهمزات في معظم ما كتبت، وتهمل استخدام علامات الترقيم – أو لا تراعي الدقة في استخدامها – مما يوقع القارئ في التباسات كثيرة، فعلى سبيل المثال تقول: ((أصِلُ قاعةَ المسافرين الأخيرة بانتظار ركوب الطائرة في الصالة، وجوه بشرية مختلفة عرب وأجانب ص9)) فوضع الفاصلة (،) بعد كلمة (في الصالة) جعل القارئ يظن أن الطائرة في الصالة، وهذا محال، وحق الفاصلة أن توضع بعد كلمة (الطائرة) ليستقيم المعنى. ومثله التعبير التالي: ((وجه أمي المشقق.. أمي الغسالة يطل أمامي ينضح عرقًا نديًا ص61)) وهو تعبير غير موفق، فإما أن تعيد كلمة (وجه أمي) بعد كلمة الغسالة، أو تضع (أمي الغسالة) بين شرطتين كجملة تفسيرية توضيحية.(/4)
وهناك أخطاء نحوية ولغوية وتركيبية، مثل: ((أين صدرك يتسع له رأسي ص5)) والصواب يتسع لرأسي، ((وتحمل النوعية نفسهما ص9)) والصحيح نفسيهما، ((ولم يترك نومًا في عيوني ص58)) بالجمع والصواب التثنية (في عينيَّ). أما في التركيب والمعنى، فهناك بعض الهنات مثل ((يحمل صلبانه ص11)) فهل للبوذي صلبان؟!، و((عمت صباحًا يا أستاذ ص77)) يقولها تلاميذ صغار في القرن العشرين، وما عليها لو قالوا: ((صباح الخير)) مثلاً بدلاً من ذاك التعبير المغرق في القدم، وتقول ((ربيبة روبرت ص92)) وتقصد زوجته أو حبيبته أو خطيبته، والربيبة هي ابنة الزوجة تعيش في كنف زوج أمها، وليست زوجة أو حبيبة أو خطيبة.
أما في مجال الأفكار، فتطرح أفكارًا مهمة، منها معرفة المخابرات بدقائق حياة الناس، إلا جوعهم ومعاناتهم، فلماذا؟! ص81، وسلبية الناس العاديين أمام الأحداث الجسام، لاسيما التي تمس حياتهم ومستقبلهم، تاركين المجاهدين أو أهل المبادئ لمصائرهم، فهل كان صراع هؤلاء وجهادهم لمصالحهم الشخصية، أم للوطن والجميع، فلماذا يخذلونهم ص83.
أما المنحى الإسلامي في المجموعة فهو ضعيف جدًا لدرجة العدم، بل هناك ما يناقض التصور الإسلامي، فقولها: ((أحببت البوذي تمامًا كالمسلم أو المسيحي ص41)) لا يتفق مع التصور الإسلامي، بل ينقضُه من أساسه، ويمس العقيدة مسًّا مباشرًا. وتقول: ((ليلة عرسنا وخمرنا ص74)) فتربط الفرح بمعصية الله. وتقول: ((ومن تمنح جسدها دون قلبها أو فكرها فهي عاهرة وإن أيدتها مئات الأوراق الرسمية وباركت زواجها ص86)) وهذا التفكير الخاطئ نتج عن التضليل الذي يمارسه تلاميذ المدارس الغربية في الفكر، المتسترين خلف الحرية الشخصية.
وهذه مجرد إشارات لجناية العلمانية عليها، لكن الأمر يتضح عند بروز أربعة محاور أساسية في قصصها تجعلنا نؤكد وقوعها ضحية الفكر العلماني بكل ثقله وسلبياته، بعيدًا عن زخارف القول التي يضللون بها الناس.(/5)
فالمحور الأول: عنايتها بالبوذية واهتمامها بها، حتى أفردت قصة تحمل العنوان ((ليل بوذي ص9)) ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتجاوز إلى الإعجاب والتأسي والاستشهاد بكلمات بوذا، انظر على سبيل المثال الصفحات 9،66،68،77.
المحور الثاني: سيطرة الفكر النصراني عليها، فتعبيراتها نصرانية في كثير من المواضع قد لا نجد مثلها عند الأدباء النصارى أنفسهم، حتى الصلاة لا تكون إلا عند الخوف، ودعوات في السر، فضلاً عن تعبيرات مثل الصلب، الصليب، أشبينة، إكليل، صاحب النيافة... إلخ وهي إشارات كثيرة جدًا، ومتغلغلة في نسيجها اللغوي، لا في مواقف متعلقة بالنصارى حتى نجد لها مبررًا أو عذرًا.
المحور الثالث: التعامل مع الفكر الوثني على أنه ثقافة راقية تستحق الاهتمام والفخار بلبس لباسها، فالآلهة عندها متعددة، (آلهة العجز ص21) (آلهة الحب ص26) (آلهة الصدق ص50) (آلهة الخلود ص74) (آلهة الخصب ص84) (آلهة الصمت ص90) فلكل شيء عندها إله، ولكل إحساس إله، ولكل هَم إله، ولكل سرور إله؟!! هذا فضلاً عن التعبيرات الأخرى التي تصب في المجرى نفسه مثل: ((صليت لسمائي شاكرة سخاءها حيث جمعتني بك ص42)).
المحور الرابع: الجرأة في طرح الجنس بصور وكلمات وتلميحات وتصريحات تجاوزت العشرين مرة تقريباً، على طول المجموعة، مما يعيد للذاكرة تأثير مدرسة نوال سعداوي وضريباتها وأثرهن في جيل الستينات والسبعينات.
ونحن نأمل أن تتجاوز القاصَّة هذه المزالق الخطرة، لتعطي الناس أدبًا راقيًا يليق بها كعربية مسلمة واعية تتحرق شوقًا لعالم الطهر والورع والإنابة.(/6)
العنوان: جوانبُ اقتصادية من كلام خير البرية
رقم المقالة: 1990
صاحب المقالة: أنس محمد خير يوسف
-----------------------------------------
إنَّ صلةَ الاقتصاد الإسلامي بالشريعة الإسلامية صلة مستمرة؛ فهي كل متناسق؛ من الجانب الروحي الذي يشمل العلاقة بين الإنسان وخالقه، ومن الجانب الاجتماعي الذي يقوم على المساواة بين الناس المنتمين إليه كافةً في الحقوق والمكانة الاجتماعية على أساس المودة والرحمة وحسن الإدارة والنظام، ومن الجانب السياسي الذي يقوم على أساس الالتزام بالأصول والمبادئ الإسلامية، ومن الجانب الخلقي الذي يشمل الصفات الشخصية التي تتمثل في الصدق والأمانة والوفاء والعدالة والتراحم والسخاء وسعة الأفق والصبر والحلم والشجاعة وغيرها مما اتّصف به نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- فصدقُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمانته قد جعلت المشركين يتخبطون في الحكم عليه، فمرةً يقولون ساحرٌ، ومرة يقولون شاعر، ومرة يقولون كاهن، ومرة يقولون مجنون. فهم يعلمون جميعاً براءته -صلى الله عليه وسلم- من هذه الأوصاف والألقاب الذميمة. فقد كان يُعرف بالأمين، وهو لقب لا يتصف به إلا من بلغ الغاية في الصدق والأمانة..
"أما الجانب الاقتصادي فقد وضع الإسلام فيه قواعد، وقرنها بضوابط وحدود؛ فالشرع يقيّد نشاط الفرد بعدد من القواعد مراعاةً لمصلحة الجماعة، ثمّ يفتح له المجال واسعاً للعمل واكتساب الثروة بالطرق المشروعة والنافعة له وللمجتمع، ويحفظ له ملكيته مع تحديد تصرفه فيها.. والإسلام يمنع الفوارق والامتيازات دون وجه حق، ويمنع تقييد الحريات في سبيل العمل واكتساب الثروة، ويُلزم المجتمع بعدم تعطيل الموارد ويوجب تنميتها لتحقيق العدلة. والنظام الاقتصادي لأي مجتمع هو وليد مفهوم المجتمع للعدالة الاجتماعية وتجسد ثقافته وظروفه وتطوره..."[1].(/1)
كما أمر اللهُ -سبحانه وتعالى- الإنسانَ بعمارة الأرض؛ وذلك باستخدام كل ما فيها من موارد ظاهرة وباطنة بالبحث والدراسة وتطوير العالم وتوفير الحوافز اللازمة لذلك، وسخر الله للإنسان سبل العيش وكسب المال، ورَزَقَهُ من الطيبات، ومكنه من العمل، ووعده بحسن المثوبة لمن أطاع واتقى؛ فقال سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 105] فالمطلوب: العمل وأداء الواجب بما يتحقق به نفع الناس والمجتمع..
"وقد ذكر ابن تيمية أن طائفة من العلماء يرون أن أصول الصناعات كالفلاحة والحياكة والبناية وصناعة السلاح والتجارة فرضٌ على الكفاية عند حاجة المجتمع"[2].
والمطّلع على أقوال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأوامره ونواهيه يجد جلياً الضوابطَ التي يجب الالتزام بها في جميع فنون الاقتصاد؛ وهدفها الواضح هو تنظيم الاستهلاك وربطه بظروف المجتمع وتوفير مبدأ التوازن والدقة في التعمير..
فقد جاء نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- بتحريم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه وذلك لِما ظهر من الفساد الذي يترتب على الإقدام على ذلك، فالخمر سبب زوال العقل الذي أنعم الله به على البشر وميزه به عن غيره من الكائنات، كما ثبت ضرر الميتة والخنزير على جسم الإنسان وصحته لذا فقد حُرّم بيعه وشراؤه والتعامل به.(/2)
وقد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي في جميع المعاملات بلا استثناء؛ فالرشوة آفة عظيمة ووبالها كبير على المجتمع، فهي تحق الباطل وتبطل الحق، وتقلب الموازين في المجتمع، وبها يسود الأمرَ من ليس أهلاً له، كما أنها تدمر الموارد المالية للمجتمع؛ فقد تحقّ باطلاً وتقر مشروعاً لا يكون فيه نفع حقيقي للمجتمع وإنما يُدِرّ الربح الوفير لصاحبه، وقد تدمر الرشوة حياة أفراد ومجتمع إن كانت في إنتاج الدواء أو الغذاء أو المباني المخالفة التي يترتب عليها الانهيار وإزهاق أرواح الناس، كما أن تفشي ظاهرة الرشوة في أي مجتمع من المجتمعات مُؤذِنٌ بتدمير أخلاقيات هذا المجتمع وقيمه وتزيل الثقة بين أفراده، وتؤدي الرشوة إلى عدم المبالاة والتسيب وعدم الولاء والانتماء والإحباط في العمل، وكل هذا يعد عقبة أمام التنمية.
وقد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا ومُوكِلَه وشاهديه وكاتبه بُغية تنظيم الاستهلاك ووقوفاً مع الفقير؛ فالربا يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، يقضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض، والقول بتجويز عقد الربا تمكين للغني من أن يأخذ من الفقير الضعيف مالاً زائداً، ويقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض؛ لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة، سيحصل له زيادة درهم من غير عوض، ومال الإنسان متعلق حاجته، وله حرمة عظيمة كحرمة دمه.(/3)
كما وقف رسولنا العظيم -صلى الله عليه وسلم- في وجه الاحتكار حفاظاً على اقتصاد المجتمع فقال "من احتكر فهو خاطئ" (رواه مسلم)؛ فالضرر بيّن في هذا ولا يخفى على عاقل؛ "والاحتكار هو حبس ما يحتاج إليه الناس، سواء كان طعاما أو غيره، ممّا يكون في احتباسه إضرار بالناس، ولذلك فإنه يشمل كلّ الموادّ الغذائيّة والأدوية والثياب ومنافع الدُّور والأراضي، كما يشمل منافع وخبرات العمال وأهل المهن والحرف والصناعات، إذا كانت تحتاج إلى مثل تلك السلع والمنافع والخدمات، وقد ظهر بهذا البيان بجلاء أنّ الاحتكار نوع من أنواع الظلم الذي يلحق عباد الله، ومن هنا يحكم بتحريمه، باتفاق الأئمة الفقهاء الأربعة وغيرهم، والتعامل بهذه الصورة هو الذي تلجأ إليه الشركات الصناعيّة، إذ تعتمد وكالات لها في مختلف الأسواق، ولا يكون التصرّف إلاّ من خلالها، وهناك صورة بشعة من صور الاحتكار تمارسها بعض الدول للتخلص من فائض إنتاجها عن طريق إتلافه أو رميه في البحر، كما تفعل الولايات المتحدة في مادّة القمح، وكما تفعل البرازيل في القهوة، رغبة في بقاء السعر مرتفعا. ذلك أنّ بقاء الفائض يؤدي إلى زيادة العرض وقلة الطلب، مما يؤدي إلى رخص الأسعار، وهو الأمر الذي لا يراد من الوجهة الاحتكارية. ومع الأسف فإن مثل هذا الأسلوب القذر نخشى أن يصل إن لم يكن قد وصل بلادنا، واستورد كما استورد البعض من بني جلدتنا القيم والمبادئ الهابطة"[3].(/4)
كما حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الغش فقال: "من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا" (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فغشهم فهو في النار" (رواه الطبراني وصححه الألباني)، فقد حُرّم الغش والخداع في التعامل؛ لأن مبنى التعامل في الإسلام يقوم على الصدق والأمانة، ولكن بعضاً من سفهاء الناس لا يراعون حِلاً ولا حرمة في معاملاتهم، يتعاملون بأساليب متعددة لغش الناس بقصد زيادة أموالهم، وقد بيّن لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن فعل ذلك ليس جائزاً في منهج الإسلام القائم على الصدق والأمانة.
كل ذلك جاء توقيراً لحرية المنافسة.. فالإسلام أطلق الحوافز بشرط عدم الإضرار بالاكتناز أو الربا أو الاحتكار وغير ذلك، فضلاً عن السماحة التي تجلّت في دعوته-صلى الله عليه وسلم- الكريمة في التعامل؛ ويمكن أن نستطرد ونتذكّر منها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" (متفق عليه)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحافز على العمل: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" (متفق عليه)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "على كل مسلم صدقة، قيل أرأيت إن لم يجد؛ قال يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق" (متفق عليه).
وأخيراً فقد جاء تقدير العمل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعاما خيرًا من أن يأكل من عمل يده" (متفق عليه)، فكل الأعمال تحقق العفة والنفع وتحجب المسألة... نسأل الله الكسب الرزق الحلال..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: النظام الاقتصادي الإسلامي، د.محمد عبد المنعم عفر (ص154).
[2] من كتاب "أصول الاقتصاد الإسلامي - الجزء الأول - د.محمد عبد المنعم عفر ويوسف كمال محمد (ص132).(/5)
[3] انظر خطبة الأستاذ مراد أبو عمارة إمام مسجد "التقوى"، باب الوادي، الجزائر العاصمة على الرابط التالي:
www.marwakf-dz.org/rissala-masjed/Edition1/13.doc.(/6)
العنوان: حاجة الطالب الجامعي إلى مقررات الثقافة الإسلامية
رقم المقالة: 1114
صاحب المقالة: د. رقية بنت نصر الله
-----------------------------------------
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، أما بعد:
فإن الاهتمام بالشباب وإعداده وتأهيله لتحمل المسؤولية ومواجهة التحديات والصعوبات باتت قضية عظيمة، أشغلت المسؤولين، والمصلحين، والمفكرين، في هذا البلد المعطاء، وقد دفعت هذه القضية مؤسساتنا المختلفة إلى تبني دراسات واجتماعات أسهمت في تحقيق الخير الوفير لأجيالنا الصاعدة.
ولقد كان لمؤسساتنا التعليمية والتربوية دور مهم في هذا الجانب؛ حيث تمخض عن هذا الدور قيام "جامعة الملك فيصل" ممثلة في كلية "التربية" بالأحساء، بعقد ندوة علمية للبحث والنظر في مقررات الثقافة الإسلامية؛ لكونها المقرر الأكثر فاعلية في تشكيل ملامح الأجيال الجديدة.
ومما لا شك فيه أن النظرة الواقعية اليوم تؤكد أهمية قيام الجامعات بالبحث في قصورنا الثقافي، وتصورنا التربوي، كيف لا، والجامعات بيئات تربوية مهمة للغاية، ويكفيها أنه لا يمكن لأي إنسان في زماننا أن يكون له شأن ونفوذ في الحياة العامة من غير أن يتتلمذ فيها أو يقتبس شيئاً مما لديها من العلم والثقافة والمعرفة.
ونظراً لتغير كثير من التحديات التي تواجه الأجيال الجديدة، فقد بات على الجامعات العمل على أن تبني لديهم رؤية شاملة للحياة تنطلق من أفق معتقداتنا ومبادئنا، ومن ثم مما تراكم لدى العالم من خبرات قيمة.(/1)
ومع الأسف فإن كثيراً من الجامعات الإسلامية والعربية تركز على التخصصات والمعارف الجزئية المختلفة، ولا تهتم، أو تحاول غض الطرف، عن الثقافة الإسلامية؛ التي من مهمتها تشكيل نظرة كلية عن الله والدين والغيب والكون والحياة بجميع أنماطها، مما يمكن الطالب من فهم عميق وسليم لما يحيطه من أوضاع مختلفة يتحرك بنجاح على أساسها.[1]
ولقد حظيت بالمشاركة في هذه الندوة المباركة بموضوع "
س 1 - ما الخطر الذي يترتب على عزل الثقافة الإسلامية عن واقع الحياة العامة..؟
س 2 - ما الحاجات الأساسية لمقرر الثقافة الإسلامية بالنسبة للطالب الجامعي.؟
س 3 - لماذا نحرص على تدريس الثقافة الإسلامية تحديداً..؟
وقد كنت أهدف من هذه التساؤلات إلى إثارة الإحساس بأهمية الثقافة الإسلامية من حيث كونها زاداً أساسياً وضرورياً وحارساً أميناً يحمي الشباب من التحديات الخارجية والداخلية، ومن هنا جاء البحث في مقدمة، يليها مبحث تمهيدي، يأتي بعده مبحثان متتاليان، ثم خاتمة، وذلك على النحو التالي:
المقدمة:
المبحث التمهيدي: في بيان خطورة عزل الثقافة الإسلامية عن الحياة.
المبحث الأول: في بيان حاجات الطالب الجامعي الأساسية إلى مقرر الثقافة الإسلامية وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: حاجة الطالب الجامعي الدينية إلى الثقافة الإسلامية.
المطلب الثاني: حاجة الطالب الجامعي الخُلُقية إلى الثقافة الإسلامية.
المطلب الثالث: حاجة الطالب الجامعي الفكرية إلى الثقافة الإسلامية.
المطلب الرابع: حاجة الطالب الجامعي النفسية إلى الثقافة الإسلامية.
المطلب الخامس: حاجة الطالب الجامعي الاجتماعية إلى الثقافة الإسلامية.
المطلب السادس: الحاجة العُمْرِيَّةِ لطالب الجامعة إلى الثقافة الإسلامية.
المطلب السابع: الحاجة إلى الثقافة الإسلامية في تحقيق الانتماء.
المبحث الثاني: الحاجة إلى الثقافة الإسلامية تحديداً.
الخاتمة: وتشمل أهم النتائج والتوصيات.(/2)
نسأل الله تعالى أن نحقق الأمل المنشود، وبالله السداد والتوفيق.
المبحث التمهيدي:
خطر عزل الثقافة الإسلامية عن الحياة
إن من المآسي الحقيقية التي تلحق الأمم والشعوب انسلاخَها عن ثقافتها، والأمة التي تقطع الصلة بثقافتها إنما تتخلى عن حياتها وقوام وجودها.
لهذا تسعى الأمم الواعية جاهدة إلى تمكين الصلة بينها وبين ثقافتها، وذلك لعلمها الأكيد بأن الثقافة هي الصورة الحية للأمة، فهي التي تحدد ملامح شخصيتها وقوام وجودها، وهي التي تضبط سيرها في الحياة، وتحدد اتجاهها فيها.
إنها عقيدتها التي تؤمن بها، ومبادئها التي تحرص عليها، ونظمها التي تعمل على التزامها، وتراثها الذي تخشى عليه من الضياع والاندثار، وفكرها الذي تود له الذيوع والانتشار.
ولهذا تسعى هذه الأمة الواعية سعياً حثيثاً إلى ترسيخ ثقافتها وتعميقها في نفوس أبنائها، بل وتحاول جاهدة نشر هذه المفاهيم لدى غيرها، وتتخذ من أجل تحقيق ذلك وسائل شتى وطرقاً مختلفة، فتؤلف الكتب، وتعقد المؤتمرات، وتنجز الدراسات، وتصدر النشرات، و تصنع مناهج التربية والتعليم، وتستخدم بصورة عامة وسائل الإعلام والتوجيه لتوضيح هذه المفاهيم وشرحها، وبيان أسسها وحضارتها، وتفصيل وجوه النفع فيها[2] .
فإذا كانت هذه سمات الأمة الواعية، فإن الأمة المسلمة أولى بتحقيق ذلك، كيف لا...؟ وهي الأمة التي تملك ثقافة شاملة ومتوازنة، ثقافة ذات إمكانيات عالية، ثقافة فريدة في خصائصها، إنها ثقافة ربانية سماوية، أكرمها فاطر السموات والأرض بها {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[3] .(/3)
والحقيقة المرة هنا وجود نظرة مهزوزة للثقافة الإسلامية من بعض أبنائها، وما قيام بعض الدول العربية والإسلامية بتنحية مقرر الثقافة الإسلامية من مناهجها إلا خير شاهد على هذه الحقيقة المؤلمة، ناسين أن عزل الثقافة الإسلامية عن الحياة العامة سيتيح الفرصة لتغلغل الثقافة الأجنبية؛ مما يؤدي حتماً إلى إحداث تناقضات وتصدعات وصراعات في الحياة العملية والمعنوية، ويؤثر سلباً في الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية، والخلقية، والروحية.
ذلك لأنها ثقافات تتعارض مع المفاهيم والمعتقدات التي نشأت عليها وتواءمت مع نظرتها السليمة، والنتيجة أن مثل هذه الثقافة لا يمكن ان تقوم بعملية النهوض والنماء والبناء، يقول سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[4] .
ونؤكد على أن من أعظم الجرائم التي ترتكب في حق الأمم والشعوب المسلمة سلخَها عن ثقافتها الأصيلة؛ مما يؤدي إلى قطع صلتها بفاطر هذا الكون ومصرفه، وإن التفسير الحقيقي لهذا التصرف هو الافتتان بالثقافة المادية والتقدم والرفاهية الدنيوية، ولو كان ذلك على حساب الثوابت والقيم والمبادئ.
وإن احتضان مثل هذه الأفكار المادية الضيقة إنما هو نكسة عظيمة في التفكير، لا تدل على ضعف الإيمان، وسوء التربية، وسقوط الهمة، وقصر النظر وشقاء هذه البلاد فحسب، بل وشقاء العالم الإنساني كله أيضاً.(/4)
إن احتفاظ هذه الأمة بمركزها في العالم لا يمكن أن يكون إلا بالاحتفاظ بالشخصية الإسلامية وبمعرفة رسالتها والإيمان بقيمها، والتركيز على قيمة الآخرة وما بعد هذه الحياة، وإن التركيز على الجانب الروحي والخلقي من الحياة هو الخط الفاصل بين الثقافتين، ثقافة يوافق عليها الإسلام ويتحمل مسؤوليتها ويباركها، وتتجلي فيها الشخصية والأصالة والإتباع، وثقافة يتبرأ منها الإسلام، ويخسر فيها المسلمون، وتتجلي فيها العبودية والرضوخ والاستسلام، لا تعرف منها إلا تقليد الببغاوات، ومحاكاة القرود، والارتجالية، وتبرز مركب النقص، حتى أصبحت هذه الأقطار وكأنها نسخة مشوَّهة من المدنية والثقافة الغربية، وصورة شاحبة لها، لا تسترعي اهتماماً، ولا تحرك مشاعر الإجلال والاحترام، مذبذبين {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ}
لذلك نراهم يصغرون مقاماً ولا يكبرون، ذلك أن كل تقليد ثقافي بخلاف الإصلاح والتحسين والإبداع لا بد من أن يحقر الأمة ويقلل من شأنها[6] .
والتاريخ، بل والواقع، يحكي لنا صورة حية لدولة مسلمة، سادت العالم فترة ليست بالقصيرة، ولكن عندما انسلخت عن هويتها وثقافتها أصبحت كريشة في مهب الريح، تتقاذفها ريح الشرق والغرب. لقد نسي المسلمون دولة العثمانيين!! وأصبحت تركيا المعاصرة جاثية على عتبة أوروبا منذ ثلثي قرن، تتوسل العضوية، غارقة في التضخم والديون، لقد انسلخت عن ثقافتها الإسلامية ففقدت بذلك كل تراثها وأصبحت تسخر في الحلف الأطلسي، وتُصَدُّ عن الاتحاد الأوروبي، وارتدت بضربة واحدة إلى تخوم البربرية والتخلف من جديد[7] .
إن مصير الأمم المسلمة التي تتخلى عن ثقافتها لن يكون بأفضل حالاً من تركيا الإسلامية التي جمد الغرب قدرتها على التقدم الحقيقي(/5)
إننا في حاجة إلى هذه الوقفة مع هذا المبحث (خطر عزل الثقافة الإسلامية عن الحياة) لما له من أهمية في توضيح الحاجة الماسة إلى التمسك بثقافتنا، حتى لا نكون تحت تأثير سيطرة تبعية غريبة، تفقد بها شخصياتنا تميزها وجمالها، ثم ينتهي بنا الحال إلى الاضمحلال والزوال.
ومما لا شك فيه أن الحفاظ على هذه الشخصية من خلال الثقافة الإسلامية باتت حاجة ملحة في هذا الزمان المحفوف بكثير من الصعاب، والأمة القادرة على ذلك هي أمة خالدة- بإذن الله تعالى- كيف لا وصراع الثقافات أصبحت سمة هذا العصر، وهذا ما سنتناوله في الصفحات القادمة من هذا البحث، إن شاء الله تعالى.
المبحث الأول:
حاجات الطالب الجامعي الأساسية إلى مقرر الثقافة الإسلامية
إن من أهم ما يميز الأمم المتقدمة هو سمات شخصية أبنائها، وأي أمة لا تعي هذا الجانب يحكم عليها بالتخلف؛ ذلك لأن انهيار أسلوب الحياة وتدهوره في المجتمعات لا يحصل قبل أن يحدث نوع من التراجع في شخصية الأفراد.
ومعلوم أن بناء شخصيات الأفراد إنما يعتمد في المقام الأول على نوعية الثقافة؛ ذلك لأن الثقافة تسير مع حركة الأشخاص، وتتوجه بهم في كل المجالات، وتحقق لهم كل الحاجات الأساسية التي تؤمن لهم بيئة صالحة للحياة الكريمة. ولا شك في أن توفير الحاجات وإشباعها عنصر مهم لمن أراد تربيةً سويةً وبناءً متميزاً.
إننا ومن خلال هذه المبحث نسعى إلى إظهار دور الثقافة الإسلامية في تحقيق كثير من الحاجات الأساسية للجيل الجديد، في بيئة صالحة، هي البيئة الجامعية.
وذلك من خلال المطالب السبعة التالية:
المطلب الأول:
حاجة الطالب الجامعي الدينية إلى الثقافة الإسلامية:
من المسلمات التربوية أن كل مؤسسة تعليمية تحتاج إلى قاعدة ثقافية تربي أبناءها وتوجههم على أساسها، كما تحتاج إلى منطق موحد يصبغ خطابها التربوي.(/6)
وليس في ديار الإسلام ما يوفر تلك القاعدة وذلك المنطق سوى المفهومات والأدبيات الدينية المستخلصة من المنهج الرباني الأرشد.
ولما كانت الجامعات والكليات بيئات تربوية عليا متخصصة، ويرتجى منها في الأصل أن تقوم بوظائف تربوية متكاملة وشاملة لا تستطيع - في الغالب- المدارسُ العامةُ القيامَ بها، وذلك للنواحي الفكرية والاستيعابية للطلاب في تلك المرحلة العُمْرِية المبكرة.
ونحن لا ننكر أن التعليم العام في هذه الفترة المبكرة يعد الأساس العميق الذي يقوم عليه البناء التربوي، إلا أن الجامعات تشكل قمة الهرم لهذا البناء[12] .
من هنا كانت حاجة الطالب الجامعي إلى تعميق الاتصال وتوسعته بالمفاهيم الدينية، ولا يمكن أن يتأتى ذلك لكل التخصصات إلا من خلال الثقافة الإسلامية، إن طالب الجامعة يحتاج إلى الثقافة الإسلامية لتزويده بالعقيدة الصافية من نوازع الشرك والشك والانحراف والبدع، وذلك لما للعقيدة من تأثير وسلطان على كل ما يتناوله الطالب ويمارسه في حياته، فإذا صلحت العقيدة صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
إن الطالب الجامعي يحتاج إلى ثقافة العبادات ليعرف ما شرعه له ربه، وما سنه له نبيه عليه السلام، على الوجه الصحيح، ليحصل على ثمرة العبادة الصحيحة من زيادة الإيمان، وتوثيق الصلة بخالقه، وتزكية النفس بالبذل والعطاء للمجتمع والأمة.
وتظهر حاجة الطالب الدينية إلى الثقافة الإسلامية للتخلص من التعصب المذهبي، فبدل أن يكون التعصب لآراء الرجال وأفكارهم وأقوالهم يكون تعصبه للحق المشفوع بالدليل والبرهان.(/7)
وتظهر الحاجة الدينية للثقافة الإسلامية أيضاً لتوضيح كثير من الانحرافات في المفاهيم الإسلامية، فالتوكل أصبح تواكلاً، والإيمان بالقدر أصبح عجزاً وقعوداً، والجهاد بعد أن كان لرفع راية الإسلام، حُوِّرَ مفهومه إلى الاعتداء على النفس التي حرم الله قتلها. ومفهوم الولاء والبراء أصبح للشيطان وجنده من المفسدين في الأرض، بدلاً من أن يكون لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم. والبر بدلاً من أن يكون للوالدين والقدوة الصالحة، أصبح للشهوات المختلفة ولمروجيها من الصحبة الفاسدة، والفكر الضال ورجالاته، والعدو الخفي الذي تسلل إلينا كما يتسلل النوم إلى الجفن.
ويحتاج الطالب الجامعي أيضاً إلى ثقافة الدعوة إلى الله تعالى، خاصة وأن بلادنا هي منطلق الدعوة، وهذا يتطلب منه بصيرة دعوية، لا يمكن أن تتأتى عشوائياً، بل تحتاج إلى أسس علمية ومنهجية ثابتة أساسها قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [13] .
وأخيراً لا نبالغ إذا قلنا إن الاهتمام بالحاجة الدينية هي الأساس الذي تنبثق منه جميع الحاجات الأخرى الفكرية أو الانتمائية أو الاجتماعية أو الخلقية على حد سواء.... إلخ بل إن هذه الحاجة هي التي تحدد مصير الإنسان الأبدي فيما بعد هذه الحياة الدنيوية القصيرة الزائلة.
ولذا فإن دولاً عديدة في الغرب تفكر جدياً في إعادة التربية الدينية والخلقية إلى المدارس، بعد أن كانت تظن أن المبادئ العلمانية التي تدعو إليها تغني عن التربية الدينية.
ولن نبالغ إذا قلنا أيضاً: إن مستقبل المسلمين جميعاً متوقف على مدى تشكيل القيم والأخلاق الإسلامية لسلوكنا ومواقفنا، ومدى قدرة تلك القيم على تنظيم ردود أفعالنا، وإنه لا يعدل صحة تلك القيم شيء سوى فاعليتها وحضورها في تفاصيل حياتنا[14] .
المطلب الثاني
حاجة الطالب الجامعي الخُلقية إلى الثقافة الإسلامية(/8)
إن أشد ما يلفت النظر في هذه الأيام تعرض بلادنا وغيرها من المجتمعات إلى نوع من الإرهاب الأخلاقي والسلوكي ضد قيم الأمة المسلمة ومثلها وفضائلها، وذلك برفع راية الرذيلة ومحاربة الفضيلة، عبر قنوات فضائية خليعة، وشبكات عنكبوتية إباحية مفتوحة، وأفلام ومجلات فاضحة، وأغان صاخبة ماجنة بكلمات تثير غرائز الشباب وشهواتهم ذكوراً وإناثاً، بصورة خطيرة لا يمكن معها أن نغلق على الشباب المسلم الأبواب، خاصة مع وجود من يزايد في هذا المجال ولا يهمه سوى الربح، ولو كان على حساب القيم والمبادئ، وهناك إحصائية تشير إلى وجود مشكلة أخلاقية كبيرة في مجتمعنا، تنذر بخطر مؤكد ومحقق، إن لم يتداركنا الله برحمته، هذه الإحصائية أشار إليها فضيلة الشيخ السديس إمام وخطيب المسجد الحرام في خطبة الجمعة 9/6/1426هـ حيث أورد (أن هناك260 موقعاً إباحياً يتم إنشاؤها يومياً على شبكة الإنترنت. و63 في المئة من المراهقين والمراهقات يرتادون صفحات الدعارة، ولا يدري آباؤهم ماذا يتصفحون. و 83 في المئة من الصور المتداولة في المجموعات الإخبارية صور إباحية [15] .
في هذا الجو المحموم ينشأ شبابنا ذكوراً وإناثاً، وتترسب في أذهانهم هذه الرذائل والشنائع، وإن مما يثير الألم تفاعل فلذات أكبادنا معها، حتى أثر ذلك في أخلاقهم، وظهر ذلك في سلوكهم، وصار جيلنا الجديد يسخر ويستخف بالقيم الخُلقية، وبالمثل العليا التي كانت تحترمها الأجيال السابقة، حتى طمست الحشمة والعفة والحياء، والمثل العليا وطغت الماديات على الحياة، فلا غني يرحم الفقير، ولا صغير يحترم الكبير، وكادت أن تتقطع أواصر الرحمة في الأسرة، وأصبح التسامح والعفو أمراً غير ذي بال.(/9)
فإذا كان هذا حال جيلنا، وهذه صورة مجتمعنا، فإن من سبقونا انتكاساً صارت تعلو صيحاتهم متوالية بوجوب الرجوع إلى الأخلاق والفضيلة، وإلا سوف تنهار حضارتهم، كما انهارت حضارات سابقة للسبب نفسه، وهذه سنة الله، وقانونه في خلقه، يقول سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [16] ، ويقول عز وجل: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} [17] .
وطالما أن أمر إغلاق الأبواب أمام هذه الأوبئة العفنة صار شبه مستحيل، فإنه لابد من إيجاد حلول لهذه المشكلة، ولعل الأمل الكبير يكون في وضع مقرر الثقافة الإسلامية من خلال موضوعات تعمل على إقناع الشباب بهذا الخطر القادم الذي يهدد حصوننا ومجتمعاتنا.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضوابطه التي حدد الشرع دورها الفاعل في التبيين والإيضاح، بل وفي الترغيب والترهيب. وهذا الأمر يتطلب مقررات تنمي ثقافة الدعوة والداعية.
المطلب الثالث
حاجة الطالب الجامعي الفكرية إلى الثقافة الإسلامية
الحاجة الفكرية إلى الثقافة الإسلامية تتلخص في تحصين الشباب المسلم ضد ما يعرف بالتيارات الفكرية الفاسدة، القديمة منها والمعاصرة، الداخلية والخارجية الأجنبية، والتي تهدف إلى السيطرة على عقول الشباب، والتأثير فيهم بأفكار مختلفة، وتشكيلهم بعد ذلك وفق النمط الذي يحقق أهدافها.
وفي هذا العصر، بل وفي هذه الأيام، يتعرض الفكر الشبابي المسلم لموجتين خطيرتين:(/10)
إحداهما تميل إلى الإفراط والغلو، والأخرى إلى التفريط والتساهل، فضلاً عن الموجة الغربية العنيفة الرامية إلى السيطرة على العالم الإسلامي من خلال الغزو الثقافي، بفرض وحدة ثقافية مادية على العالم المعاصر من خلال ما يعرف بالعولمة.
وقد نجحت هذه الموجات إلى حد كبير في فرض كثير من المبادئ والنظم والعقائد الباطلة أو المشوهة نتيجة عوامل فرضتها طبيعة العصر، أهمها تقدم وسائل الاتصال الفكرية[18] ، والتي من خلالها التحمت الأفكار المختلفة وتشابكت، واختلط الحابل بالنابل، والغث بالسمين، على امتداد الكرة الأرضية.
في زحمة هذه الموجات التي توشك أن تفقد المسلم ذاته وهويته، أصبحت الثقافة الإسلامية المتزنة ضرورة لتكون وسطاً بين الغلو القاتل، والتفريط المدمر، وأصبحت الثقافة الإسلامية ضرورة وجود بالنسبة للإنسان المسلم لتزويده بالحقائق الناصعة، التي تحصنه ضد التيارات المضلة والمضللة.
كما وتظهر الحاجة الفكرية إلى الثقافة الإسلامية لتقوم بعملية تشجيع الشباب على إعمال الفكر، وتشغيل القدرات العقلية، واستخدام الطاقات الذهنية، حيث نادى الإسلام ورغب بذلك في نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[19] وقوله سبحانه: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}[20] وقوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}[21] .(/11)
حيث أفادت هذه النصوص بعدم استقامة تدين الإنسان، وعدم استقامة أمور دنياه، وعلاقته بربه سبحانه، ثم علاقته بالناس من حوله، من غير اللجوء إلى استخدام الطاقات العقلية والمعطيات الفكرية الراسخة، بوصفها محكمات جديرة بالثقة، هيَّأها الله سبحانه وتعالى لتقوم بدور التأمل والتفكر في مخلوقات الله ومن ثم تسخيرها وتصنيعها لخدمة البشرية، وهذا ما يعرف حسب لغة العصر بالتقدم العلمي والتقني الذي يشهده العالم المعاصر، حيث إن الأنظار كلها تتوجه لتصب في صالح كل ما هو صناعي مكتسب من صنع العقل، يقول ثورو الاقتصادي الأمريكي المعروف: "في القرن الحادي والعشرين ستصبح مهارات قوة العمل والتعليم هي السلاح التنافسي الأول، ولن تعتمد الميزة التنافسية على ثروات الموارد الطبيعية، حيث إنه يعتقد بوجه عام أن الصناعات الرئيسة السبع للعقود القادمة هي: الإلكترونيات الدقيقة، والتكنولوجيا الحيوية، وصناعة المواد الجديدة، والطيران المدني، والاتصالات، وأجهزة الإنسان الآلي المزودة بآلات القطع والتشكيل، والحاسبات الآلية، والبرامج، وهذه كلها صناعة المقدرة العقلية، وأي منها يمكن توطينه في أي مكان على وجه الأرض، والموقع الذي ستقام فيه يتوقف على من يستطيع تنظيم المقدرة العقلية من أجل السيطرة عليها، ففي القرن القادم (أي الحالي، القرن الحادي والعشرين) ستكون الميزات التنافسية من صنع الإنسان".
هذا كله يعني أن الأمم التي تعلم وتربي وتدرب بطريقة أفضل هي الأمم المرشحة لأن تتبوأ القمة، وهذا ما نشاهده اليوم في حياتنا، فمعظم الأمم ذات الدخل الاقتصادي المرتفع (أوروبا واليابان) نموذجاً لم يتحسن اقتصادها بسبب ما تملك من ثروات، وإنما بسبب الاهتمام بالفكر والعقل وتوظيفهما للعلم والمعرفة وتقدم الصناعة[22] .
المطلب الرابع
حاجة الطالب الجامعي النفسية إلى الثقافة الإسلامية(/12)
إن من أكبر المشاكل لا في العالم الإسلامي فحسب، بل في كل المجتمعات الإنسانية المشاكل النفسية التي تواجه الشباب، وقد أظهر تقرير للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حجم هذه المشكلة العصرية، حيث جاء في التقرير: "باتت أعداد الذين يعانون من شكل من أشكال العلل النفسية آخذة بالزيادة حالياً، وتشير التقديرات إلى أن واحداً من كل أربعة أشخاص يرتادون المرافق الصحية، يعاني من واحد على الأقل من الاضطرابات النفسية أو العصبية أو السلوكية، كما بات الاكتئاب وانفصام الشخصية وإدمان الكحول ومرض الزهايمر وغيرها من الاضطرابات النفسية الشائعة والمؤدية للعجز أحياناً. ( المصدر: تقرير المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية 2002/2003م)
وقد يعتقد العديد من الناس أن الصحة النفسية تعني عدم الإصابة بالمرض النفسي، ولكن في الواقع فإن الصحة النفسية يمكن تعريفها: بأنها قدرة الإنسان على الشعور بالسعادة، و إيمانه بقيمته و قيمة الآخرين، الأمر الذي يمكنه من التعامل الجيد والسليم مع المواقف المختلفة في الحياة، و هي كذلك تترجم في طريقة تعاملنا مع من حولنا في المجتمع.
وتشمل الصحة النفسية أيضاً قدرة الشخص على إحداث التوافق والتناغم بين قدراته و طموحاته و مُثله و عواطفه و ضميره، من أجل تلبية متطلبات الحياة المختلفة، و قدرته على متابعة حياته بشكل طبيعي بعد التعرض لأية صدمة أو ضغط نفسي.
أما اليوم،ومع زيادة التعقيدات و الضغوط النفسية و الاجتماعية على الأفراد، فقد أصبحت هذه الأمراض أكثر شيوعاً، قد أدت التحولات الحضارية السريعة، والقلاقل والحروب، والمشاكل والفقر، وتغيير أنماط الحياة، والتفكك الأسري في بعض المجتمعات، و زعزعة الإيمان، إلى تفاقم مشكلة الأمراض النفسية و وجود مشاكل سلوكية ومنها إدمان الكحول والمخدرات.(/13)
ولهذا السبب أولت منظمة الصحة العالمية هذا الموضوع أهمية خاصة، وأقرت برنامج العمل العالمي للصحة النفسية وأفردت يوم الصحة العالمي 2001م لموضوع الرعاية النفسية، وحثت الدول على تلبية الاحتياجات الصحية النفسية للسكان"[23] .
والقول ما قيل، فإن التغيرات الحياتية السريعة، والاستثمارات التقنية المكثفة على حساب القيم والأخلاق والفضائل، والتصورات الخاطئة التي تقدمها الحضارات الفاسدة عن الخالق، والدين، والكون.
أضف إلى ذلك الانبهار والافتتان بحضارة الغربيين وثقافتهم، والاندفاع المتهور إلى تقليدهم، والتشبع بروحهم، وإجلال حياتهم وتقديسها، كل هذه العوامل كانت على حساب مقومات الشخصية المسلمة، فأصبح الشاب السعودي المسلم في مجتمعنا يعيش ازدواجية واسعة بين ما يؤمن به ويعتقده ويوافق فطرته السليمة من ناحية، وما يلمسه ويعايشه ويوافق شهوات النفس الشيطانية وحبها للماديات من ناحية.
كل ذلك أوجد صراعاً وقلقاً داخلياً، واضطراباً فكرياً الأمر الذي جعل روح الانهزامية النفسية هي الصفة الغالبة على هذا الشباب التائه يقول سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[24] .
وفي زحمة هذه التغيرات، وفي ركام هذه التصورات التي تكاد أن تفقد الشباب السعودي ذواتهم وهويتهم، كان لابد للثقافة الإسلامية من أن تقف شامخة قوية لانتشالهم من الضياع، وإنقاذهم من الشعور بالانهزامية النفسية الداخلية أمام العالم الغربي وثقافته التي أصبحت للأسف هي المعيار لكل فكر وثقافة.(/14)
إن الهزيمة دائماً تبدأ من النفس الداخلية، خاصة في مرحلة الشباب التي هي مرحلة تكوين فكري وبناء جسمي، فتماسك شخصية الشباب مهمة لحصول التوازن في مجتمعنا، ولن يتحقق ذلك لنا إلا بالدين والأخلاق اللذين بهما قوام المجتمع وصلاح الدنيا والآخرة، وهذا مصداق قوله تعالى:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[25] .
المطلب الخامس
حاجة الطالب الجامعي الاجتماعية إلى الثقافة الإسلامية
فيما مضى كانت الحياة الاجتماعية غير معقدة، بسبب ضعف الحراك الاجتماعي، وبطء التغيير والتطوير، وتمكنت المجتمعات العربية والإسلامية من الحفاظ على مقوماتها الاجتماعية من الألفة والتعاون والتضحية والإحسان والاحترام، والرفق والإيثار والترابط.
أما في هذا الزمان فقد فقدت الحياة الاجتماعية طبعها وطعمها السابق، فقدت الحياة الاجتماعية روح الجسد الواحد، وسيطرت على مجتمعنا روح المادية والأنانية البحتة، وظهرت سلوكيات في مجتمعنا السعودي وفي المجتمع المسلم لم تكن من قبل، وتنامت ظاهرة التدخين بين الجنسين، وراجت المخدرات، وكثرت حالات الانحراف والعلاقات غير المشروعة المحرمة، وزاد عدد اللقطاء، بل وزادت مشاكل الجريمة والسرقة، ومشكلة العنوسة والطلاق والربا والرشوة، وباختصار فقد أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، بل تطور الأمر إلى الانحراف الفكري والعقدي باستحلال ما حرم الله في دماء العباد وقتل الأبرياء وترويع الآمنيين.
كل هذه السلوكيات وغيرها ظهرت وتنامت على الرغم من كل مظاهر التقدم المادي، مما يدل على فشل كل النظم الجديدة المتطورة في حل مشاكل الناس الاجتماعية.، بل ومن الواضح والمؤكد أن هذه النظم، وعلى رأسها أصحاب العولمة الذين يسعون سعياً حثيثاً إلى القيام بعملية زعزعة اجتماعية واسعة النطاق تعتمد أساساً على تفكيك الأسرة المسلمة وهدمها، وتحطيم القيم والمبادئ الأساسية، وذلك من خلال تنحية الدين عن الحياة الاجتماعية.(/15)
والحق الذي لابد من قوله هو أن أمور مؤسستنا التعليمية، وعلى رأسها الجامعية، لن تستقيم، ولن تستطيع القيام بدورها المنشود ما لم يتم ترتيب أوضاعنا الاجتماعية على هدي من الدين والعلم.
إن المجتمع المتقدم ليس هو المجتمع الذي يشيد المدارس والمرافق والأبنية، وينشر الكتب ويقيم المهرجانات الثقافية فحسب، بل هو المجتمع الذي يسعى على نحو دائب إلى أن يصوغ حياته اليومية ونظمه وفق ما يعتقده ويؤمن به.
إن أمة الإسلام حظيت بنظم اجتماعية مستنيرة، ومن مسؤوليتنا أن نحافظ عليها، بل وننشرها من خلال وسائل الإعلام، وبرامج الدعوة، وخدمة المجتمع، وجعل الجامعات العلمية بتخصصاتها المختلفة منصات لمناقشة أشكال التخلف الذي يجثم على صدر الأمة، ومناقشة أشكال التصدع بين ما يعتقده المجتمع وما يمارسه في حياته اليومية.
وإذا استطعنا أن نجعل البحث عن الجديد، ومحاكاة الآخرين إلى منطق الدين والعقيدة والعلم، فإننا نكون بذلك قد قطعنا شوطاً كبيراً يؤهلنا للرقي إلى المكانة المنشودة التي تليق بنا كأمة مسلمة[26] .
المطلب السادس
الحاجة العُمْرية لطالب الجامعة إلى الثقافة الإسلامية(/16)
المرحلة الجامعية مرحلة عُمْرِية مهمة عند الإنسان، فهي نهاية لسن المراهقة، وبداية النضج، وهي المسماه بمرحلة الشباب، والإنسان في هذه المرحلة يكون على جانب كبير من التطور الجسمي، والفكري، والعقلي، لأنها مرحلة النمو، فيحصل له تطورات سريعة في التحول والتقلب، ومن ثم كان من الضروري في هذه المرحلة تهيئة الأسباب التي تضبط نفسه وتكبح جماحها بالقيادة الحكيمة التي توجهه إلى الصراط المستقيم [27] ، ولا ريب أن وجود الثقافة الهادفة من أهم الأمور التي تقوده لصقل أفكاره، وبناء اتجاهاته المختلفة، بل وحتى انطباعاته عن الحياة، ودوره تجاه أمته، وتجاه الإنسانية جمعاء، خاصة إذا علمنا أن طبيعة تكوين الإنسان على اختلاف جوانبه النفسية والفكرية والجسمية يرتبط ارتباطاً وثيقاً، ويتأثر تأثراً واضحاً بما يكتنفه من عوامل معلوماتية خارجية، فكلما كانت الثقافة قوية أصيلة كان التكوين الداخلي مثله، والعكس صحيح.
كما وتأتي أهمية الثقافة الإسلامية في هذه المرحلة من وجود شغف شديد لدى هذه الفئة العمرية في استخدام الشكبة العنكبوتية، وقضاء الساعات الطوال أمام الفضائيات، فكان لابد من وجود من يأخذ بيد هذه الفئة إلى بر الأمان.(/17)
يضاف إلى ذلك أن هذا الجيل لم يعد كما كنا في الماضي نسمع ولا نناقش، بل أصبحت هذه المرحلة العمرية من أكثر المراحل إلحاحاً لمعرفة كثير من القضايا المتعلقة بمبادئنا ونظمنا وعادتنا وتقاليدنا، التي لها أصل في الإسلام، وفي المقابل أصبحوا أمام كم هائل من الأفكار وأمام خواء منهجي، وقلة معرفة، وضعف مرجعية لديهم، فكان لا بد من وضع مناهج موثوقة وصحيحة لمعالجة قضاياهم، والردّ على تساؤلاتهم، مناهج ترتكز إلى حقائق تقوم عليها، لا إلى مغالطات خفية، أو مفاهيم وهمية، حقائق تتناسب مع هذا النضج في هذه المرحلة العُمْرِية، ومناهج تتسم بالوضوح والشفافية، حتى لا تلجأ هذه الفئة إلى منابع الضلال، وإلى مرجعيات ومصادر غير موثوق بها، وما أكثرها، وقد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم -: ( والذي نفسِ محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وأثنتان وسبعون في النار)[28] فلا بد من أن تتكاتف الجهود، وتتضافر موضوعات الثقافة الإسلامية للأخذ بهذا المجتمع الشاب إلى الفئة الظاهرة الناجية بإذن الله تعالى.
المطلب السادس:
الحاجة إلى الثقافة الإسلامية لتحقيق الانتماء:
والانتماء في حقيقته يعني الانتساب، ومفهوم الانتماء من المفاهيم الواسعة التي تمتد طولاً وعرضاً لتشمل مفاهيم كثيرة منها وأهمها: الدين، والوطن، والأب، والأم، والأسرة، وأولو الأمر..، لكن عند إطلاق لفظ الانتماء في حياتنا العامة فإن الذهن ينصرف إلى الانتساب الحقيقي إلى الدين الإسلامي، والوطن فكراً ومشاعر ووجداناً.
إن اعتزاز الفرد بالانتماء إلى دينه إنما يكون من الالتزام بتعاليمه والثبات على منهجه، أما الانتماء إلى الوطن إنما يكون من خلال التفاعل مع احتياجاته والتضحية من أجله.(/18)
ويعد الانتماء حاجة من الحاجات المهمة التي تشعر الطالب بسمو دينه، ومكانة وطنه - خاصة وطننا، وهو مهبط الوحي ومركز دعوة الإسلام- الأمر الذي يجعله يفتخر بهذا الانتماء ويتفانى في حبه، ويشارك في بنائه، ويبذل الغالي والرخيص في سبيله[29] .
إن حاجة جامعاتنا إلى تحقيق وتثبيت مفهوم الانتماء في نفوس أبنائها بات أمراً مهماً خاصة في هذا الزمان حيث الحملة الشعواء من الأعداء على نعمة الأمن والأمان التي تسود هذه البلاد الطاهرة..، الأمر الذي جعلهم يكيدون لنا حسداً من عند أنفسهم، بإثارة البلبة والتشكيك في مقومات ديننا، أو من خلال تقديم صورة مشوهة عن الأمة المسلمة وحضارتها السالفة، والتقليل من شأنها، بهدف إلغاء التواصل بين الأجيال، وتأصيل فكرة تخلف الحضارة الإسلامية، وعدم قدرتها على مواكبة العصر ومستجداته في نفوس الأجيال الناشئة، وبالتالي تأصيل الافتتان بالحضارة الغربية بكل أبعادها، لتسهل بذلك مهمتهم في الانقضاض على الأمة المسلمة وعلى خيراتها الوفيرة، واستعباد شعوبها.
إن الثقافة الإسلامية كفيلة بإحياء الانتماء إلى الإسلام وأمته ووطنه بإذن الله، من خلال ما تقدمه من تصور حقيقي لكلا الحضارتين، ومن هنا تأتي ضرورة الثقافة الإسلامية في مقرراتنا الجامعية.
المبحث الثاني
الحاجة إلى الثقافة الإسلامية تحديداً
إن حاجة الجامعات إلى الثقافة الإسلامية، والإسلامية تحديداً لها أسبابها الكثيرة، التي نوجزها في الآتي:
أولاً: إن الحاجة إلى الثقافة الإسلامية تحديداً تنبع من كونها ثقافة فريدة متميزة، ذلك لأن ثقافات الأمم هي نتيجة لأفكارها ومعتقداتها وعاداتها، فهذه الثقافات وإن شكلت إطاراً يحيط بكل أفراد المجتمع، بحيث يوجه قلوبهم ووجوهم وجهة معينة، إلا أنها تبقى نتاج المجتمع نفسه.(/19)
أما الثقافة الإسلامية فإنها وحي إلهي رباني، فالإسلام هوا لذي أنشأ عقائد الأمة الإسلامية وتصورها وأخلاقها وقيمها، وهو الذي حدد مسارها وبيَّن منهجها ووضع أنظمتها، وحفظ لها قانونها، وأقام لها الضوابط التي تعصم الفكر من الانحراف والتطرف والغلو إفراطاً أو تفريطاً[30] .
وهذا يعني أن ثقافات الأمم لها مدة صلاحية محددة، وبانتهاء تلك المدة تكون تلك الثقافات قد استنفدت كثيراً من أغراضها، على عكس الثقافة الإسلامية فإنها تصطبغ بصبغة الشمول والكمال والعالمية حتى يرث الله الارض ومن عليها تحقيقاً لقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[31] .
ثانياً: إن تدريس الثقافة الإسلامية معناه التعريف بحقائق هذا الدين، بحيث يظهر سموه وعلوه وتفوقه على جميع المذاهب والتيارات والنظم الإنسانية، قديماً وحديثاً.
ثالثاً: إن تفاعل الشباب مع آداب الإسلام ومبادئه لا يتم من غير امتلاك القدر الكافي من المعرفة والمعلومات عن الإسلام، وهذا يحتاج إلى تدريس الثقافة الإسلامية.
رابعاً: إن تأهيل الشباب وإعدادهم لمواجهة الحياة يحتاج إلى الثقافة الإسلامية، فالحياة تأتي كل يوم بجديد، وهذا الجديد فيه من الحق والباطل، والهدى والضلال، والصواب والخطأ مالا يمكن إدراكه بصورة أو بأخرى، ووجود وسيط متمثل في الثقافة الإسلامية معناه مناقشة القضايا الحياتية على أساس من كتاب الله وسنة رسوله، وهذا يقود إلى تأهيل نقي، وتأسيس فكرٍ صافٍ قائم على الحق المبين.
خامساً: لبناء شخصية قوية، فالبناء الذاتي لأية شخصية إنسانية يحتاج إلى ثقافة متميزة قوية وأصلية، حتى تظهر أمارات هذه القوة على الشخصية ذاتها -لأنه متى كانت الثقافة ضعيفة مهزوزة فإنها تذيب الشخصية وتصهرها والعكس بالعكس صحيح- وهذا متوافر في الثقافة الإسلامية التي تستمد قوتها من خالق الكون ومالكه ومدبره سبحانه وتعالى.(/20)
سادساً: إن عدم تدريس الثقافة الإسلامية معناه تجريد الشباب من قيمهم الدينية التي نشأوا تحت ظلالها، وهذا الأمر له آثاره السلبية العميقة على نفوسهم، إن هذا الانفصام يتسبب في إحداث صراع واضطراب ووهن داخلي.
سابعاً: لتحرير الشباب من مرحلة التبعية لأية ثقافة أجنبية ونقلهم إلى مرحلة الرشد والثقة بالأصالة، فكثير من شبابنا يشعرون بالغربة والوحشة، نتيجة شعورهم بأن أمة الإسلام تعيش على هامش العالم، ونتيجة لإحساس بعضهم بعدم صلاحية المعارف الإسلامية لتحسين الحياة الحاضرة، ونتيجة لجهل الكثير بماضِي الأمة الإسلامية المجيد، فصاروا حائرين بين ماض لا يعرفون كيف ينتمون إليه، وكيف يستفيدون منه، وحاضرٍ لا يجدون القدرة على تكييفه وتطويقه والتأثير فيه[32] .
لهذا فإن توسيع المعرفة، وتجديد الاتصال بالثقافة الإسلامية ومقوماتها المختلفة كفيلة بإعادة روح الثقة إلى الشباب بإذن الله.
ثامناً: نحتاج إلى الثقافة الإسلامية في جامعاتنا، ذلك لأن سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية نصت على إقرار مادة الثقافة الإسلامية في الجامعات بمختلف تخصصاتها بهدف تكوين شخصية الشباب السعودي، لتصبح شخصية إسلامية إيجابية، تستوعب الرؤية السليمة للوجود والكون والإنسان والحياة من جهة، وتعرف ما يموج في عصرها من مذهبيات وأفكار مخالفة، ومن قوى معادية له، ومعرفة شبهها، ونقود هذه الشبه[33] .(/21)
تاسعاًً: نحتاج إلى تدريس الثقافة الإسلامية في جامعاتنا للاحتفاظ بهويتنا وقيمنا واحترامنا بين الأمم، ذلك لأن كل تقليد ثقافي أعمى يحقر الأمم ويقلل من شأنها، فالأمم المتقدمة تحترم من يصارعها لا من يقلدها ويصبح صورة شاحبة لها، وقد قال أحدهم بعد إعلان إسلامه وهو (الأستاذ ف. ب إيرفنج) بجامعة تنسي الأمريكية، حينما وقف مخاطباً تجمعاً من المسلمين في مدينة (جلاسكو) ببريطانيا قال: "إنكم لن تستطيعوا أن تنافسوا الدول الكبرى علمياً، أو تقنياً، أو اقتصادياً، أو سياسياً، أو عسكرياً، ولكن تستطيعون أن تجعلوا تلك الدول تجثوا على ركبها أمامكم بالإسلام، أفيقوا من غفلتكم لقيمة هذا النور الذي تحملونه[34] .
عاشراً: الإفادة من الثقافة الأجنبية ومجالاتها: حيث إن الهدف من تدريس مادة الثقافة الإسلامية تكوين الجيل السعودي المسلم الذي يعيش عصره في ضوء عقيدته وقيمة ومبادئه الحقة، كان لا بد من العمل بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها))[35] .
ولا يفهم من التأكيد السابق في حصر الثقافة تحديداً في الثقافة الإسلامية، تحريم الاستفادة من ثقافات الآخرين في مرافق الحياة، واقتباس بعض ما توصل إليه العلم والصناعة والاختراع في الغرب، والإفادة من وسائل تسهيل الحياة وتحقيق الرفاهية.
إن إغلاق الباب على مصراعيه في وجه هذا النوع من الثقافات لا يقوله عاقل، فضلاً عن مطلع على روح الدين الإسلامي وتعاليمه، فالإسلام لم يزل واسع الأفق، متفتح القلب والنظر في الاستفادة من كل ما يصلح وينفع، طالما أن ما لدى الآخر لا يصطدم مع واقع ثوابتنا الأساسية، وكان بعيداً كل البعد عن التفكير الأعمى والارتجالية ومركب النقص[36] .
الخاتمة:
الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:(/22)
ففي ختام هذا البحث لا يسع الباحثة إلا أن تؤكد على شدة حاجة الطالب الجامعي إلى مقرر الثقافة الإسلامية، كونها الزاد الضروري لكل مسلم يريد لنفسه حياة آمنة مطمئنة في ظل مفاهيم ومرتكزات حقيقية، لا مفاهيم ومغالطات وهمية تتأرجح به ذات اليمن وذات الشمال. هذا وقد توصلت الباحثة إلى بعض النتائج مشمولة بتوصيات كان من أهمها الآتي:
أولاً: وجود نظرة مهزوزة للثقافة الإسلامية من بعضُّ أبنائها، بدليل قيام بعض الدول العربية المسلمة بتنحية مقرر الثقافة الإسلامية من بين مناهجها. وهذا العمل يعد جريمة كبرى في حق الأجيال، لأنه يقطع صلتهم بكل الثوابت والقيم الدينية، ويجعلهم تحت تأثير سيطرة تبعية أجنبية غريبة، تفقد بها الأجيال شخصيتها وتميزها الإسلامي حتى ينتهي بها الحال إلى الاضمحلال والزوال.
ثانياً: إن الجامعات بيئات تربوية مهمة لا يمكن غضُّ الطرف عنها، ولا يمكن لأي انسان في هذا الزمان أن يكون له شأن ونفوذ في الحياة العامة دون المرور بها.
ثالثاً: حاجتنا إلى مقرر الثقافة الإسلامية في الجامعات تنبع أساساً من حرصنا على الحفاظ على الأمة المسلمة جمعاء، ذلك لأن زوال الأمم لا يحصل قبل أن يحدث نوع من التراجع في شخصية الأفراد.
رابعاً: إن بناء شخصية الأفراد يعتمد اعتماداً كبيراً على نوعية الثقافة، لأن الثقافة تحقق للأفراد والشباب حاجات أساسية لا غنى عنها، ومعلوم أن إشباع الحاجات بات أمراً ضرورياً لكل بناء تربوي متميز.
خامساً: التأكيد على أن تكون الثقافة إسلامية، لأنها بذلك تتميز عن الثقافات البشرية الوضعية الناقصة، ذات الصلاحية المحددة، فالثقافة الإسلامية تستمد قوتها وصلاحيتها من خالق الكون ومالكه ومدبره سبحانه وتعالى.
وهذه المميزات بلا شك سيظهر أثرها إيجاباً في الفئة المستهدفة بالبناء والإصلاح، فالخالق لهم هو أعرف بما يصلحهم ويصلح أحوالهم. {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[37] .(/23)
سادساً: التأكيد على كون الثقافة إسلامية في مقررات الثقافة الإسلامية لا يعني بحال من الأحوال إغلاق الباب على مصراعيه في وجه الثقافات الأجنبية ذات الفوائد الحياتية، ولا سيما تلك التي تحمل صفة الاصطدام مع ثوابتنا الأساسية.
سابعاً: إن من المبالغة القول إن مشكلات شبابنا هي نتاج الانفتاح الحاصل من الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة من واقع ضغوط الحضارة الغربية فقط، لأننا بذلك نكون قد تناسينا نقطة جوهرية مهمة تتعلق بالقصور في التربية الذاتية، والتي يمكن الحصول عليها من خلال مقررات الثقافة الإسلامية، وموضوعاتها المختلفة.
ثامناً: لا ننتظر من الثقافة الإسلامية أن تغير وجه الحياة، أو أن تعالج كل المشكلات، ولكن نأمل منها أن ترفع مستوى المعلومات والمعارف الدينية عند الشباب، وأن تعمق عندهم الإحساس بأهمية الفضيلة، والانتماء إلى الدين والوطن والمجتمع، وهذا ما أطلقنا عليه في ثنايا البحث (بالحاجات الأساسية).
تاسعاً: بعض الموضوعات الموجودة حالياً في مقررات الثقافة لا تلبي الحاجات، ولا تقدم رؤية عميقة ومتوازنة مع روح العصر، لهذا فإنه لا بد من إعادة النظر في هذه الموضوعات، حتى لا تبدو المعلومات باهتة مريضة، بينما بعض وسائل الإعلام تقدم موضوعات مدمرة لا ترتبط بالبيئة الإسلامية، ولا تعكس قيمها ولا مبادئها على نحو كامل، ومع ذلك استقرت في أذهان الشباب بصورة البطل الذي يتحرك في كل جانب ليلبي كل حاجاتهم، الأمر الذي أوقع الشباب تحت هيمنة مؤثرات وقيم مهزوزة أو لا تمت إلى الإسلام بصلة مطلقة.
عاشراً: المطالبة بقوة بتضمين مفردات الثقافة الإسلامية، ثقافة الدعوة، والداعية ماله وما عليه، ذلك لأن معظم الويلات التي لحقت ببلادنا في الآونة الأخيرة كانت بسبب الجهل بالضوابط الأساسية لعملية الدعوة إلى الله تعالى.
حادي عشر: إن فشل فعالية الثقافة الإسلامية - والله أعلم- يعود إلى أمرين:(/24)
الأمر الأول: جمود بعض الموضوعات أو عدم مسايرتها لروح العصر، وهذا يتطلب إعادة نظرٍ وتطوير، كما ذكرنا في النقاط السابقة.
الأمر الثاني: ضيق مجال الحوار، وعدم قدرة الطلاب على مناقشة هموهم وطموحاتهم، وهذا يتطلب زيادة عدد ساعات مقرر الثقافة إلى (3) ساعات بدلاً من اثنتين حتى يتسنى توسيعُ مجال الحوار مع الطلاب وإعطاؤهم فرصة أكبر للتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم وما يعتلج في صدورهم.
ثاني عشر: كل التخصصات في جامعاتنا في حاجة إلى نفس القدر من موضوعات الثقافة الشاملة، ما عدا أقسام القرآن الكريم، والدراسات الإسلامية، نظراً للصبغة الإسلامية التي تصطبغ بها مفردات مقرارتهم، لهذا نؤكد القول على أنه ليس من مصلحة أي تخصص المطالبة بإلغاء الثقافة الإسلامية من بين مناهجه، ذلك لأن انغلاق أي تخصص على نفسه بعيداً عن الثقافة الشرعية سيحرم طلابه من النمو الفطري والطبيعي، في ظل روح الشريعة ومقاصدها العامة، وأحكامها الشرعية المتعلقة بالعبادات والسلوك الاجتماعي القويم، والآداب الإسلامية، وهذا بالتالي يبعد الطلاب بعد تخرجهم عن أداء أدوارهم الاجتماعية والتربوية، سواء مع أنفسهم، أو مع أبنائهم، أو مع أبناء المسلمين، حين يريدون الانخراط في الحياة العامة.
ثالث عشر: وأخيراً لا تستطيع مقررات الثقافة الإسلامية أن تقوم بدورها المأمول، ولا تتمكن من الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية ما لم تنجح في جذب الطلاب إليها، وفرض احترامها، ونشر الوعي بأهميتها في حياتهم، وهذا بلا شك يتطلب جهد القائمين عليها والمسؤولين عنها.
نسأل الله أن يأخذ بأيدي الجميع لما فيه خير ديننا وأمتنا وشبابنا،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع:
1- القرآن الكريم
2- بناء الأجيال د. عبد الكريم بكار المنتدى الإسلامي، ط. الأولى 1423هـ.
3- ثقافة المسلم في وجه التيارات المعاصرة، د. عبد الحليم عويس النادي الأدبي- الرياض 1399هـ.(/25)
4- جريدة الجزيرة السعودية العدد 11979، بتاريخ 10 جمادى الآخرة 1426هـ.
5- حقائق للحياة، إشراف: د. توفيق أحمد خوجة، د.قحطان الحمد ط. الخليجية الأولى 1426هـ.
6- سنن ابن ماجة، دار إحياء التراث العربي- بيروت 1395هـ. وطبعة دار الفكر- بيروت.
7- سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث- بيروت، بدون سنة الطبع.
8- الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، للشيخ أبي الحسن علي الندوي دار القلم، الكويت ط. الرابعة 1403هـ.
9- الصحوة الإسلامية / أنور الجندي دار الاعتصام، بدون الطبعة وتاريخها،
10- صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، نشر وتوزيع: رئاسة إدارات البحوث العلمية، والإفتاء، والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط. عام 1400هـ.
11- لمحات في الثقافة الإسلامية / عمر عودة الخطيب- مؤسسة الرسالة ط. التاسعة 1404هـ.
12- مشكلة التمزق والتفرق بين الشعوب الإسلامية، د. مقداد يالجن عالم الكتب – الرياض 1418هـ.
13- مشكلات الشباب، الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين- دار المنار للنشر- الخرج، ط.الثالثة 1412هـ.
14- موقع جمعية الدعو الإسلامية، http://www.islamonline.net/the-wics/arabic/socity/index.shtml
15- موقع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.
16- نحو ثقافة إسلامية أصلية، د. عمر سليمان الأشقر مكتبة الفلاح- الكويت ط. الأولى 1405 هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: بناء الأجيال د. عبد الكريم بكار (ص 207) المنتدى الإسلامي، ط. الأولى 1423هـ.
[2] انظر: لمحات في الثقافة الإسلامية / عمر عودة الخطيب ( ص 11، 13) مؤسسة الرسالة ط. التاسعة 1404هـ.
[3] سورة: الأنعام، الآية 53.
[4] سورة النساء، جزء من الأية 143.(/26)
[5] انظر: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، للشيخ أبو الحسن علي الندوي ( ص 211، 213، 215 ) دار القلم، الكويت ط. الرابعة 1403هـ.
[6] انظر: مستقبل الثقافة الإسلامية إلى أين، أبو زيد المقرئ الإدريسي على موقع جمعية الدعوة الإسلامية،http://www.islamonline.net/the-wics/arabic/socity/index.shtml
[7] انظر: الصحوة الإسلامية / أنور الجندي ( ص 69) دار الاعتصام، بدون الطبعة وتاريخها,
[8] سورة يونس، آية 14
[9] سورة الأنعام، الأية رقم 165.
[10] صحيح مسلم، كتاب الذكر، باب أكثر أهل الجنة من الفقراء، حديث رقم 2742.
[11] انظر: بناء الأجيال ( ص 36، 63 ) مرحع سابق.
[12] سورة النحل، جزء من الأية رقم 125 .
[13] انظر: بناء الأجيال ( ص 35) مرجع ساب
[14] جريدة الجزيرة السعودية العدد 11979، بتاريخ 10 جمادى الآخرة 1426هـ.
[15] سورة الإسراء الآية 16.
[16] سورة الأنعام الآية 6.
[17] انظر: ثقافة المسلم في وجه التيارات المعاصرة، د. عبد الحليم عويس (ص 21-29) النادي الأدبي- الرياض 1399هـ.
[18] سورة الملك الآية (10).
[19] سورة الحشر الآية (14).
[20] سورة يونس، الآية (100)
[21] سورة الحشر، الآية (14)
[22] انظر: بناء الأجيال، د. عبد الكريم بكار (ص 7-73) المنتدى الإسلامي- لندن، ط الأولى 1423هـ.
[23] حقائق للحياة، إشراف: د. توفيق أحمد خوجة، د.قحطان الحمد (ص231) ط. الخليجية الأولى 1426هـ.
[24] سورة طه الآية 124.
[25] سورة الرعد الآية 28.
[26] انظر: بناء الأجيال، د. عبد الكريم بكار (ص 25، 26، 52).
[27] انظر: من مشكلات الشباب للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين (ص 17) دار المنار للنشر- الخرج، ط.الثالثة 1412هـ.(/27)
[28] سنن ابن ماجة، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم (2/1322) حديث رقم 3992، دار إحياء التراث العربي- بيروت 1395هـ. وقال عنه الألباني صحيح، انظر: صحيح الجامع الصغير ( 1/357) حديث رقم 1093..
[29] انظر: قراءة في مفهوم الانتماء الوطني- د. عبد الله آل مبارك، جريدة الجزيرة- السعودية (ص36) العدد 11979- 10 جمادى الآخرة 1426هـ.
[30] انظر: نحو ثقافة إسلامية أصلية، د. عمر سليمان الأشقر ( ص 43) مكتبة الفلاح- الكويت ط. الأولى 1405 هـ.
[31] سورة الحجر، الآية رقم 9.
[32] انظر: بناء الأجيال ( ص 133) مرجع سابق
[33] نقلاً عن: الالتزام بمنهج الدعوة الإسلامية عند الملك عبد العزيز، أ.د. عبد الرحمن الزنيدي، على موقع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.
[34] نقلا عن: مشكلة التمزق والتفرق بين الشعوب الإسلامية، مقدادي (ص 121) عالم الكتاب – الرياض 1418هـ.
[35] رواه الترمذي كتاب أبواب العلم( 5/51)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث الغربي- بيروت، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفة إلا من هذا الوجه. وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب الحكمة (2/1395) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار الفكر - بيروت.
[36] انظر: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية ( ص 212) مرجع سابق.
[37] سورة الملك، الآية رقم 14.(/28)
[8] . وهذه سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة تبديلاً، يقول سبحانه وتعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[9] ويقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[10] ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الدنيا حلوةٌ خَضِرَةٌ، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون))[11] .[5] .مدى حاجة الطالب الجامعي إلى مقررات الثقافة الإسلامية" وكانت دراستي لهذا الموضوع حصيلة لثلاث إجابات، اعتمدت أساساً على ثلاثة تساؤلات جاءت على النحو التالي:(/29)
العنوان: حال السلف في رمضان
رقم المقالة: 1208
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أخي المسلم.. أختي المسلمة
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته... وبعد،
أبعث إليكم هذه الرسالة مُحَمَّلَة بالأشواق والتحيات العطرة، أزفُّها إليكم من قلب أحبَّكم في الله، نسأل الله أن يجمعنا بكم في دار كرامته ومستقر رحمته. وبمناسبة قدوم شهر رمضان أقدم لكم هذه النصيحة هَدية متواضعة، أرجو أن تتقبلوها بصدر رحب وتبادلوني النصح، حفظكم الله ورعاكم.
كيف نستقبل شهر رمضان المبارك؟
قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]
أخي الكريم:
خص الله شهر رمضان عن غيره من الشهور بكثير من الخصائص والفضائل منها:
- خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
- تستغفر الملائكة للصائمين حتى يفطروا.
- يزين الله في كل يوم جنته، ويقول: يوشك عبادي الصالحون، أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ثم يصيروا إليك.
- تُصَفَّد فيه الشياطين.
- تُفَتَّح فيه أبواب الجنة، وتُغَلَّق أبواب النار.
- فيه ليلة القدر هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم الخير كله.
- يغفر للصائمين في آخر ليلة من رمضان.
- لله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة من رمضان.
فيا أخي الكريم: شهر هذه خصائصه وفضائله بأي شيء نستقبله؟ بالانشغال باللهو وطول السهر!!، أو نتضجر من قدومه ويثقل علينا نعوذ بالله من ذلك كله!!.
ولكن العبد الصالح يستقبله بالتوبة النصوح، والعزيمة الصادقة على اغتنامه، وعمارة أوقاته بالأعمال الصالحة، سائلين الله الإعانة على حسن عبادته.
وإليك أخي الكريم الأعمال الصالحة التي تتأكد في رمضان:(/1)
1 - الصوم: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سُبْعُمَائَة ضِعْف. يقول عز وجل: "إلاَّ الصِّيام فإِنَّه لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، تَرَك شَهْوَتَه وطَعَامَهُ وشَرَابَه مِنْ أَجْلِي، للصَّائِمِ فَرْحَتان، فَرْحَة عِنْد فِطْرِه، وفَرْحَة عِنْد لِقَاءِ رَبِّهِ. ولَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ"؛ أخرجه البُخاري ومُسْلم. وقال: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"؛ أخرجه البخاري ومسلم.
ولا شك أن هذا الثواب الجزيل لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط، وإنما كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَه وشَرَابَه))؛ أخرجه البخاري. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الصَّوْمُ جُنَّة، فَإذَا كَانَ يَوْم صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُث، وَلا يَفْسُق ولا يَجْهَل، فإنْ سابَّه أحَدٌ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرؤٌ صَائِمٌ))؛ أخرجه البخاري ومسلم. فإذا صُمْت - يا عبد الله - فليصم سَمْعُك وبصرُك ولسانُك وجميع جوارحِك، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء.
2 - القيام: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))؛ أخرجه البخاري ومسلم(/2)
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64-63]. وقد كان قيام الليل دَأْب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قالت عائشة - رضي الله عنها -: " لا تَدَعْ قِيامَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدعه، وكان إذا مَرِضَ أو كسل صَلَّى قاعدًا".
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يُصَلِّي من الليل ما شاء الله؛ حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم الصلاة الصلاة.. ويتلو: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]. وكان ابن عمر يقرأ هذه الآية: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] قال ذاك عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، قال ابن أبي حاتم: وإنما قال ابن عمر ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته؛ حتى أنه ربما قرأ القرآن في ركعة.
وعن علقمة بن قَيْس قال: " بِتُّ مع عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - ليلة فقام أول الليل ثم قام يصلي، فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حَيِّهِ يرتل ولا يراجع، يسمع من حوله ولا يرجع صوته، حتى لم يبق من الغَلَس إلا؛ كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها، ثم أَوْتَر.
وفي حديث السائب بن زيد قال: "كان القارئ يقرأ بالمئين - يعني بمئات الآيات - حتى كنا نعتمد على العِصِيّ من طول القيام قال: وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر".(/3)
تنبيه: ينبغي لك أخي المسلم أن تكمل التراويح مع الإمام حتى تكتب في القائمين، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قَامَ مَعَ إِمَامِهِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ))؛ رواه أهل السنن .
3 - الصدقة: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة.. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ..))؛ أخرجه الترمذي عن أنس.
روى زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، ووافق ذلك مال عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، قال فجئت بنصف مالي، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟)) قال: فَقُلْت مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا أَبْقَيْتَ لَهُمْ؟)) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبداً.
وعن طلحة بن يحيى بن طلحة، قال: حدثتني جدتي سُعْدَى بِنْت عَوْف المرية، وكانت محل إزار طلحة بن عبيدالله قالت: دخل علي طلحة ذات يوم وهو خائر النفس فقلت : مالي أراك كالح الوجه؟ وقلت: ما شأنك أرابك مني شيء فأعينك؟ قال: لا؛ و لنعم حليلة المرء المسلم أنت. قلت: فما شأنك؟ قال: المال الذي عندي قد كثر وأكربني، قلت: ما عليك، اقْسمه، قالت: فقسمه حتى ما بقي منه درهم واحد، قال طلحة بن يحيى: فسألت خازن طلحة كم كان المال؟ قال: أربعمائة ألف.
فيا أخي للصدقة في رمضان مزية وخصوصية، فبادر إليها واحْرِص على آدائها بحسب حالك، ولها صور كثيرة منها:
أ - إطعام الطعام:(/4)
قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:8-12]. فقد كان السلف الصالح يحرصون على إطعام الطعام، ويقدمونه على كثير من العبادات. سواء كان ذلك بإشباع جائع أو إطعام أخ صالح، فلا يشترط في المطعم الفقر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وصِلُوا الأَرْحَامَ، وصَلُّوا باللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ))؛ رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني. وقد قال بعض السلف: لأن أدعو عشرة من أصحابين، فأطعمهم طعاماً يشتهونه، أحب إلى من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل.
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره، وهو صائم منهم عبدالله ابن عمر - رضي الله عنهما -، وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه فلم يفطر في تلك الليلة.
وكان من السلف من يطعم إخوانه الطعام، وهو صائم ويجلس بخدمهم ويروّحهم، منهم: الحسن، وابن المبارك.
قال أبو السوار العدوي: " كان رجال من بني عَدِيّ يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد، فأكله مع الناس وأكل الناس معه".(/5)
وعبادة إطعام الطعام، ينشأ عنها عبادات كثيرة منها: التودد والتحبب إلى إخوانك الذين أطعمتهم فيكون ذلك سببًا في دخول الجنة: ((لَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا)). كما ينشأ عنها مجالسة الصالحين، واحتساب الأجر في معونتهم على الطاعات التي تقووا عليها بطعامك.
ب - تفطير الصائمين:
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْل أَجْرِهِ، غَيْر أَنَّه لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيءٌ))؛ أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني. وفي حديث سلمان: ((مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَة لذُنُوبِهِ وعتق رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيءٌ))، قالوا : يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يُعْطِي اللهُ هَذَا الثَّوَابَ لِمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَن، أو تَمْرَة، أو شَرْبَة مَاء، ومَنْ سَقَى صَائِمًا سَقَاهُ اللهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لا يَظْمَأُ بَعْدَهَا، حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّةَ))
4 - الاجتهاد في قراءة القرآن: سأذكرك يا أخي هنا بأمرين عن حال السلف الصالح :
أ - كثرة قراءة القرآن.
ب - البكاء عند قراءته أو سماعه خشوعًا، وإخباتًا لله تبارك وتعالى.(/6)
كثرة قراءة القرآن: شهر رمضان هو شهر القرآن، فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءته، وقد كان من حال السلف العناية بكتاب الله، فكان جبريل يدارس النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في رمضان، وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يختم القرآن كل يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرؤون القرآن في الصلاة وفي غيرها، فكان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة، وكان قتادة يختم في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكان الزُّهْرِيّ إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن. وقال ابن رجب: إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المُداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة؛ كشهر رمضان والأماكن المفضلة؛ كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن؛ اغتنامًا لفضيلة الزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم؛ كما سبق.(/7)
البكاء عند تلاوة القرآن: لم يكن من هدي السلف هذُّ القرآن هذَّ الشعر دون تدبر وفهم، وإنما كانوا يتأثرون بكلام الله - عز وجل - ويحركون به القلوب. ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: ((اقْرَأْ عَلَيَّ)) فقلت: "أقْرأ عليك وعليك أنزل؟!" فقال: ((إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي))، قال: "فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا} [النساء:41]" قال: ((حَسْبُكَ))، فالتفت فإذا عيناه تَذْرفان. وأخرج البيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما نزلت: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم:60،59] فبكى أهل الصفة، حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حِسَّهُمْ بكى معهم فبكينا ببكائه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ))، وقد قرأ ابن عمر سورة المطففين حتى بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، فبكى حتى خَرَّ، وامتنع من قراءة ما بعدها. وعن مزاحم بن زُفَر قال: صلى بنا سفيان الثوري المغرب فقرأ حتى بلغ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بَكَى حتى انقطعت قراءته، ثم عاد فقرأ الحمد.
وعن إبراهيم بن الأشعث قال: " سمعت فُضَيْلاً يقول ذات ليلة وهو يقرأ سورة محمد، وهو يبكي ويردد هذه الآية: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] وجعل يقول: ونبلو أخباركم، ويردد وتبلوا أخبارنا، إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا، إنك إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا، ويبكي.
5 - الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس:(/8)
"كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صَلَّى الغَدَاة - أي الفَجْر - جَلَس في مُصَلاَّه حتى تطلع الشمس"؛ أخرجه مسلم. وأخرج الترمذي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْ صَلَّى الفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ؛ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ؛ كَأَجْرِ حجَّة وعُمْرَة تَامَّة تَامَّة تَامَّة))؛ صححه الألباني، هذا في كل الأيام فكيف بأيام رمضان؟!
فيا أخي.. رعاك الله استَعِنْ على تحصيل هذا الثواب الجزيل بنوم الليل.. والاقتداء بالصالحين، ومجاهدة النفس في ذات الله، وعلو الهمة؛ لبلوغ الذروة من منازل الجنة.
6 - الاعتكاف:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام؛ فلمَّا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا"؛ أخرجه البخاري. فالاعتكاف من العبادات التي تجمع كثيراً من الطاعات؛ من التلاوة والصلاة والذكر والدعاء وغيرها.
وقد يتصور من لم يجربه صعوبته وشقته، وهو يسير على من يسره الله عليه، فمن تَسَلَّحَ بالنية الصالحة، والعزيمة الصادقة أعانه الله. وأكد الاعتكاف في العشر الأواخر؛ تحريًا للَيْلَة القَدْر، وهو الخُلْوة الشرعيّة، فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف قلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بَقِيَ له هم سوى الله، وما يرضيه عنه.
7 - العمرة في رمضان:
ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حجَّةً))؛ أخرجه البخاري ومسلم، وفي رِوَاية ((حجَّة مَعِي)) فهنيئاً لك - يا أخي - بحجة مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -.
8 - تحري ليلة القدر:(/9)
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1-3 ]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتسابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))؛ أخرجه البخاري ومسلم. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى ليلة القدر، ويأمر أصحابه بتحريها، وكان يوقظ أهله ليالي العشر رجاء أن يدركوا ليلة القدر. وفي المسند عن عبادة مرفوعاً: ((مَنْ قَامَهَا ابْتِغَاءها، ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ)) وللنسائي نحوه، قال الحافظ: إسناده على شرط الصحيح.
وورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين، الاغتسالُ والتطيب في ليالي العشر؛ تحريًا لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها. فيا مَنْ أضاع عمره في لا شيء، استدرك ما فاتك في ليلة القدر، فإنها تحسب من العمر، العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها، من حُرِم خيرها فقد حُرم.
وهي في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الوِتْر من لياليه الآخرة، وأَرْجَى الليالي سبع وعشرين، لِمَا رَوى مسلم عن أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه -: ((واللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أي لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَة التي أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيامها، وهي ليلَة سبع وعشرين)). وكان أُبي يحلف على ذلك ويقول: " بالآية والعلامة التي أخبرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ الشمس تطلع صبيحتها لا شُعاع لها.
وعن عائشة قالت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: ((قُولي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي))؛ رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
9 - الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار:(/10)
أخي الكريم: أيام وليالي رمضان أزمنة فاضلة، فاغتنمها بالإكثار من الذكر، والدعاء وبخاصة في أوقات الإجابة ومنها :
- عند الإفطار فللصائم عند فِطْرِه دعوة لا ترد.
- ثلث الليل الآخر حين ينزل ربنا تبارك وتعالى ويقول: : هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟
- الاستغفار بالأسحار: قال تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]
وأخيراً..
أخي الكريم.. وبعد هذه الجولة في رياض الجنة نتفيء ظلال الأعمال الصالحة، أنبهك إلى أمر مهم... أتدري ما هو؟ إنه الإخلاص.. نعم الإخلاص.. فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؟ وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب؟ أعاذنا الله وإياك من ذلك. ولذلك نجد النبي يؤكد على هذه القضية.. ((إيمانًا واحتسابًا)). وقد حرص السلف على إخفاء أعمالهم خوفًا على أنفسهم. فهذا التابعي الجليل أيوب السَّخْتِيَانِيّ يحدث عنه حمَّاد بن زيد فيقول:" كان أيوب ربما حدث بالحديث، فيرق فيلتفت فيتمخط ويقول: ما أشد الزكام؟ يظهر أنه مزكوم لإخفاء البكاء ". وعن محمد بن واسع قال: " لقد أدركت رجالاً، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة، وقد بلّ ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي جنبه".
وكان أيوب السَّخْتِيَانِيّ يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصباح رفع صوته؛ كأنه قام تلك الساعة. وعن ابن أبي عَدِيّ قال: " صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، وكان خرازًا يحمل معه غذاءه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيًّا فيفطر معهم".
قال سفيان الثوري: "بلغني أن العبد يعمل العمل سرًّا، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد عليه، فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء".
اللهو في رمضان:(/11)
أخي.. أظن أني قد أَطَلْت عليك، وأنا أحثك على اغتنام الوقت.. قطعت عليك الوقت. ولكن أتأذن لي أن نعرج سويًّا على ظاهرة خطيرة وبخاصة في رمضان. إنها ظاهرة إضاعة الوقت وتقطيعه في غير طاعة الله.. إنها الغفلة والإعراض عن الرحمات والنفحات الإلهية، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى* وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124-127].
وكم تتألم نفسك ويتقطع قلبك حسرات على ما تراه من شباب المسلمين، الذين امتلأت بهم الأرصفة والملاعب في ليالي رمضان الفاضلة.. كم من حرمات الله ومعاصيه التي يُجَاهَر بها في ليالي رمضان المباركة. نعم إن المسلم ليغار على أوقات المسلمين، وعلى زهرة شبابهم أن تبذل في غير طاعة الله.
ولكن..!!! لا بأس عليك.. إن الطريق لسعادتك وسعادة إخوانك الدعوة والدعاء. نعم دعوة من غفل من أبناء المسلمين وهدايتهم الصراط المستقيم. والدعاء لهم بظهر الغيب لعل الله أن يستجيب فلا نشقى أبدًا.(/12)
العنوان: حال الناس بالنسبة لولاتهم وحال أهل الخير
رقم المقالة: 741
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل المؤمنين فيما بينهم إخواناً وأوجب عليهم أن يكونوا في نصرة الحق أعوانا والحمد لله الذي ربط الأمور بأسبابها وجعل أفضل طريق للوصول إلى المقصود أن تؤتى البيوت من أبوابها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة من النار وعذابها ونأمل بها الفوز بدار النعيم وطيب مأكلها وعذب شرابها، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أنصح من وعظ وأحكم الخلق فيما قصد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم في المقال والفعال والمعتقد وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله وكونوا كما وصف الله به المؤمنين إخوانا في المحبة أعواناً في الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم، لا يألون جهدا في نصح الخلق ونصرة الحق، واسلكوا في ذلك طريق الحكمة لعلكم تفلحون، فإن من سلك طريق الحكمة وأخلص في النية فاز بما أراد، ومن لم تكن له نية أو لم يكن له حكمة فاته المقصود والمراد.
أيها المسلمون: إني أريد أن أضمن خطبتي هذه موضوعين هامين يحتاجان إلى بسط كثير ولكني أشير إليهما بموجز من القول وربما أغنى القليل عن الكثير.(/1)
الموضوع الأول: حال الناس بالنسبة لولاتهم، فإن بعض الناس ديدنه في كل مجلس من مجالسه الكلام في ولاة الأمور والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك عما لهم من محاسن أو صواب، ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد الأمر إلا شدة، فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة وإنما يزيد البلاء بلاء ويوجب بغض الولاة وكراهيتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها. ونحن لا نشك أن ولاة الأمور قد يسيئون وقد يخطئون كغيرهم من بني آدم، فإن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولا نشك أيضاًً أنه لا يجوز لنا أن نسكت عن أي إنسان ارتكب خطأ حتى نبذل ما نستطيعه من واجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإذا كان كذلك فإن الواجب علينا إذا رأينا خطأ من ولاة الأمور أن نتصل بهم شفوياً أو كتابياً ونناصحهم سالكين بذلك أقرب الطرق في بيان الحق لهم وشرح خطئهم، ثم نعظهم ونذكرهم فيما يجب عليهم من النصح لمن تحت أيديهم ورعاية مصالحهم ورفع الظلم عنهم ونذكرهم بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ثم إن اتعظ بواعظ القرآن والحديث فذلك هو المطلوب، وإن لم يتعظ بواعظ الحديث والقرآن وعظناه بواعظ السلطان بأن نرفع الأمر إلى من فوقه ليصلح من حاله، فإذا بلغنا الأمر إلى أهله الذين ليس فوقهم ولي من المخلوقين فقد برئت بذلك الذمة ولم يبق إلا أن نرفع الأمر إلى رب العالمين ونسأله إصلاح أحوال المسلمين وأئمتهم.(/2)
أما الموضوع الثاني: فهو حال أهل الخير السابقين إليه والمقتصدين فيه مع الظالمين لأنفسهم العاصين لربهم، فإن مجتمعنا ككل مجتمع فيه أهل خير وأهل شر وأهل طاعة وأهل معصية، وإن كثيراً من أهل الخير يسلكون بالنسبة إلى أهل المعصية مسلكاً غير حكيم فتجدهم يكرهونهم كراهية مطلقة ويتكلمون في أعراضهم في كل مجلس وينفرون منهم، وهذا مسلك لا يحل المشكلة ولا يقيم الأمور على ما ينبغي، فأهل المعاصي من المؤمنين فيهم خير وفيهم شر فيجب أن نحبهم على خيرهم وهو ما معهم من الإيمان ونكرههم على شرهم وهو ما حصل منهم من المعاصي. أما أن نكرههم كراهية مطلقة ونعاديهم عداء مطلقاً فهذا غير صحيح شرعاً ولا عقلا؛ ثم إن الواجب علينا نحوهم أن نتصل بهم ونتكلم معهم ونزيل الوحشة التي بيننا وبينهم، فكلنا إخوان في الدين ما دمنا مؤمنين، فإن المعاصي لا تزيل الإخوة الإيمانية بين المؤمنين فنناصحهم ونبين لهم مفاسد المعاصي ومصالح الطاعة، وأن لزوم الطاعة أمر يسير لا يمنع منه إلا ضعف العزيمة وذلة الاستسلام للهوى والتقليد الأعمى، ونسعى نحن وهم في إصلاح أمورهم ما استطعنا لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
أما البعد عنهم واعتقاد أننا في واد وهم في واد ثم تركهم وأنفسهم لا نعينهم عليها فهذا خطأ يؤدي إلى شر كبير وتفكك في المجتمع وتفرق في آرائه وأحواله، مع أننا أيها الإخوان بيننا وبين أهل المعاصي من المؤمنين رابطة قوية وهي الإيمان، فعلينا أن نعزز هذه الرابطة بالسعي بإصلاح ما اختل منها لا أن ندعها تتفكك وتتشتت، والله ولي التوفيق.(/3)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: حبسني العذر..
رقم المقالة: 1840
صاحب المقالة: مها عبدالرحمن سالم
-----------------------------------------
مضتِ القوافل يحدوها اليقين، وبقيتُ من خلفِهِم أحاول إشعال مصابيح دجاي بالفِكَر. طاف بِهِمُ النداء فلبَّوا، وطافَ بي فحبستني الحوابس.
أيا ريح، هلاّ جُدتِ؟!.. ألا مُرِّي بأعطافِ مكةَ ولتحملي شيئا من أنسامِ تِلكَ الديار..وعذبَ الأخبارِ.
وإنّ للقلبِ أجنحةً يطير بها ؛ فمتى قعدتِ الأركانُ عنِ الحَجِّ رحلَ هو وطافَ مع من طاف ووقفَ وباتَ وقَفَلَ ولبّى نداء الرحمة.. مع أنه حبيس الأضلاع..
قلبي..وأعلمُ أنه في رحلكمْ كصُواع يوسفَ في رحال الإخْوةِ
قلبي .. ويُحرمُ بالسجود ملبياً لبيكَ ربي .. يا مجيبَ الدعوةِ
قلبي.. ويسعى بين مروةَ والصفا ويطوفُ سبعاً في مدار الكعبةِ[1]
فيطفِقُ ذلكَ القلب يقلّبُ الصحائِفَ ؛ يمتطي الحرفَ فيحمِلُهُ في رحلةٍ على جناحٍ من (بلوغِ المرامِ) وآخَرَ من (رياضِ الصالحينَ)..لعلّهُ يدرِكُ بذاكَ أثَرًا للرُّحَلِ!! ويسكِن شيئا من اضطرابِ خواطِرِهِ.
فتحتُ لهُ الكتابَ, فوقَعت عيني على قولِهِ صلى الله عليه وسلم "ذروني ما تركتكم".. فما أرحبَ أرجاءَ الرحمةِ عند ذلكِ الشامخِ العظيمِ ..
وما أحسنَهَ إِذِ القصواءُ تحمِلُهُ صلى الله عليه وسلم حتى إذا استوت بِهِ في البيداءِ أهلّ بالتوحيدِ: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لكَ لبيك، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والملك، لا شريك لكَ... حتى إذا أتى البيتَ استلم الركن وزمل ثلاثا ومشى أربعاً!
كم توحي هذه الصورة بتراتيلِ الجمالِ..وبنمارِقِ الروعةِ، وكم تشي بالبهاءِ والعظمة.
ها هنا ترتسِمُ الخطوات والحركات، فكأنهُ يمتثل أمامنا؛ غائِبٌ عن أبصارنا حاضِرٌ بأفئِدَتِنا وتصوُّرِنا.
هاهُنا مرّ وهكذا فَعَلَ "خُذوا عنّي مناسِكَكُم". فالنفس تتلعثم توقاً إلى لُقياه صلى الله عليه وسلم.. ولا تملِكُ إلا الاقتفاءَ !(/1)
وليتَ الزمن كما نقلَ إلينا سيرتهُ أبقى شيئًا من صوتِهِ العذبِ إذ يقول "لبيك اللهم لبيكَ"!
فما ألطفَ النِّداءَ وما أعمقَهُ حينَ يسري، فإنَّ القلب يوشِكُ أن ينطلِقَ من قيد الأمكِنه
ولهفتي لابتدار البَوح مُرهقةٌ تكبّل الروحَ في أسْرِ النداءاتِ[2]
لشيخنا الطنطاوي _رحمه الله_كلام جميل عن تلبية الصحابةِ رضي الله عنهم، قالَ:
(كان الواحد منهم يربط بالله قلبه، ويخاطبه وحده، ينسى من معه، يسد الأبواب كلها من حوله، فلا يبقى إلا بابٌ واحد هو الذي فوقه، الباب الذي يظل مفتوحاً دائماً، لا يسد أبداً).
وبعد زوال الشمس كان وقوفُنا إلى الليل نبكي والدعاءَ ُ أطلناهُ
فكم حامدٍ، كم ذاكرٍ ومسبح وكم مذنبٍ يشكو لمولاهُ بلْواهُ
فكم خاضعٍ، كم خاشعٍ متذللٍ وكم سائلٍ مُدَّتْ إلى الله كفّاهُ
وساوى عزيزٌ -في الوقوف- ذليلَنا وكم ثوبَ عزٍّ في الوقوف لبسناه
ورُبٌّ دعانا ناظرٌ لخضوعنا خبيرٌ عليم بالذي قد أردناهُ
ولما رأى تلك الدموعَ التي جرت وطولَ خشوعٍ معْ خضوعٍ خضعناه
تجلّى علينا بالمتابِ وبالرضى وباهى بنا الأملاك حين وقفناهُ[3]
ياشعوري تَرَفّق..هدئ من روعِك، وأطلِق نواياكَ، دعها تلامِسِ العنانَ.
وتطرق أبوابَ السماءِ دعَواتُكَ؛ لعلّك تدرِك القومَ . وتدثّر بأسمالِ الصبرِ وتذكر أن نية المؤمِنِ خير ٌ مِن عَمَلِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الشاعرعبد المعطي الدالاتي.
[2] الشاعر حبيب بن معلاّ المطيري.
[3] من قصيدة الإمام العلاّمة ابن الأمير الصنعاني في الحج.(/2)
العنوان: حبوب (الفياغرا) ضجة إعلامية أم حقيقة علمية ؟
رقم المقالة: 296
صاحب المقالة: محمد السيد
-----------------------------------------
العنانة (العجز الجنسي) مشكلة عالمية تصيب أكثر من مائة مليون من الرجال في العالم وتصيب في أمريكا وحدها ثلاثين مليوناً من الرجال, والكثير من الأطباء يؤكدون أن معظم الرجال قد يمرون في فترة من فترات حياتهم بهجمة عابرة من العنانة ما تلبث أن تنقشع غيومها ويزول ظلامها, وعندما برز دواء "الفياغرا" أحيط بضجة إعلامية كبرى, والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا استحوذ هذا المستحضر على هذا الاهتمام العالمي، وهل هو بالفعل يعالج العجز الجنسي عند الرجال؟
هذا ما يجيب عليه الحوار التالي مع الدكتور "حسان شمسي باشا " - استشاري أمراض القلب بمستشفى الملك فهد العسكري بجدة -.
* ما أسباب حدوث العجز الجنسي وهل هي نفسية أم عضوية؟
قبل قرنين من الزمن كان يعتقد أن معظم حالات العنانة نفسية المنشأ. أما الآن فقد انقلب الرأي الطبي، فمعظم حالات العجز الجنسي تنجم عن سبب عضوي أو عضوي نفسي مشترك، حسب الدراسات التي أجريت في أمريكا وأوربا.
ويعتبر القلق والضغوط النفسية أكثر الأسباب غير العضوية شيوعاً. ثم إن الهمود والاكتئاب النفسي يمكن أن يكون سبباً للعنانة.
ومهم جداً ألا يعتقد من أصيب بالعنانة أن ذلك الأمر دائم لن يزول. فهناك الكثير من الحالات التي يمكن علاجها بدواء أو بدون دواء.
أما الأسباب العضوية للعنانة فتشمل مرض السكر، وأمراض القلب والشرايين، وارتفاع ضغط الدم، وبعض الأدوية، إضافة إلى إصابات الحوض، أو الأمراض العصبية.
والحقيقة أن تصلب الشرايين مسئول عن 40% من حالات العنانة عند الرجال فوق الخمسين من العمر. كما أنها شائعة عند مرضى السكر الكهلي حيث يمكن أن تصيب من 30 إلى 50% ممن هم فوق الخمسين.(/1)
وهناك عدد آخر من الأسباب كالفشل الكلوي والفشل الكبدي، وبعض الأمراض العصبية كالخرف المبكر (مرض ألزهايمر)، والتصلب اللويحي Multiple Sclerosis ومن المعروف أن العمليات التي تجرى لاستئصال البروستاتة يمكن أن تسبب العجز الجنسي. كما أن الرضوض أو المعالجة الشعاعية للحوض وأمراض أسفل النخاع الشوكي يمكن أن تؤدي إلى العنانة. وهناك عدد من الأدوية التي يمكن أن تسبب هذه الحالة ومنها المدرات البولية، وبعض أدوية ارتفاع ضغط الدم، أو بعض أدوية القرحة المعدية، أو المهدئات أو الأدوية المستخدمة في علاج الهمود النفسي. ويظل التدخين وشرب المسكرات سبباً هاماً من أسباب العنانة.
وينبغي على المريض استشارة الطبيب، فلا يوقف دواءاً أو يستعمل دواءاً آخر ما لم يكن ذلك برأي الطبيب. وهو الذي يمكن أن يضع تشخيصاً واضحاً يحدد سبب العجز الجنسي.
* هل من علاج للعجز الجنسي؟
كثير من حالات العنانة ذات المنشأ النفسي تحتاج إلى طمأنة الطبيب، ومصارحة المريض لطبيبه. فهناك من يحتاج إلى من يمنحه الثقة بنفسه أو من يبعث في نفسه حلاوة السكينة والاطمئنان. وهناك عدد من الوسائل التي استخدمت في علاج العنانة، ومنها الأدوية كاليوهمبين وغيره، ومنها الأعشاب والنباتات كالزنجبيل، والهليون، والجنسنغ، وغيره، ومنها الحقن الموضعية وتحت الجلد والوسائل الاصطناعية الأخرى. وأخيراً تثور ضجة دواء حديث يدعى " الفياغرا ".
* ما هو دواء الفياغرا؟
حبوب " فياغرا " اسمها العلمي sildenafil (سلدينافيل). وقد أثارت وسائل الإعلام الأمريكي وغير الأمريكي حولها ضجة عارمة منذ أن أعلنت إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية FDA في السابع والعشرين من شهر مارس (آذار) 1998 موافقتها على استعماله في علاج العنانة (العجز الجنسي). ومنذ ذلك الحين ووسائل الإعلام تتناقل هذا الخبر وتجري المقابلات والاستطلاعات في التلفاز والصحف والمجلات.(/2)
* كيف تعمل حبوب الفياغرا وهل بالفعل تعالج العجز الجنسي؟
تعمل حبوب الفياغرا على كبح إفراز إنزيم معين يساهم في تكريس العجز الجنسي. ولا يعمل الدواء ما لم تكن هناك إثارة جسدية طبيعية على النقيض من الحقن المستخدمة موضعياً.
والحقيقة أن هذا الدواء اخترع أصلاً لعلاج الذبحة الصدرية، إلا أنه فشل في تحقيق تلك المهمة. ولكن بعض المرضى الذين استخدموا هذا العلاج لاحظوا تحسناً في عجزهم الجنسي، ومن ثم انقلبت الأبحاث لتتجه إلى ذلك المجال.
وقد أجريت دراسات علمية على أكثر من ثلاثة آلاف من الرجال الذين يعانون من العجز الجنسي، فلوحظ حدوث تحسن في العنانة عند حوالي 69% منهم، إذا ما أخذت حبة الفياغرا قبل ساعة من المعاشرة الزوجية. إلا أن ذلك ترافق وبعضَ التأثيرات الجانبية، كالصداع الذي حدث بنسبة 15% ، والإحساس بتوهج الوجه عند 10% من المرضى، وعسر الهضم عند 6.5% واضطراب رؤية الألوان عند 3%، واحتقان الأنف عند 5, 4%، والغثيان والدوار والطفح الجلدي في نسب ضئيلة.
* هل استعمال الفياغرا مأمون؟
يجب أولاً تأكيد حقيقة هامة هي أن هذا الدواء طُرح حديثاً في الأسواق، وليست هناك أية دراساتٍ تثبت سلامته إذا ما استعمل على المدى البعيد. وعدد من استخدموه في الدراسات قرابة ثلاثة آلاف فقط.
ولهذا فقد حظرت السلطات الصحية في البلاد العربية استخدامه ريثما تتم دراسته بشكل أفضل وعلى مستوى أكبر، وطاردت من يبيعه في السوق السوداء، وفرضت العقوبات. وما ذلك إلا من أجل سلامة المستهلك العربي من الأدوية التي تأتي من كل حدب وصوب. ولا بد من التريث قبل إصدار أي حكم على أي دواء. كما ينبغي التنبيه إلى أن لا يستخدم أي دواء إلا بمعرفة الطبيب.(/3)
والحقيقة أننا لا نعرف في الوقت الراهن كل التأثيرات السلبية التي يمكن أن تنشأ عن استخدام الفياغرا. ولا نعلم كل حقائقه ومشاكله. ولا بد من وجود ضوابط ودراسات رصينة قبل أن تستطيع السلطات الصحية في بلادنا إصدار توصياتها بهذا الشأن.
ونعلم الآن أن الشركة المصنعة تحذر مرضى القلب الذين يتناولون مركبات النترات (مثل إيزورديل وإيزمو وأشباهها) من تناول حبوب الفياغرا حيث يمكن أن يسبب ذلك هبوطاً شديداً في ضغط الدم. كما تحذر من استخدامه عند مرضى قرحة المعدة. وعند من لديهم استعداد للنزف.
كما تحذر من استخدام أكثر من حبة واحدة في اليوم (بجرعة قصوى هي 100 ملغ)، وباختصار فإننا في حاجة إلى مزيد من الدراسات العملية التي تثبت فعالية هذا الدواء وسلامته قبل أن تتمكن الجهات الصحية المسئولة في بلادنا العربية من السماح له.
وأخيراً نحذر أولئك الأسوياء الذي لا يشكون من العجز الجنسي من اتباع الشهوات والسعي خلف تلك الموضات، دون إدراك ما يمكن أن يسببه تناول مثل تلك الأدوية من مخاطر ومحاذير ربما لا يحمد عقباها.(/4)
العنوان: حتى تكونَ خدماتُ رسائلِ الجوال هادفةً لا محرمة أو مزعجة!
رقم المقالة: 1592
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
لعلك عانيتَ كما عانيتُ أولَ الأمر مع البريد الإلكتروني، ولا سيما رسائله المزعجة، فقد كان أغلبُها لا يدخل في إطار اهتماماتنا، وربما كانت دعاية ترويجية لسلعٍ المرءُ في غنى عنها.
واليوم بدأت تنتشرُ ظاهرة مشابهة، ولكنها عن طريق الجوال؛ فتارةً رسالة من الخارج، وتارة من الداخل، وأما مواضيعُ الرسائل فمختلفة جداً، فمنها الساقطُ المنحط الذي يدعو إلى الرذيلة جهاراً، ومنها ما دون ذلك.
وليس غرضي الوقوف مع الرسائل غير المفيدة كتلك التي تقول: أرسل الرقم كذا إلى كذا لتصلك أجملُ أهداف الفريق الفلاني مثلاً، فأدنى ما في هذه وأمثالها شراءُ ما لانفع فيه، والعاقلُ خصمُ هواه الباطل، أما مروِّجو هذه المواد التي لا فائدة فيها وكذلك مروجو المواد التي إثمُها أكبرُ من نفعها؛ كأصحاب القِمار المحرم: أرسل كذا لتفوز بالجائزة الفلانية، أو أصحاب المقاطع الهابطة، وغيرها. فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً، وليعلموا أن ما قدموه للأمة يُكتب وآثارُهم، وكل شيء يُحصى في إمام مبين.
ولكني أحب تنبيهَ بعض إخوتي القائمين على رسائل جوالات يحسبونها هادفة، إلى بعض الإشكالات في تعاملهم، ربما أخرجت بعضُها رسالتَهم عن حد كونها شرعية، وربما أفقدتهم بعضُها المصداقيةَ، وربما كان أثرُها دون ذلك، وأقتصر على ذكر خمسة مظاهر شائعة في بعض هذه الخدمات:(/1)
أولاً: بعض الرسائل إذا نظرت في فائدتها ومقدار نفعها وجدتها ليست بذاك، بعضها ركيكٌ لا تُحتمل ركاكته، مسجوعٌ سجعاً متكلفاً كسجع الكهان أو هو أقبح! وبعضُها قد يكون مفيداً حسن الصياغة، لكن لا توازي فائدتُه الثمنَ الذي تكلفه الرسالة، فعلى سبيل المثال: هل دَفْعُ المستخدم مبلغاً من المال شهرياً لمدة عام، هل هذا الثمن يوازي فائدة تجزئة كتاب ثمنه في المكتبات دراهم معدودات وإرسال مضمونه في رسائل جوال خلال عام؟
بالنسبة لي -وأظن أن كثيرين مثلي- لا يرضيهم هذا، فكيف إن كان جلُّ هذا المبلغ –المسحوب خلال العام- يذهب إلى شركات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل قد يكون لهم في تعاملاتها نظر، قد يحتمل أناسٌ التعامل معها إذا كانت المصلحة راجحة ومردود الفائدة ظاهر، لكنه لا يحتمل هذا التعامل إن كان مردود الفائدة ضعيفاً.
إن الواجب أخي الكريم أن تحرص على إفادة الناس برسائلك، وأن تجهد في تقديم مادة توازي ما يبذلونه طامعين في فوائدك، وتذكر دائماً: أنت داعية هادف، ولست مجرد مالك لمشروع تجاري.
ثانياً: بعض الرسائل الدعوية فيها نوع غرَر، ترويجُها يشبه ترويجَ المجهول أو الموصوف بوصف غير منضبط مقابل ثمن معين، ولعله قد جاءتك رسالة يوماً ما تقول: أرسل كذا إلى الرقم كذا لتشاهد كَيتَ وكَيتَ مما تتوق نفوسُ المسلمين لرؤيته، فيدفعُك الفضول للدفع وأنت لا تدري هل الصورة -موضوع الدعاية دعك من سائر الخدمة- توازي قيمة ما تدفع أو لا، وقل مثل هذا في الرسائل التي تقول: أرسل كذا ليصلك مقطع، ثم اذكر ما شئت من عبارات الوصف غير المنضبط التي لا تُخرج الموصوفَ عن حد الجهالة، وقد ينضاف إلى هذا جهلُك بالمبلغ المقرَّرِ سحبُه منك إن أنت قد أرسلت، وليس هذا بالغرر اليسير فبعضُ الرسائل تكلفتها مرتفعة، فكيف إذا كانت الخدمةُ على مدار الشهر أو العام، فكيف إذا كانت تصل لآلاف المشتركين.(/2)
ثالثاً: كثيراً ما ترسل لك رسائل حاصلُها: أرسل كذا للاشتراك في خدمة كيت من جوال كذا، ثم إذا أرسلت الرقم وساءتك الخدمة لم تعرف كيف تتخلص من السحب المتصل من رصيدك إلاّ بعد حين قد يطول وقد يقصر، بحسب اجتهادك! والذي ينبغي أن تُرْسَل رسالة حاصلها: أرسل كذا للاشتراك، ولإلغاء الخدمة أرسل كذا.
وتذكر دائماً أنه لا يحل مالُ امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس منه.
رابعاً: كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يتخولُ خيرَ القرون وأرغبَهم في الفضل بالموعظةِ مخافةَ السآمة، فعمومُ الناس اليوم للمراعاة أحوج، وبعض رسائل الجوال الهادفة تصل في أوقات مزعجة، ولا سيما أن كثيراً منّا بات يتخذ من الجوال منبهاً يوقظه، وقد كانت بعضُ تلك الجوالات الهادفة تصلُني رسائلُها نحوَ الساعة الثالثة صباحاً، وأنا رجل خفيف النوم يدفعني الفضولُ البشري عندما أستيقظ على ورود رسالة إلى الذهاب إلى الطاولة والنظر لمعرفة موضوع الرسالة التي جاءت في ذلك الوقت الحرج!
وقد حاولتُ التغافل والتجاهل حيناً فلم أطق، وكان هذا أحدَ أسباب طلبي من بعض الفضلاء الذين يُشرفون على خدمة مفيدة إلغاء اشتراكي فيها.
فلعله من المفيد النص في العقود المبرمة بين صاحب الخدمة والشركات التي تقوم بتسويق الخدمة والترويج لها أن يكون إرسالُها الرسائلَ في أوقات محددة ملائمة لعموم الناس.
خامساً: توثيق المعلومة يجعلها أهلاً للثقة، ومما ينبغي أن يتعوَّده الناسُ ترك الأخذ عن كل من هبَّ ودب، وقد قيل: إن هذا العلمَ دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، وبعضُ الجوالات لا تعرف من يشرفون عليها، ثم تجيء الرسائل منها بغير توثيق؛ ربما لا تدري من القائل، وإذا علمت فقد تجهل أين قاله، وترك التوثيق الدقيق قد يفتح باباً للتقوُّل على المشايخ والعلماء، وترك ما يجعل التثبت ممكناً من جملة تربية الناس على التثبت في النقول والأخبار وهذا مطلوب.(/3)
فهذه ملاحظات خمس لعل التفطن إليها من قبل المشرفين على بث الرسائل الهادفة من الأهمية بمكان.
أما وصيتي للمشتركين: فأن يعتنوا برسائل من يراعي في إرساله ما ذُكر، وأن يقتصروا على المفيد منها بقدر الحاجة، ومما يحسن التنبيه عليه أنه لا حاجة –في الغالب- إلى تَكرار المفيد، فإن كان لك أيها الطالب أو عضو الأسرة زملاء أو إخوة فلا حاجة لأن تشتركوا جميعاً في نفس الخدمة، ويحسن أن تنسقوا توزيع الاشتراكات بينكم فيشترك أحدكم في خدمة جوال وآخر في خدمة أخرى، ثم تدارسوا الفوائد وتبادلوها في اجتماعاتكم وملتقياتكم ولا سيما مع إمكان الاستفادة مما يَسَّرَته الحضارة وأجهزة الجيل الحديث من تبادل ولو لوسائط مرئية أو مسموعة بغير تكلفة عبر طرق متعددة.
وبحمد الله فقد ظهرت خدمات رسائل هادفة ومميزة جديرة بالعناية، ولست في صدد الترويج لها، ولكن تَأَمَّل العناصر الخمسة الماضية تعرف بعضها.
أسأل الله أن يبارك في القائمين عليها، وأن يبارك لهم فيها، وأن يعظم النفع بها.(/4)
العنوان: حتى لا ننساهم!!
رقم المقالة: 1209
صاحب المقالة: خالد الشايع
-----------------------------------------
يحل شهر رمضان في عامنا هذا، والآلام والمصائب في الأمة عديدة، منوعة، زائدة على رمضان المنصرم، فثمة المشردون والجَوعَى، والخائفون والمأسورون، وغيرهم من المُعْدَمِين في أقطار شَتَّى من العالم.
فكيف هو موقفنا من هذه الحال؟
أولاً: ينبغي أن يستشعر العبدُ نعَمَ الله عليه، فمهما كانت حالُه ففي الناس من هو أقل منه راحةً وأكثر بلاءً. وما هو فيه النعمة لا يحصيه، ولا يستطيع مقابلته شكرًا.
ثانياً: إنَّ استشعار المسلم لحال إخوانه يحمله على أن يكون موقفه إيجابيًّا نحوهم، فيؤدي ما يمكنه أداؤه، بالدعاء لهم، وبمدِّ يَدِ العون بما تبرأ به ذمته، سواءً أكان ذلك ماديًّا أو معنويًّا.
وهذا من حِكَمِ الصيام العديدة: أن يستشعر المسلم أحوال إخوانه على اختلاف أوضاعهم.
وقد سئل بعض السلف: لِمَ شُرع الصيام؟
قال: ليذوق الغنيُّ طعمَ الجوع فلا ينسى الجائع.
وهذا شيءٌ من حِكَمِ الصوم وفوائده.
وبمثل هذا يتحقق مبدأ الأخوة بين أهل الإسلام، والولاء لهم بما يقدرون نحو بعضهم
ومصداق ذلك قول الله تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ }.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلُ المؤمِنِينَ في تَوَادِّهِم وتَرَاحُمِهِم، كَمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِدِ، إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجَسَدِ بالحُمَّى والسَّهر )).(/1)
وإنَّ مما ينبغي أن يُعْلَم أنَّ رمضان موسم للجود والإحسان، بكل أنواع الإحسان، ولنا في سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - خيرُ أُسوَة، ففي "الصحيحين " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس ، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بالخير من الرِّيح المُرْسَلَة)).
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: " وهذا التشبيه في غاية ما يكون من البلاغة في تشبيه الكرم بالريح المرسلة، في عمومها، وتواترها، وعدم انقضائها".
قال الإمام النووي - رحمه الله -: وفي هذا الحديث فوائد منها: بيان عظم جُودِه - صلى الله عليه وسلم -، ومنها: استحباب إكثار الجُود في رمضان، ومنها: زيادة الجُود والخير عند مُلاقاة الصالحين، وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم.
نسأل الله تعالى أن يَهَبَ لنا من لَدُنه رحمةَ، إنه هو الوهاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/2)
العنوان: حتى لاتكون وغداً يوماً ما!
رقم المقالة: 1059
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
اشترى الوالد لابنه زيد - وكان في الحادية عشرة من عمره - جملة قصص؛ ليعوده القراءة بعد أن سمع بأهميتها، وثمرات تنشئة الأبناء عليها.
حرص في شرائه على جلب القصص المثيرة، التي قد تجذب اهتمام ابنه.
وبعد بعض التحفيز اقتنع زيد بقراءة إحداها، وقد كانت سلسلة، تتحدث عن مغامرات رجل ذي قدرات خارقة، يعمل في بعض أجهزة المخابرات العربية، له قدرة فائقة على مباغتة أعدائه، وإتيانهم من حيث لا يحتسبون، يحسن المبادرة، سريع الاستجابة، يملك تحريك أطرافه الأربعة في آن واحد أثناء الشجار مع الخصم!
قرأ الطفل القصة فشدته!
سقط في حبال تلك الكتب!
أدمن قراءتها!
والوالد مسرور!
لقد نجحت الخطة التربوية.
بعد مدة بدأ يَظهر شيءٌ من السلوك العدواني على الابن تجاه إخوته الصغار.. لم تطق الأم صبراً.. شكت إلى الوالد سلوك زيد وما صنعه بأخيه عمرو!
جاء الوالد يبحث عن زيد، فقيل له: هو في الغرفة، لا يجرؤ أحد على دخولها!
دخل الوالد غرفة الأطفال المبعثرة، وقد تناثرت أشلاء الألعاب على أرضيتها..
نظر يمنة ويسرة فلم يجد زيداً!
تساءل بصوت مسموع: أين ذهب هذا الولد؟
وفجأة عقدت الدهشةُ المشوبة بالغضب ألسنةَ الأم وأطفالِها الثلاثة، الذين وقفوا في ركن قَصي، يرقبون ما يكون، وذلك إثر دَوِيِّ صوت زيد في أرجاء المكان، من وراء الأب حيث لم يحتسب، وهو يقول بنبرات صارمة: خلفك أيها الوغد!
استدار الأب على عقبه بسرعة... ولا أدري هل تحركت أطرافه الخمسة - والخامس الرأس! - في آن واحد تجاه الغلام لتلقينه درساً في الأخلاق أم لا؟!
لم أسأل عن تفاصيل القصة بعدها، فالضحك قد غلبني..(/1)
ولاتحسبنّي - أيها القارئ الكريم - أقص عليك خبراً من نسج الخيال.. بل ما ذكرته حاصل قصة حقيقية، يحدثني بها جار لوالد الولد المذكورين، مع تغيير في الأسماء والحبكة، وبقاء حاصلها: "خلفك أيها الوغد!" بالنص.
ولست أهدف من هذه الكلمات إلى السخرية بأصل فكرة القراءة، وأهمية تنشئة الناشئة عليها.
فكثير من المختصين في مجال التربية ينصح بالقراءة، ويذكر أهمية تعويد الأطفال عليها منذ الصغر، ويقترح بعضهم قصصاً ينبغي أن تقتنى وتسرد على الطفل من الكتب، قبل دخول المدرسة.
ولاشك أن القراءة أسلوب من أساليب التربية الفاعلة، وتنشئة الأطفال عليها تعود عليهم بالنفع في سائر حياتهم؛ كيف كانت تخصصاتهم إذا كبروا، بالإضافة إلى أن سرد القصص والأخبار أمر محبب لنفوس الصغار، فالطفل في سني عمره الأولى فضولي، واسع المخيلة، يتطلع لما يشبع فضوله، ويجول فيه خياله، كما أنه قابل للتشكل، سريع الاستجابة، كصاحبنا زيد!
غير أن القراءة إن هُذِّبت فسوف تثمر - بإذن الله تعالى- ثمرةً حلوة كما نريد.. وإن أهملت شجرتها فسوف تكون ثمرتها مرة!
وحتى تثمر القراءةُ تربيةً محمودة للناشئة؛ فلابد أن تكون موجهة، تخدم أهدافاً تربوية وقيماً مرضية؛ لئلا يكون صاحبها نشازاً في المجتمع، بل عضواً صالحاً فيه؛ نشأ وترعرع على رؤية واضحة يفيد بها بني جنسه وذويه، وإلاّ فلن تُحمَد ثمرةُ تربيةٍ تثمرُ قيماً لا تنسجم مع قيم مجتمعه، بل ربما أثمرت لديه أفكاراً ورؤى تخدم جانب الشر والرذيلة في المجتمعات، أو على الأقل تجعله كزيد! يعيش في عالم من الخيال والترهات والأوهام، قد تفضي به إلى إفساد حياة الإخوة، والتجرؤ على جناب الأبوين.
فانتبه إلى قراءة ابنك؟
وانظر أي ثمرة من الثمرتين سوف تخرج؟
قبل أن تسمع ما سمع صاحبنا!
أيها.. الأب الكريم.(/2)
العنوان: حتى يكون العمل للإسلام صواباً
رقم المقالة: 897
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
بعض الأمور قد تكون مقررة من الناحية النظرية، بيد أنها تُغفَل في العمل لأسباب كثيرة، والذي يعنيني هنا هو: أن بعض ما يُغفَل في التطبيق قد يحدث بسبب إغفاله خللٌ ليس باليسير، ولعل من تلك الأمور - التي ربما أغفلها بعض الأفاضل في التطبيق، فحدث بسبب إغفالهم لها أثر سيء - مكانةُ أهل العلم. أما إغفالها العملي فبتأخيرهم - مع علمهم بثبوت فضلهم، وتقدمهم على غيرهم - أو تسويتِهم بغيرهم عند إصدار القرارات، أو حتى عند تقييم أعمالهم ووظائفهم مقارنة بآخرين.
ويبدو أن احتلال العالم الإسلامي أفلح في غرس هذه الإشكالية في الأمة، فخرج المحتل ونالت الدول استقلالها، ولا تزال (مرتبات) حَمَلةِ الشريعة العُدُول ووظائفُهم هي الدنيا في كثير من بلاد المسلمين، هذا إن قُدِّرَ لشهاداتهم اعتبارٌ؛ فقد حدثنا بعض الفضلاء من دولة شقيقة مجاورة: أن من معه شهادةٌ عليا في الشريعة، وكان مبناها على ثانوية شرعية؛ فهي ملغاة غير معتبرة في بلاده!
ولذا زهد كثير من المبرزين، ومن حباهم الله جَودةَ أذهان وذكاءً، في التخصصات الشرعية، بل حتى غدا جل من يدخلها ممن لم يتيسر له غيرها.
والعجيب أن هذا الأثر الاستعماري - إن جاز التعبير - انعكس على بعض القائمين على أعمال إسلامية، فقد تجد في برامج بعضهم: كفالة داعية، أو طالب علم، أو عالم، في بعض بلاد الله، فإذا قارنت القيمة المادية المبذولة في الكفالة مع بعض المصاريف على مشاريع أخرى، أو على رواتب بعض موظفيهم الإداريين أو الفنيين، في نفس تلك البلاد؛ وجدت البون شاسعاً، وقد تجد لهذا - في بعض الأحيان - مسوِّغات، ولكن في بعضها قد لا يبدو. والأمر لا يقف عند حدود الكفالات، بل يتعداها إلى ميادين أخرى؛ تجد أعمال أهل العلم مغموطة غير مقدرة.(/1)
ومِن أَضْرُبِ الغَمْطِ الأخرى، التي قد تكون أشد من سابقتها: تأخير رأيهم ونظرهم؛ إذا تعارض مع رأي غيرهم في ميادينَ؛ حَرِيٌّ أن يقدم رأي أهل العلم ونظرهم فيها، بل في مجالات لا يُسوَّغ أن يُستَنطَق فيها غيرُهم، أو يُتخَذ فيها رأيُ جاهلٍ بالشريعة فيصلاً.
والحق أنه من العسير أن تتأتى دعوة الناس إلى التزام الشريعة في حياتهم، وغرس الإيمان بها في نفوسهم، وترسيخ القناعة بضرورة الرد إليها والاهتداء بهديها، وجعل القرآن لهم قائداً وإماماً؛ مع غمط من ينبغي أن نجعلهم القادة حقَّهم.
وللأسف؛ بعض الإسلاميين يريد من علماء الشريعة ومنظري الإسلام أن يكونوا تبعاً! لا يَقدِرُهم قَدْرَهم، ولا ينزِلهم منزلتَهم التي أنزلهم الله، بل يضع أقواماً فوقهم ينازعونهم أمرهم الذي عقده الله لهم؛ إذ أمر بطاعتهم والرد إليهم فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، وقال: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83]، ثم يزعم أنه يعمل لأجل بسط سلطان الشريعة في البلاد وبين العباد!(/2)
ربما لم تجد إسلامياً في حكم شرعي على قضية طبية، يخالف ما قرره العلماء العالمون بالشريعة، البصيرون بالواقعة الطبية، والعالم إن كان عالماً عاملاً بمقتضى علمه؛ فلن يقرر حكماً دون أن يفقه النازلةَ، وتفاصيلَها التي يحتاجها لأجل إصدار حكمه، وبعد ذلك يردُّ حكمَها إلى ما تقرر عنده، من نصوص الشريعة وأصولها وقواعدها.
وبحمد الله لا نجد في واقعنا نفراً من الإسلاميين، ينازعون علماء الشريعة في الحكم على مسائل اقتصادية، تتعلق بالتجارات مثلاً؛ فيحكمون بِحِلِّ ما قرر العلماء تحريمه أو العكس، بحجة أن العلماء ليسوا تجاراً! وإنما يترك أمر التجارة لأهلها.
والسبب هو أن أمر الحل والحرمة مستقر - عند العامة - رده إلى نصوص الشريعة، وإلى أهلها العالمين بها، فالتجارة والبيوع - مثلاً - وإن لم يكن أهل العلم من أصحابها، إلاّ أن الحكم على صورها ونوازلها مردود إليهم، يصدر عن رأيهم فيها، إذ بعد تصورهم لمسائلها يكون إيقاع الحكم الشرعي عليها.
غير أن هذه الأمر الظاهر قد يحصل فيه اضطراب على بعض الأصعدة، ولعلي أمثِّل ههنا بمثال، اضطرب فيه بعض الحادبين العاملين للإسلام، على تباين في درجة الاضطراب.
والمثال المضروب متعلق بالصعيد السياسي؛ فبعد أن أفلح المستغربون وأهل العلمنة في الفصل بين السياسة والدين، في نفوس بعض المثقفين، حتى غدا عند بعضهم أن محل حديث أهل الشريعة منحصر في أحكام الطهارة!!
ولعل من أسباب هذا الفصل: جهل بعض طلاب العلم بقضايا السياسة، وربما كانت لذلك دوافع مختلفة، بعضها نابع من تنحيتهم القسرية، وبعضها ناتج عن نحو رغبة بعضهم عن هذا المجال، وإيثارهم ترك الخوض فيه لبعض العلماء المختصين، كما أن أفرعاً من العلم قد يتركها بعض أهل العلم لأسباب خاصة تتعلق بهم.(/3)
وهؤلاء كمن ترك الخوض في علم المواريث - مثلاً - لضعفه في الحساب، ومثل هذا يعذر ولا ينبغي أن يكلف ما لا يطيق، غير أن جهل عالم ما بالمواريث لا يقتضي أن يجهل غيره من العلماء قسمتها، بل واجب على أهل العلم أن يُلِمَّ بعضهم بها، وكذلك السياسة، بيد أن أصحاب الأهواء اتخذوا جهل بعض طلاب العلم ذريعة لمآربهم في الفصل بين الشريعة والحياة، أو عدم الرد إليهم في الشؤون السياسية.
والإشكال الكبير يكمن في متابعة بعض الإسلاميين لهم، فتجد بعضهم يبني خططه ويوجه تصرفاته تبعاً لتحليلات سياسية مجردة عن حكم الشريعة، صدرت ممن ليس له إلمام بالشريعة، وإن كان سياسياً إسلامياً في الجملة، فلا يبالي أن يدعم أو يؤيد أو يصوت أو ينصر مَن حذر علماء الشريعة من تأييده؛ لظنه أن المختصَّ الجاهلَ بالشريعة أبصر بالمصلحة السياسية، ولا يُقَدِّرُ أن المصلحة المعتبرة هي الشرعيةُ الكلية التي تراعي المصلحةَ السياسية، وتوازن بينها وبين المفاسد الأخرى الناجمة عن مخالفة الشرعية، لا المصلحة السياسية أو الاقتصادية أو الطبية الضيقة، ولئن كانت الجدوى الاقتصادية وحدها ليست مسوغاً للإقدام على مشروع، وكذلك الطبية؛ فينبغي أن نعي أن المصلحة السياسية كذلك لابد فيها من الرد إلى أهل العلم المعتبرين، فحدُّ السياسي أن يقرر المصلحة السياسية المرجوة خلف عمل، وما سوف ينجم عنه من آثار وفقاً للقوانين، أما أن يقول للناس: يندب لكم كذا، ويحرُم عليكم كذا، ويجب عليكم كذا!! فهذا ما ليس له طالما كان سياسياً مجرداً.
بل في كل عمل يتعلق به حكم من الأحكام التكليفية؛ يتعين الرد إلى الشريعة وأهلها، من أجل استنباط الصواب فيه.
ومن المفارقات المضحكة أن نرجع لأهل العلم في قضايا يسيرة - أدلتها واضحة لكثير من طلاب العلم - متعلقة ببعض العبادات مثلاً، ونقر بالحاجة إليهم في ذلك الأمر اليسير، ونعلن الافتقار إليهم... ثم نستبد بالرأي دونهم في قضايا أمة.(/4)
إن من علامات اضطراب العامل للدين: خللُ ميزانِ التقييم لديه فإن وجدته يحرص على التحليل السياسي؛ إن كان مصدره غربياً، أو مِن جاهلٍ بالشريعةِ موغلٍ في السياسة، ولا يعبأ به؛ إن صدر عن عالم أو طالب علم، نظر في القضية ثم أصدر فيها رأياً، مُعْتَمِداً فيه على حاصل سنوات من مكابدة العلم والنظر في نصوص الشريعة؛ إن وجدته كذلك فاعلم أنه قد جانب الصواب.
فمثل هذا - من حيث لا يشعر - يدعو إلى إقصاء الرؤية الشرعية عن التطبيق في أرض الواقع، والاستعاضة عنها برؤيةٍ لمثقفين؛ سياسيين في مجال السياسة، واقتصاديين في مجال الاقتصاد، أطباءَ في مجال الطب... إلخ، والنتيجة: دولة علمانية، أو منحرفة نحوها! فهل
يعي العاملون للإسلام هذه الحقيقة.
أخي العامل للدين!
إذا أردت علوَّ الدين حقاً فأظهر أهلَه، وإذا أردت تعظيمه في النفوس فعظم ذويه، وإن كنت صادقاً في دعوة الناس لاحترام الشريعة فاحترم حملتها.. قدر منزلتهم، واعرف مقامهم، وأعلن فضلهم على من سواهم، وتمثل دائماً في فعالك قول ربك: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَْلْبَابِ} [الزمر:9]، واجعل ديدنَك الردَّ إلى من أمر الله بالرد إليهم؛ لتكون على صواب.
وإلاّ فأعد النظر في دعوتك، وتأمل إلامَ تدعو؟
فإن المشكلة الكبرى ليست في بعض الحكومات، وتنحيتها لأهل العلم، أو عدم تقديرهم لمحلهم، بل الأدهى أن يكون هذا الإشكال لدى مؤسسات ومجموعات وجماعات وناشطين إسلاميين!(/5)
العنوان: حج الأبرار: معانٍ وأسرار
رقم المقالة: 1747
صاحب المقالة: عبدالله بن محمد البصري
-----------------------------------------
حج الأبرار: معانٍ وأسرار
فقه الحج والعمرة
القويعية.
24/11/1427
جامع الرويضة الجنوبي.
محامد وأدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الشوق إلى البيت الحرام.
2- من معاني الحج.
3- فضل العشر من ذي الحجة.
4- من أحكام المضحي.
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم - أَيُّها النَّاسُ - وَنَفسِي بِتَقوَى الله - عز وجل – {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
أَيُّها المُسلِمُونَ، وَمَا زَالَ الحَدِيثُ مُتَعَلِّقًا بِالرُّكنِ الخَامِسِ مِن أَركَانِ الإِسلامِ، رُكنِ الحَجِّ وَمَا أَدرَاكَ مَا الحَجُّ؟! أَفئِدَةٌ مِنَ النَّاسِ تهوِي إِلى المَسجِدِ الحَرَامِ، وَبَيتٌ هُوَ مَثَابَةٌ لِلنَّاسِ وَأَمنٌ، وَأَمَاكِنُ مُقَدَّسَةٌ وَمَشَاعِرُ مُعَظَّمةٌ، وَأَعمَالٌ فَضِيلَةٌ وَمَنَاسِكُ جَلِيلَةٌ، تَوحِيدٌ وَمُتَابَعَةٌ، وَصَبرٌ وَمُصَابَرَةٌ، وَصَلاةٌ وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ، وَحَلقٌ وَتَقصِيرٌ وَرَميٌ لِلجِمَارِ، وَوُقُوفٌ وَمَبِيتٌ وَدُعَاءٌ، وَعَجٌّ بِالتَّلبِيَةِ وَالتَّكبِيرِ، وَثَجٌّ لِدِمَاءِ الهَدَايَا وَالأَضَاحِي وَالفَدَى، وَإِطعَامٌ لِلبَائِسِ الفَقِيرِ، وَأُخُوَّةٌ جَامِعَةٌ، وَأَخلاقٌ عَالِيَةٌ، وَشُهُودُ مَنَافِعَ عَدِيدَةٍ، وَحُصُولُ خَيرٍ عَمِيمٍ.(/1)
وَمَهمَا تحدَّثَ مُتَحَدِّثٌ أَو أَفَاضَ مُتَكَلِّمٌ فَلَن يُلِمَّ بِطَرَفٍ مما يجِبُ الحَدِيثُ فِيهِ عَن هَذَا الرُّكنِ العَظِيمِ، وَلَكِنَّ ممَّا يحسُنُ الحَدِيثُ فِيهِ وَنحنُ عَلَى أَبوَابِ مَوسِمِ الحَجِّ إِلى بَيتِ اللهِ العَتِيقِ جُمَلاً مِنَ المَعَاني التي احتَوَاهَا الحجُّ، وَالتي هِيَ في حَقِيقَتِهَا مِن مَبَادِئِ الدِّينِ وَخُطُوطِهِ العَرِيضَةِ، مَعَانٍ كُلَّمَا كَانَت حَاضِرَةً في قَلبِ المُسلِمِ، وَفَقِهَهَا فُؤَادُهُ وَامتَثَلَهَا في حَيَاتِهِ، كَانَ إِلى اللهِ أَحَبَّ وَأَقرَبَ، وَبِالأَجرِ أَحظَى وَأَجدَرَ، وَبِتِلكَ العِبَادَاتِ أَكمَلَ استِفَادَةً، وَأَتَمَّ نَفعًا.(/2)
فَمِن تِلكَ المَعَاني الجَمِيلَةِ التي يجِبُ الإِيمانُ بها وَتَعمِيقُها في القُلُوبِ؛ لِتَتَعَلَّقَ بِعِبَادَةِ عَلاَّمِ الغُيُوبِ أَنَّهُ – سُبحانَه - لم يَشرَعْ لِعِبَادِهِ أَيَّ عِبَادَةٍ لِيُحرِجَهُم أَو يُضَيِّقَ عَلَيهِم، أَو لِيُكَلِّفَهُم مَا لا يُطِيقُونَ أَو يُثقِلَ عَلَيهِم بِمَا لَيسَ في وُسعِهِمُ القِيَامُ بِهِ، وَإِنما شَرَعَ لهم ما شَرَعَ لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ، وَأَسرَارٍ جَلِيلَةٍ، وَمَنَافِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنهَا مَا هُوَ في حَيَاتِهِم الدُّنيَا، في أَبدَانِهِم وَقُلُوبِهِم وَأَنفُسِهِم، وفي مجتَمَعَاتِهِم وَبُلدَانِهِم وَعلاقَاتِهِم، وَمِنهَا بَل هُوَ أَهَمُّهَا وَأَعظَمُهَا مَا هُوَ في الآخِرَةِ، ممَّا أَعَدَّهُ لهم مِنَ الفَوزِ الكَبِيرِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، قال – سُبحَانَهُ -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77 – 78].(/3)
وَإِنَّ لِلحَجِّ مِنَ الحِكَمِ وَالأَسرَارِ وَالمَنَافِعِ النَّصِيبَ الكَبِيرَ وَالقَدرَ العَظِيمَ، قال - جل وعلا -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27 – 28]، قال ابنُ عَبَّاسٍ - رضي اللهُ عنهما - في تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: "مَنَافِعُ الدُّنيَا وَالآخِرَة، أَمَّا مَنَافِعُ الآخِرَةِ فَرِضوَانُ اللهِ جل وعلا، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنيَا فَمَا يُصِيبُونَ مِن مَنَافِعِ البُدنِ وَالذَّبَائِحِ وَالتِّجَارَاتِ".(/4)
وَإِنَّهُ لَو وَعَى المُسلِمُونَ هَذَا المَعنى العَظِيمَ، وَفَقِهُوا هَذَا الأَصلَ الكَبِيرَ، وَأَنَّهُ مَا مِن عِبَادَةٍ إِلاَّ وَلِتَشرِيعِهَا بَالِغُ الحِكمَةِ وَعَمِيقُ الأَسرَارِ، وَفي أَدَائِهِم لها جَمُّ الفَوَائِدِ لهم وَكَرِيمُ الآثَارِ عَلَيهِم، لَمَا تَوَانى عَن الطَّاعَةِ مُتَوَانٍ، وَلا تَكَاسَلَ في العِبَادَةِ مُتَكَاسِلٌ، وَلَمَا أَخَّرَ الحَجَّ مُؤَخِّرٌ، وَلا سَوَّفَ في أَداءِ الفريضَةِ مُسَوِّفٌ، لَكِنَّهَا النَّظَرَاتُ الدُّنيَوِيَّةُ الدُّونِيَّةُ لَمَّا استَولَت عَلَى العُقُولِ وَامتَلأَت بها القُلُوبُ، صَارَ الاهتِمَامُ بما نَفعُهُ قَرِيبٌ، وَأَثَرُهُ مَادِيٌّ محسُوسٌ، وَأُوثِرَتِ الحَيَاةُ الدُّنيَا على الآخِرَةِ، وَعَمِيَتِ الأَبصَارُ وَشُغِلَتِ البَصَائِرُ عَن البَاقِيَاتِ الصَّالحَاتِ، وَلَكِنَّ المُتَّقِينَ إِلى اللهِ يَسِيرُونَ، وَفِيمَا عِندَهُ يَطمَعُونَ، وَبِمَوعُودِهِ يُؤمِنُونَ، {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].(/5)
وَمِن مَعَاني الحَجِّ السَّامِيَةِ، وَدُرُوسِه العَظِيمَةِ، مَا وَرَدَ في رَمزِهِ وَشِعَارِهِ، أَعني التَّلبِيَةَ التي يُرَدِّدُها الحَاجُّ مِن حِينِ إِحرَامِهِ إلى أَن يَرمِيَ جمرَةَ العَقَبَةِ، وَتَلهَجُ بها الأَلسِنَةُ في مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ، وَلا تَمَلُّ مِن تَردَادِها وَتَرطِيبِ الأَفوَاهِ بها، وفي هَذِهِ التَّلبِيَةِ النَّبَوَيِّةِ الكَرِيمَةِ تَذكِيرٌ لِلأُمَّةِ بِأَعظَمِ مَا يجِبُ أَن تَهتَمَّ بِهِ وَتُحَافِظَ عَلَيهِ، وَتَغرِسَهُ في النُّفُوسِ، وَتَبُثَّهُ في الجُمُوعِ، وَتَسِيرَ عَلَيهِ في أَعمَالِها كُلِّها، وَتَستَشعِرَهُ في عِبَادَاتِها جمِيعِها، ذَلِكُم هُوَ تَحقِيقُ التَّوحِيدِ للهِ، تَحقِيقُ الغَايَةِ القُصوَى مِن خَلقِ الإِنسَانِ وَاستِخلافِهِ في هَذِهِ الأَرضِ، {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ((لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ، إِنَّ الحَمدَ وَالنِّعمَةَ لَكَ وَالمُلكَ، لا شَرِيكَ لَكَ))، استِجَابَة للهِ بَعدَ استِجَابَةٍ، وَتَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّركِ، وَإِقرَارٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ، وَحَمدٌ لَهُ عَلَى نِعمَةِ الهِدَايَةِ لِلإسلامِ، قال - جل وعلا -: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ للهِ} [البقرة: 196]، وقال - عليه الصلاةُ والسَّلامُ -: ((خَيرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ، وَخَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)). إِنَّهُ تَذكِيرٌ لِلأُمَّةِ جمِيعًا أَن يَستَحضِرُوا مَا عَقَدُوا عَلَيهِ قُلُوبَهُم مِن تَوحِيدِ اللهِ رَبِّ العَالمينَ، إِنَّهُ تَوجِيهٌ لهم أَن يجعَلُوا حَجَّهُم للهِ وَحدَهُ، ويُخلِصُوا لَهُ العَمَلَ دُونَ سِوَاهُ، وَمِن ثَمَّ فَلا(/6)
يَسأَلُونَ إِلاَّ اللهَ، وَلا يَستَغِيثُونَ إِلاَّ بِاللهِ، وَلا يَتَوَكَّلُونَ إِلاَّ عَلَى اللهِ، وَلا يَطلُبُونَ العَونَ وَالمَدَدَ وَلا يَلتَمِسُون النَّصَرَ إِلاَّ مِن عِندِ اللهِ، مُستَيقِنِينَ أَنَّ الخَيرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللهِ، وَمَرجِعَ الأُمُورِ كُلِّها إِلَيهِ، لا مَانِعَ لِمَا أَعطَى وَلا مُعطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَلا يَنفَعُ ذَا الجَدِّ مِنهُ الجَدُّ. وَحِينَ يَكُونُ مِنَ المُسلِمِينَ يَقِينٌ بِذَلِكَ وَتَمَسُّكٌ بِهِ فَلْيبشرُوا بِالأَمنِ وَالهِدَايَةِ وَالتَّوفِيقِ، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهتَدُونَ} [الأنعام: 82].(/7)
وَمِن مَعَاني الحَجِّ الكَرِيمَةِ وَدُرُوسِهِ البَالِغَةِ أَن تَعلَمَ الأُمَّةُ وَتَستَيقِنَ أَنَّهُ لا سَعَادَةَ لها وَلا نجاحَ في هَذِهِ الحَيَاةِ، وَلا فَلاحَ وَلا فَوزَ في الآخِرَةِ، وَلا تَوفِيقَ وَلا سَدَادَ وَلا نَصرَ وَلا تَمكِينَ إِلاَّ بِاتِّبَاعِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَالسَّيرِ عَلى نَهجِهِ، وَقُفُوِّ أَثَرِهِ، وَالثَّبَاتِ عَلى هَديِهِ في الاعتِقَادِ وَالأَعمَالِ، وَالرِّضَا بِمَا جَاءَ بِهِ في الحُكمِ وَالتَّحَاكُمِ، وَالاقتِدَاءِ بِهِ في الأَخلاقِ وَالسُّلُوكِ، وَقَد كَانَ في كُلِّ خطوَةٍ في حَجَّتِهِ يُؤَصِّلُ هَذَا المَعنى الكَبِيرَ في نُفُوسِ المُسلِمِينَ وَيَغرِسُهُ في قُلُوبِهِم ويُرَسِّخُهُ، حَيثُ كَانَ يَقُولُ عِندَ كُلِّ مَنسَكٍ مِن مَنَاسِكِ الحَجِّ: ((خُذُوا عني مَنَاسِكَكُم))، وَهُوَ الذي قَد قَالَ: ((مَن عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). فَمَا أَسعَدَ الأُمَّةَ حِينَ تَقتَدِي بِه وَتَمتَثِلُ أَمرَهُ! مَا أَعظَمَ بَرَكَتَهَا حِينَ تَتَأَسَّى بِهِ وَتَسِيرُ عَلى نَهجِهِ وطَريقَتِهِ! {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الحشر: 7]، {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيكُم مَا حُمِّلتُم وَإِن تُطِيعُوهُ تَهتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ} [النور: 54]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].(/8)
وَإِنَّ ممَّا يجِبُ التَّنبِيهُ عَلَيهِ في هَذَا المَقَامِ أَنَّ عَلَى المُسلِمِ أَن يُولِيَ هَذَا الأَمرَ في الحَجِّ كَبِيرَ عِنَايَتِهِ، فَلا يُقْدِمَ عَلَى عَمَلٍ إِلاَّ عَن عِلمٍ وَمَعرِفَةٍ، وَلا يَشرَعَ في الحَجِّ إِلاَّ بَعدَ تَفَقُّهٍ في أَحكَامِهِ، وَأَن يحرِصَ عَلَى تَعَلُّمِ صِفَتِهِ وَمَا يَلزَمُهُ لأَدَائِهِ كَمَا أَدَّاهُ الحَبِيبُ ، وَإِنَّ الأَمرَ في ذَلِكَ لَسَهلٌ مُيَسَّرٌ، وَوَسَائِل العِلمِ مُتَعَدِّدَةٌ ومُتَنَوِّعَةٌ، وَأَهل العِلمِ كَثِيرُونَ مُنتَشِرُون، فَلَم يَبقَ إِلاَّ الاجتِهَادُ وَطَلَبُ العِلمِ من مَظَانِّه، أَمَّا التَّخَبُّطُ وَالاستِحسَانَاتُ الشَّخصِيَّةُ، أَو تَقلِيدُ الآخَرِينَ فِيمَا يَفعَلُونَ دُونَ وَعيٍ أَو إِدرَاكٍ فَمَا هُوَ مِن سِمَات المُسلِمِينَ المُؤمِنِينَ، وَإِنما ذَمَّ اللهُ بِهِ المُترَفِينَ الغَافِلِينَ المُعرِضِينَ: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].(/9)
وَمِنَ الدُّرُوسِ العَظِيمَةِ في الحَجِّ لُزُومُ الاعتِدَالِ وَالتَّوَسُّطِ في الأُمُورِ كُلِّهَا، وَمُجَانَبَةُ الغُلُوِّ أَوِ الجَفَاءِ، وَالحَذَرُ مِنَ الإِفرَاطِ أَوِ التفرِيطِ، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهما - قَالَ: "قال رَسُولُ اللهِ غَدَاةَ العَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ: ((القُطْ لي حَصًى))، فَلَقَطتُ لَهُ سَبعَ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الخَذفِ، فَجَعَلَ يَنفُضُهُنَّ في كَفِّهِ وَيَقُولُ: ((أَمثَالَ هَؤُلاءِ فَارمُوا))، ثم قَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُم وَالغُلُوَّ في الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ أَهلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُمُ الغُلُوُّ في الدِّينِ)). فَالاعتِدَالُ مَطلُوبٌ في الأُمُورِ كُلِّهَا، وَالتَّوَسُّطُ محمُودٌ فِيهَا جمِيعِها، وَالبُعدُ عَنِ الغُلُوِّ وَالجَفَاءِ هُوَ المَنهَجُ القَوِيمُ وَالصِّرَاطُ المُستَقِيمُ الذي يَنبَغِي أَن يَسلُكَهُ جمِيعُ المُؤمِنِينَ، وَذَلِكَ لَيسَ بِالأَهوَاءِ وَلا الرَّغَبَاتِ وَالمُشتَهَيَاتِ، وَإِنما يَكُونُ بِالأَخذِ بِحُدُودِ القُرآنِ وآثَارِ السُّنَّةِ، وَالسَّيرِ على مَا فِيهِمَا مِنَ الهَديِ وَالبَيَانِ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].(/10)
وَمِن مَعَاني الحَجِّ السَّامِيَةِ وَدُرُوسِهِ العَمِيقَةِ أَنَّ الأُمَّةَ عَلَى مُختَلِفِ أَجنَاسِها، وَتَعَدُّدِ دِيَارِهَا وَأَوطَانِها، وَكَثرَةِ شُعُوبِهَا، وَوَفرَةِ قَبَائِلِهَا وَاختِلافِ أَشكَالِهِم وَأَلوانِهِم وَلُغَاتِهِم، لا رَابِطَةَ تَربِطُهُم إِلاَّ رَابِطَةُ التَّوحِيدِ، وَلا نَسَبَ يَجمَعُهُم إِلاَّ نَسَبُ الدِّينِ، فمتى تمسَّكُوا بِهِ وَكَانُوا به إِخوَانًا مُتَحَابِّينَ، فَهُم قُوَّةٌ لا تُمَاثِلُهَا قُوَّةٌ، وَمتى ابتَعَدُوا عَنهُ أَو تَشَبَّثُوا بِغَيرِهِ مِن رَوَابِطِ الجَاهِلِيَّةِ أَو عُرَى الدُّنيا الفَانِيَةِ لم يَزدَادُوا إِلاَّ اختِلافًا وَافتِرَاقًا، وَلَن يَلقَوا إِلاَّ ذُلاً وَضَعفًا وَمَهَانَةً وَمَقتًا، وَلهذا وَلَمَّا كَانَت قُرَيشٌ في الجَاهِلِيَّةِ لا تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الحَرَمِ في حَجِّها، وَلا تَقِفُ مَعَ النَّاسِ في عَرَفَةَ استِكبَارًا وَاستِنكَافًا، جَاءَ كِتَابُ اللهِ لِيَقُولَ لهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وَبُيِّنَ فيهِ أَنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ لِلنَّاسِ جمِيعًا: {سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ} [الحج: 25]، ثم رَسَّخَ الحَبِيبُ - صلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيهِ - ذَلِكَ في خُطبَتِهِ في عَرَفَةَ، حَيثُ قال: ((إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم حَرَامٌ عَلَيكُم؛ كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا، في شَهرِكُم هَذَا، في بَلَدِكُم هَذَا، أَلا كُلُّ شَيءٍ مِن أَمرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحتَ قَدَمَيَّ مَوضُوعٌ، وَدِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعَةٌ))، ثم أَكمَلَ هَذَا - عَلَيهِ الصلاةُ والسلامُ - عَمَلِيًّا أَمَامَ النَّاسِ في نِهَايَةِ ذَلِكَ المَوقِفِ العَظِيمِ، حِينَ أَردَفَ مَولاهُ أُسَامَة بنَ زَيدٍ عَلى رَاحِلَتِهِ، ولم يَحمِلْ غَيرَهُ مِن أَشرَافِ بَيتِهِ، أَو عُظَمَاءِ قَومِهِ، أَو وُجَهَاءِ القَبَائِلِ(/11)
الأُخرَى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وَمِن مَعَاني الحَجِّ العَظِيمَةِ وُجُوبُ تَعظِيمِ الشَّعَائِرِ وَالحُرُمَاتِ، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ} [الحج: 32]. فَتَعظِيمُ الشَّعَائِرِ وَالحُرُمَاتِ مِن تَقوَى القُلُوبِ وَخَشَيتِها لِخَالِقِهَا وَمَولاهَا، وَكُلَّمَا خَلا قَلبٌ مِن ذَلِكَ كَانَ أَبعدَ مَا يَكُونُ مِن تَعظِيمِ حُرُمَاتِ اللهِ وَالوُقُوفِ عِندَ حُدُودِهِ، ولِهَذَا كَانَ خَيرُ زَادٍ يَحمِلُهُ الحَاجُّ وأعظمُهُ وأكملُهُ زادَ الخَشيَةِ وَالتَّقوَى، قال - جل وعلا -: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلبَابِ} [البقرة: 197].
وَمِن مَعَاني الحَجِّ والأُصُولِ المُعتَبرَةِ فيه مَا يَظهَرُ في رَميِ الجِمَارِ فِيهِ؛ مِن تَذكِيرِ بني آدَمَ بِأَلَدِّ أَعدَائِهِم، وَأَعتى خُصُومِهِم، وَتَحذِيرِهِم مِن قَائِدِ اللِّوَاءِ إِلى النَّارِ، قال - عز وجل -: {إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].(/12)
وَمِن مَعَاني الحَجِّ السَّامِيَةِ تَذكِيرُ المُسلِمِينَ بِأَنَّ مِن أَجَلِّ أَهدَافِ العِبَادَاتِ ذِكرَ اللهِ - عز وجل - بها، لا أَدَاءها عَادَاتٍ مُجَرَّدَةً مِن رُوحِهَا وَلُبِّهَا، خَالِيَةً مِن مَعنَاهَا وَمغزَاهَا، أَوِ المُضِي فِيهَا رِيَاءً لِلنَّاسِ، وَطَلَبًا لِلسُّمعَةِ عِندَهُم، قال - جل وعلا -: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، وقال – سُبحَانَهُ -: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وقال – سُبحَانَهُ -: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]، وقال – تعالى -: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، وقال - عز وجل -: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].(/13)
تِلكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ جُملَةٌ مِن مَعَاني الحَجِّ الكَرِيمَةِ وَأُسُسِهِ العَظِيمَةِ، يَجِدُها مَن تَتَبَّعَ أَدِلَّتَهُ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ لَيَجِدُ مِن أَمثَالِها كَثِيرًا كُلَّمَا أَنعَمَ النَّظَرَ وَرَدَّدَ التَّدَبُّرَ، فَاتَّقُوا اللهَ – تعالى - وَحَقِّقُوا مَا شُرِعَتِ العِبَادَاتُ مِن أَجلِهِ، فَإِنَّ اللهَ – سُبحَانَهُ - قَد بَيَّنَ لَنَا في مَعرِضِ الحَدِيثِ عَنِ الحَجِّ أَنَّ النَّاسَ مُختَلِفُونَ، فَمِنهُم مَن يَطلُبُ الآخِرَةَ وَيَنشُدُ مَرضَاةَ رَبِّهِ، فَهُوَ بِأَعلى المَنزِلَتَينِ وَأَجَلِّ المَقصِدَينِ، وَمِنهُم مَن لا هَمَّ لَهُ إِلاَّ الدُّنيا وَمَتَاعُهَا، فَهِيَ حَظُّهُ مِن حَيَاتِهِ وَسَعيِهِ طُولَ عُمُرِهِ، وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ، قال – سُبحَانَهُ -: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200 - 202]. وَالمُوَفَّقُ مَن أَدَّى حَجَّهُ بِنِيَّةٍ صَالحَةٍ خَالِصَة، وَمَالٍ حَلالٍ وَنَفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، وَعَطَّرَ لِسَانَهُ فيه بِذِكرِ اللهِ، وَصَاحَبَ عِبَادَتَهُ إِحسَانٌ وَنَفعٌ لِعِبادِ اللهِ، فَكُونُوا في حَجِّكُم كَذَلِكَ، وَأَخلِصُوا في دِينِكُم للهِ، وَاجتَهِدُوا في الأَعمَالِ الصَّالحةِ، {وَسَارِعُوا إلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
الخطبة الثانية(/14)
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ – تعالى - حَقَّ التَّقوَى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروُةِ الوُثقَى، وَاحذَرُوا مَا يُسخِطُ رَبَّكُم فَإِنَّ أَجسَامَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يجعَلْ لَهُ مخرَجًا.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّكُم تَستَقبِلُونَ أَيَّامًا عَظِيمَةَ الفَضلِ كَبِيرَةَ القَدرِ، أَيَّامًا لا أَفضَلَ مِنهَا وَلا أَكمَلَ مِنَ العَمَلِ فِيهَا، إِنها العَشرُ الأُوَلُ مِن ذِي الحِجَّةِ، التي أَقسَمَ اللهُ بها تَنوِيهًا بِفَضلِهَا، وَإِشَارَةً إِلى عَظِيمِ شَأنِهَا، وَبَيَّنَ الحَبِيبُ - عليه الصلاة والسلامُ - عِظَمَ أَجرِ العَمَلِ فِيهَا، قال - جل وعلا -: {وَالفَجرِ * وَلَيالٍ عَشرٍ} [الفجر: 1 – 2]، وقال - عليه الصلاةُ والسلامُ -: ((مَا مِن أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلى اللهِ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ)) يَعني أَيَّامَ العَشرِ، قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللهِ، وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ؟!"، قال: ((ولا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ ثم لم يَرجِعْ مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ)).(/15)
فَأَكثِرُوا مِن ذِكرِ اللهِ - جل وعلا - في هَذِهِ العَشرِ حُجَّاجًا وَمُقِيمِينَ، فَقَد سُئِلَ - عليه الصلاةُ والسلامُ -: "أيُّ الحَاجِّ أَعظَمُ عِندَ اللهِ؟"، قال: ((أَكثرُهُم للهِ ذِكرًا))، وقال - عليه الصلاةُ والسلامُ -: ((مَا مِن أَيَّامٍ أَعظَمُ عِندَ اللهِ ولا أَحَبُّ إِلى اللهِ العَمَلُ فِيهِنَّ مِن أَيَّامِ العَشرِ، فَأَكثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّسبِيحِ والتَّحمِيدِ وَالتَّهلِيلِ وَالتَّكبِيرِ))، وَقَد ذَكَرَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ ابنِ عُمَرَ وَأبي هُريرةَ - رضي اللهُ عنهم - أَنهمَا كَانَا يَخرُجَانِ إِلى السُّوقِ فَيُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكبِيرِهما. وَيُستَحَبُّ لِلرِّجَالِ رَفعُ الصَّوتِ بِهَذَا الذِّكرِ في الأَسوَاقِ وَالدُّورِ وَالطُّرُقَاتِ وَالمَسَاجِدِ.
ثم اعلَمُوا - عِبَادَ اللهِ - أَنَّ مَن أَرَادَ أَن يُضَحِّيَ فَلْيُمسِكْ عَن شَعرِهِ وَأَظفَارِهِ وَبَشَرَتِهِ إِذَا دَخَلَتِ العَشرُ حتى يُضَحِّيَ، قال - عليه الصلاةُ والسلامُ -: ((مَنْ كَانَ لَهُ ذِبحٌ يَذبَحُهُ فَإِذَا أَهَلَّ هِلالُ ذِي الحِجَّةِ فَلا يَأخُذَنَّ مِن شَعرِهِ وَلا مِن أَظفَارِهِ شَيئًا حَتَّى يُضَحِّيَ))، وفي رواية: ((إِذَا دَخَلَ العَشرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَن يُضَحِّيَ فَلا يَمَسَّ مِن شَعرِهِ وَلا بَشَرِهِ شَيئًا)). وَهَذَا النَّهيُ خَاصٌّ بِالمُضَحِّي، أَمَّا مَن يُضحَّى عَنهُ مِن أَهلِ البَيتِ فَلا يَدخُلُ في هَذَا النَّهيِ.
فَاتَّقُوا اللهَ وَعَظِّمُوا شَعَائِرَهُ تُفلِحُوا وَتَسعَدُوا في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ.(/16)
العنوان: حج بالروح
رقم المقالة: 244
صاحب المقالة: عمر بهاء الدين الأميري
-----------------------------------------
كنتُ مريضاً!..
الإذاعة تنقل مشاعر الحجّ
عَبْرَ الأقمار...
وأنا أُتابعها بوَجْدٍ وحَنين
بين شُرودٍ... وشبهِ شُهود!..
وكان في الحجِّ اثنان من أبنائي...
وفي سرحةٍ متألِّقة... محلِّقة...
خُيِّلَ إليَّ أنّي أراهما
ثم أندمِجُ بهما
وكأنّي أَحجُّ معهما
وقد عوفيتُ مِن مرضي!..
حجٌّ بالرّوح
رأَيْتكُما في سَرْحَةِ الغَمْضِ والمُنى وَقَدْ يُبْصِرُ الإنْسانُ بالقَلْبِ مُغْمِضا
رَأَيتُكُما بَيْنَ الحَجيجِ، فَهلَّلَتْ ضَراعَةُ رُوحي بالدُّعاءِ وبالرّضا
وَجَنَّحَني قَلْبي بِخَفْقِ وَجيبِهِ وأشْرَعَ نَفْسي نَحْوَكُمْ وبها مَضى
فَحَلّقْتُ أسْمو مِنْ مُقَامي إليكُما بِرُوحٍ نَضَا عَنْهُ الكَثَافَةَ وانتضى
رَهَافَةَ نُورِ اللهِ، يُصْعِدُ ممعناً وَيَسْري به وَجْدٌ، فيطوي له الفَضا
إلى الكَعْبَةِ الشَّمَّاءِ نَعْنُو لِرَبِّها إلى زَمْزَمٍ نُطْفي بها جَمْرةَ الغَضا
إلى عَرَفاتِ اللهِ تَجْمَعُ شَمْلَنا وَقَدْ بَعْثَرَ الدَّهْرُ الدُّروبَ وَقَدْ عَضا
إلى الرَّوْضَةِ الغَرّاءِ يُشْرِقُ فَجْرُها بآمالِنا، والهَمُّ في لَيْلِها غَضَا
لَقَدْ كُنْتُ أَسْعى نَحْوكُمْ رَغْمَ عِلّتي وَمِلْءُ خلايايَ السُّكُونُ إلى القَضا
مَرِيضٌ... وَلكنْ عُدْتُ أَمضى عَزيمَةً وَعُوفيتُ إذْ أُنْسِيتُ ما كانَ أمْرَضا(/1)
العنوان: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواها عنه جابر - رضي الله عنه
رقم المقالة: 1709
صاحب المقالة: محمد ناصر الدين الألباني
-----------------------------------------
حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواها عنه جابر - رضي الله عنه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه هي الطبعة الثانية لكتابنا "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواها جابر - رضي الله عنه" عز منا على إعادة طبعه بعد أن عزت نسخه وكثر الطلب عليه من كثير من البلاد الإسلامية فأعدت النظر فيه وزدت في متنه بعض الجمل التي استدركتها من المصادر الحديثية التي لم تكن قد طبعت من قبل أو كانت نسخها عزيزة مثل "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" و"المنتقى" لابن الجارود و"طبقات ابن سعد" وبعض المخطوطات. بيد أني أضفت إليه تعليقات كثيرة تضمنت فوائد جمة أغلبها في بيان بعض المناسك كانت قد فإني أو لم يتيسر لي معها في طبعته السابقة.
ثم ذيلته بذيل ذكرت فيه قسمًا كبيرًا من البدع التي يقع فيها بع الحجاج منذ عزمهم على السفر حتى رجوعهم إلى أهلهم وأدخلت فيه بدع زيارة المسجد النبوي، وبيت المقدس؛ لأن كثيرًا من الحجاج يجمعون بين الحج والسفر إلى المسجد النبوي والمسجد الأقصى، وذلك أمر مشروع مرغوب فيه، وإن كان مطلقًا غير مقيد بالحج فيشرع مع الحج قبله أو بعده وبدونه.
وعندي بعض النصائح أريد أن أقدمها إلى القراء الكرام والحجاج إلى بيت الله الحرام عسى الله تبارك وتعالى أن ينفعهم بها ويكتب لي أجر الدال على الخير بإذنه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.(/1)
ومما لا ريب فيه أن باب النصيحة واسع جدًا؛ ولذلك فإني سأنتقي منه ما أعلم أن كثيرًا من الحجاج في جهل به، أو إهمال له أسأل الله - تعالى - أن يعلمنا ما ينفعنا ويوفقنا للعمل به فإنه خير مسؤول.
أولاً: إن كثيرًا من الحجاج إذا أحرموا بالحج لا يشعرون أبدًا أنهم تلبسوا بعبادة تفرض عليهم الابتعاد عما حرم الله - تعالى - من المحرمات عليهم خاصة وعلى كل مسلم عامة وكذا تراهم يحجون ويفرغون منه ولم يتغير شيء من سلوكهم المنحرف قبل الحج، وذلك دليل عملي منهم على أن حجهم ليس كاملاً إن لم نقل: "ليس مقبولا" ولذلك فإن على كل حاج أن يتذكر هذا وأن يحرص جهد طاقته أن لا يقع فيما حرم الله عليه من الفسق والمعاصي فإن الله - تبارك وتعالى - يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه))؛ صحيح: أخرجه الشيخان، والرفث: الجماع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث فلهذا ميز الله بينه وبين الفسوق. وأما سائر المحظورات كاللباس والطيب فإنه وإن كان يأثم بها فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين".
وهو يشير في آخر كلامه إلى أن هناك من العلماء من يقول بفساد الحج بأي معصية يرتكبها الحاج فمن هؤلاء الإمام ابن حزم - رحمه الله - فإنه يقول:
"وكل من تعمد معصية أي معصية كانت، وهو ذاكر لحجه مذ أن يُتِم طوافه بالبيت للإفاضة، ويرمي الجمرة فقد بطل حجه..." واحتج بالآية السابقة فراجعه في كتابه "المحلى" (7/186) فإنه مهم.(/2)
ومما سبق يتبن أن المعصية من الحاج إما أن تفسد عليه حجه على قول ابن حزم، وإما أن يأثم بها ولكن هذا الإثم ليس كما لو صدر من غير الحاج بل هو أخطر بكثير فإن من آثاره أن لا يرجع من ذنوبه كما ولدته أمه كما صرح بذلك الحديث المتقدم. فبذلك يكون كما لو خسر حجته لأنه لم يحصل على الثمرة منها وهي مغفرة الله - تعالى - فالله المستعان.
وإذا تبين هذا فلا بد لي من أن أحذر من بعض المعاصي التي يكثر ابتلاء الناس بها ويحرمون بالحج ولا يشعرون إطلاقا بأن عليهم الإقلاع عنها ذلك لجهلهم وغلبة الغفلة عليهم وتقليدهم لآبائهم.
1- الشرك بالله - عز وجل:
فإن من أكبر المصائب التي أصيب بها بعض المسلمين جهلهم بحقيقة الشرك الذي هو من أكبر الكبائر ومن صفته أنه يحبط الأعمال:
{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. فقد رأينا كثيرًا من الحجاج يقعون في الشرك، وهم في بيت الله الحرام، وفي مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - يتركون دعاء الله، والاستغاثة به إلى الاستعانة بالأنبياء بالصالحين ويحلفون بهم ويدعونهم من دون الله - عز وجل - والله - عز وجل - يقول: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا وفي هذه كفاية لمن فتح قلبه للهداية؛ إذ ليس الغرض الآن البحث العلمي في هذه المسألة، وإنما هو التذكير فقط.(/3)
فليت شعري ماذا يستفيد هؤلاء من حجهم إلى بيت الله الحرام إذا كانوا يصرون على مثل هذا الشرك ويغيرون اسمه فيسمونه: "توسلاً وتشفعًا وواسطة" أليس هذه الواسطة هي التي ادعاها المشركون من قبيل يبررون بها شركهم وعبادتهم لغيره - تبارك وتعالى -: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
فيا أيها الحاج قبل أن تعزم على الحج يجب عليك وجوبًا عينيًا أن تبادر إلى معرفة التوحيد الخالص، وما ينافيه من الشرك، وذلك بدراسة كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن من تمسك بهما نجا ومن حاد عنهما ضل. والله المستعان.
2- التزين بحلق اللحية:
وهذه المعصية من أكثر المعاصي شيوعًا بين المسلمين في هذا العصر بسبب استيلاء الكفار على أكثر بلادهم، ونقلهم هذه المعصية إليها، وتقليد المسلمين لهم فيها مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - إياهم عن ذلك صراحة في قوله - عليه الصلاة والسلام -:
((خالفوا المشركين، احفوا الشوارب، وأوفوا اللحى))؛ صحيح رواه الشيخان، وفي حديث آخر: ((وخالفوا أهل الكتاب)).
وفي هذه القبيحة عدة مخالفات:
الأولى: مخالفة أمره - صلى الله عليه وسلم - الصريح بالإعفاء.
الثانية: التشبه بالكفار.
الثالثة: تغير خلق الله الذي فيه طاعة الشيطان في قوله كما حكى الله - تعالى - ذلك عنه: {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]
الرابعة: التشبه بالنساء، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك. وانظر تفصيل هذا الإجمال في كتابنا "آداب الزفاف في السنة المطهرة" (ص 126- 131).(/4)
وإن من المشاهدات التي يراها الحريص على دينه أن جماهير من الحجاج يكونون قد وفروا لحاهم بسبب إحرامهم فإذا تحللوا منه فبدل أن يحلقوا رؤوسهم كما ندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلقوا لحاهم التي أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بإعفائها. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
3- تختُّم الرجال بالذهب:
لقد رأينا كثيرًا من الحجاج قد تزينوا بخاتم الذهب، ولدى البحث معهم في ذلك تبين أنهم على ثلاثة أنواع:
بعضهم لا يعلم تحريمه ولذلك كان يسارع إلى مزعه بعد أن نذكر له شيئًا من النصوص المحرمة كحديث:
((نهى - صلى الله عليه وسلم - عن خاتم الذهب))؛ صحيح: متفق عليه، وقوله - صلى الله عليه
وسلم -:
((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟))؛ صحيح: رواه مسلم.
وبعضهم على علم بالتحريم ولكنه متبع لهواه فهذا لا حيلة لنا فيه إلا أن يهديه الله.
وبعضهم يعترف بالتحريم ولكن يعتذر هو كما يقال أقبح من ذنب- فيقول: "إنه خاتم الخطبة". ولا يدري المسكين أنه بذلك يجمع بين معصيتين: مخالفة نهيه - صلى الله عليه وسلم - الصريح كما تقدم، وتشبه بالكفار؛ لأن خاتم الخطبة لم يكن معروفًا عند المسلمين إلى ما قبل هذا العصر، ثم سرت هذه العادة إليهم من تقاليد النصارى.
وقد فصلت القول في هذه المسألة في "آداب الزفاف" أيضًا (ص 131- 138) وبينت فيه أن النهي المذكور يشمل النساء أيضًا خلافًا للجمهور، فراجع (ص 139- 167) فإنه مهم جدًا.
ثانيًا: ننصح لكل من أراد الحج أن يدرس مناسك الحج على ضوء الكتاب والسنة قبل أن يباشر أعمال الحج ليكون تامًا مقبولاً عند الله - تبارك وتعالى.(/5)
وإنما قلت: "على الكتاب والسنة؛ لأن المناسك قد وقع فيها من الخلاف- مع الأسف- ما وقع في سائر العبادات من ذلك مثلا: هل الأفضل أن ينوي في حجه التمتع أم القران أم الإفراد؟ على ثلاثة مذاهب والذي نراه من ذلك إنما هو التمتع فقط كما هو مذهب الإمام أحمد وغيره بل ذهب بعض العلماء المحققين إلى وجوبه إذا لم يسق معه الهدي منهم ابن حزم وابن القيم تبعًا لابن عباس وغيره من السلف وتجد تفصيل القول في ذلك في كتاب "المحلى" و"زاد المعاد" وغيرهما.
ولست أريد الآن الخوض في هذه المسألة بتفصيل، وإنما أريد أن أذكر بكلمة قصيرة تنفع - إن شاء الله - تعالى - من كان مخلصًا، وغايته اتباع الحق، وليس تقليد الآباء، أو المذهب فأقول:
لا شك أن الحج كان في أول استئنافه - صلى الله عليه وسلم - إياه جائزًا بأنواعه الثلاثة المتقدمة وكذلك كان أصحابه - صلى الله عليه وسلم - منهم المتمتع، ومنهم القارن، ومنهم المفرد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - خيرهم في ذلك كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -:
"خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل...))؛ صحيح: رواه مسلم.
وكان هذا التخيير في أول إحرامهم عند الشجرة (1) كما في رواية لأحمد (6/245) ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستمر على هذا التخيير بل نقلهم إلى ما هو أفضل وهو التمتع دون أن يعزم بذلك عليهم أو يأمرهم به وذلك في مناسبات شتى في طريقهم إلى مكة فمن ذلك حينما وصلوا إلى "سرف" وهو موضع قريب من التنعيم، وهو من مكة على نحو عشرة أميال فقالت عائشة في رواية عنها:(/6)
((... فنزلنا سرف فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ((من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا)) قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه [ممن لم يكن معه هدي]...))؛ صحيح: الحديث متفق عليه والزيادة لمسلم.
ومن ذلك لما وصل - صلى الله عليه وسلم - إلى "ذي طوى" وهو موضع قريب من مكة وبات بها فلما صلى الصبح قال لهم:
((من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة))؛ صحيح: أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس، ولكنا رأيناه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة، وطاف هو وأصحابه طواف القدوم لم يدعهم على الحكم السابق وهو الأفضلية بل نقلهم إلى حكم جديد وهو الوجوب فإنه أمر من كان لم يسق الهدي منهم أن يفسخ الحج إلى عمرة، ويتحلل فقالت عائشة - رضي الله عنها -:
((خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدمنا مكة تطوفنا بالبيت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل قالت: فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فأحللن...))؛ صحيح: الحديث متفق عليه وعن ابن عباس نحوه بلفظ:
((فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: الحل كله))؛ صحيح: متفق عليه. وفي حديث جابر نحوه وأوضح منه كما يأتي فقرة (33- 45).(/7)
قلت: "فمن تأمل في هذه الأحاديث الصحيحة تبين له بيانًا لا يشوبه ريب أن التخيير الوارد فيها إنما كان منه - صلى الله عليه وسلم - لإعداد النفوس، وتهيئتها لتقبُّل حكم جديد قد يصعب ولو على البعض تقبله بسهولة لأول وهلة ألا وهو الأمر بفسخ الحج إلى العمرة لا سيما وقد كانوا في الجاهلية- كما هو ثابت في "الصحيحين"- يرون أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج، وهذا الرأي، وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أبطله باعتباره - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات في ثلاث سنوات كلها في شهر ذي القعدة فهذا وحده، وإن كان كافيًا في إبطال تلك البدعة الجاهلية، فإنه ولا قرينة هنا بل لا يكفي- والله أعلم- لإعداد النفوس لتقبل الحكم الجديد فلذلك مهد له - صلى الله عليه وسلم - بتخييرهم بين الحج والعمرة مع بيان ما هو الأفضل لهم ثم أتبع ذلك بالأمر الجازم بفسخ الحج إلى العمرة كما تقدم.
فإذا عرفنا ذلك فهذا الأمر للوجوب قطعًا ويدلُّ على ذلك الأمور التالية:
الأول: أن الأصل فيه الوجوب إلا لقرينة ولا قرينة هنا؛ بل والقرينة هنا تؤكده وهي الأمر التالي وهو:
الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أمرهم تعاظم عندهم كما تقدم آنفا، ولو لم يكن للوجوب لم يتعاظموه ألم تر أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمرهم من قبل ثلاث مرات أمر تخيير ومع ذلك لم يتعاظموه فدل على أنهم فهموا من الأمر الوجوب وهو المقصود.
الثالث: أن في رواية في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت:
((... فدخل علي وهو غضبان فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال: أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا))؛ صحيح: رواه مسلم والبيهقي وأحمد (6/175).(/8)
ففي غضبه - صلى الله عليه وسلم - دليل واضح على أن أمره كان للوجوب لا سيما وأن غضبه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لترددهم لا من أجل امتناعهم من تنفيذ الأمر، وحاشاهم من ذلك، ولذلك حلوا جميعا إلا من كان معه هدي كما يأتي في الفقرة (44).
الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: لما سألوه عن الفسخ الذي أمرهم به:
"ألعامنا هذا أم لأبد الأبد؟" فشبك - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في أخرى وقال:
((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة لا بل لأبد أبد لا بل لأبد أبد)). كما يأتي في الفقرة (24).
فهذا نص صريح على أن العمرة أصبحت جزءًا من الحج لا يتجزأ، وأن هذا الحكم ليس خاصًا بالصحابة كما يظن البعض بل هو مستمر إلى الأبد. (2)
خامسًا: أن الأمر لو لم يكن للوجوب لكفى أن ينفذه بعض الصحابة فكيف وقد رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتفي بأمر الناس بالفسخ أمرًا عامًا فهو تارة يأمر بذلك ابنته فاطمة - رضي الله عنها - كما يأتي (فقرة 48) وتارة يأمر به أزواجه كما في "الصحيحين" عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع قالت حفصة: "فقلت: ما يمنعك أن تحل؟ قال: ((إني لبدت رأسي...)) الحديث. ولما جاء أبو موسى من اليمن حاجًا قال له - صلى الله عليه وسلم -: ((بم أهللت))؟ قال: "أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هل سقت من الهدي))؟ قال: "لا" قال: ((فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل...))؛ الحديث.
فهل هذا الحرص الشديد من النبي - صلى الله عليه وسلم - على تبليغ أمره بالفسخ إلى كل مكلف لا يدل على الوجوب؟ اللهم إن الوجوب ليثبت بأدنى من هذا.
ولوضوح هذه الأدلة الدالة على وجوب الفسخ بَلْهَ التمتع لم يسع المخالفين لها إلا التسليم بدلالتها ثم اختلفوا في الإجابة عنها فبعضهم ادعى خصوصية ذلك بالصحابة، وقد عرفت بطلان ذلك مما سبق.(/9)
وبعضهم ادعى نسخه ولكنهم لم يستطيعوا أن يذكروا ولو دليلاً واحدًا يحسن ذكره والرد عليه اللهم إلا نهي عمر - رضي الله عنه - وكذا عثمان وابن الزبير كما في "الصحيحين" وغيرهما.
والجواب من وجوه:
الأول: أن الذين يحتجون بهذا النهي عن المتعة لا يقولون به لأن من مذهبهم جوازها فما كان جوابهم عنه فهو جوابنا.
الثاني: أن هذا النهي قد أنكره جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم علي وعمران بن حصين وابن عباس وغيرهم.
الثالث: أنه رأي مخالف للكتاب فضلا عن السنة قال الله – تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. وقد أشار إلى هذا المعنى عمران بن حصين - رضي الله عنه - بقوله:
((قال تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزل فيه القرآن - وفي رواية: نزلت آية المتعة في كتاب الله- يعني متعة الحج- وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات - قال رجل برأيه بعد ما شاء))؛ صحيح: رواه مسلم.
وقد صرح عمر - رضي الله عنه - بمشروعية التمتع، وأن نهيه عنه أو كراهته له إنما هو رأي رآه لعلة بدت له فقال:
"قد علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن (3) في الأراك (4) ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم"؛ صحيح: رواه مسلم وأحمد.
ومن الأمور التي تستلفت نظر الباحث أن هذه العلة التي اعتمدها عمر - رضي الله عنه - في كراهته التمتع هي عينها التي تذرع بها الصحابة الذين لم يبادروا إلى تنفيذ أمره - صلى الله عليه وسلم - بالفسخ في ترك المبادرة فقالوا:(/10)
"خرجنا حجاجًا لا نريد إلا الحج حتى إذا لم يكن بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني من النساء..." انظر الفقرة (40) وقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: ((أبالله تعلموني أيها الناس؟ قد علمتم أني أتقاكم لله، وأصدقكم، وأبركم افعلوا ما آمركم به، فإني لو لا هديي لحللت كما تحلون)) (فقرة 42).
فهذا يبين لنا عمر - رضي الله عنه - لو استحضر حين كره للناس التمتع قول الصحابة هذا الذي هو مثل قوله وتذكر معه رد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم لما كره ذلك ونهى الناس عنه.
وفي هذا دليل على أن الصحابي الجليل قد تخفى عليه سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قول من أقواله فيجتهد برأيه فيخطئ وهو مع ذلك مأجور غير مأزور والعصمة لله وحده ثم لرسوله.
وقد يقول قائل: "إن ما ذكرته من الأدلة على وجوب التمتع وعلى رد ما يخالفه واضح مقبول ولكن يشكل عليه ما يذكره البعض هذا وبين ما ذكرته؟"
والجواب: "أنه سبق أن بيَّنا أن التمتع إنما يجب على من لم يسق الهدي، وأما من ساق الهدي فلا يجب عليه ذلك بل لا يجوز له وإنما عليه أن يقرن وهو الأفضل، أو يفرد فيحتمل أن ما ذكر عن الخلفاء من الإفراد إنما هو لأنهم كانوا ساقوا الهدي". وحينئذ فلا منافاة والحمد لله.(/11)
وخلاصة القول: أن على كل من أراد الحج أن يأتي إحرامه بالعمرة ثم يتحلل منها بعد فراغه من السعي بين الصفا والمروة بقص شعره، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة يحرم بالحج فمن كان لبى بالقران، أو الحج المفرد فعليه أن يفسخ ذلك بالعمرة إطاعة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - والله - عز وجل - يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80]، وعلى المتمتع بعد ذلك أن يقدم هديًا يوم النحر أو في أيام التشريق، وهو من تمام النسك وهو دم شكران وليس دم جبران وهو- كما قال ابن القيم- بمنزلة الأضحية للمقيم وهو من تمام عبادة هذا اليوم فالنسك المشتمل على الدم بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية وهو من أفضل الأعمال فقد جاء من طرق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أفضل؟
أن الخلفاء الراشدين جميعا كانوا يفردون الحج فكيف التوفيق فقال:
(صحيح): (العج والثج) وصححه ابن خزيمة والحاكم والذهبي وحسنه المنذري، والعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة دن الهدي. وعليه أن يأكل من هديه كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما يأتي بيانه (فقرة 90) ولقوله - عز وجل - فيما يذبح من الهدي في منى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
وقد اتصلنا بكثير من الحجاج فعرفنا منهم أنهم مع كونهم يعلمون أن التمتع أفضل من الإفراد فكانوا يفردون ثم يأتون بالعمرة بعد الحج من التنعيم وذلك لئلا يلزمهم الهدي
وفي هذا من المخالفة للشارع الحكيم والاحتيال على شرعه ما لا يخفى فساده فإن الله بحكمته شرع العمرة قبل الحج وهم يعكسون ذلك وأوجب على المتمتع هديًّا وهم يفرون منه وليس ذلك من عمل المتقين ثم هم يطمعون أن يتقبل الله حجهم وأن يغفر ذنبهم هيهات هيهات فـ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] وليس من البخلاء المحتالين.(/12)
فكن أيها الحاج متقيا لربك متبعا لسنة نبيك في مناسكك عسى أن ترجع من ذنوبك كيوم ولدتك أمك.
ثالثًا: واحذر يا أخي أن تدع البيات في منى ليلة عرفة وكذا البيات في المزدلفة ليلة النحر فذلك من هدي نبيك - صلى الله عليه وسلم - لا سيما في البيات في المزدلفة حتى الصبح ركن من أركان الحج على الراجح من أقوال أهل العلم. ولا تغتر بما يزخرف لك من القول بعض من يسمون بـ (المطوفين) فإنهم لا همَّ لهم إلا قبض الفلوس، وتقليل العمل الذي أخذوا عليه الأجر كافيًا وافيًا على أدائه بتمامه وسواء عليهم بعد ذلك أتم حجك أم نقص أتبعت سنة نبيك أم خالفت؟
رابعًا: واحذر أيضًا يا أخي من أن تمر بين يدي أحد من المصلين في المسجد الحرام، وفي غيره من المساجد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه)). قال الراوي: "لا أدري قال: أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة"؛ رواه الشيخان في صحيحيهما. وكما لا يجوز لك هذا فلا يجوز لك أيضًا أن تصلي إلى غير سترة بل عليك أن تصلي إلى أي شيء يمنع الناس من المرور بين يديك. فإن أراد أحد أن يجتاز بينك وبين سترتك فعليك أن تمنعه. وفي ذلك أحاديث وآثار أذكر بعضها:
1- ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرجل فليصل، ولا يبالي من مر من وراء ذلك))؛ صحيح
2- ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره وليدرأ ما استطاع فإن أبى فليقاتل فإنما هو شيطان))؛ (5) صحيح
3- قال يحيى بن كثير:
((رأيت أنس بن مالك دخل المسجد الحرام فركز شيئا أو هيأ شيئا يصلي إليه))؛ صحيح: رواه ابن سعد (7/18) بسند صحيح.
4- عن صالح بن كيسان قال:
((رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة ولا يدع أحدا يمر بين يديه))؛ صحيح: رواه أبو زرعة الرازي في (تاريخ دمشق) (91/1) (6) وكذا ابن عساكر في (تاريخ دمشق) (8/106/2) بسند صحيح.(/13)
ففي الحديث الأول: إيجاب اتخاذ السترة وأنه إذا فعل ذلك فلا يضره من مر وراءها.
وفي الحديث الثاني: إيجاب دفع المار بين يدي المصلي إذا كان يصلي إلى السترة وتحريم المرور عمدا وأن فاعل ذلك شيطان.
وليت شعري ما هو الكسب الذي يعود به الحاج إذا رجع وقد استحق هذا الاسم: "الشيطان"؟
والحديثان وما في معناهما مطلقان لا يختصان بمسجد دون مسجد ولا بمكان دوم مكان فهما يشملان المسجد الحرام والمسجد النبوي من باب أولى لأن هذه الأحاديث إنما قالها - صلى الله عليه وسلم - في مسجده فهو المراد بها أصالة والمساجد الأخرى تبعًا. والأثران المذكوران نصان صريحان على أن المسجد الحرام داخل في تلك الأحاديث فما يقال من بعض المطوفين وغيرهم إن المسجد المكي، والمسجد النبوي مستثنيان من النهي لا أصل له في السنة، ولا عن أحد من الصحابة اللهم سوى حديث واحد روي في المسجد المكي لا يصح إسناده، ولا دلالة فيه على الدعوى كما سيأتي بيانه في (بدع الحج) (الفقرة 124).
خامسًا: وعلى أهل العلم والفضل أن يغتنموا فرصة التقائهم بالحجاج في المسجد الحرام، وغيره من المواطن المقدسة فيعلموهم ما يلزم من مناسك الحج وأحكامه على وفق الكتابة السنة وأن لا يشغلهم ذلك عن الدعوة إلى أصل الإسلام الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب ألا وهو التوحيد فإن أكثر من لقيناهم حتى ممن ينتمي إلى العلم وجدناهم في جهل بالغ بحقيقة التوحيد وما ينافيه من الشركيات والوثنيات كما أنهم في غفلة تامة عن ضرورة وجوع المسلمين على اختلاف مذاهبهم وكثرة أحزابهم إلى العمل الثابت في الكتاب والسنة في العقائد والأحكام والمعاملات والأخلاق والسياسة والاقتصاد وغير ذلك من شؤون الحياة وأن أي صوت يرتفع وأي إصلاح يزعم على غير هذا الأصل القويم والصراط المستقيم فسوف لا يجني المسلمون منه إلا ذلا وضعفا والواقع أكبر شاهد على ذلك والله المستعان.(/14)
وقد تتطلب الدعوة إلى ما سبق شيئا قليلا أو كثيرا من الجدال بالتي هي أحسن كما قال الله - عز وجل -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. فلا يصدنك عن ذلك معارضة الجهلة بقوله – تعالى -: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]. فإن الجدال المنهي عنه في الحج هو كالفسق المنهي عنه في غير الحج أيضًا، وهو الجدال بالباطل وهو غير الجدال المأمور به في آية الدعوة قال ابن حزم - رحمه الله - (7/196):
"والجدال قسمان: قسم واجب وحق، وقسم في باطل فالذي في الحق واجب في الإحرام وغير الإحرام قال – تعالى -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] ومن جادل في طلب حق به فقد دعا إلى سبيل ربه - تعالى - وسعى في إظهار الحق والمنع من الباطل وهكذا كل من جادل في حق لغيره أو لله - تعالى - والجدال بالباطل وفي الباطل عمدًا ذكرًا لإحرامه مبطل للإحرام وللحج؛ لقوله – تعالى -: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]".
وهذا كله على أن "الجدال" في الآية بمعنى المخاصمة والملاحاة حتى تغضب صاحبك. وقد ذهب إلى هذا المعنى جماعة من السلف وعزاه ابن قدامة في (المغني) (3/296) إلى الجمهور ورجحه. وهناك في تفسيره قول آخر: وهو المجادلة في وقت الحج ومناسكه واختاره ابن جرير ثم ابن تيمية في "مجموعة الرسائل الكبرى" (2/361) وعلى هذا فالآية غير واردة فيما نحن فيه أصلاً. والله أعلم.
ومع ذلك فإنه ينبغي أن يلاحظ الداعية أنه إذا تبين له أنه لا جدوى من المجادلة مع المخالفة له لتعصبه لرأيه، وأنه إذا صابره على الجدل فلربما ترتب عليه ما لا يجوز فمن الخير له حينئذ أن يدع الجدال معه لقوله - صلى الله عليه وسلم -:(/15)
((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا))؛ حسن: رواه أبو داود بسند حسن عن أبي أمامة وللترمذي نحوه من حديث أنس وحسنه.
وفقنا الله والمسلمين لمعرفة سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - واتباع هديه.
لا حرج:
وهذه الأمور يتحرج منها بعض الحجاج وهي جائزة:
1- الاغتسال لغير احتلام ودلك الرأس ففي "الصحيحين" وغيرهما عن عبدالله بن حنين عن عبدالله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه فأرسلني عبدالله بن العباس إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبدالله بن حنين أرسلني إليك عبدالله بن العباس أسألك كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر وقال: هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم – يفعل"؛ صحيح، وزاد مسلم: ((فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدًا)).
وروى البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال:
"ربما قال لي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: تعال أباقيك في الماء أينا أطول نفسا ونحن محرمون"؛ صحيح
وعن عبدالله بن عمر "أن عاصم بن عمر وعبدالرحمن بن زيد وقعا في البحر يتمالقان – يتغاطسان - يغيب أحدهما رأس صاحبه، وعمر ينظر إليهما فلم ينكر ذلك عليهما؛ صحيح
2- حك الرأس ولو سقط بعض الشعر وحديث أبي أيوب المتقدم آنفا دليل عليه وروى مالك (1/358/92) عن أم علقمة بن أبي علقمة أنها قالت:
"سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأل عن المحرم: أيحك جسده؟ فقالت: نعم فليحكه وليشدد ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت"؛ صحيح: وسنده حسن في الشواهد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (المجموعة الكبرى) (2/368):(/16)
"وله أن يحك بدنه إذا حكه وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره".
3- الاحتجام ولو بحلق الشعر مكان الحجم لحديث ابن بحينة - رضي الله عنه - قال:
"احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم بـ (لحي جمل)- موضع بطريق مكة- في وسط رأسه"؛ صحيح: متفق عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مناسكه) (2/338): "وله أن يحك بدنه إذا حكه ويحتجم فى رأسه وغير رأسه وإن احتاج أن يحلق شعرًا لذلك جاز فإنه قد ثبت في - ثم ساق هذا الحديث ثم قال - ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره وإن تيقن أنه انقطع بالغسل".
وهذا مذهب الحنابلة كما في (المغني) (3/306) ولكنه قال: "وعليه الفدية".
وبه قال مالك وغيره. ورده ابن حزم بقوله: (7/257) عقب هذا الحديث: "لم يخبر - عليه السلام - أن في ذلك غرامة ولا فدية ولو وجبت لما أغفل ذلك وكان - - عليه السلام - - كثير الشعر أفرع (7) وإنما نهينا عن حلق الرأس في الإحرام".
4- شم الريحان وطرح الظفر إذا انكسر. قال ابن عباس - رضي الله عنه -:
"المحرم يدخل الحمام وينزع ضرسه ويشم الريحان وإذا انكسر ظفره طرحه ويقول: أميطوا عنكم الأذى فإن الله - عز وجل - لا يصنع بأذاكم شيئًا".
رواه البيهقي (5/62- 63) بسند صحيح. وإلى هذا ذهب ابن حزم (7/246) وروى مالك عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسر وهو محرم؟ فقال سعيد: "اقطعه".
5- الاستظلال بالخيمة أو المظلة - الشمسية - وفي السيارة ورفع سقفها من بعض الطوائف تشدد وتنطع في الدين، ولم يأذن به رب العالمين. فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بنصب القبة له ب "نمرة" ثم نزل بها كما سيأتي في الكتاب فقرة (57- 58) وعن أم الحصين - رضي الله عنه - قالت:(/17)
"حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقته والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة"؛ صحيح.
وأما ما روى البيهقي عن نافع قال:
"أبصر ابن عمر - رضي الله عنه - رجلاً على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال له: ضح لمن أحرمت له"؛ صحيح.
وفي رواية من طريق أخرى "أنه رأى عبدالله بن أبي ربيعة جعل على وسط راحلته عودًا وجعل ثوبًا يستظل به من الشمس وهو محرم فلقيه ابن عمر فنهاه".
قلت: "فلعل ابن عمر - رضي الله عنه - لم يبلغه حديث أم الحصين المذكور وإلا فما أنكره هو عين ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قال البيهقي:
"هذا موقوف وحديث أم الحصين صحيح". يعني فهو أولى بالأخذ به وترجمه له بقوله:
"باب المحرم يستظل بما شاء ما لم يمس رأسه". (8)
6- وله أن يشد المنطقة والحزام على إزاره، وله أن يعقده عند الحاجة، وأن يتختم، وأن يلبس ساعة اليد ويضع النظارة لعدم النهي عن ذلك وورد بعض الآثار بجواز شيء من ذلك.
فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها سئلت عن الهيمان للمحرم؟ فقالت: وما بأس؟ ليستوثق من نفقته"؛ صحيح وسنده صحيح. وعن عطاء: "يتختم- يعني المحرم- ويلبس الهيمان". رواه البخاري تعليقًا.
قلت: "ولا يخفى أن الساعة والنظارة في معنى الخاتم والمنطقة مع عدم ورود ما ينهى عنهما {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة، ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون.
دمشق في 15 شوال 1384 هـ.
محمد ناصر الدين الألباني.
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم(/18)
الحمد لله رب العالمين القائل في محكم كتابه الكريم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل فيما صح عنه:
((خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا))؛ صحيح. وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن تلا وتبعهم بإحسان.
أما بعد، فإني بعد أن ألفت "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (9) ونشرته على الناس وجد- والحمد لله على توفيقه- رواجًا فوق ما كنت أترقب حيث إن نسخه البالغة ألفين نفدت أو كادت في ظرف سنتين بدون أن يتخذ له شيء من وسائل الدعاية المعروفة، أو أن يتعهد أحد من أصحاب المكتبات بنشره وما ذلك إلا لما لمسه الناس من سهولة أسلوبه في عرضه لصلاته - صلى الله عليه وسلم - مع استقصائه لها وتحرير ما صح منها والأمر الذي حمل كثيرين على أن يطلبوا مني أن أضع لهم كتابًا آخر في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأسلوب ذاته فكنت أحبذ ما طلبوا ولكني أعتذر لهم من الاستعجال بتحقيق ما رغبوا بأني في صدد وضع كتب أخرى تفيد المسلمين - إن شاء الله تعالى - منها كتاب أستقصي فيه قدر الإمكان البدع التي وقع المسلمون فيها منذ قديم الزمان لعله يكون باعثًا لهم على اجتنابها، وحاملاً لهم على التمسك بالسنة المحمدية وحدها يضاف إلى ذلك ما لا بد منه من الاشتغال بمسائل فرعية دينية أخرى مما يأخذ من وقتي الشيء الكثير هذا عدا انصرافي إلى تحصيل قوتي من مهنتي وكسب يدي كل هذا كان يصدقني عن المبادرة إلى تحقيق رغبتهم ورغبتي لا سيما وهو يتطلب سعة من الوقت وجهد كثير لتتبع السنة المطهرة واستخراج ما يتعلق بهذا الموضوع منها.(/19)
فبينا أنا على هذه الحال إذ ألقى في البال بمناسبة قراءتي مع بعض الإخوان كتاب الحج من "الروضة الندية" لصديق حسن خان ملك بهوبال أن أخرج للناس حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواها مسلم في صحيحه عن جابر - رضي الله عنه - فإنه يوفر علي وقتًا وجهدًا كبيرين ويحقق للراغبين بغيتهم كلها أو جلها وما لا يدرك كله لا يترك جله.
فلما تمكن مني هذا الخاطر وجدتني منصرفا إليه عن كل شاغل فاستخرجت من صحيح مسلم الرواية المشار إليها وراجعت متنها مرارا فتبين لي أنها ينقصها بعض المناسك فأعدت استخراجها من كتب السنة الأخرى الآتي بيانها فوجدت فيها بعض الزيادات المفيدة ولكنها عن القيام بواجب الاستدراك بعيدة فحملني ذلك على أن أتتبع كل رواية لجابر يتحدث فيها عن حجته - صلى الله عليه وسلم - خلاف روايته السابقة فاجتمع عندي من ذلك فوائد وزوائد من المناسك فأضفتها كلها إلى الرواية الأولى وجعلت كلا منها في موطنها اللائق بها فتم بذلك استدراك غير قليل من النقص وبقيت أشياء أخرى كثيرة لا يمكن استدراكها إلا بتغيير هذا المنهاج الذي عزمت السير عليه وبالتوسع في البحث والتنقيب عن جميع روايات سائر الأصحاب حول هذه الحجة العظيمة وهذا ما أجلته إلى وقت آخر أوسع فإن النية قد اتجهت بعد الفراغ من مسودة هذا المنسك إلى وضع كتاب بعنوان: صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ خروجه من المدينة إلى رجوعه إليها كأنك تصبه فيها) أتتبع فيه مناسكها كلها ووقائعها وخطبها وحوادثها وأجوبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أسئلة السائلين له في طرقها ومنازلها وغير ذلك من الفوائد المفيدة والنكت الطريفة أسردها متنقلاً من منزل إلى آخر من التقيد بالصحيح من ذلك كما هو دأبي في كل كتاباتي وتآليفي وقد جمعت حتى الآن جل مادته فأرجو أن يوفقني الله - تعالى - لتصنيفه وتأليفه ثم لطبعه ونشره هو حسبي لا إله إلا هو.
ثناء العلماء على حديث جابر(/20)
هذا وإنما آثرت حديث جابر - رضي الله عنه - لأنه كما قال النووي:
"وهو أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع فإنه ذكرها من حين خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره" وقال:
"وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ومهمات من مهمات القواعد قال القاضي عياض: وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا وخرج فيه من الفقه مائة ونيفا وخمسين نوعا ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه".
قلت وبوب مسلم بـ "باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم" (10)وأبو داود بـ "باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم" ونوه به الحافظ الذهبي في ترجمة جابر فقال:
"وله منسك صغير في الحج أخرجه مسلم".
وعقد له الحافظ ابن كثير في الجزء الخامس من "البداية والنهاية" فصلاً قال فيه:
"وهو وحده منسك مستقل" ثم ساقه (ص 146- 149).
وهذا الثناء من هؤلاء الأئمة إنما هو على حديثه من الرواية الأولى. فإذا علمت ما ضممنا إليها من فوائد الروايات الأخرى كما سيأتي الإشارة إليه يتبين لك أن منسك هذا على أسلوبه المبتكر أثر فائدة وأتم من منسكه على الرواية الأولى كما هو بين لا يخفى.
روايات المنسك وتخريجها
واعلم: أن مدار هذا المنسك من رواية جابر على سبعة من ثقات أصحابه الأكابر:
1- محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو جعفر الباقر.
2- أبو الزبير بن محمد بن مسلم المكي.
3- عطاء بن أبي رباح المكي.
4- مجاهد بن جبر المكي.
5- محمد بن المنكدر المدني.
6- أبو صالح ذكوان السمان المدني.
7- أبو سفيان طلحة بن نافع الواسطي نزيل مكة.(/21)
الأصل الذي اعتمدنا عليه في هذا المنسك إنما هو من رواية الأول منهم في صحيح مسلم والآخرون إنما لهم منه الشيء اليسير وبعضهم أكثر من بعض على ترتيبهم المذكور. وقد استخرجت فوائدهم الزائدة على الأول ثم أشرت إلى من أخرج زوائد الأولين بوضع الرموز الآتي بيانها فوقها (11) مكتفيا بذلك عن الإطالة بالتخريج لكل زيادة ومستغنيا عنه بهذا التخريج الإجمالي فأقول:
1- أما رواية الأول: فأخرجها مسلم (4: 38-43) وأبو نعيم في "المستخرج على صحيح مسلم" (17: 149-150:1)وأبو داود(1:298-300) والدارمي(2:45-49) وابن ماجه(2:252-258) وابن الجارود في (المنتقى)رقم (465 و469 والبيهقي(5:7-9) من طريق جعفر بن محمد الصادق عنه بتمامه والسياق لمسلم كما سبقت الإشارة إليه وأخرج القسم الأكبر منه الطيالسي في مسنده(رقم 1668) وأحمد(3:320-321) وروى قطعا متفرقة منه مسلم(4:27 و43 و64) وأبو داود(1:305) والنسائي(2:12 ,13 ,16 ,17 ,19 ,22 ,38 ,39 ,40 ,41 ,42 , 45 ,48 ,49) والترمذي(2:80 ,91 ,93 ,95 ,4:71) والدارمي(2:23) وابن ماجه (2:214 , 216 ,223, 225, 227, 280) ومالك في موطأه (1: 332, 333, 337, 339) ومن طريقة محمد في موطأه (ص213، 220) والشافعي (1: 303, 304, 2: 4 ,9 , 39, 40, 65) والطحاوي في "شرح المعاني" (1: 361, 363, 371, 381, 393, 398, 411) وفي "مشكل الآثار" (1: 346, 2: 73 , 3: 160) والطبراني في "المعجم الصغير" (ص16 , 245 ,251) والدارقطني في (سننه) (ص269، 270) والحاكم في "المستدرك" (1: 455) وابن خزيمة في "صحيحه" على ما في "الترغيب والترهيب" والبيهقي في سننه الكبرى (5: 6، 32، 39، 40، 45، 74، 83، 90، 92، 93، 101، 111، 112، 114، 115، 118، 121، 124، 125، 129، 134، 144، 146، 147، 170) وأحمد في "مسنده" (3: 331،333،340،388،394،397) وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2: 1: 127) وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (3: 189،199،200، 5: 65، 7:(/22)
233،234، 9: 299).
2- أما رواية أبي الزبير: فأخرجها مسلم (4: 7، 35، 36، 67، 70، 79، 80، 88) وأبو نعيم في "المستخرج على صحيح مسلم" (19: 147:1 – 2و 170: 1) وأبو داود (1: 282،295، 309) والنسائي (2: 42، 46،49، 50) والترمذي (2: 101، 103، 104) والدارمي (2: 62) وابن ماجه (2: 228، 247) والشافعي (2: 12، 44، 53، 64) والطحاوي في "شرح المعاني" (1: 360، 399، 404، 406، 414) وفي (مشكل الآثار) (3: 247) والدارقطني (ص262) والحاكم (1: 480) والبيهقي (4: 347، 353، 5: 27، 31، 95، 100، 101، 107، 116، 125، 127، 130، 131، 149، 156) والطيالسي (رقم 1727) وأحمد وابن سعد
3- وأما رواية عطاء: فأخرجها البخاري (3: 325، 337، 396،398،439 ،441 ،478،480،486) ومسلم (4: 36-38) وأبو نعيم (17: 148: 1) وأبو داود (1: 282) والنسائي (2: 17، 23، 30، 43) والدارمي (2: 57) وابن ماجه (2: 230، 246، 247) والشافعي (2: 3) والطحاوي في "الشرح" (1: 361، 399،423، 442) في "المشكل" (2: 73، 3: 160 – 161) وابن حبان في "صحيحه" (رقم 1012- موارد الضمآن) والحاكم (1: 460، 473، 477) والبيهقي (4: 326، 338، 5: 3، 4،18، 23،38،41،95،122،143،170) والطيالسي (رقم 1676،1684،1685) وأحمد (3: 302، 304، 305، 317، 318، 326، 366، 368، 373، 378، 385، 389) وابن سعد (2: 1 : 126 و 134).
4- وأما رواية مجاهد: فأخرجها البخاري (3: 338) ومسلم (4: 38) والحاكم (1:473) والبيهقي (5: 23،40) وأحمد (3: 356، 362، 365).
5- وأما رواية محمد بن المنكدر: فأخرجها الترمذي (2: 112) وابن ماجه (2: 214) والبيهقي (5: 156) وأحمد (3: 304).
6و 7- وأما رواية أبي صالح وأبي سفيان: في المسند (3: 313، 371، 364).
وإليك الآن الرموز التي وعدنا بها:(/23)
فللبخاري (خ). ومسلم (م). وأبو داود (د). والنسائي (ن). والترمذي (ت). والدارمي (مي). وابن ماجه (مج). ومالك في "الموطأ" (ما). والشافعي في مسنده وفي سننه بواسطة "بدائع المنن" (شا). وابن سعد (سع). والطحاوي في "شرح المعاني" (طح). والطحاوي في "مشكل الآثار" (طش). والطبراني في "الصغير" (طص). وابن خزيمة في "صحيحه" (خز). والدارقطني (قط). وابن حبان (حب). وابن الجارود (جا). والحاكم (حا). والبيهقي (هق). والطيالسي (طي). وأحمد (حم). وأبو نعيم في "المستخرج" (تخ).
وقد وضعتُ على الكتاب تعاليق مفيدة كشفت فيها معاني بعض الألفاظ وبينت وفسرت ما جاء فيه من الأماكن ونبهت فيها على بعض الفوائد الفقهية ولم أتوسع في ذلك طلبا للاختصار واستدركت أيضا بعض المناسك التي لم ترد فيه فتمت بذلك فائدة الكتاب كمنسك وسميته: "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواها عنه جابر ورواها عنه ثقات أصحابه الأكابر".
أسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه الكريم وينفع به المسلمين إنه سميع مجيب.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال جابر - رضي الله عنه:
1- إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث [بالمدينة: ن شا جا حم] تسع سنين لم يحج ([1]).
2- ثم أذن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج [هذا العام: ن جا حم].
3- فقدم المدينة بشر كثير (وفي رواية: فلم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبا أو راجلا إلا قدم: ي ن) [فتدارك الناس ([2]) ليخرجوا معه: ن شا] كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله.(/24)
4- وقال جابر - رضي الله عنه -: سمعت- قال الراوي: أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مج) ([3]) فقال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ([4]) و"مهل أهل" الطريق الآخر الجحفة ([5]) ومهل أهل العراق من ذات عرق ([6]) مهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم) ([7]): نخ مج شا طي هق حم]
5- [قال فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: د ت مج هق حم] [لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع: ن جا هق]. ([8])
6- [وساق هديا: ن] ([9]).
7- فخرجنا معه [معنا النساء والولدان: م نخ] ([10]).
8- حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد ابن أبي بكر.
9- فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟
10- [ف] قال: اغتسلي واستثفري ([11]) بثوب وأحرمي.
11- فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد [وهو صامت: ن] ([12]).
الإحرام ([13])
12- ثم ركب القصواء ([14]) حتى إذا استوت به ناقته على البيداء [أهل ([15]) بالحج (وفي رواية: أفرد الحج: مج سع) هو وأصحابه: مج].
13- [قال جابر: د مج هق] : فنظرت إلى مد بصري [من: دمي مج جا] بين يديه من راكب وماش ([16]) وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به ([17]).
14- فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك.
15- وأهل الناس بهذا الذي يهلون به (وفي رواية: ولبى الناس [والناس يزيدون: جا حم] : جا هق حم) [لبيك ذا المعارج لبيك ذا الفواضل: د حم هق] فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه ([18]).
16- ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته.(/25)
17- قال جابر [ونحن نقول [لبيك اللهم: خ] لبيك بالحج: م مج] [نصرخ صراخا: م] لسنا نعرف العمرة: جا) ([19]) وفي أخرى: أهللنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالحج خالصا ليس معه غيره خالصا وحده: سع)
18- [قال: وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت ب (سرف) ([20]) عركت ([21]): م نخ].
دخول مكة والطواف
19- حتى إذا أتينا البيت معه [صبح رابعة مضت من ذي الحجة: م نخ د مج طح طي سع هق حم] (وفي رواية: دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى):
20- أتى النبي صلى الله عليه وسلم باب المسجد فأناخ راحلته ثم دخل المسجد ف: خز حا هق).
21- استلم الركن ([22]) (وفي رواية: الحجر الأسود: حم جا) ([23]).
22- [ثم مضى عن يمينه: م ن جا هق].
23- فرمل ([24]) [حتى عاد إليه: حم] ثلاثا ومشى أربعا [على هينته: طح] ([25]).
24- ثم نفذ إلى مقام إبراهيم - عليه السلام - فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [ورفع صوته يسمع الناس: ن].
25- فجعل المقام بينه وبين البيت [فصلى ركعتين: هق حم].
26- [قال: ن ت] : فكان يقرأ في الركعتين: {قل هو الله أحد} و{قل يا أيها الكافرون} (وفي رواية: {قل يا أيها الكافرون} و{قل هو الله أحد}.
27- ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه: حم].
28- ثم رجع إلى الركن فاستلمه.
الوقوف على الصفا والمروة
29- ثم خرج من الباب (وفي رواية: باب الصفا: طص) إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: (إن الصفا والمروة من شعائر الله)
أبدأ (وفي رواية: نبدأ: د ن ت مي ما جا هق حم طص) ([26]) بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت.
30- فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره [ثلاثا: ن هق حم] و[حمده: ن مج] وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد [يحيي ويميت: د ن مي مج هق] وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده [لا شريك له: مج] أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ([27]) ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات.(/26)
31- ثم نزل [ماشيا: ن] ([28]) إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا [يعني: مج] [قدمناه: مج ما ن] [الشق الآخر: حم] مشى حتى أتى المروة [فرقى عليها حتى نظر إلى البيت: ن حم].
32- ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
الأمر بفسخ الحج إلى العمرة
33- حتى إذا كان آخر طوافه (وفي رواية: كان السابع: جا حم) ([29]) على المروة فقال: [يا أيها الناس: حم] لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي و[ل: د جا هق حم] جعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة (وفي رواية: فقال: أحلوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ([30]) وأقيموا حلالا. حتى إذا كان يوم التروية ([31]) فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة: خ م) ([32]).
34- فقام سراقة بن مالك بن جعشم (وهو في أسفل المروة: جا حم) فقال: يا رسول الله [أرأيت عمرتنا (وفي لفظ: متعتنا: ن مج هق) هذه: ن طح] [أ: نخ مي مج جا هق حم] لعامنا هذا أم لأبد [الأبد: مج] ؟ [قال: مج] فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج [إلى يوم القيامة: جا حم] ([33]) لا بل لأبد أبد [لا بل لأبد أبد: د مي هق] [ثلاث مرات: جا].
35- [قال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيما العمل؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فيما نستقبل؟ قال: لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل [إذن: حم] ؟ قال: اعملوا فكل ميسر: طي حم] (لما خلق له: حم] ([34]).
36 (قال جابر: فأمرنا إذا حللنا أن نهدي ([35]) ويجتمع النفر منا في الهدية: م طي حم] [كل سبعة منا في بدنة: طي حم] [فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله: ما هق].
37- [قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله: م نخ طح طي حم] ([36]).
38- [قال: فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا: ن حم].
النزول في البطحاء(/27)
39- [قال: فخرجنا إلى البطحاء ([37]) قال: فجعل الرجل يقول: عهدي بأهلي اليوم: حم] (38).
40- [قال: فتذاكرنا بيننا فقلنا: خرجنا حجاجا لا نريد إلا الحج ولا ننوي غيره حتى إذا لم يكن بيننا وبين عرفة إلا أربع: حم] ([38])
(وفي رواية: خمس [ليال] أمرن أن نفيض إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني ([39]) [من النساء] قال: يقول جابر بيده (قال الراوي): كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها [قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟: خ م].
41- قال: [فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيء بلغه من قبل الناس: م].
خطبته - صلى الله عليه وسلم - بتأكيد الفسخ وإطاعة الصحابة له
42- [فقام: م نخ ن مج طح] [فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه: طح سع حم] فقال: [أبالله تعلموني أيها الناس: خا] قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم [افعلوا ما آمركم به فإني: م خ] لو لا هديي لحللت كما تحلون [ولكن لا يحل مني حرام ([40]) حتى يبلغ الهدي محله: خ] ([41]) ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا: م نخ ن مج طح سع هق].
43- [قال: فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا: م نخ ن حم] [وسمعنا وأطعنا: م نخ طح].
44- [فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي: مج طح هق].
45- [قال: وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة: خ هق حم] ([42]).
قدوم علي من اليمن مثلا بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم.
46- وقدم علي [من سعته: م ن شا هق] ([43]) من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم.
47- فوجد فاطمة - رضي الله عنها - ممن حل: [ترجلت: جا]
ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها [وقال: من أمرك بهذا؟: د هق] فقالت: "إن أبي أمرني بهذا".(/28)
48- قال: "فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشا ([44]) على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها [فقالت: أبي أمرني بهذا: د هق] فقال: صدقت صدقت [صدقت: ن جا حم] [أنا أمرتها به: ن جا حم].
49- قال جابر: "وقال لعلي: ما قلت حين فرضت الحج؟" قال: "قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم".
50- قال: فإن معي الهدي فلا تحل [وامكث حرامًا كما أنت: ن].
51- قال: قال فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم [من المدينة: د ن مج جا هق] مائة [بدنة: مي].
52- قال: فحل الناس كلهم ([45]) وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي ([46]).
التوجه إلى منى محرمين يوم الثامن
53- فلما كان يوم التروية [وجعلنا مكة يظهر: خ م نخ ن حم] توجهوا إلى منى ([47]) فأهلوا بالحج [من البطحاء: خ م طح هق حم].
54- [قال: ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة - رضي الله عنها - فوجدها تبكي فقال: "ما شأنك؟" قالت: "شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن" فقال: ((إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج)) [ثم حجي واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي: حم د] ([48]) ففعلت: م نخ د ن طح هق حم]. (وفي رواية: فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت: حم).
55- وركب ([49]) رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها (يعني: منى وفي رواية: بنا: د) الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر.
56- ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ([50]).
57- وأمر بقبة [له: د جا هق] من شعر عملا له بنمرة ([51]).
التوجه إلى عرفات والنزول بنمرة(/29)
58- فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ([52]) ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام [بالمزدلفة: د جا هق] [ويكون منزله ثم: م] كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ([53])- فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة ([54]) فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها.
59- حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ف [ركب حتى: د مج] أتى بطن الوادي ([55]).
خطبة عرفات
60- فخطب الناس وقال:
((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا [و: مج جا] [إن: د مي مج هق] كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي [هاتين: مج جا] موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم بن ربيعة بن الحارث [ابن عبد المطلب: د هق]- كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ([56]) فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان [ة: د شا مج هق] الله ([57]) واستحللتم فروجهن بكلمة الله ([58]) و[إن: د مي مج هق] لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ([59]) فإن فعلن ذلك فاضربوهن مبرح ([60]) ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف و[إني: جا هق] قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله ([61]) وأنتم تسألون (وفي لفظ: مسؤولون: د مي مج جا هق) عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت [رسالات ربك: جا] وأديت ونصحت [لأمتك وقضيت الذي عليك: جا] فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد)).
الجمع بين الصلاتين والوقوف على عرفات
61- ثم أذن [بلال: مي مج جا هق] [بنداء واحد: مي]
62- ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر.
63- ولم يصل بينهما شيئًا.(/30)
64- ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم [القصواء: جا] حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ([62]) وجعل حبل المشاة ([63]) بين يديه واستقبل القبلة ([64]).
65- فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ([65]).
66- [وقال: وقفت ههنا وعرفة كلها موقف: د ن مي مج جا حا حم].
67- وأردف أسامة [بن زيد: مج جا هق] خلفه.
الإفاضة من عرفات
68- ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((وفي رواية: أفاض وعليه السكينة: د ن مج)) ([66]) وقد شنق ([67]) للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك ([68]) رحله ويقول بيده اليمني [هكذا: وأشار بباطن كفه إلى السماء: ن] أيها الناس السكينة السكينة.
69- كلما أتى حبلا ([69]) من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ([70]).
الجمع بين الصلاتين في المزدلفة والبيات بها
70- حتى أتى المزدلفة فصلى بها [فجمع بين: د جا] المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ([71]).
71- ولم يسبح ([72]) بينهما شيئا.
72- ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ([73]).
73- وصلى الفجر حين تبين له الفجر بأذان وإقامة.
الوقوف على المشعر الحرام
74- ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ([74]) [فرقى عليه: د مج جا هق].
75- فاستقبل القبلة فدعاه (وفي لفظ: فحمد الله: د مج جا هق] وكبره وهلله ووحده.
76- فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا.
77 (وقال: وقفت ههنا والمزدلفة كلها موقف: م د ن مج جا حم).
الدفع من المزدلفة لرمي الجمرة
78- فدفع [من جمع: هق] قبل أن تطلع الشمس [وعليه السكينة: د ت هق حم] ([75]).
79- وأردف الفضل بن عباس ([76])- وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما-(/31)
80- فلما دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به ظعن ([77]) تجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر ([78]).
81- حتى أتى بطن محسر ([79]) فحرك قليلا ([80]) [وقال: عليكم السكينة: مي].
رمي الجمرة الكبرى
82- ثم سلك الطريق الوسطى ([81]) التي تخرج [ك: ن د مي مج جا هق] على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة
83- فرماها [ضحى: م نخ د ت طح جا قط هق حم] بسبع حصيات ([82])
84- يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف ([83])
85- [ف: د هق] رمى من بطن الوادي [وهو على راحلته [وهو: ن] يقول: لتأخذوا مناسككم ([84]) فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه: م د ن هق حم سع] ([85]).
86- [قال: ورمى بعد يوم النحر [في شائر أيام التشريق: حم] ([86]) إذا زالت الشمس: م د ن ت مي مج طحا جا حا هق حم].
87- [ولقيه شراقة وهو يرمي جمرة العقبة فقال: يا رسول الله ألنا هذه خاصة؟ قال: لا بل لأبد: خ م هق حم] ([87]).
النحر والحلق
88- ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين [بدنة: مج] بيده
89- ثم أعطى عليا فنحر ما غبر [يقول: ما بقي: د جا هق] وأشركه في هديه.
90- ثم أمر من كل بدنة ببضعة ([88]) فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها.
91 (وفي رواية قال: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بقرة: م).
92 (وفي أخرى قال: فنحرنا البعير (وفي أخرى: نحر البعير: حم) عن سبعة والبقرة عن سبعة: م نخ حم) (وفي رواية خامسة عنه قال: فاشتركنا في الجزور سبعة فقال له رجل: أرأيت البقرة أيشترك؟ فقال: ما هي إلا من البدن: نخ).(/32)
93 (وفي رواية: قال جابر: كنا لا نأكل من البدن إلا ثلاث مني فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا وتزودوا): حم). [قال: فأكلنا وتزودنا: خ حم] [حتى بلغنا بها المدينة] ([89]).
رفع الحرج
عمن قدم شيئا من المناسك أو أخَّر يوم النحر
94 (وفي رواية: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم [فحلق: حم] ([90])
95- وجلس [بمنى يوم النحر: مج] للناس فما سئل [يومئذ: مج] عن شيئ [قدم قبل شيء: مج] إلا قال: (لا حرج لا حرج) ([91])
"حتى جاءه رجل فقال: حلقت قبل أن أنحر؟ قال: (لا حرج) ".
96- ثم جاء آخر فقال: حلقت قبل أن أرمي؟ قال: لا حرج.
97- [ثم جاءه آخر فقال: طفت قبل أن أرمي؟ قال: لا حرج: مي حب].
98- [قال آخر: طفت قبل أن أذبح قال: ذبح ولا حرج: طح].
99- [ثم جاءه آخر فقال: إني نحرت قبل أن أرمي؟ قال: [ارم و: طي حم] لا حرج: مي مج طح حب طي حم].
100- [ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد نحرت ههنا ومنى كلها منحر: حم مي م د جا هق].
101- [وكل فجاج مكة وطريق ومنحر: د حم مج طش حا هق] ([92]).
102- [فانحروا من رحالكم: م مج د هق].
خطبة النحر
103- [وقال جابر رضي الله عنه: خطبنا - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال: أي يوم أعظم حرمة؟ فقالوا: يومنا هذا قال: فأي شهر أعظم حرمة؟ قالوا: شهرنا قال: أي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: بلدنا هذا قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد: حم].
الإفاضة لطواف الصدر
104- ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت [فطافوا ([93]).
105- ولم يطوفوا بين الصفا والمروة: د طح هق حم سع] ([94]).
106- فصلى بمكة الظهر ([95]).
107- فأتى بني عبد المطلب [وهم: نخ مي مج جا هق] يسقون على زمزم ([96]) فقال: انزعوا ([97]) بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ([98])(/33)
108- فناولوه دلوا فشرب منه).
تمام قصة عائشة
109- [وقال جابر - رضي الله عنها -: "وإن عائشة حاضت فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت": خ حم].
110- [قال: "حتى إذا طهرت طافت بالكعبة ([99]) والصفا والمروة ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا": م د ن هق حم].
111- [قالت: "يا رسول الله أتنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟": خ حم] ([100]) [قال: ((إن لك مثل ما لهم)): حم].
112- [فقالت: "إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت": م د ن طح هق حم].
113- [قال: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه": م هق] ([101]).
114- [قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم.
115- [فاعتمرت بعد الحج: خ حم] [ثم أقبلت: حم] وذلك ليلة الحصبة: م ط هق حم] ([102]).
116- [وقال جابر: طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت في حجة الوداع ([103]) على راحلته يستلم الحجر بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه: م د حم].
117- [وقال ([104]): رفعت امرأةٌ صبيًا لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقالت: "يا رسول الله ألهذا حج؟" قال: "نعم ولك أجر": ت مج هق] ([105]).
وهذا آخِرُ ما وقفتُ عليه من "حجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم "، برواية جابر - رضي الله عنه، والحمد لله على توفيقه وأسأله المزيد من فضله وقد رأيت أن أختم الكتاب بعرض خلاصة ما ورد فيه من مناسك الحج خاصة التي يهم كل حاج معرفتها والوقوف عليها من قرب وذلك بناء على اقتراح بعض الإخوان جزاه الله خيرًا.
وإتماما للفائدة؛ فإني سأضم إلى ذلك المناسك الأخرى التي مضى التنبيه عليها في التعليق لتكون خلاصة جامعة - إن شاء الله تعالى -:
1- الإحرام في إزار ورداء ([106]).
2- لبسهما والتطيب قبله.
3- الإحرام من الميقات.
4- إحرام النفساء والحائض بعد الاغتسال.
5- الإحرام بحج وعمرة([107]).
6- الحج راكبًا.(/34)
7- الحج بالنساء والصبيان.
8- التلبية بتلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - ورف الصوت بها.
9- فسخ الحج ممن نواه مفردا أو قرن إليه عمرة ولم يسق الهدي.
10- طواف القدوم سبعة أشواط.
11- الاضطباع فيها.
12- الرمل في الثلاثة الأولى منه.
13- التكبير عند الحجر.
14- تقبيل الحجر. أو ستلام الركن اليماني في كل شوط.
15- صلاة ركعتين بعد الفراغ من الأشواط.
16- القراءة فيها ب {قل يا} و{قل هو}س.
17- صلاتهما خلف المقام.
18- الشرب من زمزم والصب منها على الرأس.
19- العود إلى استلام الحجر الأسود.
20- الوقوف على الصفا مستقبل القبلة.
21- ذكر الله عليها وتوحيده وتكبيره وتحميده وتهليله ثلاثا.
22- المشي بينها وبين المروة سبعا.
23- السعي بينهما في بطن الوادي في كل شوط.
24- الوقوف على المروة.
25- الذكر عليها كما فعل على الصفا.
26- ختم السعي على المروة.
27- التحلل من الإحرام من التمتع أو القران الذي لم يسق الهدي بقص الشعر ولبس الثياب وغير ذلك.
28- تحلل المتمتع بقص الشعر لا الحلق.
29- الإهلال بالحج يوم التروية.
30- الذهاب إلى منى والبيات فيها.
31- أداء صلاة الظهر وبقية الصلوات الخمس بها.
32- التوجه منها بعد طلوع شمس يوم عرفة إلى عرفات.
33- النزول بنمرة عند عرفات.
34- الجمع بين الظهر والعصر عندها جمع تقديم.
35- الوقوف على عرفة مفطرًا.
36- الخطبة في عرفة.
37- استقبال القبلة رافعا يديه يدعو على عرفة.
38- التلبية على عرفة.
39- الإفاضة من عرفة بعد الغروب وعليه السكينة.
40- الجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير في المزدلفة.
41- الأذان فيه بإقامتين.
42- ترك السنة بين الصلاتين.
43- البيات بها بدون إحياء الليل.
44- صلاة الفجر حين تبين الفجر.
45- الوقوف على المشعر الحرام منها مستقبل القبلة داعيًا حامدًا مكبرًا مهللاً حتى الإسفار جدًا.
46- الدفع منها قبل أن تطلع الشمس.
47- الإسراع قليلا في بطن محسر.(/35)
48- الذهاب إلى الجمرة من طريق أخرى غير طريق الذهاب إلى عرفات.
49- رمي الجمرة الكبرى يوم النحر من بطن الوادي بسبع حصيات ضحى.
50- الرمي بحصى الخذف.
51- جواز رميها بعد الزوال.
52- الرمي من بطن الوادي.
53- التكبير مع كل حصاة.
54- قطع التلبية عند رمي الجمرة.
55- التحلل الحل الأصغر بالرمي.
56- الرمي في أيان التشريق بعد الزوال.
57- نحر القارن والمتمتع للهدي فمن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
58- نحر البعير وكذلك البقرة عن سبعة.
59- النحر في منى ومكة.
60- الأكل من الهدي.
61- التطيب بعد الرمي.
62- الحلق.
63- البدء بيمين المحلوق.
64- الخطبة يوم النحر.
65- الإفاضة لطواف الصدر بدون رمل.
66- سعي المتمتع بعد طواف الإفاضة خلافا للقارن.
67- ترتيب المناسك يوم النحر.
68- الإحلال بعده الحل كله.
69- الشرب من زمزم عقب الفراغ من الطواف.
70- الرجوع إلى منى ومكث فيها أيام التشريق الثلاثة.
71- رمي الجمرات الثلاث في كل يوم منها بعد الزوال.
72- الطواف للوداع بدون رمل.
وبهذا ينتهي الكتاب. وآخِر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وقد رأيتُ أن أُلحق بالكتاب من هذه الطبعة ذيلاً أسرد فيه بدع الحج وزيارة المدينة المنورة وبيت المقدس لأن كثيرا من الناس لا يعرفونها فيقعون فيها فأحببت أن أزيدهم نصحا ببيانها والتحذير منها. ذلك لأن العمل لا يقبله الله تبارك وتعالى إلا إذا توفر فيه شرطان اثنان:
الأول: أن يكون خالصًا لوجهه - عز وجل.
والآخَر: أن يكون صالحًا. ولا يكون صالحًا إلا إذا كان موافقًا للسنة غير مخالف لها ومن المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادة مزعومة لم يشرعها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله ولم يتقرب هو بها إلى الله بفعله فهي مخالفة لسنته؛ لأن السنة على قسمين:(/36)
سنة فعلية وسنة تركية، فما تركه - صلى الله عليه وسلم - من تلك العبادات فمن السنة تركها ألا ترى مثلا أن الأذان للعيدين ولدفن الميت مع كونه ذكرًا وتعظيما لله - عز وجل - لم يجز التقرب له إلى الله - عز وجل - وما ذلك إلا لكونه سنة تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد فهم هذا المعنى أصحابه - صلى الله عليه وسلم - فكثر عنهم التحذير من البدع تحذيرًا عامًا كما هو مذكور في موضعه حتى قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: "كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها". وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم عليكم بالأمر العتيق".
فهنيئا لمن وفقه الله في عبادته لاتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولم يخالطها ببدعة، إذا فليبشر بتقبل الله عز وجل لطاعته، وإدخاله إياه في جنته. جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
واعلم:
أن البدع التي ستمر بك على نوعين: بدع وجدت أنا من نص على بدعيتها من أهل العلم في كتبهم فهذا العلامة عليه عزوها إليهم. وهذا النوع من الأكثر. والآخر: بدع لم أجد من نص على بدعيتها ولكن السنة أو القواعد العلمية الأصولية تحكم ببدعتها. فهذا الدليل عليه خلوه من العزو.
ومرجع هذه البدع أمور:
الأول: أحاديث ضعيفة لا يجوز الاحتجاج بها ولا نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذا لا يجوز العمل به عندنا على ما بينته في مقدمة "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب جماعة من أهل العلم كابن تيمية وغيره.(/37)
الثاني: أحاديث موضوعة أو لا أصل لها، خفي أمرها على بعض الفقهاء خاصة المتأخرين منهم، لم يدعموها بأي دليل شرعي، بل ساقوها مساق الأمور المسلَّمات، حتى صارت سننا تتبع ولا يخفى على المتبصر في دينه أن ذلك مما لا يسوغ اتباعه؛ إذ لا شرع إلا ما شرعه الله تعالى، وحسب المستحسن- إن كان مجتهدا- أن يجوز له هو العمل بما استحسنه وألا يؤاخذه الله به، أما أن يتخذ الناس ذلك شريعة وسنة فلا ثم لا. فكيف وبعضها مخالف للسنة العملية كما سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله - تعالى.
رابعًا: عادات وخرافات لا يدل عليها الشرع ولا يشهد لها عقل وإن عمل بها بعض الجهال واتخذوها شِرْعَةً لهم ولم يعمدوا من يؤيدهم ولو في بعض ذلك ممن يدعي العلم ويتزيى بزيهم.
ثم ليعلم:
أن هذه البدع ليست خطورتها في نسبة واحدة بل هي على درجات بعضها شرك وكفر صريح كما سترى وبعضها دون ذلك ولكن يجب أن نعلم أن أصغر بدعة يأتي الرجل بها في الدين هي محرمة بعد تبين كونها بدعة فليس في البدع- كما يتوهم البعض- ما هو رتبة المكروه فقط كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(صحيح): (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) أي صاحبها. وقد حقق هذا أتم تحقيق الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه العظيم (الاعتصام) ولذلك فأمر البدعة خطير جدا لا يزال أكثر الناس في غفلة عنه ولا يعرف ذلك إلا طائفة من أهل العلم وحسبك دليلا على خطورة البدعة قوله صلى الله عليه وسلم:
(صحيح): (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) رواه الطبراني والضياء المقدسي في (الأحاديث المختارة) وغيرهما بسند صحيح وحسنه المنذري.
وأختم هذه الكلمة بنصيحة أقدمها إلى القراء من إمام كبير من علماء المسلمين الأولين، هو الشيخ حسن بن علي البربهاري، من أصحاب أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، المتوفى سنة (329)، قال رحمه الله تعالى:(/38)
"واحذر صغار المحدثات فإن صغار البدع تعود حتى تصير كبارا وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرا يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها ثم لم يستطع المخرج منها فعظمت وصارت دينا يدان به فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء فإن أصبت فيه أثرا عنهم فتمسك به ولا تجاوزه لشيء ولا تختر عليه شيئا فتسقط في النار.
واعلم رحمك الله أنه لا يتم إسلام عبد حتى يكون متبعا مصدقا مسلما فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفونا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذبهم وكفى بهذا فرقة وفطعن عليهم فهو مبتدع ضال مضل محدث في الإسلام ما ليس فيه" ([108]).
رحم الله الإمام مالك حيث قال:
"لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا".
وصلى الله على نبينا القائل:
((ما تركت شيئا يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئا يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه)).
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
بدع ما قبل الإحرام1- الإمساك عن السفر في شهر صفر وترك ابتداء الأعمال فيه من النكاح والدخول وغيره ([109]).
2- ترك السفر في محاق الشهر وإذا كان القمر في العقرب ([110]).
3- ترك تنظيف البيت وكنسه عقب سفر المسافر. (المدخل لابن الحاج) (2/67).
4- صلاة ركعتين حين خروج إلى الحج يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وفي الثانية (الإخلاص)، فإذا فرغ قال: (اللهم بك انتشرت وإليك توجهت...) ويقرأ آية الكرسي سورة الإخلاص والمعوذتين وغير ذلك مما جاء في بعض الكتب مثل (إحياء الغزالي) و(الفتاوى الهندية) وشرعة الإسلام) وغيرها ([111]).
5- صلاة أربع ركعات ([112]).(/39)
6- قراءة المريد للحج إذا خرج من منزله آخر سورة (آل عمران) وآية الكرسي و(إنا أنزلناه) و(أم الكتاب) بزعم أن فيها قضاء حوائج الدنيا والآخرة ([113]).
7- الجهر بالذكر والتكبير عند تشييع الحاج وقدومهم (المدخل) (4/322) (مجلة المنار) (12/271).
8- الأذان عند توديعهم.
9- المحمل والاحتفال بكسوة الكعبة ([114]).
(المدخل) (4/213) (والإبداع في مضار الابتداع) (131- 132) (تفسير المنار) (10/358).
10- توديع الحاج من قبل بعض الدول بالموسيقى
11- السفر وحده أنسا بالله كما يزعم بعض الصوفية
12- السفر من غير زاد التصحيح دعوى التوكل ([115])
13 (السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين) ([116]).
"مجموع الرسائل الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/395)
14 (عقد الرجل على المرأة المتزوجة إذا عزمت على الحج وليس معها محرم بعقد عليها ليكون معها كمحرم) ([117]).
(السنن والمبتدعات) (109).
15- أخذ المكس من الحجاج القاصدين لأداء فريضة الحج. (الإحياء) (1/236).
16- صلاة المسافر ركعتين كلما نزل منزلا وقوله: اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين... ([118])
17- قراء المسافر في كل منزل ينزله سورة الإخلاص (11) مرة وآية الكرسي مرة وآية (وما قدروا الله حق قدره) مرة (118).
18- الأكل من فحا كل أرض يأتيها المسافر ([119]).
19- (قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم تستحب الشريعة ذلك مثل المواضع التي يقال: إن فيها أثر النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال في صخرة بيت المقدس ومسجد القدم قبلي دمشق وكذلك مشاهد الأنباء والصالحين).
(اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) (ص 151 و152) ([120]).
20- (شهر السلاح عند قدوم تبوك).
(الاختيارات العلمية) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
بدع الإحرام والتلبية وغيرها
21- اتخاذ نعل خاصة بشروط معينة معروفة في بعض الكتب ([121])
22- الإحرام قبل الميقات ([122])
23- (الاضطباع عند الإحرام) ([123]).(/40)
(تلبيس إبليس) لابن الجوزي (ص 154).
24- التلفظ بالنية ([124]).
25- (الحج صامتا لا يتكلم). (الاقتضاء) (ص 60).
26- (التلبية جماعة في صوت واحد). (شرح الطريقة المحمدية) للحاج رجب (1/115) و(المدخل) لابن الحاج (2/221).
27- (التكبير والتهليل بدل التلبية). (كنز العمال) عن ابن عباس (3/30).
28- القول بعد التلبية: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وأعني على أداء فرضه وتقبله مني اللهم إني نويت أداء فريضتك في الحج فاجعلني من الذين استجابوا لك...) ([125]).
29- (قصد المساجد التي بمكة وما حولها غير المسجد الحرام كالمسجد الذي تحت الصفا وما في سفح أبي قبيس ومسجد المولد ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار من النبي صلى الله عليه وسلم). (مجموعة الرسائل الكبرى) (2/388- 389) و(تفسير سورة الإخلاص) لابن تيمية (179).
30- (قصد الجبال والبقاع التي حول مكة مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال: إنه كان فيه الفداء ونحو ذلك). (مجموعة الرسائل الكبرى) (2/289).
31- (قصد الصلاة في مساجد عائشة ب (التنعيم). (مجموعة الرسائل الكبرى) (2/357- 358).
32- (التصليب أمام البيت) (الإقتضاء) (101).
بدع الطواف
33- (الغسل للطواف). "مجموعة الرسائل الكبرى" (2/380).
34- لبس الطائف الجورب أو نحوه؛ لئلا يطأ على ذرق الحمام، وتغطية يديه؛ لئلا يمس امرأة ([126]).
35- صلاة المحرم إذا دخل المسجد الحرام تحية المسجد ([127]).
36- (وقوله نويت بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا). (زاد المعاد) (1/455 3/303) (الروضة الندية) (1/261).
37- (رفع اليدين عند استلام الحجر كما يرفع للصلاة). (زاد المعاد) (1/303) و(سفر العادة) للعلامة الفيروز آبادي (70) ([128]).
38- (التصويت بتقبيل الحج الأسود). (المدخل) (4/223).
39- المزاحمة على تقبيله ومسابقة الإمام بالتسليم في الصلاة لتقبيله(/41)
40- (تشمير نحو ذيله عند استلام الحجر أو الركن اليماني) الحاج رجب في (شرح الطريقة المحمدية) (1/122).
41- (قولهم عند استلام الحجر: اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك). (المدخل) (4/225) ([129]).
42- قولهم عند استلام الحجر: اللهم إني أعوذ بك من الكبر والفاقة ومراتب الخزي في الدنيا والآخرة ([130]).
43- (وضع اليمنى على اليسرى حال الطواف). (المصدر السابق: 1/122).
44- القول قبالة باب الكعبة: اللهم إن البيت بيتك والحرم حرمك والأمن أمنك وهذا مقام العائذ بك من النار- مشيرا إلى مقام إبراهيم عليه السلام.
45- الدعاء عند الركن العراقي: اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد.
46- الدعاء تحت الميزاب: "اللهم أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك واسقني بكأس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة مريئة لا أظمأ بعدها أبدا. يا ذا الجلال والإكرام".
47- الدعاء في الرمل: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا ومغفورا وسعيا مشكورا وتجارة لن تبور يا عزيز يا غفور ([131]).
48- في الأشواط الأربعة الباقية: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم ([132]).
49- (تقبيل الركن اليماني). (المدخل) (4/224).
50- (تقبيل الركنين الشاميين والمقام واستلامهما). (الاقتضاء) (204) و(مجموعة الرسائل) (2/371) و(الاختيارات العلمية) لابن تيمية (ص 69).
51- (التمسح بحيطان الكعبة والمقام). (تفسير سورة الإخلاص) (177) و(إغاثة اللهفان) (1/212) و(السنن والمبتدعات) (113).
52- (العروة الوثقى وهو موضع عال من جدار البيت المقابل لباب البيت تزعم العامة أن من ناله بيده فقد استمسك بالعروة الوثقى). (الباعث على إنكار البدع والحوادث) لأبي شامة (ص 69) ([133]) و(فتح القدير) لابن الهمام (2/182- 183) و(الابتداع) (165).(/42)
53- (مسمار في وسط البيت سموه سمرة الدنيا يكشف أحدهم عن سرته وينبطح بها على ذلك الموضع حتى يكون واضعا سرته على سرة الدنيا) ([134]). (المصادر السابقة).
54- قصد الطواف تحت المطر بزعم أن من فعل ذلك غفر له ما سلف من ذنبه ([135]).
55- التبرك بالمطر النازل من ميزاب الرحمة من الكعبة.
56- (ترك الطواف بالثوب القذر). (الاقتضاء) لابن تيمية (60).
57- إفراغ الحاج سؤرة من ماء زمزم في البئر وقوله: اللهم إني أسألك رزقا واسعا وعلما نافعا وشفاء من كل داء...
58- اغتسال البعض من زمزم ([136]).
59- (اهتمامهم بزمزمة لحاهم وزمزمة ما معهم من النقود والثياب لتحل بها البركة). (السنن والمبتدعات) (113).
60- ما ذكر في بعض كتب الفقه أنه يتنفس في شرب زمزم مرات ويرفع بصره في كل مرة وينظر إلى البيت ([137]).
بعد السعي بين الصفا والمروة
61- الوضوء لأجل المشي بين الصفا والمروة بزعم أن من فعل ذلك كتب له بكل قدم سبعون ألف درجة ([138]).
62- (الصعود على الصفا حتى يلصق بالجدار). (حاشية ابن عابدين) (2/234).
63- الدعاء في هبوطه من الصفا: "اللهم استعملني بسنة نبيك، وتوفني على ملته، وأعذني من مضلات الفتن برحمتك يا أرحم الراحمين" ([139]).
64- القول في السعي: "رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم اللهم اجعله حجًا مبرورًا- أو عمرة مبرورة- وذنبًا مغفورًا الله أكبر ثلاثًا ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده... إلى قوله: ولو كره الكافرون" ([140]).
65- السعي أربع عشرة شوطا بحيث يختم على الصفا ([141]).
66- "تكرار السعي في الحج أو العمرة". (شرح النووي على مسلم) (9/25).
67- (صلاة ركعتين بعد الفراغ من السعي) ([142]). (الباعث على إنكار البدع) و(القواعد النورانية) لشيخ الإسلام ابن تيمية (101).(/43)
68- استمرارهم في السعي بين الصفا والمروة وقد أقيمت الصلاة حتى تفوتهم صلاة الجماعة.
69- التزام دعاء معين إذا أتى منى كالذي في (الإحياء): (اللهم هذه منى فامنن علي بما مننت على أوليائك وأهل طاعتك) وإذا خرج منها: (اللهم اجعلها خير غدوة غدوتها قط...) إلخ.
بدع عرفة
70- الوقوف على جبل عرفة في اليوم الثامن ساعة من الزمن احتياطا خشية الغلط في الهلال ([143]).
71- (إيقاد الشمع الكثير ليلة عرفة بمنى). (مجموعة الرسائل الكبرى) (2/377 378 379). والبجيرمي في (حاشيته) (2/211).
72- الدعاء ليلة عرفة بعشر كلمات ألف مرة: "سبحان الذي في السماء عرشه سبحان الذي في الأرض موطئه سبحان الذي في البحر سبيله... إلخ" ([144]).
73- (رحيلهم في اليوم الثامن من مكة إلى عرفة رحلة واحدة). (الباعث على إنكار البدع) (69- 70) ([145]).
74- (الرحيل من منى إلى عرفة ليلاً) ([146]).
(المدخل) (4/227).
75- (إيقاد النيران والشموع على جبل عرفات ليلة عرفة). (الباعث على إنكار البدع) (2/ 378 379) و(الاعتصام) للشاطبي (2/273) و(الإبداع في مضار الابتداع) (165).
76- الاغتسال ليوم عرفة ([147]).
77- قوله إذا قرب من عرفات ووقع بصره على جبل الرحمة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
78- (الرواح إلى عرفات قبل دخول وقت الوقوف بانتصاف يوم عرفة). (الإبداع) (166).
79- التهليل على عرفا مائة مرة ثم قراءة سورة الإخلاص مائة مرة ثم الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - يزيد في آخرها: وعلينا معهم مائة مرة ([148]).
80- السكوت على عرفات وترك الدعاء ([149]).
81- (الصعود إلى جبل الرحمة في عرفات).
(مجموعة ابن تيمية) (2/380) و(اختياراته العلمية) (69) ([150]) و(المدخل) (4/227).(/44)
82- دخول القبة التي على جبل الرحمة ويسمونها قبة آدم والصلاة فيها والطواف بها كطواف بالبيت). (مجموعة ابن تيمية) (2/380) و(اقتضاء الصراط المستقيم) له (149) و(المدخل) (4/237).
83- (اعتقاد أن الله - تعالى - ينزل عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان ويعانق المشاة). (مجموعة ابن تيمية) (1/279) ([151])
84- خطبة الإمام في عرفة خطبتين يفصل بينهما بجلسة كما في الجمعة ([152]).
85- صلاة الظهر والعصر قبل الخطبة ([153]).
86- الأذان للظهر والعصر في عرفة قبل أن ينتهي الخطيب من خطبته ([154]).
87- قول الإمام لأهل مكة بعد فراغه من الصلاة في عرفة: "أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر" ([155]).
88- التطوع بين صلاة الظهر والعصر في عرفة ([156]).
89- تعيين ذكر أو دعاء خاص بعرفة كدعاء الخضر - عليه السلام - الذي أورده في (الإحياء) وأوله: يا من لا يشغله شأن عن شأن ولا سمع عن سمع...) وغيره من الأدعية وبعضها يبلغ أكثر من ست صفحات من قياس كتابنا هذا ([157]).
90- إفاضة البعض قبل غروب الشمس.
91- ما استفاض عن ألسنة العوام أن وقفة عرفة يوم الجمعة تعدل اثنين وسبعين حجة. (زاد المعاد) (1/23) ([158]).
92- (التعريف الذي يفعله بعض الناس من قصد الاجتماع عشية يوم عرفة في الجوامع أو في مكان خارج البلد فيدعون ويذكرون مع رفع الصوت الشديد والخطب والأشعار ويتشبهون بأهل عرفة). (سنن البيهقي) (5/118) عن الحكم وحماد وإبراهيم و(الاقتضاء) (149) و(منية المصلي) للحلبي (573).
بدع المزدلفة
93- (الإيضاح (الإسراع) وقت الدفع من عرفة إلى مزدلفة).
(زاد المعاد) (1/337- 338).
94- الاغتسال للمبيت بمزدلفة. (مجموعة شيخ الإسلام) (2/280).
95- استحباب نزول الراكب ليخل مزدلفة ماشيا توفيرا للحرم ([159]).
96- التزام الدعاء بقوله إذا بلغ مزدلفة: "اللهم إن هذه مزدلفة جمعت فيها ألسنة مختلفة نسألك حوائج مؤتنفة... إلخ" ما في الإحياء.(/45)
97- ترك المبادرة إلى صلاة المغرب فور النزول في المزدلفة والانشغال عن ذلك بلقط الحصى.
98- صلاة سنة المغرب بين الصلاتين أو جمعها إلى سنة العشاء والوتر بعد الفريضتين كما يقول الغزالي.
99- (زيادة الوقيد ليلة النحر وبالمشعر الحرام). (الباعث على إنكار البدع والحوادث) (25 69).
100- إحياء هذه الليلة ([160]).
101- الوقوف بالمزدلفة بدون بيات. (الروضة الندية) (1/ 267).
102- التزام الدعاء إذا انتهى إلى المشعر الحرام بقوله: اللهم بحق المشعر الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام والركن والمقام أبلغ روح محمد منا التحية والسلام وأدخلنا دار السلام يا ذا الجلالة والإكرام ([161]).
103- قول الباجوري (1/325): (ويسن أخذ الحصى الذي يرميه يوم النحر من المزدلفة وهي سبع والباقي من الجمرات تؤخذ من وادي محسر) ([162]).
بدع الرمي
104- الغسل لرمي الجمار.) مجموعة ابن تيمية) (2/380).
105- غسل الحصيات قبل الرمي ([163]).
106- التسبيح أو غيره من الذكر مكان التكبير.
107- الزيادة على التكبير قولهم: "زعمًا للشيطان وحزبه اللهم اجعل حجي مبرورًا وسعيي مشكورًا وذنبي مغفورًا اللهم إيمانًا بكتابك واتباعًا لسنة نبيك".
108- قول الباجوري في حاشيته (1/325):
"ويسن أن يقول مع كل حصاة عند الرمي: بسم الله والله أكبر صدق الله وعده... إلى قوله: {ولو كره الكافرون}.
109- التزام كيفيات معينة للرمي كقول بعضهم: يعض طرف إبهامه اليمنى على وسط السبابة ويضع الحصاة على ظهر الإبهام كأنه عاقد سبعين فيرميها. وقال آخر: يحلق سبابته ويضعها على مفصل إبهامه كأنه عاقد عشرة ([164]).
110- تحديد موقف الرامي: أن يكون بينه وبين المرمى خمسة أذرع فصاعدا.
111- رمي الجمرات بالنعال.
بدع الذبح والحلق
112- الرغبة عن ذبح الواجب من الهدي إلى التصدق بثمنه بزعم أن لحمه يذهب في التراب لكثرته ولا يستفيد منها إلا القليل ([165]).(/46)
113- ذبح بعضهم هدي التمتع بمكة قبل يوم النحر.
114- البدء بالحلق بيسار رأس المحلوق ([166]).
115- الاقتصار على حلق ربع الرأس ([167]).
116- قول الغزالي في (الإحياء): "والسنة أن يستقبل القبلة في الحلق".
117- الدعاء عند الحلق بقوله: "الحمد لله على ما هداني وأنعم علينا اللهم هذه ناصيتي بيدك فتقبل مني واغفر لي ذنبي اللهم اكتب لي بكل شهرة حسنة وامح بها عني سيئة وارفع لي بها درجة اللهم اغفر لي وللمحلقين والمقصرين يا واسع المغفرة آمين" ([168]).
118- الطواف بالمساجد التي عند الجمرات. (مجموعة الرسائل الكبرى) (2/380).
119 (استحباب صلاة العيد بمنى يوم النحر). (القواعد النورانية) (101) ([169]).
120- ترك السعي بعد طواف الإفاضة من المتمتع ([170]).
بدع متنوعة والوداع
111- (الاحتفال بكسوة الكعبة). (تفسير المنار) (1/468).
122- كسوة مقام إبراهيم - عليه السلام - ([171]).
123- ربط الخرق بالمقام والمنبر لقضاء الحاجات ([172]).
124- كتابة الحجاج أسماءهم على عمد حيطان الكعبة وتوصيتهم بعضهم بذلك. (السنن والمبتدعات) (113).
125- استحبابهم المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام ومقاومتهم للمصلي الذي يحاول دفعهم ([173]).
126- مناداتهم لمن حج ب (الحاج). (تلبيس إبليس) لابن الجوزي (ص 154) و(نور البيان في بدع آخر الزمان) (ص 82).
127 (الخروج من مكة لعمرة تطوع). (الاختيارات العلمية) (70).
128 (الخروج من المسجد الحرام بعد طواف الوداع على القهقرى) ([174]).
(مجموعة الرسائل الكبرى) (2/288) و(الاختيارات العلمية) (70) و(المدخل) (4/238).
129 (تبييض بيت الحجاج بالبياض (الجير) ونقشه بالصور وكتب اسم وتاريخ الحاج عليه). (السنن والمبتدعات) (113).
بدع المدينة المنورة(/47)
هذا ولما كان من السنة شد الرحل إلى زيارة المسجد النبوي الكريم والمسجد الأقصى لما ورد في ذلك من الفضل والأجر وكان الناس عادة يزورونهما قبل الحج أو بعده وكان الكثير منهم يركبون في سبيل ذلك العديد من المحدثات والبدع المعروفة عند أهل العلم رأيت من تمام الفائدة أن أسرد ما وفقت عليه منها تبليغا وتحذيرا فأقول:
130- قصد قبره - صلى الله عليه وسلم - بالسفر ([175]).
131- إرسال العرائض مع الحجاج والزوار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم.
132- الاغتسال قبل دخول المدينة المنورة.
133- القول إذا وقع بصره على حيطان المدينة: "اللهم هذا حرم رسولك فاجعله لي وقاية من النار وأمانا من العذاب وسوء الحساب".
134- القول عند دخول المدينة: "بسم الله وعلى ملة رسول الله رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا".
135- إبقاء القبر النبوي في مسجده ([176]).
136- زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - قبل الصلاة في مسجده.
137- وقوف بعضهم أمام القبر بغاية الخشوع واضعا يمينه على يساره كما يفعل في الصلاة. ([177])
138- قصد استقبال القبر أثناء الدعاء.
139- قصد القبر للدعاء عنده رجاء الإجابة. (الاختيارات العلمية) (50).
140- التوسل به - صلى الله عليه وسلم - إلى الله في الدعاء.
141- طلب الشفاعة وغيرها منه.
142- قول ابن الحاج ([178]) في (المدخل) (1/259) أن من الآداب: (أن لا يذكر حوائجه ومغفرة ذنوبه بلسانه عند زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - لأنه أعلم منه بحوائجه ومصالحه).
143- قوله أيضا (1/264):
(لا فرق بين موته - عليه السلام - وحياته في مشاهدته لأمته ومعرفته بأحوالهم ونياتهم وتحسراتهم وخواطرهم).
144- وضعهم اليد تبركًا على شباك حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحلف البعض بذلك بقوله: "وحق الذي وضعت يدك على شباكه" وقلت: "الشفاعة يا رسول الله".(/48)
145- (تقبيل القبر أو استلامه أو ما يجاور القبر من عود ونحوه).
(فتاوى ابن تيمية) (4/310) و(الاقتضاء) (176) و(الاعتصام) (2/134- 140) و(إغاثة اللهفان) (1/194) و(الباعث) لأبي شامة (70) والبركوي في (أطفال المسلمين) (234) و(الابداع) (90) ([179]).
146- التزام صورة خاصة في زيارته - صلى الله عليه وسلم - وزيارة صاحبيه والتقيد بسلام ودعاء خاص مثل قول الغزالي: (يقف عند وجهه - صلى الله عليه وسلم - ويستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر على نحو أربعة أذرع من السارية التي في زاوية جدار القبر ويقول: "السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا نبي الله... يا أمين الله... يا حبيب الله" فذكر سلامًا طويلاً ثم صلاة ودعاء نحو ذلك في الطول قريبًا من ثلاث صفحات (ثم يتأخر قدر ذراع يسلم على أبي بكر الصديق؛ لأن رأسه عند منكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يتأخر قدر ذراع ويسلم على الفاروق ويقول: "السلام عليكما يا وزيري رسول الله والمعاونين له على القيام... ثم يرجع فيقف عند رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويستقبل القبلة..." ثم ذكر أنه يحمد ويمجد ويقرأ آية (ولو أنهم إذا ظلموا...) ثم يدعو بدعاء نحو نصف صفحة) ([180]).
147- (قصد الصلاة تجاه قبره) ([181]).
(الرد على البكري) لابن تيمية (71) و(القاعدة الجليلة) (125- 126) و(الإغاثة) (1/194- 195) والخادمي على (الطريقة المحمدية) (4/322).
148- (الجلوس عند القبر وحوله للتلاوة والذكر). (الاقتضاء) (183- 210).
149- قصد القبر النبوي للسلام عليه دبر كل صلاة ([182]).
150- "قصد أهل المدينة زيارة القبر النبوي كلما دخلوا المسجد أو خرجوا منه". (الرد على الأخنائي) (150- 151 156 217 218) و(الشفا في حقوق المصطفى) للقاضي عياض (2/79) و(المدخل) (1/262).
151- التوجه إلى جهة القبر الشريف عند دخول المسجد أو الخروج منه والقيام بعيدا منه بغاية الخشوع.(/49)
152- رفع الصوت عقيب الصلاة بقولهم: "السلام عليك يا رسول الله...". (مجموعة الرسائل الكبرى) (2/397).
153- تبركهم بما يسقط مع المطر من قطع الدهان الأخضر من قبة القبر النبوي.
154- (تقربهم بأكل التمر الصيحاني في الروضة الشريفة بين المنبر والقبر). (الباعث على إنكار البدع) (ص 70) و(مجموعة الرسائل الكبرى) (2/396).
155- (قطعهم من شعورهم ورميها في القنديل الكبير القريب من التربة النبوية). (المصادر السابقة).
156- مسح البعض بأيديهم النخلتين النحاسيتين الموضوعتين في المسجد غربي المنبر ([183]).
157- التزام الكثيرين من أهل المدينة والغرباء بالصلاة في المسجد القديم وقطعهم الصفوف الأولى التي في زيارة عمر وغيره ([184]).
158- التزام زوار المدينة الإقامة فيها أسبوعًا حتى يتمكنوا من الصلاة في المسجد النبوي أربعين صلاة لتكتب لهم براءة من النفاق وبراءة من النار ([185]).
159- (قصد شيء من المساجد والمزارات التي بالمدينة وما حولها بعد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسجد قباء). (تفسير سورة الإخلاص) (173- 177).
160- تلقين من يعرفون ب (المزورين) جماعات الحجاج بعض الأذكار والأوراد عند الحجرة أو بعيدا عنها بالأصوات المرتفعة وإعادة هؤلاء ما لقنوا بأصوات أشد منها.
161- زيارة البقيع كل يوم والصلاة في مسجد فاطمة - رضي الله عنها - ([186]).
162- تخصيص يوم الخميس لزيارة شهداء أحد.
163- ربط الخرق بالنافذة المطلة على أرض الشهداء ([187]).
164- التبرك بالاغتسال في البركة التي بجانب قبورهم.
165- (الخروج من المسجد النبوي على القهقرى عند الوداع). (مجموعة الرسائل الكبرى) (2/388) و(المدخل) (4/238).
بدع بيت المقدس
166- قصد زيارة بيت المقدس مع الحج وقولهم: "قدس الله حجتك" ([188]).
167- (الطواف بقبة الصخرة تشبها بالطواف بالكعبة). (مجموعة الرسائل الكبرى) (2/380 372- 381).(/50)
168- (تعظيم الصخرة بأي نوع من أنواع التعظيم كالتمسح بها وتقليلها وسوق الغنم إليها لذبحها هناك والتعريف بها عشية عرفة والبناء عليها وغير ذلك).
(مجموعة الرسائل الكبرى) (2/56- 57) ([189]).
169- (زعمهم أن من وقف بيت المقدس أربع وقفات أنها تعدل حجة.
(الباعث) (ص 20).
170- زعمهم أن هناك على الصخرة أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأثر عمامته ومنهم من يظن أنه موضع قدم الرب سبحانه وتعالى ([190]).
171- المكان الذي يزعمون أنه مهد عيسى - عليه السلام .
172- زعمهم أن هناك الصراط والميزان وأن السور الذي يضرب به بين الجنة والنار هو ذلك الحائط المبني شرقي المسجد.
173- (تعظيم السلسلة أو موضعها). (مجموعة الرسائل) (2/59).
174- (والصلاة عند قبر إبراهيم الخليل عليه السلام). (المصدر السابق) (2/56).
175- الاجتماع في موسم الحج لإنشاد الغناء والضرب بالدف بالمسجد الأقصى. (اقتضاء الصراط المستقيم) (ص 149).
وهكذا آخِر ما تيسَّر جمعه من بدع الحج والزيارة. أسأله تبارك وتعالى أن يجعل ذلك عفوا للمسلمين على اقتفاء أثر سيد المرسلين والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم.
و(سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك).
---
(1) أي عند ذي الحليفة.
(2) وقد رددنا على القائلين بالخصوصية في التعليق على الفقرة المشار إليها من الكتاب الصفحة (63)
(3) أي ملمين بنسائهم.
(4) أي في حجر الأراك كناية عن التستر به وهو شجر من الحمض يستاك به. وهو أيضا موضع بعرفة وليس مرادا هنا خلافا لبعض المعلقين على مسلم فإن الحجاج في هذا الموضع يكونون محرمين لا يجوز لهم وطأ نسائهم.
(5) حديثان صحيحان مخرجان في"صفة الصلاة"لنا (51 / 53 الطبعة الثالثة).
(6) وهو تحت الطبع في مطابع المكتب الإسلامي
(7) الأفرع: التام من الشعر.(/51)
(8) قلت: فقول شيخ الإسلام: "والأفضل للمحرم أن يضحي لمن أحرم له كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يحجون"فيه نظر بين لا يخفى على القارئ.
(9) ثم طبع بعد ذلك مرتين والثالثة مزيدة ومنقحة طبعت في مطابع المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1381 ه.
(10) وأما قول الشيخ عبد الحي الكتاني في"التراتيب الإدارية"(2 / 856): "فبوب صحيح مسلم بقوله: حديث جابر الطويل"فوهم منه فإنما بوب مسلم بهذا لحديث آخر طويل لجابر انظر: (ج 8 ص 231 - 236 منه).
(11) كان كذلك في الطبعة الأولى وأما في هذه الطبعة فقد رأينا جعل الرموز عقب الزيادة مباشرة لأنه أجمل في النظر.
[1] - اتفق العلماء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع هذه وعلى أنها كانت سنة عشرة واختلفوا في وقت ابتداء فرضه على أقوال أقربها إلى الصواب أنه سنة تسع أو عشر وهو قول غير واحد من السلف واستدل به ابن القيم في"زاد المعاد"بأدلة قوية فليراجعها من شاء وعلى هذا فقد بادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج فورا من غير تأخير بخلاف الأقوال الأخرى فيلزم منها أنه تأخر بأداء الفريضة ولذا اضطر القائلون بها إلى الاعتذار عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا حاجة بنا نحن إلى ذلك.
[2] - أي تلاحقوا ووصلوا.
[3] - هذه الرواية في سندها ضعيف لكن يشهد لها أحاديث كثيرة عن غير جابر من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم ابن عمر وفي حديثه أن ذلك كان في المسجد النبوي. أخرجه الشيخان وغيرهما وفي رواية لأحمد"على هذا المنبر"والظاهر أن هذه الخطبة كانت بين يدي خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لتعليم الناس مناسك الحج.
[4] - موضع على ستة أميال من المدينة كما في القاموس وقال الحافظ ابن كثير في البداية: (5: 114): "على ثلاثة أميال"وقال ابن القيم في الزاد (2: 178): "ميل أو نحوه"وهذا اختلاف شديد.(/52)
[5] - موضع بينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في"مناسك الحج"(2 / 356) من"مجموعة الرسائل الكبرى":
" هي قرية كانت قديمة معمورة وكانت تسمى مهيعة وهي اليوم خراب ولهذا صار الناس يحرمون قبلها: من المكان الذي يسمى (رابغا) وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب كأهل الشام ومصر وسائر المغرب إذا اجتازوا بالمدينة المنورة كما يفعلونه في هذه الأوقات أحرموا من ميقات أهل المدينة فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع".
قلت: والأشبه الجواز لهذا الحديث.
[6] - مكان بالبادية هو الحد الفاصل بين نجد وتهامة كما في "القاموس" و " معجم البلدان" والمسافة بينه وبين مكة اثنان وأربعون ميلا كما في"الفتح".
واعلم أن هذه الفقرة من حديث جابر - رضي الله عنه - قد طعن في صحتها بعض العلماء من جهة سندها ومتنها. أما السند فلأنه لم يجزم برفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول الراوي: "أحسبه" وفي رواية لمسلم"أراه" وهذا معناه الشك وعدم الجزم وأما المتن فإن العراق لم تكن فتحت يومئذ
والجواب عن الأول من جهتين:
أ - أن الشك قد زال بجزم الراوي برفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية ابن ماجه المشار إليها في الأعلى وهي وإن كانت ضعيفة كما سبق فقد ثبت الجزم في رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد وهي وإن كان فيها ابن لهيعة وهو موصوف بسوء الحفظ فإن من رواتها عنه عبدالله بن وهب عند الإمام البيهقي (5 / 27) ومثل هذه الرواية صحيحة عند المحققين من الأئمة لأن رواية العبادلة عن ابن لهيعة عندهم صحيحة وهم عبدالله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقري وعبد الله بن وهب هذا وقد بسط القول في ذلك العلامة ابن القيم في"إعلام الموقعين"(3 / 13 - 14) فليراجعه من شاء البسط.(/53)
ب - هب أن الشك لم يزل بذلك فإن للحديث شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة يقوي حديث جابر كما جزم بذلك الحافظ ابن حجر وغيره وقد ساق الشواهد المشار إليها في"التلخيص"وكذلك ساقهما الزيلعي في"نصب الراية"(2 / 12 - 15) وابن كثير كما في"الجوهر النقي"(5 / 28) ولا يتحمل هذا التعليق ذكر تلك الشواهد فليراجعها من شاء في بعض المصادر المذكورة ولكن لا بد هنا من ذكر شاهد واحد فات أولئك المخرجين جميعا وهو ما أخرجه الطحاوي (1 / 360) وأبو نعيم في"الحلية"(4 / 94) بسند صحيح عن ابن عمر أنه قال عقب حديثه المشار إليه في المواقيت: "وحدثني أصحابنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق" وقال أبو نعيم:
"هذا حديث صحيح ثابت".
قلت: ففي هذا رد على من ضعف الحديث مطلقًا وعلى من قواه لمجموع طرقه لا لذاته ولا ينافي صحة الحديث ما في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب هو الذي وقت ذات عرق لأهل العراق لإمكان أن يكون ذلك من جملة الموافقات التي وافق عمر الشرع فيها.
وأما الجواب عن إعلاله وهو أن العراق لم تكن فتحت يومئذ فهو:
أن ذلك صدر منه - صلى الله عليه وسلم - وصدر التعليم لأمة الإسلام إلى يوم القيامة فليس من الضروري أن تكون قد فتحت يومئذ فهي في هذا كبلاد الشام سواء فلم تكن قد فتحت أيضا كما هو معلوم ولذلك قال الحافظ ابن عبر البر:
" هذه غفلة من قائل هذا القول لأنه - عليه السلام - هو الذي وقت لأهل العراق ذات عرق كما وقت لأهل الشام الجحفة والشام يومئذ دار كفر كالعراق فوقت المواقيت لأهل النواحي لأنه علم أن الله سيفتح على أمته الشام والعراق وغيرهما ولم يفتح الشام والعراق إلا على عهد عمر بلا خلاف وقد قال عليه السلام: "منعت العراق درهما وقفيزها. الحديث معناه عند أهل العلم ستمتنع".
نقله ابن التركماني في"الجوهر"(5 / 28 - 29) ووقع فيه"ودرهمها"بدل"وقفيزها"وصححته من"صحيح مسلم"(8 / 175).(/54)
[7] - مكان على مرحلتين من مكة بينهما ثلاثون ميلا.
[8] - وذلك بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه ولم ينه عن شيء من الأزر والأردية تلبس إلا المزعفر. كما قال ابن عباس عند البخاري. والمزعفر هو المصبوغ باللون الأصفر كالزعفران.
ففيه أعني حديث ابن عباس مشروعية لبس ثياب الإحرام قبل الميقات خلافا لما يظنه كثير من الناس وهذا بخلاف نية الإحرام فإنها لا تجوز على الراجح عندنا إلا عند الميقات أو قريبا منه لمن كان في الطائرة وخشي أن تتجاوز به الميقات ولما يحرم.
واعلم أنه لا يشرع التلفظ بالنية لا في الإحرام ولا في غيره من العبادات كالطهارة والصلاة والصيام وغيرها وإنما النية بالقلب فقط وأما التلفظ بها فبدعة"وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"والذي صح عنه - صلى الله عليه وسلم - في الإحرام إنما هو قوله: "لبيك اللهم عورة وحجا"فيتوقف عند هذا ولا يزاد عليه كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في"النية"(ص 244 - 245 من مجموعة الرسائل الكبرى الجزء الأول) وله كلام في هذه المسألة ذكره في"منسكه"(2 / 359) قد يخالف ظاهره ما ذكرنا فلا يلتفت إليه فعليك أن تعرف الحق بدليله لا بقائله لاسيما إذا كان له قولان في المسألة.
[9] - أي من ذي الحليفة كما في"الصحيحين"من حديث ابن عمر وقال الحافظ ابن حجر في شرحه:
" وفيه الندب إلى سوق الهدي من المواقيت ومن الأماكن البعيدة وهي من السنن التي أغفلها كثير من الناس".
كذا قال وفيه نظر لأن سوق الهدي مما لم يستقر عليه هديه - صلى الله عليه وسلم - بل ندب عليه كما في الفقرة الآتية (41): "ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا".
فهذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - دل على أمرين هامين:(/55)
أولا: على أن التمتع بالعمرة إلى الحج بالتحلل بينهما أفضل من سوق الهدي مع القران لأنه - صلى الله عليه وسلم - تأسف إذ لم يفعل ذلك ولا يمكن أن يكون إلا على ما هو الأفضل ظاهر فالأفضل إذن ترك سوق الهدي.
ثانيا: أن كل من لم يسق الهدي من الحجاج سواء كان قارنا أو مفردا فيجب عليه أن يتحلل من ذلك بعمرة ثم يلبي بالحج يوم التروية لأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك كما يأتي بل صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب على الذين لم يبادروا إلى تنفيذ أمره بالتحلل وأكد ذلك - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فهذا نص أيضا على أن العمرة صارت جزء لا يتجزء من الحج فكل حاد لا بد له من أن يقرن مع حجه عمرة إما بدون تحلل منها وذلك إذا كان قد ساق معه الهدي وإما بالتحلل إذا لم يسق الهدي وبهذا قال ابن حزم وكطاه عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وإسحاق بن راهويه وغيرهم. وانتصر له ابن القيم في"زاد المعاد"انتصارا بالغا فليراجعه من شاء البسط.
[10] - وأما الزيادة التي عند ابن ماجه وغيره عن جابر بلفظ: "... فلبينا عن النساء ورمينا عن الصبيان"فلا يصح إسنادها وقد رواها الترمذي أيضا بلفظ: "فكنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان". وقال: "حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
قلت: وفيه علتان: عنعنة أبي الزبير وضعف أشعث بن يسار فلا يغتر بسكوت من سكت عن الحديث من الفقهاء قديما وحديثا كالشيخ ابن قدامة وغيره. لكن في المغني (3 / 254) ما نصه:
" قال ابن المنذر: كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي كان ابن عمر يفعل ذلك وبه قال عطاء والزهري ومالك والشافعي وإسحاق".
فإن كانت المسألة مما لا خلاف فيها ففيه مقنع وإلا فقد عرفت حال الحديث وأما التلبية عن النساء فقد قال الترمذي عقبه:(/56)
" وقد أجمع أهل العلم على أن المرأة لا يلبي عنها غيرها وهي تلبي عن نفسها ويكره لها رفع الصوت بالتلبية".
[11] - أمر من الاستثفار. قال ابن الأثير في النهاية: (هو أن تشد فرجها بخرقة عريضة بعد أن تحتشي قطنا وتوثق طرفيها في شيء تشده على وسطها فتمنع بذلك سيل الدم)
[12] - يعني أنه لما يلب بعد وإنما لبى حين استوت به ناقته كما يأتي.
[13] - وطيبته عائشة قبل إحرامه بأطيب الطيب. ورؤي وبيض الطيب في مفارق رأيه بعد إحرامه بثلاث. كما في الصحيح.
[14] - هي بفتح القاف وبالمد اسم ناقته - صلى الله عليه وسلم - ولها أسماء أخرى مثل"العضباء"و" الجدعاء". وقيل: هي أسماء لنوق له صلى الله عليه وسلم. انظر"شرح مسلم للنووي.
[15] - من الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية يقال: أهل المحرم بالحج يهل إهلالا: إذا لبى ورفع صوته. كذا في النهاية.
وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم بالحج وحده لكن في حديث أنس وغيره في الصحيحين وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج والعمرة معا وهو الصحيح كما بينه ابن القيم في"زاد المعاد"وساق فيه نحو عشرين حديثا عن نحو عشرين صحابيا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارنا فليراجعه من شاء التوسع في التحقيق وقد فاته قول عائشة: "يا رسول الله أتنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج"وهو عند البخاري وأحمد من حديث جابر نفسه وهو نص في المسألة. انظر الفقرة الآتية (111).
وعليه فجابر - رضي الله عنه - على علم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا فكيف يخبر عنه أنه أهل بالحج وحده وأفرده.
والجواب من وجهين:
الأول: أن يحمل على أول الإحرام. وقبل نزوله - صلى الله عليه وسلم - في وادي العقيق الذي أمر فيه بالقران كما أخبر عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق: عمرة في (وفي رواية: و) حجة". رواه البخاري وغيره.(/57)
وفي هذا بعد عندي لأن جابرًا - رضي الله عنه - لم يتفرد برواية الإفراد عنه - صلى الله عليه وسلم - بل تابعه عليها جماعة من الأصحاب كالسيدة عائشة رضي الله عنها في الصحيحين وغيرهما وفي رواية لمسلم و" الموطأ"وابن سعد عنها بلفظ جابر الصريح: "أفرد الحج"ومن الصعب حينئذ الحمل المذكور لما فيه من نسبة عدم العلم إلى الأصحاب. ولذلك اختار الوجه الأول جماعة من العلماء كابن المنذر وابن حزم والقاضي عياض ورجحه الحافظ في"الفتح". فمن شاء التوسع في التحقيق فليرجع إليه.
وأما إعلال ابن القيم لرواية جابر هذه الصريحة يتفرد الدراوردي بها فيرده أنه تابعه عبد العزيز بن أبي حازم عليها. أخرجها ابن سعد في"الطبقات"(2 / 1 / 170).
[16] - قال النووي ما مختصره:
" فيه جواز الحج راكبا وماشيا وهو مجمع عليه واختلف في الأفضل منهما فقال جمهور العلماء: الركوب أفضل اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأنه أعون له على وظائف ومناسكه ولأنه أكثر نفقة وقال داود: "ماشيًا أفضل لمشقته وهذا فاسد لأن المشقة ليست".
ومنه تعلم جواز بل استحباب الحج راكبا في الطائرة خلافا لمن يظن العكس وأما حديث: ((إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة والماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة)) فهو ضعيف لا تقوم به حجته وروي بلفظ: "للماشي أجر سبعين حجة وللراكب أجر ثلاثين حجة"وهو أشد ضعفا من الأول ومن شاء الاطلاع عليها فليراجع كتابنا"سلسلة الأحاديث الضعيفة"(رقم 496 - 497) وقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في"مناسك الحج"أن الحكمة في هذه المسألة تختلف باختلاف الناس"فمنهم من يكون حجه راكبا أفضل ومنهم من يكون حجه ماشيا أفضل".
قلت: ولعل هذا هو الأقرب إلى الصواب.(/58)
[17] - فيه إشارة لطيفة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يبين للصحابة ما نزل عليه من القرآن وأنه هو وحده الذي يعرف تأويله وتفسيره حق المعرفة وأن غيره - حتى من الصحابة - لا يمكنه الاستغناء عن بيانه - صلى الله عليه وسلم - ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم في هذه الحجة - كغيرها من العبادات - يتتبعون خطاه فما عمل به من شيء عملوا به ففيه رد ظاهر على فريقين من الناس:
أ - الصوفية الذين يستغني أحدهم عن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهديه وبيانه بما يزعمونه من العلم اللدني يرمز إليه بعضهم بقوله: "حدثني قلبي عن ربي"بل زعم الشعراني في"الطبقات الكبرى"أن أحد شيوخه (المجذوبين) والذين يترضى هو عنهم كان يقرأ قرآنا غير قرآننا ويهدي ثواب تلاوته لأموات المسلمين.
ب - طائفة يسمون أنفسهم ب"القرآنيين"والقرآن منهم بريء يزعمون أن لا حاجة بهم لفهم القرآن إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام ويكفي في ذلك المعرفة باللغة العربية وآدابها. مع أن هذا لم يكف جابرا وأصحابه ما عرفت لاسيما وهم عرب أقحاح نزل القرآن بلغتهم بينا هذه الطائفة كلهم أو جلهم من الأعاجم وكان من نتيجة زعمهم المذكور أن خرجوا عن الإسلام وجاؤوا بدين جديد فصلاتهم غير صلاتنا وحجهم غير حجنا وصومهم غير صومنا ولا أدري لعل توحيدهم غير توحيدنا وقد نبغ هؤلاء في الهند ثم سرت فنتهم إلى مصر وسوريا وكنت قرأت لهم كتابا باسم"الدين"ليس عليه اسم مؤلفه من قرأه عرف منه ضلالهم وخروجهم من الدين كفى الله المسلمين شر الفريقين.(/59)
[18] - هذا يدل على جواز الزيادة على التلبية النبوية لإقراره - صلى الله عليه وسلم - لهم لها وبه قال مالك والشافعي: وقد روى أحمد عن ابن عباس أنه قال: "انته إليها فإنها تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم". وصحح سنده بعض المعاصرين وفيه من كان اختلط. وقد صح عن أبي هريرة أنه كان من تلبيته عليه السلام: لبيك إله الحق. رواه النسائي وغيره. والتلبية هي إجابة دعوة الله تعالى لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته والمعنى: أنا مجيبك لدعوتك مستسلم لحكمك مطيع لأمرك مرة بعد مرة لا أزال على ذلك. ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
[19] - قلت: كان هذا في أول هذه الحجة وقبل أن يعلمهم رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - مشروعية العمرة في أشهر الحج وفي ذلك أحاديث منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
" خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عام حجة الوداع) فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل قالت عائشة... وكنت فيمن أهل بالعمرة". رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
[20] - بكسر الراء موضع قرب التنعيم. قال في"النهاية"" وهو من مكة على عشرة أميال وقيل أقل وقيل أكثر".
[21] - أي حاضت.
[22] - أي مسحه بيده وهو سنة في كل طواف قاله النووي في شرح مسلم.
[23] - واستلم الركن اليماني أيضا في هذا الطواف كما في حديث ابن عمر ولم يقبله وإنما قبل الحجر الأسود وذلك في كل طوفة.
قلت: والسنة في الركن الأسود تقبيله فإن لم يتيسر استلمه بيده وقبلها وإلا استلمه بنحو عصا وقبلها وإلا أشار إليه.
ولا يشرع شيء من هذا في الأركان الأخرى إلا الركن اليماني فإنه يحسن استلامه فقط.(/60)
ويسن التكبير عند الركن الأسود في كل طوفة لحديث ابن عباس قال: "طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبيت على بعيره كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبر". رواه البخاري. وأما التسمية فلم أرها في حديث مرفوع وإنما صح عن ابن عمر أنه كان إذا استلم الحجر قال: بسم الله الله أكبر. أخرجه البيهقي (5 / 79) وغيره بسند صحيح كما قال النووي والعسقلاني ووهم ابن القيم رحمه الله فذكره من رواية الطبراني مرفوعا. وإنما رواه موقوفا كالبيهقي كما ذكر الحافظ في"التلخيص"فوجب التنبيه عليه حتى لا يلصق بالسنة الصريحة ما ليس منها.
[24] - قال العلماء: الرمل هو أسرع المشي مع تقارب الخطى وهو الخبب. نووي.
[25] - وطاف - صلى الله عليه وسلم - مضطبعا كما في غير هذا الحديث والاضطباع أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على يساره ويبدي منكبه الأيمن ويغطي الأيسر"قاموس"فإذا فرغ من الطواف سوى رداءه وقال الأثرم: يسويه إذا فرغ من الأشواط التي يرمل فيها. والأولى أولى بظاهر الحديث كما قال ابن قدامة في"المغني".
[26] - وأما الرواية الأخرى بلفظ: "ابدؤوا"بصيغة الأمر التي عند الدارقطني وغيره فهي شاذة ولذلك رغبت عنها قال العلامة ابن دقيق العيد في"الإلمام"(ق 6 / 2) بعد أن ذكر الرواية الأولى: "أبدأ"والثانية: "نبدأ":
" والأكثرون في الرواية على هذا والمخرج للحديث واحد"ونقله عنه الحافظ ابن حجر في"التلخيص"(214) كما يأتي:
" مخرج الحديث واحد وقد اجتمع مالك وسفيان ويحيى بن سعيد القطان على رواية"نبدأ"بالنون التي للجمع"قال الحافظ: "وهم أحفظ من الباقين".
[27] - معناه: هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا بسبب من جهتهم والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق. نووي.(/61)
[28] - هذا الحديث صريح في أنه - - صلى الله عليه وسلم - - سعى ماشيًا. وفي حديث آخر لجابر أنه - - صلى الله عليه وسلم - - طاف بين الصفا والمروة على بعير ليراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه. رواه مسلم وغيره وسيأتي في الكتاب فقرة (105) أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يطف بعد طواف الصدر بين الصفا والمروة وفي رواية عنه أنه لم يطف بينها إلا مرة واحدة فتعين أن طوافه بينهما راكبا كان بعد طواف القدوم فالجمع أنه طاف أولا ماشيا ثم طاف راكبا لما غشيه الناس وازدحموا عليه ويؤيده حديث لابن عباس صرح فيه بأنه مشى أولا فلما كثر عليه الناس ركب. أخرجه مسلم وغيره وذكر هذا ابن القيم في الزاد واستحسنه.
[29] - فيه رد صريح على من قال إنه - - صلى الله عليه وسلم - - سعى أربع عشرة مرة وكان يحتسب بذهابه ورجوعه مرة واحدة. قال ابن القيم في"زاد المعاد":
وهذا غلط عليه - صلى الله عليه وسلم - لم ينقله أحد عنه ولا قاله أحد من الأئمة الذين اشتهرت أقوالهم وإن ذهب إليه بعض المتأخرين من المنتسبين إلى الأئمة. ومما يبين بطلان هذا القول أنه - - صلى الله عليه وسلم - - لاختلاف عنه أنه ختم سعيه بالمروة ولو كان الذهاب والرجوع مرة واحدة لكان ختمه إنما يقع على الصفا".
قلت: والقول الصحيح عند الحنفية هو الموافق للسنة في هذه المسألة كما صرح بذلك السمرقندي في"تحفة الفقهاء"(1 / 2 / 866) فالقول الآخر ضعيف لا يجوز الالتفات إليه.
[30] - هذا هو السنة والأفضل بالنسبة للمتمتع أن يقصر من شعره ولا يحلقه وإنما يلحقه يوم النحر بعد فراغه من أعمال الحج كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. فقوله صلى الله عليه وسلم"اللهم اغفر للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة"محمول على غير المتمتع كالقارن والمعتمر مفردة. فالقول بأن الحلق للمتمتع أفضل - كما هو مذهب الحنفية - ليس بصواب.(/62)
[31] - هو اليوم الثامن من ذي الحجة سمي به لأنهم كانوا يرتوون من الماء لما بعده أي يسقون ويستقون. نهاية.
[32] - أي جعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة تحللوا منها فتصيروا متمتعين. فأطلق على العمرة متعة مجازا والعلاقة بينهما ظاهرة. فتح.
[33] - قال النووي: "معناه عند الجمهور: أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية وقيل معناه جواز القران أي دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج وقيل: معناه: سقط وجوب العمرة وهذا ضعيف لأنه يقتضي النسخ بغير دليل وقيل معناه: جواز فسخ الحج إلى العمرة. قال: وهو ضعيف".
كذا قال ورد الحافظ في"الفتح"بقوله:
" وتعقب بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل بالظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ والجواب وقع عما هو أعم من ذلك حتى يتناول التأويلات المذكورة إلا الثالث. والله أعلم.
قلت: وقد روى عنه - صلى الله عليه وسلم - الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه وأحاديثهم كلها صحاح وقد ساقها ابن القيم في الزاد (1: 282 - 286) وذكر أنه قول ابن عباس ومذهب أحمد وأهل الحديث. وهو الحق الذي لا ريب فيه عندنا. وقد أجاب ابن القيم عن شبهات المخالفين فراجعه (1: 286 - 303).
واعلم أن حديث سراقة هذا فيه دليل قاطع على بطلان الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن الحارث بن بلال عن أبيه قال:
" قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل لنا خاصة".
إذ كيف يمكن أن يصح هذا وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول: "دخلت العمرة الحج إلى يوم القيامة لا بل لأبد أبد..."لاسيما وهو قد صدر جوابا عن سؤال مثل سؤال بلال المذكور: "متعتنا هذا أو لأبد الأبد؟".
على أن حديث الحارث هذا معلول من جهة إسناده أيضا وهي جهالة الحارث ولذلك ضعف حديثه جماعة من الأئمة كأحمد وابن حزم وابن القيم وقد فصلت القول في ذلك في"سلسلة الأحاديث الضعيفة"(رقم بعد 1000).(/63)
وأما ما رواه مسلم وغيره عن أبي ذر أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة. فهو مع كونه موقوفا معارض للحديث المرفوع فإن ظاهره مما لا يقول به أحد لاتفاق العلماء جميعا - فيما علمنا - على جواز التمتع في الحج كيف لا وهي في كتاب الله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي).
[34] - زاد في حديث آخر: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب الحسنى فسنيسره للعسرى) رواه البخاري وغيره.
[35] - من الهدي بالتشديد والتخفيف وهو ما يهدى إلى البيت الحرام منم النعم لتنحر. نهاية.
[36] - يعني الذي يحرم على المحرم. قال الحافظ:
" كأنهم كانوا يعرفون أن للحج تحللين فأرادوا بيان ذلك فبين لهم أنهم يتحللون الحل كله لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد".
[37] - يعني بطحاء مكة. وهو الأبطح وهو مسيل واسع فيه دقاق الحصى كما في القاموس وغيره وموقعه شرقي مكة.
[38] - كأنهم يستنكرون ذلك وهذا يدل على أن بعضهم قد تحلل بعد أمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك ولكن لم يزل في نفوسهم شيء من ذلك. وأما الآخرون فإنهم تأخروا حتى خطبهم - صلى الله عليه وسلم - الخطبة الآتية وأكد فيها الأمر بالفسخ فتحللوا رضي الله عنهم جميعا.
[39] - هو إشارة إلى قرب العهد بوطء النساء. نووي.
[40] - أي شيء حرام والمعنى لا يحل مني حرام. فتح.
[41] - أي إذا نحر يوم منى.
[42] - هذا ما اطلع عليه جابر - رضي الله عنه - فلا يعارض قول عائشة: "فكان الهدي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وذوي اليسارة"وقالت أختها أسماء: "وكان مع الزبير هدي فلم يحلل"أخرجهما مسلم (4: 30 55) لأن من علم حجة على من لا يعلم والمثبت مقدم على النافي. وانظر"فتح الباري"(3: 473).(/64)
[43] - أي من عمله في السعي في الصدقات. لكن مع المقرر في الشريعة أن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد فيحتمل أن عليا ولي الصدقات وغيرها احتسابا أو أعطى عمالة عليها من غير الصدقة كما قال القاضي واستحسنه النووي إلا أنه ذهب إلى أن السعاية لا تختص بالصدقة بل تستعمل في مطلق الولاية وإن كان أكثر استعمالها في الولاية على الصدقة انظر شرحه على مسلم.
[44] - التحريش: الإغراء والمراد هنا أن يذكر ما يقتضي عتابه. نووي.
[45] - قال النووي: "فيه إطلاق اللفظ العام وإرادة الخصوص لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي. والمراد بقوله: حل الناس كلهم أي معظمهم".
قلت: أما أنها لم تحل فهو صريح في أحاديث منها حديث جابر هذا في الفقرة التالية. وأما أنها لم تسق الهدي فهو قول عائشة: "فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن الهدي"أخرجه مسلم وغيره من حديثها.
[46] - سبق هذه الفقرة برقم (44). وهي مكررة عند بعض من خرج الحديث.
[47] - قال النووي: "وفي هذا بيان أن السنة أن لا يتقدم أحد إلى منى قبل يوم التروية وقد كره مالك ذلك وقال بعض السلف لا بأس به ومذهبنا أنه خلاف السنة.
[48] - قلت: فيه دليل على جواز قراءة الحائض للقرآن لأنها بلا ريب من أفضل أعمال الحج وقد أباح لها أعمال الحاج كلها سوى الطواف والصلاة ولم كان يحرم عليها التلاوة أيضا لبين لها كما بين لها حكم الصلاة بل التلاوة أولى بالبيان لأنه لا نص على تحريمها عليها ولا إجماع بخلاف الصلاة فإذا نهاها عنها وسكت عن التلاوة دل ذلك على جوازها لها لأنه تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو مقرر في علم الأصول وهذا بين لا يخفى والحمد لله.
وأما حديث"لا يقرأ القرآن جنب ولا حائض"فهو ضعيف قال الإمام أحمد فيه: باطل وقد فصلت القول عليه في"إرواء الغليل"(رقم: 191) يسر الله إتمامه.(/65)
[49] - فيه أن الركوب في تلك المواطن أفضل من المشي كما أنه في جملة الطريق أفضل من المشي هذا هو الصحيح في الصورتين عند النووي. وانظر التعليق 16.
[50] - فيه أن السنة البيان في منى وأن لا يخرجوا منها حتى تطلع الشمس.
[51] - بفتح النون وكسر الميم قال ابن الأثير: "هو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم بعرفات"وليست نمرة من عرفات.
[52] - وكان أصحابه في مسيره هذا منهم الملبي ومنهم المكبر كما في حديث أنس في الصحيحين.
[53] - معنى هذا قريشا كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام وهو جبل في المزدلفة يقال له قزح وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات فظنت قريش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف في المشعر الحرام على عادتهم. ولا يتجاوزه. فتجاوزه - صلى الله عليه وسلم - إلى عرفات لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) أي سائر العرب غير قريش وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم وكانوا يقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه. نووي.
[54] - قال النووي: هذا مجاز والمراد قارب عرفات لأنه فسره بقوله فوجد القبة ضربت بنمرة فنزل بها وقد سبق أن نمرة ليست من عرفات.
[55] - هو وادي عرنة بضم العين وفتح الراء. وليست من عرفات. نووي.
[56] - معناه الزائد على رأس المال كما قال تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} والمراد بالوضع الرد والإبطال.
[57] - فيه الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك. فليراجعها من شاء في"الترغيب والترهيب؟ (3: 71 - 74) للمنذري و" رياض الصالحين"للنووي.
[58] - في معناه أربعة أقوال ذكرها في شرح مسلم وقال: إن الصحيح منها أن المراد قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء).(/66)
[59] - المختار في معناه: أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم سواء كان المأذون له رجلا أجنبيا أو امرأة أو أحدا من محارم الزوجة فالنهي يتناول جميع ذلك كما ذكره النووي وراجع تمام كلامه في شرح مسلم.
[60] - الضرب المبرح هو الضرب الشديد الشاق ومعناه: اضربوهن ضربا ليس بشديد ولا شق. قلت: وهذا من قوامة الرجال على النساء كما قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم والصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا).
[61] - قلت: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن المسلمين المتأخرين - إلا قليلا منهم - لما لم يعتصموا بكتاب الله تعالى ولم يتمسكوا بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ضلوا وذلوا وذلك حين أقاموا آراء الرجال ومذاهبهم أصلا يرجعون إليه عند اختلافهم فما وافقها من الكتاب والسنة قبلوه ومالا رفضوه حتى لقد قال قائلهم: كل آية أو كل حديث خالف المذهب يحمل على النسخ ورحم الله مالكا حيث قال: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها فعلى المسلمين أن يعتصموا بكتاب ربهم ويجعلوه الحكم في جميع شؤونهم ولا يقدوا عليه شيئا من آراء الرجال شرقية كانت أو غريبة.
[62] - هي صرخات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات. قال النووي: فهذا هو الموقف المستحب. وأما ما اشتهر بين العوام من الأغبياء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط.
[63] - أي مجتمعهم.
[64] - وجاء في غير حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف يدعو رافعا يديه. ومن السنة أيضا التلبية في موقفه على عرفة خلافا لما ذكره شيخ الإسلام في منسكه (ص 383) فقد قال سعيد بن جبير:(/67)
" كنا مع ابن عباس بعرفة لي: يا سعيد ما لي لا أسمع الناس يلبون؟ فقلت: يخافون من معاوية قال فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال: لبيك اللهم لبيك. فإنهم قد تركوا السنة من بغض علي رضي الله عنه".
أخرجه الحاكم (1 / 464 - 465) والبيهقي (5 / 113) من طريق ميسرة بن حبيب عن المنهال بن عمرو عنه. قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"ووافقه الذهبي.
ثم روى الطبراني في"الأوسط"(1 / 115 / 2) والحاكم من طريق أخرى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفات فلما قال: لبيك اللهم لبيك قال: إنما الخير خير الآخرة. وسنده حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وفي الباب عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعلها. أخرجه البيهقي.
[65] - وكان - صلى الله عليه وسلم - في موقفه هذا مفطرا فقد أرسلت أليه أم الفضل بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه. كما في"الصحيحين"عنها.
[66] - هي الرفق والطمأنينة قال النووي: ففيه أن السكينة في الدفع من عرفات سنة فإذا وجد فرجة يسرع كما في الحديث الآخر.
[67] - أي ضم وضيق.
[68] - هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب.
[69] - في"النهاية": "الحبل المستطيل من الرمل. وقيل: الضخم منه وجمعه حبال. وقيل: الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل".
[70] - وكان في سيره هذا يلبي لا يقطع التلبية كما في حديث الفضل بن العباس في"الصحيحين".
[71] - هذا هو الصحيح فما في بعض المذاهب أنه يقيم إقامة واحدة خلاف السنة وإن ورد ذلك في بعض الطرق فإنه شاذ كما أن الأذان لم يرد أصلا في بعض الأحاديث. انظر: "نصب الراية"(3 / 69 - 70).
[72] - أي لم يصل سبحة أي نفلا.
[73] - قال ابن القيم: ولم يحي تلك الليلة ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء. قلت: وهو كما قال وقد بينت حال تلك الأحاديث في"التعليق الغيب على الترغيب والترهيب".(/68)
[74] - المراد به هنا قزح بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة وهو جبل معروف في المزدلفة وهذا الحديث حجة الفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح. وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث: المشعر الحرام جميع المزدلفة. نووي.
[75] - واستمر - صلى الله عليه وسلم - على تلبيته لم يقطعهما.
[76] - فيه وفي الفقرة المتقدمة (رقم: 65) جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة وقد تظاهرت به الأحاديث كما قال النووي.
[77] - بضم الظاء والعين، ويجوز إسكان العين، جمع ظعينة كسفينة وسفن، وأصل الظعينة البعير الذي عليه امرأة، ثم تسمى به المرأة مجازاً لملابستها البعير منه.
[78] - قلت: وهذه القصة هي غير التي رواها علي وابن عباس في نظر الفضل إلى المرأة الخثعمية من وجوه منها: أن في حديثهما أنها كانت يوم النحر وهذه كانت صبح المزدلفة قبل إتيانه بطن محسر وفي حديث علي فائدة أخرى وهي التصريح بأن القصة وقعت في منى عند المنحر بعد رمي جمرة العقبة. كما رواه أحمد (1 / 75 - 76) وابنه في"زوائده"(1 / 76 و81) والملخص في"الفوائد المنتقاة"(9/ 220 / 1) بسند حسن كما قال الحافظ وصححه الترمذي.(/69)
وفي ذلك رد صريح على من يدعي ن المتقدمين والمتأخرين أن المرأة الخثعمية كانت محرمة ولذلك لم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن تغطي وجهها. يقولون ذلك لرد دلالة الحديث الصريحة على أن وجه المرأة ليس بعورة إذ لو كان عورة لأمرها بالتغطية ولو سلم أنها كانت محرمة فالإحرام لا يمنع من التغطية لاسيما في هذه الحالة التي كاد الشيطان أن يدخل بينها وبين الفضل وإنما يمنع من النقاب والبرقع ونحوه. فكيف وليس في الحديث أنها كانت محرمة؟ فكيف وفيه أن القصة كانت بعد رمي الجمرة وعند المنحر كما سبق وفي هذه الحالة يحل لها كل شيء إلا النكاح كما يأتي فلو فرض أنه لا يجوز لها التغطية قبل ذلك فقد زال المانع وقد فصلت القول في ذلك"في حجاب المرأة المسلمة"" لاسيما في الطبعة الثانية وهي وشيكة الصدور إن شاء الله تعالى.
[79] - بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعي وكل ن قال ابن القيم: "ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة لا من هذه ولا من هذه".
قلت: لكن في صحيح مسلم والنسائي عن الفضل بن عباس أن محسرا من منى.
[80] - أي أسرع السير كما في غير هذا الحديث قال النووي: فهي سنة من سنن السير في ذلك الموضع قال ابن القيم: "وهذه كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه وكذلك فعل في سلوكه الحجر وديار ثمود تقنع بثوبه وأسرع السير".
[81] قال النووي: فيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة وهو غير الطريق الذي ذهب في إلى عرفات.
[82] - وحينئذ قطع أي تلبيته كما في حديث الفضل وغيره.
[83] - قال النووي: "وهو نحو حبة الباقلاء وينبغي أن لا يكون أكبر ولا أصغر فإن كان أكبر أو أصغر أجزأه".
وفي"النهاية": "الخذف هو رميك الحصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمي بها".(/70)
قلت: وقد جاءت هذه الكيفية في بعض الأحاديث عن غير واحد من الصحابة منهم عبدالرحمن بن معاذ التميمي قال:
" خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بمنى قال: ففتحت أسماعنا حتى أن كنا لنسمع ما يقول ونحن في منازلنا. قال: فطفق يعلمنا مناسكنا حتى بلغ الجمار فقال: بحصى الخذف ووضع أصبعيه السبابتين أحدهما على الأخرى..."الحديث.
أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والبيهقي والسياق له بسند صحيح. وفي الباب عن حرملة بن عمرو في"أمالي المحاملي"(5 / 120 / 1)"وفوائد الملخص"(7 / 184 / 2) وابن عباس في"طبقات ابن سعد"في"الطبقات"(2 / 129) وهو عند مسلم في رواية له (4 / 71).
ولكن هل المراد بهذه الكيفية هو الإيضاح وزيادة البيان لحصى الخذف الذي ينبغي أن يرمى به أم المراد التعليم والالتزام بها دون غيرها من الكيفيات؟ كل من الأمرين محتمل لكن الأول هو الأظهر حتى أن النووي لم يذكر غيره أما ابن الهمام فقد ذكر في"الفتح"الاحتمال الثاني ورده وجزم بأن المراد الأول وعليه فليس في السنة كيفية للرمي ينبغي التزامها فكيف تيسر له رمي.
وهنا تنبيهات:(/71)
الأول: أنه لا يجوز الرمي يوم النحر قبل طلوع الشمس ولو من الضعفة والنساء الذين يرخص لهم أن يرتحلوا من المزدلفة بعد نصف الليل فلا بد لهم من الانتظار حتى تطلع الشمس ثم يرمون لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم أهله وأمرهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس"وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وصححه الترمذي وابن حبان وحسنه الحافظ في"الفتح"(3 / 422) ولا يصلح أن يعارض بما في البخاري أن أسماء بنت أبي بكر رمت الجمرة ثم صلت الصبح بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه ليس صريحا أنها فعلت ذلك بإذن منه - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ارتحالها بعد نصف الليل فقد صرحت بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن بذلك للظعن فمن الجائز أنها فهمت من هذا الإذن الإذن أيضا بالرمي بليل ولم يبلغها نهيه - صلى الله عليه وسلم - الذي حفظه ابن عباس رضي الله عنه.
الثاني: أن هناك رخصة بالرمي في هذا اليوم بعد الزوال ولو إلى الليل فيستطيع أن يتمتع بها من يجد المشقة في الرمي ضحى والدليل حديث ابن عباس أيضا قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج قال: رميت بعد ما أمسيت. فقال: لا حرج. رواه البخاري. وغيره. وإلى هذا ذهب الشوكاني ومن قبله ابن حزم قال في"المحلى":
" إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رميها ما لم تطلع الشمس من يوم النحر وأباح رميها بعد ذلك وإن أمسى وهذا يقع على الليل والعشي معا".
فاحفظ هذه الرخصة فإنها تنجيك من الوقوع في ارتكاب نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - المتقدم عن الرمي قبل طلوع الشمس الذي يخالفه كثير ن الحجاج يزعم الضرورة.(/72)
الثالث: أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة حل له كل شيء إلا النساء ولو لم يحلق لحديث عائشة رضي الله عنها: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي بذريرة لحجة الوداع للحل والإحرام حين أحرم وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت". رواه أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين وأصله عندهما. وبهذا قال عطاء ومالك وأبو ثور وأبو يوسف وهو رواية عن أحمد. قال ابن قدامة في"المغني"(3 / 439): "وهو الصحيح إن شاء الله تعالى"وإليه ذهب ابن حزم بل قال: يحل له ذلك بمجرد دخول وقت الرمي ولو لم يرم.
وأما اشتراط الحلق مع الرمي كما جاء في بعض المذاهب وغير واحد من كتاب المناسك فهو مع مخالفته لهذا الحديث الصحيح فليس فيه حديث يصلح للمعارضة أما حديث"إذا رميتم وحلقتم - زاد في رواية: وذبحتم فقد حل لكم كل شي إلا النساء"فهو ضعيف الإسناد مضطرب المتن كما بينته في"الأحاديث الضعيفة"(رقم ما بعد الألف).
الرابع: أنه يجوز له أن يلتقط الحصى من حيث شاء كما قال ابن تيمية رحمه الله وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد لذلك مكانا وغاية ما جاء فيه حديث ابن عباس (وفي رواية: الفضل بن عباس) قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة (وفي رواية: غداة النحر وفي أخرى: غداة جمع) وهو على راحلته: هات القط لي فلقطت له حصيات نحوا من حصى الخذف فلما وضعتهن في يده قال: مثل هؤلاء ثلاث مرات وإياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين. أخرجه النسائي وابن ماجه وابن الجارود في"المنتقى"(رقم 473) والسياق له وابن حبان في صحيحه والبيهقي وأحمد (1 / 215 347) بسند صحيح فهذا مع كونه لا نص فيه على المكان فهو يشرع بأن الالتقاط كان عند جمرة العقبة على الرواية الثانية وكذا الأولى وعليها أكثر الرواة وكأن ابن قدامة لاحظ هذا المعنى فقال في"المغني"(3 / 425)"وكان ذلك بمنى".(/73)
فما يفعله كثير من الحجاج من التقاط الحصيات في المزدلفة وحين وصولهم إليها خلاف السنة مع ما فيه من التكلف لحمل الحصيات لكل يوم.
واعلم أنه لا مانع من رمي الجمرات بحصيات قد رمي بها إذ لم يرد أي دليل على المنع وبه قال الشافعي وابن حزم رحمة الله عليهما خلافا لابن تيمية.
ثم في حديث الفضل بن عباس - رضي الله عنهما - أن من الغلو في الدين الرمي بحصى أبكر من حصى الخذف وهو فوق الحمص ودون البندق فماذا يقال فما يفعله بعض الجهالة من رميهم الجمرات بالنعال؟ أصلح الله شأن المسلمين وعرفهم بسنة نبيهم الكريم ووفقهم للعمل بها إن أرادوا السعادة الحقة في الدنيا والأخرى.
[84] - هذه اللام لام الأمر أي خذوا مناسككم كما وقع في رواية غير مسلم وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله - - صلى الله عليه وسلم - - في الصلاة: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). نووي.
[85] - فيه إشارة إلى توديعهم وإعلانهم بقرب وفاته - صلى الله عليه وسلم - وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة في ملازمته وتعلم أمور الدين وبهذا سميت حجة الوداع. منه.(/74)
[86] - وهي الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر ومذهب جماهير العلماء أنه لا يجوز الرمي في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال لهذا الحديث قال النووي: "واعلم أن رمي جمار أيام التشريق يشترط فيه الترتيب وهو أن يبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ثم الوسطى ثم جمرة العقبة ويستحب أن يقف عقب رمي الأول عندها مستقبل القبلة زمانا طويلا يدعو ويذكر الله ويقف كذلك عند الثانية ولا يقف عند الثالثة ثبت معنى ذلك في صحيح البخاري من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ويستحب هذا في كل يوم من الأيام الثلاثة والله أعلم.
[87] - كذا في هذه الرواية وهي من طريق عطاء عن جابر وفي الرواية الأخرى المتقدمة فقرة (33) أن سراقة قال ذلك وهو في أسفل المروة بعد فراغه - صلى الله عليه وسلم - من السعي فالظاهر أنه سأل مرتين وكأنه للاستيثاق والتثبت والله أعلم". وانظر فتح الباري (3: 480).
[88] - قال النووي: "البضعة بفتح الباء لا غير وهي القطعة من اللحم وفيه استحباب الأكل من هدي التطوع وأضحيته"قلت: قد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا وكذلك على - رضي الله عنه - والقارن يجب عليه الهدي فعليه فهديه - صلى الله عليه وسلم - ليس كله هدي تطوع بل فيه ما هو واجب والحديث صريح في أنه أخذ من كل بدنة بضعة فتخصيص الاستحباب بهدي التطوع غير ظاهر بل قال صديق حسن خان في"الروضة الندية"(1: 274) بعد أن نقل كلام النووي: "والظاهر أنه لا فرق بين هدي التطوع وغيره لقوله تعالى: "فكلوا منها".
[89] - وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها قد طيبته - - صلى الله عليه وسلم - - بالمسك وذلك عقب رميه - صلى الله عليه وسلم - لجمرة العقبة يوم النحر كما تقدم.(/75)
[90] - فيه أن السنة الحلق بعد النحر وأن النحر بعد الرمي ومن السنة أن يبدأ الحالق بيمين المحلوق خلافا لمذهب الحنفية لحديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحالق: خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس. رواه مسلم. وقد أنصف هنا المحقق ابن الهمام فقال في"الفتح"عقب هذا الحديث:
" وهذا يفيد أن السنة في الحلق البداءة بيمين المحلوق ورأسه وهو خلاف ما ذكر في المذهب وهذا الصواب".
[91] - معناه: افعل ما بقي عليك وقد أجزأك ما فعلته ولا حرج عليك في التقديم والتأخير.
واعلم أن أفعال يوم النحر أربعة: رمي جمرة العقبة ثم الذبح ثم الحلق ثم طواف الإفاضة والسنة ترتيبها هكذا كما سبق في الأعلى فلو خالف وقدم بعضها على بعض جاز ولا فدية عليه لهذا الحديث وغيره مما في معناه قال النووي:
" وبهذا قال جماعة من السلف وهو مذهبنا".
[92] - فيه جواز نحر الهدايا في مكة كما يجوز نحرها في منى وقد روى البيهقي في سننه (5 / 239) بسند صحيح عن ابن عباس قال: "إنما النحر بمكة وكلن نزهت عن الدماء ومكة من منى كذا وفي رواية: ومنى من مكة ولعلها الصواب. زاد في الرواية الأولى عن عطاء أن ابن عباس كان ينحر بمكة وأن ابن عمر لم يكن ينحر بمكة كان ينحر بمنى.
قلت: فلو عرف الحجاج هذا الحكم فذبح قسم كبير منهم في مكة لقل تكدس الذبائح في منى وطمرها في التراب كي لا يفسد الهواء ولاستفاد الكثيرون من ذبائحهم ولزال بذلك بعض ما يشكو منه قسم كبير من الحجيج وما ذلك إلا بسبب جهل أكثرهم بالشرع وتركهم العمل به وبما حض عليه من الفضائل فإنهم مثلا يضحون بالهزيل من الهدايا ولا يستسمنونها ثم هم بعد الذبح يتركونها بدون سلخ ولا تقطيع فيمر الفقير بها فلا يجد فيها ما يحمله على الاستفادة منها وفي رأيي أنهم لو فعلوا ما يأتي لزالت الشكوى بطبيعة الحال.
أولا: أن يذبح الكثيرون منهم في مكة.(/76)
ثانيا: أن لا يتزاحموا على الذبح في يوم النحر فقط بل يذبحون في أيام التشريق أيضا.
ثالثا: استسمان الذبائح وسلخها وتقطيعها.
رابعا: الأكل منها والتزود من لحومها إذا أمكن كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما تقدم في الفقرة (90 93). وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
على أن هناك وسائل أخرى تيسرت في هذا العصر: لو اتخذ المسؤولون بعضها لقضي على المشكلة من أصلها فمن أسهلها أن تهيأ في أيام العيد الأربعة سيارات خاصة كبيرة فيها برادات لحفظ اللحوم ويكون في منى موظفون مختصون لجمع الهدايا والضحايا التي رغب عنها أصحابها آخرون لسلخها وتقطيعها ثم تشحن في تلك السيارات كل يوم من الأيام الأربعة وتطوف على القرى المجاورة لمكة المكرمة وتوزع مشحونها من كل يوم من اللحوم على الفقراء والمساكين وبذلك تكون قد قضينا على المشكلة فهل من مستجيب؟
[93] - ثم حل منهم كل شيء حرم منهم كما في الصحيحين عن عائشة وابن عمر.
[94] - كذا أطلق جابر رضي الله عنه. وفصلت ذلك عائشة رضي الله عنها حيث قالت: "فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجحوا من منى وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا"أخرجه الشيخان. قال ابن القيم في"زاد المعاد": فأما أن يقال عائشة أثبتت وجابر نفى والمثبت مقدم على النافي أو يقال: مراد جابر من قرن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وساق الهدي كأبي بكر وعمر وطلحة وعلي وذري اليسار فإنهم إنما سعوا سعيا واحدا وليس المراد به عموم الصحابة أو يعلل حديث عائشة بأن قولها: فطاف الخ.. في الحديث مدرج من قول هشام وهذه ثلاث طرق للناس في حديثها. والله أعلم. كذا في زاد المعاد.
قلت: والطريق الأخير منها ضعيف لأن تخطئة الثقة بدون حجة لا تجوز لاسيما إذا كان مثل هشام.(/77)
ثم استدركت فقلت: ليس في طريق الحديث هشام لأنه من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عنها. فهذا إسناد غاية في الصحة فمن الخطأ والإدراج؟
ثم وجدت شيخ الإسلام ابن تيمية قال في"مناسك الحج"(ص 385 ج 2 من مجموعة الرسائل الكبرى):
" وقد روى في حديث عائشة أنهم طافوا مرتين لكن هذه الزيادة قبل أنها من قول الزهري لا من قول عائشة".
والزهري جبل في الحفظ فكيف يخطأ بمجرد"قيل"؟
وأزيد الآن في هذه الطبقة فأقول:
فمن العجيب أن يعتمد على ذلك ابن تيمية فيرد به حديث عائشة فيقول:
" وقد احتج بها - يعني الزيادة - بعضهم على أنه يستحب طوافان بالبيت وهذا ضعيف والأظهر ما في حديث جابر ويؤيده قوله: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
قلت: حديث عائشة صحيح لا شك فيه وما أعل به لا يساوي حكايته كما عرف ومما يؤكد ذلك شيئان:
الأول: أن له طريقا أخرى عنها في"الموطأ"(رقم: 223 ج 1: 410) عن عبدالرحمن ابن القاسم عن أبيه به.
وهذا سند صحيح أيضا كالجبل ثبوتا.
والآخر أن له شاهدا صريحا صحيحا من حديث ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال:
" أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في حجة الوداع فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي". طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال: "من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي..."الحديث.
أخرجه البخاري تعليقا مجزوما ورواه مسلم خارج صحيحه موصولا وكذا الإسماعيلي في مستخرجه ومن طريقه البيهقي في سننه (5 / 23) وإسناده صحيح رجاله رجال الصحيح.(/78)
فهذا كله يؤكد بطلان دعوى الإدراج في حديث عائشة رضي الله عنها ويؤيد أنها حفظت ما لم يحفظ جابر - رضي الله عنه - ويدل على أن التمتع لا بد له من الطواف مرة أخرى بين الصفا والمروة وفي حديث ابن عباس فائدة أخرى هامة جدا وهي أن من فعل ذلك فقد تم حجه ومفهومه أن من لم يفعل ذلك لم يتم حجه فهذا إن لم يدل على أنه ركن فلا أقل من أن يدل على الوجوب فكيف الاستحباب؟
وأما تأييد شيخ الإسلام ما ذهب إليه من عدم المشروعية بقوله - - صلى الله عليه وسلم - -: "دخلت العمرة..."فلا يخفى ضعفه بعد ما ثبت الأمر به من النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
[95] - كذا قاله جابر وقال ابن عمر إنه - - صلى الله عليه وسلم - - الظهر بمنى كما في"الصحيحين"واختلفوا في الترجيح وذهب بعضهم إلى الجمع بين القولين ولكن النفس لم تطمئن لشيء من ذلك فراجع"شرح مسلم"للنووي."وزاد المعاد"" ونيل الأوطار".
تتمة: ثم رجع إلى منى فمكث بها أيام التشريق يرمي في كل يوم الجمرات الثلاث على الترتيب المتقدم عن النووي.
[96] - معناه يغرقون بالدلاء ويصبونه في الحياض ونحوها ويسبلونه للناس.
[97] - أي استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء.
[98] - معناه: لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحموا عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء. نووي.
[99] - أي طواف الإفاضة والصدر. قال الحافظ (3 / 480):
" واتفقت الروايات كلها على أنها طافت طواف الإفاضة من يوم النحر".
[100] - وفي حديث آخر: قالت: أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر. أخرجه مسلم من حديثها.
[101] - معناه: إذا هويت شيئا لا نقص فيه في الدين - مثل طلبها الاعتمار وغيره. أجابها إليه. وفيه حسن معاشرة الأزواج قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) لاسيما فيما كان من باب الطاعة. نووي.(/79)
[102] - بفتح الحاء وإسكان الصاد المهملة وهي التي بعد أيام التشريق وسميت بذلك لأنهم نفروا من منى فنزلوا في المحصب وباتوا به. نووي. والمحصب هو الشعب الذي مخرجه إلى الأبطح بين مكة ومنى. كما في النهاية.
وأعلم جابر - - رضي الله عنه - - مع حسن سياقه لحجة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لم يذكر طوافه - صلى الله عليه وسلم - للوداع فيما وفقنا عليه من الروايات عنه. وقد ذكرت ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها في قصتها هذه فقالت في آخرها: "فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في منزله من جوف الليل فقال: هل فرغت؟ قلت: نعم فآذن في أصحابه بالرحيل فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ثم خرج إلى المدينة"أخرجه البخاري ومسلم والسياق له وأبو داود. ولم يرمل - صلى الله عليه وسلم - طوافه هذا ولا في طواف الصدر كما أفاده حديث عمر في الصحيحين.
[103] - ليس في الحديث كما ترى تعيين هذا الطواف وقد سبق أن طواف القدوم كان - صلى الله عليه وسلم - ماشيا فهذا محمول - ضرورة الجمع - إما على طواف الإفاضة وإما على طواف الوداع والله أعلم.
[104] - جاء هذا الحديث عن ابن عباس أيضا وفي بعض طرقه التصريح بأن السؤال وقع في رجوعه من مكة إلى المدينة في موضع اسمه الروحاء ولذلك أوردته ههنا.
[105] - أي بسبب حملها وتجنبها إياه ما يجتنبه المحرم وفعل ما يفعله المحرم. قال النووي: فيه حجة للشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعا إجماعا قال إلا فرقة شذت فقالت: يجزيه. ولم يلتفت العلماء لقولها. وقال أبو حنيفة لا يصح حجه قال أصحابه: وإنما فعلوه تمرينا له ليعتاده فيفعله.
قال النووي: وهذا الحديث يرد عليهم.(/80)
[106] - قال شيخ الإسلام في مناسك الحج: "والسنة أن يحرم في إزار ورداء سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين باتفاق الأئمة"قال صديقنا مدرس المسجد النبوي الشيخ عبدالرحمن الإفريقي رحمه الله في كتابه"توضيح الحج والعمرة"(ص 44): "ومعنى مخيطين أن تكون في الرداء والإزار خياطة عرضا أو طولا وقد غلط في هذا كثير من العوام يظنون أن المخيط الممنوع هو كل ثوب خيط سواء على صورة عضو الإنسان أم لا بل كونه مخيطا مطلقا وهذا ليس بصحيح بل المراد بالمخيط الذي نهى عن ليسه هو ما كان على صورة عضو الإنسان كالقميص والفنيلة والجبة والصدرية والسراويل وكل ما على صفة الإنسان محيط بأعضائه لا يجوز للمحرم لبسه ولو بنسج وأما الرداء الموصل لقصره أو لضيقه أو خيط لوجود الشق فيه فهذا جائز".
[107] - قال شيخ الإسلام في"المناسك": "ويستحب أن يحرم عقب صلاة إما فرض وإما تطوع إن كان وقت تطوع في أحد القولين وفي الآخر إن كان يصلي فرضا أحرم عقبه. وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه هذا أرجح.
[108] - طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2 / 18 - 19).
[109] - وحديث"من بشرني بخروج صفر بشرته بالجنة"موضوع كما في"الفتاوى الهندية"(5 / 330) وكتب الموضوعات.
[110] - وفيه حديث لا يصح كما في"تذكرة الموضوعات"ص (122).
[111] - وحديث: "ما خلف عبد على أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرا"ضعيف الإسناد بينته في"سلسلة الأحاديث الضعيفة"رقم 372 فلا يصح التعبد به كما هو مقرر في الأصول فقول النووي بعد أن بين ضعفه"فيسن له ذلك غير مستقيم. ومثله حديث أنس قال: "لم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفرا إلا قال: حين ينهض من جلوسه: اللهم بك انتشرت..."الحديث. رواه ابن عدي والبيهقي (5 / 250) وفيه عمر - ويقال عمرو بن مساور وهو منكر الحديث كما قال البخاري وضعفه الآخرون.(/81)
[112] - والحديث الوارد فيها ضعيف أيضا رواه الخرائطي في"مكارم الأخلاق"عن أنس بلفظ: "ما استخلف في أهله خليفة أحب إلى الله من أربع ركعات يصليهن العبد في بيته إذا شد عليه ثياب سفره"الحديث. قال العراقي: وهو ضعيف.
[113] - وفي ذلك حديث مرفوع ولكنه باطل كما في"التذكرة"(123).
[114] - وقد قضي على هذه البدعة والحمد لله منذ سنين ولكن لا يزال في مكانها البدعة التي بعدها. وفي الباجوري على ابن القاسم (1 / 41):
" ويحرم التفرج على المحمل المعروف وكسوة مقام إبراهيم ونحوه".
[115] - استحب ذلك الغزالي في"الإحياء"(3 / 249) وقال في مكان آخر (4 / 229): "والسفر إلى البوادي من غير زاد جائز وهو أعلى مقامات التوكل".
قلت: وهذا باطل إذ لو كان كما قال لكان أحق الناس به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعلم يقينا أنه لم يفعل ذلك كيف وهو - صلى الله عليه وسلم - قد تزود من هديه - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ولست أدري كيف يزعم الغزالي ذلك وهو حجة الإسلام والله عز وجل يقول: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) وقد نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون. رواه البخاري وغيره فما الذي صرف الغزالي عن هذه الحقيقة التي دل عليها الكتاب والسنة؟ أهو الجهل؟ كلا فإن هذا مما لا يخفى على مثله وإنما هو التصوف الذي يحمل صاحبه على الخروج عن الشرع بطريق تأويل النصوص فهو في هذا وعلم الكلام سواء عصمنا الله بالسنة من كل من يخالفها.
[116] - وأما الزيارة التي ليست سفر فهي مشروعة باتفاق العلماء ومنهم ابن تيمية وكل من يتهمه بإنكارها فهو جاهل أو مغرض.
[117] - وهذا من أخبث البدع لما فيه من الاحتيال على الشرع والتعرض للوقوع في الفحشاء كما لا يخفى.
[118] - انظر"شرح شرعة الإسلام"(ص 369 - 374).
118 - انظر"شرح شرعة الإسلام"(ص 369 - 374).(/82)
[119] - استحبه في"شرح الشرعة"(381) والاستحباب حكم شرعي لا بد له من دليل وقد احتج له بقوله:
" وفي الحديث: من أكل فحا أرض لم يضره ماؤها. يعني البصل".
وهو حديث غريب لا نعرف له أصلا إلا في"النهاية"لابن الأثير وكم فيه مما لا أصل له.
[120] - وقد صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه رأى الناس في حجته يبتدرون إلى مكة فقال: ما هذا فقال: مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هكذا هلك أصحاب الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم فيها الصلاة فليصل وإلا فلا يصل. انظر كتابنا: "تحذير المساجد"(ص 97) ثم قابل ذلك بما في"الإحياء"(1 / 235 طبع الحلبي) تر عجبا.
[121] - فإن مثل هذه الشروط لم تأت في السنة ودين الله يسر إذ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط كما ثبت في صحيح البخاري وكل الذي اشترطه - صلى الله عليه وسلم - في النقل أن لا يكون ساترا الكعبين وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق المذكوران في آية الوضوء وذلك قوله - - صلى الله عليه وسلم - -:
" لا يلبس المحرم الخفية إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين"متفق عليه. فيجزي من النعال مثل التي تعرف في سوريا ب"الكندرة"أو"الصباط".
[122] - لأنه خلاف السنة. وأما حديث"من تمام الحج تحرم من دويرة أهلك". فهو حديث منكر كما بينته في"سلسله الأحاديث الضعيفة"(رقم 210) على أنه قد روي ما يعارضه مرفوعا وموقوفا عن جماعة من الصحابة كعمر وعثمان رضي الله عنهما كما ذكرت هناك وما أحسن ما روى الهروي وغيره عن ابن عيينة أنه قال:(/83)
" سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبدالله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر؟ قال لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة فقال: وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أريدها قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إني سمعت الله يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) ومن ذلك تعلم قيمة الاتفاق المزعوم على جواز الإحرام قبل الميقات المذكور في"شرح الهداية"(2 / 132) والله المستعان.
[123] - قال ابن عابدين في"الحاشية"(2 / 215):
" والمسنون الاضطباع قبيل الطواف إلى انتهائه لا غير".
وكذا في"فتح القدير"(2 / 150).
[124] - انظر التعليق (رقم 9).
[125] - ذكر الغزالي أن هذا مستحب وأما الباجوري فقال (1 / 329) إنه يسن. ولعله يعني سنة المشايخ وإلا فكل من له معرفة بالسنة يعلم أنه مما لا أصل له.
[126] - قال شيخ الإسلام ابن تيمية في"المجموعة"(2 / 374):
" من فعل ذلك فقد خالف السنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين ما زالوا يطوفون بالبيت وما زال الحمام في مكة".
[127] - وإنما تحيته الطواف ثم الصلاة خلف المقام كما تقدم عنه - صلى الله عليه وسلم - من فعله وانظر: "القواعد النورانية"لابن تيمية (101).
[128] - وذكر أنه لا يفعل ذلك إلا الجهال مع أن ذلك مذهب الحنفية وقد احتج لهم في"الهداية"بحديث"لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن وذكر من جملتها استلام الحجر"ولكنه حديث ضعيف من جميع طرقه ومع ذلك فقد أشار ابن الهمام في"الفتح"(2 / 148 153) إلى أنه لا أصل لذكر الحجر فيه. وكأنه أخذ من الزيلعي في"نصب الراية"(2 / 38) وفيه نظر ليس هذا محل بيانه.(/84)
[129] - وفي"المؤونة"(2 / 124) أن الإمام مالك أنكر قول الناس إذا حاذوا الحجر الأسود: إيمانا بك... وقد روي ذلك عن علي وابن عمر موقوفا بسندين ضعيفين ولا تغتر بقول الهيثمي في حديث ابن عمر: "ورجاله رجال الصحيح"فإنه قد التبس عليه راو بآخر كما قد بينته في"السلسلة".
[130] - والحديث الوارد فيه ذكره السيوطي في"ذيل الموضوعات"(ص 122) وقال"وفيه نهشل كذاب".
[131] - وأورده الرافعي حديثا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصل له كما أشار إلى ذلك الحافظ بقوله في"التلخيص"(ص 214): "لم أجد".
[132] - قال شيخ الإسلام في منسكه (ص 372):
" ويستحب له في الطواف أن يذكر الله تعالى ويدعوه بما يشرع وإن قرأ القرآن سرا فلا بأس به وليس فيه ذكر محدود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يختم طوافه بين الركنين بقوله: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة في الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) كما كان يختم سائر أدعيته بذلك وليس في ذلك ذكر واجب باتفاق الأئمة".
[133] - وقال: "ويقاسون للوصول إليها شدة وعناء ويركب فعضهم فوق بعض وربما صعدت الأنثى فوق الذكر".
[134] - وصف ابن الهمام هذه البدعة والتي قبلها بأنها بدعة باطلة لا أصل لها وبأنها فعل من لا عقل له فضلا عن علم.
[135] - وأما حديث"من طاف أسبوعا في المطر غفر له ما سلف من ذنبه"فلا أصل له كما قال البخاري وغيره.
[136] - قال ابن تيمية في"منسكه"(ص 388):
" ويستحب أن يشرب من ماء زمزم ويتضلع منه ويدعو عند شربه بما شاء من الأدعية ولا يستحب الاغتسال منها".(/85)
[137] - وهذه البدعة أصبحت اليوم غير ممكنة والحمد لله ذلك أن القبة التي كانت على زمزم قد هدمت وسويت بالأرض للتوسع على المصلين ونزل بغرفة البئر إلى ما تحت أرض المسجد بحيث لا يمكن رؤية البيت منها.
[138] - والحديث الوارد في ذلك موضوع أورده السيوطي وغيره في"الموضوعات"فراجع"الذيل"(ص 122) و" التذكرة"(ص 74).
[139] - روي بعضه عن ابن عمر أنه كان يقوله عند الصفا. أخرجه البيهقي بسند ضعيف.
[140] - صح منه موقوفا على ابن مسعود وابن عمر: رب اغفر وارحم وأنت الأعز الأكرم. رواه البيهقي. وروي مرفوعا ولم يصح.
[141] - والسنة سبعة أشواط والختم على المروة كما سبق فقرة (33).
[142] - ذهب إلى استحبابهما غير واحد قياسا على ركعتي الطواف وقال ابن الهمام في"الفتح"(2 / 156 - 157):
" ولا حاجة إلى هذا القياس إذ فيه نص وهو ما روى المطلب بن أبي وداعة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ من سعيه جاء.. فصلى ركعتين في حاشية المطاف وليس بينه وبين الطائفين أحد. رواه أحمد وابن ماجه".
قلت: هذا وهم عجيب من مثل هذا العالم النحرير فقد تحرف عليه لفظ"سعيه"والصواب"سبعة"كما في ابن ماجه رقم (2958) وهو في المسند بلفظ"أسبوعه"وفي رواية أخرى له"طاف بالبيت سبها ثم صلى ركعتين بحذائه..."على أن الحديث من أصله لا يصح من قبل إسناده فإن فيه اضطرابا وجهالة كما بينته في"سلسلة الأحاديث الضعيفة"رقم (932) كما سبق التنبيه عنه (ص 23) وانظر التعليق (173).
[143] - استحسن ذلك في"الإحياء"وقال: وهو الحزم.
وهذا شيء عجيب من مثل هذا الفقيه إذ لو كان حقا حسنًا لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أتقى الناس. قال شيخ الإسلام في"المجموعة"(2 / 374):
" الاحتياط حسن ما لم يخالف السنة المعلومة فإذا أفضى إلى ذلك كان خطأ".(/86)
[144] - وقد جاء فيه حديث ولكن إسناده ضعيف بل أورده ابن الجوزي في"الموضوعات"وقال: "لا يصح". وتعقبه السيوطي في"اللآلي"(1 / 120) بما يؤخذ منه أنه مسلم بضعفه.
[145] - والسنة بل الواجب البيات في منى ليلة عرفة كما تقدم. وقد تساهل الناس بهذه السنة كثيرا ويساعدهم على ذلك بعض المطوفين الذين لا يهمهم متابعة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في حجه وقد يجدون من الفقهاء من يهون عليهم ذلك كقول الغزالي: "إن المبيت في منى مبيت منزل لا يتعلق به نسك".
[146] - والسنة الخروج من منى بعد طلوع شمس يوم عرفة كما تقدم.
[147] - وأما حديث"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة"فهو ضعيف جدا كما بينه الزيلعي في"نصب الراية"(1 / 85) وابن الهمام في"الفتح"(1 / 45) وقد خفي حاله على ابن تيمية فقال في"مجموعه"(2: 380): "ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: غسل الإحرام والغسل عند دخول مكة والغسل يوم عرفة وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار والطواف وللمبيت بمزدلفة فلا أصل له بل هو بدعة".
[148] - والحديث الوارد فيه يصح إسناده أخرجه البيهقي في"الشعب"وقال: "هذا فنن غريب وليس في إسناده من ينسب إلى الوضع"كما نقله في"اللآلي"(1261) وذكره ابن الهمام في"الفتح"(2 / 167) بدون لفظ"ليس".
[149] - انظر"المدخل"(4 / 229).
[150] - قال فيه: "ولا يشرع صعود جبل الرحمة إجماعا".
[151] - وذكر أن بعضهم روى ذلك حديثا ثم قال:
" وهذا من أعظم الكذب على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وقائله من أعظم القائلين على الله غير الحق".
[152] - قال في"الهداية": "هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم". فتعقبه ابن الهمام في"الفتح"(2 / 163) بقوله:
" لا يحضرني فيه حديث".
[153] - والحديث الذي فيه ذلك شاذ منكر. لأنه مخالف لما سبق في الفقرة (58 - 6) وانظر"نصب الراية"(3 / 59 - 60).(/87)
[154] - والسنة البدء بالأذان بعد الفراغ من الخطبة كما سبق في الفقرة (60 - 61).
[155] - جاء هذا في غير ما كتاب من كتب الحنفية على أنه من وظائف الإمام في عرفة إذا كان مسافرا منها"تحفة الفقهاء"(1 / 2 / 876) وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في"مجموعه"(2 / 378):
" ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة ومنى وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه أحدا من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى: أتوا صلاتكم فإنا قوم سفر ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ...".
[156] - وصف ذلك في"شرح الهداية"بأنه مكروه. وهذا معناه أنه بدعة.
[157] - قال شيخ الإسلام في"مجموعه"(2 / 380):
" ولم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرفة دعاء ولا ذكرا بل يدعو الرجل بما شاء من الأدعية الشرعية وكذلك يكبر ويهلل ويذكر الله تعالى حتى تغرب الشمس".
قلت: ويستدرك عليه أنه يسن له أن يلبي أيضا فانظر التعليق المتقدم برقم (64).
[158] - وأصل هذه البدعة حديث موضوع أشار إليه ابن القيم في المصدر المذكور أعلاه قال:
" باطل لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تغتر بما نقله بما نقله العلامة الكوثري في"الأجوبة الفاضلة". ص 37 طبع حلب) عن الشيخ على القاري أنه قال:
" أما ذكره بعض المحدثين في إسناد هذا الحديث أنه ضعيف فعلى تقدير صحته لا يضر المقصود فإن الحديث الضعيف معتبر في فضائل الأعمال عند جميع العلماء من أرباب الكمال".(/88)
فلا نعلم أن أحدا نص على تضعيفه فقط مع حكم المحقق ابن القيم ببطلانه. وهذا الواقع من الأمثلة الكثيرة على شؤم ما يذهب إليه البعض من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال على كثرة اختلافهم في تفسير هذا المذهب كما تجده مبسوطا في الأجوبة المشار إليها آنفا فقد يكون الحديث باطلا كهذا فيطلق البعض عليه أنه ضعيف فيأتي آخر فيقول يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون أن يتحقق من سلامته من الضعف الشديد الذي هو من شروط العمل به مع أن الضعف المطلق لا ينافي الضعف الشديد بل ولا الوضع لأنها من أقسام الضعيف كما هو مقرر في المصطلح.
ثم ليت شعري ما علاقة هذا الحديث بالعمل بالحديث الضعيف فإن هذا محله فيما للإنسان فيه الخيرة تركا وفعلا وليس كذلك الوقوف في عرفة الموافق ليوم الجمعة.
هذا وتجد نص الحديث الباطل المشار إليه في كتابي"سلسلة الأحاديث الضعيف والموضوعة"رقم (207) مع ذكر العلماء الذي وافقوا ابن القيم على حكمه ببطلان الحديث.
(تنبيه) قول القاري السابق: أن الحديث الضعيف معتبر في فضائل الأعمال عند جميع العلماء غير صحيح فالخلاف في ذلك معروف تجده في"الأجوبة الفاضلة"وإن كان لم يحرر القول في هذه المسألة.
[159] - استحب ذلك الغزالي في إحيائه ولو كان كذلك لفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد مضى أنه أتى مزدلفة راكبا وأنه حينما صلى الفجر ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام.
[160] - استحسن إحياءها الغزالي وقال إنها من محاسن القربات وقد علمت من الفقرة (72) أنه - صلى الله عليه وسلم - نام حتى تطلع الفجر وخير الهدى هدى محمد وقد مضى كلام ابن القيم في ذلك.(/89)
[161] - وهذا الدعاء مع كونه محدثا ففيه ما يخالف السنة وهو التوسل إلى الله بحق المشعر الحرام والبيت والشهر والركن والمقام وإنما يتوسل إليه تعالى بأسمائه وصفاته كما هو مفصل في كتب ابن تيمية رحمه الله وقد نص الحنفية على كراهية هذا القول: اللهم إني أسألك بحق المشعر الحرام الخ... انظر"رد المحتار على الدر المختار"من كتبهم.
[162] وليس لهذا أصل في السنة فلعله يعني سنة المشايخ وقد خالفه الغزالي في التفصيل الذي ذكره فقال بأنه يتزود بالحصيات كلها من المزدلفة وكل ذلك خلاف السنة كما تقدم فقرة (83).
[163] - قال البجيرمي (2 / 400):
" ولا يشترط في حجر الرمي طهارته".
[164] - قال ابن الهمام: وهذا في التمكن من الرمي به مع الزحمة والوهجة عسر. ثم ذكر أنه لم يقم دليل على أولوية تلك الكيفية والأصل ما هو الأيسر. راجع التعليق (رقم 83).
[165] - قلت: وهذا من أخبث البدع لما فيه من تعطيل الشرع المنصوص عليه في الكتاب والسنة بمجرد الرأي مع أن المسؤول عن عدم الاستفادة التامة منها إنما هم المضحون أنفسهم لأنهم لا يلتزمون في الذبح توجيهات الشارع الحكيم كما سبق بيانه في التعليق رقم (91).
[166] - والسنة البدء بيمينه كما تقدم بيانه في التعليق رقم (90).
[167] - والواجب حلقه كله لقوله تعالى (محلقين رؤوسكم ومقصرين) وقوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين..."ولأن في الاقتصار المذكور مخالفة صريحة لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن القزع وقوله"احلقوه كله أو دعوه كله"ولذلك قال ابن الهمام:
" مقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب كما هو قول مالك وهو الذي أدين الله به".(/90)
[168] - استح ذلك في"فتح القدير". ولم يذكر عليه أي دليل ومع أن هذا لا أصل له في السنة فيما علمت فإني أخشى أن يكون قوله فيه: "اللهم اكتب لي بكل شعره حسنة..."من الاعتداء في الدعاء المنهي عنه وأن يكون أوله مقتبسا من حديث"الأضحية لصاحبها بكل شعرة حسنة"وهو حديث موضوع كما بينته في"الأحاديث الضعيفة"بلفظ"الأضحية"ورقمه بعد الألف.
[169] - قال: "هذا غفلة عن السنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه لم يصلوا بمنى عيدا قط". وقال في"مجموعته"(2 / 385):
" وليس بمنى صلاة عيد بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لأهل الأمصار".
[170] - لأنه قد ثبت الأمر بهذا السعي كما سبق بيانه في التعليق رقم (94).
[171] - قال الباجوري في حاشيته (1 / 21):
" ويحرم التفرج على المحمل المعروف وكسوة مقام إبراهيم ونحوه".
[172] - هذه الظاهرة قد تضخمت في الآونة الأخيرة تضخما لم يكن فيما سبق مما يدل على أن"دولة التوحيد"بدأت تتهاون بالقضاء على ما ينافي توحيدها الذي هو رأس مالها والمشايخ وجماعة الأمر بالمعروف هيئة إلا من شاء الله.
[173] - وهذا وإن قال به بعض أهل العلم فلا شك أنه مخالف للسنة لأن الأحاديث وردت في النهي عن المرور بين يدي المصلي وأمره بدفع المار بين يديه عامة تشمل كل مصلى وفي أي مسجد. وما استدلوا به من الخصوصية لمكة لا ينهض وهو حديث المطلب بن أبي وداعة أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بينه وبين الكعبة سترة والناس يمرون بين يديه فمع أنه ليس صريح في المرور بينه وبين موضع سجوده فإنه ضعيف السند كما بينته في"السلسلة"(رقم 932).
[174] - قال الغزالي في"الإحياء"(1 / 232):
" والأحب أن لا يصرف بصره عن البيت حتى يغيب عنه". ونقل نحوه شيخ الإسلام في"الاختيارات"(ص 70) عن ابن عقيل وابن الزاغوني ثم قال: "هذه بدعة".(/91)
[175] - والسنة قصد المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد..."الحديث فإذا وصل إليه وصلى التحية زار قبره صلى الله عليه وسلم.
[176] - والواجب فصله عن المسجد بجدار كما كان في عهد الخلفاء الراشدين كما بينته منذ سنوات في"تحذير المساجد من اتخاذ القبور مساجد".
[177] - انظر: "مجموعة الرسائل الكبرى"لشيخ الإسلام (2 / 390).
[178] - وهذا الرجل مع فضله وكون كتابه المذكور مرجعا حسنا لمعرفة البدع فإنه في نفسه نخرف لا يعتمد عليه في التوحيد والعقيدة.
[179] - وقد أحسن الغزالي رحمه الله تعالى حين أنكر التقبيل المذكور وقال (1 / 244):
" إنه عادة النصارى واليهود"
فهل من معتبر؟
[180] - والمشروع هو السلام مختصرًا: "السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا عمر كما كان ابن عمر يفعل فإن زاد شيئًا يسيرًا مما يهمله ولا يلتزمه فلا بأس - إن شاء الله تعالى -
[181] - لقد رأيت في السنوات الثلاث التي قضيتها في المدينة المنورة (1381 - 1383) أستاذًا في الجامعة الإسلامية بدعا كثيرة جدا تفعل في المسجد النبوي، والمسؤولون فيه عن كل ذلك ساكتون كما هو الشأن عندنا في سوريا تماما.(/92)
ومن هذه البدع ما هو شرك صريح كهذه البدعة: فإن كثيرا من الحجاج يتقصدون الصلاة تجاه القبر الشريف حتى بعد صلاة العصر في وقت الكراهة ويشجعهم على ذلك أنهم يرون جدار القبر الذي يستقبلونه محرابا صغيرا من آثار الأتراك ينادي بلسان حاله: الجهال إلى الصلاة عنده زد على ذلك أن المكان الذي يصلون عليه مفروشة بأحسن السجاد ولقد تحدثت مع بعض الفضلاء بضرورة الحيلولة بين هؤلاء الجهال وما يأتون من المخالفات وكان من أبسط ما اقترحته رفع السجاد من ذلك المكان وليس المحراب فوعدنا خيرا ولكن المسؤول الذي يستطيع ذلك لم يفعل ولن يفعل إلا إن شاء الله تعالى. ذلك لأنه يساير بعض أهل المدينة على رغباتهم وأهوائهم ولا يستجيب للناصحين من أهل العلم ولو كانوا من أهل البلاد فإلى الله المشتكى من ضعف الإيمان وغلبة الهوى الذي لم يفد فيه حتى التوحيد لغلبة حب المال على أهله إلا من شاء الله وقليل ما هم وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "فتنة أمتي المال".
[182] - وهذا مع كونه بدعة وغلوا في الدين ومخالفا لقوله صلى الله عليه وسلم"لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"فإنه سبب لتضييع سنن كثيرة وفضائل غزيرة إلا وهي الأذكار والأوراد بعد السلام فإنهم يتركونها ويبادرون إلى هذه البدعة. فرحم الله من قال: "ما أحدثت بدعة إلا وأميتت سنة".
[183] - ولا فائدة مطلقا من هاتين النخلتين وإنما وضعتا للزينة ولفتنة الناس وقد وعدنا حين كنا هناك برفعها ولكن عبثا.(/93)
[184] - وقد يقع في هذه البدعة بعض أهل العلم وشبهتهم في ذلك التماس باسم الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة..."ومع أن ذلك ليس نصا فيما ذهبوا إليه لأنه لا ينافي امتداد الفضيلة إلى الزيارة كما هو الشأن في الزيارات التي ضمت إلى المسجد المكي علما أن غاية ما في الأمر الحض على الصلاة في المسجد وليس فيه إيجاب ذلك فإذا كان كذلك فلهم أن يلتزموا صلاة النوافل فيه التي لا تجمع فيها وأما أن يتعدوا ذلك إلى صلاة الجماعة فذلك خطأ محض لأنهم بذلك كمن يبني قصرا ويهدم مصرا لاسيما إذا كانوا من أهل العلم فإنهم يضيعون أمورا كثيرة هي أولى من تلك الفضيلة بكثير بل إن بعضها واجب يأثم تاركه أذكر من ذلك ما يتيسر الآن:
1 - ترك وصل الصفوف وهو واجب بأحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "من وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله"أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح. ومن المشاهد في المسجد النبوي أن الصفوف الأولى في الزيارة القبلية لا تتم بسبب حرص أولئك الناس على الصلاة في المسجد القديم وبذلك يقعون في الإثم.
2 - ترك أهل العلم الصلاة خلف الإمام مع أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها بذلك في قوله: ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"رواه مسلم.(/94)
3 - تفويتهم جميعا الصلاة في الصفوف الأولى وخاصة الأولى منها مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها..."رواه مسلم وغيره. وقال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا". رواه الشيخان ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نجزم بأن فضيلة الصف الأول مطلقا أفضل من الصفوف المتأخرة في المسجد القديم فكذلك لا يستطيع أحد منهم أن يدعي العكس لكن إذا انضم إليه ما سبق ذكره من الأمرين الأوليين فلا شك حينئذ في ترجيح الصلاة في الزيادة على الصلاة في المسجد القديم ولذلك اقتنع بهذا غير واحد من العلماء وطلاب العلم حين باحثتهم في المسألة وصاروا يصلون في الزيادة. فرحم الله من أنصف ولم يتعسف.
[185] - والحديث الوارد في ذلك ضعيف لا تقوم به حجة وقد بينت علته في"السلسلة"رقم (364) فلا يجوز العمل به لأنه تشريع لاسيما وقد يتحرج من ذلك بعض الحجاج كما علمت ذلك بنفسي طنا منهم أن الوارد فيه ثابت صحيح وقد تفوته بعض الصلوات فيه فيقع في الحرج وقد أراحه الله منه.
[186] - استحب هذا والذي قبله الغزالي عفا الله عنا وعنه. ولم يذكر على ذلك دليلاً. وهيهات ولا شك في مشروعية زيارة القبور ولكن مطلقا دون تقييد ذلك بيوم خاص أو بكل يوم بل حسبما يتيسر. وأما الصلاة في مسجد فاطمة - رضي الله عنها - فإن كان مسجدا مبنيا على قبرها فلا شك في حرمة الصلاة فيه وإن كان مسجدًا منسوبًا إليها فقط فقصد الصلاة فيه بدعة كما سبق آنفا نقلا عن ابن تيمية قبل فقرتين.(/95)
[187] - كانت الأرض التي فيها قبر حمزة وغيره من شهداء أحد لا بناء عليها إلا السنة الماضية (1383) ولكن الحكومة السعودية في هذه السنة أقامت على أرضهم حائطا مبنيا بالاسمنت وجعلت له بابا كبيرا من الحديد في الجهلة القلية ونافذة من الحديث في آخر الجدار الشرقي فلما رأينا ذلك استبشرنا شرا وقلنا هذا نذير شر ولا يبعد أن يكون توطئة لإعادة المسجد والقبب على قبورهم كما كان الأمر قبل الحكم السعودي الأول حين كان القوم متحمسين للدين عاملين بأحكامه والله غالب على أمره. وهذا أول الشر فقد رأيت الخرق على النافذة تتكاثر ولما يتكامل بناء الحائط وقيل لي: أن بعضهم صاروا يصلون في داخل البناء تبركا وإذا استمر الأمر على هذا المنوال من التساهل في تطبيق الشرع والتجرأ على مخالفته فلا أستبعد يوما تعود مظاهر الوثنية إلى أرض دولة التوحيد كما كان الشأن من قبل حكمها ثبت الله خطاها ووجهها إلى العمل بالشرع كاملاً لا تأخذها في الله لوم لائم. وهو المستعان.
[188] - قال شيخ الإسلام في"مجموعته"(2 / 60 - 61):
" وأما زيارة بيت المقدس فمشروعة في جميع الأوقات... والسفر إليه لأجل التعريف به معتقدا أن هذا قربة محرم... وليس السفر إليه مع الحج قربة وقول القائل: قدس الله حجتك قول باطل لا أصل له كما روى: "من زارني وزار أبي (إبراهيم) في عام واحد ضمنت له الجنة"فإن هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث بل وكذلك كل حديث يروي في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ضعيف بل موضوع".
[189] - وقال رحمه الله (ص 57 - 58):(/96)
" المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان - عليه السلام - وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في مقدمه والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين كانوا يصلون إليها فأمر عمر - رضي الله عنه - بإزالة النجاسة عنها وقال لكعب: أين ترى أن نبني مصلى للمسلمين؟ فقال: خلف الصخرة فقال: يا ابن اليهودية خالطتك يهودية بل ابنيه أمامها فإن لنا صدور المساجد ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة في المصلى الذي بناه عمر. وأما الصخرة فلم يصل عندها عمر - رضي الله عنه - ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة بك كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان ولكن..."ثم ذكر أن عبد الملك بن مروان هو الذي بنى القبة عليها وكساها في الشتاء والصيف ليرغب الناس زيارة بيت المقدس..."ثم قال: "وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة وإنما يعظمها اليهود وبعض النصارى".
قلت: ومن ذلك تعلم أن ترميمها وتجديد بنائها الذي أعلن عنه منذ أسابيع وقد أنفقوا عليها الملايين من الليرات إنما هو إسراف وتبذير ومخالفة لسبيل المؤمنين الأولين.
[190] - ذكر هذه الأمور كلها شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في"المجموعة"(2 / 58 - 59) ووضعها بقوله: "فكله كذب". وقال في مكان المهد:
" وإنما كان موضع معمودية النصارى".(/97)
العنوان: حجة النبي كما رواها جابر
رقم المقالة: 1748
صاحب المقالة: عبدالله بن محمد البصري
-----------------------------------------
حجة النبي كما رواها جابر
فقه الحج والعمرة
القويعية.
2/12/1427
جامع الرويضة الجنوبي.
محامد وأدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة :
1- صفة حج النبي كما رواها جابر.
2- مسائل وأحكام.
الخطبة الأولى
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، رَوَى مُسلِمٌ بِسَنَدِهِ عَن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ حُسَينٍ أَنَّ أَبَاهُ سَأَلَ جَابِرًا - رضي اللهُ عنه - فَقَالَ: أَخبِرْني عَن حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسعًا فَقَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ مَكَثَ تِسعَ سِنِينَ لم يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ في النَّاسِ في العَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ حَاجٌّ، فَقَدِمَ المَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُم يَلتَمِسُ أَن يَأتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ وَيَعمَلَ مِثلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَينَا ذَا الحُلَيفَةِ، فَوَلَدَت أَسمَاءُ بِنتُ عُمَيسٍ مُحَمَّدَ بنَ أَبي بَكرٍ، فَأَرسَلَت إِلى رَسُولِ اللهِ: كَيفَ أَصنَعُ؟ قَالَ: ((اغتَسِلِي وَاستَثفِرِي بِثَوبٍ وَأَحرِمِي))، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ في المَسجِدِ ثُمَّ رَكِبَ القَصوَاءَ، حَتَّى إِذَا استَوَت بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى البَيدَاءِ نَظَرتُ إِلى مَدِّ بَصَرِي بَينَ يَدَيهِ مِن رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَن يَمِينِهِ مِثل ذَلِكَ، وَعَن يَسَارِهِ مِثل ذَلِكَ، وَمِن خَلفِهِ مِثل ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ بَينَ أَظهُرِنَا وَعَلَيهِ يَنزِلُ القُرآنُ وَهُوَ يَعرِفُ تَأوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِن شَيءٍ عَمِلنَا بِهِ، فَأَهَلَّ بِالتَّوحِيدِ: ((لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ، إِنَّ الحَمدَ وَالنِّعمَةَ لَكَ وَالمُلكَ، لا شَرِيكَ لَكَ))، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي(/1)
يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَم يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ عَلَيهِم شَيئًا مِنهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ تَلبِيَتَهُ.
قَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ -: لَسنَا نَنوِي إِلاَّ الحَجَّ، لَسنَا نَعرِفُ العُمرَةَ، حَتَّى إِذَا أَتَينَا البَيتَ مَعَهُ استَلَمَ الرُّكنَ فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَربَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلى مَقَامِ إِبرَاهِيمَ - عَلَيهِ السَّلام - فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، فَجَعَلَ المَقَامَ بَينَهُ وَبَينَ البَيتِ. قال جعفر بن محمد: فَكَانَ أَبي يَقُولُ: وَلا أَعلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِيِّ : كَانَ يَقرَأُ في الرَّكعَتَينِ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و{قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، ثُمَّ رَجَعَ إِلى الرُّكنِ فَاستَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إِلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا والمَروَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ} [البقرة: 158] ((أَبدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ))، فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيهِ حَتَّى رَأَى البَيتَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ، أَنجَزَ وَعدَهُ، وَنَصَرَ عَبدَهُ، وَهَزَمَ الأَحزَابَ وَحدَهُ))، ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ، قَالَ مِثلَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلى المَروَةِ حَتَّى إِذَا انصَبَّت قَدَمَاهُ في بَطنِ الوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى، حَتَّى أَتَى المَروَةَ، فَفَعَلَ عَلَى المَروَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى المَروَةِ فَقَالَ: ((لَو أَنِّي استَقبَلتُ مِن أَمرِي مَا استَدبَرتُ لم أَسُقِ الهَديَ(/2)
وَجَعَلتُهَا عُمرَةً، فَمَن كَانَ مِنكُم لَيسَ مَعَهُ هَديٌ فَلْيَحِلَّ وَليَجعَلهَا عُمرَةً))، فَقَامَ سُرَاقَةُ بنُ مَالِكِ بنِ جُعشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً في الأُخرَى وَقَالَ: ((دَخَلَتِ العُمرَةُ في الحَجِّ مَرَّتَينِ، لا بَل لأَبَدٍ أَبَدٍ)).
وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ بِبُدنِ النَّبِيِّ ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهَا - مِمَّن حَلَّ وَلَبِسَت ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكتَحَلَت، فَأَنكَرَ ذَلِكَ عَلَيهَا، فَقَالَت: إِنَّ أَبي أَمَرَني بِهَذَا، قَالَ: فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالعِرَاقِ: فَذَهَبتُ إِلى رَسُولِ اللهِ مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ، مُستَفتِيًا لِرَسُولِ اللهِ فِيمَا ذَكَرَتْ عَنهُ، فَأَخبَرتُهُ أَنِّي أَنكَرتُ ذَلِكَ عَلَيهَا، فَقَالَ: ((صَدَقَتْ صَدَقَتْ، مَاذَا قُلتَ حِينَ فَرَضتَ الحَجَّ؟)) قَالَ: قُلتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ، قَالَ: ((فَإِنَّ مَعِيَ الهَديَ فَلا تَحِلَّ))، قَالَ: فَكَانَ جَمَاعَةُ الهَديِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ مِائَةً، قَالَ: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِيَّ وَمَن كَانَ مَعَهُ هَديٌ.(/3)
فَلَمَّا كَانَ يَومُ التَّروِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ فَصَلَّى بِهَا الظُّهرَ وَالعَصرَ وَالمَغرِبَ وَالعِشَاءَ وَالفَجرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِن شَعَرٍ تُضرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللهِ وَلا تَشُكُّ قُرَيشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ كَمَا كَانَت قُرَيشٌ تَصنَعُ في الجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ القُبَّةَ قَد ضُرِبَت لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمسُ أَمَرَ بِالقَصوَاءِ فَرُحِلَت لَهُ، فَأَتَى بَطنَ الوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم حَرَامٌ عَلَيكُم كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا، في شَهرِكُم هَذَا، في بَلَدِكُم هَذَا، أَلا كُلُّ شَيءٍ مِن أَمرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحتَ قَدَمَيَّ مَوضُوعٌ، وَدِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِن دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بنِ الحَارِثِ، كَانَ مُستَرضَعًا في بَنِي سَعدٍ فَقَتَلَتهُ هُذَيلٌ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بنِ عَبدِالمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ، فَإِنَّكُم أَخَذتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاستَحلَلتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُم عَلَيهِنَّ أَن لا يُوطِئنَ فُرُشَكُم أَحَدًا تَكرَهُونَهُ، فَإِن فَعَلنَ ذَلِكَ فَاضرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيكُم رِزقُهُنَّ وَكِسوَتُهُنَّ بِالمَعرُوفِ، وَقَد تَرَكتُ فِيكُم مَا لَن تَضِلُّوا بَعدَهُ إِن اعتَصَمتُم بِهِ: كِتَابُ اللهِ، وَأَنتُم تُسأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنتُم قَائِلُونَ؟)) قَالُوا: "نَشهَدُ أَنَّكَ قَد(/4)
بَلَّغتَ وَأَدَّيتَ وَنَصَحتَ"، فَقَالَ بِإِصبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرفَعُهَا إِلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلى النَّاسِ: ((اللَّهُمَّ اشهَدْ، اللَّهُمَّ اشهَدْ)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصرَ، وَلم يُصَلِّ بَينَهُمَا شَيئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتى المَوقِفَ فَجَعَلَ بَطنَ نَاقَتِهِ القَصوَاءِ إِلى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبلَ المُشَاةِ بَينَ يَدَيهِ، وَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمسُ وَذَهَبَتِ الصُّفرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ القُرصُ، وَأَردَفَ أُسَامَةَ خَلفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ وَقَد شَنَقَ لِلقَصوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَورِكَ رَحلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ اليُمنَى: ((أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ))، كُلَّمَا أَتى حَبلاً مِنَ الحِبَالِ أَرخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتى المُزدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا المَغرِبَ وَالعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَينِ، وَلم يُسَبِّحْ بَينَهُمَا شَيئًا، ثُمَّ اضطَجَعَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى طَلَعَ الفَجرُ، وَصَلَّى الفَجرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ القَصوَاءَ حَتَّى أَتَى المَشعَرَ الحَرَامَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبلَ أَن تَطلُعَ الشَّمسُ، وَأَردَفَ الفَضلَ بنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعرِ أَبيَضَ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ مَرَّت بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الفَضلُ يَنظُرُ إِلَيهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ يَدَهُ عَلَى وَجهِ الفَضلِ، فَحَوَّلَ الفَضلُ وَجهَهُ إِلى الشِّقِّ الآخَرِ يَنظُرُ،(/5)
فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجهِ الفَضلِ يَصرِفُ وَجهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ، حَتَّى أَتَى بَطنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الوُسطَى الَّتِي تَخرُجُ عَلَى الجَمرَةِ الكُبرَى، حَتَّى أَتَى الجَمرَةَ الَّتِي عِندَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنهَا مِثلِ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِن بَطنِ الوَادِي، ثُمَّ انصَرَفَ إِلى المَنحَرِ فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشرَكَهُ في هَديِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَت في قِدرٍ فَطُبِخَت، فَأَكَلا مِن لَحمِهَا وَشَرِبَا مِن مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ فَأَفَاضَ إِلى البَيتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهرَ، فَأَتَى بَنِي عَبدِالمُطَّلِبِ يَسقُونَ عَلَى زَمزَمَ فَقَالَ: ((انزِعُوا بَنِي عَبدِالمُطَّلِبِ، فَلَولا أَن يَغلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُم لَنَزَعتُ مَعَكُم))، فَنَاوَلُوهُ دَلوًا فَشَرِبَ مِنهُ".
هذا الحَدِيثُ العَظِيمُ في وَصفِ حَجَّةِ النبيِّ قَدِ اشتَمَلَ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الفَوَائِدِ وَنَفَائِسَ مِن القَوَاعِدِ، وَقَد تَكَلَّمَ العُلَمَاءُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الفِقهِ وَأَكْثَرُوا، وَخَرَّجُوا فِيهِ مِن الفِقهِ عَشَرَاتِ المَسَائِلِ، وَلَعَلَّنَا نجتَزِئُ شَيئًا مِن فِقهِ هَذَا الحَدِيثِ في خُطبتِنَا هَذِهِ:
فَمِن ذَلِك قَولُهُ لأَسمَاءَ بِنتِ عُمَيسٍ وَقَد وَلَدَت: ((اغتَسِلِي وَاستَثفِرِي بِثَوبٍ وَأَحرِمِي))، فِيهِ استِحبَابُ غُسلِ الإِحرَامِ لِلنُّفَسَاءِ وصِحَّةُ إِحرَامِهَا، وَمِثلُها الحَائِضُ، فلا يجوزُ لهما تجاوزُ المِيقَاتِ إِلاَّ مُحرِمَتَينِ.
قَولُهُ: "فَصَلَّى رَكعَتَينِ" فِيهِ استِحبَابُ كَونِ الإِحرامِ بَعدَ صَلاةٍ.(/6)
قَولُهُ: "وَعَلَيهِ يَنزِلُ القُرآنُ وَهُوَ يَعرِف تَأوِيلَهُ" مَعنَاهُ: الحَثُّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا فَعَلَهُ في حَجَّتِهِ تِلكَ.
قَولُهُ: "وَأَهَلَّ النَّاس بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَم يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ شَيئًا مِنهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ تَلبِيَته"، قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللهُ -: "فِيهِ إِشَارَةٌ إِلى مَا رُوِيَ مِن زِيَادَةِ النَّاسِ في التَّلبِيَةِ مِنَ الثَّنَاءِ وَالذِّكرِ، كَمَا رُوِيَ في ذَلِكَ عَن عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ: "لَبَّيكَ ذَا النَّعمَاءِ وَالفَضلِ الحَسَنِ، لَبَّيكَ مَرهُوبًا مِنكَ وَمَرغُوبًا إِلَيكَ"، وَعَنِ ابنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ -: "لَبَّيكَ وَسَعدَيكَ، وَالخَيرُ بِيَدَيك، وَالرَّغبَاءُ إِلَيك وَالعَمَلُ"، وَعَن أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ -: "لَبَّيكَ حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا"، وَلَكِنَّ المُستَحَبَّ الاقتِصَارُ عَلَى تَلبِيَةِ رَسُولِ اللهِ".
قَولُهُ: "حَتَّى إِذَا أَتَينَا البَيت مَعَهُ استَلَمَ الرُّكنَ فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَربَعًا)، فِيهِ أَنَّ الطَّوَافَ سَبعةُ أَشوَاطٍ، وأَنَّ المُحرِمَ إِذَا دَخَلَ مَكَّة قَبلَ الوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ سُنَّ لَهُ طَوَافُ القُدُوم، وَأَنَّ السُّنَّةَ فيه الرَّمَلُ في الثَّلاثةِ الأُولى، وَيَمشِي عَلَى عَادَتِهِ في الأَربَعةِ الأَخِيرَةِ، والرَّمَلُ هُوَ أَسرَعُ المَشيِ مَعَ تَقَارُبِ الخُطَا.
قَولُهُ: "استَلَمَ الرُّكنَ" أي: مَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ سُنَّةٌ في كُلِّ طَوَافٍ مَعَ القُدرَةِ عليه.(/7)
قَولُهُ: "ثُمَّ نَفَذَ إِلى مَقَام إِبرَاهِيم - عَلَيهِ السَّلامُ - فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، فَجَعَلَ المَقَام بَينَهُ وَبَينَ البَيتِ"، هَذَا دَلِيلٌ لِمَا أَجمَعَ عَلَيهِ العُلَمَاءُ أَنَّهُ يَنبَغِي لِكُلِّ طَائِفٍ إِذَا فَرَغَ مِن طَوَافِهِ أَن يُصَلِّيَ خَلفَ المَقَامِ رَكعَتَي الطَّوَافِ، وَإِلاَّ فَفِي سائِرِ الحَرَمِ، ويَقَرَأُ فِيهِمَا: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [سورة الكافرون]، {وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص].(/8)
قَولُهُ: "ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إِلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَة مِن شَعَائِر الله} [البقرة: 158]، ((أَبدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ))، فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيهِ حَتَّى رَأَى البَيتَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَ وَقَالَ: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَه إِلاّ اللهُ وَحدَهُ، أَنجَزَ وَعدَهُ، وَنَصَرَ عَبدَهُ، وَهَزَمَ الأَحزَابَ وَحدَهُ))، ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ، قَالَ مِثلَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلى المَروَةِ"، في هَذَا أَنوَاعٌ مِنَ المَنَاسِكِ: مِنهَا أَنَّ السَّعيَ يُشتَرَطُ فِيهِ أَن يُبدَأَ مِنَ الصَّفَا، وَقَد ثَبَتَ في رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ في هَذَا الحَدِيث بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((ابدَؤُوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ))، هَكَذَا بِصِيغَةِ الأمر والجَمعِ. وَمِنهَا أَنَّهُ يَنبَغِي أَن يَرقَى عَلَى الصَّفَا وَالمَروَةِ، وهُوَ سُنَّةٌ لَيسَ بِشَرطٍ وَلا وَاجِبٍ، فَلَو تَرَكَهُ صَحَّ سَعيُهُ؛ لَكِنْ فَاتَتهُ الفَضِيلَةُ. وَمِنهَا أَنَّهُ يُسَنُّ أَن يَقِفَ عَلَى الصَّفَا مُستَقبِلَ الكَعبَةِ وَيَذكُرَ اللهَ – تَعَالَى - بِهَذَا الذِّكرِ المَذكُورِ، وَيَدعُوَ وَيُكَرِّرَ الذِّكرَ وَالدُّعَاءَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
قَولُهُ: "ثُمَّ نَزَلَ إِلى المَروَةِ حَتَّى انصَبَّت قَدَمَاهُ في بَطنِ الوَادِي، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى المَروَة"، فِيهِ استِحبَابُ السَّعيِ الشَّدِيدِ في بَطنِ الوَادِي حَتَّى يَصعَدَ، ثُمَّ يَمشي بَاقِيَ المَسَافَةِ إِلى المَروَةِ عَلَى عَادَةِ مَشْيِهِ، وَلَو مَشَى في الجَمِيعِ أَو سَعَى في الجَمِيعِ أَجزَأَهُ وَفَاتَتهُ الفَضِيلَةُ.(/9)
قَولُهُ: "فَفَعَلَ عَلَى المَروَة مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا"، فِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ عَلَيهَا مِنَ الذِّكرِ وَالدُّعَاءِ وَالرُّقِيِّ مِثلُ مَا يُسَنُّ عَلَى الصَّفَا.
قَولُهُ: "حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى المَروَةِ"، فِيهِ دَلالَةٌ على أَنَّ الذَّهَابَ مِنَ الصَّفَا إِلى المَروَةِ يُحسَبُ مَرَّةً وَالرُّجُوعَ إِلى الصَّفَا ثَانِيَةً، وَالرُّجُوعَ إِلى المَروَةِ ثَالِثَةً وَهَكَذَا، فَيَكُونُ اِبتِدَاءُ السَّبعةِ مِنَ الصَّفَا، وَآخِرُهَا بِالمَروَةِ.
قَولُهُ: "فَحَلَّ النَّاس كُلُّهم وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِيَّ وَمَن كَانَ مَعَهُ هَديٌ"، المُرَادُ بِقَولِهِ: "حَلَّ النَّاس كُلُّهم" أَي: مُعظَمُهُم، وقَوْلُهُ: "وَقَصَّرُوا" أي: وَلم يَحلِقُوا مَعَ أَنَّ الحَلق أَفضَل؛ لأَنَّهُم أَرَادُوا أَن يَبقَى شَعرٌ يُحلَقُ في الحَجِّ، فَلَو حَلَقُوا لم يَبقَ شَعرٌ، فَكَانَ التَّقصِيرُ هُنَا أَحسَنَ لِيَحصُلَ في النُّسُكَينِ إِزَالَةُ شَعرٍ. وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ مَن سَاق الهَديَ لَزِمَهُ الحَجُّ قَارِنًا، ولم يجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ حتى يَبلُغَ الهَديُ مَحِلَّهُ، وَمَن لم يَسُقْهُ سُنَّ لَهُ التَّمَتُّعُ.
قَولُهُ: "فَلَمَّا كَانَ يَوم التَّروِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ"، فيه أنه يَنبَغِي لمنْ كَانَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الإِحرَامَ بِالحَجِّ أن يُحرِمَ يَومَ التَّروِيَةِ، وهُوَ الثَّامِنُ مِن ذِي الحِجَّةِ، وَفي هَذَا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَن لاَّ يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ إِلى مِنًى قَبلَ يَومِ التَّروِيَةِ.(/10)
قَولُهُ: "وَرَكِبَ النَّبِيُّ فَصَلَّى بِهَا الظُّهرَ وَالعَصرَ وَالمَغرِبَ وَالعِشَاءَ وَالفَجرَ"، فِيهِ بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَن يُصَلِّيَ بِمِنًى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الخَمس، وأَن يَبِيتَ بِمِنًى لَيلَةَ التَّاسِعِ مِن ذِي الحِجَّةِ، وَهَذَا المَبِيتُ سُنَّةٌ لَيسَ بِرُكنٍ وَلا وَاجِبٍ، فَلَو تَرَكَهُ فَلا دَم عَلَيهِ بِالإِجمَاعِ.
قَولُهُ: "ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمسُ"، فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَن لاَّ يَخرُجُوا مِن مِنًى إلى عرفاتٍ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمْسُ.
قَولُهُ: "وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِن شَعَرٍ تُضرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ"، فِيهِ استِحبَابُ النُّزُولِ بِنَمِرَةَ إِذَا ذَهَبُوا مِن مِنًى؛ لأَنَّ السُّنَّةَ أَن لاَّ يَدخُلُوا عَرَفَاتٍ إِلا بَعدَ زَوَالِ الشَّمسِ وَبَعدَ صَلاتي الظُّهرِ وَالعَصرِ جَمعًا، وَفيه جَوَازُ الاستِظلالِ لِلمُحرِمِ.
قَولُهُ: "وَلا تَشُكُّ قُرَيشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ كَمَا كَانَت قُرَيشٌ تَصنَعُ في الجَاهِلِيَّةِ"، مَعنَى هَذَا أَنَّ قُرَيشًا كَانَت في الجَاهِلِيَّةِ تَقِفُ بِالمَشعَرِ الحَرَامِ في المُزدَلِفَةِ، وَكَانَ سَائِرُ العَرَبِ يَتَجَاوَزُونَ المُزدَلِفَةَ وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَظَنَّت قُرَيشٌ أَنَّ النَّبِيَّ يَقِفُ في المَشعَرِ الحَرَامِ عَلَى عَادَتِهِم وَلا يَتَجَاوَزُهُ، فَتَجَاوَزَهُ النَّبِيُّ إِلى عَرَفَاتٍ؛ لأَنَّ الله – تَعَالى - أَمَرَ بِذَلِكَ في قَولِهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، أَي: سَائِرُ العَرَبِ غَير قُرَيشِ، وَإِنَّمَا كَانَت قُرَيشٌ تَقِفُ بِالمُزدَلِفَةِ لأَنَّهَا مِنَ الحَرَم، وَكَانُوا يَقُولُونَ: نَحنُ أَهلُ حَرَمِ اللهِ فَلا نَخرُجُ مِنهُ.(/11)
قَولُهُ: "فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ" أي: جَاوَزَ المُزدَلِفَةَ وَلم يَقِفْ بِهَا؛ بَل تَوَجَّهَ إِلى عَرَفَاتٍ.
قَولُهُ: "ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصرَ وَلم يُصَلِّ بَينهمَا شَيئًا"، فِيهِ أَنَّهُ يُشرَعُ الجَمْعُ بَينَ الظُّهرِ وَالعَصرِ في ذَلِكَ اليَومِ جمعَ تَقدِيمٍ، وَقَد أَجمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَيهِ.
قَولُهُ: "ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتَى المَوقِفَ فَجَعَلَ بَطنَ نَاقَتِهِ القَصوَاءِ إِلى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبلَ المُشَاةِ بَينَ يَدَيهِ، وَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمسُ وَذَهَبَتِ الصُّفرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ القُرصُ"، في هَذَا الفَصلِ مَسَائِلُ وَآدَابٌ لِلوُقُوفِ: مِنهَا أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاتَينِ عَجَّلَ الذَّهَابَ إِلى المَوقِفِ، وَمِنهَا استِحبَابُ استِقبَالِ القِبلَةِ في الوُقُوفِ، وَمِنهَا أَنَّ الوُقُوفَ حَتَّى تَغرُبَ الشَّمسُ وَيَتَحَقَّقَ كَمَالُ غُرُوبِهَا، ثُمَّ يُفِيضُ إِلى مُزدَلِفَةَ، فَلَو أَفَاضَ قَبلَ غُرُوبِ الشَّمسِ صَحَّ وُقُوفُهُ وَحَجُّهُ وَلَزِمَهُ دَمٌ. وَأَمَّا وَقتُ الوُقُوفِ فَهُوَ مَا بَينَ زَوَالِ الشَّمسِ يَومَ عَرَفَةَ وَطُلُوعِ الفَجرِ الثَّاني يَومَ النَّحرِ، فَمَن حَصَلَ بِعَرَفَاتٍ في جُزءٍ مِن هَذَا الزَّمَانِ صَحَّ وُقُوفُهُ، وَمَن فَاتَهُ ذَلِكَ فَاتَهُ الحَجُّ.
قَولُهُ: "يَقُولُ بِيَدِهِ: ((السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ))" أَي: الزَمُوا السَّكِينَةَ، وفِيهِ أَنَّ السَّكِينَةَ في الدَّفعِ مِن عَرَفَاتٍ سُنَّةٌ، فَإِذَا وَجَدَ فُرجَةً يُسرِعُ كَمَا ثَبَتَ في الحَدِيثِ الآخَرِ.(/12)
قَولُهُ: "حَتَّى أَتَى المُزدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا المَغرِبَ وَالعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَينِ، وَلم يُسَبِّحْ بَينَهمَا شَيئًا"، فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لِلدَّافِعِ مِن عَرَفَاتٍ أَن يجمَعَ بَينَ المغربِ والعِشاءِ في المُزدَلِفَةِ.
قَولُهُ: "ثُمَّ اضطَجَعَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى طَلَعَ الفَجرُ، فَصَلَّى الفَجرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبحُ"، فيه أَنَّ المَبِيتَ بِمُزدَلِفَةَ لَيلَةَ النَّحرِ بَعدَ الدَّفعِ مِن عَرَفَاتٍ نُسُكٌ، وَأنَّهُ يَبقَى بِالمُزدَلِفَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الصُّبحَ إِلاَّ الضَّعَفَةَ فَلَهُم الدَّفعُ قَبلَ الفَجرِ.
قَولُهُ: "ثُمَّ رَكِبَ القَصوَاءَ حَتَّى أَتَى المَشعَرَ الحَرَامَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسفَرَ جِدًّا وَدَفَعَ قَبل أَنْ تَطلُعَ الشَّمسُ"، فيه مَشرُوعِيَّةُ ما ذُكِرَ وَسُنِيَّةُ الدَّفعِ مِن مُزدَلِفَةَ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمسِ إذا أَسفَرَ جِدًّا.(/13)
قَولُهُ: "حَتَّى أَتَى الجَمرَةَ الَّتِي عِندَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنهَا مثلِ حَصَى الخَذفِ"، فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لِلحَاجِّ إِذَا دَفَعَ مِن مُزدَلِفَةَ فَوَصَلَ مِنًى أَن يَبدَأَ بِجَمرَةِ العَقَبَةِ وَلا يَفعَلَ شَيئًا قَبلَ رَميِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الرَّميَ بِسَبعِ حَصَيَاتٍ، فَلَو بَقِيَت مِنهُنَّ وَاحِدَة لم تَكفِهِ السِّتُّ، وَأَنَّ قَدرَهُنَّ بِقَدرِ حَصَى الخَذْفِ وَهُوَ نَحوَ حَبَّةِ البَاقِلاءِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ التَّكبِيرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ التَّفرِيقُ بَينَ الحَصَيَاتِ، فَإِنْ رَمَى السَّبعَ رَميَةً وَاحِدَةً حُسِبَ ذَلِكَ كُلُّهُ حَصَاةً وَاحِدَةً، لأنَّهُ قال: "يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ"، وهو تَصرِيحٌ بِأَنَّهُ رَمَى كُلَّ حَصَاةٍ وَحدَهَا.
قَولُهُ: "ثُمَّ انصَرَفَ إِلى المنَحرِ فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشرَكَهُ في هَديِهِ"، فِيهِ استِحبَابُ تَكثِيرِ الهَديِ، وَفِيهِ استِحبَابُ ذَبحِ المُهدِي هَديَهُ بِنَفسِهِ، وَجَوَازُ الاستِنَابَةِ فِيهِ، وَفِيهِ استِحبَابُ تَعجِيلِ ذَبحِ الهَدَايَا وَإِن كَانَت كَثِيرَةً في يَومِ النَّحرِ، وَمَكَّةُ كُلُّها مَنحَرٌ وَمَوضِعٌ لِلذَّبحِ.
قَولُهُ: "أَمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضعَةٍ فَجُعِلَت في قِدرٍ فَطُبِخَت، فَأَكَلا مِن لَحمِهَا وَشَرِبَا مِن مَرَقِهَا"، البَضعَةُ هِيَ القِطعَةُ مِنَ اللَّحمِ، وَفِيهِ استِحبَابُ الأَكلِ مِن هَديِ التَّطَوُّعِ وَأُضحِيَّتِهِ.(/14)
قَولُهُ: "ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ فَأَفَاضَ إِلى البَيتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهرَ"، هَذَا هُوَ طَوَافُ الإِفَاضَةِ، وَهُوَ رُكنٌ مِن أَركَانِ الحَجِّ بِإِجمَاعِ المُسلِمِينَ، وَأَوَّلُ وَقتِهِ مِن نِصفِ لَيلَةِ النَّحرِ، وَأَفضَلُهُ بَعدَ رَميِ جَمرَةِ العَقَبَةِ وَذَبحِ الهَديِ وَالحَلقِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ ضَحوَةَ يَومِ النَّحرِ، وَيَجُوزُ في جَمِيعِ يَوم النَّحرِ بِلا كَرَاهَةٍ، وَيُكرَهُ تَأخِيرُهُ عَنهُ بِلا عُذرٍ، وَتَأخِيرُهُ عَن أَيَّامِ التَّشرِيقِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَشَرطُهُ أَن يَكُونَ بَعدَ الوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لا يُشرَعُ في طَوَافِ الإِفَاضَةِ رَمَلٌ وَلا اضطِبَاعٌ.
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ – تعالى - وَأَطِيعُوهُ.(/15)
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَيَبقَى عَلَى الحَاجِّ بَعدَ يَومِ العِيدِ أَن يَبِيتَ بِمَنًى لَيلَةَ الحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانيَ عَشَرَ، وَلَيلَةَ الثَّالِثَ عَشَرَ لِمَن غَربَت عَلَيهِ الشَّمسُ وَهُوَ في مِنًى، وَهَذَا المبيتُ مِن وَاجِبَاتِ الحَجِّ، عَلَى مَن تَرَكَهُ دَمٌ، وَفي أَيَّامِ التَّشرِيقِ يَرمِي الحَاجُّ الجَمَرَاتِ الثَّلاثَ بَعدَ الزَّوَالِ، مُبتَدِئًا بِالجَمرَةِ الصُّغرَى وَهِيَ الشَّرقِيَّةُ، ثم الوُسطَى ثم العَقَبَةِ وَهِيَ أَقرَبَهُنَّ مِن مَكَّةَ، يَرمِي كُلَّ وَاحِدَةٍ بِسَبعِ حَصَيَاتٍ، وَهُوَ مِن وَاجِبَاتِ الحَجِّ أَيضًا، يَجبُرُهُ مَن تَرَكَهُ بِدَمٍ. وَيجُوزُ لِمَن كَانَ مَرِيضًا أَو ضَعِيفًا أَو صَغِيرًا أَن يُوَكِّلَ مَن يَرمِي عَنهُ، بِشَرطِ أَن يَكُونَ ذَلِكَ المُوَكَّلُ حَاجًّا، فَيرمِي عَن نَفسِهِ ثم عَن مُوَكِّلِهِ، فَإِذَا قَضَى الحَاجُّ مَا عَلَيهِ وَرَمَى الجَمَرَاتِ في يَومِ نَفرِهِ أَو رُمِيَت عَنهُ إِن لم يَستَطِعْ، وَجَبَ عَلَيهِ أَن يَطُوفَ بِالبَيتِ طَوَافَ الوَدَاعِ قَبلَ أَن يخرُجَ مِن مَكَّةَ، وَهُو مِن وَاجِبَاتِ الحَجِّ، وَعَلى مَن تَرَكَهُ دَمٌ، إِلاَّ أَن تَكُونَ امرأةً حَائِضًا فَلا وَدَاعَ عَلَيهَا؛ لما في الصَّحِيحَينِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا - قَالَ: "أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهدِهِم بِالبَيتِ إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ". وَيجُوزُ لِمَن أَخَّرَ طَوَافَ الإِفَاضَةِ أَن يَنوِيَهُ عَنِ الوَدَاعِ فَيُجزِئَهُ، وَيلزَمُ مَن كان مُتَمَتِّعًا أو كَانَ قَارِنًا أَو مُفرِدًا وَلم يَسعَ مَعَ طَوَافِ القُدُومِ أَن يَسعَى لِحَجِّهِ مَعَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ.
اللهم إنَّا نَسأَلُكَ أَن تُوَفِّقَنَا لما تحبُّ وَتَرضَى، وَأَن تَأخُذَ بِنَواصِينا لِلبرِّ وَالتَّقوَى.(/16)
العنوان: حجة الوداع مخالفة المشركين
رقم المقالة: 237
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ رب كل شيء ومليكه، خلق الإنس والجن لعبادته، وكلفهم بحمل أمانته، أحمده فهو أهل الحمد، وأشكره فلا أحد أحق منه بالشكر، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرع الشرائع، وفرض المناسك؛ سبيلا إلى مرضاته، وطريقا يبلغ العباد جناته. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا طريق إلى الله تعالى إلا طريقه، ولا سنة يجب لزومها إلا سنته؛ تحمل رسالة ربه فبلغها، ونصح لأمته فبشرها وأنذرها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروه فلا تعصوه؛ فإنه سبحانه مطلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية منكم (وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب).
أيها الناس :يفضل الزمان بما فيه من شعائر، ويفضل المكان بما يحويه من مشاعر، ويتفاضل البشر بتعظيم الحرمات، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، فكيف إذا اجتمعت فضيلة الزمان والمكان والأشخاص والأعمال؛كما وقع في أفضل حجة على الإطلاق، في أيام من أيام الله تعالى، وفي أقدس البقاع عنده، يؤم الناس فيها خاتم الرسل، وأفضل البشر، في جموع غفيرة من خيرة هذه الأمة، قد رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
لقد كانت حجة الوداع حدثا مهما في تاريخ الإسلام، خطب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر أصول الإسلام، وأوصى الناس، وبلغهم وأنذرهم، وأشهدهم على بلاغه فشهدوا، فكان ذلك توديعا منه لأمته؛ إذ ما لبث بعد حجته إلا ثلاثة أشهر أو أقل فلحق بالرفيق الأعلى، فعلم الناس أنه في حجه كان يودعهم. ورغم أن حجته صلى الله عليه وسلم كانت أياما معدودة فإنها حوت من البلاغ والدعوة، والعلم والتربية فصولا كثيرة، ألفت فيها كتب، وأفردت لها أبواب.(/1)
ومن أبرز المظاهر والشعائر في حجته صلى الله عليه وسلم تعمد مخالفة المشركين في هديهم وعبادتهم وحجهم، ووقع ذلك منه عليه الصلاة والسلام في فعلا مواطن عدة؛ وصدع به قولا في خطبة عرفة فقال عليه الصلاة والسلام :(ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة... وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) رواه مسلم وفي رواية أحمد (وإن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة).
كيف وهو عليه الصلاة والسلام من أبطل التلبية الشركية التي كانت شعار أهل الجاهلية؛ وأبدلها بالتوحيد الخالص لله تعالى؛ كما روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
(كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلكم قدٍ، قدٍ - أي يكفيكم هذا عن باقي تلبيتكم - فيقولون: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت) فأبطل تلبيتهم تلك بالتلبية الشرعية المعروفة، وأعاد الحج على أصوله التي أذن بها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام؛ كما روى أبو داود من حديث عمرو بن عبد الله بن صفوان عن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة في مكان يباعده عمرو عن الإمام فقال: أما إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، يقول لكم: قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم)(/2)
وذكر عليه الصلاة والسلام تتابع الأنبياء عليهم السلام لإحياء الشعائر العظيمة في المشاعر المقدسة فذكر موسى وعيسى ويونس؛ كما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بوادي الأزرق - ويبعد عن مكة بميلين - فقال: أي واد هذا ؟ فقالوا: هذا وادي الأزرق، قال: كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية، ثم أتى على ثنية هَرْشَى فقال: أي ثنية هذه ؟ قالوا: ثنية هرشى، قال: كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف خطام ناقته خَلْبَة وهو يلبي) رواه مسلم
وفي حج عيسى عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما) رواه مسلم
لقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم دين المشركين في الحج؛ وأعاد مناسكه على مقتضى أذان إبراهيم عليه السلام، وسنن الأنبياء بعده، وظهر ذلك في مواطن عدة؛ ففي العمرة كان المشركون يحرمون العمرة في أشهر الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع مرات كلهن في ذي القعدة وهو من أشهر الحج، بل في حجته عليه الصلاة والسلام أمر الناس أن يحولوا نسكهم إلى عمرة، ثم يحرمون بالحج بعد ذلك؛ كما روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفر ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل قال الحل كله).(/3)
ولما حاضت عائشة رضي الله عنها في حجة الوداع فجعلت نسكها حجا، وقالت: (يا رسول الله، كل أصحابك يرجع بحج وعمرة غيري) أمرها بالعمرة بعد حجها، وكان ذلك عظيما في دين المشركين، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما : (والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم) رواه أبو داود
وفي الطواف كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحُمْس، والحمس قريش وما ولدت، سموا بذلك لما شددوا على أنفسهم، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لا يأكلون لحما، ولا يضربون وبرا ولا شعرا، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم، وكان الناس غيرهم يطوفون بالبيت عراة إلا أن يعطيهم أحد من قريش ثيابا، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وفي الوقوف بعرفة كانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة وكان الناس كلهم يبلغون عرفات... فأنزل الله عز وجل فيهم (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) قالت عائشة رضي الله عنها: (كان الناس يفيضون من عرفات وكان الحمس يفيضون من المزدلفة يقولون: لا نفيض إلا من الحرم فلما نزلت (أفيضوا من حيث أفاض الناس) رجعوا إلى عرفات)
وسبب فعلهم هذا: أن الشيطان قد استهواهم فقال لهم: إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانوا لا يخرجون من الحرم، ويقولون: نحن أهل الله لا نخرج من الحرم، وكان سائر الناس يقف بعرفة.(/4)
وخالفهم عليه الصلاة والسلام في النفرة من عرفة، وفي الدفع من مزدلفة؛ إذ كانوا ينفرون من عرفة قبل الغروب، ويدفعون من مزدلفة بعد الشروق؛ فنفر النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة بعد الغروب، ودفع من مزدلفة قبيل الشروق؛ كما روى المسور ابن مخرمة رضي الله عنه فقال :(خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:أما بعد فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هاهنا عند غروب الشمس حين تكون الشمس على رؤوس الجبال مثلَ عمائم الرجال على رؤوسها، فهدينا مخالف لهديهم، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها فهدينا مخالف لهديهم) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين.
وروى عمرو بن ميمون رضي الله عنه فقال :(شهدت عمر رضي الله عنه صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وإن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس) رواه البخاري
وكان من مبالغته عليه الصلاة والسلام في مخالفة المشركين ومراغمتهم، وإبطال دينهم، أنه كان يقصد الأماكن التي تواصوا فيها على الشرك ومحاربة الدعوة، ويقيم فيها معالم التوحيد، ويشكر الله تعالى على ما من به عليه من ظهور دينه، وإعلاء كلمته، ودحر الكفر وأهله.
ومن ذلك أنه جمع قريشا إبان صدعه بدعوته، وصعد الصفا، وقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال: أبو لهب :تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟! وبعد سنوات من هذه الحادثة يصعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا في حجته حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير،لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) رواه مسلم.(/5)
ونزل في حجته في المكان الذي تقاسم فيه المشركون وتعاهدوا على مقطعة قرابة النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يسلموه للمشركين؛ كما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى: (نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر... وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :قيل إنما أختار النبي صلى الله عليه وسلم النزول في ذلك الموضع ليتذكر ما كانوا فيه فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم، وتمكنهم من دخول مكة ظاهرا على رغم أنف من سعى في إخراجه منها، ومبالغة في الصفح عن الذين أساءوا، ومقابلتهم بالمن والإحسان ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وصدق الله العظيم إذ يقول : (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)
أسأل الله تعالى أن يستعملنا فيما يرضيه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه سميع قريب، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين..
أما بعد : فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).(/6)
أيها المسلمون: كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يحب موافقة أهل الكتاب، لما معهم من الكتاب، ويقصد مخالفة المشركين؛ لأنهم عباد أوثان؛ فأهل الكتاب أقرب إليهم منهم، ولذا كانوا يفرحون بانتصار الروم على فارس، وكان المشركون يفرحون بانتصار فارس على الروم؛ لأنهم أهل وثنية مثلهم.
فلما كملت أحكام الإسلام، واستقرت شرائعه؛ قصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة عموم الكفار، وحذر من توليهم، ومن التشبه بهم، سواء كانوا أهل كتاب أم عباد أوثان.
إن من طبيعة الخرافة سرعة سريانها في الناس، ومن طبائع البشر تناقل العادات والأخلاق والشعائر بينهم، والدين لا يكون دينا صحيحا يقرب إلى الله تعالى إلا بحفظه من عبث العابثين، وتحريف المحرفين؛ ولذا جاءت الشريعة شديدة وحاسمة في أمرين عظيمين:الابتداع في الدين، والتشبه بالكافرين، فمنعتهما وأوصدت السبل إليهما؛ لأن من شأن البدعة أن تغير معالم الملة، ومن أثر التشبه متابعة المتشبه به في هديه وسمته، وأخلاقه وعاداته، إلى أن يصل إلى التشبه به في شعائر دينه، كالأعياد والانحناء عند التحية واتخاذ الصلبان وغير ذلك.
والهجمة الشرسة على الإسلام الحق وأهله من قبل الكفار والمنافقين، تسلك هذين المسارين : نشر البدعة، والدعوة إلى التشبه، أما نشر البدعة فبالسماح للمبتدعة بإظهار شعائرها لتضاهي الشعائر المحمدية، والدعوة إليها تحت شعار الحرية الدينية، وأما الدعوة إلى التشبه فتأخذ أشكالا عدة من موافقة الكافرين في طرائقهم السياسية والاقتصادية ولو كان فيها ما فيها من تقديم المصالح الدنيوية على الأحكام الشرعية، إلى استنساخ موادهم الإعلامية الموبؤة بما لا يعرفه العرب لا في جاهلية ولا إسلام، حتى يبلغ أحقر الأشياء وأتفهها كتقليدهم في أزيائهم وتسريحات شعورهم وتربيتهم لكلابهم.(/7)
ولو أن من وقعوا في هذا الضلال الذي يلغي الشريعة الربانية ويخالف الهدي النبوي قصروه على أنفسهم لكان إثمه عليهم، ولكنهم يجاهرون به أمام الناس، ويدعونهم إليه، ويحابون من يحذر من اتباعهم في طريقهم الخاطئة، بل بلغوا مبلغا شنيعا حين طالبوا بتبديل شريعة الله تعالى، أو إجراء تعديلات عليها؛ لتوافق أهواءهم وأهواء الكافرين من ورائهم؛ حتى قال القائلون منهم إن باستطاعتهم جمع الشذوذات الفقهية ليشكل منها إسلام ليبرالي لا وجود فيه لمحرمات البتة سوى المحرمات الليبرالية، ولا واجبات مفروضة غير الحرية.
إنه ضلال عظيم، وإثم مبين، وحيدة عن شريعة الله تعالى التي ارتضاها لعباده المؤمنين، وليس السلام متضررا من ذلك لأنه محفوظ بأمر رب العالمين، ولن تزال طائفة من المسلمين على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم إلى أن ينزل المسيح ابن مريم عليه السلام، ولكن الضرر العظيم على أغرار المسلمين وجهلتهم من رجال ونساء وأطفال، زين في نفوسهم هذا الانحلال من الشريعة، وسوغ بمسوغات الشذوذ الفقهي، على أيدي المفتونين في دينهم. وإن الواجب على كل من آتاه الله تعالى أثرة من علم، وحظا من فقه ودعوة، حماية الناس من هذا الضلال الذي ينشر في أوساطهم بفضحه وبيان بطلانه، والتحذير من دعاته وأزلامه، كما يجب على كل مسلم ألا يسلم عقله لكل متكلم وكاتب؛ بحجة أنه يميز الحق من الباطل؛ فإن الشبهات ترد على القلوب شيئا شيئا حتى تفتك بها، والذين ألحدوا من أبناء المسلمين ما كان إلحاد الواحد منهم في يوم وليلة، وإنما بعد كم كبير من الشبهات والشهوات التي تشربوها، واستسلموا لها فآلت بهم إلى الخروج عن الإسلام إلى الإلحاد، نسأل الله تعالى العصمة والسلامة.(/8)
كما يجب على الآباء والأمهات تربية أولادهم على التسليم لأوامر الشريعة، والإذعان لها دون جدال ومناقشة؛ لأن الجدل في دين الله تعالى منهي عنه، وذلك خلاف ما يقرره أهل الشك والارتياب والإلحاد من تقريرهم الشك في كل شيء ومن ثم مناقشته، والتحاور فيه، حتى قالوا بلزوم الشك في وجود الله تبارك وتعالى، وفتح أبواب المناقشة والحوار في ذلك، على طريقة المتزندقين من قدماء الفلاسفة، نعوذ بالله تعالى منهم ومن مناهجهم المنحرفة، ونسأله العصمة من الزيغ والضلال، كما نسأله الثبات على الحق إلى الممات.(/9)
العنوان: حجيَّة أحاديثِ الآحاد في العقائد والأحكام
رقم المقالة: 2026
صاحب المقالة: د. علاء بكر
-----------------------------------------
حجيَّة أحاديثِ الآحاد في العقائد والأحكام
من أساليب المتكلِّمين الَّتي يُبَرِّرونَ لأَنْفُسِهم بها نَبْذَ الكتاب والسُّنة زَعْمُهُم أنَّ حديثَ الآحاد لا يُحْتَجُّ به في العقائد، فيُسقِطون السنَّة النبويَّة من حساباتهم في إثبات أمور العقيدة والتوحيد؛ إذ إنَّ أكْثَرَ السُّنَّة النبوية آحاد، والمتواتِر منها بالنسبة إلى الآحاد قليل.
وحُجَّتُهم: أنَّ الأحاديثَ المُتَواتِرة تُفِيد القَطْع واليقين؛ فيُحتجُّ بها، وأحاديثَ الآحاد – على كثرتها – ظنيَّةٌ تفيد العلم الظنِّيَّ لا اليقينيَّ؛ فيُعمَل بها في الأحكام لا في العقائد؛ إذ إن الشرع نهى عنِ اتِّباع الظنِّ والأخْذِ به.
وحديث الآحاد هو: كلُّ حديث لم يَبلُغْ حدَّ التَّواتُر، حتَّى وإن كان مستفيضًا، حتَّى وإن كان صحيحًا مِمَّا اتَّفق عليه البخاريُّ ومسلمٌ، وتلقَّتْهُ الأُمَّةُ عنهما بالقَبول.
والمحصّلة: نَبْذ أكثر السّنَّة النبويَّة، وقَصْر الاحتجاج في أغلب مسائل العقيدة والتوحيد على القرآن وَحْدَهُ، مع تقديم أقوالِ المُتَكلِّمين وآرائهم على الآيات عند تعارِضُهما في الأذهان، مستخدمينَ التأويلَ لصرف المعاني عن ظاهرها لتُوافِق مذاهب المتكلمين.
والصواب: أنَّ أحاديثَ الآحادِ الصحيحةَ حُجَّةٌ بِنَفْسِها في العقائد والأحكام، لا يُفَرَّقُ بينها وبين الأحاديث المتواترة، وعلى هذا جرى علماء الأمَّة جِيلاً بعد جِيل[1]، والتفريق بين الأحاديث المتواترة والآحاد في الاحتجاج في العقائد باطل من وجوه، منها:(/1)
1- أنَّ هذا القول قول مُبتدَع مُحْدَث، لا أصل له في الشريعة، لم يعرفه السلف الصالح - رضوان الله عليهم - ولم ينقل عن أحد منهم، ولا خطر لهم على بال[2]، وفي الحديث: ((من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))؛ متفق عليه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم ومُحْدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار))؛ رواه أحمد، وأصحاب السنن، والبيهقي، والجملة الأخيرة منه عند النسائي، والبيهقي، بإسناد صحيح.
وإنما قال هذه المقالة جماعة من علماء الكلام، وأخذ بها من تأثَّر بهم من علماء الأصول من المتأخرين، وتلقَّاها عنهم بعض المُعاصرين بالتسليم دون مناقشة أو برهان.
وما هَكَذَا شَأْنُ العَقِيدة خاصَّةً مِمَّن يَشْتَرِطُون لِثُبوتِ مَسائِلِها بثبوتها بأدلَّة قطعيَّة عندهم. وأعجب من ذلك وأَغْرب ادّعاء اتّفاق الأُصُولِيّين على الأخْذ بذلك، وهي دعوى باطلة، وجُرْأة زائدة، فكيف يكون الاتّفاق على ذلك وقد نصَّ على أنَّ خبر الآحاد يُفيد العلم - كما يفيد العمل - الإمامُ مالك، والشافعي، وأصحابُ أبي حنيفة، وداودُ بن علي، وابنُ حزم[3]، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي، وغيرهم[4].
قال ابن خويز منداد في كتاب "أصول الفقه" وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يَرْوِهِ إلاَّ الواحد والاثنان: ويقع بهذا الضرْبِ أيضًا العِلْم الضروري، نص على ذلك مالك، وقال أحمد في حديث الرؤية: "نعلم أنها حق، ونقطع على العلم بها"، وقال القاضي أبو يَعْلَى في أوَّل "المخبر": "خبر الواحد يُوجِب العلم إذا صحَّ سَنَدُه، ولم تختَلِفِ الرواية فيه، وتلقَّتْهُ الأُمَّة بالقَبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه، وأنه يوجب العلم، وإن لم تتلقَّهُ الأُمَّةُ بِالقبول".
قال: "والمذهب على ما حكيت لا غير".(/2)
وقال بذلك أبو إسحاق الشيرازي في كتبه في الأصول؛ كـ"التبصرة"، و"شرح اللمع" وغيرهما، ولفظه في "الشرح": "وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل، سواء عمل به الكل أو البعض"، ولم يحك فيه نزاعًا بين أصحاب الشافعي، وحكى هذا القول القاضي عبدالوهاب من المالكيَّة عن جماعة من الفقهاء، وذكره أبو بكر الرازي في كتابه "أصول الفقه"[5].
2– أنَّ الشَّرْعَ دَلَّ على أخْذِ العِلْمِ من الأفراد والجماعات الناقلين له قال – تعالى -: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، والطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والإنذار إعلام بما يُفيد العلم، والتبليغ لأمور الشرع من عقيدة وغيرها بلا فرق.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وفي قراءة: {فَتَثَبَّتُوا}، ومفهوم الآية قَبول خَبَر الوَاحِد الثقة.
وفي الأحاديث الحث على تبليغ ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فلازم ذلك قبول خبره من الواحد، طالما أنه من طريق صحيح[6].
فإن قيل: أحاديث الآحاد تفيد الظن والشرع نهى عن اتباع الظن[7]، فجوابه: هذا في الظن المَرْجُوح الذي لا يُفيد عِلْمًا، فيكون قائمًا على الهَوَى، مُخَالِفًا للشرع، وليست أحاديث الآحاد من ذلك في شيء؛ بل هي من الشرع.
ولازم ذلك رد العمل بأحاديث الآحاد في الأحكام والمعاملات، إذا اعتبرناها من الظن المنهِيّ عن الأخذ به شرعًا. وهذا باطل غاية البُطلان.
وعلى هذا نقول:
أين الدليل الذي يُعْتَدّ به على تَرْك العمل بحديث الآحاد في العقائد والتوحيد؟! هل ثبت ذلك بآية قرآنية أو حديث نبوي صحيح؟!(/3)
وهل ثبت عن الصحابة - رضي الله عنهم - العمل بذلك أو التصريح به؟!
وهل ثبت عن أحدٍ من الصحابة ردُّ ما أخبره به أحدُهم من أحاديثَ نبوية، تضمن أمورًا عقائدية؟ وهل فعل ذلك أحد من أئمة التابعين ومن بعدهم؟
إننا نجزم - بلا شك - أنه ما من أحدٍ من الصحابة أو التابعين، أو أئمة الهدى رَدَّ خبر الواحد الذي يتضمَّن أمورًا عقائدية؛ بل كانوا يتقبلون الخبر بالقَبول واليقين، طالما ثبتَتْ صحته؛ كما في أحاديث الرؤية، وتكليم الله، وندائه، ونزوله في ثلث الليل الأخير كل ليلة... إلخ.
3 – أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((بَلِّغُوا عني))؛ متفق عليه، ومن بَلَّغ عنه فقد أقام الحجَّة على المبلغ، وحصل له بذلك العلم، وادّعاء أنَّ العلم والحجة لا تقوم بإخبار المبلِّغ، ما كان للأمر بذلك معنى.
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُرْسِل الوَاحِد من أصحابه؛ يبلغ عنه، فتقوم الحجة بذلك على مَنْ بَلّغه[8].
وقد أرسل - صلى الله عليه وسلم – عليًّا، ومعاذًا، وأبا موسى - رضي الله عنهم - في أوقات مختلفة إلى اليمن؛ يُبلّغُون عنه؛ ويُعلِّمُون الناس الدين، وأهمُّ شيء في الدين إنما هو العقيدة.
وهذا دليلٌ قاطِع على أنَّ العقيدة تَثْبُت بخبر الواحد، وتقوم به الحجَّة على الناس، وإلا ما اكتفى - صلى الله عليه وسلم – بِمُفْرَدِه، ولأرسل معه من يَتواتر به النقل.
4 – أنَّ القول المذكور يستلزم اختلاف المسلمين فيما يجب عليهم اعتقاده، فيكون الحديث حجة في حقِّ الصحابي، باطلاً مردودًا في حق من بعده، فالصحابي الذي سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - حَصَل له اليقين بما سَمِع، واعتقد ذلك عن يقين.
ومن جاء بعده فلم يقبل قول هذا الصحابي؛ لكونه حديث آحاد لا يرى هذا الاعتقاد ويرده، وما ثبت تواتُرًا في زمن التابعين، ولم يثبت بعدهم متواترًا اختلف الاعتقاد بين الزمنين.. وهكذا.(/4)
ومن لوازم ذلك أن حديث الصحابي كان صدقًا وحجة في حق الصحابي، ويعد باطلاً ومردودًا في أزمان بعده.
ومِن لوَازِم ذلك رَدّ كلِّ ما رواه الصحابة مباشرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور الاعتقاد، إذا لم ينقل عنهم متواترًا، ويبقى إثبات ما كان فيها من اعتقادات أخَذَهَا الصحابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - كأفراد على وصول عقول المتكلمين إلى إدراكها وإثباتها.
5 – أن القول المذكور من لوازمه أن لا يُكْتَفَى بإخبار الوَاحِد من علماء الحديث، بأن هذا الحديث مُتواتِر، إذ إنه خبره عن تواتر الحديث خبر آحاد لا يُحْتَجّ به؛ أي أنه لا يحتج إلا بما شَهِد بتواتره جميع الناس، لا واحد أو قِلة من أهل الاختصاص، ومثل هذا لا يتيسر لكل أحد أن يثبت شهادة الجميع بتواتر الحديث، إما لنقص العلم عنده، أو لعدم الاطلاع على كتب أكثر أهل الحديث.
ويزيد الأمر غرابةً أنَّ هؤلاء المتكلمينَ أبعد الناس عن تعلم الحديث، ومُطَالَعة كُتُبِ علمائه، وبضاعتهم فيه مزجاة، ويفوتهم من أقوال المحدثين الكثير والكثير[9].
وأعجب من ذلك: ذمهم للتقليد في أمور العقيدة، وهم في علم الحديث لا يملكون إلا التقليد فيه.
6 – فإن قيل: حديث الآحاد يفيد الظن، ويحتمل الخطأ فيه، عمدًا أو سهوًا، أو بعدم ضبط في النقل ونحوه، وما كان هذا صفته لا تؤخذ منه عقائد. فوجب ترك العمل بحديث الآحاد لذلك. والجواب: هذا مردود من وجهينِ:
الأول: إجْمَاع السلف على قَبول أحاديث الآحاد في العقائد، وإثبات صفات الرب تعالى، والأمور الغيبية العلمية بها.
الثاني: هذا الادِّعاء يُوجِب أيضًا طَرح العمل بأحاديث الآحاد في الأحكام، والفرعيات لنفس العلة، وهذا باطل؛ فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا هذا، فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها، جاز عليهم ذلك في نقل غيرها، وحينئذ فلا وثوق بشيء نُقِل لنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذا انسلاخ من الدين.(/5)
قال ابن القيم - رحمه الله -: ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها؛ كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطَّلَبِيَّة بها، فما الفرق بين باب الطَّلَب وباب الخبر، بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تَزَل تحتج بهذه الأحاديث في الخَبَرِيَّات، كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولا سيما الأحكام العملية: تتضمَّن الخبر عن الله بأنه شَرَّع كذا، وأوجبه ورضيه دينًا، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، وأهل الحديث، والسنة، يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات، والقدر، والأسماء، والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم ألبتة أنه جَوَّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلف المفرقين بين البابين؟
نعم سلفهم بعض مُتأخِّري المتكلمين، الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه؛ بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين، وقواعد المتكلفين، فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرينِ، وادعوا الإجماع على هذا التفريق، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعًا عن إمام من أئمة المسلمين، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، وهذا عادة أهل الكلام، يحكون الإجماع على ما لم يقله أحد من أئمة المسلمين؛ بل أئمة المسلمين على خلافه. اهـ[10].
7 – أن مآل الأَخْذ بهذا القول، هو الاقْتِصار في العقيدة على ما جاء به القرآن، وترك العمل في العقائد بالأحاديث النبوية، وعدم الاعْتِداد بما جاء فيها من الأمور الغَيْبِيَّة.
فإن أكثر الأحاديث النبوية آحادٌ، والمتواتر منها قليل بالنسبة إلى الآحاد، والمُتواتِر اللفظي منها أقل، والمتواتر المعنوي إنما تختلف ألفاظه وتتفاوت، والناس يختلفون في إثبات هذا المُتواتِر ويتفاوتون.(/6)
ويشهد لذلك أنَّ هؤلاء المتكلمينَ لا تجدهم يثبتون أمرًا عقائديًّا مستدلينَ بثبوته متواترًا عند علماء الحديث، فَهُم أبعد الناس عن الأخْذ بذلك؛ لأنهم أجهل الناس بالأحاديث وطُرُقها، وأزْهَد الناس في الاشتغال بها وطلبها، ولذلك تراهُم يحكمون على أحاديث أنها من الآحاد، وهي عند أهل العلم بالحديث من المتواتر.
وأغْرب من ذلك وأَعْجَبُ ادّعاء بعضهم أنه لا حاجة إلى السنة في أمور العقيدة، وأنه لم يثبت في أحاديث الآحاد ما تنفرد السنة به في أمور العقيدة، والأعْجَب تصديق البعض ذلك والأخذ به، يقول أحدهم: "وليس في العقائد ما انفرد الحديث بإثباته"[11]. ويقول في موضع آخر: "وقد قرر مؤلف "المقاصد": أن جميع أحاديث أشراط الساعة آحادية"[12]. فهذا بوضوح ما انتهى به الأمر بالنسبة لهؤلاء القائلينَ بعدم الأخذ بأحاديث في العقائد أن نبذوا السنة النبوية كلها من الناحية العملية.
8 – أنَّ كثيرًا من العقائد الإسلامية التي تَلَقَّتْها الأُمَّة عن السَّلَف، وتلقت أحاديثها بالقبول، هي من الآحاد، وتَرْكُ العمل بأحاديث الآحاد تَرْكٌ لهذه العقائد الإسلامية الثابتة، وتخطئة للسلف في اعتقادها، واتخاذها دينًا، وأن يكون إسلامنا غير إسلامهم، وعقائدنا غير عقائدهم[13].
ومن أمثلة هذه العقائد السلفية:
1- أفضليَّة نبيّنا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - على جميع الأنبياء والرسل.
2- إثبات الشفاعة للنَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - العُظْمَى في المحشر، وشفاعته لأهل الكبائر من أمته.
3- مُعْجزاته - صلى الله عليه وسلم – المادية، ما عدا القرآن الكريم.
4- ما ورد في الأحاديث عن بدء الخلق، وصفة الملائكة والجن، وصفة الجنة والنار، وأنَّهما مخلوقتان الآن.
5- القَطْع بأن العشرة المبشرين بالجنة من أهل الجنة.
6- الإيمان بالميزان ذي الكِفَّتينِ يوم القيامة.
7- الإيمان بحَوْضِه - صلى الله عليه وسلم – الكوثر، وأن من شَرِب منه لم يظمأ أبدًا.(/7)
8- الإيمان بالقلم، وأنه كتب كل شيء.
9- الإيمان بأن الله حَرَّمَ على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
10- الإيمان بأشراط الساعة: كخروج المهدِي، وظهور الدجال، ونزول عيسى عليه السلام... إلخ.
11- الإيمان بعروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات العُلَى، ورؤيته لآيات الله – تعالى - الكُبْرَى فيها.
وكما كان السَّلَف الصالح لا يُقَدّمون الاجتهادات العقليَّة على الأدلة الشرعية في مسائل العقيدة والتوحيد، فقد كانوا كذلك لا يُقَدّمون الاجتهادات الفقهيَّة على الأدلة الشرعية في مسائل الفقه وقضاياه، لذا فقد كان منهجهم في ذلك اتباع الأحكام الفقهية المبنية على الكتاب والسنة، وتَرْك ما عداها من آراء الفقهاء المخالفة للكتاب والسنة، وهم في ذلك كله يرَوْن العذر للمجتهدين المخالفينَ، لا يجعلون ردَّ أقوالِهم قَدْحًا في إمامتهم وعلْمِهم وصلاحهم[14]، ولكن لا يرَوْن عُذْرًا لمن قَلَّد الأئمة في آرائهم التي اتَّضَحَ بِجَلاءٍ مُخالَفَتُها للكتاب والسنة، ولم يكن من منهج السلف التقيُّد بإمام معين في كل فتاويه، والاجتهاد عندهم واجب على من قدر عليه واستكمل أدواته. "فالعامي له أن يُقَلِّد مَنْ غلب على ظنه أنه من أهل العلم والدين، أما العالم فعليه أن يأخذ بالأرجح"، لذا ينبغي "أن يدرس ما دَوَّنَهُ الأئمة الأربعة وغيرهم دون تعصُّب لرأي أحد منهم"[15].
والأئمة أنفسهم حثوا تلاميذهم وأتباعهم على تقديم الكتاب والسنة على اجتهاداتهم وآرائهم إذا تبينت المخالفة.
فعن الشافعي قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث، واضربوا بكلامي الحائط".
وعن الإمام أحمد: "ليس لأحد مع الله ورسوله كلام".
وعن الإمام مالك: "ما من أحد إلا ومأخوذ من كلامه ومردود عليه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وعن أبي حنيفة: "لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي".
فائدة:
تنقسم الأحكام الشرعية إلى:(/8)
1- أحكام قطعيَّة يقينية، وهي بدورها تنقسم إلى:
أ – أحكامٌ قطعيَّة لا يجهلها أحد من المسلمين: لاستفاضة العلم بها بين العامة والخاصة، كوجوب صوم رمضان؛ ووُجُوبِ الصلوات الخمس؛ وحُرْمَة الخمر؛ وحُرْمة الزنا؛ ووجوب الغُسْلِ من الجنابة، وهذه الأحكام تسمى: المعلوم من الدين بالضرورة، فمن خالف هذا المعلوم من الدين يكفر كفر عين.
ب – أحكام قطعيَّة لا يعلَمُها إلا الخاصَّة من العلماء، ويجهَلُهَا الكثير من العامة: كحرمة زواج المرأة وخالتها؛ أو المرأة وعمتها؛ وأن للجدة السُّدس في الميراث؛ وأنَّ القاتل عمدًا لا يرث؛ وهذه الأحكام مع كونِها قطعية فمن يخالفها لا يكفر؛ حتى تُقام عليه الحجة التي يكفر مخالفُها.
نقل الإمام النووي في شرحِه على "صحيح مسلم" عن الإمام الخطَّابي أنه قال بعد ذكره أن مانِعِي الزَّكاة في عَهْدِ أَبِي بكر - رضِيَ الله عنه - هم أهل بغي: "فإن قيل كيف تأوَّلْتَ أمر الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه الذي ذكرت، وجعلتهم أهل بغي؟ وهل إذا أنكرَتْ طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة، وامتنعوا عن أدائِها، يكون حكمهم حكم أهل البغي؟ قلنا: لا، فإنَّ مَنْ أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافرًا بإجماع المسلمينَ، والفَرْق بين هؤلاءِ وأولئك أنَّهم إنما عُذِروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلُها في هذا الزمان، منها: قُرْبُ العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنَّسْخ؛ ومنها أنَّ القوم كانوا جُهَّالاً بأمور الدين، وكان عهدهم بالإسلام قريبًا، فدَخَلَتْهُمُ الشبهة فعُذِرُوا.(/9)
فأمَّا اليَوْمَ وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاصّ والعامّ، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئًا مما أجمعت الأمَّة عليه من أمور الدين، إذا كان علمه مُنتشرًا؛ كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان؛ والاغتسال من الجنابة؛ وتحريم الزنا؛ ونكاح ذوات المحارِمِ، ونَحْوِها من الأحكام إلا أن يكون رجُلاً حديث عَهْد بالإسلام، ولا يَعْرِفُ حُدوده، فإنَّه إذا أنكر شيئًا منها جهلاً به لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه.
أما ما كان الإجماع فيه معلومًا من طريق علم الخاصة؛ كتحريم زواج المرأة على عمَّتها وخالتها، وأنَّ القاتِلَ عمدًا لا يرث؛ وأنَّ لِلجَدَّةِ السُّدُس، وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر؛ بل يُعْذَر فيها لعدم استفاضة علمها في العامَّة. اهـ. كلام الخطابي رحمه الله.
2- أحكام ظنية غير قطعية:
والأحكام الظنية التي تَلقَّتْها الأمة بالقبول مَنْ يخالفها يُعدّ مُبتدِعًا، يُعامَل مُعاملة المبتدعينَ في الدين.
ومَنْ خالف الحديث الصحيح فهو مُخْطِئٌ يُنْكَر عليه، ولا يُعتدّ بخلافه؛ لكونه من الخلاف غير السائغ، وليس له الدليل المعتبر؛ بل هو مخالف لما صحَّ من الدليل.
---
[1] راجع في ذلك للأهمية:
- "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام"، و"وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والرد على شبه المخالفين"، كلاهما للشيخ الألباني رحمه الله.
- "الفتاوى" لابن تيمية: جـ 18/16، ج 20/ 257.
- "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم، ج 2/ 357 – 379، ج 2/ 420 – 434.
- "إحكام الأحكام" لابن حزم: ج 1 / 119 – 133.
- "الرسالة" للشافعي: 401 – 403.
[2] رد خبر الآحاد في العقائد مذهب المعتزلة، وتابعهم عليه الأشاعرة والماتريدية.(/10)
[3] راجع "إحكام الأحكام" لابن حزم ج 1/ 119 – 138 حيث ذكر في الاحتجاج على ذلك أدلة كثيرة قوية.
[4] "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة للألباني": ط. دار العلم بنها: ص 23.
[5] المصدر السابق: ص23 – 25.
[6] والآيات والأحاديث الموجبة للأخذ بما جاء به القرآن الكريم والسنة الشريفة عامة وشاملة للمتواتر والآحاد بلا فرق، وفي العقائد والأحكام بلا فرق. وكفى بها حجة ظاهرة لا سبيل إلى دفعها إلا الهوى ومناصرة المتكلمين، وانظر في ذلك كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي.
[7] قال - تعالى -: في حق المشركين {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].
[8] وانظر "الرسالة" للشافعي في مبعوثيه صلى الله عليه وسلم: ص 414 – 419.
[9] ويدل على شدة جهلهم بالحديث المتواتر: إنكار تواتر بعض الأحاديث المعلوم تواترها عند علماء الحديث والمشتغلين به؛ كنزول الله – تعالى - إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة؛ وكرؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة؛ ونزول المسيح - عليه السلام - في آخر الزَّمَان، وظهور الدجال... إلخ.
[10] "الصواعق المرسلة" لابن القيم: ج 2 / 412 – 417.
[11] "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة" للألباني: ص 35، نقلاً عن "الإسلام عقيدة وشريعة" للشيخ محمود شلتوت ص 431.
[12] المصدر السابق: ص 36 نقلاً عن الشيخ شلتوت ص 61.
[13] راجع في ذلك "وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة" للشيخ الألباني - رحمه الله -: ص 36 – 39.
- وراجع لمزيد من التوسع في هذه القضية:
- "أخبار الآحاد في الحديث النبوي" للشيخ عبدالله بن جبرين.
- "أصل الاعتقاد": دكتور عمر الأشقر.
- "الأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد في الأحكام والعقائد" لسليم الهلالي.
[14] انظر: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لابن تيمية.
[15] المرجع السابق.(/11)
العنوان: حديث عبد الرحمن بن سمرة في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - عجبا
رقم المقالة: 769
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي يسر للسالكين إليه الطرق والأسباب وفتح لهم من خزائن الأعمال الصالحة وما يقرب إليه كل باب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بلا ارتياب وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي من الله به على المؤمنين يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الحكمة والكتاب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله برحمته وإحسانه يسر لكم إلى الخير طرقاً وأسباباً وفتح لكم إلى خزائنها أبواباً فاستبقوا الخيرات وخذوا من كل قسط منها بنصيب وافر تحمد عقباه في الحياة والممات واستمعوا إلى هذا الحديث العظيم الذي رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه ورؤيا الأنبياء حق ووحي قال عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في صفة بالمدينة فقال: (إني رأيت البارحة عجباً رأيت رجلاً من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فطرد الشياطين عنه ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءه صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما دنا من حوض منع وطرد فجاءه صيام رمضان فأسقاه وأرواه ورأيت رجلاً من أمتي ورأيت النبيين جلوساً حلقاً حلقاً كلما دنا إلى حلقة طرد ومنع فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي ورأيت رجلاً من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة وهو متحير في ذلك فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور ورأيت رجلاً من أمتي يتقي وهج النار وشررها فجاءته صدقته فصارت ستراً بينه وبين النار وظلاً على رأسه ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلته لرحمه فقالت يا معشر المؤمنين إنه كان وصولا لرحمه فكلموه فكلمه المؤمنون وصافحوه ورأيت رجلاً من أمتي احتوشته الزبانية فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه وبينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل ورأيت رجلاً من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله عز وجل(/2)
فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه فجاءه افراطه فثقلوا ميزانه ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم فجاءه رجاؤه في الله عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلاً من أمتي قد هوى في النار فجاءته دمعته التي قد بكاها من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف فجاءه حسن ظنه في الله فسكن رعدته ومضى ورأيت رجلاً من أمتي يزحف على الصراط يحبو أحياناً ويتعلق أحياناً فجاءته صلاته علي فأقامته على قدميه وأنقذته ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة)).
فهذا أيها المسلمون حديث عظيم بين فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رآه في الأعمال الصالحات المنجية من العذاب فخذوا من كل واحدة منها بنصيب واعلموا أن للصدقة في أيام الحاجة وأيام الشتاء شأناً كبيراً فإن الصدقة كلما كانت أنفع للخلق وأخلص للرب كانت أفضل وأعظم أجراً فتفقدوا إخوانكم الفقراء وجودوا عليهم مما جاد الله به عليكم: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خيراً وَأَعْظَمَ أَجْراً}.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/3)
العنوان: حذارِ أن تُخدع فتُسلب منك غنيمةُ رمضان!
رقم المقالة: 1533
صاحب المقالة: د. عبدالرزاق مرزوكَ
-----------------------------------------
حذارِ أن تُخدَع فتسلب منك غنيمةُ رمضان الثمينة؛ فإن عدوك المسلسَل قد أُرسِل من قيده، وخرج من سجنه ناقمًا يتوعد؛ يبغيك الفتنة ويتلصص، ويسعى في إغوائك مستميتًا يتربص.. عساه يظفر بك، فحذار أن تصير أنت إلى سجنه؛ في رقيقه وسبيه!..
الحمدُ لله الغني الشاكر، والصلاةُ والسلام على أقربِ عباده إليه، وأولاهم بفضله الوافر، وعلى آله وصحبه، وكل عابدٍ على الطاعة صابر.
وبعدُ، فإنَّ شهرَ رمضان لا ينتهي إلا وموعظتُه جلية بارزة، وذكراه داخل قلب المؤمن مستقرة نافذة؛ إنه هدية الرحمن -جل وعلا- لعبيده كي يزيد الأوابين شرفًا وعزًّا، ويفسح للطامعين في غفرانه سبيل الإنابة تذكيرًا لهم ونصحًا، ويقطع الطريق على عدوهم كي لا ينسيهم كرامتهم على بارئهم؛ فيظفر من دونه بعهدهم وولايتهم.
وقد قال تعالى مبرزًا فضل ما هداهم إليه: {.. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]؛ فهذه غاية تشريع الصيام المثلى؛ إذا ضمت إلى الغاية الأولى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ظهر وجهُ التأكيد للزوم حذر العبد أن يغبن فيما أتى، ويحرم مما كسب؛ فيبطل عمله، ويمضي صيامه وقيامه سدى.
ولا يخفى أن من لوازم شكر الله تعالى على نعمه أن لا تستعمل في موجبات مقته وسخطه، ولذلك قالوا في تعريف الشكر: "رؤية المنعم لا رؤية النعمة"، فإذا رأيت المنعم من خلال نعمته استحضرتَ مدى جلاله وعظمته، وأن ما أصابك من فضله مجرد حلمه وإحسانه، فشق عليك مقابلةُ برِّه بعصيانه.(/1)
وأقل نعم الله على الصائم إعانته على الصيام والقيام، وشرح صدره للذكر والتقوى والتوبة والإنابة، وتوفيقه للعمل الصالح، وإتمام فرحته بالعيد، فأقل ما يشكر به لربه هذه النعمة السابغة اغتنامه لأثرها وهي في قلبه وسلوكه غضة ماثلة قبل أن تزحزحها الغفلة فتندرس، وتصير ذكريات فارغة، وصورًا عابرة، فإن انتباه العبد حال السماع وحضور الواعظ ليس كانتباهه بعد ذهابه وانقطاع وعظه، وقد صور الإمامُ ابن الجوزي -رحمه الله- هذا المعنى أحسنَ تصوير وفسره أبلغَ تفسير؛ فقال:
"قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القساوة والغفلة، فتدبرت السبب في ذلك فعرفتُه، ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفته من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها؛ لسببين:
أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائِها إيلامَها وقت وقوعها.
والثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة؛ قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها، وكيف يصح أن يكون كما كان؟". [صيد الخاطر : ص 9–10].
وكذلك حال الصائم؛ فإن صيامَه يحملُه على تعظيم شعائر التعبد، وصيانتها أن تخدش أو يفسدها بركوب محرم، فيكون أشرحَ صدرًا، وأرقَّ قلبًا، وأكثر خشوعًا ووقارًا، وأسرعَ إلى الخيرات، وأحرَصَ على الاستقامة والتقوى، فإذا أفطر قلَّ -ميولا مع الطبع- خشوعُه، وخف اتعاظُه وإقباله.
لكن الصائمين ليسوا من هذا الوجه على حال واحدة؛
فمنهم من ينمحي أثرُ اتعاظه بصيامه بانقطاعه.
ومنهم من تجتذبه أسباب الغفلة حينًا، فيميلُ مع طبعه ورعونة نفسه، وتقيمه أسباب اليقظة حينًا فيتعظ ويستقيم.(/2)
ومنهم اللابث على حال اليقظة الأولى؛ قد لازم أثرُ الصيام قلبَه؛ فألِفَت جوارحُه دوامَ الامتثال، وخبَرَ حلاوةَ التقوى، وعرَف أن بها حياةَ قلبه، وفيها ربيعَه ونعيمَه؛ فلم يقدر على فراقها، وعلق همه بالحظوظ الآجلة الباقية؛ فشق عليه إيثارُ الحظوظ العاجلة الزائلة...
فهو على سبيل الرضى والثبات واليقين ماضٍ لا يلتفت إلى الوراء؛ قد أدرك أن ربه المعبود في رمضان لا يزال ربًّا واحدًا حيًّا حسيبًا رقيبًا بعد رمضان، وأن صيامَه كان أشبه بمنزل نزله في أثناء سيره الموصل إلى بارئه ومولاه، ثم استأنف المسير بعد التزود وتجديد الاستعداد.
وأدرك أيضا أن ربه الذي فرض عليه الصيامَ هو نفسُه الذي فرضَ عليه الصلاةَ والحج والزكاة، وسائر الشعائر والطاعات؛ فهو رب واحد، شرع ملة حنيفية واحدة؛ لا يسعُ المنتسبَ إليها إلا التحلي بخصال شرعتها المتماسكة كلبِن البنيان، والتجلل بلبوسها الشامل السابغ، فلا ينفعه طلب الاستقامة بإتيان شعيرة دون أخرى، وإلا كان كمن أجهد نفسه في تحصيل ثمن ثوب جميل نفيس؛ فلما قطعه وخاطه ليلبسه جعله ضيقًا قصيرًا؛ فلا هو ستر نفسه بما يلبس، ولا هو استمتع بجماله وبهائه.
وأدرك أيضا أن غضب الله الذي كان يخشاه في رمضان لا يمنعه انقضاؤه؛ لأن تعلقه بالمعصية متى كانت.
وأدرك أيضًا أن ما حصله من ثواب الصيام والقيام غنيمةٌ نفيسة؛ من الغبن الأعظم إهدارُها، فيلزمه رعايتُها وصيانتها كي لا تصير غنيمةً باردة للشيطان يستعيض بها عما فاته أيام الحبس والتصفيد؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ، ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَن يُغْفَرَ لَهُ) [هداية الرواة -887].(/3)
وأدرك أيضا أن موسم الطاعة ليس ثلاثين يومًا، وإنما العمر كله، وأن يوم العيد أشبه ما يكون بيوم العرض على الرب عز وجل، فالناس فيه بين فائز فرح بلقاء ربه، وخاسر محروم من رحمته ورضوانه....
فمثل لانقضاء عمرك أيها الفطن اللبيب بانقضاء شهر رمضان، فلن يلبث حتى يفوت؛ فتفاجأ بسرعة انقضائه كما فوجئت بسرعة انقضاء رمضان..!، أو لعلك لا تعيش حتى تدرك رمضان السنة القابلة..!.
وراجع حالك، واعرض على ربك حظك المذخور وقدر مآلك، ثم انظر هل بلَّغك زادُك الذي جمَعتَ ما تفرح به الفرحَ الحقيقي المقيم، وتنال به جوار ربك العلي الرحيم؛ كما قال عز وجل : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]؟..
أم هي فرحة أخلصتها للأكل والشراب، وزائل الشهوات، وقريب الأغراض، وداني الشؤون والرغبات؟!...
وإلا فاعلم أن للمسيء الخامل الكسول فرحةً، وللقاعد عن جلب الغنيمة الشريفة الباقية نشاطًا وسَرحة؛ يراها بعين المغرور دوحةً مِحْلالا، وهي وعد إبليس المكذوب وأمنيته المسمومة؛ كما قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ..} [التوبة: 81].
فهل يفرح بمقعده خلافَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا المستنكفُ الجهول؛ المؤثر للحرمان والخذلان؟!..، ثم قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا..} إشارةً إلى أن وراءَ فرحِهِ الموقوت بكاءً مستمرًا، وحسرة شديدة، وندمًا طويلا.
وللغافل الناسي المستهين بالعظات والبينات فرحة؛ كما قال تعالى –يصف مصير أهل هذه الحال-: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].(/4)
فكم ممن يرى رمضان قاطعًا للهوه وزهوه، فإذا خرج فرِح بخروجه فرَحَ الخصم الناقم، واستبشر استبشارَ من كان واجمًا مسجونًا، ثم ينهمك فيما كان فيه، وهو لا يدري أن تمكينَه مما يشتهي استدراجٌ من الجبار جل وعلا؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه-: (إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ؛ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ)، ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذا هُم مُّبْلِسُونَ) [حسن الحافظ إسناده في (هداية الرواة: 5129)، وهو أيضا في (الصحيحة: 413)].
وقال الزمخشري -رحمه الله-: "لم يزيدوا على الفرح والبطر من غير انتداب لشكر، ولا تصد لتوبة واعتذار" [الكشاف 2/22].
فاختر لنفسك يا من صُمْت خلال شهر رمضان وقمت، وبكرت إلى المسجد مواظبًا على أداء الصلاة مع الجماعة، وعزمت على هجر صحبة السوء، والشروع في توبة نصوح؛ ترجو عفو الله وستره...
اختر لنفسك بين فرحتين: فرحةِ محسن مقيم على إرضاء مولاه؛ صام وقام وسارع إلى الخيرات؛ فازداد حبا لله، وأنسًا بكتابه، وتعلقا بمرضاته..
وفرحةِ مسيء مغرور لم يَرْعَوِ ببيناته وهداه، لم يزَل صارفُ التسويف ينسيه الذكرى ويُقصيه إلى أن يُحرَم ذريعة الاستدراك، فيقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ)، ثم يقال له (كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.(/5)
العنوان: حراسة الحسبة أولى من حراسة المحتسبين!
رقم المقالة: 993
صاحب المقالة: أحمد بن موسى الفارس
-----------------------------------------
بادئَ بدءٍ لعلَّ ناظرا في هذه المقالة ينفِر من عنوانها، ويستوحش من محتواها، ويربأ برجال الحسبة عن الخطأ؛ فإن كثيراً من الناس – ومنهم مع الأسف بعض الخاصة من المثقفين وطلبة العلوم الشرعية أيضا - لا يميزون في نقدهم بين المبدأ وصاحبِه، أو بين الفعل وفاعلِه؛ أو بعبارة أخرى بين الأفكار والرجالِ والأحداث، وإن ادَّعَوا ذلك بالأقوال فإنها تكاد تكون شبه معدومة بالأفعال، فالحقيقة قد يقولُها من لا يبحثُ عنها، والباطل قد يتلبَّس به من هو من أكثرُ الناس تنفيرا عنه، وقديما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: اقبَلوا الحق ممن جاء به ولو كان كافرا! قالوا: أما المسلم فقد عرَفنا، ولكن كيف نقبله من الكافر؟ قال معاذ: إنَّ على الحق نورا.(/1)
إذا كان ذلك كذلك فلا يمنعُنا مخالفةُ المخالف لنا في الوجهة والمشرب من أن نقبل صوابه، وقد أخبرنا معاذ رضي الله عنه أن على الحق نورا، إلا أن الظلام الذي نراه أو نصنعه حول المخالف يجعلنا لا نراه، فإذا أردنا – وكنا صادقين مع أنفسنا - أن نرى هذا النور فلا بد – كما ذكرت أول المقالة – من أن نفرق بين القائل وقوله، والراوي وروايته، ورأيه أيضا إذا أحببنا، ومن جهة أخرى لا يمنعنا خطأ المصلح من أن نقول له: أخطأتَ؛ ولا يُعَد هذا تجنيا على الحق، ولا زرايةً بأهل الصلاح، ولا تشويها لسمعة أهل الخير، كما أنه في الوقت ذاته لا يعد إعانة لأهل الباطل على أهل الحق. وقد رد الخطيبُ البغدادي رحمه الله قولَ بعض أهل العلم حين اعتذر عن بيان بعض أخطاء أحد العلماء بقوله: أخشى أن يسقط أمام الناس!. فعلق الخطيب على ذلك: لكن حراسة العلم أولى من حراسة العالم! وها هم أولاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم قادةُ الأنام، ومعادِنُ العلم، وينابيع الحكمة، وأَولَى البشر بكل فضيلة، وأقربُهم من التوفيق والعصمة؛ ما منهم إلا وقد بدا منه هفوةٌ، أو وقع في زلة، وقد رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وتبرأ أمام الناس من قتل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أسرى بني جذيمة، وقد ضرب عمر - رضي الله عنه - بالدِّرة رأسَ عمرو بن العاص، وقال للمصري: والله لولا صلعةُ أبيه لما تجرأ عليك ابنه!. وما كان هذا تقليلا من شأن الأمراء، ولا تنقصا من أقدار ذوي الهيئات أمام العامة.(/2)
على أننا لا نقول: إن رجال الهيئة قد وقعوا في الطوام أو ارتكبوا العظائم، بل حالُهم في ذلك حال غيرهم، بل لو انتقلنا إلى غيرهم من الفئات لوجدنا الأعين تطرف على الأجذاع، ولكن زلة المتدين يضرب لها الطبل! وهذا الإسراف في الخصومة والظلم في المعارضة من بعض وسائل الإعلام لا يجوز أن يقابَل بمثله من قبل رجال الحسبة أو المدافعين عنها؛ إذ إنهم أولا وأخيرا رجالُ دين ودعاة إصلاح يرجون الله واليوم الآخر، ومن أجل ذلك خاطبناهم بهذه المقالة، وفي الوقت نفسه لا نخليهم من المسئولية، ولا ندعهم من العذل؛ إذ هذا من النصيحة التي أوجبها الله على عامة المسلمين.
وما سبب هذه الهالة التي أهيلت على رجال الحسبة إلا لأمرين:
أولهما: شرف وظيفتهم، وارتباطها بالدين مما جعل لها هيبة في القلوب ومكانة في النفوس؛ استغلها بعضُ رجال الحسبة في الاستطالة على بعض من أنكر عليهم بجهل وتعصب أحيانا، والتعصب يعمي ويصم!(/3)
والأمر الثاني: أنهم واجهوا أهواء الناس وشهواتهم؛ والناس بطبعهم لا يحبون من يخالفُ هواهم في الجملة، وهذا الأمر الثاني هو محل الإجلال والإكبار لرجال الحسبة إذا تأمل المنصف؛ إذ ضحَّوا من أجل ذلك بأوقاتهم وراحة بالهم وبسمعتهم؛ في حين رضي بعضُ العلماء – ويشاركهم المثقفون والكتاب - بالجلوس خلف المكاتب يعالجون الأوراقَ والكتب متخصصين في الإنكار الفكري كما يقال، وينكرون من مكان بعيد، وأنى لبعيد أن يدركَ ما يدركُ القريبُ، وكما قلت: إن الاحتساب عمل ميداني، من لم يجرب مضايقَه لم يكشف حقائقه، وهذا الإنكارُ من مكان بعيد جعلهم لا يدركون الأمرَ من جميع جوانبه في بعض الأحيان، فينكرون برأيهم ما رآه الناسُ بعيونهم، ثم إذا جاءوا يردون على مبالغات بعض الصحفيين أخذوا يتحدثون عن فضيلة الحسبة، ومكانها في الدين، وأنها سفينة النجاة، وأنها الركن السادس من أركان الإسلام، وهذا كله حق، والذين يجادلون في هذا المسلمات غير مخاطبين بهذه المقالة أصالة؛ وتجدهم متجاوزين الأخطاءَ الحقيقية الواقعة وغير المقصودة من بعض رجال الحسبة كالقبض على الظن، والاشتباك على الشبهة، ثم قد يتطور الأمر إلى العراك والملاسنة، ثم إلى الدخول فيما يأنف منه الفضلاءُ ويترفع عنه العقلاء ويأباه الحُر الرشيد؛ ثم هم إذا جاءوا في معرِض ذكر الإنجازات أو تسويغ بعض التصرفات المذكورة آنفا تراهم خلعوا مسوح الوعظ والإرشاد إلى المحامي الرسمي المعين من قبل أنفسهم قائلين بأن الهيئة جهاز من أجهزة الدولة؛ له ما لها وعليه ما عليها، وهذه العبارة الأخيرة تكون باللسان دون القلب أحيانا؛ أفلا ترون بعض الذابين عن رجال الحسبة أخذوا يتهمون الناقدين لرجال الحسبة بأنهم من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا... إلخ، وهذا الأسلوب بالذات - وهو غير حميد إذا كان لإبطال الحق - يُلقي على بعض الناس الذين لا يفرقون بين الدين والرجال عدمَ الخوض في هذه القضايا ولو(/4)
حتى بالنصيحة؛ هيبةً من المساس بشعائر الدين، ومما يجعل أيضا البعض الآخر الذين قل حظهم من التدين يتجرأ على الدين نفسه إذا كان هذا هو الطريق الوحيد لنقد رجال الحسبة، وهم - أعني رجال الحسبة - الذين اضطروهم إلى ذلك، وهذا التعصب للرأي جعل بعضَ المواقع الإخبارية ذات الحضور الكبير تعمل تصويتا لا على تحجيم الهيئة بل على إلغائها بالكلية، مما يدل على أن الرحى الدائرة أصبحت تصفيةَ حسابات، وردَّ اعتبار، وإلغاءَ وجود؛ هؤلاء باسم الدفاع عن الدين، وأولئك باسم الدفاع عن المجتمع؛ كأن الدين ما أتى إلا ليقيِّد المجتمعَ، وكأن الاحتسابَ حكرٌ على فئة معينة هي فئة المعصومين. وما أَولَى رجالَ الحسبة والذابين عنهم بتدبر ما أقول؛ فإن كان حقا تلقَّوه بقلب سليم، وإن كان باطلا ردُّوه بالحجة والبرهان؛ فإن ذلك أبلغ في النصرة، وأوجب للعذر، وأشفى للقلوب، وقد يظن من لا يعلم من الناس أو لا يضع الأمورَ مواضعَها أن هذا النقد مما يفرح به الأعداءُ ويهَشُّ له المتربصون، وليس كما ظنوا؛ إذ لا يصح ولا يجوز أن نتوانى عن النصيحة أو نداهن بها بحجة استغلال بعض الأطراف المعادية لها في التشنيع والسخرية، فهؤلاء مع الأسف لم يألوا جهدا في الإغماض عن الحسنات وتكبير الزلات مما يغنيهم عن الاستعانة بمثل هذه الانتقادات، ولا أدلَّ على ذلك مما فعله ذلك المذيعُ عندما أراد أن يعمل استفتاء مباشرا على الهواء عن رجال الحسبة، فكان أول سؤال بدأ به: ما أسوأ موقف مر معك من رجال الحسبة؟!
فهل رأيتم عمى بعد هذا العمى؟ وهل سمعتم بخصومة مثل هذه الخصومة؟
وليس هذا بغريب مع انقلاب الأحوال وتغير الزمان.
والله المستعان.(/5)
العنوان: حرية الإبداع تطول الثوابت
رقم المقالة: 861
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
حرية الإبداع تطول الثوابت
(محاكم تفتيش جديدة!)
يزداد في الأدب العربي الحداثي عددُ المتطاولين على الأديان والمعتقَدات، بل على الذات الإلهيَّة والأنبياء، يوماً بعد يوم.
لقد صار ذلك (تقليعة) أو(كالتقليعة) في أدب حداثِيِّي اليوم، وهم يتسابقون إليها متباهين، كلٌّ يريد أن يبزَّ الآخرين، وأن يبدعَ في فتح قاموس البذاءة والسبِّ والمجاهرة بالاعتداء على كلِّ ما هو ثابتٌ مقدَّس في ثقافة هذه الأمَّة.
ومنذ أن هَذَى "نيتشة" بعبارة (موت الله) تلقَّفها مئات الببغاوات في الشرق والغرب، وأُعجب بهذا الفتح طائفةٌ من حداثيِّي الشعراء عندنا، حتى صار من (رواسم) الشعر العربيِّ الموسوم بالحداثة أن يردِّد شعراؤه - تعالى الله علوّاً كبيراً - أمثالَ: إن الله مات، أو قُتل، أو صُلب، أو أنه سجين، أو كسيح، أو مشرَّد، أو كاذب، أو مجنون، أو هَزيل، أو أنه يَبكي، وينام، ويرقص، ويتعرَّى، أو أنه ضائعٌ، وأعمى، وقاس موحش، وخائب أحمق[1]، وغير ذلك من هذه العبارات التي يندى لها جبينُ مَن في قلبه ذرَّةٌ من إيمان أو حياء، ولولا أن ناقلَ الفحش ليس بفاحش - إذا كان ما ينقله ليدلَّ به على أهله - لما أوردت حرفاً من ذلك.
كما أن طائفةً من سُذَّج هذه الأمة يَحسُن تنبيهُهم على الخافي عنهم من تجديف هؤلاء القوم وتُرَّهاتهم التي لا تدلُّ على إفلاسهم الفنيِّ والفكري فحسب، ولكنها تدلُّ كذلك على إفلاسهم الروحي.(/1)
أكتب هذا الكلام بمناسبة القصيدة التي نشرها - أخيراً - الشاعر المصريُّ حلمي سالم بعنوان "شُرفة ليلى مُراد"، ونشرها في مجلة "إبداع" التي يرأس تحريرَها الشاعر المصريُّ المعروف أحمد عبد المعطي حجازي، وهي - على طريقة حلمي سالم، وعلى طريقة ما تنشره مجلة "إبداع" - فيها الكثيرُ من العبث العقدي، والاستخفاف الديني اللذَين أصبحا - كما ذكرنا - مَلمحاً رئيساً من ملامح شعر الحداثة.
لقد أثارت هذه القصيدةُ ضجَّةً كبرى أرادها صاحبها - من غير شك - من هذه الطريق السهلة، وهي إثارة الآخرين، واستفزازُ مشاعرهم الدينية، وقد أدَّى ذلك إلى مصادرة العدد بعد صدوره، واحتجَّ على ذلك رئيس التحرير، ورفض قرارَ إيقاف توزيع المجلَّة، وأصرَّ على توزيع ما تبقى منها، وهاجم هو وحلمي سالم أولئك الرجعيِّين، السلفيِّين، الأصوليِّين، المتزمِّتين؛ لأنهم لم يباركوا هذا الإبداع؛ الذي يتطاولُ على الذات الإلهية، ويخرجُ على الأعراف السائدة، بل عدوا مجرَّدَ الاحتجاج على مثل هذه النماذج داخلاً - بتعبير حلمي سالم - في نطاق محاكم تفتيش جديدة في تاريخنا العربي.
وأعادت بعضُ الصحف - نكايةً بمشاعر المسلمين، وتحدِّياً لحسِّهم الديني - نشرَ القصيدة، كجريدة العربيِّ التي يُصدرها الحزب العربي الديمقراطي الناصري في مصر، وقد صدَّرَتها بالقول: ((نتحدَّى الرقابة، ومصادرة الإبداع، وننشر قصيدةَ حلمي سالم الممنوعة. ولأننا في جريدة العربية مقتنعون تماماً بحرية الفكر والإبداع ننشر في مُلحقنا الثقافي قصيدةَ حلمي سالم "شُرفة ليلى مُراد" التي تم بسببها مصادرةُ العدد الأول من الإصدار الثالث لمجلة "إبداع" تحت زعم أنها تُسيء للذات الإلهية))[2].(/2)
وأستميح القارئ الكريم عذراً أن أوردَ على أسماعه بعضاً من مقاطع هذا المسمَّى شعراً ليرى الإبداعَ الذي فيه أولاً، ثم الاستهانة الدينية والعقدية ثانياً، ثم ليتحقَّق ثالثاً من زعم أولئك الجهلة الذين رأَوا أنها تُسيء للذات الإلهية!
يقول الشاعر المذكور في رائعته "شُرفة ليلى مُراد": وهي المطربة المصرية اليهودية المشهورة:
طائرات
البيوتُ تأكلها الرطوبة
لذلك يُطلقون الطائرات الورقيَّة
على السطوح
ليُثبتوا بها المنازل على الأرض
حراسة
ليس من حلٍّ أمامي
سوى أن أستدعيَ الله والأنبياء
ليشاركوني في حراسة الجثة
فقد تخونني شهوتي
أو يخذلني النقص
وفي مقطع آخرَ من هذا الشعر يحلِّق الشاعر في سماء الإبداع! فيأتي بهذه التحفة!!:
الأحرار..
الربُّ ليس شرطياً
حتى يمسك الجناةَ من قفاهم
إنما هو قروي يزغط البط
ويجس ضَرع البقرة بأصابعه صائحاً:
وافرٌ هذا اللبن
الجناةُ أحرار؛ لأنهم امتحاننا
الذي يضعه الربُّ آخرَ كل فصل
قبل أن يؤلِّف سورة البقرة
الطائر
الربُّ ليس عسكريَّ مرور
إن هو إلا طائر
وعلى كلِّ واحد منا تجهيز العنق
لماذا تعتبين عليه رفرفته فوق الرؤوس؟
هل تريدين منه
أن يمشي بعصاه
في شارع زكريا أحمد
ينظِّم السير
ويعذب المرسيدس؟
إن هذا السَّفهَ الفكريَّ والفنيَّ هو -كما ذكرنا- كثيرٌ كثرةً لافتة للنظر في أدب الحداثة، بل إن الحداثةَ عند طائفة من الكبراء والمشهورين لا تكون إلا كذلك:
اكتب كلاماً ركيكاً سفيهاً لا معنى له، واحشُهُ بالغمز واللمز في الذات الإلهية والأنبياء، وبعبارات الفحش والجنس والخمر والعهر وتدنيس المقدَّس، تصبح شاعراً حداثياً.
وتبدو وراء هذه النزعة اللادينية واللاأخلاقية التي تتفشَّى تفشِّياً فاقعاً في الأدب الحديث اليوم -لاسيما عند الكبراء والمشهورين وداخلي جُحر الضبِّ وراءهم -مجموعةٌ من العوامل:
1 - ارتباطُ الحداثة التي أذاعها هؤلاء الكبراء بالإلحاد ومعاداة القيم والأخلاق.(/3)
2 - التقليد واتِّباع (الموضة)؛ إذ أصبح هذا الهجومُ المنكر على المقدَّسات، وهذا الاجتراء على العقائد والأديان (تقليعةً) يدخل أصحابها بها -فيما يعتقدون- بيتَ الإبداع الحقيقيِّ من أوسع أبوابه.
3 - وهمُ الحرية المدَّعى الذي أصبح شعاراً يرفعه بعضُ المفكرين والأدباء، للترويج فقط لكلِّ شاذ محرَّم هجين، إن الحريةَ لا يُطالَب بها إلا لأولئك المنحرفين وحدَهم الذين يريدون إبداعاً لا يحوطه أيُّ سور من الدين أو الأخلاق، أو يرعى للأمَّة ذمة أو عهداً، وأما إذا طالب قومٌ آخرون بأدب هادف نبيل ينطلق من عقيدة الأمَّة وتصوُّراتها الفكرية صارت الحرية محرَّمة عليهم، ومُورِس عليهم القمعُ والإقصاء.
ولكن الزَّبَدَ يذهب جُفاء، وأما ما ينفعُ الناس فهو الخالدُ الدائم الذي يمكُث في الأرض.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر نماذج كثيرة في كتاب "خطاب الحداثة في الأدب "للدكتور وليد القصاب، والدكتور جمال الشحيد "دار الفكر، دمشق: 2005م، ص209.
[2] انظر صحيفة "العربي" جريدة الحزب العربي الديمقراطي الناصري القاهرة (العدد: 1054) بتاريخ: 15/4/2007م.(/4)
العنوان: حرية الدنمارك بين الأنف واليد
رقم المقالة: 639
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
إن السخرية والاستهزاء والتنقُّص للأنبياء، الذي جاهرت به بعض الصحف الدنماركية، برسومها الكاريكاتورية، تنبئ عن حقيقة مصداقية بعض الدول الغربية، وتشكك في نواياها فيما يتعلق بالتزامها بقوانين الحقوق المدنية والسياسية، أو حقوق الإنسان عموماً.
وكذلك فإنه يفضح المعيار المزدوج الذي تتعامل به الدولة التي نصبت نفسها مسؤولاً عن احترام الحريات الدينية في العالم.
لقد جاء في التقرير السنوي الأمريكي عن الحريات الدينية في العالم عام 2004م، ما نصه: "وتعترف الولايات المتحدة بمسؤوليتها الخاصة فيما يتعلق باحترام تلك المعايير، في الحفاظ على الحرية الدينية، وفي حمايتها"[1].
وأكد ذلك الرئيس جورج بوش عام 2005م؛ إذ نُقل عنه ما معناه: "على الرغم من تقدم الولايات المتحدة بسبب الحرية، نذكِّر أن الحرية ليست هدية أمريكا إلى العالم، لكنها هدية الله إلى كل رجل وامرأة في هذا العالم. هذه الحقيقة تقود جهودنا لمساعدة الناس، ليحرزوا حريةً دينيةً في كل مكان"[2].
فهم يزعمون إذاً أنهم مبعوثون من قِبَل الله؛ من أجل الحفاظ على الحريات الدينية وحمايتها.
فما رصيد هذا الزعم من التطبيق العملي؟
لنأخذ الدنمارك التي تزايدت فيها الإساءة لنبي الإسلام ولدينه في السنوات الثلاث الأخيرة، وبالأخص بعد عرض فلم الخضوع (Submission) - الذي أساء إلى الإسلام - أواخر عام 2004م، وكان قد أثار موجة احتجاجات إسلامية حينما صدر في هولندا، أسفرت عن مقتل مخرجه ثيو فان جوخ (Theo Van Gogh) في أحد شوارع أمستردام، في بداية عام 2004م.(/1)
وعلى الرغم من ذلك، جاء التقرير الأمريكي الأخير للحريات مليئاً بالمفارقات، أو النفاق السياسي - على حدِّ قول البعض - فقد أكَّد أن الدستور الدنماركي يعزِّز الحرية الدينية، ويحترم الحق الديني عموماً، وأنه لم يكن هناك تغير في مكانة احترام الحرية الدينية أثناء المدة التي غطاها التقرير، وأن الحكومة واصلت سياستها في تعزيز حرية ممارسة الدين.
على أن التقرير أشار إلى اشتراط الدستور- عندهم - أن يكون الملك الحاكم عضواً في الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، وأن الكنيسة اللوثرية الإنجيلية هي المجموعة الدينية الوحيدة التي يمكن أن تتسلم الإعانات المالية أو الأموال الرسمية مباشرةً من الضرائب، وذكر - أيضاً - أن 12% تقريباً من دخل الكنيسة يجيء من الإعانات المالية الرسمية.
ولم ينس التقرير أن يشير إلى حالات مسجلة مما يسمى بحوادث معاداة السامية، مع أن الحكومة الدنماركية حققت في بعضها، وأدانت المسؤولين عنها.
وكذلك نشرت مقالاً شاركت به السفارة الأمريكية في تقرير معاداة السامية يناير 2005م، وذلك في صحيفة كريستيليج داجبلاد (Kristelig Dagblad) اليومية الوطنية، وهي الصحيفة الدينية الوحيدة بالدنمارك، أكَّدت فيه على حاجة الحكومات إلى اتخاذ خطوات صلبة لمعالجة قضية العداء للسامية، المتزايدة في أوروبا وروسيا - على حدِّ وصف التقرير.
المفارقات في تطبيق قوانيين الحريات:(/2)
الشاهد مما سبق: بيان الاختلاف بين المكاييل التي تكيل بها بعض الدول، التي تزعم رعاية الحرية، وابتعاث الله لها لأجل صيانتها، فبينما تُدرِج دولاً كالسودان ضمن القائمة السوداء، مع أنه لم ينص دستورها على ما نص عليه دستور الدنمارك في شأن الحاكم، ولا أُثبتت فيها حالات اضطهاد لأجل الدين لنصارى أو وثنيين، ولا يُعرف نص في مواد أحكامها يأذن بدعم المسلمين على حساب غيرهم[3]، تُشيد هنا بالتزام الدنمارك بالحريات الدينية، وفي غير موضع، وبينما يُنص على أن حكومة السودان تضيِّق باب بناء الكنائس وتجديدها؛ لا يُشار إلى تضييق الدنماركيين على أصحاب ثاني أكبر ديانة عندهم في بناء المساجد وتجديدها!.
وبينما توضع المملكة العربية السعودية ضمن قائمة الدول التي لا تحترم الحريات الدينية؛ تغفل الدنمارك، مع أن الأخيرة يُهزأ فيها بنبيٍّ ودينٍ جهاراً، والأولى لو تجرأ فيها مسلم فسخر من المسيح – عليه السلام - لتعرض لأشد العقاب؛ فما لهم كيف يحكمون!.
ومن جهة أخرى: يتعرض التقرير لقضية معاداة السامية، على الرغم من جهود الدنمارك في هذا الصدد، وعلى الرغم من محاسبة الدولة لبعض المدانين في مثل هذه القضية، وعلى الرغم من أن اليهود شرذمة لا يتعدى تعدادها السبعة آلاف نسمة في الدنمارك، بينما يُعْرِض عن الإساءات التي يتعرض لها الإسلام ثاني أكبر دين بالبلاد - وكذلك المسلمون - عبر وسائل الإعلام المرئية والمقروءة!.
بل يُعَرِّضُ التقرير - في معرض ذكر معادة السامية - بالمسلمين المثيرين.
وبينما يُحظر على البعض البحث، ولو في مسألة تاريخية - كشأن المحرقة اليهودية - سدّاً لذريعة معاداة السامية! يباح لآخرين الطعن في دين المسلمين، ونبيهم - صلى الله عليه وسلم - جهاراً نهاراً، وعلى الملأ.(/3)
وبعد ذلك يروون بوقاحة قول المسيح – عليه السلام -: "أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بِمِثْلِهِ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ، فَأَدِرْ لَهُ الْخَدَّ الآخَرَ"[4].
وقوله: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَبَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَأَحْسِنُوا مُعَامَلَةَ الَّذِينَ يُبْغِضُونَكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَضْطَهِدُونَكُمْ"[5].
أهُم حقّاً أتباع عيسى - صلى الله عليه وسلم - أم هم الذين قال فيهم شاعرنا قديماً:
تَرَاهُمْ يَظْلِمُونَ مَنِ اسْتَرَكٌوا وَيَجْتَنِبُونَ مَنْ صَدَقَ الْمَصَاعَا[6]؟!
ويحقُّ لنا أن نتساءل - وإن كان الجواب واضحاً -:
أَبَعْضُ الظَّالِمِينَ وَإِنْ تَعَدَّى شَهِيُّ الظُّلْمِ مَغْفُورُ الذُّنُوبِ؟!
وأقبح من هذا الذي يتبجَّحون به، محاولة بعضهم إناطة أسباب بعض مظاهر الغلو في الدين بدعوات خرَّجت أكابر الدعاة والهداة، ويغفلون أفعالهم هذه، وهم يعلمون أن كل فعل له رِدَّة فعلٍ معاكسة في بعض النفوس!.
هل من خير وراء التعدِّي على حرمات المسلمين الدينية؟
إن السخرية بالإسلام، وبنبيه - صلى الله عليه وسلم - حَدَثٌ جللٌ، يُعرِّف المسلم بحقيقة العداوة التي توارثها البعض كابراً عن كابر، وعهداً عن آخر، إلاّ أن ما انطوى عليه هذا الشر لا يخلو من خير اقترن به، فمثل هذا الصنيع يفضح أدعياء الحرية، وزَعَمة حمايتها.(/4)
كما أنه يبعث في نفوس المسلمين الفخر بدينهم العظيم، فبينما يتردَّى غيرهم - على تقدم حضارتهم المادية - في هوَّة السخرية بالأنبياء؛ فإن أهل الإسلام يترفَّعون عن مجاراة السفهاء، فلا يجرُّهم ذلك إلى الطعن في عيسى أو موسى - عليهما السلام - بل يربأ بهم دينهم عن النزول إلى حيث نزل أهل الباطل؛ إذ يحرم عليهم هذا، ويأمرهم بتوقير أولئك الأنبياء، ويجعل الكفر بأحدهم كفراً بكل الرسل؛ بل حتى الأصنام –وهي حجارة- جاء توجيه الإسلام تجاهها، في قول رب العزة – سبحانه -: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108].
فما أعظم الفرق بين حضارة الإسلام وأخلاق بنيه، وبين الحضارات المادية التي عرف أصحابها الذرَّة، وجابوا الفضاء، لكنَّ أخلاقهم - إن لم تنحطَّ عن توجيهات عيسى صلى الله عليه وسلم - لم تترقَّ في سلَّم المكارم، ولم تعرج في مدارج المعالي؛ بل يسخر هؤلاء ويستهزئون، كما استهزأ بعض أسلافهم منذ ألف وأربعمئة عام، تبعاً لمن سخر واستهزأ قدماً، {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].
إن مثل هذه الأحداث تبيِّن بجلاء لكثير من المسلمين أن مَنْ رام النجاة من تهم الإعلام الغربي، ولمزهم له بالنقائص والمثالب، فقد رام شططاً، لم يَصْفُ لصاحب الخُلُق العظيم، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله عليه وسلم.(/5)
بل لم يَصْفُ لأنبياء بني إسرائيل من قبل، فقد لمُِزوا واتهموا وسُخر منهم قديماً، وتلك سنَّة الله – سبحانه - وقد رووا في كتاب أيوب من العهد القديم، عن نبي الله – تعالى - أيوب - عليه السلام - قوله: "أَمَّا الآنَ فَقَدْ هَزَأَ بِي مَنْ هُمْ أَصْغَرُ مِنِّي سِنّاً، مِمَّنْ كُنْتُ آنَفُ أَنْ أَجْعَلَ آبَاءَهُمْ مَعَ كِلاَبِ غَنَمِي"[7]!! وحقٌّ لأتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يتمثَّلوا هذه العبارة اليوم.
وإذا كان هذا هو الشأن مع أنبياء الله؛ فلا تعجب إذا رأيت منكراً من القول وزوراً، يُلمز به الذين يتمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، واعلم أن الله لن يضيع أجر المصلحين.
وأخيراً: فإن في صنيع تلك الثُّلة، وفي سكوت الدول عنها ما يُظهر أن التنازل الذي يراد من المسلمين، لن يُرضي الشانئين، إلاّ إذا كان تنازلاً عن دينهم، وعن حقوق نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وحينها قد يوصفون بالاعتدال! وهذا تصديقٌ لقول رب العالمين: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كانت حرية قبضات الناس لا تنتهي عند أنوف الآخرين، فمن الطبعي بعدها أن يستمر تحطم الأنوف؛ بل وتطاير الرؤوس، قديماً وحديثاً، وعلى الباغي تدور الدوائر.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] عن التقرير السنوي عن الحرية الدينية في العالم لسنة 2004م، وفي الرابط التالي من موقع وزارة الخارجية الأمريكية نسخة إلكترونية كاملة من التقرير:
http://jerusalem.usconsulate.gov/jerusalem-ar/irf2004.html(/6)
[2] عن السفير جون هانفورد، في تقرير وزارة الخارجية السنوي عن الحرية الدينية الدولية، الصادر عن الخارجية الأمريكية لعام 2005م، وعلى رابط وزارة الخارجية الأمريكية التالي نسخة منه بالإنجليزية:
http://www.state.gov/r/pa/prs/ps/2005/56647.htm
[3] ولعل القارئ الكريم يعلم أن ما ذُكر هنا ليس في إطار المدح، ولكنه في سياق بيان المفارقة.
[4] إنجيل متى: 5/40، وفي إنجيل لوقا نحوه: 6/30.
[5] إنجيل متى: 5/43-45، وفي لوقا: 6/29.
[6] البيت للقطامي؛ ومَاصَعَه: جَالَدَه، والمصدر: مصاعاً، والعرب تقول: بطلٌ ماصعٌ، وأما استركوا؛ فمعناه: استضعفوا، رجل ركيك: ضعيف، تقول: استركوه، فاستجرؤوا عليه، والعرب تقول: اقطع الحبل من حيث ركَّ؛ أي: ضَعُف.
[7] كتاب أيوب من العهد القديم، أيوب يتعرض للسخرية والكراهية: 30/1.(/7)
العنوان: حسن اختيار الموضوع
رقم المقالة: 1322
صاحب المقالة: عبدالرحمن بن معلى اللويحق
-----------------------------------------
إن موضوع الخطبة هو لبها وروحها، وبحسب الموضوع يكون أثر الخطبة، والخطيب الذي يُقَدِّرُ سامعيه ويحترمهم ويقدر أوقاتهم ويضَنُّ بها أن تضيع في غير فائدة يحرص غاية الحرص على موضوع الخطبة، ويجتهد غاية الاجتهاد في أن يكون موضوعها نافعًا للناس، ويتبدَّى فقه الخطيب وحسن اختياره للموضوعات في الملامح التالية:
استحضار الهدف: إنَّ من فقه الخطيب أن يكون مستحضرًا الهدف الذي يريد أن يتوصل إليه بخطبته ويكون ذلك الهدف مشروعًا، وبحسب ذلك الصف يبني خطبته وينظم عقدها، ويكون مقتنعًا بذلك الهدف فيكون اختياره للموضوع نابعًا من صلاحيته للعرض على الناس ومقدار النفع المتوقَّع لهم منه، لا أن يكون ناتجًا عن اندفاع عاطفي أو رغبة في إرضاء جمهور الناس إذ صار ذلك همّ بعض الخطباء - شعروا أو لم يشعروا - فهم يهتمون بطرح ما يرضي الناس وما يرغبون فيه، فيكون المؤثر في الخطيب الناس في حين المفترض العكس، ويمكن أن يكون هناك نوعان من الأهداف:
أ - أهداف بعيدة المدى: بحيث يجعل الخطيب في الحي أو البلدة أو القرية مجموعة من الأهداف يسعى لتحقيقها في حيه أو بلدته فيرسم معالم للتغيير الذي ينشده وطرائق لمعالجات الواقع في مجتمعه مراعيًا في ذلك الموازنة من جلب المصالح ودرء المفاسد، ويكون وضع هذه الأهداف في ضوء دراسته للبيئة التي يعيش فيها.
ب - الأهداف الخاصة بكل خطبة: بحيث يكون الخطيب قاصدًا لأهداف يريد تحقيقها وغايات وأغراض يريد الوصول إليها[1].(/1)
أن تكون الخطبة صادرة من شعور قلبي صادق: إن أحسن الخطب وأفضلها وأكثرها نفعًا وفائدة ما كان صادرًا من شعور الخطيب، وإحساسه بأهمية الموضوع، وبمقدار حاجة الناس إليه، فالداعية رحيم بالناس، مشفق عليهم كأنه النذير العريان؛ لأنه ينذر الناس ما هم مقدمون عليه من العذاب، وهذا ما يفسر لنا تأثير النبي - صلى اللّه عليه وسلم - في الخطبة إذا ذكر الساعة، ففي حديث جابر بن عبد اللّه - رضي اللَه عنهما - في الكلام عن خطبة النبي - صلى اللّه عليه وسلم -: وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه نذير جيش، يقول: ((صبَّحكم ومسَّاكم0000))[2]
اختيار الوقت المناسب للموضوع: إن من المداخل الجيدة للموضوعات الخطابية يوم الجمعة أن يكون السياق الزمني داعيًا لها وإذا استغل الخطيب ذلك الظرف كان لخطبته أثر كبير، مثال ذلك:
لو كانت الأمة في حالة خوف وفي خضم أمر عظيمٍ دهمها فركنت إلى القوى المادية، فخطب الخطيب عن التوكل على اللّه وأهميته، وأن اتخاذ الأسباب لا ينافي ذلك لوقع الموضوعُ في نفوسهم موقعه ولرسخ في الأذهان وردَّ الناس إلى الموقف الرشيد.
ومن مراعاة الوقت أن يختار لكلِّ موسم ما يصلح له، فلرمضان من الخصائص ما ليس لغيره من الشهور، وفيه من الوظائف الشرعية ما ليس في غيره؛ فتكون الخطب في جمعه مراعية للظرف، وليس من الحكمة في شيء أن يخطب الإنسان بعد نهاية الظرف المناسب للموضوع عن الموضوع (فقد خطب أحد الخطباء في إحدى عواصم الدول الإسلامية عن ليلة القدر يوم الثلاثين من رمضان وليس هناك أمل بإدراك هذه الليلة)[3].
وإنَّ فاعلية الخطبة في نفوس السامعين تزداد إذا قرن موضوعها بشيء من الواقع الذي يعيشونه فيستخدم الأحداث التي تقع وسيلة لإيصال الحقائق التي يريدها.(/2)
التركيز على الأساسيات والقضايا الكلية: ومن فقه الاختيار التركيز على الأساسيات والقضايا الكلية، وعدم تضخيم الجزئيات على حساب الكليات الأصول، قال ابن القيم - رحمه اللّه - "وكذلك كانت خطبته - صلى اللّه عليه وسلم - إنما هي تقرير لأصول الإيمان من الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار وما أعد اللّه لأوليائه وأهل طاعته وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا ومعرفة باللّه وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة والتخويف بالموت، فإن هذا أمرٌ لا يُحَصِّلُ في القلب إيمانًا باللّه، ولا توحيدًا له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيرًا بأيامه، ولا بعثًا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون وتقسم أموالهم ويبلي الترابُ أجسادَهم فيا ليت شعري أي إيمانٍ حصل بهذا؟ وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟[4]
ومع أنَّ هناك بعض الجزئيات أو الفروع التي قَد يرى الخطيب وجوب بيانها للناس، إلا أنه لابد من التأكيد على ربط تلك الجزئية بالكليات العامة، وهذا الربط له أثره في بيان حكم الأمر والنهي والحض على الالتزام بالأمْرِ، واجتناب النهي، وإذا جعل الخطيب مدخله إلى الجزئيات أمورًا كلية كان ذلك أدعى لقبول القول.
مثال ذلك: تكلم خطيب عن حلق اللحية وحرمة ذلك بالنصوص، ونقل أقوال أهل العلم، وتكلم آخر عن نفس الموضوع جاعلاً المدخل من خلال قضيتين:
الأولى: وجوب تعظيم السنة والتزام أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: حرمة التشبه بالكفار، وعزة المسلم بمظهره ودينه وشعائره الظاهرة، ودلف إلى موضوع اللحية بعد أن أصَّل هذين الموضوعين فكان لخطبة الثاني من الأثر والقبول ما ليس لخطبة الأول.(/3)
وهذا الربط موجود في النصوص ذاتِها فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في أمر اللحية: ((جُزّوا الشوارب وأرخُوا اللحى وخالفوا المجوس))[5]. فأكد على موضوع المنع من التشبّه.
الحرص على عدم التكرار إلا لحاجة: ينزع بعض الخطباء إلى تكرار خطبهم كل سنة، ميلاً إلى الدعة ورغبة عن البحث والاطلاع "فيقع أسيرًا لبضعة مواضيع قد تكون هامة وقد لا تكون، ليَطْلُعَ بها علينا كلَّ أسبوع، مما يحدث الملل لدى الجمهور الذي يعاني تكرار الخطب التي لا جديد فيها، ويؤدي إلى إهدار قيمة هذا المنبر الخطير"[6].
وهذه الظاهرة وإن كانت قلت - وخصوصًا في المدن والحواضر الكبرى – إلا أنها لها وجهان لا زالا باقيين:
الأول: تكرار الخطبة الثانية: إذ يلتزم البعض خطبة واحدة محفوظة لا تتغير ولا تتبدل طوال العام وفوق هذا لم يرد في السنة فهو أيضًا أخذ لوقت الناس بدون فائدة، بل يسمعون كلامًا حفظوه لكثرة ترداده[7].
نعم من المشروع أن يذكر في خطبه بعض الجمل الجامعة التي كان يكررها النبي - صلى اللّه عليه وسلم - مثل قوله: ((فإن خير الحديث كتاب اللّه وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة))[8].
ولكن ذلك لما تحويه هذه الجمل من الوصايا الجامعة الشاملة وأما ترديد غيرها مما لم ترد به السنة فغير محمود.
الثانية: تكرار الخطب في المناسبات: ففي رمضان يخطب الخطيب في الأول عن البشارة برمضان، ثم يثُني بالكلام عن أحكام الصيام، ثم يثُلّث بالكلام عن العشر الأواخر وفضلها ويختم بالكلام عن أحكام صدقة الفطر، وكل ذلك خير ولكن يمكن أن ينوع الإنسان بين السنين فيخطب - مثلاً - عن القرآن ورمضان، وعن غزوات الرسول في رمضان، وعن استثمار رمضان في إصلاح الذات، وعن استثمار رمضان في إصلاح الآخرين، فيُنوع في خطبه ليتحقق بذلك استفادة الناس، خصوصًا أنهم يسمعون الكلام عن الأحكام من خلال أحاديث بعد صلاة العصر في المساجد.(/4)
التبكير بالاختيار: إنَّ الخطيب إذا بكر في الاختيار كان ذلك أدعى لضبط الموضوع إذا يصبح همًّا للخطيب طوال الأسبوع، يبحث عن مراجعه، ويدون بعض الملاحظات عنه، ويستفهم، ويسأل أهل العلم عن جوانبه المستغلقة، فيخرج الموضوع وقد تم نضجه واستوى على سوقه.
ويزداد الأمر جودة إذا كان الخطيب قد وضع سلمًا لأولويات ما يخطب عنه، وحرص على إيجاد دفتر ملاحظات خاص يدون فيه ما يأتي على باله من موضوعات يراها جديرة بالطرح ويُدون مع تدوين العنوانات جملة من مراجع، وما كتب فيه من كتب مقالات.
الشمولية: إن الإسلام دين شامل ينظم الحياة كلها، وهذا الشمول سمة من سماته الرئيسة، وخطيب الجمعة حين يختار موضوعاته للناس يجب أن يراعي هذه السمة فلا يكون موغلاً في بيان جانب من الجوانب يركز عليه ويغفل ما سواه.
إن الناس يحتاجون إلى بيان أمور الاعتقاد، ويحتاجون إلى تعليم الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، كما يحتاجون للوعظ والرقائق، بل وإلى بيان أحوال الأمم السابقة وما جرى بينهم وبين أنبيائهم واستخلاص عبر تلك الأحداث {لَقَدْ كَانَ في قَصَصهمْ عبْرَةٌ لأُولي الْأَلْبَاب}[9].
واللّه عز وجل ساق قصصهم في القران الكريم ليكون في ذلك العبرة والذكرى للمؤمنين، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يذكر الناس بأيام اللّه فقال: {وَذَكّرْهُمْ بأَيَّام اللَّه}[10].
ومن الملاحظ أن الخطيب قد يكون متخصصًا في أمرٍ أَوْ مُهتمًا بأمر فيركز عليه، كأن يكون متخصصًا في الفقه فتكون خطبه كلها فقهية، أو واعظًا فتكون جل خطبه عن المنكرات، وقَد تكون نفسه مائلة إلى جانب فيركز عليه، فتجد من الخطباء من هو دائم الترهيب والتخويف ومن هو دائم الترغيب، ومن حكمة الخطيب أن يجمع في خطبة بين الترغيب والترهيب وبين التعليم والوعظ وببن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
---
[1] ينظر يحيى سالم الأقطش، هدي الإسلام، عدد 4 مجلد 32 ص 52.(/5)
[2] رواه مسلم 2 / 592 - 593 ورواه النسائي 3 / 188.
[3] محمد الدويش كيف نستفيد من خطبة الجمعة، مجلة البيان عدد 65 ص 24.
[4] ابن القيم: زاد المعاد 1 / 423 .
[5] رواه مسلم.
[6] د/ محمد عماد محمد، خطبة الجمعة في العالم الإسلامي (ملاحظات لابد منها) ص 58.
[7] ينظر محمد الخولي، مجلة المنار 5 ص 342.
[8] رواه مسلم في الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (867) والنسائي 3 / 188، 189 في العيدين باب كيفية الخطبة بزيادة ( وكل ضلالة في النار ) وإسناده صحيح.
[9] سورة يوسف آية 111.
[10] سورة إبراهيم آية ه.(/6)
العنوان: حسن الخلق
رقم المقالة: 1537
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أولاً: من القرآن الكريم
{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148].
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24].
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30].
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2].(/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 11 - 13].
ثانيًا: من الحديث الشريف
قَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأَخِيهِ: "ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِى، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ"، فَرَجَعَ فَقَالَ: "رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ"؛ صحيح البخاري - (ج 20 / ص 155).
وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ"، فَقَالَ: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِى صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ))؛ صحيح مسلم - (ج 16 / ص 388).
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاء عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((مَا مِنْ شَىْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ))؛ سنن أبي داود - (ج 14 / ص 54).(/2)
وقال رجل: "يا رسول الله! ما خير ما أعطي العبد؟" قال: ((خُلُق حسن))؛ مصنف ابن أبي شيبة - (ج 6 / ص 87).
وعن أم سلمة قالت: "... قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْمَرْأَةُ مِنَّا تَتَزَوَّجُ زَّوْجَيْنِ وَالثَّلاثَةَ وَالأَرْبَعَةَ، ثُمَّ تَمُوتُ فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ مَعَهَا، مَنْ يَكُونُ زَوْجَهَا؟" قَالَ: ((يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، فَتَقُولُ: أَيْ رَبِّ إِنَّ هَذَا كَانَ أَحْسَنَهُمْ مَعِي خُلُقًا فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَزَوِّجْنِيهِ، يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ))؛ المعجم الكبير للطبراني - (ج 17 / ص 189). وعَنْ جَابِرِ بن سَمُرَةَ، قَالَ: "كُنْتُ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمُرَةُ، وَأَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ لَيْسَا مِنَ الإِسْلامِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ إِسْلامًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلاقًا))؛ المعجم الكبير للطبراني - (ج 2 / ص 368).
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا، الذين يَألَفون ويُؤلَفون، وليس منا مَن لا يَألَف ولا يُؤلَف))؛ المعجم الأوسط للطبراني - (ج 10 / ص 129).(/3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أَلا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ الثَّرْثَارُونَ، الْمُتَشَدِّقُونِ، الْمُتَفَيْهِقُونَ. أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِهِمْ؟ أَحَاسِنُهُمْ أَخْلاقًا)). قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: "قُلْتُ: الثَّرْثَارُ: الْمِكْثَارُ فِي الْكَلامِ، وَالْمُتَفَيْهِقُ: الَّذِي يَتَوَسَّعُ فِي الْكَلامِ وَيَفْهَقُ بِهِ فَمَهُ". قَالَ الأَصْمَعِيُّ: "الْفَهْقُ: الامْتِلاءُ"؛ الآداب للبيهقي - (ج 1 / ص 186).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه – قَالَ: "كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: ((أَعْطُوهُ)) فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلاَّ سِنًّا فَوْقَهَا. فَقَالَ: ((أَعْطُوهُ)). فَقَالَ: "أَوْفَيْتَنِى أَوْفَى اللَّهُ بِكَ". قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً))؛ صحيح البخاري - (ج 8 / ص 357).
وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما – قَالَ: "لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا" وَكَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا))؛ صحيح البخاري - (ج 12 / ص 303).
وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما – أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا))؛ صحيح البخاري - (ج 13 / ص 47).
وعن عبدالله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مجلس: ((ألا أخبركم بأحبكم إليَّ، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؟)) - ثلاث مرات يقولها - قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((أحسنكم أخلاقًا))؛ صحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 463).(/4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بُعثتُ لأتمم صالح الأخلاق))؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم - (ج 9 / ص 500).
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق))؛ مسند الشهاب للقضاعي - (ج 4 / ص 271).
ثالثًا: الشعر
قال الشاعر:
لَيْسَ الْجَمَالُ بِمِئْزَرٍٍ فَاعْلَمْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدَا
إِنَّ الْجَمَالَ مَآثِرٌ وَمَنَاقِبٌ أَوْرَثْنَ حَمْدَا
وقال يعقوب الخريمي:
أُضَاحِكُ ضَيْفِي قَبْلَ إِنْزَالِ رَحْلِهِ وَيَخْضِبُ عِنْدِي وَالْمَحِلُّ جَدِيبُ
وَمَا الْخِصْبُ لِلأَضْيَافِ أَنْ يَكْثُرَ الْقِرَى وَلَكِنَّمَا وَجْهُ الْكَرِيمِ خَصِيبُ
وقال آخر:
لَعَمْرُكَ مَا ضَاقَتْ بِلاَدٌ بِأَهْلِهَا وَلَكَنَّ أَخْلاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ
وقال آخر:
وَلَمْ أَرَ كَالْمَعْرُوفِ أَمَّا مَذَاقُهُ فَحُلْوٌ وَأَمَّا وَجْهُهُ فَجَمِيلُ
وقال آخر:
إِذَا صَاحَبْتَ قَوْمًا أَهْلَ فَضْلٍ فَكُنْ لَهُمُو كَذِي الرَّحِمِ الشَّفِيقِ
وَلاَ تَأْخُذْ بِزَلَّةِ كُلِّ قَوْمٍ فَتَبْقَى فِي الزِّمَانِ بِلاَ رَفِيقِ
وقال آخر:
مَنْ يَزْرَعِ الْخَيْرَ يَحْصُدْ مَا يُسَرُّ بِهِ وَزَارِعُ الشَّرِّ مَنْكُوسٌ عَلَى الرَّاسِ
وقال الحطيئة:
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لاَ يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ لاَ يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ
ولابن دريد، وقيل إنه أنشدها:
وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلاَّ مُعَارَةٌ فَمَا اسْطَعْتَ مِنْ مَعْرُوفِهَا فَتَزَوَّدِ
فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي بِأَيَّةِ بَلْدَةٍ تَمُوتُ وَلاَ مَا يُحْدِثُ اللهُ فِي غَدِ
قال الشافعي - رحمه الله -:
الْمَرْءُ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَرِعًا أَشْغَلَهُ عَنْ عَيْبِ الْوَرَى وَرَعُهْ
كَمَا السَّقِيمِ الْعَلِيلِ أَشْغَلَهُ عَنْ وَجَعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَجَعُهْ
قال المتنبي:(/5)
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا
وقال أبو العتاهية:
عَامِلِ النَّاسَ بِوَجْهٍ طَلِيقْ وَالْقَ مَنْ تَلْقَى بِبِشْرٍ رَفِيقْ
فَإِذَا أَنْتَ جَمِيلُ الثَّنَا وَإِذَا أَنْتَ كَثِيرُ الصَّدِيقْ
وقال الحسن:
وَإِنِّي لأَلْقَى الْمَرْءَ أَعْلَمُ أَنَّهُ عَدُوٌّ وَفِي أَحْشَائِهِ الضِّغْنُ كَامِنُ
فَأَمْنَحُهُ بِشْرًا فَيَرْجِعُ قَلْبُهُ سَلِيمًا وَقَدْ مَاتَتْ لَدِيهِ الضَّغَائِنُ
وقال حافظ إبراهيم:
لاَ تَحْسَبَنَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُ وَحْدَهُ مَا لَمْ يُتَوَّجْ رَبُّهُ بِخِلاقِ
فَإِذَا رُزِقْتَ خَلِيقَةً مَحْمُودَةً فَقَدِ اصْطَفَاكَ مُقَسِّمُ الأَرْزَاقِ
وقال آخر:
لا تَسْأَلِي النَّاسَ مَا مَالِي وَكَثْرَتُهُ وَسَائِلِي النَّاسَ مَا جُودِي وَمَا خُلُقِي
أُعْطِي الْحُسَامَ غَدَاةَ الرَّوْعِ حِصَّتَهُ وَعَامِلُ الرُّمْحِ أَرْوِيهِ مِنَ الْعَلَقِ
وَأَطْعَنُ الطَّعْنَةَ النَّجْلاَءَ عَن عَرَضٍ وَأَكْتُمُ السِّرَ فِيهِ ضَرْبَةُ الْعُنُقِ
وقال ابن وكيع:
لاقِ بِالْبِشْرِ مَنْ لَقِيتَ مِنَ النَّا سِ وَعَاشِرْ بِأَحْسَنِ الإِنْصَافِ
لا تُخَالِفْ وَإِنْ أَتَوْا بِخِلافٍ تَسْتَدِمْ وُدَّهُمْ بِتَرْكِ الْخِلافِ
وَإِذَا خِفْتَ فَرْطَ غَيْظِكَ فَانْهَضْ مُسْرِعًا عَنْهُمُ إِلَى الانْصِرَافِ
إِنَّمَا النَّاسُ إِنْ تَأَمَّلْتَ دَاءٌ مَا لَهُ غَيْرُ أَنْ تُدَاوِيهِ شَافِي
وقال آخر:
الْقَ بِالْبِشْرِ مَنْ لَقِيتَ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَلاقِهِمْ بِالطَّلاَقَهْ
تَجْنِ مِنْهُمْ جَنَى ثِمَارٍ فَخُذْهَا طَيِّبًا طَعْمُهُ لَذِيذَ الْمَذَاقَهْ
وقال حبيب الطائي:
إِذَا جَارَيْتَ فِي خُلُقٍ دَنِيًّا فَأَنْتَ وَمَنْ تُجَارِيهِ سَوَاءُ
وقال المرّار بن سعيد:(/6)
إِذَا شِئْتَ يَوْمًا أَنْ تَسُودَ قَبِيلَةً فَبِالْحِلْمِ سُدْ لا بِالسَّفَاهَةِ وَالشَّتْمِ
وقال آخر:
إِنَّ الْمَكَارِمَ أَخْلاَقٌ مُطَهَّرَةٌ فَالْعَقْلُ أَوَّلُهَا وَالدِّينُ ثَانِيهَا
وَالْعِلْمُ ثَالِثُهَا وَالْحِلْمُ رَابِعُهَا وَالْجُودُ خَامِسُهَا وَالْعُرْفُ سَادِيهَا
وَالْبِرُّ سَابِعُهَا وَالصَّبْرُ ثَامِنُهَا وَالشُّكْرُ تَاسِعُهَا وَاللِّينُ عَاشِيهَا
وَالْعَيْنُ تَعْلَمُ مِنْ عَيْنَيْ مُحَدِّثِهَا إِنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا
وَالنَّفْسُ تَعْلَمُ أَنِّي لا أُصَدِّقُهَا وَلَسْتُ أَرْشُدُ إِلاَّ حِينَ أَعْصِيهَا
وقال آخر:
وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاَقُ مَا بَقِيَتْ فَإِنْ هُمُ ذَهَبْتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا
وقال آخر:
إِذَا لَمْ تَتَّسِعْ أَخْلاقُ قَوْمٍ تَضِيقُ بِهِمْ فَسِيحَاتُ الْبِلادِ
إِذَا مَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْلَقْ لَبِيبًا فَلَيْسَ اللُّبُّ عَنْ قِدَمِ الْوِلادِ
وقال آخر:
وَإِذَا أُصِيبَ الْقَوْمُ فِي أَخْلاقِهِمْ فَأَقِمْ عَلَيْهِمْ مَأْتَمًا وَعَوِيلا
وقال آخر:
وَلَيْسَ بِعَامِرٍ بُنْيَانُ قَوْمٍ إِذَا أَخْلاقُهُمْ كَانَتْ خَرَابَا
وقال آخر:
فَتًى مِثْلُ صَفْوِ الْمَاءِ أَمَّا لِقَاؤُهُ فَبِشْرٌ وَأَمَّا وَعْدُهُ فَجَمِيلُ
يَسُرُّكَ مُفْتَرًّا وَيُشْرِقُ وَجْهُهُ إِذَا اعْتَلَّ مَذْمُومُ الْفِعَالِ بَخِيلُ
عَيِيٌّ عَنِ الْفَحْشَاءِ أَمَّا لِسَانُهُ فَعَفٌّ وَأَمَّا طَرْفُهُ فَكَلِيلُ(/7)
العنوان: حسن الخلق
رقم المقالة: 1698
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإن من أفضل الأعمال التي دعا إليها الشرع ورغب فيها حسنُ الخلق، فهو من أعظم مواهب الله لعباده.
قال تعالى عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4].
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ))[1].
وحسن الخلق يشمل جوانب كثيرة من حياة المسلم، في أقواله وأعماله، وفي عبادته لربه وتعامله مع عباده.
قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53].
وقال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب؛ والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله وأخضع لهم عدوهم"[2].
ومن وصايا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - للصحابيين الجليلين أبي ذر ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - أنه قال: ((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))[3].(/1)
قال ابن القيم - رحمه الله -: "جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين تقوى الله وحسن الخلق، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته"[4]. ا هـ. ولا يكتمل إيمان عبد ما لم يوفق للخلق الحسن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا))[5].
قال بعض السلف: "حسن الخلق قسمان: أحدُهما مع الله - عزَّ وجل -، وهُوَ أنْ تَعْلَمَ أنَّ كل ما يكون منك يوجب عذرًا، وأن كل ما يأتي من الله يوجب شكرًا.
ثانيهما: حسن الخلق مع الناس وجماعه أمران: بذل المعروف قولاً وفعلاً، وكف الأذى قولاً وفعلاً"[6].
فحري بمن تمسك بهذا أن يصل إلى مراتب العاملين، فعن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ))[7].
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس خلقًا، فمن أحب أن يهتدي إلى معالي الأخلاق فليقتدِ بمحمد، صلى الله عليه وسلم.
عن أنس - رضي الله عنه - قال: "خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعتُه لم صنعتَه؟ ولا لشيء تركتُه لم تركتَه؟" [8].(/2)
عن عطاء بن يسار قال: "لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قلت: أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة" قال: أَجَلْ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح به أعينًا عُميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا"[9].
قال عبدالله بن المبارك - رحمه الله -: "حسن الخلق طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى، وأن تحتمل ما يكون من الناس"[10].
والمسلم لابد أن تواجهه في حياته مواقفُ كثيرة، إن لم يستعمل فيها حسن الخلق فإنه سيفشل في مواجهتها.
فَمِنَ القواعد العامة في هذا المجال أن لا تُسْرِعَ بالملامة في حق من أساء إليك، أو قصر في حقك، وأن تعامله بحسن الظن والتماس العذر، وعلى العكس من ذلك أن لا تقول قولاً، ولا تفعل فعلاً قد تحتاج فيما بعد للاعتذار منه، ففي الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إيَّاكَ وَكُلَّ أَمْرٍ يُعْتَذَرُ مِنْهُ))[11].
ومن الأمثلة التي استُعمل فيها حسن الخلق فكانت نتائجها حميدة، ما روي أن رجلاً لقي علي بن الحسين فسبَّه، فثارت إليه العبيد، فقال: مهلاً، ثم أقبل على الرجل فقال: ما سُتِرَ عَنْكَ من أمرنا أكثرُ، ألك حاجةٌ نُعِينُكَ عَلَيْها؟ فاستحيى الرجل، فألقى عليه خميصةً[12] كانت عليه، وأمر له بألف درهم فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنَّك من أولاد الرسول، صلى الله عليه وسلم[13].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ(/3)
[1] سنن الترمذي (4/362) برقم (2002) وقال حديث حسن صحيح. وانظر: صحيح الجامع رقم (5721) (5726).
[2] تفسير ابن كثير (4/101).
[3] سنن الترمذي (4/355) رقم (1987)، وقال: حديث حسن صحيح.
[4] "الفوائد" (84-85).
[5] سنن الترمذي (3/466) برقم (1162)، وقال: حديث حسن صحيح.
[6] "تهذيب السنن" لابن القيم شرح سنن أبي داود (13/130).
[7] سنن أبي داود (4/252) برقم (4798) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3/911).
[8] سنن الترمذي (4/368) برقم (2015) وأصله في الصحيحين.
[9] صحيح البخاري (2/96) برقم (2125).
[10] "جامع العلوم والحكم" (ص160).
[11] الضياء في المختارة (6/188) برقم (2199) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/689) برقم (354).
[12] كساء أسود مربع معلم.
[13] "مختصر منهاج القاصدين" (ص238).(/4)
العنوان: حصار الفلسطينيين ومعايير الديموقراطية الغربية
رقم المقالة: 871
صاحب المقالة: أحمد الفلو
-----------------------------------------
من أهم سمات النمط المعرفي الغربي عموماً، استخدامه لجملة من المعايير و المفاهيم المحددة، تمكنه بوضوح تام من الحكم على قضايا الديمقراطية، وتوجهات الشعوب، ولعل أهم هذه المعايير وأولها هو انسجام توجهات الشعوب المقهورة مع السياسات الغربية، وخضوع هذه الشعوب لديمقراطية معلبة، تم تحديد مدة انتهاء صلاحيتها في اليوم الذي تتعارض فيه طموحات هذه الشعوب مع قاتليها ومحتلي أرضها، لذلك انطلق الحصار الغربي الشامل ليلة الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وبحجة معاقبة حماس، بينما كانت الحقائق تقول إن الحصار هو معاقبة للشعب الفلسطيني، لأنه لم يلبس الثوب الذي خاطه الغرب حسب قياساته، وأراد إلباسه للفلسطينيين بمقاسات حددها اتفاق أوسلو.
ولكثرة الأدلة على هذا المعيار الغربي الفاسد للديمقراطية، فإننا نسوق مثالاً عن أنظمة عربية مستبدة وبوليسية وفي ذات الوقت تتلقى الدعم السياسي والأمني الغربي، ونالت استحسان الغرب، فقط لقبول هذه الأنظمة إقامة علاقات على مختلف الصُعد مع إسرائيل، ودون مطالبتها بأي إصلاحات ديمقراطية.(/1)
لقد كان البرنامج الوطني الاقتصادي الذي أطلقته حماس - والقائم على استقلال الاقتصاد الفلسطيني، وفصله فصلاً تاماً عن الاقتصاد الإسرائيلي؛ هذا البرنامج الحمساوي الطموح - من أهم العوامل التي استفزت الغرب وأزعجته، ذلك الغرب الذي لم يكترث يوماً للشعب الفلسطيني، ولا للمجازر التي يتعرض لها، إلاّ عندما اندلعت الانتفاضة الأولى عام 1987، وبدأ الخطر الفلسطيني يتهدد الابنة المدللة للغرب إسرائيل، سارع الغربيون إلى إنشاء السلطة بعد اتفاق أوسلو، وأرادوها سلطة مجردة من السيادة، لا براً ولا بحراً ولا جواً، وبدؤوا يقدمون الأموال لهذه السلطة، من أجل دفع رواتب ذلك الجيش الكبير من الاستخبارات، والعناصر الأمنية التي انحصرت مهمتها في ملاحقة المقاومين، واعتقالهم، ومعاونة إسرائيل على تصفيتهم، وقد استشهد بسبب خيانة هذه العناصر الأمنية مئات القياديين في المنظمات الفلسطينية المجاهدة، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والمجاهد الكبير يحيى عيّاش. ومن هنا فإن ديمقراطية تنتج مجتمعاً استهلاكياً متحلل الأخلاق، يعتمد في ناتجه القومي على كازينوهات القمار والدعارة والمخدرات، يكون هو المطلوب والمستحسن في نظر الغرب، كما كانت سايغون في فيتنام الجنوبية مدينة المتعة للجنود الأمريكان.(/2)
وهكذا فإن الغرب يريد أن يكون للفلسطينيين سلطة في خدمة إسرائيل، وتحت السيطرة الإسرائيلية، يقودها مجموعة من العملاء والمرتزقة، ولكن الصدمة كانت شديدة، و مزلزلة حين فازت حماس، وجعلت الغرب يراجع حساباته، لأن قواعد اللعبة قد تغيرت، وعدنا بالقضية الفلسطينية إلى المربع الأول، وهو تحرير كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر، و تطهير القدس الموحدة من دنس الاحتلال، حتى لو بدا للبعض إن اتفاق مكة وحكومة الوحدة الوطنية نوع من التنازلات التي تقدمها حماس، أو انحراف عن المبادئ، ولكنها في الحقيقة أسلوب هادئ متميز بالتعاطي مع الغرب، ( والحق الكذاب حتى يصل الباب).
أما المعيار الثاني الذي يستخدمه الغرب مع الخيارات الفلسطينية الشعبية الحرة، يصنفنا في التدرج الإنساني على أننا بشر من الدرجة الرابعة أو الخامسة، ففي حين يتباكى هؤلاء المنافقون في الغرب؛ مفكرون، وسياسيون، على الجندي الصهيوني شاليط، لم يتذكر أحدهم أحد عشر ألفاً من الفلسطينيين - أصحاب الأرض الأصليين - يقبعون - ومنذ سنوات - تحت التعذيب في السجون الإسرائيلية، بل لم يسأل أحد هؤلاء الدجاجلة من أهل الغرب نفسه، ما الذي أتى بشاليط الفرنسي المولد والجنسية، إلى فلسطين؟ وماذا يفعل هناك؟؟ ولنا أن نسأل تلك المنظمة الدولية الخرقاء، وأمينها العام - بمهاراته التي يخفيها – ما هو دوره وهو يشاهد المجازر اليومية ضد الشعب الفلسطيني؟ ثم يعانق المجرم أولمرت بحرارة؟ ويعود ليستعرض تلك المهارات عندما يقاطع القيادة المنتخبة ديمقراطياً، لشعب يتعرض للمجازر؟(/3)
ومن خلال تلك الانتقائية بمقاطعة وزراء حماس فقط، يمكننا أن نعتبر ذلك الموقف هو في الحقيقة ليس عداءً لحماس، بل هو تجسيد عملي للمعيار الغربي الثالث للديمقراطية في التعاطي مع قضيتنا، والذي يقوم على أساس العداء الغربي الواضح للإسلام، باعتباره عقيدة تتصدى لكل أطماع الحلف الصهيوني الغربي، و لأن الإسلام هو القوة الكاسحة القادرة على مواجهة ذلك الامتهان الوقح والشرير، الذي يلعبه الصهاينة، والذي يعززه الدعم الغربي، ضمن ما يسمى بالحلف الصهيوني الصليبي.
إن تلك الوسائل الوضيعة التي يستخدمها الغرب لتركيع الفلسطينيين بالتلويح لهم بالتجويع والإذلال، والضغط المستمر، لن يجدي نفعاً، ولن يفتَّ في عضد الشعب الفلسطيني، طالما أن الفلسطينيين اكتشفوا أبعاد المؤامرة الصهيونية الغربية، لتركيعهم عبر شروط اللجنة الرباعية، والتي لديها قائمة بالمطالب الإسرائيلية التي لا تنتهي، لفرضها على الفلسطينيين، والتي تحظى بدعم بعض الحكام العرب، هذه القائمة التي تبدأ بالمطالبة بالاعتراف بإسرائيل، وربما لن تنتهي بالطلب من كل فلسطيني أن يكون رقيقاً عبداً في المستوطنات اليهودية.
إن استمرار الحصار يعني أن للحكومة الفلسطينية خيارات؛ ربما يكون آخرها: حل الحكومة والعودة إلى الشارع، وانقلاب الطاولة على رؤوس من صنعوا الحصار، وليتوقعوا حكومة تعلن الجهاد المسلح على إسرائيل، وإذا كان إسماعيل هنية ما يزال حتى الآن مسيطراً على كوادر ومجاهدي حماس، فإنه عند اليأس لن يكون قادراً على ذلك، فهل سيفهم الغرب عواقب استمرار الحصار؟(/4)
العنوان: حصة رياضة
رقم المقالة: 1606
صاحب المقالة: عبادة بن رضوان الزوادي
-----------------------------------------
همست لصديقي ذات يوم: متى تبدأ حصة الرياضة؟
فرن جرس المدرسة، فأدخلنا كتب الفيزياء، ونزلنا مسرعين إلى غرفة الرياضة، فإذا الأستاذ غير موجود، فذهبنا إلى وكيل المدرسة نسأله مفتاح الغرفة.
فتحنا الباب، ونحن مغمورون بالحيوية والنشاط، والتحدي والحماسة ..
وكانت المفاجأة!!!!
المدرسة لا يوجد فيها حتى كرة قدم!!
"الجذر التربيعي للأربعة هو ..........."
كانت هذه جملة خُطِف تمامُها من فم أستاذ الرياضيات عندما تحولت أبصارُ طلابه إلى ذاك الذي دق الباب ودخل .......
إنه عريف فصلنا يستجدي القلوب الرحيمة أن يعطوه "كرة".
فإن كان له شأنٌ عند طلاب الفصل أعطي، وإن لم يكن قيل له: لا يوجد، ولو وجد.
وبعد خيبة أمل، ما العمل؟ لابد من فكرة ..
فانظر إلى الطرق الإبداعية الخيالية المتحضرة التي تؤهل كثيرًا من الطلاب ليكونوا من أسرع وأقدر من يستطيع.. تسلق الجبال!!
فتجد طالبًا يخرج من المدرسة، لا من بابها عند "أبو حسين"!
بل متسلقًا "عمود النور"، نازلا على ظهر سيارة مجاورة، ثم يشتري كرة قدم ويعود بطريقة أخرى أكثر إبداعا!!
وأخيرًا جاءت الكرة، وحان وقت تقسيم الفرق والصيحات تتعالى: "أنا كابتن.. لا أنا، .. أنت معي ..ما أبي ،..الكرة معانا ..، الملعب الصغير أحسن ..."
وبعد وقت قسمت الفرق على قبول من البعض ورَدّ ..
وتعالت "الشباشب" المتناثرة تعانق السماء، ورفع الثوب وربط وشمر عن ساعد الجد، ونودي أن "هيا! ابدأ اللعب"!!
وينتابك شعور بالسعادة لهذا الملعب المتكيف؛ فهو طيني شتاءً، تغرز فيه الأقدامُ صيفاً، والمرمى .. المرمى لا أدري كيف أصفه لك، ولكن من خصائصه الفريدة أنه اقتصادي؛ فهو لا يحتاج حتى إلى شبكة.. لأنه مكون من حجرين! وعند الحاجة من نعلين!(/1)
وتتعالى الهتافات بين الفريقين: "أنت ما تفهم، ناول ..، جُول ..، ليش ضيعت الفرصة...".
كان أول من دخل صفنا... محمد، ليجد أمامه مدرس الكيمياء غاضباً من تأخرنا؛ إذ قد مضت عشرُ دقائق على بداية الحصة ..
وتوالى الطلابُ.. ونَعِمت أنوفنا وارتاحت!، وبدت علاماتُ السرور على وجوهنا!
حيث تجد عَرَقَ كل عِرْقٍ وبلد.!
وأخيرًا هل تُسمى هذه الحصة.. حصة رياضة؟!
أعتقد أن الحل يبدأ منا نحن الطلاب، إضافة للواجب الإداري.
والحمد لله رب العالمين .(/2)
العنوان: حضارة الإسلام
رقم المقالة: 1780
صاحب المقالة: الشيخ أسامة بن عبدالله خياط
-----------------------------------------
حضارة الإسلام
ملخَّص الخطبة:
1- الجَوْر في الحكم على حضارة الإسلام.
2- فضل الإسلام.
3- في نطاق المعتقَد.
4- في نطاق العلم.
5- في نطاق المادَّة.
6- في نطاق الحقوق.
7- في نطاق الغريزة.
8- تَقَهْقُر المسلمين.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله فتقوى الله دَيْدَن الأيقاظ من عباد الله، الذين يخشون {يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ} [النور: 37].
أيها المسلمون:
عند اضطراب الألباب، والْتِياث العقول[1]، وغَلَبة الأهواء، واستحكام العداء، وغَيْبَة العدل، يضلُّ أقوامٌ عن سواء السبيل؛ فيجورون في الأحكام التي يطلقونها ذات اليمين وذات الشمال، ويَحيفون في الأقوال التي يُلْقُونَها على عواهِنِهَا بِغَيْرِ اسْتِبانَةٍ وَلا تَثبُّتٍ، ودُونَ تَدَبُّر ولا تَفَكُّر؛ فتكون العاقبة عِنْدَ ذَلِكَ ظلمًا مبينًا، وإساءًة مسيئةً، وتحاملاً مجحِفًا، لا يَسَع أُولي النُّهي الإغضاء عنه، ولا السكوت على عِوَجِه، حتى يظل وجه الحقِّ مُسْفِرًا، وحتى تبقى مهمَّة التَّذكير حيَّة كما أمر الله، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21-22].(/1)
فمن هذه الأحكام الجائرة، والإطلاقات الظالمة، والدعاوى التي لم تَقُمْ عليها البيِّنات، ولم تُسْندها البراهين، ولم تُسْعفها الحُجَج: الزَّعْم بأن الحضارة المنبثِقة عن هذا الدِّين الحقِّ - دين الله - أدنى مقامًا وأقل سموًّا من غيرها، وأنَّ لغيرها من التفوق والأثر والنُّجح ما ليس لها، إلى غير ذلك مما هو أثرٌ من آثار إغماض الأجفان عن ذلكم الهدى والنور الذي جاء من عند الله الحكيم الخبير، وثمرة من ثمار الحَيْدة عن سبيل الإنصاف، والتنكُّب لطريق العدل، والتنكُّر لفضل ذوي الفضل.
عبادَ الله:
إنَّ هذا الدِّين الحقَّ هو الذي أرسى اللهُ به قواعد الحضارة المُثْلَى، وأقام به ركائزَ ومقوِّمات النهضة الكبرى، التي سَعِدَتْ في ظلالها الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات في ماضي الأيام، وسوف تَسعد بها كذلك - إن شاء الله - في حاضرها ومستقبلها.
تلك الحضارة التي أسفرت آثارها عن جمال وجهها، وجلال غايتها، ورقيِّ منازلها، وإن السموَّ الحضاري في هذا الدّين لتتَّضح معالمه، وتستبين قَسَماته، وتتجلَّى خصائصه بالنَّظر المتأمِّل في ركائزها وأُسُسها.
ففي نطاق المعتقَد: عبوديَّةٌ كاملةٌ لله وحده، ونبذٌ لعبودية الأرباب من دونه في مختلف صورها وألوانها كما قال سبحانه: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].(/2)
وفي تعبيد العباد لله ربِّهم وهدم عبودية الأرباب من دونه: انتهاضٌ عَقَدِيٌّ، وارتقاءٌ عقليٌّ، وكمالٌ نفسيٌّ، يُبْتَنَى عليه أساس البناء الحضاري الرَّاسخ للأمَّة؛ إذ إنه يجعل عُمْدَة الالتقاء وآصِرَة الاجتماع هو سبب التكريم، ومنشأ التمييز المعتقدَ الصحيحَ والتقوى، لا العنصر أو اللون أو القوم أو الأرض، كما قال سبحانه: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وفي نطاق العلم: عنايةٌ فائقةٌ، ورعايةٌ ظاهرةٌ للعلم وأهله في جميع ميادين العلم النافع؛ لأنه لا يستوي مَنْ يعلم ومَنْ لا يعلم، كما قال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألْبَابِ} [الزمر: 9]، ورفع سبحانه الذين أوتوا العلم مقامًا عليًّا؛ فقال عزَّ اسمه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، ولم تَقُمْ في هذه الحضارة خصومةٌ بين الدِّين والعلم مطلقًا؛ لأن العلم الصحيح رديف الوحي في تثبيت الهداية والإرشاد إلى الصراط المستقيم، ولذا كان أثر هذا العلم في القلوب مَطْمَحَ أولي الأبصار، ومَقْصِد الرَّاسخين في العلم، ومُبتغى أهل الصدق والإخلاص، وذلك هو خوف الله وخشيته كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].(/3)
وفي نطاق المادَّة: هذه الإفادة مما سخر الله تعالى للإنسان من مذخور الكنوز ومكنون الخيرات، وتوجيهها نحو كلِّ خيرٍ للإنسان وسائر ما خلق الله من شيءٍ، فلا ازدراءَ للمادة، ولا كراهةَ للإنتاج المادي المسخَّر للمنافِع دون المضارِّ، ولا مغالاةَ أيضًا في قيمة هذا الإنتاج؛ حتى لا يكون أكبر الهمِّ، ومَبْلَغ العلم، ومنتهى الأمل، وكي لا تكون الغاية وفرة المكاسب، وتضخيم الأرْصِدَة، بل ما ينفع الناس ويَمْكُث في الأرض.
وفي نطاق الحقوق: هذا التشريع الحقوقي الفذُّ المتفرِّد، الذي جاءت به هذه الشريعة المكرَّمة، والذي لم يغادر صغيرةً ولا كبيرةً من حقوق الفرد والمجتمع والأمَّة ومن واجبات كلِّ فريق - إلا أحصاه وبيَّنه، وأوضح دقائقه، وجلَّى غوامضَه، بعيدًا عن الأنظار البشرية القاصرة، المحدودة بحدود الأزمنة والأمكنة، سالمًا من عِلَل الأهواء المتَّبعة وأوضار[2] المصالح الشخصية، وأدران القوميَّات والعصبيَّات المفرِّقَة؛ لأنَّهُ تشريعُ رب العالمين، وحُكْمُ أحكم الحاكمين.(/4)
وفي نطاق الغريزة: بإقامة العلاقة بين الرجال والنساء على قاعدة النِّكاح لا السِّفاح واتِّخاذ الأخدان، وإباحة كلِّ أنواع العلاقات المنحرفة الشاذَّة، بحراسةٍ من القانون الوَضْعِيِّ، وتحت شعار حماية الحقوق والحريَّات الشخْصِيَّة؛ لأنَّ ميدان الأسرة هو المجال الطاهر الذي يُلبَّى فيه نداء الفِطْرة، ويُرْوَى فيه ظَمَأُ الغريزة، وتُربَّى فيه ثِمارُ تِلك الصِّلة الطاهرة من أجيال الأمَّة تربيةً قويمةً سالمةً من أدران الانحراف، محفوظةً من أوضار الضياع ومسارب البَوَار، وكلّ ذلك - يا عباد الله - مِمَّا جاء به هذا الدِّين، وارْتَكَزَتْ عليه حضارته، هو مِمَّا شَهِدَ بِسُمُوِّهِ ورِفعته قادةُ الفكر وروَّاد العلم وكتَّاب التاريخ، ممَّن لا يعتنق هذا الدّين ولا يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ، في شهاداتٍ منشورة، واعترافاتٍ مدوَّنة، وأقوالٍ معلومة مشهورة، وليست حضارة المسلمين في طُلَيْطِلَة وإشْبِيلِيَّة وغَرْناطة وقُرْطُبَة وغيرها من بلاد الأندلس إلاَّ وجهًا مضيئًا ولسانًا صدوقًا ومثالاً حيًّا من دُنْيا الواقع، لم يملك مَنْ نَظَر إليه وعَرَفَ أبعاده إلاَّ أن يُقِرَّ بفضله ويلهج بغَنائه، ولا عجب أن تكون لهذه الحضارة هذه المنزلة؛ فإنها ثمرةُ وحْيٍ ربَّانيٍّ، ونتاج دينٍ إلهيٍّ، من لَدُن حكيمٍ خبيرٍ، يعلم مَنْ خلق، ويهدي مَنْ يَشاء إلى سواء الصِّراط.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [البقرة: 138].
نَفَعَنِي اللَّهُ وإيَّاكم بهَدْيِ كِتابه، وبسنَّة نبيِّه.
أقول قولي هذا وأستغفِرُ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثَّانية(/5)
إنَّ الحمد لله، نَحْمَدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصَحْبه، والتابعين ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، إنَّ واقع المسلمين اليوم لا يصحُّ أن يكون باعثًا على الحُكْم على حضارة الإسلام؛ فإن مجال الحكم لابدَّ أن يكون على الأصول والثَّوابت والمبادئ والقِيَم، والممارسة الواقعية التي آتت أُكُلَها وأينعت ثمارها، حين كان المسلمون يغذُّون السَّيْر، ويحثُّون الخُطا، ويتَّبعون الهدى، ويعمَلُونَ بنَهْج خير الوَرَى - صلوات الله وسلامه عليه. أمَّا ذلكم التَّقَهْقُر والتَّراجع والتخلُّف والهوان الذي مُنيَ به المسلمون عقب تلك العصور الخوالي - فهذا مما لا يرتاب أولو الأبصار في أنَّ تَبِعَتَه لا تقع على الإسلام وحضارته، وإنَّما جريرةُ ذلك على مَنْ فرَّط وأضاع، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأعرض عن ذِكر ربِّه؛ فكانت معيشته ضنكًا، وكان أمره فُرُطًا، {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
ألا فاتَّقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله ...
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] أي: صارت لَيْثِيَّة النَّزْعة.
[2] جمع (وَضَر): وهو وسخ الدَّسم أو غُسالة السِّقاء.(/6)
العنوان: حق الجار... حسن الجوار.. سمت الأبرار
رقم المقالة: 1216
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
من القرآن:
{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ} [النساء: 36].
ماذا قال الحبيب؟
• عن ابن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما – قالا: قال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))؛ متفق عَلَيْهِ.
• وعن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قال: قال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -: ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) رواه مُسْلِمٌ.
وفي رواية له عن أبي ذر قال: ((إنَّ خليلي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أوصاني إذا طبختَ مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف)).
• وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن!قيل: من يا رَسُول اللَّهِ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)) متفق عَلَيْهِ. وفي رواية لمسلم: لا يدخل الجنة من لا يأمن جارُه بوائِقَه.
• وعنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قال: قال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -: ((يا نساء المسلمات لا تَحْقِرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) متفق عَلَيْهِ.
• وعن عبد اللَّه بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قال: قال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -: ((خير الأصحاب عند اللَّه تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند اللَّه خيرهم لجاره))؛ رواهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ.
أحلى ما قال السلف:
• عبد الله بن مسعود:(/1)
- جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود وقال: إن لي جارًا يؤذيني ويشتمني ويضيِّقُ عليَّ، فقال ابن مسعود: اذهبْ فإنْ هو عَصَى اللهَ فِيكَ فأطعِ اللهَ فيه.
• ابن المقفع:
- بلغ ابْنَ المقفَّع أنَّ جارا له يبيع دارَهُ في دَيْنٍ رَكِبَهُ, وكان يجلس في ظِلِّ داره فقال: ما قمت إذن بحرمة ظل داره فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبيعها.
درس اليوم
حق الجار..... مسعد أنور
http://media.islamway.com/lessons/musAnwar//254-Algar.rm
حُسن الجوار... سمت الأبرار
أحبائي في الله....
من هو الجار؟!
الجار هو الذي يلاصق أو يقرب سكنه من سكنك، وحدد العلماء دائرة الجيرة إلى مدى أربعين دارًا من كل جهة من أمام، وخلف ويمين وشمال، ومن كان هذه حاله فله من الحقوق وعليه من الواجبات ما يجعل الجوار نعمة وراحة...
والإسلام يقوم على جملة مرتكزات ترتقي بالفرد وتسمو بالمجتمع، ومن أهم تلك المرتكزات: المبادئ الأخلاقية والقِيَم الفاضلة التي تجعل من الأمة أسرة مترابطة، ولكي تسلم العلاقات الاجتماعية ينبغي أن تقوم على الأسس التي دعا إليها القرآن الكريم؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103].
وذكرت الآثار بأن المعتزل عن الناس مُفَارِقٌ للجماعة، مُخَالِفٌ للسنة، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ولذا حرص الإسلام على عقد روح التعاون بين الجيران ومن مظاهر الإيمان الكامل أن يحب الإنسان لجاره ما يحب لنفسه؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه))؛ رواه مسلم.(/2)
وحقوق الجار كثيرة منها...
إلقاء السلام وردُّه، لما في ذلك من ربط القلوب بعضها ببعض، وهو عمل صالح رفيع، وأبخل الناس مَن بخل بالسلام، ومن الأمور الحسنة: السلام على أولاد الجيران، وتدريبهم على آداب الشريعة.
ومن حق الجار على جاره أن يزوره إذا مرض ويسأل عن صحته، ويَدْعُو له ويأمره بالصبر، ويستحب تخفيف الزيارة ؛ لئلا يشق ذلك على المريض.
وإذا مات الجار فإنَّ له حقًّا على جيرانه، وهو: أن يتبعوا جنازته، وأن ينظموا الأمر لإعداد الطعام لأهل الميت؛ لأنهم مشغولون بميتهم.
ومن حق الجار على جاره أن يجيب دعوته إلى الوليمة إن دعاه، زيادة للمودة وصلات الصفاء.
ومما يجدر بالمسلم أن يكون ستَّارًا لعيوب جاره؛ وذلك ليستره الله في حياته الدنيا ويوم العرض الأكبر.
ومن حقوق الجار على جاره: عدم التطاول عليه بالبنيان، وعدم إيذائه بالأصوات المرتفعة.
وأوصت السنة بالإحسان إلى الجار، حتى لو كان غير مسلم، ما دام فردًا يعيش في المجتمع الإسلامي، فالإسلام يريد للمجتمع أن يشمله التكافل ويعمه التراحم، ((عن مجاهد قال: كنت عند عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وغلام يسلخ له شاة، فقال: يا غلام، إذا سلختَ فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مرارًا، فقال له: كم تقول هذا ؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لم يزل يوصينا بالجار حتّى خَشِينا أَنَّهُ سيُوَرِّثُه)) رواه أبو داود والترمذي.
وأقرب الجيران بابًا أحقهم بالإحسان، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: (( إلى أقربهما منك بابًا))؛ رواه البخاري(/3)
وكان محمد بن الجهم جارًا لسعيد بن العاص، عاش سنوات ينعم بجواره، فلمَّا عرض محمد بن الجهم داره للبيع بخمسين ألف درهم، وحضر الشهود ليشهدوا، قال: بكم تشترون مني جوار سعيد بن العاص؟ قالوا: إن الجوار لا يباع، وما جئنا إلا لنشتري الدار. فقال: وكيف لا يباع جوار من إذا سألته أعطاك، وإن سكتَّ عنه بادرك بالسؤال، وإن أسأت إليه أحسن إليك، وإن هِجْتَهُ عطف عليك ؟ فبلغ ذلك الكلامُ جارَهُ سعيدَ بنَ العاص فبعث إليه بمائة ألف درهم، وقال له: أمسك عليك دارك.
هذه هي الأخلاق الإسلامية التي ربى عليها الإسلام أبناءه، فكانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضُه بعضًا، يحمِلُ غَنِيَّهُم فَقيرَهُم، ويُعين قَوِيُّهم ضعيفَهم، لا شحناء ولا أحقاد، ربط الود بين مشاعرهم، وجمع الإيمان بين أفئدهم، وما أجمل أن يأخذ المسلمون أنفسهم بهذه المبدأ الكريم.
التطبيق العملي?
- ابدأ جارك بالسلام, عده في مرضه, عزه في مصيبته, شاركه في الفرح, اصفح عن زلاته, لا تتطلع لعورته, إن استقرضك فأقرضه, وإن استغاثتك فأغثه, وإن استنصرك فانصره.
- احرص على زيارة جارك والسؤال عليه بشكل دوري.
هيا معا نحيي سنة الحبيب - صلى الله عليه وسلم -
ما يقول من أتاه أمر يسره أو يكرهه...
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه أمر يسره قال: (( الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ))....
وإذا أتاه أمر يكرهه قال: (( الحمد لله على كل حال ))
الدعاء:
((اللَّهُمَّ ارحمني بترك معاصيك أبدًا ما أبقيتني، وارحمني من تَكَلُّفِ ما لا يعنيني، وارزقني حسن المنظر فيما يرضيك عني، وألزم قلبي حِفْظَ كتابك كما علمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ بِكِتابِكَ بَصَرِي، واشْرَحْ به صدري، وفَرِّحْ به قلبي، وأطْلِقْ به لِساني، واستَعْمِلْ به بدني، وَقَوِّنِي على ذلك، وأعِنِّي عليه إنه لا مُعينَ عليه إلا أنت، لا إله إلا أنت)).(/4)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين.(/5)
العنوان: حق المسلم على المسلم
رقم المقالة: 1100
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها الناس:(/1)
إن من أعظم مقاصد الشريعة، ومن أَجَلِّ أهداف الإسلام، أن يؤلِّف بين القلوب، وأن يجمع بين الصفوف، وأن يوحِّد الكلمة، وأن يرأب الصدع، وأن يزيل أسباب الخلاف والتدابر والتقاطع، وإذا لم يتم ذلك في واقع المسلمين، وفي حياة الأمة؛ فيجب أن نعلم - جميعاً - أننا ما التزمنا بالإسلام، وما اهتدينا بنور القرآن، وما تشرفنا بالسير على هدي رسول الأنام - صلى الله عليه وسلم - يقول الله - تعالى - ممتنّاً على هذه الأمة: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] فسبحان من ألَّف بين هذه القلوب، وسبحان من وحد بين هذه الأجناس، وسبحان من جمَّع بين هذه الألوان واللغات والعادات.
جمع الله بين بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وعليٍّ القرشيِّ، في وحدة وألفة وترابط أخوي، لم يعرف التاريخ له مثيلاً.
والله - تبارك وتعالى - يأمرنا بالاعتصام بحبله جميعاً، وينهانا عن التفرُّق والتَّشرذم والتحزُّب، وعن موجبات ذلك من العصبية القبلية، أو التعصب للَّونِ، أو الجنس، أو اللغة، فكل هذه العصبيات موضوعة في الإسلام، قد جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت قدميه.
فلماذا يبغض بعضنا بعضاً، ولماذا يحسد بعضنا بعضاً، ولماذا يغتب بعضنا بعضاً، ولماذا هَتْكُ الأعراض، والتقاطع والتدابر والتباغض، والله - عزَّ وجلَّ - يقول: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
أيها المسلم:(/2)
اعلم: أنك لن تنال رضوان الله - عزَّ وجلَّ - ولا رحمة الله - تبارك وتعالى - وعفوه ومغفرته، إلا بمحبتك لأخيك المسلم، وبره ومساعدته؛ فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وإن رحمة الله - عزَّ وجلَّ - تتنزَّل بمساعدة الإخوان، وتقديم العون لهم، ومحاولة التيسير على المعسرين وأهل الحاجة؛ قال الله – تعالى -: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، مَنْ كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه بها كربة من كُربِ يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة))[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ سُلامى[2] من الناس عليه صدقة كلَّ يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة))[3].
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أوَلاَ أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))[4].
وإفشاء السلام معناه التواضع لعباد الله، والمحبة لهم، ومسالمتهم، وعدم إضمار شيء في نفسه لهم، ويوم يتخلى الناس عن السلام، ويوم يستهينوا بهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الدين، فيمر بعضهم على بعض بلا سلام ولا تحية، تظهر الضغائن، وينتشر الحقد والحسد والبغض بين الناس، وهذا من فساد ذات البين الذي حذر منه نبينا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إياكم وفسادُ ذات البين؛ فإن فساد ذات البين الحالقة؛ لا أقول تحلق الشعر وإنما تحلق الدين))[5].(/3)
فعليك أيها العبد المسلم أن تُخرج من قلبك كلَّ حقد، وكل حسد، وكل بغضاء تجدها لأحد من المسلمين، إذا طرحت نفسك على الفراش، ووكلت أمرك إلى خالقك فاسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن ينزع من قلبك كل غشٍّ وضغينة، وحسد وبغضاء.
عباد الله:
أراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لأصحابه فضل محبة المسلمين، وعدم إضمار شيء لهم، وسلامة الصدر تجاههم، فبينا هو جالسٌ مع أصحابه ذات مرة، إذ قال - صلى الله عليه وسلم - لهم: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))؛ فطلع رجلٌ من الأنصار، يتساقط ماء الوضوء من لحيته، وقد علَّق نعليه في شماله، فلما كان من الغد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))؛ فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما كان من الغد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))؛ فطلع ذلك الرجل على مثل مرتبته الأولى، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال لذلك الرجل: إني خاصمت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاث ليالٍ، فإن رأيتَ أن تؤويني إليك حتى تحلَّ يميني فعلت، فقال: نعم؛ فكان عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث أنه بات معه ليلة - أو ثلاث ليالٍ - فلم يره يقوم من الليل بشيء، غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر، فيسبغ الوضوء، قال عبد الله: غير أني لا أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليال كدتُ أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إنه لم يكن بيني وبين والدي غضب هجرة، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرات في ثلاث مجالس: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة))؛ فطلعت أنت تلك الثلاث مرات، فأردتُ آوي إليك، فأنظر عملك، فلم أركَ تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت. فانصرفتُ عنه، فلمَّا(/4)
ولَّيْتُ دعاني؛ فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أجد في نفسي غِلاًّ لأحدٍ من المسلمين، ولا أحسده على خير أعطاه الله إيَّاه. قال عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق [6].
أيها المسلمون:
لينظر كلٌّ منَّا في قصة هذا الرجل، وليأخذ منها العبرة والعظة، ما الذي بلغ بهذا الرجل تلك المنزلة الرفيعة، ما الذي جعله من المشهود لهم بالجنة والفضل، وهو لا زال يعيش على ظهر هذه الدنيا؟ ما أعماله؟ ما عبادته؟ ما جهاده؟
إن الذي بلغ بهذا الرجل تلك المنزلة هو سلامة الصدر لإخوانه المسلمين، ينام وليس في قلبه غشٌّ ولا حسد ولا بغضاء لأحد، وهذا ليس بالأمر اليسير؛ ولذلك قال عبد الله بن عمرو: "هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق".
إن من الناس من يتصدَّق ولكنه حقود، ومنهم من يدعو لكنه حسود، ومنهم من يقوم الليل ويقوم النهار، ولكنه يؤذي جيرانه، ويأكل لحوم إخوانه المسلمين، ويقع في أعراضهم.
مَاذَا التَّقَاطُعُ في الإسلامِ بَيْنَكُمُ وأنتُمُ يا عباد الله إِخوانُ
إن اليهود والنصارى والشيوعيين وأهل الحداثة والعلمانيين يختلفون فيما بينهم؛ ولكنهم يتفقون على حرب الإسلام والمسلمين، أما أهل الإسلام فمشارب وأساليب وأهواء وجماعات وأحزاب، ولا نراهم يتفقون حتى على حرب أعدائهم من أهل الإلحاد وفرق الكفر والزندقة!!
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبين حق المسلم على المسلم، فيقول: ((المسلم أخو المسلم)) ولك أن تتصور حقوق أخيك عليك، وما يجب عليك تجاهه: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا)). ويشير إلى صدره ثلاث مرات، ((بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه))[7].(/5)
ما أعظم تلك الحقوق، وما أجلّ هذه التوجيهات، لا يظلم المسلم أخاه؛ لأن عاقبة الظلم وخيمة، ولذلك فإن الله - عزَّ وجلَّ - حرَّم الظلم على نفسه، ولا يخذل المسلم أخاه بأن يترك إعانته ونصره والدفاع عنه في موطن يستطيع أن ينصره فيه، ولا يحقر المسلم أخاه بأن يستهزئ به، ويستهين به، ويستقله ويستصغر شأنه، فهذا كله ليس من أخلاق المؤمنين.
فيا مَنْ يجلس في مجالس الغيبة والنميمة، ويا من يقضي وقته في هتك الأعراض والتفكُّه بالحرمات، أما تعرف أنك تحارب الله؟! أما تعرف أنك تعلن الحرب على جبار السماوات والأرض؟! أما تعرف أنك تهدم في صرح هذه الرسالة الخالدة؟! اتق الله في نفسك، اتق الله في مصيرك، واعلم بأننا أمة واحدة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، واعلم بأن الله - عزَّ وجلَّ - سوف يقتصُّ منك لا محالة، وسوف يأخذ من حسناتك؛ لتُجعل في موازين من اغتبت وظلمت وشتمت، حتى إذا فنيت حسناتك، أخذ من سيئاتهم؛ لتُجعل في ميزانك، حتى تُطرح في النار[8]: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].
إن هناك من يتخذون أساليب في الدعوة والتربية تضر مسيرة الصحوة الإسلامية ضرراً بالغاً، إنهم يتحزَّبون ضد إخوانهم، ولا يتلمسون لغيرهم العذر، ويشكِّكون في مصداقية الدعاة ونيَّاتهم، مما يعمل على تفريق الأمة، وتمزيقها إلى جماعات وأحزاب متعادية.
كيف يتَّحد أهل الباطل ضدنا، ويكوِّنون صفّاً واحداً في حزبنا، مع أنهم أعداء فيما بينهم، ثم نتعادى نحن ونتقاتل ونتباغض؟!!
فيا عباد الله:
لقد تشتَّتت الأسر في مجتمعاتنا، يوم أن قطعنا أرحامنا، وحصل الفساد فيما بيننا: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].(/6)
إن من الأرحام من يحقد على رحمه، ويتعرض له بالكيد والدسائس، ولذلك فقد قست القلوب، وجفَّت العيون، وقلَّت الأرزاق، وذهبت البركة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فأين نحن من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فَشَمِّتْه، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتَّبِعْه))[9].
فأين هذا من أناس جعلوا السلام على المعرفة والمكانة، فلا يسلِّم أحدهم إلا على الكبار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا لقي أحدكم أخاه؛ فليسلِّم عليه))[10].
ويبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السلام لا يكون على المعرفة، ولا يكون على المكانة، فروى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))[11].
فالسلام هو شعار المحبة والود الذي أقامه رسولنا - صلى الله عليه وسلم - وحثَّ على إرسائه وتثبيته في قلوب اتباعه وأمته من بعده، وعند البخاري موقوفاً على عمار بن ياسر، أنه قال: ((ثلاثٌ من جمعهنَّ فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار))[12].
وبذل السلام للعالم - هنا - يتضمن تواضع العبد، وأنه لا يتكبر على أحد؛ بل يبذل السلام للصغير والكبير، لمن عرف ومن لم يعرف.
ومن حق المسلم على أخيه أيضاً إجابة دعوته، ومن الدعوات ما تكون واجبة، ومنها ما تكون مستحبة، ومنها ما يحرم إجابتها، فأما التي هي واجبة فالدعوة إلى وليمة الزواج، ما لم يكن هناك منكر، وفي ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها))[13]. والوليمة هي وليمة العرس، وفي لفظ في الصحيح أيضاً: ((إذا دعى أحدكم أخاه فليجب، عرساً كان أو نحوه))[14].(/7)
قال أهل العلم: هذا الأمر للوجوب، أي يجب عليك أن تجيب الداعي ما لم يكن هناك منكر، أو شيء يخالف الشرع.
عباد الله:
إن من الناس من يدعو إلى وليمته وطعامه عِلْيَة القوم، وكبار الشخصيات، ويترك الفقراء والمساكين - وهم أحقّ بالدعوة من هؤلاء - وفي ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((شرُّ الطعام طعام الوليمة؛ يُمنَعَها مَنْ يأتها، ويُدعى إليها مَنْ لم يأتها))[15].
فشرُّ الولائم التي للرياء والسمعة، يُدعى إليها الأغنياء، ويُمنع منها الفقراء.
وهناك من الناس أيضاً من لا يجيب الداعي إلا إذا علم أنه من الأغنياء، وأنه سوف يذبح كذا وكذا، وسوف يقدِّم كذا وكذا، فهذا - أيضاً - مخالفٌ لهدي الإسلام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خير البشر كان يقبل دعوة كل أحد، وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((لو دعيت إلى ذِرَاعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت، ولو أُهدي إليَّ ذراعٌ أو كُرَاعٌ لقبلت))[16].
ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: ((يا نساء المسلمات، لاتَحْقِرَنَّ جارةٌ لجارتها ولو فرْسِن شاةٍ))[17].
عباد الله:
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله المعروف بالإِحسان المحمود بكل لسان، الرحمن، علم القرآن، خلق الإِنسان، علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والصلاة والسلام على رسول السلام على رسول الإسلام، وهادي الأنام، أفضل من صلى وصام، وطاف بالبيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
عباد الله:
ومن حقوق المسلم على أخيه أداء النصيحة إليه، فالنصيحة واجبة عند أهل العلم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الدين النصيحة، قالوا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم))[18].(/8)
والنصيحة من نصرة المسلم لأخيه وعدم خذلانه، وقد قال، - صلى الله عليه وسلم -: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قلنا يا رسول الله ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: ترده عن الباطل، فإن ذلك نصره))[19].
فالواجب علينا أن نتناصح فيما بيننا، والإِنسان لا يسلم من الخطأ والنسيان، ونحن جميعاً يعترينا الخطأ في كثير من تصرفاتنا، فالواجب على الأخ الناصح إذا رأى أخاه قد أخطأ في قضية أو مسألة أو اجتهاد أو تصرف، أن يذهب إليه وينصحه، ولن يجد من أخيه إلا الحب والدعاء والبشر والاستقبال الحسن.
أما أن ينتقد إخوانه وينال منهم في المجالس، ويتعرض لأعراضهم، ثم يهرب من أداء النصيحة إليهم في وجوههم؛ فإن هذا من الغش لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين.
ومن علامة المؤمن، أنه يتلطَّف في نصحه، فيذهب إلى أخيه، ويأخذه على انفراد، ويُسِرُّ إليه بالنصيحة، ولا يُشَهِّر به أمام الناس، لأنه لا يبغي من وراء ذلك إلا رضا الله - عزَّ وجلَّ.
وللنصيحة آداب منها: الإخلاص، ومنها الصدق في أدائها، ومنها الإسرار بها، واختيار الأسلوب اللين، الذي لا يجرح شعوراً، ولا يسبِّب ضغينة.
فالإِسرار بالنصيحة من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن النصيحة على رؤوس الأشهاد فضيحة وتشهير.
ومما يروى عن الشافعي – رضي الله عنه – قوله:
تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادٍ وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الْجَمَاعَهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ مِنَ التَّوْبِيخِ لا أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
فَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ أَمْرِي فَلا تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَهْ
عباد الله:
ومن حق المسلم على أخيه أن يشمِّته إذا عطس؛ فقد ورد في الحديث: ((إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه: يرحمك الله، فإذا قال: يرحمك الله، فليقل: يهديك الله ويصلح بالك))[20].(/9)
وعن أنس: أنه عطس عنده رجلان، فشمَّت أحدهما، ولم يشمِّت الآخر، فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمَّتَّهُ، وعطستُ فلم تُشَمِّتني، فقال: هذا حَمِدَ الله، وأنت لم تحمد الله))[21].
وروى أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه))[22]. فإذا قال العاطس: الحمد لله؛ فواجب علينا أن نقول له: يرحمك الله، وإذا سكت فلم يحمد الله؛ فليس علينا أن نقول له يرحمك الله، عملاً بهذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون:
ومن حق المسلم على أخيه عيادته إذا مرض، وعيادة المرضى من الأمور التي تزرع المحبة والألفة بين المسلمين، ولذلك فقد جاءت الأحاديث الصحيحة مُبينة فضل زيارة المرضى منها ما رواه مسلم عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عاد مريضاً لم يزل في خُرْفة الجنة حتى يرجع))[23].
وقد عاد عليه الصلاة والسلام أصحابه ودعا لهم؛ منهم: سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عاده - صلى الله عليه وسلم - ودعا له[24].
وعاد - عليه الصلاة والسلام - جابرَ بن عبد الله - رضي الله عنه - فوجده مُغْمى عليه فتوضأ - عليه الصلاة والسلام - وصبَّ عليه الماء؛ فاستفاق[25].
وعاد عليه الصلاة والسلام أعرابياً جافياً ودعا له فأبى[26].
وهناك آداب لعيادة المرضى ينبغي على المسلم مراعاتها، منها عدم إطالة الجلوس عند المريض، وقد ذكر الذهبي في ترجمة سليمان بن مهران الملقب ((بالأعمش)) أنه مرض مرضاً مزمناً، فدخل عليه الناس، وترددوا عليه كثيراً حتى أزعجوه، فكان من أمره أن كتب وَصْفَ مرضه، وما يعانيه في ورقةٍ، ووضعها تحت وسادته التي ينام عليها، فكان كلما سأله أحدٌ عن مرضه أخرج هذه الورقة، وقال له: اقرأ!! فلما كثر الناس عليه، قفز، فأخذ المخدة، وجعلها تحت إبطه، ووقف وقال للناس: شافى الله مريضكم!!(/10)
فعلى المسلم أن يراعي حال المريض في الزيارة، وعليه - أيضاً - أن يتحرَّى وقت العيادة؛ بحيث يكون مناسباً للمريض، فلا يكون عند نومه، ولا عند طعامه، ولا عند صلاته، بل يجتهد في معرفة الوقت المناسب للعيادة.
كذلك ومن آداب العيادة، تهوين أمر المرض على المريض، وذلك باختيار الكلمات المناسبة التي تُدخل عليه الفرح والسرور، وليس كما يفعل بعض الناس – هداهم الله – فإنهم يُشعرون المريض بأن مرضه خطير، وحاله سيئة، وأنه يجب عليه أن يوصي بماله، وأن يوزِّع تركته، وكأن ملك الموت ينتظره عند الباب.
وهذا خطأٌ جسيمٌ، فالحالة النفسية لها دورها في تعجيل الشفاء، ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عاد مريضاً قال له: ((لا بأس، طهور إن شاء الله))[27] كما فعل مع الأعرابي.
ولكن قال بعض أهل العلم: إذا وجدت رجلاً قد اشتد مرضه، وظهرت عليه علامات الموت، وأصبح قريباً من الآخرة، فحسِّن ظنَّه بالله، وبشِّره بالجنة، وحسِّن رجاءه في الله.
أيها المسلمون:
إن حقوق المسلمين على إخوانهم لا تنقطع ولا تنتهي حتى بعد الموت، فللمسلم حقوقٌ على إخوانه حتى بعد أن يصبح جثماناً، وتصعد روحه إلى بارئها.
فمن حقوقه بعد وفاته: اتباع جنازته، والصلاة عليها، ومواصلته بالدعاء بالمغفرة والرحمة، فهذه هي أخوة الإسلام، وهذا هو ميثاق الإيمان، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من شهد الجنازة حتى يصلِّي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان))، قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين))[28]. وانظر إلى عظم الأجر وجزيل الثواب مع أن العمل هينٌ والمشقة محدودة.
أيها الناس:(/11)
إن حقوق المسلمين كثيرة، لا نستطيع في هذه الدقائق أن نستوعبها، وإذا لم يستطع أحد منا أن يقوم بكل ما عليه تجاه أخيه من حقوق، فعليه أن يكفَّ شرّه عن عباد الله، فلا يغتاب أحداً، ولا ينال من عرض أحد، قال تعالى: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات: 12].
وقد بلغ الحسن البصري أن رجلاً قد اغتابه، فأتى بطبق، ووضع فيه رطباً، ثم قال لخادمه: اذهب إليه وقل له: أهدى لنا حسناته، وأهدينا له رطباً!!
وأتى رجل إلى جعفر الصادق، فسبَّ رجلاً من المسلمين في مجلسه، فقال له جعفر الصادق: أيها الرجل .. أقاتلت الروم؟ قال: لا. فقال له: أقاتلت فارس؟ قال: لا. قال: أجاهدت الكفار؟ قال: لا. فقال: سبحان الله!! يسلم منك الروم وفارس واليهود والنصارى، ولا يسلم منك المسلمون!!
فاتق الله أيها المسلم في أعراض المسلمين، فعِرْض المسلم أمره عظيم، وشأنه خطير، فكيف يزين لك الشيطان أن تتحدث في أعراض إخوانك، فتعدِّل هذا، وتجرِّح ذاك، وتشتم هذا، وتسب هذا، وقد يكون هذا الذي سببتَ وشتمت أفضل منك وأتقى منك لله - عزَّ وجلَّ.
فأين نحن من أبي الدرداء الذي كان يدعو في السحر لسبعين من أصحابه، وأين نحن من الإمام أحمد وقد رأى ابن الشافعي فقال له: أبوك من الذين أدعو لهم كل يوم!!
وأين نحن من الإمام الشافعي يوم عاتبه بعض الحاقدين في زيارته للإمام أحمد، وقالوا له: كيف تزوره وأنت أكبر منه سنّاً؟ فرد عليهم قائلاً:
قَالُوا يَزُورُكَ أَحْمَدٌ وَتَزُورُهُ قُلْتُ الْفَضَائِلُ لا تُغَادِرُ مَنْزِلَهْ
إِنْ زَارَنِي فَلِفَضْلِهِ أَوْ زُرْتُهُ فَلِفَضْلِهِ فَالْفَضْلُ فِي الْحَالَيْنِ لَهْ!
فاللهَ اللهَ في الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، والله الله في حفظ عورات المسلمين وأعراضهم، والله الله في التناصح والتآلف والتآزر.
عباد الله:(/12)
وصلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً))[29].
فاللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم - واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة يا رب العالمين.
---
[1] أخرجه البخاري (3/98) كتاب المظالم باب (3). ومسلم (4/1996) كتاب البر والصلة رقم (58).
[2] ((السُّلامى)) أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في سائر عظام البدن ومفاصله.
[3] أخرجه البخاري (3/224) كتاب الجهاد باب (72، 128). ومسلم (2/699) كتاب الزكاة رقم (56).
[4] أخرجه مسلم (1/74) كتاب الإيمان، رقم (93).
[5] أخرجه الترمذي (4/572) كتاب صفة القيامة، رقم (2508) قال أبو عيسى: حديث صحيح غريب. وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (2683).
[6] أخرجه أحمد (166، 356) والنسائي في اليوم والليلة رقم (863) وابن السني في اليوم والليلة رقم (754). قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (3/187): رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
[7] أخرجه مسلم (4/1986) كتاب البر والصلة، رقم (32).
[8] ورد بذلك الحديث الصحيح. انظر صحيح مسلم (4/1997) كتاب البر والصلة رقم (59).
[9] أخرجه مسلم (4/1705) رقم (2162).
[10] أخرجه أبو داود (4/351) رقم (5200) قال الألباني: رواه بإسنادين أحدهما صحيح كما في المشكاة رقم (4650).
[11] أخرجه البخاري (1/13)، ومسلم (1/65) رقم (39).
[12] أخرجه البخاري (1/12) معلقاً، وقد وصله عبد الرازق في المصنف رقم (19439).
[13] أخرجه البخاري (6/143)، ومسلم (2/1052) رقم (1429).
[14] صحيح مسلم (2/1053) رقم (1429).
[15] أخرجه البخاري (6/144)، ومسلم (2/1054) رقم (1432).(/13)
[16] أخرجه البخاري (3/129).
[17] أخرجه البخاري (3/129)، ومسلم (2/714) رقم (90) والفرسن: عظم قليل اللحم وموضع الحافر في الإبل.
[18] أخرجه مسلم (1/74) رقم (55).
[19] أخرجه البخاري (3/98) من حديث أنس واللفظ له، ومسلم (4/1998) رقم (2584) من حديث جابر رضي الله عنه.
[20] أخرجه البخاري (7/125) وأحمد (2/353).
[21] أخرجه البخاري (7/125)، ومسلم (4/2292)، رقم (2991)، والترمذي (5/78) رقم (2742)، وابن ماجه (2/1223) رقم (3713).
[22] أخرجه مسلم (4/2992) رقم (2992)، وأحمد (4/412).
[23] صحيح مسلم (4/1989) رقم (2568) وخرفة الجنة: بساتينها.
[24] انظر: صحيح البخاري (7/6)، ومسلم (3/1253) رقم (1628).
[25] انظر صحيح البخاري (8/149)، وصحيح مسلم (3/1234) رقم (5-7).
[26] أخرجه البخاري (7/7).
[27] أخرجه البخاري (2/90)، ومسلم (2/652) رقم: (945).
[28] متفق عليه.
[29] أخرجه مسلم (1/288) رقم: (384).(/14)
العنوان: حقوق الأجراء
رقم المقالة: 1361
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70- 71].
أمَّا بَعْدُ: فإنَّ القُوَّةَ ليست في التسلُّط على الضعفاء والمساكين، وبَخْس حقوقهم، وأَكْلِ أموالهم بالباطل، والولوج من كل بابٍ يُؤَدِّي إلى مال ودنيا، دون النظر إلى حلِّه وحرمته؛ إنَّما القُوَّةُ الحقيقيَّة هِيَ في السَّيْطَرَةِ على النفس وشهواتها، وكبح جماحها، أن تظلم الآخرين أو تبخس حقوقهم، في مراقبة دائمة لله - عز وجل - مع استحضار قوة الله وبطشه، وسرعة انتقامه من الظالمين.(/1)
وهذا تذكيرٌ بلزوم أداء الحقوق إلى أهلها، في زمن تهاون فيه كثير من الناس بحقوق الأجراء والعمال؛ يستأجر الواحد منهم أجيرًا فيؤدي عمله كاملاً، فيدفع الطمعُ صاحبَ العمل إلى المُمَاطَلَة والتأخير في دفع الأجرة، ولقد ازْدَحَمَتِ المحاكم بكثرة الدعاوى، واشتكت المكاتب المسؤولة من كثرة الشكاوى. وهذه الظاهرة الظالمة تَنُمُّ عن قسوة قلوب كثير من المستقدمين والمستأجرين للأجراء، وتظهر مدى جشعهم وطمعهم واستبدالهم شكر نعمة المال كفرًا، فنعوذ بالله من نفوس لا تشبع، ومن قلوب لا تخشع.
أيها الإخوة: إن من أعظم الظلم في الاستئجار والاستقدام أن يُفضَّل الكافر على المسلم، فيستقدمُ صاحبُ العمل خدمًا أو عمالاً كافرين، رجالاً كانوا أم نساءً من بلاد فيها مُسْلِمون محتاجون إلى هذا العمل، لا يراقب الله في صنيعه هذا، ولا يهتم لمسألة الوَلاء والبَرَاء، ويتذرَّعُ بِحُجَجٍ واهية من دعوى أن الكافر أتقنُ لعمله من المسلم، وأحفظُ للأمانة، وأوفى بالعهد، وغير ذلك مما يردده - وللأسف - بعضُ المسلمين.
وما عَلِمَ هؤلاءِ أن الأصلَ في الكافر الخيانة والغَدْر؛ لأنَّ مَنْ خانَ اللَّهَ في عبادته، وخان رسوله في اتباعه فهو أَوْلَى بِكُلِّ خيانة.
لكن تأبى بصائرُ هؤلاءِ إلا أن تَعْمَى عن الحق، ويأبى نظرُهم إلا أن يكون ضيقًا محدودًا، ينخدع بتمسكنِ الكافر، وإظهار إخلاصه وإتقانه، وقد أشار الله - تعالى - إلى هذا الإعجاب بالكافر وبيَّن أنَّ الخيريَّة هي في المؤمن مهما بلغ الإعجاب بالكافر، فقال عز من قائل: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] نعم والله، ولو أعجبكم شكله ومظهره، وما يظهر من أمانته وإتقانه؛ فإنَّ المؤمِنَ يَبْقَى خيرًا وأفضل ولا سيَّما أن الله - تعالى - قد خَوَّن الكافرين.(/2)
روى عياضٌ الأَشْعَرِيّ: "أن أبا موسى - رضي الله عنه - وفد إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومعه كاتب نصراني، فأعجب عمرَ - رضي الله عنه - ما رأى من حفظه فقال: "قل لكاتبك يقرأ لنا كتابًا، قال: إنه نصراني لا يدخل المسجد، فانتهره عمرُ - رضي الله عنه -، وهمَّ به وقال: "لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله، ولا تأتمنوهم إذْ خَوَّنَهُمُ الله - عز وجل –". وفي رِوَاية قال أبو موسى: "فانتهرني عمر وضرب فخذي، وقال: "أخرجه"، وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] قال أبو موسى: "والله ما توليته، إنما كان يكتب، قال: "أمَا وجدت في أهل الإسلام من يكتب لك؟ لا تدنهم إذ أقصاهم الله، ولا تأمنهم إذ خانهم الله، ولا تعزَّهُمْ بعد إذ أذلهم الله فأخرجه"؛ أخرجه البيهقي بإسناد صحيح[1].
ويكون الأمرُ متناهيًا في الإثم حينما يكون عند صاحب العمل أجراءُ مسلمون يُرَئِّسُ عليهم كافرًا يضطهِدُهم ويُهينهم ويمنعهم من أداء شعائر دينهم بحُجَّةِ العمل؛ بل يُكْرِهُهُم على الردة والكفر بأفعاله وتصرفاته، والله - تعالى - يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]. وبعض المسلمين يأْبَوْن إلا أن يجعلوا للكافر على المؤمن سبيلاً وفي بلادِ المسلمين!!(/3)
وبعض أرباب العمل - هداهم الله - يظلمون الأجراء فيكلفونهم من العمل ما لا يطيقون، أو ما لم يتفق عليه في عقد العمل، وهذا مُخَالِفٌ لأمر الله بالوفاء بالعقود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ} [المائدة: 1]، أو يكتب العقد بعبارات واسعة فَجَّة تَحْتَمِل جميع الأعمال؛ لئلا يُحتج عليه بالعقد؛ ظانًّا أنه بهذه الحِيَل يخرج من الإثم، جاهلاً أو متجاهلاً وجوب أن يكون العقد بينه وبين الأجير واضحًا لكل مِنْهُمَا.
قال المُوفقُ ابنُ قُدَامَة - رحمه الله تعالى - فيمَنِ اسْتُؤْجِرَ لحفر أرض: "ويحتاج إلى معرفة الأرض التي يحفر فيها... لأن الأرض قد تكون صُلْبَة فيكون الحفر عليه شاقًّا، وقد تكون سهلة فيسهل ذلك عليه. وإن قدَّره بالعمل فلا بد من معرفة الوضع بالمشاهدة؛ لأن المواضع تختلف بالسهولة والصلابة ولا ينضبط ذلك بالصفة... وإن وصل إلى صخرة أو جماد يمنع الحفر لم يلزمه حفره؛ لأن ذلك مخالف لما شاهده من الأرض، وإنما اعتبرت مشاهدة الأرض؛ لأنها تختلف، فإذا ظهر فيها ما يخالف المشاهدة كان له الخيار في الفَسْخِ، فإذا فسخ كان له من الأجر بحِصَّة ما عَمل" ا.هـ[2]
فما موقع هذا الكلام الدقيق من قلوب أقوام يتسلطون على الأجراء، ويُكَلِّفُونَهم من العمل ما هو خارج عنِ الاتّفاقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُجَرائِهِمْ، ويهددونهم بتأخير أجورهم أو منعها إذا لم يعملوا لهم ما يريدون مما لا يلزم الأجراء؟!(/4)
ومن ظواهر تقديم الدنيا على حق الله - تعالى - والدار الآخرة: ما يفعله بعض المسلمين من منع عُمَّالهم من أداء الصلاة في الجماعة؛ حتى صلاة الجمعة، وربما اضطروهم إلى تأخير الصلاة عن وقتها، أو ألزموهم بالفطر في الصيام الواجب، أو منعوهم من الحج مع اشتراطه في عقد العمل، وكثير من العُمَّال قد يجدون أعمالاً في بلادهم؛ لكن يحفزهم إلى العمل في هذه البلاد المباركة التَّمَكُّنُ من أداء الحج، فيشترطونه في العقد؛ ومع ذلك لا يُمَكِّنُهم أصحاب الأعمال منه، وإن كانوا لا يتضررون بذلك، فضلاً عن منعهم من نوافل العبادات.
قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: "أجير المشاهرة - أي: الذي استؤجر بالشهر - يشهد الأعياد والجمعة ولا يشترط لذلك" - أي: أنه من لوازم العقد بلا شرط - قيل له: فيتطوع بالرَّكْعَتَيْن قال: "ما لم يُضرَّ بصاحبه"، قال ابْنُ قُدَامَةَ: "إنما أباح له ذلك؛ لأن أوقات الصلاة مستثناة من الخدمة". وقال ابن المبارك: "لا بأس أن يصليَ الأجيرُ ركعات السنة"، وقال أبو ثور وابنُ المُنْذِر: "ليس له مَنْعه منها"[3].
أيها الإخوة: ومن عظيم الظلم والإثم تأخيرُ دفع مستحقات الأجير والمُمَاطَلَةُ فيها، وتوقيعُه مكرهًا على استلامها وهو لم يتسلمها، وتهدُيده عند التذكير بحقه بإلغاء عقده وتسفيره، وكم في هذا الصنيع وما جرى مجراه من الظلم والبغي والعدوان، يمنعُ ضعيفًا حقه، ويأكل ماله بالباطل!!
ضعيفٌ تَغَرَّب عن بلاده، وفارق أهله وأولاده، واحتمل المكاره من أجل الرِّزْق الحلال، ربما كان أهله وأولاده جَوْعَى يطعمهم من أجره كل شهر، فكيف يُمنعُ أجره، ويُجوَّعُ أولادُه؟! ربما كان يبعث المال لعلاج والِدَيْن مَرِيضَيْن، فيُؤخرُ حقه فيتأخر الدواء عنهما!! ربما كان يدفع بهذا الأجر عن أولاده خطر التنصير والكفر!!(/5)
إنه لم يخرج من بلاده، ويفارق أولاده إلا من حاجة، فكيف تستغلُ حاجته، وتؤخرُ حقوقه؟! وإذا كان تأخير الحق أو منعُه مع عدم حاجة الأجير إلى حقه ظلمًا، فكيف مع وجود الحاجة؛ بل الحاجةِ الملِحَّة.
عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ - رضي الله عنه - قال: "جاء أعرابِيّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه دينًا كان عليه، فاشتدَّ عليه؛ حتى قال له: أحرِّج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك! تدري من تكلم، قال: إني أطلب حقي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هلا مع صاحب الحق كنتم" ثم أرسل إلى خَوْلَة بنت قيس فقال لها: ((إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيَكِ))، فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضته، فقضى الأعرابيَّ وأطعمه، فقال: أوفيت أوفى الله لك، فقال: ((أولئك خيار الناس، إنه لا قُدِّسَتْ أمةٌ لا يأخذ الضعيفُ فيها حقه غير مُتَعْتَعٍ))؛ أخرجه ابن مَاجَهْ بإسناد صحيح [4]
وعن أبي حُميد السَّاعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحل لمُسْلِم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه))، قال ذلك لشدة ما حرم الله من مال المسلم على المسلم؛ أخرجه أحمد وابن حبان[5]
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله - تعالى -: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمَه خصمته يوم القيامة؛ رجل أعطى بي ثُمَّ غَدَر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره))[6]، قال ابن التين: "هو – سبحانه - خصم لجميع الظالمين إلا أنَّه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح"، وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "هو في معنى من باع حرًا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ؛ لأنَّه استوفى منفعته بغير عوض وكأنه أكلها، ولأنه استخدمه بغير أجرة وكأنه استعبده" ا.هـ[7].(/6)
ولعظيم حق الأجير أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُعْطَى أُجْرَتَهُ فور استحقاقه لها من دون تأخير ولا مُمَاطَلَة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: "أَعْطُوا الأجيرَ أَجْرَهُ قبل أن يجفَّ عرقُه"؛ أخرجه ابن مَاجَهْ[8].
وتأخيرُ إعطاء الأجير حقه مُخَالِفٌ لأَمْر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظلم وبَغْي حتى ولو كانَ العامِلُ الأجير كافِرًا؛ لأنَّ كُفْرَهُ ليس مسوِّغًا لِظُلْمِهِ وأَكْلِ حَقِّهِ، لِذا عَدَّهُ بَعْضُ العُلَماءِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنوبِ[9] التي لا يَقْوَى الاستغفار على رفعها، وإنما تحتاج إلى تَوْبة تامة الشروط وأهم شرط فيها أداء حقوق أجرائه الذين ظلمهم، والاستباحةُ وطلبُ العفو منهم، مع الإقلاع عن الظلم فورًا، والندم عليه، والعزم على عدم تأخير أداء الحقوق إلى أهلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 26 – 28]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المؤمنون: يجب على مَنْ كان عنده أُجَراءُ كُفَّار دعوتهم إلى الإسلام، والاجتهادُ في ذلك.(/7)
فالدعوةُ إلى الإسلام، وهدايةُ العباد من أعظم القرب عند الله - تعالى -، فإن امتنع الأجير الكافر عن الإسلام وجب على صاحب العمل عدمُ تجديد عَقْده، وتسفيرُه بعد أداء حقه؛ لما في بقائه على الكفر مع تشغيله في بلاد المسلمين من المفاسد العظيمة يكفي منها: إقراره على الكفر، بل مكافأته عليه، وربما كان سببًا في ردة بعض المسلمين منَ العاملينَ معه، مع ما فيه من دَعْمٍ لاقتصاد الكفار على المسلمين، وطولُ مُعَاشَرَةِ الكافر في العمل أو المؤسسة أو الشركة تهوّن أمر الكفر في نفس المسلم، ولما في تشغيل الكافر في بلاد المسلمين من تشجيعٍ له على البقاء على كُفْرِه؛ لأنه إذا علم أن بقاءه على الكفر لن يؤثر على عمله فَسَيَبْقَى عليه؛ بخلاف ما إذا علم أنه سيتأثر فلربما أسلم من أجل العمل أولاً، ثم يحسن إسلامه بعد ذلك حينما يجد حلاوة الإيمان.
ويجب على صاحب العمل أن يُعلِّم أجيره الضروريَ من دينه؛ كقراءة الفاتحة والوضوء والصلاة وغير ذلك مما يحتاجه من ضروريات دينه، وكم من أُجَرَاء مسلمين عملوا عند مسلمين، جاؤوا من بلادهم لا يفقهون شيئًا من دينهم، ومكثوا سنوات عدة ثم رجعوا كما هم، وهذا تقصير من مشغِّلِيهم.
وعِرْضُ الأجير محفوظ لا يجوز لصاحب العمل أن يحتقره أو يزدريه أو يغتابه أو يشتمه؛ لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه، بحسب امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أن يحقر أخاه المسلم))[10]. وبعض الناس يتساهل في هذه القضية فتجده يُخَاطِبُ خادِمَهُ أو أجيره بالعبارة التي يحقره بها في لونه أو جنسه أو جسمه أو لسانه.(/8)
وإذا أخْطَأَ الأجير حاسبه صاحب العمل على قَدْر خَطَئِه وفق المشروع من المُحَاسَبَة، ولا يَتَعَدَّى عليه أو يظلمه أو يبخسه حقه بسبب خطئه، وقد ذَكَر الفُقَهَاء ذلك، وذكروا أحكام العقود وشروطها وما يعمل عند اختلال شيء منها، فلا يعذر أصحاب العمل بجهلهم أو تجاهلهم؛ لأنَّ العلماء موجودون، وسؤالهم عما يحدث ممكن، وسبل العلم مُيَسَّرَة؛ لكن نحتاج إلى شيء من الاهتمام والجِدِّيَّة.
فاتقوا الله ربكم، اتقوه في حقوق العباد، فالمعصية بينك وبين الله - تعالى - يغفرها الله لك بتوبة أو رحمة منه - تعالى -؛ لكن حقوق العباد لا بد من أدائها حتى تقبل التوبة، وحقوق الله - تعالى - تبنى على المسامحة أمَّا حُقُوقُ العِبادِ فَتُبْنَى على المشاحَّة، وإذا دعتك نفسك إلى ظلم الضعيف - حينما نَظَرْتَ إلى ضَعْفِه وَعَجْزِه وَقِلَّةِ حِيلَتِه - فَتَذَكَّرْ أنَّ الله - سبحانه - أقوى مِنْكَ، وأنَّهُ يَنْتَقِمُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وأنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ تَرْتَفِعُ إلى عنان السماء ليس بينها وبين الله حجاب، ثم صلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" بالروايتين المذكورتين (10/127)، وصحح الألباني الرواية الأولى، وحسن الثانية؛ كما في "إرواء الغليل" (8/255).
[2] "المغني" لابن قدامه (8/37).
[3] "المغني" (8/43).
[4] أخرجه ابن ماجه في الصدقات؛ باب لصاحب الحق سلطان (2426)، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، رواه أبو يعلى ورواته رواة الصحيح (2/249).
[5] أخرجه أحمد (5/425)، والبزار وحسنه (2/234)، والبيهقي في "الكبرى"
(6/100)، وابن حبان واللفظ له (5946)، قال الهيثمي في "المجمع": رواه أحمد والبزار ورجال الجميع رجال الصحيح (4/171)، وصححه الألباني في "غاية المرام" (456).(/9)
[6] أخرجه أحمد (2/358)، والبخاري في البيوع باب إثم من باع حرًّا دون زيادة ((ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة)) (2227)، وابن ماجه والزيادة له في الرهون باب أجر الأجراء (2442).
[7] "فتح الباري" (4/488).
[8] أخرجه ابن ماجة في الرهون باب أجر الأجراء (2443)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وضعفه البوصيري ثم حسنه (2/259)، والطبراني في "الصغير" (34)، وأبو يعلى من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (6652)، والحكيم الترمذي من حديث أنس ؛كما في "الجامع الصغير" للسيوطي وضعفه، انظر: "فيض القدير" للمُنَاوِيّ (1/562)، وضعفه الهيثمي في" المجمع" (4/98)، قال الزَّيْلَعِيّ: وكل طرقه ضعيفة، انظر: "نصب الراية" (4/129)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1055)، و"الإرواء" (1498)، وانظر الحديث في "السنن الكبرى" للبيهقي (6/120)، و"الحلية" لأبي نُعَيْم (7/142)، و"مشكل الآثار" للطحاوي (4/142)، و"تاريخ بغداد" (5/33)، و"تهذيب تاريخ دمشق" (1/406)، و"الكامل" لابن عدي (4/1352)، و"تلخيص الحبير" لابن حجر (3/59)، و"المطالب العاليه" له أيضًا (1421)، و"المقصد الأعلى" للهيثمي (693).
[9] ممن عدّه في الكبائر ابن حجر الهيتمي في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" باب الإجارة (1/506)، وابن النحاس في "تنبيه الغافلين" (132).
[10] أخرجه البخاري في النكاح باب لا يخطب على خطبة أخيه؛ حتى ينكح أو يدع (5143)، ومسلم في البر والصلة باب تحريم ظلم المسلم وخذله، واحتقاره، ودمه، وعرضه، وماله، (2564) واللفظ له.(/10)
العنوان: حقوق الإنسان وأثرها في تنوير ثقافة الطالب الجامعي
رقم المقالة: 1460
صاحب المقالة: د. عبداللطيف بن سعيد الغامدي
-----------------------------------------
حقوق الإنسان وأثرها في تنوير ثقافة الطالب الجامعي من منظور إسلامي
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولاعدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد
فإن العالمية هي طبيعة حقوق الإنسان كمنتج نهائي ومنهجي لمثل راقية ومقبولة من جميع الضمائر الحية واليقظة وأن الخصوصية هي دعوة للإبداع فيما يتعلق بمداخل ووسائل التطبيق وأولولياته.
لقد تناولت في هذه الورقة قضايا نظرية هي:
• تعليم حقوق الإنسان
• أثر تعليم الحقوق على ثقافة الطالب الجامعي
• إستراتيجيات تعليم حقوق الإنسان
• التوصيات والمقترحات
تناولت جل ذلك من منظور إسلامي ردا ً على كل الشبهات التي تجعل هذه الحقوق غير مستساغة ولا ممكنة في دائرة الدين، وأن التأصيل يعد تثبيتاً لهذه الحقوق وتدعيما ً لها، وذلك لأن إسناد الحقائق بالدين يزيدها رسوخا ً وتأكيداً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول: تعليم حقوق الإنسان
المطلب الأول: مقدمة تاريخية(/1)
منذ الأيام الأولى التالية لإنشاء منظمة الأمم المتحده خاصة بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهناك إهتمام بقضية تدريس حقوق الإنسان، في البداية كان المنحى الرئيسي يركز على نشر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من خلال المدارس، ثم تطور الأمر بعد ذلك فبدأ الإهتمام بالمستوى الجامعي يزداد تدريجياًً، وقد طلبت الجمعية العامة للأمم المتحده في عام 1948م من الدول الإعضاء استخدام كافة الوسائل المتاحة للترويج للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وخاصة في المدارس والمؤسسات التعليمة[1] وفي عام 1951م قامت منظمة اليونسكو بعمل مسح للوسائل والأدوات والبرامج التعليمية في مجال تدريس حقوق الإنسان، وتأسيسا ًعلى نتائج هذا المسح نظمت اليونسكو- في هولندا – أول ورشة عمل دولية لتدريس حقوق الإنسان، تلا ذلك إصدار مطبوعة حول المقترحات العلمية لتدريس حقوق الإنسان (كتيب المدرسين).
أما الستينات التي شهدت مولد العهدين الأساسين لحقوق الإنسان وهما:
أ - العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية.
ب - العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
أقول فقد شهدت تصاعد الاهتمام بتدريس حقوق الإنسان على المستوى الجامعي.
ففي عام 1963م دعى المجلس الاقتصادي والاجتماعي الجامعات والمعاهد والروابط العلمية (من بين هيئات أخرى) للمشاركة في نشر حقوق الإنسان من خلال التعليم والبحث والنقاش[2].
وفي عام 1968م دعى المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان (قرار رقم 30) منظمة اليونسكو إلى تطوير برنامجها بهدف إدخال مبادئ الإعلان العالمي في كافة المستويات التعليمية وخاصة المستوى الجامعي.(/2)
وأستمر تصاعد الجهود من أجل تحقيق إنتشار تعليم حقوق الإنسان وتوسيعه على المستوى الجامعي في سنوات السبعينيات، فقد طلبت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان من منظمة اليونسكو في عام 1973م أن تعمل على تشجيع تدريس حقوق الإنسان وخاصة إعداد الدراسات البحثية في الجامعات في مختلف التخصصات القانونية والعملية والتقنية.... الخ)[3]. وفي عام 1977م طلبت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان من المجلس الإقتصادي والإجتماعي دعوة منظمة اليونسكو لتقديم تقرير دولي وتوصيات تفصيليه حول وضع تدريس حقوق الإنسان في العالم.
وفي نفس العام أيضا ً دعت الجمعية العامة للأمم المتحده منظمة اليونسكو للتشاور مع اللجنة المعنية بحقوق الإنسان إعداد برنامج عمل حول تطوير تعليم حقوق الإنسان تمشياً مع قرارها السابق[4] وهو ما أدى في واقع الأمر إلى إنعقاد المؤتمر الدولي حول تدريس حقوق الإنسان في عام 1978م في فينا.
وقد شهدت الثمانينيات والتسعينيات لقاءين دوليين آخرين حول تدريس حقوق الإنسان.
الأول: هو إجتماع مالطا عام 1987م.
الثاني: مؤتمر حقوق الإنسان والديمقراطية بمدينة مونتريال عام 1993م الذي أقر خطة عمل تؤكد على أن تعليم حقوق الإنسان والديمقراطية هو في حد ذاته حق من حقوق الإنسان.
كما أن المؤتمر الدولي الثاني لحقوق الإنسان الذي عقد في فينا سنة 1993م قد شهد أيضاً مناقشات مكثفة حول تعليم حقوق الإنسان، وأوصى إعلان فينا الصادر عنه كافة الدول الأعضاء بإعداد برامج واستراتيجيات خاصة لضمان التوسع في تعليم حقوق الإنسان، مع تأكيد خاص على احتياجات المرأة في مجال حقوق الإنسان ويمكن القول بأن هذه الجهود قد بلغت ذروتها في إعلان عقد الأمم المتحدة لتعليم حقوق الإنسان في عام 1995م - 2004م.
المطلب الثاني: تعليم حقوق الإنسان والخصوصية الثقافية(/3)
إن الاعتراف بعالمية حقوق الإنسان لا يعني صياغة قوالب تلقينية جامدة لتعليم هذه الحقوق فالعالمية هي طبيعة حقوق الإنسان كمنتج نهائي ومنهجي لمثل راقية ومقبولة من جميع الضمائر الحية واليقظة.
والخصوصية هي دعوة للإبداع فيما يتعلق بمداخل ووسائل التطبيق وأولوياته[5].
وتحمل خطابات النسبية الثقافية ضمنا ً أو صراحة افتراض أن الثقافة، أي ثقافة، ساكنة وتحمل خصائص لايطالها التغيير، ولعل هذا المنطق هو بمعنى ما أساس الانتقائية في التعامل مع مفاهيم حقوق الإنسان لكن التجربة البشرية علمتنا أن الثقافات تعتني بحوارها مع غيرها وهناك ثوابت ومتغيرات وفي مجال المتغيرات فإن الثقافات تكتسب عناصر جديدة من خلال هذا الحوار ومن خلال الإستجابة لمعاش الناس وعلاقاتهم بحكم إرتباطها بحركة الزمان والمكان والمجتمع وبقدر ماينبغي أن نطبع ثقافة حقوق الإنسان بطابع شمولي يضفي عليها صبغة العالمية.
ذلك أن هذه الثقافة في الحقوق تترتب للإنسان لمجرد كونه إنسانا ًَ بغض النظر عن الخصائص، فالمساواة مثلا ً هي المبدأ الأساسي الناظم لحقوق الإنسان، وبقدر ذلك فلا يجب أن نهمل جانب الخصوصية في هذا الصدد باعتبار ما يميز الأمم عن بعضها[6].
المبحث الثاني: أثر تعليم حقوق الإنسان على ثقافة الطالب الجامعي
المطلب الأول: فلسفة التعليم
إذا كان التعليم هو إعادة تكوين الثقافة فإن علينا أن نتأمل طبيعة الثقافة التي أنشأها التعليم.(/4)
إن تعليم حقوق الإنسان لا يستقيم مع نفسه إلا إذا اعترف منذ البداية بأنه نظام مفتوح، أي أنه نظام لا يتحقق في الواقع بما في ذلك الواقع التعليمي إلا إذا صار المتعلمون جزءاً منه والشرط الذي يضمن تفعيله من وجهة نظري هو تأسيس حقوق الإنسان على الدين لأن فيه تأمين لها وصيانة، وذلك أن الوازع الديني يكون أقوى على الردع، إذ هو ينبع من داخل الفرد وليس خارجا ً عنه، وإن انتهاك حقوق الإنسان اليوم في أغلب بقاع الأرض وفي أكثر البلدان تقدما ً لدليل على أن حقوقه ليست معتبره، وأن احترامها يفتقر إلى اعتقاد راسخ بها في النفس البشرية وهذا الاعتقاد لا يتأتى إلا إذا ترسخت العقيدة الدينية في النفوس وظهر أثرها في السلوك[7].
إن النتيجة التي ننشدها لعملية التعليم هي أن يحول المتعلم نفسه إلى مناضل حقوقي بالمشاركة مع غيره، ومن المهم للغاية أن نستنبط القنوات الملائمة التي تجعل التعليم فعلا ً نضاليا ً وبيئة لانبثاق إرادة نضالية من جانب المتعلمين وبهذا المعنى يتحول المتعلمون إلى موجات تأثير مستقلة يجب أن تنتج موجاتها التالية[8].
إن أسلوب التعليم الذي يجسد هذا الطموح كله هو الذي يتعامل مع مادة تاريخية وحاضرة بقوة في أذهان المخاطبين بالتعليم، والتعامل مع معضلات الحياة التي يعيشها كل الناس وتنطبع بقوة في أذهانهم وتطرح تحدياتها على عقولهم ووجدانهم[9].
المطلب الثاني: التطبيق والتعليم
إن الإسلام بجانب تأصيله الفكري للحقوق كان مطبقاً لها في واقع الحياة، ولم يكن تنظيراً أو ترفاً فكرياً، أو شعارات جوفاء ترفع.
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتوافق مع دعوة الإسلام لحماية الحقوق ونصرة المظلوم، وهاهو الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يمتدح حلف الفضول الذي حضره في دار ابن جدعان قبل البعثة يقول صلى الله عليه وسلم دعيت إلى حلف في الجاهلية لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.(/5)
ومن هذا المنطلق وهذا الضمان يجب أن ننطلق إلى هذه الحضارة الجديدة بتكثيف الجهود الوطنية والمساهمة في الجهود العالمية لوضع الإعلان والمواثيق والعهود ومدونات العمل الأخرى الخاصة بحقوق الإنسان موضع التطبيق.
ولابد أن نعترف بأن تطبيق حقوق الإنسان على المدى الطويل هو أمر مرهون بالتعليم والتثقيف على المستوى الجماهيري[10].
المطلب الثالث: توسيع دلالات المواطنة
وهنا يثور سؤال: لماذا انهارت نظم الإتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية ورفعت الراية أمام أوربا الغربية وأصبحت تطلب العون منها وتتطلع إلى التشبه بها في نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد أن تخلت عن نظمها الشيوعيه الشموليه؟
إن الفقرة الثالثة من ديباجة العهدين الدوليين لعام 1966م تجيب عن ذلك السؤال، إذ تذهب تلك الفقرة إلى أن المجتمع الحر المتجرد من الخوف والفاقة هو المجتمع النموذج للإنسان الذي يتذوق فيه التمتع بحقوقه المدنية والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ومن ثم فهو المجتمع المثالي في قمة انتماء الإنسان لبلاده وحبه لها وتفانيه في خدمتها، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاج وتحقيق التقدم والرخاء في كل المجالات[11].
وعليه فإن محاولة عولمة مفهوم المواطنة وإمِّحاء الفوارق الثقافية الخاصة وطمس الهويات وخصوصيات الأمم بسبب الصراع أو الاختلافات السياسية كثيرا ً ما تأتي بردود عكسية لهذا الاتجاه[12].
وهنا تبرز الوحدة العضوية بين التعليم والتمكين، إذ أن هدف التعليم هنا هو توسيع معاني ودلالات وفعاليات المواطنة إذا أن رابطة الوطنية هي أحد الروابط الإنسانية التي أقرها الإسلام.
المبحث الثالث: إستراتيجيات تعليم حقوق الإنسان
المطلب الأول: أهمية تدريس حقوق الإنسان في الجامعات وما في حكمها(/6)
لقد لفت انتباهي أثناء إعداد هذه الورقة وعودتي إلى بعض المصادر والمراجع المتعلقة بموضوع الورقة إلى أن أطلع على عرض لكتاب (تعليم القضايا العالمية المعاصرة) وهذا الكتاب من تأليف مجموعة من الخبراء العالميين وقد أعده للنشر (روبرت هاريس) وقد قام بالعرض والتحليل لهذا الكتاب الأستاذ ياسر الفهد في مجلة الفيصل.
ومن جملة تلك القضايا الذي تعرض لها الكتاب (حقوق الإنسان) وفي أثناء الحديث عن تلك الحقوق يأسف المؤلفون، لأن حقوق الإنسان ليست مصانة في جميع المجتمعات، وينتقل الكتاب بعد ذلك إلى دور التعليم مبينا ً أن حقوق الإنسان قابلة للتعليم في جميع المراحل الدراسية، وحتى في المرحلة قبل المدرسية وفي المراحل الأعلى وخاصة في المرحلة الجامعية ليصبح الأمر أسهل، لأن الطالب في هذه المرحلة يكون واعياً للمخاطر الناجمة عن الفقر وعدم المساواة وسلب الحريات، والصراعات البشرية، وقد يتساءل الطالب في هذه المرحلة، كيف يمكن التغلب على هذه الأوضاع الشاذة وتغيير الأمور نحو الأفضل؟ ويجيب الكتاب بأن ذلك ممكن فقط من خلال تعليم القيم التي تتبناها المؤسسات القانونية العالمية، وقبل تعليم الطالب هذه القيم ولاسيما تلك التي يتضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمواثيق الأخرى فإن من الضروري أولا ً تعليم المعلم لأنه هو المفتاح الأساسي في العملية بأكملها[13].
فأضيف إلى ماسبق بأن العملية يجب أن تتعدى في البلدان العربية والإسلامية إلى ماهو أبعد من ذلك وهو تعليم رجال الأمن ومن في حكمهم حقوق الإنسان والمحافظة عليها وعدم انتهاكها وما تقوم به كلية الملك فهد الأمنية من تدريس لهذه المادة بشكل مستقل ليعتبر في نظري الأنموذج الذي ندعو إلى تعميمه في الجامعات والكليات الشرطية في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي.
المطلب الثاني: نظرة مستقبلية(/7)
إن إقامة حقوق الإنسان على أرضية صلبه تجعلها مصونة ومرعية ولا يكون ذلك إلا بالتأكيد على أهمية تأصيل قيم حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي ليتسنى الوقوف على أنواع هذه الحقوق بالارتكان إلى النصوص وفق مقاصد الإسلام الكبرى مما ينتج عنه مايلي[14]:
1 - إن ذلك أدعى للأفراد والجماعات للشعور بالالتزام الأصدق والتطبيق العملي لمبادئ حقوق الإنسان إذا ما أدركوا أنها نابعة من قيم مجتمعاتهم أو متسقة معها مما لو كانت مشروعية تلك المبادئ مستمدة فقط من المواثيق والمعاهدات الدولية أو من قيم وثقافات أجنبية، بل و يمكن القول بأن أحد المحددات الرئيسية لاحترام حقوق الإنسان في مجتمع ما تتوقف بالأساس على مدى تأصيل قيم ومبادئ حقوق الإنسان ضمن ثقافته السائدة.
2 - بقدر النجاح في تأصيل قيم حقوق الإنسان في ثقافة ما بقدر ما يكون هناك صعوبة لتبرير انتهاك حقوق الإنسان من منطلق الخصوصية الثقافية، لأنه يصبح من الممكن حينئذ بيان أن المبادئ المراد تبرير انتهاكها تنبعث من قيم وأعراف تلك الثقافة.
3 - تحتل عملية تأصيل قيم حقوق الإنسان أهمية خاصة في الثقافة الإسلامية لأنها تتمحور وتتشكل نواتها الأساسية حول مقدس ديني وهو نصوص الكتاب والسنة.
4 - يساهم تأصيل قيم حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية في تنمية الاجتماع الشعبي العالمي حول مفهوم ومبادئ حقوق الإنسان. ومن هنا يتضح لنا موقع النظام التعليمي باعتباره أحد القنوات الرئيسية التي يمكن أن تصوغ الوعي الاجتماعي وتدربه على حماية مرتكزات حياته الإنسانية الحقة.
وفي قمة الهرم التعليمي تأتي الجامعات الإسلامية فيكون لها دور غير منكور في التنوير والتأصيل والتثبيت لحقوق الإنسان في الفكر والسلوك الاجتماعي.
التوصيات والمقترحات:(/8)
أولاً: أقترح أن تقوم كليات الشريعة والدراسات الإسلامية في الجامعات السعودية بتضمين مناهجها في الدراسات الفقهية مادة جديدة باسم (حقوق الإنسان في الإسلام) وكذا بقية كليات الشريعة والقانون في الوطن العربي والعالم الإسلامي سواء على مستوى الليسانس أو مستوى دبلومات الدراسات العليا.
ثانياً: أن تقوم كليات العلوم الإدارية في الجامعات السعودية وكليات القانون في الوطن العربي والعالم الإسلامي بتضمين مناهجها في دراسة القانون الدولي فرعاً جديداً باسم ( القانون الدولي لحقوق الإنسان) سواء على مستوى الليسانس أو مستوى دبلومات الدراسات العليا.
ثالثاً: أن تشجع كليات الشريعة و كليات العلوم الإدارية وكليات القانون تسجيل رسائل الماجستير والدكتوراه عن موضوعات (حقوق الإنسان).
رابعاً: أن تتضمن دراسات الفلسفة، والاجتماع، والتاريخ فصولا ً أو أبوابا ً خاصة عن (حقوق الإنسان) سواء من زاويتها الفلسفية أو الاجتماعية أو التاريخية.
خامساً: أن تقوم كليات الشرطة في الوطن العربي والعالم الإسلامي بتضمين مناهجها مادة جديدة باسم (حقوق الإنسان في الإسلام) وما تقوم به كلية الملك فهد الأمنية من تطبيق لهذا المقترح هو أكبر شاهد على نجاح هذه التجربة في الواقع العملي حيث أن من أحد موادها الدراسية مادة (حقوق الإنسان في الإسلام).
الخاتمة:
تمثل ورقة تدريس حقوق الإنسان، وأثرها في تنوير ثقافة الطالب الجامعي (من منظور إسلامي) أهمية تدريس هذه المادة لهؤلاء الطلبة وماله من أثر إيجابي في تنوير ثقافتهم الحقوقية وحياتهم العملية وبرهان على أن في ثقافتنا الإسلامية ما هو جدير باستيعاب لكل قضية مستجدة.
ومما هو جدير بالملاحظة أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تحتاج إلى نشر ثقافة حقوق الإنسان، ولا يكون ذلك في - نظري - إلا بتدريسها في المدارس والمعاهد والجامعات حتى تتربى عليها الناشئة وتتغلغل في نسيجنا الاجتماعي.(/9)
إن بناء حقوق الإنسان على المبادئ الكبرى التي وجهنا إليها الإسلام تجعلنا لا نخضع إلى ازدواجية المعايير التي كثيرا ً ما تعمد إليها الدول القوية في تعاملها مع ما يسمى بدول العالم النامية.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] الجمعية العامة للأمم المتحده قرار رقم 317/D لعام 1984م.
[2] المجلس الإقتصادي والإجتماعي (قرار رقم D029 /958 يوليو1963م).
[3] لجنة حقوق الإنسان قرار رقم 029 17/D .
[4] الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار (123/32) ديسمبر 1977م.
[5] إنظر تمكين المستضعف ص5.
[6] الغامدي. عبداللطيف، حقوق الإنسان في الإسلام ص 275.
[7] الغامدي.عبداللطيف، حقوق الإنسان في الإسلام ص 12.
[8] سعيد. محمد السيد، فلسفة التعليم، مجلة رواق عربي، السنة الثالثة 1998م العدد (10).
[9] سعيد. محمد السيد، فلسفة التعليم، مجلة رواق عربي، السنة الثالثة 1998م العدد (10).
[10] المرجع السابق.
[11] بشير. الشافعي محمد، قانون حقوق الإنسان ص 14.
[12] العامر. عثمان صالح، المواطنه في فكر الغرب المعاصر.
[13] مجلة الفيصل العدد (141) ربيع الأول 1409هـ السنة الثانية عشرة بتصرف.
[14] قاعود.علاء، الخصوصية الثقافية والترويج لتعليم حقوق الإنسان، مجلة رواق عربي،السنة الثانية العدد (7) 1997م.(/10)
العنوان: حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا
رقم المقالة: 494
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
وجوب الإيمان به
الحمد لله اللطيف الخبير؛ خلق الجن والإنس لعبادته، وكلفهم بحمل أمانته، وأوجب عليهم التزام شريعته، نحمده على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أرسل رسله لتبليغ رسالته، وهداية خلقه، فمنهم من قبل عن الله تعالى هدايته، والتزم شريعته، ومنهم من حقت عليه الضلالة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق هاديا ومعلما، وبشيرا ونذيرا؛ فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله تعالى حق جهاده حتى أتاه اليقين فجزاه الله تعالى عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ خير صحب لخير نبي، ترضى الله تعالى عنهم في كتابه العزيز، وذكر مناقبهم، ومدح صفاتهم، وأثنى على من أحبهم ممن جاءوا بعدهم {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى - أيها المسلمون - واعملوا صالحا؛ فإن الدنيا ليست لبقائكم، ولا هي منتهى آمالكم، وإن الآخرة هي داركم، ولن تنفعكم فيها آباؤكم ولا أبناؤكم، وإنما ينفعكم إيمانكم وتقواكم، فتزودوا بالإيمان والتقوى {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}.(/1)
أيها الناس: من رحمة الله تعالى بعباده هدايتهم وتعليمهم، وإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، وبيان الحق لهم، فمن العباد من قبل رحمة الله تعالى وهدايته، فاتبع رسله، وصدق كتبه، والتزم شريعته؛ فله سعادة الدنيا وفوز الآخرة. ومنهم من أبى رحمة الله تعالى، فعارض رسله، وكذب كتبه، واستنكف عن عبادته؛ فله شقاء الدنيا وعذاب الآخرة.
ورسولنا محمد عليه الصلاة والسلام هو خاتم الرسل فلا نبي بعده، أوجب الله تعالى على كل المكلفين منذ بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة الإيمان به، وتصديقه واتباعه؛ فلا دين يوصل إلى الله تعالى إلا دينه، ولا شريعة يحبها الله تعالى ويرضاها لعباده إلا شريعته {إن الدين عند الله الإسلام} وفي الآية الأخرى {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
وجاءت الآيات القرآنية آمرة أمته بالإيمان به {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم} وفي آية أخرى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله} وفي ثالثة {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا}.
وتوعد الله عز وجل من لم يؤمن به سبحانه وبرسوله صلى الله عليه وسلم بنار جهنم {ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا}.
والإيمان به عليه الصلاة والسلام هو التصديق مع الإقرار بنبوته، وذلك يقتضي محبته وطاعته، والقبول به، والانقياد له، والإذعان لدينه، والاستسلام لشريعته.(/2)
وقد أخبرنا الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أُرسل إلى الناس كلهم إلى قيام الساعة، وهذا يقتضي بأنه ليس رسولا إلى أمة دون أمة، أو إلى جنس دون جنس، أو رسولا في زمن دون زمن، بل هو رسول الله تعالى إلى العالمين منذ بعثته إلى قيام الساعة في كل زمان ومكان {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} وأمره الله تعالى أن يخاطب الناس بذلك {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} وفي الآية الأخرى {وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الإنذار به عام لكل من بلغه، وهي مثل قوله سبحانه {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} وقال عليه الصلاة والسلام: ((بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي إنما يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) رواه أحمد.
ولوازم هذه النصوص الكثيرة: أن كل من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستجب لها، ولم يؤمن به فهو من الكافرين، ومأواه النار خالدا فيها؛ كما جاء مصرحا به في قوله عزوجل {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وفي الآية الأخرى {ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون} وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار} رواه مسلم.
ومن أصول الإقرار برسالته عليه الصلاة والسلام الاعتقاد بأنه آخر الرسل، وخاتم النبيين فلا نبي بعده، فمن ادعى النبوة بعده فهو كاذب، أو ادعى أن له ما للأنبياء من التشريع باسم الولاية أو غيرها فهو كاذب كذلك {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} وقال عليه الصلاة والسلام:((لا نبي بعدي)) متفق عليه.(/3)
ولابد أن يقر العبد بأن ما جاء به من القرآن هو من عند الله تعالى مصدقا لما قبله من الكتب والرسل، وقاضيا على كل الشرائع السابقة، فناسخ لبعضها، ومكمل لأكثرها {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}.
وهذا يقتضي طاعته عليه الصلاة والسلام، والاستسلام لشريعته {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وفي آية أخرى {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وبين سبحانه أن الهداية إنما تكون بطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام {وإن تطيعوه تهتدوا}.
ولا يسع مؤمنا الخروج عن طاعته، أو التحاكم إلى غير شريعته، وإلا لم يكن مؤمنا به {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} وفي الآية الأخرى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
والذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم على أقسام؛ فقسم منهم كذبوه، وزعموا أن الله تعالى لم يرسله إلى الناس نبيا ورسولا، مع قيام الأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة على صدقه ونصحه لأمته عليه الصلاة والسلام، وهذا القسم هم أكثر أمم الأرض في الماضي وفي الحاضر من أنواع الوثنيين والملحدين، ومن طوائف أهل الكتاب.
وقسم آخر زعموا أنهم يصدقونه، ولكنهم جعلوه نبيا لأمة العرب فحسب، وبعضهم يحصرون نبوته في زمن بعثته وحياته، دون القرون التي بعده، أو يحصرونها فيمن هم في مكة أو في جزيرة العرب دون غيرهم. وهؤلاء متناقضون، فإن آمنوا أنه نبي لزمهم أن يصدقوا ما جاء به عن الله تعالى، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بالقرآن وأنه كلام الله تعالى، وفي القرآن أنه عليه الصلاة والسلام مرسل إلى الناس كافة، ورسول الله تعالى إلى الناس جميعا، في كل زمان ومكان؛ فإن آمنوا بنبوته لزمهم تصديق خبره هذا وإلا كانوا متناقضين.(/4)
وقسم ثالث أظهروا تصديقهم بنبوته عليه الصلاة والسلام لكنهم زعموا أن الطرق كلها موصلة إلى الله تعالى، وأن الأديان كلها مرضية عنده سبحانه، وهم من يسمون بالروحانيين، وكثير منهم يخصون ذلك بما يسمونه الأديان السماوية أو الأديان الإبراهيمية؛ ليدخلوا اليهودية والنصرانية في الدين الصحيح. وهؤلاء إن كانوا يصدقون بنبوته عليه الصلاة والسلام لزمهم أن يصدقوا بخبره، وقد أخبر عن الله تعالى أن من ابتغى غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، كما أخبر أن من لم يؤمن بما جاء به فهو من أهل النار، ومما جاء به إبطال اليهودية والنصرانية وسائر الأديان والملل سوى دينه عليه الصلاة والسلام؛ فلزمهم تصديقه في ذلك واتباعه، أو تكذيبه، وإلا كانوا متناقضين.
وقسم رابع أظهروا إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم زعموا أن لشريعته باطنا وظاهرا، وأن باطن شريعته لا يعرفه إلا هم ومشايخهم، فخرجوا على ظاهر شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الباطن الذي اخترعوه، وزعموا اختصاصهم به دون سائر الناس، وكل الفرق الباطنية التي أبطلت دين النبي صلى الله عليه وسلم، وقدحت في أزواجه وأصحابه رضي الله عنهم، وغالت في رؤوسها ومشايخها هم من هذا القسم، وإيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم منقوض بإبطالهم لشريعته عليه الصلاة والسلام، وإحداثهم لدين آخر زعموا أنه باطن دين محمد صلى الله عليه وسلم.(/5)
وقسم خامس أظهروا تصديقهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ويزعمون الإيمان به وتعظيمه، ويصلون عليه إذا ذكر، ولكنهم يعتقدون أو يظنون أن بوسعهم الخروج عن شريعته، وأن ما جاء به من الدين يختص بما يتعلق بالآخرة من العبادات المحضة والأخلاق ونحوها دون ما يتعلق بالدنيا التي يزعمون أنها متروكة للناس، وكثير من أصحاب الاتجاهات العلمانية هم من هذا القسم، وهم متناقضون أيضا لأنهم إن آمنوا به وصدقوه لزمهم أن يقبلوا أخباره، ويذعنوا لأحكامه المتعلقة بأمور الدنيا وأمور الآخرة ولا فرق، وإلا لم يكونوا مستسلمين لشريعته، وعدم استسلامهم لشريعته قادح في إيمانهم بنبوته عليه الصلاة والسلام.
وكثير منهم يلجأ في تنصله من أوامر الشريعة إلى التحريف والتأويل؛ فما لا يوافق أهواءهم يزعمون خصوصيته في زمن الرسالة دون هذا الزمن، أو يدعون أنه كان لظروف خاصة، أو أنه من قبيل العادات المتروكة للناس، ولا سيما إذا كان الحكم الشرعي متعلقا بالحرية أو الديمقراطية أو له صلة بما يدعونه حقوقا للإنسان أو للمرأة أو نحو ذلك. وسبب ضلالهم هذا أنهم آمنوا بالمناهج الغربية المعاصرة إيمانا مطلقا ثم حاكموا شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إليها، فإن وافقتها الشريعة المحمدية انقلبوا إلى علماء ووعاظ وخطباء يدعون الناس إليها، ويستدلون لها، وإن عارضتها الشريعة رفضوها أو تأولوها أو حرفوها أو كذبوها، ومن رفض شيئا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد نقض إيمانه به.
ومع التجييش الإعلامي للمناهج الغربية المنحرفة عن دين الإسلام، والدعاية لها، وإظهار محاسنها؛ قد يجد بعض الناس حرجا في قلبه من أحكام الشريعة، أو عدم انقياد لها، أو تمنٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بها، وهذا الضيق والحرج والتمني مما يقدح في الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يتعارض مع التسليم المطلق له عليه الصلاة والسلام.(/6)
إن النتيجة الحتمية للإيمان به عليه الصلاة والسلام، والرضى به نبيا ورسولاً التسليم المطلق فيما جاء به، أو أخبر عنه، وطاعته فيما أمر به أو نهى عنه، من غير ضيق أو حرج أو تعقيب أو جدال أو مناقشة، أو أخذ بالبعض وترك للبعض؛ إذ إن من التناقض أن يزعم العبد أنه مؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ثمَّ يتمرَّد على بعض ما جاء به، أو ينازعه فيه، أو لا يرضى به، أو يُنصِّب نفسه معقِّبًا عليه، أو نحو ذلك ممَّا ينقض الإيمان برسالته عليه الصلاة والسلام.
ألا فاتقوا الله ربكم - أيها المسلمون - وأسلموا له قلوبكم، وأخلصوا له دينكم، واستسلموا لشريعة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الإيمان لا يكون إلا بذلك.
واحذروا مناهج المنحرفين ولو كثروا، ولو زخرفوا كلامهم بلحن القول، وحسن البيان، ولو ملكوا نواصي الإعلام في الأرض، وكانت أصواتهم عالية منتشرة؛ فإن الباطل باطل ولو كثر أتباعه وعلت أصواتهم، وإن الحق حق ولو قلَّ أتباعه وضعفت أصواتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
أيها المسلمون: أرسل الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ رحمة للعالمين، وهداية للناس أجمعين، فكان من قبول رحمة الله تعالى: الإيمانُ به عليه الصلاة والسلام، وقبول شريعته، والتزام سنته. كماكان تكذيبه أو رفض شريعته رفضا لرحمة الله تعالى.(/7)
ولذا كان أسعد الناس برحمة الله تعالى يوم القيامة هم من قبلوا رحمته في الدنيا، فاتبعوا رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام، وكان أبعد الناس عن رحمة الله تعالى في الدار الآخرة هم من لم يقبلوا رحمته في الدنيا، فلم يتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما طعن الطاعنين في شخص النبي صلى الله عليه وسلم أو في رسالته أو شريعته أو سيرته من قبل كفرة أهل الكتاب، أو من ملاحدة الغرب، أو من زنادقة العرب إلا طعن في الله تعالى، ورفض لرحمته، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وتنزه رسوله صلى الله عليه وسلم عن ما يقولون ويفترون.
ويلهم كيف يطعنون في النبي صلى الله عليه وسلم، ويكذبونه، ويسخرون منه، ويرفضون شريعته، وهو رحمة الله تعالى للناس كلهم إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، مؤمنهم وكافرهم، بل تعدت الرحمة به إلى العجماوات من الطير والحيوان، بما جاء به من دين الإسلام الذي حفظ الحقوق، وأوفى العهود، وأعطى كل ذي حق حقه؛ فكان رحمة لمن على الأرض أجمعين كما قال الله تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
لقد رحم الله تعالى به المؤمنين بما ينالونه من السعادة والسكينة والطمأنينة في الدنيا، والفوز العظيم في الآخرة.
ورحم الله تعالى به الكفار بما حفظ لهم من الحقوق، وأوفى لهم من العهود، فلا يكرهون على الإسلام، ولا يغدر بهم لكفرهم، ومن دخل في عهد ذمة أو أمان كان له الأمان في نفسه وأهله وماله، لا يتعدى عليه ولا يظلم ما دام ملتزما عهده، ومن خانه خان دين الله تعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة)) رواه البخاري.
بل رحم الله تعالى به الكفار المحاربين للإسلام بما شرع لهم من حقوق وهم محاربون، من دعوتهم إلى الإسلام، وتخييرهم قبل الحرب بينه وبين الجزية، ورحم به نساءهم وذراريهم ورهبانهم وشيوخهم فلا يقتلون في الحرب إلا إذا شاركوا في محاربة المسلمين.(/8)
وكانت الرحمة بالحيوان والطير في دين محمد صلى الله عليه وسلم متممة للرحمة بالعالمين، فلا يجوز تعذيبها ولا تجويعها ولا تكليفها ما لا تطيق، ولا اتخاذها هدفا يرمى إليه، ولا ذبحها إلا بحقها، وحقها أن يأكلها ولا يرميها، وقد دخل النار امرأة في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا أطلقتها، ودخل الجنة بغي في كلب سقته فشكر الله تعالى لها فغفر لها.
فاعرفوا رحمكم الله تعالى قدر نعمة الله سبحانه عليكم ببعثة خاتم النبيين وإمام المرسين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، واحمدوا الله تعالى على نعمته ببعثته إليكم نبيا ورسولا، واشكروه على أن هداكم لدينه، واعرفوا لوازم الإيمان به عليه الصلاة والسلام، واتبعوا سنته، والتزموا هديه، واقبلوا حكمه، ولا تجدوا في صدوركم حرجا من أي شيء جاءكم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الحق من عند الله تبارك وتعالى، وما عارضه فهو الباطل أيا كان مصدره، ومهما كان وزن قائله {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم....(/9)
العنوان: حقيقة الإيمان ومقتضياته
رقم المقالة: 1172
صاحب المقالة: الشيخ ناصر بن محمد بن مشري الغامدي
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام المتقين، وسيد الخاشعين، وقدوة الناس أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين وصحبه الطاهرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أما بعد فيا أيها الناس:
اتقوا الله - تعالى - ربكم واشكروه على وافر نعمه، وأطيعوه واعبدوه ما لكم من إله غيره ولا رب لكم سواه، الزموا أمره، واحذروا نهيه فبذلك أمركم وشرع لكم؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}؛ [الأحزاب : 71 -72].
أيها المسلمون:
لقد كرم الله - تعالى - بني آدم، وأنعم عليهم بوافر النعم، وحباهم من الخيرات ما يعجِزون عن شكره والقيام لله – سبحانه - بحقه، وإن أفضل نعمة أنعمها الله على الإنسان وكرمه بها وميزه عن سائر المخلوقات: العقل والإدراك. وإن من تمام هذه النعمة اتباع الدين الذي شرعه، والإيمان بالإسلام الذي اختاره للعالمين ديناً لا يقبل من أحد سواه.
عباد الله:(/1)
القلب هو مدار صلاح الإنسان ومعيار استقامته وتقواه، إذا صلح قلبه أفلح وفاز، وإذا فسد قلبه خاب وخسر. عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبَّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغه، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))؛ متفقٌ عليه.
قال سفيان بن عيينة - عليه رحمة الله -: "من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه".
قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}؛ [فصلت: 30].
الإيمان هو المقبول عند الله دون سواه، وهو عصمة للإنسان في الدنيا، وحفظ له في الآخرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله))؛ رواه البخاري.
من رضي بالله - تعالى - ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً فقد ذاق طعم الإيمان وحلاوة الحياة، فعاش مطمئناً، ومات آمناً، لرحمة الله راجياً.
وإذا تمكن الإيمان من النفوس، وخالطت بشاشته القلوب خرج الإنسان من ظلمات الجهل والشك والخرافة إلى نور الإيمان واليقين، وشرح الله صدره، ويسَّر أمره، وأصلح له شأنه، فأصبح من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أيها المسلمون:(/2)
الإيمان من أجَلِّ نعم الله - تعالى - على العباد، {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجّاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}؛ [الأنعام: 125].
ومعنى الإيمان: التصديق والاعتقاد الجازم بأن الله - تعالى - هو رب كل شيء ومليكه، وخالقه ومدبره، وأنه وحده الذي يستحق العبادة؛ من صلاة وصوم ودعاء ورجاء، وخوف وذل وخضوع، وأنه المتصف بصفات الكمال كلها، المنزه عن كل عيب ونقص.
فالإيمان بالله - تعالى - وحده يتضمن توحيده في ثلاثة أمور: في ربوبيته، وفي ألوهيته، وفي أسمائه وصفاته، وهذا يعني تفرده - سبحانه وتعالى - بالربوبية والألوهية وصفات الكمال وأسماء الجلال. لا كما فعل أهل الجاهلية الأولى الذين أقروا لله بالربوبية، وأشركوا معه في الألوهية؛ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً}؛ [الفرقان:60].
وأركان الإيمان التي لا يسلم لأحد دينه ما لم يؤمن بها إيماناً جازماً هي: الإيمان بالله - تعالى - وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الأخر، وبالقدر خيره وشره من الله.
ففي حديث جبريل المشهور حين جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الإيمان، فقال: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث))؛ رواه البخاري.(/3)
وهذه هي أركان الإيمان التي من آمن بها فقد نجا وفاز، ومن جحدها فقد خاب وخسر؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً}؛ [النساء: 136].
أيها المسلمون:
الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجَنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ولقد ضلت طوائف من أهل البدع والأهواء في معنى الإيمان؛ فمنهم من زعم أن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب دون عمل بالجوارح أو نطق باللسان. ومنهم من زعم أن الإيمان مجرد النطق باللسان وحده دون تصديق أو عمل. ومنهم من زعم أن أهل الكبائر مخلدون في النار. وطائفة زعموا أن من آمن بقلبه، ونطق بلسانه فهو في الجنة ولو ارتكب الذنوب العظام.
وهذا كله جهل وضلال، وتخبط وفساد ما أنزل الله به من سلطان, وهؤلاء إنما يدَّعون الإيمان ادِّعاء لا حقيقة وانتماء.
وَالدَّعاوَى ما لَمْ يُقِيمُوا عَلَيها بَيِّناتٍ أَصْحابُها أَدْعِياءُ
يقول الحسن البصري - عليه رحمة الله -: "ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن هو ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال".
وصدق - رحمه الله -: فإن الإيمان إذا تمكن من النفوس، وخالطت بشاشته القلوب ظهرت نتائجه من خلال الأعمال، فكيف يزعم هؤلاء الجهال الضلال أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب، أو النطق باللسان، دون عمل واجتهاد، وكأن إبليس وفرعون وهامان لم يصدقوا، ولم يقروا بوجود الله - تعالى - وأنه المستحق للعبادة دون مَن سواه. وكأن أهل الجاهلية الأولى كانوا ينكرون وجود الخالق - سبحانه وتعالى - وقد قال الله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السماوات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله}؛ [الزمر:38].(/4)
أما أهل السنة والجماعة فإن الإيمان عندهم قول وتصديق وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، ومما يؤكد ذلك أعظم التأكيد قَرْنُ الله - تعالى - في كتابة العزيز في مواضع عديدة بين الإيمان والعمل الصالح؛ بل لا تكاد تجد آية في كتاب الله - تعالى - تدعو إلى الإيمان إلا وتذكر العمل الصالح معه؛ مما يدل على أن مجرد التصديق أو النطق وحده لا يكفي.
وأما أهل الكبائر من المسلمين عند أهل السنة والجماعة فهم تحت مشيئة الله - تعالى - إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ولا يخلدون في النار ما داموا مسلمين؛ فإن الله - تعالى - لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
قال الإمام ابن عطية - عليه رحمة الله -: "وقد أجمعت العلماء - لا خلاف بينهم - أنه لا يُكفَّر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بمعصيته، نرجو للمحسنين، ونخاف على المسيئين".
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل))؛ متفقٌ عليه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله))؛ متفقٌ عليه. وعن أنس – رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله - تباك وتعالى -: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن ادم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة))؛ رواه الترمذي وحسنه.
عباد الله:(/5)
الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. والإيمان أمانة بين العبد وربه، وعهد بينه وبين الناس، فمن ضاعت أمانته ذهب إيمانه، ومن خان عهده قل إيمانه، فلا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له.
الإيمان يحمل صاحبه على مكارم الأخلاق، وجميل السجايا والصفات، فيحب للناس ما يحب لنفسه، ويعيش مع إخوانه في العقيدة آلامهم وآمالهم، يحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم. يخاف الله ويتقيه ويعظمه عن أن يكون أهون الناظرين إليه.
{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}؛ [الأنفال: 2 -4].
قال مجاهد: "هو الرجل يهُم بالمعصية فيتذكر مُقامه بين يدي الله، فيتركها خوفاً من الله".
وأوثق عرى الإيمان: الحب في الله - تعالى - والبغض فيه، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصيامه، حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً".(/6)
قال الله - سبحانه -: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أبناءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المُفْلِحُونَ}؛ [المجادلة: 22].
وفي "الصحيحين" من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلالله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).
ومن كمال الإيمان: قول الخير والصمت عما عداه، وحفظ حقوق الجار، والبعد عن أذاه، وإكرام الضيف؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيراً أو ليصمت))؛ رواه البخاري وغيره.
بل إن اللسان هو السبب العظيم في صلاح القلب أو فساده، فعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه))؛ رواه أحمد.(/7)
ومن علامات الإيمان: محاربة المنكرات، ونشر الخير، والدعوة إلى المعروف، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأي منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))؛ رواه مسلم. وعنده من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا - رحمكم الله - أن أكثر الناس أو جلهم يدَّعون الإيمان، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين.
من الناس من حظه من الإيمان مجرد الإقرار بوجود الخالق، وأنه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهذا لم ينكره حتى عباد الأوثان والأصنام.
وآخرون إيمانهم مجرد النطق بالشهادتين، دون عمل أو متابعة أو استجابة لله - تعالى - ولرسوله.
وآخرون إيمانهم عبادة لله - تعالى - على وَفق أذواقهم، ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم، من غير تقيد بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند الله - سبحانه وتعالى.
وطائفة إيمانهم: ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم كائنا ما كان، ولو كان مخالفاً للشرع الحنيف.(/8)
وفئام من الناس: إيمانهم مكارم أخلاق، وحسن معاملة، وطلاقة وجه.
وفريق من الناس: إيمانهم تجرد من الدنيا وعلائقها، وتفريغ للقلب منها، والزهد فيها، فمن كان هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان، وإن كان منسلخاً من ربقة الإيمان علماً وعملاً، وهذه رهبانية ابتدعوها ما كتبها الله عليهم، فإن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.
وقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو القدوة والأسوة، وسيد العباد والمؤمنين جامعاً بين الدنيا والآخرة بقدر، يأكل الطعام، ويمشى في الأسواق, يجالس أصحابه، ويمازحهم, ويتزوج النساء, ويصوم ويفطر، ويقوم وينام، فمن رغب عن سنته فليس منه.
وهذه الطوائف كلها لم تعرف حقيقة الإيمان، ولا قام بها ولا قامت به؛ فالإيمان هو معرفة ما جاء به الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والتصديق به اعتقاداً، والإقرار به قولاً ونطقا، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان.
وكمال الإيمان يكون بكمال الحب في الله - تعالى – والبغض فيه، والعطاء لله والمنع لله، ومنه محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))؛ رواه البخاري.
ألا وإن من محبته - صلى الله عليه وسلم - محبة أتباعه والمتمسكين بسنته في كل زمان ومكان، واتباع أمره، وتحكيم سنته، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد اللهُ - سبحانه وتعالى - إلا بما شرع. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً}؛ [الأحزاب: 36].
أيها المسلمون:(/9)
الإيمان حصن حصين من الشهوات، والمحرمات ففي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن))؛ متفقٌ عليه.
وهو سبب للأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة؛ {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ}؛ [الرعد: 28].
فالمؤمنون لهم الأمن في الدارين، أمن وسلام، وهداية وتوفيق في الدنيا، وأمن من المخاوف، وسلامة من المضائق يوم الفزع الأكبر؛ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}؛ [الأنعام: 82]. قال الحسن - رحمه الله -: "لهم الأمن في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا".
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}؛ [السجدة: 17].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد بن عبد الله صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.(/10)
العنوان: حقيقة البعث والنشور
رقم المقالة: 1163
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
* أيها الناس:
إِلَى اللهِ نَشْكُو قَسْوةً فِي قُلُوبِنَا وَفِي كُلِّ يَوْمٍ وَاعِظُ الْمَوْتِ يَنْدُبُ
إِذَا قِيلَ أَنْتُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ فَمَا الَّذِي عَمِلْتُمْ وَكُلٌّ فِي الْكِتَابِ مُرَتَّبُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا نَقُولُ وَمَا الَّذِي نُجِيبُ بِهِ إِذْ ذَاكَ وَالأَمْرُ أَصْعَبُ؟(/1)
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 77-83].
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} [يس: 77].
أيها الإنسان، يا من خلقه ربه وصوره.
يا أيها الإنسان، يا من تعدى حدود الله، وانتهك حرمات الله، وأكل نعم الله، واستظل بسماء الله، ووطئ أرض الله.
يا أيها الإنسان إنك سوف تعرض على الله. ويل لك أيها الإنسان، أما فكرت في القدوم على الله؟!
وَلَوْ أَنَّا إِذَا متْنَا تُرِكْنَا لَكَانَ الْمَوْتُ غَايَةَ كُلِّ حَيِّ
وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا وَيَسْأَلُ رَبُّنَا عَنْ كُلِّ شَيِّ
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6].
ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟! ما الذي غرك، حتى تجاوزت حدود الله؟
ما الذي أذهلك، حتى انتهكت حرمات الله؟
يا أيها الإنسان، أما كنت نطفة؟ أما كنت ماء؟ أما كنت في عالم العدم؟!
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} [الإنسان: 1-2].(/2)
مسكين هذا الإنسان حقير هذا الإنسان. أتى من ماء. أتى من نطفة. أتى من عالم العدم، فلما مشى على الأرض تكبر، وتجبر، ونسي الله الواحد الأحد.
في مسند الإمام أحمد - بسند جيد - عن بسر بن جَحَّاش القرشي؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصق يوماً في كفه، فوضع عليها إصبعه، ثم قال: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: ابن آدم، أنّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: أتصدق! وأنى أوان الصدقة!))[1].
مَنْ هذا المجرم الذي تكبر وتجبر، ومن هذا الخاسر، الذي لم يحسب للأمر حسابه، ولم يعد له عدته، إنه ينكر البعث بلسان حاله، وإن كان يخفي ذلك في مقاله.
صَاحَ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلأ الرَّحْبَةَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ أَرْضِ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الأَجْسَادِ
هذا المجرم؛ العاص بن وائل ثمر الله ماله، وأصح جسمه، وَعَلَّى شأنه في الدنيا، ولكنه كفر بـ: لا إله إلا الله.
أتى إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعظم بالٍ، فتَّتهُ ونفخه أمام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا محمد، أتزعم أن ربك يعيد هذه العظام بعد أن يميتها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم يميتك الله، ثم يبعثك، ثم يدخلك النار))[2].
يقول الله له {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس: 78] أتى يضرب لنا الأمثال. نسي مكرماتنا، نسي معروفنا، نسي جميلنا ونعمنا، أتى يضرب لنا الأمثال اليوم ونسي خلقه من الذي أنشأه من العدم؟! من الذي أغناه من الفقر؟! من الذي أمشاه على رجليه؟! {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8-10]. فما له نسينا اليوم؟!(/3)
العاص بن وائل هذا، أتاه أحد الفقراء من المسلمين، وقد عمل له عملاً، واشتغل له شغلاً، فقال له الفقير: يا أبا عمرو، أعطني أجرتي، قال: أتؤمن أن الله يبعثنا يوم القيامة؟ قال: نعم، فقال ضاحكاً مستهزئاً: فإذا بعثنا الله، بعثني ربي من قبري، وعندي كنوز من الأموال، فأحاسبك في ذاك اليوم، وأعطيك أجرتك[3]، فقال الله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [مريم: 77-80].
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78-79].
والله لنبعثن كما نستيقظن حفاة عراة غرلاً، كما بدأنا أول مرة يعيدنا.
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94].(/4)
سوف نخرج من قبورنا مذهولين. خائفين. وجلين، إلا من رحم الله. ولا يأمن من مكر الله، ولا من عذاب الله ولا من طرد الله إلا من أمَّنَهُ الله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ{104} [الأنبياء: 101-104].
صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يخرجون من قبورهم فمنهم من يبلغ عرقه كعبيه، ومنهم من يبلغ العرق ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يبلغ حنجرته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً[4] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان: 27-28].
ثم يرد الله - عزَّ وجلَّ - على من أنكر البعث وجهل قدرة الله - تبارك وتعالى -: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 78-80].
قال أهل العلم: الشجرة بذرة أنبتها الله ورعرعها بالماء، ثم يبست وأصبحت حطباً، يوقد به في النار وقال بعضهم: المرخ والعفار شجر في الحجاز إذا ضربت هذا بهذا وهو أخضر انقدح ناراً.
فمن الذي قدح النار منه؟! ومن الذي جعل آيات الكون قائمة أمام الأعين؟ أليس هو الذي يعيدنا يوم العرض الأكبر؟!(/5)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى} [يس: 80-81].
يا أيها الإنسان، انظر إلى السماوات بلا عمد.
يا أيها الإنسان انظر إلى الأرض في أحسن مدد.
انظر: من أجرى الهواء؟ من سير الماء؟ من جعل الطيور تناظم بالنغمات؟ من جعل الرياح غاديات رائحات؟ من فجر النسمات؟ من خلقك في أحسن تقويم؟
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].
سبحان الله! ما أقدر الله!
يقول عمر - رضي الله عنه وأرضاه -: والله لولا يوم القيامة لكان غير ماترون. لو لم يكن هناك يوم بعث ونشور، أكل الأقوياء الضعفاء، وأخذ الظلمة المظلومين، وتجبر المتجبرون في الأرض.
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ
إِنْ قِيلَ نُورُ الدِّينِ جَاءَ مُسَلِّماً فَاحْذَرْ بَأْنْ تَأْتِي وَمَا لَكَ نُورُ
حَرَّمْتَ كَاسَاتِ الْمُدَامِ تَعَفُّفاً وَعَلَيْكَ كَاسَاتِ الحَرَامِ تَدُورُ
متى يستفيق من لم يستفق اليوم؟
متى يتوب إلى الله من لم يتب هذه الساعات؟ متى يحاسب نفسه من لم يحاسبها قبل العرض على الله؟!
عباد الله:
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله. الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
أما بعد:
فإن إبراهيم - عليه السلام - إمام التوحيد، ومعلم الحنيفية، وأستاذ العقيدة. إبراهيم خليل الرحمن، الذي نشر عقيدة التوحيد في الأرض.(/6)
مر يوماً من الأيام على ساحل البحر، فرأى جثة حيوان ميت، قد ألقاها البحر بالساحل، وهذه الجثة تأتيها السباع فتأكل منها، والطيور فتنهش منها، فوقف عليها متعجباً، وهو يقول في نفسه: كيف يعيدها الله يوم القيامة، وقد أكلتها السباع والطيور؟ كيف يعيد الله هذه الجثة، وقد تشتت في بطون السباع، وتفرقت في حواصل الطير؟!
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260].
فكلم ربه. ونادى ربه. وسأل ربه أن يريه عملية الإحياء، وعملية الموت. كيف تقوم عملية الإحياء وعملية الموت.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} قال له الله {أَوَلَمْ تُؤْمِن}. أما آمنت إلى اليوم؟ أما تيقنت أن الله يبعث من في القبور؟ أما علمت أن الله - سبحانه وتعالى - ينشر الناس يوم النشور؟!
والله يعلم أنه مؤمن، وأنه موحد، وأنه مصدق.
{قَالَ بَلَى} آمنت يا رب. وأسلمت يا رب. وتيقنت يا رب {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} سبحان الله!
في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم))[5]. معنى ذلك: لو كان إبراهيم يشك لكنا نحن أولى أن نشك في قدرة الله، ولكننا لا نشك، فإبراهيم - عليه السلام - أولى ألا يشك.
{قَالَ بَلَى وَلَكِن ليَطْئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] أي لأزداد يقيناً إلى يقيني وإيماناً إلى إيماني، وليس الخبر كالمعاينة.
{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. ثم قال الله: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260]. خذ أربعة من الطيور من أنواعها. ذكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: حمام ودجاج وأوز، وطائر من عنقاء مغرب، أو كما قال.(/7)
ولا يهمنا تعداد الطيور، لكن يهمنا الشاهد والدلالة في الآية، فأخذ أربعة من الطيور، قال الله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي قطعهن ومزقهن، فقطع رؤوسها وفصل أرجلها وأكتافها وأيديها ومزق ريشها، ثم خلط الأربعة بعضها ببعض.
قال الله له: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً} [البقرة: 260].
فأخذ هذه المجموعات؛ من اللحم، والعظام، والريش، والدم، فوزعها على أربعة جبال، ثم نزل إلى الوادي.
قال الله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} [البقرة: 260].
فلما نزل قال: تعالي أيتها الطير بإذن الله. تعالي أيتها الطير بإذن الله. فبعث الله الأرواح فيها، وكانت رؤوس الطير بيده، فأقبل الريش والعظم واللحم؛ كل طائر يدخل في رأسه، لا يدخل في رأس غير رأسه، فلما تركبت أجسامها في رؤوسها، رفرفت وطارت، وأخذت مجالها في الجو، ثم قال الله له: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] قال - عليه السلام -: أعلم أن الله عزيز حكيم.
فيا من شك في قدرة الله، ويا من شك في البعث والنشور، ترقب يوم يبعث الله الأولين والآخرين، يوم يناديهم لذاك اليوم، وتزين ليوم العرض على الله، والبس لباساً ليس كلباسنا اليوم، فوالله لا تجزئ ألبستنا، إن لم تكن من التقوى، واستعد بحسنات وبأعمال صالحات ترفع درجاتك عند الله.
إن بعد الحياة موتاً عظيماً، فاستعد لذلك البعث، وارتقب واشك حالك إلى الله، وجدد توبة صادقة إلى الحي القيوم { يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89].
يوم يطوي الله - عزَّ وجلَّ - السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟[6](/8)
فنسأل الله أن ينجينا وإياكم في ذلك اليوم. ونسأل الله أن يبيض وجوهنا ووجوهكم في ذاك اليوم. ونسأل الله ألا يجعلنا من أهل الفضائح، وأهل النكبات، وأهل البوار، وأهل الخسار.
عباد الله:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً))[7].
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم - واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار, من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] أخرجه أحمد (4/210). وابن ماجه (2/903) رقم (2707). وحسنه الألباني كما في صحيح ابن ماجه (2/111).
[2] أخرجه الحاكم في ا لمستدرك (2/108) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي في الدر المنثور (5/507، 508) وعزاه لعبد الرزاق. وابن مردويه، وسعيد بن المنصور، والبيهقي، وابن المنذر.
[3] انظر الدر المنثور (4/506).
[4] أخرجه مسلم (4/2196) رقم (2864).
[5] أخرجه البخاري (5/163)، ومسلم (1/133) رقم (151).
[6] أخرجه مسلم (4/2148) رقم (2788).
[7] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/9)
العنوان: حقيقة الجزء المنسوب إلى مصنف عبد الرزاق
رقم المقالة: 638
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
صدر قبل أيام كتابٌ جديد في موضوع مهمٍّ خطير، وهو بعنوان: ((مجموعٌ في كشف حقيقة الجزء المفقود (المزعوم) من مصنَّف عبد الرزاق))، فيه كشفٌ لجزء حديثيٍّ مفترى ؛ تواطأ على وضعه ونشره بعضُ غلاة أهل الأهواء، ونسَبوه زوراً للإمام عبد الرزاق بن همَّام الصَّنعاني (ت211) صاحب المصنَّف، أرادوا من خلاله دسَّ بعض العقائد والخرافات الباطلة ذات الأصول الفلسفيَّة والباطنيَّة الفاسدة، ونسبتَها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم!
ولكنَّ الله فضحهم كما فضح أسلافهم من الكذَّابين.
في هذا المجموع كلماتٌ في كذب هذا الجزء وبُطلانه، وبيان أنه مفترى موضوع، بقلم عدد من كبار العلماء والمحدِّثين والمتخصِّصين في السنَّة النبوية وعلومها من عدَّة بلدان، منهم:
عبدالله بن عبدالعزيز العقيل، وعبد الله بن عبدالرحمن الجبرين، وعبد الرحمن البراك، ومحمد بوخبزة المغربي، ومساعد البشير السوداني، ومقتدى حسن الأزهري الهندي، وأحمد معبد عبدالكريم المصري، وعبد القدوس نذير الهندي، وعبد الكريم الخضير، وتلامذة العلامة الألباني، وأساتذة الحديث بجامعة الملك سعود، وسعد بن عبدالله الحميِّد، وعبدالله بن حمود التويجري، وسعد بن ناصر الشثري، وعبد الله السعد، وصالح الدرويش، وعبد العزيز الطريفي، وآخرون، جزاهم الله خيراً، ونفع بعلمهم وبما كتبوا.
وفيه أيضاً ثلاثُ رسائل:
1- دفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنَّته المطهَّرة، وكشف تواطُؤ عيسى الحِميَري ومحمود سعيد ممدوح على وَضع الحديث، (تفنيدُ القطعة المكذوبة التي أخرجاها ونسباها لمصنَّف عبد الرزاق).
وبذيلها: وثيقةٌ في تطاول وطعن ممدوح والحميري في الصحابة الكرام.(/1)
2- الإزهاق لأباطيل الإغلاق، وهي ردٌّ على رسالة عيسى الحميري في ترويج جزئه، وكشف أكاذيبه وجهالاته، وتدليساته.
والرسالتان من تأليف: الشيخ محمد زياد بن عمر التكلة.
3- الحقيقة المحمدية أم الفلسفة الأفلوطينية؟
للشيخ عايض بن سعد الدوسري، وهو بحث موثَّق، كشف فيه جذور عقيدة الحقيقة المحمَّدية، وبيَّن أن أصلها من فلسفة أفلوطين، وأخذها عنه مَن بعدَه من الفلاسفة، وعنهم الباطنيَّة، ومنهم أخذها ابن عربي الحاتمي صاحب وَحدة الوجود، وكشفَ في بحثه العلاقةَ الوطيدة والحميمة بين ابن عربي والباطنيَّة، وأنه معدودٌ منهم، كما كشف عن سبب تبنِّي رؤوس غُلاة المتصوِّفة لهذه العقيدة الدخيلة، وأن ذلك لمآربَ شخصيَّة خطيرة، وهي رفع أنفسهم عند الأتباع إلى مقام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل إلى مرتبة الألوهيَّة! تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
نسأل الله أن يحميَ السنّة وأهلها شرور المضلِّين وكيد الكائدين، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين، آمين.
صدر هذا المجموع عن دار المحدِّث بالرياض، بالتعاون مع موقع الفرقان الإلكتروني، في آخر شهر ربيع الأول من هذه السنة 1428هـ، وبلغت عدد صفحاته (297) صفحة.
ويمكنكم مطالعة الكتاب وتحميله بصيغة (pdf) من خلال هذا الرابط:
(www.alukah.net/majles/showthread.php).
وإليكم الفهرسَ العامَّ للمجموع:
الفهرس العام
مقدمة المجموع ... 2
بيانات وكلمات كبار العلماء والمشايخ: ... 4
عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل ... 4
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين ... 6
عبد الرحمن البراك ... 9
محمد الأمين بوخبزة المغربي ... 10
مقتدى حسن الأزهري الهندي ... 14
أحمد معبد عبد الكريم المصري ... 17
مساعد البشير الحسيني السوداني ... 21
عبد الكريم بن عبد الله الخضير ... 25
مركز الإمام الألباني ... 27
أساتذة الحديث بجامعة الملك سعود ... 28
سعد بن عبد الله الحميِّد ... 29
عبد الله بن حمود التويجري ... 30(/2)
عبد الله بن عبد الرحمن السعد ... 32
عبد القدوس بن محمد نذير الهندي ... 35
صالح بن عبد الله الدرويش ... 36
سعد بن ناصر الشثري ... 38
عبد العزيز بن مرزوق الطريفي ... 39
بدر العمراني المغربي ... 40
كلمات أخرى ... 41
...
الرسالة الأولى: دفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنته المطهرة ... 42
مقدمة ... 43
الكلام على الأصل المخطوط ... 46
قصة هذا المخطوط ... 46
شهادة ذهبية من الشيخ أديب الكمداني ... 48
هل كان الحميري ومن معه يجهلون حال الكتاب؟ ... 49
تواطؤ محمود سعيد ممدوح في الجريمة ... 51
كشف علل المخطوط على ضوء ما ذكره الحميري ... 53
الكلام على وضع متون وأسانيد النسخة ... 60
اختلاق المتون ... 60
من التراكيب الأعجمية والمتأخرة ... 63
حديث النور المحمَّدي ... 65
الكلام في ثقة ابن عربي الحاتمي ... 67
من موارد واضع الجزء ... 71
الكلام على الأسانيد ... 74
تعليقات الحميري على الأحاديث ... 76
الخاتمة ... 77
وثيقة في دعوة ممدوح والحميري للتشيُّع والرَّفض ... 78
...
الرسالة الثانية: الإزهاق لأباطيل الإغلاق ... 82
مقدمة ... 83
وقفة مع التهرب ... 86
مسلسل الكذب الصريح ... 93
تحقيق موقف أهل العلم الشديد من ابن عربي ... 101
جهالات عريضة ... 116
التدليس والتلبيس ... 143
الخاتمة ... 159
...
الرسالةالثالثة: الحقيقة المحمدية أم الفلسفة الأفلوطينية ... 161
مقدمة ... 162
أولاً: نظرية أفلوطين في انبثاق الوجود من واحد ... 163
ثانياً: عقيدة الإسماعيلية الباطنية في المبدع الأول ... 169
ثالثاً: الصوفية ونظرية النور المحمدي ... 181
الحسين بن منصور الحلاج ... 184
الفيلسوف الصوفي ابن عربي ... 190
علاقة ابن عربي مع النساء وابنة شيخه الإسماعيلي ... 192
نظرية الإنسان الكامل عند الصوفية ... 203
رابعاً: أقوال أهل الاختصاص في التصوف والفلسفة ... 213
خامساً: لماذا قالت الصوفية بالحقيقة المحمدية؟ ... 218(/3)
الفهرس العام ... 295(/4)
العنوان: حقيقة الصيام وحكمه
رقم المقالة: 1210
صاحب المقالة: عبدالله بن صالح القصير
-----------------------------------------
هو الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح، وغيرها من المفطرات - بنية العبادة فريضة أو نافلة - من طُلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، قال تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة، الآية: 187].
فأباح سبحانه التمتع بهذه الأمور في ليل الصيام إلى الفجر، ثم أمر بالإمساك عنها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وقد جاء في السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذِكْر أمور أخرى يفطر بها الصائم، غير تلك المذكورات في الآية، تأتي الإشارة إليها في موضعها - إن شاء الله - وألحق أهل العلم بها أمورًا من جنسها قياسًا عليها؛ لاتفاقها معها في العِلَّة.
وصيام رمضان هو الركن الرابع من أركان الإسلام , وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، ودليل فرضيته قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى قوله : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة، الآيات: 183-185].(/1)
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ الله؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؛ وإِقَام الصَّلاةِ؛ وإيتاء الزَّكَاةِ؛ وحَجُّ البَيْتِ؛ وَصَوْمُ رَمَضَانَ)). ولمسلم ((وصَوْم رمضان؛ وحَجُّ البيت)) وأحاديث كثيرة بمعناه في الصحيحين؛ وغيرهما من دواوين الإسلام.
وأجمع المسلمون على فرضيته إجماعًا قطعيًّا معلومًا بالضرورة من دين الإسلام؛ فمن أنكر وجوبه فقد كَفَر. فإن العلم بفرضيته من العلم العام، الذي توارثته الأمة خلفًا عن سلفٍ.
ويجب الصوم: على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر سالم من الموانع. لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة، الآية: 185] وقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين وغيرهما: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ - يعني الهلال - وأَفْطِرُوا لرُؤْيَتِهِ)) الحديث.(/2)
العنوان: حقيقة الصيام
رقم المقالة: 1468
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالفتاح قاري
-----------------------------------------
ملخص الخطبة
1- مَقدَم شهر رمضان 2- سِمات شهر رمضان 3- النفس الأمّارة بالسوء لا تُصَفّد حين تُصَفّد الشياطين 4- تيسير الله على هذه الأمة في صيامها 5- الصيام تزكية للنفس وردع لها عن المعاصي 6- الإسراف ليس من شأن المسلم 7- زهد النبي في الدنيا
-------------------------
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . اعلموا أن أحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:(/1)
فقد هل عليكم هلال شهر كريم وموسم مبارك كان رسول الله إذا أقبل هذا الشهر بشر أصحابه فابشروا أيها المؤمنون بشهر رمضان شهر شرع الله فيه الصيام وأنزل فيه القرآن وجعله موسمًا للعبادة والمجاهدة والخير والبركة وجعله من أفضل الأوقات للعمل والجهاد فهذه السمات الأربعة: الصيام والقرآن والعبادة والعمل والجهاد هي أبرز عطايا هذا الشهر الكريم وخصائصه لو يسر الله وأعان فسنتحدث عن هذه السمات الأربعة في جمع هذا الشهر الكريم إن شاء الله تعالى.
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء - وفي لفظ في الصحيحين: فتحت أبواب الجنة - وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين))[1].
وفي رواية في السنن: ((إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن))[2].
وهذا الكلام معناه أن إغراءهم للناس يقل في هذا الشهر الكريم وتقل فيه الشرور والمعاصي فإن أسباب المعاصي ودواعيها كثيرة وأعظمها شرًا وأخبثها الشياطين ولكن ليس كل جنود إبليس يصفدون في هذا الشهر بل دلت الرواية الأخرى على أن الذي يسلسل هم الشيطان ومردة الجن ولذلك فإن المعاصي والشرور وإن كانت تقل في هذا الشهر إلا أنها لا تنقطع، فهناك من أسباب العصيان والفساد يبقى شيء كثير، هناك النفس الخبيثة الأمارة بالسوء التي تصحبك أيها الإنسان دائمًا بين جنبيك وهناك شياطين الإنس، وهناك الغرائز البشرية وهناك باقي جنود إبليس الذين لم يسلسلوا ولكن كل هذه الدوافع والأسباب ينقص أثرها على الصائمين ويخف خطرها على الصائمين فإن للصيام بركة على نفس الصائم.(/2)
أيها المسلمون هذا شهر رمضان شهر الصيام فقد فرض الله فيه الصيام على المسلمين يمتنعون في نهاره عن الطعام والشراب وعن النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فإذا غربت الشمس حل للصائم الأكل والشرب ووطء النساء، وقد كان ذلك محظورًا على من قبلنا فلم يكن يحل لهم أيام الصيام أن يقربوا النساء حتى في الليل وإذا نام أحدهم قبل أن يأكل أو يشرب ثم استيقظ في الليل لم يحل له الأكل والشرب بل يواصل صومه إلى اليوم الثاني، لكن هذه الأمة رحمها الله سبحانه فمن كرمه ومنه عليها أحل لها ذلك ورفع عنها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلها فإذا غربت الشمس حل للصائم من هذه الأمة الأكل والشرب ووطء النساء قال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر فريضة الصيام: {يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]، وقال في موضع آخر ممتنًا على هذه الأمة: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]. أي أن ذلك لم يكن حلالاً لمن قبلكم فأحل لكم يا أمة محمد.
ومن يسر هذا الدين ورحمة هذا الدين الذي جاء به سيدنا محمد رحمة للعالمين، من يسر هذا الدين أن المريض والمسافر يفطران في رمضان ويقضيان العدة أيامًا أخر بعد رمضان والشيخ العاجز الطاعن في السن الذي لا يستطيع احتمال الصوم ومثله المريض الذي لا يرجى برؤه يفطران في رمضان ويطعمان عن كل يوم مسكينًا ولا يقضيان، وليس من البر أن يصوم المسافر في السفر، وليس من الأفضل للمريض أن يصوم في المرض، إذا كان الصيام يشق عليه فإن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.(/3)
ثم اعلموا أيها المسلمون أن الصيام جنة كجنة القتال أي أن الصيام وقاية بينك أيها المسلم وبين المعاصي، فهذا الشهر الكريم فرصة لك أيها المسلم لتزكي نفسك وتخلصها من آثار الآثام والمعاصي وفرصة لك أيها المسلم فاغتنمها، فإن رمضان فرصة للمسلم ليتخفف من أعباء الشهوات ومن الإسراف في الطيبات، من مستلزمات الصوم أن تتخلص من عادات الإسراف، الإسراف حتى فيما أحل لك من الشهوات؛ شهوة الفرج وشهوة الطعام وشهوة الكلام عليك أن تتخلص من عادة الإسراف في هذه الشهوات.
بعض الناس لم يفهم حقيقة الصوم، يمتنع في نهار رمضان عن الطعام والشراب لكنه لا يتوب عن المعاصي لا يقلع عن الظلم إن كان ظالمًا ولا يكف عن معصية من المعاصي التي كان يقترفها أو إذا كف عن المعاصي في نهار رمضان أفطر على المعاصي في ليل رمضان فنهاره جوع وعطش وليله عكوف على المعاصي تراه هو وأهله وأولاده عاكفين على شاشة التليفزيون يشتغلون بما فيها من الموبقات طول الليل، وبعض الناس لم يفهم حقيقة الصوم يمتنع في النهار عن الطعام حتى إذا أقبل الليل انقض على الطعام بنهم فالتهم نصيب الليل والنهار معًا لم يصنع له صومه إلا أنه نقل وقت شهوته بدل أن تكون النهار صار في الليل نقل له وقت الإسراف في هذه الشهوة وإن كانت مباحة لكن الإسراف فيها غير مباح نقل له صومه من النهار إلى الليل فإذا أقبل الليل صففت أمامه أنواع الأطعمة لا يكتفي بنوع واحد تصفف أمامه أنواع الأطعمة ليحشرها جميعًا في بطنه، هذا الصائم لو سمع قول النبي في الصحيح قال النبي : ((إن المؤمن يأكل في معىً واحد وإن الكافر أو المنافق يأكل في سبعة أمعاء))[3].(/4)
وفي رواية عند الطبراني بسند جيد ذكر فيها قصة هذا الحديث أن رجلاً اسمه أبو غزوان حل ضيفًا على النبي والنبي أكرم الكرماء حلب له سبع شياه فشرب لبنها كله، فقال له النبي : ((هل لك يا أبا غزوان أن تسلم؟ فقال: نعم. فأسلم فمسح النبي على صدره حتى إذا أصبح حلب له النبي شاة واحدة فلم يتم أبو غزوان لبنها، فقال له النبي : مالك يا أبا غزوان؟ فقال: والذي بعثك نبيًا لقد رويت. فقال النبي : إنك كنت أمس لك سبعة أمعاء عندما كنت كافرًا وأنت اليوم ليس لك إلا معىً واحد))[4].
هذا الكلام النبوي معناه أن من شأن المؤمن المسلم التقلل من الطعام والزهد في الدنيا والإعراض عن الشهوات فالمؤمن لا يأكل ليتمتع بشهوة الأكل إنما يأكل ليبتلع وليسد رمقه وليتقوى على العبادة بينما الكافر الذي لا يؤمن باليوم الآخر يقبل على الطعام بنهم من شدة حرصه على الدنيا وشدة حرصه على إشباع شهواته ونهمه يأكل كما تأكل البهائم كما وصفه الله في قرآنه حيث قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12].
أيها المسلم اكتف بنوع واحد من الأكل لا تكن مثل بني إسرائيل لا يصبرون على طعام واحد أيها الصائم إذا صففت أنواع الأطعمة أمامك وحشرت على المائدة حشرًا فتذكر قبل أن تهجم عليها وتسرف فيها تذكر أن سيد الخلق وإمام المرسلين وخاتم النبيين محمدًا كان يمر عليه الشهر والشهران ما يوقد في بيته نار، إنما طعامه وطعام أهل بيته الأسودان: (التمر والماء)[5].(/5)
الشهر والشهران!! لا تظنن ذلك كان عجزًا منه فلو قدر على التمتع بأطايب الطعام وأصنافها لفعل؟! كلا. كان ذلك زهدًا منه وإعراضًا من الدنيا وتقرباً لله الخالق المعبود وإلا فإن ربه سبحانه عرض عليه أن يفتح عليه خزائن الأرض وكنوزها ليعيش كما تعيش الأباطرة والأكاسرة والقياصرة في رفاهية وترف فاختار أن يعيش مسكينًا يأكل كما يأكل العبد ويجلس كما يجلس العبد، وكان يقول: ((اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين))[6].
أيها المسلمون أيها الصائمون ليكن هذا الشهر الكريم فرصة لنا نغتنمها لنتخلق بتلك العادات والأخلاق النبوية السامية، ولنتخلص من عادات السرف الحيوانية، ليكن هذا الشهر الكريم فرصة لكل واحد منا ليزكي نفسه ويسمو بها عن سفاسف الدنيا والشهوات ويرتفع بها إلى سماوات الإيمان يرتفع بها عن ضيق العيش، من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وإن قاتله أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم. والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، إنه ترك طعامه وشرابه وشهواته من أجلي)) يقول الله تعالى: ((الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها)).
اللهم بارك لنا في هذا الشهر الكريم اللهم بارك لنا في هذا الشهر الكريم واجعله عتقًا لنا من النار وطريقًا لنا إلى الجنة وأعنا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا يا كريم يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.(/6)
أما بعد: فإن خير الكلام لكلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين؛ فقال جل من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين عليّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
---
[1] أخرجه البخاري في صحيحه (36) (2/671و672) برقم 1898-1899.
[2] أخرجه الترمذي في سننه (3/57-59) برقم (682) وابن ماجة (1/526) برقم (1642)والحديث ضعفه البخاري والترمذي.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه (73) الأطعمة (11) باب المؤمن يأكل في معىً واحد (5/2061) برقم 5394 ومسلم (3/1631).
[4] أخرجه الطبراني في (5/32) ، (6/239).(/7)
[5] أخرجه البخاري في صحيحه (5/2372).
[6] أخرجه الترمذي في سننه (4/577) والبيهقي في سننه (7/12) قال الترمذي حديث غريب.(/8)
العنوان: حكم استماع آلات اللهو
رقم المقالة: 772
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه وأدر عليهم النعم والأرزاق ليشكروه وأمرهم بحماية أعمارهم وحفظ أوقاتهم أن يضيعوها سدى ليستفيدوا من حياتهم ويفوزوا بالربح والفلاح حين يلاقوه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحكمة في خلقه وشرعه وله الحكم المطلق بين خلقه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل النبيين وإمام المتقين وسيد أولي العزم من المرسلين الذي بعثه الله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين وحجة على العباد أجمعين فبين للعباد طرق سيرهم إلى الله ونظم لهم شؤونهم وأعمالهم في هذه الدنيا وبعد الممات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدى وإنما خلقتم لأمر عظيم وهيئتم للقيام بعمل جليل جسيم خلقتم لعبادة الله والامتثال لأوامره والانزجار عن نواهيه لقد أمركم الله تعالى بكل ما يقوم هذه العبادة ونهاكم عن كل ما يصدكم عن ذكر الله وعن طريق السعادة ألا وإن في مجتمعكم مشكلة تصد عن ذكر الله وتوجب للعبد الغفلة عن طاعة الله لا أقول إنها مشكلة علمية لأن الكثير يعرف حكمها ولكن المشكلة فيها هو العمل والتنفيذ ألا أنبئكم ما هي المشكلة؟ هي مشكلة الإصرار على اللهو من الاستماع إلى آلات الطرب والغناء المحرم التي أصبح كثير من الناس عاكفاً عليها حتى أشغلته عن كثير مما يهمه ويعنيه في دينه ودنياه فكان في ذلك ضياع للوقت ونفاد للمال وإصرار على المعصية وتعلق القلب بغير الله ولا أدري أيها الإخوان ما شأن المصرين عليها هل هم في شك في تحريمها أم عندهم ضعف في إيمانهم وعزيمتهم أم هم رأوا الأسباب المقتضية لها فظنوا أنه لا بأس بها وصدق قول القائل مع كثرة الإمساس نقل الإحساس فمن كان في شك في تحريمها فليستمع إلى بعض النصوص الواردة فيها فمن ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. أكثر المفسرين على أن المراد بذلك اللهو الغناء قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: والله الذي لا إله غيره إن ذلك هو الغناء وكررها ثلاث مرات وتفسير الصحابة حجة لأنهم أعلم الناس بالقرآن لفظاً ومعنى حتى قال بعض العلماء أنه في حكم المرفوع وفي صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) والمعازف هي آلات اللهو فذمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على استحلالها وقرن ذلك باستحلال الحر وهي الفروج يعني استحلال(/2)
الزنا وباستحلال الحرير والخمر وردت أحاديث أخرى كثيرة في السنن والمسند تدل على التحريم والوعيد لمن استحل ذلك أو أصر عليه ولولا خوف الإطالة لذكرناها مع أن المؤمن يكفيه دليل واحد صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً} قال ابن القيم رحمه الله: حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع من أهل العلم على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة وهما آلتان من آلات اللهو فيا من شك في تحريمه هذه أدلة التحريم ويا من عرف الحق وضعفت عزيمته حتى اجترفته التيارات ارجع إلى نفسك فحاسبها واقنعها بالرجوع عن الإصرار عليه واستعن بالله على ذلك واعلم أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه وأن من أصر على المعصية مع علمه بها فلا عذر له ويوشك أن يزيغ قلبه ويطبع عليه فيلتبس عليه الحق ويخسر دينه ودنياه ولا تغتر أيها العاقل المؤمن بعمل الناس ولكن اعرض أعمالهم على كتاب ربك وسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - فإن وجدت فيهما تحريم ذلك فاجتنبه فإن الحساب غداً على ما في الكتاب والسنة لا على عمل الناس.(/3)
ولا تطلق لنفسك العنان في الترفيه فتقع في المحظور والحرام فإن الترفيه نوعان نوع مباح بريء من الإثم لا يمنع الإنسان منه وهو ما أحله الله ورسوله من المتنزهات والنظر في جمال المخلوقات من الأنهار والأشجار والجبال ونحوها ومن المسابقة على الأقدام وغيرها والسباحة ونحوها مما هو حلال نافع في الدين وفي الدنيا فهذا لا بأس والنوع الثاني ترفيه بريء من الأجر مليء من الوزر فهذا يمنع الإنسان منه ومنعه منه عين المصلحة ألا ترى الطبيب يمنع المريض من الطعام الذي يشتهيه حيث يضره لوقايته من الضرر وجلب ما ينفعه وذلك مثل الترفيه بما حرم الله فهذا ممنوع منه لما فيه من الإثم والفساد.
وفقني الله وإياكم لفعل مراضيه وجنبنا أسباب سخطه ومعاصيه وأرانا الحق حقا ورزقنا اتباعه وأررانا الباطل باطلاً ورزقنا اجتنابه إنه جواد كريم رؤوف رحيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/4)
العنوان: حكم إعفاء اللحية وتغيير الشيب
رقم المقالة: 688
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي فطر الخلق على الدين القيم ملة محمد وإبراهيم، ووفق من شاء برحمته، فاستقام على هدى النبيين والمرسلين، وخذل من شاء بحكمته، فرغب عن هديهم وسنتهم، وكان من الخاسرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها الفوز بدار النعيم والنجاة من العذاب الأليم، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل الخلق طريقة وأقومهم شريعة وأقربهم إلى الخير العميم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.(/1)
عباد الله: لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا خطب يوم الجمعة: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها)). ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - والهدي هو الطريق والشريعة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العبادات والمعاملات والأخلاق الظاهرة والباطنة، ولقد كان من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه الكامل إعفاء اللحية، وإحفاء الشارب قال جابر بن سمرة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير شعر اللحية؛ لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يعفي لحيته، وكذلك الأنبياء الكرام قبله، قال الله تعالى عن هارون أنه قال لموسى: {يَاابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي}. وكما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعفي لحيته، فقد أمر أمته بذلك كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وفروا اللحي واحفوا الشوارب)) فاجتمع في هاتين الفطرتين أعني إحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وتبين أن هذا هو هديه، وهدي الأنبياء قبله، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -)) فتمسكوا أيها المسلمون بهدي نبيكم، فإنه خير لكم في الدنيا والآخرة، إن التمسك بهديه يورث الوجه نضرة، والقلب سروراً، والصدر انشراحاً، والبصيرة نوراً إن الحياة الطيبة، ونعيم القلب والروح لا يحصلان إلا بالإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ولا سيما إذا التزم العبد شريعة الله مع قوة الداعي إلى مخالفتها، فإن ذلك(/2)
أعظم لأجره، وأكمل لإيمانه، فالإنسان ربما يشق عليه إعفاء اللحية؛ لأنه ينظر إلى أناس نظراء له قد حلقوا لحاهم فيحلق لحيته اتباعاً لهم ولكن هذا في الواقع استسلام للهوى وضعف في العزيمة، وإلا فلو حكم عقله، وقارن بين مصلحة إعفائها، ومضرة حلقها لهان عليه إعفاؤها، وسهل عليه الأمر، ولعله أن يكون باب خير لنظرائه وأشكاله، فيقتدون به لا سيما إذا كان عنده قدرة على الكلام والإقناع وإذا كان إبقاء اللحية شاقاً عليه لما ذكرناه كان أجره عند الله أكبر وأعظم، ولقد كان بعض الناس يظن أن إعفاء اللحية، أو حلقها من الأمور العادية التي يتبع الناس فيها عادة أهل وقتهم، وهذا ظن غير صحيح، ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإعفائها، وما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فامتثال أمره فيه عبادة، ثم لو فرض أنه عادة، فلنسأل أيما أفضل عادة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، وفعلها بنفسه، وفعلها الأنبياء قبله، وجرى عليها السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان أيما أفضل عادة هؤلاء أم عادة قوم يخالفونهم في ذلك؟ وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن حلق اللحية حرام، وقال شيخنا عبد الرحمن السعدي في خطبة له: أيها الناس اتقوا الله، وتمسكوا بهدي نبيكم المصطفى، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا ما عنه زجر ونهى، فقد أمركم بحف الشوارب، وإعفاء اللحى، وأخبركم أن حلق اللحى وقصها من هدي الكفار والمشركين، ومن تشبه بقوم فهو منهم إلى أن قال: فالله الله عباد الله في لزوم دينكم، ولا تختاروا عليه سواه، فوالله ما في الاقتداء بأهل الشر إلا الخزي والندامة، ولا في الاقتداء بنبيكم - صلى الله عليه وسلم - إلا الصلاح والفلاح والكرامة، وإياكم أن تصبغوها بالسواد، فقد نهى عن ذلك خير العباد هذا كلام شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله.(/3)
وقال شيخنا عبد العزيز بن باز في جواب له في مجلة الجامعة الإسلامية عن سؤال يقول: ما حكم حلق اللحى أو تقصيرها هل هو مكروه أو محرم؟ فأجاب قد ثبتت الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن ذلك محرم ومنكر فالواجب على كل مسلم تركه والحذر منه، ولا ينبغي للمسلم أن يغتر بكثرة من فعل ذلك من المسلمين، فإن الحق أحق بالاتباع، ولو تركه الناس. أ هـ.
أيها المسلمون إن الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هو التقدم الصحيح، وهو القوة الحقيقية، وهو الجمال النافع، وهو الحياة السعيدة والمآل الحميد، فالإنسان الآن قد يكون ساهياً سادراً في حياته، ولكنه سينتبه، ويستيقظ عند مماته، عند مفارقته دنياه وأهله وماله، وسيتمنى حين لا ينفعه التمني أن لو كان متمشياً على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام وفقني الله وإياكم لسلوك عباده الأخيار، وقوانا على هوانا بالعزائم الصادقة على فعل النافع وترك الضار إنه جواد كريم رؤوف رحيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(/4)
العنوان: حكم الأضحية وصفاتها
رقم المقالة: 727
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي شرع لعباده التقرب إليه بذبح القربان وقرن النحر بالصلاة في محكم القرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والامتنان، وأشهد أن محمداًً عبده وسوله أفضل من قام بشرائع الإسلام وحقق الإيمان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا ربكم واشكروه على ما أنعم به عليكم من مشروعية الأضاحي التي تتقربون بها إلى ربكم وتنفقون بها نفائس أموالكم، فإن هذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والسلام، وإن لكم بكل شعرة منها حسنة وبكل صوفة حسنة، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإنه لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا)).(/1)
أيها المسلمون: إن بذل الدراهم في الأضاحي أفضل من الصدقة بها، وإن الأضحية سنة مؤكدة جداً لمن يقدر عليها، فضحوا عن أنفسكم وأهليكم من الزوجات والأولاد والوالدين ليحصل الأجر للجميع وتقتدوا بنبيكم - صلى الله عليه وسلم - حيث ضحى عنه وعن أهل بيته. ولقد كان بعض الناس يحرم نفسه ويتحجر فضل ربه حيث يضحي عن والديه فقط ويدع نفسه وأهله وذريته، والأولى أن يضحي للجميع وفضل الله واسع، وهذا فيما يضحي به الإنسان من نفسه، أما الوصايا فيمشي فيها على نص الوصية، ولكن إذا كان في الوصية الواحدة عدة ضحايا والريع لا يكفي إلا لواحدة فإنه لا بأس أن تجمع الأضاحي في أضحية واحدة ويجعل ثوابها للجميع إذا كان الموصي واحدا. ولقد كان بعض الناس يضحي عن الميت في أول سنة من موته يسمونها ضحية الحفرة يجعلونها للميت خاصة، وهذه بدعة لا أعلم لها أصلاً في الشريعة، كما أن بعض العوام إذا أراد أن يعين الأضحية أي يسميها لمن هي له يمسح ظهرها من وجهها إلى قفاها، والمشروع في تعيين الأضحية أن يعينها عند ذبحها باللفظ من غير مسح عليها كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ذبحها بالنية من غير تلفظ باسم من هي له أجزأت نيته.(/2)
والأضحية من بهيمة الأنعام. إما من الإبل أو البقر أو الضأن أو المعز على اختلاف أصنافها، ولا تجزئ إلا بشرطين الأول أن تبلغ السن المعتبر شرعاً، الثاني أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع إلإجزاء، فأما السن ففي الإبل خمس سنين وفي البقر سنتان وفي المعز سنة وفي الضأن نصف سنة. وأما العيوب التي تمنع من الإجزاء فقد بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((أربع لا تجوز في الأضاحي العرجاء البين ظلعها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى)). فالعرج البين هو الذي لا تستطيع البهيمة معه معانقة الصحيحات، والعور البين هو الذي تبرز معه العين أو تنخسف، فأما إذا كانت لا تبصر بها ولكن لا يتبين العور فيها فإنها تجزئ ولكنها تكره، والمرض البين هو الذي يظهر أثره على البهيمة إما في أكلها أو مشيها أو غير ذلك من أحوالها، ومن الأمراض البينة الجرب سواء كان قليلاً أو كثيراً، فأما المرض اليسير الذي لا يظهر أثره على البهيمة فإنه لا يمنع ولكن السلامة منه أفضل. والعجف الهزل، فإذا كانت البهيمة هزيلة ليس في عظامها مخ فإنها لا تجزئ عن الأضحية. فهذه هي العيوب التي تمنع من الإجزاء، وهناك عيوب أخرى لا تمنع من الإجزاء ولكنها توجب الكراهة مثل قطع الأذن وشقها وكسر القرن، وأما سقوط الثنايا أو غيرها من الأسنان فإنه لا يضر، ولكن كلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل، والخصي والفحل سواء كلاهما قد ضحى به النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن إن تميز أحدهما بطيب لحم أو كبر جسم كان أفضل من هذه الناحية، والواحد من الضأن أو المعز أفضل من سبع البدنة أو البقرة، وسبع البدنة أو البقرة يقوم مقام الشاة في الإجزاء، فيجوز أن يشرك في ثوابه من شاء كما يجوز أن يشرك في ثواب الشاة من شاء، والحامل تجزئ كما تجزئ الحائل. ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبح أضحيته بيده ومن كان لا يحسن فليحضر عند ذبحها فذاك أفضل،(/3)
فإن ذبحت له وهو غير حاضر أجزأت، وإن ذبحها إنسان يظن أنها أضحيته فتبين أنها لغيره أجزأت لصاحبها لا لذابحها، يعني لو كان عنده في البيت عدة ضحايا فجاء شخص فأخذ واحدة يظنها أضحيته فلما ذبحها تبين أنها أضحية شخص آخر فإنها تجزئ عن صاحبها التي هي له، ويأخذ صاحبها لحمها كأن هذا الذابح صار وكيلا له.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1،2]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. إلخ.(/4)
العنوان: حكم الإيمان بالقدر وكيفيته أيضاً
رقم المقالة: 664
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً وجرت الأمور على ما يشاء حكمة وتدبيراً ولله ملك السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ولن تجد من دونه ولياً ولا نصيراً وأشهد أن لا إله إلا الله له الملك وله الحمد وكان الله على كل شيء قديرا وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وآمنوا به، آمنوا بقضائه وقدره ومشيئته وخلقه فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان لن يتم إيمان العبد حتى يحقق الإيمان بالقضاء والقدر. وللإيمان بالقضاء والقدر أركان لا يتم إلا بها.
الركن الأول: أن تؤمن بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء شهيد فما من شيء حادث في السماء والأرض وما من شيء يحدث فيهما مستقبلا إلا وعند الله علمه لا يخفى عليه شيء من دقيقه وجليله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].(/1)
الركن الثاني: أن تؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة فكل شيء يحدث في الأرض أو في السماوات فهو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وقد أشار الله تعالى إلى هذين الركنين بقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] وفي الحديث: ((أن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال وماذا أكتب قال اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)). وفي ليلة القدر يكتب ما يجري في تلك السنة {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وإذا تم للجنين في بطن أمه أربعة أشهر بعث الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد.
الركن الثالث: من أركان الإيمان بالقضاء والقدر أن تؤمن بمشيئة الله العامة وقدرته الكاملة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما حدث في السماوات والأرض من أفعال الله أو من أعمال الخلق فإنه بمشيئة الله لا يحدث شيء كبير ولا صغير ولا عظيم ولا حقير إلا بمشيئة الله وقدره وتحت سمعه وبصره هو الذي علم به كتبه وقدره ويسر أسبابه فمن عمل صالحاً فبمشيئة الله ومن عمل سيئة فبمشيئة الله: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وكل شيء يعمله الإنسان ويحدثه فإنه بمشيئة الله حتى إصلاح طعامه وشرابه وبيعه وشراؤه وأخذه وعطاؤه ونومه ويقظته وجميع حركاته وسكناته كلها بمشيئة الله تعالى وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)).(/2)
الركن الرابع: من أركان الإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله خالق كل شيء ومليكه ومقدره ومسخره لما خلق له وأن الله خالق الأسباب والمسببات وهو الذي ربط النتائج بأسبابها وجعلها نتيجة لها وعلم عباده تلك الأسباب ليتوصلوا بها إلى نتائجها لتكون عبرة لهم ودليلا على نعمة الله عليهم بما يسره لهم من الأسباب التي يتمكنون بها من إدراك مطلوبهم على حسب ما تقتضيه حكمته ورحمته وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} إلى قوله {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:58-76] فالأعمال التي يحدثها العبد ويقوم بها ناتجة عن أمرين أحدهما: عزم الإنسان عليها ولولا عزمه لما فعل والثاني: قدرته على العمل بما علمه الله تعالى من أسبابه وبما أعطاه من القوة عليه ولولا قدرة الإنسان على العمل ولولا علمه بأسباب إيجاده وعزمه عليه لما وقع منه الفعل ولا شك أن الذي علم الإنسان وأوجد فيه العزم والقدرة هو الله تعالى فالإنسان وعزمه وقدرته وفعله كله في ملك الله وتحت مشيئة الله وقدرته: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(/3)
العنوان: حكم الإيمان بالقدر
رقم المقالة: 658
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً وهو على كل شيء قدير وجعل لكل شيء قدرا وأجلاً مطابقاً لعلمه وحكمته وهو الحكيم الخبير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والخلق والتدبير وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وآمنوا به وآمنوا بقضائه وقدره فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان فلن يتم الإيمان حتى يؤمن العبد بالقدر خيره وشره ولا يتم الإيمان بالقدر حتى يؤمن الإنسان بأربعة أمور الأول علم الله المحيط بكل شيء فإنه سبحانه بكل شيء عليم.(/1)
عليم بالأمور كلها دقيقها وجليلها سرها وعلنها فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء الأمر الثاني أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فإن الله لما خلق القلم قال له اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب ما هو كائن فكتب بعلم الله وإذنه ما هو كائن إلى يوم القيامة فما كتب على الإنسان لم يكن ليخطئه وما لم يكتب عليه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} فعلى العبد إذا جرت الأقدار على ما لا يحب أن يرضى بقضاء الله وقدره وأن يستسلم للقضاء المكتوب فإنه لا بد أن يكون ويقع فلا راد لقضاء الله وقدره لكن الفخر كل الفخر لمن يقابل ذلك بالرضا ويعلم أن الأمر من الله إليه وأنه سبحانه له التدبير المطلق في خلقه فيرضى به ربا ويرضى به إلها وبذلك يحصل له الثواب العاجل والآجل فإن من أصيب بالمصائب فصبر هدى الله قلبه وشرح الله صدره وهون عليه المصيبة لما يرجو من ثوابها عند الله ثم إذا بعث يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى الأجر والثواب وجد أجر مصيبته وصبره عليها مدخراً له عند الله وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وكما أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء فكذلك يكتب سبحانه ويقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة كلها كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وكذلك يكتب على الإنسان وهو في بطن أمه ما سيجري عليه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق فقال ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، نطفة، ثم يكون علقة مثل(/2)
ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) وهذا الرجل الذي كان يعمل بعمل أهل الجنة ثم ختم له بعمل أهل النار إنما كان يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ولم تكن نيته في الإخلاص والقصد نية مستقيمة فلذلك عوقب بسوء الخاتمة كما جاء ذلك مفسرا في حديث آخر. الأمر الثالث مما يتم به الإيمان بالقدر أن تؤمن بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فمشيئة الله فوق كل مشيئة وقدرته فوق كل قدرة وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الأمر الرابع أن نؤمن بأن الله خالق كل شيء ومدبر كل شيء وأن ما في السماوات والأرض من صغير ولا كبير ولا حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله وخلقه فمن الأشياء ما يخلقه الله بغير سبب معلوم لنا ومنه ما يكون سببه معلوما لنا والكل من خلق الله وإيجاده فنسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعلنا وإياكم ممن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً وأن يقدر لنا بفضله ما فيه صلاحنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وآله وأصحابه واتباعهم إلى يوم الدين.(/3)
العنوان: حكم التحيل على الربا
رقم المقالة: 748
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أباح لنا من المكاسب أحلها وأزكاها وأقومها بمصالح العباد وأولاها وحرم علينا كل كسب مبني على ظلم النفوس وهواها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الخليقة وبراها وبين لها طرق رشدها وهداها، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أزكى الخليقة عبادة ومعاملة وأتقاها صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه، واحذروا الربا فإنه من أسباب لعنة الله ومن الكبائر التي حذر الله عنها ورسوله قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278،288] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الربا ثلاث وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)) رواه الحاكم وله شواهد، وفي صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء يعني في الإثم)).
أيها المسلمون، إن الربا فساد في الدين والدنيا والآخرة، إنه فساد في المجتمع واستغلال مبني على الشح والطمع، ولكن المرابي قد زين له سوء عمله فرآه حسناً فهو من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.(/1)
أيها المسلمون، لقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - الربا أين يكون وكيف يكون فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) رواه أحمد والبخاري. فهذه هي الأصناف التي نص عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألحق بها العلماء ما كان في معناها، بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الأصناف إذا بيع الشيء منها بجنسه فلا بد فيه من أمرين: الأول القبض من الطرفين في مجلس العقد، والثاني التساوي بأن لا يزاد أحدهما على الآخر، فإن اختل أحد الأمرين وقع المتعاقدان في الربا.(/2)
أيها الناس إن من المعلوم أن أكثر الدول الآن لا تتعامل بالذهب والفضة كنقد، وإنما تتعامل بالأنواط بدلاً عن الدراهم، والبدل له حكم المبدل فيكون لهذه الأنواط حكم ما جعلت بدلاً عنه من الذهب والفضة، وإذا كان معلوماً أنه لا يجوز أن يعطى الرجل مئة من هذه الأوراق بمئة وعشرة مثلاً إلى أجل لأن هذا ربا صريح، فإنه لا يجوز التحيل على ذلك بأي نوع كان من الحيل، ولكن الشيطان وهو عدو بني آدم فتح على كثير من الناس باب التحيل على محارم الله كما فتحها على اليهود وغيرهم، والحيلة على المحرم أن يتوصل الإنسان إلى المحرم بشيء صورته صورة المباح. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من التحيل على المحرمات فقال: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) وقال بعض السلف في المتحايلين أنهم يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون، والحيلة على المحرم لا ترفع التحريم عنه وإنما هي فعل للمحرم مع زيادة المكر والخداع لله رب العالمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمتحيل على المحرم لا يقصد إلا المحرم فله ما نوى. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).(/3)
أيها المسلمون، إن للتحايل على الربا صوراً كثيرة أكثرها شيوعاً بيننا طريقة المداينة التي يستعملها كثير من الناس، وهي أن يتفق الدائن والمدين أولاً على المعاشرة يتفق معه على الدراهم يقول أريد عشرة آلاف ريال العشرة بعشرة ونصف مثلاً، ثم يذهب الدائن والمدين إلى صاحب دكان عنده أموال مكدسة إما سكر أو ربطات خام أو غيرها فيشتريها الدائن شراء صورياً ليس له بها غرض سوى الوصول إلى بيع العشرة بعشرة ونصف. والدليل أنه شراء صوري أنه لا يكاسر بالثمن ولا يقلب السلعة ولا يفتشها كما يفعل المشتري حقيقة، وربما كانت هذه الأموال أفسدها طول الزمن أو أكلتها الأرض لأنها لم تنقل ولم تقلب ولم تفتش، وبعد هذا الشراء الصوري يبيع الدائن هذه السلع على المدين بما اتفقا عليه من الربح، ثم يعود المدين فيبيعها على صاحب الدكان ويخرج بدراهم. وهذا العمل بعينه هو ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب إبطال التحليل من جملة صور الحيل، حيث قال - رحمه الله -: وكذلك بلغني أن من الباعة من قد أعد بزا لتحليل الربا، فإذا جاء إلى من يريد أن يأخذ منه ألفاً بألف ومائتين، ذهبا إلى ذلك المحلل فاشترى منه المعطى ذلك البز ثم يعيده للآخذ، ثم يعيده الآخذ إلى صاحبه وقد عرف الرجل بذلك بحيث إن هذا البز الذي يحلل به الربا لا يكاد يبيعه البيع البات، انتهى. وقد قال قبل ذلك سبحان الله العظيم أن يعود الربا الذي عظم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيره، إلى أن يستحل بأدنى سعي من غير كلفة أصلاً إلا بصورة عقد هي عبث ولعب، وقال في الفتاوى أيضاً: وكذلك إذا اتفقا على المعاملة الربوية ثم أتيا إلى صاحب حانوت يطلبان منه متاعاً بقدر المال فاشتراه المعطى ثم باعه على الآخذ إلى أجل، ثم أعاده إلى صاحب الحانوت بأقل من ذلك فيكون صاحب الحانوت واسطة بينهما بجعل، فهذا من الربا الذي لا ريب(/4)
فيه، انتهى.
أيها المسلمون، إن المداينة بهذا البيع الصوري الذي يعلم الله جل وعلا ويعلم المتعاقدان أنفسهما أنهما لم يريدا حقيقة البيع وإنما أرادا دراهم بدراهم، فالدائن أراد الربح والمدين أراد الدراهم، وأدخلا هذا العقد الصوري بينهما، أقول إن هذه المداينة تشتمل على عدة محاذير: الأول أنها تحايل على المحرم وخداع لله ورسوله، ونحن نقول لهذا المتحيل إن حيلتك لن تغني عنك من الله شيئاً، ألم تعلم بأن الله يرى؟ ألم تعلم بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ألم تعلم بأن الحساب يوم القيامة على ما في قلبك {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9،10]، {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ} [الطارق:9،10]. المحذور الثاني أن هذه المعاملة توجب قسوة القلب والتمادي في الباطل، فإن صاحبها يظن أنه على حق، فلو أتيته بكل دليل ما سمع منك لأن قلبه مغمور بمحبة هذه المعاملة السيئة لسهولتها، والنفس إذا اعتادت على الربح المحرم بهذه الطريقة السهلة صعب عليها تركها إلا أن يعينها الله بمدد منه وتعرف حقيقة واقعها وشؤم عاقبة معاصيها، وأن هذه الأرباح التي تحصل لها بطريق التحايل على محارم الله ليس منها إلا الغرم والإثم. المحذور الثالث: إن في هذه المعاملة السيئة معصية لله ولرسوله فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع السلع حتى تنقل. قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: ((كان الناس يتبايعون الطعام جزافاً بأعلى السوق، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى ينقلوه))، رواه البخاري، وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) رواه أبو داود، فكيف ترضى لنفسك أيها المسلم أن تتعامل بمعاملة يكون فيها معصية الله ورسوله والوقوع فيما حذر الله(/5)
ورسوله منه من أجل كسب لا يعود عليك بالخير والبركة، فتب إلى ربك واتق الله في نفسك واعرف حقيقة الدنيا وأنها زائلة ولا تقدمها على الآخرة، قولوا سمعنا وأطعنا ولا تقولوا سمعنا وعصينا، فكروا في هذه المعاملة تفكيراً سليماً من الهوى والطمع يتبين لكم حقيقة أمرها، واسلكوا طريقتين سليمتين إحداهما طريقة الإحسان وهي القرض بدون ربح، فإن أبيتم ذلك فاسلكوا الطريقة الثانية طريقة السلم وهي التي تسمى المكتب، تعطون دراهم بسلع معينة إلى أجل معلوم كما كان الناس يفعلون ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل أن تعطيه ألف ريال بعشرين كيس سكر مثلاً يعطيك إياها بعد سنة فهذا جائز، وكذلك إذا احتاج إلى سلعة معينة كسيارة تساوي عشرة آلاف فبعته عليه بأحد عشر ألفاً أو أكثر إلى أجل معين فلا بأس به سواء كان الأجل مدته واحدة أو كان موزعاً على الأشهر والسنوات.
وفقني الله وإياكم لسلوك طريق الزهد والورع وجنبنا ما فيه هلاكنا من الشح والطمع وجعلنا ممن رأى الحق حقاً واتبعه ورأى الباطل باطلاً واجتنبه إنه جواد كريم.(/6)
العنوان: حكم التصرف في الوقف
رقم المقالة: 752
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل الأمانة في قلوب الرجال بعد أن أبى عن حملها السماوات والأرض والجبال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة على وجه الكمال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليال وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأدوا ما تحملتموه من الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً، وقد أمركم الله في كتابه أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها على الوجه الذي تحملتموها عليه، وأن لا تخونوها بأخذ منها أو تصرف يضر بها. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) وقال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)) وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان)).
أيها المسلمون، ولقد حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل نومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)).(/1)
أيها المسلمون، إن الأمانة تكون في معاملة العبد مع ربه كما تكون في معاملة الخلق، فالأمانة في العبادة أن تقوم بأوامر الله مخلصاً له متبعاً لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن تترك ما نهى الله عنه ممتثلاً بذلك أمر الله ورسوله.
ألا وإن الأمانة تكون في البيع والشراء والصناعة والإجارة وولاية النكاح، والودائع التي تودع إياها، والأقوال التي تكون سراً بينك وبين صاحبك، والولايات التي تتولاها شرعاً أو عرفاً، فالوكيل أمين وولي اليتيم أمين وناظر الوقف أمين والفلاح أمين والراعي أمين. فالأمانة تكون في الدين كله والأعمال كلها، فمن أدى الأمانة على الوجه المطلوب فهو من المفلحين ومن خانها أو تهاون فيها كان من الخاسرين.
أيها المسلمون، إن بين أيديكم أوقافاً أنتم الأمناء عليها فأدوا الأمانة فيها وراعوا فيها حقوق المستحقين من بعدكم، فإن لهم حقوقاً فيها كما لكم فيها حقوق، فليست الأوقاف لكم تتصرفون فيها كما تحبون وإنما هي أمانة بين أيديكم تنفذونها بحسب شروط الموقفين.
أيها المسلمون، إني أحب أن أبين لكم في خطبتي هذه أمرين من أمور الوقف:(/2)
أحدهما في الناظر على الوقف، والثاني في التصرف في الوقف. أما الأمر الأول وهو الناظر، فإن كان الموقف قد عين ناظراً بشخصه أو بوصفه فالنظر لمن عينه، وإن كان الموقف لم يعين ناظراً لا بشخصه ولا بوصفه فإنه إن كان الوقف على جهة عامة كالوقف على الفقراء وعلى المساجد ونحوها فالنظر للحاكم، وإن كان الوقف على معين كالأولاد ونحوهم كان النظر للموقوف عليهم جميعا. ألا وإن من الجهة العامة وقف أماكن الوضوء والاغتسال التي تسمونها الحساوة، فإذا أوقف الإنسان حسوا للمسلمين ولم يذكر له ناظراً معيناً كان الناظر عليه الحاكم الشرعي لأن الوقف للمسلمين والحاكم نائبهم، وعلى هذا فالآبار السبل التي في الأسواق ولم يذكر الواقف لها ناظراً فإنه يتولاها القاضي دون غيره. وقد سمعنا أن بعض الناس لما غارت ماء بئر الحسو السبيل سده ولم يعرف كيف يتصرف فيه، والواجب عليه إذا تعطلت منافعه ولم يمكن إصلاحه أن يبيعه أو يصبره ويصرف العوض في نفع عام بعد مراجعة القاضي.
أما الأمر الثاني الذي أريد بيانه فهو التصرف في الوقف. فالوقف إذا تم لا يجوز بيعه ولا التصرف فيه إلا على الوجه الذي شرطه الموقف، ما لم يكن في ذلك مصلحة شرعية أنفع مما عينه الموقف، فإنه يسأل أهل العلم أو القاضي ويعمل بما يقولون، إلا أنه إذا تعطلت مصالح الوقف وصار لا ينتفع به لا بسكنى ولا بإجارة فإنه يجوز بيعه أو تصبيره ويشتري بعوضه إن بيع ما يكون بدلاً عنه.(/3)
أيها المسلمون، لقد سمعنا أن بعض الناس بدؤوا يصبرون الأوقاف من دور أو دكاكين مع أنها لم تتعطل منافعها ويمكن إجارتها بدراهم تكفي ما عين فيها من تنافيذ، وهذا غلط منهم وتعد على حق الواقف وحق من بعدهم من المستحقين، فلا يجوز لهم أن يحكروها بالصبرة عمن بعدهم، فإنه ربما تكون الأجرة في المستقبل أضعاف الصبرة فيحولون بتصبيرهم بين هذه الزيادة وبين مستحقيها من البطون المستقبلة فيلحقهم الإثم في قبورهم، وربما دعا عليهم من بعدهم لظلمهم إياهم، ودعاء المظلوم مستجاب. فاتقوا الله أيها المسلمون وأدوا الأمانة واسلكوا سبيل السلامة ولا تتبعوا أنفسكم شيئاً يشغل ذمتكم، فلقد كان السلف الصالح - رضي الله عنهم - لا يعدلون بالسلامة شيئاً. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: حكم التهنئة بدخول شهر رمضان
رقم المقالة: 1149
صاحب المقالة: عمر بن عبد الله المقبل
-----------------------------------------
هذا بحث مختصر حول: (حكم التهنئة بدخول شهر رمضان)، حاولت أن أجمع فيه أطرافه، ملتمسًا في ذلك طلب الحق - إن شاء الله (تعالى) -.
قبل البدء بذكر حكم المسألة لا بد من تأصيل موضوع (التهنئة).
فيقال: التهاني - من حيث الأصل - من باب العادات، والتي الأصل فيها الإباحة، حتى يأتي دليلٌ يَخُصُّها، فينقلُ حُكْمُها من الإباحة إلى حُكْمٍ آخر.
قال الشيخُ العلامة (عبد الرحمن ابن سعدي) (رحمه الله تعالى) في منظومة القواعد.
وَالأَصْلُ في عَادَاتِنَا الإِبَاحَةْ حتَّى يَجِيءَ صارِفُ الإِبَاحَةْ
وَلَيْسَ مَشْرُوعًا مِنَ الأُمُورْ غَيْرُ الَّذِي في شَرْعِنا مَذْكُورْ[1]
ثم قال (رحمه الله) معلقًا على ذلك:
(وهذان الأصلان العظيمان ذكرهما شيخ الإسلام (رحمه الله) في كتبه، وذكر أن الأصل الذي بنى عليه الإمام أحمد مذهبه: أن العادات الأصل فيها الإباحة، فلا يحرم منها إلاّ ما ورد تحريمه... إلى أن قال: فالعادات هي ما اعتاد الناس من المآكل والمشارب، وأصناف الملابس والذهاب والمجيء، وسائر التصرفات المعتادة، فلا يحرم منها إلاّ ما حرّمه الله ورسوله، إما نصًّا صريحًا، أو يدخل في عموم، أو قياسٍ صحيح، وإلاّ فسائر العادات حلال، والدليل على حلها قوله (تعالى): ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)) [البقرة: 29]، فهذا يدل على أنه خلق لنا ما في الأرض جميعه لننتفع به على أيّ وجهٍ من وجوه الانتفاع)[2].
وإذا كانت التهاني من باب العادات، فلا ينكر منها إلاّ ما أنكره الشرع، ولذا: مرّر الإسلام جملة من العادات التي كانت عند العرب، بل رغَّب في بعضها، وحرّم بعضها، كالسجود للتحية.
حكم التهنئة بدخول الشهر الكريم:(/1)
روى ابن خزيمة (رحمه الله) في صحيحه (3/191) عن سلمان (رضي الله عنه) قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر يومٍ من شعبان، فقال:
(أيُّها النَّاس، قد أظلَّكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة،....) الحديث.
قال ابن رجب (رحمه الله): (... هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضهم بعضًا في شهر رمضان)[3].
وإنما تأخر الاستدلال به على مسألتنا لأنه لم يثبت، بل هو حديث منكر كما قال الإمام أبو حاتم الرازي[4]، ولذا: بوّب عليه الإمام ابن خزيمة في صحيحه بقوله: (باب فضائل شهر رمضان، إن صحّ الخبر)[5].
وفي سنده (علي بن زيد بن جُدْعان) وهو (ضعيف)[6].
وذَهَبَ الجُمهورُ من الفقهاء إلى أنَّ التَّهنئَةَ بالعيد لا بأس بها، بَلْ ذَهَبَ بَعْضُهُم إلى مشروعيَّتها، وفيها أربع روايات عن الإمام أحمد (رحمه الله)، ذكرها ابن مفلح (رحمه الله) في (الآداب الشرعيَّة)، وذكر أنَّ ما روي عنه من أنها لا بأس بها هي أشهر الروايات عنه[7].
(قال الإمام أحمد (رحمه الله): ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد: تقبّل الله منا ومنك.
وقال حرب: سئل أحمد عن قول الناس: تقبل الله منا ومنكم؟ قال: لا بأس، يرويه أهل الشام عن أبي أمامة، قيل: وواثلة بن الأسقع؟، قال: نعم، قيل: فلا تكره أن يقال: (هذا يوم العيد)؟، قال: لا....)[8].
فيقال: إذا كانت التهنئة بالعيد هذا حكمها، فإنَّ جوازها في دخول شهر رمضان الذي هو موسمٌ من أعظم مواسم الطاعات، وتنزل الرحمات، ومضاعفة الحسنات، والتجارة مع الله.. من باب أولى، والله أعلم.
تحقيق بعض العلماء في المسألة:
ومما يُستدَلُّ به على جواز ذلك أيضًا: قصة كعب بن مالك (رضي الله عنه) الثابتة في الصحيحين من البشارة له ولصاحبه بتوبة الله عليهما، وقيام طلحة (رضي الله تعالى عنه) إليه.
قال ابن القيم (رحمه الله) ضمن سياقِهِ لفوائد تلك القصة:(/2)
(وفيه دليل على استحباب تهنئةِ مَنْ تَجَدَّدَتْ له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته، فهذه سنة مستحبة، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية، وأن الأَوْلى أن يقال: يهنيك بما أعطاك الله، وما منّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربّها، والدعاء لمن نالها بالتهني بها)[9].
ولا ريب أن بلوغ شهر رمضان وإدراكه نعمةٌ دينية، فهي أولى وأحرى بأن يُهنّأ المسلم على بلوغها، كيف وقد أثر عن السلف أنهم كانوا يسألون الله (عز وجل) ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، وفي الستة الأخرى يسألونه القبول؟، ونحن نرى العشرات ونسمع عن أضعافهم ممن يموتون قبل بلوغهم الشهر.
وقال الحافظ ابن حجر (رحمه الله): (ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة: بمشروعية سجود الشكر، والتعزية[10]، وبما في الصحيحين عن كعب بن مالك ...)[11].
ونقل القليوبي عن ابن حجر أن التهنئة بالأعياد والشهور والأعوام مندوبة.
وقد ذكر الحافظ المنذري أن الحافظ أبي الحسن المقدسي سُئِل عن التهنئة في أوائل الشهور والسنين: أهو بدعة أم لا؟، فأجاب: بأن الناس لم يزالوا مختلفين في ذلك، قال: والذي أراه أنه مباح، ليس بسنة ولا بدعة[12].
خلاصة المسألة:
وبعد هذا العرض الموجز يظهر أن الأمر واسع في التهنئة بدخول الشهر، لا يُمنع منها، ولا ينكر على مَنْ تركها، والله أعلم.
هذا، وقد سألتُ شيخنا العلامة (محمد بن صالح العثيمين) عن التهنئة بدخول شهر رمضان، فقال: (طيبة جدًّا)، وذلك في يوم الأحد 8/9/1416هـ، حال بحثي في هذه المسألة، والتي أسأل الله (عز وجل) أن أكون قد وفقت فيها للصواب، فإن كان كذلك فمن الله وحده، وإن كان ما قلته خطأً فأنا أهلٌ له، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي، 1/143.(/3)
[2] انظر (الموافقات) للإمام الشاطبي، 2/212 - 246، ففيه بحوث موسعة حول العادات وحكمها في الشريعة.
[3] لطائف المعارف، ص 279، ط. دار ابن كثير.
[4] علل الحديث للرازي، 1/249.
[5] صحيح ابن خزيمة، 3/191.
[6] تقريب التهذيب، رقم الترجمة (4734).
[7] الآداب الشرعية، 3/219.
[8] المغني لابن قدامة، 3/294.
[9] زاد المعاد، 3/585.
[10] كذا في الموسوعة الفقهية التي نقلت عنها.
[11] الموسوعة الفقهية الكويتية، 14/99 - 100، وانظر، وصول الأماني، للسيوطي وقد بحثت عن كلام الحافظ في مظنته ولم اهتد إليه.
[12] وصول الأماني، 1/83 (ضمن الحاوي للفتاوي).(/4)
العنوان: حكم المحافظة على الصلاة وعقوبة من أضاعها
رقم المقالة: 691
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي فرض الصلوات على عباده رحمة بهم، وإحساناً، وجعلها أعظم صلة بينه وبين عباده، فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأنعم بقرب مولانا، والحمد لله الذي رتب على إقامتها سعادة وبراً واحساناً، وتوعد من أضاعها، أن يلقى غياً وشقاء، وهواناً، وذلك ليحرص العباد على فعلها، ويحذروا من التهاون بها، فما أجدرنا بالشكر، وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الجواد العظيم، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً عظموها، فقد عظمها الله إذ فرضها على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من غير واسطة من فوق سبع سموات، هي عمود الدين، وآخر ما تفقدون من دينكم، فهل يستقيم الدين بلا عماد، وهل يبقى في الدين شيء إذا ذهب آخره، ألم تعلموا أن الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن من صغائر الذنوب؟ ألم تعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهها بنهر يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات فهل يبقى بعد ذلك في جسده شيء من الأوساخ والعيوب؟ ألم تعلموا أن من حافظ عليهن كانت له نوراً في قلبه وقبره، ويوم القيامة، وكانت له حجة، وبرهاناً، ونجاة من العذاب لقد امتدح الله أباكم اسماعيل بأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة، أو قال: وجبت له الجنة)) عباد الله إن لكم الخير الكثير في المحافظة على الصلوات وإقامتهن فهن عون لكم على أمور دينكم ودنياكم: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}. أيها المسلمون: لقد حذركم الله من إضاعة الصلاة، والاستخفاف بها، فقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}{إِلاَ مَنْ تَابَ}. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة))، وقال: ((من حافظ عليها يعني الصلوات كانت له نوراً، وبرهاناً، ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عيها لم يكن له نور، ولا برهان، ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف))، وقال: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح، وأنجح، وإن فسدت، فقد خاب، وخسر)) ألا وإن من أعظم صلاحها أن يخشع فيها قلبك، وتخشع فيها جوارحك، فأما(/2)
خشوع القلب، فحضوره، واستحضاره بأن يحرص المصلي غاية ما يقدر عليه على إحضار قلبه، واستحضاره لمعاني ما يقول، ويفعل فإن الخشوع روح الصلاة ولبها ومعناها، وإن صلاة بلا خشوع كجسد بلا روح، وكلام بلا معنى، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل لينصرف، وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها)). يعني والله أعلم أن ذلك على حسب حضور قلبه فيها وإحسانها وأما خشوع الجوارح فمعناه أن يحرص غاية الحرص على إتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في حركاته وسكناته في ركوعه وفي سجوده في قيامه وفي قعوده، وأن يحرص على أن لا يتحرك إلا لحاجة، ألا وأن من صلاح الصلاة أن تطمئن في القيام والقعود والركوع والسجود، فمن نقر صلاته، ولم يطمئن فيها فلا صلاة له ولو صلى مئة مرة حتى يطمئن فيها، ألا وإن من صلاح الصلاة أن يؤديها جماعة في المساجد، فإن ذلك من واجبات الصلاة التي دل على مشروعيتها الكتاب والسنة.
لقد خاب قوم تهاونوا بصلاتهم حتى ثقلت عليهم فأشبهوا بذلك المنافقين تجد أحدهم تحبسه الحاجة الدنيوية ساعة أو ساعتين أو أكثر من ذلك، ولو كانت قليلة وزهيدة، ولا يستطيع أن يصبر عشر هذا الزمن للصلاة المكتوبة الصلاة عنده أثقل من الجبال وتنعيم بدنه، واتباع لذاته عنده هو رأس المال، فما أعظم خسارته، وما أطول ندمه عند أخذ الكتب باليمين وبالشمال. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.(/3)
العنوان: حكم خطبة الجمعة
رقم المقالة: 1285
صاحب المقالة: د. عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله الحجيلان
-----------------------------------------
اختلف الفقهاء في حكم الخطبة لصلاة الجمعة، هل هي شرط لها فلا تصح بدونها، أو سنة فتصح الصلاة بدون خطبة؟ وذلك على قولين:
القول الأول: أن الخطبة شرط للجمعة.
وبهذا قال الحنفية [1] وجمهور المالكية وهو الصحيح عندهم [2] والشافعية [3] والحنابلة [4].
قال في الحاوي: " فهو مذهب الفقهاء كافة، إلا الحسن البصري؛ فإنه شذ عن الإجماع وقال: إنها ليست واجبة" [5].
وقال في المغني: "وجملة ذلك أن الخطبة شرط في الجمعة لا تصح بدونها... ولا نعلم فيه مخالفًا إلا الحسن" [6].
القول الثاني: أن الخطبة سنة للجمعة.
وبه قال الحسن البصري [7] [8].
وهو مروي عن الإمام مالك، وبه قال بعض أصحابه [9].
وبه قال ابن حزم [10] [11].
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول بأدلة من الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة والتابعين:
أولا: من الكتاب:
1- قول الله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}الآية [12].
وقد اختلف السلف في المراد بذكر الله فيها على قولين: فمنهم من قال: الخطبة، ومنهم من قال: الصلاة [13] وصحَّح ابن العربي [14] أنها تشمل الجميع [15].
فعلى القول بأن المراد الخطبة تدل على وجوبها من وجهين:
الأول: أنه أمر بالسعي إليها، والأصل في الأمر الوجوب، والسعي الواجب لا يكون إلا إلى واجب [16].
الثاني: أن الله – عز وجل - أمر بترك البيع عند النداء لها، أي أن البيع يحرم في ذلك الوقت، فتحريمها للبيع دليل على وجوبها، لأن المستحب لا يحرم المباح [17].
وعلى القول بأن المراد الصلاة فإن الخطبة من الصلاة، والعبد يكون ذاكرا لله بفعله كما يكون مسبِّحا لله بفعله [18].(/1)
2 - قول الله - عز وجل -: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} الآية [19].
وجه الدلالة: أن الله - تعالى - ذمهم على الانفضاض وترك الخطبة، والواجب هو الذي يذم تاركه شرعا [20].
ثانيًا: من السنة:
1- ما رواه عبد الله [21] بن عمر - رضي الله عنهما - قال: { كان النبي – صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما، ثم يقعد، ثم يقوم، كما تفعلون الآن } [22] [23].
2- ما رواه جابر [24] بن سمرة – رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فقد صليتُ معه أكثر من ألفي صلاة" [25] [26].
وهذا الفعل دلالته ظاهرة.
مناقشة هذين الدليلين: نوقشا بأن ما ورد فيهما مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الواجب [27].
الإجابة عن هذه المناقشة: يجاب عنها بالتسليم بذلك لو لم يكن هناك دليل غيرهما على المسألة، لكن ورد الأمر بالخطبة مجملا في قوله - تعالى -: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [28] كما تقدم، فيكون هذا الفعل بيانا لهذا الأمر المجمل، فيكون واجبا، والله أعلم.
3- ما جاء في حديث مالك [29] بن الحويرث أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: {صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي} [30] [31].
وجه الدلالة:
قال غير واحد من أهل العلم: والنبي – صلى الله عليه وسلم - ما صلى الجمعة في عمره بغير خطبة [32] وقد أمرنا بالصلاة كما كان يصلي، ولو جازت الجمعة بغير خطبة لفعله ولو مرة تعليما للجواز [33].
مناقشة هذا الاستدلال: نوقش من وجهين:
الأول: أن هذا الحديث - حديث مالك بن الحويرث - لا يصلح الاستدلال به على الوجوب؛ لأنه لو قيل بذلك للزم أن يكون كثير من السنن واجبات لفعل النبي – صلى الله عليه وسلم - لها في صلاته [34].(/2)
الإجابة عن هذا الوجه: يجاب عنه بأنه يقال بذلك لو لم يكن هناك أدلة أخرى تفيد الوجوب، وتجعل هذا الفعل دالا على الوجوب كما سبق في الآيات وكما سيأتي - إن شاء الله - بالإضافة إلى المداومة.
الثاني: أن حديث مالك هذا ليس فيه إلا الأمر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليها، والخطبة ليست بصلاة [35].
الإجابة عن هذا الوجه: يجاب عن ذلك بأن الخطبة وإن كانت ليست بصلاة فهي عمل متعلق بها ومن أجلها، ولا اعتبار له بدونها فأخذ حكمها، بالإضافة إلى أن بعض السلف - كما سيأتي إن شاء الله - قال: إن الخطبتين بدل عن ركعتين، فيكون لهما حكم الصلاة، والله أعلم.
ثالثا: من آثار الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين:
ما روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - قال: " الخطبة موضع الركعتين، من فاتته الخطبة صلى أربعًا " [36] وفي رواية: " إنما جُعِلَت الخطبة مكان الركعتين فإن لم يدرك الخطبة فليصل أربعًا " [37].
وجه الدلالة: دل هذا الأثر على أن الخطبتين بدل عن ركعتين من صلاة الظهر، وهما واجبتان؛ لأنهما جزء منها، فكذلك حكم بدلهما.
مناقشة هذا الدليل: يناقش من وجهين:
الأول: أن هذا الأثر منقطع السند [38] فلا يصلح للاستدلال.
الثاني: أن هذا على تقدير ثبوته قول صحابي، وهو مختلف في الاحتجاج به.
وقد نُسِبَ القول بذلك إلى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - [39] وإلى عائشة [40] - رضي الله عنها - [41].
ويناقش بالوجه الثاني من وجهي مناقشة أثر عمر – رضي الله عنه - المتقدم.
كما قال بمثل ذلك بعض التابعين [42] ولكن قولهم ليس بحجة، فلا أطيل بذكر ذلك، وإنما أشرتُ إليه لاستدلال بعض الفقهاء به.
دليل أصحاب القول الثاني:
أن الجمعة تصح ممن لم يحضر الخطبة، ولو كانت شرطًا يجب الإتيان به لم يصح إدراك الجمعة إلا بها [43].(/3)
مناقشة هذا الدليل: قال صاحب الحاوي بعد ذكر هذا الدليل: "وهذا خطأ، ويوضحه إجماع من قبل الحسن وبعده"، ثم ناقشه بأنه غير صحيح، لأن الركعتين واجبتان بالإجماع.
ثم إنه لا يتعلق إدراك الجمعة بها، فلو أدرك ركعة صحت له بالجمعة، فكذلك الخطبة [44].
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بأن الخطبة شرط لصحة الجمعة، لقوة أدلته، بل نقل بعضهم شبه إجماع عليه كما تقدم عن صاحب الحاوي.
---
[1] ينظر: المبسوط 2/23 - 24 والهداية للمرغيناني 1/83 ، وبدائع الصنائع 1/262 ، وتبيين الحقائق 1/ 219 - والفتاوى الهندية 1/146.
[2] ينظر: الإشراف 1/131 ، والتفريع 1/231 ، وبداية المجتهد 1/160 ، والقوانين الفقهية ص (86) ، والفواكه الدواني 1/306.
[3] ينظر حلية العلماء 2/276 ، والوجيز 1/63 ، والمجموع 4/513 ، 514 ، وروضة الطالبين 2/24 ، ومغني المحتاج 1/285.
[4] ينظر: الهداية لأبي الخطاب 1/52 ، وشرح الزركشي 2/173 ، والمغني 3/170 - 171 ، والفروع 2/109 ، والمحرر 1/146 ، والإنصاف 2/386.
[5] الحاوي 3/44.
[6] المغني 3/170 - 171.
[7] هو الحسن بن يسار البصري ، يكنى بأبي سعيد ، من كبار فقهاء التابعين ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ، قال عنه سليمان التيمي: شيخ أهل البصرة ، وكان يرسل ويدلس ، توفي سنة 120هـ. (ينظر: طبقات ابن سعد 7/156 ، وتهذيب التهذيب 2/163).
[8] وممن نقل ذلك عنه ابن قدامة في المغني 3/171 ، والماوردي في الحاوي 3/44 ، النووي في المجموع 4/514 ، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/114 ، وأخرج عنه ابن حزم في المحلى 5/95 قوله: " من لم يخطب يوم الجمعة صلى ركعتين على كل حال ".
[9] ينظر: الإشراف 1/131 ، وأحكام القرآن لابن العربي 4/1805 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/114.(/4)
[10] هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي ، يكنى بأبي محمد ، أحد أئمة الظاهرية ، كان ذكيا حافظا ، وكان شافعي المذهب فانتقل إلى القول بالظاهر ، قال عنه صاعد بن أحمد: " أجمع أهل الأندلس لعلوم الإسلام " ، له مصنفات منها: المحلى ، ومراتب الإجماع ، توفي سنة 456 هـ. (ينظر: تذكرة الحفاظ 3/1146 ، وشذرات الذهب 3/299).
[11] المحلى 5/57.
[12] سورة الجمعة ، جزء من آية رقم (9).
[13] ذكر ذلك الطبري في تفسيره 28/65 - 66 ، وابن العربي في أحكام القرآن 4/1805 ، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/107 ، وغيرهم.
[14] هو محمد بن عبد الله بن محمد المعافري ، الأندلسي ، المالكي ، المعروف بابن العربي ، دخل بغداد وسمع بها ، ولقي جماعة من المحدثين بالقاهرة ، ثم عاد إلى الأندلس ، وتولى قضاء أشبيلية ، له مصنفات منها: أحكام القرآن ، والمحصول في الأصول ، وتوفي سنة 543 هـ. (ينظر: الديباج المذهب ص (281) ، وشذرات الذهب 4/141).
[15] أحكام القرن 4/1805 ، ونقله عنه القرطبي في الجامع 18/114.
[16] المبسوط 2/24 ، وبدائع الصنائع 1/161 ، والحاوي 3/44 ، وشرح الزركشي على الخرقي 2/173 ، وكشاف القناع 2/31.
[17] أحكام القرآن لابن العربي 4/1805.
[18] المرجع السابق.
[19] سورة الجمعة ، جزء من الآية رقم (11).
[20] ينظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/1810 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/114.
[21] هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي ، العدوي ، ابن الخليفة الثاني ، أسلم مع أبيه وهو صغير ، ورده رسول الله يوم بدر لصغره ، واختلف في شهوده أحدا ، وشهد الخندق وما بعدها ، وكان شديد الاحتياط والتوقي لدينه في الفتوى ، ولم يشهد شيئا مما وقع بين الصحابة ، وتوفي سنة 73 هـ ، وقيل غير ذلك. (ينظر: أسد الغابة 3/227 ، والإصابة 4/107).(/5)
[22] البخاري الجمعة (878) ، مسلم الجمعة (861) ، الترمذي الجمعة (506) ، النسائي الجمعة (1416) ، أبو داود الصلاة (1092) ، أحمد (2/98) ، الدارمي الصلاة (1558).
[23] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة - باب الخطبة قائما 1/221 ، وباب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة 1/223. ومسلم في صحيحه في كتاب الجمعة - باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة 2/589 ، الحديث رقم (861).
[24] هو جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب بن حجير العامري ، ثم السوائي ، مولى بني زهرة ، روى عن النبي وسكن الكوفة ، وتوفي سنة 73 هـ ، وقيل غير ذلك (ينظر: أسد الغابة 1/254 ، والإصابة 1/212).
[25] مسلم الجمعة (862) ، النسائي الجمعة (1418) ، أبو داود الصلاة (1093) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1106) ، أحمد (5/100) ، الدارمي الصلاة (1559).
[26] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة - باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة 2/589 ، الحديث رقم (862).
[27] ينظر: نيل الأوطار 3/265.
[28] سورة الجمعة آية: 9.
[29] هو مالك بن الحويرث بن أشيم بن زياد بن خشيش الليثي ، يكنى بأبي سليمان ، سكن البصرة ، وقدم على النبي في شبيبة من قومه فعلمهم الصلاة ، وأمرهم بتعليم قومهم إذا رجعوا إليهم ، وتوفي سنة 74 هـ. (ينظر أسد الغابة 4/277 ، والإصابة 3/342).
[30] البخاري الأذان (605) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (674) ، الترمذي الصلاة (205) ، النسائي الأذان (635) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (979) ، أحمد (5/53) ، الدارمي الصلاة (1253).
[31] أخرجه البخاري في صحيحة في كتاب الأذان - باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة. 1/155.(/6)
[32] ينظر: المبسوط 2/24 ، وتبيين الحقائق 1/219 ، والإشراف 1/131 ، والفواكه الدواني 1/306 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/114 ، والمغني 3/171 ، وشرح الزركشي على الخرقي 2/173 ، وكشاف القناع 2/31.
[33] ينظر المبسوط 2/42.
[34] ينظر: نيل الأوطار 3/265.
[35] المرجع السابق.
[36] أخرج ذلك عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجمعة - باب من فاتته الخطبة 3/237 ، الأثر رقم (5485). وابن حزم في المحلى 5/58.
[37] أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات - باب الرجل تفوتة الخطبة 2/128.
[38] ذكر ذلك محقق شرح الزركشي على الخرقي في هامشه 2/173 ، ولم أطلع على كلام عليه في كتب التخريج التي بين يدي.
[39] وممن نسبه إليه الزركشي في شرح الخرقي 2/173 ، ولم أعثر عليه فيما بين يدي من كتب الآثار.
[40] هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق ، الصديقة بنت الصديق ، تزوجها النبي قبل الهجرة بسنتين وكان عمرها ست سنين ، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع ، وكانت من أفقه الناس وأحسنهم رأيا ، وروت عن النبي كثيرا ، وتوفيت سنة 57 هـ ، وقيل: 58 هـ. (ينظر: أسد الغابة 5/501 ، والإصابة 8/139).
[41] وممن نسبه إليها ابن قدامة في المغني 3/171 ، والزركشي في شرح الخرقي 2/173 ، ولم أعثر عليه فيما بين يدي من كتب الآثار.
[42] ومنهم عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، ومكحول وغيرهم. وأخرجه عنهم ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات - باب الرجل تفوته الخطبة 2/128 ، كما أخرجه عن إبراهيم النخعي ، وعطاء ، وسعيد بن جبير: البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الجمعة - باب وجوب الخطبة وأنه إذا لم يخطب صلى ظهرا أربعا 3/196.
[43] الحاوي 3/44.
[44] المرجع السابق.(/7)
العنوان: حُكم سب الدهر
رقم المقالة: 1574
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أيها الإخوة المؤمنون: المسلمُ في ظل عقيدته الصحيحة يهنأ بالحياة المريحة، والسعادة المتجدّدة، والنفسية المستقرة، وكلما زاد إيمانه زادت سعادته وطمأنينته، وكلما نقص إيمانه أو اختل توحيده، اقترب من البؤس والشقاء، ويكون بؤسه وشقاؤه بقدر نقص إيمانه، واختلال توحيده؛ حتى لو كان ذا مال وجاه وحياة مترفة.(/1)
فكم من صاحب مال وجاه يتقلب في النعيم والملذات، إذا قال سُمع قوله، وإذا أشار فهمت إشارته، يتسابق الناس إلى إرضائه وكسبِ وده، إذا رآه الجاهلون تمنَّوْا مثل حياته ومعيشته؛ ولكن إذا رآه أهل الفراسة من الصالحين، أدركوا أنه يحمل في داخله بؤسًا يخفيه بابتسامة مصطنعة، وضحكة عالية، يقصد من إظهارها عدم مبالاته بأي شيء ما دام في نعيمه الزائف. إنه يخادع نفسه، ويصبرها على ما فيه شقاؤها، وكان أولى له أن يستبين الطريق، ويعود إلى الحق، ويسير في ركابه مع السائرين المفلحين.
إن هذا الأنموذج يعطي الدليل القاطع على أن السعادة في إيمان القلب، لا في إنعام الجسد، وصاحبُ السعادة الحقيقية الذي اطمأنَّ قلبه بالإيمان، وسلمت عقيدته من الخلل؛ تجده ثابتًا في المواقف، قادرًا على تحمل المصاعب.
أما من انعدم إيمانه أو اختلت عقيدته، فإن المواقف تفضح تصنعه للقوة، وتظهر زور لباس الشدة والبأس الذي يتزين به أمام ناظريه؛ فعند المشكلة والملمَّة يذهب بأسه وتجلده، فتراه يلقي باللائمة على القدر، ويتسخَّط منه، ويعزو الحوادث للدهر، مكذبًا علم الله - تعالى - وأمرَه وخلقه وتدبيره، كما كان المشركون يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].
وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله - تعالى -: يؤذيني ابنُ آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار))[1]. وفي رواية لمسلم ((لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر)). وفي رواية عند أحمد ((لا تسبوا الدهر فإن الله قال: أنا الدهر، بيدي الأمر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك))[2].(/2)
وإنما سب المشركون الدهر لأنهم يعتقدون أنه الفاعل، فاعتقدوا أن مع الله خالقًا بنسبتهم الحوادث للدهر، قال الخطابي في معنى قوله: ((أنا الدهر)): "معناه: أنا صاحب الدهر، ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر؛ فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبُّه إلى ربه الذي هو فاعلها، وإنما الدهرُ زمانٌ جُعل ظرفًا لمواقع الأمور. وكانت عادتُهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر فقالوا: بؤسًا للدهر وتبًّا للدهر"اهـ[3]، ولذلك قال الله عنهم مبينًا جهلهم {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24].
وقال بعض السلف: "كانت العرب في جاهليتها من شأنها ذم الدهر، أي: سبه عند النوازل؛ فكانوا إذا أصابهم شدَّة أو بلاءٌ أو ملامة قالوا: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وقالوا: يا خيبة الدهر؛ فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعل ذلك هو الله. فإذا أضافوا ما نالهم من الشدائد إلى الدهر فإنما سبوا الله – عز وجل - لأن الله هو الفاعل لذلك حقيقة؛ فنهى الله عن سب الدهر بهذا الاعتبار" اهـ[4].
وقد يشابه بعض المسلمين المشركين في سبهم للدهر لا لاعتقادهم أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل؛ لكنه يسب الدهر لهذا الأمر المكروه عنده، فهذا محرم ولا يصل إلى درجة الشرك؛ لأنه يعتقد أن الله هو الفاعل. وإنما هو محرم لما يقتضيه سبه للدهر من مسبة الله - عز وجل - ولم يكن ذلك كفرًا لأنه لم يسب الله - تعالى - مباشرة[5].
وهذا للأسف يحصل عند بعض المسلمين، فيسب اليوم الذي حصلت فيه المصيبة الفلانية، أو الساعة التي عرف فيها فلانًا، أو الشهر أو السنة أو الوقت الذي حصل فيه كذا و كذا. فينبغي أن يعلم أن ما يحصل للعبد هو بتقدير الله - تعالى - وأمره وخلقه، وليس للدهر ولا لغيره تصرف في ذلك.
وقد ذكر العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - ثلاث مفاسد عظيمة لسب الدهر:(/3)
أحدها: سبه من ليس أهلاً للسب، فإن الدهر خَلْقٌ مسخرٌ من خلق الله منقادٌ لأمره، متذللٌ لتسخيره، فسابُّه أولى بالذم والسب منه.
والثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد أعطى من لا يستحق العطاء، ورفع من لا يستحق الرفعة، وحرم من لا يستحق الحرمان.
الثالثة: أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال، التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السموات والأرض، وإذا وافقت أهواءهم حمِدوا وأثنوا عليه، وفي حقيقة الأمر: فرَبُّ الدهر هو المعطي المانع، الخافض الرافع، المعز المذل. والدهر ليس له من الأمر شيء، فمسبتهم للدهر مسبة لله - عز وجل - ولهذا كانت مؤذية للرب - تعالى - فسابُّ الدهر دائرٌ بين أمرين لا بد له من أحدهما: إما مسبة الله أو الشرك به، فإنه إن اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإنِ اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك، وهو يسب من فعله فهو يسب الله تعالى. اهـ[6].
أيها الإخوة: ليس من سب الدهر أن يخبر عما وقع فيه من غير اعتراض أو تذمر أو لوم، كالإخبار عن البرد في ذلك اليوم، أو شدة الحر فيه، أو ما جرى فيه من حوادث ومشكلات من غير أن يتضمن إخبارُه لومًا أو تذمرًا ونظيره ما حكاه الله - تعالى - عن لوط - عليه السلام - من أنه قال {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]، وكذلك قولُه - تعالى - حكاية عن يوسف - عليه السلام - من أنه قال {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48][7]، فوصْفُ ذلك اليوم بأنه عصيب، ووصْفُ السنين بأنها شدائد، هو مجرد إخبار لا اعتراض فيه ولا لوم؛ لذلك لم يكن محذورًا، وما يجري مجراه فليس بمحذور.
فاتقوا الله ربكم، واحذروا ما فيه خلل توحيدكم من الأقوال والأفعال؛ فإن العبد إذا فقد التوحيد الصحيح فقد السعادة.(/4)
أسأل الله - تعالى - أن يثبتنا على الدين الصحيح، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يقربنا من مراضيه، ويباعد بيننا وبين مغاضبه ومساخطه إنه سميع مجيب، وأقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وكونوا على حذر من غضبه ونقمته؛ وذلك بالمسارعة في الخيرات، واكتساب الحسنات، والتقلل من الخطيئات.
أيها الإخوة المؤمنون: إن مما يدخل في باب سب الدهر: تعليقَ الحوادث الكونية على أسباب بحتة، والتغافل عن تقدير الله - تعالى - لها، وأنه خلق الأسباب ومسبَّباتها، حيث يكثر عند دارسي ما يسمى بالعلوم التجريبية نسبةُ بعض الحوادث للطبيعة فيقال: هذا قانون الطبيعة، وهذا تدبيرها وخلقها، وهكذا تريدُ الطبيعة، ونحو ذلك مما هو من أفكار الدهرية والملاحدة، انتقل إلى المسلمين عن طريق ترجمة كتبهم، ودراسة نظرياتهم، وقد يغفل بعض الدارسين عن المحاذير الشرعية في ذلك، فيختل توحيدهم وإيمانهم وهم لا يدرون.
كذلك من الإلحاد والزندقة بعضُ النظريات، التي تجعل الخلق للطبيعة؛ كنظرية النشوء والارتقاء والتطور، التي تتضمن إنكار خلق الله - تعالى - للإنسان، وتصرحُ بتكذيب القرآن في بيان أصل خلق الإنسان.(/5)
ولم يقتصر هذا الخلل على بعض الدارسين لهذه العلوم، المغترّين ببعض النظريات الباطلة؛ بل تسلل ذلك إلى شباب المسلمين ونسائهم وأطفالهم في منازلهم عبر الفضائيات الخبيثة، في عرضٍ لبرامج علمية، تنسب ما يجري في الكون إلى الطبيعة، وإلى المعادلات التي يُبنى بعضها على بعض، بعيدًا عن التذكير بخلق الله - تعالى - وتدبيره؛ بل وُجِّه هذا الإفساد للأطفال عبر برامجهم، التي صنعت من أجلهم؛ حيث تتضمن رسومًا ومشاهد فيها إفساد للعقيدة والفطرة. فيجب الحذرمن ذلك، وحفظُ البيوت من تسرب هذه الأفكار الضالة إليها، وذلك بإقصاء سبل الشر والفساد، وغرس العقيدة الصحيحة في قلوب النساء والأطفال؛ بل حتى الرجال.
فكثير من المسلمين يغفل عن أهمية بناء التوحيد الصحيح في قلوب نسائه وأولاده ويتركهم لفطرتهم، وذلك لو صح فإنما يصح مع عدم وجود معاول الهدم والتدمير، والغزو الذي يقذف الشبهات، أما وقد وجد ذلك، والحربُ على أشدها فلا بد من تحصين المسلمين بالتوحيد الصحيح عن طريق التربية والتعليم؛ حتى تتأبى قلوبُهم على الشبهات، وتتكسر معاول التدمير على جدران العقيدة الصلبة الصحيحة، التي امتلأت بها قلوبُ المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً.
فالحذر الحذر أيها الإخوة، فالصراع صراع عقائد، ولْيَزِنْ كلُّ مسلم ألفاظه؛ حتى تكون ألفاظًا شرعية بعيدة عما يخل بدينه وتوحيده، ألا وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه البخاري في التفسير تفسير سورة الجاثية باب {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] (4826)، ومسلم في الأدب باب النهي عن سب الدهر (2246).
[2] الرواية الأولى أخرجها مسلم من حديث أبي هريرة أيضًا (2246)، والثانية أخرجها أحمد وصححها الحافظ ابن حجر في الفتح (10/581).
[3] "فتح الباري" لابن حجر (8/438).
[4] "حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد" (312).(/6)
[5] انظر في ذلك: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (5/547) و"حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد" (311) و"القول المفيد على كتاب التوحيد" (2/351).
[6] "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" (616).
[7] انظر: "حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد" (313) و"القول المفيد على كتاب التوحيد" (2/351).(/7)
العنوان: حكم شرب الدخان ومضاره
رقم المقالة: 764
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أنعم على عباده بما أخرج لهم من الطيبات وأدره عليهم من أصناف الأرزاق والأقوات وأحل لهم من ذلك ما تقوم به أديانهم وأبدانهم وحرم عليهم ما يكون به ضرر في أبدانهم وعقولهم وأديانهم والحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً ووسع كل شيء رحمة وحكماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واستغنوا بما أباح لكم من الطعام والشراب عما حرمه عليكم، فإنه ما من شيء ينفعكم من ذلك إلا أباحه لكم فضلاً منه وإحساناً، وما من شيء يضركم إلا حرمه عليكم رحمة منه وامتنانا. فكما أن لله النعمة عليكم فيما أباحه لكم من الطيبات فله النعمة عليكم أيضاًً بما حرمه من الخبائث والمضرات، فعلى العباد أن يشكروا نعمته في الحالتين فيتناولوا ما أباحه لهم فرحين مغتبطين ويتجنبوا ما حرمه عليهم سامعين مطيعين.
أيها الناس: لقد انتشر شرب الدخان في مجتمعنا حتى عم كثيراً من الصغار في الأسواق والدور وهو الشراب الذي لا ينكر ما فيه من ضرر في البدن والمال والمجتمع والدين.(/1)
أما ضرره في البدن فإنه يضعف البدن ويضعف القلب ويحدث مرض السرطان والسل والسعال ويفضي إلى الموت كما يشاهد ذلك كثيراً، وكما قرر ذلك كثير من العلماء المختصين وأكد تقريرهم كبار الهيئة الصحية العالمية وشهد به الأمر الواقع فكم من إنسان أنهك جسمه وأفسد صحته وقتل نفسه بما تعاطاه من هذا الدخان. ولا تغتروا بما يرى من بعض الناس الذين يشربونه وأجسامهم سليمة فإن هؤلاء المدخنين ليسوا بحسب مظهرهم، واسألهم ماذا يحدث لهم من قلة الشهية وكثرة السعال والنزلات الصدرية والفتور العام والتعب الشديد عند أقل عمل وكلفة، ولو أقلعوا عن شربهم لحصل لهم من القوة والنشاط ما لم يكونوا عليه حين شرب الدخان. وأما ضرره في المال فاسأل من يشربه ماذا ينفقه كل يوم في شربه، ولو كان ينفق هذا المال فيما يعود عليه وعلى أهله بالنفع من الطعام الطيب والشراب الحلال واللباس المباح لكان ذلك خيراً له في دينه ودنياه، ولكنه ينفق الكثير في هذا الدخان الذي لا يعود عليه إلا بالضرر العاجل والآجل، فنسأل الله لنا وله الهداية. أما ما انتفع به بعض الناس من الاتجار به والتكسب حتى صاروا بعد الترب متربين وبعد الإعواز واجدين وبعد الفقر مغتنين، فلبئس ما كسبوا حراماً واكتسبوا آثاماً، وإنهم لأغنياء المال فقراء القلوب واجدون في الدنيا عادمون لما كسبوه من الحرام في الآخرة، فإنهم إن تصدقوا به لم يقبل منهم وإن أنفقوه لم يبارك لهم فيه، وإن أخلفوه كان زاداً لهم إلى النار لا يدرون متى يأتيهم الموت فيفارقون أموالهم أشد ما يكونون بها تعلقاً وأعظم ما يكونون بها طمعاً وبعد ذلك يتلقاها الوارث، له غنمها وعلى مخلفها غرمها، وإن الفقر لخير من مال يكسبه الإنسان بمعصية الله.(/2)
أما مضار الدخان الاجتماعية، فإن تفشي الأمور الضارة في المجتمع توجب فساد المجتمع، وإن كثيراً ممن يشربونه الآن لا يبالون بانتشاره بين الناس بل ربما يفرح بعضهم بانتشاره وكثرة استعماله وتعاطيه ليتسلى بغيره وتهون مصيبته، ولذلك كانوا يشربون أمام الناس وأمام أولادهم الصغار، وهذا لا شك يهون شربه عند الصغار ويؤدي إلى نتيجة حتمية وهي أن الصغير إذا اعتاده من صغر فتك به فتكاً أعظم ثم لا يستطيع الخلاص منه عند كبره، وكم حصل من أعقاب السجائر وهي بقية السجائر التي يلقونها في الأرض كم حصل بها من أضرار وأمراض معدية لمن يأخذونها ويشربونها.
وأما مضاره الدينية، فإن المحققين من أهل العلم الذين عرفوا مصادر الشريعة ومواردها وسلموا من الهوى قد تبين لهم تحريمه من عمومات النصوص الشرعية وقواعد الدين المرعية، وإذا كان حراماً كان فعله معصية لله ولرسوله، وكل معصية لله ولرسوله فإنها ضرر في الدين فإن الإيمان ينقص بالمعصية كما يزيد بالطاعة.
أيها المسلمون: إن نصيحتي لمن من الله عليه بالعصمة منه أن يحمد الله على هذه النعمة ويسأله الثبات عليها وأن يدعو الله لإخوانه بالعصمة منه. أما نصيحتي لمن ابتلوا به فأن يتأملوا بإمعان ودقة في مضاره ونتائجه ليقتنعوا بضرورة الامتناع منه ويهون عليهم تركه واجتنابه، وأن يلحوا على ربهم بالدعاء أن يعصمهم منه ويستعينوه على ذلك ويستعملوا الأسباب التي تعينهم على تركه، وذلك بقوة العزم وعدم الجلوس في محل يشرب فيه والتسلي عنه بما أباح الله لهم من الطعام والشراب، فقد فتح الله لهم من الطيبات كل باب ولم يضيق عليهم في ذلك ولله الحمد، ولينظروا في حال من عافاه الله منه كيف استصحوا وقويت أبدانهم وزالت عنهم الأضرار الناتجة عن شربه ولله الحمد.(/3)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: حُكْمِ صيَامِ رَمضان
رقم المقالة: 1310
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمدُ لله الَّذي لا مانعَ لما وَهَب، ولا مُعْطيَ لما سَلَب، طاعتُهُ للعامِلِينَ أفْضلُ مُكْتَسب، وتَقْواه للمتقين أعْلَى نسَب، هَيَّأ قلوبَ أوْلِيائِهِ للإِيْمانِ وكَتب، وسهَّلَ لهم في جانبِ طاعته كُلَّ نَصَب، فلمْ يجدوا في سبيل خدمتِهِ أدنى تَعَب، وقَدَّرَ الشقاءَ على الأشقياء حينَ زَاغوا فَوَقَعُوا في العطَب، أعرضُوا عنْهُ وكَفَروا بِهِ فأصْلاهم نَارًا ذاتَ لَهب، أحمدهُ على ما مَنَحَنَا من فضْله وَوَهَب، وأشهَدُ أن لا إِله إلاَّ الله وَحْدهُ لا شريكَ لَهُ هزَمَ الأحْزَابَ وَغَلَب، وأشْهَدُ أن محمدًا عبدهُ وَرَسُولهُ الَّذي اصْطَفاه الله وانتَخَبَ، صلَّى الله عَلَيْهِ وعلى صَاحِبه أبي بكر الْفائِقِ في الفَضَائِلِ والرُّتَب، وعلى عُمَرَ الَّذي فرَّ الشيطانُ منهُ وهَرَب، وعَلَى عُثْمان ذي النُّوُريَنِ التَّقيِّ النَّقِّي الْحسَب، وَعَلى عَليٍّ صهره وابن عمه في النَّسب، وعلى بقِيَّةِ أصحابه الذينَ اكْتَسَوا في الدِّيْنِ أعْلَى فَخْرٍ ومُكْتسَب، وعلى التَّابِعين لهم بإحْسَانٍ ما أشرق النجم وغرب، وسلَّم تسليمًا.(/1)
إخواني: إنَّ صيامَ رمضانَ أحَدُ أرْكان الإِسْلام ومَبانيه العظَام قَالَ اللهُ تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 183 185].
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ((بُنِي الإِسلامُ على خَمْسٍ: شهادةِ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقام الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وحَجِّ الْبَيْتِ، وَصومِ رمضانَ))؛ متفق عليه. ولمسلم: ((وصومِ رمضانَ وَحَجِّ البيتِ)).(/2)
وأجْمَعَ المسلمونَ على فرضيَّةِ صوم رمضان إجْمَاعًا قَطْعيًا معلومًا بالضَّرُورةِ منِ دينِ الإِسْلامِ فمَنْ أنكر وجوبَه فقد كفَر فيستتاب فإن تابَ وأقرَّ بِوُجوبِه وإلاَّ قُتِلَ كَافرًا مُرتَدًَّا عن الإِسلامِ لا يُغسَّلُ، ولاَ يُكَفَّنُ، ولاَ يُصَلَّى عليه، ولا يُدعَى له بالرَّحْمةِ، ولا يُدْفَنُ في مَقَابِر المسلمين، وإنما يُحْفَر له بعيدًا فِي مَكانٍ ويُدفنُ؛ لئلا يُؤْذي الناس بِرائِحَتِهِ، ويتأذى أهْلُه بِمُشَاهَدَته.
فُرضَ صِيامُ رمضانَ في السنةِ الثانيةِ منَ الهجرةِ، فصامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلّم - تِسع سِنين. وكان فرض الصيَّام على مَرْحَلَتَيْن:
المَرْحَلةُ الأوْلَى: التَّخيير بَيْنَ الصيامِ والإِطعامِ مَعَ تفضيلِ الصيامِ عليهِ.
المَرْحَلةُ الثانيةُ: تعيينُ الصيامِ بدون تخْييرٍ. ففي الصحيحين عن سَلَمة بن الأكوع رضي الله عنه قال لما نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان مَنْ أرَاد أن يُفْطِر ويفْتديَ ((يعني فَعَل)) حتى نَزَلَتْ الآيةُ التي بَعْدَها فَنَسخَتْها يَعْني بها قولهُ تَعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَأوْجَب الله الصيامَ عَيْنًا بِدُونَ تَخْيير.
ولا يجبُ الصومُ حتى يَثْبتَ دخولُ الشَّهْر، فلا يَصومُ قَبْلَ دخولِ الشهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((لا يَتَقَدمنَّ أحَدُكم رمضانَ بصوم يومٍ أو يومينِ إلاَّ أنْ يكونَ رجلٌ كانَ يصومُ صَوْمَهُ فلْيصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ))؛ رواه البخاري. ويُحْكَمُ بدخول شهرِ رمضانَ بِواحدٍ من أمْرَينِ:(/3)
الأولُ: رؤْيةُ هلالِهِ لقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: ((إِذَا رأيتُمُ الهلالَ فصوموا))؛ متفق عليه. ولا يُشْتَرطُ أن يراه كلُّ واحدٍ بنفسه بلْ إذا رآهُ مَنْ يَثْبُتُ بشهادتِهِ دخولُ الشَّهْر وجبَ الصومُ على الجَمِيْع.
ويُشْتَرطُ لقبولِ الشَّهَادةِ بالرُّؤْيةِ أن يكونَ الشاهِدُ بَالِغًا عاقلاً مسلمًا مَوثُوقًا بخبرهِ لأمانته وَبصرهِ. فأمَّا الصغيرُ فلا يَثْبتُ الشهرُ بشهادتِه لأنه لا يُوْثَق به وأوْلَى منه المجنونُ. والكافرُ لا يَثْبتُ الشهرُ بشهادته أيْضًا لحديث ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: ((جاءَ أَعْرابيٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلّم - فقال: إني رَأيتُ الهلالَ يعني رَمضانَ فقال: أتَشْهَدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله؟ قال: نَعَمْ. قال: أتَشْهَدْ أنَّ محمدًا رسولُ الله؟ قال: نَعَمْ. قال: يا بِلالُ أذِّنْ في الناسِ فَلْيصُوموا غَدًَا))، أخرجه السبعة إلاّ أحمد.(/4)
وَمَنْ لا يُوْثَقُ بخبره بِكونِهِ مَعْروفًا بالكَذبِ أوْ بالتَّسَرُّعِ أوْ كان ضعيفَ البَصرِ بحيثُ لا يُمْكنُ أنْ يراه فلا يَثْبُتُ الشهرُ بشهادتِهِ للشَكِّ في صدقِه أوْ رجَحانِ كَذِبهِ، وَيثْبُتُ دخولُ شهْرِ رمضان خاصَة بشهادةِ رجلٍ واحد لقول ابن عُمر رضي الله عنهما: ((تَرَاءَى الناسُ الهلالَ فأخْبرتُ النبي - صلى الله عليه وسلّم - أنِّي رأيتُهُ فصامَ وأمَرَ الناسَ بصيامِهِ))؛ رواه أبُو داودَ والحاكمُ وقال: على شرطِ مسلمٍ. ومَنْ رَآهُ مُتَيَقِّنًا رُؤْيَته وجَبَ عليه إخبارُ وُلاَةِ الأمُورِ بذلك، وكَذلِكَ من رأى هلالَ شَوَّالٍ وذِي الحِجَّة لأنَّه يَتَرَتَّبُ على ذلك واجبُ الصومِ والفطر والحج - وما لا يتم الواجبُ إلاَّ به فهو واجب - وإن رآه وحدَه في مكانٍ بعيدٍ لا يمكنه إخبارُ ولاةِ الأمورِ فإنه يصوُم ويَسْعَى في إيصالِ الخبرِ إلى ولاةِ الأمورِ بقَدْرِ ما يَستطيعُ.
وإذا أُعلنَ ثبوتُ الشهرِ من قِبَلِ الحكومةِ بالرَّاديو أو غيرهِ وجَبَ العملُ بذلك في دخولِ الشَّهْرِ وخروجه في رمضانَ أوْ غيرهِ؛ لأنَّ إعلانَه مِن قِبَل الحكومةِ حُجَّةٌ شرعيَّةٌ يجبُ العملُ بها. ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلّم - بلالاً أنْ يؤذِّنَ في الناسِ مُعلنًا ثبوتَ الشهرِ ليصُوموا حينَ ثَبَتَ عنده - صلى الله عليه وسلّم - دخولُهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الإِعْلامَ مُلزِمًا لهم بالصيامِ.
وإذا ثَبتَ دخولُ الشهر ثبوتًا شرْعيًَّا فَلاَ عِبْرةَ بمنازل القمر؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - علَّقَ الحكْم برؤيةِ الهلالِ لا بمنَازلِهِ، فقالَ صلى الله عليه وسلّم: ((إِذَا رَأيتُمُ الهلالَ فصُوموا وإِذَا رَأَيْتُمُوه فأفْطِروا))؛ متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلّم: ((إن شَهِدَ شاهدان مُسْلمانِ فصومُوا وأفْطُروا))؛ رواه أحمد.(/5)
الأمر الثاني: مما يُحْكَمُ فيهِ بِدُخولِ الشَّهرِ إكْمالُ الشهرِ السابقِ قَبْله ثلاثينَ يَوْمًا لأن الشَّهر الْقمريَّ لا يمكن أن يزيدَ على ثلاثينَ يومًا ولا ينقصَ عن تسعةٍ وعشرينَ يومًا ورُبَّما يَتَوالَى شهْرَان أو ثلاثة إلى أربعة ثلاثين يومًا أو شهران أو ثلاثة إلى أربعة تسعة وعشرين يومًا، لَكن الغالِب شَهرٌ أو شهرانِ كامِلةٌ والثالثُ ناقصٌ. فَمَتَى تمَّ الشَّهْرُ السابقُ ثلاثينَ يومًا حُكمَ شرعًا بدخولِ الشهرِ الَّذِي يَلْيِهِ وإن لمْ يُرَ الهلالُ لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((صُوموا لِرؤيتِهِ وأفْطروا لرؤيته فإن غُمِّي عليكُمْ الشهر فعدوا ثلاثين))؛ رواه مسلم، ورواه البخاري بلفْظِ: ((فإن غُبَّي عليكم فأكْمِلوا عدَّة شعبانَ ثَلاثينَ)). وفي صحيح ابن خُزيمة من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: ((كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - يَتحفَّظُ من شعبانَ ما لا يَتَحَفَّظ من غيرهِ ثم يصوم لرؤيةِ رمضان فإنْ غُمَّ عليه عَدَّ ثلاثين يومًا ثم صام))، وأخرجه أيضًا أبو دَاود والدَّارقطنيُّ وصحَّحهُ.
وبهذه الأحاديث تبيَّن أنَّه لا يصامُ رمضانُ قبل رُؤْيَةِ هلالهِ. فإن لمْ يُرَ الهلالُ أُكْمِلَ شعبانُ ثلاثين يومًا. ولاَ يُصام يومُ الثلاثينَ منه سواءٌ كانتِ الليلةُ صحوًا أم غيمًا لقول عمار بن ياسرٍ رضي الله عنه: ((مَنْ صَامَ اليومَ الَّذي يشكُّ فيه فقد عصى أبا القاسمِ صلى الله عليه وسلّم))؛ رواه أبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ وذكره البخاريُّ تَعْلِيقًا.
اللَّهُمَّ وفِّقْنا لاتِّبَاعِ الهُدى، وجنِّبنَا أسْبَاب الهلاكِ والشَّقاء، واجعل شَهرنَا هَذَا لَنَا شهرَ خيرٍ وبركةٍ، وأعِنَّا فيهِ على طاعتك، وجنِّبْنا طرقَ معصِيتك، واغْفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتِك يا أرْحَمَ الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابِه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ إلى يومِ الدِّين.(/6)
العنوان: حكم قِيَام رمَضان
رقم المقالة: 1315
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمدُ لله الَّذِي أعانَ بفضلِهِ الأقدامَ السَّالِكة، وأنقذ برحمته النُّفوسَ الهالِكة، ويسَّر منْ شاء لليسرى فرغِبَ في الآخِرة، أحمدُه على الأمور اللَّذيذةِ والشَّائكة، وأشهد أن لا إِله إلاَّ الله وَحدَهُ لا شريكَ له ذو الْعزَّةِ والْقهرِ فكلُّ النفوسِ له ذليلةٌ عانِيَة، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه القائمُ بأمر ربِّه سِرًا وعلاَنِية، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكْرٍ الَّذِي تُحَرِّضُ عَلَيْه الْفرقَة الآفِكة، وعَلَى عُمَرَ الَّذِي كانَتْ نَفْسُه لنفسه مالِكَة، وعَلَى عُثمانَ مُنْفِقِ الأمْوال المتكاثرة، وعَلَى عَليِّ مُفرِّقِ الأبطالِ في الجُموع المُتكاثفَة، وَعَلَى بَقيَّةِ الصَّحابة والتابعين لهم بإحسانٍ ما قَرعتِ الأقدام السالِكَة، وسلَّم تسليمًا.
إخواني: لَقَدْ شَرَع اللهُ لعبادِهِ العباداتِ ونوَّعها لهم ليأخُذوا مِنْ كل نوع منها بنَصيب، ولِئَلاَّ يَملوا من النَّوْع الواحدِ فَيْتركُوا العملَ فيشقَى الواحِدُ منهم ويخيب، وَجَعَلَ منها فَرَائض لا يجوزُ النَّقصُ فيها ولا الإِخْلاَل. ومنها نَوَافل يحْصُلُ بها زيادةُ التقربِ إلى اللهِ والإِكمَال.(/1)
فمِنْ ذَلِكَ الصلاةُ فَرضَ الله منها على عبادِهِ خمسَ صلواتٍ في اليومِ واللَّيْلَةِ خَمْسًا في الْفِعلِ وخمسينَ في الميزانِ، وندَبَ الله إلى زيادةِ التَّطوع من الصلوات تكميلاً لهذَه الفرائِض، وزيادةَ في القُربى إليه فمِنْ هذه النوافل الرواتبُ التابعةُ للصَّلواتِ المفروضةِ: ركعتَان قبلَ صلاةِ الفجر، وأربعُ ركعاتٍ قبلَ الظهر، وَرَكْعتان بعْدَها، ورَكعتَان بعد المغْرب، وركعَتانِ بَعْد الْعشَاءِ. ومنها صلاةُ الليل التي امْتدَحَ الله في كتابِهِ القَائمينَ بها فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:46]، وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: ((أفضل الصلاةِ بَعْد الفريضةِ صلاةُ الليل))؛ رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلّم: ((أيُّها الناس أفْشوا السلامَ وأطعِمُوا الطعامَ وصِلوا الأرْحَامَ وصَلُّوا باللَّيل والناسُ نيامٌ تَدخُلُوا الجنّةَ بِسَلام))؛ رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وصححه الحاكم.(/2)
ومن صلاة اللَّيل الوترُ أقلُّه ركعةٌ وأكثرهُ إحدَى عشرةَ ركعةً. فيُوتِرُ بركعةٍ مفردة لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: ((منْ أحبَّ أنْ يُوتِر بواحدةٍ فَلْيفعلْ))؛ رواه أبو داود والنسائي. ويُوْتِر بثلاث لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((مَنْ أحبَّ أن يوتر بثلاثٍ فلْيَفْعَل))؛ رواه أبو داود والنسائي. فإنْ أحب سَرَدَها بسلامٍ واحدٍ لما روى الطحاويُّ أنَّ عُمر بنَ الخطاب رضي الله عنه أوتر بثلاثِ ركعاتٍ لم يسلِّم إلاَّ في آخرهِنَّ. وإنْ أحبَّ صلَّى ركعتين وسلَّم ثم صلَّى الثالثة لِمَا روى البخاريُّ عن عبدالله بن عُمَر رضي الله عنهما أنَّه كان يسلَّمُ بين الرَّكعتين والرَّكعةِ في الوترِ حتى كان يأمرُ ببعض حاجته. ويوتر بخَمْس فيسْردُها جميعًا لا يجْلسُ ولا يَسلِّمُ إلاّ في آخِرِهنَّ. لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((من أحبَّ أن يوتر بخمْسٍ فليفْعل))؛ رواه أبو داود والنسائي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - يُصلِّي من الليلِ ثلاثَ عَشْرَة ركعةً يوترُ مِنْ ذَلِكَ بخمسٍ لا يَجْلسُ في شَيْءٍ منهن إلا في آخِرهِنّ))؛ متفق عليه. ويوتر بسبع فيسْرِدُها كالخمْس لقول أمِّ سلمةَ رضي الله عنها: ((كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - يوتر بسبعٍ وبخمسٍ لا يَفْصلُ بينهن بسلامٍ ولا كلامٍ))؛ رواه أحمد والنسائي وابن ماجة.(/3)
ويوتر بتسع فيسردُها لا يجلس إلاَّ في الثَّامنَةِ، فيقرَأ التشهد ويدعُو ثم يقومُ ولا يسلَّمُ فيصلِّي التاسعةَ ويتشهد ويدعو ويسلِّم لحديث عائشةَ رضي الله عنها في وِتْر رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - قالَتْ: ((كان يصلِّي تسْعَ رَكَعَاتٍ لا يجلسُ فيها إلا في الثَّامِنَةِ فيذكرُ الله ويحمدَهُ ويدْعُوه ثم يَنْهضُ ولا يُسلِّم ثم يَقُومُ فيصلَّي التاسعة ثم يقعُدُ فيذكرُ الله ويحمدُهُ ويدْعُوه ثم يسلِّم تسليمًا يسمعُنا)) الحديث؛ رواه أحمد ومسلم. ويصلِّي إحْدى عشْرة ركعةً. فإن أحَبَّ سلَّم من كل ركعتين وأوْتَرَ بواحدةٍ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - يُصلِّي ما بينَ أنْ يفْرَغَ من صلاةِ العشاءِ إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلِّم بين كل ركعتين ويُوْتر بواحدةٍ)) الحديث رواه الجماعةُ إلاّ الترمذيَّ. وإن أحبَّ صلَّى أربعًا ثم أرْبعًا ثم ثلاثًا لحديث عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: ((كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - يُصلِّي أربعًا[1] فلا تسْألْ عن حُسْنِهنَّ وطولهنَّ ثم يصلِّي أربعًا فلا تسألْ عن حُسْنِهنَّ وطولهنَّ ثم يصلِّي ثلاثًا))؛ متفق عليه.
وسَرْدُ الخمسِ والسبع والتسعِ إنما يكونُ إذا صلَّى وحده أو بجماعة محصورين اختاروا ذلك. أما المساجدُ العامة فالأولى للإِمام أن يسلِّم في كل ركعتين لِئلاَّ يشقَّ على الناس ويربِكَ نياتهم، ولأنَّ ذَلِكَ أيسُر لهم. وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: ((أيُّكم أَمَّ النَّاسَ فليوجِزْ فإِنَّ مِنْ ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجة))، وفي لفظٍ: ((فإذا صلَّى وَحْدَه فليصلِّ كيف يَشاء))، ولأنَّه لم يُنْقَلُ أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - أوتر بأصحابه بهذه الكَيفيَّة وإنَّما كان يَفْعَلُ ذلك في صلاتِهِ وحده.(/4)
وصلاةُ الليل في رمضانَ لها فضيلةٌ ومزيَّةٌ على غيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((مَنْ قَام رمضانَ إِيْمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ))؛ متفق عليه. ومعنى قوله: ((إِيْمانًا)) أي: إيمانًا بالله وبما أعدَّه من الثوابِ للقائِمينَ، ومعنى قوله: ((احتسابًا)) أي: طلبًا لثَوابِ الله لم يَحْمِله على ذلك رياءٌ ولاَ سمعة ولا طلبُ مالٍ ولاَ جاهٍ. وقيام رمضان شاملٌ للصَّلاةِ في أولِ اللَّيل وآخرِهِ. وعلى هَذَا فالتَّراويحُ منْ قِيام رمضانَ: فينْبغِي الحرْصُ عليها والاعتناءُ بها واحتسابُ الأجْرِ والثوابِ مِنَ اللهِ عَلَيْهَا. وما هِيَ إلاَّ لَيالٍ مَعْدودةٌ ينْتهزُها المؤمنُ العاقلُ قبل فوَاتِها. وإنما سُمِّيَتْ تراويحَ لأن الناسَ كانُوا يُطِيلونَها جدًَّا فكلما صَلَّوا أربَعَ رَكْعَاتٍ استراحُوا قليلاً.(/5)
وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلّم - أوَّل من سَنَّ الْجَمَاعَةَ في صلاةِ التَّراويحِ في الَمسْجِدِ، ثم تركها خوفًا من أنْ تُفْرضَ على أمَّتِهِ، ففي الصحيحين عَنْ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - صلَّى في المسجدِ ذات لْيلةٍ وصلَّى بصلاتِهِ ناسٌ ثُمَّ صلَّى من الْقَابلةِ وكثر الناسُ ثم اجْتمعوا من اللَّيْلة الثالثةِ أو الرابعةِ فلَمْ يخرجْ إِلَيْهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلّم - فَلَمَّا أصبَحَ قال: ((قد رأيتُ الَّذِي صَنَعْتُم فلم يَمْنعني من الخُروجِ إليكم إلاَّ إِنِي خَشيتُ أنْ تُفْرضَ عَلَيْكُمْ. قال: وَذَلِكَ فِي رمضانَ)). وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: ((صُمْنا مع النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - فلَمْ يقُمْ بنا حتى بَقِي سَبْعٌ من الشَّهْرِ، فقامِ بِنَا حتى ذَهبَ ثُلُثُ اللَّيْل، ثُمَّ لم يقم بنا في السادسة، ثم قام بنا في الخامسة حتى ذهب شَطْرُ الليلِ أي نصفُه فقلنا: يا رسولَ الله لو نَفَّلتَنا بَقيَّة ليلتنا هذه فقال صلى الله عليه وسلّم: إنَّه مَنْ قام مع الإِمامِ حَتَّى ينْصرفَ كُتِبَ له قيامُ ليلةٍ)) الحديث؛ رواه أهْل السنن بسندٍ صحيحٍ.(/6)
واختَلَفَ السَّلفُ الصَّالحُ في عدد الركعاتِ في صلاةِ التَّراويحِ والْوترِ مَعَهَا. فقيل: إحْدَى وأربعون ركعةً وقيل: تسعٌ وثلاثونَ وقيل: تسعٌ وعشرونَ وقيل: ثلاثٌ وعشرون وقيل: تسعَ عشرةَ وقيل: ثلاثَ عشرةَ وقيل: إحدى عشرةَ وقيل: غير ذلك. وأرجح هذه الأقوال أنها إحدى عشرةَ أو ثلاثَ عشرةَ لما في الصحيحين عن عائشةَ رضي الله عنها أنهَا سُئِلَتْ كيفَ كانتْ صلاةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلّم - في رمضان؟ فقالت: ((ما كانَ يزيدُ في رمضانَ ولا غيرِه على إحْدى عَشرةَ رِكعةً))، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كانتْ صلاةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلّم - ثَلاَثَ عشْرةَ ركعةً يعني مِنَ اللَّيْل))؛ رواه البخاري. وفي المُوطَّأ عن السَّائِب بن يزيدَ رضيَ الله عنه قال: ((أمرَ عُمَر بنُ الخطابِ رضي الله عنه أُبيِّ بنَ كَعْب وتميمًا الداريَّ أنْ يقُومَا للنَّاس بإحْدى عَشرةَ ركعةً))[2]، وكان السلفُ الصَّالحُ يطيلونَهَا جِدًا، ففي حديث السائب بن يزيدَ رضي الله عنه قال: ((كان القارئ يقرأ بالمئين يعني بمئات الآيَاتِ حَتَّى كُنَّا نَعْتمدُ على الْعصِيِّ منْ طولِ القيامِ، وهذا خلافُ ما كان عليه كثيرٌ من النَّاس الْيَوْمَ حيثُ يُصَلُّون التراويحَ بسُرعةٍ عظيمةٍ لا يَأتُون فيها بواجِبِ الهدُوءِ والطّمأنينةِ الَّتِي هي ركنٌ منْ أركانِ الصلاةِ لا تصحُّ الصلاةُ بدونِهَا فيخلُّون بهذا الركن ويُتْعِبونَ مَنْ خَلْفَهُم من الضُّعفاءِ والمَرْضَى وكبارِ السَنِّ فيَجْنُونَ عَلَى أنفُسهمْ ويجْنونَ على غيرهم، وقد ذَكَرَ العلماءُ رحِمَهُم الله أنَّهُ يُكْرَه للإِمام أنْ يُسرعَ سرعةً تَمنعُ المأمُومينَ فعلَ ما يُسنُّ، فكيف بسُرعةٍ تمْنَعهُمْ فعْلَ مَا يجبُ، نسألُ الله السَّلامةَ.(/7)
ولا ينبغي للرَّجل أنْ يتخلَّفَ عن صلاةِ التَّراويِح، لينالَ ثوابها وأجْرَها، ولا ينْصرفْ حتى ينتهي الإِمامُ منها ومِن الوترِ ليحصل له أجْرُ قيام الليل كلَّه. ويجوز للنِّساءِ حُضورُ التراويحِ في المساجدِ إذا أمنتِ الفتنةُ منهنَّ وبهنَّ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: ((لا تَمْنعوا إماءَ الله مساجدَ الله))[3]. ولأنَّ هذا مِنْ عملِ السَّلفِ الصالحِ رضي الله عنهم، لكِنْ يجبُ أنْ تأتي متسترةً متحجبةً غَيرَ متبرجةٍ ولا متطَيبةٍ ولا رافعةٍ صوتًا ولا مُبديةٍ زينةً لِقولِهِ تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] أي: لكِنْ ما ظهرَ منْها فلا يمكن إخفاؤه وهيَ الجلبَابُ والعبَاءَةُ ونحْوهُما ولأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - لما أمر النِّساءَ بالخروج إلى الصلاة يومَ العِيد قالت أمُّ عطية: يا رسولَ اللهِ إحدانا لا يكونُ لها جِلَبابٌ قال: ((لتُلبِسها أُختُها من جلبابها))؛ متفق عليه.
والسنة للنساء أن يتأخرن عن الرجالَ ويبعِدْن عنْهم ويبدأنَ بالصَّف المُؤخَّر بالمُؤخَّر عكس الرجال لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((خير صفوف الرجَالِ أوَّلُهَا وشرُّها آخِرُها وخير صفوفِ النساءِ آخِرُها وشُّرها أوَّلُها))؛ رواه مسلم. ويَنْصرفنَ من المسجدِ فورَ تَسليمِ الإِمامِ، ولا يتأخَّرنَ إلاَّ لِعذرٍ لحديثِ أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالتْ: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - إذا سلَّم قامَ النِّساءُ حِينَ يقضِي تسليمَه وهو يمكُثُ في مَقامِهِ يَسْيرًا قبل أنْ يقومَ))، قالتْ: نرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. رواه البخاري.
اللَّهُمَّ وفقْنا لِمَا وَفَّقتَ القومَ واغْفِر لَنَا ولِوَالديْنا ولجميع المسلمينَ برحمتِكَ يا أرحم الرَّاحمين وصلَّى الله وسلَّم على نبينَا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــ(/8)
[1] يحتمل أن تكون الأربع بتسليم واحد وهو ظاهر اللفظ ويحتمل أن تكون بتسليم من كل صلاة ركعتين لكنه إذا صلى أربعًا فصل ثم صلى أريعًا كذلك وهذا هو الموافق لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى". ولحديث عائشة المذكور قبله حيث بينت أن يسلم بين كل ركعتين.
[2] رواه مالك في الموطأ بإسناد من أصح الأسانيد.
[3] متفق عليه.(/9)
العنوان: حكم لعب الأطفال (مجسَّمة وغير مجسَّمة)
رقم المقالة: 872
صاحب المقالة: الشيخ عبدالله بن حمد العبودي
-----------------------------------------
الحمدلله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
فحيث وُكِلَ إليَّ عمل بحث في (لعب الأطفال، مجسَّمة وغير مجسَّمة)، يتضمن أقوال العلماء والمفسرين، وآراء الفقهاء في ذلك. وحيث لم أجد كلاماً مستقلاً في كتب المفسرين والمحدِّثين والفقهاء - مما اطَّلعتُ عليه - يتضمن هذا الموضوع بعينه، جملةً وتفصيلاً، وإنما يُشار إلى ذلك في باب البيوع، أو اللِّباس، أو التصاوير، أو العشرة، أو الانبساط إلى الناس، وكلهم يركز على ما ورد عن عائشة - رضي الله عنها -:
"كنتُ ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي صواحب يلعبنَ معي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل يَتَقَمَّعْنَ منه، فيسرِّبُهنَّ إليَّ، فيلعبنَ معي"؛ رواه البخاري.
وأخرج أبو داود والنَّسائي من وجهٍ آخر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:
"قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تَبُوك - أو خَيْبَر ..." فذكر الحديث في هتكه السِّتْر الذي نصبَتْهُ على بابها. قالت: "فكشف ناحية السِّتْر على بناتٍ لعائشة (لُعَبٌ)، فقال: ((ما هذا يا عائشة؟))، قالت: "بناتي"! قالت: ورأى فيها فرساً مربوطاً، له جناحان، فقال: ((ما هذا؟!))، قلتُ: "فرسٌ"، قال: ((فرسٌ له جناحان؟!))، قلتُ: "ألم تسمع أنه كان لسليمان خيلٌ لها أجنحة؟" فضحك.
وأغلب مَنْ تكلم منهم عن هذين الحديثين ضمَّن كلامه آراء علماء وفقهاء عصره، أو مَنْ تقدموا عليه، وكلامهم متقاربٌ؛ إذ - في الغالب - أنَّ المتأخِّر منهم ينقل عن المتقدِّم، إما نصّاً، أو بزيادةٍ يسيرةٍ، تتضمن رأيه، وأحياناً رأي علماء عصره في الموضوع.(/1)
لذا؛ رأيتُ أن اختار مما اطَّلعتُ عليه في هذا الموضوع ما يسَّر الله لي نقله وكتابته، مما أظنه كافياً لأداء الغرض، علماً بأني لم أتعرَّض لأي نقلٍ أو كتابةٍ في موضوع التصوير بذاته؛ إذ يوجد لدى (الأمانة) فيه كتاباتٌ سابقةٌ ولاحقةٌ، وتكلم عليه المفسرون والمحدِّثون، والفقهاء والعلماء، قديماً وحديثاً، بما هو واضحٌ وجليٌّ - والحمد لله - وذلك اقتصاراً مني على المطلوب، وتوخِّياً للاختصار.
وخلاصة ما كُتب في الموضوع؛ تتضمنها فتوى سماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله تعالى - وكذا ما كتبه والدنا؛ سماحة الشيخ: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، الرئيس العام لإدارات (البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد) - أثابه الله، وجزاه خيراً - في كتابه "الجواب المفيد في حكم التصوير".
وكذا ما كتبه الشيخ: حمود بن عبدالله التويجري - جزاه الله خيراً - في كتابه "إعلان النكير، على المفتونين بالتصوير". وقد نقلت كلامهم ضمن ما كتبته هنا.
هذا؛ وأرجو من الله - سبحانه وتعالى - أن يوفق عباده المؤمنين لاتباع هديه وشرع نبيه، وأن يجنِّبهم المخالفة، إنه جوادٌ كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
قال الإمام الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في باب "الانبساط إلى الناس"، بعد هذا الحديث:
"حدثنا محمد، أخبرنا أبو معاوية، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها – قالت: "كنت ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي صواحبٌ يلعبْنَ معي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل يتقمَّعْنَ منه، فيسرِّبهن إليَّ، فيلعبْنَ معي".
بعدما تكلم - رحمه الله - عن لغويات الحديث وما يتعلق بها قال:(/2)
"واستُدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللُّعب؛ من أجل لعب البنات بهنَّ، وخُصَّ ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عِياضٌ، ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللُّعب للبنات؛ لتدريبهنَّ من صغرهنَّ على أمر بيوتهنَّ وأولادهنَّ".
قال: "وذهب بعضهم إلى أنه منسوخٌ، وإليه مال ابن بطَّال، وحكى ابن زيد عن مالك: أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور، ومن ثَمَّ رجَّح الداودي أنه منسوخٌ، وقد ترجم ابن حبان: "الإباحة لصغار النساء اللَّعب باللُّعب"، وترجم له النَّسائيُّ: "إباحة الرجل لزوجته اللَّعب بالبنات"، فلم يقيد بالصِّغَر، وفيه نظرٌ.
قال البيهقي بعد تخريجه: "ثبت النهي عن اتخاذ الصور، فيحتمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كانت قبل التحريم". وبه جزم ابن الجَوْزي، وقال المنذري: "إن كانت اللعب كالصورة فهو قبل التحريم، وإلا فقد يسمَّى ما ليس بصورة لُعبة". وبهذا جزم الحَلِيميُّ فقال: "إن كانت صورة كالوَثَن لم يَجُزْ، وإلا جاز".
وقيل: معنى هذا الحديث (اللعب مع البنات)، أي: الجواري، والباء هنا بمعنى (مع). حكاه ابن التِّين عن الداودي وردَّه.
قلتُ: ويردُّه ما أخرجه ابن عُيَيْنة في "الجامع"، من رواية سعيد بن عبدالرحمن المخزومي عنه، عن هشام بن عُرْوة في هذا الحديث: "وكنَّ جواري، يأتين فيلعبن بها معي"، وفي رواية جَرير، عن هشام: "كنت ألعب بالبنات - وهنَّ اللُّعب"؛ أخرجه أبو عَوَانة وغيره.(/3)
وأخرج أبو داود والنَّسائي من وجهٍ آخر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك - أو خيبر ... فذكر الحديث في هَتْكِهِ السِّتْر الذي نصبَتْهُ على بابها. قالت: "فكشف ناحية السِّتْر على بناتٍ لعائشة (لُعب)، فقال: ((ما هذا يا عائشة؟))، قالت: "بناتي". قالت: ورأى فيها فرساً مربوطاً له جناحان؛ فقال: ((ما هذا؟))، قلتُ: "فرسٌ"، قال: ((فرسٌ له جناحان؟))، قلتُ: "ألم تسمع أنه كان لسليمان خيلٌ لها أجنحة؟"؛ فضحك.
فهذا صريحٌ في أن المراد باللُّعب غير الآدميات.
قال الخطَّابي: "في هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهِّي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما أرخص لعائشة فيها؛ لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ".
قلتُ: وفي الجزم به نظرٌ، لكنَّه محتملٌ؛ لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة، إما أكملتها، أو جاوزتها، أو قاربتها. وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قَطْعاً؛ فيترجَّح رواية من قال: في خيبر، ويجمع بما قاله الخطابي؛ لأن ذلك أوْلى من التعارض[1].
انتهى المراد مما قاله الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى.
وفي موضوع (لُعَب البنات)، وهو ما نحن بصدده، قال الشيخ الإمام بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العَيْني - رحمه الله تعالى - في (باب التصاوير)، في (باب عذاب المصوِّرين يوم القيامة) ما نصُّه:(/4)
"وفي "التوضيح" قال أصحابنا وغيرهم: تصوير صورة الحيوان حرامٌ أشد التحريم، وهو من الكبائر، وسواء صنعه لما يُمتهن أو لغيره فحرامٌ بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله، وسواء كان في ثوب، أو بساط، أو دينار، أو درهم، أو فِلْس، أو إناء، أو حائط. وأما ما ليس فيه صورة حيوان، كالشجر ونحوه؛ فليس بحرام، وسواءٌ كان في هذا كله ما له ظلٌّ وما لا ظلَّ له، وبمعناه قال جماعة العلماء: مالك والثَّوري وأبو حنيفة وغيرهم، وقال القاضي: إلا ما ورد في لُعَب البنات، وكان (مالكٌ) يكره شراء ذلك"[2].
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى - في (باب التصاوير التي ليس فيها روح، وما يُكره من ذلك)، بعدما تكلم عن حكم التصاوير، وآراء العلماء في ذلك، قال ما نصُّه:
"وقال عِياضٌ: وأجمعوا على منع ما كان له ظلٌّ ووجوب تغييره، إلا ما ورد في اللَّعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك، وكره (مالكٌ) شراء ذلك لابنته، وادَّعى بعضهم أن إباحة اللُّعب للبنات منسوخٌ".
وقال القرطبي: "واستثنى بعض أصحابنا من ذلك ما لا يبقى؛ كصور الفخار والشمع وما شاكل ذلك، وهو مطالبٌ بدليل التخصيص".
وقال - رحمه الله تعالى - أيضاً في (كتاب الآداب)، (باب الانبساط إلى الناس):
"154- حدثنا محمد، أخبرنا أبو معاوية، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها ... ثم ذكر حديث عائشة السابق، الذي ساقه البخاري في (باب الانبساط إلى الناس)، وتكلم عليه الحافظ ابن حجر في "الفتح"[3].
ثم قال العَيْني في شرحه لحديث عائشة - رضي الله عنها -:
"مطابقته للترجمة من حيث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينبسط إلى عائشة؛ حيث يرضى بلعبها بالبنات، ويرسل إليها صواحبها حتى يلعبْنَ معها، وكانت عائشة حينئذٍ غير بالغة؛ فلذلك رخّص لها، والكراهة لها فيها قائمة للبوالغ.(/5)
ومحمد: هو ابن سلام، وجوَّز الكِرْماني أن يكون محمد بن المثنَّى، وأبو معاوية: محمد بن خازم - بالخاء المعجمة والزاي – وهشام: هو ابن عُرْوة، يروي عن أبيه عُرْوة بن الزُّبير، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - والحديث أخرجه مسلمٌ في (الفضائل)، عن أبي كُرَيْب، عن أبي معاوية.
قوله "بالبنات": وهي (التماثيل) التي تسمَّى لُعب البنات، وهي مشهورةٌ، وقال الداوديُّ: يحتمل أن تكون الباء بمعنى (مع)، والبنات: الجواري. قوله "صواحب": جمع صاحبة، وهي الجواري من أقرانها. قوله "إذا دخل": أي البيت. قوله "يتقمَّعْنَ منه": أي يذبهنَ ويستترنَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من (الانقماع)، من باب (الانفعال)، وهو رواية الكشميهني، وعند غيره: يتقمَّعْنَ من (التَّقمُّع)، من باب (التَّفعُّل)، ومادته: قاف وميم وعين مهملة، وقال أبو عُبيد: "يتقمَّعن: يعني يدخلن البيت ويغِبْنَ، ويقال: الإنسان قد انقمع وتقمَّع، إذا دخل في الشيء". وقال الأصمعيُّ: "ومنه سمِّي القُمْع الذي يُصبُّ فيه الدُّهن وغيره؛ لدخوله في الإناء". قوله "فيسرِّبهنَّ" - بالسين المهملة -: أي يرسلهنَّ، من التَّسريب، وهو الإرسال والتسريح، والسارب: الذاهب. يقال: سرب عليه الخيل، وهو أن يبعث عليه الخيل قطعةً بعد قطعة. قوله "إليَّ": بتشديد الياء المفتوحة.
استدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور اللُّعب من أجل لعب البنات بهن، وخصَّ ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عِياضٌ، ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللُّعب للبنات؛ لتدريبهنَّ من صغرهنَّ على أمر بيوتهنَّ وأولادهنَّ. قال: وذهب بعضهم إلى أنه منسوخٌ، وإليه مال ابن بطَّال، وقد ترجم له ابن حبَّان: "الإباحة لصغار النساء اللَّعب باللُّعب"، وترجم له النسائي: "إباحة الرجل لزوجته اللَّعب بالبنات"، ولم يقيِّده بالصِّغر، وفيه نظرٌ.(/6)
وجزم ابن الجَوْزي بأن الرخصة لعائشة في ذلك كانت قبل التحريم، وقال المنذري: "إن كانت كالصورة فهي مثل التحريم، وإلا فقد يسمَّى ما ليس بصورة لُعبة"، وقال الخطَّابي: "في هذا الحديث إن اللَّعب بالبنات ليس كالتلهِّي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما رخّص لعائشة - رضي الله تعالى عنها – فيها؛ لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ"[4].
انتهى المقصود من إيراد ما ذكره العَيْني - رحمه الله تعالى.
وقال النووي - رحمه الله تعالى - في الكلام عن التصوير، في (باب تحريم صورة الحيوان)، في "شرحه لصحيح مسلم" ما نصُّه:
"وأجمعوا على منع ما كان له ظلٌّ، ووجوب تغييره. قال القاضي: إلا ما ورد في اللَّعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك، لكن كره (مالك) شراء الرجل ذلك لابنته.
وادَّعى بعضهم أن إباحة اللَّعب لهنَّ بالبنات منسوخٌ بهذه الأحاديث،، والله أعلم"[5].
انتهى المراد من كلامه - رحمه الله تعالى.
وقال أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)، في تفسير قوله - تعالى -: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}[6].
قال: "فيه ثمان مسائل ..."، إلى أن قال:
"الثانية: وقد استثني من هذا الباب لُعب البنات؛ لما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجها وهي بنت سبع سنين، وزُفَّت إليه وهي بنت تسع، ولُعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثماني عشرة. وعنها - أيضاً - قالت: "كنتُ ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي صواحبٌ يلعبْنَ معي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل يتقمَّعْنَ منه، فيسرِّبهنَّ إليَّ، فيلعبْنَ معي"؛ أخرجهما مسلمٌ.(/7)
قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك، وحاجة البنات؛ حتى يتدرَّبنَ على تربية أولادهنَّ. ثم إنه لا بقاء لذلك، وكذلك ما يُصنع من الحلاوة أو العجين؛ لا بقاء له، فرخّص في ذلك،، والله أعلم"[7].
انتهى المراد من كلام القرطبي - رحمه الله تعالى.
وقال الإمام محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله تعالى - في كتابه "نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار"، في (باب إحسان العشرة، وبيان حق الزوجين)، بعد إيراده هذا الحديث الآتي:
"3- وعن عائشة قالت: "كنتُ ألعب بالبنات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته - وهن اللُّعب ..." الحديث.
قوله (بالبنات): قال في "القاموس": والبناتُ التماثيل الصغار، يُلْعبُ بها. انتهى.
وقوله (اللُّعب) - بضم اللام -: جمع لُعبة، قال في "القاموس": واللُّعبة - بالضم – التمثال، وما يُلعب به، كالشطرنج ونحوه.
وقوله (يتقمَّعْنَ): قال في "القاموس": (تقمَّع) دخل البيت مستخفياً.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أنه يجوز تمكين الصغار من اللَّعب بالتماثيل.
وقد روي عن (مالك) أنه كره للرجل أن يشتري لبنته ذلك، وقال القاضي عِياض: "إن اللَّعب بالبنات للبنات الصِّغار رخصةٌ".
وحكى النووي عن بعض العلماء: "أن إباحة اللَّعب لهنَّ بالبنات منسوخةٌ بالأحاديث الواردة في تحريم الصور، ووجوب تغييره"[8].
انتهى المقصود من إيراده.
وعن موضوع (لُعب البنات) قال الشيخ شمس الدين أبو عبدالله محمد بن مُفْلِح المقدسي الحنبلي - رحمه الله تعالى - ما نصُّه:
"فصلٌ - في إباحة اللُّعب للبنات، ومن قيدها بغير المصوَّرة
لوَلِيِّ الصغيرة الإذن لها في اللَّعب بلُعب غير مصوَّرة، نُصَّ عليه، قال في "الرعاية الكبرى": "وله شراؤها بمالها، نُصَّ عليه، وقيل: بل بماله". وقال في "التلخيص": "هل يشتريها من مالها أو من ماله؟ فيه احتمالان". قال ابن حمدان: "المراد بالمصوَّرة: ما لها جسمٌ مصنوعٌ، له طولٌ وعرضٌ وعمقٌ".(/8)
وقال القاضي في "الأحكام السلطانية"، في فصل (والي الحسبة): "وأما اللُّعب فليس يُقصد بها المعاصي، وإنما يقصد بها إِلْفُ البنات لتربية الأولاد؛ ففيها وجهٌ من وجوه التدبير، يقارنه معصيةٌ بتصوير ذات الأرواح، ومشابهة الأصنام؛ فللتمكين منها وجهٌ، وللمنع منها وجهٌ، بحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره، وظاهر كلام الإمام أحمد المنع منها، وإنكارها إذا كانت على صورة ذوات الأرواح، قال في رواية المرُّوذي: وقد سُئل عن الوصيِّ، يشتري للصبية لُعبة إذا طلبت؟ فقال: إن كانت صورة فلا، وقال: في رواية بكر بن محمد، وقد سئل عن حديث عائشة "كنت ألعب بالبنات"، قال: لا بأس بلِعب اللُّعب إذا لم يكن فيه صورة، فإذا كانت فيه صورة فلا. وظاهرٌ أنه منع من اللعب بها إذا كانت صورة. وقد روى أحمد بإسناده، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة وهي تلعب بالبنات، ومعها جوارٍ؛ فقال: ((ما هذه يا عائشة؟!))، فقالت: "هذا خيلٌ سليمان فجعل يضحك من قولها "صلى الله عليه وسلم". قال أحمد: وهو غريبٌ، لم أسمعه من غيرهم عن يحيى بن سعيد". انتهى كلام القاضي.
وفي "الصحيح": أنها كانت في متاع عائشة - رضي الله عنها - لما تزوَّجها النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن العلماء من جعله مخصوصاً من عموم الصُّور، ومنهم من جعله في أوَّل الأمر قبل النهي عن الصور، ثم نُسخ، وذكر القاضي عِياض أنه قول جمهور العلماء"[9].
ومما كتبه العالم: محمد السفاريني الحنبلي - رحمه الله تعالى - في كتابه "غذاء الألباب، شرح منظومة الآداب"، ما يلي:
"- مطلبٌ في حكم شراء اللعبة لليتيمة -
وحَلَّ شراه لليتيمة لُعبة بلا رَأْسٍ أن تطلب، وبالرَّأْس فَاصْدُد(/9)
(وحلَّ شراه): أي الوَلِيّ، (لليتيمة): القاصرة عن درجة البلوغ، (لُعبة): بالضم، تمثالٌ تلعب به، بشرط كونه بلا رأس، حتى يخرج عن التصاوير المحرمة، (أن تطلب) اليتيمة ذلك. فظاهره عدم الحِلّ إن لم تطلبه، وليس مراداً، وإنما قيَّده بذلك لما يأتي من النص، وليستقيم الوزن، والله الموفِّق.
وأما اللعبة (بالرأس)، التي تكون على هيئة ذي الروح من الحيوان، (فاصدد) لها عن اللعب بها وامنعها.
ولا يشتري ما كان من ذاك صورةً ومن ماله لا مالها في "المجرَّد"
ولا يشتري الوَلِيُّ (ما) الذي (كان) هو (من ذاك) اسم إشارة، يرجع إلى المذكور أو التمثال، أي: ولا يشتري ما كان من التمثال أو الشيء المذكور (صورةً)، أي: ذا صورة؛ لأنه محرَّمٌ.
قال في "الآداب الكبرى": لوَلِيِّ الصغيرة الإذْن لها في اللَّعب باللُّعب غير المصوَّرة، نُصَّ عليه. فظاهر كلامه: عدم اختصاصه باليتيمة، وهو كذلك، ولذلك عبَّر في "الإقناع" بقوله: "وللوَلِيِّ أن يأذن للصغيرة أن تلعب بلعب غير مصوَّرة، أي: بلا رأس". انتهى، وكذا في "الفروع" وغيره.
وكلام النَّظْم يخص اليتيمة، والحقُّ الشُّمول؛ لقضية عائشة - رضي الله عنها.
قال القاضي في "الأحكام السلطانية"، في فصل (والي الحسبة): "وأما اللُّعب فليس يُقصد بها المعاصي، وإنما يقصد بها إِلْفُ البنات لتربية الأولاد؛ ففيها وجهٌ من وجوه التدبير، يقارنه معصيةٌ بتصوير ذات الأرواح، ومشابهة الأصنام؛ فللتمكين منها وجهٌ، وللمنع منها وجهٌ، بحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره، يعني: إن كانت قرينة الحال تقتضي المصلحة أقرَّه، وإلا أنكره.(/10)
وظاهر كلام الإمام أحمد - رحمه الله - الإنكار إذا كانت على صورة ذوات الأرواح، فإنه سُئل عن الوصيِّ، يشتري للصبية لُعبة إذا طلبت؟ فقال: إن كانت صورة فلا، وقال: في رواية بكر بن محمد، وقد سئل عن حديث عائشة "كنت ألعب بالبنات"، قال: لا بأس بلِعب اللُّعب إذا لم يكن فيه صورة، فإذا كانت فيه صورة فلا.
وروى أحمد من حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وهي تلعب بالبنات، ومعها جوارٍ؛ فقال: ((ما هذا يا عائشة؟!))، فقالت: "هذا خيل سليمان". قال: فجعل يضحك من قولها. قال الإمام أحمد: هو غريبٌ.
وفي "الصحيح": أنها كانت في متاع عائشة لما تزوَّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن العلماء من جعله مخصوصاً من عموم الصور، ومنهم من جعل هذا في أول الأمر، ثم نُسخ. قال القاضي عِياض: هو قول الجمهور من العلماء.
قلتُ: وممن ذكر الخصوصية الإمام النووي؛ قال في "شرح صحيح مسلم":
"قال ابن حزم: "وجائزٌ للصبايا خاصةً اللَّعب بالصور، ولا يجوز لغيرهنَّ. والصور محرمةٌ إلا هذا، إلا ما كان رَقْماً في ثوب". انتهى.
وقد علمت حُرْمَة كونه رَقْماً في ثوب. وكذا لعبة ما لم تكن على غير صورة ذوات الأرواح، من نحو شجرة، أو بلا رأس،، والله أعلم".
وحيث جاز شراء الوَلِيِّ للُّعبة؛ فثمنُها من ماله، أي: من مال الوَلِيِّ، لا من مالها - أي: اليتيمة - على ما في كتاب الإمام الأوحد، والهمام الأمجد، حامل لواء مذهب سيدنا الإمام أحمد؛ القاضي أبي يعلى - طيب الله ثراه، وجعل الفردوس مأواه - المسمَّى بـ "المجرَّد".
وقال في "الرعاية الكبرى": "وله شراؤها بمالها، نُصَّ عليه، وقيل: بل بماله".
وفي "التلخيص": "هل يشتريها من مالها أو من ماله؟ فيه احتمالان:
وفي "الإنصاف" للوَلِيِّ أن يأذن للصغيرة أن تلعب باللُّعب، إذا كانت غير مصوَّرة، وشراؤه لها بمالها؛ نُصَّ عليهما، وهذا المذهب.(/11)
وقيل: من ماله، وصحَّحه النَّاظم في "آدابه".
وهما احتمالان مطلقان في "التلخيص"، في (باب اللباس)". انتهى.
وقال ابن حمدان: "المراد بالصورة: ما لها جسمٌ مصنوعٌ، له طولٌ وعرضٌ وعمقٌ.
قلتُ: والمعتمد له شراؤها من مالها؛ كما جزم به في "الإقناع" وغيره،، والله الموفق"[10].
انتهى ما قاله السفاريني - رحمه الله تعالى.
ومما ورد في كتاب "كف الرِّعاع، عن محرَّمات اللهو والسماع"، لمؤلفه: أبي العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكِّي الهَيْتَمي - رحمه الله تعالى- قال:
"وأما المصوَّر صورة الحيوان؛ فإن كان معلَّقاً على حائط أو سقف، كثوب، أو عمامة، أو نحوها مما لا يُعَدُّ ممتهناً؛ فحرامٌ. أو ممتهناً، كبساط يُداس، ومخدة ووسادة، ونحوها؛ فلا يَحْرُم.
لكن؛ هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟
الأظهر أنه عامٌّ في كل صورة؛ لإطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ))، ولا فرق بين ما له ظلٌّ ولا ما لا ظلَّ له. هذا تلخيص مذهب جمهور علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ كالشافعي، ومالك، والثَّوري، وأبي حنيفة .. وغيرهم.
وأجمعوا على تغيير ما له ظلٌّ:
قال القاضي: "إلا ما ورد في لُعب البنات الصِّغار من الرُّخصة، ولكن كره مالك شراء الرجل ذلك لبنته، وادَّعى بعضهم أن إباحة اللُّعب لهنَّ منسوخٌ". انتهى"[11].
وقال الشيخ: (محمد رشيد رضا) - رحمه الله تعالى - في (باب حكم التصوير، وصنع الصور والتماثيل، واتخاذها)، بعدما ذكر حديث عائشة السابق في اللعب بالبنات[12]، قال:
"وقد حرَّف بعض المشدِّدين في مسألة الصور هذا الحديث، فزعم أن معنى قولها: "كنتُ ألعب بالبنات"؛ كنتُ ألعب (مع) البنات.
ثم ذكر كلام الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - على الحديث، وعلَّق على شرحه [لما] قاله الخطابي بقوله:(/12)
"قال الخطَّابي في شرح حديث اللعب: إن اللَّعب بالبنات ليس كالتلهِّي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما رخّص لعائشة فيها؛ لأنها إذا ذاك كانت غير بالغ".
ثم قال: "قال الحافظ عقب نقله: وفي الجزم به نظرٌ، لكنه محتملٌ؛ لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة، إما أكملتها، أو جاوزتها، أو قاربتها، وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قَطْعاً؛ فيترجَّح رواية من قال في خيبر. ويجمع بما قال الخطابي؛ لأن ذلك أولى من التعارض. أهـ".
وأقول: إن هذا ليس بجمع؛ إذ لو كانت لعب البنات محرَّمة؛ لما أقرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وصواحبها على اللعب بها، وإن كنَّ غير بالغات، ولما تركها في بيته.
والصواب: أن هذه اللعب لا تدخل في عموم ما أنكره من الصور المعلَّقة؛ بل هي أشبه بما أقرَّه من الصور في الوسائد والمرافق، في أن كلاً منهما لا يشبه ما كان يُعبَد من الصور والتماثيل"[13].
انتهى المراد من فتاوى الشيخ: (محمد رشيد رضا).
ومن فتاوى ورسائل لسماحة الشيخ: (محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ) -طيب الله ثراه. جمع وترتيب وتحقيق: محمد بن عبدالرحمن بن قاسم - وفقه الله. الطبعة الأولى، الجزء الأول:
قرأتُ في ص180 كلاماً جامعاً، وفتوى مقنعة حول هذا الموضوع، ونصُّه ما يلي:
"100- الصور المجسَّمة الصغيرة ولعب عائشة - رضي الله عنها -
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:(/13)
فقد نشرت جريدة "البلاد" السعودية بعددها 1419هـ، الصادر في يوم الثلاثاء الموافق 9/4/73، حول مطالعات أحمد إبراهيم الغزاوي، بعنوان "عرائس البنات"، تعليقاً قالت فيه: إن عرائس البنات ولُعب الأولاد (أو الدُّمَى) لا زالت حاجة مُلحَّة من حاجات الطفولة؛ تُدخل إلى الأطفال المسرَّة، وتُشيع البهجة في نفوسهم، إلا أن هذه اللعب (الدُّمى) قد تطوَّرت مع الزمن كما تطور كل شيءٍ في الدنيا، فأخذت تصنعها المصانع، فزادت فيها تشويقاً وتلويناً وتنويعاً، ولكنها لم تخرج عن حقيقتها كلُعب أطفال. فهل يختلف الحُكْم في هذه اللُّعب عن الحُكْم على لعب عائشة - رضي الله عنها؟
وقد وجَّهت الجريدة إليَّ استفتاءها في ذلك؛ فأقول مستعيناً بالله – تعالى -:
نعم؛ يختلف حُكْم هذه الحادثة الجديدة عن حُكْم لُعب عائشة - رضي الله عنها - لما في هذه الجديدة الحادثة من حقيقة التمثيل والمضاهاة والمشابهة بخلق الله - تعالى، لكونها صوراً تامةً بكل اعتبار، ولها من المنظر الأنيق، والصنع الدقيق، والرونق الرائع، ما لا يوجد مثله ولا قريبٌ منه في الصور التي حرَّمتها الشريعة المطهَّرة.
وتسميتها لُعباً وصغر أجسامها لا يخرجها عن أن تكون صوراً؛ إذ العبرة في الأشياء بحقائقها لا بأسمائها؛ فكما أن الشِّرك (شركٌ)، وإن سماه صاحبه (استشفاعاً) و(توسلاً)، والخمر (خمرٌ)، وإن سماها صاحبها نبيذاً".
فهذه صورٌ حقيقيةُ، وإن سماها صانعوها والمتاجرون فيها والمفتونون بالصور (لُعب أطفال)، وفي الحديث: ((يجيء في آخر الزمان أقوامٌ يستحلون الخمر؛ يسمُّونها بغير اسمها)).(/14)
ومَنْ زعم أن لعب عائشة - رضي الله عنها - صورٌ حقيقيةٌ لذوات الأرواح؛ فعليه إقامة الدليل، ولن يجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإنها ليست منقوشةً، ولا منحوتةً، ولا مطبوعةً من المعادن المنطبقة، ولا نحو ذلك؛ بل الظاهر أنها من عِهْن، أو قُطْن، أو خِرَق، أو قَصَبة، أو عَظْم مربوط في عَرْضِه عودٌ معترضٌ، بصورة تشبه الموجود في اللُّعب في أيدي البنات الآن في البلدان العربية البعيدة عن التمدن والحضارة، مما لا تشبه الصورة المحرَّمة إلا بنسبة بعيدة جداً؛ لما في "صحيح البخاري" من أن الصحابة يصوِّمون أولادهم، فإذا طلبوا الطعام أعطوهم اللُّعب من العِهْن؛ يعللونهم بذلك. ولما في "سنن أبي داود" وشرحها، من حديث عائشة، من ذكر الفرس ذي أربعة الأجنحة من رِقاعٍ؛ يعني: من خِرَقٍ، ولما عُلم من حال العرب من الخشونة غالباً في أوانيهم ومراكبهم وآلاتهم؛ آلات اللَّعب وغيرها.
وفيما ذكرتُ ها هنا مَقْنَعٌ لمريد الحقَّ - إن شاء الله تعالى.
ثم ليعُلم: أن تطور الزمن بأي نسبة لا يُخرج شيئاً عن حكمه الشرعي؛ إذ رَفْعُ حُكْمٍ ثبت شرعاً بالحوادث لا يجوز بحال؛ لأنه يكون نَسْخاً بالحوادث، ويُفضي إلى رفع الشرع رأساً، وربما شبَّه هاهنا بعض الجهلة بقول عائشة - رضي الله عنها -: "لو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء؛ لمنعهن المساجد"، ولا حجة فيه - بحمد الله - على تغيير الأحكام الثابتة شرعاً بالحوادث؛ فإن عائشة ردَّت الأمر إلى صاحب الشرع؛ فقالت: (لو رأى لمنع)، ولم تمنع هي، ولم تَرَ لأحدٍ أن يمنع، وهذا واضحٌ بحمد الله،، والله الموفِّق.
محمد بن إبراهيم آل الشيخ – الرياض، 22/5/1373هـ".
انتهى المراد من كلامه - رحمه الله تعالى[14].
ومما كتبه سماحة والدنا الشيخ: (عبدالعزيز بن عبدالله بن باز) - أثابه الله، وجزاه خير الجزاء - في كتابه: "الجواب المفيد في حكم التصوير"، قال:(/15)
"وأما اللُّعب المصوَّرة على صورة شيءٍ من ذوات الأرواح؛ فقد اختلف العلماء في جواز اتخاذها للبنات وعدمه.
وقد ثبت في "الصحيحين" عن عائشة قالت: "كنتُ ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم ...)) الحديث.
بعدما ذكر هذا الحديث، وذكر كلام الحافظ في "الفتح" عليه[15]، قال بعد ذلك:
"إذا عرفتَ ما ذكره (الحافظ) - رحمه الله تعالى؛ فالأحوط ترك اتخاذ اللعب المصورة؛ لأن في حِلِّها شكّاً، لاحتمال أن يكون إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة على اتخاذ اللعب المصورة قبل الأمر بطمس الصور، فيكون ذلك منسوخاً بالأحاديث التي فيها الأمر بمحو الصور وطمسها، إلا ما قُطع رأسُه أو كان ممتهناً؛ كما ذهب إليه البيهقي وابن الجَوْزي، ومال إليه ابن بطَّال.
ويحتمل أنها مخصوصةٌ من النهي؛ كما قاله الجمهور، لمصلحة التَّمرين، ولأن في لِعب البنات بها نوع امتهان.
ومع الاحتمال المذكور، والشكِّ في حِلِّها؛ الأحوط تركها، وتمرين البنات بلُعب غير مصوَّرة؛ حسماً لمادة بقاء الصور المجسَّدة، وعملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبك)) وقوله في حديث النعمان بن بشير المخرَّج في "الصحيحين" مرفوعاً: ((الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ، لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه)،، والله أعلم"[16].
انتهى ما كتبه سماحته - حفظه الله - في هذا الموضوع.
ومما كُتب في بحث (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)، برقم (40)، وتاريخ (28/6/1394هـ) في هذا الموضوع ما يلي:
تحت عنوان: 3- (ما يباح اتخاذه من الصور)(/16)
"أ- يجوز اتخاذ صور ليلعب بها الصبيان، ولو كانت مجسَّمةً، على خلافٍ في ذلك، فقد روى البخاري وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنتُ ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي صواحبٌ يلعبْنَ معي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل يتقمَّعْنَ منه، فيسرِّبهن إليَّ، فيلعبْنَ معي".
وقد أوَّل من منع من ذلك قول عائشة: "كنتُ ألعب بالبنات"؛ فقال معناه: (كنتُ ألعب مع البنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم).
ويروى ما رواه أبو داود والنَّسائي من وجه آخر عن عائشة، قالت: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك - أو خيبر ..." إلى أن قالت: "فكشف ناحية السِّتْر عن بناتٍ لعائشة (لُعب)؛ فقال: ((ما هذا يا عائشة؟!))، قالت: "بناتي". ورأى فيها فرساً مربوطاً، له جناحان؛ فقال: ((ما هذا؟))، قلتُ: "فرسٌ"، قال: ((فرسٌ له جناحان؟!))، قلتُ: "ألم تسمع أنه كان لسليمان خيلٌ لها أجنحةٌ!"؛ فضحك.
فهذا صريحٌ في أن المراد باللُّعب التماثيل المجسَّمة، لا بناتٍ من بني آدم.
ويردُّه – أيضاً -: أنه يلزم على هذا التفسير أن يكون قولها بعد: "وكان لي صواحبٌ يلعبْنَ معي" لغواً؛ لكونه مكرَّراً.
وإنما أقرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة والجواري على اللعب بهذه الصور؛ إما لصِغَرهنَّ، وهذا يرجح أن قدومه - صلى الله عليه وسلم - كان من غزوة خيبر، وإما لامتهان هذه الصور باللَّعب بها.
ب- يجوز اتخاذ صور ذوات الأرواح إذا كانت في فُرُش ممتهَنة، تُداس وتُوطأ، كما يجوز اتخاذها واستعمالها بعد أن تُقطع رؤوسها، أو تُطمس حتى تذهب معالمها.
ج- أجاز بعض العلماء الصور التي لا استقرار لها؛ كصور الحلوى، وصور الفخار، إلحاقاً لها بالممتهَنة، ومنع منها آخرون؛ لعموم نصوص المنع"[17].(/17)
ومن أحسن ما كُتب في هذا الموضوع؛ ما كتبه الشيخ: (حمود بن عبدالله التويجري) - جزاه الله خيرً - في كتابه "إعلان النَّكير، على المفتونين بالتصوير"، قال:
"فصلٌ: ومن أقوى ما يتعلق به المصوِّرون - أيضاً - حديثُ عائشة - رضي الله عنها – قالت: "كنتُ ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم ..." الحديث.
وقال بعده: رواه الشافعي، وأحمد، والشيخان، وأهل "السنن" إلا الترمذي، وفي رواية لمسلم: "كنتُ ألعب بالبنات في بيته"؛ وهنَّ: اللُّعب.
وعنها - رضي الله عنها – قالت: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك - أو خيبر - وفي سَهْوَتِها سِتْرٌ؛ فهبَّت ريحٌ، فكشفت ناحية السِّتْر عن بناتٍ لعائشة (لُعب)؛ فقال: ((ما هذا يا عائشة؟!)). قالت: "بناتي". ورأى بينهنَّ فرساً له جناحان من رِقاعٍ؛ فقال: ((ما هذا الذي أرى وسطهنَّ؟!))، قالت: "فرسٌ"، قال: ((وما هذا الذي عليه؟!))، قالت: "جناحان"، قال: ((فرسٌ له جناحان؟!))، قالت: "أما سمعتَ أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟!". قالت: "فضحك حتى رأيتُ نواجذه"؛ رواه أبو داود والنَّسائي.
ثم لما ذكر بعد ذلك كلام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، إلى قوله: "وبهذا جزم الحَلِيمي فقال: "إن كانت صورةً كالوَثَن؛ لم يَجُز، وإلا جاز". ثم قال: انتهى المقصود مما ذكره ابن حجر - رحمه الله تعالى[18].
قال بعد ذلك: "وأحسن هذه الأقوال وأقربها إلى الصواب؛ قول المنذري والحَلِيمي، وأما ما جزم به عِياضٌ وغيره، من جواز اتخاذ صور البنات، وأن ذلك مخصوصٌ من عموم النهي عن اتخاذ الصور؛ فإنه قولٌ مردودٌ، والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنه ليس في حديث عائشة - رضي الله عنها - تصريحٌ بأن لُعبها كانت صوراً حقيقية، وبانتفاء التصريح بأنها كانت صوراً حقيقية، ينتفي الاستدلال بالحديث على جواز اتخاذ اللُّعب من الصور الحقيقية.(/18)
ومن ادَّعى أن لعب عائشة كانت صوراً حقيقية؛ فعليه إقامة الدليل على ذلك، ولن يجد إلى الدليل سبيلاً.
وأما تسمية اللُّعب (بنات)؛ كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - فلا يلزم منه أنها كانت صوراً حقيقية، كما قد يظنُّ ذلك من قَصُر فَهمُه.
بل الظاهر - والله أعلم - أنها كانت على نحو لعب بنات العرب في زماننا؛ فإنهنَّ يأخذن عوداً، أو قصبةً، أو خِرْقةً ملفوفةً، أو نحو ذلك؛ فيضعن قريباً من أعلاه عوداً معترضاً، ثم يُلبسنه ثياباً، ويضعن على أعلاه نحو خمار المرأة، وربما جعلنه على هيئة الصبي في المَهْد، ثم يلعبْنَ بهذه اللُّعب، ويسمينهنَّ (بناتٍ) لهنَّ، على وفق ما هو مرويٌّ عن عائشة وصاحباتها - رضي الله عنهنَّ.
وقد رأينا البنات يتوارثن اللعب بهذه اللعب اللاتي وصفنا زماناً بعد زمان، ولا يبعد أن يكون هذا التوارث قديماً ومستمراً في بنات العرب من زمان الجاهلية إلى زماننا هذا،، والله أعلم.
وليس كل بنات العرب في زماننا هذا يلعبْنّ باللعب اللاتي وصفنا؛ بل كثيرٌ منهنَّ يلعبْنَ بالصور الحقيقية، من صور البنات وغير البنات، من أنواع الحيوانات، وهؤلاء هنَّ اللاتي دخلت عليهنَّ وعلى أهليهنَّ المدنيَّة الإفرنجية، وكثرت مخالطتهم للأعاجم وأشباه الأعاجم.
وأما السالمات من أدناس المدنيَّة الإفرنجية، ومن مخالطة نساء الأعاجم وأشباه الأعاجم؛ فهؤلاء لم يزلْنَ على طريقة بنات العرب ولعبهنَّ على ما وصفنا من قبل، وكما أن بين لُعب هؤلاء وأولئك بوناً بعيداً في الحقيقة والشكل الظاهر؛ فكذلك الحكم فيها مختلفٌ أيضاً.(/19)
فأما اللعب اللاتي على ما وصفنا؛ فلا بأس بعملهنَّ، واتخاذهنَّ، واللَّعب بهنَّ؛ لأنهنَّ لسْنَ صوراً حقيقية، وأما اللعب اللاتي على صور البنات وأنواع الحيوانات؛ فصناعتهنَّ حرامٌ، وبيعهنَّ حرامٌ، وشراؤهنَّ واتخاذهنَّ حرامٌ، والتلهِّي بهنَّ حرامٌ، وإتلافهنَّ واجبٌ على مَنْ قدر على ذلك؛ لأنهنَّ من الأصنام، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطمس الأصنام كما تقدَّم في حديث عليٍّ - رضي الله عنه[19].
والقول في الفَرَس الذي كان في لُعب عائشة - رضي الله عنها - كالقول في لعبها سواءً، ومن ادَّعى أنها كنت صورةً حقيقيةً، لها رأسٌ ووجهٌ؛ فعليه إقامة الدليل على ذلك، ولن يجد إليه سبيلاً.
والظاهر - والله أعلم - أنها على نحو لعب صبيان العرب في زماننا؛ فإنهم يأخذون العظم ونحوه، ويجعلون عليه شبه الإكاف، ويسمُّونه (حماراً)، وربما سمَّوه (فَرَساً). ويأخذون أيضاً من كَرَب النخل، ويغرزون في ظهر كل واحدة عودين، كهيئة عودَي الرَّحْل، ثم يضعون بينهما شِبْه ما يوضع على النَّجائب من الأخراج وغيرها، ويجعلون لها مَقُوداً يقودونها به. وربما اتخذوا ذلك من خشبة منجورة، في أعلاها مثل السَّنام، وبين يديه ومن خلفه عودان كهيئة عودَي الرَّحْل، يوضع بينهما شِبْه ما يوضع على النَّجائب ومن أمامها عودٌ كهيئة الرَّقَبَة يوضع في المَقُود، ولها أربع عجلات تمشي عليهنَّ، ويسمُّون هذه اللُّعب والتي قبلها إبلاً. وليست هذه اللعب من الصور المحرمة في شيء، والنسبة بينهما وبين الصور الحقيقية بعيدةٌ جدّاً.(/20)
ومما يدل على أن الفرس كانت على نحو لُعب صبيان العرب، ولم تكن صورةً حقيقيةً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عائشة - رضي الله عنها –: ((ما هذا؟!))؛ فقالت: "فرسٌ"، ولو كانت صورةً حقيقيةً لعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول وهلة، ولم يحتج إلى سؤال عائشة عنه. وكذلك سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن اللُّعب؛ يدل على أنها لم تكن صوراً حقيقة، ولو كانت صوراً حقيقةً لم يحتج إلى السؤال عنها،، والله أعلم.
الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على عائشة - رضي الله عنها - نَصْب السِّتْر الذي فيه الصور، وتلوَّن وجهه لما رآه، ثم تناوله بيده الكريمة، فهتكه، وقد قدّمت الأحاديث بذلك.
وهذا يدل على أن لعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صوراً حقيقيةً، ولو كانت صوراً حقيقية؛ لكانت أوْلى بالتغيير من الصور المرقومة في السِّتْر؛ لأن الصور المجسَّمة أقرب إلى مشابهة الحيوانات، وأبلغ في المضاهاة بخلق الله - تعالى - من الصور المرقومة؛ فكانت أشد تحريماً، وأولى بالتغيير من الصور المرقومة.
الوجه الثالث: ما تقدَّم من حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه؛ وفي رواية: إلا قضبه؛ وفي رواية: (تصاوير) بدل (تصاليب).
وصيغة هذا الحديث تقتضي العموم؛ لأن (شيئاً) نكرة في سياق النفي؛ فتعمُّ كلَّ صليب وصورة، وهذا يدلُّ على أن لُعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صوراً حقيقيةً، ولو كانت صوراً حقيقة لقضبها النبي - صلى الله عليه وسلم - كسائر التصاليب والصور.(/21)
الوجه الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة، وقد تقدَّمت الأحاديث بذلك، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - أنه أتاه ليلةً، فلم يدخل البيت من أجل كلب فيه، ومن أجل ما فيه من تمثال الرجال، ثم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: مُرْ بقطع رأس التمثال وإخراج الكلب.
وهذا يدلُّ على أن لُعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صوراً حقيقية، ولو كانت صوراً حقيقية لمنعت الملائكة من دخول بيتها، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليترك في بيته شيئاً يمنع من دخول الملائكة فيه، فتعيَّن أن لُعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صوراً حقيقية، وإنما هي على نحو ما وصفته في الوجه الأول.
الوجه الخامس: ما تقدَّم من رواية عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة، أبي أن يدخل البيت وفيه (الآلهة)، فأمر بها فأُخرجت.
وفي رواية: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمُحيت.
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع من دخول الكعبة مرةً واحدةً من أجل ما فيها من الصور؛ فكيف يُظنُّ به أنه كان يدخل بيت عائشة - رضي الله عنها - في اليوم والليلة مراراً متعددة وفيه الصور؟! فتعيَّن أن لُعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صوراً حقيقة، وبهذا تجتمع الأحاديث، وينتفي عنها التعارض.
الوجه السادس: ما تقدَّم من حديث أبي الهيَّاج الأسدي، قال: قال لي عليٌّ - رضي الله عنه -: ألا أبعثُكَ على ما بعثني عليه رسوله الله - صلى الله عليه وسلم؟: ((ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته))؛ وفي رواية: ((ولا صورةً إلا طمستها)).
وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عليّاً - رضي الله عنه - أن يسوِّي كلَّ قبر، ويطمس كلَّ صنم.(/22)
والنكرة في هذا الحديث من صيغ العموم - كما تقدم تقرير ذلك - ويُستفاد من هذا أن لُعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صوراً حقيقيةً، ولو كانت صوراً حقيقيةً لكانت داخلة في عموم ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطمسه.
ولم يجئ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرفٌ واحدٌ يقتضي استثناء لُعب عائشة - رضي الله عنها - من هذا العموم؛ فتعيَّن كونها من غير الصور الحقيقية.
الوجه السابع: ما تقدَّم من حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((من عاد لصنعة شيءٍ من هذا؛ فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم)). وفي هذا الزجر الأكيد أوضح دليل على تحريم اتخاذ الصور كلها، ولا فرق بين أن تكون لُعباً أو غير لُعب.
وأكثر الأحاديث التي تقدَّم ذكرها تدلُّ على ما دلَّ عليه هذا الحديث من عموم تحريم الصنعة والاتخاذ لكل صورة من صور ذوات الأرواح، وعلى هذا فيتعيَّن القول بأن لُعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صوراً حقيقةً.
الوجه الثامن: أن التخصيص نوعٌ من النَّسْخ؛ لكونه رفعاً لبعض أفراد الحكم العام بدليل خاص، والنَّسْخ لابد فيه من أمرين:
أحدهما: ثبوت دليل النَّسخ.
والثاني: تأخُّر تاريخه عن تاريخ المنسوخ[20].
وإذا فرضنا إمكان ما زعمه عِياض وغيره من تخصيص صور البنات من عموم النهي عن الصور، بناءً على أن لُعب عائشة - رضي الله عنها - كانت صوراً حقيقية؛ فلابد إذاً من إقامة الدليل على أن لُعب عائشة - رضي الله عنها - كانت صوراً حقيقيةً.
ولابد أيضاً من ثبوت التخصيص بأن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى تلك الصور عند عائشة - رضي الله عنها - بعد نهيه العامّ عن الصور، فأقرَّها على الاتخاذ.
وإذا كان كلٌّ من الأمرين معدوماً؛ فلا شك في بطلان ما زعمه عِياض ومَنْ قال بقوله.
وقد قال المرُّوذي في كتاب "الورع"، (باب كراهة شراء اللعب وما فيه الصور):(/23)
قيل لأبي عبدالله - يعني الإمام أحمد بن حنبل -: ترى للرجل الوصي تسأله الصبية أن يشتري لها اللعب؟ فقال: إن كانت صورة فلا .." وذكر فيها شيئاً.
قلتُ: الصورة إذا كانت يداً أو رِجْلاً؟ فقال: "عكرمة يقول: كلُّ شيءٍ له رأس فهو صورة". قال أبو عبدالله: "فقد يصيِّرون لها صدراً، أو عيناً وأنفاً وأسناناً". قلتُ: فأحبُّ إليك أن يجتنب شراؤها؟ قال: نعم. وقال الإمام أحمد - أيضاً - في رواية بكر بن محمد - وقد سئل عن حديث عائشة رضي الله عنها "كنت ألعب بالبنات" - قال: "لا بأس بلعب اللُّعب إذا لم يكن فيه صورة، فإذا كان فيه صورة فلا".
وهذا نصٌّ من أحمد - رحمه الله تعالى - على منع اللِّعب باللُّعبة إذا كانت صورةً، وفي رواية المرُّوذي منع شراء الصورة للصبية.
وقد كان أحمد - رحمه الله تعالى - من أتبع الناس للسُّنة، ومن أعلمهم بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقد روى في مسنده حديث عائشة - رضي الله عنها -: أنها كانت تلعب باللُّعب عند النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدَّم ذكر ذلك، ومع هذا فقد أفتى بما ذكره المرُّوذي وبكر بن محمد عنه.
ولو ثبت عنده أن لُعب عائشة - رضي الله عنها - كانت صوراً حقيقية، وأنها مخصوصةٌ من عموم النهي عن الصور، لما أفتى بخلاف ذلك.
هذا هو المعروف من حاله - رضي الله عنه - وشدة تمسُّكه بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين.
وبما قرَّرتُه في هذا الفصل؛ يزول الإشكال عن لُعب عائشة - رضي الله عنها - ويتبيَّن الصواب لكل منصف، مؤثرٍ لاتِّباع السُّنة النبوية، ويتبين - أيضاً - بطلان قول من أجاز اتخاذ اللعب من الصور المحرَّمة،، والله سبحانه وتعالى أعلم"[21].
انتهى كلام الشيخ: (حمُّود بن عبدالله التويجري) - جزاه الله خيراً.(/24)
وهذا آخر ما تيسَّر جمعه في هذه المسألة؛ أعني مسألة التصوير، وما يتعلق بلُعب الأطفال. والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] (فتح الباري: جزء 10، من صفحة 526 – 527).
[2] (عمدة القاري: جزء 22، صفحة 70).
[3] تقدَّم الحديث المشار إليه وكلام الحافظ ابن حجر عليه في أوَّل البحث.
[4] (عمدة القاري: جزء 22، صفحة 170 وما بعدها).
[5] (شرح النووي على صحيح مسلم: جزء 14، صفحة 82).
[6] من الآية (13) من سورة سبأ.
[7] (الجامع لأحكام القرآن: جزء 14، صفحة 274) مطبعة دار الكتب المصرية.
[8] (نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار، من أحاديث سيد الأخيار: جزء 6، صفحة 359).
[9] (الآداب الشرعية، والمنح المرعية: جزء 3، صفحة 517).
[10] (غذاء الألباب، لشرح منظومة الآداب: جزء 2، صفحة 212-213).
[11] كف الرعاع، عن محرَّمات اللهو والسماع.
[12] (فتاوى الشيخ (محمد رشيد رضا): لمجلد الرابع، صفحة 1401-1402).
[13] (فتاوى الشيخ (محمد رشيد رضا): المجلد الرابع، صفحة 1409).
[14] مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ - رحمه الله تعالى - جمع وترتيب وتحقيق: الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى، الجزء الأول، صفحة 180 وما بعدها، رقم الفتوى 100.
[15] تقدم في أوَّل البحث حديث عائشة بأكمله، وكلام الحافظ عليه.
[16] الجواب المفيد في حكم التصوير، صفحة (20) وما بعدها، رسالة صغيرة مطبوعة وتوزع مجاناً.
[17] هذا جزءٌ من بحث من بحوث (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)، بـ (الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء) بالرئاسة، (في التصوير وما يتعلق به)، رقمه: (20)، وتاريخه: (28/6/1394هـ).
[18] انظر: كلام الحافظ في أول البحث.(/25)
[19] وتقدم هذا الحديث في الكلام عن التصوير في صفحة (16) من كتاب التويجري "إعلان النكير"، ونصُّه ما يلي: "الحديث الحادي والثلاثون: عن أبي محمد الهذلي - ويكني أيضاً بأبي مروع - عن علي - رضي الله عنه – قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جنازة، فقال ((أيكم ينطلق إلى المدينة؛ فلا يدع بها وثناً إلا كسره، ولا قبراً إلا سوَّاه، ولا صورةً إلا لطخها؟))؛ فقال رجلٌ: أنا يا رسول الله. فانطلق، فهاب أهل المدينة؛ فرجع؛ فقال علي - رضي الله عنه -: أنا أنطلقُ يا رسول الله. قال: فانطلق، ثم رجع فقال: يا رسول الله، لم أدع بها وثناً إلا كسرته، ولا قبراً إلا سويته، ولا صورةً إلا لطختها. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عاد لصنعة شيءٍ من هذا؛ فقد كفر بما أنزل على محمد))؛ رواه الإمام أحمد، وابنه عبدالله في "زوائد المسند"، وأبو داود الطيالسي في "مسنده".
[20] "وهناك أمرٌ ثالث: وهو تعذُّر الجمع بين النصَّين". هذه زيادةٌ من والدنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - أثابه الله.
[21] من كتاب: "إعلان النكير، على المفتونين بالتصوير"، الطبعة الأولى، من صفحة 97 وما بعدها.(/26)
العنوان: حكمة الله في خلقه وأمره
رقم المقالة: 1404
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)} [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: من تأمل مبتداه ومنتهاه، وتفكّر في الدنيا ومصيرها، ونظر في السموات وأنجمها، والأرض وما فيها وما عليها؛ ظهر له شيءٌ من عظمة الخالق وحكمته تبارك وتعالى. فمخلوقاته – تعالى - تسير في انتظام، ولها ابتداءٌ وانتهاء على وفق حكمته وإرادته، ومن أسمائه الحسنى - جلّ في علاه - الحكيم {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]. وقد ورد هذا الاسم الجليلُ في القرآن أربعًا وتسعين مرة، وهو متضمنٌ لصفةِ الحكمة التي يتصف بها ربُنا جل جلاله.(/1)
وروى مصعب بْنُ سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "علّمني كلامًا أقوله". قال: ((قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)) قال: "فهؤلاء لربي، فما لي"؟ قال: ((قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني))؛ رواه مسلم[1].
والحكيم: هو الذي لا يقولُ ولا يفعلُ إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف ربنا - جلّ جلاله – بالحكمة؛ لأنَّ أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهرُ الفعلُ المتقن السديدُ إلا من حكيم.
إن الله - تبارك وتعالى - حكيم فلا يخلق ولا يأمر عبثًا وسدى وباطلاً؛ بل له المرادُ فيما أراد، وأفعاله صادرةٌ عن حكمةٍ بالغة، ومصلحةٍ عظيمة، وغايةٍ حميدة.
وكمالُ حكمته - جلّ شأنه - يقتضي كمالَ علمه المحيط بكل شيء كما قال - سبحانه -: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشُّورى: 12]، {إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]، وقال – سبحانه -: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81] ولذا جمع بين الصفتين - العلم والحكمة - في آيات كثيرة فقال – سبحانه -: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128].
ظهرت حكمتُه البالغة في خلقه، خلقهم فأحكم خلقهم، وصوّرهم فأحسن صورهم، وأبدع الكون ورتّبه أكمل ترتيب، ونظّمه أجمل تنظيم، ومنح كلّ مخلوق شكله اللائق به فأبدع أيما إبداع[2].(/2)
قال الخطابي - رحمه الله تعالى -: "ومعنى الإحكام لخلقِ الأشياء إنما ينصرفُ إلى إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها؛ إذ ليس كلُ الخليقةِ موصوفًا بوثاقة البُنية، وشدةِ الأسر، كالبعوضة والنملة وما أشبههما من ضعاف الخلق إلا أن التدبير فيهما، والدَّلالة بهما على كون الصانع وإثباته ليس بدون الدَّلالة عليه بخلق السموات والأرض والجبال وسائر معاظم مخلوقاته. وكذلك هذا في قوله - جل وعزّ -: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلََّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، لم تقع الإشارة به إلى الحسنِ الرائق في المنظر؛ فإن هذا معدوم في القرد والخنزير والدب، وأشكالها من الحيوان. وإنما ينصرف المعنى فيه إلى حسن التدبير في إنشاء كل شيء من خلقه على ما أحبَّ أن ينشئه عليه، وإبرازه على الهيئة التي أراد أن يهيئه عليها؛ كقوله – تعالى -: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2][3].
فما من شيء خلقه الله – تعالى - إلا وأحسن خلقه، وأتم صنعه على ما يريده، تبارك وتعالى.
وما خلق هذا الخلق العظيم، والأمم الكثيرة إلا لحكمة عظيمة، وغايةٍ جليلة تتمثل في عبادته وحده لا شريك له، ومن ثم امتحان عباده وابتلائهم بالشرائع لينظركيف يعملون {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27].(/3)
وحكمته البالغة ظاهرةٌ فيما شرعه من الشرائع المشتملة على كل خير في الدنيا والآخرة. فأمره ونهيه يحتويان على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا، فما أمر الله تعالى بشيء إلا وفيه مصلحةٌ عاجلةٌ أو آجلةٌ أو كلاهما. وما نهى عن شيء إلا وفيه مفسدة عاجلةٌ أو آجلة أو كلاهما. وليس المرادُ بالآجل أمور الآخرة؛ لأن الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة؛ ولكن الآخرة جعلها الله جزاءً على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا.. وإنما المراد: أنَّ من التكاليف الشرعية ما قد يبدو فيه حرج، وإضرارٌ بالمكلفين، وتفويتُ مصالح عليهم؛ ولكن المتدبّر إذا تدبَّر في تلك التشريعات ظهرت له مصالحها في عواقب الأمور. وتلك المصالح يُحصِّلها العباد إذا التزموا الأمر والنهي في الدنيا قبل الآخرة[4].
وقد جمع الله – تعالى - حكمته في خلقه، وحكمته في شرعه في قوله - تبارك وتعالى -: {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
ومع أن هذه العقيدة متقررة في نفوس المسلمين - على تفاوت بينهم في إدراكها - فإننا كثيرًا ما نسمع من بعضهم - هداهم الله - من يسألُ فيقول: لماذا كان هذا الشيء حرامًا؟ ولماذا أوجب الله كذا؟ وما الحكمة من هذا التشريع؟ وما المصلحة من كون كذا من الشريعة؟ ونحو تلك الأسئلة، التي تنم عن ضعضعةٍ لهذه العقيدة في قلب السائل. فإن كان السائلُ مسترشدًا، وحكمةُ ما سأل عنه ظاهرة أُخبِر بها، ونُصِح بالتسليم لله رب العالمين، وعَدَم التكلف في السؤال. وإن كان السائلُ معاندًا مستخفًّا بشرع الله تعالى - وما أكثرهم في هذا الزمن - فهذا هو الكفر المحض، والجنونُ البارد[5].
وأهلُه هم أتباعُ إبليس المعترضِ الأولِ على حكم الله – تعالى - فإنه رأى أن النارَ أفضل من الطين، ولم تتبين له حكمةُ سجود مَنْ خُلِق من نار لمن خلق من طين؛ فاعترض على ذلك وامتنع، فلُعن وهلك.(/4)
وتبعه في هذه الطريقة الكفرية المشركون فاعترضوا على حكمةِ الله في اصطفاء من يشاء من عباده رسلاً فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله} [الأنعام: 124]، وقالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف: 31]، بل إنهم اعترضوا على كون أتباع الرسل من عامة الناس وضعفتهم فقالوا: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53].
وفي هذا العصر كثُرت الزندقة، وانتشر الإلحاد، فسمعنا من يعترض على حدود الله تعالى، ويصفها بالهمجية والوحشية، وعدم مناسبتها للألفية الثالثة. ورأينا من يعترض على أحكام الإسلام فيما يتعلق بالمرأة وميراثها وقرارها في المنزل وحجابها، ولزوم المَحْرَم لها في السفر، والولي لها في الزواج، وغير ذلك مما فصلته الشريعة!!
وتالله، للهُ أعلمُ بها وبهم وبالخلق أجمعين، وبما يصلح لهم في معاشهم ومآلهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك: 14ٍ].
آمنا بذلك، وسلمنا به، ونُشْهِدُ عليه ربنا، ونسأله الثبات على الإيمان إلى الممات {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} [المؤمنون:115-116].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية(/5)
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن العبدَ لا يكون موحدًا لله – تعالى - مؤمنًا به إلا إذا أيقن بأن الله – تعالى - حكيم فيما خلق وفيما شرع، ثم قاده هذا اليقين إلى الامتثال والإذعان لأحكام الشريعة التي أنزلت من حكيم خبير.
ولهذا الموضوع المهم أصلٌ عقدي، وأصلٌ عملي، فأما الأصلُ العقدي: فإثباتُ الحاكمية لله تعالى، والإيمانُ بأن له - جل جلاله - التصرف المطلقَ، والحكم التام، والمشيئة النافذة، يقضي ولا راد لقضائه، ويحكمُ ولا معقِّب لحكمه، فالكل في ملكه، وتحت سيطرته. فيجبُ على المسلم أن يعتقد أن الله – تعالى - يأمر بما يشاء، وينهى عما شاء، له كمالُ الربوبية على عباده، وهم مربوبون له ، خاضعون لأمره ونهيه، ليس لهم أن يعترضوا أو يمتعضوا. {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، {إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، {وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ} [الرعد: 41].
ومن ثم إثباتُ الحكمة له فيما خلق وما شرع، سواء أدرك المكلف الحكمة أم لم يدركها. وتلك هي عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، خلافًا لما عليه كثير من الضُلاَّل قديمًا وحديثًا..(/6)
وخفاء الحكمة من الخلق أو الشرع لا يعني عدمها، وإنما يعني عدم علمنا بها. والقاعدة المقرَّرة: "أن عدم العلم ليس علمًا بالعدم". أي: عدمُ علمنا بالحكمة لا يعني أنها معدومة فعلاً، وإنما غايةُ الأمر أننا جهلناها ولم ندركها.
ويجب أن نعتقد أن الله – تعالى - إنما أخفاها عنّا أيضًا لحكمة أخرى، فالحُكْم شُرع لحكمة، والحكمة أخفيت لحكمة، والإيمان بذلك يندرج تحت ركن من أركانِ الإيمان وهو الإيمان بالغيب.
وأما الأصل العملي فهو وجوب الامتثال لأمر الله – تعالى - واجتناب نهيه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
وعز المؤمن ورفعتُهُ هي في قيامه بالشريعة أمرًا ونهيًا؛ لأن هذا دليلٌ على عبوديته الصادقة لخالقه. وهذا لا يتأتى إلا لمن كمل إسلامه؛ لأن الإسلام هو الاستسلام للشارع الحكيم، والانطراح بين يديه انطراحَ العبد الذليل، والانقيادُ له تمام الانقياد بكل محبة وتعظيم، وإجلال وطواعية، ورجاء وخوف. فمن حقق ذلك كمل إيمانه، واستحقّ الجزاء الأوفى يوم القيامة من حكيم رحيم - جلّ جلاله - لا يخذل من وحده واستسلم لشريعته، واتبع أوامره، واجتنب نواهيه.
ألا فاتقوا الله ربكم - أيها المؤمنون - واستسلموا لأمره، ولا تكونوا كبني إسرائيل الذين قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93]، بل قولوا: سمعنا وأطعنا، ولا تتكلفوا ما لا علم لكم به فتهلكوا.
سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين[6].
---
[1] أخرجه مسلم في الدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (2696).
[2] انظر: "صيد الخاطر" (671) و"حجة الله البالغة" للدهلوي (1/106).(/7)
[3] "شأن الدعاء" للخطابي (73 ـ 74)، ونقله عنه البيهقي في "الأسماء والصفات".
[4] انظر: "القواعد الصغرى" للعز بن عبد السلام (199)، و"مقاصد الشريعة" للطاهر ابن عاشور (13).
[5] انظر: "صيد الخاطر" (741).
[6] ملاحظة: هذه الخطبة مستفادة من بحث مختصر لأخينا الشيخ عبدالله بن سالم البطاطي منشور في مجلة الجندي المسلم في العددين (96-97). مع بعض الإضافات والتصرف.(/8)
العنوان: حلول عملية لمشكلة العنوسة
رقم المقالة: 271
صاحب المقالة: أحلام علي
-----------------------------------------
حاولت العديد من الدول الإسلامية كالسعودية والإمارات وماليزيا والكويت ومصر والأردن وغيرها طرح حلولٍ عمليةٍ من خلال مشاريع صناديق الزواج وجمعيات التعارف لتقديم قروض ومساعدات للمُقْدِمين على الزواج وتجهيز الفتيات الفقيرات وإقامة حفلات زواجٍ جماعيٍ فضلاً عن وسائلَ أخرى كتوظيف الزكاة بوصفها مورداً مالياً إسلامياً فاعلاً في القضاء علي العنوسة بوصفها مشكلةً كبرى في العالم الإسلامي .. كما ساهم بعض خبراء الاجتماع وشؤون الأسرة العرب في وضع حلول ومقترحات لمواجهة المشكلة والتخفيف من سلبياتها على الشباب والفتيات والمجتمع كله ..
* خطوط ساخنة لمنع العضل
الداعية أحمد زارع- الناشط في مجال الزواج بالسعودية- يتحدث عن أبرز الاقتراحات لحل مشكلة العنوسة فيقول: الاقتراحات عديدة لكنها بحاجة إلى حالةٍ من الوعي تسود المجتمع بعمق الأزمة وعدم المبالاة، ومن الحلول استحداثُ خطوطٍ ساخنةٍ في المحاكم الكبرى لاستقبال شكاوى الفتيات اللائي يشكين من تسلط أولياء الأمور لمنعهن من الزواج وفي هذه الحالة يستدعى الأب لإلزامه تزويجَ ابنتِه وتلبيةَ رغبتِها .
أما الاقتراح الثاني فهو تخفيض المهور التي قد تصل في المتوسط إلي 100 ألف ريال وهو ما يدفع الكثيرَ من الشبابِ إلي الزواج من الخارج على الرغم مما يكتنف ذلك من مخاطر .
أما الاقتراح الثالث فهو أن يُفتَح المجال للفتاة لاختيار خطيبها بنفسها ولها في السيدة خديجة أسوةٌ حسنةٌ علي أن يحدث ذلك في إطار من التقاليد المرعية بعيداً عن نظام التعارف الخارجي إذ مازالت بعض العائلات إلي الآن تضع العراقيل أمام تعارف العريس إلي الفتاة وتصر علي أن الرؤية الشرعية لا تكون إلا بعد عقد القران .(/1)
أما الاقتراح الرابع فهو إلغاء قصور الأفراح التي تبالغ في أسعارها ليصلَ سعرُها في الليلة الواحدة إلى أكثر من 20 ألف ريال وهذا ما يدفعُ الكثيرين إلى الاستدانة من أجل إتمام الزواج .
ويضيف زارع: تقوم مديرات ووكيلات المدارس بجهود كبيرة في تزويج المدرسات والموظفات بالتعاون مع أئمة المساجد والمهتمين بقضايا الزواج إلا أن من الضروري أن يكون هناك وعي بأهمية هذا العمل وأنه يتم في إطار من السرية لأن البعضَ اتخذ من الإسهام في حلِّ مشكلة العنوسة الخطيرة في المجتمع وسيلة للتربح !
* لجنة التوفيق بديل للخاطبة
فضيلة الشيخ سعود بن حمد الأسعدي- مساعد المدير التنفيذي لمشروع الشيخ عبد العزيز بن باز الخيري للمساعدة على الزواج - يشير إلى أن المشروع يسعى لتكوين لجنة تسمى بلجنة التوفيق وتحاول هذه اللجنة التوفيق بين الراغبين والراغبات في الزواج، ونحن الآن ننتظر موافقة ولاة الأمر - حفظهم الله - على ذلك، وهذه اللجنة ستحُل مَحَلَّ ما يدعى بالخَطَّابِين والخَطَّابات وما يغلب على هذه المهنة من ربح مادي لأن عملية التوفيق بين اثنين لابد أن تكون تحت مظلة شرعية وجِهة معروفة،وفي ظاهرة المكاتب التي تقوم بالتوفيق بين الراغبين بالزواج والراغبات علق بقوله: لابد أن يكون هناك جهة رسمية تتبنى هذا الجانب مصرح لها رسمياً من الجهات الحكومية مدعومة من هيئة كبار العلماء وبعض مشايخنا الأجلاء، لا يعمل في هذه الجهة إلا أصحاب العلم والثقة ويقترح ألا يعمل في هذا الجانب إلا من كان متزوجاً، ومشروع الشيخ عبد العزيز بن باز أحد هذه المشاريع.
وعن كيفية تشجيع فكرة الخِطبة للبنت وتغيير المفهوم الخاطئ لرفضها قال الأسعدي:(/2)
تشهد الآن مجتمعاتُنا وعياً فكرياً ودينياً وبدأ الناسُ البحثَ عن الحلولِ التأصيليةِ بعد عجز الأفكار والمناهج المستوردة والملفقة، ويمكننا الآن العودةُ والدعوةُ لإحياء مثلِ هذه الفكرةِ عن طريق مشاريع الزواج الخيرية والمنابر الدعوية والمساجد والندوات خصوصاً بعد تفشي ظاهرة العزوف عن الزواج وانتشار العنوسة بشكل كبير جداً مما جعل الأسرَ مستعدةً لقبولِ مثلِ هذه الحلول.
* المالكي: التعدد ليس حلاً والتغييرُ مطلوب
عبد العزيز عبد الرحمن المالكي- المدير التنفيذي للجنة البيت السعيد بقطر- يرى: أنه لكي نتمكن من القضاء على مشكلة العنوسة يجب على الأسر إعادة النظر في مسألة المهور وتكاليف الزواج، وألا يتأخر سنُّ الزواج للفتيات إذا كان قد حان لهنَّ السنُّ المناسبُ للزواج، وتقدم إليهن الرجل الكفء المناسب. ولابد من مساهمة الأهل في تحمل الأعباء المادية في الزواج والتقليل منها قدر المستطاع، إضافةً إلى إمكانية العودة إلى نظام الزواج التقليدي الذي يعتمد على المعارف والأسر القريبة من أسرة الفتاة، والذي ثبت أنه يدوم.
والمسألة قد تحتاج إلى تغيير جذري لبعض الأفكار السائدة، وخاصة عند أولياء أمور الفتيات وذلك من خلال التوعية الشاملة عن طريق أجهزة الإعلام جميعها، وكذلك عن طريق إقامة المحاضرات والدورات الخاصة بذلك.
وحينما سُئِلَ المالكيُّ عن التعددِ بوصفه أحدَ الحلولِ لمشكلةِ العنوسة أجاب: التعدد ليس الحل الوحيد للمشكلة، بل يعتبر جزءاً من الحلول، لا سيما وأن هناك إساءة من بعض الناس إلى مسألة التعدد، فقد رأينا كثيراً من المعدِّدِين لا يقيمون العدل بين زوجاتهم وأولادهم، ومنهم من لا يستطيع إقامة بيتٍ آخر والإنفاق عليه؛ لأنه في الأساس غير قادر على تكاليف البيت الأول وعلى الرغم من ذلك يلجأ إلى فتح بيت آخر، وتزيد المشكلات عليه وكذلك الديون على كاهله.(/3)
والأولى بهذا الزوج الذي يفكر في التعدد أن يفكر في إخوانه الشباب ويساعد في تزويجهم ليساهمَ بذلك في بناء أسرة مسلمة.
* لا للمبالغة
الدكتور محسن العرقان- أستاذ علم النفس- يقول : المبالغة في مواصفات فتى وفتاة الأحلام أحد أسباب تأخر سن الزواج لدى الشباب والفتيات فلو علم هؤلاء أن تلك المواصفاتِ شيءٌ ومواصفات شريك الحياة أو الزوج والزوجة شيء آخر فسوف تُحَلُّ المشكلة، فمقاييس فتى وفتاة الأحلام غالباً ما تكون شكلية لا تكفى لإقامة أسرة وبيت، أما مقاييس الزوج والزوجة تكون عقلانية إذ تهتم بالجوهر ومتطلبات الحياة ، والمواصفات التي يضعها الطرفان لفتى الأحلام مواصفات تضعها وسائل الإعلام ونجوم الطرب والفن لأنها أكثرُ الصورِ البراقةِ التي يراها الشاب أو الفتاة، فلماذا لا يتواضع الشبابُ ويستبدل تلك المواصفات الخيالية بأخرى واقعية فيصبح الزواج أكثرَ يسراً وعقلانية!
ويؤكد الدكتور أحمد المجدوب- أستاذ علم الاجتماع- ما سبق فيقول : السبب الرئيسي الذي يؤدي إلى العنوسة في كثير من الأحيان هو نموذج فتى أو فتاة الأحلام وذلك بسبب المغالاة في المواصفات الخيالية والتي تؤدى إلى البقاء لسن متأخر بدون زواج؛ لذلك يجب على كل فتاة أو شاب التواضعُ في المواصفات لأن فتاة الأحلام فكرة وهمية تضعها وسائل الإعلام من خلال فتيات الإعلانات والفيديو كليب والفنانون وغيرهم ، ولما كان الجميع يبحث عن الكمال والتميز فإنه لن يجدَ بسهولة من تنطبق عليه مواصفات فتى أو فتاة الأحلام وهذا ما يزيد المشكلة تفاقما.(/4)
ويضيف المجدوب : إذا كان الشباب والفتيات لهم دور في حلِّ هذه المشكلة من خلال التواضع في اختيار شريك الحياة؛ فإن من وسائل العلاج لهذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة أيضاً ما يقع على عاتق الأسرة؛ إذ يجب على الأُسر وأولياء الأمور أن يُيسروا على الشباب في الزواج مع مراعاة عدم الغلاء في المهور أو المبالغة في المطالب، والعودة إلى تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وتفعيل دور المؤسسات الرسمية في الدولة .
من جهته يرى الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي ضرورة أن يتواضع الأهل في مطالبهم وألاّ يكلِّفوا الخاطب ما لا يطيق، وأن يطلبوا أيسر المهور، ويقول : غلاء المهور مشكلة وعقدة عقدها الناس على أنفسهم، وشددوا فيما يسره الله تعالى عليهم، لقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- في الزوجات " أيسرهن مهراً أكثرهن بركة " والنبيٌّ - صلى الله عليه وسلم- حينما زوج بناته زوجهن بأيسر المهور، لم يشترط لهن المئات ولا الآلاف، وإنما أخذ أيسر المهور، وكذلك السلف الصالحون، لم يكونوا يبحثون عن مال الرجل، وماذا يدفع، لأن البنت ليست سلعة تباع وإنما هي إنسان فلْيبحَثْ لها الأبُ أو الوليُّ عن إنسان كريمِ الدين والخلق والطباع، ولهذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه، تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" ، ولهذا قال السلف: "إذا زوجت ابنتك فزوجها ذا دين، إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها ؛ لأن دينه يمنعه، وخلقه يردعه، حتى في حالة الكراهية" .(/5)
ويضيف الدكتور القرضاوي : لقد أمر الإسلام بالمسارعة بتزويج البنات، وجاء في ذلك عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يؤخَّرن: الصلاة إذا حضرت، والدَّين إذا حَلَّ، والأيِّمُ إذا حضر كفؤها" .. فإذا حضر الكفءُ ينبغي على الأب ألّا يعوقه عنها من أجل المال أو غيره من المظاهر كأنها سلعة يساوم عليها، فعلى الآباء المسلمين ألا يعوقوا الزواج بهذه المهور وبهذه المغالاة فيها، فإن هذا هو أكبر عقبة في سبيل الزواج، وكلما عقَّدنا في سبيل الزواج وكلما أكثرنا من المعوقات والعقبات يسَّرنا بذلك سُبُلَ الحرام، وسهَّلنا انتشار الفساد، وأغوينا الشباب بأن يسيروا مع الشيطان وأن يتركوا طريق العفة وطريق الإحصان وطريق الحلال .
فما حيلة الشاب الذي يذهب ليتزوج فيجد هذه الطلبات المعوقة أمامه ؟ ماذا يصنع ؟ إنه سيُعرض عن الزواج ويبحث عن بيئة أخرى، ويترتب على ذلك كساد البنات، وفساد الرجال، هذه هي النتيجة الحتمية للمغالاة في المهور ، وواجب علينا أن نيسر طريق الحلال لشبابنا ولفتياتنا فهذا ما شرعه الإسلام، وهذا ما رضيه لأبنائه.
* د. المطلق: دور مميز لإمام المسجد(/6)
الدكتور عبد الملك بن يوسف المطلق يطرح فكرة أخرى للقضاء على مشكلة العنوسة ويقول: كانت لي فكرة استحسنها بعض الزملاء دون البعض الآخر وملخصها: أن يتم التعرف على الفتيات اللاتي في سن الزواج - عن طريق أولياء أمورهن - وما هي الرغبات المطلوب تحققها في الزوج - مع التذكير بأن هذه الرغبات ينبغي أن تكون مما يلائم الواقع المعاصر - وكذلك بالنسبة إلى الرجل، ويكون المسئول عن هذا ممن يوثق بدينه وعلمه ،يتولى الأمر بالسرية التامة لهذه المعلومات، وهذا الرجل لعله يكون إمام المسجد الجامع في هذا الحي مثلاً، أو غيره ممن عُرفَ عنه الغيرةُ على دينِ الله وحبُه للخير والصلاح، وممن له فراسة في وجوه الرجال، ليعرف من اللقاء الأول الرجل الجاد، من الرجل الهازل المتلاعب ونحو ذلك من المقاصد ويكون له مقر على شكل مكتب «زواج» أسوة ببعض المكاتب المعروفة، فيكون الوسيط بين الخاطب وولي المخطوبة، ويكون له أجر على هذا العمل غير أجر الاحتساب الذي سيناله في الآخرة - إن شاء الله تعالى-، ولابد أن يكون لهذا المكتب ارتباطٌ قويٌ بالمشاريع الخيرية من جهة التنظيم والمتابعة ونحوها.
* دَور الدولة والزكاة
الدكتور منيع عبد الحليم محمود - عميد كلية أصول الدين - يرى: أن علاج مشكلة العنوسة في الصورة الإسلامية أمر واجب علي الدولة أكثر منه علي الأفراد من خلال حل مشكلة البطالة بصفة عامة إلي جانب حل أزمة السكن من خلال توفير السكن اللازم بتكلفة بسيطة أسوة بمساكن الشباب التي تقام في البلدان المتقدمة والدولة مسئولة بشكل أساسي عن كل هذه الأمور التقليدية التي تكون الأسرة.(/7)
وأوضح الدكتور منيع أن استخدام الزكاة في حل أزمة العنوسة لدي الفتيات وتأخر الزواج لدي الشبان يرتهن بعدة أمور أساسية يتقدمها عجز الدولة التام عن تيسير ذلك إلى جانب عدم كفاية الصدقات من المقتدرين ورجال الأعمال لتيسير الزواج ثم نجعل الزكاة في المرتبة الثالثة بحيث إذا لم تكف جهود الدولة والصدقات بكفاية ذلك يتم الاستعانة بالزكاة في حالة الضرورة القصوى وهي تقدر بقدرها.
وفي مشروع "صندوق الزواج" المطبق في بعض دول الخليج العربي يشير الدكتور منيع إلي أنه يقوم بشكل أساسي علي أموال الدولة وتبرعات الأفراد ولم تدخل الزكاة فيه كمورد من موارده الأساسية، وإذا أردنا تطبيق مثل هذا المشروع في أي بلد وجب توفير دعم أساسي مباشر من الدولة ثم تبرعات الأفراد وبضمانٍ فاعلٍ من الحكومة حيث يقوم الصندوق بتوفير العناصر الأساسية التي يقوم عليها الزواج حيث إن الأصل فيه قدرة الزوج علي الكفالة والإنفاق لذا يعد عمل الشباب أحد الأسباب المباشرة لتيسير الزواج ومن ثم حل أزمة العنوسة في المجتمعات العربية المختلفة وهذا ما يؤثر بالإيجاب علي طبيعة المجتمع حيث إن هناك ارتباطاً مباشراً وحقيقياً بين عدم الزواج والانحراف مع ضرورة الأخذ في الاعتبار مسئولية الدول الإسلامية مسئوليةً مباشرة عن تيسير الزواج وهو أمر يجب أن ننهض به من أجل خير الأمة الذي يُنتَظرُ علي أيدي شبابها وفتياتها المسلمات.
ويقول الدكتور جمال الدين حسين - أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر -: إن الزكاة في الأساس تعد وسيلة أساسية للتكافل الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية ولهذا فإن استخدامها لتيسير الزواج لا حرمة فيه بل يقدم فائدة عظيمة للعديد من شبابنا وفتياتنا المسلمين والمسلمات وذلك مع ضرورة بل حتمية الاختيار الجيد للأفراد الأمناء من غير المنتفعين للقيام علي هذا الأمر بحيث يستفيد من هذه الأموال من في حاجة ماسةٍ إليها من الفقراء والمساكين.(/8)
وعن إمكانية تقديم بعض الشركات لزكاة أموالها على هيئة منتجات لها كالأدوات والأجهزة المنزلية لاستخدامها في تجهيز بيوت الزوجية للفقراء في إطار استخدام أموال الزكاة في تيسير أمر الزواج يوضح الدكتور جمال الدين حسين أن ذلك أمر اختلف فيه الفقهاء حيث تُخرج زكاة الأموال مالاً لا أجهزة أو خلاف ذلك وأنه يجب استخدام أموال الزكاة في توفير الضروريات الأساسية لتكوين بيت الزوجية المتواضع الخالي من سبل الرفاهية العالية غير اللازمة بالضرورة بحيث يستفيد أكبر عدد ممكن من هذه الأموال.
ويتحدث الشيخ عبد الفتاح الزيات أمين عام لجنة الفتوى بالأزهر سابقاً موضحاً أن استخدام أموال الزكاة في التيسير علي المتعثرين في الزواج من الفقراء والمساكين وغير القادرين أمر جائز شرعاً ويدخل في إطار أحد مصارف الزكاة الثمانية المتمثل في "سبيل الله" مستشهداً بحديث المصطفي - صلي الله عليه وسلم - الذي قال فيه: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" حديث صحيح.
ويعلق الشيخ الزيات علي معني الحديث موضحاً أنه إذا طالت المدة ولم يستطع الشاب مع ذلك تمَلُّكَ المقدرةِ الماليةِ علي الزواج هل يمكن الاستمرار في الصوم؟! أليس هذا أمراً صعباً؟! وعند ذلك يكون استخدام الزكاة في حل تلك الأزمة أمراً مناسباً بحيث يستفيد من هذا من هم في حاجة حقيقية إليه ومن يستحقون المعونة والمساعدة وتكون في إطار توفير الاحتياجات الأساسية لإتمام الزواج بعيداً عن وسائل الرفاهية غير اللازمة.(/9)
وعن ابتكار أفكار خاصة للقضاء علي العنوسة كصندوق الزواج وما شابهه يقول الشيخ الزيات: الكويت كانت من أسبق الدول العربية والإسلامية في تفعيل دور الزكاة في حل العديد من المشكلات التي تنتاب المجتمع الإسلامي حيث يقدم بيت الزكاة الكويتي مساعدات مادية وعينية للشباب المتعثر في الزواج وهو مَثَلٌ طيب يجب أن يُحتذي في كل دولنا العربية والإسلامية للقضاء علي ظاهرة العنوسة التي تتحطم علي عتباتها آمالُ وطموحاتُ شباب العالم الإسلامي.
وطالبت العديد من الدراسات الأكاديمية التي أجريت في هذا الخصوص من بينها دراسة قدمت العام الماضي بقسم الاجتماع بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر بتعميم أسلوب "صندوق الزواج" الذي عمل به في دول الخليج بل وتطويره ليصبح مؤسسة اجتماعية تُعنَي بشئون الأسرة وتيسير أمور الزواج علي أن يكون مدعوماً من رجال الأعمال والأثرياء مع تيسير المهور ومراعاة عدم المغالاة في تكاليف الزواج والبذخ في إقامة الأفراح والولائم والقضاء علي مشكلة البطالة كسبب رئيسي في تأخير سن الزواج مع مساهمة جادة لوزارة الإسكان بتوفير شقق للشباب بأسعار تتناسب وظروفهم المادية.(/10)
العنوان: حمَّام بارد
رقم المقالة: 483
صاحب المقالة: محمد سعيد المولوي
-----------------------------------------
كانوا ينادونه أبا عصام أو الضاحك؛ فإنهم لم يروه أبداً عابساً أو مقطباً أو هائجاً أو ثائراً أو غاضباً، بل كان دائماً مبتسماً وضاحكاً، وكان يطل بوجهه الطلق على أفراد مخفِر الشرطة الذي يعمل فيه فيلقي التحية على الحاضرين والابتسامة تملأ فمه، ثم يمضي يمازح هذا ويلاطف ذاك ويضاحك ذلك ويلقي نكتة هنا وطرفة هناك فيثير الضحك وترتسم على الشفاه والوجوه الفرحة.
كان مسؤولاً عن قسم الحراسات في الشرطة، وكانت العادة في دمشق أن يكلَّف أحد رجال الشرطة بمراقبة وحراسة حي من أحياء المدينة خشية اللصوص أو التعرض للمارة، وكان ذلك الشرطي يسمى الحارس ويمضي الليل من مغيب الشمس حتى شروقها، يتجول في الحي يتفقد أبواب البيوت وأقفال المحالِّ المغلقة؛ خشية أن يكون أحدهم نسي إغلاقه ولم يحكم إقفاله، ويتفحص المارة فإن رأى أحداً لم يعجبه أو أثار الريبة في نفسه استوقفه وسأله عن اسمه وهويته ومقصده، وهو طوال الليل ينتقل من مكان إلى مكان في الحي يطلق صفارته وكأنه يقول: أنا هنا فإياكم والغلط.
وكانت مهمة أبي عصام أن ينطلق من مخفِر الحراسات فيطوف على الحرَّاس بعد أن يكون قد مضى هزيع من الليل ويرى حسن أدائهم لعملهم ومن منهم مستيقظ ومن منهم نائم. كما يمضي في أطراف الحي متفقداً؛ زيادة في الحيطة، وكان كلما رأى حارساً سأله عن حسن عمله وعن أحوال الحي ثم وقَّع له في دفتر خاص يصف فيه إحسانه من إساءته؛ وإتقانه لعمله أو إخلاله فيه.(/1)
وكان لكل حارس كوخ صغير خشبي لا تتعدى مِساحته المتر المربَّع يضع فيه حاجاته وكرسياً صغيراً يستريح عليه بين الفينة والفينة إذا أحس التعب والإرهاق من الوقوف أو التجول. فإذا جاءت ليالي الشتاء القارصة وسقط المطر الشديد أو الثلج الكثيف التجأ إليه هرباً من البلل مدة قصيرة، فإذا خف الهطل عاد للتجوال.
ما عهد الحرَّاس من أبي عصام كلمة نابية أو لفظاً قاسياً أو أمراً متعسفاً فيه أو عقوبة مؤلمة مؤثِّرة، بل كان يكتفي بإسداء النصيحة بوجوب حسن أداء العمل، أو التحذير في حال الإهمال أو الخطأ.
فإذا ما تمادى الحارس في الخطأ أكثر من ثلاث مرات فإن عقوبة أبي عصام له لن تكون عقوبة عسكرية كما جرت العادة لدى الآخرين، ولكن بإيقاع الحارس في ورطة أو مأزق ينخلع له قلبه أو يفقد به صوابه أو يطيش عقله؛ كأن يختلس للحارس مسدسه وهو نائم فيجعله كالمجنون يبحث عنه لأن فقده يعني الطرد من الخدمة والسجن، أو يعمد إلى خلع حذاء الحارس بخفَّة ويدعوه للتفتيش؛ لذا، كان الحراس يخافون كيده و((مقالبه)) أكثر من خوفهم من أية عقوبة أخرى، وكانوا يحرصون على أداء عملهم وعدم النوم خشية أن يقعوا في أحد مقالبه. لكن حارساً واحداً استعصى على أبي عصام برغم التنبيهات العديدة والملاحظات المتكررة، فقد كان الرجل يحرس في منطقة حارة اليهود بدمشق، والبلاد آنذاك -في سنة 1948م- في حرب مع اليهود في فلسطين، وكانت الدولة تخشى أن يقوم اليهود بتفجيرات أو تخريب أو تجسُّس في المدينة، فكان همها تشديد المراقبة والحراسة وكان على الحارس أن يبقى مستيقظاً جوَّالاً طول الليل متيقِّظاً بصيراً.(/2)
لكن أبا علي كان الحارس المستعصي على الأوامر، وكان على عكس ما هو مطلوب منه كسولاً غير نشيط، ولعل كونه في العقد السادس من عمره أورثه هذا الكسل، إضافة إلى أنه كان بديناً مترهل الجسم أصلع الرأس، عيناه غائرتان يغطيهما حاجبان كثيفان وأشفار محمرَّة تساقط أكثر شعرها، ملابسه مجعدة لم تعرف المكواة منذ زمن بعيد، و((بنطاله)) له حدبتان في منتصفه من أثر رُكَب أبي علي وكثرة جلوسه.
كان أبو علي قد هيَّأ لنفسه أسباب الراحة فجعل في الكوخ كرسياً خشبياً واسعاً له خشبتان عريضتان يسند إليهما ساعديه إذا جلس، وقد جعل تحته وسادة من قطن يجلس عليها مستريحاً، واتخذ صفيحة زيت فارغة قد شق فيها شقوقاً جاعلاً منها موقداً يملؤها بما يلتقطه من الأخشاب وقطع الأشجار وهو قادم إلى عمله فيتدفَّأ بنارها، وربى كلباً صغيراً يحضره معه كل مساء، فإذا ما جلس على كرسيه وأخذه النوم وراح في شخير عال كان الكلب يطوف حوله أو يجلس بجانب كرسيه يحرسه، فإن رأى الكلب أحداً قادماً عوى فاستيقظ أبو علي وألقى نظرة على القادم ثم عاد إلى نومه.
أكثر من مرَّة وجد أبو عصام أبا علي نائماً ونبهه على خطر نومه على نفسه وعلى البلد، وطلب منه أن يقلع عن النوم وأن يكون أكثر يقظة وانتباهاً. لكن كلمات أبي عصام ونصائحه كانت في واد لم تذهب بالريح ولا بالأوتاد، فقد كان هناك تصميم عند أبي علي على النوم والحجَّة في ذلك: ((النوم سلطان)).
ونَفِدَ صبر أبي عصام وهو لا يريد أن يوقع بأبي علي عقوبة فقد يستمرئ العقوبات فيزداد إهمالاً، وربما كانت لديه أسرة كبيرة وأطفال كثيرون فتصيبهم العقوبة بدل أبيهم.
لذلك فكر أبو عصام أن يستعين بغيره في ذلك، فلجأ إلى العجَّان في الفُرن القريب من محرِس أبي علي، وكان تربطه بأبي علي صداقة متينة لعلها نشأت وتوطدت من تجاورهما وجلوسهما معاً يصطليان بنار أبي علي ويرشفان كؤوس الشاي.(/3)
وبيَّن أبو عصام للعجَّان دقة المهمة الموكلة إلى أبي علي وخطرها عليه وعلى الحي والمدينة في حال تهاونه في تأدية واجبه، وطلب من العجَّان أن ينصح أبا علي، وقال العجَّان: لا فائدة ومع ذلك سأفعل، وحين التقى أبو عصام العجَّان يستعلم منه موقف أبي علي.. قال العجَّان: هذا الحارس مضى عليه هنا ست سنوات وهذه حاله، ولا فائدة من نصحه فقد أكثرنا معه الكلام دون أن يرعوي أو يثوب إلى رشده، فما أن يمضي بعض الليل وتخف حركة المرور حتى يكون على كرسيه نائماً، وحين نصحته كان جوابه: ((حط بالخرج))، ولا تخف، ثم هي بضع سنوات وأُحال إلى التقاعد فالقضية ليست أهلاً للاهتمام.
خرج أبو عصام من المخفِر ليلاً في جولته التفتيشية يصاحبه شرطي قوي الجسم ضخم الجثة مفتول الذراعين وقد أمسك بيده كيساً صغيراً، وبيَّت في نفسه أمراً؛ فإن الحارس أبا علي سيكون نائماً بلا ريب وسيلقِّنه اليوم درساً لن ينساه في حياته كلِّها، ولن يعود إلى النوم أبداً. وفاتح أبو عصام الشرطي المرافق بما يريد أن يصنع بأبي علي فكاد الشرطي يقع على الأرض من شدة الضحك. وقال: سبحان الله يا أبا عصام، من أين تأتيك هذه الأفكار؟ لقد أضحكتني بكل جوارحي ولم أضحك منذ زمن طويل.
توخى أبو عصام أن يجعل مروره على أبي علي قبل أذان الفجر بساعة تقريباً، فإن أبا علي سيكون نائماً بلا ريب، وهذا ما يريده أبو عصام، وهي الفرصة السانحة التي سيتمكَّن أبو عصام فيها من تنفيذ خطته.(/4)
اقترب أبو عصام من الفُرن الذي لم يكن يبعد كثيراً عن أبي علي ونظر إليه فرآه جالساً على كرسيه وناره لا تزال مشتعلة لكنها خافتة، ويداه على طرفي الكرسي مستريحتان، ورأسه منكَّس فوق صدره مما يدل على نومه العميق، واقترب أبو عصام أكثر فتحقَّق من أن أبا علي نائم وربما يحلم أحلاماً سعيدة، وبدأ الكلب الصغير يبصبص بذنبه ويرفع أذنيه ليهم بالنباح، ولكن أبا عصام عاجله بقطعة لحم أخرجها من الكيس الذي يحمله فأسرع إليها الكلب والتهمها، وتراجع أبو عصام قليلاً وقد أمسك بقطعة أخرى من اللحم، واقترب الكلب فألقاها إليه فأكلها، واستأنس بأبي عصام الذي أخرج قطعة ثالثة وأشار بها إلى الكلب وقد رجع إلى الوراء أكثر، وهُرع إليه الكلب، فرفع قطعة اللحم قليلاً ووقف الكلب على قدميه مما مكن أبا عصام أن يمسك به بيده الأخرى ثم يجعله بين يديه ويضمه إلى صدره وقطعة اللحم على فمه، ودخل به الفرن فوضعه عند العجَّان ووضع أمامه بقية اللحم وطلب من العجَّان أن يبقيه محبوساً في الفرن.
لاشك أن أبا علي نام وهو مطمئن على أن شيئاً لن يزعجه ما دام الكلب متعوداً على النباح كلما اقترب أحد من أبي علي.. ولكنه لم يكن قد حسب حساباً لمن سيبعد الكلب عنه.
وعاد أبو عصام مع زميله بخطاً رقيقة لينة نحو أبي علي، حتى إذا صار أمامه رفع صحيفة النار فجعلها بعيداً، ثم رجع فوقف إلى جانب الكرسي ووقف زميله على الجانب الآخر، وأشار أبو عصام برأسه فانحنى الاثنان وأمسكا بالكرسي من خشباته السفلى وانتظرا حتى إذا أخذ أبو علي شهيقاً رفعا الكرسي قليلاً وأبو علي جاثم فوقه نائم ولما زفر توقفا. وحين عاد إلى الشهيق عادا إلى رفع الكرسي.. وهكذا ما بين شهيق أبي علي وزفيره المتكررين كان أبو عصام وصاحبه قد تمكنا من رفع الكرسي ومَن فوقه.
وتحوَّل الاثنان إلى السير بالكرسي مستغلَّين حالتي الشهيق والزفير، فمع الشهيق يتحركان خطوة بما يحملان ومع الزفير يتوقَّفان.(/5)
وظلا كذلك يسيران ببطء شديد وحذر كبير نحو بحرة ماء قريبة تقع على مستوى الأرض مخصَّصة لسقاية الحَيَوانات من بغال وخيل وحمير، ولملء قرب الرشاشين الجلدية الذين كانوا يرشون الطرقات في الصيف ابتغاء الرطوبة والخلاص من الغبار.
وحين وصل الاثنان إلى بحرة الماء أنزلا الكرسي بلطف وهدوء كما رفعاه وجعلاه على شفير البحرة، وجعلا وجه أبي عليها وقدميه من فوقها. ثم عادا القهقرى على رؤوس أصابعهما حتى صارا قريبين من الفُرن.
أخرج أبو عصام صافرته وصفر بها وصاح: يا أبا علي، ولم يجب أبو علي؛ لأنه كان تحت سلطان النوم.. وصفر أبو عصام ثانية وثالثة، وتوالى صفير أبي عصام وصياحه، وسمع العجَّان ذلك من داخل الفُرن ففتح بابه وصاح بأعلى صوته: ((يا أبا علي الدورية)).
تداخلت الأصوات في أذني أبي علي من صفير وصراخ فاستيقظ مذهولاً مذعوراً، وهبَّ واقفاً ليجيب دعاء أبي عصام، وسمع الثلاثةُ صوت جسم يسقط في الماء، ذلك أن قدمي أبي علي كانتا فوق الماء، فلما استيقظ وَهلاً لم يدر أين هو وسقط في الماء.
مضت دقائق قبل أن يُقبل أبو علي والماء يتقاطر من رأسه وملابسه، ورجلاه تُجرَّان في حذائه الممتلئ ماء فتُحدثان صوتاً غريباً، وحين وصل قبالة أبي عصام أخذ التحية العسكرية ووقف كالخشبة لا ينطق ولا يتحرك ولا ينبس ببنت شفة.
وسأله أبو عصام بهدوء وكأنه لم يفعل شيئاً: ماذا صنعت بنفسك، وما الذي جعلك مبتلاً هكذا؟ أتغتسل بملابسك في وقت العمل يا أبا علي؟
وتسمَّر أبو علي فلم يجب وهو ينظر إلى دائرة من الماء تحيط به والماء يتساقط من رأسه.. وقال أبو عصام: مالك يا أبا علي؟ هل أصابك مكروه؟
وانفجر أبو علي قائلاً: ستر الله عرضك في الدنيا وسترك في الآخرة استر علي، إني أعلم أني مخطئ وقد تماديت في خطئي، وأقسم لك أني لن أنام بعد اليوم.
وقال أبو عصام: أيش، هل كنت نائماً أم كنت تغتسل؟
وعاد أبو علي يتوسل إليه ويعتذر ويعد بألا يعود إلى النوم.(/6)
فوجئ أهل الحي بتغيُّر وضع أبي علي، فلقد تخلَّص من الكرسي وصفيحة النار والكلب، وراح يمضي الليل كله يدور في أرجاء الحي حريصاً على الأمن.. متفقداً أقفال المحالِّ، مصفِّراً بين الحين والآخر متفحصاً وجوه المارَّة.
أما أبو عصام فكان كلما تذكر ما صنع، وعادت إلى مخيِّلته صورة أبي علي والماء يقطر منه ضحك حتى كاد يقع على الأرض، وهو يقول: ألهمك الله أن تسامحنا يا أبا علي!(/7)
العنوان: (حمد السلوم) سيرة عاطرة... وعطاء متدفق
رقم المقالة: 490
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
عندما تغيب أوراقُ الأشجار، تحارُ العصافيرُ، أين تسكن؟! وعندما يغيبُ الحنان، تحارُ الأشواقُ، في أيِّ حضنٍ تستقر؟! وعندما رحلَ المربِّي الكبير، الدكتور حمد السلوم عن عالم التربية، في الثاني والعشرين من شهر الله المحرم، 1428هـ، فإنّ الأقلامَ حزنت؛ لفراقِ الأنامل الشذيّة، و القراطيسُ بَكَت؛ لفرقةِ الأفكار النديّة، والأحبّةُ أسفوا؛ لغياب القلب الحاني وصاحبِ الأخلاق العليَّة.
قامةٌ سامقةٌ من قاماتِ الفكر رحلت عن ربوع نجد، وشجرةٌ باسقةٌ من أشجارِ العلم ودّعت الرياض، وكوكبٌ منيرٌ تَوارى خلفَ الحُجب، بعد أن أودع ومضاتٍ مشرقات من الفكر النيّر في مُتون الكتب، التي بقيت شاهدةً على سيرة الإخلاص النّاضرة، وقصّةِ العمل الدؤوب.
من أينَ أبدأُ قصّةَ العطاء، وسيرةُ الفقيد لوحةٌ متدفقة بالعطاء، ووردةٌ مَلْأَى بالمسك الناعش، بدءاً من الإصرار والجدّ على نيل الدكتوراه، في وقت قلَّ فيه المتعلمون، مروراً بالإداريّ المتميّز الذي تُوّج إخلاصُه مديراً للتعليم في مدينة الرياض، ثم وكيلاً لوزارة المعارف، في مرحلة حرجة وحاسمة من حياة المجتمع، ثم ملحقاً ثقافياً للمملكة العربية السعودية في أمريكا، ثمّ مديراً لمعهد الإدارة، في الوقت الذي لم تشغله هذه المناصب الرفيعة التي تبوّأها عن متابعة البحث والقراءة، وصلة الأرحام، ومتابعة أبنائه في المدرسة، والتواصل مع معلميهم، وكنت واحداً منهم؛ لقد عرفت فيه أباً متواضعاً، قريباً إلى القلب، يعطي الآخرين مساحات واسعة من الثقة...(/1)
لقد رحل حمد السلوم، ولكنّه خلّف تراثاً من العلم والفكر ثريّاً، رحم الله الفقيد، وسقى قبره الغيث المسجَّم، وأسكنه فسيح الجنان، وأَلهمَ ذَوِيه ومحبيه الصَّبر والسُّلوان، وجعل ما قدَّمه للأجيال في موازين حسناته.
وإنا لله وإنّا إليه راجعون
المربي الأستاذ الدكتور/ حمد إبراهيم السلوم
في سطور
أولاً: السّيرة الذاتية:
الاسم: حمد بن إبراهيم بن محمد السلّوم.
الجنسية: سعودي.
مكان الميلاد وتاريخه: مدينة ضرما، غرب مدينة الرياض، 5/8/1358هـ، الموافق: 25/8/1939م.
ثانياً:المؤهلات العلمية:
1- حصل على "بكالوريوس علوم شرعية وتربوية"، من كلية الشريعة، التابعة لجامعة أم القرى، عام 1379هـ/ 1960م.
2- حصل على دبلوم تربوي "تخطيط تربوي"، لمدة عام دراسي، من المركز الإقليمي، في بيروت، عام 1963م.
3- حصل على درجة الماجستير في "الإدارة التعليمية"، من جامعة "كانسس"، في الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1970م.
4- حصل على الدكتوراة في "مجال الإدارة التعليمية" من جامعة " أوكلاهوما"، بالولايات المتحدة الأمريكية، عام 1974م.
ثالثاً: الإنتاج الفكري:
1 - كتاب بعنوان "العلاقة بين حجم المنطقة التعليمية في المملكة العربية السعودية والخدمات التي تقدّمها المدرسة".
2- "الإدارة التعليمية بالمملكة العربية السعودية"، ثلاثة أجزاء.
3- "تاريخ الحركة التعليمية في المملكة العربية السعودية"، ثلاثة أجزاء.
4- "التعليم العام في المملكة العربية السعودية".
5- المشاركة في تأليف كتاب "التعليم العام في دول مجلس التعاون الخليجي.. دراسة مقارنة"، عام 1410هـ.
6- "التربية والتعليم العام في المملكة العربية السعودية بين السياسة، والنظرية، والتطبيق".
7- المراجعة والإشراف على كتاب "التعليم الابتدائي في المملكة العربية السعودية"، عام 1398.
8- الإشراف على "دليل مقتنيات مركز المعلومات الثقافية"، بالملحقية الثقافية السعودية، بأمريكا، 1994م.(/2)
9- جمع وتصنيف أسماء، وتخصصات، ودرجات، وجامعات المتخرجين السعوديين من الجامعات الأمريكية، منذ عام 1952م، حتى 1994م.
رابعاً: أوسمة، وميداليات، ودروع، وشهادات تقدير:
1- حصل على "ميدالية الاستحقاق من الدرجة الثانية"، منحت بأمر ملك المملكة العربية السعودية، بتاريخ 7/4/1407هـ، الموافق: 10/1/1984م.
2- نيل أعداد كبيرة من الدروع - أثناء العمل ملحقاً ثقافياً، للمملكة العربية السعودية، في واشنطن، ومعهد الإدارة العامة - من أفراد ومؤسسات.
3- حصل على العديد من شهادات التقدير الممنوحة من رؤساء، وشخصيات بارزة، ومسؤولين في الدولة.
خامساً: الخبرات التعليميّة:
1- مدرساً بـ "مدرسة ضرما المتوسطة"، لمدة عام واحد.
2- مديراً لـ"معهد إعداد المعلمين الابتدائي والثانوي"، بالرياض، لثلاثة أعوام.
3- مديراً لـ"مدرسة اليمامة الثانوية"، بالرياض، لسبعة أعوام.
4- مديراً عاماً للتعليم، بمنطقة الرياض، لسبعة أعوام.
5- أستاذاً غير متفرّغ بـ"كلية التربية"، بـ "جامعة الملك سعود".
6- وكيلَ وزارة المعارف المساعد، لشؤون الطلاب، لسبعة أعوام.
7- ملحقاً ثقافياً بأمريكا، لمدة تسعة أعوام.
8- مديراً لـ "معهد الإدارة العامة"، لأربعة أعوام.
سادساً: مشاركات وعضويّة:
1- عضو "اللجنة التحضيرية، للّجنة العليا لسياسة التعليم"، لمدة اثني عشر عاماً.
2- عضو "اللجنة الوطنية السعودية للتربية والثقافة والعلوم"، لمدة أحد عشر عاماً.
3- عضو "لجنة إستراتيجية التعليم"، في المملكة، لثلاثة أعوام.
4- عضو "مجلس إدارة مركز البحوث" بكلية التربية، بجامعة الملك سعود، لستة أعوام.
5- عضو، وممثّل المملكة في "المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتربية، والثقافة، والعلوم"، لمدة أربعة عشر عاماً.
6- عضو "لجنة الأمن الثقافي"، في المملكة العربية السعودية، لمدة عامين.
7- رئيس مجلس إدارة "جمعية المساندة التعليمية"، التي أنشئت بواشنطن، عام 1993.(/3)
8- رئيس "اللجنة التحضيرية الإدارية، للجنة العليا؛ للإصلاح الإداري"، لمدة أربعة
أعوام.
9- عضو "اللجنة التحضيرية لمجلس الخدمة المدنية"، لمدة أربعة أعوام.
عضو، ونائب رئيس مجلس إدارة "معهد الإدارة العامة"، لمدة أربعة أعوام.
10 - ممثل للمملكة، وعضو "المجلس التنفيذي والجمعية العمومية للمنظمة العربية للتنمية"
11- رئيس "لجنة التوعية الإسلامية الفرعية"، بمنطقة الرياض، خلال عمله مديراً عاماً للتعليم، بمنطقة الرياض.
سابعاً: المشاركات:
شارك في عدد كبير من المؤتمرات، خاصةً مؤتمرات اليونسكو، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومؤتمرات وزراء التربية والتعليم والمعارف، لدى دول مجلس التعاون الخليجي ومجالسها التنفيذية، فضلاً عن الندوات، واللقاءات العلمية المحلية، والخليجية، والعربية، والدولية.
الوفاة:
وافته المنيّةُ يومَ السبت، الموافق: 22/1/1428هـ.
رحمه الله، وأسكنه فسيح الجنان.(/4)
العنوان: حنين الغرباء
رقم المقالة: 1928
صاحب المقالة: محمد يوسف الجاهوش
-----------------------------------------
تأتي إجازة الصيف، لتكون محطة راحة واستجمام من عناء عمل وكدح طوال ما سبقها من شهور العام. والناس - كشأنهم في كل شيء - مذاهب شتى في قضاء هذه الإجازة، فمنهم: من يقضيها في بلده، بين أهله وأصحابه، قانعاً بما أتيح له من وسائل الراحة والهدوء، ومنهم: من يشد الرحال إلى جهات متعددة، كل يَنشُد راحتَه ومتعته بالطريق التي تروقه وترضيه، فيعود المغتربون إلى أوطانهم، ليسعدوا بلقاء الأهل والأحبة، والصحب والخلان، ويجددوا ما انقطع من عهود الوداد، ومجالس الوفاء، وذكريات الطفولة والشباب، فينسون عناء العمل، ومشقة الأسفار، ووطأة الاغتراب، فيرجعون خلقاً آخر لا عهد له بتلك المتاعب والهموم.
ومن الغرباء: أناس {أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، وحُرموا نعمة العودة إلى الأهل والديار، من غير ذنب ارتكبوه، ولا جرم اقترفوه! فهم - لذلك - في غربة دائمة، وهمِّ مقيم، وشوق إلى الأوطان موصول، لا ينقطع ولا ينسى؛ لقد استعصى على الأيام أن تبدله، وتأبَّى على الأحداث أن تغيره، فهو في القلوب محمول وفي الصدور مكنون، سواء - في ذلك - أظعن صاحبه أم أقام، سرَّه الدهر أو جاء بما يسوء.
وترى فريقاً منهم - لشدة الشوق والحنين - يشدون الرحال لزيارة الأقطار المجاورة لأوطانهم، يؤملون أن تصلهم نسمة من هوائها، أو نفحة من عبير ورودها وأزهارها، مما لا تستطيع الحدود حجبه، ولا القيود منعه وحبسه..
وصاحبنا (أبو البراء): واحد من هؤلاء الناس الذين لم ينسهم طول البعد، ولا رخاء العيش في المهجر دياراً ولا أهلا، وهذا ما دفعه لقضاء إجازته في قُطر متاخم لمسقط رأسه، ومرتع شبابه، عساه يحقق بعض ما حرمت نفسه من واعد الأحلام وعذب الأمانيِّ!(/1)
حزم متاعه، واصطحب أسرته في سفر غير قاصد، وانطلق لوجهته، ولما حطت رحاله حيث يمم، قرر السكنى في أقرب موقع من حدود الوطن الحبيب، تحقق له ما أراد، فأقام في بيت ريفي متواضع، لكنه جميل، يقع فوق تلْعة مرتفعة وحوله جنة زهت أشجارها، وعذب ماؤها، وطاب هواؤها، لم يركن إلى الراحة والهدوء، بل كان يسير الساعات - ذوات العدد - بين الأشجار في سهل الأرض وحَزْنها، وفى تِلا عها والوهاد، يتأمل ملكوت الله - عز وجل - ساهماً عما حوله، متوهماً أنه في وطنه ودياره.
كان كل شيء يرشح وهمه إلى الحقيقة: طبيعة الأرض، نوع الشجر، برودة الهواء، وجوه الناس، ملابسهم، لهجتهم، أصناف الثمر والخُضَر، أنواع الطيور، طراز البنيان، ينابيع المياه، قطعان الماشية، حُداء الرعاء، غناء الحصادين، أهازيج الأعراس والأفراح، مراسم الدفن والعزاء، أرتال الشباب والشوابِّ غادين إلى الحقول أو رائحين، صور ومناظر، يشاهدها أنىّ سار، وحيثما أقام يسعده مرآها، ويطربه تكرارها لا يسأم من استعادة المشاهد، ولا يملُّ من رجْعِ الحديث.
إنه في لذة ونشوة، لم يجد لها مثيلاً منذ أمد بعيد، ولكم تمنى أن يدوم ما توهمه حقيقة ليستكمل لذته ونشوته، ويقنع نفسه أنه قد تخطى الحدود، وحطم القيود، وعاد إلى الربوع التي نمته، والأهلين الذين ولدوه، والصحب الأُلى افتقدوه، وكثيرا ما كان يغمض عينيه ويردد:
مُنًى إن تكُنْ حقًّا تكُنْ أجملَ المُنى وإلاّ فقدْ عِشنا بِها زمناً رغْدَا
وذات ليلة خرج من صلاة المغرب في المسجد المجاور لمسكنه، وهمّ بالتوجه نحو بيته حيث الأسرة بانتظاره، لتناول العشاء في ضوء القمر، فوق سطح المنزل كما جرت عادتهم منذ وصلوا مصيفهم، لكنه شعر هذه الليلة - وكان القمر بدراً - بدوافع خفية تحثه على السير خارج البنيان والتأمل في سكون الليل الساجي، وضوء القمر الزاهي، واستنشاق نسمات الشمال، وقد وصلت رخية عليلة من جهة الوطن والأحبة.(/2)
لم يستطع مقاومة خواطره ومشاعره، وانطلق يرقب سير القمر وانعكاس سناه على الصخور والأشجار، والأودية والهضاب، ولحظ تمايل ظلال الأشجار - مداً وجزراً - تبعاً لمداعبات النسيم وجهة هبوبه، فأثار هذا المنظر كوامن ما اختزنت نفسه من عواطف ،وما أجنّ صدرُه من هموم وأفكار، ومضى يدندن بكلام لا تكاد تسمعه أذناه:
إن كل شيء متحركٌ ومتغير في هذا الكون: الليل يغشى النهار {يطلبُه حثيثاً}، والقمر قُدِّرت منازله {حتّى عادَ كالعُرجونِ القديمِ، والشمسُ تجريْ لمستقرٍّ لها ذلك تقديرُ العزيز العليمِ}، والنجوم مسخّراتٌ بأمْر الله - عز وجل -، الماء يجري في الأنهار، والموج يتدافع في البحار، والحَبُّ يشقُّ الأرض صاعداً في نماء، الطير في الهواء، والسمك في الماء، وما ذرأ اللهُ - تعالى - من الأناسيِّ، والأنعام والدواب، كله يغدو ويروح، في حركة دائبةٍ منتظمة، تجدد شباب الحياة والأحياء
حتى الهواء، فقد أبى مألفَ اتجاهٍ واحد، بل تعددت مهبَّاته وأوقاته، ولولا ذلك لما عرفنا الصَّبا والدَّبُور، ولا الشمأل والجنوب.
نعم، إن كل شيء متحرك ومتغير، إلا هَّم قلبي، فإنه جاثم - في الصدر - لا يبرح مقيم بين الجوانح والحشا، لا يتحول، ولا يتبدل، توالت السنون بالبأساء والنعماء، وتعاقبت الأحداث بما سرّ وساء
وجد في الأمور أمور، تبدلت - معها - القيم، وتغيرت المفاهيم، وساد الغمر، واضطُهد العليم، توارى رؤوس الناس، وعلت الذُّنابى والفروخ، حصل كل ذلك - وغيره كثير - وما أقاسيه وأمثالي - من معاناة وهموم - ثابت، تزداد وطأته، وتشتد قسوته ولا نُحس له بين هذه المتغيرات بموضع ولا مكان!
سرح الرجل مع حديث النفس ونجواها، فلم يشعر بتعب ولا إعياء - رغم طول مسيره - ونسي أن الصِّبْيَةَ وأمهم ينتظرونه على سطح المنزل، لتناول العشاء تحت ضوء القمر.(/3)
وقادته الخطى إلى تلعة من تلك التلاع المتناثرة في الفضاء الرحب، تسلق صخورها حتى علا قمتها، وجلس فوق صخرة بيضاء ملساء، وحيداً بعيداً عن الناس والبنيان: القمر سميره، والنجوم جيرانه، ونسمات الشمال زادُه وغذاؤه.
استقبل جهة الشمال بوجهه، عسى أن يلوح له بارق، أو يبدونْ من معالمها علَم شاهق، ولم لا؟
إنه على مشارف الأوطان، وليس ثمة فاصل، إلا خط وهمي، سمَّوه الحدود!
وفعلاً، بدت له أنوار القرى والبلدان، واضحة جلية، يستطيع عدها وحصر ما أدركه بصره منها، بسبب ما بين البلدة وجارتها من مسافة مظلمة، أدهشه المنظر، وكاد ينعقد لسانه، وتمتم مردداً: يا إلهي، تلك قرانا وبلداتنا!
يالروعة المآذن! إني أراها متميزة بارتفاعها واختلاف ألوان أنوارها
نعم، إنها هي، لقد أصبحت بعيدة على قرب، قريبة على بعد!
تصل منها نسمات الشمال رخية عليلة، يحمل هبوبها أنفاس الأحبة، ونشر حديثهم، وصدى مجالسهم، حتى لكأنه رأي عين، وسمع أذن، ومشاركة وجدان.
ألا ما أنداك يا رياح الشمال! وما أطيب ريَّاك، فأهلاً بك من زائر حبيب، وافى بأخبار الأحبة وحديث الأوطان على ظمأ وشوق لدى النائي الغريب!
خبرينا يا ريح الشمال - وقد اجتزت حوران والآل دونها - ما حال الأحبة على البعاد؟
أما زالوا على عهدنا؟ أم غيرهم النأي بعدنا؟ ما حال مدارج طفولتنا ومراتع شبابنا؟ أما زال خطُّنا بادياً في ثراها؟ أم طمسته الريح فانطمس ودرس؟
كيف الروابي والتلال؟ أما زالت تذكر فتيانها وهم يعانقون الأزهار في سفوحها، ويتسلقون الصخور على قُنَّاتها؟ ويجرون مع الآمال في جنباتها؟ يرسمون المنى والغد المأمول على سوق أشجارها، وينحتون واعد الأحلام في نقيِّ صفاها.
كيف الأودية والسهول؟ أما زال الربيع يعتادها، ويلون بساطها بزاهيات الألوان ووشي الجمال؟
ألا سَقْياً لأيامنا بذياك الحمى وتلك الربوع، سقياً لها، ما كان أصفى عيشها وأعذب وردها، وأحنى أهلها!(/4)
عشنا مرحلتها بشمل جامع، وحظ راتع، العمر زهو، والحياة ربيع، فلكم تتوق نفوسنا لشتائها الممطر، وربيعها المزهر، وصيفها المقمر!
وكم كان يشجينا خريفها بجيوش غيومه - وهى تغزو الصيف فى معقله - فتفل من عزمه وتكسر حدة حره، يرافقها هواؤه مفعماً بأنفاس الشتاء، منذراً كل ذي روح أن يأخذ الحيطة والحذر، مناصباً العداء كل مخضَر من الزرع والنبات مداهماً نضرة الأشجار، معرياً لها من زاهيات الحلل، ووشي الجمال، ناثراً زينتها فى رحب السهول، ومضايق الوديان:
ورقاً مائتاً تهاوى على السهلِ فغنتْ به الصَّبا والدّبُورُ
فيا لها من منازل زايلتنا السعادة حين غادرناها، ووقف بنا رغد العيش عند مغناها، ولهي - رغم الرحيل عنها - محمولة في قلوبنا: حباً زاخراً، وحنيناً صادقاً، وذكرى دائمة، لا يقطعها بؤس، ولا يضعفها نعيم:
إنيْ إلى تلك المغانيْ عاشقٌ فيها هيامي والحبيبُ الأكرمُ
سائليها يا رياح الشمال، أما اشتاقت لبنيها الذين كانوا صدوراً في مجالسها، وبدوراً في جنباتها، وأزهاراً في زاهي روضاتها؟ يزيدون جمالها جمالاً، وخيرها عطاء!
أما تساءل روضها الأغنّ عن سبب غيابهم، وسر بعادهم؟
أترينه يحنّ إليهم كما يحنون إليه؟
أو يشتاقهم كشوقهم لماضي عيشه وسالف عهده؟
يا رياح الشمال، قصّي علينا - وأنت حديثة عهد بالديار - أحاديث السمر، وجلسات السهر وما يجري فى نوادي قومنا والربوع.
أسمعينا حوار المتحاورين، وعتاب المتعاتبين، ومناجاة المحبين وهمسات العاشقين، انقلي إلينا صدى تغريد الأطيار، وحفيف الأشجار، وخرير الجداول، وأنات النواعير، وغناء الحصادين، وأهازيج الأفراح ونشيج الأتراح، وندب الثكالى، وأهات المعذبين، رددي على مسامعنا حُداء الرعاء وأنين الناي منهم في الأصائل والغروب، فطالما شجيت على الناي قلوب، وحنَّ مشتاق، وتذكر محزون، وبكى غريب!
خبريهم: أن نفوسنا إلى ديارنا مشتاقة ولمدارج طفولتنا توَّاقة.(/5)
نحنّ إليها حنين النيب إلي فصلانها، والطير إلى أعشاشها وغدرانها، نكاد نسير إليها على غوارب السحاب ونطير بخوافي العقاب، ولكنَّ السعد مُدْبر والجناح كسير.
وكيف لا نحنّ إلى ديار ناغينا الهوى فى مهدها، ورضعنا أفاويق الحب من غمامها وفى ظلال دوحها، فكانت المرضع الرؤوم والقلب العطوف.
خبرينا عن الجداول والأنهار، والينابيع والسواقي، أمازال ماؤها عذباً زلالاً؟ أم ناله من التعكير والتكدير ما نال سواه؟ أما اشتاقت مياهها للأيدي المتوضئة؟
أوَ ما حنَّت رياضها للركع السجود؟
يا رياح الشمال، قصّي علينا أخبار البساتين والكروم، فعهدي بها تزهو جفناتها بعناقيد العنب، ويحاكى رمانها قناديل الذهب.
أما زال الأحبة - كسابق العهد - يهجرون المنازل والقصور ليتفيأوا ظلالها، ويسْمروا تحت معرشاتها، وينعموا بصافي هوائها، وطيب جناها، ونغمات أطيارها؟
آه، كم تشتاق النفس إلى أريج أزهارها، وشذي ياسمينها، وعطر ورودها ممزوجاً بأصوات المؤذنين، وتسبيحات الموحدين، وهم غادون إلى صلاة الفجر، ومنها عائدون.
بنفسيَ تلك الأرضَ.. ما أطيبَ الرُّبا وما أحسَن المصطافَ والمتربَّعا
ليت شعري أيصلنَّ الدهرُ ما تصرّم من ماضي عيشنا؟ وتَرجع عشيَّاتُنا بذيّاك الحِمى؟ فنفترش القش ببيدر البلد؟ ونخوض في السواقي والأنهار، ونجني من جنباتها الحَبَقَ والريحان؟ أيعود لنوادينا روادها، ولمجالسنا أنسها وصفاؤها، ويلتئم شملنا بالأحبة مثل ما كنا: إذ العيش غض والزمان خصيب!
جنب الغدير مقامُنا نتفيّا غصناً زاهرا
والطير تصدح فوقنا فتهيج حبّاً زاخراً
أيامُ عمر قد مضت والقلب غفلٌ مادرى
أن الزمان يخونه ويُجدُّ عيشاً آخرا!
هل سيرانا القمر - من جديد - في تلك البساتين والحقول، نساهر النجم ونرعى مسيره؟
كلانا ألِف السُّهاد، وعاف الرقاد، ولم يكتحل جفناه بغمض أو منام.
كان القمر ينتظر الأفول، ونحن نرقب تشقق فجر جديد، تلوح معه بشائر الفرج والتمكين لرسالة الخلود.(/6)
إيه يا رياح الشمال، لقد جار غريمنا وقسى، حتى لكأنه طالبُ وَتْرٍ أضل غريمه فلا هو مدرك بغيته، فيشفي غيظ صدره، ولا هو ناسٍ ثأره، فيريح ويستريح، على أنه إن يكن ثمة جناية فلسنا جناتها، أو يكن هناك خيانة فلسنا أربابها، ولا أنصارها، لم نكن من دعاتها - علم الله - وكلنا بحرِّها اليوم صالي.
إي والله، لسنا من جناتها، ولا من دعاتها، ففيم نصلى بحرّها؟ وتنالنا - دون جناتها - آثار ضرها وشرها!؟
وجرمٍ جرَّه سفهاءُ قومٍ وحلَّ بغير جارمهِ العذابُ
يا رياح الشمال، ما حال مساجدنا وروادها، ومحاريبها وعبادها؟ أما زال الأذان على منائرها بلاليَّ اللحن، ووعظ منابرها سليم النهج؟
كيف شباب الدعوة وشيوخها؟ أما مازالوا يطلعون في سمائها أنجماً زاهرات، ويموجون بين سواريها أبحر خير زاخرات؟ ألا ليت الأمر كما نحب!
غير أن القلب - على البعد - يكاد يحس حزنها وأساها، ويسمع شجوها وشكواها، ولكأن هاتفاً من وراء السديم يجيب:
تغيَّر المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرار وعبدانُ
فلا الأذان أذانٌ في منارته إذا تعالى ولا الآذان آذانُ!
ويتجاوب مع رجع الصدى نبض قلبي، وعُرام مشاعري، ويغلبني الأسى والذهول لخفوت أَلَقِها، وضعف صوتها، وعجز أهلها.
آسى لمحنتها أرثي لغربتها الجرح دامٍ ودمع العين هتَّان
وبينما هو مستغرق في تأملاته ومناجاته أحس بنسمة شديدة البرودة تلامس وجهه، تلفت من حوله فإذا القمر يتضيف إلى الغروب، والليل قد مضى شطره أو يزيد! أفاق من شروده، وتنبه لما سببه غيابه من قلق لزوجه وأولاده، فعاد إليهم مسرعاً ليجدهم ساهرين - مع بقايا ضوء القمر - ينتظرون مقدمه.
كان القلق بادياً على الوجوه، وتحمل قسماتهم أكثر من سؤال واستفسار!
بادرهم بالتحية، وأخذ مجلسه بينهم، وأطلق تنهيدة مجهد، وأنشد متمثلاً:
بالشام أهلي وبغدادُ الهوى.. وأنا بالرقمتين وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى الذي صنعت حتى تُشافِه بي أقصى خراسان(/7)
ما إن أتم كلامه حتى بادره ولده الصغير - وكانت له عليه دالة أكثر من سواه - قائلاً: لقد أبطأت بالعودة يا أبي، قلقنا عليك كثيراً، واشتد بنا الجوع أكثر من طول الانتظار!! تبسم الوالد وضم إليه صغيره وقال:
فلا تَعجبْ صغيري.. إن خَطْوي على مقدار إيقاع الزمانِ
ويبدو - أيها الحبيب - أن إيقاع الزمان وألحانه بعيدة عما ألفته آذاننا وعرفته أذواقنا، ولا بد من يوم يلحِّن فيه الزمان نشيد الفطرة، ويوقعه حسب نغمات الأذان:
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.(/8)
العنوان: حوار مع الأديب الإسلامي أحمد الخاني
رقم المقالة: 1097
صاحب المقالة: حوار: محمد شلال الحناحنة
-----------------------------------------
• بفضل الله -تعالى- وعَوْنه؛ أسَّسْتُ مدرسة (بدر) الشِّعرية، منذ سنوات.
• أنا في الشعر دعوةُ والدي -يرحمه الله- ولقَّبتني إحدى المجلات بـ (النَّابغة الشَّامي!).
• رموز الأدب العالمي أنصفوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل: (برناردشو)، و(بايرون)، و(توماس كارليل)، و(جوته)، و(فولتير)، و(تولستوي).. وغيرهم!
• هناك من وَضَع الأديب الأصيل في دائرة (الفَاقَة)، وأغْدَقَ على من ابتعد عن الأصالة!
• المسرح الإسلامي يلقى تحديَّات يصعب مقاومتها!
• علينا أن نستمرَّ في تشكيل الأنشودة التي يترنَّم الطفل بها في لَعِبه ولَهْوه، وتملأ شعوره وفكره.
• كتابي: "الصالونات الأدبية، في المملكة العربية السعودية" هو معاناتي في هذه المنتديات.
• • • •
السيرة الأدبية للشاعر الدكتور أحمد عبد الرزاق الخاني زادت على ثلاثين عاماً، وقد أصدر عدَّة دواوين شعرية، حتى لقبته إحدى المجلات بـ (النَّابغة الشَّامي!)، كما كتب القصة القصيرة، والمسرحية، والنقد، وفي أدب الأطفال.
وقد التقينا به -أخيراً- في ندوة (الوفاء) الخَمِيسِيَّة، في أمسية دفيئة، فحدثنا عن كثيرٍ من الهموم الأدبية والثقافية في هذا الحوار.
1- سيرتُكَ الأدبية زادت على ثلاثين عاماً.. ما أهم ما يميز هذه السيرة برأيك، وبإيجاز؟
2- دعنا نتحدث عن الشعر، هذا الإيقاع الجميل، هذا الطائر الذي يَفِرُّ من بين أغصاننا كثيراً.. كيف أمسكتَ به؟!
3- دراستُكَ النقدية: "ملحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- للشاعر عمر أبي ريشة، رحمه الله"؛ أين تضعها اليوم في ظلِّ مهاجمة الغرب لرسولنا، صلى الله عليه وسلم؟(/1)
4- أدباؤنا العرب مازالوا يوقِّعون نصوصهم بعيداً عن وجدان الطفل المسلم!! ماذا ترى في هذا القول، كونكَ أديباً تزخر سيرتُكَ بالكتابة للأطفال شعراً ونثراً؟
5- "فتح القسطنطينية" مسرحيتان: شعرية، ونثرية، حازت المركز الأول في مسابقة وزارة التربية والتعليم السعودية عام 1409هـ. تُرى؛ ما أسباب فوز هذه المسرحية؟ وبصورة عامة؛ أين يمضي المسرح الإسلامي؟
6- كتابُكَ: "الصالونات الأدبية في المملكة العربية السعودية"؛ ما أهميَّته في مسيرة الأدب السعودي المعاصر؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الأديب الأستاذ/ محمد الحناحنة، يحفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فهذه إجاباتٌ عن أسئلةٍ تفضَّلْتُم بها..
السؤال الأول يقول:
سيرتك الأدبية زادت على ثلاثين عاماً، ما أهم ما يميز هذه السيرة؟
أوجز لك الجواب في نقطتين:
أ- في الشعر: صُغْتُ الملحمة الإسلامية الكبرى في (25000) خمس وعشرين ألفَ بيتٍ.
ب- في النثر: أسَّستُ -بفضل الله تعالى وعونه وكرمه- مدرسة (بدر) الشِّعرية، وأهم ميزاتها:
- أن مقدمتها: نظرية (الأدب القائد).
- ومدرسة (بدر) تطبيقٌ لهذه النظرية، وتدعو هذه المدرسة إلى الإبداع في الشَّكل والمضمون، وإلى الأمل.
- وإذا وُجِدَ في النصِّ ألفاظٌ بذيئةٌ؛ فإن مدرسة (بدر) الشِّعرية تحكم عليه بالسقوط، وإذا وُجِدَت ألفاظٌ تصدم عقيدتنا؛ حكمت مدرسة (بدر) عليه بالإلغاء.
السؤال الثاني:
دعنا نتحدث عن الشعر، هذا الإيقاع الجميل، هذا الطائر الذي يفرُّ من بين أغصاننا كثيراً.. كيف أمسكتَ به؟
الجواب:
أوَّل قَرْزَمَةٍ لي بالشعر كانت في المرحلة الثانوية، أذكر مقطعاً منه:
(بُرْدَاكَ مِنْ حَدِيد)..
ثم قلتُ قصيدةً، أذكر منها بيت الختام:
أخي الكشَّافُ، يا شِبْلَ الرَّواسي أخي الكشَّافُ، مَنْ عاداك خابا
ثم حمل الشعر حقائبه، وارتحل عائداً إلى وادي عَبْقَر!
في المملكة؛ تفجَّر الشِّعر لديَّ، وسبب ذلك ما يلي:(/2)
بَعثتُ إلى والدي -يرحمه الله- بعد أشهر من مجيئي إلى المملكة -حماها الله تعالى- قصيدةً، وختمتُها ببعض آيات، منها:
وأبي فارسُ قومي سابقٌ عند الرِّهانِ
صحبَ الخيلَ قديماً والنَّدي مِلْكُ العَنَانِ
فبعثَ إليَّ برسالة يقول فيها: "فهمتُ شعرَكَ يا بني، أدعو الله أن يزيدك".
ولما وصلتني الرسالة؛ تفجَّر الشِّعر على لساني فجأةً! وتملَّكتني حالٌ شعوريةٌ -وأنا أقول الشعر- لم أستطع دفعها، وناجيتُ شعراء المعلَّقات بمعارضاتٍ أصبحت ديواناً، ولقَّبتني إحدى المجلات بـ (النَّابغة الشَّامي!)؛ فأنا دعوةُ والدي، يرحمه الله تعالى.
السؤال الثالث:
دراستُكَ النقدية: "ملحمة النبي - صلى الله عليه وسلم- للشاعر عمر أبي ريشة، رحمه الله"؛ أين تضعها اليوم في ظلِّ مهاجمة الغرب لرسولنا، صلى الله عليه وسلم؟
الجواب:
إن الغرب طغَتْ عليه صفةُ الفجور، والوقاحة، وتحدِّي الشعور الإسلامي، بدوافع صهيونية، في حين كان الأدب الغربي قبل قيام دولة إسرائيل يحترم نبينا -صلى الله عليه وسلم- ويحترم أدبنا؛ ففي مجلة (الأدب الإسلامي: العدد 51)، مقالٌ بعنوان: (محمد -صلى الله عليه وسلم- في مرآة الآداب العالمية)، بيَّن أن رموز هذا الأدب وأساطين الفكر الغربي قد أنصفوا زعيم الإنسانية، نبيَّنا محمداً، صلى الله عليه وسلم..
منهم كما تعرف: (برناردشو)، و(بايرون) الذي أسلم قلبه، وإن لم يُسْلِم لسانه، و(توماس كارليل) في كتابه "بطل الأبطال"، و(جوته) الذي قال: (إذا كان الإسلام معناه السَّلام؛ فإننا جميعاً نحيا ونموت مسلمين!)، و(فولتير) و(تولستوي)، وفي الأدب الإسباني (خوان بويتصولو)، الذي تمنَّى أن يعود الإسلام إلى الأندلس!!(/3)
فـ"ملحمة النبي، صلى الله عليه وسلم" عملٌ واحدٌ. لو أن أدباءنا الأُصَلاء الغَيورين على الكلمة المضيئة عزفوا على هذا الوَتَر، وصُدِّر هذا اللَّحن إلى الآداب العالمية!! فربما نبغ جيلٌ منهم يصدِّر أدباً منصِفاً نظيفاً بحب الإسلام وأهله ونبيه -صلى الله عليه وسلم- وهذه هي مُهِمَّة مدرسة (بدر) الشعرية الرئيسة، إضافةً إلى المهمَّات الإبداعية في التعبير عن حياةٍ يريدها الشاعر المسلم.
السؤال الرابع (في أدب الأطفال):
أدباؤنا العرب ما يزالون يوقِّعون نصوصهم بعيداً عن وجدان الطفل المسلم.. ماذا ترى في هذا القول، باعتبارِكَ أديباً تزخر سيرتُكَ بالكتابة للطِّفل شعراً ونثراً؟
الجواب:
إننا أصبحنا تجاراً! نتاجر بالكلمة! نحن نكتب لنكسَب!! الأديب الأصيل لا يَلْقى التشجيع فيما يكتب، والمخطَّطات الملَّونة وضعتْ أديبنا في دائرة (الفاقَة)، وأفاضت السَّخاء على (أدب المزابل)!!!
العلاجُ:
أن يستمر الأدب الأصيل في مسيرته؛ ليشكِّل الأنشودة التي يترنَّم بها الطفل في لَعِبه ولَهْوه ومَرَحه.
أن تملأ عالمَه الداخلي، شعورَه وفكرَه، وترنيمته المحبَّبة المسكونة فيها نفسُه وفكرُه ولحنُه وإيقاعُه، ولو أن هذا الإنتاج قطرةٌ صافيةٌ تُصبُّ في بِرْكَةٍ آسِنَةٍ! وسوف تنضمُّ القطرة إلى القطرة؛ لتصبح جدولاً، إلى أن تصبح نهراً، بإذن الله تعالى.
السؤال الخامس:
"فتح القسطنطينية" مسرحيتان: شعرية ونثرية، حازت على المركز الأول في مسابقة وزارة التربية والتعليم السعودية عام 1409هـ. تُرى؛ ما أسباب فوز هذه المسرحية؟ وبصورة عامة؛ أين يمضي المسرح الإسلامي؟
الجواب:
ربما كان من أسباب فوز هذه المسرحية: أنها (المُعادِل الموضوعي) -في نفسي- لواقعنا المُخزي.
قرأتُ التاريخ، وألَّفتُ فيه "الموسوعة التاريخية" -(70) جزءاً- وقرأتُ كيف أن سبعةً وعشرين جيشاً إسلامياً هاجم عاصمة الكفر العتيدة (القسطنطينية)، إلى أن جاء محمد الفاتح، يرحمه الله.(/4)
انفعلتُ بهذه الأحداث، وصُغْتُ هذه المسرحية، وقد مُثِّلتْ في عدَّة مسارح.
إن حبي لعملي -ربما- كان أيضاً من أسباب نجاح المسرحية، بعد توفيق الله تعالى.
المسرح الإسلامي، أين يمضي؟
المسرح الإسلامي يَلْقى تحدِّيَات يصعُب مقاومتُها؛ فالجاهلية المعاصرة (تُلقي الدُّرَّ قدَّامَ الخنازير!)، فاجرةٌ، تمثِّل دعايةً للسَّم، فتنال ملايين (الدولارات).
ما أغرب هذا الخبرَ! والجهد الشَّعبي لا يستطيع أن يقاوِم؛ فلابد من جهود رسمية، والمسلم لا ييأس!
السؤال الأخير:
كتابُكَ: "الصالونات الأدبية في المملكة العربية السعودية"؛ ما أهميَّته في مسيرة الأدب السعودي المعاصر؟
الجواب:
هذا الكتاب لم يأت من فراغ، ولم أجمعه من السطور؛ إنما هو منتدى مدرسة (بدر) الشِّعرية، الذي أسَّس منتدى شيخنا عثمان الصالح -يرحمه الله تعالى- ثم هو معاناتي في هذه المنتديات الثقافية! التي رصدتُ سيرتها عن معايشة ومشاركة، وفي هذا الكتاب إضاءاتٌ لا توجد في أيِّ مصدر مدوَّن.
إن المشرف (الأكاديمي) على رسالة (الدكتوراة) يسأل صاحبها هذا السؤال التقليدي: ما الجديد في رسالتك؟
وكتابي فيه لُمَعٌ جديدةٌ، تُثرِي الأدب الإسلامي، والشعراء الذين يقلِّدون الشِّعر الحرَّ، إضافة إلى روح الشعر وشفافيته -في خَمِيسِيَّة معالي الشيخ عبد العزيز الرفاعي خاصةً- وجوِّه المعطاء، ودور الشعر فيه وقيمته؛ حيث همَّشت أكثر المنتديات دور الشعر، وحطَّت من قيمته، وجعلته ثانوياً، وبعضهم وصل به الأمر إلى حد الإلغاء!!
لقد عَرَفَتِ الصَّحافةُ العربية قيمة كتابي هذا؛ فكتبت عنه جريدة (الجزيرة) الغرَّاء في عددها (12366)، فقالت عنه: (إنه ثورة ثقافية).
أشكر لكَ أسئلتك المشحونة بالأهداف المنيرة..(/5)
العنوان: حوارٌ مع الدويش.. لقاءٌ خاص بموقع الألوكة
رقم المقالة: 1478
صاحب المقالة: حوار: تهاني السالم
-----------------------------------------
نرحبُ بالشيخ الدكتور/ محمد بن عبدالله الدويش في هذا اللقاء الماتع عن التربية، ونشكر الشيخ على تعاونه وقبوله دعوة الموقع، فشكر الله لكم، وحيهلا بكم في هذا الحوار:
1- ما مفهومُ التربية؟ وما أساليبُ التربية الناجحة؟
التربيةُ هي كلُّ جهد يسعى لبناء شخصية الإنسان.
وكل تربية ترى أن هناك نموذجاً ينبغي أن يصل إليه الإنسان، فتسعى للارتقاء به من واقعه إلى هذا النموذج.
أما الأساليبُ والوسائل فهي تختلف من عصر إلى آخر، ومن وقت إلى آخر.
وهي ليست ذات أهمية بالغة في ذاتها، إنما لما تؤدي إليه.
ومعيارُ قبولِ الوسيلة أو عدم قبولها هو مدى المساعدة في تحقيق الأهداف التي نسعى من ورائها إليها.
2- ما معيارُ قبول الناس لوسائل التربية؟
معيار قبول الإنسان للتربية يتفاوت من شخص لآخر تبعًا لعوامل عدة، ولا نستطيع أن نصنّف الناس تصنيفاً حاداً في فئتين فئة تقبل وفئة لا تقبل، بل هو مدى يتوزع الناسُ عليه.
والتربية تنطلق من أهداف تتوزع إلى مجالات ثلاث: المجال المعرِفي، والمجال المهاري، والمجال الوجداني؛ فالمجال المعرفي يسعى لإكساب المتعلم معرفةً معينة كتعريفه بصفة الوضوء.
والمجال المهاري يسعى لإكساب المتعلم مهارةً من المهارات كتطبيق التجويد في أثناء تلاوته، وكالمهارات الحركية.
والمجال الوجداني يتناول الاتجاهات والجوانب الوجدانية كإكساب المتعلم محبة القرآن الكريم.
ويتفاوت ما يتحقق لدى كل مُتَرَبٍّ من هذه الأهداف، ومن هنا فإننا نقيسُ مدى تحقق الهدف، وعلى ضوئه نقيسُ مدى النجاح الذي حققته التربية في بناء شخصية الإنسان.
3- كيف يربي الإنسانُ نفسه؟(/1)
تربيةُ الإنسانِ نفسَه هي جزءٌ من بناء النفس، وإن كانت هي وحدها غيرَ كافية، فلا يستغني الإنسانُ عن أن يتلقى جهداً تربوياً من خلال مؤسسات، ومن خلال مُرَبّين، إضافة إلى يقوم به في تربية نفسه..
وهذا الجهد في تربية النفس يتمثلُ في محورين أساسيين:
المحور الأول: جهوده التي يسلكها بنفسه في اكتساب معارف جديدة، أو مهارات جديدة، أو خبرات جديدة، أو تغيير في سلوكه السيء، أو اكتساب سلوكيات حسنة.
المحور الثاني: هو تفاعلُه مع البرامج الجماعية؛ فالإنسانُ يتلقى تربية سواء من أسرته أو من مدرسته أو من المؤسسات التربوية، واستفادتُه وتأثيرُ هذه التربية يرتبط بمدى تفاعله، فتَعَرُّضُه للتربية غيرُ كافٍ ما لم يتفاعل هو.
4- كيف ترى دور الأباء في التربية في الوقت الحالي؟
دور الأسرة عموماً والآباء خصوصا دور حيوي، وذلك أن الأسرةَ تنشأ علاقتُها مع الإنسان منذ صغره؛ منذ أن يخرج إلى الحياة وهو يتواصل مع الأسرة، إلى أن يصبح رجلاً وينفرد بحياته، ويبقى له علاقة وصلة بأسرته.
ومن هنا فدور الأباء دور مهم فيما يتعلق بتربية الأولاد سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً.
5- هل هناك قصور في التربية إذن؟
نعم لا شك أنَّ فيها ضعفًا وقصورًا..
وفي نظري أن القصورَ هو قصورٌ نوعي أكثر من غيره.
ربما يكون الوعي بأهمية التربية يتنامى عند الآباء والأمهات.
لكن المشكلة الأساسية في نظري ليست في الإهمال -وإن كان موجوداً- إنما هي في قدرة هؤلاء على التعامل مع التربية بطريقة صحيحة.
فالوعيُ بأهمية التربية لا يكفي، فلا بد أن يكون هناك قدرةٌ على ممارسة التربية بطريقة صحيحة.
6- وسائلُ الإعلام هل أثرت في التربية؟
نعم هناك جهات عديدة تشاركُنا التربيةَ، ولا يمكن أن نختزلها في جهة واحدة.(/2)
جميعُ مؤسسات المجتمع لها دور، وبالأخص وسائل الإعلام والاتصال المباشر، وحين أتكلم عن وسائل اتصال مباشر أقصد وسائلَ البث الفضائي والإنترنت والمجلاتِ والصحف؛ كل هذه الوسائل لها دور كبير جداً في مُشاركة الأسرة في التربية.
7- هل حلّت وسائلُ الإعلام مكانَ الأسرة في التربية؟
لا نستطيع أن نقول إنها حلت مكانها تماماً، لكنها أثرت كثيراً.
والتأثيرُ يتفاوت بحسب تعاطي الأفراد وتواصلهم معها، وبحسب بنائهم التربوي وما يملكونه من تحصين..
فالذين يملكون تحصيناً عالياً، وعندهم قدرةٌ على نقد هذه المؤثرات وتوظيفها، سيكون تأثيرُها السلبي فيهم محدوداً إن لم يتلاشَ، في حين إنّ هناك فئاتٍ لا يملكون التحصين الكافي، ولا يملكون القدرة على النقد والتقويم، فهؤلاء سوف يتأثرون بوسائل الإعلام وغيرها.
8- ما أبرزُ آثار وسائل الإعلام في التربية؟
هي لها آثار كبيرة جدًا؛ منها:
- أنها تؤصل لقيم سلبية، وتعطيها مشروعيةً من خلال ما تقدمه من ألوان البث الإعلامي.
- إعادة تكوين والاهتمامات القيم عند الناس؛ فهي تُعلي من اهتمامات ثانوية، وتُقلل من قضايا ذات أهمية وحيوية، ولعل ما نراه من المبالغة في الاهتمامات الرياضية والفنية ونحوها هو جزء مما صنعته وسائل الإعلام..
- تشويه الصور والشخصيات الإيجابية، في مقابل إبراز عناصر سيئة كقدوات أمام الجيل بطريقة مباشرة وبطريقة غير مباشرة.
- تقديم المعرفة بصورة لا تتفق مع المنهج الشرعي، وعرضُها بما يسوق لقبولها.
- إثارة الغرائز والشهوات لدى المتلقين.
9- التربية بالقدوة أما زالت تؤتي ثمارها؟
نعم، هي موجودة ودائمة لن تنتهي، لكن ليست بالضرورة أن تكون القدوة مقصودة ومخططا لها؛ فالإنسانُ يرى أمامه نماذجَ من الأشخاص، ونماذج من السلوك، وتؤثر فيه سواء أكان هذا النموذج مقصوداً ومخططاً له أم لم يكن كذلك.
وبناءً عليه لا يمكنُ أن تنتهي التربية بالقدوة.(/3)
والقدوة قد تكون إيجابية حسنة، وقد تكون سيئة، وقد تجمع بين خصائص حسنة وسيئة، فكل نموذج يُختلط به ويُتأثر به يُعَد قدوة.
10- الانفتاحيةُ الموجودة هل ساعدت على بناء جيل واعٍ وغرس الثقة والاعتماد على النفس في مواجهة التحديات؟
أعتقد أنه يصعب أن نقول ذلك، لكن هذا الانفتاح في نظري أدى إلى وضع تحديات عالية أمام التربية، وهذه التحديات قد يصعب على التربية مواجهتُها إذا كانت تستخدم الأدوات التقليدية التي اعتادتها.
11- ما أبرزُ هذه التحديات التي تواجه التربية في ظل الانفتاح؟
أبرز هذه التحديات:
أن الشاب والفتاة أصبحوا أمام مؤثرات كثيرة جدًا تتناقضُ مع ما يسعون إليه، فهم يتلقون توجيهاً من الأسرة، وتوجيهاً من المدرسة والمسجد، ومن أي مؤسسة تربوية أخرى سواء أكان التوجيه سلبياً أم إيجابياً، ثم يرون في الواقع ما يخالف ذلك..
ويمكن أن نصنّف هذه التحدياتِ إلى مجالين:
مجال: يتعلق بالشبهات؛ وهي التي قد تُشكك الإنسان في دينه.
ومجال: يتعلق بالشهوات؛ وهي التي قد تعمل على إثارة رغبات الإنسان وغرائزه.
12- أرباب التربية بين ثقافتي الإشباع والانغلاق أيهما برأيك أنجح بالتربية ولماذا؟
لستُ ممن يميل إلى التعامل الحادّ مع القضايا، ليس الانغلاقُ هو الخيار الصحيح، وليس الانفتاحُ المطلق هو الخيار الصحيح.
نحن نحتاج إلى قدر من الضبط؛ لأنه في الوقت نفسه يجب أن نتوقع أن أولادنا مهما سعينا لفصلهم عن الواقع فلن ننجح..
وبناءً عليه يجبُ أن نربيهم على إدارةِ أنفسِهم، ونسعى لتقليل فرص تعرضهم لهذه المؤثرات، لكن هذا لا ينبغي أن يكون مسوغًا لأن نحرمهم من كل شيء، وهنا يأتي دورُ الإقناع وبناء الشخصية القادرة على التعامل مع المتغيرات بإيجابية.
13- التربية الإيمانية ما مدى تحقيقها في هذا الوقت؟(/4)
هناك قصور كبير جداً وضعف في القيام بهذا الأمر، وأعتقد أننا نحتاج لاهتمام في هذا العصر الذي تنتشر فيه المادية، وتعلو فيه هذه القيم، ويتعرض الناس إلى مؤثرات كثيرة جدًا تتناقض مع الإيمان وحقائقه.
14- أما زالت المدارسُ والمساجد تقوم بدور التربية أم أنّ هناك تقصيراً؟
التربيةُ أمر لابد أن يحصل، وأي مؤسسة هي تربي، لكن السؤال:
هل التربية التي تقدمُها المدارس والمساجد اليوم كافية أو لا؟
هل هي متناسبة مع ما يحتاج إليه الشباب والفتيات؟ هل هي على مستوى التحدي أو لا؟ هذا هو السؤال.
أما هل هي تربي أو لا؟ فهو غير وارد؛ لأنها تربي تلقائيا بغض النظر عن طبيعة التربية.
وحينما نقول: إنها تربي وتُمارس دور التربية، فلا يعني ذلك بالضرورة أن ما تقوم به هو إيجابي، وأعتقد أن المدارس وسائر المؤسسات التربوية تقوم بدور جيد وإيجابي، لكنه أقل بكثير مما نطمح إليه.
15- لكن قد تكون تربية المدارس سلبية؟
صحيح، هي بنظري قد تخفق في تحقيق الأهداف التربوية، قد تكون أدواتُها ووسائلُها لا تتلاءم مع التحديات التربوية التي نطمح إليها، وقد تحصل هناك آثار سلبية لهذه التربية.
16- بعض الدراسات تشير أن الطفل يتعلمُ أسسًا تربوية منذ شهوره الأولى، لكن نجد تقصيرًا كبيرًا في المجتمعات الإسلامية في أساليب التربية في الصغر، فما أفضلُها، وكيف التعامل مع الصغار دون سن السابعة؟
التربية مسألة متكاملة، ولا يمكنُ أن نختزلها في مجرد العنوان.
نتكلم عن عمل وهذا العمل يشمل:
1- تحديد أهداف بشكل صحيح.
2- برامج ورؤية.
وبصورة عامة نحتاج إلى:
أن يكون عند القائمين على التربية -وأخص الأسرة- قدرة على التعامل مع هذه المراحل وفهمها أولاً بشكل صحيح، ثم التعامل معها بشكل جيد.
17- هل تؤيد الدورات التدريبية في التربية؛ كما هو الحال في الدورات التدريبية قبل الزواج؟(/5)