العنوان: بيان شيء من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -
رقم المقالة: 644
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله ذي الفضل والإحسان والكرم والامتنان اصطفى نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - على جميع بني الإنسان وأدبه فأحسن تأديبه فكان خلقه القرآن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات الحسان وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المبعوث بمكارم الأخلاق وأتم الأديان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا أخلاق نبيكم المصطفى فإنها مشتملة على القيام بحق الله وحقوق عباده وبها الحياة السعيدة والغايات الحميدة كان - صلى الله عليه وسلم - قائماً بشكر ربه منيباً إليه كثير التوبة والاستغفار ((فلقد قام يصلي حتى تورمت قدماه فقيل يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أفلا أكون عبداً شكوراً))، ((وقد خير بين أن يكون عبداً نبياً أو ملكاً نبياً فقال لا بل أكون عبداً نبيا)) وقال - صلى الله عليه وسلم - ((إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) وكان أشد الناس خوفاً من الله ((فكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه فقالت عائشة يا رسول الله الناس يفرحون رجاء المطر وأنت تعرف الكراهية في وجهك فقال: يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح)) وكان مع ذلك أعظم الناس شجاعة وأشدهم بأساً ((فلقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فتلقاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - راجعا وقد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا)) وكان - صلى الله عليه وسلم - حليما رفيقا ((أدركه أعرابي فجذبه جذباً شديداً وكان عليه برد غليظ الحاشية فأثرت حاشيته في عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شدة جذب الأعرابي فقال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ثم أمر له بعطاء)) وخدمه أنس بن مالك رضي الله عنه عشر سنين في الحضر والسفر فما قال له أف قط ولا قال لشيء صنعه لم صنعته ولا لشيء تركه لم تركته وما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده شيئاً قط لا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله وكان أحسن الناس خلقاً فلم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا(/2)
سباباً ولا لعاناً وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فيكون أبعد الناس عنه وكان أجود الناس فما سئل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداًً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة وكان أزهد الناس في الدنيا فقد خير بين أن يعيش في الدنيا ما شاء الله أن يعيش وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه وكان يلتوي من الجوع ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه ومات ولم يخلف ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً إلا سلاحه وبغلته ودرعه مرهونة عند يهودي بشعير ابتاعه لأهله وكان بيده عقار ينفق على أهله منه والباقي يصرفه في مصالح المسلمين وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله ويكون في مهنة أهله ويمشي مع الأرامل والمساكين ويجيب دعوتهم ويقضي حاجتهم ويسلم على الصبيان إذا مر عليهم وكان يمزح ولا يقول إلا حقاً وكان طويل الصمت قليل الضحك كثير التبسم وكان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ وكان محترماً مفخماً إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير وإذا سكت تكلموا وكان أشد حياء وأفصحهم لساناً وأبلغهم بياناً صلى ذات يوم الفجر فصعد المنبر فخطب الناس حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر حتى حضرت العصر فنزل فصلى ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرهم بما كان وما هو كائن. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (بسم الله الرحمن الرحيم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:1-5]بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(/3)
العنوان: بيان شيء من آداب الصيام ومفطراته
رقم المقالة: 707
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي شرع لعباده الشرائع لحكم بالغة وأسرار ورتب على صيام رمضان وقيامه إيماناً واحتساباً مغفرة الذنوب والأوزار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الغفار، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اعبدوا ربكم، وصلوا فرضكم، وصوموا شهركم، واعلموا أن من حكم الصيام وأسراره أن يكون عوناً للعبد على طاعة الله وتقواه، فيجتهد في فعل الخيرات واجتناب المحرمات، فمن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، اعمروا أوقات هذا الشهر الفاضل بالذكر والقراءة والصلاة، وتعرضوا فيه لنفحات المولى بكثرة الدعوات، وكثرة الإحسان إلى الخلق والعفو عنهم، فإن الله يحب المحسنين، ويحب العفو عن المسيئين، وجودوا على الفقراء في هذا الشهر بالزكاة والصدقات، فإن الله جواد يحب الجود، ولقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة، ولا تحقرن من المعروف شيئاً، واتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن الرجل ليتصدق بعدل تمرة من كسب طيب، فيربيها الله له حتى تكون مثل الجبل، واعلموا، رحمكم الله، أن للصيام سنناً ينبغي مراعاتها، فمنها السحور، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به وقال: ((تسحروا فإن في السحور بركة)). والأفضل تأخير السحور في آخر الليل، ففي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور)). وإذا قدم أحدكم السحور، وفرغ قبل طلوع الفجر، ونوى الصيام، ثم اشتهى أن يأكل فلا بأس أن يأكل حتى يطلع الفجر لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]. والخيط الأبيض النهار، والأسود الليل، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا، واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، وكان لا يؤذن حتى يطلع الفجر)). فإذا تبين الفجر، فإنه لا يجوز أن يتناول الصائم شيئاً مما يفطره، وإن الواجب على المؤذنين أن يتحروا، فلا يؤذنوا حتى يطلع(/2)
الفجر، ولقد سمعت أن بعض الناس يورد حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتقي بناقته عن الفجر. وهذا الحديث ما رأيناه في الكتب الصحيحة ولا أظنه يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا تسحر أحدكم فلا يحتاج أن يقول: اللهم إني نويت الصيام إلى الليل؛ لأن النية محلها القلب، والتلفظ بها بدعة، وكل بدعة ضلالة، وإذا أفطر أحدكم، فليفطر على تمر، فإن لم يجد، فليفطر على ماء، فإن لم يجد، فلينو الفطر بقلبه مثل أن تغرب الشمس، وهو خارج البلد، وليس عنده طعام ولا شراب، فينوي الفطر، ولا يحتاج أن يمص إصبعه، كما يقول بعض العوام، وينبغي عند الفطر أن يحرص على الدعاء، فإن للصائم عند فطره دعوة لا ترد، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أفطر قال: ((اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت)). واسألوا الله تعالى القبول لأعمالكم، فإن المعول عليه، ولقد كان إبراهيم الخليل وولده إسماعيل يرفعان القواعد من البيت، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وإن من علامة القبول أن يوفق العبد للتقوى، فإنما يتقبل الله من المتقين، فمن اتقى الله تعالى ظاهراً وباطناً كان حرياً بالإجابة. واعلموا أن من المفطرات الأكل والشرب والجماع، وإخراج الدم بالحجامة، فقد أفطر الحاجم والمحجوم، وإخراج القيء عمداً، وإذا خرج الدم منه بغير حجامة مثل أن يحصل له رعاف، أو ينقلع سنه، أو ينجرح شيء من بدنه، فيخرج الدم، فلا يفطر بذلك، ولا يفطر أيضاًً إذا غلبه القيء، أو داوى عينه، أو أذنه، أو قطر فيهما. وتفطر المرأة إذا خرج منها دم الحيض، وهي صائمة، وإذا طهرت في أثناء النهار، وجب عليها قضاء اليوم الذي طهرت فيه، ولا يفطر الصائم بالسواك، ويستحب له السواك كغيره في كل وقت في أول النهار وآخره.(/3)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.(/4)
العنوان: بيانُ معنى التفكر، وأن شرفَ الإنسان به
رقم المقالة: 1978
صاحب المقالة: د. عبدالرزاق مرزوكَ
-----------------------------------------
تمهيد
الحمد لله الذي دل على نفسه بآيات خلقه وكلامه، وجلَّى للمتفكرين أسرارَ الملكوت ببيانه، ثم أعلاهم بفضله منزلةً مثلى، وأفشى مدحَهم بذكره الذي لم يزل يُتلى، والصلاة والسلام على أرقى الخلق تحنثًا وإيمانًا، وأتمهم نظرًا وإيقانًا، وعلى عترته الأصفياء، وصحابته الأنقياء، ومن والاهم من المنيبين الأتقياء.
وبعدُ، فقد خصَّ الإمامُ ابن القيم -رحمه الله- شأنَ التفكر بفصول عدة من كتابه الفريد النفيس (مفتاح دار السعادة)، وبنى كلامه عن شرفه وفضيلته على أقوال السلف وأحوالهم[1]، فذكر من ذلك أن رجلا سأل أم الدرداء عن عبادة أبي الدرداء -رضي الله عنه- بعد موته، فقالت: "كان نهارَه أجمع في ناحية يتفكر".
وأن الحسن البصري -رحمه الله- قال في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146]؛ قال: "أمنعهم التفكر فيها".
ويؤيده قولُ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: "أي سأمنع فهمَ الحجج والأدلة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوبَ المتكبرين عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق، أي: كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل"[2].
وهذه الآية أشبه -في التنبيه على أن ذلك الفهم نعمة جليلة القدر؛ لا ينالها إلا أهل طاعته - بقوله تعالى: {وكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].(/1)
قال الحافظ ابن كثير: "أي نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله عز وجل، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه؛ كقوله: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]، وقال: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 185]، وقال: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِن نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفا مِّنَ السَّمَاءِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَة لِّكُلِّ عَبْد مُّنِيبٍ} [سبأ: 9]"[3].
فالتفكر لَمَّا رفعه هذا المكان العلي، وأحله هذه المرتبة السنية؛ فجعله حلية لأصفيائه، ومظهرًا للإنعام عليهم بتدبر آياته، وسبيلا إلى بلوغ اليقين الذي هو آية رضاه، كان قمينًا بأن يكون علامة على شرف الإنسان، والدليل على إدراكه سر كرامته على ربه -عز وجل-.
دلالة التفكر في اللغة:
وهذا المعنى الذي اشتملت عليه هذه الآياتُ قد ضمَّنه أهلُ اللغة بيانهم لمعنى الفكر عامة؛ كما في قول العلامة ابن فارس: "الفاء والكاف والراء: أصل في اللغة يدل على تردد القلب في الشيء؛ يقال: تفكر إذا ردَّد قلبه معتبرًا"[4].
فجعل الفكر أعم من التفكر، وأدخل في معنى التفكر الاعتبار إشارة إلى أنه شرط في حصول ثمرته.
ويدل عليه قول العلامة ابن منظور: "الفكر -بالفتح-، والفكر -بالكسر-: إعمال الخاطر في الشيء، والتفكر: التأمل"[5].(/2)
وقال العلامة الراغب -رحمه الله-: "الفكرة قوةٌ مُطرِقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روي: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله)[6]؛ .... قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمَّى} [الروم: 8]، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِن جِنَّةٍ} [الأعراف: 184]، {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 219-220].
قال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني؛ وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها"[7].
فهذه ثلاثة مراجع جعلها الراغب أركانًا لمعنى التفكر:
الأول: تقييد جولان الفكرة بموجب نظر العقل.
الثاني: قصر استحقاقها على الإنسان دون الحيوان.
الثالث: إشراك القلب في الإدراك.
وهي دالة على مناط تكريم الله تعالى للإنسان، فالعقل آية الرزانة، وصلاح القلب آية السلامة، والنظر في الملكوت بعينهما آية الاستقامة.
فأول ما تفيده هذه النقولُ أن الفكرَ يطلق على عموم إعمال الخاطر في الشيء، وأن الفكرة قوة في فطرة الإنسان فهي بمثابة وعاء له.
وثانيه: أن التفكر مشروط بالاعتبار فهو أخص، والفكر أعم؛ إذ كل تفكر فكر دون عكس.
وثالثه: أن العقل زمام التفكر يقيه سبل السدى.
ورابعه: أن القلب مستقر العبرة وملاك الانتفاع بها.
فضيلة التفكر:
وقد بين الإمام ابن القيم -رحمه الله- أن تمام الفكرة بحصول ثمرتها فقال:(/3)
"وللفكرة ثمرتان: حصول المطلوب تامًّا بحسب الإمكان، والعمل بموجبه رعاية لحقه؛ فإن العمل الصالح هو ثمرة العلم النافع الذي هو ثمرة التفكر. وإذا أردت فهم هذا بمثال حسي؛ فطالب المال ما دام جادا في طلبه فهو في كلال وتعب؛ حتى إذا ظفر به استراح من كد الطلب، وقدم من سفر التجارة فطالع ما حصله وأبصره، وصحح في هذه الحال ما عساه غلط فيه في حال اشتغاله بالطلب، فإذا صح له وبردت غنيمته له أخذ في صرف المال في وجوه الانتفاع المطلوبة منه، والله أعلم"[8].
وقد أفصح عن هذا المعنى الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- أتم إفصاح وأبلغه فقال:
"تفكرت في سبب هداية من يهتدي وانتباه من يتيقظ من رقاد غفلته؛ فوجدت السبب الأكبر اختيار الحق -عز وجل- لذلك الشخص؛ كما قيل: إذا أرادك لأمر هيأك له.
فتارة تقع اليقظة بمجرد فكر يوجبه نظر العقل؛ فيتلمح الإنسان وجود نفسه فيعلم أن لها صانعا، وقد طالبه بحقه وشكر نعمته وخوف عقاب مخالفته؛ ولا يكون ذلك بسبب ظاهر.
ومن هذا ما جرى لأهل الكهف {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} [الكهف: 14].
وفي التفسير أن كل واحد منهم ألفى في قلبه يقظة فقال: لا بد لهذا الخلق من خالق؛ فاشتد كرب بواطنهم من وقود نار الحذر، فخرجوا إلى الصحراء، فاجتمعوا عن غير موعد، فكل واحد يسأل الآخر: ما الذي أخرجك... فتصادقوا[9].
ومن الناس من يجعل الخالقُ -سبحانه وتعالى- لذلك السبب - الذي هو الفكر والنظر - سببًا ظاهرًا؛ إما من موعظة يسمعها أو يراها؛ فيحرك هذا السببُ الظاهر فكرةَ القلب الباطنة.
ثم ينقسم المتيقظون؛ فمنهم من يغلبه هواه، ويقتضيه طبعه ما يشتهي مما قد اعتاده فيعود القهقرى ولا ينفعه ما حصل له من الانتباه؛ فانتباه مثل هذا زيادة في الحجة عليه.
ومنهم من يقهر عدوُّه فيسجنه في حبس؛ فلا يبقى للعدو من الحيلة إلا الوسواس.(/4)
ومن الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا؛ فهمهم صعود وترق؛ كلما عبروا إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا.
واعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق –سبحانه- ليست مما يقطع بالأقدام وإنما يقطع بالقلوب، والشهوات العاجلة قطاع الطريق، والسبيل كالليل المدلهم؛ غير أن عين الموفَّق بصرُ فرس؛ لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، والصدق في الطلب منار؛ أين وجد يدل على الجادة، وإنما يتعثر من لم يخلص، وإنما يمتنع الإخلاص ممن لا يراد، فلا حول ولا قوة إلا بالله"[10].
وهذا كلامٌ جليل القدر قد حُشِي حكمةً وكمالَ إبصار، فانظر إلى قوله: (فاشتد كرب بواطنهم من وقود نار الحذر) ما أقوى دلالتَه على المراد من سوق كلامه -رحمه الله-، وذلك أن يقظة الفكر كلما صادفت في القلب حياةً وقصدًا، وصدقًا وصفاءً؛ تم نفعُها فارتقت بصاحبها في سماء القرب درجات، وليس أشدَّ على نفس اليقظ من مخالفة مولاه -جل وعلا- وقد بصرته يقظتُه بشدة فقره إلى رفقه وإحسانه، وانظر إلى حالهم -رضي الله عنهم- بعد الانتباه، واتقاء سبيل الشطط، والإقامة على عهد التوحيد بالإخلاص والفرار إلى الله كيف صار إلى الاجتباء والحماية والرحمة والرفق والرعاية.
وقوله: (ومن الناس من يجعل الخالق سبحانه لذلك السبب -الذي هو الفكر والنظر- سببا ظاهرا) قول العارف البصير بدلائل حكمة الله -عز وجل- في هداية خلقه إليه، فإن سبل المواطأة وإحراز ثمرة الفكرة شتى، وهذا من أتمها إعانة على الهداية، وهو تدبر القلب ما تعرضه عليه الحواس من مسموعاتها ومبصراتها أنها بصائر دالة على الخالق، حاملة على طاعته، مخيفة من أخذه عند مبارزته، وهذا من أعظم فوائد التفكر وأطيب ثماره وألذها.(/5)
وانظر إلى قوله: (..ويقتضيه طبعه ما يشتهي مما قد اعتاده..) كيف جلى به شرط الانتفاع بالتفكر قياسًا إلى ما يدعو إليه الطبع من التعلق بعوائقه، فمن وقف مع طبعه فغاية فكره لحظ مصالح عاجلته، ومن لم يأسره طبعه فتفكره في الحيطة من خسران آجلته، والله أعلم.
وكان الفراغ من تنقيحه بمراكش الحمراء الغراء ظهر يوم الاثنين سادس محرم 1429هـ.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مفتاح دار السعادة 1/180.
[2] تفسير القرآن العظيم 3/474 - 475.
[3] تفسير القرآن العظيم (3/290)، قال: "فأما ما حكاه ابن جرير وغيره عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والسدي، وغيرهم؛ قالوا: -واللفظ لمجاهد-: فرجت له السموات، فنظر إلى ما فيهن؛ حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع، فنظر إلى ما فيهن، وزاد غيره-: فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي فيدعو عليهم، فقال الله له: إني أرحم بعبادي منك؛ لعلهم أن يتوبوا ويُرَاجعوا، وقد روى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين عن معاذ، وعلي بن أبي طالب، ولكن لا يصح إسنادهما، والله أعلم".
[4] معجم مقاييس اللغة: فكر.
[5] اللسان: فكر.
[6] ثبت عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا؛ السلسلة الصحيحة (4/395، رقم 1788).
[7] المفردات: ص 643.
[8] مدارج السالكين 1/444 - 445.(/6)
[9] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وقوله: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض) يقول تعالى : وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة؛ فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم؛ وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه.
فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية؛ فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم؛ جلس تحت شجرة، فجاء الآخر فجلس عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر، وجاء الآخر، وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان؛ كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقا من حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قالرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والناس يقولون: الجنسية علة الضم".
وهذا من الحافظ ابن كثير دليل على أن إيراد مثل هذه القصة جائز لمن لم يجزم به، والله أعلم.(/7)
والحديث الذي استدل به علقه البخاري مجزومًا في كتاب الأنبياء من صحيحه، باب الأرواح جنود مجندة (6/369 فتح)، وأخرجه مسلم في كتاب البر، باب الأرواح جنود مجندة (16/185 نووي).
[10] من كتابه الباهر صيد الخاطر (ص354 - 355) باختصار يسير.(/8)
العنوان: بين الاجتماع اليهودي والتفرق العربي
رقم المقالة: 250
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله العلي الأعلى؛ كتب العز والنصر لمن حكم شرعه، وضرب الذل والهوان على من خالف أمره، لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه (إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى العباد بالشر والخير، والكفر والإيمان، والمعصية والطاعة، وجعل لكل منهما أنصارا ودعاة يدعون إليهما؛ فدعاة على أبواب جهنم، ودعاة على أبواب الجنة (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليهدي به من الضلالة، ويبصر به من العماية، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله تعالى حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أقاموا العدل، ورفعوا الظلم، ونشروا دين الله تعالى، وحكموا بين الناس بشريعته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى؛ فلا رافع للذل والهوان، ولا منجي من العذاب والنكال إلا الله تعالى، وإنما تنال رحمته، وينجى من عذابه، ويتنزل نصره بتقواه سبحانه في كل الأمور صغيرها وكبيرها، حقيرها وجليلها.
أيها الناس: أكرم الله تعالى هذه الأمة بدين جمع شتاتها، ووحد كلمتها، وأزال أسباب فرقتها، وألف بين قلوب أبنائها (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم).(/1)
فتآخى في دين الإسلام الحبشي بلال، والروماني صهيب، والفارسي سلمان، مع العربي القرشي، واجتمعت قبائل العرب على الإسلام وقد فرقتها الجاهلية سنوات عدة، وأفنت أبناءها حروب سعرت في سبيل فرس سبقت، أو ناقة عقرت، أو كلمة قيلت، يتم بسببها أطفال، ورملت نساء، وأزهقت أرواح.
لقد جاء الإسلام برابطة هي أقوى من رابطة الدم والنسب، والتراب والوطن، والجنس والعرق، واللسان واللغة (إنما المؤمنون إخوة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم) رواه أبوداود.
ومثلهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تألمت سائر الأعضاء الأخرى بسببه، وقطع عليه الصلاة والسلام كل طريق للنعرات والعصبيات الجاهلية فأعلن في أصحابه قائلا (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن) ولما عير رجل رجلا بنسبه أغلظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(إنك امرؤ فيك جاهلية) ولما تفاخر بعض الأنصار بأيامهم في الجاهلية، وانتخوا بها غضب عليه الصلاة والسلام وقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم).
وكل هذا النكير لأي عصبية إلا عصبية الإسلام إنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم أن تتحد الأمة على دين الله تعالى؛ ليكون أقوى لها، وأجمع لأمرها، وأمضى لعزمها، وليس شيء أعظم سببا للفشل والهزيمة من التفرق والاختلاف (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).(/2)
وفي قضية فلسطين التي تعد أطول قضية معاصرة للمسلمين، وأكثر قضاياهم تعقيدا، وظهر فيها فشل المسلمين في حسمها حربا، كما فشلوا في حلها سلما؛ نجد أن أعظم سبب لهذا الفشل: التفرق والاختلاف، الذي نتج عن تبديل الرابطة الدينية بروابط قومية ووطنية، ونقلت بسببه القضية من ميدانها الشرعي إلى ميادين الجاهلية.
لقد افتتح العربي القرشي المسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيت المقدس، واستلمه من أئمة النصارى، وكان في جيشه رومان وفرس وأحباش مسلمون، كما كان في جيشه أخلاط من قبائل العرب المختلفة لا ينتخون إلا بالإسلام، ولا يعرفون رابطة غير رابطة الإيمان.
ولما احتل الصليبيون بيت المقدس في وقت ضعف فيه المسلمون واختلفوا وتفرقوا أعادها إلى حضيرة الإسلام بعد تسعين سنة من الاحتلال صلاح الدين الإيوبي الكردي المسلم، وكان جيشه أخلاطا من العرب والفرس والكرد والترك وغيرهم، لا يجمعهم إلا الإسلام، فلم ينسبوا هذه المنقبة العظيمة لجنس دون جنس، ولا استعلى بها عرق على عرق، بل كانت منقبة للمسلمين كمسلمين وكفى.(/3)
ولما ضعفت الأمة الإسلامية في القرن الماضي، وطمع في ضعفها شياطين الغرب من أحفاد الصليبيين، وأبناء الصهاينة، ورأوا أن الفرصة مواتية لتوطين اليهود في فلسطين تمسك بها السلطان العثماني التركي عبد الحميد الثاني، وأصدر القرارات تلو القرارات للحفاظ عليها، ومنع اليهود من الهجرة إليها، ورغم ما كانت تعاني منه الدولة العثمانية من الضعف والانحطاط، وانهيار الاقتصاد، وتراكم الديون فإن السلطان العثماني التركي لم يبع فلسطين العربية الإسلامية لليهود، وقد حاول كبراء اليهود والنصارى المرة بعد المرة لإغرائه بذلك، وقابله كبير الصهاينة آنذاك هرتزل ثلاث مرات لشراء فلسطين من الخلافة العثمانية التركية، ولكن السلطان رفض ذلك، وكاتبوه فيها كثيرا فلم يفلحوا، وأراد رحمه الله تعالى أن ييأسهم من طمعهم فيه فأرسل رئيس وزرائه إليهم برسالة يقول فيها (انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض؛ فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها، وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن . أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى أرض فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية، وهذا أمر لا يكون.إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة).
لقد حافظ السلطان رحمه الله تعالى عليها من منطلق إسلامي لا من منطلق قومي أو وطني أو عرقي، وإلا لباعها لليهود وسلمت له دولته التركية، وليلق العرب مصيرهم مع اليهود.(/4)
وما ظفر العرب بفلسطين إلا على أنقاض الدولة العثمانية بعد أن عملت جمعياتهم عملها في المسلمين، ففرقتهم ومزقتهم، وأبدلت انتماءهم إلى القوميات العرقية بدل انتمائهم إلى دينهم، فاستبدل ملاحدة الترك القومية التركية الطورانية بدل الدين، كما استبدل ملاحدة العرب القومية العربية بدل دينهم، فقسمت الأمة الواحدة إلى عرب وترك، ثم إلى قوميات أخرى متفرقة، وقسمت بلدانهم إلى دول شتى، ففرقتهم العصبيات الجاهلية وقد جمعهم الإسلام.
وفي أخريات القرن الماضي زادوا التفرق تفرقا باختلافهم في التحالف مع القوتين العظميين؛ فدول منهم أعلنت ولاءها للمعسكر الإلحادي الشيوعي الشرقي، ودول أخرى انضمت إلى المعسكر الإلحادي الليبرالي الغربي، واشتدت العداوات بينهم في سبيل تلك التحالفات التي لم تكن في صالحهم، وسعرت حروب في بلدانهم تستنزف أموالهم، وتدمر عمرانهم، وتهلك شعوبهم، ليس لهم فيه نصر، وهزيمتها عليهم، فنصرهم فيها للدول العظمى التي تحركهم.
ثم لما استفاقوا بعد خسارتهم للعديد من الحروب مع اليهود، وانتهاء الحرب الباردة، وبدل أن يجتمعوا على رابطة الإسلام وقد تجرعوا غصص التفرق عقودا متتابعة؛ عادوا مرة أخرى إلى تفرق جديد باسم الوطنية والقطرية، وصار دعاة القومية بالأمس يلعنونها اليوم، ويسخرون من رفاق الأمس، ويهزئون بشعاراتهم، ويدعون إلى الانكفاء على الأوطان، وعدم الاهتمام بالآخرين مهما كانت حاجتهم إلينا، ولو كانوا إخوة لنا.(/5)
وفي مراحل هذا التحول من الأمة الجماعة التي تنضوي تحت لواء الإسلام إلى دويلات وجماعات متفرقة مختلفة، بينها من التناحر والعداوات أشد مما بينها وبين أعدائها من اليهود والنصارى، نجد أن القضية المركزية وهي قضية فلسطين انتقلت إلى مراحل التفرق هذه، وتأثرت بكل مرحلة منها؛ فانتقلت في أول مرحلة من كونها قضية إسلامية، جاءت نصوص شرعية في فضلها وفضل مسجدها إلى قضية عربية لا دخل لغير العرب فيها؛ فأدخل غير المسلمين فيها من نصارى العرب ويهودهم وملاحدتهم، وأخرج المسلمون غير العرب منها، وهم أكثر من العرب وأقوى، فضعف حظ العرب فيها، ولم يخجلوا حين أخرجوا أعاجم المسلمين منها - وهم يقرئون في التاريخ - أن كرديا أعادها إليهم من براثن الصليبيين، وأن تُركيَّاً خسر سلطانه ولم يتنازل عنها، ومزقت دولته بسببها، ثم لما انفرد العرب بقضيتهم أضاعوها.
وما مضت سنوات قلائل إلا ودخلت القضية المرحلة الثانية من التفرق، فانتقلت من كونها قضية عربية تهم كل عربي إلى قضية قطرية وطنية، شأنها لأهلها وللمجاورين لها من دول الطوق، ولا علاقة لبقية العرب بها.
ثم دخلت القضية مرحلة التفرق الثالثة فأضحت قضية فلسطينية لا شأن لأحد بها إلا أهلها، وانفردت دول الطوق بصلح واتفاقات مع العدو الغاصب؛ ليتركوا إخوانهم في الدين والعروبة يواجهون عدوهم وحدهم. ولربما أعان بعضهم اليهود على إخوانهم من باب المصلحة الوطنية التي استقر العرب في آخر تفرق لهم عليها، ملغين كل الروابط الشرعية والعرقية واللغوية بينهم وبين إخوانهم.
بل تجري محاولات حثيثة من اليهود وأعوانهم لمشروع تفرق رابع بين الفلسطينيين أنفسهم، وإشعال الحروب والفتنة بين فصائلهم وأحزابهم؛ ليفني بعضهم بعضا، ويستريح اليهود من حربهم معهم.(/6)
وأمراض التفرق التي أصابت المسلمين حتى حلت الأثرة محل الإيثار، وسادت الأنانية في الناس، واستعلت المصالح الشخصية الآنية على المصالح العامة ليس أهل فلسطين بمنأى عنها؛ فهي أوبئة انتشرت في المسلمين لما استبدلوا الروابط الجاهلية التي فرقتهم وأضعفتهم، برابطة الدين التي جمعتهم وقوتهم.
وأعجب من ذلك أن الأعداء الصهاينة والصليبيين لم يرضهم بعد ما في المسلمين من أدواء التفرق والاختلاف، ويريدون تقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ، بإثارة النعرات العرقية والطائفية في الدولة الواحدة ليقسموها إلى دويلات أخرى، ويعلنون ذلك على الملأ، وينشرونه في وسائل إعلامهم، وما حرك ذلك ساكنا في المسلمين، ولا دفعهم للإحساس بالخطر على دولهم، ومحاولة جمع أمرهم، وتوحيد صفهم، ومقاومة تلك المشاريع التوسعية الصهيونية.
وفي ذات الوقت نرى الصهاينة يجمعون في فلسطين ما تفرق من أبناء اليهود على اختلاف بلدانهم وأعراقهم ولغاتهم، ففيهم من أتوا بهم من أسواق البورصات العالمية في الدول المتقدمة، وفيهم من أتوا بهم جبال اليمن وأدغال أفريقية، ولم يمنعهم هذا التباين بينهم من أن تجمعهم الرابطة اليهودية، حتى جمعوهم في دولتهم النشاز مما يزيد على ستين دولة في الشرق والغرب.
فواعجبا لأهل الحق وهم لم يجتمعوا على حقهم، وواعجبا لأهل الباطل وقد اجتمعوا على باطلهم، وإلى الله تعالى المشتكى من أهل الذلة والمسكنة وقد صاروا في هذا الزمن أهل عزة وقوة، ومن أهل العزة والقوة وقد فرطوا في أسباب عزتهم وقوتهم، فصاروا إلى ما ترون من الضعف والهوان.(/7)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ناصر أوليائه، ومذل أعدائه، أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
أما بعد: فاتقوا الله - أيها المسلمون - وأطيعوه؛ فإن ما في المسلمين من أدواء التفرق والضعف والهوان لا يرفع إلا بنصر من الله تعالى، ونصره سبحانه لا ينال إلا بتقواه وطاعته (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)
أيها المسلمون: ينطلق اليهود في مذابحهم ضد أهل فلسطين من منطلقات دينية يزعمون أنهم يتقربون بها إلى الله سبحانه، تعالى الله عن ظلمهم وإجرامهم علوا كبيرا.(/8)
ولا يرى اليهود فرقا بين المقاتلين وغير المقاتلين، ولا بين الرجال والنساء والأطفال؛ فالجميع هدف لذابحهم التوراتية التلمودية، بل إن في عقائدهم المحرفة أنهم إذا سيطروا على الأرض أبادوا المسلمين، وأبادوا النصارى معهم، وأبادوا كل من لم يكن يهوديا، وهذه العقيدة مقررة في كتبهم التي يتعبدون بها، ويصدرون عنها، وترسم سياستهم مع الآخرين ويعلن بها حاخاماتهم على الملأ دون خوف ولا وجل، يقول الحاخام ابراهام شابير في رسالة وجهها للشبيبة اليهود:(نريد شباباً يهودياً قوياً أو شديداً، نريد شباباً يهودياً يدرك أن رسالته الوحيدة هي تطهير الأرض من المسلمين الذين يريدون منازعتنا في أرض الميعاد، يجب أن تثبتوا لهم أنكم قادرون على اجتثاثهم من الأرض، يجب أن نتخلص منهم كما يتم التخلص من الميكروبات والجراثيم).
ويصرحون بأن الدين الإسلامي والتزام تعاليمه، وأن القرآن الكريم والعمل به هو العقبة الكأداء التي تحول بينهم وبين مشاريعهم التوسعية الإجرامية، يقول الحاخام الشرقي الأكبر لإسرائيل مردخاي الياهو (لنا أعداء كثيرون، وهناك من يتربص بنا وينتظر الفرصة للانقضاض علينا، وهؤلاء بإمكاننا عبر الإجراءات العسكرية أن نواجههم لكن ما لا نستطيع مواجهته هو ذلك الكتاب الذي يسمونه (قرآناً) هذا عدونا الأوحد، هذا العدو لا تستطيع وسائلنا العسكرية مواجهته) ويقول الحاخام إسحاق بيريتس (إذا استمر ارتفاع الأذان الذي يدعو المسلمين للصلاة كل يوم خمس مرات في القاهرة وعمان والرباط فلا تتحدثوا عن السلام).(/9)
إذن فالمراد هو إبعاد المسلمين عن كتاب ربهم مصدر قوتهم وعزتهم، وسلخ المسلمين من دينهم حتى لا ينادى بالأذان فيهم، هذا ما يريده اليهود كما هو واضح من نصوصهم، وهذا ما يقوم به وكلاء اليهود في بلاد المسلمين من تجفيف منابع التدين، ومحاربة الدعوة، وحلقات تحفيظ القرآن، والسعي للقضاء على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باسم محاربة التطرف والإرهاب الذي هو الإسلام عند اليهود والنصارى ووكلائهم.
والعجيب أن من أدبيات اليهود، ومقتضيات عقائدهم: عدم التورع عن قتل وكلائهم، والناشرين لمشاريعهم، والمسوقين لمبادئهم في البلاد العربية، ولا يخرجونهم من أهدافهم؛ لأنهم يحتقرون عرقهم وجنسهم، ولو كانوا ذوي خدمة لهم، وفي حرب ثلاثة وسبعين وزع على قواتهم التي تخوض الحرب كتابا يتضمن تعليمات لجندهم قالوا فيه:(ينبغي عدم الثقة بالعربي في أي ظرف من الظروف، حتى وإن أعطى انطباعاً بأنه متمدن، ففي الحرب يسمح لقواتنا وهي تهاجم العدو بل إنها مأمورة بقتل حتى المدنيين الطيبين أي: المدنيين الذين يبدون طيبين في الظاهر).
تلك عقائدهم التي ينطلقون منها في قتل إخواننا في فلسطين، وقد سمعتم ورأيتم المذابح التي قاموا بها هذه الأيام، ولم يفرقوا فيها بين طفل ولا امرأة ولا شيخ مسن، وقد عجز العرب عن فعل شيء كما يعجزون في كل مرة.
إنه لا مخرج للمسلمين من هذا الضعف والهوان إلا باجتماع كلمتهم، والقضاء على أسباب تفرقهم، ولن يجمعهم إلا دين الله تعالى، كما لم يجتمع العرب في تاريخهم، ولم ينالوا العزة والسيادة إلا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وانضواء العرب تحت لواء الإسلام، ولن يتم للمسلمين اجتماع وتتوحد كلمتهم إلا بالتوبة من الذنوب، والرجوع إلى الله تعالى، وتعظيم أمره، واجتناب نهيه، وتحكيم شريعته.(/10)
يجب على أهل السياسة من المسلمين أن يتوبوا إلى الله تعالى من خطاياهم السياسية التي يبنون بها العلاقات على المذاهب البراجماتية النفعية بعيدا عن الولاء والبراء والمبادئ والقيم .
كما يجب على أهل الاقتصاد أن يتوبوا من خطايا الربا والغش والاحتكار وغيرها من أنواع المعاملات المحرمة.
ويجب على أهل الإعلام أن يتوبوا من خطايا تزوير الحقائق، والكذب على الناس، والاستماتة في صرفهم عن دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم، وإفسادهم بأنواع الشهوات.
ويجب على كل عاص من المسلمين أن يتوب من معصيته؛ طلبا لنصر ربه، وجلبا لعزة أمته، وليشعر أن ذنبه كان سببا في تسلط اليهود على إخوانه في فلسطين، وهو سبب لتسلط الأعداء على المسلمين في كل مكان؛ فإن أحس كل مسلم بهذا الإحساس، وسيطر عليه هذا الشعور، نجوا بإذن الله تعالى من تبعة الذنوب، ومن التقصير في حق إخوانهم المستضعفين، وتنزل نصر الله تعالى عليهم (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) وصلوا وسلموا على نبيكم...(/11)
العنوان: بين الحلم والغضب
رقم المقالة: 1980
صاحب المقالة: الشيخ عبدالمحسن بن عبدالرحمن القاضي
-----------------------------------------
بين الحلم والغضب
ملخَّص الخطبة:
1- فضل الحِلْم في الإسلام.
2- سيد الحلماء محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم.
3- القوي مَنْ يملك نفسه عند الغضب.
4- الحِلْم فطريٌّ ومُكتسبٌ.
5- الآثار الخبيثة للغضب.
6- أحوال الغضب.
7- إنما الحِلمُ بالتَحَلُّم.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
ها هو رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - يدخل مكة فاتحًا، فيجد فيها أعداءه الذين آذوه وقاتلوه، وعذَّبوا أصحابه، وأخرجوه من بلده التي هي أحبُّ أرض الله إلى الله وأحبُّها إليه، لكنه ما لبث بعد ثمانية أعوامٍ أن عاد إليهم وقلبه مُفْعَم بشكر الله على نصره وإنجاز وعده له، كان ممتطيًا ناقته القَصْواء وسار بها حتى بلغ الكعبة فطاف بالبيت سبعًا، وجلس رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المسجد والنَّاس من حوله والعيون شاخصةٌ إليه، ينتظرون ما هو فاعلٌ بأهل مكَّة، في تلك اللحظات تَطََّلعَ القوم إلى معرفة صنيعه بأعدائه. فخطبهم ثم سألهم: ((يا معشر قريش، ما تظنُّون أنِّي فاعلٌ بكم)). قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم. قال: ((فإنِّي أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}، اذهبوا فأنتم الطُّلقاء)).
ما أجمل العفو عند المقدرة، وما أجمل الحِلْم والصَّفْح بدلاً من الغضب والثأر! إنَّ إيذاء أو مقاتلة أولئك الجهَّال لم يَطيش له حِلْم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّ الشُّقََّة بعيدةٌ بين رجل اصطفاه الله رسولاً خاتمًا وبين قوم سفَّهوا أنفسهم وتهاووا على عبادة الأصنام.(/1)
إنَّها جاهليةٌ عالج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَحْوَها، كانت تقوم على نوعَيْن من الجهالة: جهالة ضدّ العلم وأخرى ضدّ الحِلْم، فأمَّا الأولى: فتقطيع ظلامها يتمُّ بأنواع المعرفة وفنون الإرشاد، وأمَّا الأخرى: فكفُّ ظُلْمُها يعتمد على كَبْح الهوى ومنع الفساد والجهل الذي كان العرب يفتخرون بأنَّهم يلقونه بجهلٍ أشدّ.
أَلا لا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
فجاء الإسلام يكفكف من هذا النزوات، ويقيم أركان المجتمع على الفضل، فإن تعذَّر فالعدل، ولن تتحقَّق هذه الغاية إلا إذا هَيْمَن العقل الرَّاشد على غريزة الجهل والغضب.
أيُّها الإخوة المؤمنون:
كثيرٌ من النَّصائح التي أسداها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - للنَّاس كافَّةً كانت تتَّجه إلى تشجيع الحِلْم علاجًا لغريزة الغضب، ولذلك عدَّ المسلمون مظاهر الطَّيْش والتَّصدِّي، والعنف والأذى، شرودًا من القيود التي ربط بها الإسلام الجماعة المسلمة لئلاَّ تميد ولا تضطرب؛ يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((سباب المسلم فسوقٌ وقتاله كُفرٌ))؛ رواه البخاريُّ.
إنَّ من النَّاس مَنْ لا يسكت عن الغضب؛ فهو في ثورةٌ دائمةٌ، وتغيُّظٌ يطبع على وجهه العبوس، إذا مسَّه أحدٌ بأذى ارتعش كالمحموم، وأنشأ يرغي يزبد، ويلعن ويطعن، والإسلام بريءٌ من هذه الخِلال الكَدِرَة؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس المؤمن بالطَّعان ولا اللعَّان، ولا الفاحش البذيء))؛ رواه التِّرمذيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ.
ولقد حرم الإسلام المهاترات وتبادل السِّباب، وكم من معاركَ ضاريةٍ تُبتَذَل فيها الأعراض وتُنتَهك فيها الحُرُمات، وما لهذه الآثام من علَّة إلا تسلُّط الغضب، وضياع الأدب، وأوزارها تعود على المُوقِد الأوَّل لجمرتها، يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المُسْتبَّان ما قالا، فعلى البادئ منهما، حتى يعتدي المظلوم))؛ رواه مسلمٌ.(/2)
أيُّها الأخُ المسلم :
إنَّ المسلَك الأمثل في ذلك كلِّه، والذي يدلُّ على العظمة والمروءة دائمًا: هو أن يبلغ المرء غضبه فلا يَفْجُر، وأن يقبض يده فلا يَقْتَصّ، وأن يجعل عَفْوَه عن المُسيء نوعًا من شكر الله الذي أَقْدَرَهُ على أن يأخذ حقَّه إذا شاء، قال الأحنف بن قيس: "احذروا رأيَ الأوغاد". قالوا: وما هم؟ قال: "الذين يرون الصَّفْح والعفو عارًا".
إنَّ كمال العِلْم في الحِلْم، ولين الكلام مِفتاح القلوب، يستطيع المسلم من خلاله أن يعالِج أمراض النُّفوس وهو هادئ النَّفس مطمئن القلب، لا يستفزُّه الغضب، ولا يستثيره الحَمَق، فلو كان الدَّاعي سيِّء الخُلُق، جافيَ النَّفس، قاسيَ القلب - لانفضَّ من حوله الناس، وانصرفوا عنه فحُرموا الهداية بأنوار دينهم، فعاشوا ضُلاَّلاً وماتوا جهَّالاً، وذلك هو الشقاء، وهو سببه وعلَّته.
وتتفاوت درجات النَّاس في الثَّبات أمام المُثيرات، فمنهم مَنْ تستخفُّه التَّوافه فيَسْتَحْمِقُ على عجلٍ، ومنهم مَنْ تستفزُّه الشَّدائد فيبقى على وقعها الأليم، محتفظًا برجاحة فكره، وسَجَاحة خُلُقه. وأمَّا الرَّجل الحليم حقًّا: هو مَنْ إذا حلَّق في آفاق دنيا النَّاس اتَّسع صدره وامتدَّ حِلْمُه، وعذر النَّاس والتمس المبرِّرات لأغلاطهم، فإذا ما عدا غرٌّ يريد تجريحه، نظر إليه من علوٍّ، وفعل ما كان قال الأحنف بن قيس - رحمه الله -: "ما آذاني أحدٌ إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاثٍ: إن كان فوقي عَرَفْتُ له فضلَه، وإن كان مثلي تفضلَّتُ عليه، وإن كان دوني أكرمتُ نفسي عنه". انتهى كلامه رحمه الله، وهو المشهور بالحِلْم، وبذلك ساد عشيرته.
عباد الله:(/3)
اعلموا: أنَّ الحليم إمَّا أن يكون حليمًا مفطورًا على الخير مجبولاً عليه، وهذا كأَشَجِّ عبد القيس، الذي قال له رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ فيك خَصْلَتْين يحبُّهما الله ورسوله، الحِلْم والأناة)). فقال: أشيءٌ تخلَّقْتُ به أم جُبِلْتُ عليه يا رسول الله؟ فقال له رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: "لا؛ بل جُبِلْتَ عليه)). فقال: الحمد لله، جَبَلَنِي على خَصْلَتَيْن يحبُّهما الله ورسوله؛ رواه مسلمٌ.
وإمَّا أن يكون الحليم ثائرَ النَّفس، أزعجه مَنْ ظَلَمَه؛ فيصبر محتسبًا ويصفح قادرًا، ويأمره إيمانه بالعُرْف والعَفْو عن الجاهلين، وهذا هو المُثاب في الدُّنيا والآخِرة، والمشكور عند الله وعند خَلْقِه، وهو الموصوف بالشدَّة والقوَّة، كما في قول الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس الشَّديد بالصُّرَعَة، ولكنَّ الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب))؛ رواه البخاريُّ ومسلمٌ، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام فيما رواه أحمد وغيره بسندٍ صحيح: ((مَنْ كَتَمَ غيظًا وهو قادرٌ أن يُنْفِذَه؛ دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيِّره من الحُور العِين، يزوِّجه منها ما شاء)).
أيُّها النَّاس:
قلَّة الحِلْم وكَثْرَةُ الغضب آفتان عظيمتان، إذا انتشرتا في مجتمعٍ ما قَوَّضتا بُنيانه، وهدمتا أركانه، وقادتا المجتمع إلى هوَّة سحيقة، ونخرتا كما السُّوس في جسر المجتمع المسلم حتى يؤدِّي به إلى الهلاك والعياذ بالله، ألسنا نرى ضياع المجتمعات الإسلامية واندثار آدابها، وكثرة الخلافات بين دولها وشعوبها، فساعد ذلك على تقطيع الأواصر والرَّوابط، وإشاعة أجواء التَّباغض والتَّدابر والتَّحاسد، وإظهار الشَّماتة على الأمَّة المسلمة من قِبَل أعدائها؛ يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، ويعطي على الرِّفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه))؛ رواه مسلمٌ.(/4)
انظروا مثلاً إلى الحالات المتعدِّدة والمنتشرة للطَّلاق أو ما يكون بين الزَّوجين من شقاق، مما أدَّى إلى التفريق، وهدم البيوت، وتقويض الأُسَر، أليس ذلك - في الغالب - نتيجةً للغضب وقلَّة الحِلْم؟ حيث ترى الزَّوج بعد ذهاب غضبه يندم - ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ - ويتأسَّف على ما مضى، ويرى أنَّه قد جنى على نفسه بالحرمان وعلى زوجته بالعقوبة ولا ذنب لها، ويتَّم أولاده وهو لم يزل حيًّا، ثم يبحث لنفسه عن المعاذير، ويقلِّب في الفتاوى لدى المُفْتِين لمحو غلطة ارتكبها دون تفكير أو رويَّة، أو تدُّرجٍ في التَّأديب، مما تسبَّب في هدمٍ كان بإمكانه علاجه لو ملك عقله، وأشهر حِلْمَه، وكفَّ غضبه.
من نتائج الغضب وثمراته: أنَّك ترى إخوةً من أبٍ واحدٍ يختلفون فيما بينهم لأتفه الأسباب، فيعمل الغضب فيهم عمله فيتعادون ويتقاطعون، فيتبدَّد بذلك شَمْل الأُسَر، وتراهم يتسابُّون ويتشاتمون وقد أخذهم الغضب كلَّ مَأْخَذ.
هذا هو الغضب - إخوتي - الذي ينبغي علينا تجنُّبه والحذر منه، أعاذنا الله وإيَّاكم من الغضب، ومن سوءه وآثاره، ورزقنا وإيَّاكم الحِلْم والتحلُّم، إنَّه سميعٌ مجيبٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. [آل عمران: 133-134]
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم..
الخطبة الثَّانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام ...(/5)
اتَّقوا الله - تعالى - واعلموا أنه يجب علينا جميعًا أن نعمل بتعاليم ديننا الحنيف، وأن نأخذ بإرشادات نبيِّنا - صلوات الله وسلامه عليه - كما يجب علينا أن نَقْصر أنفسنا عن الغضب، ولا نتسرَّع فيما يعود علينا بالحسرة والندامة، والمرء المسلم مطالبٌ بكتمان غَيْظه وإطفاء غضبه بما استطاع من تحلُّم وتصبُّر، واستعاذة بالله من النَّفس والهوى والشَّيطان، وعليه أن يترفق أوَّلاً: في أهله، وثانيًا: برعيته وجيرانه، وعملائه ومواطنيه، فلا يكون بغضبه عونًا لزوجته على النُّشوز، ولأبنائه على العقوق، ولأقاربه على القطيعة، ولجيرانه على الإساءة، ولرعيَّته على التمرُّد، وللنَّاس كافةً على هجره ومجانبته، وهذا ما نراه دائمًا في حال مَنِ اشتهروا بالغضب والحرارة الزَّائدة.
أيها الإخوة المؤمنون:
إنَّ الغضب يختلف في دنيا النَّاس باختلاف الأحوال والظُّروف، لكنه - غالبًا - لا يخرج عن ثلاثة أحوال:
الأوَّل: حال الاعتدال، بأن يغضب ليدافع عن نفسه أو دِينه أو عِرْضه أو ماله، ولولا ذلك لفسرت الأرض بانتشار الفوضى وتقويض نظام المجتمع، لكن غضبه هذا ينبغي أن يكون مقترنًا بالحكمة والمعرفة والعقل الرَّشيد.
الحالة الثَّانية: أن يخطوَ الغضب عن الاعتدال، بأن يضعف في الإنسان أو يفقد الحِلْم بالكليَّة، وهذه الحال مذمومةٌ شرعًا، لا سيَّما إن تعلَّقت بانتهاك حرمات الله؛ تقول عائشة - رضيَ الله عنها -: ((ما ضرب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شيئًا قطُّ بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما نِيْل منه قطُّ فينتقم من صاحبه، إلاَّ أن يُنْتَهَكَ شيءٌ من محارم الله فينتقم لله تعالى))؛ رواه مسلمٌ.
الحالة الثَّالثة: أن يطغى الغضب على العقل والدِّين، وربَّما جرَّ صاحبه إلى ارتكاب جرائم كبيرة، وموبقات كثيرة.(/6)
ولا يمكن التخلُّص من هذه العقبة إلا بفعل ما أرشد إليه عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إذا غضب أحدكم فليسكت))؛ رواه أحمد. واستبَّ رجلان عند النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - فاحمرَّ وجه أحدهما غضبًا؛ فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنِّي لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم لذهب عنه ما يجد))؛ رواه البخاريُّ.
وقد ثبت عنه أنه أمر الغضبان بالوضوء؛ لأنَّه يطفئ الغضب كما يطفئ الماءُ الناَر. نسأل الله - جلَّ وعلا - أن يُلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرَّ نفوسنا، وأن يهدينا سُبُلَ السَّلام، وصلُّوا وسلِّموا - يا عباد الله - على مَنْ أمركم الله.(/7)
العنوان: بين المصلحين والمفسدين (1)
رقم المقالة: 1018
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
بركة المصلحين
الحمد لله؛ خلق الإنسان وكلفه، وجعل له عينين، ولسانا وشفتين، وهداه النجدين، أحمده وأشكره؛ فقد هدانا إلى صراطه المستقيم، ودلنا على دينه القويم، وجعل الجزاء عليه جنات النعيم.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظم سلطانه وقهره، فلا يكون شيء إلا بأمره، وكل الوجود تحت حكمه {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الناس بربه وأتقاهم له، كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه الشريفتان؛ شكرا لخالقه، ومحبة له، واعترافا بفضله، ورجاء لرحمته، وخوفا من عذابه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد : فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فهي وصية الله لنا وللأمم قبلنا {وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131].(/1)
أيها الناس: عندما يعلو أهل الباطل على أهل الحق، وتكون الغلبة لأصحاب الضلالة على أتباع الحق، ويدال لجند الشيطان من عباد الرحمن؛ فإن المفاهيم تنقلب، وتنتكس الموازين، ويكون الحكم على الأشياء بميزان القوة، لا بميزان الشرع والعقل والحق والعدل، كما هو واقع البشرية في هذا العصر؛ إذ يقرر الحق والباطل شهوات القوي الغالب، فردا كان أم دولة أم أمة، وعلى جميع البشر الخضوع لهذا القانون الجائر مهما كان موغلا في الظلم والعسف، ولو كان مغرقا في الشذوذ والجنون.
ولما كان المسلمون في هذا العصر أمة مختلفة متفرقة مستباحة مستضامة؛ فإن أهل الشر والفساد، من أهل الكفر والنفاق؛ هم من يقرر ميزان الحق والباطل، ويميز المصلح من المفسد، بل يتعدى ذلك إلى الحكم على شريعة الله تعالى، والجراءة على نقدها وردها، وبيان ما يصلح منها وما لا يصلح، وإلزام المسلمين بما حكمت به أهواؤهم المنحرفة، وعقولهم السقيمة، تحت مسميات الإصلاح ونشر الحرية، وضمن مشاريع مسخ أحكام الله تعالى وتبديلها؛ لتوافق المشاريع الليبرالية التي يراد لها أن تسود الأرض كلها، وأن يقضى بها على كل المناهج والشرائع، ربانية كانت أم وضعية، وما اختراع إمامة للمسلمين تؤمهم يوم الجمعة في كنيسة من الكنائس[1]، وعلى حال من الاختلاط بين الرجال والنساء، وكشف العورات، إلا جزء من مشروع المسخ والتبديل لدين الله تعالى، وتحريف شريعته، مع إجماع المسلمين قديما وحديثا على مجافاة هذا الصنيع الشاذ لشريعة الإسلام، ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا شذاذ من المنافقين والصحفيين، قد تدثروا بالليبرالية وهم لا يعرفونها، وهتفوا بالديمقراطية وهم وأسيادهم ينحرونها صباحا ومساء، وكل من أنكر بغيهم وظلمهم، أو أنكر منهجهم وطريقتهم، فهو محور للشر، خارج على القانون، مفسد في الأرض.(/2)
إن الله عز وجل هو خالق الخلق، وهو الحاكم فيهم، المبين لأحوالهم {وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ} [البقرة:220]. فمن تبع شريعته، ودعا إليها، ودافع عنها؛ فهو المصلح، ومن أنكرها، أو تنكر لها، أو حرفها، أو حاد عنها؛ فهو المفسد ولو زعم أنه مصلح، هذا هو حكم الله تعالى، وتلك هي إرادته الشرعية التي شرعها لعباده في كتابه المطهر وعلى لسان نبيه المرسل صلى الله عليه وسلم، وبهذا الميزان العادل يوزن الناس، بعيدا عن تحكيم الأهواء، أو الاعتبار بالأعراق والأنساب، أو الإمكانات والقوة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
ولكن المفسدين في الأرض من الكفار والمنافقين ومن وافقهم في إفكهم عن جهل أو هوى لا يرتضون هذا الحكم، ولا يعترفون بهذا الميزان، ولا يختطون تلك الطريقة في الحكم على الناس؛ ولذا فهم يحكمون على المسلمين بالفساد والإفساد، ويرجعون مشاكل البشرية إلى الأحكام الربانية، ويرمون شريعة الله تعالى بكل نقيصة، ويقذفونها بكل خسيسة؛ بل ويتشاءمون من المسلمين ومن شريعتهم على طريقة إخوانهم الذين سلفوا في الأمم الغابرة حين قالوا لنبيهم {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل:47] وجاء بعدهم أقوام فقالوا لرسلهم {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18].(/3)
إنها سنة الكافرين والمنافقين في كل زمان ومكان؛ يرمون غيرهم بأدوائهم، ويتطيرون بالصالحين من أقوامهم، ونتيجة لضخامة التزوير والإفك الذي ينشره كفار هذا الزمن ومنافقوه ضد المسلمين عامة، ويخصون عباد الله الصالحين بمزيد من الكذب والافتراء؛ فإن كثيرا من المخدوعين صدقوا إفكهم، وانطلى عليهم افتراؤهم، فظنوا ظن الجاهلين: ظنوا أن التمسك بشريعة الله تعالى هو سبب مصائب المسلمين وضعفهم، وظنوا أن سبب بلاء المسلمين في هذا العصر هم حملة الشريعة من العلماء والدعاة وعباد الله الصالحين؛ ولذا فهم يرومون تغيير دين الله تعالى، وتبديل شريعته التي ارتضاها للناس كافة.
إن المسلمين في الأرض، والصالحين منهم بوجه أخص هم أهل الخير والفضل على البشر أجمعين؛ فبعبادتهم وتوحيدهم عم الخير أرجاء الأرض، ورفع بصلاحهم وإصلاحهم ودعائهم من العذاب ما رفع، فليسوا مصدر شؤم وبلاء؛ بل الكفار والمنافقون، وأهل الظلم والبغي والفساد، المحادون لشريعة الله تعالى، المحاربون لأوليائه هم أهل الشؤم، وهم سبب العذاب والذل والهوان على البشر أجمعين، ويتعدى شؤمهم البشر ليصيب الحيوان والطير والوحش والنبات، بما يحبس عن أهل الأرض من الأمطار، وما يمنعون من الخيرات والبركات، وبما يقع من أنواع العذاب والعقوبات، وكل ذلك بسبب محادتهم لله تعالى ولشريعته.
إن أهل الخير والصلاح يجب أن يفرح الناس بكثرتهم، وأن يقتدوا بهم في سمتهم وهديهم، وأن يعينهم الناس في إصلاحهم ودعوتهم؛ فبدعوتهم تستمطر السماء، ويستنصر على الأعداء، ويدفع البلاء، ويعم الخير والأمن أرجاء الأرض:(/4)
ففي شأن الاستمطار بهم قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) رواه البخاري، وفي رواية للنسائي: (إنما نصر الله هذه الأمة بضعفتهم، بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
قال ابن بطال رحمه الله تعالى: تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء وأكثر خشوعا في العبادة؛ لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا. اهـ.
وإيمان المؤمن سبب لرزقه، وينتفع برزقه غيره من قرابته ومجتمعه وأمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته) رواه مسلم.
وأما رفع العذاب عن العباد فبسبب دعوتهم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، فهم المصلحون الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] ولذلك ثبت أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق؛ لأن الله تعالى لا يبالي بهم، بل ولا يبالي بأهل الأرض إذا خلت من عباد الله الصالحين؛ كما ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يُقبض الصالحون الأول فالأول وتبقى حفالة كحفالة التمر والشعير لا يعبأ الله بهم شيئا) وفي رواية: (لا يباليهم الله باله)، والمعنى :لا يرفع لهم قدرا، ولا يقيم لهم وزنا، وإذا لم يكن للناس وزن عند الله تعالى بسبب خلوهم من أهل الخير والصلاح؛ رفعت عنهم البركات، وحلت بهم العقوبات.
وقد ذكر العلماء من فوائد هذا الحديث: الندب إلى الاقتداء بأهل الخير، والتحذير من مخالفتهم؛ خشية أن يصير من خالفهم ممن لا يعبأ الله تعالى به.(/5)
والله تعالى يقول: {مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء:147] والمسلمون هم أهل الإيمان الذي ينفي العذاب، والصالحون منهم هم أهل الشكر والإحسان.
وفي خطاب قرآني آخر قال الله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77] وأهل الخير والصلاح هم أهل الاستجابة لأمر الله تعالى ودعوة رسله عليهم السلام، وهم أهل عبادته وطاعته، وهم أهل دعائه ومسألته، والانطراح بين يديه جل في علاه.
وبهذا يعلم - أيها الإخوة- أن خيرا كثيرا ينعم به البشر كلهم سببه وجود الصالحين بين أظهرهم، وهذا الخير الكثير يقع بصلاتهم ودعائهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ فكم من خير نزل على العباد، وشر دفع عنهم بسببهم؟ وكم من عجائز ركع سجد يعبأ الله تعالى بهن، فيرفع عقوبته عن العباد بدعائهن؟! فهل هؤلاء وأولئك شؤم على البشرية حتى يتطير بهم الكافرون والمنافقون، ومن وافقهم في بغيهم من الجهلة والظالمين؟! أم أن الشؤم على البشر ما وقع إلا من أولئك الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وبغيهم، واعتدائهم على شريعة الله تعالى بالتحريف والتبديل، ومحاولة مسخها وإلغائها، ثم اعتدوا على البشر بالظلم والبطش لا لشيء إلا لأنهم يملكون قوة بنوها من أقوات ودماء الشعوب المغلوبة المقهورة، ثم ترى أقواما من المنافقين أو من الجاهلين يدعون الناس إلى مناهجهم المنحرفة التي كانت أعظم شؤم على البشرية، ويصرفونهم عن شريعة الله تعالى، ويخوفونهم من حملتها، وما كانت شريعة الله تعالى إلا خيرا للناس كلهم لو كانوا يعقلون.(/6)
فحذار عباد الله من هذه الأقوال المرجفة في دين الله تعالى، وفي حملته والمتمسكين به، ولا يغرنكم نعيق الكافرين والمنافقين، ولو عم كذبهم وافتراؤهم أركان البسيطة، ولو قهروا الناس عليه بالقوة؛ فإن الحق قوي عزيز، وإن الباطل ضعيف ذليل، والله تعالى مظهر دينه، معل كلمته ولو كره الكافرون، وما هذه المحن على أهل الإسلام والإحسان إلا ابتلاء وامتحان، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة:138-139].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد الله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- فإن ولاية الله تعالى تنال بتقواه، وأولياء الله تعالى آمنون من الخوف والحزن {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس:62-64].
أيها الناس: أهل الإسلام أهل خير وفضل على البشرية جمعاء، وهم رحمة من الله تعالى رحم بها الأحياء على الأرض؛ ولذلك إذا خلت الأرض منهم فلا خير فيها ولا فيمن كانوا على ظهرها، وعليهم تقوم الساعة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(/7)
وروى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شر من أهل الجاهلية لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم).
ومن بركات توافر المسلمين والصالحين على الأرض أن العذاب والهلاك يؤخر أو يرفع عمن استوجبوه بكفرهم وفسقهم؛ رحمة من الله تعالى أن يصيب المسلمين أو الصالحين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد يدفع العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن لا يستحق العذاب ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] فلولا الضعفاء المؤمنون الذين كانوا بمكة بين ظهراني الكفار عذب الله الكفار....وقد قال المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله تعالى، وبدعائهم للخلق، وبما ينزل الله تعالى من الرحمة، ويدفع من العذاب بسببهم حق موجود. اهـ(/8)
ولانتفاع البشر بوجود المسلمين شبه النبي صلى الله عليه وسلم المسلم بالنخلة النافعة المباركة التي يستفاد من كل أجزائها، وهكذا المسلم أينما حل في جزء من أجزاء الأرض حلت البركة والخير على أهله، بما يقوم به المسلم من عبادة الله تعالى وطاعته، والدعوة إلى الإسلام، روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: (بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوس إذ أتي بجُمَّار نخلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم، فظننت أنه يعني النخلة فأردت أن أقول هي النخلة يا رسول الله، ثم التفت فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم فسكت فقال النبي صلى الله عليه وسلم هي النخلة) رواه البخاري.
فليس المسلمون كالكفار، ولا الأبرار مثل الفجار؛ فالفجار والكفار يضرون أنفسهم وغيرهم، حتى يطول ضررهم من على الأرض جميعا، وأما المسلمون الأبرار فإن نفعهم يتعداهم إلى غيرهم {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ} [ص:28] {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا المُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58].
فلم يُسَوِّ الله عز وجل بينهم؛ بل بيَّن أن أهل الكفر والفجور مفسدون في الأرض، ووصفهم بالإساءة، ومن كان هذا وصفهم في كتاب الله تعالى فهم شؤم على أنفسهم، وعلى مجتمعاتهم، بل وعلى أهل الأرض كلهم، نعوذ بالله من حالهم ومآلهم، ونسأله سبحانه أن لا يعذب العباد بما كسبت أيديهم من البغي والظلم والفساد...
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم ربكم بذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــ(/9)
[1] هذا إشارة لما قامت به امرأة أمريكية في الجمعة الماضية في سابقة هي الأولى من نوعها حيث أمت هذه المرأة المصلين في صلاة الجمعة الماضية 8/صفر/1426هـ الموافق 18/مارس/2005وكانت صلاة اختلط فيها النساء بالرجال وهن متكشفات، وكثير منهن متبرجات حاسرات الرؤوس، وقد لبس بعضهن بناطيل الجينز!!
وقد نظمت تلك الصلاة منظمة تدعى (جولة حرية المرأة المسلمة) والموقع الالكتروني (صحوة الإسلام).
وقامت الدكتورة أمينة ودود أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة (فيرجينيا كومنولث) الأمريكية بإلقاء خطبة الجمعة وإمامة الصلاة.
وأقيمت هذه الصلاة الشاذة وسط إجراءات أمن مشددة بكنيسة (سينود هاوس) التابعة لإحدى الكاتدرائيات بمدينة (مانهاتن) الأمريكية، بسبب أن المساجد رفضت استضافة هؤلاء المفسدين لإقامة صلاتهم.
وهذه عادة الغرب: حماية المشغبين على الإسلام، المحرفين لشريعته، ولو أن امرأة رشحت نفسها لتكون بابا الفاتيكان لقامت الدنيا ولم تقعد في الغرب المتحضر الذي يزعم حفظ الحقوق ونشر الحرية، وهو لا يحفظ هذه الحقوق المزعومة إلا إذا كانت لمنحرفين يطعنون في الإسلام فحسب.
وقالت إمامتهم ودود في مؤتمر صحفي قبل الصلاة (لا أريد أن أغير من طبيعة المساجد. أريد أن أشجع قلوب المسلمين على الإيمان بأنهم متساوون). مضيفة أنها تتمنى المساعدة في إزالة (القيود المصطنعة والمزعجة) التي تستهدف المرأة المسلمة حسب زعمها.
وقالت ودود: إن مسألة المساواة بين الرجل والمرأة أمر مهم في الإسلام، وقد استعمل المسلمون -وللأسف- تفسيرات تاريخية متشددة للعودة إلى الوراء.
ولهذه المبتدعة كتاب بعنوان (القرآن والمرأة) تناولت فيه قراءة للنصوص القرآنية من خلال وجهة نظر نسائية حسب زعمها تناولت فيه (حق المرأة في إمامة المسلمين)، وترى ودود أن عدم إعطاء المرأة المسلمة هذا الحق هو (أمر خاطئ متجذر داخل المجتمعات الإسلامية دون أن يقوم أحد بمحاولات جادة لتصويبه).(/10)
وتزعم هذه الضالة عن الحق أنه من خلال الأبحاث التي قامت بها: (لا يوجد في سلوكيات النبي محمد صلى الله عليه وسلم ما يمنع أن تؤم المرأة المسلمين رجالا ونساء)، وتؤكد في كتابها أن الرسول الكريم وافق على إمامة المرأة المسلمة، وعدم إعطائها هذا الحق جعلها تفقد مكانتها كقائدة روحية وفكرية.
وستطالب د.ودود بحسب تعبيرها بحق النساء المسلمات في المساواة مع الرجال في التكاليف الدينية كحق المرأة في الإمامة، وعدم ضرورة أن يصلي النساء في صفوف خلفية وراء الرجال باعتبار أن هذا الأمر هو ناتج عن عادات وتقاليد بالية وليس من الدين في شيء.
وتأتي هذه الخطوة التي تقوم بها هذه المرأة وأمثالها برعاية ودعم جماعات أمريكية منحرفة تدعو إلى تحرير المرأة المسلمة من أحكام الإسلام لتصبح مثل المرأة الغربية سواء بسواء، وتقوم بتنظيم مسيرات وفعاليات عديدة لإفساد المرأة زاعمين المطالبة بحقوقها، وهي في واقع الأمر حقوق اخترعوها لتطويع الإسلام للنظم الليبرالية الغربية.
وقد شهدت هذه الصلاة الشاذة شذوذات كثيرة منها: أن المؤذن كان امرأة وكانت بلا حجاب ولا حتى شيء يغطي شعرها!! والتصق الرجال بالنساء في الاصطفاف للصلاة وهن بلا حجاب أيضا بل حاسرات الرؤوس، وقد لبسن الألبسة الضيقة كبناطيل الجينز وغيرها.
ومن أعظم المنكر الذي قامت به هذه الخطيبة المنحرفة: إشارتها أثناء الخطبة إلى لفظ الجلالة (الله) بضمير المذكر والمؤنث وغير العاقل بالإنجليزية، بحجة أن الله الدائم يستعصي على التعريف من حيث النوع، تعالى الله عن فعلها وقولها علوا كبيرا.
وبعد أن أنهت خطبتها قامت لتؤم المصلين، الذين وقفوا نساء ورجالا في نفس الصفوف، وكان أغلبية الصف الأول من النساء وأدى هذه الصلاة الباطلة خلف هذه المنحرفة نحو (150) مصليا (60) منهم من النساء والباقي من الرجال والأطفال.(/11)
وقد أجرت قناة الجزيرة لقاء مع د.آمنة ودود قالت فيه: أنا لست فقيها ولا أقوم بأعمال الفقه ولكنني اقرأ في كتب الفقه وقرأت الكثير منها في الأسبوعين الماضيين ربما أكثر من أي وقت مضى من قبل، وتخصصي الرئيسي في الحقيقة هو في التفسير.... أنا أشجع وأروج لفكرة مفادها إن الحاجة للإصلاح في القانون الإسلامي لا يمكن أن يحدث ما لم ننجح، وأيضا نحن ننجح في جعل المزيد أو وضع المزيد من الدراسات المفصلة والمعمقة والتحليل المفصل للقرآن نفسه، إذن هذا هو نقطة تركيزي الرئيسية وليس تركيزي على الفقه؛ لأن الفقه ليس في الحقيقة جزء من سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم فالرسول لم ينتم إلى مذهب، أنا أنتمي إلى نفس المذهب الذي ينتمي إليه الرسول ...ونحن محظوظون الآن في استمرارنا في بحثنا وفي تحليلنا لماهية معاني القرآن الكريم وأيضا في القرن الحادي والعشرين إحدى القضايا التي دخلت مع بداية هذا القرن الجديد كانت مسألة الوعي بأننا لا نملك سجلا للمرأة وهو كيفية استجابتها لمعاني القرآن الكريم، إذن رسالتي لو أننا استطعنا أن نوسع من نطاق فهمنا للقرآن الكريم علينا أن نوسع من اهتمام علمائنا ليُضمِنوا النساء بشكل متساوي مع الرجال بحيث تتوافر لهن علوم القرآن والمهارات اللازمة لكي يتقصوا المعاني التي تمشي جنبا إلى جنب مع النصوص ومعانيها.
وقالت أيضا: أنا سأقف أمام المصلين إن شاء الله، وسنصلي إن شاء الله تعالى حسب أفضل ما يتوفر لي من فهم أعكسه.. المبدأ التوحيدي القائل والذي على أساسه تتوحد كل الكائنات البشرية على أساس من المساواة الروحية ومع القدرة الكامنة للوصول إلى أهداف أسمى وأعلى وأن يحصلوا أيضا على المزيد من الفوائد المادية أيضا.
وسألها المذيع حافظ الميرازي فقال: دكتورة آمنة: هل اللحظة غير مناسبة والمكان غير مناسب؟(/12)
فأجابت: أولا أنا لم اختر هذا الوقت، أنا وُجِهت إلي الدعوة كضيفة وقبلتها وأيضا قبلت دعوة قبل أكثر من عشر سنوات لأكون خطيبة في بلد آخر في جنوب أفريقيا وصليت مع الرجال والنساء جنبا إلى جنب وصليت وراء نساء كن يؤمن رجالا ونساء إذن هذه ليست بالضرورة قضية جديدة مثيرة للجدل هذه قضية مستمرة وهي مبعث قلق واهتمام ولو لم نجعل قضية الهوية الروحية الكاملة والخلافة للمرأة المسلمة بشكل كامل ولن نكون قد وضعنا هذا في مصافه الصحيح ونكون قد خذلنا المرأة كما فعلنا في جزء كبير من تاريخنا.
وكانت امرأة أخرى مفسدة تدعى (إسراء النعماني) وهي كاتبة وصحفية سابقة بصحيفة(وول ستريت جورنال) وهي أيضا من منظمي هذه الصلاة الشاذة الداعين إليها دخلت مسجدا بمنطقة (مورجانتاون) بولاية (وست فرجينيا) من الباب الأمامي المخصص للرجال داعية بذلك إلى اختلاط الجنسين، رافضة الفصل بينهما بتخصيص باب للرجال وآخر للنساء وقالت معقبة على فعلها الشنيع: (اليوم تنتقل النساء المسلمات من خلفية المسجد إلى الأمام إنه حدث تاريخي).
وهذه المفسدة تترأس جمعية (جولة الحرية للنساء المسلمات) تتبنى الدعوة إلى إمامة المرآة للرجال في الصلاة متحدية إجماع علماء المسلمين على عدم مشروعية ما تدعو إليه هي وسابقتها.
وقالت: إنها ستؤم المصلين في صلاة الجمعة القادمة في ولاية بوسطن، على الرغم من رفض الأوساط الفقهية والشرعية لهذا العمل البدعي.
وكانت نعماني، مؤلفة كتاب سيصدر قريبًا حول المرأة في الإسلام، قد أمَّت المسلمين في إحدى الصلوات يوم الأربعاء، وفق ما ذكرته وكالة رويترز للأنباء، لتصبح ثاني امرأة تقوم بهذا العمل المخالف لأحكام الشريعة الإسلامية.
وأضافت آسرا بأنها ستنظم صلوات مختلطة أخرى في مختلف الولايات الأمريكية، ومن بينها سان فرانسيسكو وواشنطن، وأكدت أنها لن تقبل بالأفكار التي أجمع عليها علماء الأمة الإسلامية مدعية اعتقادها بشرعية وصحة ما تقوم به.(/13)
وقالت في مقابلة بثتها قناة الجزيرة القطرية: شكرا جزيلا لإتاحة الفرصة لي ويشرفني أن أتحدث إليكم وإلى مشاهديكم لنعلم أين هي الأزمة في العالم الإسلامي، والأمر متروك للنساء والمعتدلين ليعيدوا الدين من الذين استحوذوا عليه باسم التطرف، حقوق المرأة جانب حيوي من العالم الإسلامي وفي الولايات المتحدة وبصفتنا نساء مسلمات نحن نطالب بحقوقنا ضمن الإسلام، وأن نقف في مساجدنا وأن ندخل من الأبواب الرئيسية وغدا سوف نستعيد حقنا في إمامة الصلاة، الدكتورة آمنه ودود امرأة قوية وشجاعة ألهمتني لأتعلم التعاليم الحقيقية ...
وهذه المنحرفة ابنة لمهاجر هندي يدعى ظفر نعماني وصل إلى (مورجان تاون) قبل حوالي ربع قرن وكان يرتاد مسجدا فيها، لكن المسجد لفت اهتمام وسائل الإعلام عندما نظمت نساء بزعامة ابنته المنحرفة أسرا مسيرة في العام الماضي لتحدي إدارة المسجد التي كانت تمنعهن من استخدام الباب الأمامي المخصص للرجال.
وفي كتابها لا تخجل من مفاخرتها بالزنا وإنجابها ولدا سفاحا وتذكر هذه المنحلة كيف أن والديها المسلمين لم يتخليا عن دعمها حتى مع ابنها الذي أنجبته من دون زواج.
وقال والدها ظفر نعماني: إنه حفيدي إنه طفل جميل ورائع أقضي معه أوقات جميلة استمتع بها كثيرة.
فإذا كان هذا حال هذه الرجل وابنته يرضيان بالزنا، ويعترفان بولد السفاح ابنا وحفيدا لهما بلا حياء ولا إعلان توبة أو ندم من هذه الكبيرة فلا يستغرب عليهما أي انحراف آخر نسأل الله تعالى الهداية والموافاة على الإيمان والسنة آمين.(/14)
والمنحرفون من الليبراليين والعقلانيين العرب يعجبهم مثل هذا التلاعب بالشريعة، ويعدونه تطويرا للإسلام، وتقريبا له من الحضارة الغربية والأمريكية على وجه الخصوص، وهم أشد إخلاصا لها من قومها الأصليين نسأل الله تعالى العافية، وكما عودونا فقد سنّوا أقلامهم للدفاع عن هاتين المرأتين المنحرفتين، واستخرج بعضهم حديثا ضعيفا للاستدلال به على هذا الشذوذ.
ورغم أنهم يردون الأحاديث الصحيحة الصريحة التي أجمعت الأمة على الأخذ بها في كثير من القضايا كأحاديث تحريم الخلوة بالأجنبية، واشتراط المحرم للمرأة في السفر، وغيرها من الأحاديث الصحيحة الصريحة في كثير من القضايا التي لا تتفق وأهواءهم؛ فإنهم في هذه القضية يستدلون بحديث ضعيف في سنده، ولو فرض صحة إسناده فإنه لا يدل على ما يريدون، وهذا الحديث هو ما رواه الإمام أحمد في مسنده (6/405) قال: حدثنا أبو نعيم قال ثنا الوليد قال حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث الأنصاري وكانت قد جمعت القرآن وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤم أهل دارها وكان لها مؤذن وكانت تؤم أهل دارها) ورواه أبو داود (592) وإسحاق بن راهوية في مسنده (2381) وابن خزيمة (1676) وأبو نعيم في الحلية (2/63) والدارقطني (1/403) والطبراني في الكبير (25/134) برقم (326) والبيهقي (3/130).
وهو حديث ضعيف؛ فجدة الوليد بن عبد الله بن جميع مجهولة. انظر: التلخيص الحبير (2/27) ونقل الزيلعي في نصب الراية (2/31) عن ابن القطان قوله : الوليد بن جميع وعبد الرحمن بن خلاد لا يعرف حالهما.
وقد نقل الشوكاني في نيل الأوطار (3 /187) عن الدار قطني: (إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها).
قال ابن قدامة في المغني (2/16): (وحديث أم ورقة إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها كذلك رواه الدارقطني، وهذه زيادة يجب قبولها ولو لم يذكر ذلك؛ لتعين حمل الخبر عليه؛(/15)
لأنه أذن لها أن تؤم في الفرائض بدليل أنه جعل لها مؤذنا، والأذان إنما يشرع في الفرائض ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض؛ ولأن تخصيص ذلك بالتراويح واشتراط تأخرها تحكم يخالف الأصول بغير دليل فلا يجوز المصير إليه، ولو قدر ثبوت ذلك لأم ورقة لكان خاصا لها بدليل أنه لا يشرع لغيرها من النساء أذان ولا إقامة فتختص بالإمامة لاختصاصها بالأذان والإقامة)انتهى.
قلت: هذه الزيادة التي ذكرها ابن قدامة والشوكاني عن الدارقطني كاشفة تثبت أن إمامتها للنساء دون الرجال، فإن كانت هذه الزيادة محفوظة لم يكن فيه حجة لمن يجيز إمامة المرأة للرجال، وإن لم تثبت هذه الزيادة فلم يثبت أيضا أن مؤذن أم ورقة كان يصلي معها مقتدياً بها في أي رواية من الروايات، ومن قال بخلاف ذلك فليسق الرواية الدالة على ما يريد، فيحتمل أن خادمها يؤذن ثم يذهب إلى المسجد فيصلي مع الناس؛ لأن الرجال مأمورون بصلاة الجماعة التي لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى بأن يتخلف عنها. وهذا يكفي في الجزم بأنها إنما كانت تؤم نساء أهل بيتها، فإن قيل: يحتمل أن من أهل بيتها رجال تؤمهم، قيل: هذا الاحتمال يسقط الاستدلال بهذا الدليل، على أن ضعف الحديث كاف في الرد على من استدل به والله أعلم.
والأدلة على عدم جواز صحة إمامة المرأة للرجال كثيرة جدا منها:
1- قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
فجعل الله تبارك وتعالى القوامة للرجال ولم يجعلها للنساء، والولاية من القوامة، وإمامة الصلاة نوع ولاية، بل هي الولاية الصغرى عند الفقهاء فلا تتولاها المرأة على الرجال.(/16)
2- حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال:لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري (6686).
فنفى النبي صلى الله عليه وسلم الفلاح عمن تولى أمورهم امرأة، والصلاة أمر من هذه الأمور بل هي من أعظم الأمور، ونفي الفلاح يقتضي التحريم، فلا تتولى الإمامة فيها النساء.
وكثير ممن لم يعجبهم هذا الحديث ممن فتنوا بالحضارة المعاصرة التي تساوي بين الرجل والمرأة في كل شيء شرقوا به:
أ- فمنهم من رده جملة وتفصيلا.
ب- ومنهم من خصه بزمن النبوة قبل أن تتعلم المرأة، زعموا.
ت- ومنهم من خصه بقوم فارس مع أن سياق الحديث يفيد العموم في الزمان والمكان، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبر فارس ما قال: لن يفلحوا، بل عمم ذلك في كل قوم، وليس ذلك في زمان دون زمان أو أحوال دون أحوال؛ لأن الذي أخبر بذلك لا ينطق عن الهوى، وأقره الله سبحانه على ذلك مع علمه عز وجل بتغير أحوال البشر.
هذا إذا سلم أن ذلك الزمان ليس فيه نساء متعلمات وهو غير مسلم؛ فعائشة رضي الله عنها كانت تحوي علما كثيرا، ويرجع إليها في العلم كبار الصحابة رضي الله عنهم كما هو معلوم من سيرتهم رضي الله عنهم.
3- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) رواه مسلم (440).
فهذا الحديث نص في تأخر النساء عن الرجال، وقد جعل الخيرية في ابتعادهن عن الرجال وجعل الشر في مقاربة صفوفهن لصفوف الرجال، فكيف إذا يجوز أن تتقدم المرأة عليهم، وتكون أمامهن إمامة لهم؟! هذا أفسد ما يكون حكما وتعطيلا لهذا الحديث.
ويتأكد ذلك بقول أَنَس رضي الله: (صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمي أم سليم خلفنا) رواه البخاري (694).(/17)
فالحديث نص على أن المرأة لا تصافف الرجل ولو كان ابنها، ولو كان صغيراً .. فكيف إذا تؤمهم وتتقدم عليهم؟ ومع أن الرجل لا يجوز له أن يصلي منفردا خلف الصف، فإن ذلك سائغ شرعا في حق المرأة؛ لئلا تخالط الرجل، وقد بوب البخاري رحمه الله تعالى على ذلك في صحيحه (1/255) فقال: باب المرأة وحدها تكون صفاً.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح (2/212) تعليقا على حديث أنس وقصة صلاته وأمه مع النبي صلى الله عليه وسلم: (فيه أن المرأة لا تصف مع الرجال، وأصله ما يخشى من الافتتان بها.
4- حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد) رواه البخاري (2550) ومسلم (1718).
ومعلوم أنَّ الذي عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الرجل هو الذي يؤم الرجل والمرأة، واستمر العمل على ذلك في سائر العصور والأمصار الإسلامية، ولم تُنقل حادثة واحدة بخلاف ذلك إلى أن أحدث هؤلاء بدعتهم النكراء
فإحداثهم لذلك بدعة في الإسلام وكل بدعة ضلالة، وهي مردودة على صاحبها، وهذا يقتضي بطلان ذلك؛ لأن الأمر المردود ما رد إلا لبطلانه.
5- ما رواه البخاري في صحيحه (1/245) معلقا مجزوما به: أن عائشة رضي الله عنها كان يؤمها عبدها ذكوان من المصحف، ووصله ابن أبي شيبة في المصنف (2/123) ولفظه: (عن أبي بكر بن أبي مليكة أن عائشة أعتقت غلاماً لها عن دبر، فكان يؤمها في رمضان في المصحف) وصححه الحافظ في تغليق التعليق (2/291).(/18)
وعلى جلالة عائشة رضي الله عنها، ومكانتها في العلم والفضل، وهي وعاء من أوعية علم هذه الأمة الخاتمة، ورغم محلها من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها لم تتقدم على عبدها في الصلاة، بل كانت تابعة له رغم أنه غير حافظ للقرآن فيما يظهر من الأثر، وهذا كان في صلاة التراويح وهي نافلة، فكيف بمن أمت الرجال في الفريضة وهي دون عائشة رضي الله عنها، وفي صلاة الجمعة التي لم يوجبها الله تعالى إلا على الرجال دون النساء؟!
7- أن الشريعة الغراء جاءت بسد كل الذرائع المفضية إلى اختلاط المرأة بالرجال، وحرمت نظر الرجل للمرأة، وأمرت كلا الجنسين بالغض من أبصارهم، وألزمت المرأة بالحجاب، وشرعت آداب الاستئذان، وكيفية الدخول في البيوت، والنظر للمخطوبة، وغير ذلك من التشريعات التي تحسم مادة الإفساد والانحلال، واعتلاء المرأة المنبر أمام الرجال، ثم تقدمها بين أيديهم لإمامتهم ينافي تلك التشريعات، ويبطل هذه الأحكام الربانية التي شرعها اللطيف الخبير بعباده، العليم بما يصلحهم وما يصلح لهم، والمعروف أن الخطيب إذا قام في الناس توجهت إليه الأبصار، فذلك أدعى للإنصات ومتابعة ما يقول، والرجل مأمور بغض بصره عن المرأة، فكيف يكون هذا التناقض؟!
8- ما ثبت في الشريعة من وجوب الخشوع في الصلاة، والبعد عن كل ما يلهي المصلي فيها من لباس أو غيره، وفي إمامة المرأة للرجال وركوعها وسجودها أمامهم أعظم الإلهاء في الصلاة، بتحجيم عورتها، وإبداء محاسنها في الركوع والسجود، وهو سبب لعدم الخشوع، وسبيل لانحراف المصلين عن صلاتهم إلى شهواتهم نسأل الله تعالى العافية والسلامة من ذلك.
وكل من له مسكة عقل، وعنده أدنى معرفة بالشريعة، وله فطرة سليمة فإنه يستبشع هذا العمل المشين من هاتين المرأتين، ومن أيدهما في انحرافهما.
إنكار الأمة هذا العمل الشنيع:(/19)
استنكر المسلمون هذا العمل الشنيع من هاتين المرأتين المجترئتين على الله تعالى وعلى شريعته وصدرت بيانات كثيرة منها:
البيان الأول الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي ونصه:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
إن الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي تعبر باسم علماء الأمة الإسلامية وفقهائها عن استنكارها وأسفها على ظهور بدعة مضلة وفتنة قائمة تمثلت في تقدم امرأة لأول مرة لإمامة جماعة من المصلين في صلاة جمعة بكاتدرائية مسيحية في مدينة مانهاتن وفي هذا مخالفة لأحكام الشريعة من وجوه: تولى المرأة خطبة الجمعة وإمامتها للرجال في صلاتها ووقوف الرجال والنساء متجاورين مختلطين في كاتدرائية مسيحية وهى أمور تخالف ما عليه اتفاق جمهور علماء الإسلام وفقهائه المعتمدين وقد يكون المقيمون لهذه الصلاة على هذا الوجه معتمدين على أقوال ضعيفة أو غير معتمدة وردت في بعض الكتب الفقهية.
والمعتبر عند فقهاء الإسلام أن الجمعة فرض على الرجال دون النساء فهم الذين يقيمونها خطبة وصلاة والمرأة يجوز لها الحضور استحبابا لا فرضا فكيف يسوغ لها أن تتقدم على من هو أحق منها بأدائها كما أن من المعلوم أن تقدم المرأة على الرجل في الصف مما يبطل صلاة الرجل فكيف تؤمه، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أماكن وقوف النساء في الصفوف في حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه واحمد والدا رمي
وأن من شروط إقامة الجمعة عند الفقهاء أن تكون في مسجد جامع فضلا عن إقامتها في غيره فكيف تصح في كنيسة أوكاتدرائية مع وجود المساجد؟ وبناء على ما سبق فإن هذه الصلاة غير مستوفية للشروط وعلى من أداها أن يعيدها ظهرا قضاء.(/20)
والمجمع إذ يستنكر هذا الحدث ويحث المسلمين كافة على التمسك بأحكام الدين الإسلامي المستمدة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة ويدعو الباحثين إلى الرجوع إلى أهل الدين المعتمدين فيما يعرض لهم من مشاكل وقضايا محذرا إياهم من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين المبطلة لأحكام الشرع وأدلته إما بالطعن في ألفاظها أو أسانيدها أو بالعمل على تأويل معانيها الأصلية الثابتة بين الناس وبإجماع الأمة من عهده عليه الصلاة والسلام ومن بعده بين الصحابة والتابعين إلى أن انتهى الأمر للائمة المجتهدين.
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ والداعي إلى تحكيم الشرع بما صدر عنه من أوامر ونواه وإقرارات وأن الدين وبخاصة في العبادات لا يجوز أن يتصرف فيه لأن التوجيه فيها ينبغي أن يقصد به وجه الله والامتثال له فيما أمر به ولكن طائفة من المبطلين ترمي إلى تحقيق مصالح خاصة على حساب المبادئ الإسلامية السامية وتروم عقلنة الشريعة وإخراج الدين الإسلامي من كونه إلهيا إلى دين طبيعي قال الله عز وجل (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) وفي هذا إشارة إلى أن الناس على مذهبين لا ثالث لهما مذهب الملتزمين بالشريعة التي تلقوها عن الله ومذهب المنحرفين الذين يحكمون بأهوائهم وبما لا يعلمون منحرفين عن شريعة الله وأحكام دينه.
وينبه المجمع كل مسلم عاقل يقدم على الاجتهاد في الدين أن يعرف قدره وألا يتعدى طوره قال الله تعالى (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" وقال عز وجل (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ".(/21)
ويذكر المجمع سائر المسلمين بأن الحقوق والواجبات والتكاليف المتنوعة المرتبطة بالنساء والرجال قد قضى الله بها وليس لأحد من الناس التصرف فيها أو التأويل لها ولقد خص سبحانه كل جنس من الجنسين الرجال والنساء بما هو محتاج إليه ومفتقر له فقال جل وعلا (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) وفي هذا دليل على أن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة وقد أودع سبحانه كل واحد من الجنسين خصائص يتميز بها عن الآخر فتناط على وفقها الأحكام والوظائف المناسبة للشخص رجلا كان أو امرأة وبهذا تبطل أسباب الخصام والتنازع على أعراض الدنيا.
فلا وجه للحملة على الرجال ولا على النساء ولا وجه لمحاولة النيل من أحدهم كما لا مكان للطعن بأن التنوع في التكوين والخصائص لا يقابله تنوع في التكليف والوظائف وكل هذه التصورات التي قدمنا عبث وسوء فهم للمنهج الإسلامي ولإرادة تحقيق وظيفة كل واحد من الجنسين فالله الأعلم بما خلق وهو الأعرف بمصالح الناس وهو وليهم في الأمر كله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
البيان الثاني: من مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا ونصه ما يلي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فقد ورد إلى مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا استفسار حول مدى مشروعية إمامة المراة لصلاة الجمعة وإلقائها لخطبتها وذلك بمناسبة ما أعلن عنه مؤخرا من اعتزام بعض النساء على إلقاء خطبة الجمعة وإمامة صلاتها بأحد مساجد نيويورك0والمجمع إذ يستنكر هذا الموقف البدعي الضال ويستبشعه فإنه يقرر للأمة الحقائق التالية:(/22)
أولا: أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الكتاب والسنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي) وأن الإجماع على فهم نص من النصوص حجة دامغة تقطع الشغب في دلالته، فقد عصم الله مجموع هذه الأمة من أن تجمع على ضلالة، وأن من عدل عن ما أجمع عيه المسلمون عبر القرون كان مفتتحاً لباب ضلالة، متبعا لغير سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) (النساء: 115). وقال صلى الله عليه وسلم في معرض بيانه للفرقة الناجية في زحام الفرق الهالكة: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
ثانيا: لقد انعقد إجماع الأمة في المشارق والمغارب على أنه لا مدخل للنساء في خطبة الجمعة ولا في إمامة صلاتها، وأن من شارك في ذلك فصلاته باطلة إماماً كان أو مأموماً، فلم يسطر في كتاب من كتب المسلمين على مدى هذه القرون المتعاقبة من تاريخ الإسلام فيما نعلم قول فقيه واحد: سني أو شيعي، حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي يجيز للمرأة خطبة الجمعة أو إمامة صلاتها، فهو قول محدث من جميع الوجوه، باطل في جميع المذاهب المتبوعة، السنية والبدعية على حد سواء!
ثالثا: لقد علم بالضرورة من دين الإسلام أن سنة النساء في الصلاة التأخير عن الرجال، فخير صفوف الرجال أولها وخير صفوف النساء آخرها، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) وما ذلك إلا صيانة لهن من الفتنة وقطعاً لذريعة الافتنان بهن من جميع الوجوه، فكيف يجوز لهن صعود المنابر والتقدم لإمامة الرجال في المحافل العامة؟!(/23)
رابعا: لم يثبت أن امرأة واحدة عبر التاريخ الإسلامي قد أقدمت على هذا الفعل أو طالبت به على مدى هذه العصور المتعاقبة من عمر الإسلام، لا في عصر النبوة ولا في عصر الخلفاء الراشدين ولا في عصر التابعين، ولا فيما تلا ذلك من العصور، وإن ذلك ليؤكد تأكيدا قاطعاً على ضلال هذا المسلك وبدعية من دعا إليه أو أعان عليه.
ولو كان شيئا من ذلك جائزاً لكان أولى الناس به أمهات المؤمنين وقد كان منهن الفقيهات النابغات، وعن بعضهن نقل كثير من الدين، وحسبك بالفصيحة البليغة العالمة النابهة الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولو كان في ذلك خير لسبقونا إليه وسنوا لنا سنة الإقتداء به.
لقد عرف تاريخ الإسلام فقيهات نابغات ومحدثات ثقات أعلام، وقد أبلى النساء في ذلك بلاء حسناً وعرفن بالصدق والأمانة حتى قال الحافظ الذهبي: (لم يؤثر عن امرأة أنها كذبت في الحديث) ويقول رحمه الله : (وما علمت من النساء من اتهمت ولا من تركوها) (ميزان الاعتدال: 4 / 604) وحتى كان من شيوخ الحافظ ابن عساكر بضع وثمانون من النساء! ومثله الإمام أبو مسلم الفراهيدي المحدث الذي كتب عن سبعين امرأة، ومن النساء في تاريخ هذه الأمة من كن شيوخاً لمثل الشافعي والبخاري وابن خلكان وابن حيان وغيرهم!! ومع ذلك لم يؤثر عن واحدة منهن أنها تطلعت إلى خطبة الجمعة أو تشوفت إلى إمامة الصلاة فيها مع ما تفوقن فيه على كثير من الرجال يومئذ من الفقه في الدين والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم . لقد عرف تاريخ الإسلام المرأة عاملة على جميع الأصعدة، عرفها عالمة وفقيهة، وعرفها مشاركة في العبادات الجماعية، ومشاركة في العمليات الإغاثية، ومشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه لم يعرفها خطيبة جمعة ولا إمامة جماعة عامة من الرجال.(/24)
وبهذا يعلم بالضرورة والبداهة من دين المسلمين أن الذكورة شرط في خطبة الجمعة وإمامة صلوات الجماعة العامة، وأمام من يجادل في ذلك عمر نوح لكي يفتش في كتب التراث ليخرج لنا شيئا من ذلك، وهيهات هيهات! وما ينبغي لهم وما يستطيعون! خامسا: أما تعويل من زعم ذلك على ما روي من أن أم ورقة قد أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم في إمامة أهل بيتها فإن هذا الحديث على فرض صحته لا علاقة له بموضوع النازلة، فإنه يتحدث عن إمامة خاصة داخل البيت بالنساء أو بهن وببعض أهل البيت من الرجال على أوسع التفسيرات وأكثرها ترخصا فأين ذلك من خطبة الجمعة والإمامة العامة للصلاة؟
إن المجمع ليحذر الأمة من الافتتان بمثل هذه الدعوات الضالة المارقة من الدين، والمتبعة لغير سبيل المؤمنين، ويدعوهم إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، ويذكرهم بأن هذا العلم دين وأن عليهم أن ينظروا عمن يأخذون دينهم، وأن القابض على دينه في هذه الأزمنة كالقابض على الجمر، ويسأل الله لهذه الأمة السلامة من الفتن والعافية من جميع المحن، وأن يحملها في أحمد الأمور عنده وأجملها عاقبة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل..
الأمين العام
د. صلاح الصاوي
ثالثا: ما جاء على لسان مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ حيث قال:قضية في هذه الأيام يروج لها الإعلام الخارجي ربما ننظر إليها على أنها ثانوية وهامشية ولكن إذا سبرنا الوضع وجدنا أنها لإيجاد الفرقة بين أبناء الأمة، وقطع الصلة بين حاضرها وماضيها، وهذه القضية :ما ينشر بأن هناك فكرة هي: إمامة امرأة لرجال ونساء في صلاة الجمعة.(/25)
ومن نظر بتدبر وجد أن أمتنا منذ عهد محمد صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا الحاضر لم يجز للمرأة أن تقف خطيبة في الرجال فهذه القضية ما أُتي بها إلا لإضعاف الحياء في النساء ولم يريدوا خيراً بل سوء وضلال؛لأن هذا الأمر لم يعهد منذ العصور السابقة. وعلى الرغم من أن البعض اعتبرها قضية خاصة إلا أنه يجب الحذر منها، فالمراد بها تحطيم الحواجز وحياء المرأة ويكون أعداء الإسلام معول هدم في الأمة الإسلامية ويأبى الله ذلك.
وبين سماحته أن من دافع عن هذه القضية فهو مخالف لشرع الله، فأعداء الإسلام اتخذوا من المرأة قضية لإفساد الأمة ولكن الأمة بتمسكها بدينها والاستقامة على الحق تقف ضد هذه الدعاوى الباطلة.
رابعا:ما جاء عن شيخ الأزهر حيث أكد شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي أن إمامة المرأة للرجال بصفة عامة سواء كانت في صلاة الجمعة أو في الصلوات الخمس المفروضة أو في صلاة النوافل أو في أي صلاة أخرى لا تجوز، وإنما يجوز لها أن تكون إمامة لبنات جنسها من النساء؛ لأن بدن المرأة عورة وعندما تؤم الرجال ففي هذه الحالة لا يليق بهم أن ينظروا إلى المرأة التي يظهر أمامهم بدنها، فإن ظهر لهم في الحياة العامة فإنه لا يصح أن يوجد في العبادات التي لحمتها الخشوع.
خامسا: ما جاء عن مفتي مصر السابق الدكتور نصر فريد واصل حيث أكد على أن قيام المرأة بإمامة الرجال في الصلاة غير صحيح ولا يجوز شرعاً للمرأة إمامة الرجال أو الصبيان وإنما يجوز لها فقط أن تؤم النساء.
وأضاف: من أدى الصلاة خلف هذه المرأة فصلاته باطلة فلو أن إمامة المرأة جائزة للرجال في الصلاة لكان أولى بها أمهات المؤمنين، مشيراً إلى أن ما فعلته الدكتورة أمينة ودود بإمامتها صلاة الجمعة الماضية للرجال والنساء بدعة منكرة لأن حكم إمامة المرأة للرجال شيء معلوم من الدين بالضرورة.(/26)
سادسا: ما صدر عن الشيخ محمد نور عبد الله رئيس الاتحاد الإسلامي لأمريكا الشمالية، وهي أكبر منظمة إسلامية في الولايات المتحدة وكندا والمكسيك حيث قال تعليقا على هذا الحدث الشاذ والغريب: قطعاً نحن كمسلمين في أمريكا الشمالية وفي العالم ككل نواجه تحدياً كبيراً جداً، تحدياً حضارياً، تحدياً ثقافياً، تحدياً دينياً وهذه التحديات تسير في اتجاه واحد هو خلخلة مبادئ الإسلام والأصول الثابتة للإسلام وهي القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة. والمشيعون للتصدي للإسلام لديهم مواقع على الإنترنت يكشفون فيها نواياهم الحقيقية لتغيير الإسلام أو تعديله كما حصل في الأديان الأخرى، في حين أننا كمسلمين لدينا في ديننا ثوابت متينة مصدرها القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف الصالح، أما ماعدا ذلك فيدخل تحت نطاق الاجتهاد.
ومن خلال اطلاعي على السنة وعلى أقوال الفقهاء لم أجد أنهم أجازوا قيام امرأة بإمامة الناس رجالاً ونساءً في مكان عام.
ثم قال: "لو كان في إمامة المرأة للرجال في الصلاة خير أو رفعة وعزة للمرأة فبدون شك أن أمهات المؤمنين سيكن السباقات إلى ذلك.
إن عائشة - رضي الله عنها - التي هي فقيهة الأمة أمت النساء فقط في صلاة التراويح ووقفت في وسط الصف وكذلك الحال مع أم سلمة - رضي الله عنها- التي أمت النساء فقط.(/27)
والأمر الآخر المهم هو أن صلاتنا تعني الخشوع والخضوع لله - سبحانه وتعالى - فكيف يمكن لذلك أن يتم متى كانت امرأة تؤم الرجال، ترجع وتسجد أمامهم؟!! حتى حياء المرأة يمنعها من فعل هذا الشيء، لو سلمنا بأن ذلك جائز، وأنا شخصياً لا يمكنني تخيل أن والدتي أو أختي ستؤم الرجال الأجانب. وحادثة الدكتورة أمينة ودود لا تخرج عن كونها خلخلة لمبادئ الدين الإسلامي لأن من يقومون بهذا العمل - وقد تكون نواياهم سليمة - إلا أنهم - وبدون قصد - يصبحون أدوات في أيدي أعداء الإسلام الساعين إلى إحداث تغيير أو تبديل في الإسلام. ولذلك فنحن نناشد كل من لديهم ضمير وكل من لديهم حياء في دينهم أن يتقوا الله في أنفسهم وفي دينهم وفي آخرتهم فالدين الإسلامي ليس مظاهرة أو مسألة صراع بين الرجل والمرأة، الإسلام كرم المرأة ومنحها حقوقها كاملة وهي حقوق لم تمنح للمرأة من قبل وحتى الآن لم تتمتع المرأة الغربية بالحقوق التي تتمتع بها المرأة المسلمة وختم حديثه بقوله "علينا أن نؤكد على أن أمامة المرأة للرجال والنساء في الصلاة بإجماع الفقهاء تجعل من صلاتهم صلاة باطلة فالتاريخ الإسلامي لا يتضمن سوى حالة واحدة وهي حالة الصحابية الجليلة أم ورقة - رضي الله عنها - التي أمت أهل بيتها ولم تؤم المسلمين، رجالاً ونساءً، في مكان عام سواء في صلاة الجمعة أو غيرها. كانت هذه هي الحالة الوحيدة ولو كانت حالة أو حالات غيرها لكان قد دونها العلماء. ومع - الأسف - أن هذا الذي نواجهه ما هو إلا تحد جديد يواجهه الإسلام والمسلمون ونحن المسلمين في أمريكا أصبحنا في فوهة المدفع لأن أمريكا أصبحت لأعداء الإسلام ساحة اختبار أما الهدف الأساسي لهم فهو تخريب الإسلام في العالم اجمع ومسخ كل القواعد والمسلمات المتعلقة بالإسلام ولا حول ولا قوة إلا بالله".(/28)
العنوان: بين المصلحين والمفسدين (2)
رقم المقالة: 1036
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
شؤم المفسدين
الحمد لله العليم الحكيم؛ أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وأقام حجته على خلقه أجمعين، نحمده على هدايته، ونشكره على ولايته {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى المؤمنين بالكفار، والأخيار بالفجار؛ حكمة منه وامتحانا {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ختم الله تعالى به النبوات فلا نبي بعده، ولا يسع من بلغته دعوته إلا اتباعه {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأخلصوا له عملكم، وأقيموا دينكم، فمن وافاه على ذلك سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، ومن فرط في حياته، وضيع دينه فلا يلومنَّ إلا نفسه {وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8-9].(/1)
أيها الناس: من حكمة الله تعالى في عباده، ومن عظيم ابتلائه لهم أن جعلهم طائفتين مختلفتين، وقسمهم إلى فريقين متحاربين؛ ففريق اختار طريق الأنبياء عليهم السلام في السعي بالصلاح والإصلاح، وفريق سار سيرة الطغاة المستكبرين فسعى بالفساد والإفساد.
والناس يختلفون في تحديد الصلاح من الفساد، والإصلاح من الإفساد بحسب أديانهم وأفكارهم ومذاهبهم، وإلا فإن الصلاح والإصلاح يدعيه كل أحد، والفساد والإفساد يتبرأ منه كل الناس، والمفسدون في الأرض لا يرون أنفسهم إلا أنهم مصلحون، وملاحدة البشر يرون أن الدين هو المفسد للناس؛ ولذا يحاربونه لتحرير البشرية منه كما يزعمون، وقديما قال فرعون الطاغية وهو رأس في الفساد والإفساد {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} [غافر:26].
وإذا كان الاختلاف بين البشر في تحديد الصلاح من الفساد، والمصلح من المفسد قد بلغ هذا الحد؛ فإن الميزان في ذلك شريعة الله تعالى؛ لأن الله سبحانه خالق الخلق ومدبرهم، وهو الذي أنزل الدين وشرعه لهم، وهو من يحاسبهم به ويجازيهم عليه، فكانت معرفة الصلاح والفساد، وتحديد المصلحين من المفسدين عن طريق وحيه وشريعته، وتلك حقيقة يجب أن لا يختلف فيها مسلمان، وفي القرآن العظيم {وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ} [البقرة:220] وفي آية أخرى {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ} [آل عمران:63] وفي آية ثالثة {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالمُفْسِدِينَ} [يونس:40].
فكل مؤمن بالله تعالى، مصدق بموعوده، داعية إلى دينه، محارب لما عارضه فهو صالح مصلح وإن رُمي بغير ذلك، وكل معارض لشريعة الله تعالى، ممالئ لمن يحاربها فهو فاسد مفسد ولو زعم خلاف ذلك.(/2)
ومن طبيعة المفسدين في الأرض أنهم يتشاءمون بالمصلحين، ويزعمون أنهم سبب بلاء البشر، وانتكاس حالهم، وتردي أوضاعهم، وقد قال ذلك الأقدمون من المفسدين، وتشاءموا من رسلهم عليهم السلام، وادعوا أنهم سبب ما يصيبهم من البلاء؛ فقبيلة ثمود تطيروا بصالح عليه السلام ومن معه من المؤمنين {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47] وأصحاب القرية تطيروا برسل الله تعالى إليهم {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:18-19] وأخبر الله تعالى عن فرعون وقومه أنهم تطيروا بموسى عليه السلام والمؤمنين معه {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ الله وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131] والمفسدون من قريش فعلوا ذلك مع النبي عليه الصلاة والسلام، فتطيروا به، وأرجعوا كل مصائبهم إليه وإلى ما يدعو إليه من توحيد الله تعالى، وإخلاص الدين له {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78].(/3)
ومن تأمل واقع المفسدين في هذا العصر سواء كانوا ملاحدة أم وثنيين أم أهل الكتاب أم منافقين فسيجد أنهم قد ساروا على ذات الطريق الذي سار عليه إخوانهم المفسدون قبلهم؛ فهم يتطيرون بدين الله تعالى وبشريعته وبحملتها، وبالدعاة إليها، ويُرْجعون كل مصائب الأمة وتأخرَها واختلافها إلى دين الله تعالى والمتمسكين به، ويدعون الناس إلى نبذ أحكام الله تعالى إن أرادوا عزا وتقدما واجتماعا وازدهارا.
والحقيقة المستمدة من الكتاب والسنة: أن سبب بلاء البشر ومصائبهم هم أهل الفساد والإفساد من الكفار والمنافقين، ومن تبعهم في ضلالهم، وسار سيرتهم، وهم سبب رفع الخيرات، وتنزل العقوبات، وهم سبب هلاك من هلك في الأمم الغابرة، وكل بلاء حلَّ في البشر قديما وحديثا فبشؤم كفرهم بالله تعالى، وحربهم على شريعته، وسعيهم لإفساد البشر، والحيلولة بينهم وبين المصلحين بشتى الطرق والوسائل، واقرءوا كتاب الله تعالى تجدوا أن كل المعذبين قبلنا إنما عذبوا بسبب طاعتهم للمفسدين من أقوامهم، وتنكبهم لما دعتهم إليه رسلهم عليهم السلام؛ ففي قصة شعيب عليه السلام {وَقَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف:90] وقد ذكَّرهم شعيب عليه السلام بسير المعذبين من قبلهم، وحذَّرهم من صدهم الناس عن دين الله تعالى فقال لهم {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ} [الأعراف:86] ولكنهم لم يصغوا إليه عليه السلام، وساروا سيرة المفسدين من قبلهم فعذبوا كما عذبوا. وهكذا كل الأمم التي عذبت إنما عذبت بسبب طاعة المفسدين، فكانوا شؤما وبلاء على أقوامهم {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ(/4)
ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ} [الحج:48] وفي الآية الأخرى {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطَّلاق:8-9] فهذا من أعظم شؤم المفسدين على البشر.
والمفسدون من البشر يسعون جادين في نشر فسادهم، ودعوة الناس إليه، حتى يكثر الخبث فيهم، فيكون ذلك سبب عذابهم، وقد قالت زينب بنت جحش رضي الله عنها: (يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث) متفق عليه.
ولا يكتفون بإتيان الخبيث من القول والفعل، ونشره في الناس، ودعوتهم إليه، بل يجاهرون بمنكرهم، ويعلنون به، حتى ترفع العافية عن الناس، ويستوجبوا العقاب بسببهم؛ كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) رواه البخاري.
والأمة التي يجاهر المفسدون فيها بالمنكرات، ولا ينكر عليهم أحد حَرِيَّة برفع عافيتها، ووجوب عقوبتها.
وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) رواه الشيخان، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش) رواه الشيخان. والمفسدون في الأرض هم الذين ينشرون الفواحش، ويدعون الناس إليها، ويمهدون سبلها بما يشرعونه من انحراف فكري عقائدي يسمونه الحريات والخصوصيات، وبما يعملون عليه من سبل اختلاط النساء بالرجال.(/5)
والمفسدون في الأرض هم سبب سلب الخيرات، وقلة البركة في الأرزاق، وهم سبب الجوع والخوف؛ فإن ذلك إنما يقع بسبب الذنوب والمعاصي، وهم أهلها والداعون إليها، وقد قال الله تعالى مبينا شؤم فرعون وملئه على قومهم {كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ العِقَابِ} [آل عمران:11].
وقوم سبأ لم يتبدل نعيمهم وهناؤهم إلى جوع وخوف وعذاب إلا بشؤم المفسدين منهم {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الكَفُورَ} [سبأ:15-17].
وأهل مكة كانوا في رغد من العيش، وأمن من الخوف، فلما استكبر المفسدون من قريش عن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام أصيبت مكة بالجوع والخوف، وهي المعنية بقول الله تعالى {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].(/6)
ومن نظر في أحوال العالم المعاصر فسيجد أن كل بلاء الناس، وجوعَهم وخوفَهم، واضطرابَ أحوالهم إنما كان بسبب إفساد المفسدين، الذين يريدون تعبيد الناس لأهوائهم من دون الله تعالى، فمَنْ سعر الحروب، وأفقر الشعوب إلا المستكبرون في الدول القوية!! ومن حال بين الناس وبين دين الحق إلا هم والمنافقون معهم بتزوير الحقائق، والتدليس على الناس!! ولا يزال المفسدون من الكفار والمنافقين جادين في إخراج الناس من دينهم، وصدهم عن الحق إلى باطلهم، ويملكون أقوى وسائل الدعاية في ذلك، رد الله تعالى كيدهم عليهم، وحفظ المسلمين من شرهم ومكرهم إنه سميع مجيب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:149-150].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19].(/7)
أيها المؤمنون: قد أفاض القرآن الكريم في وصف المفسدين من البشر، وبيَّن أسباب ضلالهم، ورداءة أحوالهم، وحذر من أفعالهم، ولم يُسَوِّ الله تعالى بينهم وبين المصلحين، بل ذكر سبحانه أن المؤمنين القائمين بأمر الله تعالى هم خير خلقه عز وجل، كما بيَّن عز وجل أن الكفار والمنافقين هم شر خلقه سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} [البيِّنة:6-7].
وأعظم شؤم جرَّه المفسدون من الكفار والمنافقين على البشرية أن أتباعهم المخدوعين بهم، السائرين خلفهم، يعذبون معهم يوم القيامة بسبب طاعتهم لهم، وقد كانوا في الدنيا يعدونهم بالنجاة من العذاب، وبأنهم إنما يهدونهم سبل الرشاد، فإذا وقفوا بين يدي الله تعالى تبين للأتباع أن هؤلاء المفسدين قد غشُّوهم وكذبوا عليهم، وأوردوهم دار السعير، ثم تبرءوا منهم، كما يتبرأ المجرم من شركائه في الجريمة {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166-167].
وفي مشهد آخر يحكي الله تعالى عنهم فيقول سبحانه {وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21].(/8)
وفي مشهد ثالث يقول الله تعالى واصفا جدالهم {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ القَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:31-33].
وفي مشهد رابع يقول سبحانه عنهم {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ} [غافر:47-48].
إنها آيات عظيمة فيها الحجة والبرهان على أن المفسدين في الأرض، يتعدى وبالهم أنفسَهم ليصيب أتباعَهم، فهل هناك شؤم أعظم من هذا؟! حين يوردونهم العذاب ثم يتخلون عنهم، ويتبرءون منهم.
إن عذاب الدنيا لا يقع إلا بالمعاصي، والمفسدون في الأرض هم أهل المعاصي، وهم الذين يدعون الناس إليها.
وإن النجاة من عذاب الدنيا لا تكون إلا بطاعة الله تعالى، والاستقامة على دينه، والمفسدون في الأرض يصدون عن دين الله تعالى، ويحاربون الدعاة إليه.
وإن عذاب الآخرة لا يصيب العباد إلا بكفرهم ومعصيتهم، والمفسدون في الأرض هم من يزينون المعاصي للناس، ويدلونهم عليها، ويفتحون لهم أبوابها، ويمهدون سبلها.(/9)
وإن النجاة من عذاب الآخرة لا تكون إلا بطاعة الله تعالى بعد رحمته سبحانه، والمفسدون في الأرض يريدون من الناس أن يطيعوهم ولا يطيعوا ربهم، فهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، فاحذروهم، واحذروا مسالكهم وحبائلهم، وحذِّروا الناس منهم؛ فإنهم إذا رأوا العذاب تبرءوا من أتباعهم.
وصلوا وسلموا على نبيكم....(/10)
العنوان: بين تقلب المناخ وطيش السياسة
رقم المقالة: 1047
صاحب المقالة: د. أسامة عثمان
-----------------------------------------
كما يشهد عالمنا تغيرات مناخية مقلقة؛ فإنه يعاني أزمات سياسية تتفاقم.. فهل من علاقة؟!
قديماً؛ رأى ابن خلدون أن ثمة علاقة بين المناخ وأخلاق البشر! وفي الواقع الراهن نلمس هذا التأثير في توتر الأعصاب، وسرعة المبادرة إلى الصدام، أوقاتَ الحر!!
نعم!! أثبت صاحب المقدمة تلك الفاعلية المناخية في أخلاق البشر وطباعهم؛ لكنه لم يتوقع أن تصبح العلاقة تفاعلية تبادلية! فكما يقسو علينا المناخ أحياناً؛ فلنبادله قسوة بقسوة! وقد تولت كبيرتنا (الولايات المتحدة الأمريكية) الرد عنا؛ فلم ترأف بدعوات الدول التي تنادي بضرورة الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري؛ بالتوقيع على معاهدة (كيوتو)، وقد بلغ عدد الدول الموقعة عليها (120) بلداً.
وبعد أن حاول البيت الأبيض إنكار العلاقة بين انبعاث الغازات العادمة وظاهرة الانحباس الحراري؛ عاد وأقر بأن التلوث الذي تتسبب فيه الأنشطة البشرية هو المسؤول -على نحو كبير- عن ظاهرة الاحتباس الحراري، وبالرغم من ذلك؛ أصرت الولايات المتحدة على موقفها..
ولم يكن هذا مفاجئاً في عهد رئيسها المنحاز -بوضوح- إلى طبيعته العنيدة، الخاضع -بحكم بنية المجتمع الأمريكي- للأثرياء من الصناعيين..
أصر (بوش) على موقفه، فسوغ هذا الرفض بأن تطبيق بنود المعاهدة سيكلف الاقتصاد الأمريكي كثيراً، متجاهلاً كون الولايات المتحدة معدودةً أكبر مصْدَر للغازات التي يقال إنها تتسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري الكوني؛ إذ نسبة العوادم الغازية في الولايات المتحدة (36,1 %) مقارنة بها في البلدان الصناعية.(/1)
وجرياً على نهج الاسترضاء وأنصاف الحلول؛ فقد اتفق زعماء مجموعة الثماني على السعي لخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة النصف بحلول العام 2050. وقالت المستشارة الألمانية: "إن الاتفاق هو تسوية لا تصل إلى مستوى الاتفاق الملزم".
من جهته تعهد الرئيس الأميركي بأن تلعب بلاده دوراً قيادياً في مواجهة الظاهرة, لكنه رفض التوقيع على أي تعهدات بالأرقام! ولم يرق الاتفاق للمنظمات المدافعة عن البيئة، التي وصفته بأنه فارغ.
وأشارت صحيفة (يونغا فيلت) الألمانية إلى أن مقترحات (بوش) الغامضة بدت -في القمة- كسراب يحاول أن يخفي حقيقة أن الولايات المتحدة أكبر ملوِّث للبيئة في العالم، مع إصرارها على الاستمرار -بلا نهاية- في نشر الملوثات.
وهذا الموقف الأمريكي يمثل مؤشراً صارخاً على عدم جدارة هذه الدولة -بهذه العقلية النفعية المجردة- بقيادة العالم، ولا حتى تمثيل شعبها؛ لافتقارها للمسؤولية، وانحيازها إلى فئة محدودة من الشعب الأمريكي، ممن استبدت بهم القيم المادية، وهذا موقف طيش مؤَسس.
ولكن، وفي المقابل؛ يميل بعض المحللين إلى اتهام (بوش) بنقص الذكاء، وقد يكون صحيحاً، ولكن الأمر ليس مسألة شخصية؛ فالرئيس الأمريكي على رأس إدارة أمريكية، لها سياستها المرسومة وخططها المعدة، وليس (بوش) هو المستبد بالقرار السياسي الذي يُسمَح له بجرِّ الشعب الأمريكي لرؤاه الخاصة؛ ففي إصرار (بوش) على عدم التوقيع على (كيوتو)، وعدم الالتزام بأمور محددة دعت إليها قمة الثماني؛ حفاظٌ على المصالح الاقتصادية وفق رؤية الصناعيين في بلده، وليس عناداً شخصياً بحال.(/2)
وفي إصرار (بوش) -كذلك- على فكرة الدرع الصاروخي سعيٌ للحفاظ على المصالح الاستراتيجية في الهيمنة الأمريكية على العالم؛ وهو ما نوه به (بوتين) في معرض بيانه لخطورة هذا الدرع على بلاده؛ إذ قال: "لقد تغير العالم! وجرت محاولةٌ لجعله أحادي القطب، وقد زادت بعض الدول من رغبتها في فرض إرادتها على الجميع، دون محاولة من جانبها؛ لكي تكون أفعالها تتسق مع القانون والأعراف الدولية".
لكن اللافت للانتباه حقاً هو قوة الموقف الروسي؛ فبالرغم من التطمينات التي تلقتها روسيا من حلف الأطلسي وأمريكا: "أن تلك الخطة لن تؤثر على أمنها"؛ فقد قال الأمين العام للحلف (جاب دي هوب شيفر): "إن روسيا لن تواجه أية تهديدات بإقامة مثل هذا الدرع الصاروخي".
ولمزيد من التهوين ذكر أنه: "لا ينبغي أن تكون في ذكاء العالم الشهير (ألبرت أينشتاين)؛ لتدرك أن (10) صواريخ اعتراضية لا توجِد أي تهديد لروسيا، ولا للشعب الروسي".
وبالرغم من تحذيرات (طوني بلير) لـ (بوتين): أن "توتر علاقات بلاده مع أوروبا ليس في صالح روسيا" -منحازاً بذلك للموقف الأمريكي- فقد ظل الموقف استرضاء أمريكياً لروسيا، وهي الدولة التي لم تعد دولة عالمية كما كانت، ولا تملك القوة الاقتصادية التي تؤهلها لخوض صراع مع أوروبا وأمريكا. فلولا أنها تلمس ضعفاً وتضعضعاً في وضع أمريكا الراهن، وتورطها في العراق؛ لما قويت على هذا الموقف..
فهل يفضي اندفاع (بوش) إلى الأمام -مصحوباً بتبعات إضافية- بأمريكا إلى حالة من الإرهاق والإنهاك؟؟!!
وتفضلوا بقبول فائق الشكر والتقدير.(/3)
العنوان: بين حصار قطاع غزة وحصار شعب مكة
رقم المقالة: 1999
صاحب المقالة: أ.د. سليمان بن حمد العودة
-----------------------------------------
المسافةُ الزمنية بين حصار الملأ المستكبرين من قريش للمؤمنين بمكة، وبين حصار الصهاينة المعتدين لأهل الإسلام المرابطين في غزة مسافةٌ بعيدة، والبعدُ الجغرافي بين شِعب أبي طالب وبين أرض غزة كبيرٌ أيضاً..
ولكن مع هذا وذاك فثمة فروق واتفاقات بين الحصارين..
فحصار الشعبِ تضيق مساحته الجغرافية حتى لا يتجاوز بضع مئات من الأمتار.. وحصار غزة يتسع ليشمل قطاعاً تزيد حدوده عن ثلاثمائة كيلو من الأمتار.. وفي هذا توسيع لنطاق الحصار المعاصر عن نطاق الحصار السابق.
والمحصورون في شعب أبي طالب إن لم يتجاوزوا المائة أو المئين، فهم في قطاع غزة يتجاوزون المليون ونصف المليون من المحاصرين.
ومع صنوف الحصار الاقتصادي والاجتماعي والنفسي في حصار قريش لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ومن دخل معهم؛ فحصارُ صهاينة اليوم يتجاوز هذه الأطر ليضيف حصاراً عسكرياً، يمطر الأرضَ بوابل القاذفات، ويصيب بالقنابل والمتفجرات صبيةً ونساء، لا حول ولا قوة لهم إلا بالله، وما نقموا منهم إلا أن يقولوا ربنا الله؟
حصار (الشِّعِب) دوَّنه التاريخ، وروته كتب (السيرة) بمداد أسود، وسطَّرت أسماءَ المخططين والمنفذين له على أنهم (أكابر مجرميها) وشبهتهم (كمن هو في الظلمات ليس بخارج منها)، وكذلك التاريخ يشهد اليوم على أكابر المجرمين وإخوان القردة والخنازير.
حصار الشعب مع إحكامه، وتعليق وثيقته -(المقدسة) في نظر المجرمين- في جوف الكعبة، فقد اخترقته (الشهامة) العربية، ونُقضت صحيفته (الآثمة) (بحمية) جاهلية؟
فهل من شهامة معاصرة؟.. وأين ومتى تكون الحميةُ الإسلامية؟!
وهل يكون نفرٌ من قريش أقدرَ على المبادرة من أمة تتجاوز المليار؟
وصدق الشاعر حين قال:
لو بعثنا واحداً من كل ألفٍ لمشى جيشٌ إلى القدس عرمرم(/1)
ثمة اتفاق يوحّد بين مللِ الكفر -في الماضي والحاضر والمستقبل- هو محاربة الإسلام ومحاصرة المؤمنين، وعدم الرضا إلا بمللهم المنحرفه {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] {حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة: 217].
وثمة اتفاق بين مواقف للمؤمنين سابقاً ولاحقاً في الثبات على الحق والصبر على اللأواء واستشراف المستقبل، وحيث انتصر المؤمنون الأولون وكانت لهم العُقبى، فالنصرُ قادم لمن تأسى بهم، ووعدُ الله حق {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].
الفئة المؤمنة المُحاصَرة في زمن النبوة لم يكن في الأرض غيرُها يدين بالدين الصحيح (الإسلام) وهذا يعظم الحصار ويزيد من شدته على المحاصرين.. ولكنه اليوم وفي زمن (الغثائية) ومع انسياح الإسلام في الأرض.. يكون الرقمُ الكبيرُ للمسلمين مأساةً وشدةً أكبر على المحاصرين في غزة حين يلف الصمتُ، ويخيّم الذل، ويسود الهوان قِطاعاً عريضاً من المسلمين.. وتُقطع نياطَ القلب كلماتُ الصبية والنساء: أين إخواننا المسلمون عن نصرتنا؟
الفئة المحاصرة الأولى في شعب أبي طالب تمثل رمزاً بل نموذجاً وحيداً للإسلام بوعيها وثباتها على الحق ورفضها (سبيل المجرمين).
والمحاصرون اليوم في غزة يمثلون (الرمزية) للثبات على المبدأ، والوعي بمخططات العدو، وتفويت الفرص على مشاريع (الاستسلام)، والتصدي لمشاريع (التهويد) في القدس، بل يقومون -نيابةً عن الأمة الغافلة- بمقاومة المحتل وتعويق (مشاريعه) الصهيونية في المنطقة.. كذلك نحسبهم ولا نزكي على الله أحداً.
ولهذه المعاني والاعتبارات حوصروا.. ولهذه المواقف الواعية والمتصلبة حوربوا.. ويُراد لهم أن يركعوا كما سجد غيرُهم؟!(/2)
ومن هنا فإن نصرة هؤلاء والوقوف إلى جانبهم في محنتهم اليوم، هو نصرة لقضيتنا الكبرى (قضية فلسطين)، وهو (مدافعة) لخطط المستعمرين.. قبل أن يكون نصرةً للفلسطينيين، أو مدافعة عن عرين الأسود في غزة المحتلّة؟
وحين تُطلق الصيحاتُ لكل فردٍ مسلم بنصرة هؤلاء المحاصرين بما يستطيع، تُطلق صيحة قبلها وآكد منها.. باجتماع البيت الفلسطيني وحمايته من الاختراق الداخلي، والتأكيد على الشرفاء الفلسطينيين؛ بإدراك خطورة الوضع، وشدِّ الأيدي، وتقوى الله، وتقديم مصالح الأمة، وحمل همومها.. على المصالح الذاتية والمطامع الشخصية، وفي توجيه القرآن عبرة {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45-46].
وبعيداً عن المبالغة يمثلُ حصارُ غزة المفروضُ اليومَ على الفلسطينيين جريمةً بكل المقاييس، ويُصنَّف الضعفُ المصاحب لهذا الحصار، والصمتُ المؤلم على المستوى الإقليمي والدولي على أنه كارثة فوق الكارثة.. فالجرح النازف، والضعف السياسي، والافتراق الداخلي كل ذلك مدعاة للحسرة والألم.
المشاهد الناطقة داخل القطاع تصوّر مجموعةً من النساء والرجال، والشيوخ والشباب، والمرضى والمُعْوِزين.. ظلام دامس، وقلة في المواد الغذائية، ونقص بل انعدام للدواء، جُثث تُحمل، وأخرى تتهاوى، وربما عزّ الكفن، وأغلقت المقابر، وهل بعد أن يستصرخ الناس: أنقذونا ولو بتكفين موتانا.. أو بحفر القبور لشهدائنا؟!
مليون ونصف المليون معظمهم من الأطفال والنساء يموتون حتفهم، ويقتلون صبراً، أي وضعٍ هذا؟ هل الأموات هناك فقط.. أم من يصمت حيال هؤلاء.. هم الموتى؟(/3)
حين يتدنى سقفُ المطالب ليصل إلى أكفانِ الموتى أو توفير الأسمنت للمقابر فتلك مؤشرات على قرب انفجار لا يعلم نهايته إلا الله!
وحين تستصرخ الفتياتُ الفلسطينيات بكل (جدية) ويقلن: لا بأس أن تشاهدوا جنائزنا.. لكن استروا عوراتنا.. واخلفونا في أهلينا بخير.. فتلك التي تعقد الألسنة وتتفطر لها الأكباد؟!
وحين تستصرخ فتيات أخر وتقول: بعد غدٍ لا خبز عندنا، ونحن أحسنُ من غيرنا، غيرُنا اليوم وغداً لا خبز عندهم، بل ولا ماء ولا دواء.. فتلك البلايا التي يتحطم لهولها الصخر!!
وحين تُبلل دموع الشيوخ الثرى وهم يستصرخون إخوانهم في مد يد العون لهم ويتحسرون على مستقبل أبنائهم وبناتهم.. فتلك كارثة ربما لم يشهد التاريخ مثلها؟
إنه قطار الموت يسير في قافلة تحمل إخوانَنا الفلسطينيين نعلم محطتها الأولى، ولا ندري أين يتوقف القطار ومتى يتوقف؟
إنه الحصار الظالم، ومنطقة الكوارث من الدرجة الأولى في غزة الراسخة.
إخوة الإسلام.. يمكن أن نقول كلَّ شيء عن حصار (غزة)، لكن ماذا يمكن أن نُقدم على صعيد الواقع لهؤلاء المحصورين؟ هذا هو التحدي.. وهذا هو الذي يقلق العدوَّ الغاشم؟
إننا نستطيع أن نعمل ونتحرك باتجاهات متعددة، على الصعيد الرسمي، والشعبي، وعلى صعيد الإغاثة، والإعلام، وعلى أصعدة إصلاح الجبهاتِ وسدِّ الثغور، وبناء المستقبل، ومدّ الجسور نستطيع أن نصنع من المحن منحاً، ومن الآلام آمالاً، ومن الظلمات نوراً، ومن الموت حياة، ومن الخوف أمناً.(/4)
إن هذه المآسي توقظ الهمم، وتستدعي رصيدَ الأخوة، فكم من غارق في همومه الشخصية جاءت هذه الكوارثُ لتوقظ فيه حميةَ الدين وتشعره بالولاء للمؤمنين.. وهذا مكسب، وكم من مخدوع بأبجديات الغرب ومكوناته الثقافية وقيمه الحضارية من دعاوى (الحرية والديمقراطية، ومحكمات العدل، ومجلس الأمن.. وسواها) فجاءت هذه المآسي لتمحوها من الذاكرة، وتثبت (إرهابَ، وظلمَ، وجورَ، وعدمَ إنسانية..) هؤلاء القومِ.. ولتقود قيمَ حضارتِهم (المزعومة) إلى (مزبلة) التاريخ وإلى غير رجعة؟ وهذا مكسب آخر..
وكم تهيئ هذه المصائبُ والمحنُ من فرصٍ لوحدة الصفِ المسلم، واجتماعِ الكلمة، وتجاوزِ الخلافات والاتهامات، لا سيما والأشقاءُ يصبحون ويمسون على عدوٍ مشترك لا يُفرق بين رايةٍ (فتحيةٍ) أو (حماسيةٍ) أو غيرها.. وإن فاضَلَ بينها حيناً ولهدف تمزيق الصف فهو يقصدها جميعاً، ويهدف إلى إسقاطها كلها في النهاية.. لكنها المرحلية في التنفيذ وتقطيع الأجزاء، وإبعاد الأطراف، حتى إذا انتهى من القلب عاد إلى الميمنة والميسرة والمقدمة والمؤخرة يواصل تدميره ويكمل مخططه؟! وهذا الوعي مكسب ثالث.
إن الساسة بمقدورهم أن يتنادوا وأن يصنعوا شيئاً لهذا الحصار، فهو يُهدد مستقبلهم ويُعكر عليهم أمنَهم، ويُضعف هيبتَهم، وإذا أعطوا بيدٍ شيئاً من المكاسبِ للآخرين فلا بد أن يأخذوا ثمنَه أو يزيد باليدِ الأخرى.. وإذا كان للغربِ مصالحُ عندهم، فينبغي أن يُلوِّحوا بهذه المصالح حين يُهدَّد إخوانُهم وجيرانُهم بالموتِ البطيء؟
إن الأمة المسلمة بقادتها، وبهيآتها، ومنظماتها قادرةٌ على صُنع شيء بل أشياء إزاء هذا الحصارِ الظالم وأمثالهِ.. ولا حاجة لاستدعاء منظماتِ الغرب والطوافِ بها لحلِ المشكلةِ وفكِ الحصار.. ومن يأمن الذئب على غنمه، ومن يتحاكم إلى قاض هو الخصمُ والحكم؟(/5)
وإن الإعلامَ الناطق باسم الأمة المعبِّر عن قضاياها يستطيع أن يوجه الرأي العام، ويحرك المشاعر، ويضبط المسار. وإن شذ إعلامٌ مأجور، أو تناسى إعلاميون لا تعنيهم قضايا الأمة ولا يستشعرون مستقبلَ مقدساتها.. فأولئك أرقام هامشية في إعلام الأمة.. وأولئك نسوا الله ومن نسي الله نسيه الله.
إن إعلاماً يرقص ويغني والأمة تنزف جرحاً.. إعلام هابط، وإن إعلاميين يُبجلون منظماتِ الغرب ويدعون إلى تأسيس القيم الغربية في بلاد المسلمين.. هم من الغفلة والتضليل بما يدعو إلى الشفقة والأسى في آنٍ واحد. وإن تياراتٍ تنابذ الإسلام وأهله وتصفهم بالإرهاب والتطرف في كل مناسبة وفي معظم المناشط والفعاليات الراشدة.. فأولئك مَرْضَى وعسى الله أن يشفيهم.
يا قادةَ الفكرِ ورجالاتِ الدعوة، هذه المآسي تفتح لكم فرصاً للكتابة عن ثبات الأبطال، وعن أثرِ الإيمان في مقاومة العدوان، وأثرِ اليقين في تسلية النفوس وإحياءِ الأمل في مخاضات الألم.. وإلا فأي شيء غير هذا يملِكه المحاصرون الراسخون في فلسطين عموماً.. وغزة على وجه الخصوص؟!.. والحصارُ بلغ شهرَه السابعَ، والعدوُّ يزيد الجرعةَ كلما مرَّ الزمن.. والمحاصَرون يتلقون الدباباتِ بصدورهم، ويدفعون أبناءهم.. بل ومستقبلَهم ثمناً للثباتِ على المبدأ الحق ورفض العدوانِ والاستسلام ولسانُ حالهِم يقول: اللهم خذ من أبنائنا وبناتنا، وشيوخنا ونسائنا، وصحتنا.. وأمننا حتى ترضى.. فإن بقينا عِشنا أعزاءَ بالإسلام.. وإن متنا فاقبلنا شهداءَ.. نُشهدك ونشهد أمتَنا على أنه لا ذنب لنا إلا العزةُ بالإسلام، ورفض الاحتلال والطغيان؟ أليس في هذه المعاني حياة حتى وإن كتب لأصحابها الموت؟
إن أمةَ تحيا بموتِ آخرين منها.. أمة تأبى الذوبان.. وهي عصيَّةٌ على العدوّ مهما بلغ، وهي الجديرة بالتمكين والاستخلاف وإن طال أو قصر الزمن، ولله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون.(/6)
يا أصحاب الغِنى، ويا رجالات المالِ، أنفقوا يُنفِق اللهُ عليكم، وأعطوا من مالِ اللهِ الذي آتاكم وحين تصدقون وتتجاوزون الشحَّ والأثره فستجدون مخارجَ وطرقاً لغوثكم وإعانتكم، وإياكم في معركة الإسلام والكفرِ أن يُؤتَى الإسلامُ من قبلكم، وقدواتُكُم قد أنْفَقَوا نصفَ أموالهم، بل منهم من جاد بماله كله.. ومنهم من ظل ينفق وينفق حتى قيل لهم: ما ضرهم ما فعلوا بعد اليوم!!
إن من المؤسف أن نظراءكم من أثرياء الكفرِ والضلال لا يكتفون بالدعم لمحاربة الإسلام وأهله بشكلِ مقطوع، بل يوقفون الأوقاف، ويتبرعون بالدعمِ الكامل للمؤسسات التنصيرية والصهيونية في حياتهم وبعد مماتهم.. وأنتم ترجون من اللهِ ما لا يرجون، وهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون وإلى جهنم يحشرون. أنتم تُصلحون وتُغيثون.. وفي سبيل الله تُنفقون.. نفقتكم مخلوفة، وأجركم على الله، وصدقاتكم ظِلٌ لكم يوم لا ظل إلا ظِلُّ الرحمن.. وهم يفسدون ولا يصلحون، ويهلكون الحرثَ والنسل، ويدمرون البلاد والعباد، ويشعلون الحرائق، ويكتمون أنفاسَ المرضى ويقطعون السبيل.. فأي الفريقين أحقُّ بالأمن؟ وأيُّ الفريقين أولى بالمبادرة والدعم؟!
إلى الأمة كلها برجالها ونسائها وشيوخها وشبانها وقادتها وشعوبها، وعلمائها وعوامها نداءٌ يقول: تصوروا أنكم في موقع الحصار، وإخوانكم من حولكم ينظرون.. فلا تدرون أتغالبون الموت.. أم تغالبون تجاهل وغفلة الآخرين؟ مدُّوا يدَ العون، أغيثوا، انصروا، فكروا وقدروا، وبما يستطيعُه كلُّ واحدٍ منكم لا تبخلوا، وإياكم أن تكونوا في عداد الموتى وإن كنتم بعدُ أحياء.. فالميتُ ميتُ الأحياء، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون؟.
اللهم أنجِ المسلمين المستضعفين في فلسطين وفي العراق وفي كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم عليك بالظالمين وأنزل عليهم رجزك وغضبك يا رب العالمين.(/7)
العنوان: تائب في رمضان..
رقم المقالة: 1205
صاحب المقالة: عبدالله بن عيسى
-----------------------------------------
اسمع إلى هذا التائب في رمضان، وهو يحاول أن يصف فرحته وسعادته فيقول: "ما أجمل رمضان، وما أحسن أيامه، سبحان الله! كل هذه اللَّذة، وهذه الحلاوة، ولم أذق طعمها إلا هذا العام، أين هي عني كل هذه السنوات؟؟
إيه.. بل أين أنا عنها، فإن من تحر الخير يعطه، ومن بحث عن الطريق وجده، ومن أقبل على الله أعانه..
صدق الله في الحديث القدسي: "مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبرًا تقربت منه ذِرَاعًا"، سبحان الله!!
أشعر أن حِملاً ثقيلاً زاح عن صدري؛ وأشعر بانشراح فسيح في نفسي، أول مرة في حياتي أفهم تلك الآية التي أسمعها تقرأ في مساجدنا{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}[ الأنعام 125].
أين ذلك الضيق ؟ وتلك الهموم التي كانت تكتم نفسي حتى أكاد أصرع ؟ أين تلك الهَواجِس والأفكار والوساوس؟ أين شبح الموت الذي كان يلاحقني فيفسد عليَّ المنام ؟ إنني أشعر بسرور عجيب، وبصدر رحيب، وبقلبي لين دقيق، أريد أن أبكي! أريد أن أناجى ربى، وأعترف له بذنبي، لقد عصيت وأذنبت، وصليت، وتركت، وأسررت، وجاهرت، وأبعدت، وقربت، وشرقت، وغربت، وسمعت، وشاهدت..
والله لولا الحياءُ ممن بجواري لصرخت بأعلى صوتي؛ أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فأغفر لي فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت، لسان حالي يقول للإمام: لماذا قطعت عليَّ حلاوة المناجاة يا إمام؟! لماذا رفعت من السجود فحرمتني من لذة الاعترا،ف والافتقار للواحد القهار؛ يا إمام أريد أن أبكى فأنا لم أَبْكِ منذ أعوام..
يا إمام أسمعني القرآن، فلقد مَلَلْت ملاهي الشيطان؛ يا إمام لماذا يذهب رمضان، وفيه عرفنا الرحمن وأقلعنا عن الذنب والعصيان؟!!(/1)
ما أحلاك يا رمضان.. ما أجملك.. سأشغل أيامك ولياليك، بل ساعاتك وثوانيك.. كيف لا وقد وجدت نفسي فيك!! أليس في الحديث: ((رَغِمَ أَنْف رَجُلٍ دَخَل عَلَيْه رَمَضَان،ُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ))؛ كما في الترمذي، وقال حسن غريب..(/2)
العنوان: تاريخ الثقافة الإسلامية
رقم المقالة: 989
صاحب المقالة: د. عبدالله بن حمد العويسي
-----------------------------------------
تاريخ علم الثقافة الإسلامية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين وآله وصحبه.. أما بعد
فليس من السهل وضع تاريخ لعلم جديد لا زال في مراحله الأولى، ويحتاج إلى الكثير من أجل أن يصبح ناضجا كالعلوم الإسلامية التي مرت بوقت طويل كان كفيلا بإنضاجها، هذا بالإضافة إلى أنها قد ولدت في عهد الأزدهار وتأسيس العلوم، على حين تأخرت ولادة علم الثقافة الإسلامية إلى العصر الحديث الذي أسهم بظروفه في إبراز الحاجة إلى علم جديد يعالج العديد من المسائل يأتي في مقدمتها، منهاج الإسلام وما انبثق عنه من رؤية للوجود ونظام للمعرفة ولتوجيه الحياة وبناء أمة تتصف بوحدة الثقافة، وما اعترى الأمة من تحولات وتحدي الثقافة الغربية، وما نتج عنه من أزمة في الهوية ومناهج التفكير والمعرفة والسلوك والتشريع وما كشفه من تأخر وضعف لدى الأمة الإسلامية.
هذه المسائل وغيرها كانت الفعل الذي ولد رد فعل معرفي تمثل في الأبحاث المتعددة التي أعلنت ولادة ذلك العلم، واستدعت إطلاع اسم عليه لينظم إلى العلوم الإسلامية، ولكن قبل ذلك يرد التساؤل حول جذور هذا العلم في الإسلام، ولماذا لم ينشأ علم بهذه الصيغة من قبل؟ أليس الإسلام بوصفه منهاج حياة كان محل عناية الأمة من أجل أن توجه حياتها في ضوئه؟ أم تكن الرؤية للوجود التي انبثقت عن محل عناية ونظر من قبل. أبيس انبثاق النظام المعرفي والسلوكي والتشريعي عنه سابق للعصر الحديث؟ أم تمر الأمة بتحديات في مجالات عدة؟ أم يظهر تأثير الأمم السابقة على الأمة من قبل؟ والذي نبه إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الأسئلة المشابهة للأسئلة التي ثارت في العصر الحديث فلماذا لم يوجد العلم من قبل؟(/1)
للإجابة على ذلك سأحاول إلقاء نظرة موجزة على العلم في مرحلتين، مرحلة ما قبل العصر الحديث، ومرحلة العصر الحديث.
أما المرحلة الأولى فتبدأ منذ تنزل الوحي الذي جاء من أجل أن يغير الإنسان والمجتمع ويصنع ثقافة عالمية تعلن مولد المجتمع العالمي والثقافة العالمية الربانية التي تهدف إلى إنقاذ الإنسان وإسعاده ورعايته، وتعلن صراحة ودون مواربة أنها لن تلغي الاختلاف أو تنهيه، ولن تصادر حق المخالف في الوجود بل في الحوار والتعايش، ولكنها تكشف عن حقيقة الإنسان وسر سعادته وشقاوته، وأصول السعادة والشقاوة، والسنن التي يشتغل الوجود الإنساني في ضوئها، بل وجود المخلوفات بأسرها، ولكنها تبين في الوقت نفسه أن الوصول إلى السعادة وفق توجيهاتها لن يكون مرضيا لدى الطائفة العظمي من الناس بسبب غلبه الهوى، ولكنها أشارت في الوقت نفسه إلى أن التداول بين الناس من عوامل الصلاح واندفاع الفساد، وكذلك إلى الظهور التدريجي للحق وأن الوقائع الكونية والإنسانية ما تزال تدفع بالتاريخ إلى ظهور الحق، كل ذلك كان واضحا وبيناً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان تكون المجتمع الإسلامي الأول تسجيلا للثقافة الإسلامية في التاريخ ، وبداية لحراكها على الأرض خارج النص الذي يعتبر مرجعها، ولآخذ بخطواتها على الأرض، وقد كان وضوح ذلك الأمر الكلي من الأسباب الأساسية لعدم الكتابة في أو التنظير له، بحيث كانت العناية موجهة للتفاصيل ولبيان جوانب الإسلام، وظهر ذلك بحسب ما يؤدي إليه حراك المجتمع المسلم، ولكن الاختلاف في الأمة أظهر نوعا من التفسير الكلي للإسلام، ولكن في إطار مذهبي كما يلاحظ في المذاهب المتكاملة في تاريخ الحضارة الإسلامية التي لها تصور عقدي ينبثق منه مذهب علمي كالتشيع بمذاهبه، والمذاهب السنية، ومذهب الخوارج، فقد كانت تلك المذهبيات تؤسس لتفسير الإسلام بنزعة كلية تكاملية وفق رؤيتها العقدية، فهي عبارة عن نظرة كلية(/2)
تكيف الإسلام وفق تصور معين، تؤسس عليه الفروع العملية بما يتلاءم معها، وقد استطاعت تلك المذهبيات بحسب مواقعها المكانية استيعاب التطورات وتكييف الوقائع وفق ما تقتضيه رؤيتها الكلية، كما أنها لم تعمد إلى إلغاء السائد الاجتماعي بشكل عام، بل استطاعت توظيف العوائد الاجتماعية وفق مقتضياتها.
من خلال العرض السابق تتضح أسبقية الثقافة الإسلامية بوصفها أسلوب حياة للمجتمع في الواقع قبل أن تتحول إلى تنظير لها كبناء كلي خاضع للنظر والدراسة كما هو الشأن في العصر الحديث، وإن وجد نوع من الاهتمام بالجانب النظري من الثقافة كما يلحظ ذلك لدى بعض العلماء الذين تصدوا لدراسة الواقع الاجتماعي ونقده أو دراسة واقع العلوم والسبيل إلى إعادة فاعليتها كالغزالي وأبن تيمية حيث تتجلى النظرة الشمولية في الدراسة بل حتى في الفتوى، وفي مطالع العصر الحديث سار على النهج السابق في العناية بالبعد الكلي ولي الله الدهلوي في كتابة (حجة الله البالغة) الذي تناول فيه الإسلام بنظرة كلية تبين شموله لأمر الدين والدنيا، ولكن تناوله كان بأسلوب الأقدمين ومصطلحاته، وقد ظل تأثير القديم حاضرا حتى في العلماء المتأخرين الذين عنوا بمواجهة الحضارة الغربية ممن تكونوا على تراث الإسلام وحدة أو انطلقوا من رؤية مذهبية إسلامية سابقة من حيث الأسلوب والمصطلحات ومنهجية الرد. فكان الاهتمام في الغالب منصب على الجانب العقدي، أو ما يمس العلوم الإسلامية، أو مظاهر الحياة الاجتماعية، ولكن تغلغل الغرب في الأمة الإسلامية على مستوى الزمان والمكان والفكر والمعرفة والسلوك والتشريع أحدث تحولاً وأنتج وعياً جديداً بهذه الأزمة الشاملة التي تتطلب إجابة شاملة، كما أثار الاهتمام بهذه الأمة الجديدة التي قفزت إلى سدة قيادة الإنسانية، والعوامل التي مكنتها، والعوامل التي قعدت بالأمة الإسلامية عن مركز القيادة بعد أن تولته زمناً طويلاً، وهذا ما يقودنا إلى مرحلة العلم(/3)
في العصر الحديث فمن الناحية العلمية نتيجة للتطور الاجتماعي، والتفاعل الفكري والعلمي والقيمي من الآخر الممسك بزمام الحضارة، فقد وضع هذا المصطلح لبيان شمول الإسلام لجوانب الحياة الإنسانية، وما ينطوي عليه من إمكانات لصنع محيط حضاري من خلال شبكة من العلاقات الغيبية والمادية، يؤدي إلى بناء الشخصية الإنسانية الفاعلة والمتوازنة والقادرة على الندية الحضارية دون الوقوع في شرك التبعية للآخر أو القطيعة معه والنفور، وفي ظني أن من وضع هذا المصطلح كان موفقا غاية التوفيق بإيجاد الجسر الواصل بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية، فالثقافة مصطلح ينتمي إلى العلوم الإنسانية ويعبر عن ظاهرة إنسانية هي في مضمونها (أسلوب الحية لمجتمع ما الذي يحدد سلوك الأفراد فيه) أو بحسب تعريب تايلون: (ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون وغيرها من القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع) وكلمة الإسلامية تنتمي إلى المجال الشرعي لتكشف عن ثقافة معينة أو أسلوب حياة معين هو أسلوب الحياة الإسلامية، وهذا الأسلوب يمكن أن ينظر إليه باعتبارين، باعتباره معياراً، أي كيف ينبغي أن يكون أسلوب الحياة الإسلامية؟ وما القيم الجوهرية الصانعة لتلك الثقافة بوصفها بناء كلياً أو منظومة قيم متكاملة تشمل الأصول والفروع والسلوك الفردي والاجتماعي من حيث دخولها في ذلك الكل لا من حيث فرديتها. والاعتبار الآخر الثقافة الإسلامية تاريخا؟ أي كيف تحقق ذلك البناء القيمي في التاريخ؟ وما العوامل التي أسهمت في تقدمه أو تعويقه؟ وكيف تم التفاعل في إطاره مع الثقافات والحضارات الأخرى؟ وما الإسهامات التي نتجت عنه؟ وكيف لم يحل دون تخلف الأمة وانحطاطها؟ وما السبيل إلى الأحياء والنهضة؟ وهل يمكن الإحياء في ضوء تلك المنظومة المعمارية؟ وما الشروط التاريخية للإحياء؟ وما موقع التراث في برنامج النهضة؟ ونحو(/4)
ذلك من الإشكالات المتعددة التي لا تزال تتردد في الفكر الإسلامي منذ ان تفتح وعي المسلمين على العصر الحديث، وأدركوا البون الحضاري الشاسع بينهم وبين الآخر. إن هذا الجانب المشار إليه لا يدخل في كليته وعموميته تحت علم من علوم الشرعية مما استدعي تأسيس هذا العلم تحت هذا المصطلح الجامع بين الجانب الشرعي والإنساني لردم الهوة، والتأسيس لوعي جديد ينطلق من منهاج الإسلام، ويستثمر المستجد الثقافي والعلمي، وقد كانت الأفكار المنتجة حول موضوع العلم قبل التأسيس مسكونة بهم الدفاع عن الإسلام، وتبرئته من نسبة التخلف والانحطاط إليه، ومشغولة بهم النهضة، ويلاحظ أن الذين مثلوا هذا الفترة كان لهم باع في العلم الشرعي، ولذلك ظهر لديهم ملاحظة الجوانب التي هي محل اتفاق مع الغرب، والتي هي محل اختلاف، وسعوا في تلك الظروف لإبراز أسبقية الإسلام إلى صنع الحضارة، والاهتمام بها من خلال تلك الجوانب. وقد لقي هؤلاء العلماء من بعد هضما لحقوقهم ، ونيلا منهم، بل اتهامهم بالانهزامية أمام الغرب وحضارته دون اعتبار لتكوينهم وواقعهم ووصفهم بأنهم أصحاب نزعة توفيقية بل تلفيقية، وذلك حينما جاء دور المثقف الذي يغلب عليه التكوين الفكري، وليس له رسوخ السابقين في العلوم الشرعية، فغلب النظرة الكلية على الجزئية، ولم يعتن بجوانب الاتفاق والاختلاف بحسب ما يقتضيه النهج العلمي، بل ربما بالغ في النهج الإيدلوجي الذي يهدف إلى إسقاط الخصم بإبراز عيوبه وتجاهل محاسنة، والتفريق بين ما لا يمكن التفريق بينه كالتفريق بين الجانب الثقافي والجانب المادي في الحضارة الغربية، والذي كانت له آثار سلبية في الأمة الإسلامية ليس أقلها تعزيز الروح الاستهلاكية لدى المسلم، وسقوطه ضحية النزعة الشيئية، وحفلت تلك الفترة بإبراز معايب الآخر والسكون عن إيجابياته في محاولة لكسر حدة الانبهار بما لدى الآخر من جدة وهيمنة حضارية وثقافية وتقنية، وقد ساد هذا الاتجاه(/5)
فترة من الزمان، وطبع العلم أثناء تأسيسه بطابع الإيديولوجي ، بللا يزال صدى هذه المرحلة حاضراً ولا سيما مع تأزم العلاقة مع الغرب، وأن بد أخيراً اتجاه جديد آخذ في التشكل شيئا فشيئا ينحي المنحي العلمي المبني على العدل، واستهداف الوصول إلى الحقيقة، واعتبار الجزئية والكلية والاتفاق والاختلاف، ويهدف هذا الاتجاه إلى إخراج العلم من المأزق الإيديولوجي إلى السياق العلمي الذي يسعي للتعبير عن الحقيقة دون أن يبخس الناس شيئا، بل معياره الحق في التقويم مع الأخذ في الاعتبار النسبية الثقافية بين الثقافات، وفي داخل الثقافة الواحدة، وترابط القيم الروحية والمادية وجوانب الاتفاق والاختلاف، ومن ثم امكانية الحوار والتفاعل والتعايش مع الآخر واستثمار الأرضية المشتركة والقواعد المتفق عليها، مع الوعي التام بالهوية الثقافية، والتمييز بين الممكن وغير الممكن مما يتيح المجال لتكوين عقلية مبدعة بعيدة عن التعصب والجمود والانغلاق، ولا شك بأن دخول العلم لهذه المرحلة علامة صحة ونضج وتحتاج إلى تظافر الجهود وتكاملها للسير بالعلم قدما نحو التأصيل والفاعلية في الواقع المعايش.
وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/6)
العنوان: تاريخ الطباعة العراقية
رقم المقالة: 1760
صاحب المقالة: بهنامر فضيل عفاص
-----------------------------------------
تاريخ الطباعة العراقية
منذ نشوئها وحتى الحرب العظمى الأولى
القسم الثاني
فهرست الطباعة في بغداد
المطابع والمطبوعات
1- مطبعة كامل التبريزي:
يكاد معظم الباحثين يتفقون أن هذه المطبعة جلبها (الميرزا عباس) من بلاد الفرس، ونصبها في بغداد - مدينة السلام - وذلك في حدود سنة 1278هـ/ 1861م[1].
وهي مطبعةٌ حجريةٌ، قامت بطبع بعض الكتب، ثم توقف وأُهملت.
وأهم مطبوعاتها:
1- سبائك الذهب، في معرفة قبائل العرب[2]. للشيخ النِّحرير: أبي الفوز محمد أمين البغدادي، الشهير بالسويدي. يقع الكتاب في 118 صفحة من القطع الكبير، وقد طُبع طباعةً حجريةً.
وكُتب في نهايته ما يلي:
"وقد طُبع الكتاب في مدينة السلام – بغداد - في أواخر شهر رمضان المبارك من سنة 1280هـ/ 1863م".
وحيث إنه في هذه السنة بالذات لم يكن في بغداد غير هذه المطبعة؛ لذا فالسنة التي ذكرتُها - وذكرها أكثر الباحثين - لتأسيس هذه المطبعة، تكاد تكون صحيحةً ومطابقةً للواقع.
يتواجد هذا الكتاب في بعض مكتبات بغداد القديمة، وقد عثرتُ على نسخة منه في مكتبة كنيسة (السِّريان الكاثوليك).
2- أخبار الأُوَل، في آثار الدول.
3- إشراق التواريخ. ليعقوب بن عطا الله الرومي القرماني.
4- الظرائف واللطائف. للشيخ أبي النصر أحمد بن عبدالرزاق المقدسي.
5- المقامة الطيفية.
لجلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911هـ، وهي واحدةٌ من اثنتي عشرة مقامة للسيوطي، وسبق وأن طُبعت في الأستانة سنة 1298هـ، وهذه الكتب الأربعة الأخيرة ذكرتها مجلة "لغة العرب": (مج3، ص306) من بين مطبوعات هذه المطبعة.
أما (لويس شيخو)[3]؛ فذكر هذه الكتب أيضاً، وأضاف أنها طُبعت على نفقة الحاج محمد أمين، كما ذكر أن خطَّاط المطبعة كان رجلاً اسمه محمد جواد!(/1)
ولم نعثر على غير هذه الكتب، مما يجعلنا نعتقد أن المطبعة أُهملت وتركت، وخاصةً بعد أن أُسِّست مطبعة الولاية سنة 1869.
2- مطبعة الولاية:
تعتبر هذه المطبعة أول مطبعة آلية أُسِّست في بغداد[4]، وقد جلبها من فرنسا (مدحت باشا) بعد تسلمه منصب الولاية، وذلك في سنة 1869م.
وقد أخذت هذه المطبعة فور تشغيلها على طبع جريدة "الزوراء"، التي صدرت في بغداد في (حزيران) سنة 1869م، في ثماني صفحات، وباللغتين التركية والعربية.
وبعد مدة قصيرة؛ وعلى الأخصّ بعد نقل (مدحت باشا)؛ أُهملت هذه المطبعة، وحلَّ فيها الخراب، ثم لم يلبثوا أن جلبوا مطبعةً أخرى، فأصابها ما أصاب الأولى[5]، إلا أنها قامت بطبع بعض الكتب القانونية، كما طبعت بعض الكتب المهمة لأبي الثناء الآلوسي[6].
ولما عُيِّن (حازم بك) - والي بيروت سابقاً - على بغداد، سعى إلى إنشاء مطبعة تقوم مقام مطبعة الولاية، ولم يكتب لهذه المطبعة النجاح التام، غير أن صحفيّاً عراقياً بارزاً؛ هو عمر رشيد الصفَّار، صاحب جريدة "الزهور" تضمنها من الحكومة بمبلغ (150) ليرة عثمانية سنوياً، ثم سعى إلى ترقيتها، وجلب لها حروفاً متنوعة الأشكال من معامل الأستانة وسوريا، كما جلب لها مسبكاً جيِّداً لسبك الحروف الجديدة، وبدأت العمل، وقامت بطبع بعض الكتب التراثية والدينية، كما أخذت تُطبع فيها بعض المجلات والصحف الصادرة آنذاك.
واستمرت حتى الحرب العظمى الأولى كما يبدو لنا من بعض مطبوعاتها، غير أننا لم نَعُدْ نعثر على مطبوعات أخرى، مما يجعلنا نعتقد بأنها توقفت أثناء الحرب، وربما سيطر عليها (الإنكليز) عند دخولهم بغداد، واستغلوها لطبع مناشرهم الرسمية.
فهرست بأهم مطبوعات مطبعة الولاية:
1- سالنامة.
لسنوات متعددة، لكل سنة كتاب ضخم في حدود 700 صفحة.
2- قوانين الأراضي.
ترجمة: أحمد عزة الفاروقي العمري، 1289هـ.
3- قانون الجزاء الهمايوني.
ترجمة: أحمد عزة الفاروقي العمري، 1289هـ.(/2)
4- قوانين التجارة.
ترجمة: أحمد عزة الفاروقي العمري 1291هـ.
5- نشوة الشمول، في السفر إلى إسلامبول.
لأبي الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي، الشهير بالآلوسي، طُبع في منتصف شهر ربيع الثاني سنة 1291هـ.
يقع في 54 صفحة، ويحكي الكتاب ما صادف مؤلِّفُه أثناء سفره إلى إسلامبول من أحداث ومشاهدات، كما يذكر ويعرِّف بالبعض من الأدباء والعلماء الذين عرفهم وتعرَّف عليهم أثناء سفرته، التي استمرت واحداً وعشرين شهراً وخمسة أيام، والكتاب كان الآلوسي قد ألَّفه وكتبه منذ سنة 1268هـ، كما ظهر لنا أثناء تصفُّحنا للكتاب.
6- نشوة المُدَام، في العود إلى دار السلام.
لأبي الثناء الآلوسي، طُبع في 27 جمادى الآخرة سنة 1293هـ، ويقع الكتاب في 131 صفحة، أعقبتها خمسة تقاريظ لبعض العلماء والأدباء في خمس صفحات؛ فيصبح في 136 صفحة.
وقد روى المؤلف في هذا الكتاب ما صادفه أثناء عودته إلى بغداد بعد سفرته الطويلة إلى إسلامبول.
وقد جعل هذان الكتابان في مجلد واحد[7]، ويتواجد الكتاب في أكثر مكتبات بغداد القديمة، وقد عثرتُ على نسخة منه في مكتبة (ثانوية التفيض) في بغداد.
7- قانون الولايات المؤقت.
بالعربية والتركية، 1331هـ/ 1912م، ورد ذكره في مجلة "لغة العرب" (مجلة العرب، مج2، ص583).
8- طريق الحج: من الإحساء، إلى الرياض، فالحجاز.
المفتي الشيخ: داود السعدي 1289هـ. وقد أُعيد طبع هذا الكتاب في أعداد مجلة "لغة العرب": (مج3، من ص117-126). والكتاب تسجيلٌ لما مرَّ بالمؤلف أثناء سفره إلى الديار المقدَّسة بُغية الحج.
9- تحفة الكرام، في جُنْد الأهرام.
للإمام السيوطي، المتوفى سنة 911هـ.
10- تمام المتون، في شرح رسالة ابن زيدون.
للعلامة: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، المتوفى سنة 764هـ؛ عُني بنشرة: محمد رشيد الصفَّار، 1327هـ / 1909م،321 ص بقطع الثمن.(/3)
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج1، ص311)، والكتاب يحوي ترجمةً لابن زيدون، مع مراسلاته، وبعض الانتقادات الشعرية، ونوادر تاريخية على الملوك والقُوَّاد، وهناك نسخةٌ خطيَّةٌ منه في (المكتبة الخديوية)[8] في القاهرة، في 240 صفحة.
11- العلم الموروث، في إثبات الحدوث.
الشيخ: محمد سعيد النقشبدني، 1912م.
12- السيف البارق، في عنق المارق.
الشيخ: محمد سعيد النقشبندي، 1328هـ/ 1910م، 20ص.
13- تنبيه الأصدقاء في بيان التقليد والاجتهاد.
14- أحسن الأجوبة، عن سؤال أحد علماء أوروبة.
تأليف: عبدالله وليم كوليام الإنكليزي.
15- الدرُّ والياقوت، في محاسن الكُوت.
اعتنى بجمعه وترتيبه: على ظريف الأعظمي، وقد أتمَّه سنة 1327هـ، ثم طُبع في 41 ص سنة 1331هـ، ذكرته مجلة "لغة العرب": (مج2، ص 528)، تتواجد نسخة منه في مكتبة ((ثانوية التفيض)) في بغداد.
16- ذات الشفاء، في سيرة النبي ثم الخلفاء.
منظومة لشمس الدين بن محمد الجزري، 1913م. يقع في 64 ص، وقد نُشر بتوقيع "عبدالحميد أفندي"، كما ذُكر في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص323).
17- الهدية المصرية، للخُطَّة العراقية.
عبدالرحمن إبراهيم المصري (الشهير بالهندي الوندي)، 1327هـ/ 1909م.
18- الميزان العادل، بين الحق والباطل.
السيد رضا خلف، حجة الإسلام محمد الهندي، 1331هـ/ 1912م، 49 ص، ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص612).
3- مطبعة الفيلق:
وهي مطبعة حجرية متقنة، جلبها (مدحت باشا)، وسُميت بـ (المطبعة العسكرية) أيضاً؛ لأنها كانت تقوم بطبع ما يحتاج إليه الجيش، كما طبعت بعض المنشورات والأوامر والكتب الفنية المتعلقة بالأمور العسكرية.
ومما يذكر أن مطبوعاتها كانت سرِّية، لا يطَّلع عليها إلا كبار الضابط؛ خشية تسرُّب الأخبار والأسرار العسكرية إلى الخارج[9]، وهذا ما جعلنا لا نعثر على شيء من منشوراتها.
ومن مطبوعاتها المهمة:(/4)
مصور بغداد: وهو رسم مصوَّر لمدينة بغداد، كما كانت عليه قبل سنة 1913م، وكذلك رسم مصوَّر للمدينة أثناء الحكم العباسي، طولها متر واحد و24سم، عرضها 91 سم، رسمها محمد رشيد بك البغدادي، وقد ذكر الأستاذ (كوركيس عواد)[10] أنه (رشيد الخوجة)، ويبدو أنهما شخصٌ واحدٌ، وتذكر مجلة "لغة العرب" في (مج3، ص152) أن الرجل بدأ في رسمها قبل سنة 1913م بخمس سنوات وعندما انتهى منها طبعها على الحجر في مطبعة الفيلق.
أهم الصحف والمجلات التي طُبعت في مطبعة الولاية:
1- جريدة الزَّوْرَاء.
ظهرت في 15 (حزيران) سنة 1869م، وكانت تطبع في الأسبوع مرة واحدة، في يوم الثلاثاء، وقد صدرت في ثماني صفحات، وباللغتين العربية والتركية، دامت زهاء خمسين سنة، حتى الاحتلال البريطاني لبغداد.
2- جريدة الزهور.
لصاحبها محمد رشيد الصفَّار، وصاحبها التزم مطبعة الولاية وطوَّرها - كما مر بنا ذلك - وأخذ في طبع جريدته "الزهور" فيها.
3- مجلة سُبُل الرَّشاد.
لصاحبها محمد رشيد الصفَّار، صدرت سنة 1911م، وكانت تصدر في 32 صفحة.
4- المطبعة الحُمَيْدِيَّة:
أسسها عبدالوهاب نائب (الباب العالي) في بغداد، غير أن سنة تأسيسها اختلف فيها الباحثون؛ فذكر بعضهم سنة 1881م، بينما ذكر الآب شيخو - معتمداً على ما رواه العلامة محمود شكري الآلوسي والأب الكَرْمَلِيّ - سنة 1884م، وذكر أيضاً أن مطبوعاتها كانت مقتصرة على جداول حسابية ورسائل فقهية[11].
أما الأب الكَرْمَلِيّ؛ فقد عاد وذكر عنها ما نصُّه: "لم نكن نعرف بها، حتى عثرنا على هذا الكتاب".
والكتاب الذي قصده الكَرْمَلِيّ والذي طبع فيها هو: بحر الكلام؛ للإمام: سيف الحق أبي المعين النَّسْفي، ويقع في 70 صفحة، وقد طُبع سنة 1304هـ/ 1886م[12]، وقد طُبع طباعةً حجريةً.
أما إبراهيم حلمي؛ فقد ذكر في مقالته سنة 1893م/ 1310هـ تاريخاً لتأسيسها، ويذكر أنها تُركت وأُهملت وتحطَّمت أكثر أدواتها لعدم العناية بها[13].(/5)
وقد عثرنا قريباً على كتاب لأبي الثناء الآلوسي بعنوان: "الأجوبة العراقية، على الأسئلة اللاهورية"، يقع في 65 صفحة، وقد كُتب عليه اسم المطبعة الحُميدية، وقد طُبع سنة 1301هـ/ 1883م؛ لذا فقد أصبح من المؤكَّد أن المطبعة أُسِّست على الأكثر سنة 1881م، كما ذكرنا آنفاً.
هذا ولم نعثر على غير هذين الكتابين، مما يجعلنا نعتقد أن المطبعة اختصَّت بطبع الجداول وبعض المنشورات، قبل أن تُترك وتُهمل.
5- مطبعة دار السلام:
أنشأ هذه المطبعة (إبراهيم باشا) مدير (الأملاك المدروة)، سنة 1310هـ/ 1892م[14]، وسُميت بهذا الاسم نسبةً إلى مرادف بغداد.
وقد ورد ذكر هذه المطبعة في مجلة "لغة العرب"، ووصفتها بأنها مطبعة كبيرة، وكثيرة الأدوات، فيها حروفٌ حسنةٌ وجميلةٌ، تضاهي أحسن المطابع في سوريا في إتقان طبعها[15].
وقد عملت هذه المطبعة زمناً ليس بالقصير في طبع بعض الكتب الأدبية، ثم آلت إلى (الأسطا) علي، الذي أخذ يصدر تقويماً سنوياً جيِّداً، وعمل على تقدُّمها مدةً من الزمن.
أما أهم الكتب التي طُبعت فيها، التي استطعنا العثور عليها؛ فهي:
1- الفوائد الآلوسية، على الرسائل الأندلسية.
لعبد الباقي سعد الدين بن محمود الآلوسي، وهو كتابٌ في علم العَرُوض، ذكره (سركيس) في "معجم المطبوعات": (1 - ص5)، وقد طُبع سنة 1312هـ/ 1894م.
2- بلوغ الأرب، في معرفة العرب.
محمود شكري الآلوسي (ت سنة 1924م)، وهذا الكتاب يقع في ثلاثة أجزاء، مجموع صفحاته 1330، بقَطْع الثُّمن، غير أن الجزء الثالث منه فقط طُبع في بغداد في هذه المطبعة، وذلك سنة 1314هـ/ 1896م[16].
وقد طبع هذا الكتاب ثانية في القاهرة سنة 1342هـ، ونشره (محمد بهجة الأثري)، ثم طبع ثالثة - في القاهرة أيضاً - سنة 1962م.(/6)
ومؤلف الكتاب: العلامة محمود شكري الآلوسي؛ من أعلام العراق البارزين، وُلد سنة 1857م، وتتلمذ على يده كبار العلماء والأدباء، له خمسة عشر مؤلفاً[17] في مختلف المواضيع، توفِّي سنة 1924م.
3- دار السلام تقويمي.
تقويم صدر باللغة التركية، وهذا التقويم صدر مراراً، وكان المشرف على إصداره "الأسطا" علي، صاحب مطبعة دار السلام، كما ذكرت مجلة "لغة العرب"[18].
4- الخط السلطاني والدستور (القانون الأساسي).
طُبع بالعربية، 1326هـ، وقد ذكره عباس العتراوي في كتابه "تاريخ العراق بين احتلالين": (ج8 - ص165).
5- المختَصَر.
محمد مهدي البصير - الدكتور فيما بعد - 1340هـ. فيه ثلاثة قصائد، مع عدَّة كلمات من نَظْم المؤلف وكتاباته.
6- مطبعة الشابندر (الشاهبندر):
أسس هذه المطبعة في بغداد أحد التجار المعروفين، وهو (محمود الشابندر)، وذلك في سنة 1326هـ/ 1907م، وهي مطبعة كاملة الأدوات، فيها آلتان بخاريتان، تطبع كل منها 3000 نسخة في الساعة، وآلة أخرى تُدار بالأرجل، وفيها - أيضاً - مطبعة حجرية كبيرة.
وقد جُهِّزت المطبعة - أيضاً - بحروف عربية، وتركية، وفارسية، وفرنسية جميلة، صرف عليها صاحبها زهاء (2500) ليرة ذهبية[19]!
وهذه المطبعة كما يبدو لنا كانت طفرة بالنسبة للمطابع المتواجدة في بغداد آنذاك، بالنظر لما حوته من حروف منوعة، وكذلك لجودة طباعتها، وهذا ما يبدو لنا بوضوح لدى تصفحنا للكتب التي طُبعت فيها، وخاصةً بعض الأعداد من مجلة "لغة العرب"، والتي كانت تُستعمل فيها حروفاً عربيةً وأجنبيةً منوعةً ومتقنةً. كما ورد في بعض التعليقات عنها: أنه لم يكن في بغداد آنذاك مطبعة بخارية غيرها[20].
وقد قامت هذه المطبعة بطبع الكثير من الكتب الأدبية والتراثية، علاوة على الكثير من الصحف والمجلات التي صدرت في بغداد في زمن تأسيسها.
وهذه أهم مطبوعاتها:
1- غرائب الاغتراب، ونزهة الألباب، في الذهاب والإقامة والإياب.(/7)
لأبي الثناء الآلوسي، 1327هـ/ 1909م، 451 ص، وقد تضمن الكتاب رسائل كتبها الآلوسي بنفسه، ورسائل كُتبت إليه، كما يحوي تراجم الرجال الذين التقى بهم أثناء سفرته إلى إسطمبول.
ورد ذكر الكتاب في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص71)، كما ذكره (سركيس) في "معجمه": (1- ص4).
2- الشهاب، في الحِكَم والأداب.
لابن حكمون القضاعي، المتوفى سنة 454هـ؛ نشره: محمود الشابندر، 1327هـ/ 1909م.
3- عُنوان المَجْد، في تاريخ نَجْد.
لعثمان بن بِشْر الحنبلي، ج1 في 142 ص، 1328هـ/ 1910م.
وقد عُني بتصحيحه: محمد بن عبدالعزيز بن نافع النَّجْدي، وسليمان الدخيل؛ مدير جريدة الرياض.
ورد ذكر الكتاب في مجلة "لغة العرب": (مج1، ص488).
4- الفوز بالمراد، في تاريخ بغداد.
ساتسنا (وهو اسم مستعار للأب: أنستاس ماري الكَرْمَلِيّ)، ج1 في 77 ص، 1329هـ/ 1911م.
والكتاب يبحث في تاريخ بغداد منذ سقوطها على يد (هولاكو)، وحتى سنة 1495هـ، وقد جمعه مؤلفه من عدَّة كتب خطِّية ومطبوعة، عربية وأجنبية، وكان قد نشره أولاً في جريدة "الرياض" البغدادية على صورة مقالات، نشره صاحب "الرياض" - سليمان الدخيل - على نفقته.
وقد ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج 1، ص405).
5- فصل القضاء، في الفَرْق بين الضاد والظاء.
أحمد عزة بن رشيد البغدادي؛ مميِّز قلم تحررات ولاية بغداد، في 168 ص، 1328هـ/ 1910م.
6- شرح قانون الجزاء مع ذيله بالتركية.
عبدالله وهبي أفندي؛ أحد معلِّمي مدرسة الحقوق ببغداد، جزءان في 735ص.
7- التبصرة، لمتولِّعي الخَمْرة.
إبراهيم منيب الباجه جي (ت 1948م)، 1331هـ/ 1912م.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص 611).
8- العقد المفصَّل، في قبيلة المجد المؤثَّل.
للسيد: حيدر الحِلِّي، 1331هـ/ 1911م.(/8)
والكتاب يقع في جزئين، كتبه المؤلف إلى صديقه الشاعر (محمد حسين كبة)، وقد كتب فيه ترجمة صديقه، وتكلم عن شعره وعائلته، كما مرَّ في الكتاب روياتٌ كثيرةٌ في التاريخ العربي القديم.
9- نثر اللآلي، في شرح نَظْم الأمالي.
عبدالحميد الآلوسي، 292 ص، 1330هـ، وهو كتابٌ في القصائد، ذكره (سركيس) في "معجمه": (1 - ص6).
10- وصايا ملوك العرب في الجاهلية (تحقيق).
تأليف اللغوي: يحيى بن الوشَّاء، ج1 في 40 ص، 1332هـ/ 1913م.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج 3، ص 665).
11- الوهابية.
سليمان الدخيل، رسالة في 16 ص، 1332هـ/ 1913م.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص 665)، والكتاب يبحث في المذهب الوهابي الذي انتشر في الجزيرة العربية. ويبدو أن المؤلف كان يعتنق هذا المذهب، خاصةً وأنه في الأصل من نجد، وقد قدم بغداد وأقام فيها مدةً طويلةً، وعمل في حقل الصحافة والتأليف.
12- مختصر تاريخ الإسلام.
محيي الدين الناصري (ت سنة 1969)، لم تُذكر سنة الطبع، وأغلب الظن أنها في حدود سنة 1913م، لورود ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص322) بين الكتب المطبوعة آنذاك.
والمؤلف من رجالات التعليم القدامى في العراق، ويبدو أن أكثر مؤلفاته كانت مدرسية، وضعها لفائدة الطلاب، وقد أخذت تدرَّس في المدارس حال السماح بتدريس العلوم المختلفة بالعربية.
13- المحفوظات.
محيي الدين الناصري، ثلاثة أجزاء في مجلد واحد، طُبع الجزء الثاني والثالث فقط منها في مطبعة الشابندر.
ج2 في 32 ص، سنة 1332هـ/ 1913م.
ج3 في 32 ص أيضاً، سنة 1332هـ/ 1913م.
أما الجزء الأول؛ فقد طُبع في مطبعة الآداب؛ حيث سنذكره مع مطبوعاتها.
والكتاب بأجزائه الثلاثة يحتوي على نصوص أدبية مختلفة ومختارة، كما يحتوي على أناشيد وطنية مختلفة، وُضعت لاستفادة الطلاب وتدريسها في المدارس.(/9)
والكتاب يمثِّل حالةً من الانبعاث القومي والوطني في تلك المرحلة، في الوقت الذي كانت السياسة (الطورانية) قد قاربت على نهايتها؛ لما لاقته من معارضة قوية بين صفوف العرب.
أهم الصحف والمجلات التي طُبعت في مطبعة الشابندر:
1- الرياحين. إبراهيم منيب الباجه جي وإبراهيم صالح شكر، 1332هـ/ 1913م.
2- القِسْطاس.
3- الوجدان.
4- كرمة ونرمة.
5- شمس المعارف. إبراهيم صالح شكر.
6- بعض أعداد مجلة "لغة العرب". الكَرْمَلِيّ.
7- مطبعة الأداب
أسس هذه المطبعة مجموعة من كبار رجال المال في بغداد، بصورة شركة، وجلبوا مطبعةً حديثةًَ، وذلك سنة 1327 هـ/ 1909م، ونصبت في بغداد، وبدأت العمل في نفس السنة، وقد التزمها شخصٌ معروفٌ بإتقانه للطباعة، وهو (يوسف فرنسيس الموصلي)[21].
وقد ذكرها بعض المعاصرين، وقالوا إنها كانت لا تقلُّ إتقاناً عن مطابع سوريا، وربما ضارعتها في جودة العمل!
وقامت هذ المطبعة بطبع الكثير من الكتب الأدبية والدينية والعلمية، كما طُبعت فيها كثيرٌ من المجلات والصحف التي كانت تصدر في بغداد آنذاك.
ونظراً لجودة هذه المطبعة، وإتقان حروفها وتنوُّعها؛ فقد اتفق الكَرْمَلِيّ معها على طبع أعداد مجلته "لغة العرب"؛ حيث طبع فيها الكثير من أعداد هذه المجلة.
وهذه أهم مطبوعاتها:
1- شواهِدُ القَطْر وحاشيته.
للشيخ: عبدالرحيم السويدي، 315 ص بقَطْع الثُّمن الكبير، 1329هـ.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج1، ص314).
2- الهيئة والإسلام.
هبة الدين الشهرستاني[22]، جزآن في 314 ص، 1327هـ/ 1910م، وقد طبع هذه الكتاب فيما بعد طبعةً ثانيةً في النَّجَف سنة 1961م، وثالثةً سنة 1965م.
3- الجاذبية وتعليلها.
جميل صدقي الزَّهاوي، 1910م.
وربما كان هذا الكتاب من أوائل الكتب العلمية التي أخذت طريقها إلى الطابعة في بغداد.
4- مناظرة الحاتمي والمتنبي.
40 ص، بقَطْع الثُّمن، 1327هـ.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج1، ص265).(/10)
5- الإرشاد، لمن أنكر المبدأ والنبوَّة و المعاد.
واعظ زادة مصطفى نور الدين أفندي الواعظ، في 93 ص، طبع سنة 1329هـ/ 1911م.
ورد ذكر هذا الكتاب في مجلة "لغة العرب": (مج1، ص 110)، وقد أوردت المجلة ثلاثة كتب أخرى صغيرة لنفس المؤلِّف، طُبعت كلها في نفس السنة السابقة في مجلد واحد، وتتعلق بأمور دينية وتفسيرية، وتحتوي على جدلٍ ودفاعٍ وذبٍّ يفيد جماعة من أنكر من المسلمين بعض الحقائق المدونة في أسافر الأيمة والدين.
وهذه الكتب هي:
6- خلاصة المقال، في شدِّ الرحال.
واعظ زادة، في 18 ص، طبع 1329 هـ.
7- المطالب المنفية، في الذَّبِّ عن الإمام أبي حنيفة.
واعظ زادة، وفي 24 ص، طبع سنة 1329هـ.
8- زهر الرُّبا، في حُرْمَة الرِّبا.
واعظ زادة، 1329هـ، في ست صفحات فقط، طُبعت ملحقةً بالكتاب الأوَّل، من ص 94 - ص 102.
9- شجرة الرِّياض، في مدح النبيِّ الفيَّاض.
محمد بن الشيخ طاهر السَّماوي، 60 ص بقَطْع الثُّمن، 1330هـ/ 1991م.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج1، ص 407).
10- رسالة في تحريم نقل الجنائز المتغيِّرة.
هبة الدين الشهرستاني، رسالة في 18 ص بقَطْع الثُّمن، 1329هـ/ 1911م.
11- التعبُّد ليسوع طفل براغ.
ترجمة عن الفرنسية إلى العريبة: الأب أنستاس ماري الكَرْمَلِيّ، 1911م.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج 1، ص 312).
12- ثمرة الشجرة، في مدائح العِتْرَة المطهَّرة.
أُرجوزةٌ للشيخ: محمد السماوي، 1331هـ/ 1912م.
13- المجازات النبويَّة.
للشريف الموسوي الرَّضي، في 287 ص.
لم تُذكر سنة الطَّبع، وأغلب الظنِّ أنها في حدود سنة 1910؛ لورود ذكره في مجلة "لغة العرب" بين الكتب المطبوعة آنذاك، وذلك في (مج1)، سنة 1911م، (ص 312).
14- مختصر تاريخ الإسلام.
صدر الدين الصدر، ج1 في 126 ص، طبع سنة 1330هـ/ 1911م.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج2، ص 164).
15- الهداية، في شرح الكفاية.
للشيخ: عبدالحسين آل أسد الله، مجلدان.(/11)
16- جوهرة الكلام، في مدح السادة الأعلام، وأئمة البيت الكرام.
17- حقوق الدول (بالتركية).
18- الهدية المستحسنة، للذين يسمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
شاكر بن محمود البغدادي، في 20ص.
لم تُذكر سنة الطبع، وربما طُبع في حدود سنة 1913م، ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص 611) بين الكتب المطبوعة آنذاك.
19- ديوان إبراهيم منيب الباجه جي.
ج1 في 135ص، 1331هـ/ 1912م.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص109).
20- رسالة في العصا.
21- الدر المنتقى.
حمدي الأعظمي، 1331هـ/ 1912م، في 144 ص.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص322)، وذكر عوَّاد في "معجمه" سنة 1325هـ تاريخاً لطبعه (مج1، ص 373).
22- مفتاح الهندسة[23].
حمدي الأعظمي؛ المعلِّم في مدرسة بغداد الرُّشديَّة، في 56 ص.
لم تُذكر سنة طبعه، وربما كانت سنة 1913م، ولورود ذكره بين الكتب المطبوعة آنذاك، (مج3، ص322).
23- إرشاد الناشئين.
نعمان أفندي الأعظمي، في 65 ص، طُبع 1331هـ، وهو كتاب يحتوي على دروس دينية وعلمية وأدبية.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص386).
24- سلسلة روايات فكاهية، سُميت "بالغرائب"، أشرف على أصدارها (المعلِّم داود صليوا)، صاحب جريدة "صدى بابل". صدر العدد الأول منها في 26 ص بقَطْع الثُّمن الصغير، في شباط سنة 1913م، ومجموع ما صدر منها 12 عدداً.
ذكر هذا عبدالرزاق الحسني في كتاب "تاريخ الصحافة العراقية": (ج1، ص21)، كما ذكرها طرازي في كتابه "تاريخ الصحافة العربية": (ج4، ص142).
ولدى مراجعتنا لجريدة "صدى بابل": (العدد 165، السنة 4، 1912م) اتضح لنا أن السلسلة كانت تُطبع مع الجريدة في هذه المطبعة.
25- المحاق، في ترجمة شهيد الإصلاح ناظم عقد العراق.
وهو كرَّاس صغير يحتوي على ست وريقات، أُلحق بـ "الغرائب" الآنفة الذكر، في عددها الرابع، الصادر بتاريخ 30 ربيع الآخر سنة 1331/ 1913م.(/12)
لم يُذكر اسم الكاتب، وأغلب الظن أنه (المعلم داود صليوا)، الذي كان يصدر جريدة "صدى بابل" وصاحب سلسلة "الغرائب".
26- المحفوظات.
محيي الدين الناصري، ج1 في 24 ص، (أما الجزآن الآخران؛ فقد طُبعاً في مطبعة الشابندر)، 1332هـ.
أهم الصحف والمجلات التي طبعت في مطبعة الآداب:
مجلة "لغة العرب": طبعت الأعداد الأولى من المجلد الأول، عدا أربعة منها، ثم طبعت أعداد المجلد الثاني والثالث.
- مجلة العالم: لهبة الدين الشهرستاني، طبعت بادئ الأمر في هذه المطبعة، ثم نُقل طَبْعُها إلى النَّجَف الأشرف.
- مجلة الحياة: لصاحبها سليمان الدخيل.
- مجلة تنوير الأفكار: السيد نعمان الأعظمي، 1910م.
ومن الصحف نذكر:
- الرياض: سليمان الدخيل.
- الرُّصافة: محمد صادق الأعرجي، 1910م.
- المصباح.
- صدى بابل: داود صليوا ويوسف غنيمة، 1909م.
- النوادر والمضحكات.
8- مطبعة الرياض:
ذكر بعض الباحثين أن هذه المطبعة أسست في بغداد سنة 1910م، وأنها كانت تسمَّى أحياناً باسم صاحبها ومؤسسها سليمان الدخيل[24].
غير أن (إبراهيم حلمي) لم يذكرها بين مطابع بغداد[25]، مع العلم أنه كان محرِّراً في جريدة "الرياض" التي أصدرها سليمان الدخيل نفسه!
لذا؛ فأغلب الظن أنها أُسست بعد سنة 1912م، وأن صاحبها - الذي عُرف بنشاطه في حقل التأليف والنشر والصحافة - لا يُستبعد أن يكون قد أقدم على تأسيسها، وربما ابتاع إحدى المطابع المهملة فجدَّدها.
وقد دعانا إلى تأييد هذا: أن (روفائيل بطِّي) - وهو من معاصريه - ذكر أن سلميان الدخيل أسس دار طبع ونشر في بغداد، غير أنه لم يذكر اسم هذه الدار[26].
وقد وردت أشاراتٌ في مجلة "لغة العرب" عن بعض ما طُبع فيها، وأهم تلك الكتب:
1- ديوان البناء.
للشاعر عبدالرحمن أفندي البناء، ج1 في 210ص، نشره سليمان الدخيل، وقد ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص502)، 1331هـ/ 1912م.
2- نهاية الأرب، في معرفة أنساب العرب.(/13)
للقلقشندي المتوفى سنة 821هـ، وهو معجم في الأنساب، رتَّب فيه أسماء القبائل والبطون على أحرف الهجاء، ومنه عدَّة نسخ خطِّية، حقَّقه ونشره: سليمان الدخيل، سنة 1332هـ.
ورد ذكره في مجلة "لغة العرب": (مج3، ص 665).
3- البيان، في تاريخ آل عثمان.
محمد خلوصي الناصري، في 80 ص بقَطْع الثُّمن، 1331هـ.
وهو كتابٌ في تاريخ العرب، وقد أُلِّف وطُبع حال السماح من الدولة العثمانية بدراسة التاريخ بالعربية.
وذكر (روفائيل بطِّي)[27] أن سليمان الدخيل نشر كتباً أخرى، أهمها:
- العقد المتلالئ في حساب اللآلئ: والكتاب يبحث في صناعة الغوص على اللؤلؤ في الخليج العربي.
- حساب الجفر: والكتاب منسوب إلى ابن العربي.
ويذكر بطِّي أن الكتاب تلقفته الأيدي حال طبعه، وذاع بين القرَّاء، ودرَّ على الدار أرباحاً، وربما قصد بالدار تلك التي أسسها سليمان الدخيل للطباعة والنشر.
9- مطبعة بيخور:
ذكر (إبراهيم حلمي) أن هذه المطبعة أُسست في بغداد سنة 1884م[28]، بينما ذكر (شيخو) أنها أُسست سنة 1894[29]، ونحن نميل إلى رأي (شيخو)؛ لأنه كان معتمداً في معلوماته التي دونهها في مقالته عن الطباعة في العراق على ما أفاد به محمود شكري الآلوسي والكَرْمَلِيّ.
أما صاحبها؛ فيُدعى (الحاخام بيخور)، وكانت الغاية من تأسيسها طبع الكتب الدينية بالعبرية، ثم استغلت أيضاً فيما بعد لطبع مناشير تجارية.
ويبدو أنها جاءت بحروف عربية فيما بعد، ودليلنا على ذلك: أن أحد أعداد مجلة "لغة العرب" - وهو العدد 11، نيسان 1912م - طُبع فيها، وقد كُتب اسمها على الصورة الآتية: (مطبعة شوعة بيخور).
غير أن الكَرْمَلِيّ عاد فعلَّق على حروفها بأنها غير جيدة، ولا يليق بالعربية أن تتشح ببزَّته! كما ذكر أن هناك مثبِّطات وعوائق صادفته في هذه المطبعة[30].(/14)
هذا ولم نعثر على كتب مهمة طبعت في هذه المطبعة، مما يؤيِّد أن أكثر ما طبعته كان كتباً دينية بالعبرية فقط، ومناشير تجارية وإعلانات.
10- مطبعة دنكور:
أُسست هذه المطبعة سنة 1902م، وسمِّيت باسم مؤسسها (الحاخام عزرا دنكور).
ويبدو أن الغاية من تأسيسها - أيضاً - كان لغرض طبع بعض الكتب الدينية؛ حيث عثرنا على كتاب يحمل عنوان: "تفاسير أسفار التوراة"، قام بتأليفه صاحب المطبعة نفسه (عزرا روبين دنكور) وطبعة بدون ذكر سنة الطبع، ولابد أن هناك غير هذا الكتاب مما لم نعثر عليه.
كما استُغلت المطبعة لطبع بعض المنشورات التجارية والإعلانات.
وقد طبع في هذه المطبعة أيضاً بعضٌ من المجلات والصحف الصادرة في بغداد في أوائل القرن العشرين؛ وأهمها:
1- صحيفة التفكير: وهي لسان حال جمعية (الاتحاد العثماني - الإسرائيلي).
2- مجلة "مكتب"[31]: وهي رسالة موقوتة أسبوعية، صاحبها ومديرها المحامي (يونس وهبي)، وكانت تطبع بثلاث لغات؛ هي العربية، والتركية، ويخالطها شيءٌ من الفرنسية.
3- بعضٌ من أعداد مجلة "لغة العرب"؛ العدد 9، 10 - سنة 1912م.
ويبدو أن هذه المطبعة استمرت مدة طويلة؛ بدليل ورود اسمها بين مطابع بغداد في المجلد الخامس من "لغة العرب"، لسنة 1927م، كما ورد اسمها في (الدليل العراقي) لسنة 1935م، وقد وجدنا البعض من مطبوعاتها بعد الحرب العظمى الأولى، وكانت في مختلف المواضيع، وليست مقتصرةً على الدينية، مما يدلُّ على تطوُّرها ونشاطها.
11- مطبعة دار الأيتام:
أسَّس هذه المطبعة الآباء الكَرْمَلِيُّون في بغداد سنة 1914م، إلا أن قيام الحرب العظمى الأولى ونفي الكَرْمَلِيّ إلى الأناضول أدى إلى توقُّفها.
ثم عادت إلى العمل سنة 1924م، واستمرت حتى سنة 1935م، وأخذت تطبع أعداد مجلة "لغة العرب" عندما استؤنف إصدارها.(/15)
وأهم ما طبع فيها في بداية تأسيسها:كتاب "العَيْن" للفراهيدي؛ تحقيق: الأب أنستاس الكَرْمَلِيّ، وقد طُبعت قطعةٌ منه في 144 ص، سنة الطبع 1914م[32].
فهرست بأسماء الكتب التي طبعت في بغداد منذ بدايات الطباعة وحتى الحرب العظمى الأولى خالية من ذكر اسم المطبعة[33]
1- الثورة الإيطالية:
شارك في تأليفه: إبراهيم حلمي العمر، بغداد 1332هـ.
2- الحرب العامة:
إبراهيم حلمي العمر، 1333هـ.
3- سفرة الزاد، لسفرة الجهاد:
أبو الثناء الآلوسي، 1333هـ.
4- التجزي في الاجتهاد:
محمد صالح الداماد، 1296هـ/ 1878م.
5- ست رسائل:
أحمد بن معروف النودي، 1299هـ.
6- حفاوة التهليل، بعيد (اليوبيل):
الخوري باسيل بشوري، 1912م.
نُشر بمناسبة الاحتفال بـ (يوبيل البطريرك أفراد رحماني الموصلي).
7- روح النجاة، وعين الحياة:
حسن علي البدر، 1329هـ.
8- زُبْدَة الحساب:
حمدي الأعظمي، 1329هـ.
9- علم الكلام:
حمدي الأعظمي، 1329هـ.
10- مرقاة العقائد:
حمدي الأعظمي، 1325هـ.
11- مقالات مدنية:
قدسي زادة أحمد مدني، 1330هـ.
12- التقويم الأدبي:
ليون لورنس عيسائي، 1905م.
13- تقويم هلال الزَّوراء لعام 1911م:
لوين لورنس عيسائي، 1911م.
14- كوكب الفيحاء، أو: دليل البصرة العام لسنة 1911م:
ليون لورنس عيسائي، 1911م.
15- هلال الزوراء لعام 1910م:
ليون لورنس عيسائي، 1910م.
16- نواصول جغرافياتي ابتدائي (بالتركية):
السيد محمد جواد، 1330هـ.
17- إظهار الحقيقة وبيان الواقع:
محمد حسن السلماني الكاظمي، 1332هـ.
18- منظومة جامعة لما روي من الآداب عند حضور الأكل والشراب:
محمد حسين الأعسم، 1329هـ.
19- أحسن العُدَد، في نظم أحكام العَدَد:
محمد صادق الحجة الطباطبائي، 1331هـ.
20- تقريظ الأسماع، في نظم مسائل الرِّضاع (أُرجوزة):
محمد صادق الحجة الطباطبائي، 1331هـ.
21- الروض المطلول، في نظم مسائل الأصول (1-2):
محمد صادق الحجة الطباطبائي، 1331هـ.(/16)
22- عقد الدُّرَرْ، في قاعدة "بلا ضرر":
محمد صادق الحجة الطباطبائي، 1331هـ.
23- الغُرَر الغروية في أحكام الزكاة (منظومة)، طبعت مع "العروة الوثقى":
مرتضى كاشف الغطاء، 1329هـ.
24- الرؤيا – رواية:
لنامق كمال؛ ترجمة: معروف الرُّصافي، 1909م.
25- أرجوزةٌ في الأصول:
مهدي الأزري الكاظمي، 1327هـ.
26- اللآلئ الغَرَويَّة، في المدائح الأحمدية:
مهدي البغداد النَّجَفي، ط1، بغداد 1328هـ، وقد طبع ط2 في النَّجف الأشرف، سنة 1951م.
27- خطاب في تهديد الحاكمين:
هبة الدين الشهرستاني،1328هـ.
28- رسالة شرح جبل قاف:
هبة الدين الشهر ستاني، 1328هـ.
29- إتحاف الطَّالب (رسالة فقهية):
محمود بن أوهيب الحنفي البغدادي، 1322هـ.
30- الفرائد الأدبية، في القراءة العربية:
يحيى الوتري، 1331هـ.
31- دروس التجويد:
علي ظريف الأعظمي، 1331هـ.
32- تبيان الأصدقاء، في بيان التقليد والاجتهاد والاستفتاء والإفتاء:
محمد عبدالرحمن الأشعري الشافعي النقشبندي البغدادي، 1330هـ.
33- تعليقة كتاب الطهارة:
محمد كاظم بن حسين الخراساني الأخوند، 1332هـ.
34- الشيعة والانتجاع يوم الطفّ:
محمد بن محمد مهدي الخالصي، 1332هـ.
35- عزَّة الأمس .. ذلَّة اليوم:
ترجمة: الميرزا محمد رحيم، 1331هـ.
36- الدَّراري اللامعات، في شرح القطرات والشذرات:
محمد مهدي الخالصي، 1331هـ.
37- الانقلاب العثماني:
سليم إسحاق، 1909م.
38- تنوير الأذهان، في شرح خلاصة الميزان (في المنطق):
عبدالجليل آل جميل، 1321هـ.
39- ذخيرة الصالحين:
الشيخ سعيد الحِلِّي، 1329هـ.
40- تحفة الألباء، في تاريخ الإحساء:
سليمان الدخيل، 1331هـ.
41- الحجة البليغة، في جواز نقل الموتى في الشريعة:
صادق آل السيد راي الحسنى البغدادي، 1329هـ.
طبع هذا الكتاب طبعة ثانية في النَّجف الأشرف، سنة 1955م.
42- الأبكار الحسان، في مدح سيد الأكوان:(/17)
الملا عثمان الموصلي، سبق وأن طُبع هذا الكتاب طبعة أولى في القاهرة سنة 1313هـ، أما الطبعة الثانية فطُبعت في بغداد سنة 1332هـ، ويقع الكتاب في 50 ص.
43- الإرشادات الروحية:
الخوري عبدالأحد جرجي، ط1، 1914م.
44- ديوان مهيار الدَّيْلمي:
شرح عبد المطلب الحِلِّي، 1330هـ.
45- دروس الجغرافيا:
عبدالهادي الأعظمي، 1330هـ.
46- الأجوبة البصرية، عن الأسئلة النحوية:
عبدالوهاب بن عبدالفتاح البغدادي، الشهير بالحجازي، 1302هـ.
47- العقد الجوهري في قدرة العبد وكسبه:
الشيخ خالد النقشبندي (ت سنة 1827م)، (نشر وتحقيق)، 1301هـ.
48- حاشية على كفاية الأصول:
محمد مهدي الخالصي، 1328هـ.
فهرست بمطابع ومطبوعات الموصل
1- مطبعة الأباء الدومنيكان:
التي أُسست في حدود سنة 1858م.
1- لوحات مختلفة باللغات العربية و(السِّريانية) و(الكلدانية) لتدريس هذه اللغات، قام بإعدادها القس يوسف داود[34]، والقس عبد يشوع الخياط[35]، 1858م.
2- كتاب القراءة:
مزيَّن ومزخرف في 12 صفحة، الأب بصون، 1858م.
4- صلوات الوردية:
ترجمها إلى العربية: الأب دوفال، بإشراف معلم العربية: القِسّ أنطون غالو الكلداني، 1858م.
5- خلاصة في أصول النحو، بطريقة جديدة تسهِّل مأخذها للمبتدئين:
القس يوسف داود الزبونجي، في 169 صفحة عدا الفهارس، ثم أضاف إليها نبذةً في (كليلة ودمنة)؛ فيصبح الكتاب في 180ص، 1859م.
والكتاب مقسم إلى خمسة كتب، وفي كل كتاب عدد من الفصول والأبواب؛ خصِّص الأول لعلم الصرف، والثاني للاسم، والثالث للحروف وما يلحق بها، أما الرابع فقد خصَّصه للجُمَل، بينما ذكر في الخامس ما بقي من أبواب النحو وما يتعلق بالوقف.
ولهذا الكتاب أهمية خاصة؛ حيث إنه أول كتاب يطبع في العراق في مواضيع لغوية ونحوية، وبأسلوب حديث وميسَّر، لتيسير دراسة اللغة لطَلَبَتِها.(/18)
تتواجد نسخة من هذا الكتاب في مكتبة المتحف العراقي دون ذكر المؤلف، ويبدو أن السبب هو كتابة اسم المؤلف في خاتمة الكتاب وليس على غلافه.
كما ذكره الأستاذ (كوركيس) عواد في كتابه "مباحث لغوية" دون ذكر المؤلف.
- مطبعة الدومنيكان الحديثة:
التي أُسست بين سنتي 1860-1861.
وأول كتاب يطبع فيها هو كتابٌ دينيٌّ، يحمل عنوان "رياضة درب الصليب"[36]، 1861م، وكتاب آخر في علم الجغرافيا يحمل نفس العنوان، طبع - أيضاً - سنة 1861م، أما سنة 1863م فقد شهدت طبع كتاب اسمه "تمارين في القراءة العربية للمبتدئين".
ثم توالى طبع الكتب على اختلاف أنواعها وتعدد موضوعاتها، وقد رأينا، ولكثرة ما طُبع في هذه المطعبة خلال ما يقرب من خمس وأربعين سنة، ولتعدُّد الطبعات - أن نتَّبع في تنظيم فهرست مطبوعاتها طريقة المواضيع، كي يسهل للباحث أن يطَّلع - وبسهولة - على مختلف النواحي في نتاجها ومطبوعاتها.
والجدير بالذكر أن أكثرية الكتب المطبوعة في هذه المطبعة قد حُفظت نسخة منها في خزانة خاصة لدى الآباء الدومنيكان، في ديرهم الواقع في مدينة الموصل، بينما تشتتت أكثرية النسخ المطبوعة، وضاع قسمٌ كبيرٌ منها.
وقد حاولت أن أجمع البعض من هذه المطبوعات للحفاظ عليها والاستفادة منها، وهي بالفعل موجودة حالياً في خزانتي. كما تتواجد بعض الكتب الأخرى في خزانات خاصة متفرقة في بغداد والموصل، وبعض الأديرة والكنائس.
1- في اللغة والمعاجم:
1- نحو اللغة اللغة الفرنسية (غراماطيق اللغة الفرنسية):
باللغتين العربية والفرنسية، الخوري يوسف داود، في 262ص مع مقدمة بالعربية والفرنسية، 1865م، والكتاب وضع لتعليم العرب اللغة الفرنسية على أسس حديثة.
2- التَّمْرِنَة في الأصول النحوية:
الخوري يوسف داود الموصلي.
ط1: 1869م، مجلدان في 209 ص.
ط2: ج1 سنة 1875، ج2 سنة 1876م، وقد جعل الجزآن في مجلد واحد، عدد صفحاته 389.(/19)
ويحتوي الجزء الأول في طبعته الثانية على تقريظ علماء الموصل، مع مقدمة في أصول القراءة والكتابة، ثم دراسة مفصَّلة في علم الصرف، ويقع في 163 ص.
أما الجزء الثاني فيحتوي على مقدمة في 39 ص، مقسمة إلى ستة فصول، بيَّن فيها المؤلف مميزات اللغة العربية وخصائصها وفضائلها، ثم انتقل إلى تكملة المواضيع النحوية، مقسِّماً إياها إلى سبعة كتب.
وقد ختم الكتاب بدراسة موجزة في فن العَرُوض والجوازات الشعرية، ويقع الجزء الثاني في 227 ص.
ورد تعليقٌ على هذا الكتاب في مجلة "لغة العرب": (مج4، ص276).
3- التمرين على كتاب التَّمْرِنَة في أصول النحو والصرف:
يوسف داود.
ط1: في 244 ص، 1877م.
ط2: في 244 ص، 1884م.
والكتاب بِكْرٌ في نوعه؛ لاحتوائه على تمرينات وضعت كتطبيقات على كتاب "التَّمْرِنَة" السابق ذكره.
ورد ذكرٌ للكتاب في مجلة "لغة العرب": (مج 4، ص 276)، تتواجد نسخة من هذا الكتاب في طبعته الثانية في مكتبة الجامعة المستنصرية في بغداد.
4- تدريب الطلاب، في أصول التصريف والإعراب:
يوسف داود، ط2، 1895م، في 240 ص.
لم أعثر على الطبعة الأولى، وقد عثرتُ على الطبعة الثانية، التي طبعت بعد وفاة المؤلف بخمس سنين.
5- كراريس التَّصاريف العربية:
يوسف داود.
ط1: 1882م.
ط2: 1888م، في 94 ص.
والطبعة الثانية التي عثرتُ عليها جاءت غُفْلاً من ذكر المؤلف، وتحتوي على سبع كراسات؛ منها كراسةٌ لتصريف الأفعال، وأخرى للضمائر المنصوبة متصلة الأفعال، وثالثة لتصريف الأسماء.
6- مبادئ القراءة السِّريانية (بالسِّريانية):
يوسف داود.
ط1: 1874م.
ط2: 1879م، في 117 ص.
ط3: 1891م، في 115 ص.
7- مبادئ التهجئة لتدريس الصبيان:
وهذا الكتاب هو نفس الكتاب الذي طبع سنة 1863م بعنوان "تمارين في القراءة العربية للمبتدئين"، وقد طُبع فيما بعد عدَّة طبعات، وبأسماء مختلفة، كان آخرها هذا الكتاب الذي طبع سنة 1891م طبعة عاشرة!(/20)
8- اللُّمعة الشهية، في نحو اللغة السِّريانية (بالعربية والسِّريانية):
يوسف داود، ط1، 1879م، في 458 ص.
يحتوي الكتاب على مقدمة في صفات اللغة السِّريانية وأنواعها ولهجاتها، ثم دراسة عن الغربية (أي: السِّريانية)، والشرقية (أي: الكلدانية)، وقد طبع هذا الكتاب بعد وفاة مؤلِّفه، وجُعل في مجلدَيْن.
ج1، ط2: 1896م، في 694 ص.
ج2، ط2: 1898م، في 414 ص.
مع مقدمة مطوَّلة في 28 ص، ثم أضيفت للمجلد الثاني خاتمة في علم العَرُوض ونظم الشعر لدى السِّريان في 32 ص، كان المؤلف قد بعث بها وهيأها قبل وفاته.
ورد تقريظٌ لهذا الكتاب في طبعته الثانية في مجلة "المشرق": (مج1، عدد 18، سنة 1898م - مج2، عدد 17، سنة 1899.
9- Grammatica Aramaieca SEN sYRIACA
أي: قواعد اللغة الآرامية:
وهذا الكتاب هو ترجمة إلى اللاتينية للكتاب السابق ذكره، قام بترجمتها لويس رحماني - البطريرك إفرام رحماني فيما بعد - مع تذييل وإضافات كتبها المترجم.
يقع الكتاب في 729 ص، طُبع سنة 1896م.
10- القراءة التركية (بالتركية والعربية):
نعوم سحَّار، في 40 ص، 1892م، والكتاب مخصص لتعليم التركية للعرب.
11- التحفة السنية، لطلاب اللغة العثمانية:
نعوم سحَّار.
ط1: في 255 ص، 1890م.
ط2: ج1، في 306 ص، 1894م.
ط2: ج2، في 294 ص، 1895م.
وهو كتاب في قواعد اللغة التركية، مع شرح بالعربية.
12- تعليم الطلاب، أصول التصريف والإعراب:
سليم حسُّون، في 159 ص، 1898م.
13- الأجوبة الشافية في فنَّي الصرف والنحو، ومختصر مفيد في أصول النحو والصرف:
سليم حسُّون، جزآن في مجلد واحد، 1906م.
ج1: في علم الصرف، في 264 ص.
ج2 في علم النحو، في 126 ص.
14- الذهب، لتهذيب أحداث العرب:
سليم حسُّون، في 80 ص، 1911م.
وهو كتاب قراءة بالعربية، ذكره الكَرْمَلِيّ في "لغة العرب": (مج1، ص 315)، وأشار لبعض الأخطاء اللغوية التي وقع فيها المؤلف.
15- مكالمات تركية – عربية:(/21)
نعوم سحَّار، في 194 ص، 1896م.
يحتوي الكتاب على جُمَل مستعملة في التركية، بغية تعليمها إلى الطلاب العرب، وهو كتاب مدرسي.
16- جوجقلر (مجموع الفوائد):
في القراءة التركية للمدارس، 1890م، والكتاب لنعوم سحَّار، وقد نُشر غُفْلاً من اسمه.
17- أمثلة التصاريف الفرنسية:
في 53 ص، 1910م.
18- الطريقة الجديدة لتعلم الفرنسية:
في 144 ص.
ط1: 1891م.
ط2: 1895م.
19- تعليم القراءة الفرنسية:
في 117 ص، 1883م.
20- مجموع جُمَل اعتيادية، ومكالمات جزئية، لتعليم الفرنسية:
كراس صغير في 32 ص، لم تُذكر سنة الطبع.
21- كنز اللغة الآرامية (بالكلدانية):
توما أودو[37].
ج1: 1897م.
ج2: 1900م.
22- قاموس اللغة الكلدانية:
الخوري توما أودو، ويقع في مجلدين تضم أربعة أجزاء ضخمة، مج1 في 492 ص، مج2 في 638 ص.
23- قواعد اللغة الكلدانية (بالخط الشرقي؛ أي: الكلدانية):
طيماثاوس أرميا مقدسي، 1889م.
24- نحو اللغة الآرامية:
طيماثاوس أرميا مقدسي، 1898م.
25- الأصول الجلية، في نحو اللغة الآرامية، على كلا مذهبَي الشرقيين والغربيين:
القس: يقعوب منَّا، في 352 ص، 1896 م.
والكتاب في قواعد اللغة الآرامية، مع شرح بالعربية، وقد وردت فيه مقطوعاتٌ مترجمةٌ من العربية إلى الآرامية.
26- دليل الراغبين، في لغة الآراميين:
القس: يعقوب منَّا، وهو معجم (كلداني- عربي) في 873 ص، من ضمنها مقدمة في 17 ص، 1900م.
ورد ذكره في مجلة "المشرق": (مج3، سنة 1900م، ص430).
وقد أعيد طبعة قريباً بـ (الأوفست) في بيروت سنة 1975م؛ نظراً لأهميته.
27- مفتاح اللغة الآرامية:
باللغتين الآرامية والفرنسية؛ لذا فقد حمل عنواناً بالفرنسية: (Clef de Langue Arameenne A. Mingana )
ألفونس منكنا[38]، ويقع في 235 ص، وقد طبع سنة 1905م، والكتاب دراسةٌ في نحو اللغة الآرامية بالفرنسية.
ورد تعريف به في مجلة "المشرق": (مج9، سنة 1906م، ص92)
28- قواعد اللغة الكلدانية:(/22)
باللغتين الكلدانية والفرنسية؛ لذا فقد حمل العنوان التالي بالفرنسية: (Grammarire de la Langue Soureth ou Chaldeen voulgaire )
الأب: جاك ريتوري ( P.J. Rhetore )، ويقع في 276 ص مع مقدمة طويلة بالفرنسية، 1912م.
29- تصاريف الأفعال (بالكلدانية):
يوسف داود.
2- في التاريخ:
1- مختصر تواريخ الكنيسة:
تأليف: المعلم لومون الفرنسي؛ ترجمة: يوسف داود.
وقد أضاف إليه المترجم الكثير من التواريخ المختصة بالشرق وأحداث القرن التاسع عشر، وذيَّلة بفهارس للأعلام، ويقع الكتاب في سبعة أبواب، ولكل باب عدد من الفصول المناسبة.
عدد صفحاته 720 ص، 1873م.
2- مختصر المختصر في تواريخ الكنيسة:
الخوري يوسف داود، في 400 ص، 1877م.
والكتاب من تأليف يوسف داود، وقد كَتَب له مقدمة في التواريخ بوجه عام، وقسَّمه إلى سبعة أبواب، ولكل باب عدد من الفصول.
والجدير بالذكر أن المؤلف خصَّص الباب السابع للقرون الأربعة الأخيرة، وخاصةً الأحداث المهمة التي عاصرها المؤلف في عهد (البابا بيوس التاسع)، وانعقاد (المجمع الفاتيكاني) ثم توقفه بسبب الأحداث السياسية في إيطاليا، علماً بأن المؤلف كان أحد الأعضاء البارزين في المجمع، وقد عهدت إليه مهمات كثيرة في أعمال المجمع.
3- التواريخ البِيَعِيَّة:
يوسف داود، لم تذكر سنة الطبع.
4- مختصر في التواريخ القديمة:
القس لويس رحماني - البطريرك رحماني فيما بعد.
ويقع الكتاب في 368 ص، عدا الفهارس، ويحتوي على تسعة أبواب، وفي كل باب عدد من الفصول. سنة الطبع 1876م.
تتواجد نسخة منه في مكتبة (ثانوية التفيُّض) في بغداد.
5- الفصول الأنسية، في التواريخ القدسية:
للمعلم: بيليرز؛ عرَّبه وحشَّاه بفوائد جليلة: جرجس عبد يشوع الخياط - البطريرك فيما بعد.
ط1: 1868م.
ط2: 1876م، في 319 ص.
تتواجد نسخة من الطبعة الثانية في مكتبة المتحف العراقي.
6- مختصر في تواريخ القرون المتوسطة:(/23)
القس: لويس رحماني السِّرياني الموصلي، 1877م، في 299 صفحة عدا الفهرست.
7- مختصر في التواريخ المقدَّسة على سبيل السؤال والجواب:
القس: لويس رحماني.
ط1: 1876م.
ط2: 1883م.
وقد ورد ذكر الطبعة الثانية في مجلة "المشرق" لسنة 1909م: (مج12، ص 499)، ولكنها أعطت عنواناً آخر للكتاب، وهو "مختصر في التوراة المقدسة على سبيل السؤال والجواب"، وقد تكرر طبعة مراراً عديدة، حتى وصلت الطبعة السادسة، وذلك في سنة 1913م.
8- نصوص تاريخية سريانية قديمة:
لـ: مشيحا زخا (Mschiha Zkha)؛ نشرها وترجمها إلى الفرنسية: ألفونس منكنا، كما ذيلها بملحوظات، وضمنها فهارس للأعلام، ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء، أنجز طبع الأول سنة 1907م، أما الآخران فلم يُطبعا.
ورد تعريف بالكتاب في مجلة "المشرق": (مج11، سنة 1908م، ص 545)
9- ذخيرة الأذهان، في تواريخ المشارقة والمغاربة السِّريان:
القس: بطرس نصري الموصلي (ت سنة 1917م).
ج1: في 578 ص، 1905م.
ج2: في 448 ص، 1913م.
يعتبر هذا الكتاب في جزءَيْه من أهم المراجع في التاريخ الكنسي الشرقي، منذ بدايات القرون الميلادية وحتى القرون المتأخِّرة.
والجدير بالذكر أن الجزء الثاني طُبع مبتوراً، وبدون إشارة إلى السبب، مما أدَّى إلى تضارب الآراء في هذا، ولكن المتَّفق عليه أن الجزء المبتور يمسّ أناساً كانوا لا يزالون على قيد الحياة زمن الطبع، كما وأنه ربما تثير نزعات طائفية كادت تنطفئ.
3- في الأدب والتراث:
1- تنزيه الألباب، في حدائق الآداب:
جمعة ورتَّبة: القس يوسف داود، في 174 ص، 1863م.
يشتمل الكتاب على طرف من ألطف ما جاء في العربية من نثر ونظم، كما ذكر جامعه أنه عرض إلى الكثير من التنبيهات النحوية واللغوية والبيانية، وقد جعل له فهرساً لما حوى من معانٍ أدبية على نسق حروف الهجا، ويعتبر هذا الكتاب أول مطبوعٍ في الفنون الأدبية يطبع في العراق.
2- المناهل الفرنساوية، لوراد العربية (بالعربية والفرنسية):(/24)
يوسف داود، في 251 ص، طبع سنة 1865م.
والكتاب يشتمل على نُبَذ مختارة من أفضل الكتب الفرنسية، رتبها واستخرجها إلى العربية يوسف داود، كما حوى أبواباً مختلفة في الأمثال، والحكايات، والرسائل الأدبية، وفوائد علمية، وباللغتين العربية والفرنسية.
والكتاب ذو أهمية؛ لأنه تناول مختلف الفنون النثرية لأول مرة، من مقالة، وقصة، وحكاية، ومحاورة، وجاء بأسلوب أدبيٍّ حديث، خالٍ من الزخرفة اللفظية والسجع المتكلَّف.
3- ملخص كتاب بديع الإنشاء والصفات، في المكاتبات والمراسلات:
للشيخ: مرعي الحنبلي المقدسي، المتوفى سنة 1624م.
نُشر الكتاب بدون ذكر المحقِّق، والمعتَقَد أن يوسف داود هو الذي حقَّقه؛ نظراً لأنه كان المشرف الوحيد على المطبعة آنذاك.
يقع الكتاب في 146 ص، وطبع سنة 1866م.
4- فاكهة الخلفاء، ومفاكهة الندماء[39]:
لابن عرب شاه، المتوفى سنة 854 هـ/ 1450م؛ تحقيق: يوسف داود.
ط1: في 520 ص، 1869م.
ط2: في 525 ص، 1876م.
والكتاب مرآة لحياة الملوك، تنعكس أنوارها من الأمثال التي وردت على ألسنة الحيوانات، كما في كتاب "كليلة ودمنة".
وقد أصلح متنه، ورتَّبه، وحذف منه ما يمجّه الذوق السليم، وعلَّق عليه تعليقات، وطبعه.
ورد ذكر هذا الكتاب في "تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان، بين مؤلفات ابن عرب شاه، وقد ذكر أنه طبع في الموصل سنة 1869م[40].
5- كليلة ودمنة:
تحقيق: يوسف داود.
لم يذكر اسم المحقِّق، ولكنَّ الكثير من معاصريه ومن الذين أرَّخوا له ذكروا الكتاب من بين جملة ما حقَّقه.
ط1: 1869م.
ط2: 1876م، في 430 ص.
وقد طبع فيما بعد عدة طبعات، كان آخرها سنة 1897م.
6- التراجيم السنية، للأعياد المارانية (مع خطب ومقدمات):
تأليف: البطريرك إيليا الثالث ابن الحديثي، المعروف بأبي حليم؛ ضبطه، وعلَّق حواشيه، وناظر طبعه: القس يعقوب نعمو - المطران ميخائيل نعمو فيما بعد.
ط1: في 313 ص، 1873م.
ط2: في 310 ص، 1901م.(/25)
والكتاب يحتوي على (تراجيم)، وهي جمع (ترجام)، وتعني: (المقامة)، كما يحوي خطباً وأدعيةً ومقدماتٍ أدبية، وبأسلوب مسجع.
ورد تقريظ للكتاب في مجلة "المشرق": (مج8، عدد 10، سنة 1905م، ص 474)، وفيما يذكر (شيخو) أن النسخ الخطِّية للكتاب موجودة في باريس والفاتيكان وبيروت.
7- جني الأثمار، من لطائف الأخبار:
يوسف داود، في 178 ص، ط1: 1876م.
8- أمثال لقمان الأدبية، وطرف من لطائف العرب الأنسية:
جمعها وضبطها: القس يوسف داود، في 160 ص، 1871م.
9- إنشاء الرسائل:
يوسف داود، 1886م.
10- الرموز، ومفتاح الكنوز[41]:
تحقيق: يوسف داود، في 142 ص، 1870م.
والكتاب مخطوطةٌ قام المحقِّق بتنقيحها وتحقيقها، وقسَّمها إلى بابين؛ في الدين وفي الأدب.
11- ميزان الزمان (بالكلدانية):
جان أوسابيوس اليسوعي؛ نقله إلى الكلدانية: توما أودو، في 428 ص، 1884م.
12- كليلة ودمنة (بالكلدانية):
نقله إلى الكلدانية: توما أودو، في 273 ص، 1895م.
13- أمثال شعبية كلدانية:
بالفرنسية والكلدانية، داود الأعمى (اسمه الأصلي داود كوراً)، 1896م.
كتب مقدمة الكتاب: الأب جاك ريتوري الدومنيكي، الذي أتقن الكلدانية، ونشر الكتاب بعد وفاة مؤلفه، ويبدو أنه كان يساعد المؤلف في تزويده بأفكار عن (لافونتين) الفرنسي صاحب الحكايات المعروفة والأمثال، فيقوم بصبِّها في قالب شعري، وباللغة الكلدانية الدَّارجة.
14- الأناشيد الروحية (بالكلدانية):
داود كورا، ط1، في 452 ص، 1896م.
15- لطيف وخوشيابا:
مسرحية أدبية اجتماعية معرَّبة؛ ترجمها وعرَّبها عن الأصل الفرنسي - (Fanfan et Colas ) -: نعوم سحَّار، في 83 ص، طبعت 1893م[42]، وهي أول مسرحية تطبع في العراق، كما أيد ذلك أكثر من باحث.
16- استشهاد مارترسيسيوس:
مسرحية تاريخية دينية؛ تعريب: المعلم سليم حسُّون، في 118 ص، وطُبعت سنة 1902م[43].
17- المروج النزهيَّة، في آداب اللغة الآرامية، منتخبات من البلاغة الكلدانية:(/26)
القس يعقوب منَّا - المطران فيما بعد.
ج1: 1901م.
ج2: 1902م.
18- مختارات من الآداب الفرنسية (choix de Lectures ):
مج1، ط1، 1903م، في 238 ص.
ويحوي الكتاب مختارات من الآداب الفرنسية، ولأدباء فرنسيين بارزين.
19- أحسن الأساليب، لإنشاء الصكوك والمكاتيب:
نعوم سحَّار، في 240 ص، 1898م[44].
ويحتوي الكتاب على رسائل مختلفة، وبأساليب جديدة، ولكافة المناسبات والأحوال.
ورد ذكره في مجلة "المشرق": (مج1، سنة 1898م).
20- المطالعات والنصوص الفرنسية:
ألَّفه: الأب شيفاليه الدومنيكي، ونُشر غُفْلاً من اسمه، ج1، في 238 ص، 1903م.
21- القطافة (قطبتا) (بالكلدانية):
أدي شير[45]، في 224 ص، 1898م.
والكتاب يحوي منتخبات أدبية باللغة الكلدانية، مع معجم لشرح الكلمات، وملحق كتبه بالعربية والكلدانية.
22- ميامر نرسي (بالكلدانية):
نشرها: ألفونس منكنا، ويحتوي على 47 خطبة، وعشر قصائد.
ج1: في 370 ص، 1905م.
ج2: في 414 ص، 1905م.
ورد تعريف بالكتاب في مجلة "المشرق": (مج 8، سنة 1905م، ص 621).
والمعروف أن (نرسي) من شعراء و(ملافنة) السِّريان البارزين.
4- في الكتب الدينية:
1- الكتاب المقدس (بالعربية):
ط1: في أربعة مجلدات، طبع بين سنة 1871 – 1877م، في 2507 ص، وقد ظهرت الطبعة الأولى للكتاب المقدس في "عهده القديم" الجزء الأول سنة 1875م، قام بتعريبه، وترجمته، ومقارنته على أفضل النصوص المقبولة: الخوري يوسف داود الموصلي.
ط2: في ستة مجلدات، 1874-1877م، في 3806 ص.
كما طبع الكتاب المقدس فيما بعد عدَّة طبعات، وبصورة مجزَّأة؛ منها:
العهد الجديد: طبعة متقنة مع تصاوير، في 744 ص.
الأناجيل المقدسة الأربعة: في 518 ص، 1893م.
قصص الرسل: في 166 ص، 1893م.
رسائل مار بولس الرسول: في 567 ص، 1899م.
2- الكتاب المقدس (بالكلدانية):
ط1: في ستة مجلدات، بُدِئَ بطبعها سنة 1872م، ثم توقفت طباعته وأكملت فيما بعد، بين سنتي 1888 – 1892م.(/27)
3- أعمال الرسل والرسائل والرؤيا (بالسِّريانية):
1900م.
4- سيرة أشهر شهداء المشرق القديسين:
نقله إلى العربية، وذيَّله بفوائد تاريخية: أدي شير، طبع في مجلدين:
الأول: في 425 ص، 1900م.
والثاني: في 422 ص، 1906م.
5- سيرة القديسين:
يوسف داود.
ج1: 1873م.
ج2: 1890م.
والجزآن يقعان في 1650 ص.
6- سيرة القديسة تريزة، معلمة رهبنة الكَرْمَلِيّين الحافيين:
في 168 ص، 1867م.
7- سيرة مار إفرام السِّرياني:
ألفه أحد قسوس السِّريان الكاثوليك، يبحث الكتاب في سيرة (مار إفرام) الأديب و(الملفان) السِّرياني الكبير، ومصنفاته.
ط1: 1883م.
ط2: 1896م، في 107 ص.
8- أسطاخيوس:
يحكي الكتاب قصة وسيرة (أسطاخيوس) القائد الروماني خلال القرن الثاني للميلاد، في 232 ص، 1899م.
9- سيرة مار عبدالأحد، منشئ رهبنة الواعظين:
الأب: لافي الدومنيكي، في 282 ص، 1866م.
10- الزهرات المقدسة المقطوفة من جنة:
مار عبدالأحد، 1867م.
11- تأملات يومية:
ألفونس ليغوري؛ ترجمة: يوسف داود.
12- سيرة مار فرنسيس الأسيسي النارافي:
معرَّب عن الإيطالية سابقاً؛ ترجمه ترجمةً جديدة: يوسف داود، في 388 ص، 1864م.
13- سيرة بعض الطوباويين والأتقياء الدومنيكيين:
في 132 ص.
14- تقديس السنة المسيحية، بقراءة سير القدِّيسين اليومية:
ترجمة: يوسف داود.
ط1: ج1، 1874م.
ط1: ج2، 1874م.
ط2: ج1، 1891م، في 824 ص.
ط2: ج1، 1891م، في 847 ص.
15- سيرة القدِّيسين:
لويس رحماني - البطريرك إفرام فيما بعد – جزآن، 1891م.
16- المنتخبات الكنبيسية، في السيرة القدسية:
تأليف: توما الكنبيسي؛ ترجمها عن الفرنسية: القس عبدالأحد جرجي[46]، خمسة مجلدات مجموع صفحاتها 1160ص، طبع بين سنة 1898 – 1902م.
17- المواعظ السديدة الأدبية، في تثقيف المسيحي في طريقته الدينية.
تأليف: بولس سنيري اليسوعي، مجلدان:
ترجم الأول: يوسف داود، في 475 ص، وطبع سنة 1893م.(/28)
أما الثاني: فقد ترجمه إفرام رحماني[47]، في 456 ص، وطبع سنة 1893م - أيضاً.
18- الخطب الباهرة، والمواعظ الزَّاجرة:
للأب: بولس سنيري اليسوعي، المتوفى سنة 1691م؛ تعريب: يوسف داود، جزآن: ج1 في 456 ص، ج2 في 455 ص.
ط1: 1870م.
ط2: 1881م.
19- خلاصة التعليم المسيحي:
الأب: أمانتون الدومنيكي؛ ترجمة: يوسف داود، في 175 ص، 1863م.
20- التعليم المسيحي (بالسِّريانية):
المطران: أغناطيوس نوري، 1890م.
21- خلاصة التعليم المسيحي:
مختصرٌ موافقٌ لأحوال زماننا، وهو ترجمة لمختصر ظهر في الفرنسية سنة 1801م، يقع في 200 ص، 1876م.
22- الحرب الروحية:
في 397 ص، تأليف: ألفونس ليغوري؛ ترجمة: يوسف داود، 1868م (ورد في العنوان الفرنسي للكتاب أن سنة الطبع 1863).
23- الاقتداء بالمسيح:
لتوما الكنبيسي؛ ترجمة: القس عبدالأحد جرجي، 1898م.
24- تحفة الزهور الذكية، للنفوس العابدة المسيحية:
أصلح متنه وزاد عليه: القس يوسف داود.
ط1: في 517 ص، 1861م.
ط2: في 576 ص، 1899م.
25- الفناقيت[48] أو: (الفنقيط) (بالسِّريانية):
وهي الصلوات القانونية لدى السِّريان، أصلحها ورتبها: الخوري يوسف داود، وقد جعلها في سبعة مجلدات، مجموع صفحاتها 3934 ص، وطبعت بالتسلسل من سنة 1882 وحتى سنة 1896م.
26- الحوسايات:
(أي: الغفرانات، أو: الاستغفارات)، ضبطها، وصحَّحها، وترجمها إلى العربية بأسلوب بليغ ومسجع: الخوري يوسف داود، في 648 ص، 1879م.
27- المزامير (بالسِّريانية):
راجعها على الأصل العبري، وافتتحها بنبذة في استعمال المزامير بالطقس السيرياني: الخوري يوسف داود، 1885م.
28- فهرست القراءات من العهدين القديم والجديد، التي تقال على مدار السنة، بحسب الطقس السِّرياني:
ترتيب: يوسف داود، 1877م.
29- كلندار[49] حسب طقس الكنيسة السِّريانية الأنطاكية، 1877م.
30- نبذة في القوانين منقولة من المجامع المقدسة؛ لفائدة الإكليروس السِّرياني في الموصل:
1873م.(/29)
31- الدرة النفيسة، في بيان حقيقة الكنيسة[50]:
قورلس بهنام بني (البطريرك فيما بعد)، 1867م، ويقع في 318 ص، وفيه ثمان وثلاثون فصلاً، مع مقدمة وخاتمة.
32- كلندار السنة لأبرشية الموصل السِّريانية:
المطران: بهنام بني، 1877م.
33- إكليل البتول الطاهرة مريم (بالكلدانية):
أدي شير، 1904م.
34- تسليم السِّريان الشرقيين لسلطة الباب (بالكلدانية)، (حسب تقليد الكنيسة السِّريانية):
المطران: بطرس عزيز؛ ترجمة إلى الكلدانية: القس يعقوب منَّا، 1895م.
35- فرض السيدة الصغير:
ترجمة: يوسف داود، عن الأصل اللاتيني، في 165 ص، مع مقدمة، 1864م.
36- فرض سيدتنا مريم العذراء (بحسب الطقس الدومنيكي):
1864م.
37- زيارة القربان المقدس، وزيارة مريم العذراء:
ألفونس ليغوري؛ ترجمة: يوسف داود.
ط1: 1869م.
ط2: 1876م.
38- المتعبِّد لمريم:
الأب: بولس سنيري اليسوعي؛ ترجمه ونقَّحه: يوسف داود.
ط1: في 302 ص، 1870م.
ط2: في 310 ص، 1896م.
39- النزهة في الورود، بمثل ظهور السيدة في (لورد):
عرَّبه: القس يوسف جرجي السِّرياني[51]، 1893م.
40- مصحف الوردية المقدسة:
1867م.
41- شرح مختصر لأخوية الوردية:
1883م.
42- عبادة الوردية المؤبدة:
1880م.
43- طريقة سهلة للتأمل في أسرار الوردية:
1880م.
44- دستور الوردية المقدسة:
1900م.
45- ثوب سيدتنا ذات الكرمل:
1881م.
46- ثلاثة ينابيع نِعَم للأنفس المسيحية:
1880م.
47- الشهر المريمي:
تأليف: الأب متزرلي اليسوعي[52]؛ تعريب: يوسف داود، 1876م.
48- الشهر المريمي (ويتضمن تأملات في سيرة سيدتنا العذراء):
تعريب: البطريرك إفرام رحماني، 1892م.
49- خمسة مزامير للقديس (بوناونتورا) إكراماً لمريم العذراء[53].
50- مختصر في عبادة قلب يسوع الأقدس:
1902م.
51- المتعبِّدين لقلب يسوع الأقدس:
1906م.
52- ملخص أخبار الرهبنة الثالثة:
1900م.
53- الشهر المريمي (بالكلدانية):(/30)
ترجمه عن العربية إلى الكلدانية: الخوري فرنسيس داود، 1907م.
54- الكينارة الصهيونية، لتسبيح العزة الإلهية:
جمع وتنقيح: يوسف داود.
ط1: في 425 ص، 1864م.
ط2: 1891م.
ط3: 1910م.
55- مزامير داود:
1892م.
56- زوَّادة النفس التقية، في طريق الحياة المسيحية:
تعريب: يوسف داود، ط1، 1861 م، ثم طبع بعدها عدة طبعات، وقد عثرت على الطبعة الرابعة، وكانت سنة 1887م.
57- ترويض في آلام المسيح لكل يوم جمعة من الصوم الكبير:
يوسف داود، في 19 ص، 1863م.
58- تسعيات لأفضل أعياد السنة:
تعريب أحد الآباء الكبوشيين المرسلين، 1869م.
59- خدمة القداس (بحسب ترتيب الكنيسة، بالعربية والسِّريانية):
يوسف داود، ط1، 1868م.
60- رسالة المقدمة والنتيجة، في حقيقة عقد الخِطْبة وعقد الزِّيجة، وشروطها:
الخوري يوسف داود، 1874م، وهي رسالة دينية وقانونية في أمور الزواج عند المسيحيين.
61- رسالة في كيفية التصرف في الدعوى الزيجية:
يوسف داود، 1883م، وهي رسالة قانونية.
62- الزهرات القدسية:
في 451 ص، طبع سنة 1894م.
63- الصلوات (بالكلدانية):
جمع: أدي شير، 1891م.
64- تأملات يومية:
تأليف: ألفونس ليغوري، ترجمة: يوسف داود، في 240 ص، 1869م.
65- واجبات المسيحي تجاه الله:
في 288 ص، 1879م.
66- زيارة القربان المقدس، وزيارة مريم العذراء:
تأليف: ألفونس ليغوري؛ تعريب: يوسف داود.
ط1: 1869م.
ط2: 1876م.
67- مرشد الكاهن[54] (بالكلدانية):
بولس سنيري اليسوعي؛ ترجمة: داميان الكلداني (داميانوس كونديرا)؛ تنقيح: المطران توما أودو، 1882م.
68- تعليم المجمع التريدينتي (بالكلدانية):
توما أودو، 1889م.
69- التعليم المسيحي (بالكلدانية):
توما أودو، 1889م.
70- خلاصة التعليم المسيحي (بالتركية):
البطريرك عبد يشوع الخياط، 1893م.
71- حضرت عيسى المسجك الجيل شريفي (بالتركية):
نُشر في 105 ص.
72- مقدس خاج يولي زيارت كتابيدر (بالتركية):
نُشر في 28 ص.(/31)
73- إنجيل مار متَّى (بالتركية):
نشر وترجمة: عبد يشوع الخياط، 1894م.
74- رسالة راعوية:
البطريرك: عبد يشوع الخياط، 1984م.
وهي رسالة كتبها البطريرك الخياط بمناسبة تسلمه منصب (البطريركية)، ووجهها إلى أبناء طائفته.
75- منشور بطريركي:
البطريرك: يوسف عمانوئيل الثاني، 1914م.
وهناك مناشير أخرى لهذا البطريرك، طبعت بصورة متفرقة منذ سنة 1903م، وبما بعدها، وباللغتين العربية والكلدانية.
76- الواسطة العظيمة:
تأليف: ألفونس ليكوري؛ وترجمة: مكسيموس مظلوم، وقد أعاد الدومنيكان طبع الكتاب معتمدين على الترجمة السابقة، ويقع الكتاب في 348 ص، 1870م.
5- كتب مدرسية وأخرى متفرقة:
1- ترويض الطلاب، في أصول علم الحساب:
يوسف داود، ويقع الكتاب في 300 ص، طبع سنة 1865م، وربما كان هذا الكتاب أول كتاب في تدريس العلوم الحديثة يطبع في العراق.
2- مدخل الطلاب، وتعلَّة الرغَّاب، في أصول الحساب:
في 180 ص، 1870م.
3- مختصر صغير في الجغرافية:
يوسف داود.
كنا قد أشرنا إلى هذا الكتاب في بدايات الطباعة، وقد طبع عدة طبعات:
ط1: في 82 ص، 1861م.
ط2: في 180 ص، 1871م.
أما الطبعة الرابعة؛ فقد صدرت بعنوان: "خلاصة الجغرافية"، في 180 ص، 1910م.
4- لمحة اختبارية وفنية في الحمى التيفوئيدية:
الدكتور: حنَّا خيَّاط، 1911م.
5- الخلاصة الوفية، في علم الجغرافية:
القس: يوسف يونان الموصلي الكلداني، 1981م.
6- فهرست مخطوطات مكتبة سعرد (سعرت):
بالفرنسية، أدي شير، في 102 ص، 1905م.
ورد تعريف بهذا الفهرست في مقالة للأب (شيخو)، نُشرت في مجلة "المشرق": (مج8، سنة 1905م، ص 817).
وربما كان هذا الفهرست أول دراسة في علم (الببلوغرافيا) والفهرسة تُنشر وتُطبع في في العراق.
والجدير بالذكر أن أدي شير قد نظم عدة فهارس لمكتبات مهمة، ذكر فيها أهم مخطوطاتها، ونشرها بالفرنسية، وقد طبعت خارج العراق.
7- فهرست بمطبوعات مطبعة الدومنيكان:(/32)
ذكر فيه كل ما طبع في هذه المطبعة.
وقد نوَّه بهذا الفهرست الأب (شيخو)، في مجلة "المشرق": (مج1، عدد 1، سنة 1898م، ص 44)، وقد صدر فيما بعد عدة فهارس متفرقة لمطبوعات هذه المطبعة باللغتين العربية والفرنسية.
2- المطبعة الكلدانية:
أسس هذه المطبعة روفائيل، ابن القس بطرس مازجي الأمدي[55]، وهو كلداني من آمد - ديار بكر - ومن عائلة غنية، كان وحيداً لأبيه القس بطرس مازجي، ولما شبَّ قصد (باريس) وترهَّب في دير (اللعازاريين).
وقد أراد أن يستغل ثروته في أعمال خيرية وعلمية، لخير أبناء طائفته، فقدم الموصل سنة 1863م، وكانت مركزاً للبطريركية آنذاك، وجلب معه مطبعة حديثة من (باريس)، مع جهاز تشغيلها، ثم اشترى لها بيوتاً عديدة، وعمَّرها وجعلها مركزاً لمطبعته، وتقع اليوم قرب دار البطريركية في الموصل، في محلَّه الشيخ محمد، ولا زالت معروفة عند بعض الناس - وحتى يومنا هذا – باسم: المطبعة.
ثم أقدم على تزويدها بحروف عربية وكلدانية وفرنسية، مع مسابك حديثة، واستقدم لها عمالاً نشيطين، كان أكثرهم من الذين تعلموا هذه المهنة في مطبعة الدومنيكان.
وقد كان لتأسيس هذه المطبعة صدًى حسناً في الأوساط الأدبية والدينية الموصلية؛ فأنشد فيها الشاعر المعروف شهاب الدين العلوي المليسي يقول:
قَدْ تَمَّ فِي عَامِ يُمْنِ إِنْشَاءُ دَارِ الطِّبَاعَهْ
وَالْحَمْدُ للهِ تَمَّتْ لِلْمَوْصِلِ الاسْتِطَاعَهْ
عَلَى إِذَاعَةِ فَضْلٍ بَيْنَ الْبِلادِ مُضَاعَهْ
ثم قال مادحاً مؤسسها:
ذُو الهِمَّةِ النَّدْبِ رُوفَائِيلُ الْبَدِيعُ الْبَرَاعَهْ
أَعطى بها المال منا وَلَمْ يَكُنْ مَنَّاعَهْ[56]
وقد بدأت هذه المطبعة فور تأسيسها بطبع بعض الكتب الدينية والطقسية باللغة الكلدانية، ثم أخذت تطبع بعض الكتب الأدبية والتعليمية باللغتين العربية والفرنسية.(/33)
غير أن وفاة مؤسسها بمرض الهواء الأصفر (الكوليرا) سنة 1865م[57] أصابها بضربه قاسية؛ فتوقفت قليلاً، ولكنها سرعان ما عاودت نشاطها، وذلك بهمَّة المطران عبد يشوع الخياط، الذي تولى الإشراف عليها، وذلك في حدود سنة 1869م، وقام بطبع بعض الكتب المهمة من تأليفه.
وفي سنة 1878م تكاتف البطريرك إيليا عبو اليونان الموصلي مع المطران عبد يشوع الخياط على تجديدها وبعثها؛ فراحت تطبع من جديد الكثير من الكتب على اختلاف أنواعها، وعلى الأخصِّ الدينية والتعليمية منها.
واستمرت حتى سنة 1898م، وذلك عندما توفي البطريرك الخياط، الذي كان يرعاها رعايةً خاصةً، فتوقفت وبيعت بعض أدواتها إلى مطبعة الحكومة (الولاية) في الموصل.
ثم لم يلبث أن بعثها من جديد - وبنفس الاسم - البطريرك يوسف عمانوئيل الثاني، بعد تسلمه منصب (البطريركية) بقليل؛ حيث قام بنقلها سنة 1904م إلى المدرسة الكلدانية، واشترى لها حروفاً ولوازم جديدة، وبدأت بطباعة بعض الكتب المدرسية والدينية، غير أن نشوب الحرب العظمى الأولى جعلها تتوقف من جديد وللمرة الثالثة.
أهم مطبوعات المطبعة الكلدانية:
1- الزبور الإلهي (بالكلدانية):
على ترتيب الفرض، وبحرفين أسود وأحمر، في 300 ص، 1865م، وهو أول مطبوعاتها.
2- دقدام ودوثار (أي قبل وبعد):
يحتوي على الصلوات القانونية اليومية والأسبوعية في الكنسية الكلدانية، مع تسابيح بالكلدانية أيضاً، 1865م.
3- كتاب التهجئة (بالعربية):
لتدريس اللغة العربية.
4- كتاب التهجئة (بالكلدانية):
لتدريس اللغة الكلدانية.
5- بعض الرسائل الرعوية، والتي كان المطارنة والبطاركة يوجهونها إلى أبناء طائفتهم، وباللغتين العربية والكلدانية.
6- أسس القراءة، وبعض قطع مختارة من السِّريانية والكلدانية:
باللغة الكلدانية، في 163 ص، 1869م.
7- روضة الصبي الأديب، في أصول القراءة والتهذيب:
باللغتين العربية والفرنسية، ومحلَّى بفقرات من تاريخ العرب.(/34)
تأليف: السيد المطران جرجس عبد يشوع الكلداني الموصلي، في قسمين:
القسم الأول: في 108 ص.
القسم الثاني: في 157 ص، بعنوان "قلادة الذهب، في أركان الأدب".
وقد جعل القسمان في مجلد واحد، عدد صفحاته 265 ص، طبع سنة 1869م.
3- مطبعة الولاية:
أُسست هذه المطبعة بعد مدة قصيرة من تأسيس مطبعة الولاية في بغداد، وذلك في سنة 1875م، وقد أسسها (تحسين باشا) والي الموصل، وجلب أدواتها من الأستانة.
ويبدو أن الغاية من تأسيسها كان لطبع منشورات حكومية، وبيانات رسمية، وأمور تجارية، وتقاويم سنوية؛ وذلك لأننا لم نعثر على كتب مهمة طبعت فيها إلا فيما بعد، وبعد مدة طويلة من تأسيسها.
ومما يُذكر؛ أن الآباء الدومنيكان - بما لهم من خبرة في الطباعة - قد ساعدوا في تأسيسها وتسيير أعمالها في البداية، وزوَّدوها بما لهم من حروف مختلفة.
ومن الذين تولوا إدراتها نذكر: (رؤوف الشربتي)، و(علي بك) و(رؤوف أفندي ابن محمد أفندي)، و(حسن فائق بك)، و(خير الدين العمري)، وأكثرهم من الموصليين المعروفين.
ومن أبرز ما طبع فيها من الكتب؛ نذكر:
1- أبهى القلائد، في تلخيص أنفس الفوائد:
للسيد: أحمد فائز ابن السيد محمود البرزنجي، وهو كتاب في العقائد الإسلامية وعلم الكلام، يقع في 266 ص، وقد حصلت رخصة نظارة المعارف في الأستانة بطبع الكتاب، بتاريخ 1314 هـ/ 1896 م، فطُبع سنة 1315 هـ/ 1897م.
2- الفرائد، في العقائد:
معروف النودهي، 1314 هـ/ 1896م.
3- حديث الأربعين القدسية، من الصحف الإبراهيمية والموسوية:
أديب الجراح، 1914م.
والجدير بالذكر أيضا:ً أن صحيفة "الموصل" الرسمية، التي صدرت سنة 1879م، التي استمرت حتى الحرب العظمى الأولى كانت تُطبع فيها.
4- مطبعة نيوني:
وهي مطبعة يدوية، أسَّسها (فتح الله سرسم)، وشريكٌ له ماهرٌ في الطباعة، يدعى (عيسى محفوظ)، وقد جلبوا المطبعة من (باريس) مع أدواتها، كما جاؤوا لها بحروف عربية ولاتينية.(/35)
وقد نُصبت في منطقة تجارية في الموصل، تدعى (سوق الصرَّافين)، قرب (باب السراي)، وكان ذلك سنة 1910م.
ويبدو أن الغرض الأول من تأسيسها كان لطبع جريدة "نينوي"، التي أصدرها فتح الله سرسم سنة 1909م، ثم استغلت أيضاً لطبع بعض الكتب والمنشورات التجارية.
وعند وفاة فتح الله سرسم؛ باع ابنه حصَّته من المطبعة إلى شريكهم عيسى محفوظ؛ فأصبحت المطبعة تعرف بمطبعة محفوظ، ولمدة قصيرة.
وخلال الحرب العظمى الأولى؛ انتقلت هذه المطبعة إلى بغداد، وجاؤوا بمحرك بخاري لها لتنشيط أعمالها[58].
أهم الصحف التي طبعت فيها:
1- جريدة "نينوي": فتح الله سرسم، 1909م.
2- جريدة "النجاح": محمد توفيق، 1910م، وهي لسان حال حزب (الحرية والائتلاف) المعارض.
3- جريدة "حكة باز" (أي: المهذار)، 1911م، وهي صحيفة فكاهية انتقادية.
أما أهم الكتب التي طبعت فيها فهي:
1- بدائع الأفكار .. ياخود الحكمة والأدب، للترك والعرب:
فاضل الصيدلي الموصلي، في 32 ص، 1911م، ويتضمن شذرات عربية أدبية مشروعة باللغة التركية.
2- خطبة نادي الشرق:
محمد حبيب العبيدي، في 88 ص، 1331هـ/ 1912م، وهو كتاب سياسي، خاطب فيه مؤلفه أمم الشرق، ودعاها فيه إلى النهوض.
3- التحفة السنية، في المشايخ السنوسية:
علي الجميل الموصلي، في 98 ص، 1331هـ/ 1912م
4- رسالة الجهاد على فتوى السلطان الغازي:
أديب الجرَّاح.
5- الأناشيد الموصلية، للمدارس العربية:
في 24 ص، وهي مجموعة أناشيد عربية حماسية، نظمها بعض الشعراء المتحمِّسين للعروبة، وقد جمعها ونشرها: محمد سعيد الجليلي، 1332هـ/ 1914م.
فهرست مطبوعات المدن العراقية الأخرى
(كربلاء - النجف الأشرف - البصرة – كركوك)
1- الطباعة في كربلاء:
مطبوعات المطبعة الحجرية في كربلاء:
التي أُسست سنة 1856م/ 1273هـ.
قامت هذه المطبعة في بداية عهدها بطبع مناشير تجارية، وكتب أدعية، ورسائل دينية حاوية لآداب الزيارة.(/36)
أما الكتاب المهم الذي طبع فيها؛ فهو "مقامات ابن الآلوسي"، والمقصود بـ (ابن الآلوسي): أبو الثناء الآلوسي، المتوفى سنة 1854م، في 131 ص.
ويحتوي الكتاب على خمس مقامات، كان الآلوسي قد كتبها منذ سنة 1237هـ، أو سنة 1236هـ، كما ذكر أكثر من واحد من المتتبِّعين لنتائج الآلوسي.
وقد وجدت تعليقاً بخطِّ يد أبي الثناء الآلوسي نفسه، يقول إنه بيَّض الكتاب سنة 1270هـ/ 1853م، أي قبل وفاته بقليل.
أما تاريخ طباعة هذه المقامات في المطبعة الحجرية في كربلاء؛ فكان سنة 1873م.
ولابد لنا من أن نتوقف هنا؛ لنشير إلى أن أكثر الباحثين ذكروا سنة 1273هـ/ 1856م تاريخاً لطبع هذه المقامات[59].
واعتقد أن الاختلاف الذي حصل في ذكر تاريخ الطبع يعود إلى اقتران اسم الكتاب بدخول الطباعة في كربلاء، الذي أرخنا له بسنة 1856م/ 1373هـ، الأمر الذي دعا إلى هذا الالتباس، فذكر أكثرهم سنة دخول الطباعة في كربلاء سنةً لطبع هذا الكتاب.
وربما كان هناك سببٌ آخر يعود إلى الالتباس الذي حصل عند بعض الباحثين بتاريخ تبييض الكتاب أو مراجعته؛ حيث وجدت بعض من هذه التواريخ مذكورة في الطبعة نفسها[60].
هذا ولم نعثر بعد سنة 1873م على كتابٍ آخر أو منشورات طُبعت في هذه المطبعة، مما يدعنا نذهب إلى الاعتقاد بأنها تُركت أو أُهملت، لخللٍ ظهر فيها أو في إدارتها.
2- الطباعة في كركوك:
أهم مطبوعات كركوك:
مطبعة الولاية:
1- آثار حسن (بالتركية):
حسن حسني التكريتلي (التكريتي)، 1329هـ.
2- تصريف الزنجاني:
شرح: بير خضر، المعروف بـ (الشاهوي)، نشره: عبدالله فوزي أحمد نامي، 1330هـ.
3- وسيلة حسني (بالتركية):
عبدالله قدسي الكركوكلي، 1331هـ.
4- مآتم (ديوان شعر بالتركية):
خلوصي تيليسي نيمي زادة، 1332هـ.
كما طبعت في هذه المطبعة جريدة "كركوك" الناطقة بلسان الولاية.
أما مطبعة الصنايع:(/37)
التي أُسست سنة 1911م، فقد قامت بطبع النماذج والبيانات الرسمية، والتقاويم السنوية، ولم نعثر على كتب طُبعت فيها.
3- فهرست مطبوعات البصرة:
1- هداية الوصول، لبيان الفَرْق بين النبي والرسول:
عبدالوهاب بن عبدالفتاح البغدادي، الشهير بـ (الحجازي)، في 80 ص، 1308هـ/ 1890م.
2- الفتوحات الكوازية، في السياحة إلى الأراضي الحجازية:
عبدالله باش أعيان، 1308هـ/ 1890م.
والكتابان السابقان هما باكرة الطباعة في البصرة؛ إذ لم نعثر على أقدم منها.
3- التحفة الإيقاظية، في الرحلة الحجازية (الجزء الأول):
سليمان فيضي، 1331هـ/ 1912م.
4- أَرَجُ الطِّيب، في مآثر السيد طالب بك النقيب:
عمر فوزي كركوكلي زادة، 1915م.
5- التحفة البصرية:
أبو الثناء محمد فخر الدين النقشبندي، المعروف بـ (مجموعي زادة)، 1331هـ/ 1912م.
أما أهم الصحف التي طبعت في مطابع البصرة فهي:
1- جريدة "البصرة": (رسمية)، صدرت سنة 1895م.
2- جريدة "الإيقاظ": لصاحبها سليمان فيضي، صدرت سنة 1909م، وقد دام صدورها حتى أواخر سنة 1910م، ثم توقفت، وتعتبر أول صحيفة أهلية في البصرة، وكانت تنشر القوانين والأنظمة باللغة التركية، مع تعريبٍ مقتضَب.
3- جريدة "المنير": جريدة أسبوعية، 1911م/ 1329هـ.
وقد ذكرها الكَرْمَلِيّ، وذكر عن وصول العدد الخامس منها، وذلك في (مج1) من "لغة العرب": (ص266)، الصادر بتاريخ (تمُّوز سنة 1911م).
4- فهرست مطبوعات النَّجف الأشرف:
أهم مطبوعات مطبعة (الحبل المتين) و(المطبعة العلوية) في النجف الأشرف:
1- اللؤلؤ المرتَّب، في أخبار البرامكة وآل المهلب:
تأليف: محمد رضا[61]، نجل سيد العلماء الأعلام محمد علي الشاه عبد العظيمي، في 188 ص، 1328هـ/ 1910م.
وقد جمع فيه المؤلف أخبار العلويين وكرماء العرب، ثم أخبار البرامكة وآل المهلب، وختم الكتاب ببعضٍ من أخبار البخلاء، وقد طُبع هذا الكتاب فيما بعد طبعةً ثانيةً في النَّجف الأشرف سنة 165م.(/38)
2- موعظة السالكين:
محمد عاي الشاه عبد العظيمي[62]، ج1 في 128 ص، 1329هـ/ 1911م.
3- منتخب الأعمال:
محمد علي الشاه عبد العظيمي، رسالة في 20 ص، تحوي مختارات في الصلوات والصيام، 1329هـ/ 1911م.
4- الباكورة:
وهي أرجوزةٌ في علم المنطق، في 36 ص، موسى بن حسن بن أحمد، 1329هـ/ 1911م.
5- الرحلة الحسينية:
للشيخ محمد حسين الحِلِّي:
نشره: كاتب الطُّرَيْحي، 1329هـ.
6- كشف الغواية، عن الكتاب المسمى الهداية:
أسد الله المجتهد الخاقاني، ج1 في 94 ص، 1329هـ.
7- خطابة في خصوص الاتحاد الإسلامي للمسلمين (بالفارسية):
عبد الحسين الرَّشتي، 1329هـ.
8- روح السعادة، في ذكر الأخبار المنقولة عن السادة:
علي زين العابدين اليزدي الحائري، في 88 ص، 1330هـ/ 1911م.
9- أرجوزة في علم المنطق:
الشيخ موسى ابن الشيخ حسن.
10- غرفة المعجزات:
ج1، ج2 مجلدان، محمد علي الشاه عبد العظيمي، 1330هـ.
11- منظومة في آداب الأكل والشرب:
محمد علي الشاه عبد العظيمي.
طبعها في آخر المجلد الثاني من "غرفة المعجزات"، 1330هـ.
12- مختصر الكلام، في وفيَّات النبي والزهراء والأئمة عليهم السلام:
محمد علي الشاه عبد العظيمي، في 48 ص، 1330هـ.
13- مختصر الوقعة (أي: وقعة كربلاء):
محمد علي الشاه عبد العظيمي، في 32 ص، 1330هـ.
14- رسالة مسلك الذهاب، إلى رب الأرباب (بالفارسية):
محمد علي الشاه عبد العظيمي، في 32 ص، 1330هـ.
15- رسالة التكملة في عمدة مواعظ نهج البلاغة:
محمد علي الشاه عبد العظيمي، في 33 ص، 1330هـ.
16- الجوهرة
منتخب من كتاب الوسائل والكافي والتهذيب:
محمد علي الشاه عبد العظيمي، 1330هـ.
17- هداية الأنام، إلى شرح شرايع الإسلام:
في أربعة مجلدات من 1-4، 1330هـ - 1331هـ، والأصل في 27 مجلداً، إلا أن طباعتها لم تكتمل.
18- شرح النهج:
محمد علي الشاه عبد العظيمي، 1332هـ.
19- منظومةٌ في المواريث:
محمد بن مهدي القزويني، 1332هـ.(/39)
20- الأنوار اللامعة، في شرح الجامعة:
عبدالله شبر، 1334هـ.
21- فلاح المتقين:
جعفر آل راضي، 1334هـ.
22- أنساب القبائل العراقية:
محمد بن مهدي القزويني، 1337هـ.
أما أهم المجلات والصحف التي طبعت في مطابع النجف الأشرف في هذه الفترة فهي:
1- مجلة "الغري": التي صدرت سنة 1912م بالفارسية، وكانت تطبع في (مطبعة العلوي)، وقد ظهر منها عددان بهذا الاسم، ثم برزت باسم آخر هو "دُرُّ النَّجف"، لصاحبها (أغا محمد محلاتي)، وقد ورد ذكرها في مجلة "لغة العرب": (مج2، ص468)، وقد ذكر أنها تطبع في مطبعة علوي.
2- مجلة "العلم": لصاحبها هبة الدين الشهرستاني، وقد كانت تطبع أولاً في بغداد، ثم نقل صاحبها طباعتها إلى النَّجف الأشرف.
3- جريدة "نجف" بالفارسية، وقد صدرت سنة 1910م.
4- جريدة "الحبل المتين":
وقد كانت سابقاً تطبع في (كلكتا)، ومنها توزَّع إلى العراق وإيران، وعند دخول الطباعة إلى النَّجف؛ أخذت تطبع بعضاً من أعدادها في النَّجف الأشرف.
المصادر العربية
- الآداب العربية في القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين. للأب: لويس شيخو اليسوعي، 1-3، بيروت، 1924 – 1926م.
- الأب أنستاس ماري الكَرْمَلِيّ: حياته ومؤلفاته. كوركيس عوَّاد، بغداد، 1966م.
- الأدب العصري، في العراق العربي. لروفائيل بطِّي، 1-2، القاهرة، 1923م.
- الأعلام. لخير الدين الزِّرِكْلِيّ، ط 10-12، القاهرة، 1954 – 1959م.
- أعلام العراق. لمحمد بهجة الأثري، القاهرة، 1927م.
- اكتفاء القَنُوع، بما هو مطبوع. لأدوارد فنديك، القاهرة، 1896م.
- أربعة قرون من تاريخ العراق. ستيفن لوكويك؛ ترجمة: جعفر الخياط، بيروت، 1941م.
- تاريخ الأدب العربي. كارل بروكلمان؛ ترجمة: عبدالحليم النجار، 1-3، القاهرة، 1959 – 1962م.
- تاريخ الأدب العربي في العراق. لعباس العزَّاوي، ج2، بغداد، 1962م.
- تاريخ الصحابة العراقية. لعبدالرزاق الحسني، ط2، بغداد، 1957م.(/40)
- تاريخ الصحافة العربية. لفيليب طرازي، 1-4، بيروت، 1913-1933م.
- تاريخ الموصل. للمطران سليمان الصائغ، ج2، بيروت، 1927م.
- تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر. لجرجي زيدان، ج2، القاهرة، 1922م.
- تاريخ الطباعة في المشرق العربي. لخليل صابات.
- تاريخ الأدب العربي. لحنا الفاخوري، الطبعة السادسة، بيروت.
- تطور الفكرة والأسلوب في الأدب العراقي. د. داود سلوم، بغداد، 1959م.
- تاريخ نصارى العراق. لروفائيل بابو إسحاق، بغداد، 1948م.
- تاريخ آداب اللغة العربية. لجرجي زيدان، ج3، ج4، طبع أوفسيت، بيروت، 1967م.
- تاريخ العراق بين احتلالين. لعباس العزَّاوي، ج 6- 8، بغداد، 1954 – 1956م.
- تاريخ مطبعة بولاق. لأبي الفتوح رضوان، القاهرة، 1953م.
- جمهرة المراجع البغدادية. كوركيس عوَّاد وعبدالحميد العلوجي، بغداد، 1962م.
- دائرة المعارف. للبستاني، بيروت، 1891م.
- دائرة المعارف. لفريد وجدي.
- الذريعة، إلى تصانيف الشيعة. للشيخ: أغا بزرك الطهراني، 1 – 18، النَّجف – طهران، 1936 – 1967م.
- ذخيرة الأذهان 1 – 2. القس: بطرس نصري، الموصل، 1905 – 1913م.
- السلاسل التاريخية، في أساقفة الإبرشيَّات السِّريانية. لفيليب طرازي، بيروت، 1910م.
- الصحافة في العراق. لروفائيل بطِّي، القاهرة، 1955م.
- فهرست المطبوعات العراقية. عبدالجبار عبدالرحمن، البصرة، 1978م.
- القصص في الأدب العراقي الحديث. لعبد القادر حسن أمين، بغداد، 1956م.
- القصة العراقية قديماً وحديثاً، لجعفر الخليلي، ط1، ج1، بيروت، 1962م.
- القلادة النفيسة، في فقيد العلم والكنيسة. لفيليب طرازي، بيروت، 1891م.
- القصة في الأدب العربي الحديث. د. محمد يوسف النجم، ط3، بيروت، 1966م.
- المباحث اللغوية في مؤلفات العراقيين المحدثين (1800 – 1965م). لكوركيس عواد، بغداد، 1965م.
- المسرحية العربية في العراق. للدكتور علي الزبيدي، القاهرة، 1967م.(/41)
- المسرحية في الأدب العربي الحديث. د. محمد يوسف النجم، ط2، بيروت، 1967م.
- المسك الأذفر، في تراجم علماء بغداد في القرن الثاني عشر والثالث عشر (للهجرة). لمحمود شكري الآلوسي، ج1، بغداد، 1930م.
- مصادر الدراسة الأدبية. ليوسف أسعد داغر، ج2، بيروت، 1962م وما بعده.
- معجم المسرحيات العربية والمعرَّبة. ليوسف أسعد داغر، بغداد، 1978م.
- معجم المطبوعات العربية والمعرَّبة. ليوسف إليان سركيس، القاهرة، 1928 – 1930م.
- معجم المطبوعات النَّجفية. لمحمد هادي الأميني، النَّجف، 1966م.
- مطبوعات الموصل. لعصام محمد محمود، موصل، 1971م.
- معجم المؤلفين. لعمر رضا كحالة، 1-15، دمشق، 1957-1967م.
- معجم المؤلفين العراقيين. لكوركيس عوَّاد، 1-3، بغداد، 1969م.
- نشأة القصة وتطورها في العراق. عبدالإله أحمد، بغداد.
المصادر الأجنبية
1- Brockelmann (Carl)
Geschiehte der arabisnen Litterature
(vol – 1 – 15, Leiden 1937-1949)
2- Graf (georg)
Geschiehte der christlicen arabischen Litterature citta del Vatieano
vol ii 1947
vol iv 1951
3- Fiey – (J. M.)
I'apport de Mgr Addai scher Bruxelles 1965
4- La grand encyclopedie – (Paris 1888-1902)
5- Dictionaoire de theologic catholique
fascicules XCI – XII
Nestorius – Nicole Paris 1930
هذه بحث كتبه الكردينال (أوجين تيسران) في "قاموس اللاهوت الكاثوليكي"، ثم ترجمه القس (سليمان الصائغ) في كتابٍ خاص، أسماه "خلاصة تاريخية، للكنيسة الكلدانية"، وطبعه في الموصل 1939م.
كما راجعنا بعض الأعداد من مجلات أجنبية، وردت عنها إشارت معينة في أثناء بحثنا، وهذه المجلات - وأكثرها فرنسية - تناولت شؤون الشرق وتراثه وآدابه، وأهمها:
- المجلة الآسيوية الفرنسية.
- سلسلة (الباترولجيا) الشرقية.
- مجلة الشرق المسيحي الفرنسية.
- مجلة المكاتب الفرنسية.
المجلات والصحف(/42)
1- مجلة "لغة العرب". الأب: أنستاس ماري الكَرْمَلِيّ، بغداد، سنة 1911م.
سلسلة مقالات كتبها روفائيل بطي في المجلد الرابع، وقِسْم من المجلد الخامس، عن تاريخ الطباعة ومطبوعات الموصل، بغداد 1926 – 1927م.
أسماء مطابع بغداد. الكَرْمَلِيّ، مج 5، ص 334.
مقالتان عن تاريخ الطباعة. إبراهيم حلمي العمر، مج2، ص223، ص 303.
متفرقات في مجلدات "لغة العرب" عن بعض الكتب المطبوعة ونقدها والتعريف بها.
2- مجلة "المشرق". الأب: لويس شيخو اليسوعي، بيروت سنة 1898م.
مج3: سنة 1900م، سلسلة مقالات عن تاريخ الطباعة.
مج4: 1901م، سلسلة مقالات عن تاريخ الطباعة.
مج5: 1902م، مقالتان تتناولان تاريخ الطباعة في العراق.
متفرقات في مجلدات "المشرق" الأولى، منذ سنة 1898م، وحتى سنة 1914م، عن بعض الكتب المطبوعة في العراق ونقدها والتعريف بها.
3- مجلة "المسرة". الآباء البولسيون (حريصا)، لبنان.
عدد خاص عن عبدالله الزاخر، تمُّوز سنة 1924م.
4- مجلة "الهلال". جرجي زيدان، القاهرة، 1892م، مج 6، مج9، مج22.
5- مجلة "المقتطف". يعقوب صرُّوف، القاهرة، 1876م، مج7.
6- مجلة "بين النهرين". موصل، 1973م.
السنة الثالثة، 1975م، العدد 11: وردت فيه مقالة مهمة عن الطباعة العربية في إيطاليا.
7- مجلة "الأقلام". العراقية. بغداد، وزارة الثقافة والإعلام، المجلدات 1-6، بغداد 1964-1969م.
8- مجلة "إكليل الورود". للآباء الدومنيكان، موصل، 1902م.
المجلدات من 1-7، 1902-1909م، صدر منها 96 عدداً.
9- "نشرة الأحد". بغداد، 1922م، لصاحبها: الخوري عبدالأحد جرجي.
10- مجلة "المورد". العراقية، بغداد، وزارة الثقافة والإعلام.
11- مجلة "السلم". لهبة الدين الشهرستاني، بغداد والنجف.
12- مجلة "خردلة العلوم". رزوق عيسى، بغداد، 1910م.
13- مجلة "تنوير الأفكار". عبدالهادي الأعظمي، بغداد، 1910م.
14- مجلة "النجم". سليمان الصائع، موصل، 1928-1929م.(/43)
15- مجلة "البشير". بيروت، 1870م.
16- مجلة "الآثار الشرقية"، بيروت. إفرام رحماني، 1922م.
أما الصحف التي اعتمدنا - أحياناً - في مراجعتها؛ فأكثرها من الصحف التي صدرت قبل الحرب العظمى الأولى، والتي استطعتُ العثور على بعض أعدادها، نذكر منها:
الزوراء رسمية 1869م.
بغداد 1908م.
الرقيب عبداللطيف ثنيان 1909م.
صدى بابل داود صليوا ويوسف غنيمة 1909م.
الرصافة محمد صادق الأعرجي 1910م.
صدى الإسلام 1910م.
العرب 1917م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] إبراهيم حلمي: مجلة "لغة العرب": (مج 2، ص306). وروفائيل بطِّي: (الصحافة في العراق: ص12).
[2] ذكر جرجي زيدان أن السويدي استفاد في مؤلفه هذا من كتاب "نهاية الأرب، في معرفة قبائل العرب" للقلقشندي، كما أيد سنة طبع الكتاب، وهي سنة 1280هـ. (تاريخ آداب اللغة العربية: ج3، ص135).
[3] مجلة "المشرق": (مج 5، ص844).
[4] بطِّي: (الصحافة في العراق: ص12).
[5] إبراهيم حلمي: "لغة العرب": (مج2، ص304).
[6] من رواد النهضة في العراق، وصاحب المقامات المشهورة باسمه، له مؤلفات أخرى كثيرة، طبع قسمٌ منها في بغداد، والآخر في مطابع القاهرة والأستانة والقدس، توفي سنة 1854م. عدَّد له الأستاذ كوركيس عوَّاد في "معجمه" 13 مؤلفاً؛ (مج1، ص59 – 60).
[7] ذكر الأب لويس شيخو في مقالته عن (الطباعة في العراق) تواريخ طبع الكتابين؛ أحدهما مكان الآخر، كما ذكر أن عدد صفحات الكتاب بلغت 1136، والواقع أنها 136 صفحة، وربما كان هذا خطأً طباعياً.
[8] ذكر جرجي زيدان هذا الكتاب بين مؤلفات الصفدي الخطِّية الموجودة في المكتبة الخديوية، ويبدو أنه لم يكن يعرف أنه طبع في بغداد. (تاريخ آداب اللغة العربية: ج3، ص163، القاهرة، 1913م).
[9] بطِّي: (الصحافة في العراق: ص12).
[10] عوَّاد: (معجم المؤلفين: مج1، ص469).
[11] "المشرق": (ج5، ص844).
[12] "لغة العرب": (مج3، ص42).
[13] "لغة العرب": (مج2، ص 206).(/44)
[14] "لغة العرب": (مج2، ص 205)؛ فقد ذكر إبراهيم حلمي هذا التاريخ، بينما ذكر غيره من المتأخرين أنها أُسست سنة 1890م.
[15] "لغة العرب": (مج1، ص267).
[16] سركيس: (معجم المطبوعات العربية والمعرَّبة: 1، ص7).
[17] "معجم المؤلفين العراقيين": (مج3، ص 274).
ومما يلاحظ: أن أكثر مؤلفات الآلوسي طبعت في القاهرة و(بمبي)، وهذا ما يؤيد مدى الصعوبات والمشاكل الطباعية التي كانت تعترض المؤلفين العراقيين في ذلك الزمن، الأمر الذي دعاهم إلى طبعها خارج العراق.
[18] مجلة "لغة العرب": (مج1 ص267، مج2 ص259، مج3 ص383).
[19] "لغة العرب": (مج2، ص 303 – 309).
[20] "لغة العرب": (مج2، ص 351).
[21] "لغة العرب": (مج2 ص307).
[22] ولد في سامراء سنة 1884م، وتوفي سنة 1967م، صاحب مجلة "العلم"، التي تعتبر من أوائل المجلات العراقية، له أربع وثلاثون مؤلفاً في مختلف الواضيع وبلغات مختلفة.
[23] ذكر الأستاذ كوركيس عوَّاد في "معجمه" كتاباً آخر للمؤلف، بعنوان "خلاصة الهندسة"، طبع سنة 1329هـ (مج1: ص373).
[24] صحفي وأديب، من أهالي القصيم في نجد، ولد سنة 1877م، نزح إلى بغداد، وقضى فيها مدة طويلة حتى توفي سنة 1945م، له جريدة "الرياض"، وقد ذكره الكَرْمَلِيّ في "لغة العرب": (مج1، ص 264).
[25] "لغة العرب": (مج2، سنة 1912– 1913م، ص303).
[26] بطِّي: (الصحافة في العراق: ص82، ص29).
[27] (الصحافة في العراق: ص29).
[28] "لغة العرب": (مج2، ص303).
[29] "المشرق": (مج5).
[30] "لغة العرب": (مج1، عدد 12).
[31] "لغة العرب": (مج2، ص467).
[32] ذكر الدكتور عبدالله درويش، الذي أكمل تحقيق كتاب "العين"، وطبعه في بغداد سنة 1967م، في مطبعة الآداب، والحال أني وجدت النسخة المذكورة والمطبوعة عند الأستاذ كوركيس عوَّاد، وقد ذكر على صفحتها الأولى سنة 1914م تاريخاً للطبع، ومطبعة دار الأيتام اسماً للمطبعة.(/45)
[33] اعتمدنا في هذا الفهرست على أهم المعاجم الصادرة حول المطبوعات والمؤلفين العراقيين، كما اعتمدنا في بعضها الآخر على مراجعاتنا الخاصة.
[34] سبقت ترجمته في الباب الأول.
[35] موصلي الأصل، ولد سنة 1828م، ودرس في مدارس الموصل، ثم سافر للدراسة في مدرسة (انتشار الإيمان) في رومة مع زميله يوسف داود، كهِّن سنة 1853م، ثم سقِّف سنة 1860م، وفي سنة 1894م انتخب بطريركاً لطائفة الكلدان، توفي سنة 1899م، ودفن في بغداد.
له مؤلفاتٌ كثيرة، وبلغات متعددة، وقد ساهم في أعمال مطبعة الدومنيكان، ثم في تنشيط المطبعة الكلدانية في الموصل.
[36] ذكر الدكتور عباس الزيدي في رسالته المخطوطة بعنوان "تاريخ الصحافة العراقية" أن مؤلف الكتاب هو القس سليمان الصائغ، والمعروف أن ولادة الصائغ كانت سنة 1886م.
أما المؤلف الحقيقي فلم يُذكر، وأغلب الظن أن الكتاب مترجم عن الفرنسية، وقد ترجمه القس يوسف داود، الذي كان مشرفاً على المطبعة آنذاك.
[37] ولد في القوش من نواحي الموصل سنة 1855م، تلقى دراسته في معهد (مار يوحنا) في الموصل، سيم كاهناً، ثم أصبح مطراناً، توفي سنة 1915م، ويعتبر من المتظلعين في اللغة الآرامية، وقد ألف فيها ملفات كثيرة.
[38] عراقي، ولد في قرية شرانش قرب زاخو شمال العراق سنة 1881م، وتلقى علومه في معهد (مار يوحنا) في الموصل، ثم سيم كلهنا، وقد ترك الكهنوت بعد أن أمضى فيه مدة، وسافر إلى إنكلترا؛ حيث حصل على الدكتوراه وعمل في مكتباتها، له نتاجات مختلفة، وفي لغات عديدة، توفي في إنكلترا سنة 1937م.
[39] ورد في مخطوط للأستاذ عباس العزاوي، بعنوان "الطباعة والمطبوعات": أن هذا الكتاب طبع في الموصل سنة 1869م، ولكن في مطبعة السِّريان، وحيث لا وجود لهذه المطبعة مطلقاً في هذا التاريخ؛ اقتضى التنويه، علماً بأني وجدت على اسم الكتاب اسم مطبعة الدومنيكان بصورة واضحة.
[40] جرجي زيدان: (تاريخ آداب اللغة العربية: ج3، ص156).(/46)
[41] مرَّ ذكر هذا الكتاب في "فهرست المطبوعات العراقية" مرتين؛ الأولى: ص347، والثانية: ص357، وقد جعله منظِّم الفهرست بين الكتب التي تبحث في الدين المسيحي.
[42] ذكر روفائيل بطِّي في "لغة العرب": (مج4، ص277) أنها طبعت سنة 1891، وكذلك ذكر الأستاذ كوركيس عوَّاد في (معجم المؤلفين: مج3، ص 404).
[43] ذكر الدكتور عمر الطالب أنها طبعت سنة 1904م.
مجلة "الأقلام العراقية"، سنة 1969م، ص 83-98.
[44] ذكر الأستاذ كوركيس عوَّاد في (معجم المؤلفين: مج3، ص404): أن الكتاب طبع سنة 1888م.
كما ذكر سركيس في (معجم المطبوعات: ص1863): أنه طبع سنة 1818م، وربما كان هذا خطأ طباعياً لا يحتاج إلى برهان.
بينما ذكر روفائيل بطِّي في مجلة "لغة العرب": (مج4، ص278) أنه طبع سنة 1878م.
[45] عراقي، ولد في شقلاوة شمال العراق سنة 1867م، ودرس في معهد (مار يوحنا) في الموصل، كهِّن، ثم أصبح بعد مدة مطراناً على سعرت؛ حيث يعود إليه الفضل في تنشيط وتنظيم مكتبتها المشهورة، له مؤلفات كثيرة بالعربية والكلدانية والفرنسية، وقد اشتهر بتنظيم فهارس ودراسات ببليوغرافية عن المخطوطات.
اغتيل سنة 1915م في أثناء الاضطرابات التي عمَّت تركيا خلال الحرب العظمى.
[46] بغدادي الأصل، ولد سنة 1870م، درس في معهد (مار يوحنا) في الموصل، وأصبح كاهناً في بغداد، له مؤلفات كثيرة، أسس المطبعة السِّريانية في بغداد سنة 1922م، كما أصدر "نشرة الأحد" في نفس السنة، واستمرت في الصدور مدة طويلة، توفي سنة 1950م.
[47] طرازي: (السلاسل التاريخية: ص400)، وكان المعتقد سابقاً أن يوسف داود قد قام بترجمة المجلدين.
[48] الفنقيث: لفظ سرياني يراد به اللوح أو الدفتر، ثم أطلق على جزء من الكتب القانونية الكنسية.
[49] كلمة سريانية تعني: (التقويم).(/47)
[50] ورد في (فهرست المطبوعات العراقية: ص361) اسم هذا الكتاب (الدرر)، كما ذكر سنة 1864 ـ سنة 1865 تاريخاً لطبعة، وذكر أنه في مجلدين، والصحيح كما ذكرنا، وتتواجد في خزانتي نسخة من الكتاب.
[51] ذكرت مجلة "المشرق" اسم المعرِّب هكذا، (القس جرجي السِّرياني)، بينما ورد اسمه في (فهرست مطبعة الدومنيكان) كما ذكرنا، وهو الصحيح.
[52] ذكره طرازي في كتاب السلاسل التاريخية (ص 308)، ولكنه كتب اسم المؤلف هكذا (موزارللي).
[53] الكتب المسلسلة من رقم 35 وحتى 49 ذكرتها معتمداً على ما أوردته مجلة "المشرق": (مج7، سنة 1904م، ص496)؛ حيث عددت هذه الكتب في معرض حديثها عما طبع في مطبعة الدومنيكان في الموصل، ذي العلاقة بتكريم العذراء مريم، علماً بأن أكثر هذه الكتب متوفر، وقد اطلعت عليه.
[54] هذا الكتاب ترجم أولاً إلى العربية من قِبَل الأب بطرس فروماج اليسوعي، وهناك نسخة خطية من هذه الترجمة مكتوبة سنة 1764م، محفوظة في مكتبة دير الشرفة، تحت رقم 19/13.
[55] يتفق أكثر الباحثين على اسم مؤسس هذه المطبعة؛ فقد ذكره بطِّي في (تاريخ الصحافة في العراق: ص17)، وكذلك شيخو في الآداب العربية في القرن التاسع عشر (ج1)، كما ذكره سليمان الصائغ في تاريخ الموصل (ج1)،
أما الدكتور داود سلوم فقد ذكره في كتابه (تطور الفكرة والأسلوب: ص40)، غير أنه نعته بالبطريق، بينما الواقع أنه الشماس روفائيل.
[56] الصائغ: (تاريخ الموصل: ج2، ص266).
[57] ذكر بعضهم أن سنة وفاته كانت 1866م، بينما ذكر خليل صابات في كتابه (الطباعة في المشرق العربي: ص299) أنه توفي سنة 1861م، وفي هذا ما فيه من الخطأ؛ لأنه قدم الموصل، وأسَّس المطبعة 1863م.
وقبره لازال حتى اليوم في كنيسة (شمعون الصفا) الأثرية في الموصل، وقد كُتب على ضريحه بيتان من الشعر، نظمهما الخياط مؤرِّخاً وفاته:
متجمِّلٌ بالمَكْرُمَات (و) زاهدٌ وبما له بيتُ العلوم تشيَّدا(/48)
تبكي الكنيسة فقده وتؤرِّخُ رفئيل في دور الصفا (ء) تخلُّدا
[58] استقينا جزءاً من هذه المعلومات من السيد (متَّي سرسم)، ابن (فتح الله سرسم) مؤسس المطبعة.
[59] ورد اسم "المقامات الخيالية" للآلوسي عند سركيس في (معجمه: 1، ص5)، وقال إنه طبع طبع حجر في بغداد أو كربلاء سنة 1273هـ، وإليه استند الأستاذ كوركيس عوَّاد في (معجمه: مج1، ص60)، فذكر نفس التاريخ، وأيد هذه الرواية محمد مهدي العلوي في مقالة له في مجلة "لغة العرب": (مج5، ص162)، فقال: "عثرتُ على هذا الكتاب مكتوب عليه: (هذا مقامات ابن الآلوسي رحمه الله)، مطبوعٌ في كربلاء سنة 1273هـ، ولم يذكر سنة 1873م إلا باحث واحد؛ هو إبراهيم حلمي العمر، في مقالته التي كتبها عن الطباعة في مجلة "لغة العرب": (مج2، ص 209).
[60] من هذا ما ذهب إليه عبدالقادر حسن أمين في كتابه: (القصص في الأدب العراقي الحديث: ص24)، من أن أبا الثناء الآلوسي كتب "مقامات الآلوسي" يراجع ما كتبه عبدالإله أحمد في كتابه "نشأة القصة وتطورها في العراق" من (ص 5- ص11)؛ حيث حاول المؤلف أن يعطينا صورة مفصلة عنها، والآراء التي ظهرت في شأنها، من أنها محاولة بدائية ناجحة في كتابة القصة العراقية.
[61] السيد محمد رضا (الابن): ولد سنة 1887م في النَّجف الأشرف، وتوفي سنة 1916م.
[62] السيد محمد على الشاه (الأب): ولد سنة 1842م في النَّجف الأشرف، وتوفي سنة 1916م.(/49)
العنوان: تاريخ النحو
رقم المقالة: 1959
صاحب المقالة: علي النجدي ناصف
-----------------------------------------
كتابك
علي النجدي ناصف
تاريخ النحو
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل
أُقَدِّم في هذه الصفحات المعدودةِ موجزًا لِتاريخ النحوِ العربيِّ في نشأته وتطوُّره، وعوامِلِ التأثير فيه، وأشهَرِ علمائه الذين حملوا أمانته، فحَفِظُوها، وأدَّوْها أحسَنَ الأداء، وأَحَقَّهُ بالإعجاب.
ومجال القول في تاريخ النحو العربي ذو سَعَةٍ لِمن أراد الإفاضة فيه والانطلاق: فهو أوَّلُ عِلم دُوِّن في الإسلام؛ إذ مضى على مَوْلِده قرابة أربعةَ عَشَرَ قَرْنًا، لم يكن فيها لقًى مهملاً، ولا نَسْيًا مَنْسِيًّا، ولكن تتابعتْ عليه أجيالٌ منَ العلماء الجادِّين، يتَّفِقُون قصدًا وغايةً، وإنِ اختلفوا وطنًا وجنسًا، وشخصيَّة ومَنْهَجَ تفكير.
وكان فيهم علماءُ أفذاذٌ، آتاهُمُ اللَّهُ ما يشاء منَ الكفاية وفضل المزية، وإنَّ كُلاًّ من هؤلاء وهؤلاء لَيبذلُ فيه كل ما يفتح الله به عليه، وما تَهْدِيهِ تجرِبتُه إليه، ويُصَوِّرُهُ خياله له في الجانب أو الجوانب الَّتي طاب له أن يتناوَلَهُ منها، فكانَتْ لنا هذه الثروةُ الضخمةُ النفيسَةُ، من مؤلَّفاته المتعدِّدَةِ الموضوعاتِ والأحجام.
ولم يكن إذ ذاكَ تخصُّصٌ في العلوم، ولكنَّها كانت شَرِكَةً بين طُلابها جميعًا؛ فهم يتواردون عليها كلِّها، أو على جملةٍ صالحةٍ منها، ثم يَغْلِب على كلٍّ ما يَغْلِبُ عليه منها، وكان النحو خاصَّة لا يُطلَب هَونًا، أو يُترَك استغناء، إيمانًا صادقًا بحاجة كلِّ ذي علم إليه، فهو معيار اللغة، ومِفتاح سِرِّها، ووسيلةُ الفَهْم عنها.
من أجل ذلك لم يكتفِ جمهورهم بعلم ما فيه الكفاية منه، ولكنَّهم توسَّعُوا فيه، وشاركوا المنقطعين له في الرأي والتأليف.(/1)
وإذا كان بَسْطُ التاريخ أَقْدَرَ على الاستيعاب والتبيين من إيجازه، فإنَّ الإيجازَ أقدَرُ منه على الجمع والتقريب؛ لأنَّه اختيارٌ وانْتِقاء، ولكلِّ مقامٍ مقال؛ كما يقولون، وقدِ جَهِدْتُ ما استطعت ألا أَدَعَ شيئًا مِمَّا بدا لي أنه حقيقٌ بالذِّكْر إلا جِئْتُ به في نطاقِهِ المحدود.
وعسى أن يكون في ذلك بلوغُ غاية، وإدراكُ حاجة، إن شاء الله تعالى.
على النجدي ناصف
أوليَّة النَّحو
النحو نوعانِ: بَصْرِيٌّ، وكُوفِيٌّ، والبَصْرِيُّ أسبق وجودًا من الكُوفِيِّ، وإليه يُرَدُّ وَضْع النحو، ما في ذلك خلاف ولا مِراء، فمن حقِّه علينا أن نبدأ به، والحديث عنه ذو شِقَّيْنِ: الأوَّل عن بيئة النحو، والآخر عن واضعه.
بيئته:
نَشَأَ النحوُ في البَصْرَةِ، وما كان له أن ينشأ في غيرها؛ فهي المدينة التي اشتدَّتْ فيها الحاجة إليه قبل غيرها، إذ لم تكد تُمَصَّرُ، ويتسامع الناس بها وبوَفْرة الخيرات فيها، حتّى انثالتْ إليها أفواج من العرب، وأخرى منَ العجم.
وتوالت الهجرة إليها على تعاقُبٍ وازدياد، حتى بلغتْ عِدَّةُ مُقاتِلَتِها أيامَ كان زياد واليًا عليها – ثمانين أَلْفًا، وبلغت عِدَّةُ عيالهم مائة وعشرين ألفًا[1]، وكان تمصيرها سنة 14، وولاية زياد سنةَ 45 فكلُّ ما بينهما نحو ثلاثين عامًا.
وعاش أهل البصرة منَ العرب والعجم كما يعيش أهل الوطن الواحد من أصول مختلفة، تجمعهم أواصِرُهُ، وتدعوهم دواعي العيش فيه إلى التفاهُم والمعاملة، ولا يمكن أن يتمَّ تفاهُمٌ، وتتيسر معاملة إلا باللغة، فلم يكن بدٌّ لهذه الأخلاط منَ اصطناع لغةٍ واحدة، إلى جانب لُغاتها المتعدِّدَة؛ فكانت العربية هي هذه اللغة؛ لأنّها لُغة الدولة القائمة، ولسانُها الرسميُّ، وهيهاتَ أن تستطيع الجالِيات الأجنبيةُ إتقانَ الفُصحى والتحدُّثَ بها، كما يُتْقِنُها ويتحدَّثُ بها العرب الخُلَّص.(/2)
لذلك أصبحتِ العربيَّة عَرَبِيَّتَيْنِِ: فصيحة يصطعنها العرب، وأخرى يَشوبها قليل أو كثير منَ اللَّحْنِ والتحريف، يتحدَّث بها المُستعربُون في الحياة العامَّة، على أنَّ اللَّحْن والتحريف كانا يشُوبان لُغةَ العرب أو بعضِهم أيضًا، ولكن بمقدار، وعلى تفاوت واختلاف:
فقد رَووْا أنَّ عمر – رضي الله عنه – جاءه كتاب من عامله على مِيسَانَ، وقد لَحَنَ كاتبه فيه، فكتب عمر إلى العامل: أن قَنِّعْ كاتبك سَوْطًا[2].
وشيءٌ آخَرُ يُؤَيِّدُ ظهور النحو في البصرة، وهو: أنّ الإمام عَلِيًّا، وعبدالله بن عبَّاس، وأبا الأسود الدؤليَّ – كانوا يقيمون بالبصرة، سَبَقَ إليها أبو الأسود، وجاءها الإمام وابن عباس أيامَ الفتنة الكبرى، ويتنازع الرواة نِسبة وَضْع النحو إلى ثلاثتهم في كثير من الروايات، ومعقولٌ أن يكون وَضْع النحو إبَّانَ هذه الحقبة: إذ كان خِلاطُ العرب والعجم حينئذ أَشَدَّ، واللحنُ في العربية أكثرَ، والحاجةُ إلى النحوِ آكَدَ.
وقد كان عُمرُ – رضي الله عنه – مُلْهَمًا حين كتب إلى أبي موسى الأَشْعَرِيِّ في وِلايته على البصرة أن يَكِلَ إلى أبي الأسود تعليم الإعراب[3].
واضع النحو:
وردت رواياتٌ شتَّى عن واضع النحو، تتحدَّث عنه من جوانبه المختلفة، تتحدَّث عن سبب وَضْعِهِ، وعن واضعِهِ، وعمّا وُضِع منه أوَّلَ الأمر، فأمَّا سبب وضعِهِ فظُهور اللَّحْن، واستفحال خَطَرِهِ على مَرِّ الأيام.
وكانت العرب تَمْقُت اللَّحْنَ أشدَّ المَقْتِ، وتراه مَنْقَصَةً تُزرِي بصاحِبها، لا في مطلع الإسلام فحَسْبُ؛ ولكن فيما تلاه كذلك إلى أَمَدٍ بعيد، وكانوا لا يَسكُتون عن لَحْنَةٍ تَعْرِض؛ بل لا يُقِرُّون على شَكٍّ منها، لا في قول يقال، ولا في نصٍّ يُرْوَى.
فقد حَدَّثوا أنَّ جارية غَنَّتْ في مجلس الواثق بقول الشاعر[4]:
أَظَلُومُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً = أَهْدَى السَّلامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ(/3)
فأنكر عليها بعضُ أهل المجلس أن نَصَبَتْ (رجُلاً) في البيت، بظنِّ أنَّه خبر إنَّ، فالوجه رفعُهُ، والصواب أنَّه مفعول به للمصدر مُصَاب؛ لأنَّه بِمعنى إصابة، وأبَتِ الجاريةُ أن تُغَيِّر الضبط، وقالتْ: إنَّها قَرَأَتْه هكذا على أبي عثمان المازنيِّ، فاستَقْدَمَ الخليفةُ المازنيَّ منَ البصرة، فأَيَّدَ رِوايَةَ النَّصْبِ وشَرَحَ وَجْهَهُ.
وقد وردتْ رواياتٌ كثيرةٌ تعزو وَضْع النحو إلى أبي الأسود، بلا خلاف بينها، إلا في سبب وضعِه والمُضيِّ فيه: أكان إحساسًا بضرورته، أم كان إشارةً من عُمَرَ[5]، أم من الإمام عليٍّ[6]، أم من زياد[7]؟
ويبدو أنَّ الأمر شُبِّهَ على القائلين بإشارة عمر، وإشارة زياد، فحَسِبَ الأولون أنَّ عَهْدَ عمر إلى أبي الأسود في تعليم الإعراب – يعني إشارةً بوضع النحو، وحَسِبَ الآخرون أنَّ نَقْطَ أبي الأسود للمصحف في عهد زياد هو الإشارة بوَضْعِهِ، أمَّا القائلون بإشارة الإمام عليٍّ فلم يُبعِدوا، لأنَّ أبا الأسود كان من أخَصِّ شِيعَتِهِ المقرَّبِينَ؛ فمنَ الطبيعيِّ أن يكون على صلةٍ ما بنحو أبي الأسود، إشارةً به أو إرشادًا فيه.
ويُروى أن واضع النحو هو الإمامُ نفسُهُ، وأن أبا الأسود أخذه عنه[8]، ولا يتعاظَمُ الإمامَ أن يضع النحو لو أراده، فعبقريَّتُهُ لا خلاف عليها؛ لكنَّ الأعباء التي كان يضطَلِعُ بِها أَثْقَلُ من أن تُتِيحَ له التفكيرَ في ذلك؛ إذ كان – كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ – مُوَزَّعَ الجُهد والفِكر لتَثْبِيتِ دعائم الدولة، وإقامَةِ أحكام الدين، وتدبير شؤون الرَّعِيَّةِ، وإحباط المكايد.
وفي أخبار أبي الأسود شواهدُ تدل على أنَّه كان – كما توسَّم فيه عُمَر – صاحبَ حِسٍّ لُغَوِيٍّ مُرْهَفٍ، يستطيع به تمييز الأساليب بعضِها من بعض، وإدراكَ ما يكون بينها من أوجُهِ الخلاف والمشابهة، وما يكون لذلك من أثر في المعنى صحة وفسادًا:(/4)
فقد رووا أنَّ أصهارَهُ من بَنِي قُشَيْر كانوا يعلمون مَبْلَغَ حُبِّهِ وإخلاصِهِ للإمام عليٍّ، وأنَّهم كانوا – إغاظةً له – ينالون من الإمام بحضرته، فقال في ذلك قصيدة يُنْكِرُ إِساءَتَهُم له، ويؤكِّد وفاءه بالعهد وإخلاصه للعقيدة، ومنها في آل البيت:
أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا = وَعَبَّاسًا وَحَمْزَةَ وَالْوَصِيَّا
بَنُو عَمِّ النَّبِيِّ وَأَقْرَبِيهِ = أَحَبُّ النَّاسِ كُلِّهِمُ إِلَيَّا
فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ = وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيَّا
فقالت بنو قشير: شَكَكْتَ يا أبا الأسود في صاحبك؛ حيث تقول:
فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ = ... ... ... ... ... ...
فقال أبو الأسود: أما سمعتم قول الله عز وجل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[9]:
فأبو الأسود يعلم من أسرار البيان ما لا يعلمون، وأحالَهم في الحِجاج على الآية؛ لعلهم يفهمون أنَّ الكلام قد يكون في ظاهره شَكًّا، وما هو في حقيقتِهِ بشَكٍّ، ولكنها التورية اللطيفة يصار إليها أحيانًا.
ويصف أبو الأسود مبلغَ حِسِّهِ اللُّغَوِيِّ منَ الرِّقَّة وصِدْق التمييز، فيقول: إني لأجد للَّحْنِ غَمَرًا كغَمَرِ اللَّحْمِ[10].
ويذكُرُ ابْنُ النَّدِيمِ أنَّه رأى أربعَ ورقات يَحْسَبُها من ورق الصين، ترجمتُها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود - رحمة الله عليه - بخطِّ يَحيى بنِ يَعْمُرَ، وتحت هذا الخطِّ بخَطٍّ عَتِيقٍ: هذا خَطُّ عَلاَّنَ النَّحْوِيِّ، وتحت هذا الخطِّ النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ[11]، وهذا كلامُ رجُلٍ ثِقةٍ لا يحدِّث بما سمع، ولكن بِما رآه رَأْيَ العين.
ويذهبُ بَعْضُ البَاحِثينَ إلى أنَّ أبا الأسود كان على صِلَةٍ بِالسُّرْيَانِيَّةِ؛ والأرجَحُ أنَّه قَدْ تَعَلَّمَها[12].(/5)
ورأى آخرُ: أنَّ يعقوب الرهاويُّ كان مُعاصِرًا لأبي الأسود، وأنَّ له كتابًا في نَحْوِ السُّرْيَانِيَّةِ[13]:
وكلا المَقُولَيْنِ يُشعِرُ بأنَّ النحوَ العربيَّ ليس عربيًّا صريحًا، وأنَّ أبا الأسود قد أفاد له من السُّرْيَانِيَّةِ على نحوٍ ما! وهو كلامٌ يقوم – كما تَرى – على مُجرَّدِ الظَّنِّ، ويَكْثُرُ تَرْدَادُ مِثْله كُلَّما ذُكِرتْ أَوَّلِيَّات علومِ العرب؛ كأنما كُتب عليهم من بين خَلْقِ الله أن يكونوا أبدًا تلاميذَ لِغيرِهم في العلوم، وهو كلامٌ يُمكنُ قَبُولُه والتسليمُ به حين يكونُ له سَنَدٌ غيرُ الحَدْسِ والتَّخْمِينِ.
وتقتضي طبيعةُ الأشياء أن يكون ما وضعه أبو الأسود منَ النحو مجرَّدَ ملاحظات يسيرة، هُدِيَ إليها بالنظر في الأساليب واستقرائها على قَدْرِ الطاقة في المقامات المتنوِّعَةِ، وتَيَسَّرَ له بفضلها أن يستنبط منها ضوابِطَ لا تبلغ مبلغ القواعد التي تُقَرِّرُ الأحكام في اطِّرادٍ وشُمول.
ومَن يكن مِثْلَ أبي الأسود في سلامة الفِطرة، ولُطْفِ الحسِّ لا يستعصي عليه أن يهتدي إلى هذه الأوليَّات وزيادة، وما كان الخليفةُ عُمر لِيختارَهُ مُعَلِّمًا للإعراب إلاَّ وهُوَ صالِحٌ له، وكافٍ فيه! وقدْ كانَتِ العَرَبُ أو أُناس منها يُدركون فُروقَ المعاني المختلفة في العبارات التي تختلف فيها حركات الإعراب، أو طرائقُ التعبير تقديمًا وتأخيرًا، وذِكْرًا وحَذْفًا.
ومن ذلك أنَّ أعرابيًّا سَمِع قارئًا يقرأ قولَهُ تعالى: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[14] بجرِّ لامِ رسولِهِ، فقال الأعرابيُّ: أَوَبَرِئَ اللهُ من رسولِهِ؟![15]، ويقول سِيبَوَيْهِ - فيما يقول -: ((ليس منَ العَصَبِيَّةِ إذًا، ولا من التجنِّي على الحقيقة أن تقول مع القائلين: إنَّ النحوَ العربيَّ عربِيُّ النَّسَبِ، وما هو بالدخيل ولا الهجينِ)).
النَّحو وأشهر النحاة
من أبي الأسود إلى سِيبَوَيْهِ(/6)
لم يكد أبو الأسود يضعُ النَّحْوَ، ويَعْلَمُ الناس نَبَأَهُ عنه، حتى أقبل تلاميذه عليه يأخذون عنه، ثم يأخذ تلاميذهم عنهم مِن بعده، وهكذا جعل النُّحَاةُ يتتابَعُونَ مع الأيَّام طبقاتٍ، يأخذ اللاَّحقون منهم عنِ السابقين، وجَعَلَ النحوُ ينمو غَرْسُهُ، ويَشْتَدُّ عُودُهُ دِرَاكًا عصرًا بعد عَصْر، حتى كأنَّ القوم قد أعدَّهمُ الله له من قبلُ على أفضل ما يكون الإعداد، فما بِهم إلا أن تومِضَ ومضةُ البدء، وتشير إشارةُ التوجيه ليَمْضُوا به خِفَافًا، فإذا هم بعد قليل قد طَوَوْا به شَوْطًا بعيدًا لم يكن ليبلُغَه لولا العملُ الدَّائِبُ، والجُهْدُ المتَّصِل.
فَهَذَا بِلالُ بن أبي بُرْدَةَ والي البصرة يَدعو إلى مَجلِسِه عبدَالله بْنَ أبي إسحقَ، وأبا عمرو بنَ العَلاءِ، وهما من رُوَّادِ النُّحَاةِ؛ ليتَناظَرَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ أبو عمرو عمَّا انتهت إليه المناظرةُ: "فغَلَبَنِي ابن أبي إسحقَ بالهمز"[16]، فقدِ اتَّسَعَ مَيْدَانُ النحو يَوْمَئِذٍ حتى سَمَحَ لهذين العالِمَيْنِ الجليلينِ أن يتجاولا فيه جَوَلاَتٍ متكاملَةً، يتحقَّق بِها الغَلَبُ والهزيمة، ولم يكن مضى على ظهوره إلا قرابةُ أربعين عامًا؛ إذْ كانَتْ وفاةُ أبي الأسود سنة 69، وولاية بلال سنة 109.
وسنُتَرْجِمُ هنا أبا الأسود، وأشهَرَ النُّحاةِ الَّذين جاؤوا من بعده إلى سِيبَوَيْهِ بترتيب سِنِي الوفاة:
1 – أبو الأسود:(/7)
المشهور أنَّ اسمه ظالمُ بنُ عُمر[17]، يَرتَفِعُ نَسَبُهُ إلى الدُّئَلِ بنِ بَكْر، وإليه يُنسَب، وُلِدَ بمكَّةَ، ورحل إلى المدينة، فَرَوَى عَنْ عُمَر، وقَرَأَ على عُثمان وعليٍّ[18]، ثُمَّ أشْخَصَهُ عُمَرُ إلى البصرة في وِلاية أبِي مُوسى الأَشْعَرِيِّ ليُعَلِّمَ الناسَ الإعرابَ[19]، ووَلاَّهُ الإمامُ قضاءَ البصرة، ثم جعله واليًا عليها بَعْدَ ابْنِ عبَّاس حين خرج إلى مَكَّة مُغاضِبًا للإمام[20]، وتُوُفّي أبو الأسود بالبصرة سنة 69.
وكان – رحمه الله – من أَوْفَى الشِّيعَةِ للإمام، وأَشَدِّهِمْ إخلاصًا له، هو الذي وَضع النحوَ، وضَبَطَ المصحَفَ الشريفَ، ومن قراءاته: (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) و(هَيْتِ لك)[21].
ومن الذين أخذوا عنه يحيى بن يَعْمُرَ المتوفَّى سنة 129، وميمونُ الأقرنُ، وعَنْبَسَةُ الفِيلُ، ولَسْنَا نَعْرِفُ عن نَحْوِهم شيئًا، ولا نجد لهم ذِكْرًا في كتاب سِيبَوَيْهِ، ولا عنهم رواية فيه.
2 – عبدالله بن أبي إسحاقَ:
هو عبدالله بن أبي إسحاق الحَضْرَمِيُّ، أخذ عن يحيى بنِ يَعْمُرَ، ونَصْرِ بنِ عاصم، ويقولون: إنه فرَّع النحو، وأعمل القياس فيه، ودرس الهمز، وله فيه كتاب. وتوفي سنة 117[22].
ومن نُقول سيبويه عنه: أنَّه كان يقرأ آية {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: 27]، بنَصْبِ نُكَذِّبَ.
3 – أبو عمرو بن العلاء:
اسمه كنيته على المشهور، وقيل: اسمه زبان، ولد بمكة سنة 68، ونشأ في البصرة، وأخذ عن عبدالله بن أبي إسحاق، ويحيى بن يعمر، وقَرَأَ على أنس بن مالك، والحسن البصري.
وهو من القراء السبعة، وكان إمام أهل البصرة في القراءات، والنحو واللغة، وأيام العرب والشعر، مع الصدق والثقة والزهد، وكان من أشراف العرب ووجهائها، وتوفي سنة 154[23].(/8)
ونَقَلَ عَنْهُ سيبويه أكثر من أربعين نقلاً، مُعظمُها من طريق يونس بن حبيب، ومنها: قوله عن المستثنى بإلا حين يكون الكلام تامًّا منفيًّا: الوجه ما أتاني القوم إلا عبدُالله. ولو كان هذا بمنزلة أتاني القوم ما جاز أن تقول ما أتاني أحد، كما أنه لا يجوز أتاني أحد[24].
وقوله: واعلم أن ما كان صفةً للمعرفة لا يحسن أن يكون حالاً ينتصب انتصابَ النَّكِرَةِ[25].
4 – الخليل:
هو الخليل بن أحمدَ الفَرَاهِيدِيُّ الأَزْدِيُّ، وُلِدَ سنة 100، وأخذ عنْ أبِي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، وغيرِهما، وخرج إلى البادية يُشافه أهلها، ويأخذ عنهمُ اللغة، ويُعَدُّ الخليل من أفذاذ التاريخ، وأصحاب الأوليَّات في العلوم.
آتاه الله حِسًّا لُغويًّا مدرَّبًا، وذِهنًا رياضيًّا بارعًا، وذوْقًا موسيقيًّا مرهفًا؛ فبلغ الغاية في النحو، واخترع العَروض وخَرَجَ بِهِ على الناس عِلمًا كاملاً، كما اخترع طريقة تدوين المعاجم، واستنبط من النحو في أصوله وفروعه، وعِلَلِه وأقيسته ما لم يسبقه إليه سابق، ونقل عنه سِيبَوَيْهِ أكثرَ من خمسمائة نقل.
وكان – رحمه الله – عفيفًا زاهدًا مُتقشِّفًا؛ قضى حياته منقطعًا للعلم والتعليم، وتوفي سنة 175[26].
5 - يونس بن حبيب:
هو أبو عبدالرحمن يونس بن حبيب الضَّبِّيُّ، وُلد سنة 90، وأخذ عن أبي عمرو، ويقولون: إنه كان صاحِبَ قياس في النحو، وله مذاهب تَفَرَّد بها، وقد نقل عنه سيبويه نحو مائتي نقل، وأكثر ما نقل عنه بابانِ من التصغير، فقال: وجميعُ ما ذكرتُ لك في هذا الباب، وما أذكُرُهُ لَكَ في الباب الذي يليه قولُ يُونُس[27]، وتوفي سنة 182.
ومِمَّا نقلَ عنه قولُه: "وسمعنا بعض العرب يقول: (الحمدُ للهِ ربُّ العالمين) فسألت عنها يونس فزعم أنها عربية"[28]، وقوله: "ومن ذلك: قولُ العرب: مَن أنتَ زيدًا؟ فزعم يونس أنه على قوله: من أنت تذكر زيدًا؟ ولكنه كَثُرَ في كلامهم، واستُعمِلَ واستغْنَوْا عن إظهاره"[29].(/9)
6 – سِيبَوَيْهِ:
هو عمرو بْنُ عثمان بن قنبر، وسِيبَوَيْهِ لَقَبُهُ الذي لا يكاد يذكر أو يعرف إلا به، ولد بالبيضاء إحدى مدن فارس، ونشأ وأقام بالبصرة، وأخذ عن الخليل، وأطال ملازمته، وكان أحبَّ تلاميذه إليه، وأخذ كذلك عن عيسى بن عمر، ويونُسَ بنِ حبيب، وغيرهما، وهو صاحب أعظم كتاب في النحو، وأبقاه على الأيام، وتوفي سنة 180 هـ[30].
كتاب سيبويه: لم يُسمِّ سِيبَوَيْهِ كتابَهُ، ولا جعل له مقدِّمة ولا خاتمة، ولعلَّه كان على نِيَّةِ العَوْدِ إليه لبعض الأمر، لكنَّ عائقًا حال دون ما كان ينويه، ومن قبل سمَّى عيسى بن عمر كتابين له، أحدهما "الإكمال"، والآخر "الجامع".
على أنَّ القدماء سمَّوْهُ عنه؛ إذ أطلقوا عليه اسم "الكتاب"، غيرَ موصوف بوصف، ولا معيَّنٍ بإضافة، فكان إذا ذُكِرَ لفظ الكتاب مُجرَّدًا فهو كتابُ سِيبَوَيْهِ، كأنَّما هُو وَحْدَهُ الكِتاب على الحقيقة، وما سواه فكتاب على المجاز!
وسيبويْه لا يُقَرِّر في الكتاب قواعدَ، ولا يشترط للأحكام شروطًا، ولا يلتزم تعريف المصطلحات، ولا ترديدَها بلفظ واحد؛ وإنَّما الكتاب فَيْضٌ غزيرٌ من الأساليب والمفردات، وبعضُ الأساليب مأثور، وبعضُه مُحدَث، يَعرِضها سيبويه لِيدْرُسَها ويُحلِّلَها، ثم يقضي قضاءه فيها صِحَّة أو خطأً، حُسنًا أو قُبْحًا، كثرةً أو قِلَّةً،،، وهكذا.(/10)
وهو في أثناء ذلك يَعْرِضُ صُنوفًا من سماعه، وكثيرًا من آراء شُيُوخه، ولا سيما الخليل، فينقدها، أو يعلق عليها، أو يجعل منها تمامًا للمسألة التي يدرُسُها، أو تأييدًا لها، وكذلك يُزْجِي كثيرًا من لغات العرب، وفَيْضًا من الشواهد المتنوِّعة، بعضها آياتٌ من القرآن الكريم، وعِدَّتُها: 373، ولا يَفُوتُه أن يذكر قراءاتِها عند الحاجة إليها، وبعضُها الآخَرُ منَ الشِّعْرِ، وعدتها 871، ومن الرَّجَزِ، وعِدَّتُها 190، ولا يفوتُه أن يُصَحِّح نِسبَةَ الشواهد التي يرى أنَّها منسوبةٌ إلى غير أصحابها[31].
تلك عِدَّةُ شواهد سيبويه بحَسَبِ إحصائِي لها، وبعض شواهده من الشعر والرَّجَزِ غير منسوب إلى قائليه، لكنَّ العلماءَ يثقون بشواهده كلِّها، ويتقبَّلونَها عنه بقَبول حسن، وله شواهدُ من الأحاديثِ النبويَّة، لكنه لا يذكرها بِما يَدُلُّ على أنَّها أحاديث، ومنها:
1 – ((سُبُّوحًا قُدُّوسًا ربَّ الملائكةِ والرُّوحِ))[32].
2 – ((ما من أيام أحبَّ إلى الله فيها الصومُ من عشر ذي الحجة))[33].
3 – ((كلُّ مولود يولد على الفطرة، حتَّى يكونَ أبواهُ هما يُهَوِّدانِه، وينصِّرانه))[34].
ويغلب على عبارة الكتاب التلاحُمُ والانسياب، حتَّى لَيَقِلُّ أن تمر فيها بمَقْطَعٍ يحسن الوقف عليه إلا حين يصرف القول عن وجهه إلى شاهد يرويه، أو سؤال يسأله، أو حوار يُدِيرُهُ، وهي واضحة بَيِّنَة حينًا، وغامضة مبهمة حينًا آخَرَ، ولا يلتزم الذهاب بها إلى معناها قصدًا، فربما طاب له الاستطراد إلى غير ما يكون فيه من مقام؛ كاستطراده من القول في الاشتغال إلى القول في صيغ المبالغة[35].
ولا يكتفي سيبويه بواقع النصوص في استنباط الأحكام، ولكنه يلجأ أحيانًا إلى فَرْض الفُرُوض، ثم يشرِّع لها إكمالاً لصورٍ عقليَّة تتمثل في ذهنه، أو تدارُكًا لما فات النصوصَ أن تُلِمَّ به.(/11)
كذلك لا يقتصر على مسائل النحو والصرف؛ بل يَزِيد عليهما مباحثَ قيِّمةً رآها مَوصولةَ الأسباب بِهما، ونَقَلَهُا العلماءُ من بعده إلى علومٍ أخرى, ونكتفي هنا ببيان مواطن بعض هذه المباحث من "الكتاب"، ومواطنها من الكتب التي نقلت إليها، وليست من كتب النحو والصرف:
لقدْ نَقَلَ عبدُالقاهر إلى "أسرار البلاغة"[36] من باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى[37]، ونقل إلى "دلائل الإعجاز"[38] من باب من النكرة يَجرى مَجرى ما فيه الألف واللام[39]، ومن باب ما يحسن عليه السكوت[40].
ونقل الثعالِبِيُّ إلى "أسرار العربية"[41] من باب مجاري أواخِرِ الكَلِمِ منَ العربية[42]، وباب الحروف التي يجوز أن يليها بعدها الأسماء[43]، وباب ما لُفِظَ به مِمَّا هو مثنى[44].
وتحدث سيبويه في باب الإدغام حديثًا بارعًا عن حروف الهجاء، وعدَدِها، أصولاً وفروعًا، وعن مَخَارِجها وأنواعها، من مجهور ومهموس، وشديدٍ ورخْوٍ[45].
ونلاحظ أنَّ سيبويه لم ينقُل عن شيوخه في هذه الأبواب التي ذكرناها، فهل علينا إذا قلنا: إنَّ سيبويهِ هُو واضعُ البلاغة والتجويد؟![46]
وسيبويه بعد هذا يُشَقِّق الموضوعات المتشعِّبَة، ويفرِّقُها على عدة أبواب؛ فعرض الاستثناء في سَبْعَةَ عَشَرَ بابًا[47]، والترخيم في اثني عَشَرَ[48]، ثم هو يذكر بعض الأبواب في غير المواقع التي تُجانسها؛ فوضع القَسَم وحروفه بين التصغير ونونَيِ التوكيد[49].
وبعدُ: فلا تَعْرِفُ العربية كتابًا حفل به الناس، وأفادوا منه على تعاقُب الأجيال ككتاب سيبويه؛ فقد ألفوا عنه كُتُبًا، وأداروا حولَهُ دراساتٍ لا تحصى كثرةً:
ألَّفُوا في شرحه، والتعليق عليه، والتمهيد له، وترتيب مسائله، وحلِّ مشكلاته، وتوضيح غريبه وشرح شواهده، وتجريد أحكامه، اختصروه، واختلفوا فيه ما بين متعصِّب عليه، ومتعصِّب له، وانتصر لهؤلاء أنصار ومؤيدون، ومنهم منِ انقطع له حتى حَفِظَهُ، أو أَتْقَنَ فَهْمَهُ وتخصص فيه.(/12)
ولم يُقَدَّرْ لسيبويه أن يقرأ الكتاب على أحد، أو أن يَقْرَأَهُ عليه أحد، وإنَّما قَرَأَهُ الناس بعده على أبي الحسن الأخفش[50]؛ فقد وَرِثَ – رحمه الله – عِلْمَ سيبويه، وكان طريقَ الناس إليه؛ كما حَمَلَ سيبويه عِلْمَ الخليل، وكان طريقَ الناس إليه.
النحو وأشهر النُّحاة
فيما بين سِيبَوَيْهِ وانقسام الدولة العباسية
لم يَشْقَ النُّحاةُ بعلاج النحو بعد أن جاءهم كتاب سيبويه؛ فقد يسَّر لهم سبيله، بما أصَّل من أصول، واستخرج من كنوز، وأقام من حُجَجٍ، وقدَّم من شواهد، والتَمَسَ من عِلَلٍ؛ فَلَمْ يَدَعْ لهم إلا أن يدرُسُوه، ويَرَوْا رأيَهُم فيه نقدًا وخلافًا، أو مناصرة وتأييدًا، وإلا أن يستوحوه ويستمدِّوا لِمُصَنَّفاتِهم منه.
وهذا ما كان، فإذا لنا مِنْهُم أصنافٌ من الكتب، أبينَ طريقًا، وأقوَمَ تنسيقًا، وليست - مع ذلك – تخلو من رأي سديد، أو حُجَّة قاصدة، أو عِلَّة ناهضة، أو شاهد لا مغمزَ فيه، وليس ذلك منهم بالعمل القليل، ولا هو بالأمر اليسير، فتلك غايةُ ما تقضي به داعية الحال، وسُنَّة التطوُّر الذي أحدثه كتابُ سيبويه في عالم النحو والنحاة.
والآن هَلُمَّ إلى طائفة من أشهر نحاة هذه الحقبة.
1 – الأخفش:
هو سعيد بن مسعدة، الملقَّب بالأخفش، أصله من مَنْبِج، ثم سكن البصرة، وأخذ عن سيبويه، وكان يقول: ما وَضَعَ سيبويه شيئًا في كتابه إلا عَرَضَهُ عليَّ، وكانت له مكانةٌ رفيعةٌ في النحو بين البصريِّينَ والكوفيين، قرأ النَّحو على سيبويه، وهو وحده طريق الناس إلى كتابه، تُوُفِّيَ سنة 215 على التقريب[51].
ومن مؤلَّفاته في النحو: كتاب "المقاييس"، و"الاشتقاق". وله آراء منثورة في كُتُب النحو، منها: أنه يُجيز جمْع أسماء العدد، ولا يُجيز غيره أن يجمع منها إلا المائة والألف[52].
2 – المازنيُّ:(/13)
هو أبو عُثْمانَ بكر بن محمد بن بَقِيَّةَ، قرأ كتاب سيبويه على الأخفش، وكان إمامًا في اللغة، وراويةً واسِعَ الرواية، كما كان بارعًا في الحِجاج والمناظرة، توفي سنة 249، وقيل غير ذلك[53].
ومن كتبه: "علل النحو"، و"تفاسير كتاب سيبويه"، و"التصريف" وقد شرحه ابن جِنِّي، وهو مطبوع.
ومن آرائه النحويَّةِ: أن جمْع المؤنث يجب بناؤه على الفتح مع لا النافية للجنس[54].
3 – المبرِّد:
هو محمد بن يزيد بن عبدالأكبر، ولد سنة 210، ونشأ بالبصرة، سمع "الكتاب" من الجَرْمِيِّ، وأتَمَّه على المازنِيِّ، وكان إمامَ العربية في عصره، توفي سنة 386[55].
ومن مؤلَّفاته: "المقْتضَب"، و"إعراب القرآن"، و"الكامل في فنونٍ من اللغة والأدب والنحو".
ومن آرائِه في النَّحو: أن المصدر المؤول من أنَّ ومعمولَيْها بعد لو يعرَبُ فاعلاً لثبت محذوفًا[56].
4 – الزَّجَّاج:
هو أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن السري الزجَّاج، كان أول أمره يَخْرِطُ الزُّجاج، ثم مال إلى طلب النحو، فلزم المبرِّد يأخذ عنه، ثم اتصل بالمُكْتَفِي، وصار نديمًا له، وتوفي سنة 310[57].
ومن كُتُبِه: "الاشتقاق"، و"فَعَلْت وأفعَلْت"، و"شرح أبيات سيبويه".
ومن آرائه النحوية: جواز إعمال لعلَّ وكأنَّ حين تتَّصل بهما ما[58].
النحو الكوفي وأشهر علمائه
بدأ اشتغال الكوفة بالنحو في حياة الخليل؛ أي بعد وفاة أبي الأسود بنَحْوِ تسعين عامًا؛ فقد كانت وفاته سنة 69، وكانت الكوفة في خلال هذه المُدَّة عاكفةً على القرآن الكريم، تقرؤه وتُقْرِئه، وعلى الشِّعر ترويه وتَتَنَاشَدُهُ، ولذا كان فيها ثلاثة من القرَّاء السبعة، هم: عاصم المتوفَّى سنة 129، وحمزةُ المتوفَّى سنة 156، والكِسَائِيُّ المتوفَّى سنة 186، وفي كل مصر قارئ واحد.
أمَّا النحو فكانت – على ما يبدو – قانعةً منه بما يجيئها من البصرة، ثم انتبهت إليه، وشغلت به.
وأشهر علمائها فيه:
1 – معاذ الهَرَّاءُ:(/14)
هو أبو مسلمٍ معاذ الهَرَّاء، نشأ بالكوفة، وكان يبيع الثياب الهَرَوِيَّة، فعُرِفَ بها، أخذ عنه الكِسَائِيُّ والفَرَّاء، ويقال: إنَّه أوَّل من وضع التصريف، وتوفي سنة 187[59].
2 – الكِسَائِيُّ:
هو أبو الحسن علي بن حمزة الكِسَائِيُّ، إمام نحاة الكوفة، وأحد القُرَّاء السبعة، نشأ بالكوفة، وأخذ عن الهَرَّاء، والخليل، وأقرأه الأخْفَشُ كِتابَ سيبويه، ورحل إلى البادية فحَفِظَ كثيرًا منَ اللغة، وعَهِدَ إليه الرشيد في تأديب الأمين والمأمون، توفي سنة 189، ومن كتبه: "معاني القرآن"، و"مختصر النحو"، ويعد الكِسَائِيُّ إمامَ نحاة الكوفة[60].
ومن آرائه النحوية: جواز إعمال اسم الفاعل وهو ماضي الزمن[61].
3 – الفَرَّاء:
هو أبو زكريا يحيى بن زياد الدَّيْلَمِيُّ، وُلد بالكوفة، وأخذ عن الكِسَائِيُّ، وعن يونسَ بن حبيب، وكان أبرع الكوفيين في علمهم، وتوفي سنة 207[62].
ومن كُتُبه: "معاني القرآن"، و"المذكر والمؤنث"، و"المقصور والممدود".
ومن آرائه النحوية: أن الاسم الذي بعد لولا ليس مبتدأ؛ بل مرفوعًا بها؛ لاستغنائه بها كما يرتفع الفاعل بالفعل[63].
4 – ثَعْلَب:
هو أحمد بن يحيى المعروف بثَعْلَب، ولد سنة 200، وأخذ عن محمد بن سَلاَّم الجُمَحِيُّ، ومحمد ابن زياد الأعرابيُّ وغيرِهِما، ودرس كتب الكِسَائِيُّ والفَرَّاء، وقرأ كتاب سِيبَوَيْهِ على نفسه، وهو من أئمَّة الكوفِيّين في النحو، ومات سنة 291، ومن كُتُبه: "اختلاف النحويين"، و"معاني القرآن"، و"ما ينصرف وما لا ينصرف"[64].
ومن آرائه: أنه إذا سُمِّيَ مذكَّرٌ بمؤنَّثٍ مجرَّد منَ التاء، فإن كان ثلاثيًّا مُنِع من الصرف، سواء أكان محرَّكَ الوَسَطِ كفَخِذ، أم ساكِنَهُ كحرْب[65].
مدرستا البصرة والكوفة
نشأ النحو في البصرة، وأقبل علماؤها عليه يتدارسونه طبقة بعد طبقة، ويضيفون إلى ما بين أيديهم منه كلَّ ما عسى أن يفتح الله عليهم به.(/15)
أمَّا أهل الكوفة فكانوا منقطعين للقرآن والشِّعر، كما ذكرنا آنفًا، حتَّى إذا كان منتصف القرن الثاني تقريبًا – تبيَّنُوا أنَّ البصرة قد عظم قَدْرُها، ونبُه ذكرُ علمائِها، بفضل ما صنعوا ويصنعون للعربية – هنالك هبُّوا يحاولون أن ينافسوهم؛ ليكون لهم من الفضل مثل ما لهم.
ولمَّا لم تكن لهم سابقة في النحو، لم يجدوا بدًّا من أن يتجهوا إلى البصرة، يطلبون فيها علم ما لا يعلمون، فذهب إليها الكِسَائِيُّ فِيمن ذهب، وأخذ عن الخليل ويونُس، ثم قرأ عليه الأَخْفَشُ كتاب سيبويه، واصطحب الفَرَّاءُ كتاب سيبويه حياتَهُ، لا يكاد يفارقه.
كان نَحْو الكوفة إذًا شُعبةً من نحو البصرة، ثم تحوَّلَ عنه في أصوله، ومناهج دَرْسِهِ، لاختلاف الأئِمَّة هنا وهناك في مصادر الرواية والرأي فيها، ثم في سمات الشخصية وطرائق التفكير؛ فكان للنحو مدرسة في البصرة، وأخرى في الكوفة، وقُدِّر لنحو البصرة أن يكون أكثَرَ تداولاً، وأَخْلَدَ خُلُودًا.
وأهَمُّ الفروق التي بين المدرستين: أنَّ شُيوخ البصرة كانوا لا يَرْوُونَ إلاَّ عن العرب الخُلَّص الضَّارِبِينَ في أعماق الصحراء، ولا يَقبَلون الشاهد إلا إذا وثِقُوا به، لهذا نَرَى سيبويه يُرَدِّدُ لفظ الثقة ومشتقَّاته فيما يَروِي وما يَسمعُ منَ الشواهد، كأنَّما يُريدُ أن يُطَمْئِنَ أصحابه إلى أنه آخذ على الطريقة التي يتوارَثُونَها؛ بل لم يكُنْ يَفُوتُه أن يُنَبِّهَ على المَصْنُوع منَ الشواهد أيضًا[66]، أمَّا الكوفيّون فكانوا أقلَّ تحرُّجًا في الرواية، وأكثَرَ تَرَخُّصًا في الاستِشْهاد.(/16)
وأُخْرى: أنَّ البصْرِيِّينَ كانوا يُقِيمونَ قَواعِدَهُم على الأكثر في اللغة، ويَأْبَوْنَ أن يَتَّخِذُوا ما دونه مصدرًا لاستنباط، ولا سندًا لرأي، أمَّا ما يُخالِفُ الأكثر فرُبَّما أوَّلوه بما يردّه إليه، وربَّما عدُّوه منَ الضَّرورات التي لا يُصارُ إليها في الاختيار، وربما نحَّوْه جانبًا، وحكموا عليه بالشذوذ.
ويبدو أنَّ أبا عمرو هو صاحبُ هذا الأصل: فقد سُئِلَ عمَّا وَضَعَهُ من العربية: أيدخُل في كلام العرب كلُّه؟ قال: لا، قيل له: فكيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حُجَّة؟ قال: أعمل على الأكثر، وأُسَمِّي ما خالَفَنِي لغات[67].
أمَّا الكوفِيّون فكانوا يأخذون اللغة من حيثُما وجدوها، وكانوا كلما عرض لهم شاهد قبِلوه وولَّدوا منه حكمًا له ما لسائر الأحكام[68]:
ومن أمثلة الفرق في هذا بين المدرستين: أنَّ البصرِيّين لا يُجيزون تَقَدُّم الفاعل على فعله، ولا يَمْنَعُهم منه قول الزَّبَّاء:
مَا لِلْجِمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدَا = أَجَنْدَلاً يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدَا؟
لأنَّهم يعدّونه من قبيل الضرورة، ويُعرِبون (مَشْيَهَا) مبتدأ حُذف خَبَرُهُ، وسَدَّتِ الحالُ (وَئِيدًا) مَسَدَّهُ، والتقدير: مَشْيُهَا يَظْهَرُ وَئِيدًا.
أمَّا الكوفيّون: فقد أخذوا بالشاهد، وأجازوا تقديم الفاعل على فعله، كما قدَّمَتْ (مَشْيُهَا) على (وَئِيدًا)[69].
ولعلَّ كثرةَ مُمارسة الكوفيين للتلاوة والرواية هي التي أورثتهم الاعتداد بظاهر النصِّ، وتهيُّبَ الهجوم عليه بالتَّأويل، أوِ الإنكار:(/17)
وهذا لا يَعْنِي أنَّ البصرة كانتْ أقلَّ من الكوفة تَحمّلاً لِلقرآن وروايةً للشعر، فقد كان الذين يحفظون القرآن كله في عهد أبي موسى الأشعري زهاء ثلاثمائة[70]. وكلّ ما كان من الأمر هنا وهناك – أنَّ الكوفَةَ آثَرَتِ العافية، وقَنَعَتْ بما حَفِظَتْ، واسْتَمْرَأَتِ الانقطاعَ للمعاودة والتّكرار، أمَّا البصرة فقد أُتِيحَ لها الحفظ، ووَضْعُ النحو فظفرت بِالحُسْنَيَيْنِ، ولَمْ تَجِدِ البصرةُ حاجةً إلى الأَخْذِ عنِ الكوفة، إلاَّ أَبَا زَيْدٍ، فإنَّه – فيما يقال – أخذ عن المفضَّل الضَّبِّيِّ[71].
ثم إنَّ البصريِّين يُقَدِّمُونَ السماع على القياس إذا تعارضا[72]، أمَّا الكوفِيّون فرُبَّما جعلوا كلِمَة القياس هي العليا وإن لم يعزِّزه شاهد؛ فقد منعوا تقدُّم الخَبَرِ على المبتدأ مُطلقًا، لئلا يتقدم الضميرُ الذي فيه على مَرْجِعِهِ؛ فَفِي قائمٌ - مَثَلاً - من قولنا: قائم زيد، ضمير زيد، ولم يأْبَهُوا لتأخُّر الخبر رُتْبَةً وإن تقدم لفظًا، ولا للمأثور من الشواهد[73].
والآن هل للنحو مدارسُ أخرى؟
ينبغي قبل الإجابة عن هذا السؤال أن أُعَرِّفَ المدرسة، فهي: طائفة من العلماء، أوِ الأدباء، أو أهل الفن، تُؤَلِّفُ بينهم - في الإنتاج وصوره - أصولٌ ومناهجُ يلتَزِمُونَها، مع احتفاظ كلٍّ بخصائِصِ شخصِيَّتِه.
وهكذا كان أئمَّة النَّحو الأوَّلونَ في البصرة والكوفة إبَّان نشأتِه، فخرج النحو الذي صدر عنهم صدًى لما عند كل من الفريقين من مواهبَ، ولما أصَّل من أصول، وما أمدته العرب به من لغة، ولمَّا أنِ اشْتَدَّ عُودُهُ، ونضجت ثمرتُه، وآل مِن بعدهم إلى خُلفائهم – لم يجدوا به نقصًا فيُتِمُّوه، أو صَدْعًا فَيَرْأَبُوهُ، فلم يبق إلا أن ينظروا في النحوَيْن، ويأخذوا لمصنفاتهم من كليهما أرجَحَه عندهم، ومنهم من جعل النحو البَصْرِيَّ أَصْلاً، وزاد عليه ما دَعَتْ إليه الحاجة من النحو الكوفيِّ.(/18)
وهنا التقى النحوانِ بين أيديهم، على سواءٍ في الدَّرْسِ والتمحيص، واختلافٍ في مقدار النقل والاقتباس من هذا وذاك، تلفيقٌ للنحوَيْن أَخَذَ النُّحاة به منذ القرن الثالث، ولا يزال معمولاً به إلى اليوم، فهل يصحُّ أن نُطْلِقَ على أصحاب هذا التلفيق اسمَ مدارس، فنقول مثلاً: مدرسة النَّحو البغداديَّة، أو مدرسة النَّحو المصريَّة، كما جاء في كتاب "المدارس النحويَّة".
يبقَى بعد هذا أنَّ النَّحْوِيِّين القُدماءَ يُرَدِّدونَ في كُتُبِهم آراءً يعْزُونَها إلى مَن يَصِفُونَهم بالبغداديين، وقد فَهِمَ بعضُ الباحثين من هذا أنَّ هؤلاء البغداديين يؤلِّفون مدرسة نحوية ثالثة، لكنَّ ثَمَّة دلائلَ تَدُلُّ على أن هؤلاء البغداديِّينَ همُ الكوفيون الذين استَقَرَّ المُقامُ بهم في بغدادَ، لأنَّ وصفهم بالكوفيين مَدْعَاةٌ إلى اللبس والتخليط:
فالأخفش يقول عن سيبويه - مُنْصَرَفَهُ من بغداد بعد مناظرته للكِسَائِيِّ -: "وجَّه إليَّ فَجِئْتُهُ، فعرَّفني خَبَرَه مع البغداديِّ[74]، ومن يكون هذا البغداديُّ، إذا لم يكن هو الكِسَائِيَّ؟ ويقول المبرِّد: ما رأيت للبغداديين كتابًا أحسنَ من كتاب يعقوبَ بن السِّكِّيتِ في المنطق"[75]، وابنُ السِّكِّيتِ كُوفِيٌّ[76] ويقول ابْنُ جِنِّي: لو قال قائل: المبتدأ مرفوع بما يعود عليه من ذِكْر، لقلتُ: "هذا قول الكُوفِيين"، ثم عاد فكَرَّرَ العبارة في موضع آخَرَ، فقال: "ومن ذلك قول البغداديِّينَ: إنما الاسم يرتفع بما يعود عليه من ذِكْرِهِ"[77].(/19)
ولئن كان نحوُ البصرة أَحْظَى عند الناس، لقد كان نحوُ الكوفة أَحْظَى عند الخلفاء، إذ كانت الكوفةُ أقرَبَ من البصرة إلى بغدادَ، وفيها كانت البَيْعَة للسَّفَّاح، ولبِثَتْ بعض الوقت حاضِرَةَ الدولة، أما البصرة فقد ظهر فيها إبراهيم بن عبدالله بن الحسن يدعو لأخيه محمد، وكان قد خرج بالمدينة فاستجاب لإبراهيم كثيرٌ من أهل البصرة، فاستوْلَى عليها وعلى ما قَرُب من واسط والأهواز[78].
لذلك أُتِيح للكوفيِّين أن يسبقوا إلى بغداد، ففتح الخلفاء لهم أبوابهم، ووكلوا إليهم تأديب أولادهم؛ فكان الكِسَائِيُّ في حاشية الرشيد، ثم مؤدِّبَ وَلَدَيْهِ[79]، وكان الفَرَّاء مُؤَدِّبَ وَلَدَيِ المأمون[80]، وكان ابن السِّكِّيتِ يُنادِمُ المتوكِّل[81]، فأَعظَمَ الناسُ نحاةَ الكوفة، وأقبلتِ الدنيا عليهم، ولم يظفَرِ البصريُّون الذين رحلوا إلى بغداد بمثل ما ظَفِرَ الكوفيون به ولا قريبٍ منه! فأَخْفَقَ سِيبَوَيْهِ في مناظرة الكِسَائِيِّ، واتَّخذ الكِسَائِيُّ الأَخْفَشَ مُؤَدِّبًا لأولاده[82]، وكان المبرِّد يعلِّم الزَّجَّاجَ النحو، فيعطيه الزَّجَّاجُ كلَّ يوم دِرْهمًا أَجْرًا له[83].
النحو وأشهر علمائه
بعد انقسام الدولة العباسية
ضَعُفَتِ الدولة العباسية، وتزايلت بِنْيَتُها؛ فطَمِعَ وُلاة الأقاليم فيها، وأَوْهَنُوا صِلتَهُم بِها، وكان آل بُوَيْهِ أجْرَأَهُم عليها؛ فقدِ استقلُّوا بفارِسَ والجزيرة، ثُمَّ استوْلَوْا على بغدادَ، وسلبوا الخليفة سلطانه سنة 334.
فَنَشَأَتْ دُويلات هنا وهناك، وتعدَّدَتِ الحواضِرُ فيها والأمصار، ولم تبقَ بغدادُ – كما كانت قِبْلَةَ العُلماء ومَنْ إليهم، فقد كان حُكَّام الدُّويلات يجدُّون في تَأْثِيلِ مُلْكِهِمْ، ويجتذبون العلماء والشُّعراء إليهم، فقصدوهم وأقاموا في ظِلالهم قليلاً أو كثيرًا، لذلك بقيت الحياة العلمية على قوتها ونشاطها؛ بل لعلَّها زادت قوَّة على قوتِها، ونشاطًا على نشاطها.(/20)
أشهر نحاة شرق دجلة
1 – السِّيرَافِيُّ:
هو أبو سعيد الحسن بن عبدالله السِّيرَافِيُّ، ولد بسِيرَافَ حوالَيْ سنة 288، وأخذ اللغة والنحو عن بعضِ عُلماء عصره، وكان عالمًا حُجَّةً، أمينًا ديِّنًا ورِعًا، تُوُفّي ببغداد سنة 368.
ومن كُتُبِه: "شرح كتاب سيبويه"، و"الوقف والابتداء"، و"أخبار النحويين البصريين"[84].
وعنده: أنَّ كان الزائدة ترفَعُ ضميرَ المصدر الذي تدل عليه فاعلاً لها[85].
2 – الفَارِسِيُّ:
هو أبو عليٍّ الحَسَنُ بنُ أحمَدَ الفَارِسِيُّ، وُلِد بفَسا مدينة قريبة من شِيرَازَ، وأخذ عنِ ابن السَّرَّاج وغيرِه، رحَل إلى أقْطارٍ من الدولة، وتُوُفِّيَ ببغداد سنة 377، وله مصنَّفات كثيرة، منها: "الإيضاح في النحو"، و"التكملة في الصرف"، و"الحجة في علل القراءات السبع"[86].
ومن آرائه: أنَّ الأسماء السّتَّة لا تعرب بالحروف؛ ولكن بحركاتٍ مُقَدَّرَةٍ عليها[87].
3 – ابن جِنِّي:
هو أبو الفتح عثمانُ بنُ جِنِّي، نشأ بالمَوْصِلِ، واتَّصل بأبي علي الفَارِسِيِّ، يأخذ عنه ويَسْتَمْلِيهِ، وتُوُفِّيَ سنة 392.
ومن مؤلَّفاته: "الخصائص"، و"شرح تصريف المَازِنِيِّ"، و"المُحْتَسَبُ" وهي مطبوعة، و"سِرُّ صناعة الإعراب"، وقد طبع منه جزء واحد[88].
ومن آرائه النحوية: أنَّ إذا الفجائيةَ ظَرْفُ مكانٍ[89].
4 – الزَّمَخْشَرِيُّ:
هو أبو القاسم محمود بن عمر الزَّمَخْشَرِيُّ، ولد بِزَمَخْشَرَ سنة 467، ورحل إلى خُرَاسَانَ والعراق، وجاور بِمَكَّة المكرَّمة، وكان من أعلم الناس بالنحو، واللغة، والتفسير، وغريب الحديث. وتُوُفِّيَ بِخُوَارِزْمَ سنة 538.
ومن كُتُبِه: "المُفَصَّل"، و"النَّمُوذَج" في النحو، و"أساس البلاغة" في اللغة، و"الفائق في غريب الحديث"[90].
ومن آرائه: أن لن تفيد توكيد النفي وتأبيده[91].
النحو في مصر والشام وأشهر علمائه(/21)
شاء الله تعالى أن تكون مصر والشام صِنْوَيْنِ، وكُلَّمَا فرَّقت بينهما الأحداث عادت فجمعتهما على المودَّة والإخاء؛ لذلك سأجمع تَرَاجِمَ أشهر النحاة فيهما، كما تُجْمَعُ تَرَاجِمُ أبناءِ الوطن الواحد:
1 – ابن بَابْشَاذ:
هو أبو الحسن طاهر بن أحمد، أصلة من العراق، ونشأ بمصر، وتصدَّر للإقراء في جامع عمرو بن العاص، ثم انقطع للعبادة، وتوفي سنة 496.
ومن مؤلَّفاته: "شرح جمل الزجاجي"، و"المحتسب في النحو"[92].
ومن آرائه: أنَّ إذن تنصب الفعل مع الفصل بينها وبينه بالنداء والدعاء[93].
2 – ابن مُعطٍ:
هو أبو الحسن بن زين الدين، ولد بحَلَبَ سنة 553، ورحل إلى دِمشق فأقرأ بها النحو وبمصر، وتوفي في القاهرة سنة 628.
وله ألفيَّة في النحو، وحواشٍ على "أصول ابن السراج"، وكُتُب أخرى[94].
ويختار من أحكام النحو: أن يَنُوبَ الجارُّ والمجرور عن الفاعل حين يَجتمع هو والمصدر والظرف بعد فعل مبنيٍّ للمجهول[95].
3 – ابن يَعِيشَ:
هو مُوَفَّقُ الدين بن علي المشهور بابن يَعِيشَ، ولد بحَلَبَ سنة 553، وأخذ عن علمائها، وكان بارعًا في النحو والصرف، وتوفّي بحلب سنة 643.
ومن كتبة: "شرح التصريف لابن جنّي"، و"شرح المفصل للزمخشري"[96].
وهو يؤيد: أنَّ الفاء في مثل {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} واقعة في خبر إن لا زائدة[97] وهي من سورة الجمعة من آية (8).
4 – ابن الحاجب:
هو عثمان بن عمر، المعروف بابن الحاجب، ولد بإِسْنَا حوالي سنة 570، ونشأ بالقاهرة، ولازم الأخذ عن العلماء، وكان من أَذْكَى الناس، فَنَبَغَ في علوم شتَّى، وغلب عليه النحو، وتُوُفِّيَ في الإسكندرية سنة 646 هـ.
ومن مُصنَّفاته: "الكافية" و"شرحها" في النحو، و"الشافية" و"شرحها" في الصرف، و"الأمالي"، وغيرها [98].
وعنده: أنَّه يجوز أن يكون خَبَرُ أنَّ المذكورة بعد لو اسمًا إذا كان جامدًا[99].
5 – ابن هشام:(/22)
هو عبدالله جمال الدين بن يوسف الأنصاريُّ، ولد بالقاهرة سنة 708، وأتْقَن العربية حتى فاق أقرانه، وتوفّي بالقاهرة سنة 761. وله مؤلَّفات كثيرة قَيِّمَة، منها: "مغني اللَّبِيبِ"، و"أوضح المسالك"، و"شذور الذهب" و"شرحه"[100].
ويُعَدُّ "المغني" أبرعَ كُتُبِهِ وأنفَعَها، فقد ضَمَّنَهُ شرحًا وافيًا لحروف المعاني، وأورد فيه كثيرًا من القضايا، مقرونةً بالآراء التي قيلتْ فيها، ثم مناقشة منصفة تؤيدها الشواهد والحجج، وهو لا يجيز ذكر أو بعد سواء.
6 – ابن عَقِيلٍ:
هو أبو عبدالله بن محمد، أصله من همذان، ولد سنة 698، وكان إمامًا في العربية، وتوفي سنة 769، ومن كتبه "شرح التسهيل"، و"شرح ألفية ابن مالك"[101]، وهو من أسهل كتب النحو وأشهرها.
7 – الشيخ خالدٌ الأَزْهَرِيُّ:
هو خالد بن عبدالله، ولد بجِرْجَا، ومهر في النحو وعلوم اللغة، وأَقْرَأَ في الأزهر، وإليه ينسب، وتوفي سنة 905، ومن كُتُبه: "شرح كتاب الإعراب عن قواعد الإعراب لابن هشام"، و"التصريح بمضمون التوضيح"، المشهور بـ"شرح التصريح على التوضيح"[102]، وهو أجلُّ كُُتُبِهِ.
8 – السُّيُوطِيُّ:
هو عبدالرحمن جلال الدين بن أبي بكر، لازم أشْيَاخه، ينهل من معارفهم حتى تَضَلَّعَ ريَّا، وانقطع للتصنيف، فصنف قدرًا عظيمًا من الكتب في مختلف العلوم، وتوفي سنة 911[103].
وكتابه "هَمْعُ الهَوَامِعِ" من أَنْفَسِ كُتُب النحو في جمع المسائل، واختلاف المذاهب، واستيعاب الآراء، ولا يخلو الكتاب من بعض الاختيارات، ومن اختياره في إعراب "بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ"، أن يكون بِحَسْبِكَ خَبَرًا مُقَدَّمًا، ودرهم مبتدأ مؤخرًا[104].
9 – الأُشْمُونِيُّ:
هو علي نور الدين بن محمد، من علماء عصره المعدودين، وأشهر كتبه "منهج السالك إلى ألفية ابن مالك"[105]، كتاب واسع الشهرة، ينتهي كل باب فيه بخاتمة تتضمن حقائق لا تخلو من طرافة وفائدة.
10 – الصَّبَّانُ:(/23)
هو محمد بن علي، ولد بالقاهرة، وأخذ مختلف العلوم عن شيوخ عصره، وتوفي سنة 1206[106].
ومن مؤلَّفاته "حاشيته على شَرْحِ الأُشْمُونِيِّ لِلألفيَّة"، وهي أشهر حواشي النحو، حافلةٌ بالمنقول والتعقيبات والجدل والآراء.
النحو في الأندلس والمغرب وأشهر علمائهما
كان السلف من علمائنا يُكثِرُونَ الارتحال إلى الأقطار الإسلامية المختلِفة، وخاصَةً العراق، لِيَلْقَوْا علماءها، ويَطَّلِعُوا على ما عندهم من العلم، ثم يعودوا بما جمعوا من كتب، وما وعوا من علم.
وإذا كان دَيْدَنُ العلماء الرحلةَ إلى البلاد البعيدة - فأولى أن تكون بين الأندلس والمغرب، لكن يبدو أن أهل الأندلس كانوا أكثر ارتحالاً إلى المغرب من أهل المغرب إلى الأندلس.
وقد قيَّض الله للأندلس في مطلع الدولة الأموية رُوَّادًا منَ العلماء وَصَلُوها بالمشرق، بما نقلوا إليها من كتب الشريعة والنحو.
وكان نحو الأندلس أقربَ إلى نحو الكوفة، لأنَّ كتاب الكِسَائِيِّ كان أَسْبَقَ إليهم[107]، وكان الأندلسيون أهل قرآن كالكوفيِّين، ولم يستطع كتاب سيبويه إذ جاءهم أن يُعَدِّلَ من منهجهم كثيرًا؛ فهذا ابنُ مالك - أعظم نُحَاتِهِم - يوافق الكوفِيِّين في كثير من آراءهم، ويُكثِر الاستشهادَ بالحديث ما لم يُكْثِر غيرُهُ.
أشهر نحاة الأندلس والمغرب
1 – ابن مَضَاء:
هو أحمد بن عبدالرحمن بن مَضَاء، ولد بقُرْطُبَةَ سنة 513، وكان عارفًا بصنوف العلم، ومات بإِشْبِيلِيَّةَ سنة 592.
ومن مصنَّفاته: "المشرق في النحو"، و"الرد على النحاة"[108]، وقد أنكر نظرية العامل فيما أنكر فيه على النّحاة، وغلا في ذلك غُلُوًّا كبيرًا، وقد كان لنشر هذا الكتاب صدًى قَوِيٌّ بين المشتغلين باللغة العربية، فمنهم من تحمَّس له، ومنهم من مَقَتَهُ وازْوَرَّ عنه.
2 – الشَّلَوْبين:(/24)
هو عمر بن محمد المعروف بالشَّلَوْبين، ولد بإِشْبِيلِيَّة سنة 562، وكان إمام عصره في العربية، فكثُر الآخذون عنه. وتوفي سنة 645.
ومن مصنَّفاته: "التوطئة في النحو"، و"تعليق على كتاب سيبويه"[109].
ومن آرائِه: أن ليس ولا تنفيان الأزمنة الثلاثة، كما يقول قوم، ولكنهما في الأصل لنفي الحال ما لم يكن الخبر مخصوصًا بزمان[110].
3 – ابن مالك:
هو محمد جمال الدين بن عبدالله، وُلِدَ بجَبَّانَ سنة 600، وأخذ العربية عن غير واحد، واعْتَمَدَ على ذكائه في تحصيل الكثير من عِلْمِه، رَحَلَ إلى الشَّام، وتَنَقَّل بَيْنَ مُدُنِه، ثُمَّ استقرَّ في دمشق، وتصدَّر للتدريس فيها حتى لَقِيَ ربَّه سنة 672، وله مصنفات كثيرة منها: "تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد"، و"الكافية الشافية"، وخلاصتها المعروفة بـ"الألفية"[111]، وقد نالت شهرة واسعة بين كتب النحو عامة، وظفرت بعناية كثير من العلماء، فشرحوها شروحًا مختلفة، حتى صارت لها السيطرة على دراسة النحو.
ومن آرائه: وقوع (إذ) مفعولاً به[112].
4 – ابن آجُرُّومَ:
هو محمد بن محمد الصَّنْهَاجِيُّ، ولد سنة 672، وعاش بفاس، وله مصنفات أشهرها المقدمة المعروفة بـ"الآجُرُّومِيَّةِ"، وقد نفع الله بها كثيرًا من طلاب العلم المبتدئين.
وتدل - فيما يقول السيوطي - على أن مؤلفها كان على مذهب الكوفيين في النحو؛ لأنه استعمل بعض مصطلحاتهم، وتوفي سنة 723[113].
5 – أبو حَيَّانَ:
هو محمد أَثِير الدين يوسف، ولد ببلد على مقربة من غِرْنَاطَةَ سنة 654، وأخذ عن جمع كبير من علماء المشْرِق والمغرب، ونبغ في علوم كثيرة، وقدِ استقرَّ في القاهرة بعد تجوال في بلاد مختلفة، وتصدَّر بها للتدريس.
ومن مؤلفاته: "التذييل والتكميل في شرح التسهيل"، و"ارتشاف الضرب من لسان العرب"، وتفسير "البحر المحيط". وتوفي بالقاهرة سنة 745[114].(/25)
وكان يمنع الاستشهاد بالأحاديث، ولا يرضى عن الخلاف في المسائل النظرية التي لا جدوى منها في اللغة؛ كالخلاف في أصل المرفوعات والمنصوبات، فيقول: "وهذا الخلاف لا يجدي"[115].
سيرة النحو
لم يكد أبو الأسود يبدأ وضع النحو، ويكتب منه ما كتب، ثم يَعلَم الناس نبأه حتى أسرع إليه نفر من الطلاب يسمعون منه، ويتتلمذون له، ثم يُقبِل عليهم من بعد طُلاب آخرون يصنعون صنيعهم هم مع أبي الأسود.
وهكذا تمضي المسيرة فَوْجًا بعد فَوْج، كلما مضى فَوْج خَلَفَهُ آخَرُ، على مدى نحو أربعةَ عَشَرَ قرنًا، وما منهم إلا صانع للنحو صنيعًا، أو مضيفٌ إليه جديدًا، كل على مقدار ما يتاح له، ويفتح الله به عليه.
وكان عبدالله بن أبي إسحاق أوَّل مَن ذكر الناسُ له عملاً في النحو بعد أبي الأسود، فقالوا: إنه فرَّع النحو، وقاسه، وأملى كتابًا في الهمز[116]، والهمز حقيق أن يؤلَّف فيه كتاب، فإن له في القراءات أحوالاً يتنقل بينها، كما للاسم المعرب أحوال في الكلام يتنقل بينها أيضًا.
وقد مكنت له حفاوته بالهمز والتأليف فيه أن يفوزَ به على أبي عمرو بن العلاء في المناظرة التي دعاهُما إليها بلال بن أبي بردة، إبَّان ولايته على البصرة[117]، وإذن يمكن أن يقال: إن عبدالله بن أبي إسحاق هو أوَّل من ألَّفَ كتابًا في الصرف، وكانتْ وفاته سنة 117، وألف عيسى بن عمر كتابين في النحو، نوَّه بهما الخليل في بيتين، ردَّدتهما كتب التراجم المختصة، وهما:
ذَهَبَ النَّحْوُ جَمِيعًا كُلُّهُ = غَيْرَ مَا أَحْدَثَ عِيسَى بْنُ عُمَرْ
ذَاكَ إِكْمَالٌ، وَهَذَا جَامِعٌ = وَهُمَا لِلنَّاسِ شَمْسٌ وَقَمَرْ
واسم الكتاب الأول يدل على أنَّه أَكْمَلَ نَقْصًا، واسم الآخَرِ يدل على أنه جمع متفرّقًا، وفي هذا إشارة إلى أن النحو لعهد عيسى بن عمر كان قد قطع في سبيل النمو شوطًا بعيدًا، وكانت وفاة عيسى سنة 149.(/26)
وبقي الكتابان أو أحدُهما إلى القرن الثالث، فيذكر المبرّد أنه قرأ أوراقًا من أحدهما، فكان كالإشارة إلى الأصول[118].
ثم جاء كتاب سيبويه، فبَهَرَ الناس، واستأثر بإعجابهم، فقد رأوا منه قصرًا منيفًا، شامخ الأعالي، لا يسع الناظر إليه، ولا الداخل فيه، إلا أن يسبح الله الذي خلق الخليل، وجعله خازن ذخائره، وخلق سيبويه، وجعله مهندس بنيته.
إنه اللغة في نحوها وصرفها وأصواتها؛ بل في أصول بلاغتها أيضًا، وإنه النحو في أحكامه وقضاياه، وفي أقيسته وعلله، وفي أصوله وفروعه، وفي مناهجه وشواهده، لم يدع من ذلك للذين جاؤوا من بعده إلا يسيرًا لا يحسب له حساب، والذين قالوا: إنه قرآن النحو لم يُبْعِدُوا ولم يُسْرِفُوا، لقد ملأ الدنيا عِلمًا، ونفخ في الناس روحًا من البحث ما كانت لولاه لتكون.
وما نريد أن نَبْخَسَ فَضْلَ السابقين من سَلَفِ سيبويه، فقد أمدَّه كثيرٌ منهم بقدرٍ عظيمٍ منَ الآراء والأحكام، ولا سيما يونس بن حبيب، والأخفش الأكبر، وأبو عمرو بن العلاء، فكان لهم بذلك جهد مشكور في صنع الكتاب، وفي ظهوره فجأة على هذه الصورة شاهد صِدْق على مبلغ الجِدِّ والإخلاص في دراسة النحو وتنمية مادته؛ فليس بين ظهوره وابتداء وضعه سوى قرن واحد، يزيدُ قليلاً، ولكنَّها الهمة الكبرى، والمطلب الجليل يصنعان العجب العجاب.
ولم يكفَّ النحاة بعد سيبويه، ولا فترت همتهم عن التأليف في النحو، فألَّفوا فيما يخطر منه بالبال وما لا يخطر، لا تكاد تصْرِفهم عنه الفتن واضطراب الأحوال، فكان من ذلك ثروة هائلة من كتبه، تتخالَفُ موضوعًا وحجمًا، ما بين مبسوط، ووسيط، ووجيز، أكثرُها في النحو والصرف معًا، وبعضها في النحو خاصة، أو الصرف خاصة.(/27)
وتنوَّعت عبارات الكتب، فواضحة وغامضة، ومجملة ومفصلة، وقاصِدَة ومستطرِدَة، يَشُوبُها قليلٌ أو كثير من تجريد الفلسفة وصرامة المنطق، وما كان ممكنًا أن يبرأ النحو منهما، فقد صارت لهما الغلبة على مناهجِ الدرس ومذاهب التفكير أيام ازدهار الحياة العلمية، فكان من أثرهما أن غمضت العبارة قليلاً أو كثيرًا، وخاصة في كتب المشرق، وبعض كتب العصور الأخيرة.
على أنَّ لغموض العبارات أسبابًا أخرى، كإجداب القريحة، وضعف ملكة البيان، وقد كان المازني ممن يصعب الفهم عنهم[119].
ومن العجيب أن يتعمَّد بعض النحويين الغموض، بل أن يكون منهم مَن يعيب الوضوح، ويرى أن الأخذ به يُزْري بالنحو، فقد قيل للأخفش: لِمَ لا تجعل كتبك مفهومة؟ فقال: أنا رجل لم أضَعْ كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلَّت حاجَتُهم إليَّ فيها؛ وإنما كانت غايتي المنالة[120].
وكان السِّيرَافِيُّ معروفًا بوضوح العبارة، فلمَّا أَلَّفَ كتابة "الإقناع في النحو" لم يَرُقِ ابنه أن يكون على ما رأى من السهولة، فكان يقول: "وضع والدي النحو في الزبالة"[121].
هكذا كان النحو نُشُوءًا وارتقاء في البصرة ثم الكوفة، وهو ما يقضي به منطق الواقع، فلم يكن بجزيرة العرب ولا بالبلاد المفتوحة حاجة عاجلة إليه؛ فأمَّا الجزيرة فوطن العرب والعربية، وأمَّا البلاد المفتوحة فكان أهلها هم الكثرة الكاثرة، وكان العرب وافدين عليهم، وهم القلة القليلة، ولم يكن الخِلاط أوَّل الأمر كثيرًا ولا عامًّا بين هؤلا وهؤلاء، وإنما كان بين الرؤوس من الفريقين وعلى قدر الحاجة الماسَّة، ومن اليسير أن تكون الترجمة إذا ذاك هي وسيلة التفاهم بينهما والخطاب؛ فلمَن يوضع النحو إذن؟ وما الحاجة الدافعة إلى المبادرة إليه، والتفرغ له، والتأليف فيه؟ ومَثَلُ الفاتحين إذ ذاك في هذه البلاد، كمثل البعثات السياسية التي تمثل دولها في دول أخرى في عصرنا، أو تكاد.(/28)
من أجل ذلك تخلَّفت البلاد المفتوحة عن مواكبة مسيرة النحو في البصرة والكوفة، ولم يتهيأ لها أن تشارك فيها بالدراسة المتخصصة والتأليف الرفيع إلا حوالي القرن الثالث حين دعت الحاجة إلى شد أزر العربية، والحفاظ على سلامتها.
وظل النحو على ما كان له من شأن إبان عظمة الدولة، فلم يتوقف في مسيرته، ولا غض منه أن تضعضعت الخلافة، وأصبحت الدولة مِزَقًا متناثِرَةً، يقوم على كل مِزْقَةٍ دُوَيْلَة؛ بل لعله أن يكون كغيره من العلوم قد زاد خصبًا ونماء، فقد كان بين أصحاب هذه الدويلات تنافُسٌ، وفيهم طموح، كل يحاول أن يجتمع بحضرته من العلماء والشعراء مثل من كان منهم بحضرة الخلفاء، وأكثر ممن بحضرة أقرانه من أصحاب الدويلات، فجعلوا يجتذبونهم، ويحببون إليهم المقام في ظلالهم، بما كانوا يجزلون لهم من الجوائز، ويولونهم من التكرمة والإجلال، لا فرق فيهم بين عربي وأعجمي.
فكان لهم ما أرادوا، وقصدهم العلماء والشعراء، يؤلف العلماء لهم الكتب، وينظم الشعراء لهم المدائح؛ فهذا أبو عليٍّ الفَارِسِيُّ كان عند سيف الدولة الحَمدَانِيِّ، ثم استدعاه عَضُدُ الدولة ابن بُوَيْهِ ليُؤَدِّبَ أولادَ أخيه، فمضى إليه أبو عليٍّ، وألف له كتاب "الإيضاح"، فعدَّه قصيرًا، وكانت له مع أبي عليٍّ مجالسُ ومساءلاتٌ في النحو[122].
وولت الدولة الفاطمية ابن بابشاذ، ثم ابن بَرِّيٍّ أمْرَ ديوان الإنشاء؛ لنظر ما يصدر عنه من رسائل، وإصلاح ما عسى أن يشوبَها من أخطاء[123]، ووفد تاج الدين الكِنْدِيُّ على فَرّوخشاه ابن أخي صلاح الدين في دمشق، فأكرم وِفادَتَهُ واستوزره، وقرأ عليه المعظَّم عيسى الأيوبي كتاب سيبويه و"شرح الإيضاح"[124]، ووفد ابن الحاجب على الملك الناصر داود بالكرك، فأعظم قدره، وقرأ النحو عليه[125]، وأهدى الغوريُّ إلى السُّيُوطِيِّ خَصِيًّا وألفَ دينار فردَّ الأَلْفَ، وأخَذَ الخَصِيَّ، وأَعْتَقَهُ وجعله خادمًا في الحجرة النبوية[126].(/29)
وكثير من الناس يَمْقُتُونَ النحو، لكثرة الخلاف، وتشابُك الآراء فيه، ولا يد لأحد في هذا، فهو من عمل الظروف والأحوال، ولقد تداول العلماء النحو يوسّعونه دراسة وبحثًا على توالي العصور، وكثيرٌ من شواهده تتعدَّد رواياته، والنحويون كغيرهم تتفاوت حظوظهم من العلم، وتتفاوت درجاتهم في التذوُّق والفَهْم.
ولم يَفُتِ النحاةَ آخِرَ الأمر أن يُيسروا النحو على طالبيه، فتناولوه بالنظم والاختصار، وأشهر منظوماته "ألفية ابن معط" و"ألفية ابن مالك"، ولا خلاف أن الكلام المنظوم أسهل حفظًا وأبقى في الذهن أثرًا، على أن آراء النحاة في كثرتها، وتخالف مذاهبها إن تكن ترهق المتعلمين في درس النحو – فإنَّ فيها عونًا محمودًا للُّغَوِيِّينَ الذين يَرْقُبُونَ اللغة المعاصرة في تطوُّرِها، واستحداث أساليبَ وألفاظٍ فيها، فليس يعدمهم أن يقفوا منها على رخصة، أو يهتدوا بها إلى وجه يُقِيلُ عَثَارَهَا، ويُجِيزُ استعمالها في فصيح الكلام.
ومن النحاة من اتخذ النَّظْمَ أداة لإلغاز بعض مسائل النحو، واشتهر من هؤلاء السَّخَاوِيُّ المُتَوَفَّىَ سنة 643[127]، والدَّمَامِينِيُّ المتوفى سنة 837[128]، وهو نوع من المهارة الذهنية لا قيمة له، ولا جدوى منه.
النحاة في المجتمع
ما من أحد يمارس عملاً حتَّى يُعرَفَ به، ويُنسَب إليه، إلا خلَّف فيه أثرًا متميزًا، وقد أورث النَّحوُ أصحابه الأوَّلين غَيْرَةً على اللغة، وجرأةً على نقد المخطئين فيها، فضاق بهم خَلْقٌ كثير.
قال الأَخْفَشُ: كان أميرُ البصرة يقرأُ قوله تعالى في سورة الأحزاب من آية 56: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} بالرفع، فمضيت إليه ناصحًا، فانتهرني، وتوعدني، وقال: تُلَحِّنُونَ أمراءكم؟![129]، وكان الشُّعراء أشدَّ الناس سخطًا عليهم لذلك، فهَجَوْهُمْ، وسَخِرُوا منهم.(/30)
ومنَ النُّحاة مَن كان يَتَقَعَّر في كلامه، كأبي عَلْقَمَةَ النَّحْويِّ؛ فقد رأى عَبْدًا حَبَشِيًّا يضرب الأرض بآخَرَ صَقْلَبِيٍّ، ويُدخِل رُكْبَتَيْهِ في بطنه، فلمَّا أُدْخِل للشهادة قال: رأيت هذا الأَسْحَمَ قد مال على هذا الأَبْقَعِ، فحطَّأَهُ على فَدْفَدٍ، ثم ضَفَطَهُ بِرُضْفَتَيْهِ، فلم يفهم الأمير كلامه وضاق به فحَسَرَ عن رأسه، وقال للصَّقْلَبِيِّ: شُجَّنِي خمسًا، وأَعْفِنِي منَ شهادة[130].
على أنَّه كان من النحاة ظُرَفَاءُ، منهم سعد بن شَدَّاد، إذ حضر مجلس زياد، وقد ترافع إليه بنو راسب والطفاوة في مولود، فقال سعد: أيها الأمير! يُلْقَى المولود في الماء؛ فإن رسب فهو من راسب، وإن طفا فهو من طفاوة، فأخذ زياد نَعْلَهُ، وقام ضاحكًا[131]. وقال محمد بن موسى الدوالي:
وَقَائِلَةٍ: أَرَاكَ بِغَيْرِ مَالٍ = وَأَنْتَ مُهَذَّبٌ عَلَمٌ إِمَامُ
فَقُلْتُ: لأَنَّ لامًا عَكْسُ مَالٍ = وَمَا دَخَلَتْ عَلَى الأَعْلامِ لاَمُ[132]
وكان النُّحاة في رِزقهم، وأحوال مَعِيشَتِهم، وسِيرَتِهم في الناس كسائر الطوائف؛ فكان الكِسَائِيُّ والفَرَّاء من مُؤَدِّبِي الأُمَراء وأبناءِ الكُبَرَاءِ، وكان ثَعْلَبٌ يَقتضي كلَّ شهر أَلْفَ درهم، يُجرِيها عليه محمد بن عبدالله بن طاهر، وكان مع ذلك حريصًا مُقَتِّرًا[133].
وكان المُبَرِّدُ يُعلِّم الزَّجَّاج النحوَ، فيعطيه الزجَّاج كل يوم درهًما[134].
وكان ابن الدَّهَّان من أئمة النحو، وكانتْ له مشاركة في الفقه والأصول، وكان مع ذلك شديدَ الفقر، يجلس في الحَلْقَةِ وعليه ثوب لا يكاد يَستُرُه[135]، وكان السِّيرَافِيُّ لا يخرج إلى مجلس الحكم، ولا إلى مجلس التدريس في كل يوم إلا بعد أن يَنْسَخَ عَشْرَ وَرَقَاتٍ، يأخذ أَجْرَها عَشْرَةَ دَرَاهِمَ تكون قدر مؤونته[136].(/31)
وطلب القائم بأمر الله محمدَ بن الورَّاق ليُعَلِّم أولاده، وكان ضريرًا فلما وصل إلى باب حجرة الخليفة، قال له الخادم: وصلت، فقبِّلِ الأرض، فلم يفعل وقال: السلامُ عليكَ يا أمير المؤمنين، وجلس، فقال القائم: وعليكَ السلام يا أبا الحسن، ادْنُ منِّي، فَدَنَا، فسأله عن مسائل أجاب عنها[137].
وكان عبدالله بن الخَشَّاب يلعب بالشِّطْرَنْجِ مع العوامِّ على قارعة الطريق، ويقف في الشوارع على حِلَقِ المُشَعْوِذِينَ، واللاعبين بالقرود والدِّبَبَةِ، وكان إذا أراد شراء كتاب غافل الناس، وقطع منه ورقة ليأخذه بثمن بَخْس[138].
وليس كلُّ ما تَرَكَ النّحاة منَ النحو هو هذا المدون في كتبه أبوابًا وفصولاً، ولكنهم تركوا قَدْرًا صالحًا من المناظرات فيه، تعد دروسًا عالية في المساجلة والتطبيق، وأشهرها مناظرة سيبويه والكِسَائِيِّ؛ فقد جاء سيبويه الكوفة، لا يصحبه أحدٌ من شِيعَتِهِ، ليُناظِرَ الكِسَائِيَّ في وطنه، وبين تلاميذه ومريديه، والْتَأَمَ الجمعُ في مجلس يحيى البَرْمَكِيِّ، فقال الكِسَائِيُّ لسِيبَوَيْهِ: تسألني أو أسألك؟ قال سِيبَوَيْهِ: بل تسألُنِي أنت. قال الكِسَائِيُّ: كيف تقول: قد كنتُ أظنُّ أنَّ العقرب أشدُّ لَسْعَةً من الزُّنْبُورِ، فإذا هو هي، أو هو إيَّاها؟ قال سِيبَوَيْهِ: فإذا هو هي، ولا يجوز: هو إياها، قال الكِسَائِيُّ: يجوز الوجهان، فاحتَكَمُوا إلى مَن بِباب يَحيى منَ العرب: فوافقوا الكِسَائِيَّ[139]، فاستكان سيبويه، وانصرف مهزومًا.
ويرى كثير منَ النُّحاة أن العَصَبِيَّة تدخلتْ في المناظرة على نحوٍ ما، ولا أُراه بعيدًا؛ فالكِسَائِيُّ وثيق الصلة بكبار الدولة، وهو بعدُ إمامُ نُحاة الكوفة بلا خوف.
وبعدُ: فقد صنع النُّحاة للعربية أعظمَ ما يستطيع البَشَر أن يصنعوا، ويرحم الله أبا العلاء المَعَرِّيَّ إذ يقولُ عن ثلاثة من كُبَرائِهم:(/32)
تَوَلَّى سِيبَوْيَهِ وَجَاشَ سَيْبٌ = مِنَ الأَيَّامِ، فَاخْتَلَّ الْخَلِيلُ
وَيُونُسُ أَوْحَشَتْ مِنْهُ الْمَغَانِي = وَدُونَ مُصَابِهِ الْخَطْبُ الْجَلِيلُ
أَتَتْ عِلَلُ الْمَنُونِ فَمَا بَكَاهُمْ = مِنَ اللَّفْظِ الصَّحِيحُ وَلاَ الْعَلِيلُ
وَلَوْ أَنَّ الْكَلامَ يُحِسُّ شَيْئًا = لَكَانَ لَهُ وَرَاءَهُمُ أَلِيلُ[140]
---
[1] "البيان والتبيين": 2/130.
[2] "البيان والتبيين": 2/217.
[3] "فتوح البلدان": 384، و"الإصابة" رقم 4963.
[4] هو العرجي في "درة الغواص": 43، والحارث المخزومي في "الخزانة": 1/217 وانظر: "إنباه الرواة"، الصلب و"الحاشية" 1/249.
[5] "نزهة الألبا": 7 – 9.
[6] "طبقات القراء": 1/345.
[7] "مراتب النحويين": 9.
[8] "إنباه الرواة": 1/5.
[9] "الأغاني: 11/112، 113، والآية في سورة سبأ: 24
[10] "طبقات النحويين"، 15، والغَمَر، بالتحريك: الدسم وزهومة اللحم.
[11] "الفهرست": 60، 61.
[12] "اللغة والنحو": 250، 251.
[13] مجلة مجمع اللغة العربية: 7/248.
[14] التوبة: 3
[15] "صبح الأعشى": 1/129.
[16] "طبقات النحويين": 25.
[17] "الأنساب": 233، و"تاريخ ابن عساكر": 18/488.
[18] "طبقات القراء": 1/346.
[19] "إنباه الرواة": 1/16.
[20] "طبقات ابن سعد": 7، و"الإصابة": 3/304، و"إنباه الرواة": 1/380.
[21] "المحتسب" 2/318، 337 والأولى من سورة هود من آية (5) والأخرى من سورة يوسف من آية (23).
[22] "مراتب النحويين": 12، و"إنباه الرواة": 1/207.
[23] "مراتب النحويين": 13، و"طبقات النحويين": 28، و"طبقات القراء": 1/288.
[24] "الكتاب": 1/360.
[25] "الكتاب": 1/360.
[26] "مراتب النحويين": 27 – 41، و"طبقات النحويين" 43 – 47، و"إنباه الرواة"، 1/34 – 47.
[27] "الكتاب": 1/109. و"نشأة النحو": 81.
[28] "الكتاب": 1/248.
[29] "الكتاب": 1/147.(/33)
[30] "مراتب النحويين: 65 و"طبقات النحويين": 66، و"إنباه الرواة": 2/346.
[31] "الكتاب": 1/336
[32] "الكتاب": 1/164، والحديث في "صحيح مسلم": 2/51.
[33] "الكتاب": 1/32، والحديث في "الجامع الصغير بشرح السراج المنير": 3/255.
[34] "الكتاب": 1/396، والحديث في "التجريد الصريح"، 1/93.
[35] "الكتاب": 1/56.
[36] "أسرار البلاغة": 341.
[37] "الكتاب": 1/108
[38] "دلائل الإعجاز" 233، 247
[39] "الكتاب": 1/166
[40] "الكتاب": 1/284
[41] "أسرار العربية": 322
[42] "الكتاب": 1/ 7 وما بعدها.
[43] "الكتاب": 1/460
[44] "الكتاب": 1/201
[45] "الكتاب": 2/404
[46] "تاريخ البلاغة والتعريف برجالها": 43.
[47] "الكتاب": 1/359.
[48] "الكتاب": 1/232 وما بعدها.
[49] "الكتاب: 2/143، وانظر: "سيبويه إمام النحاة": 89 – 192.
[50] "أخبار النحويين البصريين": 50.
[51] "مراتب النحويين" 68، و"أخبار النحويين البصريين": 50، و"بغية الوعاة": 1/590.
[52] "الهمع": 1/43.
[53] "طبقات النحويين واللغويين": 92، و"بغية الوعاة": 1/463.
[54] "الهمع": 1/146.
[55] "أخبار النحويين البصريين": 596، "طبقات النحويين": 108.
[56] "الهمع": 1/138.
[57] "أخبار النحويين البصريين": 108، و"بغية الوعاة":1/411.
[58] "الهمع": 1/143.
[59] "الفهرست": 96 و"إنباه الرواة": 3/288، و"بغية الوعاة": 2/290.
[60] "طبقات النحويين": 138، و"طبقات القراء": 1/535.
[61] "شرح التصريح": 2/66.
[62] "مراتب النحويين": 86، و"طبقات النحويين": 143.
[63] "الهمع": 1/105.
[64] "طبقات النحويين": 155، و"إنباه الرواة"، 1/ 138، و"بغية الوعاة": 1/ 396.
[65] "شرح الأشموني": 3/192.
[66] "الكتاب": 1: 26، 153.
[67] "طبقات النحويين": 43.
[68] "الهمع": 1: 45.
[69] "شرح ابن عقيل"، و"حاشية الخضري": 1: 144.
[70] "حلية الأولياء": 1: 257.
[71] "أخبار النحويين البصريين": 57.(/34)
[72] "الخصائص": 1: 117.
[73] "الإنصاف": 1/ 65.
[74] "طبقات النحويين واللغويين": 71.
[75] "وفيات الأعيان": 5: 438.
[76] "الفهرست": 107.
[77] "الخصائص": 1: 8، 199.
[78] "محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية": 31:76.
[79] "إنباه الرواه": 2: 56، "بغية الوعاة": 2/ 163.
[80] "بغية الوعاة": 2: 349.
[81] "طبقات النحويين": 221.
[82] "بغية الوعاة": 1: 590.
[83] "بغية الوعاة": 1: 411.
[84] "إنباه الرواه": 1: 313، و"بغية الوعاة": 1: 507.
[85] "الهمع": 1: 121.
[86] "طبقات النحويين": 103. و"إنباه الرواة": 1: 73.
[87] "الهمع": 1: 38.
[88] "إنباه الرواة": 2: 335، و"بغية الوعاة": 2: 132.
[89] "الهمع": 1: 207.
[90] "إنباه الرواة": 3: 265، و"بغية الوعاة": 2: 279.
[91] "المغني": 1: 124.
[92] "إنباه الرواة": 2: 95، و"بغية الوعاة": 2: 17.
[93] "المغني": 1: 19.
[94] "بغية الوعاة": 2/ 344، و"نشأة النحو": 215.
[95] "الهمع": 1: 169
[96] "بغية الوعاة": 1/351.
[97] "شرح المفصل": 1: 134.
[98] "بغية الوعاة": 2: 134.
[99] "الهمع": 1: 138.
[100] "بغية الوعاة": 2: 68.
[101] "بغية الوعاة": 2: 47.
[102] "الكواكب السائرة": 1: 188، و"شذرات الذهب": 8: 26.
[103] "حسن المحاضرة": 1: 188.
[104] "الهمع": 1: 93.
[105] "شذرات الذهب": 8: 165.
[106] "تاريخ الجبرتي": 2: 227.
[107] "طبقات النحويين": 278.
[108] "بغية الوعاة": 1: 323.
[109] "بغية الوعاة": 2: 224.
[110] "الهمع": 1: 115.
[111] "بغية الوعاة": 1: 130.
[112] "الهمع": 1: 204.
[113] "بغية الوعاة": ا: 238.
[114] "المصدر السابق": 1: 28، و"نشأة النحو": 266.
[115] "الهمع": 1: 93.
[116] "مراتب النحويين": 12
[117] "أخبار النحويين البصريين": 26
[118] "مراتب النحويين": 23، و"طبقات النحويين": 37.
[119] "مراتب النحويين": 78.
[120] "الحيوان": 1/ 91.
[121] "بغية الوعاة": 1/508.(/35)
[122] "بغية الوعاة": 1/446.
[123] المصدر السابق: 2/17، 34.
[124] المصدر السابق: 1/570.
[125] "الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية": 207.
[126] "تاريخ الجبرتي": 1/226.
[127] "بغية الوعاة": 2/192.
[128] المصدر السابق: 1/66.
[129] "إنباه الرواة": 2: 43.
[130] "بغية الوعاة": 2: 139.
[131] "بغية الوعاة": 2: 30.
[132] المصدر السابق: 1: 252.
[133] "طبقات النحويين": 155 – 167.
[134] "إنباه الرواة": 1: 159.
[135] "بغية الوعاة": 1: 523.
[136] "إنباه الرواة": 1: 313.
[137] "بغية الوعاة": 1: 255.
[138] "بغية الوعاة": 2: 30.
[139] انظر مثلاً: "وفيات الأعيان": 3: 134، و"المغني": 1: 74.
[140] "اللزوميات": 2: 157، الأليل: الصراخ عند المصيبة.(/36)
العنوان: تاريخنا الهجري
رقم المقالة: 1945
صاحب المقالة: عبدالله بن إبراهيم الهويش
-----------------------------------------
عندما يَذكُر المسلم التاريخ الهجري، ويَخُطُّه بيمينه، ويرتبط به معتزًّا؛ فإنما يدل ذلك على وعيه وإدراكه لما يعنيه هذا التاريخ في واقع الأمر، وما يمثله بالنسبة إليه، وأثره على الإنسانية جميعًا.
فليس هذا التاريخ أرقامًا تُكْتَب، أو حُروفًا تُسطر؛ وإنما هو المجد الذي بدأ حيث بَدَأ هذا التاريخ، والنور الذي سطع مع بزوغ فَجْرِهِ، والبناء الذي شيدت أُولى لبناته مع خطوات الهجرة المُباركة، حيث قام للإسلام دولةٌ، وللإيمان قوةٌ وسط بحر الجاهلية المُدْلَهِمّ.
فمن هذه الهِجْرة المباركة بدأت خطوة أُمَّة الإسلام، وانطلقت مسيرتها إلى قيادة البشرية وهدايتها إلى الصراط المستقيم، والنور المبين بتحمُّلها الأمانة، بعد أن أفلست الأمم الأخرى، فكانت هذه الأُمَّة قائدةً لِلنَّاس، وشاهدةً عليْهِم، وكانتِ الهجرة إيذانًا بالتطبيق العملي لأحكام الإسلام على الواقع المشهود لِلنَّاس، في ظِلّ دولَتِه الرشيدة.
ومن هُنا تبدو عظمة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وعُمْق نظره، عندما اختار هذا الحدث بداية للتاريخ الهجري دون بقية الأحداث الأخرى.
والناظر اليوم إلى واقع كثيرٍ من البلاد الإسلامية، يجد الإهمالَ والتجافيَ، وغضَّ الطرف عن هذا التاريخ، وعدمَ الاعْتِداد به في معاملاتها، ومُراسلاتها، ولا تكاد تذكره، وإذا ذكرتْهُ كان في الذيل والمؤخرة، وعلى استحياء، مُقدِّمةً عليه غيْرَه من تواريخَ، لا شأن لأمة الإسلام بها، ولا ترتبط معها بذِكْرى، أو حادثة مهمة، أو تاريخ؛ وإنما هو رمز لأمم مخالفة لها اليوم الصدارةُ، والغلبةُ في الوَضْع العالمي فحسب.(/1)
ولا تَخْفَى خُطورة هذا الاتجاه والهدف منه عند من يحاول تعميمه، وإشاعته بصفته وضعًا عالميًّا عامًّا لا مَفَرّ منه؛ لما له من أثر خطير في تَمْيِيع شخصية الأمَّة المسلمة، وتميزها، وطَمْس معالمها، وربطها بالأمم العالمية مسايرةً للواقع العالمي، الذي تبنَّى ما تبنَّى من أفكار، واختار ما اختار من رُموز ناشئة عن عقائدَ، ومثل، وقيم تُخَالِف رموز وقيم ومبادئ هذه الأمة.
وحقًّا: إن هذا الاتجاه – وإن كان عامًّا شائعًا – لا يمثله إلا فئة قليلة، رضعت لبن الاستعْمار والاستشراق، وتربَّت في أحضانهما، فكانت ظِلَّهُما البغيض، وممثِّلَهما المقيم، ولسانهما الناطق، فتَبَنَّتْ ما يقولان، ومن أهمه فصل الأمة الإسلامية عن ماضيها المجيد بشتى السبل والوسائل، وصَرْف نظرها إلى واقع تلك الأمم المسيطرة؛ لِتَأْخُذَ من فُتاتِها، وتعيش على موائدها.
وإذا كانت الدول المصطَنعة المفروضة - كدولة يهود - مِمَّن لا تاريخ لها يُعْتَدُّ به، أو مجْدٌ يُعْتَزّ به، تتعلَّق بِخُيوط العنكبوت حتى تحيي تاريخًا غابرًا عفا عليه الزمن؛ لتُخْرِجَهُ من المتاحف التاريخية، وتتعامل معه، وتفرضه على الوَاقع، فكيف يصِحُّ لأُمة الإسلام ذاتِ التاريخ الذي يطاول السماء، ويمشي أثرُهُ في عروق البشرية هدًى ونورًا، وقد حَمَلَتْ أمانة الدعوة إلى الله، وهداية الإنسان إلى طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، فكيف يَصِحُّ لأُمَّةٍ هذا بَعْضُ شأْنِها أن تتغاضَى عن ذلك، في سبيل أُمَمِيّة عالمية، وتبعية ذليلة؛ لتصبح عددًا من الأعداد، وذَنَبًا من الأذناب؟!(/2)
وإذا كانت هذه الدولة - أعزَّها الله - قد انتبهت إلى هذا، فأصدرت أوامرها بضرورة الالتزام بِالتاريخ الهجريّ في كافَّة المُخاطبات الرسمية، فإنَّنا نأمُل في خطوة أخرى مكمِّلة، وهي إلزام الشركات والمؤسسات بما التزمت به الدولة، ومحاسبتها على تقصيرها ما دامت تعيش في بلد الهجرة، وترعى خيرات أرضها... حتى يبلُغَ ذلك الأمرُ أثرَهُ المحمودَ، ويصل غايته التي قُصد من أجلها.(/3)
العنوان: تأمل في رواية: (حكومة الظل) لمنذر القباني
رقم المقالة: 846
صاحب المقالة: وائل بن يوسف العريني
-----------------------------------------
تأمُّل في رواية: (حكومة الظل) للدكتور منذر القبَّاني
عندما ينكأ الواقعُ جراحَ الماضي..
تعد الرواية في العصر الحديث وجهاً من وجوه التعبير عما يريده الكاتب في صورة غير مباشرة؛ لتَقيه -إن لزم الأمر- تبعات رؤيته للأحداث وقراءته لها، بما تتيحه له من حرية في طروق الرمز والتلاعب في دلالته، حتى لتعفِّي الأثر من خلفه وتبقيه في منطقة الرضا والأنموذج.
ومن أجل ذلك فالرواية كما يعبِّر عنها أحد النقاد صرخةٌ في وجه الواقع ومخالفة له وثورة عليه، من خلالها يقول الكاتب رأيه في مِساحة كبيرة من الحرية التي قد لا يخالطها الموضوعية غالباً.
والرواية التي نحن بصدد الحديث عنها هي من روائع د. منذر القباني، وتحمل عنوان (حكومة الظل)، وفيها ينسج الكاتب قصة رجل أعمال مولع بالتاريخ يزور أستاذُه الذي جعله يحب هذه المادة، وبعد زيارته بيومين وُجد الأستاذ مُنتحراً -أو ظُن كذلك- في قصره بإحدى ضواحي الرِّباط بعد أن رأى رجلُ الأعمال في وجه أستاذه امتعاضاً من زائرٍ قال عنه إنه من زملائه في العمل.
بعد هذا وجد رجلُ الأعمال الشاب واسمه (نعيم) رسالةً من أستاذه غيرَ مفهومة جعلته يبحث عن سبب موت أستاذه، وبخاصَّة حين قص عليه خبرَ زيارته لتركيا ورؤيته بعض الوثائق وقراره تأليف كتاب عن جماعة الاتحاد والترقِّي التركية.
وينتقل الحديث بعدها مرة إلى الماضي أيام السلطان عبد الحميد إذ يعيش جدُّ نعيم واسمه (خليل) حيرة أخرى نتيجة ما بدا له من أمور غير مفهومة يسعى إلى حلِّها، أبطالها هم اليهود في جماعة البنَّائين الأحرار (الماسونية).(/1)
وتستمر الرواية على هذا النسق، إذ يلتقي نعيمٌ الصحفيَّ المشاكسَ (طلعت نجاتي) بتوجيه غير مباشر من الأستاذ (بنوزّاني) أستاذ نعيم، حتى يصلوا في النهاية إلى قراءة المؤامرة الصِّهيونية والتنظيم السري الذي أنشأه جمال الدين الأفغاني مناوأة للماسونية وسماه (العروة الوثقى).
والكاتب من خلال هذه الرواية يريد أن يثبت أو يوصل للقارئ أن (حكومة الظل) -وهو عنوان الرواية- يعني سيطرةَ اليهود على العالم وتسترهم خلف الحكام أو الرؤساء المنتخَبين، إذ يعمل اليهود -من خلال الماسونية وفروعها المتعددة- في الظل وفي الخفاء، يسيِّرون الأمور ويحلُّون ويعقِدون حسب ما تمليه مصالحهم الفكرية والمذهبية والاقتصادية أيضاً.
وكأن الكاتب أراد أن يعيد صياغة كتاب (الصِّهيونية ..حكومة العالم الخفيَّة) في قالب فني يتيح للعامة الفهم وقراءة الأحداث قراءة واعية، بعيداً عن نشرات الأخبار وكلام الصحف التي تنقل صباحَ مساءَ ما يريده الساسة لا ما هو واقع وحق صحيح.(/2)
واستخدم الكاتب ببراعة سلاح التاريخ، وحاول في كثير من مواضع الرواية أن يوصل للقارئ قناعته بأن التاريخ يُعين إعانة كبيرة على فهم الواقع وإعادة ترتيب الأمور وفق منطقها المجرَّد البعيد عن العاطفة أو التخمين، وكأن التاريخ فانوس يجلو الظلمة ويزيح ستار الغموض، وهذا الذي أراد أن يوصله الكاتب يعيد إلى الذِّهن فكرة كتاب (هل يعيد التاريخ نفسه ؟)؛ إذ الكاتب يطبِّق -على نحو ما- ما قاله ذاك الكتاب، وأن التاريخَ يمكن أن يعيد نفسه، أو على الأقل يخبرك وينبئك عن الأحداث واحتمال وجودها، يقول الدكتور بنوزّاني لطلابه في الجامعة: "التاريخ هو مفتاح فهم الحاضر وقراءة المستقبل"، ويقول: "التاريخ؛ إن فهمت الماضي فسيُرشدك إلى حلِّ ألغاز الحاضر واستشعار المستقبل"، وهذا يصدِّقه ما كان يقوله المؤرِّخون في إبَّان الثورة الشيوعية؛ إذ قال أحدهم: "الشيوعية ستدخل أرفُفَ المكتبات خلال ثلاثين سنة"، في إشارة واضحة إلى اضمحلال تلك الثورة واستحالتها إلى تاريخ وأحداث تُروى للأجيال القادمة، وهو بالفعل ما كان، فليس هناك اليوم إلا أذيال الشيوعية التي بدأت تموت هي أيضاً.(/3)
وهذه النزعة التاريخية كان لا بدَّ لها من محرِّك يقوم بدفع الأحداث والسَّير بها إلى حيث أُريد لها، لذا استخدم الكاتبُ أستاذَ التاريخ المتمكِّن من مادته ابنَ المغرب الذي لا يقبل الأحداث على علاتها بل يغوص فيها ليبحثَ عن الحلقة المفقودة التي تعينه على فهم الواقع ومعرفة أسراره، يسانده في ذلك تلميذٌ نجيب أحبَّ التاريخ دون أن يتخصص فيه، مما جعل الأستاذ يحرِّكه نحو البحث عن الحقيقة التي جعلت جدَّه (خليل) يعمل في مجلس المبعوثان (أي: البرلمان) سنة واحدة دون أن يعلم أحد من أسرته بذلك، ومن أجل هذا كان انتقاء رجل أعمال شابٍّ إجادة أخرى للكاتب؛ لأنه من جهة كثير الأسفار مما يتيح له البحث في أكثر من جهة، ومن جهة أخرى فهو شاب، ومن طبع الشباب المغامرة والحماسة وركوب المخاطر، كل ذلك أسهم في نسج الصورة التي أرادها الكاتب لروايته وانطلق من أجلها.
ولما كان التاريخ وحدَه ليس غرض الكاتب، بل أراد فهمَ الواقع بمعونة التاريخ، كان لا بدَّ إذن من محرك باحث في الواقع والأحداث اليومية الراهنة، حينها لم يجد أفضل من صحفيٍّ مشاكس لا يريد أن يبتلع إفرازات وكالات الأنباء، بل ينقب عن موضوعاته ويغوص في أعماق لجج الأحداث ليُخرجَ لؤلؤ الحقيقة، فكان هذا متحقِّقاً في شخص (طلعت نجاتي).
إن التقاء التاريخ في شخص (نعيم) مع الواقع والحاضر في شخص (طلعت)، والانطلاق معاً في إعادة تشكيل الأحداث ومحاولة وضع النِّقاط على الحروف كما يقال = إن ذلك كله إجادة تُحسَب للكاتب وتسجَّل له وتسير وَفق النظرة التي أرادها الكاتبُ أولَ وهلة (التاريخُ يُعين على فهم الواقع).(/4)
وإمعاناً في هذه الرؤية تألَّفت الرواية من خمسة وثلاثين فصلاً أو مشهداً أو مقطعاً، كان نصيب التاريخ منها تسعة، تقع بين أحداث الواقع في مزج منظَّم بعناية؛ إذ تجد الإجابةَ عن تساؤل ما -كمجلس المبعوثان أو العروة الوثقى- في الفصل التالي مباشرة، ثم جاء الفصل الأخير مازجاً التاريخَ بالواقع في إطلالة أخيرة للكاتب يختم بها ما بدأه وكرَّره في الرواية من التلازم والتوافق الكبير بين التاريخ والواقع.
كما يُحسب للكاتب من جهة أخرى تلك الروح الإيمانية المتجلِّية في مواضع عدَّة، منها دفاع (نعيم) عن الفضيلة وعدم امتهانها باسم الفن، يقول في جمعٍ من الفنانين والفنانات وعِلية القوم في مصر، حين جمعه معهم احتفالٌ جُلب إليه نعيم دون علمه، يقول: "إذا كان الفنُّ يتعارض مع تعاليم الدين فهو مرفوض".
كما ينص الكاتب على الصلاة والدعاء والروضة الشريفة في المسجد النبوي، واختار (شِفرة) الرسالة التي بعثها الأستاذ لتلميذه من القرآن في إشارة واضحة إلى أن العودة إلى المجد وبناء الحاضر الناجح للأمة لا يكون إلا من خلال الانطلاق مجدداً من القرآن الكريم، كما كان سلف الأمة الناجح الفالح؛ لأن مجداً لا يقوم على دعائم صلبة من تراث الأمة يوشك أن ينهار، وإنما يتهاوى البناء كلَّما ارتفع قليلاً، مع ملاحظة أن هذا المجدَ يعود إلى قاعدة: {إن اللهَ لايغيِّر ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفُسِهم}.
ولقد اعتنى الكاتب ببيئة عمله عناية كبيرة، واختارها وَفق منهج واضح المعالم ظاهر العلاقة مع المضمون والأحداث التي أبدعها، فحينما اختار المغرب بيئةً تاريخيةً فهو قد لمح عناية أهل المغرب بالتاريخ وشغفهم به، ثم في مصر حيثُ الخيانة وقربها من فلسطين، وكان عدد من تجارها متواطئين مع العدو اليهودي، أما إستانبول فهي مدار الأحداث التاريخية المعروفة والتي كان لليهود كِبْرَ الفتنة فيها.(/5)
والمدينة عند الكاتب هي مُنطلق النهضة الإسلامية الحديثة، كما أنها مُنطلق الدين الإسلامي في عهده الزاهر؛ عهد النبوة والخلافة الراشدة الذي آتى أُكُلَه ضِعفَين على امتداد رقعة الإسلام وكثرة سواد المسلمين، وأساس تلك النهضة الحديثة الرجوع إلى كتاب الله والاعتصام بالعُروة الوثقى التي لا انفصام لها.
ولندن بلد التآمر ومصدر التوجيهات والأوامر الدنيئة في ظلام الليل وغفلة الرقيب، وهذا اختيار موفَّق؛ إذ أوربا كلها بلد يكثر فيه اليهود وقادة التنظيمات السرية التي تتخذ من الغدر والخسة وسيلة قذرة لغاية أشد قذارة وأكثر لصوصية وإجراماً .
وأبرزت الرواية إبرازاً واضحاً مذهلاً سلاحَ اليهودية الأول في كل زمان، فهم يفتحون بالمال ما استغلق، ويزعزعون به ما استقرَّ، يهدمون به صروح الفضيلة، ويحطِّمون بواسطته ضمائرَ البشر حتى يتعاون معهم كثير من الناس مستفيدين استفادة دنيئة من الحديث النبويِّ الشريف الذي يُخبر عن طمع الإنسان؛ فإنه لو كان له وادٍ من ذهب لتمنَّى أن يكون له آخر، في سعي حثيث لبناء قصور الذهب التي لا تغرب عنها الشمس.
المال عند اليهود هو السلاح الذي يتحكَّمون به في مصائر الناس وسياسات الدول، والشواهد كثيرة على ذلك، فقد عرضوا على السلطان عبد الحميد تسديدَ ديون الدولة التي بلغت رقماً خيالياً، إضافة إلى إغداق أموال طائلة وتقديم خدمات كثيرة مقابل التنازل عن فلسطين، ولكن السلطان -رحمه الله- رفض بإباء إسلامي، وآثر الفقر الموشَّى بالأمانة على غنىً مشوب بالخيانة، وقال مقولته المشهورة: فلسطين أرضي وأرضُ آبائي، رَوَوها بدمائهم فلن أتنازلَ عن شبر منها بأموال الدنيا كلها.
وهذا ما كان، حتى إن ابنه رُئي يعمل سائقاً لسيارة أجرة بين سورية ولبنان.(/6)
واستخدم الكاتب التسمية الرامزة بأسلوب رائع وإلماح بديع، فقد اختار لبطل قصته اسم (نعيم)، ولعلها إشارة إلى أن الغنى والثروة ورغد العيش لا يمنع أبداً من التفكير في واقع الأمة ومصيرها، وواجب الفرد تجاه دينه وأرضه وأمَّته.
و(خليل) جدُّ نعيم صادق المُخالَّة ومخلص للصاحب والصديق، ولتنظيم العروة الوثقى، حتى مات واحترقت جثَّته مع بيته، وهو بالإضافة إلى ذلك (وزّان) أي أن العاطفة والحماسة لا تأخذان الإنسان وتُرديانه في موارد التهلكة، بل تجب زنة الأمور وحساب العواقب حتى لا يكون الإنسان متهوِّراً لا يستخدم عقله قبل الإقدام أو الإحجام.
ويختار الكاتب للصحفيِّ المشاكس المتطلع للأمور الباحث عن الحقيقة في النظر بظواهرها والنفاذ إلى أعماقها، يختار له اسم: (طلعت نجاتي)، فناسب اسمه مهنتَه و وظيفته التي توجب على ممتهنها التطلُّع والبحث، وتعريض النفس للمخاطر سعياً وراء الخبر الصادق؛ ولذا كانت الصِّحافة مهنة المتاعب.
و(أبو بكر الحسيني) ذاك الشيخ الفلسطينيُّ الذي يقود تنظيماً فتياً قليل الأنصار والأعوان مترَبَّصاً به، ينطلق من الحق ويسعى إلى إنقاذ الناس من براثن الشرِّ وتربص العدو بالأمة، قاربت مهمته إلى حد كبير مهمة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في فجر الإسلام حين كان يسعى إلى إنقاذ الناس من ظلام الوثنية إلى نور الإسلام، فناسب هذا الاسم (أبو بكر) وظيفةَ الحسيني ومهمَّته التي قام بها طائعاً مختاراً متحمِّساً.
ولعل من المناسب قبل أن أختم هذا الحديث أن أشير إلى عدة ملحوظات هي:(/7)
أولاً: ما جاء في ختام الرواية من إدراك حفيد الشيخ الحسيني لما جاء من أجله نعيم أولَ وهلة، ومعرفته ما يريد وأنه حفيد خليل الوزان، هذا المشهد غير مسوَّغ مما يجعله نابياً في الحدث الذي يُشترط فيه مخالفته للمتوقَّع، مع المحافظة على جانب الإقناع والتسويغ من خلال السياق، ثم يُفترض بهذا التنظيم السرِّي (العروة الوثقى) أن يكون أعضاؤه أكثر سرِّية، وخاصَّة في فورة التنظيم المعادي وعُنفوانه وقوَّة سلطانه وكثرة أعوانه وامتداد مخالبه إلى كثير من البلاد الإسلامية، على ما تشير الرواية في أحداثها المتتابعة.
ثانياً: النهاية المفتوحة على نحوٍ غير معتاد أو متوقَّع، نعم النهاية المفتوحة -بلا شك- أجود وأخصب وأكثر استثارة للذهن، ولكن هذه الرواية لا يمكن التنبُّؤ بما يمكن أن يقع بعد ذلك من وجهة نظر الكاتب، فهو لم يُشر أو يتوجه إلى اتجاه يمكن أن يكمله القارئ وينسج من خلاله نهاية الرواية.
ثم إن إنهاء الرواية على هذا النحو يجعلنا نظن أن الكاتب استعجل كثيراً في ختم روايته والتخلُّص من عبئها سريعاً، وإن كنت أظن أن رحلة نعيم إلى ماليزيا إشارةٌ إلى وجوب التوجُّه إلى الشرق البعيد كثيراً عن مخالب المؤامرات، والخِصب كثيراً، والأكثر قبولاً للروح الإسلامية واستعداداً لبناء حضارة إسلامية، إن كان الكاتب أراد ذلك فإن إشارته تلك ضعيفةٌ إلى درجة خفائها على جمهرة القراء.
ثالثاً: كأني أرى في هذه الرواية انعكاساً لرواية عالمية مشهورة ومعروفة هي: (شِفرة دافنشي)؛ إذ تتفق الروايتان في قضايا رئيسة مع اختلاف الغرض والمرمى، ويمكن إجمالُ نِقاط الاتفاق فيما يلي:
1 - فكرة الرواية وإنشاؤها قائم على منظمات سرِّية قديمة تظهر في وقت الرواية الحاضر، ويكون لها تأثيرٌ في الأحداث ومجرى الأمور فيها، وهذا التأثير هو تأثير سرِّي وعميق التأييد على نحو غير مفهوم.(/8)
2 - الصراع والتدافع الذي حرَّك الرواية وخلق الحياة فيها هو قتلٌ أراد فيه المجرم أن يبدوَ كأنه انتحارٌ؛ ليُضلِّل الأجهزة الرسمية، وينتهي الأمر دون تحرٍّ أو بحث، وهذا ظاهر في طريقة قتل (قيِّم اللوفر) في رواية (دان براون)، وطريقة قتل (بنوزّاني) في رواية د. منذر القباني.
3 - المقتول في كلا الروايتين يحاول بعثَ رسالة لشخص فيلجأ للشِّفرة والتعمية من خلال الرسالة، ويسعى البطل إلى فكِّ تلك الشِّفرة.
4 - التقاء التاريخ في كلا الروايتين بالواقع، إذ التقى (لانغدون) أستاذ التاريخ بـ (صوفيا) عميلة الاستخبارات، والتقى (نعيم) محبُّ التاريخ بـ (طلعت) الصحفيِّ المشاكس، وكان هذا اللقاء بتوجيه غير مباشر من المقتول من خلال الرسالة، والمقتول في الرواية الأولى (قَيِّم اللوفر) وفي الرواية الثانية (بنوزّاني)، وكلاهما عضوٌ في جماعة سرِّية.
لقد كانت (حكومة الظل) مع هذا رواية مشوِّقة ممتعة، تأسر قارئها حتى تجبرَه على إتمامها في مجلسه الذي بدأها فيه، وكان الدكتور (منذر) مُبدعاً في خلق حياة متحرِّكة في تضاعيف روايته، مما يجعلنا نقف احتراماً له، شاهدين بتفوُّقه في تحقيق غرضَي الرواية: التشويق والمتعة مع الفائدة والنفع من خلال الحبكة والأحداث المتسلسلة.(/9)
العنوان: تأملات في آية الكرسي
رقم المقالة: 1366
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].(/1)
أما بَعْدُ: فإنَّ الله - تعالى - أنزل هذا القرآنَ وجعله مَصْدَرَ هدايةٍ، وسبيل توفيق في الدنيا والآخرة، لمن آمن به فقرأه وتدبره ثم عمل به: {إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9] ما قال يهدي للطريق القويم؛ وإنما قال – تعالى -: {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي في كل شيء يدل على ما هو أفضل وأخير، وفي ذلك إيماءٌ إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم؛ لأن القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد قويم، ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حائل، ولا يغادر مسلكًا إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكه إليها تحريضًا أو تحذيرًا، بحيث لا يعدم المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه[1]·
أيها الإخوة: هذه وقفة عابرة على آية عظيمة من آياته في معناها وفضلها، وما ينبغي أن يُعْلم عنها، هي أفضل آية في كتاب الله - تعالى - كما روى أبيُّ بن كعب - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سأله: ((أيُّ آية في كتاب الله أعظم؟)) قال: "اللهُ ورسولُه أعلم"، قال: فردَّدها مرات، ثم قال أبيٌّ: "آية الكُرْسِيّ"، قال: ((لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إنَّ لها لسانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الملِكَ عِنْدَ ساقِ العَرْشِ))؛ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ[2].
{اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} له جميعُ معانِي الألوهيَّة، لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو، فعبادةُ غيره شرك وضلال، وظلم وبطلان.(/2)
{الحَيُّ القَيُّومُ} متصف بجميع معاني الحياة الكاملة على وجه يليق بجلاله وعظمته. قام بنفسه، واستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بجميع الموجودات؛ فأوجدها وأبقاها، وأمدَّها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها؛ فهي مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الرُّوم:25].[3]، ومن كمال حياته وقيوميته أنه:
{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} أي نعاس، {وَلا نَوْمٌ}؛ لأن السِّنَةَ والنوم إنما يعرضان للمخلوق الذي يجري عليه الضعف والعجز والانحلال، ولا يعرضان لذي العظمة والكبرياء والجلال، فلا يعتريه - تعالى - نقْصٌ ولا غَفْلَةٌ ولا ذهول عن خلقه؛ بل هو {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية[4].
قال أبو موسى الأشعريّ - رضي الله عنه -: "قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات فقال: ((إن الله - عز وجل - لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه))؛ رواه مسلم[5]؛ فسبحان الله ما أعظمه؟ كيف يعصيه المخلوق الضعيف وهو بهذه القدرة والعظمة؟!
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}: خلقها ويملكها ويدبرها؛ فالجميع عبيده فلماذا يتكبرون؟! وفي ملكه فلماذا على معصيته يجترئون؟! وتحت قهره وسلطانه فلماذا يظلمون؟! {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93- 95].
ومن تمام ملكه وعظيم سلطانه: أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحدٍ عنده إلا بإذنه له في الشفاعة:(/3)
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فكل الوجهاء والشفعاء، عبيد له مماليك، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم {قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} {الزُّمر:44}، {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجم:26] والله لايأذن لأحدٍ أن يشفع إلا فيمن ارتضى، ولايرتضي إلا توحيده، واتباع رسله، فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب[6].
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات، ماضيها وحاضرها ومستقبلها؛ فهو يعلم ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبليةِ التي لا نهاية لها، وما خلفهم من الأمور الماضية التي لا حدَّ لها[7]. ولكم أن تتخيلوا كم يحدث في الأرض من حَدَث في الدقيقة بل في الثانية الواحدة؟ كم تسقط من أوراق، وتنزل من أمطار، ويموت من بشر، ويولد من ولدان، وتحمل من أرحام، ويتحرك من حيوان، ويطير من طير؟ بل حتى الهواءُ الذي يتنفسه الإنسان والحيوان والنبات، والخطوات التي يمشونها ، والماء الذي يشربونه، والطعام الذي يأكلونه، كل ذلك لا يكون إلا بتقدير الله تعالى وعلمه وأمره!!(/4)
ولوِ اجْتَمَعَ البَشَرُ كلُّهم بتقنياتهم وما أوتوا من علم على أن يحصوا أحداث الأرض في ثانية واحدة لما استطاعوا ذلك، والله - تعالى - وحده يحصيها ويعلمها؛ بل ويعلم ما يجري في سائر الكواكب والمجرات، والأرض والسماوات: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلاق:12]؛ ولذا قال الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
يا ترى ماذا سيكون قولنا أمام هذه العظمة والقدرة، والعلم والإحاطة التي يتصف بها مولانا - جل جلاله -، وتقدست أسماؤه؟!
هل يليق بنا أن يأتينا أمره فلا نطيع؟! ونعلم نهيه فلا نلتزم؟! نبصرُ آياته في الكون وفي أنفسنا، ونشاهد إتقان صنعه في كل شيء، وننظر في هذه الأرض العظيمة بجبالها وأنهارها وبحارها، وجميع الأحياء عليها مما نعلمه وما لا نعلمه؛ فنتعاظم ذلك ونعجب منه! أفلا يقودنا ذلك إلى تعظيم مقدّرها وخالقها، وآمرها ومدبرها، الذي خضع له كل شيء؟! لماذا لا تخشع منا القلوب؟! ولماذا لا تدمع العيون؟! تعظيمًا لله – تعالى – وإجلالاً.(/5)
هل عَرَفْنا الله حقيقة المعرفة، وقدرناه حق قدره، من يعصي الله في خلواته؟ ويبطر بإنعامه عليه؟ انظروا كم ضيعنا من فرائض الله وحقوقه! وكم انتهكنا مِنْ محارم الله وحدوده! فهل حقُّ الخالقِ العظيم أن يقابل على إنعامه وإحسانه بالكفران؛ فنسألك اللهم أن تعفو عنا، وتغفر لنا، وتردنا إليك ردًّا جميلاً.
وفي مقابل علم الله العظيم فإنه أخبر عن خلقه فقال:
{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية وهو جزء يسير مضمحل في علوم الباري؛ كما قال أعلم خلقه به الرسلُ والملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة:32].
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}[8]، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره"؛ أخرجه ابن خزيمة؛ والدارمي بسند صحيح[9]، وجاء في أخبار كثيرة أن السماوات السبع بالنسبة للكرسي؛ كحلقة ألقيت في فلاة من عظمة كرسي الرحمن[10].
{وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "أي: لا يثقله حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما؛ بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يَعْزُبُ عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة. وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد، الذي لايسأل عما يفعل وهم يسألون. وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه». أ. هـ [11](/6)
ثم ختم الآية بقوله: {وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} عليُّ بذاته على جميع مخلوقاته، وهو العلي بعظمة صفاته، وهو العليّ الذي قهر المخلوقات، ودانت له الموجودات، وخضعت له الصعاب، وذلت له الرقاب، وهو المُعَظَّمُ الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء، الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء، وإن جلّت عن الصفة فإنها مضمحِلَّة في جانب عظمة العلي العظيم[12].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} [البقرة:255] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أحمده حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزُّخرف:84- 85}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أفضل الخلق وأتقاهم وأخشاهم لربه - صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه - ومَنْ سار على نَهْجِهِمْ، واقْتَفَى أَثَرَهُمْ إلى يوم الدين.
أمَّا بَعْدُ: فاتَّقوا الله - عباد الله - فَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصفات، وتَنَزَّهَ عن النظائر والأشباه، وأحصى كل شيء عددًا، وأحاط بكل شيء علمًا لحقيقٌ أن يُخْشَى ويُتَّقَى - سبحانه وتعالى.(/7)
أيها الإخوة المؤمنون: آية الكرسي أفضل آي القرآن؛ لما فيها من المعاني العظيمة في إثبات توحيد الله – تعالى - ووصفه بما ينبغي أن يوصف به؛ لذا كانت حرزًا من الشيطان، يقرؤها المسلم قبل نومه فتحفظه بإذن الله –تعالى -؛ كما جاء في حديث أبي هريرة عند البخاري: أن الشيطان قال لأبي هريرة: "إذا أويت إلى فراشك فأقرأ آية الكرسي، فإنك لن يزال معك من الله حافظ، ولا يقرَبُك شيطان حتى تصبح". وقد صدَّقه النبي - صلى الله عليه وسلم -[13]، وجاء في حديث آخر أنَّ المداومة على قراءتها سبب لدخول الجنة؛ كما جاء في حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى عليه وسلم -: ((مَنْ قَرَأَ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت))؛ أخرجه النسائي وابن حبان[14]·
أيها الإخوة: هذا فضل آية الكرسي، وهذه أجزاء من معانيها ودقائقها، من قرأها وتأملها ظهرت له عظمة المولى - جل جلاله - وما توصل إليه البشرُ من علوم الأرض والبحار، والإنسان والحيوان والنبات، والنجوم والأفلاك وغيرها ليثبت هذه العظمة للخالق – سبحانه - وكلما ازداد الإنسان علمًا نظريًّا أو تجريبيًّا عظم انبهاره بدقة سير المخلوقات، ونظام الحياة؛ فالله - تعالى - هو الذي خلقها ودبرها وأحكم صنعها.(/8)
بهذه النظرة والمعرفة يعرف الإنسان - مهما أوتي من علم وعبقرية ودهاء، أو قوة ومال وجاه - أنه يكاد أن لا يكون شيئًا في هذا الكون الواسع، بما فيه من مخلوقات عظيمة، عندئذ يحتقر العاقل نفسه ويزدريها، ويسارع في عبادة ربه وخشيته وتقواه، ومع ذلك أنعم الله على هذا الإنسان الضعيف وشرّفه بحمل الرسالة حين أشفقت من حملها السماواتُ والأرض والجبال فأبَيْنَ أن يحملنها: {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب:72]. وسخر له هذه المخلوقات التي تفوقه قوة وعددًا، وجعلها في خدمته. فهل نكون أهلاً لنعم الله - تعالى - علينا بشكرها ورعايتها، وعبادة الله - تعالى - على الوجه الذي يرضاه لنا ويحبه منا. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل طاعته وخشيته.
أيها الإخوة: هذه الرحلة القصيرة كانت في آية من كتاب الله – تعالى -، فما رأيكم لو قرأنا القرآن كلَّهُ بتدبر وتأمل؟ ماذا سيظهر لنا من عظمة الله – تعالى -، وعظيم خلقه، وإتقان صنعه؟! جل في علاه: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ] {الزُّمر:62} ألا فاتقوا الله ربكم وأحْسِنُوا التلقي عن كتابه، واقدروه حق قدره، واعبدوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، ثم صلوا وسلموا على محمد بن عبدالله.
---
[1] انظر: التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (15/40).
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين؛ باب فضل سورة الكهف، وآية الكرسي (810)، وأبوداود في الصلاة باب ماجاء في آية الكرسي (146)، وأحمد واللفظ له (5/186).
[3] انظر: تفسير ابن كثير (1/280)، وتيسير الكريم الرحمن (1/202).
[4] المرجعان السابقان.
[5] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب قوله - عليه السلام -: ((إن الله لاينام)) (179) (1/162).
[6] انظر: تفسير ابن كثير (1/280)، وتيسير الكريم الرحمن (1/202).
[7] المرجعان السابقان.(/9)
[8] انظر: تفسير ابن كثير (1/280)، وتيسير الكريم الرحمن للشيخ ابن سَعْدِيّ (1/202).
[9] أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (71)، والدارمي في الرد على بشر المريسي (71)، وأبوجعفر بن أبي شيبة في العرش (114)، وعبدالله بن أحمد في السنة (71)، وانظر: مختصر العلو للعلي الغفار (102).
[10] انظر: تفسير ابن كثير (1/284).
[11] تفسير ابن كثير ( 1/285).
[12] تيسير الكريم الرحمن (1/203).
[13] أخرجه البخاري تعليقًا في كتاب الوكالة؛ باب إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئًا، فأجازه الموكل فهو جائز وإن أقرضه إلى أجل مسمى (2311)، قال الحافظ: هكذا أورد البخاري هذا الحديث هنا، ولم يصرح فيه بالتحديث... وقال: وقد وصله النسائي والإسماعيلي وأبو نعيم... وذكرته في تغليق التعليق... انظر: فتح الباري (4/569).
[14] أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (124)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (100)، وقال المنذري: رواه النسائي والطبراني بأسانيد أحدها صحيح، وقال شيخنا أبو الحسن: هو على شرط البخاري، وابن حبان في كتاب الصلاة وصححه ... انظر: "الترغيب والترهيب" (2/261)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد وأحدها جيد، انظر: "مجمع الزوائد" (10/102)، وقال ابن كثير بعد ذكره: وهو إسناد على شرط البخاري (1/283).(/10)
العنوان: تجارة العلماء
رقم المقالة: 1662
صاحب المقالة: محمد يوسف الجاهوش
-----------------------------------------
حدث علي بن الفضيل بن عياض قال: سمعت أبي يقول لعبدالله بن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلّل، والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع، كيف ذا؟
قال ابن المبارك: يا أبا علي، إنما أفعل هذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين على طاعة ربي.
قال: يا ابن المبارك، ما أحسن ذا، إن تم ذا. (سير أعلام النبلاء جـ 8 ص 387).
ما فَقِهَ الإسلامَ مَنْ ظَنَّ أنَّ الزهد والفقر صنوان، فالمؤمن مطالب بالسعي والكدح، وطلب الرزق من كل طريق حلال، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، والضرب في الأرض - طلبا للرزق ليصون المرء وجهه، ويعف عياله - عبادة وقربى إلى الله عز وجل، تَفْضُل الانقطاع إلى نوافل العبادات، والمداومة على الذكر وتلاوة القرآن.
بل إنَّ الله - عز وجل - عذر هذا الصنف من المؤمنين إنْ هم أجهدهم التماس الرزق وأعْجَزَهُم عن أداء النوافل، كما عَذَرَ المَرْضَى والمجاهدين في سبيله سبحانه وتعالى {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}. الآية [المزمل: 20].
فالإسلام جاء لعمارة الأرض، واستخراج خيراتها، واكتشاف كنوزها، وتسخيرها، لكل ما يعود على الأمة والأفراد بالنفع والرخاء، وازدهار الحياة.
ولا يستطيع الإنسان العيش من دون مورد مالي، يسد حاجته وحاجة من يعول، وليس أمامه لتحقيق ذلك إلا سبيلان لا ثالث لهما:
إما أن يسعى ويجهد نفسه، ويبذل وسعه، ليؤمن ذلك لنفسه وعياله.
وإما أن يَمُدّ يده، ويبذل وجهه، وينتظر هبات الحكام أو صدقات المحسنين.(/1)
وما أباح الإسلام هذه الحال إلا لذوي الأعذار ممن ذكر القرآن الكريم تحديدا {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
إن المؤمن الصادقَ حريصٌ كل الحرص على ماء وجهه، وعلو يده، ويأبى حياة التطفل على أموال الناس وثرواتهم، لا سيما إذا كان من أهل العلم الذين يخالطون الناس ويعظونهم، ويَحْرِصُونَ على نشر الخير والهُدَى، ويأمرونَ بِالمعروف وينهَوْنَ عنِ المُنْكَرِ، ويُحارِبُون كُلَّ انحراف عن جادَّة الإسلام، وسُنن الإيمان.
وقد فَقِهَ أسلافُنا هذا، ووضعوا الأُمورَ في نِصابها. دونما خلط ولا تلبيس.
رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شابا ملازما المسجد، ذاكرا عابدا، طالبا للعلم، فسأله: من ينفق عليك؟ قال: أخي. قال: "أخوك أعبد منك".
يا لله، للفهم الثاقب، والرأي الصائب! "أخوك أعبد منك"! فلكأني بعمر - رضي الله عنه - يقول له: لا تفرَحْ بِما أنت فيه، إنَّ الذي جئت تطلب قد خلفته وراءك! فقد فاز بالأجر ذاك الذي يضرِبُ في الأرض؛ يسقي الإبل، ويغرس النخل، ويحمِلُ الحجارة. وكيف لا يفوز وقد فارق الظِّلَّ الظليل، والماء النمير، وترك الزوجة والولد، وانطلق يسعى ويكدح، ليصون وجهه، ويعف ذويه.
لقد استقام هذا الفهم لأسلافنا طيلة قرون الخير والبركة؛ فهذا سعيد بن المسيب يعاتبه
بعض إخوانه على اشتغاله بتجارة الزيت - وهو من هو: وجاهة، ومكانة، وعلما، وعبادة - فتجهم وجهه، وعنف لائمه قائلا: "لولا هذه الدنانير لتمندل[1] بنا غلمان بني أمية، لكننا نصون وجوهنا، ونحفظ أحسابنا، ونصل أرحامنا، ونبلغ أمر ربنا، وليس لأحد في عنقنا منة تعقل ألسنتنا، أو تنحني لها جباهنا".(/2)
فما أحوج أبناء الدعوة - على اختلاف مشاربهم - إلى هذا الفِقْهِ الدقيق، والفهم العميق؟ يُرَبّونَ عَلَيْهِ شَبَابَهُمْ، فيكون لدى كل واحد من الموارد ما يصون وجهه، ويكرم عرضه، ويعينه على طاعة ربّه، وتبليغ دعوته. مستعْلِيًا على مَنْ جَعَلُوا المالَ وسيلةً لاستخدام العقول واستئْجار الأقلام، واستِصْدار الفتاوى، لتسويغ ما انْحَرَفَ من أخلاقهم وما اعوجَّ من سلوكهم، وما خرقوا من حدود الله.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] جعلونا مناديل يمسحون بها أيديهم.(/3)
العنوان: تجربتي الأولى
رقم المقالة: 267
صاحب المقالة: أيمن بن أحمد ذوالغنى
-----------------------------------------
ليس أصعبَ على الإنسان من أن تثورَ في صدره براكينُ من المشاعر والانفعالات، وتَهُبَّ في رأسه عواصفُ من الرُّؤى والأفكار،
ثم يجدَ نفسَه عاجزًا كلَّ العجز عن التعبير عن شيء ممَّا في نفسه، أو قليل ممَّا في رأسه.
وهكذا كانت حالي ...
فعلى كثرة قراءاتي، وصَداقتي الدائمة للكتاب، وتذوُّقي للفصيح من الكلام ( شعرًا ونثرًا )،
كنتُ أرى في نفسي العجزَ عن حمل القلم وإجرائه؛ تعبيرًا عمَّا تَفيضُ به نفسي، ويَعتلجُ به رأسي ...
وما زلتُ أتهيَّبُ الكتابة، وأظنُّ فيَّ الإعياءَ عن الإبانة عن خَواطر روحي، وهَمَسات قلبي،
حتى قدَّر لي اللهُ سبحانه ما أطلقَني من إسار هذا الوَهْم الخادع، وحرَّرَني من قُيوده المثبِّطة، وشَرَكه المُستَحكِم.
فذاتَ ليلة حدَثَ لي موقفٌ بديعٌ طريفٌ مع ولدي ذي السنتين، دَهِشتُ له وتحيَّرت، ومُلئتُ عَجَبًا واستغرابًا،
لقد كان هذا الموقفُ الغريب دليلاً بيِّنًا على إعجاز كتاب ربِّنا الجليل القرآن الكريم، وفيه من الدَّلالات العظيمة ما يُثبتُ بما لا يَدَعُ للشكِّ مجالاً، أن كلامَ الله نَمَطٌ فذٌّ معجزٌ، دونَه كلُّ كلام، مهما علا في سَماء الفَصاحَة والبيان.
ورأيتُ حقًّا عليَّ واجبًا أن أدوِّنَ هذا الموقفَ كما وقَع؛ لطرافته، ولما فيه من معانٍ وعِبَر،
وليبقى ذكرى عَطرةً لبطل الموقف طفلي الصغير أحمد.
وهذا ما كان ..
دوَّنتُ الخبر، ثم دَسَستُه في أحد أدراج مكتَبي،
وما زال في مكانه راقدًا مُطمئنًّا، حتى شرَّفَني بالزيارة ضيفٌ كريمٌ من أساتذتي في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق،
أستاذي الكبير المُكرَّم الدكتور محمَّد حسَّان الطيَّان، صاحب الأيادي البيض عليَّ وعلى أجيال من طلاَّب العربيَّة،
فراودَتني نفسي أن أُطلعَه على ما كتبتُ،(/1)
ولكنَّ الرهبةَ تملَّكَتني، ورأيتُني حائرًا متردِّدًا،
كنتُ أرى أن ما كتبتُه لا يرقى لأن يقرأَه عالمٌ محقِّقٌ ولغويٌّ أديبٌ وأحدُ أعضاء مجمَع اللغة العربيَّة بدمشق،
بيدَ أن طرافةَ القصَّة كانت تُلحُّ عليَّ بذلك؛ للفائدة والعبرة،
ولأُفيدَ من ملاحَظاته ورأيه السَّديد،
وبعد بُرهَة من التردُّد والحَيرة تشجَّعت وتَجاسَرتُ، ودفعتُ إليه بالمقال على استحياء ...
شرعَ يقرؤه باهتمام وإمعان،
وكنتُ في إبَّان قراءته خائفًا متوَجِّسًا،
ولكن ما لبثَ أن أسفَرَ وجهُه عن ابتسامةِ رضًا وإعجاب، بالموقف أوَّلاً، وبأُسلوب الكتابة ثانيًا،
وبدأ يُثني على كتابتي، ويَكيلُ لي من عبارات التشجيع والإطراء ما لم أكُن أحلُمُ بقليل منه،
وحثَّني على مُواصلَة الكتابة، والإكثار منها؛ حتى تلينَ لي وتَطيع، وتسهُلَ عليَّ، و تصيرَ طبعًا لا تكلُّفَ فيه.
كنتُ أدرك في قَرارة نفسي أن ما كتبتُه لا يرقى إلى هذا المديح،
وأُوقنُ بأن أستاذي الفاضلَ أرادَ بحسِّه التربويِّ المرهَف أن يُحفِّزَني، وأن يدفعَ بي في طريق الكتابة والإنشاء،
وأن يزرعَ في نفسي الثقةَ والعزمَ والإقدام،
و والله لقد كان لكلماتِه تلك في نفسي من الآثار الحسَنة ما لا يعلمُه إلا الله.
ولئن كنتُ ما أزالُ في بداياتي الأُولى في عالم الكتابة والبيان،
لقد كُسرَ حاجزُ الوَهْم والوَجَل والتهيُّب، وبتُّ أشعر في نفسي بشيء من القُدرة على التعبير عمَّا أريد،
بفضل الله المنعم الكريم، ثم بفضل نصيحَة أستاذي المعطاء وتَشجيعه الدائم لي،
فجَزاه الله عنِّي وعن العربيَّة وأهلها خيرَ ما يجزي المحسنين،
وأكثرَ في الأمَّة أمثالَه من النقَّاد المشجِّعين، وجنَّبَنا نقدَ المثبِّطين، الذين يتلذَّذون بإحباط المبتدئين.(/2)
العنوان: تجنب التقعر والتكلف في الكلام
رقم المقالة: 1245
صاحب المقالة: عبد الغني أحمد جبر مزهر
-----------------------------------------
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هلك المتنطعون. قالها ثلاثا))[1].
قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].
قال ابن زيد: أي لا أسألكم على القرآن أجرًا: تعطوني شيئًا، وما أنا من المتكلفين أتَخَرَّص وأتكلف ما لم يأمرني الله به[2].
قال ابن عطية: وما أنا من المتكلفين أي: المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله، فأنتحل النبوة والقول على الله[3]، لقد كان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الهدي في الدعوة والخطابة، والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الأمور كلها.
من هديه في الكلام ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلاما فصلاً يفهمه كل من يسمعه"، وقالت: "كان يحدثنا حديثًا لو عده العاد لأحصاه"، وقالت: "إنه لم يكن يسرد الحديث كسردكم"[4].
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله - عز وجل - يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها))؛ إسناده صحيح[5].
قال في النهاية: "هو الذي يتشدَّقُ في الكلام، ويفخم لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفًّا"[6].
وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ من أحبكم إلي، وأقربِكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون... )) الحديث"[7].(/1)
قال ابن الأثير: الثرثار الذي يكثر الكلام تكلُّفًا وخروجًا عن الحق، والثرثرة كثرة الكلام وترديده، والمتشدق المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز، ومثل المستهزئ بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم... والمتفيهق الذي يتوسع في الكلام ويفتح فاه به، مأخوذ من الفهق، وهو الامتلاء والاتساع [8].
وقال في معنى صرْف الكلام: ما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه على قدر الحاجة، وإنما كره لما يدخله من الرياء والتصنُّعِ، ولما يُخَالِطُهُ من الكذب والتزيُّد[9].
وعن معاوية رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يشققون الكلام تشقيق الشعر))[10] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثًا[11].
قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد العاصمي في حاشيته على "كتاب التوحيد": "أي المتكلفون المتعمقون المتأنقون، الغالون في الكلام، المتكلمون بأقاصي حلوقهم، مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولاً وفعلاً، أو الغالون في عباداتهم بحيث تخرج عن قوانين الشريعة، أو الذي يدخل الباطل في قالب الحق، لقوة فصاحته، وأما الفصاحة التي توضح الحق، وترد الباطل، وتظهر عظمة العلم والدليل فممدوحة"[12].
إن مما تمجه الأسماع، وتنفر منه القلوب في الخطب التكلف في الكلام، والتنطع فيه، فعلى الخطيب أن يترفع عن هذه الطريقة الكريهة في الخطابة، ومن ذلك قلقلة الحروف إلى حد التكلف والتصنع، وتجويد بعض العبارات وترتيلها كأنه يرتل القرآن العظيم، ومن ذلك التكلف في تقليده لبعض الخطباء المعروفين، وانتحال طريقتهم في الخطاب، وأسلوبهم في تفخيم الكلام أو ترقيقه، أو مد آخر الجمل.
وليترك الكلام يخرج على سجيته، والألفاظ تخرج على السليقة، ولا يستكره الألفاظ ويحشرها في غير مواضعها.(/2)
قال الجاحظ: "ومتى كان اللفظ كريمًا في نفسه، متخيرًا في جنسه، وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد، حُبِّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وهشت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب... ولم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح ألفاظًا مسخوطة، ولا معانِيَ مدخولة، ولا طبعا رديًا، ولا قولاً مستكرهًا"[13].
ومن التشدق في الخطبة أن تكون الخطبة عبارات مُنَمَّقَة، وجملاً إنشائية فارغة من المحتوى، فليس وراء تلك الكلمات الرنانة موضوع أو طائل يخرج به المستمعون، لا موضوعا تربويًّا، ولا اجتماعيًا، ولا فقهيًا يخرج منه المصلون بفائدة.
---
[1] رواه مسلم (العلم 2670) ، وانظر : تفسير ابن جرير (10 / 608) .
[2] رواه مسلم (العلم 2670) ، وانظر : تفسير ابن جرير (10 / 608) .
[3] تفسير البحر المحيط (7 / 411) .
[4] رواه البخاري (المناقب- 3567) ومسلم (فضائل الصحابة- 2493) واللفظ للبخاري .
[5] رواه أحمد (2 / 165)، وأبو داود (الأدب - 5005)، والترمذي (الأدب - 2852)، بإسناد حسن، وقال الترمذي: حسن غريب.
[6] النهاية (2 / 73) .
[7] رواه أحمد (4 / 193) من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الحشني ، ورواه الترمذي (البر - 2018) من طريق مبارك بن فضالة حدثني عبد ربه بن سعيد عن محمد بن المنكدر عن جابر به ، ومبارك بن فضالة صدوق يدلس ، لكن هذا صرح بالسماع ، وقال الترمذي : حسن غريب .
[8] النهاية (3 / 482).
[9] النهاية (3 / 24).
[10] رواه أحمد- (4 / 98) من طريق جابر بن عمرو بن يحيى- ولم أجده- عن معاوية رضي الله عنه به ، وانظر : الآداب الكبرى (2 / 89 - 91).
[11] رواه مسلم ، وقد تقدم .
[12] حاشية كتاب التوحيد (ص 152) .
[13] البيان والتبيين (2 / 3- 4) .(/3)
العنوان: تحديات الأزمة الاقتصادية.. رؤية إسلامية
رقم المقالة: 1722
صاحب المقالة: جمال عبدالناصر
-----------------------------------------
لا شكَّ أنَّ غالبية المجتمعات المسلِمة تعاني أزمةً اقتصادية تضطَّرها إلى التخلِّي عن الكثير من تطلُّعاتها ورغباتها دوليًّا واستراتيجيًّا؛ بل والتخلِّي عن كرامتها أحيانًا كثيرة!!
تُرى؛ ما أسباب تلك الأزمة؟ وما هي التحديات التي تواجهها تلك المجتمعات المسلمة؟
فقر المجتمعات الإسلامية:
إنَّ الفقراء لديهم المَيْل الحدِّي المرتفع للاستهلاك، وبالعكس؛ فهو منخفضٌ لدى الأغنياء، فما إن يحصل الفرد الفقير على جزء من المال حتى يبادر ويسارع إلى إشباع كلِّ حاجةٍ كانت تلحُّ عليه، فلا يبقى لديه من المال شيءٌ، فَفِي الغالب تكون احتياجاته أكثر بكثير من موارده، والمسألة نسبيَّةٌ، فالغني أيضًا تكون احتياجاته أكثر من موارده، ولكن بكيفية أقل من احتياجات الفقير لذلك.
الثورة التكنولوجية الهائلة:
هذه الثورة أتاحت لجميع بني البشر ما لم يكن يطمح إليه أحد من قبل؛ وهو ما دفع الفقراء إلى الاستمتاع بما كان يستمتع به الغني، وبالتالي تفاقمت مشكلة التقليد والمحاكاة، ومحاولة حصول الفقير على التكنولوجيا الحديثة؛ ليشبع بها النقص في حياته، فقد ترى أن فقيرًا يمتلك وسائل التكنولوجيا الحديثة ويحصل عليها وهي ليست من الضروريات؛ بل من الكماليات أو الحاجيات، قبل أن يحصل على الغذاء والكساء والمسكَن التي هي من ضروريات الحياة
إغراء الدِّعاية والإعلان:(/1)
لقد برع المنتجون والمروِّجون للسلع بالمشاركة مع أصحاب شركات الدعاية والإعلان في ترويج السلع والخدمات وتزيينها للناس، سواء كانوا محتاجين إليها أم لا، وذلك عن طريق الدِّعايات والإعلانات التّجارية التي تعرض أمامَ الناس في كلِّ زاوية وركن؛ في طريقه، وفي الصحف والمجلات، وفي المحطات الإذاعية والمرئية، وعلى شاشات الفضائيات؛ حيث برع أصحاب شركات الدِّعاية والإعلان في ترويج تلك السلع والخدمات وتزيينها للناس، عن طريق الدِّعايات والإعلانات التجارية الَّتي تعرض على شاشات الفضائيات ومحطات التَلْفَزَة، والتي يقوم بإعدادها اختصاصيّون بارعون في الموسيقى والإخراج الفني والعروض المغرية، مستغلِّين المرأة في ذلك، ونتيجة لذلِك؛ أتقن كثيرٌ من أبناء المسلمين ثقافة الاستهلاك؛ فها هم يتباهَوْنَ في اختيار أنواع وأشكال أجهزة الجوَّال، و(الستالايت) و(الريسفير) والسيارات، وماركات الملابس العالمية؛ وهو ما يدفع الناس إلى الاستهلاك، ولو لم يكونوا بحاجة ملحَّة إلى ذلك النوع الذي يروَّج له، ولكن كثرة العرض والدِّعاية ترسِّخ في ذهن المستهلك أهمية السلعة أو الخدمة، فيُقدِم على شرائها.
الاستدانة رضوخًا للثورة التكنولوجية:
قد يضطرُّ ربُّ الأسرة الفقير للاستدانة؛ نظرًا لما يتعرَّض له من ضغوط من شتَّى أفراد أسرته، الذين هيمنت على عقولهم ورغباتهم (الميديا) الحديثة، وأصبحت تتحكَّم حتَّى في رغباتهم ومتطلَّباتهم.(/2)
وكذلك أصبح الرجل العادي - بفضل الثورة الإعلامية الناجمة عن ثورة الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا - يتطلَّع إلى التقدُّم والحصول على المنتجات الجديدة والأدوات والخدمات والسلع والأطعمة الجديدة؛ ونظرًا لانتشار أطعمة ومشروبات وسلع عالمية أمكن نشر الكثير من عادات الأكل والشرب واللِّباس الخاصَّة بكلِّ شعبٍ وأمَّة، ولقد أدَّى تفكُّك الاتحاد السوفييتي إلى أن يُسارع الناس إلى مطاعم (ماكدونالدز) ويُقبلوا كي يتناولوا (الهامبورجر) ويشربوا المشروبات الغازيَّة!!
الإنتاج المغري:
لقد ازداد أمر الاستهلاك سوءًا عندما دخل القمار في عمليات الاستهلاك، من خلال السحب على المنتجات المُشترَاة، ومن خلال الجوائز اليومية في المسابقات، وكذلك الجوائز الأسبوعية، والجوائز الكبرى الشهرية... إلخ.
ويظهر الغَرَر والتكالُب على الشراء عندما يكون الدافع لشراء السلعة أو الخدمة هو الحصول على قسيمة الاشتراك في السحب - أكثر من إرادة الاستفادة من السلعة المباعة، أو الخدمة المُتاحة بصرف النظر عن وجود الحاجة لتلك السلعة أو لا، ويكون الداعي لمن يدخل السحب هو الحصول على المال من غير وجه حقٍّ، وبطريق الغرر الناجم عن الكسب في مسابقات السَّحب وغيره.
التقليد وتَبَعِيَّة الغَيْر:(/3)
لا يُنكر أحد أثر ظاهرة تقليد المغلوب للغالب والفقير للغني وانبهاره به، وهي أمور غريزية ذكرها عُلماء الاجتماع في كُتُبهم ومؤلفاتهم، فقد أشار ابن خلدون – رحمه الله - إليها في مقدِّمته، إذ يقول: "إن المغلوب مولَعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه ونِحْلَتِه وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النَّفس أبدًا تعتقد الكمال في مَنْ غلبها وانقادت إليه؛ إمَّا لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغَلَبٍ طبيعيٍّ، إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالَطَتْ بذلك واتَّصل لها اعتقادًا؛ فانتحلتْ جميع مذاهب الغالب وتشبَّهت به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه - والله أعلم - من أنَّ غَلَب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب".
الزيادة السكانية:
معدَّل الزيادة السنوية في السكان داخل العالم الإسلامي من أعلى المعدَّلات في العالم؛ وهو ما يترتَّب عليه زيادة في الطلب على السلع والخدمات والمنتجات بأنواعها؛ سواء كانت ضرورية أو كمالية وترفيهية.
ولا يُنكر الإسلام التزايدَ في عدد السكان، ولكنه في مجمل تعاليمه يحثُّ على أن تكون الزيادة في النوعية بالمقابل مع الزيادة العدديَّة؛ فالحديث ذاته الذي يُستدلُّ به على الكثرة في العدد - أشار رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى النوعية المطلوبة؛ ليكون المسلمون ممَّا يستحقُّ أن يباهي ويفاخر بهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهم أولئك الذين يتَّبعونه في أقواله وأفعاله وسلوكه.
ففي الحديث عن سعيد بن أبي هلال، أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((تناكحوا، تكاثروا؛ فإني أُباهي بكم الأمم يوم القيامة)).(/4)
ولتأكيد هذا المعنى؛ حذَّر - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يصل المسلمون إلى مرحلة الضعف والغُثاء، بحيث يصبحون لا قيمة لهم في الحضارة الإنسانية، ولا مكان لهم في الحياة اليومية، ويصيرون كالأنعام يأكلون ويتمتَّعون.
وفي الحديث: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)). فقال قائل: أوَمن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاء السَّيْل، ولينزعنَّ اللَّهُ من صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن)). فقال قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن؟، قال: ((حبُّ الدنيا وكراهية الموت)).
من هذا يتبيَّن لنا أنَّ الأمَّة الإسلامية، لابدَّ لها من حفظ ذاتيَّتها وكيانها والاعتماد على نفسها كي تكون لها مكانَتُها بين الأمم الأخرى، فإنَّ أُمَّة تعتمد في مأكلها ومشربها على غيرها من الأمم هي أُمَّة فاقدة للكثير من حريتها، ولكي تستقل بنفسها فلا بد أن تقوى وتقوي ذاتها.
لابدَّ من الاعتماد على النفس:
لابد للمسلمين من التمسُّك بسنَّة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعدم اتِّباع أنماط الاستهلاك الغربية البعيدة كليَّةً عن العادات والتقاليد الإسلامية.
لقد دعا معظم فقهاء المسلمين ودعاتهم إلى ضرورة أن يقوم المسلمون بأنفسهم، واعتبروا تعلُّم كلَّ ما هو نافع وضروري للمسلمين فرض كفاية، إذا لم يقم به البعض أصبح واجبًا على الكلِّ.
إن الأمر يُصْبِح خطيرًا جدًّا عندما يَعْتَمِدُ المسلمون على غيرهم في كل شيء؛ في استيراد لُقْمَة الخُبز والدَّواء والكساء وكافة المستلزمات الحياتيَّة، حتى فوانيس رمضان صارت تأتي من الصين!!(/5)
إنَّ استيراد القمح والكساء والدواء من دول معادية للمسلمين معناه أن تكون رقاب المسلمين بقبضة أعدائهم، يتحكَّمون فيها كيْفَما شاؤوا، ولذلك يجب أن يحرِّروا رقابهم بالامتناع عن استهلاك أيِّ سلعة أو خدمة من دولةٍ مُعادية للمسلمين، أو لقضاياهم، أو استِبْدال تلك السلعة بمثيلاتها. وبدلاً من ذلك لابدَّ من السعي نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي وتحقيق التكامل الاقتصادي، وتفعيل السوق الإسلامية المشتركة.
خطورة السِّلعة المستوردة:
إنَّ الدراسات والبحوث أثبتت أنَّ هناك مقاييس ومواصفات للسلع المصدَّرة لدول العالم الثالث لا تقبل بها الدول المتقدمة!! وبطبيعة الحال؛ فهي أقل بكثير من معايير ومواصفات الجودة المطبَّقة في الدول الغربية، كما أنَّ كثيرًا من الأغذية لا تصلح للاستهلاك البشري، ومن هنا يجب أن يتنبَّه المسلمون لهذه المخاطر، ويعملوا على زيادة الوعي والتثقيف الصحِّي بخطورة استهلاك هذه الأغذية.(/6)
العنوان: تحرير المرأة
رقم المقالة: 1807
صاحب المقالة: د. محمد محمد حسين
-----------------------------------------
تحرير المرأة
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله؛ وبعدُ:
كان من أبْرَزِ الدَّعواتِ الَّتي تشعَّبَتْ عنِ الحُرّيَّة -: دعوةٌ شغلتِ الرأيَ العامَّ في بلاد العَرَب؛ بل في كل بلاد المسلمين ولا تَزَالُ، وهي الدَّعوة إلى ما يُسَمَّى "حقوق المرأة"، أو ما كان يُسمَّى عند الدُّعاة الأَوَّلِين لِهذه الحركة "تحرير المرأة".
ظهرت الحركة في أوَّل أمرِها هادئةً تدْعُو إلى تعليم المرأة، وظهرتْ بَوادِرُ ذلك في كتاب رِفاعة الطَّهْطَاوِيِّ "المرْشِد الأمين للبنات والبنين"، وفيما كَتَبَهُ في "تَخْلِيص الإبريز في تَلْخِيص باريز" من تَهْوِين اختِلاطِ الرجال بالنساء في أوربا، مِمَّا يكادُ أن يَكُون دِفاعًا عنْهُ، وهو واضحُ الدَّلالة على تأثُّر الطَّهْطَاويِّ بما شاهده في المجتمع الأوروبيّ أثناء إقامته في باريز، مُشرفًا على البَعْثَةِ العلميَّة الَّتِي أَرْسَلَها مُحمَّد علي باشا لتعلُّم الهندسة والطب والعلوم الحديثة، واختارها من طلبة الأزهر، وهذا التأثُّر بالحضارة الغربيَّة واضحٌ أيضًا فيما كتبه الطَّهْطَاوِيُّ في "المرشد الأمين" عن كراهِيَة تعدُّد الزَّوجات، وقد أثار مُحَمَّد عبدُه هَذَيْنِ الجانِبَيْنِ بعد ذلك في بعض مقالاته التي كان ينشرها في "الوقائع الرسمية".(/1)
ولكنَّ الموضوع أُثِير في عُنْفٍ لَفَتَ الأنظار، عِندما أَصدَرَ فيه قاسم أمين كتابينِ، صدر أحدهما 1899 وهو كتاب "تحرير المرأة"؛ وصَدَرَ الثَّاني في العام التالي سنة 1900م وهو كتاب "المرأة الجديدة"، وَقَدْ حاوَل قاسم أمين أن يُخْفيَ في الكتاب الأوَّل دوافِعَهُ الحقيقيَّةَ، وهي الافتتان بالحضارة الغربية؛ ليبدوَ كأنه يستنبط أحكامه من كتاب الله وسُنَّة رسوله؛ ولكنَّه لم يلبثْ أن كشف عن حقيقة نَوَاياه في كتابه الثاني، حين أثاره الذين عارضوه بِرُدُودِهِم العنيفة، فدعا الناس في صدر هذا الكتاب إلى أن يتخلَّصوا مِمَّا وَقَرَ في نُفوسِهم من أنَّ عادَاتِهم هي أحسنُ العادات، وأن ما سِواها لا يستحِقّ الالتفات، وقال: ((إنَّ طالب الحقيقة لا يجب أن يجري في إصدار أحكامه على هذا الضَّرْب من التساهُل؛ بل يجب أن يُعَوِّد نفسه على أن يجري نَقْدُه للحوادث على أُسلوب علميّ، ثُمَّ قرَّر في آخِرِ كتابه أنَّ التمدُّن الإسلامي قد بدأ وانتهى قبل أن يُكْشَفَ الغطاءُ عن أصول العلم (كذا؟!)، فكيف يمكن أن نعتقد أن هذا التمدُّن كان نموذجَ الكمال البشريّ؟)) وفي هذا الكتاب الذي كشف عن حقيقة نوايا قاسم أمين ودوافعه، اختار المُؤلِّف أسوأ ما في الحضارة الإسلامية من صور الفساد؛ ليزعُمَ أنَّها أقلُّ من المستوى الذي بلغه اليونان والرومان في كفالة الحُرِّيات، وخَتَمَ هذه المقارنةَ الظالمةَ المُغْرِضَة بقوله: "متى تَقَرَّرَ أنَّ المَدَنِيَّةَ الإسلامية هي غيرُ ما هو راسخٌ في مُخَيِّلَةِ الكُتّاب الذين وصفوها بما يُحِبُّون أن تكون عليه، لا بما كانت في الحقيقة عليه، وثبت أنها كانت ناقصةً من وجوه كثيرة، فَسِيَّانِ عندنا بعد ذلك أنَّ احتجاب المرأة كان من أصولها أو لم يكن، وسواء صَحَّ أن النساء في أزمان خلافة بغداد والأندلس كنَّ يَحْضُرْنَ مجالس الرجال أو لم يصحَّ، فقد صحَّ أن الحجاب هو عادة، لا يليق استعمالُها في عصرنا".(/2)
والواقع أنَّ الحركة كانتْ ثَمَرَةً لكثيرٍ من العوامل، التي كانت تتفاعل في بعض المجتمعات الإسلاميَّة، وفي تركيا ومِصْرَ على وجه الخُصوص، وقدِ اشتركت هذه العوامل جميعًا في مولد هذه الحركة، فهي ثمرةٌ من ثمار الدعوة إلى الحرية؛ لأنَّها تعتمد على أنَّ الحرية الشخصية قد أصبحت في العصر الحديث حقًّا لكل إنسان، ذَكَرًا كان أو أنثى؛ ولأنَّ هذه الحرية هي التي حَمَتْ قاسم أمين، ومَنَحَتْهُ الحقَّ في أن يقول ما قاله مِمَّا يُعارِض الإسلام، ويُؤذِي الرأيَ العامَّ، ويمتلئ بالأكاذيب والمُغالَطات، والدعوة في الوقت نفسه ثمرةٌ من ثمار الحركة التي تدعو إلى تحرير النظم والقوانين الاجتماعية من سَيْطَرَةِ الدِّين، أوْ ما كان يُسَمَّى بِفَصْلِ الدولة عن الدِّين، ثُمَّ إِنَّ الدعوة في أحد جوانبها ثمرةٌ مِنْ ثمار الافتتان بالحضارة الغربية؛ لأنَّها تُرِيدُ أنْ تَحْمِل المرأةَ المُسْلِمة في كُلِّ أحوالها على النَّمَط الذي تُمثِّلُه الحضارة الغربية، وهي في جانب آخَرَ ثَمَرة من ثمار (التغريب)؛ لأنَّها أهمُّ ما عُنِيَ به الاستعمار؛ فيما كان يَبْذُله من جهود لحَمْل المُجْتَمعات الإسلامية على حضارة الغرب، وتقريب ما بينهما من فوارقَ، بعد أن وَضَح أن وَضْع المرأة هو أبْرَز وجوه الخلاف، وأبعدُها في سَعَةِ الخُلْفِ بين الطَّرفينِ، مِمَّا لا يُرْجَى معه اتِّفاق إلا بفناء أحد المذهبينِ في الآخَر.(/3)
انصرف جهد المؤلف في كتابه "تحرير المرأة" إلى التدليل على ما زَعَمَه من أنَّ حجاب المرأة بوضْعِه السَّائد ليس من الإسلام، وأنَّ الدَّعوة إلى السُّفور ليس فيها خروج على الدين أو مخالفة لقواعده، بينما غلب المنهج الغربي الحديث على كتابه الثاني "المرأة الجديدة" فأَقَام بحثه فيه على الإحصاء الذي تَدْعَمُهُ الأرقام والوقائع - وهي على ما هو معروف تَقْبَلُ الخداع والتلاعُب من وجوهٍ كثيرة - واستند في تبرير مذهبه إلى آراء بعض كُتَّاب الغرب وباحِثِيهِ في فروع الدراسات النفسية والاجتماعية والطِّبية، وعِلْم وظائف الأعضاء والتشريح منها على وجه الخُصوص.
تناول قاسم أمين في كتابه الأول "تحرير المرأة" أربع مسائل:
1- الحجاب.
2- واشتغال المرأة بالشؤون العامة.
3- وتعدد الزوجات.
4- والطلاق.
وذهب في كُلِّ مسألة من هذه المسألة إلى ما يطابِق مذهب الغربيين؛ زاعمًا أن ذلك هو مذهب الإسلام، ولا تَزَال الحُجج الَّتِي قدَّمها هي سند الذين يتناولون هذه القضايا حتى الآن، لا يجدون ما يُضِيفونه إليها.
في الحجاب: يزعم أن الإسلام أباح للمسلمة أن تُظهر بعض أعضائها، متوسِّعا في تفسير {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، ومُتجاهِلاً لما يدل عليه قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]، وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]، وقوله: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، وزَعم أنَّ قَصْر المرأة في بيتها وحَظْرَ مُخَالَطتها للرجال تشريعٌ خاص بنساء النبيِّ، وأنَّ نساء المُسلمين عامَّة مَنْهيَّاتٌ عن الخلوة بالأجنبي فقط؛ كأن نساء النبي - في وهمه - أَحْوَجَ النساءِ للتحرُّز مما يريب، ولسد الذرائع إلى الفساد.(/4)
وفي اشتغال المرأة بالشئون العامة: جَمَع كُلَّ ما في التاريخ من حالات خاصَّة شاذَّة، مع تحويرها وتَحْرِيفها؛ ليُصوِّرَ أن عددًا من النساء شارَكْن في مصالح المسلمين العامَّة في صدر الإسلام.
وفي تعدُّد الأزواج: اعتمد على صَدْر الآية في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، ورَكَّبَ منه ومِن قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] مُقدِّمَتَيْنِ يصل منهما إلى تحريم التَّعديد، مُتجاهِلاً عَجُزَ الآية الأُولَى الذي يُبيِّن أنَّ المقصود بالعدل، هو العدل القلبي وهو غير مستطاع، ومُتجاوِزًا عن صدر الآية الثانية في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3].
وفي الطلاق: يعتمد على قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، ويستند إليه في تقديم مشروع قانون لا يتم فيه الطلاق إلا بحكم قضائي، ومُتجاهِلاً كل ما سَبَقَهُ من آيات، وما ورد في غير هذه السورة من نصوص صريحة تُقَرِّرُ أن (الرجال قوَّامُون على النساء)، وأن عُقْدَة النّكاح بيد الرجل، وأنَّ التَّحكيم الَّذي تُشير إليه الآية هو بين الأهل، لا يخرج على حدود الأسرة، وليس القضاء طرفًا فيه؛ لأنَّ العَلَنِيَّة فيه تدعو إلى اللَّجاجِ وإلى التَّجَنِّي والافتراء وكشف ما ينبغي سَتْرُهُ من الأسرار.
والكِتَاب نموذج للمُحاولات التي تُبْذَلُ لتطوير الإسلام وحَمْلِهِ على الحضارة الغربية، بتفسيره على الوجه الذي يُلائمها، وحَمْلِ الحضارة الغربية عليه، بتبرير مذاهبها وأنماطها بنصوصه بعد تحريفها وتأويلها.(/5)
ومذهبه فيما يُورده من نُصوص، سواء كانت نصوصًا من القُرآن، أو مِن كتب التاريخ يقوم على خَلْع النصوص من سِياقها، باختيار ما يُناسبه مما تقوم به حجته في مَزَاعِمه، وتجاهُل ما لا يُناسبه، مِمَّا يعارض أهواءَه مُعارَضَةً صريحة حاسمة، وتسخير النصوص لخدمة هَدَفِهِ بالتأويل والتحريف والبَتْر، وتتبّع الشواذِّ والرُّخَصِ والضعيفِ من الحوادث والأحكام والروايات، وتصيُّدها على مدى القرون واختلاف الظروف والأحوال والمصادر، لتبدُوَ - حين تُحْشَد - مجتمعةً، ويَضُمُّ بعضها إلى بعض في حَيِّز واحد؛ كأنها عُرْف جارٍ وأمرٌ شائعٌ، وهذا التَّزييف والتَّزوير هو الذي وصفه شوقي في إحدى قصائِدِه حين قال عن قاسم أمين:
وَلَكَ الْبَيَانُ الْجَزْلُ فِي أَثْنَائِهِ الْعِلْمُ الْغَزِيرْ
فِي مَطْلَبٍ خَشِنٍ كَثِي رٍ فِي مَزَالِقِهِ الْعُثُورْ
مَا بِالْكِتَابِ وَلا الْحَدِي ثِ إِذَا ذَكَرْتَهُمَا نَكِيرْ
حَتَّى لَنَسْأَلُ هَلْ تَغَا رُ عَلَى الْعَقَائِدِ أَمْ تُغِيرْ(/6)
كان قاسم أمين بكتابَيْهِ هُو أوَّلَ مَن أثار القضيَّة؛ بل هُوَ أوَّلُ مَنْ أوْجَدَها من العَدَم، وكان أُسْلُوبُه في ذلك هو الأسلوب الذي عُرِف وتكرَّر بعد ذلك في كُلِّ ما يَهْدُف إلى تحريف شريعة هذه الأُمَّة، ونَقْلِها عن جِبِلَّتها، وتَمْيِيع شخصيتها، وإِفْساد كِيانها وتفريقها فيما جمعها الله عليه وألَّف بين قلوبها فيه؛ يعتمد هذا الأسلوب على اختلاق قضايا لا حقيقةَ لها، وافتعالِ مشاكلَ يَتَوَهَّمُون وُجُودها تحت أسماء خَلاَّبة برَّاقة؛ كالنهضة؛ والتحرُّر؛ والتطوُّر؛ ومُتابعة رَكْبِ الحياة؛ وهي موضوعات مُنوَّعة تشمل الحياة في شتى نواحيها، يخترعونها ثم يُهَوِّلون من شأنها، ويُكْثِرون منَ الأخذ والرَّدِّ، وطَرْحِ وِجْهات النظر حولَها في الصُّحُف، وفي مختلِفِ وسائل الإعلام وأجهزته؛ حتى يَلْفِتُوا أنظارَ الناس لها، وتُصبِح أمرًا واقعًا، وحقيقةً ماثلةً بعد أن لم تكن، وينشأ جيل من الناس مَرِنَتْ أُذُنُهُ منذ وَعَى على سماع المُناقَشَات حول هذه الموضوعات، فيتوَهَّم أنَّها مشكلاتٌ حقيقة لا بد لها من حَلٍّ، ويتَّجِه في أغلب الأحيان – كما جرت عادة الناس – إلى الحلِّ الوَسَط الذي يُرْضِي الطرفينِ المتخاصِمَيْنِ حَسَبَ وَهْمِهِ، والخاسر في حقيقة الأمر هو صاحب الحقِّ، والربح كلُّه للباطل وأصحابه؛ لأنَّهم يَمْضون في اتخاذ هذا الأسلوب نفسه جيلاً بعد جيل حتى يبلغوا ما يريدون.
وسأحاول فيما يلي من أحاديثَ أن أُوَضِّح بعض جوانب الموضوع في وجهينِ من أبرز وجوهه، وهما الاختلاط، واشتغال المرأة بالأعمال العامة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/7)
العنوان: تحريم الوصية لبعض الورثة
رقم المقالة: 750
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي من علينا بالأموال وجعلها قياما للناس في مصالح الدنيا والدين ونظم لهم اكتسابها وتصريفها والتصرف فيها تنظيماً عادلاً مستقيماً لا يضاهيه شيء من النظم والقوانين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ملك يوم الدين، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى على جميع الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما خولكم من هذه الأموال واتخذوها قربة لكم إلى الكبير المتعال، عباد الله لقد نظم لكم ربكم التصرف في هذه الأموال اكتسابا وتصريفا فبين لكم كيف تكسبونها وكيف تتصرفون فيها وتصرفونها، نظم ذلك لكم في حياتكم وبعد مماتكم. ففي حياة الإنسان يستطيع الحر المكلف الرشيد أن يتصرف في ماله بيعا وشراء وإجارة ورهنا ووقفا وهبة ووصية على حسب الحدود الشرعية التي بينها الشارع، وذلك معلوم ولله الحمد.(/1)
وبعد ممات الإنسان حفظ الله له المال بأن يتولى قسمه بنفسه على أولى الناس به ففرض المواريث وقسمها وقال {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:11] وأخبر أن هذه حدوده وقال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14] وقال نبيه - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث))، فلا يجوز لأحد أن يوصي لبعض ورثته دون بعض لا بشيء من أعيان المال ولا بشيء من منافعه وغلاته. فلو أراد أحد أن يوصي لبعض الورثة بدراهم أو عقار لكان جائرا في الوصية ولم يجز تنفيذها إلا بإجازة بقية الورثة المرشدين، وكذلك لا يجوز أن يوصي لبعض ورثته بأجرة شيء من عقاره أو مغله سواء أوصى له بذلك دائماً أو مدة معينة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وصية لوارث)) وقد أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وأن الوصية للوارث حرام، وفي الحديث ((أن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار)). أيها المسلمون إنني أحب أن أتعرض في خطبتي هذه لموضوع لم يسبق أن تعرضنا له وأطبقه على ضوء هذه النصوص وهو ما كان يعتاده بعض الناس من الوصية بوقف شيء من ماله وتخصيصه بأولاده وذريته من بين سائر الورثة، نريد أن نطبق هذا العمل على النصوص الشرعية فننظر في حكمه ثم ننظر في فوائده الاجتماعية هل فيه فائدة للموقوف عليهم أو هو إلى الضرر والمفاسد أقرب؟ فبالنظر إلى النصوص الشرعية لا شك أن الوصية بوقف شيء من المال على بعض الورثة داخل في قوله - صلى الله(/2)
عليه وسلم - ((لا وصية لوارث))، فإذا كان لا يجوز أن يوصي لبعض الورثة بسكنى شيء أو استثمار شيء من عقاره لمدة سنة، فكيف يجوز أن يوصي له بما يقتضي سكنى الدار واستثمار العقار دائماً وأبداً، وإذا كان الله تعالى قد فرض للورثة ومن جملتهم أولادك الذين خصصتهم بالوصية بالوقف عليهم، إذا كان الله تعالى قد فرض لكل وارث حقه ونصيبه فكيف يجوز أن توصي لأولادك بوقف شيء من مالك عليهم؟ ألم يكن هذا تعدياً لحدود الله واقتطاعاً من حق بعض الورثة لورثة آخرين؟ وهذا معناه الجور في الوصية والمضارة للورثة إذا. فإذا قال الإنسان أوصيت بثلثي أو ببيتي أو بعقاري يكون وقفا على أولادي، وله ورثة غير الأولاد، فهذه وصية لوارث وتعد لحدود الله فيكون حراماً. قال شيخنا عبد الرحمن السعدي: لا يحل لأحد أن يوقف وقفا يتضمن المحرم، والظلم بأن يكون وقفه مشتملا على تخصيص أحد الورثة دون الآخرين، ثم قال: فإن العبد ليس له أن يتصرف في ماله بمقتضى شهوته النفسية وهواه، بل عليه أن لا يخالف الشرع ولا يخرج عن العدل، هذا كلامه في كتاب المختارات الجلية. وقال في كتاب آخر كتاب الإرشاد: أن أعظم مقاصد الوقف أن يكون معينا على البر والتقوى فيعلم من هذا أن الأوقاف التي يقصد بها حرمان بعض الورثة منافية لمقصود الوقف كل المنافاة، وأن وقف ثلث مال الإنسان على بعض ورثته مخالف لهذا الشرط ومناف لما انعقد عليه الإجماع من أن لا وصية لوارث. انتهى.
إذن، فهذا العمل من الناحية الشرعية حرام ومعصية لله ورسوله وتعد لحدوده، ويبقى النظر إليه من الناحية الاجتماعية ففيه مضار:
1 - الظلم والجور، وضرر الظلم والجور ليس على فاعله فحسب بل على جميع الناس.
2 - حرمان الورثة الخارجين من هذا الوقف من حقهم الثابت في التركة.(/3)
3 - إلقاء العداوة بين الموقوف عليهم فكم حصل بين الذرية من الخصومة والتقاطع والتشاتم والمرافعات إلى الحكام بسبب هذه الأوقاف، ولو ترك المال لهم حرا لتمكنوا من الانفصال بعضهم عن بعض ببيع أو غيره، أو لو أبعد الوقف عنهم وكان على أعمال بر عامة من مساجد وإصلاح طرق وتعليم علم وطبع كتب نافعة وإطعام مساكين وكسوتهم وإعانة معسر وسقي ماء وغيره من المصالح لكان أنفع للواقف وأبرأ لذمته.
4 - أن هذا الوقف إن كان بيد ورع تعب منه من النظر عليه وتصريفه ومواجهة مستحقيه وكونهم إن لم يخاصموه نظروا إليه نظرة غضب وكأنه ظالم لهم، أما إن كان بيد جشع أهلكه وأكله.
5 - أن في هذا الوقف دمارا وإتلافا للأموال، فإن بعض المستحقين له لا يهمهم إصلاحه وإنما يهمهم أن يستغلوه حتى يستنفذوه، وإن تضرر الوقف وتلف على من بعدهم فيتعلق في ذممهم حتى للواقف وحقوق لمن بعدهم من الموقوف عليهم. هذه خمسة مفاسد مع المفسدة الشرعية وهي عصيان لله وعصيان رسوله وتعدي الحدود الشرعية. والمتأمل يجد فيه أكثر من هذا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: تحليلُ الأعمال والوظائف
رقم المقالة: 1769
صاحب المقالة: محمود حسين عيسى
-----------------------------------------
تحليلُ الأعمال والوظائف
أبعاد تحليل الأعمال والوظائف
مقدمة:
هناك الكثير من الطرق والمداخل، والأساليب والوسائل الإدارية الهامة التي تأخذ بها الإداراتُ الناجحة في منظمات الأعمال، والشركات، والمؤسسات. وإن إدارة الموارد البشرية، وهي من الإدارات الهامة والرئيسة في منظمة الأعمال، تأخذ بأسلوب "تحليل الأعمال والوظائف" وتجعله من أحد مهامها الرئيسة.
وأسلوب أو وظيفة أو مجال التحليل الشامل والدقيق للوظائف والأعمال يوفر لإدارة المنظمة البياناتِ والمعلوماتِ الهامة والدقيقة عن واجبات ومسؤوليات الوظائف والأعمال، ومدى الحاجة إلى تطوير وتحسين الوظائف والأعمال القائمة، أو إنشاء وظائف جديدة تتطلبها المرحلة الراهنة، أو إلغاء وظائف قائمة لم تعد تواكب متطلبات العصر، ولم تعد كافية للمنظمة، بحيث تؤهلها لتحمل تبعات وتحديات المنافسة الشديدة في الأسواق، وهذا كله من شأنه مساعدة الإدارة في إدارة مواردها البشرية إدارة ناجحة وفعالة.
تحليل الأعمال والوظائف من المهام الرئيسة لإدارة الموارد البشرية:
إنَّ من المهام الرئيسة لإدارة الموارد البشرية –بعد إنجازِها عمليةَ تصميم وهيكلة الوظائف والأعمال– القيامَ بتحليل لهذه الأعمال والوظائف، ولكي تتمكن إدارة الموارد البشرية من تحليل الأعمال والوظائف داخل المنظمة يجب عليها أن تحدد أبعاد تحليل الأعمال والوظائف؛ وذلك من خلال الآتي:
أولاً: مفهوم تحليل الأعمال والوظائف.
ثانياً: مجالات استخدام نتائج تحليل الأعمال والوظائف.
ثالثا: مسوغات تحليل الأعمال والوظائف.
أولاً: مفهوم تحليل الأعمال والوظائف:(/1)
تقوم إدارة الموارد البشرية -من خلال عملية تحليل الأعمال والوظائف- بجمع الكثير من البيانات، والمعلومات، والحقائق المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بطبيعة الوظائف والأعمال داخل المنظمة، ومن ثم تحليلها، وتوصيفها، وتلخيصها، وتدوينها في جداول أو قوائم يبين من خلالها مهام، وواجبات ومسؤوليات، وصلاحيات، والمخاطر التي قد تواجهها هذه الأعمال والوظائف، بل وتحديد البيئة التي ستمارَس من خلالها الأعمالُ والوظائف محل التحليل، ويبين أيضاً في تلك القوائم المختصرة ماهية المعارف والقدرات، والمهارات والكفاءات اللازم توافرُها في الموارد البشرية التي ستمارس هذه الأعمال والوظائف، بما يضمن في النهاية جودةً عالية في الأداء يترتبُ عليها جودةٌ عالية مطلوبة في المنتجات والخدمات التي تقدمها المنظمة.
وبناء على ما تقدم يمكننا القول:
إن نتائج عملية التحليل للأعمال والوظائف لها أهمية كبرى في عملية إدارة وتنمية الموارد البشرية، فهي تساعد على:
1- تحقيق المعرفة الواضحة للعنصر البشري المكلف بشغل وظيفة ما؛ من خلال تحديد واضح المعالم للمهام المطلوب منه القيامُ بها؛ نحو إنجاز مهام هذه الوظيفة، وكيفية إنجاز هذه المهام بكفاءة وفعالية.
2- تحقيق المعرفة الشاملة للمديرين والمشرفين بالمهام والطبيعة التي تكتنفها الأعمال المكلفون بمتابعتها والإشراف عليها، وهذا يمكنهم –بلا شك– من تحديد الآلية والكيفية التي ينتهجونها في توجيه مرؤوسيهم نحو الأداء الأفضل لأعمالهم، مما يؤدي إلى تحقيق النجاح المنشود من وراء هذه الأعمال.
3- مساعدة إدارة الموارد البشرية في تحديد العناصر أو الموارد البشرية المناسبة لشغل الأعمال والوظائف داخل المنظمة.
ويمكننا القول أيضاً -بطريقة أكثر تفصيلاً -:
إن قيام إدارة الموارد البشرية بتحليل المعلومات التي يتم جمعُها عن الأعمال والوظائف داخل المنظمة، يمكّنها – إدارة الموارد البشرية – من الوصول إلى نتائج هامة، منها:(/2)
1- وصف الأعمال والوظائف داخل المنظمة وصفاً دقيقاً (Job description):
تقوم إدارة الموارد البشرية بتحديد وتوصيف كل عمل ووظيفة داخل المنظمة من خلال الجوانب الآتية:
1) الأهداف التي تريد المنظمة تحقيقها من وراء كل وظيفة.
2) الصفات الخاصة (ذهنية، وجسدية، وفكرية) المطلوبُ توافرُها في العنصر أو المورد البشري شاغل الوظيفة.
3) البيئة التي تؤدَّى من خلالها الوظيفةُ داخل المنظمة، وتشمل الظروفَ الاجتماعية، والصحية والنفسية... إلخ.
4) معايير ومقاييس الأداء المرغوبة من قبل المنظمة، والمطلوب تحقيقُها من العمل أو الوظيفة.
5) الواجبات والمسؤوليات المترتبة على العمل والوظيفة.
6) السمات الخاصة بأداء العمل والوظيفة.
7) المخاطر التي قد تتعرض لها الوظيفةُ أو العمل.
8) مكان وزمان أداء وإنجاز العمل والوظيفة.
9) وضعية الوظيفة داخل المنظمة، وعلاقتها مع الوظائف الأخرى.
2- معايير أداء العمل والوظيفة داخل المنظمة (Job performance standers):(/3)
يقوم المسؤول عن التحليل داخل إدارة الموارد البشرية بتحليل المعلومات التي جمعها عن الوظائف والأعمال، ثم تضع إدارة الموارد البشرية مجموعةً من المعايير القياسية لأداء الأعمال والوظائف، وهذه المعاييرُ تمثل الحد الأدنى المقبول للأداء من قبل الموارد أو العناصر البشرية المسؤولة والممارسة للأعمال والوظائف، وتساعد هذه المجموعة من المعايير القياسية في عملية تقدير مستويات أداء الموارد أو العناصر البشرية، وتحديد كفاءتهم، ومهاراتهم الحقيقية، ومعارفهم الفعلية لمهام وظائفهم وأعمالهم، ومن ثم تحديد البرامج التدريبية التي تصقل هذه المهارات، وترفع من مستويات خبراتهم، كما تساعد معايير الأداء أيضاً في تحديد التعويضات والمكافآت المعنوية والمادية للموارد البشرية، من ترقيات، وحوافز مالية، وزيادة في الرواتب والأجور... إلخ إذ توفر المعاييرُ الأسسَ التي تستند إليها إدارة الموارد البشرية في عملية القياس الموازن للأداء الفعلي بالأداء القياسي للموارد البشرية.
3- محددات الوظائف والأعمال داخل منظمة الأعمال (Job specifications):
ويقصد بمحددات الوظائف والأعمال: السماتُ والخصائصُ التي يتصف بها الموردُ البشري، والتي تتطلبها الوظيفةُ أو العمل، إذ تقوم إدارة الموارد البشرية من خلال ممارستها لوظيفة تحليل الأعمال والوظائف، بتحديد شروط ومواصفات تتطلبها الوظيفةُ يجب توافرها في المورد البشري الذي سيشغلها، ومن هذه الشروط –على سبيل المثال– المؤهل العلمي، الخبرات، الدورات التدريبية المتخصصة، المهارات، الجنس... إلخ، وفي بعض الوظائف تتطلب اللياقة الطبية، وهكذا.
وبعد أن أوضحنا مفهومَ تحليل الأعمال والوظائف نستطيع أن نقول:(/4)
إن عملية تحليل الأعمال والوظائف، عملية وصفية، تصف طبيعة الوظيفة، بغير أن تتطرق إلى وصف ما يجب أن يكون عليه شاغل الوظيفة من أداء، إذ إن تحديد ما يجب أن يكون عليه أداء شاغل الوظيفة حدد في مرحلة سابقة وهي مرحلة تصميم وهيكلة الوظائف والأعمال.
ثانياً: مجالات استخدام نتائج تحليل الأعمال والوظائف في منظمة الأعمال:
تتلخص نتائج تحليل الأعمال والوظائف -التي حددناها فيما ذكرناه آنفاً- في:
1- وصف الأعمال والوظائف وصفاً دقيقاً.
2- معايير أداء العمل أو الوظيفة داخل المنظمة.
3- محددات الأعمال والوظائف داخل المنظمة.
وهذه النتائج تعد من أهم الأعمدة التي ترتكز عليها إدارةُ الموارد البشرية حين تمارس وظائفها الأخرى داخل المنظمة، وتمثل نتائجُ التحليل أيضاً نقطةَ البداية التي تنطلقُ منها إدارةُ الموارد البشرية نحو تنفيذ وممارسة مجالاتها ووظائفها.
إن ممارسة إدارة الموارد البشرية لإحدى وظائفها الرئيسة وهي تحليل الأعمال والوظائف، واستخلاص نتائج هذا التحليل، واستخدام إدارة الموارد البشرية لهذه النتائج عند قيامها وممارستها لوظائفها ومجالاتها الأخرى، يبين لنا – هذا الاستخدام – مدى العلاقة القوية التي تربط بين وظيفة التحليل والوظائف الأخرى لإدارة الموارد البشرية، ويمكننا توضيح ذلك بشيء أكثر تفصيلاً فيما يأتي:
1) مجال (وظيفة) تخطيط الموارد البشرية (وهي وظيفة رئيسة من وظائف إدارة الموارد البشرية):(/5)
إن الهدف الأهم لإدارة الموارد البشرية من وراء ممارستِها وظيفةَ تخطيط الموارد البشرية، هو تقدير احتياجات الشركة أو المنظمة من الموارد البشرية، ويشمل هذا التقديرُ أعدادَ الموارد البشرية، ومواصفاتها، ومؤهلاتها، وتخصصاتها، ونوعها، وأعمارها... إلخ، ولن تستطيع إدارةُ الموارد البشرية ممارسةَ وظيفة التخطيط هذه، بغير توافر البيانات والمعلومات، والمعرفة الكاملة لطبيعة وكنه، وماهية أعمال ووظائف الشركة أو المنظمة، وحجم واجباتها، ومسؤولياتها، وصلاحياتها، وحجم المخاطر التي قد تتعرض لها داخل الشركة أو المنظمة، وهذه البيانات وتلك المعلومات توفرها وظيفة تحليل الأعمال والوظائف، وتعتمد عليها وظيفة تخطيط الأعمال والوظائف، وتتمكن من خلالها من التقدير الحاجة بدقة إلى الأعمال والوظائف من الموارد البشرية من حيث أعدادها، وتخصصاتها، وأنواعها، وهذا الاعتماد يبين لنا أهمية نتائج تحليل الأعمال والوظائف لعملية التخطيط، إذ لا يمكن لعملية التخطيط أن تحقق النجاح المطلوب منها بغير اللجوء والاعتماد على هذه النتائج.
2- مجال (وظيفة) اختيار وتعيين الموارد البشرية:
تبين نتائجُ تحليل الأعمال والوظائف –وهذا أمر ضروري، ومسلّم به– المواصفات والمهارات المطلوبِ توافرُها، لكي تؤدى هذه الأعمال والوظائف بالطريقة المرغوبة، وهذه المواصفات وتلك المهارات يجب أن تتصف بها المواردُ البشرية التي سوف تشغل هذه الأعمال والوظائف، فتقع هذه المواصفات وتلك المهارات –وهي من نتائج تحليل الأعمال والوظائف– موقع المرجعية أو المعايير التي تلجأ إليها إدارة الموارد البشرية عند ممارستها وظيفة الاختيار والتعيين. فعلى أساس هذه المعايير تقوم إدارة الموارد البشرية بانتقاء واختيار ثم تعيين أنسب وأفضل العناصر البشرية المتقدمة لشغل الأعمال والوظائف داخل المنظمة أو الشركة.
3- مجال (وظيفة) استقطاب الموارد البشرية:(/6)
تحتاج إدارة الموارد البشرية -حين ممارسة وظيفة الاستقطاب- إلى نتائج تحليل الأعمال والوظائف، والتي توفر لها المعرفة الكاملة والدقيقة عن خصائص ومواصفات الموارد البشرية التي تحتاجها المنظمة، فمن مسؤوليات وظيفة الاستقطاب جذب الموارد البشرية المتاحة في سوق العمل، وترغيبها في الالتحاق بالعمل في المنظمة، وتستعين في ذلك بخطط مدروسة، مبنية على بيانات ومعلومات دقيقة –توفرها لها نتائج تحليل الأعمال والوظائف- تبين فيها الأعداد والتخصصات، والمواصفات التي يحتاجها تنفيذ الأعمال والوظائف داخل المنظمة وفقاً للمسؤوليات والواجبات والصلاحيات المحددة، وتساعد نتائج تحليل الأعمال والوظائف وظيفة الاستقطاب في أداء دورها المنوط بها والمطلوب منها أن تحققه، إذ تساعدها في تحديد ومعرفة وماهية الموارد البشرية المراد استقطابها، وأين توجد هذه الموارد في سوق أو أسواق العمل.
4- مجال (وظيفة) تدريب وتنمية الموارد البشرية:
إن نتائج تحليل الأعمال والوظائف تحدد ما يجب أداؤه من قبل الموارد البشرية التي ستشغل هذه الأعمال والوظائف، أو من قبل الموارد البشرية القائمة على رأس العمل في المنظمة، لكي يحققوا أهداف المنظمة، ونتائج هذا التحليل تساعد إدارة الموارد البشرية في أداء وظيفة التدريب والتنمية؛ إذ تمدها بالمعرفة الدقيقة عما يجب أداؤه في كل عمل أو وظيفة من أعمال ووظائف المنظمة، وكيفية أداء هذه الأعمال والوظائف بفاعلية وكفاءة، ومن هنا تتمكن إدارة الموارد البشرية من خلال ممارستها وظيفة التدريب والتنمية من وضع البرامج التدريبية التي تزيد من خبرات ومهارات الموارد البشرية، ووضع خطط التنمية التي تزيد من معارف هذه الموارد البشرية، لكي تتمكن من أداء أعمالها بكفاءة وفاعلية، ومن ثم تحقيق رسالة، وأهداف المنظمة.
5- مجال (وظيفة) تقدير أداء الموارد البشرية:(/7)
إن نتائج تحليل الأعمال والوظائف تُتخذ معاييرَ أداءٍ –كما بينا سابقًا– ومن ثم فهي تُعد مرجعيةً يُقاس عليها الأداءُ الفعلي للموارد البشرية داخل المنظمة، ومن ثم فإن إدارة الموارد البشرية تعتمد على هذه النتائج عند ممارسة وظيفة تقدير أداء الموارد البشرية، وقياس الانحراف ما بين المعايير والأداء الفعلي للموارد البشرية، ومن ثم تقف إدارة الموارد البشرية على حقيقة كفاءة أداء وإنجاز الموارد البشرية الممارسة للأعمال والوظائف داخل المنظمة.
6- مجال (وظيفة) التعويضات المالية للموارد البشرية:
توفر نتائج تحليل الأعمال والوظائف القاعدة التي تعتمد عليها إدارة الموارد البشرية عند قيامها بأداء مهام وظيفة تحديد التعويضات المالية التي ستمنح للموارد البشرية، فنتائج الأعمال توفر معلومات كاملة ودقيقة عن خصائص، ومسؤوليات، ومهام ومخاطر الوظائف والأعمال التي ستمارسها الموارد البشرية داخل المنظمة، وما تتطلبه هذه المهام والمسؤوليات من جهد متفاوت، ومخاطر متنوعة، تتحملها الموارد البشرية، ومن الطبيعي لكي تحقق إدارة الموارد البشرية العدالة في التعويضات المالية أن تكون مبنية على معلومات دقيقة، وهذه المعلومات توفرها نتائج تحليل الأعمال والوظائف.
7- مجال (وظيفة) سلامة وصحة الموارد البشرية في مكان العمل:(/8)
توفر نتائج تحليل الأعمال والوظائف بيانات ومعلومات عن طبيعة العمل أو الوظيفة وما تحتويه من مخاطر قد تتعرض لها داخل المنظمة، ومن المعروف أنَّ من مهام ووظائف إدارة الموارد البشرية تحقيقَ السلامة والصحة للموارد البشرية داخل المنظمة، ومن ثم فهي تعتمد اعتمادًا كبيرًا عند تخطيطها لبرامج الحماية والسلامة والصحة –بهدف توفير الأمان الكامل، أو على الأقل تفادي المخاطر- على ما توفره نتائج تحليل الأعمال والوظائف من وصف شامل ودقيق لطبيعة المخاطر التي تكتنف الوظيفة أو العمل، والتي قد تتعرض لها الموارد البشرية في أثناء قيامها بأداء واجباتها العملية داخل المنظمة.
8- مجال (وظيفة) تخطيط المسارات الوظيفية للموارد البشرية في المنظمة:
إنَّ من المهام والوظائف الرئيسة لإدارة الموارد البشرية وضعَ الخطط اللازمة لتحديد المسارات الوظيفية، والتي ينبني على ضوئها تحديد الترقيات التي يمكن للموارد البشرية -العاملة داخل المنظمة– الحصول عليها، ولكي تتمكن إدارة الموارد البشرية من تحقيق النجاح والموضوعية في أدائها لوظيفة تحديد المسارات الوظيفية فعليها أن تعتمد على نتائج تحليل الأعمال والوظائف، والتي تحدد بوضوح الخصائص والسمات والشروط الخاصة بالأعمال والوظائف، والواجب توافرها في الموارد البشرية المرشحة لشغل هذه الوظائف والأعمال، فلا بد من تطبيق وإسقاط تلك الخصائص على المورد البشري المرشح لشغل الوظيفة، إذ تعد عملية الترقي عملية تعيين جديدة لهذا المورد البشري، ومن ثم فلا بد من انطباق شروط الوظيفة الجديدة وتوافقها ما يحمله من مؤهلات، وخبرات، ومهارات... إلخ.
ثالثاً: مسوغات تحليل الأعمال والوظائف داخل المنظمة:
إن عملية تحليل الأعمال والوظائف قد تقوم بها إدارة الموارد البشرية في المراحل والحالات الآتية:
1- في مرحلة تأسيس المنظمة.
2- في حالة إدخال أعمال ووظائف جديدة ومستحدثة ضمن أعمال ووظائف المنظمة الحالية.(/9)
3- في حالة تطوير أو إدخال تعديلات وتغييرات جديدة على الأعمال والوظائف القائمة في المنظمة من حيث المضمون، بما يؤدي إلى ضرورة وحتمية إدخال تعديلات وتغييرات في مواصفات القائمين والشاغلين لتلك الوظائف والأعمال.
وبالنظر إلى هذه المراحل والحالات، يمكننا القول:
إن عملية تحليل الأعمال والوظائف، لا يجب قصرها عند مرحلة التأسيس وفقط، إذ يتعارض ذلك مع سنة الكون في التغيير المستمر، فضلاً عن سنة البشر في التغيير المتواصل، وتشوقهم المستمر لكل ما هو جديد، فالمنظمة الجامدة لم يعد لها مكان اليوم، في ظل ظروف بيئية شديدة المنافسة.
ولكي تتكيف المنظمة مع بيئتها الداخلية والخارجية، فعليها أن تأخذ بسياسة التغيير المسؤولة، والمتوازنة، فطبيعة الأعمال والوظائف -بما تحمله هذه الأعمال والوظائف من مضامين، وصفات، وخصائص، وبما تفرضه من شروط ومواصفات على شاغليها، كي يتواءموا معها- وطبيعة شاغليها تتغير باستمرار، نتيجة للتغيرات التي تفرضها عليها البيئة الداخلية والخارجية والتي تعمل في ظلها، ولا تستطيع الانفصال عنها.
إن سياسة تحليل الأعمال والوظائف تعد من المهام الأساسية التي يجب على إدارة الموارد البشرية أن تتبعها بطريقة مستمرة ومتواصلة، حتى تضمن تحقيق قدر كبير من التوافق بين خصائص وسمات وصفات الوظائف والأعمال، وخصائص ومؤهلات، وخبرات الموارد البشرية القائمة والممارسة لهذه الأعمال والوظائف.
ويمكننا أن نوجز بوجه عام بعضاً من المزايا التي تقدمها نتائج تحليل الأعمال الوظائف للمنظمة فيما يلي:
1- التنظيم الإداري الكفء للمنظمة: ويتم عن طريق تقسيم العمل، وتحديد الواجبات، والمسؤوليات والسلطات الممنوحة للمسؤولين، والعمل على إيجاد التوازن الفعّال بين السلطة والمسؤولية.(/10)
2- وضع خطط وبرامج تدريبية عالية المستوى: إذ يقوم تحليل الوظائف بتحديد الفجوة بين المهارات الحالية للموظفين والمهارات المأمول والمطلوب توافرها. ومن خلال هذا التحديد تتمكن المنظمة من وضع الخطط التدريبية الصحيحة، والعالية المستوى، والمواكبة للتطورات والتغيرات الهائلة في بيئة عمل المنظمة الداخلية والخارجية، لسد هذه الفجوة.
3- التخطيط السليم للموارد البشرية داخل المنظمة.
4- التمكين من وضع نظام عادل للتعويضات والمكافآت والحوافز للموارد البشرية داخل المنظمة.
5- إعادة تصميم وتصنيف الوظائف.
6- تحسين الأداء الوظيفي.
7- اكتشاف الخلل في بيئة العمل الداخلية ومحاولة القضاء عليه، والعمل على تحسين ظروف العمل الداخلية، والخارجية في حدود الإمكانات المتاحة .
المراجع:
1- د. عمر وصفي عقيلي "إدارة الموارد البشرية المعاصرة بعدٌ استراتيجي" ط 1، 2005م، دار وائل للنشر – عمان – الأردن.
2- محمود حسين عيسى – "أهمية الاستثمار في الموارد البشرية" - دراسة.(/11)
العنوان: تحول العداء اليهوديّ النصرانيّ إلى وفاق
رقم المقالة: 1628
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].
أما بعْدُ: فإن أصدق الحديث كلام الله – تعالى - وخير الهدي هَدْي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: الصراع بين الحق والباطل صراعٌ قديم، بدأ منذ أن قال إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39 – 40].(/1)
وأقسم على ذلك بعزة الله - تعالى - فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} [ص: 82 – 83]، فأرسل الله - تعالى - الرسل، وأنزل الكتب، وبين الطريق إليه، وحذر من سُبُل الشيطان؛ فانقسمت البشرية إلى جند للرحمن ينشرون دين الله – تعالى - ويجاهدون في سبيله، ويتبعون الرسل - عليهم السلام - وجندٍ للشيطان يكذبون الرسل، ويصدون عن سبيل الله – تعالى - ويحاربون أولياءه.
إنه ابتلاء مكتوب على ذرية آدم، ينجو فيه من ينجو ممن كتبت له السعادة، ويهلك فيه من يهلك ممن كتب عليه الشقاء.
وإذا تقرر ذلك؛ فإن من الباطل شرعًا وفطرةً وقدرًا أن يجتمع الكفر والإيمان، ويتآلف الحق مع الباطل، ويتآخى جند الرحمن وجند الشيطان، وكل محاولة لذلك فمصيرها إلى الفشل.
وعداءُ المسلمين مع غيرهم سواءٌ كانوا يَهُودًا، أم نصارى، أم وثنيين هو عداءٌ بين التوحيد والشرك.. بين الإيمان والكفر .. بين الحق والباطل، وكل محاولة لإزالة هذه العداوة لن تكون إلا بإخضاع الكفر للإسلام على الدوام؛ وهذا ما يأباه الشيطان، ولن يكون قضاءً وقدرًا؛ لأن الله - تعالى - قضى أن الباطل يبقى إلى آخر الزمان؛ حتى يُجَاهِدُه أهل الحق والإيمان. أو تزال العداوة بينهما بإخضاع الإسلام للكفر، وذلك الكفر الذي ما بعده كفر؛ لأن من مقتضيات دين الإسلام علوه وارتفاعه على الكفر، وديانة أهله بالبراءة من الشرك وأهله.
وكذلك العداوة بين الديانات الأخرى - غير الإسلام - المُحَرَّف منها، والمخترع هي عداوة دينية في أغلبها؛ مبنية على اعتقادات باطلة.(/2)
وهكذا كانت العداوة بين اليهودية والنصرانية، كانت عداوة دينية، سجلها التاريخ، وصرح بها القرآن العظيم: {وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ} [البقرة: 113]، وهذه العداوة بين هاتين الأُمَّتَيْن الضَّالَّتَيْن عداوة أساسها الدين، فإن عيسى - عليه السلام - لما بُعِثَ بالنّبوَّة، حسده اليهود عليها وعلى ما أعطاه الله من الآيات، وأيَّده به من المعجزات، فكذبوه وآذوه وآذَوا أتباعه، وحاولوا قتله؛ ولكن الله - تعالى - رفعه إليه، وألقى شبهه على أحد حوارييه، فقتلوه وظنوا أنهم قتلوا المسيح - عليه السلام -: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]، ونصوص اليهود المقدسة، في كتبهم المُحَرَّفَة، ترسّخ كراهية النصارى وتلعنهم، وتحذر اليهود من معونتهم. وجاء في نص من نصوصهم: "من يفعل خيرًا للمسيحيين فلن يقوم من قبره قط".
لقد وصف اليهود نبي النصارى عيسى - عليه السلام - بأبشع الأوصاف، واتَّهَمُوه بأنواع التهم؛ كالجنون؛ والسحر؛ والنجاسة وأنه وثني وابن شهوة[1]؛ وغير ذلك من الأوصاف التي لا تليق بصالحي البشر فضلاً عن الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.(/3)
وقذفوا أمه مريم - عليها السلام - بالزنى، وقالوا عليها قولاً عظيمًا[2]؛ ولأجل ذلك فإن النصارى كرهوا اليهود كراهة دينية - ولا سيما أن النصارى يعتقدون أن اليهود قتلوا عيسى - عليه السلام - وصلبوه - وجاء في نصوص النصارى الدينية ما يدلّ على معاداتهم لليهود، فباباوات الكاثوليك - أعلى مرجعية دينية عند النصارى - قرَّروا قديمًا أن اليهود يعتبرون خطرًا على جميع شعوب العالم، وخاصَّةً الشعوب النصرانية[3]، وقال أحد كبار الرهبان النصارى: "إنَّ القوى ذاتها التي صلبت المسيح طيلة ألف وتسعمائة سنة تَسعى اليوم إلى صلب كنيسته، ثم يقرر هذا الراهب النصراني أنَّ اليهوديَّة العالميَّة التي نجحت في إذلال شعوب الأرض تترقَّب الفرصة المواتية؛ لسحق المسيحيَّة سحقًا كاملاً"[4].
أيها الإخوة: بان بما سَبَق شدَّة العَدَاوة بين المغضوب عليهم والضالين، اليهود والنصارى، والسؤال الذي لا بُدَّ من طرحه: ما الذي غير العداء اليهودي النصراني الذي هو في حقيقة الأمر عداءٌ ديني، طفحت به نصوص كل طائفة ضد الطائفة الأخرى؟!(/4)
لا بُدَّ للإجابة على هذا السُّؤال من التأكيد على أن اليَهُود والنصارى حَرَّفُوا ولا زالوا يحرّفون كتبهم، كما قال الله عنهم: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، ولذا فلا عجب أن يُحَوِّلوا نصوص العداء الديني بينهما إلى نصوص وِفاق ومَحَبَّة؛ لأنهم استمرؤوا التحريف، واعتادوا عليه. وهذا التغيير من عداوة إلى وِفَاق بدأ أيضًا بفكرة دينية على يد رجل دين وعالم باللاَّهُوت الكاثوليكي النصراني في القرن السادس عشر الميلادي[5]؛ إذ أدخل في عقيدة النصارى: أن نزول المخلص عيسى ابن مريم - عليهما السلام - من السماء لقتل المسلمين، ولمن لم يؤمن بالنصرانية من اليهود، مشروطٌ بتوطين اليهود في بيت المقدس. وسرى هذا الفكر في الأمة النصرانية التي تنتحل المذهب البُروتستانتي، وسعى الإنجليز - وهم بروتستانت - وقت استعمارهم للشام؛ لتحقيق هذه الفكرة المُخْتَرَعة عقب وعد بلفور، ثم اعترفت الأمة البروتستانتية في الغرب النصراني بهذه الدولة اليهودية التي زُرِعَت في بيت المقدس[6].
واعترض الكاثوليك على هذا التوطين؛ لأنهم يرون أن اليهود أنجاس قتلة، لا يجوز توطينهم في بلد مولد عيسى وعودته، وهم الذين قتلوه حسب اعتقادهم[7]؛ ولكن مع قوة اليهود في الغرب، وتمكّنهم الاقتصادي والإعلامي أخضعوا الكاثوليك لهذه الفكرة الخُرَافيَّة فعقد الكاثوليك مجمعهم المسكوني المشهور، وبرؤوا فيه اليهود من دم المسيح - عليه السلام[8] - وغيّروا صلاتهم التي صلوها عشرين قرنًا؛ لتَخْلُوَ من عبارات سب اليهود ولعنهم.(/5)
وبهذا يرى النصارى - خاصة طائفة البروتستانت - أنَّهم حقَّقوا مكسبًا باتخاذ اليهود - بتجميعهم في القدس - مَطِيَّة لخلاصهم، وتحقيق معجزة دينية ينتظرونها، تتلخَّص في نزول المخلص عيسى - عليه السلام - ليقتل المسلمين، ومن لم يتنصر من اليهود، كما يرى اليهود أنهم خدعوا النصارى بالتَّمكين لهم في احتلال الأرض المباركة؛ لبناء هيكل سليمان - عليه السلام - على أنقاض المسجد الأقصى، وتهيئة العالم لخروج ملك السلام، ثم ملك العالم وقتل غير اليهود.
فاليهود إذًا يمكرون بالنصارى، والنصارى يمكرون باليهود. وهذا التعاون بينهم كان لأجل ما يعتقدونه مصالح دينية مشتركة.
أسأل الله - تعالى - أن يحفظ المسلمين من شَرِّهِم ومكرهم إنه سميع مجيب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطَّارق: 15 – 17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - فإنَّ التقوى سبب لنصر الله – تعالى - وحافظ يحفظ من كيد الأعداء ومكرهم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].(/6)
أيها المؤمنون: تتفق الأمم الثلاث: المسلمون والنصارى واليهود على قدسية الأرض المباركة، ولكنْ تختلف دوافع تلك القدسية وأسبابها. كما يتفقون على أن مسرح أحداث آخر الزمان سيكون بيت المقدس وما حوله، ولكنَّهم يختلفون في تفاصيل تلك الأحداث، ونتائجها النهائية، وتنتظر الأمم الثلاث مسيحًا يخرج في آخر الزمان؛ كما قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "والأمم الثلاث تنتظر منتظرًا يخرج في آخر الزمان؛ فإنهم وعدوا به في كل ملة"[9].
ولكنهم اختلفوا فيمن يكون هذا المخلص؟ ومن يقود؟! فاليهود ينتظرون خروج ملك السلام الذي يؤمنون به، ويصنعون الأحداث؛ لتهيئة خروجه بجعل القدس عاصمة موحدة للدولة اليهودية، وقد ربطت هذه العقيدة بالصلاة اليهودية، فاليهودي في كل صلاة يقول بخشوع وابتهال: "أؤمن إيمانًا مطلقًا بقدوم المسيح، وسأبقى حتى لو تأخر أنتظره كل يوم"[10]، وهذا المنتظر الذي ينتظره اليهود ويسمونه: "ملك السلام" هو في واقع الأمر: المسيح الدجال؛ كما ذكر ذلك ابن القيم[11]، وثبت في صحيح مسلم أن سبعين ألفًا من يهود أصبهان يتبعونه[12].
ويتفق المسلمون والنصارى على نزول عيسى ابن مريم - عليه السلام - ولكن النصارى يظنون أنه سيكون معهم على غيرهم، وهو في حقيقة الأمر سيكون مع المسلمين على مَنْ سواهم؛ فيقتل الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويحكم بشريعة أخيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كما دل على ذلك القرآن الكريم، وتواترت به السنة النبوية[13].(/7)
إن هذه العقائد يعتقدها اليهود والنصارى، وحوّلوها من خيالات وأحلام إلى واقع مشاهد. إنها ليست عقائد فئة قليلة منهم ليس لها حول ولا قوة؛ كما يسوق ذلك العِلمانيون العرب؛ لينقلوا حقيقة الصراع من واقعه الديني إلى صراع تراب وأرض ووطن. إنها اعتقادات دينية عند اليهود والنصارى يعتقدها عِليةُ القوم من الزعماء والساسة والقادة وصناع القرار، ولولا هذه الاعتقادات الدينية لما هاجر يهود الغرب، وتركوا جنة أوروبا وتطوّرها إلى الشرق المتخلف حسب رأيهم، ولما خسر النصارى الأموال الطائلة لتوطين اليهود، وملء ترسانتهم بأنواع الأسلحة التقليدية والنووية؛ لحفظهم من عدو يحيط بهم من كل جانب. ولكان بالإمكان توطين اليهود في أي مكان من فردوس الغرب الواسع، فذلك أكثر أمنًا وحفظًا لهم، وأقل تكلفة وأيسر على النصارى؛ ولكن تهون الصعاب في سبيل العقائد ولو كانت عقائد محرفة، فمتى يعي من يديرون دفَّة الصراع معهم أنه صراع ديني؟!.
إن أكثرهم يعرف ذلك؛ ولكنَّهم خونة خانوا دينهم وأمتهم وأوطانهم، وخدروا جماهير الأمة بوعود السلام الكاذبة، وأحلام التعايش والمحبة الزائفة، وفي كل مرة يمدون أيديهم بالسلام يضربهم العدوّ ويهينهم ويذلهم ويستعبدهم، وهم لا زالوا يظهرون حسن النوايا بالسلام؛ حتى غدا السلام استسلامًا، وربما سيكون استعبادًا لأهل الأرض المباركة؛ حتى يكون المسلم عبدًا لليهودي الذي ضربه الله بالذلة والصغار إلا بحبل من الله، وحبل من الناس!!(/8)
ألا فاتقوا الله ربكم، وأعينوا إخوانكم في الأرض المحتلة، وفي الشيشان، وفي كشمير، وفي كل مكان يقتل فيه المسلمون، أعينوهم بصالح دعائكم فإن الدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل، وأعينوهم بفضول أموالكم فهذا حق لهم علينا: {إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].
اللهم صل على محمد وآل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
---
[1] أسس القرن التاسع عشر لهيوستن ستيوارت نشامبرلين (1/337)، والأصولية الإنجيلية لمحمد السماك (11).
[2] كما في قوله - تعالى - عنهم: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "يعني أنهم رموها بالزنى"، انظر: "تفسير ابن كثير" (1/872).
[3] مجلة: "سيفيلتا كاثوليكا" الصادرة عن الفاتيكان مرجع الكاثوليك في العالم، عن الأصولية الإنجيلية لمحمد السماك (10).
[4] انظر: "انقضاض اليهودية على المسيحية" (9).
[5] هو عالم اللاَّهوت الألماني (مارتن لوثر)، الذي اخترع عقيدة البروتستانت، وقبله لم يكن النصارى سِوى كاثوليك وهم نصارى الغرب، وأرثوذكس وهم نصارى الشرق. والكنائس النصرانية تتبع لإحدى هاتين الطائفتين؛ حتى أنشأ (مارتن) هذا المذهب الذي يقوم على تبني اليهود، واعتبارهم شعب الله المختار، وتسخير النصارى لخدمتهم، وتوطينهم في بيت المقدس، وقد قيل: "إن له أصدقاء يهود تأثر بهم في ذلك"، وقيل: "إنه عميل لليهود". والله أعلم.(/9)
[6] بلفور وزير خارجية بريطانيا، هو الذي وعد اليهود بتوطينهم في بيت المقدس عقب استعمارها من قبل الإنجليز، وبريطانيا تدين بالبروتستانتية، ودعم اليهود بعد بريطانيا أمريكا، وهي أيضًا تدين بالبروتستانتية، وفيها الأحزاب الإنجيلية المتعصبة لفكرة خلاص النصارى عن طريق توطين اليهود في فلسطين.
[7] ولذلك أرسل الفاتيكان عام 1922م مذكرة رسمية إلى عصبة الأمم ينتقد فيها فكرة إقامة وطن لليهود في فلسطين، انظر: "الصهيونية المسيحية" لمحمد السماك (25).
[8] هذا المجمع المسكوني عقد عام 1963م.
[9] "إغاثة اللهفان" (2/338).
[10] "الخلفية التوراتية" (42)
[11] "إغاثة اللهفان" (2/338).
[12] كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة))؛ أخرجه مسلم في الفتن باب في بقية من أحاديث الدجال (2944).
[13] جمع أحاديث نزول المسيح ابن مريم الشيخ المحدث محمد أنور شاه الكشميري في مجلد سماه: "التصريح بما تواتر في نزول المسيح"، وقطع بهذا التواتر غير واحد من أهل العلم، وهو من مواطن الإجماع.(/10)
العنوان: تحية رمضان
رقم المقالة: 1206
صاحب المقالة: الشيخ سعود الشريم
-----------------------------------------
أيها الناس:
لقد جاءكم شهر رمضان محيا بتحايا، تضفي إليه من الجلال جلالاً، ومن البهاء بهاءً، أتاكم رمضان يحمل الجوع والعَطَش، ترى الطعام أمامك وتشتهية نفسك، وتصل إليه يدك، ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويلهب الظمأ جوفك، والماء من حولك لاتقدر على الارتواء منه.. ويأخذ النعاس بلبك، ويداعب النوم جفنيك ..ويأتي رمضان ليوقظك لسحورك .. إنها ترادف حلقات الصبر والمصابرة.. ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((الصَّوْم نِصْفُ الصَّبْرِ))؛ رواه الترمذي ،وقال: حديث حسن.
فياسعد الصائم ..كيف ينال الأجر في ظمئة وجوعه عند من لايظلم مثقال ذرة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
لقد جاء رمضان؛ لينيب الناس فيه إلى ربهم؛ ويؤموا بيوته؛ ليعمروها بالتراويح والذكر .. تمتلئ بهم المساجد، متعبدين أو متعلمين .. والمساجد في الأقطار حفل بالعباد صفًا واحدًا مُتَراصَّة أقدامُهم وجباهُهم على الأرض؛ سواء الغني والفقير؛ والوضيع والغَطْريف.. الصعلوك والوزير والأمير .. يذلون لله فيعطيهم الله بهذه الذلة عِزَّة على الناس كلهم، إنْ حسن القَصْد واستصوب العمل .. ولا غَرْو - أيها المسلمون - إذ من ذَلَّ لله أعزَّه الله، ومن كان لله عبدًا مطيعًا جعله الله بين الناس سيدًا، ومن كان مع الله باتباع شرعه والوقوف عند أمره ونهيه كان الله معه بالنصرة والتوفيق والغفران.(/1)
وبذلك - عباد الله ساد - أجدادنا الناس.. وحازوا المجد من أطرافه، وأقاموا دولة ما عرف التاريخ أنبل منها، ولا أفضل ولا أكرم ولا أعدل، فماذا بعد الحق إلا الضلال.. نعم لم يكونوا خواء؛ بل إنهم يُذكَرون إذا ذُكِر رمضان، ويُذكر رمضان إن ذُكِروا فيه نزل القرآن على سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - وهو لعمر الله حياة الناس عند الموت ونورهم عند الظلمة.
وفي رمضان.. نصر الله المؤمنين ببدر وهو أَذِلَّة..وسماه يوم الفرقان يوم الْتَقَى الجمعان.. وفي رمضان فُتحت مكة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - فَطَهَّرها من وساوس الوثنية ..وأزاح منها كل قوى التقهقر والشرك .. وفي رمضان يفتح الله على خالد بن الوليد في اليَرْموك، وعلى سعد في القادسية، وعلى طارق بن زياد في الأندلس عند نهر لكة، وعلى الملك قطز والظاهر بيبرس ضد جحافل التتار، فقُطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين .. وكذا حطين وجلولاء ..ورمضان فيه وفيه وفيه .. هذا هو رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم، وعلو الروح، وعظمة النفس، ورضاء الله قبل كل شئ وبعده.
رمضان - أيها الناس- شهر الحب، والوِئَام فكونوا أوسع صدرًا، وأندى لسانًا، وأبعد عن المُخَاصَمَة والشر.. وإذا رأيتم من أهليكم زلة فيه فاحتملوها، وإن وجدتم فُرجة فسدوها واصبروا عليها، وإن بادأكم أحد بالخصام فلا تقابلوه بمثله؛ بل ليقل أحدكم: إني صائم . وإلا فكيف يرجو من يمقت ذلك أن يكون له ثواب الصائمين، وهو قد صام عن الطعام الحلال، وأفطر على ماسواه من الحرام. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوْرِ، والعَمَل به فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابهُ))؛ رواه البخاري.(/2)
وإن امرأتين صامتا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكادتا أن تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعرض ثم ذُكرتا له فدعاهما، فأمرهما أن يتقيأا، فقاءتا مِلء قدح قيحًا وصديدًا ولحما عبيطًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ هاتَيْنِ صامتا عَمَّا أَحَلَّ اللهُ لهما، وأَفْطَرَتَا عَلى مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لُحُوم النَّاس))؛ رواه الإمام احمد.
فلا إله إلا الله، ما أعظم هذا الجرم! ولا إله إلا الله ما أعظمه من انتهاك لحرمة الشهر! أعاذنا الله وإياكم من ذلك.(/3)
العنوان: تخريج حديث: (أنا مدينة العلم) وبيان علله
رقم المقالة: 550
صاحب المقالة: محمد زياد بن عمر التكلة
-----------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
قال محمد زياد عُفي عنه:
رُوي هذا الحديث عن ابن عباس، وعلي، وجابر بن عبدالله، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود، وعن عدة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين.
فأما حديث ابن عباس:
فيُروى من طرق عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا، وهذا بيانها:
الطريق الأولى: عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير عن الأعمش به، ورواه عن أبي معاوية جماعة:
1) أبو الصلت عبدالسلام بن صالح الهروي عنه: أخرجه ابن محرز في معرفة الرجال (2/242) وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (ص105 مسند علي) والطبراني في الكبير (11/65-66) وابن عدي (5/67) والحاكم (127-126/3) وابن عبدالبر في الاستيعاب (ذكره ابن حجر في أجوبة أحاديث المصابيح (1789/3) والذي في مطبوعة الاستيعاب 8/155 أو 3/38 دون إسناد) والخطيب (11/48 و49) وابن المغازلي في المناقب (121 و123 و124) وأبوالخير الطالقاني في الأربعين المنتقاة (30) وأخطب خوارزم في المناقب (69) وفي مقتل الحسين (24) وابن عساكر (380/4) وابن الجوزي في الموضوعات (1/351) وابن الأثير في أسد الغابة (4/109) وابن حمويه الجويني في فرائد السمطين (كما في نفحات الأزهار وحاشيته 10/181) والمزي في تهذيب الكمال (18/77) والذهبي في تذكرة الحفاظ (4/1231) من طرق عنه.
وهذا أشهر مخارج الحديث، بل الحديث معروفٌ بأبي الصلت كما نصّ جماعة من الحفاظ، منهم: مطيّن، وابن حبان، وابن عدي، والدارقطني، وابن عساكر.
وهذا ضعيف جداً، فأبوالصلت رافضيٌّ منكر الحديث، واتهمه غير واحد بالكذب، بل صرَّح العقيلي وابن طاهر وابن الجوزي أنه كذاب، وقال بعض الأئمة فيه: هو أكذب من روث حمار الدجال!
* وهذه بعض أقوال أهل العلم في حديث أبي الصلت هذا:(/1)
فقال المروذي في العلل (308 ومن طريقه الخطيب 11/48): سئل أبوعبدالله [يعني الإمام أحمد] عن أبي الصلت، فقال: روى أحاديث مناكير. قيل له: روى حديث مجاهد عن علي: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"؟ قال: ما سمعنا بهذا! قيل له: هذا الذي تنكر عليه؟ قال: غير هذا، أما هذا فما سمعنا به! وروى عن عبدالرزاق أحاديث لا نعرفها ولم نسمعها!
وقال الخلال في العلل (120 منتخبه): أخبرنا محمد بن علي، ثنا محمد بن أبي يحيى، قال: سألت أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها". فقال أحمد: قبح الله أبا الصلت، ذاك ذكر عن عبد الرزاق حديثا ليس له أصل.
قلت: هو بمعنى الذي قبله، والأول أصح، فإن محمد بن أبي يحيى لم أعرفه، وكذا قال الألباني في الضعيفة (6/521)، وقال: إن ابن أبي يعلى لم يذكره في طبقات الحنابلة.
وذكر الخطيب في غنية الملتمس (379) راويين بهذا الاسم، وهما متقدمان عن هذا، وليس هو محمد بن أبي يحيى الزهري الأصبهاني المترجم في طيقات المحدثين بأصبهان (3/542) وتاريخ الإسلام (23/328)، فهذا لم يدرك الرواية عن أحمد وابن معين.
وقال أبوجعفر محمد بن عبد الله الحضرمي المعروف بمطين: لم يرو هذا الحديث عن أبي معاوية من الثقات أحد، رواه أبو الصلت فكذبوه. رواه الخطيب (7/172) ومن طريقه ابن عساكر (42/381).
وقال ابن حبان في المجروحين (2/151): هذا شيء لا أصل له، ليس من حديث ابن عباس، ولا مجاهد، ولا الأعمش، ولا أبومعاوية حدّث به، وكل من حدث بهذا المتن فإنما سرقه من أبي الصلت هذا؛ وإن أقلب إسناده.
ونقله السمعاني محتجاً به في الأنساب (5/637 الثقافية).
وقال ابن عدي (1/189): وهذا الحديث يعرف بأبي الصلت الهروي عن أبي معاوية، سرقه منه أحمد بن سلمة هذا، ومعه جماعة ضعفاء.(/2)
وقال أيضا (2/341): هذا حديث أبي الصلت الهروي عن أبي معاوية، على أنه قد حدث به غيره، وسرق منه من الضعفاء، وليس أحد ممن رواه عن أبي معاوية خير وأصدق من الحسن بن علي بن راشد، والذي ألزقه العدوي عليه.
وقال أيضا (3/412): وهذا يروي عن أبي معاوية عن الأعمش، وعن أبي معاوية يعرف بأبي الصلت الهروي عنه، وقد سرقه عن أبي الصلت جماعة ضعفاء.
وقال أيضا (5/67): والحديث لأبي الصلت عن أبي معاوية، وبه يُعرف، وعندي أن هؤلاء كلهم سرقوا منه.
وقال أيضا (5/177): وهذا الحديث في الجملة معضل عن الأعمش، ويروي عن أبي معاوية عن الأعمش، ويرويه عن أبي معاوية أبو الصلت الهروي، وقد سرقه من أبي الصلت جماعة ضعفاء.
وقال الدارقطني في تعليقاته على المجروحين (179): قيل إن أبا الصلت وضعه على أبي معاوية، وسرقه منه جماعة فحدثوا به عن أبي معاوية.. ثم سرد جماعة.
وأشار أبونعيم لنكارته بقوله عن أبي الصلت في الضعفاء (140): يروي عن حماد بن زيد وأبي معاوية وعباد بن العوام وغيرهم أحاديث منكرة.
وقال ابن عساكر في تاريخه (42/380) بعد أن سرد عدة طرق للحديث: كل هذه الروايات غير محفوظة، وهذا الحديث يُعرف بأبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي.
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ (4/1231-1232): هذا الحديث غير صحيح، وأبو الصلت هو عبد السلام متهم.
وقال ابن كثير في جامع المسانيد والسنن (مسند ابن عباس رقم 1940): عبد السلام بن صالح الهروي، وهو متروك. (وعنده تصحيف، ولعل الصواب ما أثبت).
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/114): فيه عبد السلام بن صالح الهروي، وهو ضعيف.
فهذا مما فيه النص على رواية أبي الصلت، وتأتي أقوال جملة من الحفاظ حكموا أن الحديث برمّته لا أصل له، كما يأتي مزيد إعلال لمخرج الحديث قريباً.(/3)
* إلا أن ابن معين نُقل عنه ما يفيد تمشية هذه الطريق، أو تليين القول في الحديث، على اضطراب واضح في النقول عنه، بل في بعضها تضاد، نسوقها جميعاً في هذا الموضع ثم نناقشها:
فقال ابن معين في رواية عن الدوري عنه: ثقة. هكذا روى الحاكم المستدرك (3/126-127)، بينما جاءت في رواية الخطيب (11/50 ومن طريقه ابن عساكر 42/381) من طريق الدوري أيضاً: سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت. ولم أجد ذلك في تاريخ الدوري المطبوع.
وقال ابن معين في رواية صالح بن محمد: صدوق. على ما جاء في المستدرك (1/127)، وجاءت العبارة عند الخطيب (11/50): رأيت يحيى بن معين يُحسن القول فيه.
وقال في رواية عبدالخالق بن منصور: ما أعرفه. رواها الخطيب (11/49).
وقال في رواية ابن الجنيد (ضمن سؤالاته 387 و497 ومن طريقه الخطيب 11/48-49): قد سمع، وما أعرفه بالكذب. وقال أيضا: لم يكن أبوالصلت عندنا من أهل الكذب، وهذه الأحاديث التي يرويها ما نعرفها.
وقال في رواية ابن محرز (1/79 ومن طريقه ابن عساكر 42/382): ليس ممن يكذب.
وقال في رواية حاتم بن يونس الجرجاني الحافظ (كما في السير 11/448): صدوق أحمق.
وقال في رواية عمر بن الحسن بن علي بن مالك عن أبيه عنه: ثقة صدوق إلا أنه يتشيع. رواها الخطيب (48/11) وعمر وأبوه ضعيفان.
فهذا كلامه في الرجل، وأما الحديث فقد قال في رواية عبد الخالق بن منصور الآنفة لما سئل عن رواية أبي الصلت: ما هذا الحديث بشيء.
وقال في رواية ابن الجنيد: ما سمعت به قط، وما بلغني إلا عنه. وقال في الموضع الثاني: هذه الأحاديث التي يرويها لا نعرفها.
ولما أخبر الدوري وصالح بن محمد ابنَ معين أن أبا الصلت يروي حديث أبي معاوية عن الأعمش هذا أجابهما أنه محمد بن جعفر الفيدي تابعه، وزاد عند في رواية الحاكم عن الدوري أن الفيدي ثقة مأمون.(/4)
وسأله أبومنصور يحيى بن أحمد بن زياد الشيباني الهروي (في أحاديثه عن ابن معين رقم 40، ومن طريقه الخطيب 11/49) عن حديث أبي الصلت هذا فأنكره جدا.
ورواه الخطيب في موضع آخر (11/205) من نفس الطريق، لكن لفظه: سألت يحيى بن معين عن حديث أبي معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس أنا مدينة العلم، فأنكره جدا.
وقال ابن محرز (1/79 ومن طريقه الخطيب 11/50): سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي؟ قال: ليس ممن يكذب، فقيل له في حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أنا مدينة العلم ، وعلي بابها"، فقال: هو من حديث أبي معاوية، أخبرني ابن نمير قال: حدّث به أبو معاوية قديماً ثم كف عنه. وكان أبو الصلت رجلاً موسراً، يطلب هذه الأحاديث، ويكرم المشايخ، وكانوا يحدّثونه بها.
ولما سأل ابن الجنيد ابن معين عن رواية أبي الصلت لحديث الأعمش هذا قال: ما سمعت به قط، وما بلغني إلا عنه. وقال في موضع آخر: هذه الأحاديث التي يرويها ما نعرفها.
ولما سأله القاسم بن عبد الرحمن الأنباري عن حديث أبي الصلت هذا قال: هو صحيح. رواه الخطيب (11/49) ومن طريقه ابن عساكر (42/380) والمزي (18/77).
وقال ابن معين عن رواية عمر بن إسماعيل بن مجالد الآتية: حدّث عن أبي معاوية بحديث ليس له أصل، كذبٌ عن الأعمش: عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: عليٌّ مدينة العلم، أو كلام هذا معناه. كما في العلل لعبد الله بن أحمد (3/9)، ورواه عنه بمعناه ابن أبي حاتم والعقيلي.
وقال ابن الجنيد (53 ومن طريقه الخطيب 204/11): سمعت يحيى بن معين وسئل عن عمر بن إسماعيل بن مجالد بن سعيد، فقال: كذاب، يُحدِّث أيضاً بحديث أبي معاوية عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وهذا حديث كذب ليس له أصل.(/5)
وذكر أبوزرعة في الضعفاء (520 وانظر الجرح والتعديل 6/99 وتاريخ بغداد 11/205) أنه سمع من عمر بن إسماعيل هذا الحديث، فأنكره عليه قائلا له: ولا كل هذا بمرة! ثم قال: فأتيتُ ابن معين فذكرتُ ذلك له، فقال: قل له: يا عدو الله! متى كتبت أنت هذا عن أبي معاوية؟ إنما كتبتَ أنت عن أبي معاوية ببغداد، ومتى روى هو هذا الحديث ببغداد؟
وروى الخلال (121) عن محمد بن أبي يحيى، عن ابن معين أنه قال: حدثني به ثقة: محمد بن الطفيل عن أبي معاوية.
* فهذا ما وقفنا عليه من كلام ابن معين عن الحديث وراويه أبي الصلت، وهو كما ترى مختلف جدا، وقد حاول الخطيب في تاريخه (49/11) التوفيق قائلاً: أحسب عبد الخالق سأل يحيى بن معين عن حال أبي الصلت قديما، ولم يكن يحيى إذ ذاك يعرفه، ثم عرفه بعد، فأجاب إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد عن حاله. وأما حديث الأعمش فإن أبا الصلت كان يرويه عن أبي معاوية عنه، فأنكره أحمد بن حنبل ويحيى بن معين من حديث أبي معاوية، ثم بحث يحيى عنه فوجد غير أبي الصلت قد رواه عن أبي معاوية.
وقال في توجيه تصحيح ابن معين المذكور في رواية ابن الأنباري قائلا (11/50): أراد أنه صحيح من حديث أبي معاوية، وليس بباطل، إذ قد رواه غير واحد عنه.
قلت: من الظاهر من هذه النقول أن يحيى بن معين -على إمامته وسعة معرفته وروايته- لم يكن قد سمع بالحديث في البداية، مع أنه مذكورٌ عن مجاهد، والأعمش، وأبي معاوية، وهم من هم! وكذلك الشأن مع الإمام أحمد -وهو القائل: كل حديث لا يعرفه ابن معين فليس هو بحديث - فكيف يفوتهما هذا الحديث ويظهر في القرن الثالث عند أبي الصلت؟ وعن أبي معاوية شيخ ابن معين وأحمد! ثم لما أخبر أصحابُ ابن معين شيخَهم بالحديث مستنكرين له كانت إجابته على أضرب:(/6)
أما عن الأعمش فقد نص أنه كذبٌ عليه ولا أصل له عنه وأنه لم يسمع به قط، ولم يُذكر عن ابن معين خلاف هذا بخصوص رواية الأعمش، وهذا كافٍ في الحكم على الطريق، على أن لابن معين حكماً في مسألة رواية الأعمش عن مجاهد، فقال في رواية ابن طهمان الدقاق عنه (59): الأعمش سمع من مجاهد، وكل شيء يرويه عنه لم يسمع، إنما مرسلة مُدلَّسة.
وأما عن أبي معاوية فقد صرَّح في بعض الروايات أنه لا يعرف روايته، وقال في واحدة منها إنه من حديثه الذي كفَّ عنه، على ما أخبره ابن نُمير - وفي هذا الأمر استشكال يأتي قريباً- وقال في رواية أخرى أنه حدثه ثقة عن أبي معاوية - والراوي لهذا عنه لم أجد له ترجمة- ولكن على فرض ثبوت ذلك فقد جمع الخطيب بين القولين كما تقدم، كما أن الأمر إن كان كما نقل عن ابن نُمير فهذا يلتقي مع حكم ابن معين أن الحديث كذبٌ لا أصل له عن الأعمش، فلولا أن أبا معاوية علم وهنه وأنه ليس من حديث شيخه الأعمش ما كفَّ عنه، وأشار لهذا العلامة المعلمي في حاشيته على الفوائد المجموعة للشوكاني (352)، وأما إن كان الأمر كما كان يقول ابن معين -وجماعة سواه- إنه لا يعرفه عن أبي معاوية مطلقاً فالحال أشد.
نعم، وأما ما نقل أبوزرعة عن ابن معين أن أبا معاوية لم يحدّث بهذا الحديث في بغداد فيحتمل أمرين: الأول: أن يكون قد حدّث به خارج بغداد، وهنا قد يكون أُدخل عليه في بلده الكوفة التي يكثر فيها التشيع وأخوه الوضع، أو أنه وهم ودخل عليه شيء في شيء، ثم تنبّه، وهذا قد يلتقي مع نقل ابن نمير أنه حدَّث به ثم كفَّ عنه ورجع، وقد يؤيد هذا الرواية التي فيها إثبات ابن معين لرواية الفيدي للحديث عن أبي معاوية، وكلاهما كوفي، فربما كانت عمدة ابن معين في أن أبا معاوية حدَّث به خارج بغداد، ولكن يأتي بيان حال متابعة الفيدي هذه، وأنها معلولة.(/7)
والاحتمال الثاني: أنه يُنكر حالة خاصة، فقد علم أن سماع الرجل من أبي معاوية كان ببغداد، وهي بلد ابن معين وغيره من أصحاب أبي معاوية -كالإمام أحمد- وما سمعوا قط أن شيخهم - مع شهرته وانتشار حديثه- قد حدّث بهذا الحديث، فلو كان مما حدّث بها لعلمه أصحابه فيها من باب أولى، فلا يفوت على حفاظ هذا البلد ويُغرب عليهم فيه ضعيفٌ جاءهم من خارجها! ولهذا في نفس الجواب الذي فيه نفي ابن معين أن يكون أبومعاوية حدَّث به في بغداد قال: إنه حديث كذب ولا أصل له. وهذه العبارة تقوّي هذا الاحتمال.
بقي تحرير حكم ابن معين في رواية أبي الصلت نفسه، فهو معاصر لابن معين، وتوفي بعده سنة 236، وهذا سببٌ لئلا يسبر ابن معين حديثه جيداً، إذ ليس من طبقة شيوخه، ولهذا قال في البداية إنه لا يعرفه، ولم يعرف أن هذا من أحاديثه، وكان أصحابه وتلامذته يُعلمونه بها، فظهر بذلك أن معرفة ابن معين بحال الرجل كانت قاصرة.
ثم كان أبوالصلت من خواص الخليفة المأمون وجيهاً موسراً، فضلاً عن زهده الظاهر، وقد نقل الخطيب (11/50) عن صالح بن محمد أن ابن معين كان يُحسن القول فيه، وأنه رآه عنده. ولما سأله ابن محرز عن حاله ذكر ابن معين أنه يُكرم الشيوخ ويُحسن إليهم، فهنا ابن معين هو الذي يزور أبا الصلت بنفسه، ويُجيب بهذا الجواب، فكان الأمر كما قال الحافظ الذهبي عن أبي الصلت في السير (11/447): "جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وكان هذا بارًّا بيحيى، ونحن نسمع من يحيى دائماً ونحتج بقوله في الرجال، ما لم يتبرهن لنا وهن رجل انفرد بتقويته أو قوة من وهّاه".(/8)
كما يظهر أن أبا الصلت كان يتجمل لابن معين بشكل خاص، فإنه فضلا عن إحسانه وإكرامه له: كان يكتم عنه مناكيره، يدل على ذلك أن ابن معين لم يعرف حديثه هذا إلا من غير أبي الصلت، ولا نُقل له كلام في أحاديثه المنكرة الأخرى عن آل البيت، رغم أنه يجالسه ويزوره، فهذا من دهاء أبي الصلت، فقد كان يبثّ المناكير ويُشيعها مع حرصه على إخفائها عن الأئمة كابن معين وأحمد، وأشار لهذا المعنى المعلمي في حاشية الفوائد المجموعة، ولا سيما أنه منقولٌ في ترجمة ابن معين أن المشايخ كانوا يتهيبونه ويُكرمونه ويجّلونه إجلالاً خاصًّا.
ولهذا وذاك يظهر أن ابن معين جامل أبا الصلت في الحكم على روايته، أو أنه لم تظهر له حقيقة حاله فعلاً، فكان يدافع عن أبي الصلت أنه لم يسمع الحديث منه، وأن ظاهر الرجل عنده عدم الكذب، وأن الحديث ليس من عهدته، وذلك (في أكثر الروايات) بأنه توبع، أو أن الحديث كان عند أبي معاوية فعلا.
ويظهر أن بقاء أبي الصلت حيًّا بعد يحيى واستمرار إحسانه وتستره له منع يحيى من الكلام الصريح فيه، فإجاباته لأصحابه الذين يستنكرون حديثه هذا بالذات تظهر فيها المدافعة والتحرج، فيقول حيناً: ما أعرفه! وحيناً: قد سمع، وما أعرفه بالكذب، ولم يكن عندنا من أهل الكذب، وأحياناً يجيب بجواب فيه الإدانة بشكل غير مباشر بقوله: هذه الأحاديث التي يرويها ما نعرفها!(/9)
وأما ما رُوي عنه من إطلاق توثيقه ففيه وقفة، فما نقله الحاكم عن الدوري من قول ابن معين عنه: "ثقة" ليس في تاريخ الدوري المطبوع، ولما أورده الخطيب من طريق الدوري جاءت العبارة: سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت. وهذه العبارة يُمكن أن تجتمع مع نقل صالح بن محمد أن ابن معين كان يُحسن القول فيه، خلافاً لما نقله الحاكم عن صالح بن محمد نفسه بلفظ: صدوق! فبين العبارتين فرقٌ، والحاكم له عدة أوهام ومخالفات في النقل في المستدرك عموما، وفي هذا الحديث خصوصاً، كما سبق ويأتي، ولعله تسمّح ونقل بالمعنى الذي فهمه.
وأما رواية الحسن بن علي بن مالك عن ابن معين أنه قال فيه: ثقة صدوق؛ فهي ضعيفة السند كما تقدم، وأما رواية الجرجاني عنه قوله: صدوق أحمق فإن ثبتت فتلتقي مع قوله: ما أعرفه بالكذب.
فهذا ما يتعلق بتحرير كلام ابن معين في أبي الصلت، وكله منصب في دفع جناية الحديث به، وأن الفيدي تابعه.
* لكن كان ابن معين يرتاح أكثر في الكلام على الحديث منفصلاً دون قرنه بحال أبي الصلت، فقد صرَّح في رواية عبد الخالق بن منصور: ما هذا الحديث بشيء. وفي رواية يحيى الشيباني: أنكره جداً. وفي غير رواية: ما أعرفه أو ما سمعت به قط. وسبقت رواية عبد الله بن أحمد في أنه كذب لا أصل له عن الأعمش. وأما ما نُقل عنه من تصحيحه فقد مضى توجيه الخطيب له.
فظهر بذلك أن حكم ابن معين على الحديث لا يتأثر عند التحقيق بموقفه الشخصي من أبي الصلت، وقال الألباني في الضعيفة (6/522): إن أكثر الروايات عن ابن معين تميل إلى تضعيف الحديث.(/10)
وإن أردنا الترجيح أكثر فرواية عبد الله بن أحمد (ت290) متأخرة فيما يظهر عن الرواية المذكورة عن الدوري (ت271)، ولا سيما أن الإمام أحمد أيَّد ابنَ معين في حكمه، وقد توفي أحمدُ بعد ابن معين، ولم ينقل عنه عبد الله بن أحمد تعقباً ولا تغيراً في الحكم على الحديث، وعاضدته رواية يحيى بن أحمد الشيباني عن ابن معين (ت298) - وهو من أواخر الرواة عنه - في أن الحديث منكر جداً، ولعل هذا ما استقر عليه رأي الإمام ابن معين، وبذلك يوافق سائر الحفاظ والحمد لله.
ثم لنفترض أن ابن معين يوثق أبا الصلت، فهذا مخالِفٌ لجرح سائر الحفاظ له، وكثير منهم جرحُه مفسر، بل شديد، ولا شك أن كلامهم مقدَّم، وتقدم كلام الذهبي في السير (11/447): ونحن نسمع من يحيى دائما ونحتج بقوله في الرجال ما لم يتبرهن لنا وهن رجل انفرد بتقويته أو قوة من وهاه.
كما قال الخطيب بعد إيراده لأقوال ابن معين: وقد ضعَّف جماعة من الأئمة أبا الصلت وتكلموا فيه بغير هذا الحديث. ثم سرد أقوال جماعة.
* وقبل الفراغ من تحقيق موقف ابن معين أرى التنبيه على أربع مسائل:
الأولى: ما تقدم في رواية ابن محرز عن ابن معين من قوله: هو من حديث أبي معاوية، أخبرني ابن نمير، قال: حدّث به أبو معاوية قديماً ثم كفّ عنه.
فأقول: إن هذا مخالف لسائر الحفاظ الذين أنكروه عن أبي معاوية أصلا، والنفس تتساءل: لماذا لم يكن هذا جواب ابن معين عن رواية أبي الصلت من البداية؟ فما كان أبوالصلت بحاجة إلى متابع إن كان الحديث ثابتا أصلا من حديث أبي معاوية، ثم إن ابن معين قال في رواية عمر بن إسماعيل بن مجالد عن أبي معاوية الآتية: هذا حديث كذب ليس له أصل. واستدل على كذب ابن مجالد أنه روى هذا عن أبي معاوية، فلو كان محفوظاً عند ابن معين عن أبي معاوية فلماذا يكذّبه؟ ثم إنه يتعارض مع قول ابن معين لما سئل عن حديث أبي الصلت هذا: ما بلغني إلا عنه.(/11)
فهذا يحتاج إلى تأمل، ولا سيما مع إعراض الحفاظ بعد ابن معين عن الاعتبار بكلامه هذا، والله أعلم.
وقد قال المعلمي في حاشيته في الفوائد المجموعة (ص350): قد يُقال: يحتمل أن ابن نمير ظن ظنًّا، وذلك أنه رأى ذينك الرجلين زعما أنهما سمعاه من أبي معاوية، وهما ممن سمع منه قديماً، وأكثر أصحاب أبي معاوية لا يعرفونه، فوقع في ظنه ما وقع.
الثانية: نبّه العلامة المعلّمي أن من وثّق أبا الصلت لزمه الطعن في علي بن موسى الرضا، فقد تكلم فيه ابن حبان وابن طاهر لروايته العجائب عن آبائه، ودافع الذهبي وابن حجر أن علة ذلك من الرواة عنه، ومن أشهرهم أبوالصلت، فمن مشّى أبا الصلت فقد ألزق علة تلك الأباطيل بالرضا.
الثالثة: ذكر الغماري في جزئه عن الحديث أن أبا داود قال عن أبي الصلت: كان ضابطا، ورأيتُ ابن معين عنده؛ وهذا من أخطائه الكثيرة في الحديث، فأبوداود قاله في عبد السلام بن مطهر، وليس ابن صالح الهروي راوي الحديث! نعم، هذا الوهم مذكور في ترجمة الهروي في التهذيب، ولكن الغماري شنَّع في جزئه على من قلَّد غيره في هذا الحديث، ثم قلَّد في هذا وغيره من الأوهام!
ومن أخطائه أنه عدّ رواية عبد الله بن أحمد عن أبي الصلت توثيقاً، وزعم تبعاً أن الإمام أحمد وثقه تبعاً، وكلا ذلك افتراء، فالإمام ضعّف أبا الصلت وأنكر حديثه كما تقدم، وكذا ابنه عبد الله بن أحمد تَكلم في أبي الصلت أيضاً؛ كما في ضعفاء العقيلي (3/70) وإكمال مغلطاي (8/274)! فضلا أن مجرد روايته عنه لا تلزم التوثيق، كما فصَّل الكواري في جزئه عن الحديث (ص18).(/12)
ومن أخطاء الغماري الفاحشة أنه روى الحديث بإسناده في فاتحة جزئه من طريق الذهبي في التذكرة (4/1231 دون إشارة!) من طريق أبي محمد الحسن بن أحمد السمرقندي الحافظ من هذا الوجه، ودلّس الغماري فزعم أنه رواه من كتاب بحر الأسانيد للسمرقندي، وهو لم يره، وإنما اعتمد على وصفه من قبل الذهبي، وهو بدوره نقلا عن النسفي في كتاب القند، ولم ينص الذهبي أن الحديث الذي أورده منقول من الكتاب المذكور! ولا ذكر ما يفيد أنه رآه بنفسه! وبعد أن زعم الغماري أخذه من الكتاب المذكور أوهم أن السمرقندي صححه فيه! وكرر ذلك في جزئه، وكل ذلك من الهوى، والله المستعان.
الرابعة: بالإمكان إضافة المزيد من الأئمة الذين أنكروا الحديث على أبي الصلت، وهم جل الذين سألوا ابن معين عنه، مثل: صالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة، وابن الجنيد، والدوري، وعبد الخالق بن منصور، فيتضح من سياق أسئلتهم ورواياتهم أنهم يُنكرون ويستغربون حديثه هذا بالذات، وأنهم ما سألوا يحيى عن الرجل إلا لأجل الحديث فيما يظهر، ولهذا عندما يحيى كان يجيبهم إجابة فيها تردد أو عدم معرفة له كانوا يُخبرونه أنه روى حديث كذا، ومن تأمل ظهر له ذلك.
وبعد الفراغ من رواية أبي الصلت نعود إلى سياق الطرق عن أبي معاوية:
2) محمد بن جعفر الفَيْدي عن أبي معاوية:
ذكره هذه الرواية ابن معين كما سبق، وأخرجها الحاكم (3/127) عن محمد بن أحمد بن تميم القنطري، ثنا الحسين بن فهم، ثنا محمد بن يحيى بن الضريس، ثنا محمد بن جعفر الفيدي به.
قال الحاكم: ليعلم المستفيد لهذا العلم أن الحسين بن فهم بن عبد الرحمن ثقة مأمون حافظ.(/13)
قلت: كذا قال هنا، ولكنه قال في موضع آخر: ليس بالقوي، وقال شيخه الدارقطني: ليس بالقوي. (انظر: اللسان 2/308-309)، فالظاهر أن توثيقه هنا هو أحد أخطائه الكثيرة في المستدرك، ولا ننسى ما ذكره ابن حجر أن الحاكم ألف كتابه في آخر عمره، وأنه لم يُمْلِ إلا نحو الربع من الكتاب، ثم توفي دون إملاء بقيته، وكثر في القدر الباقي التساهل والوهم، حتى إنه صحح لبعض من كذّبهم وضعّفهم في كتبه الأخرى، وهذا الحديث جاء في النصف الثاني من الكتاب.
والقنطري ليّنه ابن أبي الفوارس، وأما الفيدي فقد روى الحاكم عن الدوري عن ابن معين توثيقه كما سبق، ولكن في النفس منه، فقد رواه الخطيب (11/50) من طريق الدوري دون ذكر التوثيق، وليس في ما بين أيدينا من تاريخ الدوري المطبوع، وهذا الذي اعتمده المزي في التهذيب (18/79)، بل جاء في نقل ابن حجر عن مستدرك الحاكم في إتحاف المهرة (8/41): قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي وهو معه. والنص يحتمل التصحيف ويحتمل عدمه. كما قال عنه البزار: صالح. وذكره ابن حبان في الثقات، وهما متساهلان، بينما اتهمه الدارقطني نصًّا في تعليقاته على المجروحين (179) بسرقة هذا الحديث من أبي الصلت، وتعمُّه تهمة جماعة من الحفاظ بسرقة الحديث من أبي الصلت، وأنه لم يروه من الثقات أحد عن أبي معاوية، وقال ابن حجر في التهذيب: له أحاديث خولف فيها. وقال في التقريب: مقبول.
وكما نرى أن الكلام تعارض فيه، فذُكر بنوع توثيق - على الخلاف المذكور في ثبوته - وجُرح، وقد فُسِّر الجرح بسرقة الحديث والمخالفة، فيُقَدّم كما هي القاعدة، بل جوَّز الألباني في الضعيفة (6/524) أن يكون هو بعينه جعفر بن محمد البغدادي الذي أشار مطين لكذبه -وتأتي روايته قريباً- ولكن انقلب اسمه، فإن الفيدي كوفي نزل بغداد، وكلاهما روى عنه مطين، فإن كان هو فيتأكد الجرح الشديد في حاله.
وعلى كل حال فمع ضعف سند الحاكم وتعدد العلل فيه فإنه قد خولف:(/14)
فرواه ابن محرز في معرفة الرجال (2/242) وابن المغازلي (128) عن محمد بن جعفر الفيدي، عن محمد بن الطفيل، عن أبي معاوية به.
وهذا أقوى من رواية الحاكم، وقد كشف علة أخرى، وهي أن الفيدي لم يسمعه من أبي معاوية، بل هناك واسطة بينهما، فسقطت حجة من اعتمد على متابعة الفيدي لأبي الصلت لتبرئته.
وابن الطفيل هذا كوفي مستور، ولم أجد فيه توثيقاً معتبراً، فالظاهر أنه من المجاهيل والضعفاء الذين عمّهم الحفاظ بتهمة سرقة الحديث من أبي الصلت، أو أنه أُدخل عليه من قبل الكوفيين الشيعة -مخرج الحديث-، ولا سيما أنني لم أَرَ له عن أبي معاوية حديثاً غير هذا بعد البحث، فروايته عنه غريبة، بل رأيتُ ابن الطفيل يروي عن الأعمش عدة أحاديث بواسطة شريك وغيره، لا عن أبي معاوية (كما في المعجم الأوسط 2/275 و276 والكبير للطبراني 5/166 رقم 4970 وبحر الفوائد للكلاباذي 302 والسنة للالكائي 8/1389 وتالي تلخيص المتشابه 2/467)، والله أعلم.
نعم، رُوي أن ابن معين وثق ابن الطفيل (علل الخلال 121 منتخبه)، ولكن راويه عن ابن معين -محمد بن أبي يحيى- لا يُعرف، وتقدم الكلام عليه في الطريق السابقة، ولم يذكر التوثيق أحد من رواة ابن معين المعروفين.
3) محمد بن الطفيل عن أبي معاوية:
تقدم في الرواية السابقة.
4) جعفر بن محمد البغدادي عنه بنحوه: أخرجه الخطيب (7/172-173) -ومن طريقه ابن عساكر (42/381) وابن الجوزي (1/350)- من طريق الحافظ مطين، قال: ثنا جعفر بن محمد البغدادي أبومحمد الفقيه -وكان في لسانه شيء- حدثنا أبومعاوية به.
قول مطين عن شيخه: "وكان في لسانه شيء"؛ إشارة إلى أنه يكذب، وقد كان بعض الحفاظ إذا أراد تكذيب راو: ذَكَره وأشار بيده إلى لسانه (انظر مثلاً: الجرح والتعديل 6/168 والضعفاء لأبي زرعة 360 و362 و676)، ولا سيما وقد قال مطين آخر روايته هذه: لم يرو هذا الحديث عن أبي معاوية من الثقات أحد، رواه أبوالصلت فكذّبوه.(/15)
وقال ابن الجوزي: إن جعفر بن محمد البغدادي متهم بسرقة هذا الحديث.
وحكم الذهبي في الميزان (1/415) على هذه الرواية بالوضع.
وتقدم تجويز الإمام الألباني أن يكون جعفر هذا هو الفيدي المذكور قبل روايتين.
5) عمر بن إسماعيل بن مجالد عنه بنحوه: أخرجه العقيلي (3/150) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/99) وابن بطة في الإبانة، والخطيب (11/204) وابن عساكر (42/381) وابن الجوزي في الموضوعات (1/351).
وعمر هذا متروك، وكذبه ابن معين لحديثه هذا، وقال: حديث كذب ليس له أصل، ووافقه أحمد، والعقيلي، وابن عدي، وابن عساكر، كما أنكر حديثه أبوزرعة الرازي، وقال الدارقطني: إنه سرقه من أبي الصلت. (انظر: سؤالات ابن الجنيد 51 والعلل لعبد الله بن أحمد 3/9 والضعفاء لأبي زرعة 520-521 والكامل لابن عدي 5/67 والتعليقات على المجروحين 179 وتاريخ الخطيب).
6) أبو عبيد القاسم بن سلام، عنه: أخرجه ابن حبان في المجروحين (1/130) -ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (1/352) - عن الحسين بن إسحاق الأصبهاني، ثنا إسماعيل بن محمد بن يوسف الجبريني، عن أبي عبيد به.
وإسماعيل هذا متهم بالكذب، وحكم ابن حبان أنه ممن يقلب الأسانيد ويسرق الحديث. (انظر: اللسان 1/433)، وبه أعله ابن الجوزي.
وله طريق أخرى أردأ حالاً، فقال الدارقطني في تعليقاته على المجروحين (179): حدَّث به شيخ لأهل الري دجال، يقال له: محمد بن يوسف بن يعقوب، حدّث به عن شيخ له مجهول، عن أبي عبيد القاسم بن سلام، عن أبي معاوية.
7) الحسن بن علي بن راشد عنه بنحوه: أخرجه ابن عدي (2/341 و5/67) -ومن طريقه ابن عساكر (42/379) وابن الجوزي (1/352) - عن الحسن بن علي العدوي، عن ابن راشد.(/16)
والعدوي وضاع مشهور، وبه أعله ابن الجوزي، وقال ابن عدي في الموضع الأول: هذا حديث أبي الصلت الهروي عن أبي معاوية، على أنه قد حدث به غيره، وسرق منه من الضعفاء، وليس أحد ممن رواه عن أبي معاوية خير وأصدق من الحسن بن علي بن راشد، والذي ألزقه العدوي عليه.
وتكلم عليه ابن عدي في الموضع الثاني بمعناه.
8) إبراهيم بن موسى الرازي عنه بنحوه: رواه ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (ص105 مسند علي) عنه.
قال ابن جرير: الرازي هذا ليس بالفراء، وقال: لا أعرفه، ولا سمعت منه غير هذا الحديث.
قلت: فإن كان الراوي عنه -بل من لم نجد راويا عنه سواه- لا يعرفه فمن يعرفه؟ فهو نكرة مجهول، ويشمله اتهام الحفاظ بسرقة الحديث من أبي الصلت، وأنه لم يروه ثقة عن أبي معاوية.
وهناك احتمال –لكن فيه ضعفاً- أنه ذاك الجرجاني الذي أورد له ابن عدي حديثا منكرا عن أبي معاوية. (انظر الكامل 1/272).
9) موسى بن محمد الأنصاري الكوفي عنه: أخرجه خيثمة بن سليمان في حديثه (ص200) من طريق محفوظ بن بحر الأنطاكي، عن موسى، ولفظه: "أنا مدينة الحكمة وعلي بابها".
قلت: موسى ثقة، ولكن الراوي عنه كذّبه أبوعروبة، وضعّفه مفسَّراً ابنُ عدي وابن طاهر، وشذّ ابن حبان فقال: مستقيم الحديث. فلعله خفيت عليه حاله، ونص الذهبي في الميزان (3/444) أن هذا الحديث من بلاياه. وقال ابن العجمي في الكشف الحثيث (610): إنه من وضعه وأكاذيبه.
10) أحمد بن سلمة أبوعمرو الكوفي عنه بنحوه: أخرجه ابن عدي (1/189) ومن طريقه السهمي في تاريخ جرجان (65) وابن عساكر (142/42) وابن الجوزي (1/352).
وأحمد هذا كذاب، وقال ابن عدي: وهذا الحديث يعرف بأبي الصلت الهروي عن أبي معاوية، سرقه منه أحمد بن سلمة هذا، ومعه جماعة ضعفاء.
وقال أيضا (5/67): وحدث به أحمد بن سلمة الكوفي من ساكني جرجان، وكان متهما، عن أبي معاوية كذلك. واتهمه بسرقة هذا الحديث من أبي الصلت.(/17)
11) رجاء بن سلمة عنه بنحوه: رواه الخطيب (4/348) -ومن طريقه ابن عساكر (42/379) وابن الجوزي (351/1) - عن العتيقي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الشاهد، حدثنا أبوبكر أحمد بن فاذويه بن عزرة الطحان، حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم، حدثني رجاء به.
وهذا موضوع، فشيخ العتيقي هو أبوالقاسم الثلاج: كذابٌ وضاع.
والطحان ساق الخطيب هذا الحديث في ترجمته، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وأما شيخه فثقة.
ورجاء قال عنه ابن الجوزي: إنهم اتهموه بسرقة هذا الحديث. فإن ثبت السند إليه فالأمر كذلك، لحكم جماعة من الحفاظ أن كل من رواه عن أبي معاوية سرقه، وأنه لم يروه عنه ثقة.
12) محمود بن خداش عنه: عزاه ابن الجوزي في الموضوعات (1/352) لابن مردويه من طريق الحسن بن عثمان، عن محمود به.
ومحمود ثقة، لكن البلية من الراوي عنه، فإنه كذاب يضع الحديث، وبه أعله ابن الجوزي.
13) هشام عنه: ذكر الدارقطني في التعليقات على المجروحين (179) أن رجلا كذابا من أهل الشام رواه عن هشام، عن أبي معاوية.
ولم يسم الرجل، ولا يهم معرفة اسمه ما دام كذاباً.
فهذا ما وقفنا عليه من طرق إلى أبي معاوية، ولم يثبت إليه منها شيئ عند التحقيق، بل كلها من طريق الكذابين والمجاهيل، فالأمر كما قال الحفاظ إنه لا يثبت عن أبي معاوية، ولم يحدّث به عنه ثقة.
والحديث عزاه السخاوي في الأجوبة المرضية (2/877) لأبي الشيخ في السنة من طريق أبي معاوية به.
الطريق الثانية: سعيد بن عقبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا بنحوه:
أخرجه ابن عدي (3/412) -ومن طريقه ابن عساكر (42/380) وابن الجوزي (1/352)- عن أحمد بن حفص السعدي، نا سعيد به.
وهذا موضوع، فشيخ ابن عدي ضعيف صاحب مناكير، وقال الذهبي في الميزان (2/153): لعله اختلقه.(/18)
وسعيد هذا مظلم الأمر شديد الضعف، ويظهر أنه شيعي، فقال عنه ابن عدي: حدثنا عنه أحمد بن حفص السعدي وحده؛ عن جعفر بن محمد والأعمش بما لا يتابع عليه. سألت عنه ابن سعيد [يعني ابن عقدة] فقال: لا أعرفه في الكوفيين، ولم أسمع به قط. وكتب عني من حديثه بعضها. وأورد له ابن عدي هذا الحديث مع قصة في آل البيت، وحديث آخر عن آل البيت قال عنه: منكر الإسناد والمتن. ثم قال: وسعيد بن عقبة هذا لم يبلغني عنه من الحديث غير ما ذكرت، وهو مجهول غير ثقة.
قلت: لم أجد لسعيد ذكراً في موضع آخر، وكل من جاء بعد ابن عدي ممن كتب في الضعفاء والموضوعات فقد اعتمد على كلامه.
والقاعدة أن الراوي إذا كان شبه مجهول، وليس له إلا روايات قليلة، وهي على قلتها منكرة، ولا يتابع عليها: فإنه شديد الضعف على أقل الأحوال، وانظر مثالاً في سؤالات البرذعي لأبي زرعة (512/2) والجرح والتعديل (4/119).
أما الغماري فبتر كلام ابن عدي الطويل في السعدي وشيخه، وقال في جزئه: قال ابن عدي: سعيد بن عقبة مجهول. انتهى!
وطريقٌ غريبةٌ هذه رجالُها، وهي من الأفراد إلى القرن الرابع: لا ينبغي التردد في بطلانها.
الطريق الثالثة: عثمان بن عبدالله العثماني، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش به، بلفظ: "أنا مدينة الحكمة":
أخرجه الآجري في الشريعة (1551) - ومن طريقه محمد بن يوسف الكنجي في كفاية الطالب (58 كما في نفحات الأزهار 165/10) - وابن عدي (3/412 و5/177) وعلّقه ابن حبان في المجروحين (2/102 وانظر تعليقات الدارقطني 183).
وعلته عثمان هذا، فإنه كذاب.
وأعل الحديث ابن حبان وابن عدي.
أما عميل التتار الكنجي الرافضي فقال: هذا حديث حسن عال!
وهذا أحد الأدلة على كونه حاطب ليل، وأنه لا عبرة بأحكامه.
الطريق الرابعة: سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن الأعمش به.
قال ابن عدي (3/ 412): حدثناه عن بعض الكذابين، عن سفيان به.(/19)
وكفانا ابن عدي الحكم على هذه الرواية، على أن سفيان فيه كلام معروف.
الطريق الخامسة: عبيد الله بن موسى عن الأعمش بسياق مغاير.
أورده الديلمي في الفردوس (1/44) عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "أنا ميزان العلم، وعلي كفتاه، والحسن والحسين خيوطه، وفاطمة علاقته، والأئمة من أمتي عموده، يوزن فيه أعمال المحبين لنا والمبغضين لنا".
وأسنده ابنه في مسند الفردوس مسلسلاً (كما في ذيل الموضوعات للسيوطي 59-60 وفيه سقوط) -وعنه أخطب خوارزم في مقتل الحسين (107)- قال: أخبرني والدي، أخبرني عبد الرحيم بن محمد الفقيه بالري، وسألني أن لا أبذله، حدثنا حدثني أبوالفتح عبيد بن مردك، واستحلفني أن لا أبذله، حدثني يوسف بن عبد الله بأردبيل، واستحلفني أن لا أبذله، حدثني الحسن [خ: الحسين] بن صدقة الشيباني، واستحلفني أن لا أبذله، أخبرني أبي وسليمان بن نصر، واستحلفاني أن لا أبذله، حدثني إسحاق بن سيار، واستحلفني أن لا أبذله، حدثني عبيد الله بن موسى، واستحلفني أن لا أبذله، حدثني الأعمش، واستحلفني أن لا أبذله، حدثني مجاهد، عن ابن عباس به.
قلت: هذا ظاهر الوضع سنداً ومتناً وتسلسلاً، ومن دون عبيد الله لم أهتد لهم، فالبلاء من أحدهم، وهذا مخالف لمتن الرواية الأشهر عن الأعمش بهذا الإسناد في مدينة العلم، وحسبنا أن السيوطي - على تساهله الشديد - حكم عليه بالوضع.
كما أن الحديث ضعفه السخاوي في المقاصد (189)، ونقل عبد الباقي اللكنوي في المناهل السلسلة (ص179) عن السخاوي في مسلسلاته ما يُفيد حكمه على الحديث بالوضع، ولم أجد الحكم في موضعه من مصورتي لكتابه.(/20)
* الحاصل أنه لا يصح عن الأعمش من أي وجه، وهو منكر عنه باتفاق أئمة الحفاظ بما فيهم ابن معين، إذ لم يحدّث عنه أحدٌ من حفاظ أصحابه، وهم كثر، أما رواية أبومعاوية دونهم عن الأعمش فلا تصح كما تقدم، ولو صحَّت لم تُقبل، لأن تفرد أبي معاوية بأصل لا يُقبل من طبقته على الصحيح، كيف وهو أصلٌ منكر سندا ومتنا؟ وأنكره عنه تلميذاه أحمد وابن معين -في بعض النقول عنه-؟
ثم إن من رُوي عنه إثباته لأبي معاوية -وهو ابن معين- قد قال: أخبرني ابن نمير، قال: حدّث به أبومعاوية قديما ثم كفّ عنه. كما في معرفة الرجال لابن محرز (1/79).
قال المعلمي في حاشية الفوائد المجموعة (352): فلولا أنه عَلِم وهنه لما كفَّ عنه.
على أنا قدمنا مناقشة النقول المختلفة عن ابن معين، ورجحنا أن رأيه الأخير موافق تماماً لبقية الحفاظ، وقد حكم أبوزرعة ومطين وابن عدي وغيرهم أنه لم يروه ثقة عن أبي معاوية، وهو ما تأكد بالتخريج، ولو كان ثابتا عن أبي معاوية وأنه حدَّث به قديما لوجدنا ولو راويا واحدا ثقة رواه عنه، وهذا ما لم يوجد!
ثم إنه لو ثبت إلى الأعمش فإنه مدلس، وقد عنعن في جميع الطرق التي وقفت عليها، وروايته عن مجاهد بالذات فيها كلام كثير، وقال ابن معين -الذي يحتج ببعض قوله من يمشّي الحديث-: إن كل ما يرويه عنه لم يسمعه منه، وإنما هي مرسلة مدلَّسة.
انظر تهذيب التهذيب (197/4)، وحاشية المعلمي على الفوائد المجموعة (ص351)، وجزء تخريج حديث أنا مدينة العلم للكواري (ص9).
كما أن تفرد الكوفيين الشيعة بالحديث - وهو يؤيد غلوهم وبدعتهم، وعُرفوا بالوضع وسرقة الأحاديث لأجلها- علة بحد ذاتها، زاد عليها أن تفرد هؤلاء الكوفيين جاء عن غير أهل بلدهم، فابن عباس مكي، ومجاهد مكي، ثم لم يوجد الحديث في مكة ولا الحجاز مع كثرة الآخذين عن ابن عباس ومجاهد، وتفرد بنقله مَنْ في روايته عن مجاهد كلام كثير من الغرباء، فهذه أيضا علة قوية تطعن في الحديث.(/21)
ثم إن جماعة آخرين نصُّوا أنه لا يصح هذا الحديث من جميع طرقه ووجوهه، ويأتي ذكرهم إن شاء الله.
وروي من وجهين تالفين آخرين إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس:
الأول: ما رواه أبوعبدالغني الحسن بن علي، عن عبدالوهاب بن همام، حدثني أبي، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا مدينة الجنة، وعلي بابها، فمن أراد الجنة فليأتها من بابها".
رواه ابن المغازلي (127) والطوسي الرافضي في أماليه (1193) كلاهما من طريقه.
وأبوعبدالغني كذاب وضاع، وقال ابن عدي: له أحاديث لا يُتابع عليها في فضل علي.
وعبدالوهاب شيعي، وفيه كلام على صدقه.
وأما همام بن نافع فوثقه ابن معين، ولكن لم يذكروا من الرواة عنه إلا ولده عبد الرزاق، ونص الذهبي أنه ما علم عنه راوياً سواه، كما لم يذكر أحد ممن ترجم لعبدالوهاب روايته عن أبيه، ولا رأيت ذلك بالبحث، كما لم أر أحداً ذكر نافعاً برواية قط، فالظاهر أن السند من اختلاقات وتركيبات أبي عبد الغني، والله أعلم.
أما المتن فإنه مخالف للأشهر في الرواية.
الوجه الثاني: ما رواه ابن شاذان في مائة منقبة (18) من طريق سعد بن طريف، حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا مطولا.
وهذا موضوع متأخرا، وابن شاذان وضاع، وابن طريف رافضي رمي بالوضع، وقد رُوي أصل الحديث عنه، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي، وسيأتي.
على أن في النفس من صحة أي كتاب ينفرد الرافضة بوجوده وإخراجه مما فيه أسانيد، لأنه جُرِّب عليهم وضع كتب كاملة بأسانيدها؛ ونسبتها إلى قدماء مصنفي ورواة الرافضة والمنسوبين للتشيع، ومن أمثلة ذلك كتاب شواهد التنزيل المنسوب للحاكم الحسكاني، فهو موضوع جملة وتفصيلا، والحسكاني بريء منه ومن أسانيده المركبة.
وكتاب مائة منقبة هذا تفرد بطرق كثيرة مركبة لا يرويها سواه، فلا يبعد أن يكون من جنس ما سبق، والله أعلم.(/22)
ولهذا فإني وقفت على طرق منسوبة للحديث تفردت بها كتب الرافضة -مثل كتب المسمى عندهم الصدوق، والمفيد، وتفسير فرات، وعيون أخبار الرضا، وبشارة المصطفى للطبرسي، ووسائل الشيعة للعاملي، والمناقب لمحمد بن سليمان، ولابن حمزة الطوسي، وشواهد التنزيل، وغيرها- فأعرضتُ عنها رأساً تأسيًّا بالحفاظ، فكلها موضوعات، ولا أصل لها مطلقاً، والرافضة أكذب الخلق قديماً وحديثاً.
حتى أحمد الغماري -مصحح الحديث لتشيعه!- يقول في كتابه الجواب المفيد (52): أنا لا أثق في علم الشيعة الإمامية الروافض، لأنهم كذبة.. إلى أن قال: إلا أنهم لكذبهم وكذب مصادرهم وخبث مذهبهم لا أعتمد عليهم.
وأما حديث علي بن أبي طالب، فله طرق:
الطريق الأولى: حديث سلمة بن كهيل، وفيه اختلاف:
فرواه الترمذي (3723) وابن جرير في تهذيب الآثار (104 مسند علي) عن إسماعيل بن موسى الفزاري، عن محمد بن عمر الرومي، عن شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي، عن علي مرفوعا بلفظ: "أنا دار الحكمة وعلي بابها".
ورواه ابن عساكر (42/378) وابن حمويه الجويني في فرائد السمطين (كما في نفحات الأزهار 10/333) من طريق عبيد الله بن محمد الكوفي، نا إسماعيل بن موسى، به، إلا أنه لم يذكر سويد بن غفلة.
وتوبع على هذا الوجه، فرواه القطيعي في جزء الألف دينار (216) وفي زوائد فضائل الصحابة (2/634 رقم 1081) وابن حبان في المجروحين 94/2 (94/2 معلقا) وابن بطة في الإبانة –ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (1/349) - وأبونعيم في المعرفة (1/88 رقم 347 الوطن) وأبوطاهر السلفي في المشيخة البغدادية (25/أ) من طريق أبي مسلم إبراهيم بن عبدالله الكشي.
ورواه الآجري في الشريعة (1550) من طريق بحير بن الفضل العنزي، كلاهما عن ابن الرومي، عن شريك، عن سلمة، عن الصنابحي، عن علي مرفوعا بلفظ "مدينة العلم"، ليس فيه سويد بن غفلة.(/23)
ورواه ابن المغازلي في المناقب (129) وابن عساكر (42/378) والذهبي في الميزان (2/251) من طريق سويد بن سعيد، عن شريك، عن سلمة، عن الصنابحي، عن علي، مرفوعا، ليس فيه سويد بن غفلة.
ورواه أبونعيم في الحلية (1/64) - ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (349/1) ومحمد الكنجي في كفاية الطالب (118)- وابن الجزري في مناقب الأسد الغالب (29) من طريق الحسن بن سفيان، عن عبدالحميد بن بحر، عن شريك، عن سلمة بن كهيل، عن الصنابحي، عن علي.
ورواه الآجري (1549) وابن بطة في الإبانة (كما في تلخيص الموضوعات 256) - ومن طريقه ابن الجوزي (1/350) - عن ابن ناجية، ثنا شجاع بن شجاع أبومنصور، عن عبدالحميد، عن شريك، عن سلمة، عن أبي عبدالرحمن، عن علي.
ورُوي عن شريك عن سلمة، عن رجل، عن الصنابحي. ذكره الدارقطني في العلل (3/247).
وروى بعضهم هذا الحديث عن شريك، ولم يذكروا فيه الصنابحي. قاله الترمذي (3723).
ورواه يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي، ولم يسنده. ذكره الدارقطني في العلل (3/247).
قلت: هذا بيان ما وقفت عليه من اختلاف على سلمة، ولا يثبت عنه ولا عن شريك، فالأسانيد إليهما كلها واهية:
فمحمد بن عمر الرومي ضعيف، وأنكر عليه هذا الحديث: البخاري، والترمذي في العلل الكبير (2/942) والسنن، وأبوحاتم الرازي في الجرح والتعديل (8/22)، وابن حبان في المجروحين (94/2).
وسويد بن سعيد صدوق في الأصل، إلا أنه عمي فصار يتلقن، وكان مدلسا، فلعله تلقنه من شيعي، أو دلّس الرومي أو ابن بحر.
وعبدالحميد بن بحر هذا ضعيف جدا، ولا سيما عن شريك، كما أنه يسرق الحديث.
ويحيى بن سلمة شيعي متروك.
قلت: ولو ثبت السند إلى شريك فهو ضعيف مدلس، وسلمة لم يسمع من الصنابحي، فالحديث بهذا الإسناد موضوع.
قال الترمذي في العلل الكبير (699): سألتُ محمدا [يعني البخاري] عنه فلم يعرفه، وأنكر هذا الحديث.(/24)
وقال الترمذي (انظر السنن 3723 والعلل الكبير 699): هذا حديث غريب منكر.. ولا نعرف هذا الحديث عن أحد من الثقات [عن] شريك.
وقال ابن حبان في المجروحين (2/94): هذا خبر لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شريك حدَّث به، ولا سلمة بن كهيل رواه، ولا الصنابحي أسنده، ولعل هذا الشيخ بلغه حديث أبي الصلت عن أبي معاوية، فحفظه، ثم أقلبه على شريك، وحدث بهذا الإسناد.
وقال الدارقطني في العلل (3/248) بعد ذكر شيء من الاختلاف: والحديث مضطرب غير ثابت، وسلمة لم يسمع من الصنابحي.
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات كما تقدم.
وحكم عليه الذهبي في الميزان (3/668) بالوضع.
الطريق الثانية: علي بن موسى الرضا، عن آبائه، عن علي مرفوعا:
رواه ابن النجار في تاريخه (ساق سنده في اللآلئ 1/335 وفي نفحات الأزهار 10/157 عن مخطوط الذيل) من طريق علي بن الحسن بن بندار بن المثنى، نا علي بن محمد بن مهرويه، نا داود بن سليمان الغازي، عن الرضا.
وداود كذاب، ويروي نسخة موضوعة عن الرضا، وابن بندار واه.
وقد أولع الشيعة بوضع نسخ كثيرة على علي بن موسى الرضا وغيره من أهل البيت عن آبائهم، وقال الذهبي في الميزان (1/120): ما علمتُ للرضا شيئا يصح عنه. وأقره ابن حجر في اللسان (1/222).
وانظر دفاع الذهبي عن الرضا في الميزان (3/158) بأن العلة في الرواة عنه، وكذلك أفاد ابن حجر في التقريب (4804).
* ورواه ابن المغازلي (126) والطوسي الرافضي في أماليه (1194) من طريق أبي المفضل محمد بن عبدالله بن المطلب، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى سنة 310، ثنا محمد بن عبدالله بن عمر بن مسلم اللاحقي سنة 244، ثنا علي الرضا به.
وابن المطلب هذا كذاب، وأحمد بن محمد بن عيسى أراه القُمِّي الرافضي المترجم في اللسان (1/260)، فهو من تلك الطبقة، وذكر الرافضة من شيوخه من يسمى محمد بن عبد الله.
وأما اللاحقي فذكره الخطيب ولم يورد فيه جرحا ولا تعديلا، وله ذكر في كتب الرافضة.(/25)
كما عزاه ابن الجوزي (1/350) لابن مردويه من حديث الحسين بن علي عن أبيه، وقال: إن في سنده مجاهيل، ولم يتعقبه السيوطي في اللآلئ، ولم أجده في مسند علي لأوزبك (2/583 - 601) على استيعابه، ولا ذكره الذهبي في تلخيص الموضوعات، مما يدل على شدة غرابته، ولا أستبعد أن يكون عين الطريق السابقة التي أخرجها ابن المغازلي من طريق علي الرضا عن آبائه، فتلك فيها من يُجهل، وفيها كذاب أيضا.
وللتنبيه فقد تصحف الحسين بن علي في طبعة عبد الرحمن محمد عثمان للموضوعات (1/350) إلى الحسن، ووقع على الصواب في طبعة بوياجيلار المحققة على عدة نسخ (2/112).
* وبقيت طريق رواها الطوسي الرافضي في أماليه (964) من طريق أحمد بن حماد، عن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه مرفوعا، بلفظ: "أنا مدينة الحكمة، وهي الجنة، وأنت يا علي بابها، فكيف يهتدي المهتدي إلى الجنة، ولا يُهتدى إليها إلا من بابها"؟
وهذا السند موضوع أيضا، فالجعفي وابن شمر واهيان، وأحمد بن حماد ضعيف، فضلا أن الطوسي راويه تركه الحفاظ وأعرضوا عنه، والمتن سخيف ظاهر البطلان.
الطريق الثالثة: إسحاق بن محمد بن مروان، ثنا أبي، ثنا عامر بن كثير السراج، عن أبي خالد، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي مرفوعا بلفظ: "أنا مدينة الجنة، وأنت بابها يا علي، كذب من زعم أنه يدخلها من غير بابها".
رواه أبوالحسن علي بن عمر الحربي في أماليه (اللآلئ 335/1) - ومن طريقه ابن عساكر (42/378) والطوسي الرافضي في أماليه (622) - عن إسحاق به.
وهذا موضوع: سعد بن طريف والأصبغ متروكان، ورُميا بالوضع، ومحمد بن مروان شيعي متروك، وابنه لا يحتج به، ومن في السند سواهم لم أعرفهما، وسبق إلى ذلك المعلمي في حاشية الفوائد المجموعة (ص352).
وأفاد ابن عساكر أن هذا اللفظ غير محفوظ.(/26)
الطريقان الرابعة والخامسة: عباد بن يعقوب الرواجني، عن يحيى بن بشار الكندي، عن إسماعيل بن إبراهيم الهمداني، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.
وعن عاصم بن [ضمرة]، عن علي مرفوعا، بلفظ: "شجرة أنا أصلها، وعلي فرعها، والحسن والحسين ثمرها، والشيعة ورقها، فهل يخرج من الطيب إلا الطيب؟ وأنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أرادها فليأت الباب".
رواه الخطيب في تلخيص المتشابه (1/308) ومن طريقه ابن عساكر (42/383) والكنجي في كفاية الطالب (الباب 58 كما في نفحات الأزهار 10/164).
وصدّره الخطيب بتضعيفه قائلا: يحيى بن بشار الكندي الكوفي، حدث عن إسماعيل بن إبراهيم الهمداني، وجميعا مجهولان.
وقال الذهبي في الميزان (4/366): يحيى بن بشار الكندي شيخ لعباد بن يعقوب الرواجني، لا يُعرف، عن مثله، وأتى بخبر باطل.
قلت: وهو كما قال، والرواجني رافضي، والسند كوفي، فمن الظاهر أن الشيعة وضعوه بجهل، وذِكْرُهم في المتن دليل ذلك.
على أن في سنده عللا أخرى، وهي رواية عاصم عن علي، ورواية أبي إسحاق عن الحارث، وفيهما كلام، ثم الحارث الأعور متروك، لكن السند لم يثبت إليهم أصلا.
الطريق السادسة: محمد بن مصفى، ثنا حفص بن عمر العدني، ثنا علي بن عمر، عن أبيه، عن جرير، عن علي:
رواه ابن المغازلي (122)، وحفص هذا ضعيف، وقال عنه ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ.
وعلي بن عمر وجرير الضبي مجهولان، ومحمد بن مصفى وإن صرح بالتحديث عن شيخه إلا أنه يدلس تدليس التسوية، ولم يصرح بالتحديث في جميع الإسناد، فالإسناد ضعيف جدا.
الطريق السابعة: الحسن بن محمد، عن جرير، عن محمد بن قيس، عن الشعبي، عن علي:
ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (1/350) وعزاه لابن مردويه، وقال إن في سنده محمد بن قيس، وهو مجهول، ولم يتعقبه السيوطي في اللآلئ، ولم يذكر أوزبك مصدرا آخر في مسند علي (3/1272).(/27)
وهذا سند مظلم، فالحسن وجرير لم أتبينهما، والشعبي لم يسمع من علي إلا حديثا واحدا، وليس هذا. (انظر رسالة الكواري ص43-44).
وأعله الذهبي في تلخيص الموضوعات (256) بقوله: رُوي بإسناد فرد عن جرير.. الخ.
قلت: ولا شك في بطلان هذه الطريق، وكذا الطريق التي سلفت لابن مردويه ضمن الطريق الثانية، والظن أن في سندهما عللا أخرى، وكفى دليلا على وضعهما تفرُّدُ ابن مردويه بهما في القرن الخامس.
فالحاصل أن جميع طرقه عن علي إما موضوعات من رواية الكذابين، أو واهيات جدا من رواية المجاهيل، مع علل أخرى.
وأما حديث جابر بن عبدالله:
فله عنه في كتب السنة طريقان:
الطريق الأولى: رواها ابن حبان في المجروحين (1/152-153) وابن عدي (1/192) وأبوبكر ابن المقرئ في المعجم (188) والحاكم (3/127 و129 مفرقا) والخطيب (2/377 و4/218) وابن المغازلي (120 و125) وابن عساكر (42/226 و382) وابن الجوزي في الموضوعات (1/353) والكنجي في كفاية الطالب (58) والطوسي الرافضي في أماليه (1055) من طريق أحمد بن عبد الله الحراني، عن عبد الرزاق، ثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبدالرحمن بن بَهْمان التيمي، سمعت جابر بن عبد الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وهو آخذ بيد عليّ: "هذا أمير البررة، قاتل الفجرة، منصورٌ من نصره، مخذولٌ من خذله"، ثم مد بها صوته: "أنا مدينة العلم، وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب".
قال ابن الجوزي: وقد رواه أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى المصري عن عبد الرزاق مثله بسواء، إلا أنه قال: "فمن أراد الحكم فليأت الباب".
قلت: هذا موضوع، أحمد الحراني ومتابعُه ابن حرملة كلاهما كذاب يضع الحديث، وبذلك أعله ابن الجوزي.
قال ابن حبان بعد أن ذكر أن الحراني يروي الأوابد والطامات عن عبدالرزاق؛ وساق له الحديث: هذا شيء مقلوب إسناده ومتنه معا.(/28)
وقال ابن عدي: حديث منكر موضوع، لا أعلم رواه عن عبد الرزاق إلا أحمد بن عبد الله المؤدب هذا.
وأقره ابن عساكر (42/383) وابن كثير (7/359) في تاريخيهما.
وقال الخطيب في الموضع الثاني: لم يروه عن عبد الرزاق إلا أحمد بن عبد الله هذا، وهو أنكر ما حُفظ عليه.
قلت: ولكن ذكر له ابن الجوزي متابعا كما تقدم، وهو أحمد بن طاهر بن حرملة، فالظاهر أنه سرقه من الحراني، وكلاهما كذاب! ونقل الخطيب عن أبي الفتح الأزدي أن المتفرد به عبد الرزاق.
وقال الحاكم في الموضع الأول: إسناده صحيح! فتعقبه الذهبي قائلا: العجب من الحاكم في جرأته في تصحيحه هذا وأمثاله من البواطيل، وأحمد هذا دجال كذاب.
وقال الحاكم في الموضع الثاني: صحيح! فتعقبه الذهبي بقوله: بل والله موضوع، وأحمد كذاب، فما أجهلك على سعة معرفتك!
وقال الذهبي في تلخيص الموضوعات (256): أحمد بن عبد الله المكتب متهم.
وحديث جابر عزاه السيوطي في تاريخ الخلفاء (170) للبزار والطبراني في الأوسط من حديث جابر، ولم أجده فيهما، ولا في مجمع الزوائد، ولا في الأماكن الأخرى التي خرج السيوطي فيها الحديث، كاللآلئ والتعقبات، ولا ذكره أحد ممن خرج الحديث، فأظن هذا العزو وهماً.
الطريق الثانية: أخرجها أبوالحسن بن شاذان الفضلي في خصائص علي (كما في اللآلئ 1/335) والدارقطني في المؤتلف والمختلف (2/624-625) - ومن طريقه الخطيب في تلخيص المتشابه (1/161-162) وابن عساكر (42/382) - عن أبي بكر محمد بن إبراهيم الأنماطي، حدثنا الحسين بن عبد الله (وعند بعضهم عبيد الله) التميمي، حدثنا حُبَيب بن النعمان -ضمن قصة، في آخرها- حدثنا جعفر بن محمد، حدثني أبي، عن جدي، عن جابر بن عبد الله مرفوعا، بلفظ: "أنا مدينة الحكمة، وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت إلى بابها".(/29)
وهذا موضوع، وإسناده مظلم كما قال ابن كثير في البداية والنهاية (11/96)، وحبيب بن النعمان قال الأزدي: له مناكير. وقال الخطيب: إنه أعرابي ليس بالمعروف. وقال المعلمي في حاشيته على الفوائد المجموعة (ص353): شيعي مجهول.
والحسين بن عبيد الله التميمي مجهول بالنقل كما قال العقيلي والخطيب والذهبي، فالظاهر أنه علته، وقال المعلمي: مجهول واه.
وأما الأنماطي فوثقه يوسف القواس، كما في تاريخ الإسلام (وفيات 318 ص567).
وثمة طريق أخرى تُروى عن عبيد بن أبي الجعد عن جابر، تفرد بها متأخروا الرافضة، ومضى الكلام على مفاريدهم، على أن سندها المذكور باطل أيضا، انظر رسالة الكواري (48).
حديث أنس:
الطريق الأولى: قال محمد بن جعفر الشاشي: نا أبوصالح أحمد بن مزيد، نا منصور بن سليمان اليمامي، نا إبراهيم بن سابق، نا عاصم بن علي، حدثني، أبي، عن حميد الطويل، عنه مرفوعا بلفظ: "أنا مدينة العلم، وعلي بابها، وحلقتها معاوية"!
قال الألباني في الضعيفة (6/528 رقم 2955): "أخرجه محمد بن حمزة الفقيه في أحاديثه (214/2). قلت: وهذا إسناد ضعيف مظلم، مَن دون عاصم بن علي لم أعرف أحدا منهم، ووالد عاصم -وهو علي بن عاصم بن صهيب الواسطي- ضعيف، قال الحافظ: صدوق، يخطئ ويصر، ولستُ أشك أن بعض الكذابين سرق الحديث من أبي الصلت وركّب عليه هذه الزيادة انتصارا لمعاوية رضي الله عنه بالباطل، وهو غني عن ذلك".
قلت: والأمر كما قال، وحديث أنس رواه الديلمي (44/1) أيضا بهذا اللفظ، وضعفه السخاوي في المقاصد الحسنة (189) وفي الأجوبة المرضية (2/880).
الطريق الثانية: قال عمر بن محمد بن الحسين الكرخي: نا الحسين بن محمد بن يعقوب البردعي، نا أحمد بن محمد بن سليمان قاضي القضاة بنوقان، حدثني أبي، نا الحسن بن تميم بن تمام، عنه مرفوعا بلفظ: "أنا مدينة العلم، وأبوبكر وعمر وعثمان سورها، وعلي بابها"!
رواه ابن عساكر (45/321) وقال: منكر جدا إسنادا ومتنا.(/30)
وقال الألباني في الضعيفة (6/526): بل باطل ظاهر البطلان، من وضع بعض جهلة المتعصبين ممن ينتمون للسنة.
قلت: وهو كما قالا، ولم أهتد لرجاله.
حديث أبي سعيد الخدري:
قال ابن شاذان في مائة منقبة (94): حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن بهلول الموالي رحمه الله، حدثني محمد بن الحسين، حدثني عيسى بن مهران، حدثني عبيد الله بن موسى، حدثني خالد بن طهمان الخفاف، سمعت سعد بن جنادة العوفي يذكر أنه سمع زيد بن أرقم يقول: إنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: إنه سمع النبي صلى الله عليه وآله يقول: "علي بن أبي طالب سيد العرب". فقيل: أليس أنت سيد العرب؟ قال: "أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب، من أحبه وتولاه أحبه الله وهداه، ومن أبغضه وعاداه أصمه الله وأعماه، علي حقه كحقي، وطاعته كطاعتي، غير أنه لا نبي بعدي، من فارقه فارقني، ومن فارقني فارق الله، أنا مدينة الحكمة وهي الجنة، وعلي بابها، فكيف يهتدي المهتدي إلا الجنة إلا من بابها؟ علي خير البشر، من أبى فقد كفر".
وهذا موضوع بيّن الكذب والتركيب، وفيه ثلاثة كذابين، وهم: ابن شاذان المؤلف، وابن البهلول، وشرهم عيسى بن مهران، فهو من جبال الرفض والكذب.
فضلا أن خالد بن طهمان اختلط.
وسبقت رواية أخرى مكذوبة عن عبيد الله بن موسى بمتن مغاير من حديث ابن عباس.
حديث ابن مسعود:
قال ابن عساكر (9/20) في ترجمة إسماعيل بن علي بن المثنى الاستراباذي الواعظ: أنبأنا أبو الفرج غيث بن علي الخطيب، حدثني أبو الفرج الإسفرايني بلفظه غير مرة، قال كان ابن المثنى يعظ بدمشق، فقام إليه رجل، فقال: أيها الشيخ! ما تقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"؟ فقال: فأطرق لحظة، ثم رفع رأسه، وقال: نعم! لا يعرف هذا الحديث على التمام إلا من كان صدرا في الإسلام، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم، وأبوبكر أساسها، وعمر حيطانها، وعثمان سقفها، وعلي بابها".(/31)
قال: فاستحسن الحاضرون ذلك وهو يردده، ثم سألوه أن يخرج لهم إسناده، فأنعم، ولم يخرجه لهم!
ثم قال شيخي أبو الفرج الإسفرايني: ثم وجدت هذا الحديث بعد مدة في جزء على ما ذكره ابن المثنى، فالله أعلم. أو كما قال.
قلت: إسماعيل هذا كذبه غير واحد؛ كما في اللسان (422/1).
وهذا الحديث أورده الديلمي في الفردوس (1/43-44)، ونص السخاوي في المقاصد الحسنة (189) أن الديلمي وابنه أورداه عن ابن مسعود دون إسناد.
حديث عدة من الصحابة:
رواه الطوسي في أماليه (1172) من طريق موضوعة على شريك، عن أبي إسحاق، عمرو بن ميمون الأودي، عن عدة من الصحابة - منهم حذيفة وكعب بن عجرة - مرفوعا، ضمن متن طويل مركب في الفضائل، وهو بيّن البطلان.
وفي سنده أبو المفضل محمد بن عبد الله، وهو كذاب.
وأنبّه مجدداً أن كتب الرافضة لا يوثق بأصولها فضلا عن مروياتها، وإنما ذكرت هذه الطريق تنبيهاً، وإلا فليس من صنيع أهل الحديث الاعتماد على كتب القوم.
* وبذلك يتبيّن أن الحديث موضوع مكذوب، ولا تزيده كثرة طرقه إلا وهناً، هذا من جهة السند.(/32)
أما من جهة المتن فقد أبدع في الكلام عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبيّن بطلانه من وجوه، فقال في منهاج السنة (7/515-517): "حديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها) أضعف وأوهى، ولهذا إنما يُعد في الموضوعات، وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي، وبيّن أن سائر طرقه موضوعة، والكذب يُعرف من نفس متنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم؛ ولم يكن لها إلا باب واحد؛ ولم يبلّغ عنه العلم إلا واحد: فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلّغ عنه العلم واحدا، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة، وإذا قالوا: ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخَبَره؛ قيل لهم: فلابد من العلم بعصمته أولا، وعصمتُه لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته، فإنه دور، ولا تثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها، وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة لأن فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعُلم أن عصمته لو كانت حقا لا بد أن تعلم بطريق آخر غير خبره، فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين، فعُلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحاً، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام إذ لم يبلغه إلا واحد.(/33)
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي، أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر، وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئا قليلا، وإنما كان غالب علمه في الكوفة، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القران والسنة قبل أن يتولى عثمان، فضلا عن علي، وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل، ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا وهو وعَبيدة السلماني تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة".. الخ.
ثم أسهب في بيان نشر الصحابة للعلم إلى (ص522)، فرحمه الله رحمة واسعة على ما قدَّم للسنّة وأهلها.
وقال العلامة المعلمي في حاشيته على الفوائد المجموعة (ص353): كل من تأمل منطوق الخبر ثم عرضه على الواقع عرف حقيقة الحال، والله المستعان.
وقال الإمام الألباني في الضعيفة (6/529): في متنه ما يدل على وضعه.. واستشهد بكلام شيخ الإسلام الآنف.
أقوال طائفة من العلماء في الحديث:
أولا: من ضعفه.
ذُكر عن يحيى بن سعيد أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل. (نقله الزركشي في الأحاديث المشتهرة 151 عن مسند الفردوس، ونقله من بعد الزركشي عنه، كالسيوطي في الدرر المنتثرة 38 والعجلوني في كشف الخفاء).(/34)
قلت: يحيى من حفاظ أصحاب الأعمش، ولكن أخشى أن "سعيد" تصحيف من "معين"، فالعبارة عبارته، ولأن يحيى بن سعيد القطان توفي سنة 198، وهو شيخ أحمد وابن معين، ولو عرف الحديث لعلماه منه، ولما قالا: لم نسمع به قط، ولو تكلم به القطان لكان عمدة النقل في الحديث من قديم، ولجاء به مثل ابن عدي والخطيب وابن عساكر، ولا أظن الحديث وُضع إلا بعد وفاته، وذلك في الربع الأول من القرن الثالث، والله أعلم.
وقد قال ابن معين: هذا حديث كذب لا أصل له. وتقدم سياق الروايات عنه في الحديث.
وأقره الإمام أحمد، وقال: ما سمعنا به. وقد تقدم أيضاً.
وقال الترمذي في كتاب العلل (كما في التذكرة في الأحاديث المشتهرة 151 والمقاصد الحسنة): سألت محمدا [يعني البخاري] عن هذا الحديث فأنكره، وقال: هذا حديث منكر، وليس له وجه صحيح.
ولفظه في مطبوعة العلل الكبير (699): سألتُ محمداً عنه فلم يعرفه، وأنكر هذا الحديث.
وقال الترمذي في الجامع (3723): هذا حديث غريب منكر.
وقال أبوزرعة الرازي في الضعفاء (1/519-520): حديث ابن معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس: "أنا مدينة الحكمة وعلي بابها" كم من خلق قد افتضحوا فيه!
وقال أبوحاتم الرازي في الجرح (8/22) عن حديث علي إنه منكر.
أما ما نقل السيوطي في الدرر المنتثرة (38) وتبعه العجلوني في كشف الخفاء (1/235) من أن أبا حاتم قال: "لا أصل له" فلا أظنه الرازي، بل أراه أبا حاتم بن حبان، فإن العبارة له.
وقال أبوجعفر محمد بن عبد الله الحضرمي المعروف بمطين: لم يرو هذا الحديث عن أبي معاوية من الثقات أحد، رواه أبو الصلت فكذبوه. رواه الخطيب (7/172) ومن طريقه ابن عساكر (42/381).
وقال العقيلي (149/3): لا يصح في هذا المتن حديث.(/35)
وقال ابن حبان في المجروحين (2/94): هذا خبر لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شريك حدّث به، ولا سلمة بن كهيل رواه، ولا الصنابحي أسنده، ولعل هذا الشيخ بلغه حديث أبي الصلت عن أبي معاوية فحفظه ثم أقلبه على شريك وحدّث بهذا الإسناد.
وقال أيضاً (2/151): هذا شيء لا أصل له، ليس من حديث ابن عباس، ولا مجاهد، ولا الأعمش، ولا أبومعاوية حدّث به، وكل من حدث بهذا المتن فإنما سرقه من أبي الصلت هذا؛ وإن أقلب إسناده.
ونقله السمعاني محتجاً به في الأنساب (5/637 الثقافية).
وقال ابن عدي (189/1): وهذا الحديث يعرف بأبي الصلت الهروي عن أبي معاوية، سرقه منه أحمد بن سلمة هذا، ومعه جماعة ضعفاء.
وقال أيضا (2/341): هذا حديث أبي الصلت الهروي عن أبي معاوية، على أنه قد حدث به غيره، وسرق منه من الضعفاء، وليس أحد ممن رواه عن أبي معاوية خير وأصدق من الحسن بن علي بن راشد، والذي ألزقه العدوي عليه.
وقال أيضا (3/412): وهذا يروى عن أبي معاوية عن الأعمش، وعن أبي معاوية يعرف بأبي الصلت الهروي عنه، وقد سرقه عن أبي الصلت جماعة ضعفاء.
وقال أيضا (5/67): والحديث لأبي الصلت عن أبي معاوية، وبه يُعرف، وعندي أن هؤلاء كلهم سرقوا منه.
وقال أيضا (5/177): وهذا الحديث في الجملة معضل عن الأعمش، ويروي عن أبي معاوية عن الأعمش، ويرويه عن أبي معاوية أبو الصلت الهروي، وقد سرقه من أبي الصلت جماعة ضعفاء.
وقال أبوالفتح الأزدي (كما في البداية والنهاية 11/96 دار هجر): لا يصح في هذا الباب شيء.(/36)
وقال الدارقطني في تعليقاته على المجروحين (179): قيل إن أبا الصلت وضعه على أبي معاوية، وسرقه منه جماعة فحدثوا به عن أبي معاوية، منهم: عمر بن إسماعيل بن مجالد، ومحمد بن جعفر الفيدي، ورجل كذاب من أهل الشام حدث به عن هشام عن أبي معاوية، وحدث به شيخ لأهل الري دجال يقال له محمد بن يوسف بن يعقوب، حدث به عن شيخ له مجهول، عن أبي عبيد القاسم بن سلام عن أبي معاوية.
وقال في العلل (3/248) عن حديث علي: الحديث مضطرب غير ثابت.
وصدّره ابن عبدالبر في الاستيعاب (بهامش الإصابة 8/155 وفي الطبعة الحفيظية 3/38) بلفظة روي بصيغة التمريض.
وقال ابن العربي المالكي في أحكام القرآن (3/1114): هذا حديث باطل.
وأقره القرطبي في تفسيره (9/336).
وحكم محمد بن طاهر المقدسي في معرفة التذكرة (308) بأنه كذب، وانظر ذخيرة الحفاظ له (1/500) والمغني عن حمل الأسفار (1/483).
وقال ابن عساكر في تاريخه (42/380) بعد أن سرد عدة طرق للحديث: كل هذه الروايات غير محفوظة، وهذا الحديث يُعرف بأبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي.
وختم تخريجه للحديث بالنقل السابق عن العقيلي، وهو قوله: لا يصح في هذا المتن حديث.
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/353 و355)، وقال: هذا حديث لا يصح من جميع الوجوه.. ثم ساق علل طرقه، وختم بقوله: والحديث لا أصل له.
وحكم عليه السراج علي بن عمر القزويني بالوضع في أحاديث موضوعة مستخرجة من مشكاة المصابيح (انظر آخر المشكاة 3/1774 و1777).
وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (1/348): وأما الحديث المروي عن الصنابحي عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا دار الحكمة وعلي بابها"، وفي رواية: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" فحديث باطل.
وقال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام (كما الأحاديث المنتشرة لزركشي 151 والمقاصد الحسنة 189): الحديث لم يُثبتوه، وقيل إنه باطل، وقال الترمذي: حديث منكر.(/37)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (522 – 515/7 ) ومجموع الفتاوى (4/410): إنما يُعد في الموضوعات. وطوّل في بيان بطلانه من جهة المتن بما لم يُسبق إليه كما تقدم، وأقره الذهبي في المنتقى من المنهاج.
وحكم عليه بالوضع في أحاديث القصاص (78)، وهو في الفتاوى الكبرى (232/2) ومجموع الفتاوى (18/123 و377)، وفي الفتاوى العراقية (1/127).
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (18/268): الحديث موضوع، ما رواه الأعمش.
وقال أيضا في تلخيص الموضوعات (256): هذا الحديث شُبِّه لبعض المحدّثين السُّذَّج؛ فإنه موضوع، وله طرق كثيرة.. وجميع طرقه مطعون فيها.
وقال في تذكرة الحفاظ (4/1231-1232): هذا الحديث غير صحيح، وأبو الصلت هو عبد السلام متهم.
وقال في الميزان (1/415): هذا موضوع.
وقال ابن كثير في جامع المسانيد والسنن (مسند ابن عباس رقم 1940): عبد السلام بن صالح الهروي، وهو متروك. (وعنده تصحيف، ولعل الصواب ما أثبت)، واعتمد ضعفه في تاريخه (96/11).
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/114): فيه عبد السلام بن صالح الهروي، وهو ضعيف.
ولمحدّث الهند الشاه عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي جواب عن الحديث، وأنه موضوع.
وحكم عليه العلامة المعلّمي بالوضع، وأفاد في تخريجه بحاشية الفوائد المجموعة (349).
وقال سماحة الشيخ ابن باز في التحفة الكريمة (19): إن جميع طرقه موضوعة بلا شك.
وقال الإمام الألباني في الضعيفة (2955): موضوع. وأفاد في تخريجه.
وضعفه شيخنا عبد القادر الأرناؤوط في تخريجه لجامع الأصول (657/8).
وللشيخ المعاصر خليفة الكواري جزء مفرد في تخريج الحديث، توسع فيه وبذل جهداً كبيراً في تتبع طرق الحديث، واستفدت منه، وقال في خاتمة بحثه: فالحديث إذاً لا يصح إسناداً ولا متناً، وهو منكر جدًّا.(/38)
كما توسع في تخريجه شيخنا سعد بن عبد الله الحميّد في تخريجه لمختصر استدراك الذهبي على الحاكم (3/1370-1413 و1426)، واستفدت منه كذلك، وقد خلص إلى الحكم على الحديث بالوضع.
قلت: وتقدمت بعض الأحكام الأخرى ضمن الكلام على الطرق.
من قوّى الحديث:
رغم إطباق أئمة الحفاظ على الحكم عليه بالوضع إلا أن هناك من تساهل وقوّاه، ولا سيما من المتأخرين.
فقال ابن جرير في تهذيب الآثار (مسند علي 104): هذا خبر صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيماً غير صحيح.
وصححه الحاكم كما تقدم.
أما العلائي: فقد ردّ الحكم عليه بالكذب، وحكم عليه بالحسن في النقد الصريح (18)، وتعقبه الزركشي في الأحاديث المشتهرة (151). لكن العلائي قال في كتابه إجمال الإصابة (55): في إسناده ضعف.
وقال ابن حجر العسقلاني في اللسان (2/123) متعقبا حكم الذهبي بوضعه: وهذا الحديث له طرق كثيرة في مستدرك الحاكم، أقل أحوالها أن يكون للحديث أصل، فلا ينبغي أن يطلق القول عليه بالوضع.
قلت: كذا قال، وليس له في المستدرك إلا طريقان عن ابن عباس، وآخر عن جابر.
وقال أيضاً في الأجوبة عن أحاديث المصابيح (3/1788 و1791): هو ضعيف، ويجوز أن يحسّن.
وقال زكريا الأنصاري آخر شرح المنفرجة (136): إن شيخه ابن حجر أفتى بأن الحديث يحسن بمجموع طرقه.
وهذه الفتوى قال فيها: أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: إنه صحيح. وخالفه ابن الجوزي فذكره في الموضوعات، وقال: إنه كذب. والصواب خلاف قولهما معاً، وأن الحديث من قسم الحسن، لا يرتقي إلى الصحة، ولا ينحط إلى الكذب، وبيان ذلك يستدعي طولا، ولكن هذا هو المعتمد في ذلك. (نقله السيوطي في الجامع الكبير، كما في ترتيبه الكنز 13/148-149 رقم 36464 وفي اللآلئ المصنوعة 1/334، وفي التعقبات).(/39)
وقال السيوطي بعد نقل كلام ابن حجر الأخير: وقد كنتُ أجيب بهذا الجواب دهراً إلى أن وقفت على تصحيح ابن جرير لحديث علي في تهذيب الآثار، مع تصحيح الحاكم لحديث ابن عباس، فاستخرت الله، وجزمت بارتقاء الحديث من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحة، والله أعلم.
وقال في تاريخ الخلفاء (170): هذا حديث حسن على الصواب، لا صحيح كما قال الحاكم، ولا موضوع كما قاله جماعة؛ منهم: ابن الجوزي، والنووي، وقد بينت حاله في التعقبات على الموضوعات.
وقال السخاوي في المقاصد (189): وبالجملة فكلها ضعيفة، وألفاظ أكثرها ركيكة، وأحسنها حديث ابن عباس، بل هو حسن!
وقال في الأجوبة المرضية (2/880) نحوه.
وذهب الشوكاني في الفوائد المجموعة (ص349) إلى تحسينه لغيره نظراً لكثرة طرقه تبعاً لابن حجر، وكان له جزء مفرد قديم في الحديث، وقد طُبع.
ثم جاء من المعاصرين أحمد الغماري وألّف رسالة مفردة في تصحيح الحديث، سلك فيها كل مسلك من الهوى والتدليس والتخليط، وأظهر فيه تشيعه الشديد، بل إنه أهدر وهاجم قواعد المحدّثين في التصحيح والتضعيف وفي الجرح والتعديل لكي يتسنى له تقوية الحديث! ولهذا قال الألباني في الضعيفة (6/530): الرد عليه يتطلب رسالة، والمرض والعمر أضيق من ذلك.
وقد لخص الكلام على جزئه الآنف شيخنا سعد الحميد في مختصر استدراك الحاكم على الذهبي (3/1407-1409)، كما تعرض له الكواري في مواضع من جزئه، وسبق لنا ذكر بعض أخطائه.
والملاحظ عند جميع المتأخرين الذين قووا الحديث أنهم اغتروا بكثرة طرقه، وقووه بمجموعها دون تحقيق علمي دقيق لصلاحيتها للاعتبار من عدمه، أو أنهم قلدوا في الحكم.
والتحقيق يؤيد قول من حكم بوضعه، وهو قول الجمهور، وعليه أئمة الحفاظ، والله أعلم.(/40)
* وللتنبيه والمعرفة فقد قام بعض الرافضة المتأخرين بتخريج الحديث وإفراده بالبحث والتصنيف، فأكملوا جهود سلفهم الذين وضعوا الحديث وركبّوا له الطرق والمتابعات، فقاموا بتصحيح الحديث على قاعدتهم في الهوى وتكذيب الصحيح والمتواتر وتصحيح المكذوب، وأبحاثهم المشار إليها أقل من أن تُناقش على قواعد المحدّثين، فهي مجرد تقميش وحشد للنقول بلا فهم ولا أمانة، وأكتفي بمثال واحد يدل على مبلغ فهمهم وعقلهم، فقال علّامتهم الآية المرعشي (ت1411) في شرح إحقاق الحق (33/117) معدداً المصادر التي خرَّجت إحدى طرق الحديث: "رواه جماعة.. منهم العلامة علي بن محمد بن عراق الكناني المتوفى سنة 963 في كتابه تنزيه الشريعة المرفوعة.. ومنهم الفاضل المعاصر صالح يوسف معتوق في التذكرة المشفوعة في ترتيب أحاديث تنزيه الشريعة المرفوعة ص17"!!
ولا يخفى الباحث أن كتاب تنزيه الشريعة ليس من مصادر الرواية أصلاً، فضلا أن التذكرة المشفوعة هو مجرد فهرس للأحاديث قام به أحد المعاصرين من سنوات قريبة للكتاب السابق! فجعله الرافضي المذكور مصدراً للرواية والتخريج! ليس لهذا الحديث فقط، بل جعله مصدراً للتخريج في مواضع كثيرة من كتابه! وفي أماكن أخرى يقول: رواه بسيوني زغلول في موسوعة أطراف الحديث! ورواه الدكتور المعاصر الشرقاوي في كتاب التصوف الإسلامي، وغير ذلك من المضحكات.
ولم يقف الأمر ههنا، فجاء بعده مجموعة من باحثي الرافضة ونقلوا عزوه وتحقيقه حذو القذة بالقذة، كأصحاب الكتب والرسائل الكثيرة التي أُخرجت باسم مركز المصطفى!
فصلٌ: ومن الأحاديث التي فيها شبه مع الحديث المذكور:
حديث عن ابن عباس:
قال ابن عدي (4/101): حدثنا أحمد بن حمدون النيسابوري، حدثنا ابن بنت أبي أسامة، هو جعفر بن هذيل، حدثنا ضرار بن صُرَد، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش، عن عباية، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "علي عيبة علمي".(/41)
رواه ابن عساكر (42/385) وابن الجوزي في العلل المتناهية (355) من طريق ابن عدي.
وهذا موضوع مسلسل بالعلل:
فجعفر بن الهذيل لم أجد له ترجمة إلا في اللسان (2/132)، عن رجال الشيعة، فهو ضعيف عند ابن حجر.
وضرار بن صرد شيعي متروك، وكذبه ابن معين، وأورد ابن عدي الحديث في مناكيره، وتبعه الذهبي في الميزان (2/327).
ويحيى ضعيف.
والأعمش مدلس، وقد عنعنه.
وعباية رافضي محترق يروي الموضوعات، ترك الناس الرواية عنه، كما يستفاد من ترجمته في اللسان (3/237).
وابن حمدون وإن تُكلم فيه إلا أنه ثقة إن شاء الله. (انظر الكشف الحثيث 43 واللسان 1/165).
وأما الحديث فقال عنه ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح.
وقال الذهبي في تلخيص العلل المتناهية (174): فيه ضرار بن صرد -متروك- عن يحيى بن عيسى -واه.
وقال الألباني في الضعيفة (2165): موضوع.
وقد جاءت الرواية عن الأعمش عن عباية من وجه آخر، وهو الآتي:
حديث آخر عن ابن عباس:
قال عبد الله بن داهر: حدثني أبي، عن الأعمش، عن عباية الأسدي، عن ابن عباس، قال: ستكون فتنة، فمن أدركها منكم فعليه بخصلتين: كتاب الله وعلي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو آخذ بيدَي عليّ: هذا أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو فاروق هذه الأمة؛ يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة، وهو الصديق الأكبر، وهو بابي الذي أوتى منه، وهو خليفتي من بعدي.
رواه العقيلي (2/47) -ومن طريقه ابن عساكر (42/42-43)- وابن عدي (4/228) -ومن طريقه ابن عساكر (42/42) وابن الجوزي في الموضوعات (1/345) والكنجي في كفاية الطالب- وابن مردويه (ساق سندهما في نفحات الأزهار 10/394) كلهم من طريق ابن داهر به.(/42)
قلت: وهذا موضوع بيّن الوضع، كما حكم ابن الجوزي وابن تيمية في منهاج السنة (448/7)، فعبدالله بن داهر رافضي خبيث، وهو واه في الحديث، بل اتهمه ابن عدي وابن الجوزي. وأبوه داهر قال عنه العقيلي: كان يغلو في الرفض، لا يتابع على حديثه. وعباية تقدم الكلام عليه قريباً وأنه رافضي ضعيف جداً.
والحديث أنكره العقيلي، وابن عدي، وابن طاهر في ذخيرة الحفاظ (5/2579)، وابن عساكر، والذهبي في الميزان (417 – 416/2) وفي تلخيص الموضوعات (249) وفي المنتقى من المنهاج (482)، وابن حجر في اللسان (2/413 و3/272).
وقد خرجتُ الطريق الذي فيه ذكر الباب، وإلا فقد ورد دونه بنحوه من وجهين باطلين أيضا.
حديث أبي ذر:
رواه الديلمي في مسند الفردوس (3/65 والسند من زهر الفردوس -بحاشيته- واللآلئ 1/335) من طريق محمد بن علي بن خلف العطار، نا موسى بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ثنا عبد المهيمن بن العباس، عن أبيه، عن جده سهل بن سعد، عن أبي ذر مرفوعا: "علي باب علمي، ومبين لأمتي ما أُرسلت به من بعدي، حبُّه إيمان، وبغضه نفاق، والنظر إليه رأفة، ومودته عبادة".
ذكره السخاوي في المقاصد (189) وفي الأجوبة المرضية (2/879-880)، وضعفه فيهما.
وهذا موضوع، فيه علل:
فعبد المهيمن متفق على ضعفه، ونص الساجي وأبونعيم أن في رواياته عن آبائه مناكير.
وموسى بن جعفر يظهر من ترجمته في اللسان (6/114) أنه لا شيء.
والعطار ذكرنا حاله قبل ثلاثة أحاديث.
ومن دون العطار قال عنهم المعلمي في حاشية الفوائد المجموعة (ص353): فيه من لم أعرفه.
حديث علي:(/43)
قال أبوأحمد الفرضي في حديثه (133/أ، كما في مسند علي لأوزبك 2/703) -ومن طريقه أبوالنون الدبوسي في معجمه (6/ب، كما عند أوزبك 2/704)-: حدثنا أبوالعباس أحمد بن عقدة، نا أحمد بن الحسين بن عبد الملك، نا إسماعيل بن عامر البجلي، حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن الأجلح أبي حجية، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب، كلُّ باب يفتح ألف باب".
قلت: وهذا ضعيف جداً، فيه علل: فابن عقدة شيعي رواية المناكير، وتكلم فيه جماعة، وكان يحمل شيوخ الكوفة على الكذب، ولا ينفرد بسند فيه خير.
وشيخه أحمد بن الحسين لا بأس به.
وإسماعيل بن عامر البجلي لم أجد له ترجمة بهذا الاسم، وأظنه تحرف عن إسماعيل بن عمرو البجلي، فإن السند كوفي، وهذا كوفي الأصل ومن تلك الطبقة، وهو ضعيف صاحب غرائب ومناكير.
وعبد الرحمن بن الأسود إن لم يكن اليشكري فلم أعرفه، وهذا ذكره الخطيب في المتفق والمفترق (3/1488)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وأما الأجلح فشيعي ضعيف.
ووهم الغماري في عزوه إلى الحلية لأبي نعيم، كما نبه الإمام الألباني في الضعيفة (10/2/709 رقم 4968).
كما عزاه الغماري للإسماعيلي في معجمه من حديث ابن عباس، ولم أجده في المعجم المذكور ولا في أي مصدر آخر، فيظهر أنه من أوهامه أيضا، على أن الغماري نفسه ضعّفه.
وروي الحديث من وجه آخر منكر جدا، وهو الآتي:
حديث عبد الله بن عمرو:(/44)
قال ابن حبان في المجروحين (14/2) وابن عدي (2/450 واللفظ له) -ومن طريقه ابن عساكر (42/385) وابن الجوزي في العلل المتناهية (347)-: أنا أبويعلى، ثنا كامل بن طلحة، ثنا ابن لهيعة، ثنا حيي بن عبد الله، عن أبي عبدالرحمن الحبلي، عن عبدالله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "ادعوا إلي أخي". فدعوا له أبا بكر، فأعرض عنه. ثم قال: "ادعوا إلي أخي". فدعوا له عمر، فأعرض عنه. ثم قال: "ادعوا إلي أخي". فدعوا له عثمان، فأعرض عنه. ثم قال: "ادعوا إلي أخي". فدعي له علي بن أبي طالب، فستره بثوب، وانكب عليه، فلما خرج من عنده قيل له: ما قال؟ قال: علمني ألف باب يفتح كل باب ألف باب.
قال ابن عدي: وهذا هو حديث منكر، ولعل البلاء فيه من ابن لهيعة، فإنه شديد الإفراط في التشيع، وقد تكلم فيه الأئمة، ونسبوه إلى الضعف.
وأقره ابن طاهر في ذخيرة الحفاظ (2/774) وابن عساكر.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح.
وقال الذهبي في السير (8/24): هذا حديث منكر، كأنه موضوع.
وعده الذهبي من مناكير ابن لهيعة في الميزان (1/624 و2/483)، وقال في تاريخ الإسلام (11/224): مناكيره جمة، ومن أردئها هذا الحديث. وقال في تلخيص العلل المتناهية (169): بهذا وشبهه استحق ابن لهيعة الترك، مع أن راويه عنه مضعّف.
وقال الألباني في الضعيفة (4968): منكر.(/45)
قلت: الحديث ظاهر أنه من وضع الرافضة، وكأن أحدهم أدخله على ابن لهيعة، وقد كان يُدخَل عليه ويتلقن، وقد يكون مُدخله خالد بن نجيح، فقال البرذعي في سؤالاته لأبي زرعة (2/417 ومن طريقه الخطيب 3/162): رأيتُ بمصر نحوا من مائة حديث عن عثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، عن عمرو بن دينار وعطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها: "لا تُكرم أخاك بما يشق عليه". فقال: لم يكن عثمان عندي ممن يكذب، ولكن كان يكتب الحديث مع خالد بن نجيح، وكان خالد إذا سمعوا من الشيخ؛ أملى عليهم ما لم يسمعوا، فبُلوا به.
قلت: وخالد هذا كذاب، كان يفتعل الأحاديث ويضعها في كتب الناس.
وربما كان البلاء من كامل، فإن فيه كلاما على صدقه، وقد تفرد به من بين أصحاب ابن لهيعة، وقال الذهبي في السير (8/26) متعقبا اتهام ابن عدي لابن لهيعة أنه مفرط في التشيع: ما سمعنا بهذا عن ابن لهيعة، بل ولا علمت أنه غير مفرط في التشيع، ولا الرجل متهم بالوضع، بل لعله أُدخل على كامل، فإنه شيخ محله الصدق، لعل بعض الرافضة أدخله في كتابه؛ ولم يتفطن هو.
وقال في تاريخ الإسلام (225/11): لعل البلاء فيه من كامل.
قلت: ويظهر أن أصله مركب من حديث علي السابق، والحديث الموضوع المنسوب إلى عائشة في قصة قبض روح النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتضن عليا في ثوب، رواه ابن الجوزي في الموضوعات (1/392) وغيره.
حديث آخر عن ابن عباس:
رواه الدارقطني في الأفراد (3/293 أطرافه) -ومن طريقه الديلمي في مسند الفردوس (3/64) وابن الجوزي في العلل المتناهية - (384) عن أبي ذر أحمد بن محمد الباغندي، أنا محمد بن علي بن خلف العطار، أنا حسين الأشقر، نا شريك، عن الأعمش، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعا: "علي بن أبي طالب باب حطة، فمن دخل فيه كان مؤمنا، ومن خرج منه كان كافرا".
قال الدارقطني: تفرد بن حسين الأشقر عن شريك، وليس بالقوي.(/46)
قلت: هذا مسلسل بالعلل، فالأعمش مدلس، وقد عنعنه، وشريك ليس بالقوي، وتقدمت الرواية عنهما بخلاف هذا، وحسين الأشقر شيعي واه، ولكن يظهر أن بليّته من العطار، فقال ابن عدي (2/382) بعد أن أورد أحاديث أخرى في فضائل آل البيت من روايته عن الأشقر: ومحمد بن علي هذا عنده من هذا الضرب عجائب، وهو منكر الحديث، والبلاء فيه عندي من محمد بن علي بن خلف.. إلى أن قال: والحسين الأشقر له غير هذا من الحديث، وليس كل ما يُروى عنه من الحديث فيه الإنكار يكون من قِبَله، وربما كان من قِبَل من يروي عنه، لأن جماعة من ضعفاء الكوفيين يحيلون بالروايات على حسين الأشقر، على أن حسينا هذا في حديثه بعض ما فيه.
قلت: وتأتي للعطار رواية أخرى بسند آخر في هذا الباب.
والحديث ذكره الذهبي في ترجمة حسين الأشقر في الميزان (1/532): هذا باطل.
وقال السخاوي في المقاصد (189) وفي الأجوبة المرضية (2/879): سنده ضعيف جدا.
وقال الألباني في الضعيفة (3913): باطل. وقال في ضعيف الجامع (3800): موضوع.
تنبيه: وقع الحديث في كتاب الفردوس عن ابن عباس، وهكذا ساق سنده الغماري في المداوي (4/485) والألباني في الضعيفة (3913)، وهو هكذا في أصله الأفراد للدارقطني، وكتاب ابن الجوزي، وكنز العمال (32910)، وفيض القدير (4/356)، ولكن وقع في زهر الفردوس لابن حجر (كما في حاشية الفردوس): عطاء عن ابن عمر، وتبعه السخاوي في كتابيه، فاقتضى التنويه.
وحديث "علي باب حطة" روي عن الأعمش من وجه آخر عن أبي ذر، وله طريقان آخران إلى أبي ذر، وروي من حديث أبي سعيد الخدري، وحديث علي، وكلها شديدة الضعف، والله أعلم.
تنبيه: وقع في تلخيص الموضوعات (258) للذهبي عن سعد رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول غير مرة لعلي: "إن (مدينة العلم) لا تصلح إلا بي أو بك".(/47)
قلت: وهذا اللفظ تصحيف من ناسخ المخطوط، ولا أصل له مطلقاً في الرواية، ونبّه المحقق أن ما بين قوسين وقع في أصله الموضوعات لابن الجوزي وفي اللآلئ المصنوعة والفوائد المجموعة: (إن المدينة).
على أن الحديث بلفظه المحفوظ موضوع أيضاً، ويُنظر له المجروحين لابن حبان (1/258)، ومنهاج السنة (4/274)، والمصادر السابقة.
ذكرتُ ذلك لئلا يُغتر باللفظ ويُحسب من شواهد الحديث، والله أعلم.
وتبيّن فيما سبق أن حديث مدينة العلم وجميع الأحاديث التي بمعناه وتشبهه: كلها موضوعة، والأمر كما قال العقيلي: لا يصح في هذا المتن شيء.
والله أعلم.(/48)
العنوان: تخفيف الخطبة وتقصيرها
رقم المقالة: 1331
صاحب المقالة: د. عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله الحجيلان
-----------------------------------------
اتفق الفقهاء على استحباب تخفيف الخطبة وعدم الإطالة فيها , فقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة سأسرد بعضها بعد قليل - إن شاء الله تعالى - لأن المقصود من الخطبة إفادة السامعين وتذكيرهم، ولاشك أن الإطالة في الكلام تجعل بعضه ينسي بعضًا، وتجعل السامع يمل منه؛ بل تنُفر الناس من حضور الخطبة، ولكن المقصود والمطلوب في ذلك اختصار غير مخل وغير ممحق للمعني.
ومن الأحاديث الواردة في ذلك:
ما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: "كنت أصلي مع رسول الله - صلى اللّه عليه وسلم - فكانت صلاته وخطبته قصدًا"[1]
وما جاء في صحيح مسلم أيضًا عن واصل بن حيان قال: قال أبو وائل: "خطبنا عمار، فأوجز وأبلغ، فلما نزل، قلنا يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست, فقال: إني سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يقول: ((إنَّ طُول صلاة الرجل، وقِصَر خطبته مئنة من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا))[2]؛ لفظ مسلم، والمئنة: العلامة.
وما أخرجه أبو داود عن عمار بن ياسر, قال: "أمرنا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - بإقصار الخطب"[3] وما أخرج أيضًا أبو داود في سننه عن جابر بن سمرة الوائلي قال:
"كان رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم - لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هن كلمات يسيرات"[4].
ما رواه النسائي عن عبداللّه بن أبي أوفى يقول: "كان رسول الله - صلى اللّه عليه وسلم - يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضي له الحاجة"[5].
وما روي عن جابر بن سمرة قال: "كان النبي - صلى اللّه عليه وسلم - يخطب قائمًا، ثم يجلس ثم يقوم فيقرأ آيات ويذكر اللّه، وكانت خطبته قصدًا، وصلاته قصدًا"[6].
نصوص المذاهب في ذلك:(/1)
في المذهب الحنفي: جاء في "بدائع الصنائع" في سياق ذكر سنن الخطبة: "ومنها أن لا يُطول الخطبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتقصير الخطب، وعن عمر -رضى اللّه عنه - أنه قال: "طولوا الصلاة، وأقصروا الخطبة".وقال ابن مسعود: "طول الصلاة، وقصر الخطبة من فقه الرجل", أي إن هذا مما يستدل به على فقه الرجل"[7].
وفي المذهب المالكي: جاء في "الشرح الكبير" في سياق بيان سنن الخطبة: "وتقصيرهما، والثانية أقصر من الأولى"[8].
وفى المذهب الشافعي: قال النووي في "المجموع": "ويستحب تقصير الخطبة للحديث المذكور وحتى لا يملوها، قال أصحابنا: ويكون قصرها معتدلاً, ولا يبالغ بحيث يمحقها "[9].
في المذهب الحنبلي: جاء في "كشاف القناع" "ويُسن ( أن يقصر الخطبة ) لما روى مسلم عن عمار مرفوعًا: ((إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنة فقهه؛ فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة)). ويسن كون الخطبة الثانية أقصر من الخطبة الأولى كالإقامة مع الآذان"[10].
---
[1] رواه مسلم كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة 6 / 402
[2] رواه مسلم 2 / 406 -407، وأحمد في مسنده 4 / 263، والدارمي في السنن 1 / 303، أبو يعلي في المسند 3 / 206 ابن حزيمة في الصحيح3 / 142، وابن حبان في الصحيح 4م / 199 , والبيهقي في السنن 3 / 208 وفي الآداب (245)
[3]رواه أبو داود كتاب الصلاة باب إقصار الخطب 1 / 289
[4]رواه أبو داود كتاب الصلاة باب إقصار الخطب 1 / 289
[5] رواه النسائي في السنن 3 / 108
[6]رواه ابن ماجه في السنن 1 / 351 والنسائي في السنن 3 / 110 ابن خزيمة في الصحيح 2 / 350، وابن الجارود في "المنتقى" (110)، ورواه بألفاظ مختلفة أبو داود الطيالسي في المسند (105) وعبدالرزاق في المصنف3 / 187 والطبراني في الكبير2 / 216.
[7] الكاساني "بدائع الصنائع" 1 / 263.
[8]الدردير, الشرح الكبير 1 / 382 مع حاشية الدسوقي علية.
[9] النووي, "المجموع" 4 / 582 – 529.(/2)
[10]البهوتي, "كشاف القناع" 2 / 36.(/3)
العنوان: تراجم أحاديث الأبواب دراسة استقرائية في اللغة واصطلاح المحدثين من خلال صحيح البخاري
رقم المقالة: 484
صاحب المقالة: د. علي بن عبد الله الزبن
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين الصلاة والسلام على خاتم المرسلين.
وبعد: لقد اعتنى الأئمة - رحمهم الله - بالجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - عناية فائقة، وليس هذا بغريب على الجامع الصحيح، الذين هو أصح كتاب بعد كتاب الله ، وهو كلام من أوتى جوامع الكلم بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم.
ومما اعتنى به تراجم أبوابه التي قال عنها العلماء: إن فقه البخاري في تراجمه، بل إن تراجمه - رحمه الله - تعالى درر غاص عليها في بحر علمه، ثم قذف بها في بحر كتابه الصحيح.
ولقد أحببت أن أقوم بدراسة للفظه في صحيح البخاري دراسة استقرائية في اللغة واصطلاح المحدثين - أرجو أن أوفق فيها ويساعدني الأخوة الباحثون وطلبة العلم لأني لم أقف على دراسة سابقة لهذا - واستعرضت في هذه الدراسة ما يلي:
1 - الترجمة في اللغة الاصطلاح:
أولاً - الترجمة في اللغة
أ - أصل الكلمة.
ب - اللغات المحفوظة.
ج - اشتقاق الترجمة ومعناها عند أهل اللغة.
ثانياً: المعنى الاصطلاحي وارتباطه بالمعنى اللغوي:
ثالثا: أركان الترجمة:
المترجم ، المترجم له، المترجم به.
رابعاً: لفظ الترجمة:
أ - ما يكون نصا.
ب - ما يكون استنباطاً.
خامساً: شرط صحة الترجمة.
سادساً - الكتب التي ألفت في تراجم أبواب البخاري.
والله أسأل العصمة من الزلل والخلل والخطأ والخطل.
والله من وراء القصد.،،،
"الترجمة في اللغة والاصطلاح"
أولاً: الترجمة في اللغة:
(أ) اختلف أهل اللغة في أصل هذه اللفظة على قولين:
1 - أنها عربية أصيلة.
2 - أنها معربة وليست عربية أصلاً، وأن أصلها "درغمان" فتصرفوا فيها إلى "ترجمان" ثم لما عربت بعد ذلك دخلها الاشتقاق كغيرها من الألفاظ[1].(/1)
ولم يجز الزبيدي بشيء منهما[2].
وأما الحافظ ابن حجر - رحمه الله - فظاهر كلامه ترجيح أنها معربة[3].
(ب) اختلف القائلون بأنها عربية أصلاً على قولين[4]:
1 - أن التاء في فعلها "ترجم" أصلية وعلى هذا فالفعل رباعي على وزن "فَعلَل".
2 - أن التاء في فعلها "ترجم" زائدة ، وعلى هذا فالفعل ثلاثي من "رجم" ووزنها حينئذ وزن المزيد "تَفَعَل"[5].
وممن قال بالأول وأكده الإمام الفيروز ابادي قال: "والفعل يدل على أصالة التاء"[6].
والمراد بقوله هذا أن فتح التاء في لفظه "ترجم" دال على أصالتها وأن الفعل رباعي وزنه "فَعلَل".
وقواه الإمام الحافظ النووي - رحمة الله عليه - قال: "والتاء في هذه اللفظة أصلية ليست بزائدة والكلمة رباعية، وغلطوا الجوهري - رحمه الله - في جعله التاء زائدة وذكره الكلمة في فصل "رجم"[7] وقال أيضاً: "والتاء أصلية وأنكروا على الجوهري كونه جعلها زائدة"[8] قلت: وصرح بهذا العلامة أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي - رحمه الله - قال: "والتاء والميم أصليتان فوزن "ترجم": "فَعْلَل" مثل "دحرج" وجعل الجوهري التاء زائدة وأورده في تركيب "رَجَم" ويوافقه ما في نسخة التهذيب من باب "رجم" أيضاً.
قال اللِّحياني: وهو التَّرجمان والتُّرجمان لكنه ذكر الفعل في الرباعي وله وجه، فإنه يقال لسان مِرْجَمٌ إذا كان فصيحاً قوالاً لكن الأكثر على أصالة التاء"[9].
وممن قال بالثاني وكثرت نسبته إليه الإمام الجوهري - رحمه الله - [10] وتعصب له الإمام الزبيدي فقال: "والترجمان: تفعلان من الرجم، كما يقتضيه سياق الجوهري وغيره، وفي المفردات هو تفعلان من المراجعة بمعنى المسابة، وقد ذكره المصنف[11]. في "ت ر ج م" وكتبه بالحمرة على أنه استدرك به على الجوهري، والصواب ذكره هنا[12]، كما فعله الجوهري وغيره من الأئمة نبهنا عليه آنفا"[13].
قلت: وتنبيهه هو قوله قبل ذلك في مادة "ترجم":(/2)
"(والفعل يدل على أصالة التاء)[14] فيه تعريض على الجوهري حيث ذكره في "ر ج م" مع أن أبا حيان قد صرح بأن وزنه تفعلان، ويؤيده قول ابن قتيبة في أدب الكاتب أن الترجمة تفعله من الرجم"[15].
(ب) اللغات المحفوظة في لفظة "ترجمة":
لا خلاف في أن الراء فهيا ساكنة وإنما اختلفوا في الحرفين:
1 - التاء في أولها.
2 - والجيم وهو ثالثها.
وفيهما أربع لغات:
الأولى: أنهم مضمومان فنقول : "تُرجُمة".
الثانية: أنهم مفتوحان فنقول: "تَرجَمة".
الثالث: أن الأول مفتوح والثاني مضموم فنقول : "تَرجُمة"[16]
الرابعة: أن الأول مضموم والثاني مفتوح فنقول: "تُرجَمة"[17]
وقد رجح الإمام الحافظ النووي - رحمه الله - الثالثة منها[18]. وكذلك العلامة محمد مرتضي الزبيدي رحمه الله[19] وأحمد بن محمد المقري الفيومي[20].
(جـ) اشتقاق "الترجمة" ومعناها عند أهل اللغة:
قال الإمام النووي رحمه الله:
يقال منه: ترجم يترجم ترجمة فهو مُتَرجِم وهو التُّرجُمان بضم التاء وفتحها لغتان والجيم مضمومة فيهما[21].
وقال العلامة الجوهري - رحمه الله -:
ومنه التَّرجَمان والجمع التراجم مثل زَعفَران وزَعَافِر وصَحصَحان وصَحَاصِح[22].
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: "ويقال قد ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر"[23].
وقال العلامة ابن منظور[24] رحمه الله: "التَّرجمان والتُّرجمان: المفسر، للسان وفي حديث هرقل قال لترجمان الترجمان بالضم: والفتح هو الذي يترجم الكلام أي: ينقله من لغة إلى لغة أخرى أ هـ، وفى صحيح مسلم[25] قال أبو جره كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس قال ابن الصلاح: أنه يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفي عليه من الناس إما لزحام منع من سماعه فأسمعهم.
وقال الزبيدي رحمه الله: "المفسر للسان وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر"[26].
وقال الإمام النووي - رحمه الله - عليه: "التَّرجَمة بفتح التاء والجيم وهي التعبير عن لغة بلغة أخرى"[27].(/3)
قلت ومن هذا نفهم أن معنى الترجمة المشترك عند أهل اللغة هو: التفسير أو التعبير أو النقل.
1 - فهو إما تفسير للسان آخر بلسان معروف.
2 - وإما تعبير عنه به.
3 - وإما نقل منه إليه.
ثانيا: المعنى الاصطلاحي وارتباطه بالمعنى اللغوي.
بعد أن درسنا المعنى اللغوي لهذه اللفظة نتساءل ما اصطلاحات المحدثين على هذه اللفظة.
للمحدثين تعريفات على هذا فهم يطلقون الترجمة على معانٍ منها:
1 - سلسلة إسناد معين يروى به عدد من المتون وقد تكلم العلماء في هذا على نوعين.
(أ) تراجم أصح الأسانيد.
(ب) تراجم أوهى الأسانيد[28].
2 - عنوان الباب الذي تساق فيه الأحاديث[29]
وقال ابن الصلاح: وقد أطلقوا على قولتهم: باب كذا وكذا اسم الترجمة لكونه يعبر عما يذكر بها[30] والذي نحن بدراسته التعريف الثاني.
فما الارتباط بين المعنى اللغوي والاصطلاحي؟
وجه الارتباط بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي:
ولعله بعد ذلك قد اتضح لك أن هناك رابطاً قوياً وظاهراً بين المعنيين؛ وهو أن العنوان الذي يكتبه الإمام ويسوق تحت الأحاديث، لا يخرج عن إحدى ثلاث حالات:
الأولى: أنه لسان المؤلف صاحب الترجمة يفسر لسان المتلفظ بالحديث - صلى الله عليه وسلم.
الثانية: أنه تعبير بلسان المؤلف المترجم عن لسان المتحدث عليه الصلاة والسلام.
الثالثة: أنه نقل من لسان المتحدث - صلى الله عليه وسلم - إلى لسان المؤلف المترجم.
قال الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح غفر الله له:
"وليست الترجمة مخصوصة بتفسير لغة بلغة أخرى فقد أطلقوا على قولهم باب كذا اسم الترجمة لكونه يعبر عما يذكر بعده"[31].
"أركان الترجمة"
الترجمة - عند أهل الاصطلاح - لا تقوم إلا على ثلاثة أركان لازمة تقتضيها وجوه القسمة العقلية:(/4)
(الأول): المترجِم بكسر الجيم ويقال: الترجمان وهو اسم الفاعل وهو الإمام الفقيه الذي يدرك معاني النصوص على أصول صحيحة. كالأئمة المشهورين: البخاري، وأحمد، والترمذي، وأبي داود، وابن حبان.وغيرهم - رضي الله عنهم.
(الثاني): المترجم له بفتح الجيم ويقال: المترجم وهو اسم المفعول وهو النص أو النصوص التي يساق للدلالة على ما تضمنه معنى الترجمة.
والنصوص التي ترد تحت التراجم لا تخرج عن ثلاثة أنواع:
1 - الآيات القرآنية الكريمة.
2 - الأحاديث النبوية الشريفة.
3 - الآثار عن الصحابة أو التباعين - رضي الله عنهم أجمعين - ثم لننظر في هذه الأنواع الثلاثة:
هل الإمام البخاري - رحمه الله - تعالى يوردها كلها تحت ترجمة واحدة على أنها مُترجم لها أو مترجم بها؟
والذي لا خلاف فيه أن الأحاديث الصحيحة المسندة لا تخرج عن قول واحد وهو أنها: من المترجم له.
وأما ماعدا ذلك من الآيات والأحاديث المعلقة، وكذلك الآثار فطريقة البخاري فيها محل نظر.
1 - فابن المُنير - رحمه الله - جعلها من المترجم له حيث قال: "باب في الاغتباط في العلم والحكمة".
"وجه مطابقة قول عمر للترجمة..." [32]
2 - وابن جماعة - رحمه الله - جعلها كذلك من المترجم له..
قال: في "باب رفع العلم" مناسبة قول ربيعة للترجمة[33]. فجعل الأثر يدل على الترجمة وليس مها.
3 - وقال الكرماني قوله: في كتاب العلم باب الاغتباط في العلم الحكمة وقوله: قال عمر: ليس هو من تمام الترجمة؛ إذ لم يذكر بعده شيئاً يكون متعلقاً به إلا أن يقال: الاغتباط في الحكمة على القضاء لا يكون إلا قبل كون الغابط قاضياً"[34].
4 - وقال العيني: "كتاب العلم" "باب رفع العلم وظهور الجهل" فإن قلت:
"ما وجه مناسبة قول ربيعة هذا للتبويب[35]؟" فهذا مصير منهم إلى أن الآثار مترجم لها والله أعلم.
وفصل الحافظ ابن حجر - رحمة الله تعالى عليه - فقال:(/5)
"ينبغي أن يقال جميع ما يورد فيه إما أن يكون مما ترجم به أو مما ترجم له، فالمقصود من هذا التصنيف بالذات هو الأحاديث المسندة وهي التي ترجم لها.
والمذكور بالعرض والتبع: الآثار الموقوفة، والأحاديث المعلقة ، نعم والآيات الكريمة، فجميع ذلك مترجم به. إلا أنها إذا اعتبرت بعضها مع بعض واعتبرت أيضاً بالنسبة إلى الحديث يكون بعضها مع بعض، منها مفسِّر ومنها مفسَّر، فيكون بعضها كالمترجم له باعتبار.
ولكن المقصود بالذات هو الأصل فافهم هذا ، فإنه مخلص حسن يندفع به اعتراض عما أورده المؤلف من هذا القبيل والله الموفق[36].
قلت: وبهذا نعرف أموراً:
الأول: أن الأحاديث الصحيحة المسندة هي المقصود الأصلي من الجامع الصحيح للإمام البخاري - رحمه الله.
الثاني: أنها لهذا مترجم لها بلا خلاف.
الثالث: أن الآيات الكريمة والأحاديث المعلقة والآثار الموقوفة مذكورة في الجامع الصحيح على سبيل العرض والتبع.
الرابع: أنها لهذا مترجم بها في الأصل[37]
الخامس: أنها لا تخرج عن هذا الأصل إلا إذا اعتبرت بعضها مع بعض، واعتبرت بالنسبة للحديث الصحيح المسند، فإنها تكون بهذا الاعتبار، منها ما هو مترجم به من وجه ومترجم له من وجه آخر.
ولعل هذه النتائج الخمس واضحة جليلة إلا الخامس فإنه لا يتضح إلا بالمثال وهو: قول البخاري - رحمه الله - عليه:
باب: من قال: إن الإيمان هو العمل لقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال عدد من أهل العلم في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَْ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: عن قول لا إله إلا الله، وقال: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}.(/6)
حدثنا أحمد بن يونس وموسى بن إسماعيل قالا حدثنا إبراهيم ابن سعد حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور".
قال الحافظ رحمه الله: مطابقة الآيات والحديث لما ترجم له بالاستدلال بالمجموع على المجموع لأن كل واحد منها دال بمفرده على بعض الدعوى[38].
فهذا مثال للترجمة التي ورد تحتها حديث مسند.
وأما مثال الترجمة التي لم يرد تحتها حديث مسند وهي من هذا النوع ما رواه البخاري في صحيحه قال:
باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} فبدأ بالعلم وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا العلم. من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقا يطلب به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وقال جل ذكره: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }، وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}، و {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، وقال:{ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((من يرد الله به خيرا يفقهه)). وإنما العلم بالتعلم. وقال أبو ذر: لو وضعتم الصمصامة على هذه – وأشار إلى قفاه - ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تجيزوا على لأنفذتها، وقال ابن عباس: كونوا ربانيين حكماء فقهاء ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره[39].
قلت: وهذه الآيات والأحاديث المعلقة والآثار كلها مترجم لها وهي في الأمر نفسه مترجم بها وأيضاً بعضها مع بعض مترجم له مترجم به هذا من وجه وهذا من وجه.(/7)
وعلى كل حال فإن المتمعن في الجامع الصحيح للبخاري - رحمه الله - يعرف أن هذه المسألة مسألة نسبية لا يمكن الحكم فيها بحكم عام ومطلق على جميع التراجم فيه، فإن لكل ترجمة حالاً خاصة بها، ولكن المراد أنها لا يمكن أن تخرج عما فصلناه بحال والله أعلم.
وختاماً فهذه مقالة طيبة حول الآثار وما كان في حكمها في تراجم الجامع الصحيح للإمام البخاري ، فقد قال الحافظ - رحمه الله - إنه: "عرف من عادته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها وتعيين أحد الاحتمالات في حديث الباب"[40].
"المترجم به"
الثالث: الترجمة وهي:
العنوان الذي يضعه المترجم للدلالة على معنى قائم بما تحته من نصل أو أكثر . ولفظ الترجمة نوعان:
1 - ما يكون نصاً وهو إما آية أو حديث على شرطه، أو حديث ليس على شرطه، أو أثر صحابي.
2 - ما يكون استنباطاً: وهو ما ليس من قبيل النوع الأول بل من كلام الإمام البخاري رحمه الله.
النوع الأول الآية:
باب قول الله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}[41].
2 - حديث على شرطه:
عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"[42].
3 - حديث ليس على شرطه:
أخرج ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعًا "فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه"[43].
وترجم بقوله "باب فضل القرآن على سائل الكلام" كتاب فضائل القرآن 9/66[44]
4 - أثر صحابي:
فسر ابن عباس قوله تعالى {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} قال دعاؤكم إيمانكم. ترجم البخاري "باب دعاؤكم إيمانكم"[45]
"شرط صحة الترجمة"
ولا شك أن أركان الترجمة الثلاثة قد تكون قائمة في حقيقة الأمر، ولكنها لا تصح بحال حتى تستوفي شرطاً واحداً وهو ما يسميه أهل الاصطلاح:(/8)
المناسبة وهي: العلاقة المعنوية التي تربط بين الترجمة والمترجم له. وبعد البحث والتأمل والاستقراء يمكن أن نقول إنها تنقسم إلى جهتين وكل جهة تشمل نوعين:
الجهة الأولى:
جهة إدراكها وهي نوعان أيضاً:
الأول: الخفية وهي: التي تحتاج إلى قوة علمية ودقة فكرية وتوقد ذهني حاضر.
ويعز على الأكثرين ملكها، وهي مما امتلأ به صحيح البخاري - رحمه الله - وتميز به عن غيره من سائر المصنفات الحديثية[46] ولهذا اتهمه بعضهم لما عزَّ عليهم إدراك كثير من مناسبات تراجمه للأحاديث[47].
ومثال ذلك: ما جاء في الجامع الصحيح: قال البخاري رحمه الله: باب: "ما جاء في التطوع مثنى مثنى".
وذكر تحته حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في الإستخارة وفيه جاء: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة... الحديث))[48].
ومراده بهذا الرد على أبي حنيفة وصاحبيه - رحمهم الله - القائلين بأن التطوع في النهار يكون أربعا موصولة[49].
ولا شك أن مناسبة الحديث للترجمة مناسبة دقيقة وخفية يعز على أكثر فحول الرجال إدراكها وإستحضارها. ولهذا ترك الحافظ - رحمه الله - الكلام على الحديث في موضعه الذي هو الظاهر الجلي كما هي عادته فإنه لا يفصل الكلام على حديث من الأحاديث إلا في موضعه الظاهر لطالب العلم.
قال - رحمه الله - :[50] وسيأتي الكلام عليه في الدعوات[51].
مثال آخر: وهو ما جاء في الجامع الصحيح قال البخاري - رضي الله عنه - : باب: "اثنان فما فوقهما جماعة".
حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا خالد عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذ حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ثم ليؤمكما أكبركما"[52].
قلت: ومناسبة الحديث للترجمة مناسبة خفية بل إنها تكاد لا تظهر إلا بعد قوة تدبر وتأمل لأن ما في الترجمة ليس في المترجم. ولهذا عاب بعضهم البخاري في وضعه هذا الحديث تحت هذه الترجمة وظنوا أنه لا يدل عليها.(/9)
قال الحافظ - رحمه الله - : والجواب أن ذلك مأخوذ بالاستنباط من لازم الأمر بالإمامة لأنه لو استوت صلاتهما معا مع صلاتهما منفردين لاكتفى بأمرهما بالصلاة كأن يقول: أذنا وأقيما وصليا[53].
الثاني: الجلية وهي الظاهرة التي لا تحتاج إلى كثير تدبر وتأمل وإنما هي الظاهر المنقدح في الذهن مباشرة وهو أيضاً موجودة في صحيح البخاري - رحمه الله.
مثال ذلك: ما جاء في الجامع الصحيح قال البخاري - رحمه الله - : باب "تفاضل أهل الإيمان في الأعمال".
وذكر تحته حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحياء أو الحياة - شك مالك - فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية))[54].
قال العيني - رحمه الله -: مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وهي أن المذكور فيه هو أن القليل جداً من الإيمان يخرج صاحبه من النار والتفاوت في شيء فيه القلة والكثرة ظاهر وهو عين التفاضل[55].
قلت: ولهذا قال الحافظ رحمه الله: ووجه مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهر[56]
والمقصود: مطابقة الترجمة للمترجم من النصوص وهي نوعان:
الأول : المطابقة الكلية وهي: التي تكون الترجمة فيها مطابقة للمترجم مطابقة تامة من كل وجه فكل ما دل المترجم عليه فهو وارد في الترجمة.
مثال ذلك: ما جاء في الصحيح قال البخاري - رحمه الله - :
باب: "من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وعن حسين المعلم قال حدثنا قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[57].(/10)
فأنت ترى أن هذا الحديث مطابقة مطابقة تامة للترجمة بل إن الترجمة ألفاظ مختصرة من نص الحديث وهذا واضح بحمد الله.
ومثال آخر: وهو ما جاء في الصحيح قال البخاري رحمه الله:
باب: "الإيجاز في الصلاة وإكمالها".
حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا عبد العزيز عن أنس قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجز الصلاة ويكملها"[58].
وهذا الحديث هو الآخر مطابق للترجمة مطابقة كلية فإن كل ما دل عليه الحديث من المعاني قائم في الترجمة والله المستعان.
الثاني: المطابقة الجزئية وهي التي تكون الترجمة فيها مطابقة للمترجم مطابقة ناقصة فليس كل ما دل عليه المترجم وارداً في الترجمة بل إن الترجمة دالة على جزء من المترجم فقط.
مثال ذلك: ما جاء في الصحيح قال البخاري رحمه الله:
باب: "من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان":
حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار))[59].
قال العيني رحمه الله: مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن الحديث مشتمل على ثلاثة أشياء وفيما مضى بوبه على جزء منه وههنا بوب على جزء آخر."[60].
قلت : ولا شك أن الترجمة ليس فيها كل ما في الحديث بل فيها جزء لما فيه، كما قال العيني فوجه المطابقة هنا وجه جزئي والله أعلم.
فصارت المناسب حينئذ أربعة أنواع:
1 - المناسبة الخفية.
2 - المناسبة الجلية.
3 - المناسبة المطابقة مطابقة كلية "تامة".
4 - المناسبة المطابقة مطابقة جزئية "ناقصة".
ولا يمكن أن توصف ترجمة من التراجم إلا بوصفين فقط ولابد منهما واحد من وصفي جهة الإدراك، وآخر من وصفي جهة المطابقة فقط والله أعلم.(/11)
الكتب التي ألفت في تراجم البخاري
لقد أعتنى الأئمة - رحمهم الله تعالى - بالجامع الصحيح للإمام البخار ي عناية فاقت أي كتاب - خلا كتاب الله تعالى - وليس هذا بغريب على الجامع الصحيح، وهو الذي جمع كلام من أوتي جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - صحة - وإننا حين ننظر إلى الكتب التي ألفت في صحيح البخاري نجد أن العلماء تنوعت هممهم في شرحه وإيضاح مقاصده ونكاته الفقهية والبلاغية والنحوية، واعتنوا برجاله وأسانيده وثلاثياته ورباعياته، وألفوا في مستخرجاته وأطرافه ومختصراته، فقد وصل الأمر إلى أن يعتنوا بفن قراءة الصحيح.
بل شملت العناية كل جزء من الصحيح[61] حتى تراجم الأبواب فإنها قد حظيت بنصيب من التصنيف والتأليف فمن ذلك.
1 - المتواري على تراجم البخاري لابن المُنير، المتوفى سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
2 - ترجمان التراجم لابن رشيد المتوفى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة.
3 - تراجم البخاري لابن جماعة.
4 - فك أغراض البخاري في الجمع بين الحديث والترجمة لمحمد بن منصور ابن حمامه السجلماسي[62].
5 - شرح تراجم صحيح البخاري[63] لولي الله الدهولي المتوفى سنة ست وسبعين ومائة وألف.
6 - الأبواب والتراجم للبخاري[64] للشيخ محمد زكريا بن حييى الكاندهلوى.
هؤلاء بعض الأئمة الذين وقفت عليهم:
ابن المنير
وممن وقفنا على كتبهم حية ناطقة بسعة علمهم وإدراكهم الإمام العلامة أحمد بن محمد بن منصور بن مختار القاضي ناصر الدين أبو العباس بن المنير الجذامي، ولد سنة عشرين وستمائة[65].
كان عالماً فاضلاً له اليد الطولي في الأدب وفنونه، وله مصنفات مفيدة استعمل في قضاء الإسكندرية[66]، وولي خطابة جامعها مرتين ودرس فيها.
قال عنه الإمام الشيخ عزَّ الدين بن عبد السلام: ديار مصر تفخر برجلين في طرفيها ابن المنير بالإسكندرية وابن دقيق العيد بقوص[67].
له عدة تصانيف منها كتابه "المتوارى على تراجم البخاري"[68](/12)
وقد اختلف الناسبون لهذا الكتاب وخلطوا بين مؤلفه وبين أخيه على بن محمد زين الدين أبي الحسن.
(أ) فممن نسبه إلى ناصر الدين، أحمد بن محمد.
1 - الإمام ابن رشيد في كتابه "ملء العيبة" قال: ولم يعرض له الإمام أبو العباس ابن المنير[69]،[70]. وقال في موضع آخر: استدركنا على الإمام ناصر الدين تراجم عديدة أغفلها"[71].
قلت: وناصر الدين لقب أحمد بن محمد، وأبو العباس كنيته.
2 - قال الإمام ابن حجر: وقد جمع الإمام العلامة ناصر الدين أحمد ابن المنير أربعمائة ترجمة وتكلم عليها ولخصها القاضي بدر الدين ابن جماعة"[72].
3 - وفي مقدمة المتواري قال فيه: "قال الإمام الفقيه الأجل ناصر الدين أبو العباس أحمد بن محمد"[73].
4 - ذكر صاحب تاريخ التراث العربي أن في مكتبة بايزيد "تركيا" مخطوطا للمتواري ونسبه إلى أبي العباس أحمد بن محمد بن منصور بن المنير كتب في القرن الثامن"[74].
5 - ذكر صاحب فوات الوفيات أن له مؤلفاً على تراجم البخاري وكذلك صاحب الديباج المذهب ومؤلف حسن المحاضرة[75].
6 - ذكر صاحب نيل الابتهاج أن ناصر الدين قد تكلم على أربعمائة ترجمة مشكلة[76].
(ب) والذين نسبوه إلى على بن محمد الملقب بزين الدين.
1 - صاحب كشف الظنون قال وشرح الإمام ناصر الدين على بن محمد الإسكندراني... وله أيضاً كلام على التراجم سماه "المتوارى على تراجم البخاري" [77].
2 - صاحب معجم المؤلفين نسبه إليه، وكذلك مؤلف هدية العارفين[78].
والذي يظهر أن منشأ الخلاف أن كلا الاثنين له مؤلف على البخاري فمن هنا نشأ الخلط بينهما.
والذي يظهر لي أن الكتاب لأحمد بن محمد للأدلة الماضية، والذين أثبتوا الكتاب لعلي بن محمد لا يناهض إثباتهم الأدلة الأخرى.
أما صاحب كشف الظنون فإنه خلط بين لقبه واسمه فإن ناصر الدين لقب لأحمد بن محمد، وعلى بن محمد لقبه زين الدين.(/13)
أما كلام صاحب هدية العارفين ومعجم المؤلفين فإنه لا يناهض كلام معاصري المؤلف من أمثال ابن رشيد وابن حجر ثم مخطوطات الكتاب التي تثبت أنه لناصر الدين أبي العباس أحمد بن محمد... والله أعلم.
وله مؤلفات منها:
1- الانتصاف من الكشاف[79].
2- تفسير حديث الإسراء[80].
وقد توفى - رحمه الله - بالثغر في ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وستمائة[81] - رحمه الله - وأسكنه فسيح جناته.
ابن رشيد
وممن كتب في التراجم استقلالا فخر فاس وحافظها ومسندها محب الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن إدريس بن سعيد بن مسعود ويعرف بابن رشيد[82] في كتابه ترجمان التراجم ولد في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وستمائة[83] في سبته ودرس الفقه على المذاهب الأربعة، وكان له تحقق بعلم الحديث وضبط أسانيده، وميز رجاله، ومعرفة انقطاعه واتصاله، وهو ثقة عدل عند أهل هذا الشأن، له اهتمام بالحديث وتآليفه. فألف في التراجم كتابه "ترجمان التراجم في إبداء وجه مناسبات تراجم البخاري لما تحتها مما ترجمت عليه" [84].
وهو كتاب نفيس في هذا الموضوع قال عنه ابن حجر: "وصل فيه إلى كتاب الصيام ولو تم لكان في غاية الإفادة وإنه لكثير الفائدة مع نقصه[85]، وقال عنه الكناني "أطال فيه النفس في إبداء المناسبات لتراجم صحيح البخاري" [86].(/14)
ولم أقف عليه مخطوطا: ولكني وقفت على ترجمة أوردها بنصها في كتابه" ملء العيبة" وهي تدل على عمق ودقة فهم في استخراج حكمه البخاري حيث قال: "الحمد لله المنعم المفضل، الوهاب المجزل مربي في مطالعتي ما قدر من صحيح الإمام الناصح أبي عبد الله البخاري - رضي الله عنه - ، وإطلاعي على غوامض مأخذه على ما قسم لي، قوله - رضي الله عنه - : باب قدركم ينبغي أن يكون بين المصلي وسترته ثم أورد فيه حديث سهل - رضي الله عنه - : قال كان بين مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار ممر الشاه وهو معنى ما ترجم له، ثم أتبعه حديث سلمة قال: ((كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاه تجوزها)). فنظرت ما سبب إدخال هذا الحديث في هذا الباب، فظهر لي، والحمد لله، ما أضمره فيه، وذلك أنه قد قدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على المنبر، وأعاده أيضاً بعد. فلما قدم هذا واحتاج هنا أن يبين مقدار ما يكون بين المصلى وسترته، أتى بالحديث الأول نصاً في مقصده ثم أتبعه هذا الثاني مستنبطاً من معينه ذلك المعنى وشاهداً له عليه، لأنه لما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على المنبر كما قدم، وأثبت هنا ابن المنير بينه وبين الجدار يعني القبلة ما لا تكاد الشاة تجوزه، أنتج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بينه وبين قدر ممر الشاه أو بنحو ذلك، فثبت أن المصلى يكون بينه وبين الجدار قدر ممر الشاه بهذا الحديث أيضاً كما ثبت بالأول هو نص في معنى الترجمة، فانتظم الدليل التام بين الترجمة والحديث فيما ظاهره الانصداع، واتفق ما قدر من لا علم عنده بالمعاني أنه متنافر والحمد لله.(/15)
فإن قيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - نزل عن المنبر فسجد على الأرض في أصل المنبر وذلك أكثر من قدر ممر الشاه قلنا: قد حصل أكثر أجزاء الصلاة على المنبر وبينه وبين الجدار ذلك المقدار الذي تضمنته الترجمة المسوق لها الحديث الأول المسوق على الحديث الثاني أو قريب منه، وإنما نزل - صلى الله عليه وسلم - لأن درجة المنبر ضاقت عن السجود والله الموفق.
فلما تحققت أنها الدرة التي غاص عليها الإمام أبو عبد الله - رحمه الله - في بحر علمه، ثم قذف بها في بحر كتابه إلى أن يظفر بها من ذخرها له استخرجتها وجلوتها على من أثق بصحة تميزه وسلامه نظره، فأجلها وأحلها منزلتها من الاستحسان، وأعدها من فرائد الفوائد، لما جبل عليه من الاتصاف بالإنصاف. فسألني بعض الأصحاب المجتهدين زاده الله حرصا على طلب العلم النافع أن أقيد له ذلك الذي ظهر فيها فأجبت سؤاله والله المرشد، قاله ابن رشيد أرشده الله. انتهى الجواب[87].
وله أيضاً "إفادة النصيح في التعريف بسند الجامع الصحيح"[88] و"السنن الأبين والمورد الأعين في المحاكمة بين الإمامين في المسند المعنعن"[89].
وكتاب "ملء العيبة بما جمع في طول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة"[90] وهو المشهور برحله ابن رشيد، وهو من أشهر المؤلفات في الرحلات التي كان يقوم بها العلماء أنذاك. وقد أودع فيه كثيرا من الحكم والنكات الفقهية والحديثية وغيرها وذكر فيه جزءاً من التراجم وسماعات العلماء" وغير ذلك من المؤلفات.
أثنى عليه العلماء في فضله وعلمه، قال عنه ابن الخطيب في تاريخ غرناطة: "كان فريد دهره عدالة وجلالة وحفظا وأدبا وهديا عالي الإسناد صحيح النقل تام العناية بصناعة الحديث قيما عليها بصيراً بها محققا فيها ذاكراً للرجال فقيهاً"[91].
وقال عنه ابن خلدون: "كبير مشيخة المغرب وشيخ المحدثين الرحالة وسيد أهل المغرب"[92].(/16)
توفي بفاس في الثالث والعشرين بشهر محرم من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة - رحمه الله - وأسكنه فسيح جناته[93].
ابن جماعة
قرن من الزمان ينقص قليلاً عاشها الإمام القاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة فقد عاش أربعة وتسعين عاماً قضاها في العلم والتعليم والقضاء الحسبة والخطابة تنقل بين مصر والشام وفلسطين واستقر به المقام في مصر حيث أتاه اليقين.
فقد ولد في حماة من أرض الشام سنة تسع وثلاثين وستمائة، وتعلم بها، ثم انتقل كغيره إلى أقطار المسلمين للعلم والتعليم ثم باشر التدريس والقضاء مدة طويلة حيث عمر طويلاً - رحمه الله - تعالى[94].
وكان له اليد الطولى في كثير من العلوم في التفسير ولحديث والفقه والعقيدة والنحو والتاريخ والفلك[95].
قال عنه السبكي[96]: حاكم لاقليمين: مصر وشاما...
محدث فقيه ذو عقل لا يقوم أساطين الحكماء بما جمع فيه.
وقال عنه الذهبي[97]: كان قوي المشاركة في الحديث عارفاً بالفقه وأصوله ذكياً فطناً مناظراً متفنناً حصيفاً تام الشكل وافر العقل حسن الهدي.. وكان صاحب معارف يضرب في كل فن بسهم وله وقع في النفوس وجلالة في الصدور.
توفي - رحمه الله - في مصر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بعد حياة مليئة بالجهاد والتعليم والقضاء إذ استمر يدرس في بيته بعد أن تقدم به السن وكف بصره حتى الرمق الأخير - رحمه الله - تعالى[98].
ألف رسالة صغيرة في تراجم البخاري لأحاديث أبوابه استعرض فيها التراجم التي لا يظهر فيها للناظر علاقة بالترجمة وبين المناسبة، ولماذا أورد البخاري هذا الحديث في هذا الباب[99].
ولي الله الدهلوي
الشيخ أحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدين العمري الدهلوي الشهير بولي الله الدهلوي.
ولد يوم الأربعاء لأربع عشرة خلون من شوال سنة أربع عشرة ومائة وألف للهجرة.
درس على يد والده، وكان أبوه من مشايخ دهلى وأعيانهم، ورحل إلى الحرمين وأخذ عن أبي الطاهر محمد بن إبراهيم الكردي، وله منه إجازة عامة.(/17)
له اطلاع في علوم التفسير والحديث والفقه واللغة العربية وغيرها فدرس وألف فيها ومن كتبه "الزهراوين في تفسير سورة البقرة، وآل عمران"، "الفوز الكبير في أصول التفسير"، و"المصفى في شرح الموطأ"، "النوادر من أحاديث سيد الأوائل والأواخر وغيرها"[100].
أما كتابه شرح تراجم الأبواب للبخاري، فقال عنه عبد الحي الحسني: "أتى فيه بتحقيقات عجيبة وتدقيقات غريبة[101] وقال عنه أبو الحسن الندوي[102] وغير ذلك من المؤلفات وقد كان على يديه - رحمه الله - إحياء علوم السنة في الهند بعد اندراسها[103].
توفي في دهلى سنة ست وسبعين ومائة وألف رحمه الله[104]
الأبواب والتراجم لصحيح البخاري.
تأليف الشيخ: محمد بن زكريا بن يحيى الكاندهلوي.. وقد اهتم بطبعة ونشره نصر الدين المولوي ناظم المكتبة اليحوية، وقد رأيت منه ثلاثة أجزاء جعل الجزء الأول منه كدراسة لأساليب البخاري في تراجمه، وابتداء من الجزء الثاني في إيضاح مقاصد البخاري في تراجمه، وكذلك الجزء الثالث، ووصل إلى كتاب الأذان "باب استئذان المرأة زوجها"[105].
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] تاج العروس 8/211.
[2] تاج العروس 8/211.
[3] فتح الباري 1 / 34.
[4] إنما اختلف هؤلاء دون من قال بأنها معربة لأن من قال بأنها معربة هي عنده أصلية كلها ووزنها رباعي (فعلل).قال الزبيدي: "قلت: إذا كان معربا فموضع ذكره هنا – يعني في الرباعي (ترجم) – لأنه حينئذ لا يشتق من رجم فتأمل".
تاج العروس 8/211.
[5] تاج العروس 8/211.
[6] القاموس المحيط 4/84.
[7] تهذيب الأسماء واللغات ق2/ جـ1/ 41.
[8] شرح صحيح مسلم 12/104.
[9] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي 1/81.
[10] الصحاح 5/1928 فقد ذكره تحت مادة (رجم).
[11] يعني الفيروز أبادي فإن تاج العروس شرح للقاموس .
[12] يعني في مدة (رجم).
[13] تاج العروس 8/305.
[14] هذا من متن القاموس وما بعده شرح الزبيدي في التاج.
[15] تاج العروس 8/211.(/18)
[16] هذه اللغات الثلاث وردت في تاج العروس 8/211، والمصباح المنير 1/81.
[17] لم أجد من ذكر هذه اللغة سوى الحافظ ابن حجر غفر الله له في فتح الباري 1/34 قال: "ولم يصرحوا بالرابعة وهي: ضم أوله وفتح الجيم".
[18] شرح مسلم 12/104
[19] تاج العروس 8/211.
[20] المصباح المنير 1/81.
[21] تهذيب الأسماء واللغات ق2/ جـ1/ 41.
[22] الصحاح 5/1928، ولسان العرب 12/229.
[23] الصحاح 5/1928.
[24]لسان العرب 12/229.
[25] صحيح مسلم 152.
[26]تاج العروس 8/211.
[27] تهذيب الأسماء واللغات : ق2/ جـ1/ 41، وشرح مسلم 1/186 مع يسير عن التهذيب.
[28] فتح المعين 1 – 16 – 21 نكت الحافظ على ابن الصلاح والوافي 1/247، 266، 495 وما بعدها.
[29] توضيح الأفكار 1 : 40.
[30] حياته صحيح مسلم 152.
[31] حياته صحيح مسلم 152.
[32] المتوارى.
[33] مناسبات تراجم البخاري 35.
[34] الكواكب 2/41.
[35] عمدة القاري 2/81.
[36] هدي الساري مقدمة فتح الباري ص19.
[37] انظر على سبيل المثال فتح الباري 1/137 باب (42) حديث (57).
[38] فتح الباري 1/77.
[39] البخاري مع الفتح 1/159 – 160، ومثال آخر 1/109 – 110 باب (36).
[40] الفتح 2/125 باب وجوب صلاة الجماعة حديث (644).
[41] كتاب الطلاق، البخاري مع الفتح 9/345.
[42] كتاب الفتن، البخاري مع الفتح 13/26.
[43] الكامل 5 : 1705.
[44] كتاب فضائل القرآن البخاري مع الفتح 9/66.
[45] كتاب الإيمان، البخاري مع الفتح 1/49
[46] نبه على هذا الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، انظر لفتح 1/8، 148، وأشار إليه ابن المنير في المتوازي.
[47] انظر المصدر السابق.
[48] صحيح البخاري مع فتح الباري 3/48 (1162).
[49] أفاده الحافظ في الفتح عند شرحه للحديث 3/49 ، 50.
[50] الفتح 3/49.
[51] الفتح 11/183 (6382)، باب الدعاء عند الاستخارة.
[52] صحيح البخاري مع فتح الباري 2/142 و 658.
[53] الفتح 2/142.(/19)
[54] انظر صحيح البخاري مع الفتح 1/72.
[55] عمدة القاري 1/168 ، 169.
[56] فتح الباري 1/73.
[57] انظر صحيح البخاري مع الفتح 1/56 ، 57.
[58] انظر صحيح البخاري مع الفتح 2/201 (706).
[59] انظر صحيح البخاري مع الفتح 1/72 (21).
[60] عمدة القاري 1/167.
[61] راجع كشف الظنون فقد ذكر ما يزيد على ثمانين مصنفاً 1/544، ومفتاح السنة 38 وما بعدها، وتاريخ التراث العربي وقد ذكر ما يزيد على سبعين مؤلفا وأماكن وجودها 1 / 229.
[62] مقدمة فتح الباري 14.
[63] لامع الدارري 1/287، وتاريخ التراث العربي 1/250، وقد طبع في دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد سنة 1323، الأبواب والتراجم للبخاري 1/ج.
[64] الأبواب والتراجم للبخاري طبع في مطبعة ندوة العلماء سنة 1394هـ.
[65] الوافي بالوفيات 8/128، فوات الوفيات 1/149، المشتبه 2/617.
[66] معجم المؤلفين 2/161.
[67] الوافي بالوفيات 8/128.
[68] طبع بمكتبة المعلا بالكويت سنة 1407هـ.
[69] كذا بأصل المخطوط وقد عدله المحقق إلى أبي الحسن، وعملنا بأصل المخطوط.
[70] ملء العيبة 3/368 – 369.
[71] ملء العيبة 3/368 – 369.
[72] مقدمة الفتح 14.
[73] المتواري.
[74] تاريخ التراث العربي 1/249.
[75] فوات الوفيات 1/149، الديباج المذهب 1/25، حسن المحاضرة 1/316.
[76] نيل الابتهاج 203.
[77] كشف الظنون 1/546.
[78] معجم المؤلفين 7/234، هدية العارفين 1/714.
[79] درة الحجال 1/10.
[80] الوافي بالوفيات 8/129.
[81] فوات الوفيات 1/148.
[82] الدرر الكامنة 4/230، البدر الطالع 2/234.
[83] البدر الطالع 2/234، ذيل تذكرة الحفاظ.
[84] درة الحجال 2/97، فهرس الفهارس 1/332.
[85] مقدمة فتح الباري 1/14.
[86] فهرس الفهارس 1/332.
[87] ملء العيبة 3/369.
[88] طبع بالدار التونسية للنشر بتحقيق الدكتور الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة.
[89] طبع بالدار التونسية للنشر بتحقيق الدكتور الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة.(/20)
[90] اطلعت على الجزء الثالث والخامس بتحقيق الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة وحقق جزءاً منه رسالة دكتوراه في جامعة عين شمس، كلية الآداب، قسم التاريخ، مقدمة من نجاح صلاح الدين العابسي بإشراف الدكتور حسن حبشي عام 1395هـ.
[91] بغية الوعاة 85.
[92] فهرس الفهارس 1/332.
[93] درة الحجال 2/99.
[94] الوافي بالوفيات.
[95] طبقات الشافعية 9/39.
[96] الدرر الكامن 39/367.
[97] طبقات الشافعية 9/139، الوافي بالوفيات: 2/18.
[98] الدرر الكامنة 3/367.
[99] طبعت في الدار السلفية بالهند عام 1404هـ.
[100] الأعلام 1/144، فهرس الفهارس 1/125، أيضاًح المكنون 1/65، 161.
[101] نزهة الخواطر 6/408.
[102] وقال عنه أبو الحسن الندوي: (رسالة وجيزة المعنى غزيرة المعاني، تكاد تكون كلها أصولا كلية ونكتا حكمية ولب اللباب في فهم التراجم والأبواب).
[103] فهرس الفهارس 1/125.
[104] معجم المؤلفين 3/169.
[105] طبع في مطبعة ندوة العلماء لكنهو (الهند) 1394هـ ط/ الثانية.(/21)
العنوان: تربية الأولاد وتعليمهم
رقم المقالة: 756
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي من على عباده بالأموال والأولاد وجعل ذلك فتنة لعباده ليختبر بذلك من يقوم بحقهم ويصونهم عن الفساد ممن يضيعهم ويتركهم هملاً فيكونون خسارة عليه في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكريم الجواد، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الداعي إلى الهدى والرشاد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان في القول والفعل والاعتقاد وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروا نعمة الله عليكم بهؤلاء الأولاد الذين جعلهم الله فتنة لكم، فإما قرة عين في الدنيا والآخرة وإما حسرة وندم ونكاد. ألا وإن من شكر نعمة الله عليكم فيهم أن تقوموا بما أوجب الله عليكم من رعايتهم وتأديبهم بأحسن الأخلاق والأعمال قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(/1)
أيها المؤمنون، قوا أهليكم النار بفتح أبواب الخير لهم وتوجيههم إليها وتشجيعهم عليها، بينوا لهم الحق ومنافعه ومروهم به وبينوا لهم الباطل ومضاره وحذروهم عنه. فإنكم رعاة عليهم وكل راع مسؤول عن رعيته، فمن قام بحسن رعايته فيهم أفلح ونجا، ومن فرط في رعايته فيهم خسر وهلك. عرفوهم بأصول الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ألزموهم بأركان الإسلام وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداًً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام، مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، علموهم كيف يتطهرون وكيف يصلون وماذا يقولون في صلاتهم وما يفعلون وماذا يجتنبون ويتركون، اغرسوا في قلوبهم محبة الله وتعظيمه، وبينوا نعم الله الظاهرة والباطنة العامة والخاصة لترسخ في قلوبهم محبة الله وذكر آلائه ونعمه، واغرسوا في قلوبهم كذلك محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينوا ما حصل على يديه من الخير العظيم لأمته، وأنه - صلى الله عليه وسلم - الإمام المطاع الذي يجب تقديم محبته وأمره على جميع المخلوقين، بينوا لهم أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخلاق أصحابه الكريمة وما قاموا به من العبادات الجليلة والأعمال العظيمة حتى نصر الله بهم الإسلام وأقام بهم الدين، فإنهم هم العظماء النبلاء الذين حازوا قصب السبق في أعمال الدنيا والآخرة وقادوا الناس إلى الخير فانقادوا إلى ذلك برغبة صادقة. لما نظر الناس إلى أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأعمالهم عرفوا أنهم على الحق وأن طريقتهم هي الطريقة المثلى التي يقوم عليها أمر الآخرة والدنيا فدخلوا في دين الله أفواجاً من غير إكراه.(/2)
علموا أولادكم الصدق بالقول والفعل، فإذا حدثتموهم فلا تكذبوا عليهم وإذا وعدتموهم فلا تخلفوا وعدكم. يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أن من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة))، وإن أولادكم إذا رأوكم تكذبون هان عليهم الكذب وإذا رأوكم تخلفون الموعد هان عليهم الإخلاف. عودوهم الإحسان إلى الخلق وفعل المروءة وحذروهم من الاعتداء والظلم، اغرسوا في قلوبهم محبة المؤمنين، وبينوا أن ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) وأن الواجب على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة ليشبوا على الألفة والمحبة والاتحاد. ومن كان من أولادكم يستطيع القراءة فحثوه على قراءة الكتب النافعة مثل كتب التفسير القيمة السالمة من تحريف معاني القرآن، ومثل كتب الحديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومثل مؤلفات شيخنا عبد الرحمن السعدي - غفر الله لهم جميعاً - ومثل كتب التاريخ الصحيحة البعيدة عن الأهواء، خصوصاً تاريخ صدر الإسلام لأن قراءة تاريخ ذلك العصر يزيد القارئ علماً بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومحبة لهم وفقها في الدين وأسرار أحكامه وتشريعاته، وحذورهم من قراءة الكتب الضارة التي تخل بعقيدة الإنسان أو عباداته أو أخلاقه، ومن قراءة الصحف والمجلات الضالة التي تتضمن الشك والتشكيك وإثارة الفتن أو تبحث في أمر من أمور الدين على وجه الخطأ، فإن قراءة مثل هذه الكتب الضارة تؤثر في عقيدة قارئها واتجاهه إلا من شاء الله ممن وهبهم الله علماً وإيماناً وتمييزاً بين الحق والباطل والضار والنافع. أيها المؤمنون، إن مسؤوليتنا كبيرة أمام الله في أولادنا وأهلنا ذكورهم وإناثهم، فنسأل الله الذي حملنا إياها أن يعيننا وأن يوفقنا للصلاح والإصلاح، فإن الفرد لو أصلح نفسه وأهله لصلحت الأمة لأن الأمة أفرادها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً *(/3)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70،71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: تربية الأولاد
رقم المقالة: 1853
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
تربية الأولاد
ملخص الخطبة:
1- نعمة صلاح الذرية.
2- صلاح الذرية مطلب الأنبياء والصالحين.
3- ضرورة الدعاء للأولاد.
4- التربية بالقدوة الحسنة.
5- تعاهُد الأولاد ومناصحتهم.
6- ثمرات صلاح الأولاد.
7- ضلال المجتمعات الكافرة، وانتشار الجريمة فيها.
ــــــــــــــــــــــــــ
الخطبة الأولى
أما بعد: فيأيها الناس، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.
عباد الله، صلاحُ الأبناء والبنات أمنيّةٌ للآباء والأمهات، صلاح الأولاد ذكورهم وإناثِهم نعمةٌ عظيمة، ومِنَّة جليلة من رب العالمين. ما أسعدَ المسلمَ وهو ينظر إلى أولاده قد هداهم الله الطريقَ المستقيم، ورزقهم الاستقامة على الدين والهدى، يحبهم ويحبونه، يودّهم ويودّونه، إنْ أمَرَهم أطاعوه، فهم يبرّونه، ويطيعونه، وينفّذون أوامره في طاعة الله، قرّت بهم عينُه، وانشرح بهم صدرُه، وطابت بهم حياته، تلك نعمة عظيمة من الله. أولادٌ رُبُّوا تربية صالحةً، هُذِّبت أخلاقهم، حسُن سلوكهم، طابَتْ ألْفاظُهم، حسُنت معاملتُهم لرَبّهم قبل كُلّ شيء، ثم للأبوين، ثم للإِخوانِ والجيران والأرحام والمسلمين عمومًا. رُبُّوا على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، فصاروا عونًا للأبوين على كلّ ما أهمّهم من أمر دينهم ودنياهم.(/1)
أيّها المسلمون، ولعظيم هذا الشأن نرى أنبياءَ الله وخيرته من خلقه يسألون الله لذريَّتهم الصلاح والهداية، قال - تعالى - عن الخليل - عليه السلام - وهو يدعو ربَّه بتلكم الدعوات: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]؛ أي: اجعل من ذريتي من يصلي ويزكي، وها هو زكريا - عليه السلام - ينادي ربه قائلاً: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]، وها هم المؤمنون كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون في دعائهم: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، وها هو الرجل الصالح الذي أنعم الله عليه بنِعَمه، يتذكَّر نِعَم الله عليه، ويقول شاكرًا لنعم الله، شاكرًا لآلائه وإفضاله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].(/2)
أيها المسلم، فأولادك من ذكورٍ وإناث بأمسِّ الحاجة إلى دعوات منك إلى الله أن يهديَهم صراطه المستقيم. الجأ إلى فاطر الأرض والسموات، وادعُه آناء الليل وأطراف النهار أن يصلحَ لك عقِبك، وأن يعيذهم من مكائد شياطين الإنس والجن، وأن يحفظهم بالإسلام، ويرزقهم الثباتَ والاستقامة عليه، فتلك قرة أعين المؤمنين، {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. فالآباء يوم القيامة قد تعلو منزلتهم وإن ضعُفت بأعمالهم؛ إكرامًا من الله للأبناء الصالحين، وقد يرفع الله منزلة الأبناء إكرامًا للآباء الصالحين؛ إذا كان الإيمان جامعًا للجميع.
أيها المسلم، أولادُك بأمسِّ الحاجة إلى دعائك، وبأمسِّ الحاجة إلى رعايتك، لتُربِّهم تربيةً صالحة، يسعدون بها في حياتهم وآخرتهم، وتسعَد أنت أيضًا بذلك، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، ومع دعاء الله، ومع الالتجاء إلى الله، ومع التضرُّع بين يدي الله، فاعلم - أيها الأب الكريم - واعلمي - أيتها الأم الطيبة - أن تربيةَ الأولاد وصلاحَهم واستقامتهم، بعد إرادة الله، متوقفٌ على حركاتِ وسكنات الأبوين، على أقوالهم وأفعالهم، فالأبناء والبنات من الصِّغر يرقُبون أخلاقَ الأبوين، ويرقبون كلامَهم وتصرّفاتهم كلَّها، يرقبون أحوال الأبوين، فالأبناء والبنات إنْ تَربَّوْا في أحضانِ أبٍ يَخافُ اللَّه، وأمٍّ تَخْشى الله؛ نَشَؤُوا على ذلك الخلق الكريم.(/3)
أيها الأب الكريم، إنَّ أولادك مرآةٌ يعكسون أخلاقك وأعمالك، إنْ رأوك تعظِّم الله وتخافه؛ عظَّموا الله جل وعلا، إن رأوْكَ تَخشى الله وتتَّقيه؛ خَشَوُا الله واتقَوْه في أعمالهم بتوفيق من الله، إن رأوْكَ ذا محافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، إن رأوك على هذه الصفة؛ تأسَّوا بك فحافظوا عليها، إن رأوك معظِّمًا لأبيك وأمك؛ فإنهم سيعاملونك كذلك، إن رأوك تجالس ذوي التقى والصلاح بعيدًا عن أهل الإجرام والإفساد؛ نفروا من تلك الشلل الفاسدة والمجتمعات الآسنة، إن رأوا منك كلمات طيبةً وألفاظًا حسنة؛ كانت ألفاظهم كذلك، وإن سمعوا منك السِّباب واللعان والقبح والفحش في الأقوال؛ سمعتَ منهم مثل ذلك وأشدّ.(/4)
أيها الأب الكريم، لا بدّ من عظةٍ للأبناء ونصيحة لهم، ورسم الطريق الصالح ليسلكوه، اسمعِ اللَّه يُحَدّثنا عن لقمان الحكيم: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، يُحذِّره من شركٍ بالله، ويأمره بإخلاص الدين لله، ثم يوجِّهه للأخلاق الكريمة: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، ويحذِّره من الأخلاق السيئة: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18 - 19]، فهو يحذره من الكِبْرِ والعُجْبِ والتعالي على الناس بكل أحواله، ويبيّنُ لَهُ أيْضًا أنَّ اللَّه مراقب عليه، عَالمٌ بِسِرّه وعلانِيَتِه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، تلك موعظةٌ عظيمةٌ وجَّهها لقمانُ الحكيم لابنِه، بيَّنها اللَّهُ لَنَا فِي كتابه، لنتأسَّى بِتِلْكُم الأخلاق، وبأولئك الأقوام في أقوالهم وأعمالهم.
أيّها المسلم، الأبناءُ والبناتُ أمانة في العنق سيسألك الله عنهم يوم القيامة، إن رعيتهم حقَّ الرعاية أصبت، وإن خُنت الأمانة وضيَّعت فالله لا يحبُّ الخائنين.(/5)
أيها المسلم، عوِّد الأبناء والبناتِ على كلِّ خير، عوّد الأولاد على المحافظة على المسجد، عوِّدهم على إقام الصلاة والعناية بها، حُثَّهم على مكارم الأخلاق، حثَّهم على البر والصلة، حُثّهم على إفشاء السلام وطيب الكلام، رغِّبهم في حسن المعاملة، حبِّب الصدق إلى نفوسهم، وكرِّه الكذب إلى نفوسهم، حبِّب إليهم الأقوال الطيبة، وكرِّه لهم الأقوال البذيئة، علّمهم حسنَ التعامل مع الآخرين؛ مع الأهل ومع الجيران والأرحام، حثّهم على المكارم والفضائل؛ لينشؤوا النشأة الصالحة الطيبة المباركة.
أيها المسلم، هؤلاء الأولاد متى أحسنتَ تربيتهم نِلتَ بهم السعادة في الدنيا والآخرة، واسمع نبيَّك إذ يقول: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفَع به، أو ولد صالح يدعو له))[1]. فأنت في ظلمات الألحاد تصل إليك دعواتُ أولئك الأبرار الأخيار، يسألون الله لك ويدعون الله لك، وأنت في لَحْدك قد انقضى عملك، وأصبحت فريدًا في لحدك وحيدًا، تتمنَّى مثقال ذرة من خير، وإذا الدعوات الصادقة الصادرةُ من الأبناء والبنات الذين طالما غرستَ الفضائل في نفوسهم، وحبَّبت الإيمان إلى قلوبهم، فدعواتهم تصعد إلى الله لك بالمغفرة والرضوان والتجاوُز، فما أنْعَمَهَا من حالٍ! وما أطْيَبَهُ من فضل! هكذا التربية الصالحة ونتائجها الحميدة، وثمارها المباركة.
فلْنَعْتَنِ - إخوتي - بأبنائنا وبناتنا، ولنبذل الجهدَ قدر الاستطاعة، وربّك حكيم عليم يهدي من يشاء، ويضلّ مَنْ يَشاءُ، لكن على العبد بذل السبب، عليه القيام بالواجب، عليه أن يطهِّر بيته مما يخالف شرع الله. كيف يطمع في صلاح الأبناء والبنات من ترك البيتَ لا خير فيه، أو أدخل فيه المعاصي والفجور والمجون وشربَ المسكرات والعياذ بالله، وترويج المخدرات، والجلوس مع من لا خير فيهم، ومن هم أهل الشقَاء والبلاء؟!(/6)
فاحذر - يا أخي - تلك الأمور السيئة، طهِّر بيتك ومجتمعك، طهِّر مجالسك من السوء، لينشأَ الأولاد والبنات على هذه العفة والصيانة والكرامة.
أيتها الأمّ المسلمة، ربي البناتِ التربية الصالحة، ربِّيهن على الأخلاق، ربي بناتك تربيةً صالحة، أعدِّيهن للمستقبل الطيّب، وربيهن على الأخلاق والمكارم، وأبعديهن عن السوء والسفور وما لا خير فيه. حذِّروا الأولادَ والبناتِ من بعض القنواتِ الفاجرة الظالمة التي تنشر السوءَ والفساد، وتحارب الأخلاق والفضيلة، وتبعد الأمة عن دينها وعن أخلاق إسلامها.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنتّق الله في أولادنا، ولنتعاون جميعًا على البر والتقوى. أسأل الله أن يصلح لنا ولكم العاقبة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن الشيطان وشركه، وأن نقترف على أنفسنا سوءًا أو أن نجره إلى مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ: فيأيها النَّاس، اتَّقُوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.
عباد الله، إنَّ الله يقول في كتابه العزيز: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. فالظلم والجهل متمكِّن في الإنسان، لا يرفع الجهلَ إلاَّ علمٌ، ولا يرفع الظلمَ إلاَّ الإيمانُ الذي يدعو إلى العدل.(/7)
إنَّ البشر إذا فقدوا شرع الله ضلّوا سواء السبيل، وإذا خلَوا من التمسّك بالدين صاروا شرّ الخلق وأسوأهم، يقول الله - جل وعلا -: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، ويقول - جل وعلا -: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44].
فبيَّن أنَّ الذين فقدوا شرعَ الله هم شرٌّ حتَّى من البهائم، البهائم أهدى منهم سبيلاً. هذا الإنسان الذي فَقَدَ الدين، فقدَ تعاليمَ الإسلام، عاد قاسيَ القلب، غليظ الطبع، لا يبالي بأيِّ إنسان كائنًا من كان، لماذا؟! لأنه في حياته لا دين يركن إليه، ولا مبدأ يؤمن به؛ بل هو مجرِم بطبيعته، ظالم بنفسه، سيئ فقدَ الإيمان، فقدَ الدين، فكلُّ شر وبلاء هو مصدره، وهو منطلق من ذلك؛ لأن الإسلام هو الذي يلين القلوب، ويجعلها تحترم الدماء والأموالَ والأعراض، لكن فاقد الدين لا قيمة للإنسان عنده، الدماءُ وسفْكها قلَّتْ أو كثرت أمر عادي وطبيعي، لماذا؟ لأن هذه الفئة لا علاقةَ لها بالإسلام، إذًا فالإجرام مهما تضاعف وتعاظم فليس غريبًا أن يصدر منهم.(/8)
أيها المسلمون، تسمعون دائمًا وتنقل الأخبار لنا أحداثًا جسامًا، ودماءً تراق، ودمارًا كثيرًا، وشيئًا يهول الإنسان ويقضّ مضجعه؛ من دماء تسفك بلا مبرِّر ولا سبب، لماذا؟ لأن هذه الأمة هي التي صنعت أسلحةَ الدّمار، وأنشأَتْها بنفسها، فعاد شرُّها على مجتمعها، وعاد سلاحها على نحورها. صنعت أسلحةَ الدمار، وتنافست في صنع أسلحة الفتك بالبشرية، وقامت شركاتُ التسليح تروِّج لمنتجاتها وأسلحةِ دمارها بين العالم؛ بل تجعلها رخيصةً بمتناول أيِّ فرد، وتربي أجيالاً على هذا الإجرام، تربي فئاتٍ على هذا الإجرام وعلى هذا الفساد، لا يهنأ لها عيش حتى ترى الفساد منتشرًا في الخلق، والله - جل وعلا - قال عن أعدائه اليهود: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]، فكلّ فساد وظُلم إنما مصدره عندما يُفقَد الإيمان، الإيمان الصحيحُ الذي بعث اللهُ به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو الدين الذي أرسى دعائمَ العدل، وبسط الرحمةَ والخير، فإن الله قال لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فالرحمةُ التي بُعث بها محمد - صلى الله عليه وسلم - هي الرحمة التي عاش الناس في ظلالها في عدل الإسلام وأمان الإسلام، الدماءُ والأموال والأعراض محترمة بكل الوجوه، لماذا؟ لأن دين الإسلام دين الرحمة، دينُ العدل، دين الخير، دينٌ لأهله رقةٌ في قلوبهم ومحبة الخير لأنفسهم وللبشرية أجمع، لكن هذا العدوان والظلم إنما مصدره من أمة ضائعة لا دينَ ولا شرع يحكمها، فهي ضالة مضلَّة، هذه أسلحة الدمار التي صنعها الأعداء وسخَّروها وتنافسوا في إبداعها، وتسابقوا أيّهم الذي يصنع سلاحًا مدمِّرًا، وأيهم الذي ينشر الجريمة، وأيهم الذي يفتك بالبشرية، وأيهم المستطيع لأن يجعل البشر مجالاً لتدريب الأسلحة، واختبارًا لقوتها من ضعفها، وتأثيرها من عدمه.(/9)
هكذا الأعداء، ولهذا فنبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا بأنّ هذا الأمر سيقع في آخر الزمان، عندما يُرفع العلم، ويثبت الجهل، ويكثر الهرج؛ أي: القتل [2]، وأخبرنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -: في آخر الزمان يقتل القاتل، لا يدري فيمَ قتَل، ولا يدري المقتول لماذا قُتِل [3]، لماذا؟! لأنها شرور عظيمة عامَّة، القاتل الذي ينفِّذ ما أُمِر به لا يدري لأيِّ سبب فعل، والمقتول الذي ذهب لا يُدْرَى لأيِّ شيء ذهب؛ إنَّما هي فتنة، وإنما هي مصائب، وإنما هي بلايا، إنما هي أحداث جسام، عندما يسمعها الإنسان ويتصوّرها يرى العجب العُجَاب، في دول تدَّعي الحضارة والرقيَّ في نفسها، لكنَّ الله حكيم عليم فيما يقضي ويُقدِّر.
إنَّما المسلم لا يرضى بذلك، ولا تقرُّ عينه بذلك؛ لأنه يعلم أنَّ دينَ الإسلام يرفض كلَّ الإجرام على اختلافه، وعلى وقوعه في أي البشرية كان؛ إذ الظلم في الإسلام محرَّم. ديننا دينُ الإسلام لم يكن سفّاكًا للدماء، ولا حريصًا على ذلك؛ بل كان حريصًا على حقنِ الدماء ما وجد لذلك سبيلاً، كلُّ ذلك لأن دين الإسلام دين الرحمة، دين العدل، دين الخير، الدين الذي يصلِح البشرية في حاضرها ومستقبلها.
عندما فقدت معظمُ البشرية هذا الدينَ وهذا النور العظيم؛ رأينا ما وقع، ونعوذ بالله من الشرور الآتية والمستقبلة. فإن المسلم حينما يتأمّل هذه الجرائم الشنيعة يعلم أن هناك فئةً من الناس قاسيةً قلوبُهم، غليظةً طباعُهم، فاسدًا تصوّرُهم، إنما يطمئنون ويرتاحون عندما يدبِّرون هذه المؤامرات الدنيئة، وعندما تقع هذه الجرائم الكبيرة، التي يذهب ضحيَّتها في لحظة من اللحظات مئات من البشر، بلا سببٍ ولا مبرِّر ولا داعٍ، لكنها والعياذ بالله دليل على عُمق الجرم في النفس، وبعدهم عن الهدى والخير.(/10)
شريعةُ الإسلام التي عاش المسلمون في ظلِّها قرونًا عديدة كان العدل والرحمة والخير يسود البشرية، فالدماء محترمة ((لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) [4]، وأنَّ مَن قَتَلَ نفسًا؛ فكأنما قتل الناس جميعًا، ومَن حافظَ على حياة نفس واحدة؛ فكأنَّما أحيا الناسَ جميعًا، فاحتُرمت دماء الأمة مُسلمِها ومعاهَدِها، احترِمت في الإسلام وروعيَت حقوقُ البشرية جمعاء، هكذا عدالة الإسلام، وهكذا حقوق الإنسان في الإسلام، كلُّها الخير والعدل والهدى، أمَّا ما نسمعه الآن وما تحمِله لنا وكالات الأنباء من هذه الجرائم المتعدِّدة التي أصبح الإنسانُ لا يأمن في جوٍّ ولا بحر ولا أرض - إنما هي والعياذ بالله نتيجة تلك القلوبِ القاسية المجرمة الآثمة، التي لا ترتبط بأيّ دين، ولكن تريد بثَّ الفساد في العالم، أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وطهَّر مجتمعات المسلمين من كلِّ سوء، وحفظهم من كلِّ بلاء، إنه على كلّ شيء قدير.
واعلموا - رحمكم الله - أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا - رحمكم الله - على نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لأمر ربكم، قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في العلم (85)، ومسلم في الأيمان (157) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(/11)
[3] أخرجه مسلم في الفتن (2908) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الديات (6878)، ومسلم في القسامة (1676) عن ابن مسعود رضي الله عنه.(/12)
العنوان: ترجمات المستشرقين لمعاني القرآن الكريم
رقم المقالة: 1330
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
ترجمات المستشرقين لمعاني القرآن الكريم.. تشويهٌ متعمَّد لمقاصده ومعانيه
• المستشرقون يحاولون إفراغ القرآن من قدسيته، ويشوهون معانيه، ويغفلون أيسر قواعد اللغة ونظام التراكيب ومعنى المفردات العربية.
• دراسة علمية: ترجمات الغربيين خالية من روح القرآن، ولا تمكن القارئ غير العادي من فهم حقيقة معانيه.
• افتراءات كثيرة على القرآن الكريم والرسول -صلى الله عليه وسلم- تضمنتها ترجمات المستشرقين.
• • • •
قام البهائيون قريبا في هولندا بإصدار ترجمة جديدة للقرآن الكريم باللغة الهولندية الحديثة تخرُج بالنصوص القرآنية عن معانيها الدقيقة؛ إذ ابتعدت بالقرآن الكريم عن أسباب نزوله على سيد البشر محمد -صلى الله عليه وسلم- مما أثار غضب الجالية والمؤسسات الإسلامية هناك.
وبرغم أن البهائية نحلة خارجة عن الإسلام وَفْقًا لفتاوى مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، فإن إصدارها لمثل هذه الترجمة المحرفة للقرآن الكريم تجعلنا نتطرق لملف ترجمات معاني القرآن والمحاولات التي بذلت في هذا المجال، وما في الترجمات التي صدرت على أيدي المستشرقين وغيرهم من تحريفات ومغالطات مقصودة أو غير مقصودة لآيات القرآن الكريم.
فمما لاشك فيه أن ترجمة معاني القرآن الكريم تعد من أصعب المحاولات التي تمت في مجال الترجمة على الإطلاق؛ وذلك لأن نقل معنى الآيات القدسية المحكمة إلى لغة أخرى غير العربية ليس بالأمر السهل إلى جانب عجز لغة الترجمة عن نقل التركيب البلاغي للآيات وما تحمله من معانٍ ومدلولات لا تظهرها إلا لغةُ القرآن التي نزل بها.(/1)
ومحاولات ترجمة معاني القرآن الكريم بدأت في وقت مبكر مع الفتوحات الإسلامية للأندلس، ودخول الإسلام في البلدان الناطقة بغير العربية، فقد ظهرت جاليات إسلامية تعيش في دول أوربا وآسيا وأمريكا تحتاج إلى معرفة القرآن وفهم معانيه، والوقوف على أحكامه بغير أن تتعلم العربية لغة القرآن، ولتحقيق هذا الغرض بدأ بعض الأوروبيين آنذاك في تعلم اللغة العربية وتمت على أيديهم المحاولاتُ الأولى للترجمة، وتبعها محاولات المستشرقين الذين تركوا بلادهم واستقروا في البلاد الإسلامية وفق أهداف استعمارية، وقد تعرض القرآن الكريم إلى مجموعة من الترجمات الخاطئة على يد هؤلاء المستشرقين من أصحاب النيات السيئة التي تسعى إلى تشويه مقاصد القرآن وإفساد معانيه، والعمل على تفريغه من قدسيته وجمال تعابيره ومحكم آياته.
• الترجمات بين الرفض والقبول:
ولقد تعددت آراء العلماء والمفكرين المسلمين حول ترجمات معاني القرآن، فالبعض يرى أن ترجمة المعاني ضرورة حتى يفهم غيرُ العربي القرآن ويتدبر أحكامه، شريطة أن يقوم بها مسلمون أتقياء للحفاظ على قدسية النص من الفئات المحاربة له والمناهضة لمعانيه السامية، وأن تخضع عمليات الترجمة للإشراف الدقيق من قبل المتخصصين حتى نتجنب الوقوع في الأخطاء، فالترجمات الموجودة لا تخلو من الأخطاء، وهذا يشكل عبئا كبيرا في هذا الصدد، ومرجعها إلى عدم الإلمام الجيد باللغة العربية وقواعدها، وهذه الأخطاء أهم ما يعيب الترجمات التي قام بها مسلمون.
أما محاولات المستشرقين فهي دائما مسبوقة باتجاهات معينة مناهضة للإسلام، ومن ثم تتم عمليات الترجمة وفقا لأهوائهم، فيتعمدون الأخطاء، ويفسرون المعاني بما يؤدي إلى الإساءة والتشويه.
ويقترح البعض جمع النصين العربي والمترجم في نسخة واحدة؛ إذ يمكن وضع الآية باللغة العربية ثم يليها معني النص باللغة المترجم لها، وهذا من منطلق قطع الشك باليقين.(/2)
ويرفض البعض الآخر مبدأ الترجمة من الأساس من منطلق أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن بلسان عربي مبين؛ فقد قال تعالى في كتابه العزيز: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء:193-195] الأمر الذي يؤكد الحفاظ على روعة التعبير القرآني من خلال اللغة العربية فقط، فضلا عن أن أي ترجمة للنص تعد نقلا للمعنى الظاهري بعيدا عن العمق المراد من الآيات القرآنية، ولا توجد أي لغة أخرى تحتمل أن تؤدي من المعاني ما تؤديه اللغة العربية التي تلم ألفاظها بأوسع المعاني والدلائل.
• ترجمات المستشرقين:
وتعد الترجمات التي قام بها المستشرقون من أسوأ المحاولات التي تمت في مجال ترجمة معاني القرآن الكريم على الإطلاق، فقد كان هدفها الوحيد إيجاد حاجز بين القرآن وبين من يريد فهم الإسلام، ومن أجل ذلك شوهوا معاني القرآن أيما تشويه، وجهلوا -أو تجاهلوا- أيسر قواعد اللغة ونظام التراكيب ومعنى المفردات العربية، ولم يحاولوا فهم معاني القرآن على الإطلاق، ولم يعتمد أحد منهم البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة، وهناك مغالطات كثيرة في ترجماتهم، والفكرة السائدة فيها أن القرآن ليس إلا مجموعة أقاويل متفرقة وقصص سمعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- من علماء اليهود والنصارى.
وقد جاءت ترجماتهم على قسمين: ترجمات للقرآن كله، وترجمات لبعض سور القرآن، ومنها ترجمات مرتبة حسب الترتيب المصحفي المأثور مثل ترجمة "جورج سيل" وترجمة "آربري"، ومنها ما هو مرتب على ترتيب النزول مثل ترجمة "راد ويل"، و"بالمر"، و"بيل" وأمثالهم الذين غيروا الترتيب المصحفي المأثور افتراضا منهم أن الترتيب النزولي يبين التطورات الفكرية للرسول -صلى الله عليه وسلم-.(/3)
وتعد ترجمة "ألكسندر روز" إلى الإنجليزية والتي أسماها "قرآن محمد" وبدأت تصدر مجزأة عام 1664م، وطبعت بكاملها عام 1718م، رائدة لجميع الترجمات، ولها قيمة علمية كبيرة عند المستشرقين، برغم ما تحمله من افتراءات كثيرة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى القرآن.. وبعدها توالت ترجمات معاني القرآن إلى عدة لغات أوربية وخاصة إلى الفرنسية، ولا توجد اليوم لغة أوربية أو شرقية إلا وفيها ترجمة أو عدة ترجمات لمعاني القرآن.
• مغالطات وأخطاء:
ويمكن إجمال المغالطات والأخطاء التي احتوتها ترجمات المستشرقين لمعاني القرآن الكريم فيما يلي:
1. زعمهم أن الإسلام كان للعرب وحدهم.
2. محاولة التقليل من أهمية الإسلام ودعوة القرآن.
3. زعمهم أن نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت حركة إصلاحية محلية مؤقتة ومقصورة على أهل مكة.
4. سعيهم المتعمد إلى تشويه مقاصد القرآن وتفريغه من قدسيته.
5. تعمدهم قلب الترتيب المصحفي المأثور ووضع ترتيب حسب أهوائهم وزعمهم الباطل، كما حدث في ترجمة "داؤد" اليهودي العراقي التي ظهرت عام 1956م، واخترع فيها ترتيبا حسب النغمة الشعرية للسور والآيات، وجرد الترجمة من أرقام الآيات فضلا عن النص العربي للمصحف.
6. تعمدهم التقديم والتأخير والحذف لكلمات القرآن، واستخدام لغة الحوار الدارج في ترجمة الآيات المقدسة.
• دراسات علمية حول الترجمات:(/4)
ولقد قام الباحثون المسلمون بالكثير من الدراسات العلمية التي استهدفت تتبع الترجمات الموجودة لمعاني القرآن بلغات مختلفة، والوقوف على ما بها من أخطاء، حتى يمكن تفاديها في الترجمات المستقبلية، ومن هذه الدراسات دراسة قامت بها الباحثة "إيمان الزيني" عن ترجمات القرآن، للحصول على درجة الماجستير من جامعة الأزهر، وفيها أكدت أن المترجمين الغربيين قاموا بترجمة القرآن الكريم ترجمة خالية من روح القرآن، ولا تمكن القارئ غير العادي من فهم حقيقة معانيه؛ لأنه من الصعب على الذين لم ينشأوا في بيئة إسلامية فهم روح القرآن من خلال ترجمة معانيه خاصة في ظل الأهداف الغربية تجاه الإسلام.
وأشارت إلى أن هناك عدة اتجاهات لهذه الترجمات: إما إعطاء الأولوية لنقل أسلوب النص الأصلي على حساب المعنى، أو إعطاء الأولوية للترجمة وأهمها ترجمة جورج سيل عام 1734م، وترجمة أربري 1955م، ونجيب داود 1956م، وترجمة محمد الخطيب التي تعد الترجمة الوحيدة التي قام بها مسلم لكنها الأقل انتشارا برغم أنها الأقل أخطاءً.
وتعد ترجمة سيل أسوأ الترجمات؛ لأنها تأثرت بتحيزه ضد الإسلام، فقد اختار من الألفاظ والإيحاءات ما يتناقض تماما مع المقصود من اللفظ العربي بالإضافة إلى تغيير ترتيب السور دون مراعاة لقدسية النص.
وجاءت ترجمة أربري التي أعطت الأولوية لنقل أسلوب النص الأصلي على حساب المعنى، فجاءت الترجمة وكأنها أشعار دون نقل المعنى واضحا، كما فقد النص جزءا من المعنى الدلالي ومن بلاغته في أثناء الترجمة، وساعده على ذلك عدم إضافة أية هوامش توضيحية. واتضح من تحليل ومقارنة الآيات بترجمتها أن هناك عيوبا خطيرة لهذه الترجمات جارت على المعاني الأصلية التي يقصدها القرآن الكريم.
• ترجمة بيكتهال:(/5)
وأمام هذا التشويه المتعمد من المستشرقين للقرآن الكريم كان لابد أن تظهر ترجمات صادقة لمعاني القرآن يقوم بها مسلمون من أهل السنة، فظهرت ترجمة الدكتور "عبد الحكيم خان" بالهند عام 1905م، وترجمة "الميرزا أبو الفضل آبادي" عام 1911م، وترجمة جمعية الدعوة الإسلامية بالهند عام 1915م، وترجمة "السيد حسين بلجرامي" عام 1926م.
وتعد ترجمة "محمد مارماديوك بيكتهال" الإنجليزي الأصل التي ظهرت عام 1930م بلندن، وقام الأزهر بمراجعتها قبل طباعتها وسماها صاحبها "معاني القرآن المجيد" من أفضل الترجمات التي قام بها مسلم من أهل السنة، إذ أجمع العلماء المعنيّون بترجمات القرآن وتفاسيره على أن معاني القرآن لم تترجم إلى الإنجليزية أحسن من ترجمة بيكتهال من ناحية جمال الأسلوب وفصاحة اللغة والمحافظة على العقائد.
وبعدها جاءت ترجمة "محمد أسد" المسلم النمساوي التي اعتمد فيها على ما كتبه أئمة التفاسير مثل البيضاوي والبغوي والزمخشري والرازي، وكتب الصحاح الستة علاوة على القواميس والمعاجم المعترف بها.
• ترجمة إلى اللغة السويدية:
وتعد ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة السويدية التي قام بها "محمد كنوت بيرستروم"، الدبلوماسي السويدي الذي اعتنق الإسلام عام 1985م، وصدرت عن دار بروبريوس في استكهولم في حوالي ألف صفحة من الترجمات الحديثة لمعاني القرآن، فقد ظهرت عام 1999م، وتطوعت وزارة الخارجية السويدية بتحمل الجزء الأكبر من تكاليف طباعتها وإصدارها، بالرغم من أن كثيرا من الدول الإسلامية عرضت أن تتحمل كامل نفقات الطباعة والنشر، وقالت وزيرة الخارجية السويدية لوكالة الأنباء الإسلامية: (إن إصدار هذا السفر على نفقة الحكومة السويدية لهو مصدر شرف وفخر لبلادنا لا يسعنا التضحية به).(/6)
والترجمة الجديدة ليست الأولى لمعاني القرآن الكريم إلى السويدية، فقد سبقتها ثلاث ترجمات لكنها جميعها تفتقر إلى الأمانة والدقة، إضافة إلى أنها اعتمدت جميعها على ترجمات أوربية فرنسية وألمانية وإنجليزية، الأمر الذي جعلها بعيدة عن الأصل ومليئة بالأخطاء اللغوية والفقهية الفاحشة، والتشويهات المتعمدة وغير المتعمدة للقرآن، لا سيما وجميع المترجمين والمترجم عنهم ما كانوا مسلمين.
والدبلوماسي السويدي صاحب هذه الترجمة اعتنق الإسلام عام 1985م، وحمله إيمانه على تعلم اللغة العربية خصيصا لكي يقرأ القرآن الكريم بلغته الأصلية ثم يعمل على إنجاز أكمل ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة السويدية صدرت حتى الآن.
وعن الأسباب التي جعلته يتصدى لهذه المهمة الشاقة قال: أحسست بمسئولية ثقيلة على كاهلي بعد اعتناقي الإسلام؛ تجاه ربي أولا، وتجاه المسلمين في بلدي السويد ثانيا، سواء ممن هاجروا إليها من العالم الإسلامي أو من اعتنقوا الإسلام، فهم بحاجة جميعا إلى ترجمة صحيحة ودقيقة لمعاني القرآن الكريم، ولا سيما في نشاطاتهم الدعوية، وشعرت أن هذه المهمة تقع على عاتقي أنا خاصة؛ لأني الأكثر تأهلا لها، ومن هنا بدأت وقررت تعلم لغة القرآن بهدف ترجمة معانيه على أكمل وجه ممكن، وكنت أواجه في أثناء الترجمة مصاعب جمة وعقدا مستحكمة أحيانا، وكانت المصاعب تتذلل واحدة بعد أخرى، ويفتح الله سبحانه وتعالى أمامي سبل النجاح والهداية والتوفيق حتى تمت الترجمة.
• ترجمة تفسير ابن كثير:
وقد خطا الباحثون المسلمون خطوة أخرى في مجال ترجمة معاني القرآن الكريم، وذلك بترجمة تفاسير القرآن؛ إذ صدر بالرياض منذ سنوات الجزء الأول من ترجمة "المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير" باللغة الإنجليزية، وهي أول ترجمة موثقة وصحيحة لأحد أشهر تفاسير القرآن الكريم.(/7)
وقد تم القيام بتهذيب تفسير ابن كثير تهذيبا علميا متقنا عن طريق حذف الأحاديث المكررة والإسرائيليات، وتخريج جميع الأحاديث والآثار، وقام بذلك مجموعة من العلماء وطلبة العلم، كما تم اختيار المترجمين الأكفاء المشهود لهم بسلامة اللغة والأسلوب، وقام على إنجاز هذا المشروع أكثر من ثلاثين شخصا، واستمر العمل فيه قرابة سنتين كاملتين. وتعد الترجمة في مجملها تحقيقا متميزا يفيد عموم المهتمين بتفسير ابن كثير، وإضافة جيدة للمكتبة الإسلامية، ومرجعا مهما للمتحدثين باللغة الإنجليزية.
• المراجع:
1- ترجمات معاني القرآن الكريم وتطور فهمه عند الغرب – د. عبد الله عباس الندوي - سلسلة دعوة الحق - رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة 1996م.
2- جريدة الراية القطرية - 24 ديسمبر 1999م.
3- ترجمة معاني القرآن إلى السويدية - وكالة الأنباء الإسلامية - 21 نوفمبر 1999م.
4- ترجمة تهذيب تفسير ابن كثير إلى الإنجليزية - وكالة الأنباء الإسلامية.
5- البهائيون يصدرون ترجمة خاطئة للقرآن بالهولندية - أمستردام - موقع المسلم - 2/2/1426هـ.(/8)
العنوان: ترشيد خطوات الأدب الإسلامي
رقم المقالة: 156
صاحب المقالة: د. عماد الدين خليل
-----------------------------------------
نحن اليوم بأمس الحاجة إلى إشارات متواصلة تحركنا وتدلنا على الطريق كي لا نبقى ثابتين في مواقعنا، وكي نمضي دائمًا صوب الأفضل والأحسن في زمن يتطلب التحرك إلى الأمام من أجل ألا تشد أعناقنا إلى الماضي بأكثر مما يجب، فـ{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة البقرة). وعلى المسلم، أديبًا كان أم مفكرًا أم داعية أم خطيبًا، أن يكون في قلب العصر ما وسعه الجهد وأن يكون مستقبليًا..
لقد تفوق علينا الغربيون – إلى حدّ كبير – بتعاملهم مع الواقع، وبإمساكهم بالكتلة وحيثياتها، وبتطلعم دائمًا إلى المستقبل – بغض النظر عن اختلافنا الجذري مع رؤيتهم للكون والحياة، وهي رؤية مترعة بالأوهام والظنون والأباطيل – إلا أنهم على المستوى المادي أمسكوا بالعالم من خلال قدرتهم المدهشة على التعامل مع الواقع والتطلع إلى المستقبل، حتى إننا صرنا نشهد في معاهدهم وجامعاتهم أقسامًا علمية للمستقبليات.
يصعب الجواب بطبيعة الحال على الأسئلة المطروحة كافة، حتى في صيغ مختزلة، لأن هذا يتطلب وقتًا، ويخشى – أيضًا – أن تكون الإجابات السريعة بمثابة قوالب جاهزة قد لا يسلّم بها بسهولة، ولذا سألجأ إلى طريق آخر هو محاولة متابعة النبض الأساسي لهذه الأسئلة في سياقات:
السياق الأول: يعنى بإشكالية المنهج الفكري.
السياق الثاني: يعنى بإشكالية القداسة والحرية.
السياق الثالث: يتابع مسألة السلطة أو المرجعية.
ولسوف أمر مرورًا سريعًا على هذه السياقات.(/1)
في المنظور الغربي هناك ما يمكن اعتباره أزمة العقل الغربي التي يجب ألاّ نقع في مصيدتها والتي تقوم على مفهوم خاطئ ينطوي على افتراض "إما هذا أو ذاك" والذي أسر ولا يزال العقل الغربي، وانسحب على ديارنا إلى حد كبير، رغم أنه يمثل خطرًا كبيرًا على رؤيتنا الإسلامية الوسطية والشمولية للأشياء والخبرات والأنشطة المعرفية والاجتماعية والسياسية.
في الغرب نجد أنفسنا أمام ثنائية الفرد أو الجماعة، العدل أو الحرية، الله أو الإنسان، الأرض أو السماء، الروح أو الجسد.. ثنائيات عديدة حاولت أن أحصيها فتجاوزت الثلاثين عددًا.. وهي جميعًا تصطرع مع بعضها في العقل الغربي وفي واقع الحياة الغربية بحيث إننا نجد – على سبيل المثال – توجهًا شموليًا جماعيًا ساحقًا صارمًا كالذي نفذته الماركسية في شرقي أوربا، يقابل برد فعل وبزاوية مقدارها مائة وثمانون درجة، من خلال الوجودية التي أسسها (جان بول سارتر) و(كاميه) وآخرون في الساحة الغربية ذهبت مع الفرد إلى المدى واعتبرت (الآخر) (هو الجحيم) ولا تزال الأفعال وردودها تعمل عملها هناك..
لقد دفعت الأممية نفسها والتي حاولت أن تلغي خصوصيات الجماعات والشعوب، إلى تشكل حالة نقيضة من الشوفينية (النازية أو الفاشية) والتي قادت إلى مجزرة بشرية لا يزال العالم يعاني من آثارها حتى اليوم.
هكذا نجد أنفسنا في الساحة الغربية أمام الافتراض الخاطئ أو الموهوم الذي عصمنا الله سبحانه منه بالمنهج الشمولي الذي يجمع الثنائيات، ويحقق بينها التصالح والتناغم والوفاق {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (143 البقرة). والوسطية هنا ليست موقعًا جغرافيًا، ولكنها رؤية ومنهج عمل يعرف كيف يجمع بين الفرد والجماعة والعدل والحرية والروح والجسد والدنيا والآخرة والأرض والسماء.. إلى آخره..(/2)
نحن يجب أن نرجع ثانية إلى قاعدتنا الأساسية ونستبدل بالمنهج الفكري الخاطئ القائم على افتراض (إما هذا أو ذاك) مبدأ (هذا وذاك).
وبالتالي، فإننا بإحالة أسئلة المحور الأول للملتقى* في عمومها، على هذا المنظور، سنجد أنفسنا إزاء مفارقة تضعنا في الحالة الغربية، وهذا – في أساسه – خطأ في المنهج: إما التراث وإما المعاصرة، إما الأديب وإما الفقيه، إما الأنا وإما الآخر، إما الشكل وإما المضمون.
هاهنا – على سبيل المثال – يصير الشكل جزءًا أساسيًا من المضمون أو بالعكس، ولن يتحقق أدب أو إبداع أو فن إلا بالالتحام الداخلي الحميم بين الطرفين. والأمر نفسه يمضي إزاء ثنائية التراث والمعاصرة التي يمكن فيها أن يقبل أحدهما الآخر، كما يجعل الأنا أو الخصوصيات الذاتية لهذه الأمة تنفتح على خبرات الغير، ولا تغلق عليها، وتقودنا إلى حالة انتقاء محكم مدروس لخبرات الآخرين حيث الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
"إن هذا يقودنا – بالضرورة – إلى موضوع الحداثة" ذات الخلفيات الرؤيوية (الأيديولوجية) المنحرفة بزاوية حادة عن المنظور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، والمترعة بالضلالات والظنون والأوهام، والمستمدة من غثاء أديب وفيلسوف مهووس (نيتشه) الألماني الذي قدم في أعماله رؤية شبه جنونية للحياة، ومن المعطيات السريالية التي يسميها (فاولي) في كتابه (عصر السريالية) "عالم الجنون والظلام والدجنّة" الموغل في دهاليز الكبت والجنس والرؤى المتداعية داخل لا واعية الإنسان من أجل استجاشتها وتقديم غثاء يهشم ثوابت اللغة ويمضي حتى إلى تهشيم الأعراف الفنية والتقاليد الإبداعية التي صنعتها أجيال متعاقبة على مدى القرون الطوال سواء في بنية الرواية أو المسرحية أو القصة القصيرة أو سائر الأجناس الأدبية التي كادت تيارات الحداثة في اتجاهاتها كافة أن تأتي عليها من القواعد.(/3)
لكن هذا كله يجب ألا يحجب عنا بعض الجوانب الإيجابية من حلقات الحداثة التي تمثل خبرات جيدة يمكن التعامل معها، ومحاولة توظيفها في الأدب الإسلامي وبخاصة في مجال النقد التطبيقي.
إن المسلم – إذا أردنا الحق – هو أكثر الناس تقدمية وحداثة (بالمفهوم اللغوي لا الاصطلاحي) لأنه يضع نفسه في حالة توازن وتناغم مع قوانين الكون والحياة وسنن الله العاملة في التاريخ.. الإنسان المسلم، وليس الماركسي الشيوعي، كما كان يدعي يومًا، هو الذي يقف في قمة حركة التاريخ، قديرًا على التحرك صوب المستقبل بسبب من توافقه مع نبض الحركة الكونية والتاريخية إذا عرف كيف يحسن التعامل معها من أجل استجاشة طاقاته المبدعة واختزال حيثيات الزمن والمكان في تعامله مع الكتلة، في ضوء مبادئ الاستخلاف والتسخير والاستعمار، التي أكد عليها القرآن الكريم في أكثر من موضع.. هذا هو الذي مكن الأجيال الأولى من أبناء هذا الدين، من أن تنشئ حضارة متميزة، وتغير خرائط العالم، وتقيم دولة تنتشر على قارات ثلاث.
وليس ثمة ضير من قبول الحداثة بمعناها اللغوي وقبول الخبرات والكشوف المستحدثة إذا عرفنا كيف نفك الارتباط بين التقنيات النقدية الحرفية الصرفة وبين الخلفيات الرؤيوية من أجل إغناء وتعزيز حركة الأدب الإسلامي المعاصر بالمزيد من الخبرات والكشوف.
لكن هذا كله يجب ألا يحجب عنا أن المذاهب الغربية في الأدب أو الفكر أو الحياة، بما أنها معطيات وضعية، لا تملك القدرة على الاستمرار والبقاء.. فها هي ذي البنيوية تتلقى ضربات مؤثرة منذ أواخر الستينات لكي يحل محلها دفق جديد من تيارات الحداثة وصولاً إلى التفكيكية وما بعدها..
ومن قبل كانت الوجودية قد تداعت هي الأخرى وسبقتها وأعقبتها الشوفينية والعدوانية ونقيضها "الأممية" وها هي ذي الليبرالية الغربية تؤول.(/4)
- بسبب من فقدانها أي عمق روحي أو إنساني – إلى طرق مسدودة، وتحاول أن تغطي على مأزقها بتبريرات فلسفية وتنظيرية تسعى لأن تمنحها القدرة على إيجاد ثغرات في الممرات المسدودة، كما فعل (فرنسيس فوكوياما) في (نهاية التاريخ) و(صموئيل هنتنكتن) في (صراع الحضارات) حيث حاول أن يجد شاخصًا محددًا لإطلاق النار عليه – بعد انهيار وزوال الاتحاد السوفياتي – من أجل حماية وحدة الثقافة والحضارة الغربية وتفوقها وهيمنتها على مقدرات الأمم والشعوب.
إن البنيوية – على سبيل المثال – تملك قدرة فائقة في مجال النقد التطبيقي من خلال اختراقها للنص ومتابعتها للدلالات الأساسية في أنساقها وأنساقها المضادة مما يمكن الناقد من سبر غور النص الإبداعي والوصول إلى نتائج أكثر إحكامًا من ذلك الجهد النقدي المنصب من الخارج والذي يتابع علاقة النص بصاحبه ويبالغ في هذه المتابعة فيما يقودنا إلى نوع من النقد "الذاتي" كذلك الذي كنا نقرؤه لطه حسين وزملائه في الأربعينيات والخمسينيات.
إننا بحاجة إلى نقد أكثر موضوعية وانضباطًا ويمكن أن نتعلم من بعض الحلقات الغربية سبل التعامل النقدي الأكثر إحكامًا، وبالتالي فنحن لسنا ملزمين بإثارة مشكلة "إما هذا أو ذاك" وإنما الأخذ بمبدأ "هذا وذاك" من أجل تحقيق التصالح والوفاق والتكامل بين الثنائيات.
وفي ضوء هذا المعيار يمكن التعامل مع التراث وتجاوز أية حساسية يثيرها افتراض "القداسة والحرية". فالتراث ليس مقدسًا، ونحن إذا فككنا الارتباط بين الأصول الإسلامية، قرآنًا وسنة ورصيدًا تشريعيًا، وبين معطيات الامة التي تنطوي على الخطأ والصواب.. باعتبار أن الأصول الإسلامية بعمقها الغيبي ومصدرها الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تعلو على الخبرة البشرية النسبية القاصرة التي تخطئ وتصيب، حيث كل بني آدم يؤخذ منهم ويرد عليهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/5)
إذا فككنا الارتباط بين هذا وذاك وجدنا أنفسنا بإزاء تراث ينطوي على حلقات الإيجاب والسلب معًا.. وما أكثر المساحات الرمادية والسوداء في تراثنا!!
باختصار شديد، إننا نجد أنفسنا قبالة نمطين من المعطيات التراثية، نمط يمكن قبوله وتمريره عبر اللحظات الراهنة باتجاه المستقبل، ونمط لا يمكن قبوله وتمريره إذ لم يعد قادرًا على أن يجد له موضعًا في شبكة المعطيات المعرفية في العصر الراهن.
ومسألة القداسة لا وجود لها في تاريخنا.. إنه حتى خلفاؤنا الأوائل الذي غيروا خرائط الدنيا وأقاموا دولة الإسلام وأنشؤوا حضارته المتميزة، والذين حكموا بما أنزل الله سبحانه، حتى هؤلاء ما خطر على بالهم أو بال المسلمين عمومًا أن يحاطوا بهالة القداسة وفق أي معيار من المعايير.(/6)
إن أبا بكر رضي الله عنه قالها بوضوح "أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم" وقال "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يستجيش أبناء الأمة ويحفزها لممارسة النقد والاعتراض، فيما سبق أن سمّاه المفكر الجزائر (مالك بن نبي) رحمه الله "الديمقراطية المركبة" (إذا جازت التسميات) فالديمقراطية الغربية ذات وجه أو طبقة واحدة وهي منح الأمة حق النقد والاعتراض، أما ديمقراطيتنا، أو شورانا بعبارة أدق، فهي تحفيز الأمة ودفعها إلى ممارسة النقد والتقويم والاعتراض. ولقد جمع ابن الخطاب رضي الله عنه جماهير المسلمين يومًا في مسجد المدينة، وراح يستفز واعيتهم الناقدة أو المعترضة فسألهم: "ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا كذا؟" أي لو انحرفت عن الثوابت المتفق عليها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقام أحد المصلين من الناس البسطاء وقال: "لو ملت برأسك إلى الدنيا كذا، لقلنا بسيوفنا كذا "وأشار إلى القطع. فقال له عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: "ويلك أتقول هذا لأمير المؤمنين"؟ فما يكون من أمير المؤمنين إلا أن يوقفه ويقول: "دعه فليقلها لنا، فوالله لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا ولا خير فينا إن لم نسمعها منكم".
ولكن، إلى جانب هذه الحالة التي تكررت كثيرًا عبر تاريخنا، فهنالك حالات الاستلاب والابتزاز والقسر السياسي.. ومهما يكن من أمر فإن مفهوم "القداسة" مسحوب علينا من الخارج، من خبرات الكنيسة والتعامل الكنسي في الساحة الغربية، وليست تقليدًا أصيلاً في تراثنا. وكما يقول المثل "رمتني بدائها وانسلّت" وسنكون سذجًا إن قبلنا هذا المنظور وقلنا: إن تراثنا ينطوي على القداسة، وإن علينا أن نحترمه ونتشبث بأذياله.(/7)
وثمة تساؤل آخر هو: "من أين يكتسب الإبداع قدسيته"؟ والجواب أن الإبداع ليس أمرًا مقدسًا، إنه معطى بشري يقدمه هذا الأديب أو ذاك، وينطوي هو الآخر على خبرة بشرية لا تحيطها أية هالة من القداسة، فإن من حق الناقد أن يخترق النص الإبداعي وأن يقول فيه ما يشاء.. والملتقي يملك هو الآخر سلطة اختراق النص والحكم عليه.. فالأديب ليس هو صاحب السلطة الوحيدة في العمل الإبداعي، فهنالك إلى جانبه الناقد والمتلقي سواء أكان هذا أو ذاك مستهلكًا أو دارسًا أو جمهورًا من الناس.. فليس ثمة تفرد في أقطاب التعامل مع النص شرط أن يلتزم التعامل معايير النقد الموضوعي، وأن يتجاوز حالة الترهل التي حكمت – ولا تزال – مساحات واسعة من معطياتنا النقدية التي عكست إلى حد كبير الذوق والخبرات الخاصة.
أما بخصوص إشكالية السلطة أو المرجعية حيث يثير المحور سؤال: من يمتلك حق التنظير أو التأطير للأدب الإسلامي؟
والجواب هو أن الأديب صاحب الرؤية الإسلامية نفسه صاحب الحق في بناء عمله الإبداعي ولن يتناقض هذا بأية حال من الأحوال مع مطالب الرؤية الإسلامية للأديب وثوابتها المتفق عليها.. ذلك أن "الالتزام" هو في نهاية الأمر "حرية"، فعندما أصبح مسلمًا وعندما أريد أن أعبر عن رؤيتي من خلال هذا الجنس أو ذاك من الأجناس الأدبية، فأنا أملك حريتي في الاختيار والتعبير معًا.. ليس ثمة قسر أو إكراه.. وبالتالي عندما يصير الأديب إسلاميًا فإنه يلتزم رؤيته بطواعية وحرية دونما أي قسر أو إكراه من الخارج.. ومن ثم تجيء معطياته تدفقًا عفويًا منسابًا لخياره الحر وقناعاته الباطنية المتشكلة في عقله وروحه ووجدانه.(/8)
إننا لن نجد – بحال من الأحوال – أديبًا إسلاميًا قيل له اكتب هذه القصة أو القصيدة أو الرواية أو المسرحية وفق منظور إسلامي فيلبي الأمر رغبًا أو رهبًا.. أبدًا.. فإن الإبداع الأدبي الإسلامي لا يخرج عن دائرة الالتزام الحر بالرؤية أو التصور الذي اختاره الأديب طواعية ودونما أي قدر من القسر أو الإكراه.. ووجد نفسه بالتالي منساقًا لأن يقدم منظوره للكون والحياة والإنسان تعبيرًا عما يمور في نفسه وعقله ووجدانه والذي أصبح بمثابة خبزه اليومي حين ينام ويصحو، ويصلي ويصوم، ويكتب ويحاضر، ويتعامل مع الآخرين وهو ينبض بالهم الإسلامي الذي يتدفق في معطياته بعفوية، كما تتدفق المياه الثرة من العيون العذبة في باطن الأرض بدون قسر أو إكراه.
ثمة ما تجب الإشارة إليه، وهو أن الأديب المسلم قد يجد نفسه أحيانًا إزاء بعض الحالات التي ترتطم أو يشك بأنها ترتطم مع الثوابت الإسلامية وحينذاك لابد من استدعاء الفقيه.
والفقيه في الخبرة الإسلامية، لا ينتمي كما قد يخيل إلى بعضهم إلى منظمة دينية قسرية أو "إكليروسية" على الطريقة المسيحية في الغرب.. الفقيه المسلم بما يملكه من عقل مرن حر هو صانع حياة وقائدها ومهندسها، وهو يتعامل مع الحالات المستجدة برؤية سمحة تستمد نبضها من الإسلام نفسه.. وإنه لمن الخطأ أن نسحب مرض وغثيان الغرب العلماني أو النصراني إلى ديارنا ونقول: إن استدعاء الفقيه هو كبت للأديب.
إن التكشف الذي تجاوز حدوده في الأعمال الأدبية باسم الواقعية أمر مرفوض، ولا يتطلب استدعاء الفقيه.. يكفينا ما تعرضه شاشات السينما والتلفزيون والإنترنت من فضائح جنسية، وليس من مهمة الأدب أن يعيد علينا بالكلمة ما تعرضه التقنيات الحديثة من صور فاضحة.. إن مهمة الأدب أن يعيد للإنسانية طهرها الضائع وللسلوك البشري وضاءته.. أن يخرجنا من الآبار الضيقة التي يختنق فيها الإنسان وتتحول فيها الحياة إلى حظيرة للحيوانات ينزو فيها بعضها على بعض.(/9)
هذا كله لا يتطلب استدعاء للفقيه لأن ضمير الأديب ورؤيته الإيمانية ستصده عن ذلك وتمنحه معالم الطريق.. إلا أن هناك بعض الحلقات التي تقتضي تبادلاً في الرأي بين الطرفين: الأديب والفقيه، بحثًا عن الحلول والممرات الممكنة.
لابد إذن من إحكام خطواتنا نحو المستقبل وترشيد حركة الأدب الإسلامي التي تأكدت – بفضل الله سبحانه – عبر ربع القرن الأخير حيث صدرت مئات الكتب والبحوث، واخترقت جدران الأكاديمية وأنجزت عشرات الرسائل في أروقة الدراسات العليا، وأقيمت الندوات والمؤتمرات في بلدان العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وصدرت مجلات متخصصة، وعقدت في أجهزة الإعلام ندوات ولقاءات لا تعد ولا تحصى.
وقبل هذا وذاك، ومع هذا وذاك نهضت رابطة الأدب الإسلامي العالمية لكي تمارس دور القائد والمرشد لحركة الأدب الإسلامي المعاصر، ولتنفذ جملة خصبة من المعطيات لدعم هذا الأدب وإغنائه.
---
* ملتقى البردة الثاني للأدب الإسلامي الذي عقد في الموصل بالعراق في منتصف آب (أغسطس) 2002م.(/10)
العنوان: ترقي علوم الصناعة من تعليم الله
رقم المقالة: 771
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغني الأكرم وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله إلى العرب والعجم -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه- ومن تمسك بهديهم الأقوم وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وإنه ما من شيء يحدث في السماوات والأرض إلا وهو عالم به سبحانه مقدر له قبل خلق السماوات والأرض ولقد أبدع الله الكون وأتقنه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} وكرم الله بني آدم وحملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات وسخر لهم الليل والنهار والشمس والقمر بل سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه.(/1)
أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ورباهم بالإدراك والعقل فجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة وفتح لهم مدارك العلوم فبحثوا فيما سخر الله لهم من ذلك فاستخرجوا منه الأمور الغريبة ما بين ضروري وكمالي ونافع وضار وكل ما أوتوا من علم أو قدرة فإنما هو من الله تعالى لو شاء لسلبهم العلم فكانوا جهالا ولو شاء لسلبهم القدرة فكانوا عاجزين ولكنه تعالى من عليهم بالعلم والقدرة على وجه محدود فمهما أوتوا من علم أو قدرة فإنه يسير ويسير جداً بالنسبة إلى علم الله وقدرته: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَ قَلِيلاً}. ولقد كان من الأمور التي علم الله عباده وأقدرهم عليها علم الصناعة الذي بلغ في عصرنا مبلغا كبيراً لا يتصوره أحد من قبل. هذه المراكب البحرية التي تمخر عباب البحر بكل قوة وأمان حاملة ما شاء الله تعالى من نفوس وأموال تقطع المسافات الطويلة في أمن وطمأنينة إنما حصلت هذه المراكب بما فتح الله على صانعيها من إدراك وفهم وبما يسر الله لهم من المواد التي تركبت منها هذه المراكب وسارت بها.(/2)
وهذه المراكب الجوية التي تجوب الفضاء من المشرق إلى المغرب على متن الهواء حاملة ما شاء الله من نفوس وأموال تقطع المسافات البعيدة بتلك السرعة الهائلة والارتفاع الشاهق هي من صنع الإنسان بلا شك ولكنها من العلم الذي من الله به عليه والأمور التي سخرها له ولو شاء الله تعالى ما فعلوه ومن الذي يتصور قبل ما حدث وشاهدناه بأعيننا أن هذه الطائرات الضخمة التي تحمل الفئام من الناس ستعلو فوق السحاب؟ ما كان واحد يتصور ذلك قبل حدوثه وكل ما حدث من المصنوعات التي يطيقها البشر فإنها لا تخرج عن علم الله وقدرته فعلينا أن نعتبر بها على كمال الله علماً وقدرة ورحمة وأنه ما من كمال في المخلوق في علم أو قدرة أو غيرهما إلا وهو ناقص جداً بالنسبة ما لله من ذلك وعلينا أن لا نفتن بذلك ونعظم صانعي هذه الأمور بأكثر مما يستحقونه وعلينا أن نترقب نتيجة ما حدث من تلك الصنائع هل تكون خيراً للبشرية فتكون نعمة أو تكون شرا للبشرية فتكون نقمة.
كما أن علينا أن نعلم علماً يقيناً بأن القرآن والسنة الصحيحة كلاهما من عند الله وأن ما كان من عند الله فهو حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلا يمكن أن يحدث شيء من المحسوس أو أن يعلم شيء من المعقول يخالف ما جاء به الكتاب والسنة أبداً. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شيئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال الله تعالى على لسان إبراهيم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(/3)
العنوان: تشريع الأنسنة
رقم المقالة: 811
صاحب المقالة: عبدالله بن محمد السهلي
-----------------------------------------
لقد جاء الإسلام صريحاً في تكريم الإنسان والرفع من شأنه، والآيات والأحاديث في هذا الصدد كثيرة، وهذا التكريم يبرز في تسخير الله الكونَ للإنسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] وفي منحه هذا الإنسانَ مزايا العقل والبيان، دون سائر المخلوقات، وفي المقابل أنيط بهذه المزايا أمانةٌ وتكليفٌ؛ تُحتِّم السيرَ على منهج الإسلام، ولهذا جاء في سورة العصر (في) بيانُ حال الإنسان، وأنه في خسر لا محالة؛ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
والمتأمل في الطرح الليبرالي المعاصر يجد طرحاً وتناولاً لقضية الإنسانية والأنسنة، ومحاولةَ تشريعها وإحلالها محل الشرائع السماوية، لاسيما الإسلام، وقد يظن البعض أن هذه بدعة جديدة لا سابق لها في تاريخ المذاهب والأفكار؛ فإن المطلع على تاريخ أوروبا، لا سيما حقبة العقلانية الأوروبية، التي تعتبر ربيبة شرعية - أو غير شرعية - للفكر الإغريقي الموغل في الوثنية؛ يجد الفكرَ الإنساني، أو تأليه الإنسان؛ واضحاً جلياً في فلسفتهم ومدوناتهم.
وفي العالم الإسلامي؛ حمل راية الأنسنة أحفاد المعتزلة وأغيلمة الليبرالية، وأخذوا يرددون ويجترون عباراتهم وأقاويلهم؛ بالتلميح تارة، وبالتصريح تارة أخرى، ولا أَصرحَ من قول أحدهم: "أنا أدين بدين الإنسانية"! ثم أردف: إنه يحترم دين الإسلام! ويقول الأخر: ".. درس الإنسان لم يكن حاضراً في تراثنا، أو - على نحو أدق - لم يكن حاضراً حضوراً يكفي لزحزحة تصورات بدائية تمتهن القيمة الإنسانية؛ في سبيل الأسطوري والخرافي". وتأمل! مَن يقصد بالأسطوري والخرافي؟!!(/1)
ولولا الحرص على سلامة ذوق القراء؛ لسقت أمثلة كثيرة لمثل هذا الغث، ولمثل هذا الطرح؛ الذي يراد منه هدم الدين، وتقديمُه بديلاً صالحاً لكل الأطراف، زعموا! ولقد سبقهم في ذلك مُنَظِّرُ الاتحاد والحُلول ابن عربي، النكرةُ، إذ يقول:
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ فمَرعىً لغِزلانٍ و دَيرٌ لرُهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ وألواحُ توراةٍ ومُصحَفُ قرآنِ
إن الأنسنة مذهبٌ يؤكد وجهة النظر المادية الدنيوية، وهو مِن أُسُس فلسفة (كُونْتْ) الوضعية، وفلسفة (بتنام) الذرائعية، وكتابات (برتراند راسل) الإلحادية، لكن هؤلاء لهم سلف في الفكر اليوناني؛ كما أوضح الدكتور علي أبو العينين في بحثه القيم (نقد الفكر التربوي المعاصر)، فقد ظهر أثر الإنسانية فيما أنتجه الفكر الإغريقي - من علم وفلسفة وفن - ظهوراً ميزهم عن غيرهم؛ فالإغريق جعلوا الإنسان محل اهتمامهم، وموضع تأملهم ودراساتهم، بل وتناولوا كل موضوع آخر من زاوية علاقته بالإنسان، حتى إنهم قالوا: إن الإنسان هو المقياس الوحيد الذي يقاس به كل شيء آخر في الكون!
ولا يخفى بعد ذلك نزعتهم التي "مجدت القدرات الإنسانية، وشُحِذَت من الإمكانات البشرية، وسارت في ذلك إلى نهاية الشوط الذي يغلِّب النزعة الإنسانية على كل شيء، ونعني بالنزعة الإنسانية هنا: ذلك الإنسانُ مقابلَ الكون والوجود والقوة العليا!! قد يحاربه القدر الأعمى، وقد يسقط؛ ولكن، سقوطَ أبطال التراجيديا، المثير للشفقة والرحمة! حتى الآلهة، قد ألبسوها ثوباً إنسانياً يكاد يلغي البعد بينها وبين الإنسان، حتى قيل: إن الآلهة عند (هومير) بشر، والبشر آلهة! ووُجِدت عشرات الآلهة التي تحارب بعضها، وتغضب وتثور، وتهدد وتنذر، ثم تهدأ وتلعب وتشرب الخمر!!(/2)
وبعد؛ هل يدرك هؤلاء الإنسانيون من بني جلدتنا هذا؟؟!! وإذا أدركوا هل يعون خطورته؟!! أم أن {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}. [الأعراف:179].(/3)
العنوان: تطبيق الإسلام هو الكفيل للأمة بالنصر
رقم المقالة: 774
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي وعد المؤمنين بالنصر والتأييد ودافع عن الذين آمنوا كيد كل كفار عنيد وأشهد أن لا إله إلا الله الولي الحميد وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده لإعلاء التوحيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين انتصروا بالدين وانتصر بهم الدين حتى علا على كل دين وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى وحققوا الإيمان بالله قولاً وعملاً واعتقاداً فإنه لا عزة ولا كرامة ولا انتصار إلا بالقيام بالدين وتحكيم الكتاب والسنة وتقديمهما على جميع النظم والقوانين فإنه لا نظام أقوى من نظام الإسلام ولا حكم أحسن من حكمه لأنه حكم الرب العليم الحكيم الرحمن الرحيم لا أحسن من تطبيق الإسلام في الأمور السياسية والأمور الاقتصادية والأحوال الاجتماعية والحقوق الشخصية والحدود الجنائية فتطبيقه صلاح العالم في جميع الأحوال ولما كانت الأمة الإسلامية متمسكة بدينها خاضعة لأحكامه مقتنعة بتعاليمه وأهدافه مطبقة لشرائعه في جميع الميادين كانت منصورة بنصر الله المبين فقهرت أعظم دول العالم في ذلك الحين واستولى الرعب على قلوب الأعداء المخالفين ثم لما تفرقت بها الأهواء وتشتت منها الأهداف والآراء ارتفعت الهيبة من أعدائهم فسلطوا عليهم من كل جانب سلطوا عليهم بحرب السلاح والإبادة وسلطوا بتغيير النظم وإفساد الثقافة أما حرب السلاح والإبادة فهناك الحروب الصليبية وما قبلها وما بعدها إلى يومنا هذا وأما تسلط أعدائنا بتغيير النظم والقوانين فإنهم حاولوا وما زالوا يحاولون أن يسير المسلمون في فلكهم في قوانينهم وتشريعاتهم التي بنوها على عقولهم القاصرة وآرائهم الفاسدة فإن كل رأي خالف الكتاب والسنة فإنه رأي فاسد لا خير فيه وإن قدر أن فيه خيراً فإن ضرره وشره فوق خيره أضعافا مضاعفة إن الأعداء غزونا بقوانينهم يريدون منا أن ندع أحكام الكتاب والسنة التي صدرت من الرب العليم بمصالح العباد الحكيم في شرعه فلم يشرع إلا ما فيه الخير والرشد والعدل والسداد.(/2)
الرحيم بخلقه فلم يشرع لهم إلا ما فيه مصلحتهم في الحال والمآل ولم ينههم إلا عما فيه مضرتهم في الحال والمآل إن أعداءنا إذا نجحوا من هذه الناحية فقد حازوا نصراً مبيناً وذلك من وجهين: الأول أننا نصير عالة عليهم وتابعين لهم نتشبع بآرائهم ونتروى بأفكارهم.
الثاني: أننا بذلك نترك تطبيق أحكام ديننا التي لا انتصار لنا عليهم إلا بتطبيقها والتزامها ظاهراً وباطناً وأما إفساد الثقافة فإنهم أدخلوا على الثقافة الإسلامية ما يبعدها عن أهدافها وأغراضها حتى أصبحت جافة هزيلة لا ترى فيها حياة الدين ودسومته وبذلك استولى الضعف على المسلمين وتداعت عليهم الأمم وصاروا غثاء كغثاء السيل يجري بهم التيار قهراً لا يملكون تقدماً ولا تأخراً لو هبت الريح لمزقتهم ولو استقبلهم أصغر العيدان لفرقهم ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها فلو أن المسلمين تدبروا كتاب ربهم وسنة نبيهم وعملوا بما فيهما وطبقوا ذلك على الأفراد والجماعات في جميع العبادات والمعاملات لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض ولنصرهم وألقى في قلوب أعدائهم الرعب فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40،41]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. إلخ.(/3)
العنوان: تطبيق الشريعة والوحدة الوطنية
رقم المقالة: 1932
صاحب المقالة: د. صلاح الصاوي
-----------------------------------------
تطبيق الشريعة والوحدة الوطنية
- "تطبيق الشريعة سيقودنا إلى طائفية بغيضة يتشرذم فيها الوطن، ويتمزق معها نسيجُهُ، نظرًا لما تؤدِّي إليه من تحوُّل أبناء الديانات الأخرى إلى رعايا من الدرجة الثانية أوِ الثالثة حيث تُفرَض عليهمُ الجِزْيَة، ويُحرَمون من كثير منَ الحقوق، ويَفقِدون حقَّ المواطنة الكاملة، وهو حقٌّ قدِ اكتسبوه عبر كفاح طويل، ولن يتخَلَّوْا عنه بسهولة، فضلاً عن أن هذا يحرِّك فيهمُ الرغبة في المطالبة بتطبيق شريعتهم كذلك، لا سيما إذا كنتَ تطالب بتطبيق الشريعة باعتباره التزامًا عَقَدِيًّا وواجبًا دينيًّا.
فكيف يُكرَهون على اعتقاد ما لا يَدينون به، وقد سُئِلَ كثير من القيادات القِبْطِيَّة عن رأيهم في قضية تطبيق الشريعة فأَبْدَوْا تخوُّفَهم على وضعهم في ظل هذه السياسة الجديدة، وتساءلوا عن حقوقهم في المواطنة، وهذه تخوفات يُبدونها اليوم على استحياء نظرًا للحساسية المحيطة بموقفهم من هذه القضية؛ لكنَّ الأمر قد ينتقِل غدًا إذا جدَّ الجدُّ إلى صعيد آخَرَ، وقد يتجاوز الحوار إلى المواجهة، وربما أفضى إلى ما لا تُحْمَد عُقْباه!
أليس منَ الخير لنا أن نبقى جميعًا في إطار منَ الدولة المَدَنِيَّة التي ارتضاها الجميع، لما تتسم به من تسامح ديني يتسع للجميع في ظل شعار – الدين للديَّان والوطن للجميع – حتى نفرغ جميعًا لبناء هذا الوطن، ويتعاون أبناؤه جميعًا: مسلمون وأقباط في صناعة مستقبله بعيدًا عن أدواء التعصب والتشرذُم والطائفيَّة؟".(/1)
- ليس صحيحًا ما ذَكَرْتَ أيها العزيز، فقد عاش المسلمون والأقباط في ظل تطبيق الشريعة ثلاثةَ عَشَرَ قَرْنًا أو يَزيد، فلم تتشرذمِ الأمَّة ولم يتمزقِ الوطن، بل تكاتفت سواعدُ الجميع في بناء حضارته وردِّ العُدْوان عنه في إطارٍ جامعٍ منَ العهود المصونة والذِّمَمِ المَرْعِيَّة، ولم يطالبِ الأقباطُ قطُّ بأن يلتزموا بالشريعة كدِين أو أن يخضعوا لحُكْمِها عَقَدِيًّا، فهذا الذي لا سبيل إليه في ظلِّ قاعدة: ((لكم دينُكم ولي دين))، وقدِ اختاروا أن يكونوا أقباطًا، فكيف يُكرَهون على ما هم به كافِرون.
إنَّ هذا المنحى في تطبيق الشريعة لم يَطُفْ قَطُّ بخاطر أحد منَ المسلمين، وإنما خضع الأقباط لحكمها كقانون عامٍّ واجبِ النفاذ في الدولة؛ تمامًا كما يخضعون الآن للقوانين الوضعية، وليست هي دينَهم الذي به يَدينون، ولا مردُّها كتابهم الذي هم به مؤمنون.
كما أنهم قَبِلُوا بها باعتبارها تُرَاثًا قَوْمِيًّا وحَضَارِيًّا لهم، فإن لم يؤمنوا بها دِينًا فقد آمنوا بها ثقافةً وحضارةً حتى كان بعضهم يقول: أنا – مسيحي دِينًا ومسلم وطنًا وثقافةً – ولقد حفلت مقالات أدبائهم وقصائدُ شُعرائهم بهذا المعنى:
قال أمين نخلة: "الإسلام إسلامانِ: واحد بالديانة، وواحد بالقومية واللغة، ومن لا يَمُتُّ إلى محمدٍ بعَصَبِيَّة، ولا إلى لغة محمد، وقومية محمد، فهو ضيفٌ ثقيل علينا، غريبُ الوجه بيننا، ويا محمدُ، يمينًا بديني ودين ابن مريم، إنَّنا في هذا الحي منَ العرب نتطلَّع إليك من شبابيك البَيْعَة؛ فعقولنا في الإنجيل، وعيوننا في القرآن"[1].
ويقول فارس الخوري: "أنا مسيحيٌّ ولكني أُجاهر بصراحة: إن عندنا النظامَ الإسلاميَّ، وبما أن الدول العربية المتحدة – كان ذلك في عهد الوحدة بين مصر وسوريا واتحادهما مع اليمن – بأكثريتها الساحقة مسلمةٌ، فليس هناك ما يمنعها من تطبيق المبادئ الإسلامية في السياسة والحكم والاجتماع"[2].(/2)
ويقول: "نحن بحاجة إلى حكومة حازمة تؤمن بالإسلام كدين ونظامٍ متكامِلٍ، وتعمل لتطبيقه، فكما أن الشيوعية تحتاج لدكتاتورية حازمة تَشُقُّ لها طريق الانتشار والازدهار والثبات، فالإسلام أشد حاجة لمثل ذلك، ومن ذا الذي يرضى ضميرُهُ ويطمَئِنُّ قلبُهُ إلى سلامة أُمَّتِهِ وكِيان بَلَدِهِ، وهو يعلم أن التحلُّلَ والفساد منتشرانِ لدرجة يصعب معها صَدُّهُما، وإيقافُ تيارهما، ومن ذا الذي ينكر على المسؤولين فيه مكافحةَ ذلك التحلُّلِ وذلك الفسادِ بشريعة هي من تلك الأمَّة وفيها"[3].
أمَّا حقوقهم في ظلِّ الدولة الإسلامية التي تُطَبِّقُ شريعة الله: فقد أَوْجَزَتْها هذه العبارةُ المأثورة الجامعة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، ومنَ الممكن أن يتضمن الدستور الأساسيُّ في الدولة الإسلامية بابًا خاصًّا يُفَصِّلُ هذه الحقوقَ، وتكونُ جُزْءًا منَ القانون الأساسيِّ في البلاد، ولا مجال للمَساس بها، ولا للانتقاص منها.
وإن الوفاء بهذه الحقوق سيتحول في ظل الدولة الإسلامية إلى التزام ديني واجبِ الأداء، ولا سبيل للمسلم إلى التحلُّلِ منه أوِ التلاعُب به، وقد أعطَى عليه ذِمَّةَ الله ورسولِهِ، وإنَّ صَدَى هذه الكلمة النبويَّةِ لا يزال يَشُقُّ حُجُبَ الزمان، ويُدَوِّي عبر القرون، ((من ظلم معاهَدًا أوِ انتقصه أو كَلَّفَهُ فوقَ طاقته فأنا حجيجه يوم القيامة))، ومَن ذا الذي يقوى على ذلك؟ أو يرضى أن يكون شفيعُهُ خصيمَهُ وحجيجَهُ يومَ القيامة.
أما عبارة: "الدين للديَّان والوطن للجميع"، فهي عبارة غريبة على الحسِّ الإسلاميِّ؛ لأن الدين والوطن والمواطنين لله رب العالمين قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84، 85].(/3)
وإن الإسلام لا يعرف هذه الإثْنِينِيَّةَ أو الازدواجِيَّةَ في صلة الإنسان بخالقه؛ لأنه يقوم على أن الأمر كله لله دينًا ودنيا، عقيدةً وشريعةً، روحًا وجسمًا، لا يَجْعَل من قَيْصَرَ شريكًا لله في حُكمِهِ، ولا نِدًّا له في مُلكِهِ؛ بل يجزم في وضوح أن قَيْصَرَ وما مَلَكَتْ يمينُهُ والناسَ أجمعين لله ربِّ العالمين لا شريك له.
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
أما التسامح الذي نتحدث عنه: فإن الدولة الإسلامية أحقُّ به وأهلُهُ، ولو كان من منهج الإسلام أن يقهر أحدًا من أبناء الديانات الأخرى على تغيير معتقَدِهِ ما بقي على أرضِهِ منهم أحدٌ، ولك أن تقارن بين وَضْع المسلمين في دولة كإسبانيا في أعقاب سقوط الحكم الإسلاميِّ بها مَثَلاً، وبين وَضْعِ غير المسلمين في الشرق، ففي هذه المقارنة أبلغ الجواب على رد هذه الشبهة.
وإن أردت شهادةَ التاريخ على هذا التسامح، فلن أسوق لك شهادة أحد من المسلمين؛ لأنها ربما كانت في هذا المقام في موضع التُّهْمَة، ولكن أَسُوقُ لك شهادة المنصفين من غير المسلمين سواء أكانوا منَ المفكِّرينَ أم من رجال الدين:(/4)
يقول المؤرِّخُ الفرنسي جوستاف لوبون: "وكان يمكن أن تُعمِي فتوحُ العرب أبصارَهُم، وأن يقترفوا منَ المظالم ما يقترفه الفاتحون عادةً، ويُسِيئُوا معاملة المغلوبين ويُكرِهُوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم؛ ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون - الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما نَدَرَ وُجُودُهُ في دعاة الديانات الجديدة - أن النُّظُمَ والدياناتِ ليست مما يُفرَض قَسْرًا، فعامَلوا - كما رأينا - أهل سوريا ومصر وإسبانيا وكل قُطْر استولَوْا عليه بلُطْف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونُظُمَهُم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزيةٍ زهيدةٍ في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقًا في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأُمَمَ لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دِينًا سَمْحًا مِثْلَ دينهم"[4].
ويقول ريتشارد ستيبز: على الرغم من أن الأتراك بوجه عام شعب من أشرس الشعوب .. فقد سمحوا للمسحيين جميعًا؛ للإغريق منهم واللاتين منهم أن يعيشوا محافظين على دينهم، وأن يصرفوا ضمائرهم كيف شاؤوا، بأن منحوهم كنائسهم لأداء شعائرهم المقدسة في القسطنطينية، وفي أماكن أخرى كثيرة جدًّا، على حين أستطيع أن أؤكد بحق – بدليل اثني عشر عامًا قضيتها في إسبانيا - أننا لا نرغم على مشاهدة حفلاتهم البابوية فحَسْبُ؛ بل إننا في خطر على حياتنا وأحفادنا".
وهذا ما جعل بطريرك إنطاكية واسمه مكاريوس يقول: "أدام الله دولة الترك خالدة إلى الأبد؟ فهم يأخذون ما فرضوه من جزية، ولا شأن لهم بالأديان، سواء إن كان رعاياهم مسيحيين أو يهودًا أو سامرة"[5].
ونسوق في هذا المقام وثيقة تاريخية تبين كيف كان يعامَل غيرُ المسلمين في الدول الإسلامية، ولو كان من اليهود، وتتمثل هذه الوثيقة من نصِّ الفرمان الظهير، الذي أصدره السلطان محمد بن عبدالله سلطان المغرب في 5 فبراير 4681م وهذا نصها:(/5)
((بسم الله الرحمن الرحيم: ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم:
نأمر من يقف على كتابنا هذا من سائر خُدَّامِنا، وعُمَّالِنا القائمين بوظائف أعمالنا أن يعامِلوا اليهود الذين بسائر آياتِنا بما أوجبه الله تعالى من نَصْبِ مِيزانِ الحقِّ والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام، حتى لا يَلْحَقَ أحدًا منهم مثقالُ ذَرَّةٍ منَ الظلم ولا يضام، ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام، وألا يَعتدوا هم ولا غيرهم على أحد منهم لا في أنفسهم ولا في أموالهم، وألا يستعملوا أهل الحرف منهم إلا عن طِيبِ أنفُسِهِم، وعلى شرط تَوْفِيَتِهِمْ بما يستحقونه على عملهم؛ لأن الظلم ظُلُماتٌ يوم القيامة، ونحن لا نوافِق عليه، لا في حقِّهِم ولا في حقِّ غيرهم، ولا نرضاه لأن الناس كلَّهُم عندنا في الحق سواء، ومن ظَلَمَ أحدًا منهم أو تَعَدَّى عليه، فإنَّا نُعاقِبُهُ بحَوْلِ الله.
وهذا الأمر الذي قررناه وأوضحناه وبيَّنَّاهُ كان مقرَّرًا، ومعروفًا محرَّرًا، لكن زِدْنَا هذا المسطورَ تقريرًا وتأكيدًا ووَعِيدًا في حقِّ مَن يريد ظُلْمَهُمْ، وتشديدًا ليَزِيدَ اليهودُ أَمْنًا إلى أَمْنِهِمْ، ومَن يريد التَّعَدِّيَ عليهم خوفًا إلى خوفهم.
صَدَرَ به أمرنا المعتزُّ بالله في السادس والعشرين من شعبان المبارك عام 1280 هـ ثمانين ومائتين وألف" [6].
ويقول القِسُّ بَرْسُوم شحاتة وكيل الطائفة الإنجيلية في مصر، وقد وُجِّهَ إليه سؤالٌ هذا نصه: من خلال دراستكم للتاريخ، ماذا تَرَوْن في حكم الإسلام بالنسبة للأقليات من ناحية العبادة والأموال والأعراض؟(/6)
فأجاب: "في كل عهد أو حكمٍ إسلاميٍّ التزم المسلمون فيه بمبادئ الدين الإسلاميِّ كانوا يشملون رَعَايَاهم من غير المسلمين – والمسيحيين على وجه الخصوص – بكل أسباب الحريَّة والأمن والسلام، وكلما قامتِ الشرائع الدينيَّةُ في النفوس بصدق بعيدةً عن شوائب التعصب الممقوت والرياء الدخيلَيْنِ على الدين، كلما سطعت شمس الحريات الدينية، والتقى المسلم والمسيحي في العمل الإيجابي، والوحدة الخَلاَّقَة"[7].
ويجيب على هذا السؤال الأنبا غرغريوس أُسْقُفُّ البحث والدراسات العليا اللاهوتية بالكنيسة القِبْطِيَّة، ومُمَثِّلُ الأقباط الأرثوذكس فيقول: "ولقد لَقِيَتِ الأقلياتُ غير المسلمة – والمسيحيون بالذات – في ظلِّ الحكم الإسلاميِّ الذي تتجلى فيه روح الإسلام السَّمْحَة كلَّ حرية وسلام وأمن في دينها، ومالها وعرضها"[8].
ويجيب عليه الكاردينال اصطفانوس بطريك الأقباط الكاثوليك قائلاً: "إن الذي يحترم الشريعة الإسلامية يحترم جميع الأديان، وكلُّ دِين يدعو إلى المحبة والإخاء، وأيُّ إنسان يسير على تعاليم دينه لا يمكن أن يُبغِضَ أحدًا أو يَلْقَى بُغْضًا من أحد. ولقد وَجَدَتِ الدياناتُ الأخرى – والمسيحية بالذات – في كل العصور التي كان الحكم الإسلاميُّ فيها بصورته الصادقة، ما لم تَلْقَهُ في ظلِّ أيِّ نظام آخَرَ، من حيث الأمانُ والاطمئنانُ في دينها ومالها، وعِرضها وحريَّتِها"[9].(/7)
أما الإطار المدني أو العَلْمَانِيُّ فلم يكن دائما مَخْرَجًا منَ الفِتَنِ الطائفيَّةِ، ولا أدلَّ على ذلك من الهند التي تشهد المذابح الرهيبة من حين إلى آخَرَ، ويذهب ضحيَّتَها عشراتُ الألوف من المسلمين، ولا تزال المصادمات الدامية بين السِّيخِ والهندوس، والتي ذهبت ضحيَّتَها رئيسةُ وزراء الهند، تثير الفزع في أنحاء البلاد، ولا يكاد يهدأ لها أُوَارٌ، رغم الإطار العَلْمَانِيِّ للدولة، ولا تزال الطائفيةُ في لُبنانَ رغم عَلْمَانِيَّتِها تأتي على الأخضر واليابس وتُغْرِقُ البلاد في بحر منَ الدماء!
ومن ناحية أخرى: فإنه لا خيار لنا في قَبول تحكيم الشريعة أو عدم قَبوله، لأن القضية بالنسبة لنا نحن - المسلمين - قضيةُ إيمان أو كفر، فالقَبول بالشريعة من جنس القَبول بالإسلام، ورَدُّها رَدٌّ للإسلام، وقد أجمعتِ الأُمَّة على كُفْرِ مَن أبى التحاكُمَ إلى الكتاب والسنَّة، وقد قال – تعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ أُمَّتِي يدخلون الجنَّة إلا مَن أَبَى))، قالوا: "ومَن يَأْبَى يا رسول الله؟" قال: ((مَن أطاعني دخل الجنَّة، ومَن عصانِي فَقَدْ أَبَى))؛ رواه البخاريُّ.
وأخيرًا: أَلاَ يتغنَّى العَلْمَانِيُّونَ بالديمقراطيَّة ويَرَوْنها مَخْرَجًا منَ الطائفيَّةِ والصراعات الدينيَّة، ليحتكموا إلى الديمقراطية ولْيَسْمَحُوا باستفتاءٍ حقيقيٍّ يَتعرَّفُ على إرادة الأغلبيةِ، فإذا كانت الأغلبيةُ مع الشريعة، فبأيِّ منطقٍ يَستجيزون قَهْرَ إرادةِ الأغلبيةِ، ويَفْرِضُونَ عليها قانونًا لا يَمُتُّ لدِينِها ولا لتاريخِها ولا لحضارتها بصِلَة؟ ولا لمبادئهمُ الديمقراطيةِ نَفْسِها!
---(/8)
[1] نقلاً عن "بينات الحل الإسلامي" للدكتور/ يوسف القرضاوي: 285.
[2] نقلاً عن "بينات الحل الإسلامي" للدكتور/ يوسف القرضاوي: 285.
[3] المرجع السابق: 260.
[4] "حضارة العرب": ترجمة عادل زعتير: 605.
[5] "بينات الحل الإسلامي" للقرضاوي: 250.
[6] "بينات الحل الإسلامي" للقرضاوي: 251.
[7] "بينات الحل الإسلامي" للقرضاوي: 265
[8] المرجع السابق: 263.
[9] المرجع السابق: 263.(/9)
العنوان: تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع المسلم
رقم المقالة: 302
صاحب المقالة: د. ناصر بن عقيل الطريفي
-----------------------------------------
الحمدلله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها وجعل بيننا مودة ورحمة، والصلاة والسلام على رسولنا وهادينا محمد بن عبدالله الذي أرسل رحمة للعالمين، فأمر بالتناكح والتزاوج للتناسل وتكثير هذه الأمة للمباهاة والمكاثرة بها الأمم يوم القيامة.
وبعد:
فإن الله تعالى جعل بقاء الإنسان وطريقة تكاثره وتناسله عن طريق التزاوج بين المرأة والرجل، وركب في الزوجين الرجل والمرأة غريزة الشهوة الجنسية ليحصل المقصود من تناسل الإنسان لبقائه، ثم إنه سبحانه وتعالى نَظَّم طريقة إرواء غرائز الإنسان تنظيماً يكفل إرواءها ويحد من جماحها، إذ لو ترك للإنسان إرواء رغباته حسب ما يحلو له، لدبت الفوضى، ولجنح عن الصراط المستقيم، وتنكب الجادة كما هو مشاهد في عالم البشر الذين لا يؤمنون بالله تعالى، أو لا يطبقون شريعة الإسلام، فنجد أن ظاهرة الجنس تسيطر على حياتهم، وكأن الإنسان خلق من أجل التمتع الجنسي، لذا دبت الفوضى واستشرى الفساد، وأصبحت العلاقات البهيمية المحمومة هي المسيطرة بين الرجال والنساء، وأصبحت المرأة سلعة يتاجر بها الرجل ويلوح بها في كل حين، وظهرت الحياة عند بعض الشعوب حياة جنسية شبيهة بحياة الحيوانات الخالية من كل قيد وتنظيم.
أما نظام إرواء الرغبة الجنسية في الإسلام فهو عن أحد طريقين:
الزواج أو الاسترقاق. ولا ثالث لهما، وأي طريق غير هذين فهو اعتداء على حرمات الله وتشريعه، يعاقب عليه في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[1].(/1)
وتشريع الله للعلاقة بين الرجل والمرأة هو التشريع السليم، لأنه من عند خالق البشر، العالم بما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم، فالزواج المشروع هو الذي ينتج العلاقة الصالحة التي تقوى فيها العاطفة والمحبة والألفة والحنان بين الزوجين، وتروى فيها الرغبة الجنسية والوطر، ويولد فيها الأولاد في جو من المحبة والسعادة، ويتربون في كنف هذه الحياة الزوجية أسوياء يشاركون بعد ذلك في بناء المجتمع.
أما ترك الإنسان يجمح في إرواء رغبته كلما سنحت له الفرصة مع أي امرأة وبأي طريقة، فهذا يولد القلق والأمراض، وينتج أولاداً غير شرعيين يتربون في الملاجئ، ومن ثم يحرمون الحنان والعاطفة، فيشبون مجردين عن الحب، بل ربما يخرجون وهم يحملون الحقد على المجتمع.
وتعدد الزوجات الذي أباحه الله تعالى بقوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}[2].
يرعى تحقيق مصالح كثيرة تظهر لنا أحياناً، وتخفى علينا أحياناً أخرى، وهذا الشأن في تشريعات الله وأحكامه، فالله – سبحانه وتعالى – لم يسن أي أمر عبثاً، وإنما سنَّه لحكمة يعلمها، ومصالح كثيرة تعود على الإنسان بالنفع العميم والخير الكثير. فهذا التعدد فيه إعفاف للرجال والنساء عن الحرام وقضاء على الفساد، ودفع للشرور والآثام، وتكثير للنسل، وطاقات المجتمع البشرية التي يحتاج إليها للبناء والتنمية، حتى أن بعض العلماء لا يرى أن تعدد الزوجات مجرد إباحة، وإنما هو مندوب إليه ومرغب فيه شرعاً. قال ابن قدامة في معرض حديثه عن النكاح وأمر الله به وحث عليه: (ولأن النبي (صلى الله عليه وسلم) تزوج وبالغ في العدد وفعل ذلك أصحابه، ولا يشتغل النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه إلا بالأفضل، ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل والاشتغال بالأدنى)[3]اهـ.(/2)
وأصدق دليل على فضل النكاح وتعدد الزوجات هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو خير هذه الأمة، وقد عدد زوجاته. روى البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا. قال: فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء[4].
قال ابن حجر في بيان معنى هذا الحديث: (قيل المعنى: خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل. والذي يظهر: أن مراد ابن عباس بالخير النبي (صلى الله عليه وسلم) وبالأمة أخصاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح، إذ لو كان راجحاً ما آثر النبي (صلى الله عليه وسلم) غيره، وكان مع كونه أخشى الناس صلى الله عليه وسلم وأعلمهم به يكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطلع عليها الرجال)[5] اهـ.
وقد قال ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: (لو لم يبقَ من أجلي إلا عشرة أيام، وأنا أعلم أني أموت في آخرها يوماً، ولي طول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة)[6].
كما أن الآية أمرت بالنكاح اثنتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، فإن خاف الإنسان عدم العدل بين الزوجات فيلجأ إلى عدم التعدد فيقتصر على واحدة أو على ملك اليمين من الإماء، والأمر أقل درجاته الندب والاستحباب، روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة – رضي الله تعالى عنها – عن قوله تعالى:
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ}[7].(/3)
فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن، قالت: واستفتى الناس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك فأنزل الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء}.. إلى.. {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} فأنزل الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ونسبها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها وأخذوا غيرها من النساء. قالت: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق[8].
ومع هذه الفوائد الجمة لتعدد الزوجات من تكثير أفراد الأمة، وإعفاف الرجال والنساء عن الحرام والزنا والعلاقات المشبوهة، نجد أعداء الإسلام يهاجمون الإسلام ويطعنون فيه بإباحته للتعدد، ويصفونه بأنه يهضم المرأة حقها، ويعطي الرجل فرصاً أفضل من الفرص التي يعطيها للمرأة في إشباع مطالبه ورغباته، بينما يقيد دائماً دور المرأة، ويجعلها مغلوبة على أمرها، كما أن إباحة التعدد لا يستفيد منه جميع طبقات المجتمع، وإنما يستفيد منه ذوو الثراء والجاه وحدهم، إذ هم القادرون على التعدد والإنفاق، ودفع تكلفة الزواج، وهم القادرون على تحقيق مطالب الزوجات والأولاد.
وللأسف نجد بعض المسلمين يزهد في التعدد ويحاول تصويره بأنه كله مشكلات وأعباء، وما ذلك إلا لعدم ثقته بالله تعالى المشرع والمنظم، ولضعف إيمانه بأحكام دينه.
بل إن بعضهم يحاول أن يجعل من النصوص الشرعية ما يؤيد رأيه ووجهته في منع التعدد، فيجعل قول الله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً}[9]. وقوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}[10].(/4)
دليلاً له على منع التعدد في الظروف العادية، إذ شرط التعدد هو العدل، وهو متعذر وغير مستطاع، لذا يمنع التعدد، لأنه إذا امتنع الشرط الذي هو العدل امتنع المشروط الذي هو التعدد، وليس الأمر كذلك، لأن العدل المنفي في قوله:
{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ}.
هو المحبة القلبية، لأن القلوب ليست ملكاً لأصحابها، فلا يملك المرء التحكم في قلبه، فهو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعدل بين زوجاته في القسم والنفقة والمبيت والسكنى ويقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك))[11].
فوائد تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع
إن تعدد الزوجات ضرورة إجتماعية، ورحمة بالمرأة ورعاية لها قبل أن يكون مغنماً للرجل، وهذه حقيقة مشاهدة مدركة بالعيان، يشاهدها كل ذي بصيرة.. أما من أغفل قلبه وأعمى عينيه وسار وراء الذين يشوهون التعدد ويصورونه بأنه مشكلات وأعباء ومتاعب وقسوة وحيوانية وظلم للمرأة، ويضربون أمثلة من الوقائع اليومية التي يعيشها الناس فهم ناسون بأن الحياة كلها مشكلات، وأن الإنسان يعيش في داخل المشكلات والمتاعب كما قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنسَانَ فِي كَبَدٍ}[12].
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه[13]
فهل صاحب الزوجة الواحدة يخلو من المشكلات والمنغصات؟! وهل الأولاد إذا كانوا من زوجة واحدة وأب واحد لا يوجد بينهم منافسات ومشكلات؟! وهل من عنده أولاد سعيد كل السعادة؟! وهل من حُرِمَ الأولاد سعيد كذلك؟! فالحياة الدنيا حياة ملؤها المشكلات والمنغصات والهموم والكبد، ولكن على الإنسان أن يصبر ويرضى بحكمة ربنا وقدره، ويستشعر أن هذه الحياة ماهي إلا وسيلة إلى الحياة الحقيقية، الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها، كما قال الله تعالى:(/5)
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآْخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[14].
وتعدد الزوجات الذي نحن بصدد الحديث عنه رغم ما فيه من أعباء وتكاليف كثيرة على الزوج، وما فيه من إثارة لغيرة المرأة من ضراتها – الزوجات الأخر – فهو يعالج شراً بأخف ضرر ممكن، فعلى المرأة أن تضحي من أجل بنات جنسها، وعلى الرجل أن يتحمل ليشارك في بناء المجتمع، فإننا ندرك مبررات كثيرة للتعدد، وضرورات اجتماعية تلجيء إليه، مع إيماننا بأن المسلم عليه أن يطبق حكم الله سواء أظهرت له الحكمة والمصلحة من الحكم، أم لم يظهر له شيء:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا}[15].
ولكننا نذكر هذه الفوائد والمبررات لتطمئن قلوب الذين ضعف إيمانهم، أو يريدوا إقناع غيرهم، واتقاء شر هجوم الكفار على الإسلام، فمن هذه المبررات:
أولاً: أن نسبة النساء في أي مجتمع من المجتمعات البشرية تفوق نسبة الرجال وتزيد عليها، وذلك مشاهد من عدة وجوه:
الوجه الأول: كثرة ولادة البنات دون الذكور، فنجد عدد النساء في البيت الواحد أكثر من عدد الرجال، وليتحقق كل واحد من هذه الحقيقة بالنظر إلى بيته وأقاربه وجيرانه، وليعمل إحصائية يعدد فيها الرجال، وإحصائية أخرى يعدد فيها النساء في معارفه، فإنه ولا شك سيخرج بنتيجة زيادة عدد النساء على الرجال.(/6)
الوجه الثاني: يتعرض الرجال للموت والفناء أكثر من النساء، إذ لديهم قابلية للمرض أكثر من النساء، كما أن الرجال يتعرضون للحوادث من جراء تعرضهم للمخاطر أكثر من النساء، فالرجال في الغالب تقع عليهم حوادث الطائرات والسيارات والقطارات والسفن، وشتى حوادث الطرق، لأنهم يخرجون للكسب والمعاش، بينما النساء يقبعن في بيوتهن، والرجال قوامون عليهن، فالمرأة لا تتعرض للأخطار كثيراً، وإن كنت شاكاً في هذا فاجلس عند باب المقبرة، واعمل إحصائية بمن يموت خلال شهر، فستجد نسبة وفيات الرجال تزيد على نسبة وفيات النساء بنسبة 3 – 1.
كما أن الحروب تلتهم الرجال، وهم وقود المعارك، وبنظرة سريعة إلى البلاد التي تستعر فيها الحروب، فستجد آلاف النساء بلا عائل، تخطفت الحروب والاغتيالات آباءهن وأزواجهن ومن يعولهن.
وقد دلت الإحصائيات بعد الحرب العالمية الثانية أن أكثر بلاد أوروبا أصبحت النساء يشكلن نسبة 7 – 1 من الرجال، فإذا تزوجت واحدة برجل فأين الأزواج للبواقي إذا لم يكن التعدد؟
ثانياً: أن الرجل يتأخر نضجه الجنسي والاجتماعي واستعداده للزواج، فَقَلَّ أن يكون مهيئاً للزواج قبل الخامسة والعشرين من عمره، بينما المرأة يبدأ نضجها واستعدادها للزواج في سن مبكرة قبل الرجل بما لا يقل عن خمس سنوات. فكمال نضارة المرأة وبهجتها في سن العشرين من عمرها، وهذا يجعل الجاهزات للزواج أكثر من نسبة الرجال الجاهزين للزواج، فلو تأخرت المرأة في الزواج كما يتأخر الرجل لذهبت نضارتها وزهرة حياتها وأنوثتها، وهذا ما نشاهده في واقع الحياة، وبخاصة مع البنات اللاتي شغلت الدراسة أفكارهن، فيردن التخرج من الجامعات وإكمال الدراسات العليا، وفي النهاية يفاجأن بفوات قطار الزواج، ورغبة الرجال عنهن، فيجلسن عانسات في بيوتهن.(/7)
ثالثاً: أن رغبة المرأة إلى الجماع أقل من رغبة الرجل، وهي أكثر حياء منه، فقلما تجد رجلاً يستغني بامرأة واحدة، بينما كثير من النساء لا تتحمل كثرة الجماع وتتأفف منه، فلا تستطيع امتصاص طاقة الرجل، وبخاصة عند بلوغها الخمسين من عمرها، والذين ينتقدون الإسلام في إباحته للتعدد هم يعددون النساء ولكن بطرق غير مشروعة، فلهم الخليلات والصديقات والسكرتيرات، وغير ذلك من طرق الاتصال المشبوه الذي يهدد البيوت ويفسد العلاقات الأسرية، كما أن القسوة والوحشية تتمثل في هذا الاتصال المحرم، فالمرأة يعبث بها الرجل ثم تنوء بأعباء هذا العبث من إفساد سمعتها وتدنيس شرفها وعفتها، وتركها للخزي والعار، وربما تحمل من هذا الاتصال والرجل ليس عليه تبعات هذا الحمل، ولا نفقة للمرأة ولا مهر يدفعه لها، والأولاد يتركون للحرمان والتشرد والفقر، فالصلات المحرمة آلام على المرأة وعلى أولادها، لذا عاقب عليها الإسلام بالجلد والرجم بالحجارة حتى الموت، وقد أغمضت القوانين الوضعية عينيها وكأنها لا ترى الفساد والإفساد الذي ينخر كالسوس في جسم المجتمع، حتى ليكاد يبليه، فهؤلاء الأولاد الذي يُرمْون في الشوارع، أو يُسَلَّمونَ لدور الملاجئ، وهذه الأمراض الجنسية التي تهدد من كل صوب وناحية سببها – والله أعلم – هو الاتصال الجنسي غير الشرعي وبسبب البعد عن التمسك بأوامر الإسلام.
وبهذا ندرك أهداف الذين ينتقدون الإسلام في عدم إعطائه الحرية الشخصية للناس يعملون كما يشاؤون، ندرك أنهم يريدون العبث بالمرأة وإرواء رغباتهم ونزواتهم، بينما الإسلام يريد مجتمعاً نظيفاً تقوم العلاقة فيه بين الرجل والمرأة عن طريق واحد هو الزواج، وهذا يكفل للمرأة سعادتها وكرامتها وعفتها، وللأولاد الحنان والنفقة والتربية، ويكفل للرجل قضاء الوطر والعيش الهنيء، الذي تسوده المحبة والراحة والاطمئنان والأنس والرحمة.(/8)
رابعاً: المرأة معرضة للعقم والإياس، والمرض الذي يُفَوِّت على الرجل الاستمتاع بها، كما أن المرأة بعد كبرها وإياسها لا تثير الرجل لذهاب بهجتها، كما قال الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[16].
فالمرأة لا تحمل ولا تحيض بعد سن الخمسين من عمرها، أما الرجل فتبقى لديه القوة والحيوية والرغبة إلى النساء ولو بعد كبر السن، بل حتى الموت.
فإذا كانت المرأة عقيماً هل من العدل أن يصبح الرجل معها عقيماً ونفسه تشرئب للأطفال والأنس بهم، ومن هنا ليس هناك حل إلا أن يبقى محروماً من الأولاد مع بقائه مع هذه العقيم، أو أن يطلقها ليتزوج غيرها، أو أن يتزوج بأخرى تنجب مع بقائها، ولا شك أن بقاءه بدون ذرية يتنافى مع فطرة الإنسان وغريزته التي تحب الأولاد، وطلاقه للعقيم يشردها، إذ المرأة إذا طلقت لا يتزوجها في الغالب إلا من هو أقل من زوجها السابق شأناً، أو أكبر سناً وله زوجة وأولاد، وقد يكون عاجزاً عن الزواج على الأبكار، أو أن تبقى بدون زوج طيلة بقية حياتها، فكونها ترضى بنصف رجل أو ثلثه أو ربعه هو خير لها من عدمه.
وإن كانت مريضة وهو يحبها ومرضها لا شفاء بعده وهو يمنع زوجها من أن يستمتع بها، أو يحرم زوجها من خدمتها، فهل يطلقها وهي مريضة ومحتاجة إلى الرعاية والحنان؟ أم يتزوج غيرها مع بقائها في عصمته ولها النفقة والسكنى والكرامة والمساواة؟.(/9)
خامساً: الزواج المتعدد فيه نبل وتضحية من الرجل وتحمل للمشقات والتبعات، فأحياناً يتزوج يتيمة أو أرملة، أو امرأة فاتها قطار الزواج وفرصه، ولو تركت لجلست بدون زوج العمر كله، وقد يفكرن في الاتصال المحرم، كما أن الزوج بتعداده لزوجاته إنما يخفف من أعباء المجتمع وأولياء النساء، حيث يتحمل رعاية وتبعات أناس آخرين، ويساهم في رفع المشقة والعنت عن أولياء أمور النساء، فيحفظ زوجته ويصونها، ويكون سبباً في حصول الأولاد لها، وينفق عليها وعلى أولادها منه، ويشرف على تربيتهم.
هذه بعض فوائد التعدد ومبرراته، ثم هو مباح لا واجب فهو بمثابة العلاج في الصيدلية يتناوله من يحتاج إليه ويجد القدرة على استعماله رغم ما فيه من مرارة ومعاناة، فالأمر متروك للرجل، فهو الذي يقرر التعدد من عدمه، لأن مسألة الزواج يترتب عليها تبعات أخرى من السكن والنفقة والعدل والمساواة في القسم، فهو لا يقدم على التعدد إلا إذا وجد الحاجة داعية إليه، والمرأة التي أقدمت على الزواج من رجل معه زوجة أخرى لو وجدت أحسن منه لمالت إليه، ولكن الظروف ألجأتها إلى ذلك، والمرأة الأولى إذا لم تستطع البقاء بعد زواج زوجها على غيرها، فإن لها مندوحة ومخرجاً من هذا الزواج بطلب الطلاق والمخالعة.
وبعد هذا ندرك أهمية تعدد الزوجات للمجتمعات البشرية كلها، وصدق الله العظيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[17].
فشريعة الله وتنظيمه لا يدانيها أي تشريع أو نظام من نظم وتشريعات البشر.
فالزواج المتعدد نعمة يحل كثيراً من المشكلات للزوجين، فتبقى زوجته الأولى مع أولادها، لها النفقة والرعاية والحب والعدل في القسم، وهو يسعد بزواجه من الأخرى، ولو لم يبح التعدد فماذا تعمل النساء الأخريات، إذ كل امرأة أخذت نصيبها من الرجال، وماذا يعمل الرجل في قضاء وطره وتتوق نفسه إلى النساء.(/10)
وليس معنى هذا أن التعدد نعمة على الجميع – الرجل وزوجاته – ولكن عدم التعدد أشد ضرراً، فيدفع التعدد – الذي هو ضرر – ما هو أعظم منه، إذ لوجدت المرأة رجلاً ليس عنده زوجات أخر لم تفضل عليه غيره.
وإذا كانت الزوجة الأولى ينالها ضرر من الزواج بالثانية، فإن الثانية ينالها ضرر أشد وأعظم بالحرمان، إذ تموت أنوثتها أو تنجرف فتكون ضياعاً بين الرجال – والضرر الكبير يدفع الضرر اليسير – ثم إن الحياة الزوجية المتعددة فيها ما فيها من المنغصات والكبد والمشقة، شأنها شأن الحياة كلها، إذ الحياة كلها عنت ومشقة، والإنسان يعيش في داخل الكبد والمشقة، قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنسَانَ فِي كَبَدٍ}[18].
حتى الرجل مع زوجته الواحدة عنده من المشكلات الشيء الكثير.
هذه بعض فوائد التعدد، وقد يكشف الزمن مستقبلاً غير هذه الفوائد.
شروط تعدد الزوجات
لما شرع الله تعدد الزوجات لم يتركه بدون قيد ولا شرط، وإنما سن له حدوداً واشترط له شروطاً، فيما يلي أتحدث عن هذه الشروط فأقول:
هناك ثلاثة شروط لجواز تعدد الزوجات، هي:
1 - أن لا يزيد عدد الزوجات عن أربع نساء.
2 - أن يستطيع الإنفاق على الزوجات جميعاً.
3 - أن يستطيع العدل بين زوجاته.
أما الشرط الأول: وهو أن لا يزيد عدد النساء اللاتي يتزوج بهن عن أربع زوجات، فقد ذكره الله تعالى في كتابه الكريم حيث قال: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}[19].
وقد روى الترمذي[20] وابن ماجة[21] وأبو داود[22]: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): ((اختر منهم أربعاً وفارق سائرهن)). وهذا الشرط مجمع عليه بين المسلمين. قال ابن قدامة: (أجمع أهل العلم على هذا ولا نعلم أحداً خالفه إلا شيئاً يحكى عن ابن القاسم بن إبراهيم أنه أباح تسعاً لقوله تعالى:(/11)
{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}.
والواو للجمع، ولأن النبي (صلى الله عليه وسلم) مات عن تسع، وهذا ليس بشيء، لأنه خرق للإجماع وترك للسنة، فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشر نسوة: ((أمسك أربعاً وفارق سائرهن)). وقال نوفل بن معاوية: أسلمت وتحتي خمس نسوة فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): ((فارق واحدة منهن)). رواهما الشافعي في مسنده، وإذا منع من استدامة زيادة عن أربع فالابتداء أولى، فالآية أريد بها التخيير بين اثنتين وثلاث وأربع كما قال: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}.
ولم يرد أن لكل ملك تسعة أجنحة، ولو أراد ذلك لقال تسعة ولم يكن للتطويل معنى، ومن قال غير هذا فقد جهل اللغة العربية.. وأما النبي (صلى الله عليه وسلم) فمخصوص بذلك)[23].
الشرط الثاني لتعدد الزوجات: أن يستطيع الإنفاق على جميع زوجاته اللاتي في عصمته. قال الله تعالى:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[24].
فالنفقة على الزوجة واجبة بالإجماع، وكذلك الزوجات. قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[25].
وقال (صلى الله عليه وسلم): ((اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))[26]. عوان: أي محبوسات.
قال ابن قدامة: "وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن"[27].
الشرط الثالث لتعدد الزوجات: استطاعة العدل بين زوجاته في المبيت والسكن والنفقة، قال الله تعالى:(/12)
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ}[28].
فاشترط العدل وعدم الجور في المعاملة.
أما محبة القلب وميله فلا يستطيع الإنسان أن يعدل فيه.
قال الله تعالى:
{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}[29].
فهذه الآية يخبر الله فيها عن فطرة الإنسان التي فطره عليها – وهو سبحانه أعلم بما رَكَّبَ في النفس البشرية من فطرة، فيعلم سبحانه أن نفس الإنسان ذات ميول واتجاهات لا يملكها الإنسان، ومن ثم أعطاها لهذه خطاماً لينظم حركتها، لا ليعدمها ويقتلها.
ومن هذه الميول أن يميل القلب إلى إحدى الزوجات دون سواها أو أكثر من غيرها لسبب من الأسباب، وهذا الميل لا حيلة له فيه، ولا قدرة له عليه، ولا يملك محوه ولا قتله وإزالته، فالقلوب ليست ملكاً لأصحابها، إنما هي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فبيَّن الله سبحانه في هذه الآية أنه لا يحاسب الزوج عليه، ما دام في قلبه لم يتعد إلى معاملته وأفعاله وسلوكه، بل يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء في محبة القلب ليرفع عنهم الحرج، إذ الأمر خارج عن إرادتهم.(/13)
ولكن عليهم أن لا يميلوا كل الميل فيؤثر على المعاملة الظاهرة ويحرم الأخرى حقوقها، فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة. وهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في فعله يحقق الواقع البشري فيقسم بين نسائه فيما يملك ويعدل في هذه القسمة، حتى أنه إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ليأخذ من تقع عليها القرعة معه لتصحبه في السفر[30]. ولكن محبة القلب لا يملكها ولا يستطيع أن يعدل فيها فيقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك))[31]. وقد أخرج البيهقي بسنده عن ابن عباس في قوله: ((ولن تستطيعوا.. الآية)). قال: ((في الحب والجماع))[32].
ولا يخص بالقسم أحداً دون أحد، فيقسم بين نسائه الصحاح والمرضى، والطاهرات والحيض. قال ابن قدامه: (ويقسم للمريضة والرتقاء والحائض والنفساء والمحرمة والصغيرة الممكن وطؤها وكلهن سواء في القسم، وبذلك قال: مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، وكذلك التي ظاهر منها، لأن القصد الإيواء والسكن والأنس، وهو حاصل لهن.. وأما المجنونة فإن كانت لا يخاف منها فهي كالصحيحة، وإن خاف منها فلا قسم لها لأنه لا يأمنها على نفسه، ولا يحصل لها أنس ولا بها)[33].
وقال ابن حجر: "المراد بالعدل: التسوية بينهن بما يليق بكل منهن، فإذا وفَّى لكل واحدة منهن كسوتها ونفقتها والإيواء إليها، لم يضره ما زاد على ذلك من ميل قلب، أو تبرع بتحفة"[34].اهـ.
وقال: ابن قدامة: "وليس عليه التسوية بين نسائه في النفقة والكسوة إذا قام بالواجب لكل واحدة منهن. قال أحمد في الرجل له امرأتان: له أن يُفَضِّلْ إحداهما على الأخرى في النفقة والشهوات والكسى، إذا كانت الأخرى في كفاية، ويشتري لهذه أرفع من ثوب هذه، وتكون تلك في كفاية. وهذا لأن التسوية في هذا كله تشق، فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج فسقط وجوبه كالتسوية في الوطء"[35].(/14)
وإذا تنازلت الزوجة عن حقها في القسم سقط حقها، وصار لمن وهبت له. روى البخاري بسنده عن عائشة – رضي الله عنها – أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة[36].
قال ابن حجر: "وللواهبة في جميع الأحوال الرجوع عن ذلك متى أحبت، لكن فيما يستقبل، لا فيما مضى"[37].
وقد أذن نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مرض موته أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها صلوات الله وسلامه عليه[38].
كما أن القسم لا يلزم في الدخول على النساء، والحديث معهن والأكل عندهن. روى البخاري بسنده عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة فاحتبس أكثر مما كان يحتبس[39].
وعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً[40]. رواه البخاري.
وكان (صلى الله عليه وسلم) يطوف على نسائه في الليلة الواحدة في غسل واحد – رواه البخاري[41].
وعماد القسم بين الزوجات في الحضر هو الليل لمن معاشه وعمله بالنهار، أما في السفر فعماد القسم فيه النزول والمبيت، وأما حالة السير فليس فيه قسماً لا ليلاً ولا نهاراً، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسير مع عائشة ويتحدث معها في السفر دون حفصة[42].
حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم(/15)
لقد عدد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نساءه بعد أن هاجر إلى المدينة، ولم يكن بهذا التعداد بدعاً من الناس. فأمم الأرض وكل الناس يعددون نساءهم. بل كانوا يبالغون في التعداد حتى وصل ببعضهم إلى أكثر من سبعمائة زوجة دون الإماء. فالعرب يتزوجون بأكثر من عشر نساء، فهذا غيلان ابن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة، وقال له (صلى الله عليه وسلم): ((اختر منهن أربعاً وفارق سائرهن))[43].
وقد كان الأثنيون والصينيون والبابليون والأشوريون والمصريون وغيرهم يعددون الزوجات.
كما أن اليهود يعددون النساء، فهذا نبي الله سليمان لديه سبعمائة من الحرائر وثلاثمائة من الإماء، وقد روى البخاري في صحيحه أن سليمان ابن داود قال: لأطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل ونسي. فأطاف بهن ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): ((لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان أرجى لحاجته))[44]، وكانت الكنيسة النصرانية تأذن في التعدد ولا تعارض فيه.
ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) حينما عدد نساءه وتزوج بتسع، فكن في عصمته في آن واحد إنما فعل هذا بأمر الله تعالى وحكمته:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً، مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ}[45].
وقال تعالى مبيناً أن الله هو الذي أحل لرسوله تعدد الزوجات:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ}[46].(/16)
ثم بعد عدد التسع منع الله تعالى رسوله من أن يزيد عليهن، أو أن يطلقهن، فقال جل وعلا:
{لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ}[47].
فزواج الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما هو زواج بأمر الله تعالى. فالأمر رباني لا يجوز القياس عليه، فهو خاص برسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز لأحد من أمته (صلى الله عليه وسلم) أن يزيد على أربع نساء، مدعياً أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تزوج تسعاً.
والذين ينتقدون نبي الإسلام ويصفون المسلمين بأنهم شهوانيون هؤلاء مخطئون كل الخطأ، والأفظع من ذلك أننا نجد من بين أبناء المسلمين من يحمل أفكار الكفر ويتندر بزواج رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ولو عمر الإيمان قلبه وكان مسلماً حقاً لما سمح لنفسه بأن يخوض في مثل هذا الأمر. ثم إنه لو ألقى نظرة على من تزوج بهن (صلى الله عليه وسلم) لوجد أن لكل زواج ظروفه. إما ليؤوي أرملة، أو ليجبر قلباً تحطم بقتل ذويه، وإما ليتألف قلوب أهلهن، وإما ليكرم امرأة نفذت أمر الله فخالفت ما كان عليه المجتمع مبتغية رضوان الله تعالى عليها من الزواج بالسادة دون العبيد والموالي.
ولو كان (صلى الله عليه وسلم) شهوانياً لتزوج وهو في عزِّ شبابه، حينما كانت الرغبة إلى النساء قوية، ولكنه لم يعدد إلا بعد أن كبر وضعفت فيه الرغبة إلى النساء، وقد كان في شبابه مكتفياً بخديجة بنت خويلد – رضي الله تعالى عنها – التي تكبره بخمس عشرة سنة. فقد كان عمرها أربعين سنة، بينما كان عمره (صلى الله عليه وسلم) خمساً وعشرين سنة، وظل معها حتى ماتت – رضي الله تعالى عنها.
ثم إن النساء اللاتي تزوج بهن كلهن ثيبات عدا عائشة. وزوجات الرسول (صلى الله عليه وسلم) هن:(/17)
1 - سودة بنت زمعة بن قيس القرشية. تزوج عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد موت زوجها السكران بن عمرو بن عبد شمس، وبعد موت زوجته خديجة بنت خويلد في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، وبعد كِبَرِ سنها وهبت يومها وليلتها لعائشة – رضي الله تعالى عنها.
2 - عائشة بنت الصديق. عقد عليها قبل سودة، ولكنها دخل عليها بعد أن دخل على سودة، وهي الزوجة الوحيدة التي تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهي بكر، وتزوجها ليزيد قربه من أبي بكر الصديق – أول من أسلم من الرجال وآزر دعوة الرسول وصدَّقه في كل ما يقول، وبذل ما يملك في سبيل الله.
3 - حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وهذه تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهي ثيب وليست ذات جمال لمكانة أبيها منه (صلى الله عليه وسلم).
4 - أم سلمة هند بنت سهيل المخزومية. تزوجها (صلى الله عليه وسلم) بعد موت زوجها أبي سلمة ابن عبدالأسد، ليؤوي أولادها، وقد قالت له حين خطبها: ما مثلي ينكح. أما أنا فلا يولد لي، وأنا غيور ذات عيال. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ((أنا أكبر منك، وأما الغيرة فيذهبها الله، وأما العيال فإلى الله ورسوله فتزوجها))[48].
5 - زينب بنت جحش، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد طلاق زوجها زيد بن حارثة – مولى رسول الله – (صلى الله عليه وسلم) ليكافئها على امتثال أمر الله تعالى، وليقرر الله حكما يصعب على المجتمع تنفيذه في ذلك الزمن، وهو زواج زوجة المتبنى. قال الله تعالى:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}[49].(/18)
6 - أم حبيبة بنت أبي سفيان، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد أن ارتد زوجها عبيدالله بن جحش، وأعرضت عنه إلى أن مات ولها من العمر بضع وثلاثون سنة. تزوجها رسول الله وهي في أرض الحبشة مهاجرة، وقد عهد للنجاشي بعقد نكاحه عليها، ووكلت هي خالد بن سعيد بن العاص فأصدقها النجاشي من عنده أربعمائة دينار وذلك سنة سبع من الهجرة.
7 - جويرية بنت الحارث، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد زوجها مسانع بن صفوان الذي قتل يوم المريسيع، وذلك ليشرف قومها بمصاهرته لهم، وبخاصة بعد سبيه لهم في غزوة بني المصطلق.
8 - صفية بنت حيي بن أخطب، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليجبر قلبها بعد قتل أبيها وعمها وزوجها.
9 - ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد موت زوجها أبي رهم ابن عبدالعزى العامري. وذلك سنة سبع من الهجرة، وعمرها يقرب من الأربعين سنة. رضي الله عنها.
وقد التمس العلماء – رحمهم الله تعالى – عدة حكم من استكثار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من النساء، فقال ابن حجر: والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه:
أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة، فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.
ثانيها: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
ثالثها: للزيادة في تأليفهم لذلك.
رابعها: للزيادة في التكليف، حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ للرسالة.
خامسها: لتكثير عشيرته من جهة نسائه، فتزداد أعوانه على من يحاربه.
سادسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله.(/19)
سابعها: الإطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوج أم حبيبة وأبوها إذ يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن.
ثامنها: خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال. وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته فانخرقت هذه العادة في حقه (صلى الله عليه وسلم).
تاسعها: تحصينهن وقصر طرفهن عليه، فلا يتطلعن إلى غيره، بخلاف العزبة، فإن العفيفة تتطلع بالطبع البشري إلى التزويج، وذلك هو الوصف اللائق بهن.
عاشرها: القيام بحقوقهن واكتسابه لهن وهدايته إياهن[50].
نسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يجنبنا الشبهات، وأن يرزقنا العدل في الغضب والرضا. وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــ
[1] سورة المعارج: آية 29 – 31.
[2] سورة النساء: آية 3.
[3] المغني (6/447). ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار سنة 1367هـ.
[4] صحيح البخاري – كتاب النكاح، باب كثرة النساء، رقم الحديث 5069. فتح الباري (9/113).
[5] فتح الباري (9/114).
[6] المغني (6/446) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.
[7] سورة النساء: آية 3.
[8] صحيح البخاري، كتاب النكاح – باب الأكفاء في المال وتزويج المقل المثرية، رقم الحديث 5092. فتح الباري (9/136 – 137).
[9] سورة النساء: آية 3.
[10] سورة النساء: آية 129.
[11] رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد.
سنن أبي داود، كتاب النكاح – باب في القسمة بين النساء (1/492).
سنن النسائي، كتاب عشرة النساء – باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض (7/634).
سنن ابن ماجه، كتاب النكاح – باب القسمة بين النساء، رقم الحديث 1971 (1/634).
سنن الدارمي، كتاب النكاح – باب في القسمة بين النساء (2/144). مسند الإمام أحمد (6/144).(/20)
[12] سورة البلد: آية 4.
[13] البيت لبشار بن برد. انظر: العقد الفريد (2/310) ط: الثانية بالقاهرة.
[14] سورة العنكبوت: آية 64.
[15] سورة الأحزاب: آية 36.
[16] سورة النور: آية 60.
[17] سورة المائدة: آية 50.
[18] سورة البلد: آية 4.
[19] سورة النساء: آية 3.
[20] سنن الترمذي في كتاب النكاح رقم الباب 33 (3/435) رقم الحديث 1128.
[21] سنن ابن ماجه، في كتاب النكاح – رقم الباب 40، رقم الحديث 1953 (1/628).
[22] سنن أبي داود، كتاب الطلاق – باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع (1/519).
[23] المغني (6/539، 540).
[24] سورة النساء: آية 34.
[25] سورة الطلاق: آية 7.
[26] رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
صحيح مسلم، كتاب الحج – باب حجة النبي – (صلى الله عليه وسلم) رقم الحديث 147، صحيح مسلم بشرح النووي (8/183 – 184).
سنن أبي داود، كتاب المناسك – باب صفة حجة النبي (صلى الله عليه وسلم) (1/442).
سنن ابن ماجه، كتاب المناسك – باب حجة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رقم الحديث 3074 (2/1025).
[27] المغني (7/564) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.
[28] سورة النساء: آية 3.
[29] سورة النساء: آية 129.
[30] رواه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح – باب القرعة بين النساء، إذا أراد سفراً. رقم الحديث 5211/ فتح الباري (9/310).
[31] رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي.
سنن أبي داود، كتاب النكاح – باب في القسم بين النساء (1/492).
سنن الترمذي، كتاب النكاح – باب ما جاء في التسوية بين الضرائر. رقم الحديث 1140 (3/446).
سنن النسائي: كتاب النساء – باب ميل الرجل إلى بعض نسائه (7/64).
سنن ابن ماجه، كتاب النكاح – باب القسمة بين النساء، رقم الحديث 197، (1/634).(/21)
السنن الكبرى، كتاب القسم والنشور – باب ما جاء في قوله الله عزوجل: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} جـ7، ص298. وقال ابن حجر: ((وقد روى الأربعة وصححه ابن حبان، والحاكم من طريق حمَّاد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبدالله بن يزيد عن عائشة، فتح الباري (9/313).
[32] السنن الكبرى، كتاب القسم والنشور – باب ما جاء في قول الله عزوجل: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} جـ7، ص298.
[33] المغني (7/28) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.
[34] فتح الباري، جـ9، ص313.
[35] المغني (7/22) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.
[36] صحيح البخاري، كتاب النكاح – باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها رقم الحديث 5212 – فتح الباري (9/312).
[37] فتح الباري (9/312).
[38] رواه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح – باب إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرض في بيت بعضهن فأذن له – رقم الحديث 5217 فتح الباري (9/317).
[39] صحيح البخاري، كتاب النكاح – باب دخول الرجل على نسائه في اليوم رقم الحديث 5216 – فتح الباري (9/316).
[40] صحيح البخاري، كتاب الطلاق – باب لم تحرم ما أحل الله لك – رقم الحديث 5267 – فتح الباري (9/374).
[41] صحيح البخاري، كتاب النكاح – باب من طاف على نسائه في غسل واحد، رقم الحديث 5215. فتح الباري (9/316).
[42] رواه البخاري في صحيح، كتاب النكاح – باب القرعة بين النساء إذا أراد سفراً، رقم الحديث 5211. فتح الباري (9/310).
[43] رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود.
سنن الترمذي – كتاب النكاح رقم الباب 33، جـ3، ص435 رقم الحديث 1128.
سنن ابن ماجه – كتاب النكاح – رقم الباب 40 ورقم الحديث 1953 جـ1، ص628.
سنن أبي داود – كتاب الطلاق، باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع جـ1، ص519.(/22)
[44] صحيح البخاري، كتاب النكاح – باب قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي – رقم الحديث 5242 فتح الباري (9/339).
[45] سورة الأحزاب: آية 37 – 38.
[46] سورة الأحزاب: آية 50.
[47] سورة الأحزاب: آية 52.
[48] الإصابة في تمييز الصحابة. لابن حجر (4/459).
[49] سورة الأحزاب: آية 37.
[50] فتح الباري، جـ9، ص115.(/23)
العنوان: تعدد الزوجات.. وجهة نظر أخرى
رقم المقالة: 447
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
كلمة "تعدد" تثير القلق, وربما الرعب لدى الكثير من الزوجات - إن لم يكن جميعهن - فشعور المرأة بالألم, لمزاحمة زوجة أخرى لها, شعور طبيعي، لا يدفعه منع التعدد؛ ولا عدم القناعة به.
ولكن إذا كان الرجل يتطلع إلى امرأة أخرى, فبماذا تحول زوجته دون انصراف عواطفه إلى تلك المرأة؟
إنه يستطيع أن يخونها, وأن يواصل تلك المرأة سراً, ويعاشرها سراً, وقد تعلم ذلك, لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً وهو الواقع في حياة الغربيين, وحياة كثير من المنحرفين في بلادنا, أليس الأكرم لها, ولزوجها, وللمرأة الأخرى, وللمجتمع, أن يكون هذا اللقاء بعلمها، ورضاها، وأن يكون مشروعاً على سنة الله ورسوله؟!
الحب والغيرة:
إن الحب كما لا يقبل المزاحمة, لا يقبل الإكراه، وإذا ابتليت الزوجة بمن لا يحبها, فإن ذلك قدر مقدور، ولا سبيل إلى دفع ألمها وعذابها النفسي بسبب ذلك؛ فإما أن تخسر الزوج كله بالطلاق, وإما أن تخسر نصفه بالتعدد، فأيهما أكثر خسارة لها وأشد إيلاماً؟!
إن الغيرة ليست بدعاً في زماننا هذا؛ فهي أمر طبيعي تعرضت له زوجات خير البرية وأكملهم عدلاً؛ فها هي أم سلمة ترفض الزواج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنها امرأة شديدة الغيرة, وهو له زوجات, فدعا لها رسول الله أن يذهب الله عنها غيرتها، ثم إنه لم ينكر على السيدة عائشة غيرتها من صفية وخديجة - رضي الله عنهن جميعاً - ولكن ثمة غيرة تحمل على العنف, وافتعال الأذى للطرف الآخر, وتدخل في التعدي على حقوق الغير فهذه هي المحظورة شرعاً, وقد عاتب الله - عز وجل - زوجات رسوله عندما بدا منهن الأذى من غيرتهن على رسول الله في سورة التحريم.(/1)
أما الغيرة - شعوراً نفسياً - فهذه لا يؤاخذ الله بها ما لم تحمل صاحبتها على إيقاع الشر بأخرى, أو رميها بالباطل؛ ودليل ذلك: أنه في حادثة الإفك عندما طلب رسول الله شهادة زوجاته على السيدة عائشة - رضي الله عنها - وقفت زينب بنت جحش موقف المسلمة العفيفة من عرض أختها - وإن كانت اللحظة غنيمة لغيرها ممن قد يوغرن صدر الزوج على من كانت تساميها عند زوجها في المكانة - فلم تقل إلا خيراً.
ومع العدل وتَذَكُّرِ محاسن الأخرى وتَصَوُّرِ الطرف الآخر ركناً في الحياة والأسرة, ستعتاد الزوجات على بعضهن، وتنطفئ الغيرة المدمرة في قلوبهن.
العدل في التشريع الإسلامي:
العدل ضمنه التشريع الإسلامي؛ فلم يتركه للزوج ليقرر صورته, بل أوجبه دستوراً عاماً, ثم فصَّلته كتب الفقه والسنة فيما يعرف بباب القَسم بين الزوجات في كتب الفقه الإسلامي؛ فلا يحل لزوج أن يعدد؛ مادام لا يضمن في نيته العزم على العدل ما استطاع ذلك.
ولكن ثمة إشكالات عديدة وقعت فيها دساتير الدول العربية التي منعت التعدد أو استحيت من منعه, فوضعت العراقيل لحظره بصورة مرحلية:
متى يسمح بالتعدد ؟
يقول الدكتور سعيد محمد الجليدي - في كتاب أحكام الأسرة في الزواج والطلاق وآثارهما -: "ثار جدل بين المتأخرين من الفقهاء في جواز تقييد التعدد بالشرطين العدل وعدم الجور، والقدرة على النفقة على الزوجة الثانية تقييداً قضائياً بحيث لا يسمح بالتعدد إلا بعد التحقق من توافرهما في مُريد الزواج بأكثر من زوجة، فرأى بعضهم جواز هذا التقييد اعتماداً أنه ليس في الشرع ما يمنع منه، وأن التعدد قد غدا مشكلة جديرة بالملاحظة والتقييد؛ لما يترتب عليه من ضرر للزوجة، وتفكك في الأسرة، وتشرد للأطفال؛ نتيجة ما يكون بين الضرائر من الضغائن والأحقاد".(/2)
وقد تُرْجِمَ هذا إلى نصوص في قوانين الأحوال الشخصية لبعض البلاد العربية التي جنح بعضها إلى المنع, وبعضها إلى التقييد بموافقة القاضي, أو إذنه بعد أن يتحقق من توافر بعض الشروط.
وذهب أكثر الفقهاء إلى القول بعدم جواز تقييد التعدد تقييداً قضائياً, والاكتفاء فيه بما أورده الشارع من القيود التي أنيطت بصاحب الشأن نفسه بحيث يمكن القول بوجود ما يمنع من التقييد القانوني بإذن المحكمة أو غيرها؛ لأن الخطاب في الآية موجه إلى الراغبين في التعدد بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء: 3].
والخوف من الجور، أو العيلة أمور مرجعها الشخص نفسه؛ لأنه أدرى بحاله من القاضي أو غيره, وهو الذي يقدر حاجته وظروفه, ويتصرف بوحي من ضميره ودينه، ولو كان لغيره دخل في تقدير هذه الأمور لحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده على مراقبة كل من عدد زوجاته في عهده, لكن ذلك لم يقع منهم مع أن مَنْ عَدَّدَ زوجاته من المسلمين في عهدهم, لا يختلف كثيراً عن المعددين الآن؛ فالناس في كل زمان منهم العادل، والجائر، والقادر، والعاجز، فعلم بذلك أن تقدير الحاجة إلى الزواج من أخرى و القدرة على العدل والنفقة، مرجعهما إلى الشخص نفسه، ولا يصح تفويضهما إلى غيره؛ لأن الأمر حينئذ سيضيق, وسيحاول الأفراد الهرب من هذا الضيق بالتحايل، والدعاوي الكاذبة, وعقود السر... إلى غير ذلك من أنماط السلوك التي قد تنتهي إلى الوقوع في الحرام إذا ضاق الحلال, وتستبدل الخليلة بالحليلة كما هو معروف عند الشعوب التي تمنع التعدد شرعاً وقانوناً، وتلحظه عِياناً وواقعاً بين الأخدان والعشاق.(/3)
تقييد التعدد بإذن القاضي، هل يحقِّق الغرض المنشود ؟
القاضي وهو يستفسر عن سبب طلب الموافقة على الزواج الذي يكون به الزوج معدِّداً, لا شك أنه يكشف أستار الأسرة وأسرارها، ويضطر الزوج إلى الكشف عما لا يحسن أن يبوح به غالباً, وهَبْ أنه استطاع أن يقدر حاجته للتعدد؛ كأن تكون زوجته الأولى عاقراً أو مريضةً.. إلخ, فكيف يعرف أنه سيعدل ولن يظلم؟! وهذه حالة لا تعرف من أقرب الناس صلة بالزوج, فضلاً عن القاضي الذي يوجب عليه عمله ألا يقضي بعلمه, ولا يتصل بالخصوم اتصالاً شخصياً.
ويختم الدكتور قوله: "ورداً على كل هذه التساؤلات نرى أن دور القاضي هنا لا معنى له ولا قيمة؛ مادمنا قد اعترفنا بوجود الدوافع لدى بعض الأفراد للتعدد؛ لأن القاضي لا يمكنه تقدير هذه الدوافع حق قدرها, ولا معرفة مدى توافر الشروط التي يباح معها التعدد, ولهذا فإن حجبه الإذن بالتعدد, ومنع الطالب من رغبته, لا يكون على أساس صحيح دائماً, ثم إن موافقته لا تضيف إلى الأمر شيئاً؛ لأن هذا مباح, والأصل أن فعله لا يحتاج إلى إذن, وعدم الإذن لا يقتضي عدم صحة الزواج إذا وقع بشروطه الشرعية".
المعوَّل عليه في ضمان العدل:
ما يعوَّل عليه هو التقوى؛ وهذا ما نراه في بداية سورة النساء؛ حيث ذكر التعدد؛ فقد بدأت بافتتاح الأمر بالتقوى, ثم إنها جاءت بحكم التعدد في معرض الحديث عن أموال اليتامى والقسم فيهم, وكلنا يعلم عظم أكل أموال اليتامى, والجور في معاملتهم؛ وهنا يقول سيد قطب: "التقوى هي التي تعقل النفوس عن الظلم وعن الاعتداء، إنها حساسية القلب, وشعوره بالخوف من الله, وتحرُّجه من غضبه, وتطلُّبه رضاه, إنه بغير هذا الرباط لا تَقُوم شريعة, ولا يفلح قانون, ولا يَتَحَرَّج مُتَحَرِّج, ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح، بل لابد من الحساسية، والخوف، والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان وهي الله.
العدالة المطلوبة:(/4)
يقول الشيخ الشعراوي –رحمه الله- في تفسيره لسورة النساء: "العدالة المطلوبة هي العدالة التي تدخل في اختيارك؛ لأن العدالة التي لا تدخل في اختيارك لا يكلف الله بها؛ فأنت عدلت في المكان، وفي الزمان، وفي المتاع لكل واحدة، وفي المتاع لك عند كل واحدة, ولكن لا يطلب الله منك أن تعدل بميل قلبك، وحب نفسك لأن ذلك ليس في مكنتك".
وهنا لفتة لطيفة أن العدل ليس فقط فيما يخص المرأة من متاع الدنيا، بل كذلك فيما يخص الرجل من متاع نفسه عند زوجاته؛ إذ يقول الشيخ: "والعدل المراد في التعدد هو القسمة بالسوية في المكان، أي: إن لكل واحدة من المتعددات مكاناً يساوي مكان الأخرى، وفي الزمان وفي متاع المكان، وفيما يخص الرجل من متاع نفسه، فليس له أن يجعل شيئاً له قيمة عند واحدة, وشيئاً لا قيمة له عند أخرى، فيأتي - مثلاً - بمنامة صوف, ويضعها عند واحدة، ويأتي بأخرى من قماش أقل جودة, ويضعها عند واحدة... فلابد من المساواة ليس في متاعها فقط, بل في متاعه هو الذي يتمتع به عندها، حتى إن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي بينهن في النعال التي يلبسها في بيته؛ فيأتي بها من لون واحد، وصورة واحدة، وصنف واحد؛ حتى لا تُدلّ واحدة منهن على الأخرى قائلة: "زوجي يكون عندي أحسن هنداماً منه عندك".
عابدتان من بغداد:
جاء في كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي أنه: "كان ببغداد بزَّاز معروف, فحين هو في حانوته, أقبلت إليه صبية فالتمست منه شيئاً تشتريه، فحين كانت تحادثه, كشفت وجهها، فتحيّر وقال: "والله لقد تحيرت مما رأيت, فقالت: ما جئت لأشتري شيئاً؛ إنما لي أيام أتردد إلى السوق؛ ليقع بقلبي رجل أتزوجه, وقد وقعت أنت بقلبي ولي مال، فهل لك في التزوج بي"؟ فقال لها: "لي ابنة عم, وهي زوجتي وقد عاهدتها ألاّ أغيِّرَها, ولي منها ولد"، فقالت: "قد رضيت أن تجيء إلي في الأسبوع نوبتين" فرضي، وقام معها، فعقد العقد، ومضى إلى منزلها فدخل بها".(/5)
ثم ذهب إلى منزله، فقال لزوجته: "إن بعض أصدقائي قد سألني أن أكون الليلة عنده" ومضى فبات عندها، وكان يمضي كل يوم بعد الظهر إليها.
فبقي على هذا ثمانية أشهر، فأنكرت ابنة عمه أحواله، فقالت لجارية لها: "إذا خرج, فانظري أين يمضي؟ فتبعته الجارية، فجاء إلى الدكان، فلما جاء الظهر, قام وتبعته الجارية، وهو لا يدري, إلى أن دخل بيت زوجته الأخرى, فجاءت الجارية إلى الجيران، فسألتهم: "لمن هذه الدار" فقالوا: "لصبية قد تزوجت برجل تاجر بَزَّاز". فعادت إلى سيدتها فأخبرتها، فقالت لها: "إياك أن يعلم بهذا أحد"، ولم تظهر لزوجها شيئاً.
فأقام الرجل تمام السنة، ثم مرض ومات، وخلّف ثمانية آلاف دينار، فعمدت المرأة التي هي ابنة عمه إلى ما يستحقه الولد من التركة، وهو سبعة آلاف دينار، فأفردتها، وقسّمت الألف الباقية نصفين, وتركت النصف في كيس, وقالت للجارية: "خذي هذا الكيس واذهبي إلى بيت المرأة, وأعلميها أن الرجل مات، وقد خلّف ثمانية آلاف دينار، وقد أخذ الابن سبعة آلاف بحقّه، وبقيت ألف، فقسمتها بيني وبينك وهذا حقك" وسلّميه إليها.
فمضت الجارية فطرقت عليها الباب، ودخلت وأخبرتها خبر الرجل وحدّثتها بموته، وأعلمتها الحال، فبكت وفتحت صندوقها، وأخرجت منه رقعة، وقالت للجارية: "عودي إلى سيدتك، وسلّمي عليها عني، وأعلميها أن الرجل طلقني وكتب لي براءة، وردي عليها هذا المال، فإني لم أستحق في تركته شيئاً". فرجعت الجارية فأخبرتها بهذا الحديث".
همسة لحواء:
إن العبد لا يبلغ رضا الله - عز وجل - حتى يترك مَحابَّه لمحاب الله, ويجاهد هواه لما فيه شرع الله، ويحوِّل إرادته إلى ما يريد الله, وحبه لما يحب الله, وتمام الإيمان بتمام تقديم الشرع على الهوى كما قال - عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت له".(/6)
وإذا خرجت المرأة المسلمة من النظرة الشخصية الضيقة التي ترى فيها التعدد، لترى فيه تشريعاً إسلامياً هي وحدها القادرة على ضمان استمراره لحماية غيرها من بنات جنسها, فإنها تكون حينها قد بلغت ما بلغته نساء السلف الصالح من تسيير الفكر والحياة على ما يريد الله من درجة السمو والإحسان في العلاقة معه سبحانه، ثم إنها ستسُدُّ ثغراً في وجه النكاية من المجتمع الإسلامي، فلا يؤخذ الموضوع من زاوية الفردية العاجلة، بل ينظر إليه من علو المصلحة الجماعية, وقبل ذلك العلو في مراتب العلاقة مع الله جلَّ وعلا.(/7)
العنوان: تعريف الثقافة الإسلامية
رقم المقالة: 937
صاحب المقالة: د. مفرح بن سليمان القوسي
-----------------------------------------
الهدف من الورقة:
المشاركة في ندوة (مقررات الثقافة الإسلامية بين واقعها والمتغيرات) التي تنظمها كلية التربية بجامعة الملك فيصل بالأحساء، في الفترة 27- 28 شوال 1426هـ، الموافق 29-30 نوفمبر 2005م. وذلك في موضوع (الاختلاف في تعريف الثقافة الإسلامية والتعريف المعتمد تدريسه في المرحلة الجامعية)، وهو الموضوع الثاني من موضوعات المحور الأول للندوة المعنون بـ(الثقافة الإسلامية تخصص علمي من تخصصات العلوم الإسلامية، وتخصص دقيق في الدراسات العليا).
تشتمل الورقة على ثلاث مسائل هامة، تطرحها – بإيجاز أمام الأساتذة المشاركين في الندوة – للبحث والدراسة، هي:
1- تعريف كلمة (الثقافة) في اللغة:
أ) تعريفها في اللغة العربية.
ب) تعريفها في اللغات الأجنبية.
2- تعريف كلمة (الثقافة) في الاصطلاح:
أ) عند علماء العربية والإسلام.
ب) عند علماء الغرب.
3- تعريف مصطلح (الثقافة الإسلامية).. وفيه:
- الاختلاف في تحديد معنى هذا المصطلح وأسبابه.
- بيان أبرز الاتجاهات السائدة في تعريف هذا المصطلح.
- الاتجاه المختار، وتعريفه المرشح لاعتماد تدريسه في المرحلة الجامعية، وشرح هذا التعريف.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
هذه ورقة عمل عنونتها بـ (تعريف الثقافة الإسلامية) تشتمل على ثلاث مسائل أطرحها للبحث والدراسة هي:
1- تعريف كلمة (الثقافة) في اللغة:
أ) تعريفها في اللغة العربية.
ب) تعريفها في اللغات الأجنبية.
2- تعريف كلمة (الثقافة) في الاصطلاح:
أ) عند علماء العربية والإسلام.
ب) عند علماء الغرب.
3- تعريف مصطلح (الثقافة الإسلامية).. وفيه:
- الاختلاف في تحديد معنى هذا المصطلح وأسبابه.(/1)
- بيان أبرز الاتجاهات السائدة في تعريف هذا المصطلح.
- الاتجاه المختار، وتعريفه المرشح لاعتماد تدريسه في المرحلة الجامعية، وشرح هذا التعريف.
وذلك على النحو التالي:
أولاً: تعريف كلمة (الثقافة) في اللغة:
أ- في اللغة العربية:
ترد كلمة (الثقافة) ومشتقاتها في اللغة العربية على معان عدة منها: الحذق والفطنة، وسرعة أخذ العلم وفهمه، والتهذيب، وتقويم المعوج من الأشياء، يقال: ثَقُفَ الرجل ثَقفاً وثقافة أي صار حاذقاً فطناً، وثَقفْتَ العلم أو الصناعة في أوهى مدة إذا أسرعت أخذه، ويقال: ثَقَّف الصبي أي أدَّبه وهذَّبه، وثَقُفَ الرماح أي سوَّاها وقوَّم اعوجاجها[1].
وقد تستعمل كلمة (الثقافة) بمعنى الأخذ والإدراك والظفر، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً}[2]. وفي قوله: { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ }[3]. وفي قوله أيضاً: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[4]. ويتضح لنا من عرض تلك المعاني المتعددة لكلمة "الثقافة" في اللغة العربية أنها تستعمل في الأمور المعنوية، كما أنها تستعمل في الأمور الحسية، غير أن دلالتها على الأمور المعنوية العقلية أكثر من دلالتها على الحسيات.
ب- في اللغات الأجنبية:
يدورمعنى كلمة (الثقافة - culture) في اللغات الأجنبية في أصلها اللاتيني(colere) على فلاحة الأرض وتنمية محصولاتها.
ثم أخذت هذه الكلمة تتوسع في اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية لتشملتنمية الأرض بالمعنى المادي أوالحسي، وتنمية العقل والذوق والأدب بالمعنى المعنوي.
ثم طور معناها فلاسفة العصور الحديثة، فأصبحت تعني: مجموعة عناصرالحياةوأشكالها ومظاهرها في مجتمع من المجتمعات[5].
ثانياَ: تعريف كلمة (الثقافة) في الاصطلاح:
أ) عند علماء العربية والإسلام:(/2)
لم نجد عند علماء العربية والإسلام – في الزمن الماضي – مفهوماً اصطلاحياً للثقافة، وقد يرجع السبب في ذلك إلى أن هذه الكلمة لم تكن شائعة الاستعمال في أيامهم، فلم نجدهم ينعتون العلماء أو الباحثين بها، كما أنهم لم يتناولوها بدراسة مستقلة أو مميزة.
وحين دخلت الثقافة الإسلامية كعلم في حياة المسلمين المعاصرة انتشر التعبير بهذه الكلمة، فأصبحنا نصف فلاناً بأنه مثقف أو واسع الثقافة، وأصبحت لدينا مؤتمرات ثقافية وندوات ثقافية وكتب وموسوعات ثقافية.
وعلى هذا جاء تعريف "الثقافة" بالمعنى الاصطلاحي تعريفاً حديثاً على يد المجمع اللغوي الذي عرفها بأنها: "جملة العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق بها"[6].
وعرفها بعض التربويين بأنها: "مجموعة الأفكار والمثل والمعتقدات والعادات والتقاليد والمهارات وطرق التفكير ووسائل الاتصال والانتقال وطبيعة المؤسسات الاجتماعية في المجتمع الواحد"[7].
وعرفها علماء الإنسان بأنها: "أسلوب الحياة في مجتمع ما بما يشمله هذا الأسلوب من تفصيلات لا تحصى من السلوك الإنساني"[8].
وعرفها بعض المفكرين المسلمين بأنها: "التراث الحضاري والفكري في جميع جوانبه النظرية والعملية الذي تمتاز به الأمة وينسب إليها، ويتلقاه الفرد منذ ميلاده وحتى وفاته"[9].
ب) عند علماء الغرب:
وأما في الغرب فقد اهتم العلماء والمفكرون الغربيون بتحديد المعنى الاصطلاحي للثقافة، حيث عرفها "كلباترك W.H.K.ilpatrick" الأمريكي بأنها: "كل ما صنعته يد الإنسان وعقله من مظاهر البيئة الاجتماعية"[10].
وعرفها "لوك J.Lock" بأنها: "تهذيب العقل أو تهذيب الإنسان"[11].
وعرفها: "تيلر E.B.Tylor" بأنها "ذلك الكل المعقد الذي ينطوي على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف والعادات وغير ذلك من القدرات التي حصل عليها الفرد بوصفه عضواً في مجتمع"[12].(/3)
وخلاصة الأمر أن التعريفات الاصطلاحية للثقافة تعددت عند فلاسفة الشرق والغرب بصور تتقارب في الفكرة وتتفاوت في الألفاظ والصياغات.
ثالثاَ: تعريف مصطلح "الثقافة الإسلامية"[13]:
نظراَ لكون كلمة "الثقافة" ذات أبعاد كبيرة ودلالات واسعة يضيق عن استيعابها النطاق اللغوي لأصل الكلمة، ونظراً لكون هذه الكلمة من الألفاظ المعنوية التي يصعب على الباحث تحديدها؛ شأنها في ذلك شأن لفظ: التربية، والمدنية، والمعرفة.. وما إلى ذلك من المصطلحات التي تجري على الألسن دون وضوح مدلولاتها في أذهان مستعمليها وضوحاً مميزاً، ونظراً لكون علماء العربية والإسلام على اختلاف تخصصاتهم في الزمن الماضي لم يستعملوا كلمة " الثقافة" بالمعنى الواسع، ولم يقيموا علماً مستقلاً يسمى بـ "الثقافة"، وإنما جاء التعبير بهذه الكلمة وليد الأبحاث والدراسات الحديثة التي اطلع المسلمون من خلالها على العلوم والفلسفات الغربية، فاقتبسوا منها العديد من المسميات التربوية.
نظراً لهذا كله فإنه لم يوجد حتى الآن تعريف محدد متفق عليه لمصطلح "الثقافة الإسلامية"، وإنما هي اجتهادات من بعض العلماء والمفكرين، ومن هنا فقد تعددت التعريفات لهذا المصطلح تبعاً لتعدد اتجاهات هؤلاء العلماء والمفكرين التي يمكن حصرها فيما يلي:
1 - اتجاه يجعل "حياة الأمة الإسلامية" أساساً يدور عليه التعريف.
وقد عرف أصحاب هذا الاتجاه الثقافة الإسلامية بأنها: "معرفة مقومات الأمة الإسلامية العامة بتفاعلاتها في الماضي والحاضر، من دين، ولغة، وتاريخ، وحضارة، وقيم وأهداف مشتركة"[14].
ويقوم هذا التعريف على دراسة حياة الأمة الإسلامية من جميع جوانبها على أساس أن لكل أمة ثقافتها التي هي عنوان عبقريتها وثمرة اجتهادها، وهي المعبرة عن روحها وشخصيتها والعلامة الكبرى المميزة لها بين الأمم، والدالة على الجهود التي أسهمت بها في تاريخ الإنسانية.(/4)
2 - اتجاه يجعل "العلوم الإسلامية" أساساً يدور عليه التعريف، وبهذا تكون الثقافة الإسلامية مرادفة "للدراسات الإسلامية" أو"التربية الإسلامية" أو"العلوم الإسلامية".
وقد عرف أصحاب هذا الاتجاه الثقافة الإسلامية بأنها: "معرفة مقومات الدين الإسلامي بتفاعلاتها في الماضي والحاضر، والمصادر التي استقيت منها هذه المقومات"[15].
ويعنى هذا التعريف دراسة العلوم الإسلامية الصرفة بجوانبها المتعددة مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وما أضافه علماء الكلام والتفسير والحديث والفقه والسيرة من ثمرات الفكر الجاد والاجتهاد الأمين.
3 - اتجاه يرى أن الثقافة الإسلامية علم جديد، له موضوعاته الخاصة التي تميزه عن غيره من العلوم الإسلامية كالحديث أو التفسير أو الفقه أو الأصول، وأنه علم أوجدته الأحداث المستجدة والدراسات المعاصرة.
وقد عرَّف أصحاب هذا الاتجاه الثقافة الإسلامية بأنها: "معرفة التحديات المعاصرة المتعلقة بمقومات الأمة الإسلامية ومقومات الدين الإسلامي"[16].
كما عرفوها بأنها: "العلم بمنهاج الإسلام الشمولي في القيم، والنظم، والفكر، ونقد التراث الإنساني فيها".
ملحوظات على الاتجاهات والتعريفات السابقة:
من الملاحظ أن الاتجاهين الأولين كان لهما انعكاسهما وأثرهما غير المجدي على كتابة الثقافة الإسلامية والتأليف فيها، وفي تحديد الموضوعات والمناهج التعليمية التي يناط بمقررات الثقافة الإسلامية تدريسها في المرحلة الجامعية.
فتبعاً للاتجاه الأول أصبحت مقررات الثقافة الإسلامية في بعض المؤسسات التعليمية نمطاً من الدراسة التاريخية البعيد عن الواقع المعاش، حيث لا تعدو أن تكون عرضاَ للمنجزات الحضارية عند المسلمين وتمجيداً لها.(/5)
وتبعاَ للاتجاه الثاني أصبحت مقررات الثقافة الإسلامية في بعض المؤسسات التعليمية معرفة عامة عن الإسلام، ومدخلاً جميلاً للشريعة يفيد العامة ولا يغني الخاصة، وأصبح – بالتالي – تصور كثير من المدرسين والدارسين لهذه المقررات على أنها مقررات دراسية تضم شيئاَ من العقيدة وشيئاَ من التفسير وشيئاَ من الحديث وبعض المعلومات العامة عن الفقه والسيرة النبوية والحضارة الإسلامية، كما أصبح كل مدرس يجيِِرُ- إن صح التعبير- الثقافة الإسلامية إلى تخصصه الرئيس حين يوكل إليه تدريسها.
وهذا الواقع له – في نظري – سلبيات عديدة، تمثل أهمها فيما يلي:
1 - جعل تخصص الثقافة الإسلامية مجرد تكرار واجترار، أو تحصيل حاصل لمعلومات درسها الطلاب في مراحل ما قبل المرحلة الجامعية، مما ولد الملل في نفوس هؤلاء الطلاب، وأفقد هذا التخصص الجاذبية والأهمية المطلوبة.
2 - تجريد هذا التخصص من هويته وطابعه المميز له.
3 - تغييب المسلمين دارسين ومدرسين عن واقعهم المعاصر، وما يتضمنه من تحديات وأحداث جسام.
4 - تعطيل هذا التخصص عن القيام بالوظائف الأساسية والمهام التعليمية المنوطة به.
5 - وما تقدم أدى – بالتالي – إلى الاستخفاف بهذا التخصص، أو على الأقل عدم الاكتراث به من قبل كثير من الأكاديميين في المؤسسات التعليمية الجامعية.
ولهذا كله فإن الاتجاه الذي ينبغي أن يعتمد في تعريف الثقافة الإسلامية وفي تدريسها في المرحلة الجامعية هو الاتجاه الثالث، الذي لم يكن له حظ واسع من الاهتمام، ويرى أن الثقافة الإسلامية علم إسلامي جديد له موضوعاته الخاصة ومنهجه الخاص ومصادره الخاصة وطابعه الخاص الذي يمتاز به من سائر العلوم الإسلامية الأخرى، وذلك:
1 - بياناً لمنهاج الإسلام الشمولي في أصوله التصورية عن الوجود والكون والإنسان والحياة، وفي خصائصه المميزة له من سائر الثقافات، وفيما ينبثق عنه من قيم ونظم وفكر.(/6)
2 - ونقداً للثقافات الأخرى في تلك الأصول والمجالات.
3 - ومقارنة بين الإسلام وتلك الثقافات، لبيان كمال الإسلام ونقصانها.
4 - ودفعاً للشبهات المثارة حول الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً ومنهج حياة.
5 - ومعالجة لحاضر المسلمين الثقافي:
- تشخيصاً لهذا الحاضر.
- وتصحيحاً لما فيه من أخطاء.
- وإبرازاً لنماذج التجديد الصحيحة.
- وكشفاً للغزو الموجه إليه.
ولعل هذا التعريف الثاني لهذا الاتجاه القائل بأن الثقافة الإسلامية هي: "العلم بمنهاج الإسلام الشمولي في القيم، والنظم، والفكر، ونقد التراث الإنساني فيها "هو أفضل تلك التعريفات وأقربها إلى الصواب، لاشتماله على موضوعات علم الثقافة الإسلامية الرئيسة، ولأنه تعريف كلي وليس تعريفاً جزئياً. ولذا أورد شرح مفرداته فيما يلي:
العلم: هو الإدراك المبني على أدلة يرتفع بها عن المعرفة الظنية. والدراسة المنظَّمَة خلافاً لمجرد المعرفة، أو النشاط الأدبي والفني وغيرهما.
منهاج الإسلام: المنهاج هو الطريق الواضح. والإسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده في الاعتقاد والعمل. ومنهاج الإسلام – من ثم – هو طريق الإسلام ومنهجه الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم من ربه المستمر إلى يوم القيامة.
الشمولي: الكلي المترابط،فالثقافة الإسلامية تدرس منهاج الإسلام من حيث هو كل مترابط في القيم والنظم والفكر، وتخرج بذلك العلوم التي يعنى كل منها بجانب من جوانب الإسلام وما يندرج تحته من جزئيات؛ كعلمي العقيدة والفقه.
القيم[17]: هي القواعد التي تقوم عليها الحياة الإنسانية، وتختلف بها عن الحياة الحيوانية، كما تختلف الحضارات بحسب تصورها لها، مثل: الحق، والإحسان، والحرية.
النظم[18]: هي مجموعة التشريعات التي تحدد للإنسان منهج حياته، مثل: نظام العبادة، والأخلاق،...
الفكر[19]: هو عمل العقل ونتاجه. وفيه ثلاثة مجالات:
1 - عمل العقل: وهو التفكير في مقوماته ومصادره ومناهجه....الخ.(/7)
2 - قضايا الفكر: والقضية: مسألة ذات أبعاد متعددة ومترابطة لا تقبل المعالجة إلا في إطار عام[20]. ومنها قضايا الوجود، والتطور، والعقلانية.
3 - المذهبيات الفكرية[21]: والمذهبية: اتجاه يقوم على منظومة من المفاهيم بشأن الوجود والإنسان والحياة قد يتجلى في فلسفة شمولية كالماركسية، وقد يتجلى في منظومة من المفاهيم المترابطة بعضها ببعض في وحدة متسقة كالاستشراق مثلاً.
نقد التراث الإنساني فيها: النقد: كشف حال الشيء؛ لبيان جيده من زيفه[22].
والتراث: ما يخلفه الرجل لورثته[23]. والمقصود بالتراث الإنساني: ما تخلفه البشرية من ثقافة وحضارة وعلوم، والمراد بنقد التراث الإنساني فيها: فحصه وتقويمه إيجاباً وسلباً في مجالات القيم والنظم والفكر، ومواجهة ما يخالف الإسلام فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر كلاً من: (أساس البلاغة) للزمخشري، و(مختار الصحاح) للرازي و(لسان العرب) لابن منظور، مادة (ثقف).
[2] سورة الأحزاب، الآية 61.
[3] سورة النساء، الآية 91.
[4] سورة الأنفال: الآية 57.
[5] انظر: قسطنطين زريق – في معركة الحضارة، ص 33-34، ط الأولى 1964م، دار العلم للملايين – بيروت.
[6] د. رجب سعيد شهوان وآخرون – دراسات في الثقافة الإسلامية، ص 8، مكتبة الفلاح – الكويت ط2، عام 1401هـ -1981م.
[7] المرجع السابق.
[8] إبراهيم خورشيد – مفهوم الثقافة، مقال منشور بمجلة (الفيصل) – العدد العشرون، ص 28.
[9] دراسات في الثقافة الإسلامية، ص 8.
[10] د. محمود شفشق وآخرون – التربية المعاصرة. ص 39، ط1، عام 1394هـ دار القلم – الكويت.
[11] د. عبد الحليم عويس – ثقافة المسلم في وجه التيارات المعاصرة ص 16، طبعة عام 1399هـ - النادي الأدبي بالرياض.
[12] د. مصطفى الخشاب – علم الاجتماع ومدارسه، ص 189، طبعة عام 1387هـ، دار الكاتب العربي بمصر.(/8)
[13] يجدر التنبيه هنا قبل الدخول في تعريف "الثقافة الإسلامية" على نقطة مهمة في هذا الجانب، وهي أننا عندما تحدثنا - فيما سبق – عن تعريف "الثقافة" فقد كنا نتحدث عنها باعتبارها مصطلحاً عاماً من مصطلحات العلوم الإنسانية، بمعنى أننا تحدثنا عن "الثقافة" على اعتبار أنها مجردة من إلحاق صفة التدين بها، فلم نصفها بأنها إسلامية أو غير إسلامية، بينما نحن هنا نلحق بها صفة "الإسلامية" ونتحدث عنها باعتبارها علماً على علم معين.
[14] د. رجب سعيد شهوان – دراسات في الثقافة الإسلامية، ص11 –12.
[15] المرجع السابق.
[16] المرجع السابق، ص12.
[17] القيمة في اللغة القدر. انظر: " القاموس المحيط": (4/168)، وقال الراغب الأصفهاني في "المفردات": (ص41): "القيام والقوام اسم لما يقوم به الشيء ويثبته كالعماد والسناد".
[18] النظام لغة الخيط الذي يؤلف به اللؤلؤ ونحوه، وهو الهدي والسيرة. انظر: "لسان العرب": (12/578).
[19] الفكر في اللغة " إعمال الخاطر في شيء". انظر: " لسان العرب ": (5/65). وفي الاصطلاح يُطلق على: الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات – أي التفكير-، وعلى المعقولات نفسها. انظر: " المعجم الفلسفي " صليباً: (2/156).
[20] القضية في اللغة كالقضاء بمعنى الحكم. انظر: " لسان العرب": (15/186) ثم أطلقت على مسألة يتنازع فيها وتعرض على القاضي للبحث والفصل. انظر " المعجم الوسيط": (2/749)، وفي المنطق قول يُكوَّن من موضوع ومحمول يحتمل الصدق والكذب لذاته. انظر: " المعجم الفلسفي": (2/95).
[21] المذهب في اللغة كالذهاب من ذهب – السير والمرور ويطلق على المعتقد يُذهب إليه. انظر:"لسان العرب" (1/393)، وهو حسب ما أقره مجمع اللغة العربية: مجموعة من الآراء والنظريات العلمية والفلسفية ارتبط بعضها ببعض ارتباطاً يجعلها وحدة متسقة. انظر:"المعجم الوسيط ": (2/317).
[22] انظر: " لسان العرب": (3/425).(/9)
[23] انظر: " المصدر السابق": (2/201).(/10)
العنوان: تعريف الجمعة وتسميتها بذلك
رقم المقالة: 1284
صاحب المقالة: د. عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله الحجيلان
-----------------------------------------
هي بضم الميم وإسكانها وفتحها: الجُمُعَة، والجُمْعَة، والجُمَعَة، والمشهور الضم، وبه قُرئ في السبع في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[1] والإسكان تخفيف منه، ووجه الفتح بأنها تجمع الناس كما يُقال: هُمزة، وضُحكة للمكثرين من ذلك، والفتح لغة بني عُقَيل، ويُجمع على جُمُعات وجُمَع.
قال في لسان العرب: "... والأصل فيها التخفيف جُمْعَة فمن ثقل أتبع الضمة الضمة، ومن خفف فعلى الأصل، والقرّاء قرءوا بالتثقيل، ويُقال: يوم الجُمَعَة لغة بني عُقَيل، ولو قُرئ بها كان صوابا، قال: والذين قالوا: الجُمَعَة ذهبوا بها إلى صفة اليوم أنه يجمع الناس كما يُقال: رجل هُمَزة لُمَزة ضُحَكة، وهو الجُمْعَة، والجُمُعَة والجُمَعَة... ويُجمع على جُمُعات، وجُمَع، وقيل: الجُمْعَة على تخفيف الجُمُعَة، والجُمَعَة لأنها تجمع الناس كثيرًا كما قالوا: رجل لُعَنة يُكثر لعن الناس، ورجل ضُحَكة يُكثر الضحك..... [2].
وقال في مختار الصحاح: "ويوم الجُمُعَة بسكون الميم وضمها يوم العروبة، ويُجمع على جُمُعات وجُمَع، والمسجد الجامع، وإن شئت قلتَ مسجد الجامع بالإضافة، كقولك: حق اليقين، والحق اليقين، بمعنى مسجد اليوم الجامع، وحق الشيء اليقين، لأن إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز إلا على هذا التقدير " [3].
وقال في تحرير ألفاظ التنبيه: "الجُمُعَة بضم الميم وإسكانها وفتحها، حكاها الفراء والواحدي، سُميت بذلك لاجتماع الناس، وكان يُقال ليوم الجمعة في الجاهلية العروبة، وجمعها جُمُعات وجُمَع" [4].
- تسميتها وسببها:(/1)
يُقال إن هذا اليوم كان يُسمى في الجاهلية بـ " يوم العُروبة " كما تقدم في النقول السابقة [5] ونقل ابن حجر الاتفاق على ذلك [6] ثم سُمِّي قبيل الإسلام بـ " يوم الجمعة "، سمَّاه بذلك كعب [7] بن لؤي، فكانت قريش تجمع إليه فيه، فيخطبهم ويعظهم، وقيل: لم يسم بيوم الجمعة إلا بعد الإسلام " [8].
وأما سبب التسمية فتعددت الأقوال فيه:
- فقيل: لأن الله - تعالى - جمع فيه خلق آدم - عليه السلام، ويستدلون بما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له: لأي شيء سُمِّي يوم الجمعة؟ قال: ((لأن فيها طُبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة، وفيها البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استُجيب له)) [9] [10].
وصحَّحَ هذا القول في فتح الباري [11] ونيل الاوطار [12].
- فقيل: لاجتماع الناس فيها في المكان الجامع لصلاتهم [13].
- وقيل: لأن الله - تعالى - جمع فيه آدم مع حواء في الأرض.
- وقيل: لما جُمع فيه من الخير [14].
وقيل غير ذلك.
وهذه الأقوال بعضها مأخوذ من دلالة الاسم، وبعضها مستند إلى أحاديث لم تثبت، ولا مانع أن تكون كل هذه الأشياء سببًا للتسمية، والله أعلم.
---
[1] سورة الجمعة ، جزء من الآية (9).
[2] لسان العرب ، مادة " جمع " 8/58.
[3] مختار الصحاح ، مادة " جمع " ص (47).
[4] تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص (84) ، وينظر أيضًا المجموع له 4/482.
[5] وينظر أيضًا: المحلى 5/45 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/97 ، وفتح الباري 2/353 ، والإنصاف 2/364 ، ونيل الأوطار 3/222 [6] فتح الباري 2/353.(/2)
[7] هو كعب بن لؤي بن غالب ، من قريش ، من عدنان ، يكنى بأبي هُصيص ، من سلسلة النسب النبوي ، ومن أبرز خطباء الجاهلية ، كان عظيم القدر عند العرب حتى أرّخوا بوفاته إلى عام الفيل ، أول من سن الاجتماع يوم الجمعة الذي كان يسمى بـ " يوم العروبة " ، توفي سنة 183 قبل الهجرة. (ينظر: الكامل لابن الأثير 2/9 ، وتاريخ الطبري 2/185).
[8] تنظر المراجع في الصفحة السابقة.
[9] أحمد (2/311).
[10] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/311 من حديث أبي هريرة وقال ابن حجر في فتح الباري 2/353: " ذكره ابن أبي حاتم موقوفًا بإسناد قوي ، وأحمد مرفوعًا بإسناد ضعيف" ، وقال الأرنؤوط في تخريجه في هامش زاد المعاد 1/392: " وفي سنده الفرج بن فضالة ، وهو ضعيف وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من أبي هريرة " ، وقد جاء خلق آدم - عليه السلام - في هذا اليوم في عدد من الأحاديث في السنن وغيرها.
[11] فتح الباري 2/353.
[12] نيل الأوطار 3/222.
[13] وجزم به ابن حزم في المحلى.
[14] تنظر هذه الأقوال وغيرها في: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/97 ، وفتح الباري 2/353 ، والإنصاف 2/364 ، وكشاف القناع 2/20 - 21 ، ونيل الأوطار 3/222 - 223.(/3)
العنوان: تعريف الخطبة
رقم المقالة: 1283
صاحب المقالة: د. عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله الحجيلان
-----------------------------------------
أولا: تعريفها في اللغة:
الخُطْبَةُ: هي بضم الخاء، وهي ما يُقال على المنبر، يُقال: خَطَبَ على المنبر خُطْبَة - بضم الخاء - وخَطَابة، وأما خِطْبَة - بكسر الخاء - فهي طلب نكاح المرأة.
وهي مشتقة من المخاطبة، وقيل: من الخطب، وهو الأمر العظيم؛ لأنهم كانوا لا يجعلونها إلا عنده.
قال في تهذيب اللغة: "والخطبة مصدر الخطيب، وهو يخطب المرأة ويخطِبُها خِطبة وخِطِّيبى... قلت: والذي قال الليث أن الخطبة مصدر الخطيب لا يجوز إلا على وجه واحد، وهو أن الخُطبة اسم للكلام الذي يتكلم به الخطيب، فيوضع موضع المصدر، والعرب تقول: فلانٌ خِطْبُ فلانة، إذا كان يخطبها" [1].
وقال في القاموس: "... وخَطَبَ الخاطب على المِنْبَر خَطابة بالفتح، وخُطبة بالضم، وذلك الكلام خُطبة أيضًا، أو هي الكلام المنثور المُسَجَّع ونحوه، ورجل خَطِيبٌ حسن الخُطبة بالضم" [2].
- وقال في مختار الصحاح: "خاطَبَه بالسلام مُخَاطَبة وخِطَابا، وخطب على المنبر خُطْبَة - بضم الخاء - وخَطَابة، وخَطَب المرأة في النكاح خِطْبَة - بكسر الخاء - يخْطُبُ بضم الخاء فيهما، واختَطَبَ أيضًا فيهما، وخَطُبَ من باب ظَرُفَ صار خطيبًا" [3].
وقال في المصباح: "خَاطَبَه مُخَاطَبَة وخِطَابا، وهو الكلام بين متكلم وسامع، ومنه اشتقاق الخُطبَة - بضم الخاء وكسرها - باختلاف معنيين، فيُقال في الموعظة: خَطَبَ القوم وعليهم من باب قتل، خُطبة - بالضم -، وهي فُعلة بمعنى مفعولة... وجمعها خُطب، وهو خطيب القوم إذا كان هو المتكلم عنهم، وخَطَبَ المرأة إلى القوم إذا طلب أن يتزوج منهم، واختطبها، والاسم الخِطْبة - بالكسر -..... [4].(/1)
وقال في حلية الفقهاء: "وأما الخُطْبة فاشتقاقها من المُخاطبة، ولا تكون المخاطبة إلا بالكلام بين المُخاطَبين، وكذلك خِطْبَة النكاح، وقال قوم: إنما سمِّيتْ الخُطبة لأنهم كانوا لا يجعلونها إلا في الخَطْب والأمر العظيم، فلهذا سميت خُطْبة" [5].
ثانيا: تعريفها في الاصطلاح:
عرَّفها بعضهم بأنها: الكلام المؤلف المُتضمِّن وعظًا وإبلاغًا [6].
ولكن هذا فيه إجمال.
وأوضح منه تعريف من قال: إنها قياس مركب من مقدمات مقبولة أو مظنونة، من شخص معتقد فيه، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم [7].
وعرَّف بعض المعاصرين الخطابة: بأنها فنّ من فنون الكلام، يقصد به التأثير في الجمهور عن طريق السمع والبصر معا [8].
وكل هذه التعريفات ونحوها تدور حول التعريف بالخطبة عمومًا، ومعناها متقارب.
وأما خطبة الجمعة بخصوصها فلم أطلع على تعريف صريح لها - فيما بين يدي من كتب الفقهاء - لعلهم تركوا ذلك لوضوحها عندهم، وقد جاء في بدائع الصنائع في معرض كلامه على أحكام خطبة الجمعة قوله: " والخطبة في المتعارف اسم لما يشتمل على تحميد الله والثناء عليه، والصلاة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - والدعاء للمسلمين، والوعظ والتذكير لهم" [9].
وهذا بيان لمعناها حسب المتعارف عليه، وليس تعريفًا دقيقًا تتوفر فيه الشروط المعتبرة عند الأصوليين.
ولكن بعد تأمل ما تقدم ذكره من التعريف اللغوي والتعاريف الأخرى، وبناءً على ما ترجح في أحكامها يمكن أن أعرّفها تعريفًا تقريبيًا بأنها: ما يُلقى من الكلام المتوالي الواعظ باللغة العربية قبيل صلاة الجمعة بعد دخول وقتها بنية جهرًا قيامًا مع القدرة على عدد يتحقق بهم المقصود.
---
[1] تهذيب اللغة الأزهري ، مادة " خطب " 7/246.
[2] القاموس المحيط ، مادة "خطب" 1/65.
[3] مختار الصحاح ، مادة "خطب" ص (76).
[4] المصباح المنير للفيومي ، مادة " خطب " 1/173.(/2)
[5] حلية الفقهاء لابن فارس ص (87).
[6] تحرير ألفاظ التنبيه ، أو المسمى بـ " لغة الفقهاء " للنووي ص (84 - 85).
[7] التعريفات للجرجاني ص (99).
[8] الخطابة في الإسلام للدكتور مصلح سيد بيومي ص (11).
[9] بدائع الصنائع1/262.(/3)
العنوان: تعظيم السلف للنبي صلى الله عليه وسلم من أخبار التابعين والعلماء
رقم المقالة: 251
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ أنعم علينا بالإسلام، وبعث إلينا خير الأنام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق؛ فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، , وأبان به الحق من الباطل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين0
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون)0
أيها الناس: حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته عظيم، وفضله عليهم كبير؛ فبه صلوات الله وسلامه عليه أخرجوا من الكفر إلى الإسلام، ومن أسباب الشقاء إلى أسباب السعادة، ومن موجبات النار إلى موجبات الجنة0
كان عليه الصلاة والسلام رحيما بأمته، حريصا عليهم، يعز عليه ما يشق عليهم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)؛ ولذا كان يترك العمل وهو يريده خشية أن يفرض عليهم فلا يطيقونه0(/1)
كان عليه الصلاة والسلام يتألم لألمهم، ويصبر على أذاهم، ويفرح بهدايتهم، ويخشى عذابهم، ويدعو لهم؛ كما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني) وقال عيسى عليه السلام (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) رواه مسلم وفي رواية لأبي داود أن ذلك كان في صلاة الكسوف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم:(نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف ثم قال: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ؟! ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟!)
ولكل نبي من الأنبياء عليهم السلام دعوة مستجابة، دعوا ربهم فاستجاب الله تعالى دعواتهم، وأعطاهم مسائلهم، إلا رسولنا صلى الله عليه وسلم فإنه ادخر دعوته شفاعة لأمته في موقف هم أحوج ما يكونون لشفاعته، فصلوات ربي وسلامه عليه صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الليل والنهار0(/2)
إن نبيا بلغ حرصه علينا، ورحمته بنا هذا المبلغ لحري بنا أن نؤمن به ونصدقه، وأن نعزره ونوقره، وأن نتبعه ونطيعه، وأن نحبه أشد من محبتنا لأنفسنا وآبائنا، وأمهاتنا وأزواجنا، وأولادنا وأموالنا، فهو بفضل الله تعالى هدايتنا ونجاتنا، وهو حياتنا وسعادتنا، فما بعث به كان غيث قلوبنا وحياتها، وزكاء نفوسنا وصفاءها، وأعظم خير بلغنا - وهو الإيمان - إنما بلغنا عن طريقه، وأعظم شر خفناه - وهو الكفر - إنما جانبناه لأن نبينا صلى الله عليه وسلم حذرنا منه، ومن مات منا على الإيمان، ونال الجنة والرضوان، فما نال ذلك إلا بسبب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهل ترون لأحد حقا عليكم - بعد حق الله عز وجل - أعظم من حق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، بآبائنا هو وأمهاتنا وأولادنا وأموالنا0
لقد عرف السلف الصالح فضل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فأنزلوه المنزلة التي يستحقها، آمنوا به وأحبوه، وصدقوه وأطاعوه، ووقروه وعزروه، ولم يعبدوه من دون الله تعالى كما فعلت النصارى مع ابن مريم عليه السلام0
وأخبار الصحابة رضي الله عنهم في ذلك مستفيضة، وأخبار التابعين وتابعيهم فيه كثيرة0 يبكي واحدهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده محبة له وتوقيرا وإجلالا، سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى:(متى سمعت من أيوب السختياني؟ فقال: حج حجتين، فكنت أرمقه ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه)0(/3)
وكأن هذا الإجلال للنبي صلى الله عليه وسلم كان سجية عند السلف الصالح؛ لأنهم قد عرفوا قدره ومنزلته، وعلموا ما له من الفضل عليهم، كما حدث بذلك الإمام مالك رحمه الله تعالى عن جماعة من شيوخه رأى من حالهم ما رأى عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، روى مصعب بن عبد الله رحمه الله تعالى فقال: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمدَ بنَ المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة 00000 ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيُنظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه؛ هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري وكان لمن أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس ويتركوه)
وهذا الحسن البصري رحمه الله تعالى كان يبكي إذا حدث بحديث الجذع الذي بكى لما فارقه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا عباد الله، الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ شوقا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه)(/4)
وكان من المستقر عندهم رحمة الله تعالى عليهم: توقير النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كتوقير الصحابة رضي الله عنهم له في حياته، فلا يرفعون أصواتهم في مسجده إجلالا وتوقيرا له عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك لما رفع رجلان أصواتهما في مسجده صلى الله عليه وسلم في عهد عمر رضي الله عنه استنكر عمر ذلك؛ كما روى السائب بن يزيد رحمه الله تعالى فقال: (كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما أو من أين أنتما ؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم !!)0
بل كان بعض التابعين يرى أن رفع الصوت في مجالس الحديث كرفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث حديثه، قال حماد بن زيد رحمه الله تعالى:(كنا عند أيوب السختياني فسمع لغطا فقال: ما هذا اللغط ؟ أما بلغهم أن رفع الصوت عند الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرفع الصوت عليه في حياته)0
وكان من توقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يحدثون بحديثه إلا وهم على أحسن حال وهيئة، ويربون أتباعهم على ذلك، قال أبو سلمة الخزاعي رحمه الله تعالى:(كان مالك بن أنس إذا أراد أن يخرج ليحدث توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ولبس قلنسوة، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقر به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) ويحدث أحمد بن سنان عن مجلس وكيع بن الجراح في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: لا يُتحدث في مجلسه، ولا يُبرى قلم، ولا يَتبسم، ولا يقوم أحد قائما، كانوا في مجلسه كأنهم في صلاة فإن أنكر منهم شيئا انتعل ودخل)
ومر الإمام مالك على أبي حازم وهو يحدث فجازه، فقيل له، فقال:لم أجد موضعا فكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم) وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك فإذا جاء الحديث خشع0(/5)
وجاء عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى أنه سئل عن حديث وهو مضطجع في مرضه فجلس وحدث به، فقيل له: وددت أنك لم تتعن فقال: كرهت أن أحدث عن رسول الله وأنا مضطجع، وسئل ابن المبارك رحمه الله تعالى عن حديث وهو يمشى فقال: ليس هذا من توقير العلم 0
وأخبارهم في ذلك غزيرة، وأحوالهم فيه عجيبة؛ توقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيما لحديثه، ومن أعجب شيء يروى في ذلك ما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لما امتحن في فتنة خلق القرآن، وتعاقب ثلاثة من خلفاء بني العباس المأمون والمعتصم والواثق على امتحانه وسجنه في ذلك، وهو ثابت على الحق لم يغير ولم يبدل، وحمل رحمه الله تعالى إلى مجلس الواثق مقيدا في أغلاله، وناظرهم وهو على تلك الحال فخصمهم، وقطع حجتهم، وأبطل مكيدتهم، وفتح الله تعالى على قلب الخليفة الواثق فعلم صدق الإمام أحمد، وكونه على الحق، فأمر أن يفك قيده، ففك وأخذه الإمام أحمد، فنازعه إياه السجان، فأمر الواثق أن يدفع القيد إلى الإمام فدفع إليه، فسأله الواثق عن سبب أخذه، فأخبره أنه ينوي به أن يخاصم به من ظلموه عند الله تعالى يوم القيامة وقال رحمه الله تعالى: أقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيَّدنى وروع أهلي وولدى وإخوانى بلا حق أوجب ذلك علي، وبكى الإمام أحمد فبكى الواثق وبكى من في المجلس، ثم سأله الواثق أن يجعله في حلٍ وسعة مما ناله على يديه فقال له الإمام أحمد رحمه الله تعالى: والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم؛ إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كنت رجلا من أهله)0(/6)
أيها الإخوة: هكذا كان حال أسلافكم من التابعين وتابعيهم، وكبار العلماء المتبوعين، والأئمة المهديين؛ توقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيما لحديثه، وأداء لحقوقه عليهم، وأخبارهم في ذلك تعز على الحصر، وتستعصي على الجمع، من كثرتها وتنوعها، يجعها معرفتهم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم، وإدراكهم لمنة الله تعالى عليهم إذ بعثه فيهم (يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) فكانوا بتوقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيم حديثه، وامتثال أمره، واجتناب نهيه من المفلحين الذين اثنى الله تعالى عليهم في كتابه الكريم بقوله سبحانه (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)0
جعلنا الله تعالى ووالدينا وأولادنا منهم، وحشرنا بمنه وكرمه في زمرتهم، إنه سميع مجيب0
أقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم000
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ أمر بالبر والتقوى، وأرشد للخير والهدى، أحمده على ما أنعم وأعطى، وأشكره على ما أهدى وأسدى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن محمدا عبده ورسله النبي المجتبى، والعبد المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى0
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)0(/7)
أيها الناس: كان من توقير السلف الصالح رحمهم الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: تعظيمهم لسنته، والعناية بها، وتقديمها على أقوال الرجال وآرائهم مهما بلغت علومهم، وعلت منازلهم، وما من إمام متبوع من أصحاب المذاهب المشهورة إلا ويعلن في أتباعه وتلامذته أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مذهبه، وأن أي قول له يخالف السنة فهو يبرأ إلى الله تعالى منه، قال الشافعي رحمه الله تعالى: كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني، وقال أيضا:إذا وجدتم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فخذوا بالسنة، ودعوا قولي فإني أقول بها)0وذَكَر الشافعي رحمه الله تعالى حديثا فقال له رجل: تأخذُ به يا أبا عبد الله ؟ فقال: أفي الكنيسة أنا ؟! أوَ ترى على وسطي زُنَّارا ؟! نعم أقول به، وكلما بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت به) وروى الربيع بن سليمان رحمه الله تعالى فقال:(سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال له: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله تقول به ؟ قال الربيع: فرأيت الشافعي أرعد وانتفض وقال: يا هذا، أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فلم أقل به، نعم على الرأس والعينين، على الرأس والعينين)0
فما زنة هذا الكلام من هذا الإمام عند من يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأي رآه، أو هوى ابتغاه ؟!(/8)
وهل وقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وعظم سنته، واتبع شريعته، من غير دين الله تعالى، وأولّ النصوص المحكمة الواضحة، ليوافق بها أهواء البشر ومرادهم؛ لجاه يبتغيه، أو مال يطلبه، أو دنيا يريدها، وما أكثرهم في هذا الزمن؛ إذ أيسر شيء على الواحد منهم أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ويبدل دين الله تعالى؛ اتباعا لهواه وهوى من يطلب رضاهم من البشر دون رضى الله تعالى، وهؤلاء هم المبدلون المغيرون الذين يذادون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم يرده الثابتون على دينهم، وفيهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم (أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس من دوني فأقول: أمتي ؟! فيقول: لا تدري، مشوا على القهقري، قال بن أبي مليكة: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن) وفي رواية (فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي) رواه الشيخان0
وهل وقر النبي صلى الله عليه وسلم من يسخرون بسنته، ويطالبون باطراح دينه، ويسعون سعيا حثيثا في صرف الناس عنه إلى مناهج ملاحدة الشرق والغرب، وما أكثرهم في أهل الصحافة والإعلام، الذين يحتفون بالزنادقة والملحدين والمنافقين والمرتدين أكثر من احتفائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقضون بأقوالهم الكفرية على النصوص المعصومة من الكتاب والسنة، ويدّعون أنهم يدعون إلى إسلام حضاري ليبرالي متسامح، وما يدعون إلا إلى إلحاد الغرب وكفرهم وفسادهم وانحلالهم0(/9)
وهل وقرّ النبي صلى الله عليه وسلم من سخر بشيء من هديه في الهيئة واللباس كتقصير الثياب وإكرام اللحى وإعفائها، وكثير ممن يسخرون بهذا الهدي النبوي يزعمون أنهم إنما يسخرون بالأشخاص لا بالهدي النبوي، ثم نراهم يحتفون بمن انتكس بعد الاستقامة، وزاغ بعد الهداية، ونزع مظاهر السنة من سمته وهيئته، ويعظمونه ويقدمونه، ويختصونه بالرعاية الإعلامية، ويفتحون له المجالات الصحفية، وإذ ذاك لم تكن سخريتهم بالأشخاص وإنما بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم0
وهل وقر النبي صلى الله عليه وسلم من حاد عن طريقته، واستدرك عليه في شريعته، وابتدع في دينه ما ليس منه، وترك من السنة بقدر بدعته، كمن يحيون الموالد، ويختصون بعض الليالي بفضل وعبادات لم ترد في الكتاب ولا في السنة، ومن ذلك ما يفعله كثير منهم في هذه الأيام من الاحتفاء بليلة النصف من شعبان، وتخصيص ليلتها بالقيام، ويومها بالصيام، مخالفين بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، مبتدعين في دينه ما ليس منه0
ألا فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم، واعرفوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم حقه، ووقروه وعزروه، وعظموا سنته، واحفظوا له مكانته، وأنزلوه منزلته التي أنزله الله تعالى إياها بلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو وتقصير ، واقرؤوا سيرته، وتزودوا من حديثه، وأطيعوا أوامره، واجتنبوا زواجره؛ فإن محبة الله تعالى تنال بذلك (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم، قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين)0
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم000(/10)
العنوان: تعظيم النصوص الشرعية
رقم المقالة: 1569
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، هدانا للإسلام، وعلِّمنا القرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره؛ لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الأمر وله الحكم وإليه ترجعون. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أفضل البريات، ختم الله به النبوات، وأخرج به من الظلمات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ آمنوا واتبعوا، وحملوا الأمانة فما بدلوا، وانقادوا لأمر ربهم واستسلموا، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وعظموا شعائره وحرماته، وقفوا عند حدوده، فما سمي المسلم مسلمًا إلا لأنه استسلم لله - تعالى - بالتوحيد، وانقاد له بالطاعة، وخلص من الشرك، وتبرأ منه ومن أهله {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزُّمر: 54].
أيها الإخوة المؤمنون: لقد أكمل الله الدين، ببعثه خاتم النبيين، فلا نبي بعده، ولا دين سوى دينه إلى يوم القيامة، ولا كتاب يعمل به غير الذي أنزل عليه، ولا هدي يتبع إلا هديه عليه الصلاة والسلام.
من آمن فلا يسعه إلا الاتباع والإذعان والخضوع لما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - لا كتب السابقين تغنيه، ولا أهواء البشر تهديه.(/1)
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب؛ فقرأه النبي - صلى الله عليه وسلم – فغضب". فقال: ((أومتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أنَّ موسى - صلى الله عليه وسلم - كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني))؛ أخرجه الإمام أحمد[1].
لقد خشي النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته زيغ القلوب، وفساد العقول، وانحراف الفطرة، وتنكُّب الطريق، وتبديل الدين، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نذكر الفقر ونتخوفه فقال: ((آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتُصَبنَّ عليكم الدنيا صبًّا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلا هِيَهْ، وايم الله لقد تركتم على مثل البيضاء ليلُها ونهارها سواء)) قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركنا والله على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء"؛ أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن[2].
أيها الإخوة: وإن من أعظم أسباب الزيغ والهلاك عدم الاستسلام لأمر الله - تعالى - ورفض الخضوع والإذعان والانقياد لأوامره، والاستهانة بحرماته وشعائره، وتقديم أقوال البشر وأهوائهم على قول الله - تعالى - وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا فلاح ولا فوز للعباد في الدنيا والآخرة إلا بتعظيم الله - تعالى - وإجلاله، ولا يكون ذلك بمخالفة أمره.(/2)
مَن عظَّم الله - تعالى - طرح هواه، واتبع الكتاب والسنة، ونبذ ما سواهما، وهذه صفة أهل الإيمان واليقين والتقوى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور: 51 - 52]. فإذا جاء الأمر من الله - تعالى - في الكتاب أو السنة فلا مجال للاختيار أو التردد؛ بل يجب التسليم والانقياد والطاعة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
ومن أعرض عن ذلك، ولم يتبع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنما حجبه عن ذلك الهوى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]. ومن كان كذلك فهو مستحق للوعيد الشديد، والعذاب الأليم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وإنَّ من أعظم الضلال الذي تقع به الفتنة والعذاب إهمال النصوص الشرعية المعصومة، والمصير إلى العقل القاصر، وتحكيم أهواء البشر في نصوص الكتاب والسنة.(/3)
وما زاغ أهل الكلام قديمًا إلا لما سلكوا هذه الطريق الخاطئة، ثم تبعهم في هذه الأزمان أقوام كان جُلُّ حديثهم عن العقل ومنزلته في الإسلام، فغالَوْا في تعظيمه وتمجيده، حتى أعطوه السلطة المطلقة في الحكم على الوحي المنزل، تكذيبًا وتأويلاً، وردًّا وتحريفًا وما دفعهم إلى ذلك إلا هزيمتهم النفسية أمام الحضارة المادية الإلحادية الأوربية، التي ألَّهت العقل وأنكرت ما سواه؛ فحتى يكون هؤلاء العقلانيون متحضرين ومتفتحين لابد أن يحذوا حذو أهل الحضارة في تعظيم العقل، والمغالاة فيه، ولو على حساب النصوص الشرعية، فزاغوا وضلوا، ومنهم من ألحدوا وكفروا فأنكروا الغيب كله، ولم يؤمنوا بما لم يشاهدوا، وفي هذا يقول قائلهم: "يمكن للمسلم المعاصر أن ينكر كل الجانب الغيبي في الدين ويكون مسلمًا حقًّا في سلوكه"[3] ويقرر آخر أن: "البشرية لم تعد في حاجة إلى قيادتها في الأرض باسم السماء؛ فلقد بلغت سن الرشد، وآن لها أن تباشر شؤونها بنفسها"[4]!!
وحينما يتكلم هؤلاء الزائغون فإنهم يتكلمون باسم الإسلام؛ إمعانًا في الإضلال، وإصرارًا على الضلال؛ إذ يقول أحدهم: "فلقد حرر الإسلام العقل البشري من سلطان النبوة من حيث إعلان إنهائها كلية، وتخليص البشرية منها"[5]، فهل بعد هذا الضلال ضلال؟! وتأملوا كيف يحاولون هدم الإسلام باسم الإسلام!!
إن ديننا بكماله وبيانه لم يعطل العقل أو يهمشه بل جعله مناط التكليف، فلا تكليف إذا فُقِد العقل، وهو أحد الضرورات الخمس التي جاءت شرائع الإسلام وأحكامه بلزوم الحفاظ عليها؛ ولكن في الوقت نفسه لم يكن العقل في شريعة الإسلام حاكمًا على الوحي؛ لأن للعقل حدوده، وأما الوحي فهو منزل من عند خالق العقل، ومن العليم الخبير الذي ذرأ العباد وهو أعلم بما يصلحهم.(/4)
فإذا تعدى العقل حدوده وصادم الوحي كانت الهلكة والضلال، وهل طرد إبليس من الجنة إلا لما أخضع الأمر الإلهي لميزان عقله القاصر؟! فضلَّ وهوى؛ إذ أمره الله - تعالى - بالسجود لآدم، فلم يرتضِ عقله أن يسجد مَن خُلق مِن نار لمَن خلق مِن طين، فجادل وامتنع، فحقت عليه اللعنة {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 76- 78].
وكفار مكة رفضوا الإسلام، وعارضوا القرآن؛ لأن عقولهم القاصرة مانعت أن يكون محمد اليتيم الفقير نبيًّا ورسولاً، وأرتهم عقولهم أن النبي لابد أن يكون عظيمًا غنيًّا قويًّا {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف: 31].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "والداعون إلى تمجيد العقل إنما هم في الحقيقة يدْعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، وما كان العقل وحده كافيًا في الهداية والإرشاد وإلا لما أرسل الله الرسل"[6].
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وكل من كان له مسكة عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما ينشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساده. وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل؛ بل هم شر من الحمير، وهم الذين يقولون يوم القيامة {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]"[7] اهـ.
إن السمع والطاعة، والقبول والإذعان لنصوص الشرع هو سبيل أهل الحق والعدل والإيمان، وإن الإعراض عن الوحي أو معارضته أو مجادلته هو سبيل المنافقين.(/5)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور: 47 - 52]... بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واستنَّ بِسُنَّتهم إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون: إن الدعوة التي يطرحها العقلانيون لعقلنة الإسلام، وجَعْلِه يتواءَمُ مع متطلبات العصر، ما هي إلا امتدادٌ لِتَسَلّطِ العقل على الشرع الذي أخذه فلاسفة العرب عن ملاحدة اليونان قديمًا، ثم أفرغوه في مذاهب المعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم من الضلال.(/6)
وها هو ذا المذهب يعود من جديد ولكن بصورة أخرى، وتحت شعارات براقة من تهذيب الإسلام وعقلنته، والنتيجة: تمييع أحكام الإسلام ليواكب العصر، ويوافق المزاج الغربي على حدِّ زعمهم؛ إذ هم يروْنَ أنَّ البشرية تتطور وَفْقًا للنظرية الإلحادية الأوربية الحديثة، كما يتطور الإنسان من الطفولة إلى المراهقة إلى الرجولة والعقل الواعي، فالبشرية كذلك يرون أنها مرت بثلاث مراحل: مرحلة البداوة والتوحش والسلطوية، ثم مرحلة التدين وانتظار الوحي، ثم مرحلة الرشد العلمي، واكتمال العقل الإنساني اجتماعيًّا وعلميًّا مما لا يحيجه إلى الوحي[8]. ونهاية مقولاتهم: إلغاء الإسلام كشريعة يعمل بها، والاحتفاظ به في المتحف التاريخي للذكريات.
وأما من تمسك بالإسلام، وأعمل نصوص الكتاب والسنة، فهم - عند هؤلاء العقلانيين - رجعيون نصوصيون، وحرفيون متشددون، وغير ذلك من الأوصاف التي تحمل معنى الجمود والظلامية واللاعقلانية. ويخدعون عامَّة المسلمين بأنهم بعقولهم وأهوائهم يراعون روح الشريعة، ومقاصد الإسلام العامة، وما درى هؤلاء السفهاء أن مقاصد الإسلام لا سبيل إلى إدراكها إلا من خلال النصوص الشرعية.
ويتأثر بهذا الطرح الآثم جهلة المسلمين وعامتهم؛ حتى غدت كثير من أحكام الإسلام ومسلماته وثوابته تطرح للرأي والمناقشة والجدال!!(/7)
ألسنا نرى ونسمع ضُلالاً ومنحرفين يناقشون قضايا الدين الكبرى؟ ونبصر جهلة يستقون جُلَّ ثقافتهم من الملاحق الفنية والرياضية يعارضون كثيرًا من أحكام الشريعة؟! وإنك لتعجب كثيرًا حينما ترى مهرجًا، لا يستطيع عد فروض الوضوء، يناقش حرمة وإباحة التهريج!! أو مغنية فاجرة تقرر السفور والاختلاط والفساد، أو منحرفًا جاهلاً يبيح الربا! ثم يجدون من يسمع لهم، ويُعْجَبُ بهم وقد رفضوا شريعة الله - تعالى - وردوا أحكام الإسلام، فهل أمِنوا الفتنة والزيغ؟! {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] فاتقوا الله ربكم وعظموه بتعظيم أمره ونهيه، واحذروا الفتنة والزيغ بالحذر من مخالفة شريعته. ثم صلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه عبد الرازق (6/113) وابن أبي شيبة (9/47) وأحمد (3/387) والدارمي (1/115) وابن أبي عاصم في السنة (50) وعزاه الألباني إلى الهروي في ذم الكلام، والضياء في المنتقى وقال: حديث حسن، انظر: الإرواء (1589).
[2] أخرجه ابن ماجه في المقدمة من سننه (5) وصححه الألباني في ظلال الجنة (47).
[3] صاحب هذا القول هو: حسن حنفي في كتابه "قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر" (93).
[4] ذلك هو الدكتور محمد أحمد خلف الله، وانظر: "العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب" لمحمد الناصر (204).
[5] انظر: "الأسس القرآنية للتقدم" (44) والعصرانيون (204).
[6] "درء تعارض العقل والنقل" (1/21).
[7] "إعلام الموقعين" (1/68).
[8] انظر في ذلك: "ثقافة الضرار" للأستاذ: جمال سلطان (55-58) وأيضًا (67-69).(/8)
العنوان: تعظيم شعائر الله
رقم المقالة: 1277
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها الناس:(/1)
المؤمن يُحسن ويخاف والمنافق يسيء ويرجو .. المؤمن مرهف الإحساس، المؤمن حي العاطفة، المؤمن يعظم شعائر الله وحرمات الله، المؤمن يراقب الله في السر والعلن، وفي الجلوة والخلوة، المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يخاف أن يسقط عليه، والمنافق يرى ذنوبه كأنها ذباب مر على أنفه فقال به هكذا فلا يخاف منها، المنافق يخاف من الناس أعظم من خوفه من الله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108]، يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله، يقدِّرون الناس ويوقرون الناس، ولا يعظمونه - تبارك وتعالى - !! فتعالوا نرى كيف كان السلف الصالح يخافون الله ويراقبونه:
سُبْحَانَ مَنْ يَعْفُو وَنَهْفُو دَائِماً وَلَمْ يَزَلْ مَهَمَا هَفَا الْعَبْدُ عَفَا
يُعْطِي الَّذِي يُخْطِي وَلا يَمْنَعُهُ جَلالُه عَنِ الْعَطَا لِذِي الْخَطَا
عمر – رضي الله عنه وأرضاه – كلّكم يعرف عمر، كان من أخوف الناس لله، ومع ذلك كان صادقاً مع الله، صادقاً مع الناس، وصادقاً مع نفسه – قائم الليلِ، صائمَ النهارِ، عادلاً فيمن ولاه الله، زاهداً في الدنيا يبكي طويلاً ويقول يا لَيتني كنت شجرة تعضد كان يقول لحذيفة رضي الله عنه، وقد علَّمه - صلى الله عليه وسلم - أسماء المنافقين. الرسول - صلى الله عليه وسلم - علَّم حذيفة بينه وبينه سرّاً أسماء المنافقين الذين لا يدخلون الجنة، فأتى عمر يبكي عند حذيفة ويقول يا حذيفة أسألك بالله أَسَمَّاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المنافقين؟ لا إله إلا الله ... إذا لم تكن يا عمر مؤمناً فمن هو المؤمن؟!! وإذا لم تكن صادقاً فمن هو الصادق وإذا لم تكن مخلصاً فمن هو المخلص؟ لا إله إلا الله بذلت مالك ودمك في خدمة لا إله إلا الله، وتبكي على نفسك أن تكون منافقاً!(/2)
جلس الصحابة في مجلس فقال عمر – رضي الله عنه وأرضاه – لأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أيكم يحفظُ قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا قال إنك عليها لجريء. أي تستطيع أن تتكلم في هذه المواضيع الخطيرة. قال: نعم. قال: ماذا سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول في الفتنة؟ قال: ... يقول: ((فتنة الرجل في أهله وماله يكفرها الصومُ والصلاةُ والصدقةُ)) يعني سَبَّه وشَتْمه لأهْلِه وأخطاءه مع أهله كفارتها الصوم والصدقة والصلاة – قال عمر: لست عن هذا أسأل، لكن أسألك عن الفتنة التي تموج موج البحر ما هي كفارتها؟! الفتنة التي تموج موج البحر فتنة الدماء فتنة أن يُسلّ السيف على المسلمين ... فتنة الاختلاف ... فتنة الزندقة والنفاق والإلحاد. قال حذيفة: يا أمير المؤمنين لا تخف إن بينك وبينها باباً، قال: أيفتح الباب أم يُكسر؟ والباب هو عمر ... الباب عن الفتنة عمر بن الخطاب ... يوم قتل بدأت الفتنة!! يوم ذُبح سُلَّ السيف على الأمة المحمديَّة. يوم اغتيل – رضي الله عنه وأرضاه – بدأت الفتن التي تموج موج البحر. قال حذيفة: وحدثته أن بينه وبينها باباً مغلقاً يوشك أن يكسر. قال: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: بل يُكسر والله!! يعني أن هذا الباب رجل لا يموت، وإنما يذبح كما يذبح العظماء، فدمعت عينا عمر، وقال: الله المستعان. قالوا لحذيفة: أدرى عمر من هو الباب؟!! قال: إي والذي نفسي بيده إنه علم كما أن دون الليلة البارحة [1]، ويوم أتته سكرات الموت واغتيل – رضي الله عنه وأرضاه – ما بكى أطفالَه وما بكى أموالَه وما بكى منصبَه ووظيفته، بكى ذنوبه وخطاياه ...
حَيَاءً مِنْ إِلَهي أَنْ يَرَانِي وَقَدْ وَدَّعْتَ صَحْبَكَ وَاصْطَفَاكَ(/3)
فيقول: يا ليت أمي لم تلدني .. ودماءه تنزف، مات شهيداً، ذبح شهيداً في سبيل الله .. قالوا: ما لك؟ قال: ذنوبي وخطاياي، يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شجرة فأعضد، يا ليتني ما توليت الخلافة، يا ليتني ما عرفت الحياة، هذا هو عمر – رضي الله عنه وأرضاه – فكيف بنا أهل الذنوب والخطايا، ذاك هو المؤمن الذي يصلي ويصوم ويتصدق ويعمل صالحاً ويتوب ويخاف من الذنوب ... والمنافق يترك الصلوات، ويلعب في المحرمات، وينتهك حدود الواحد الأحد ربِّ الأرض والسماوات، ويضحك!! يتكلم بالنفاق، ويعمل بالنفاق، ويضحك!!
إذا بايع الناس غشَّ وظلم، وإذا أخذ المال وأعطاه رابى، تعامل بالربا، إذا خاصم فجر، وشهد شهادة الزور، ولعن وتعدى وهو يضحك.(/4)
قاطع للرحم، عاقٌّ للوالدين، فاجرٌ في بيته، فاجرٌ في مجتمعه فاجرٌ مع أمته وهو يضحك، ولذلك كان أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخوف الناس لله، أتى أحدهم والرسول - صلى الله عليه وسلم - محاصَرٌ في خيبر وقيل غيرها من قرى اليهود فأرسله - صلى الله عليه وسلم - أرسل هذا الصحابي – قال: اذهب إلى أهل هؤلاء الحصن من اليهود وفاوضهم، علَّهم أن ينزلوا على حكم الله، فدخل على اليهود، فقال اليهود له وهم يتباكون نساءً ورجالاً وأطفالاً: أما ترى ماذا يصنع بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذته الرحمة لكن في غير موضعها والرقة بأعداء الله، إخوان القردة والخنازير فأشار إليهم ألا ينزلوا وهي خيانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن لم يتكلم. قال بيده على عنقه هكذا، يعني انتبهوا لا تنزلوا فإنه سوف يذبحكم ذبحاً – وخرج من الحصن، وشعر أنه خان الله، وخان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخان دين الإسلام ... فذهب إلى المسجد فربط نفسه بحبل بسارية المسجد وقال: والله الذي لا إله إلا هو لا أفكّ نفسي، ولا أطلق نفسي، حتى يطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ يبكي صباح مساء ... وأتت التوبة من السماء لأنه اعترف بذنبه وخطيئته فتاب الله عليه، فأتى - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة، ففكّ الحبل فمضى وهو تائب لا أحد أسعد منه على وجه الأرض.(/5)
* أنزل الله قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]. معناه أنه يقول للصحابة: لا ترفعوا أصواتكم تأدبوا عند المصطفى، تأدبوا عند صاحب الرسالة الخالدة - صلى الله عليه وسلم - فلما نزلت أتى ثابت بن قيس بن شماس، وهو خطيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب في حماية الإسلام، وفي الدفاع عن الإسلام، فيرفع صوته على صوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس هو المقصود في الآية، لأن الآية تعني الذين لا يتأدبون، أما هو فيرفع صوته لرفع راية الحق فذهب فأغلق عليه بابه في البيت، فبكى حتى كادت أضلاعه أن تختلف، وقال: والذي لا إله إلا هو لا أخرج من بيتي حتى يتوب الله عليَّ أو أموت في بيتي. فسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ، فقال: ((يا أبا عمرو ما شأن ثابت؟ أشتكى؟)) قال سعد: إنه لجاري وما علمت له بشكوى، فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ثابت: أُنْزِلَتْ هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بل هو من أهل الجنة))[2].
وهذا هو فعل المؤمن، وخوف المؤمن، يتقي الله - عزَّ وجلَّ - ويخاف ألا يقبل الله منه، ويعظم حُرمات الله.
والشاهد من هذا الكلام أنه ينبغي لنا - أيها المسلمون الأبرار، أيها الأخيار - أن نعظِّم حرمات الله - تبارك وتعالى.(/6)
حقٌّ على المسؤول فينا ألا يتصرف ولا يعمل إلا والله - عزَّ وجلَّ - حافظه ومتوليه وراعيه، وأن يراقب الله في السر والعلن، وحقٌّ على من يكتب مقالة نثرية أو شعرية في الصحف، أو في الكتب، أو في المصنفات، أن يتقي الله في نفسه، فإنه مسؤول أمام الله - عزَّ وجلَّ - يوم القيامة.
ولقد رأينا من أناس كتبوا فما خافوا الله، كتب أحدهم إلحاداً وزندقة لأنه نسي الله، فأنساه الله نفسه. يقول أحدهم يخاطب الأمة العربية، والأمة العربية بلا إسلام أصفار، والأمة العربية بلا دين بادية مضمحلة وسياج من الغنم، والأمة العربية بلا إله إلا الله محمد رسول الله، أمة مهزومة فاشلة، يوم دخلت الأمة العربية بدن لا إله إلا الله محمد رسول الله ساقها اليهود، وساقوا كتائبها من سيناء وفلسطين، وفي كثير من بقاع الأرض، ساقوها بطائراتهم فما أسقطتها الصيحات ولا الخطب، الأمة العربية إذا نزع الإيمان منها فَقُلْ عليها السلام، أتى هذا المجرم، لبناني يكتب في صحف لبنان ومن شعرائها الكبار، يقول للأمة العربية في حربها مع إسرائيل:
هَبُوا لِيَ دِيناً يَجْعَلُ الْعُرْبَ أُمَّةً وَسِيرُوا بِجُثْمَانِي عَلَى دِينِ بَرْهَمِ
ثم يقول:
بِلادُكَ قَدِّمْهَا عَلَى كُلِّ مِلَّةٍ وَمِنْ أَجْلِهَا أَفْطِرْ وَمِنْ أَجْلِهَا صُمِ
يقول: اتخذ منهجاً يجمع العرب ولو كان قومية أو بعثية أو حزبية غير الإسلام، ولو كان دين برهم الهندوسي المجرم اللعين، تعالى الله عما يقوله هذا المجرم الملحد علوّاً كبيراً.(/7)
ويقول الثاني: وقد وقف أمام سلطان من سلاطين الدنيا شاعر يمدح السلطان ونسي عظمة الله: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 93-95ٍ]. {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً} [الفرقان: 3]. يقول هذا السفيه الخرافي الذي نسي الله فأنساه نفسه، والإنسان الذي نسي الله يكتب بلا إيمان، ويتكلم بلا يقين، وينافق الناس وينسى الواحد الديَّان، يقول هذا السفيه لسلطان من السلاطين وكبير من الكبراء:
مَا شِئْتَ لا مَا شَاءَتِ الأَقْدَارُ فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الوَاحِدُ الْقَهَّارُ
سبحان الله، يقول هذا لفقير هزيل لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً فضلاً عن غيره، وينسى أن الذي خلقه ورزقه هو الله - عزَّ وجلَّ!!
سبحان اللهّ! فابتلاه الله بمرض جعله طريح الفراش، بقي مريضاً ينبح من المرض كما ينبح الكلب؛ لأن الذي لا يعرف الله في الرخاء يُعَرِّفُه الله بنفسه في الشدة. فرعون ما عرف الله وهو على كرسي الحكم يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} [الزخرف: 51]. فقاده الله بتلابيب ثيابه حتى أنزله في الطين والوحل، وأجرى الأنهار والمياه من على رأسه، فعند ذلك عرف الله وندم، ولات ساعة مندم، قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]. الآن يا دجال ... الآن يا لعين، وقد نسيت الله وعظمة الله وجلال الله.
هذا الشاعر ابتلاه الله بمرض فبكى وأبكى، وأخذ يتقلَّب على فراشه ويقول. يخاطب رب العزة – سبحانه وتعالى – معتذراً:(/8)
أَبِعَيْنِ مُفْتَقِرٍ إِلَيْكَ نَظَرْتَنِي فَأَهَنْتَنِي وَقَذَفْتَنِي مِنْ حَالِقِي
لَسْتَ الْمَلُومَ أَنَا الْمَلُومُ لأَنَّنِي عَلَّقْتُ آمَالِي بِغَيْرِ الْخَالِقِ
من يُعَلِّقْ آماله بغير الله يقطع الله حبله وولايته عنه، ويكله إلى نفسه والشيطان، وقد سمعنا ورأينا من الذين أساءوا إلى الإسلام ولو كانوا يدعون الإسلام، ولو سكنوا في بلاد الإسلام، ولو تكلموا بلغة الإسلام، أتوا فلما حلّت بهم الأزمات إما مرض عضال، وإما كارثة في أطفاله وزوجته، أو في أمواله وتجارته، ندم يوم أن ضيع دين الله - عزَّ وجلَّ - واستهان بشرعه.
* فالشاهد يا عباد الله: تعظيم حُرمات الله في المجالس ... في مجالسنا، في اجتماعاتنا، وفي مكاتبنا وفي مدارسنا. هناك كلمات تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفً، يطلقها قائلها بلا اعتبار، يستهزئ بالإسلام، يستهزئ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يستهزئ بالسنة الخالدة، يستهزئ بالدعاة والدعوة، وما علم أنه بذلك يستهزئ برب العالمين سبحانه وتعالى: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66].(/9)
ولكنه الكفر، والنفاق: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4]. {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [البقرة: 8-10]. وفي قلوبهم مرض، ما دخل النور قلوبهم ما دخل الإيمان قلوبهم: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{10} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} [البقرة: 10-11]، لا تفسدوا في إعلامنا وصحفنا، لا تفسدوا في كتبنا ومصنفاتنا، لا تفسدوا عقول أبنائنا وبناتنا، لا تفسدوا في عقائدنا وتاريخنا، لا تفسدوا في دوائرنا ومدارسنا: {قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11].(/10)
نحن أهل التطور، وأهل التقدم، نحن نعارض الرجعية، وهم الرجعيون المتخلفون المتأخرون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء} [البقرة: 13]. الفقراء الضعفاء المهازيل: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} [البقرة: 13-14]. كذباً ونفاقاً إذا جلسوا مع العلماء والدعاة والأخيار والعباد والزهاد، لبسوا جلود الضأن من اللين، وقلوبهم قلوب الذئاب، {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14]، في مجالسهم: {قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤونَ} [البقرة: 14]. {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]. أتدرون ما معنى الاستهزاء هنا: يروى في الآثار الصحيحة أن الله يأتي بهم يوم القيامة فيجعل لهم نوراً على الصراط، فيظنون أن هذا النور بإيمانهم، وأنه سوف ينجيهم على الصراط، والجو على الصراط جو ظلمة، نسأل الله أن ينور لنا ولكم الصراط، من الناس من يأتي ونوره يلمع كالنجم.(/11)
ومنهم من يأتي ونوره كالقمر، ومنهم من يأتي نوره كالشمس فيأتي الله بهؤلاء، فيوقد لهم نوراً، فيظنون أنهم ناجون فإذا أصبحوا على الصراط انطفأ نورهم فوقعوا على وجوهم: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{15} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ{16} مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ{17} صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 15-18]. فالله الله في تعظيم حرمات الله، {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. أسماء الله، صفات الله، كتب الله، أنبياء الله، مساجد الله، أولياء الله، كل ما يمت للإسلام بصلة .. عظِّمه ليعظمك الله سبحانه وتعالى ... أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله .. الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً ... والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ... بلَّغ الرسالة ... وأدَّى الأمانة ... ونصح الأمة وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون:(/12)
من الصور التي يُنَبَّه عليها لتعظيم حرمات الله - عزَّ وجلَّ - وشعائره صورة ولو أنها سهلة عند كثير من الناس. لكنها عظيمة ... صورة امتهان أسماء الله - عزَّ وجلَّ - في الصحف والجرائد والمجلات، فلقد رأينا من أناس كثيرين يقعون في امتهانهم لهذه الصحف والمجلات، وفيها آيات الله المحكمات ... وأسماؤه المشرقات، توضع موائد وسُفَراً لطعام، وتمزَّق ويُرمى بها على الأرصفة، وفي الشوارع، والسكك، وفي المزابل، وهذا استهانة بأسماء الله وآياته – سبحانه وتعالى – وهذه الصُّحف يكتب فيها كثيرٌ من الآيات، هذه المجلات تحمل أسماء الواحد القهّار، كثيرٌ منها مقالات إسلامية، فيها سورٌ وأجزاء من القرآن، تؤخذ عند كثير من الناس لقلة عظمة الله في نفوسهم، فتوضع سُفَراً للطعام، فيضعون الطعام عليها، وعليها اسم الله، وأسماؤه العظمى الحسنى، ثم تُرمى في الزبالات مع الأطعمة، وهذا إن دل على شيء ... فإنما يدل على أمرين اثنين:
* أولهما: قلة مراقبة الواحد الأحد. وقلة تعظيم الله في القلوب، وعدم الحياء من الله - عزَّ وجلَّ .
* وثانيهما: عدم الأدب والمستوى الراقي الذي بلغه هذا المجتمع، الذي يراد منه أن يكون قدوة للناس، ولذلك نسمع في مجالسنا أن مدناً كافرة في أوربا وأمريكا. بلغت من التنظيف ومن ملاحظة أرصفتها وأماكن تجمعات الناس، وساحاتها وسككها، أمراً عجيباً، ونحن أهل الحضارة، ونحن أهل التقدم، ونحن أهل الرقي ترمى صحفنا وكتبنا وجرائدنا وفيها أسماءُ ربِّنا - تبارك وتعالى - في الشوارع وصناديق القمامة!! فهذا يدل على التخلف في عالم الأدب، وعدم الرقي في عالم الحضارة والمعرفة والثقافة ...(/13)
* من الصور – أيضاً -: تساهل كثيرٌ من الناس في دخول بيوت الخلاء، أماكن قضاء الحاجة، بأسماء الله - تبارك وتعالى - تكون في أوراق، أو في مستندات، قطع من المصحف، أو المصحف كله، أو شيء من أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهذه استهانة!! وهي إما عن جهل، وأما عن قلة إيمان. جاهل لا يدري ما الحكم، فالفطن لا يدخل بشيء من كلام الله أو أسمائه هذه الأماكن، لأن كلام الله - عزَّ وجلَّ - وأسماءه ينبغي أن تُصان وأن تُعظَّم، القرآن يوضع في المساجد والأماكن الطاهرة، فأدعو نفسي وإخواني إلى تعظيم كلام الله - عزَّ وجلَّ - لأن ذلك دليل على تقوى الله - عزَّ وجلَّ - ومراقبته كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. وقد بلغ السلف الصالح في ذلك مبلغاً عظيماً.(/14)
* إبراهيم بن أدهم أحد الزهّاد كان في أول حياته مسرفاً على نفسه في الخطايا والذنوب، لكنه كان يحب الله، بعض الناس يُسيء ولكنه يحبُّ الله ... يُذنب ولكنه يحبُّ الله ورسوله – نزل إبراهيم بن أدهم إلى السوق وهو مسرفٌ على نفسه فوجد ورقة قرطاس ملقاة على الأرض وقد كُتب فيها اسم الله - تبارك وتعالى - والناس يطؤونها بأقدامهم، وهم داخلون إلى السوق وخارجون ما يعلمون، فأخذ القرطاس، فنظر فإذا اسم الله فيه فبكى، وقال: سبحان الله يُهان اسمك هنا؟ لا والله، فرفع هذه الورقة وذهب بها وطيبها ورفعها في بيته، فلما أمسى سمع هاتفاً – وهذا ثابت عنه – يقول: يا مَنْ طيَّب اسم الله وعظَّم اسم الله ليعظمنَّ الله اسمك. فهداه الله إلى التوبة النصوح، فأصبح من زهاد الإسلام ومن عُبَّاد الإسلام الذين لما توفى اجتمعت مدينته في جنازته ألوفاً مؤلفة: الأمراء، وقادة الجيش، والفقراء والمساكين، حتى وصلوا المقبرة وقد تقطعت أحذيتهم من كثرة الزحام، لأن من يعظِّم الله يعظمه الله ومن يحتقر شيئاً من أسماء الله أو صفاته يحقره الله، ويذله الله ويفضحه الله – سبحانه وتعالى.
* مما ينبغي أن ننبه عليه كذلك قضية السلام والتحية في الإسلام، وهي من تقديس وتعظيم هذا الدين، ومن معالمه التي نبه عليها القرآن: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} [النساء: 86]. {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44].(/15)
وتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فمن تعظيم الله ألا نستبدل في مجتمعاتنا تحية أخرى بتحية الإسلام، وقد سمعنا من إذا لقي الناس قال: صباح الخير وترك السلام، أو قال: كيف حالكم، حياكم الله، وهذه جائزة وواردة وطيبة، ولكن بعد تحية السلام، بعد شِعَار الإسلام، نجد من الناس من يرفع الهاتف فلا يسلم ولا يرد السلام، وهذه أتتنا من عالم الخواجات، من عالم الوثنيات، من عالم الدعارة والانحطاط، ولم تأتنا من مكة أو المدينة من إرث محمد - صلى الله عليه وسلم .. تحيتنا السلام نسلم ونتقبَّل السلام ليبقى شعارنا شعار الإسلام؟
الله الله في المحافظة على شعائر السلام دخولاً وخروجاً واستئذاناً، وزيارة، لنبقى مسلمين، وهذه قضايا تطول وتطول ... ولعل الله أن يهيئ من الأوقات ما يسمح لنا بالتعرف على شعائر الإسلام التي ينبغي لنا أن نحافظ عليها، لنكون معظمين لله الواحد الأحد، معظمين للإسلام وعمق الإسلام، وثقافة الإسلام، ودين الإسلام.
* عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، وأعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، اللهم وفقنا في اتباع سنته، والسير على منهجه، اللهم ارض على أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] أخرجه البخاري (8/96) كتاب الفتن، باب (17)، ومسلم (1/129) كتاب الإيمان، رقم (231).
[2] أخرجه البخاري (6/46) كتاب التفسير (سورة الحجرات)، ومسلم (1/110) كتاب الإيمان، رقم (187).(/16)
العنوان: تعقيب على تعقيب الشيخ القاري
رقم المقالة: 596
صاحب المقالة: عبدالله بن صالح العجيري
-----------------------------------------
تعقيب على تعقيب
بين الشيخ القاري والشيخ السقَّاف
في مسألة التبرك بالآثار النبوية المكانية
اطَّلعت على مقالة لفضيلة الشيخ عبدالعزيز القاري - حفظه الله - يتعقب فيها ما كتبه الشيخ (علوي بن عبدالقادر السقَّاف)، بخصوص ما أثاره الأول من القول بجواز التبرك بالآثار النبوية المكانية، وذلك في كتابه "الآثار النبوية بالمدينة المنورة.. وجوب المحافظة عليها، وجواز التبرك بها".
ولقد أحسن الشيخ السقَّاف في ردِّه غاية الإحسان، وكفى من بعده تبعة الرد أو البيان، وبيَّن بالأدلة الشرعية الصحيحة عدم جواز ذلك التبرك، وبدعيته، وأنه على خلاف الهَدْي الأول؛ فعاد الشيخ القاري - حفظه الله - في مقاله هذا للانتصار لرأيه بالجواز، في محاولة لإقامة ما يراه من الأدلة، والرد على بعض الإشكالات التي أثيرت عنها، وجمهور ما ذكره الشيخ في تعقيبه هذا إنما هو تكرارٌ لنفس الشبهات التي ساقها في كتابه الأصل، إضافةً إلى لون تراجع أو توضيح بخصوص هذه المسألة، مع إعراضٍ عن بعض ما أورده الشيخ السقَّاف من أدلة وإشكالات، ونسبة بعض القضايا إليه، وهو منها بريء.(/1)
فأحببت تقييد بعض الكلمات بخصوص تعقيب الشيخ هذا، تنبيهاً للقارئ على جملة من القضايا التي أرى أن الشيخ كان - ولا زال - مجانباً للصواب فيها، مُذكِّراً ببعض ما سبق إلى ذكره الشيخ السقَّاف في تعقبه على الشيخ القاري، وذلك لظني أن جملةً عريضةً من القرَّاء - وللأسف - قد يتأثر بكلام المتأخر في المناقشات العلمية، لمجرد كونه آخر المتكلمين، دون أن ينظر في أدلة الفريقَيْن، ويرى أيَّ القولين أقرب إلى الحق والدليل، ولأني أحسب أن البعض قد لا يقرأ مقال الشيخ السقَّاف - حفظه الله - إلا عبر مقال الشيخ عبدالعزيز، وبعيونه، ووفق فهمه، الذي سيظهر أن الشيخ - غفر الله له - لم يكن مصيباً في فهم كثير من كلام الشيخ السقَّاف؛ فلم يحسن الجواب عليه. أسأل الله أن يغفر لنا وله ولعموم المسلمين.
وأهم القضايا التي سيتم معالجتها -إن شاء الله- في هذه المقالة، التي أرى أن الشيخ لم يكن موفقاً في معالجتها:
- توضيحٌ لحقيقة التبرك بالآثار النبوية المكانية، بين ما ذكره الشيخ القاري في تعقيبه، وما أورده في الكتاب.
- عودة الشيخ إلى الاستدلال بنصوص خارجة عن محل البحث.
- حقيقة موقف الإمام مالك من التبرك بالآثار النبوية المكانية.
- اتهام الشيخ القاري للشيخ السقَّاف بإنكار التبرك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً.
- اتهام الشيخ للشيخ السقَّاف بتوقيت البركة النبوية، وأن للتبرك بآثاره مدة صلاحية لا تصلح بعدها تلك الآثار للتبرك.
- إصرار الشيخ على نسبة القول بجواز التبرك بالآثار النبوية المكانية للشيخ عبدالعزيز بن باز، وبراءة الشيخ ابن باز من ذلك.
- موقف جمهور الصحابة من تتبع ابن عمر لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وما نسبه الشيخ إليهم.
- حقيقة الفرق بين مذهب ابن عمر في تتبع الآثار النبوية، وما يريد الشيخ تقريره في هذه المسألة، وأن الشيخ لا سلف له من الصحابة فيما يذهب إليه.(/2)
وغيرها من المسائل التي ستراها بإذن الله - جلَّ وعلا - في هذه المقالة. أسأل الله لي وللشيخ التوفيق والسداد.
ولستُ بحاجة هنا للتأكيد على تقديري للشيخ عبدالعزيز، ومحبتي له، ومعرفتي لفضله وعلمه -حفظه الله - فإن هذه كلها محفوظة له، ولكنها لا تمنع المُحِبَّ أن يراجع، وأن ينقد، وأن ينصح، شريطة أن يكون بعلم وحِلْم، وإني لأرجو أن يكون فيما سيأتي علماً نافعاً، وحلماً يكسر حدَّة القلم، فإلى بعض الملاحظات والاستدراكات على مقال الشيخ عبدالعزيز القاري "الآثار النبوية.. تعقيبٌ على تعقيب"، والمنشور في موقع (الإسلام اليوم)، بتاريخ 13/2/1428هـ:
1- بيَّن الشيخ في أول تعقيبه مقصوده بالتبرك بالآثار المكانية؛ فقال: "والمقصود بالتبرك بالأماكن النبوية هو: قَصْدُها للصلاة فيها والدعاء، أو المكث بها"، وقال: "ولكن مقصودنا - أنا وغيري - بالتبرك بالأماكن النبوية هو: قصدها للصلاة فيها والدعاء، أو المكث بها".
وهذا التنبيه من الشيخ لم يرد له ذكر في كتابه على هذا النحو، وأحسب أنه يعد لوناً من التراجع، أو التوضيح لما في كتابه من إطلاقات لكلمة التبرك، دون تقييد لها بما ذُكر هنا، بدءاً بعنوان الكتاب "الآثار النبوية بالمدينة المنورة.. وجوب المحافظة عليها، وجواز التبرك بها"، مروراً بكلمات الشيخ وإطلاقاته في أثناء الكتاب، وكان الأوْلى بالشيخ أن ينصَّ صراحةً على هذا الضابط للتبرك بالآثار النبوية المكانية في الكتاب؛ دفعاً للَّبس؛ إذ لفظة التبرك -كما لا يخفى- لفظةٌ مجملةٌ، يدخل تحتها أنواعٌ وأجناسٌ من الأفعال التي يُتطلب بها بركة الشيء؛ كاللمس، والتمسُّح، وغيرها.(/3)
وتقييد الشيخ هنا للتبرك وفق المعنى المذكور، وقصره على هذه الأنواع الثلاث – الصلاة، والدعاء، والمكث - دون غيرها، مما يخفف من حجم الخلاف - بحمد الله - لكنه لا يلغيه بالكلية؛ إذ القول بالتبرُّك بالأماكن التي لبث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة - على المعنى المذكور - مما يُنازع فيه الشيخ، ولا يُسلَّم له - كما سيتضح - بل هو قولٌ لم يقل به أحدٌ من الرعيل الأوَّل.
2- عاد الشيخ للتدليل على قوله بمشروعية التبرك بنفس الأدلة التي استدل بها في كتابه الأصل، فأورد في تعقيبه أحاديث عتبان، وسلمة، وجابر، وغيرها، مستدلاً بها على جواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية، وعذراً إن أعدت بعضاً مما ذكر في مناقشة هذه الأدلة؛ فإن الشيخ أعاد ذكر أدلته، دون أن يورد وجهاً جديداً يحسن التعلُّق به في تقوية ما ذهب إليه! وجمهور ما ذكره الشيخ من أدلة في كتابه ومقاله هو في الحقيقة خارجٌ عن بحث مسألتنا، وعن محل النزاع؛ وبيان ذلك:
أن الشيخ عبدالعزيز – حفظه الله - يقول بمشروعية التبرك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بالصلاة، أو الدعاء، أو المكث، سواءٌ صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المكان أو لم يصلِّ، وسواءٌ قصدها النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة أو لم يقصد، لكن ما أورده من أدلة لا تصحِّح له هذه الدعوى.(/4)
فهو حين يستدل، يستدل بأحاديث في قصد ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصده من الأماكن للصلاة، وذلك كتحري سلمة - رضي الله عنه - الصلاة في المكان الذي (يتحرَّاه)! النبي - صلى الله عليه وسلم – للصلاة. وفرقٌ كبيرٌ بين ما يريد الشيخ تقريره من هذا الحديث، وما يدل عليه ظاهر الحديث، وفرقٌ كبيرٌ بين أن يقصد العبد ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأماكن لأداء عبادة من العبادات، وقصد العبد لمكان لم يقصده النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما وقعت العبادة منه فيه اتفاقاً، فلسنا ننازع الشيخ في مشروعية تحري ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحراه من الأماكن أو الأوقات أو الأحوال للصلاة أو الدعاء، إنما المنازعة في تحري ما لم يتحراه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقصده على وجه الخصوص من الأماكن؛ بل وقعت منه الصلاة - مثلاً - على وجه الاتفاق في مكان من الأماكن، دون أن يكون لذات المكان خصوصية.
وحديث سلمة السابق وإن أورده الشيخ - حفظه الله - كما هو في "الصحيحين" في بداية المقال، بإثبات (تحري) النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة في ذلك المكان، لكنَّ هذا التحري الوارد سقط من نص الأثر في آخر المقال؛ فجاء هكذا: "فسلمة - رضي الله عنه - تحرّى المكان الذي كان يصلي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من روضته الشريفة".
وشتَّان بين أن يُتحرى ما كان يتحراه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو نص الأثر، وبين أن يتحرى ما صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم.(/5)
والشيخ يرى أن ما وقع من سلمة وغيره إنما كان على سبيل التبرُّك بالبقعة التي مكث فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس على سبيل التأسِّي والاقتداء، وأنَّ حَمْل هذا النص على هذَيْن لا يصح. يقول - حفظه الله -: "وأما القول بأنه من باب الاقتداء بالنبي والتأسِّي به - صلى الله عليه وسلم - فهذا لا يصحُّ هنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُقال إنه كان يتبرَّك بنفسه! إنما يصح هذا القول إذا كان المقصود الفعل، وهو الصلاة.. ولكن في هذه النصوص التي أوردناها الكلام كله يدور عن المكان، وليس عن الصلاة، فسلمة - رضي الله عنه - تحرّى المكان الذي كان يصلي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من روضته الشريفة، ولم يتحرَّ فعله، الذي هو الصلاة، حتى يسوِّغ لك أن تقول: إن مقصوده الاقتداء والتأسِّي". اهـ.
وهذا الكلام غير صحيح؛ بل كان سلمة - رضي الله عنه - يتحرَّى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصلاة في المكان الذي تحرَّاه، فكيف يقال بعد ذلك: "ولم يتحرَّ فعله، الذي هو الصلاة"؟!
وعليه: فما وقع من الصحابة - من هذا الجنس - وقع تأسِّياً به في صورة الفعل، وفي القصد والمكان، وليس للتبرُّك كما زعم الشيخ، والذي لا ذكر له مطلقاً في هذه النصوص جميعاً، فكيف يُترك ما نُصَّ عليه في الحديث إلى ما لم يُنصّ عليه.
وإني لا زلت أعجب من تمسك الشيخ بحديث سلمة هذا، مع كونه خارج محل النزاع ودائرة البحث!!(/6)
ولتأكيد ذلك أقول: الشيخ - حفظه الله - يستدل بالحديث على مشروعية الصلاة والدعاء والمكث في كل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة، ولازم ذلك أن سلمة - رضي الله عنه - كان يتتبع مجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتحرَّاها بصلاته ودعائه، لكن حقيقة الأمر: أنه ما كان يتحرَّاها - لا هو ولا غيره - بفعل شيء من ذلك، إنما كان يقتصر على ما تحرَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصده من الأماكن، وهذا بيِّنٌ بحمد الله.
أما حديث عتبان - الذي فيه: "... وددتُ يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي؛ فأتخذه مصلّى. قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سأفعل إن شاء الله))... الحديث - فلا يخرج عمَّا تقدَّم من قصد ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم.
وذلك أن عتبان أحبَّ أن يتخذ في بيته مصلّى، فطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي فيه، فوافقه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى في مكان مخصوص؛ نزولاً عند رغبة عتبان - رضي الله عنه - فأين في الحديث مشروعية الصلاة بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة؟! وأين في الحديث ما يدلُّ على جواز التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم – المكانية؟!! ولو كان الأمر على ما يريده الشيخ؛ لم يلزم أن يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت عتبان؛ بل كان يكفي أن يلبث - ولو لمدة قصيرة - في مكان من البيت، ليُتخذ هذا المكان مصلّى؟!
وأُذكِّر هنا بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - في هذا الحديث - وإن لم يَرُقْ للشيخ - فإن كلامه - رحمه الله - كلامٌ سديد، لا غبار عليه.(/7)
يقول - عليه رحمة الله -: "فإنه قصد أن يبني مسجداً، وأحبَّ أن يكون أوَّل من يصلِّي فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأن يبنيه في الموضع الذي صلَّى فيه، فالمقصود كان بناء المسجد، وأراد أن يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكان الذي يبنيه؛ فكانت الصلاة مقصودةً لأجل المسجد، لم يكن بناء المسجد مقصوداً لأجل كونه صلى فيه اتفاقاً، وهذا المكان مكان قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فيه ليكون مسجداً؛ فصار قصد الصلاة فيه متابعةً له، بخلاف ما اتفق أنه صلى فيه بغير قصد". [مجموع الفتاوى: 17/467].
أما استدراك الشيخ القاري على الشيخ السقَّاف تنبيهه على ما أورده (الحافظ ابن حجر) من احتمالات في فهم حديث عتبان، وقوله بضعفها، فبعضها ضعيفٌ صراحةً، لكنَّ الشيخ السقَّاف ما أراد بذكرها إلا التنبيه على الخلاف في فهم الحديث، وأن الكاتب - غفر الله له - اقتصر على جزء من كلام الحافظ، وأعرض عن جزء، وأن دلالة الحديث على جواز التبرُّك ليست قطعية كما ادَّعى الشيخ في كتابه، وكرره في مقاله هذا؛ بل لا دلالة في الحديث على ما يريده الشيخ من تجويز هذا التبرُّك، فضلاً عن كون تلك الدلالة المزعومة دلالة قطعية.
وأما قول الشيخ عبدالعزيز: "وأبعد من ذلك قول أخي الشيخ السقَّاف: كل ما في الأمر أن عتبان كلَّ بصره، وفعل فعلاً كان يُرى عليه فيه غضاضة - وهو صلاته في بيته - فأراد إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له على فعله. وأقول لأخي إن هذا جيل البلاغة والبيان، أما كان يمكنه أن يقول: يا رسول الله، هل تجد لي رخصةً أن أصلي في بيتي؟ فيقول له الرسول: لا أجد لك رخصة، أو: افعل ولا حرج. فأين منطوق الحديث ودلالته الظاهرة من هذه التأويلات البعيدة المتكلَّفة". اهـ.(/8)
ويريد الشيخ هنا الاعتراض على ما ذكره الشيخ السقَّاف من حمل الحديث على المعنى المذكور، وبيان أنه أبعد من القول بأن عتبان أراد من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعْلِمَه باتجاه القبلة على وجه القطع، ولا شك أن ما ذكره الشيخ السقَّاف هنا ليس بأبعد ولا أضعف من هذا القول؛ بل ذاك القول هو الأضعف الأبعد، ومن تأمَّل في سياق نصِّ الحديث كاملاً، رأى أن هذا المعنى الذي أبداه الشيخ السقَّاف ممكنٌ محتملٌ، وليس كما يصوِّره الشيخ - غفر الله له - وإليك النصّ تامّاً - بين يديك - لتتأمل فيه:
"عن عتبان بن مالك - وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد بدراً من الأنصار -: أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، قد أنكرتُ بصري، وأنا أصلِّي لقومي، فإذا كانت الأمطار، سال الوادي الذي بيني وبينهم، فلم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي، فأتخذه مصلَّى. قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سأفعل إن شاء الله)). قال عتبان: فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنتُ له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: ((أين تحب أن أصلِّي من بيتك؟)). قال: فأشرتُ إلى ناحية من البيت؛ فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبَّر، فقمنا فصففنا، فصلى ركعتين، ثم سلَّم..." الحديث؛ رواه (البخاري: 425).
وبكل حال؛ فليس في النص دليلٌ على ما يريده الشيخ من تجويز التبرُّك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق.(/9)
وأما ما ذكره الشيخ بخصوص الواقدي، وما رواه عن الصحابة وأهل المدينة من قصدهم لمسجد عتبان للصلاة، فالواقدي - كما يعلم الشيخ - متروكٌ كذَّاب، ولا يصلح لمسألتنا هذه التعلُّق بروايته - مع كونه حافظاً لجملة واسعة من التواريخ، وكونه وعاءً من أوعيته - إذ مسألتنا من مسائل الدين والشريعة، التي لا يصلح أن يُستدل فيها إلا بالأخبار الصحيحة الثابتة، وهذا ما لا ينبغي أن يُختلف عليه، وليت الشيخ إذ أراد الاستدلال برواية الواقدي المتروك أن يبين - ولو أطال - الموقف العلمي الصحيح من رواية الواقدي وأمثاله؛ حتى نتبين وجه الحُجَّة، وإني لأعجب من وصف الشيخ لرواية الواقدي (بالثبوت)، وهو المتروك في علم الرواية!!
ثم نقولُ: فهب أن الصحابة كانوا يصلُّون في ذلكم المسجد؛ بل ويقصدونه للصلاة، فما الضير في ذلك، وقد قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة فيه نزولاً عند رغبة عتبان، وليكون ذلك المكان مصلَّى؟!
أما حديث جابر: فلو سُلِّم بصحة ما جاء من قصد جابر للدعاء في مسجد الفتح فيما بين الأذانين، على ما في رواية "الأدب المفرد"؛ فليس ذلك من قبيل التبرُّك بذلكم المكان، وإنما هي المتابعة والتحرِّي لِمَا قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد تحرَّى الدعاء في هذا المسجد - في وقت مخصوص - ثلاثة أيام متتالية، فاستجيب له في آخرها! فليس فيه دليلٌ على ما يريده الشيخ من جواز التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية - كما لا يخفى - بل غاية الأمر متابعةٌ فعلها جابر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه، في مكان وزمان مخصوص.(/10)
فما سبق دالٌّ على أن دعوى الشيخ بجواز التبرُّك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أوسع من دلالة ما أورده من نصوص، فالشيخ يقول بمشروعية التبرُّك – الصلاة، والدعاء، والمكث - بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة، وما أورده دالٌّ على مشروعية قصد ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة أو الدعاء من الأماكن، دون ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - اتفاقاً، وليت شعري؛ لِمَ اقتصر هؤلاء الصحابة على فعل ما فعلوا في أماكن مخصوصة، مادام كل موطن لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحاً لذلك؟!!
3- يتضح بهذا: أن ما أورده الشيخ عقب أثر سلمة السابق من كلام الإمامين الكبيرَيْن مالك وأحمد لا مورد له في تقرير مسألتنا، فغاية المنقول عن مالك موافقٌ للمنقول عن سلمة، وهو ما لا نُنازع فيه، وليس في كلامه - رحمه الله - جواز التبرُّك بكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة.
يقول الشيخ عبدالعزيز: "ومن هذا الحديث - أي حديث سلمة - أخذ مالك -إمام دار الهجرة، رحمه الله - استحباب أن يصلِّي النوافلَ في هذا المكان؛ كما في (البيان والتحصيل لابن رشد: 17/133): ".. روى ابن وهب، عن مالك، أنه سُئل عن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل له: أيُّ المواضع أحبُّ إليكَ الصلاة فيه؟ قال: أمَّا النافلة؛ فموضع مصلاَّه، وأما المكتوبة؛ فأوَّل الصفوف". فالأمر لا يعدو تحرِّياً لما تحرَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأماكن، كتحرِّيه للصلاة في مسجد قُبَاء، وخلف مقام إبراهيم عقب الطواف.. وهكذا، وليس هذا محلُّ النزاع - كما تقدَّم.
وإني أُذكِّر - وليعذر القارئ - بما نقله الشيخ السقَّاف من كلام الإمام مالك بخصوص هذه المسألة، الذي أعرض الشيخ عنه، ولم يعلِّق عليه!(/11)
قال ابن وضَّاح القرطبي في (البدع والنهي عنها: ص108): "وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي - صلى الله عليه وسلم – ما عدا قُباءً وأُحُداً – يعني: شهداء أحد".
وقال ابن بطَّال في (شرح البخاري: 3/159): "روى أشهب، عن مالك، أنه سئل عن الصلاة في المواضع التي صلى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يعجبني ذلك؛ إلا مسجد قباء".
وأزيد هنا ما ذكره الحافظ ابن عبدالبر، عن الإمام مالك، مما له صلة بمسألتنا. يقول - عليه رحمة الله -: "وقد كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بُويع تحتها بيعة الرضوان، وذلك - والله أعلم - مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى في مثل ذلك" (الاستذكار: 2/360).
فلِمَ الإعراض عن هذه الأقوال الصريحة لمالك - عليه رحمة الله - والتعلق بقول خارج عن محل بحثنا؟!
أمَّا الإمام أحمد: فمن الغريب أن ينقل الشيخ هنا خبر التبرُّك بشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأن ثمَّة منازعة في مشروعية ذلك، أو أن الشيخ السقَّاف لا يقول به، وهو ما حاول الشيخ أن يُلِّمح إليه في مقاله، وهو ظلمٌ يُنسب للشيخ السقَّاف، وخطأٌ يُحمل عليه، كما سيأتي.
4- من الغريب محاولة الشيخ عبدالعزيز إظهار الشيخ السقَّاف في مظهر المنكر للتبرُّك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، ومن المعلوم لكل من قرأ مقال الشيخ السقَّاف: أنه قائلٌ بمشروعية التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المنفصلة منه؛ كشَعْره، ورِيقِه، وعَرَقه... وغيرها، أو ما لامسه؛ كقصعته، وثيابه... وغير ذلك، لكنه يقول باندراس هذا التبرُّك المشروع؛ لاندراس هذه الآثار، وفرقٌ كبيرٌ بين مَنْ ينكر أصل مشروعية هذا اللون من التبرُّك، وبين مَنْ يقول: هو مشروعٌ، لكنه لا يمكن في هذه الأعصار؛ لانعدام ما يُتبرَّك به.(/12)
ثم إن كلام الشيخ عبدالعزيز في تصوير موقف الشيخ من هذه القضية لا يخلو من إيهام - أرجو أن لا يكون مقصوداً - قال الشيخ عبدالعزيز: "فإن الأخ الفاضل (علوي بن عبدالقادر السقَّاف) لا يعترف بمشروعية التبرُّك مطلقًا؛ لا بالآثار التي هي جزءٌ من جسده الشريف؛ كشعره، أو لامست جسده الشريف - صلى الله عليه وسلم - كثيابه وقصعته؛ لأنها اندرست، فاندرس معها التبرُّك بها، ولا بالآثار النبوية المكانية؛ لأن التبرك بها مرفوضٌ عنده؛ مع وجودها وتوافرها؛ إذن فلا تبرك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بأيِّ حال؛ فهو منفيٌّ عنده جملةً وتفصيلاً"!!
وإني لأتساءل: هل يقول الشيخ القاري بمشروعية التبرُّك بهذه الأمور جميعاً ليُنكر على الشيخ السقَّاف هذا الإنكار، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟!
وأمَّا ما أثاره الشيخ في نهاية المقال، بقوله: "وإنني أتعجب من هذه العقدة في نفوس البعض من إثبات البركة النبوية، والتلهُّف إلى نفيها بالكليَّة؛ لأنها أصبحت مرتبطة في أذهانهم بالشرك والبدعة"، فليس من العدل ولا الإنصاف في محاكمة الخصوم، وإنها لتهمةٌ كبيرةٌ عريضةٌ، أُعظِم أن تخرج من مثل الشيخ، أو تصدر عنه، وإني لأحرج على الشيخ أن يقولها أو ينطق بها غاية التحريج، ووالله لو كان في الأدلة الشرعية ما يصحِّح دعوى الشيخ؛ لأخذنا به، ونشرناه، وأذعناه، ولوضعناه فوق رؤوسنا؛ لكننا نظرنا في خطابات الشارع وأحوال الصحابة، فلم نر فيها ما يدل - أدنى دلالة - على ما يريده الشيخ؛ فليست المسألة مسألة عقدة في إثبات البركة النبوية – وحاشا - فهي والله لثابتة له - صلى الله عليه وسلم - لكنه الدوران مع الأدلة الشرعية حيث دارت، فما أثبتته الشريعة من ألوان التبرُّك أثبتناه، وما لم تثبته تركناه.(/13)
5- من الغريب كذلك محاولة الشيخ - غفر الله له - أن ينسب للشيخ السقَّاف قولاً غريباً، وهو أن آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بركةٌ مؤقتةٌ، ووقتاً لا تصلح بعده للتبرك!!
يقول الشيخ عبدالعزيز: "فالبركة النبوية إذن – عند أخي السقَّاف - لها وقت معين، تنتهي صلاحيتها بانتهائه، من غير أن يحدد وقت هذه الصلاحية؛ بل يطلق كلامًا مبهمًا: "سنوات معدودات"... ولا شك أن مئتي سنة فأكثر تعتبر خارجة على هذا التوقيت؛ حيث كان الإمام أحمد (المتوفَّى سنة 241 هـ) يتبرك بتلك الشعرة النبوية – وفي رواية أنها ثلاث شعرات، (انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/337) - وكذلك لمَّا تبرّك بقصعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن مئتي سنة ليست مدة قليلة، ولا "سنوات معدودة". والتحديد الزمني يحكَّم بلا دليل، والصواب أنه لا توقيت للتبرُّك بأشياء النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بأجزاء جسده الشريف – كشعره - مادامت باقية، وغلب على الظن نسبتها إليه - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو ما يُفهم من صنيع الإمام أحمد - رحمه الله".
وهذا الكلام فيه ما فيه من التعدي والتجاوز في نسبة قول لا يقول به الشيخ قطعاً؛ بل الشيخ يقول بمشروعية التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه المتقدِّم، ما دامت الآثار موجودة، أمَّا إذا عُدِمَت؛ فكيف يمكن أن يقع التبرُّك؟
أما ما يحاول الشيخ – غفر الله له - نسبته للشيخ السقَّاف؛ من أن لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - مدةً مخصوصةً يُتبرَّك بها، وأنه متى ما انتهى ذلكم الوقت؛ انتهت صلاحية الأثر للتبرُّك، مع بقاء عينها، فنسبةٌ باطلة، وإلزامٌ للشيخ بما لا يلزمه، وقد نقل الشيخ كلام الشيخ السقَّاف في هذه المسألة، وليس فيه ما يدلُّ على هذا الكلام.(/14)
يقول الشيخ السقَّاف: "أما آثاره، سواءٌ كانت جزءًا منه ثم انفصلت عنه، أو خارجةً عنه لكنها لامست جسده الطاهر؛ فهذه هي التي كان الصحابة يتبرَّكون بها دون توسع، وربما استمر الأمر على ذلك سنوات معدودات ممن أتى بعدهم، ثم انقرضت الآثار، وانقرض تبعًا لذلك هذا التبرُّك". وهو صريحٌ في أن سبب انقراض هذا التبرك هو انقراض الأثر، لا انتهاء مدة صلاحية الأثر للتبرُّك، وهو ما أوهمه الشيخ عبدالعزيز - غفر الله له – نعم؛ لو عبَّر الشيخ السقَّاف بغير قوله "سنوات معدودات" لكان أحسن؛ دفعاً للإيهام، أما الكلام بمجموعه؛ فبيِّنٌ صريحٌ، لا إشكال فيه.
6- من العجيب كذلك إصرار الشيخ - غفر الله له - على نسبة القول بجواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية للشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- وذلك في قوله ردّاً على الشيخ السقَّاف: "وسكتّ عن إقرار الشيخ (عبدالعزيز بن باز) لدلالة حديث عتبان على التبرُّك بالآثار المكانية، وذلك يوحي بأنني حمَّلتُ كلام الشيخ ابن باز - رحمه الله - ما لا يحتمل، حين نقلتُ عبارته الواضحة من (هامش فتح الباري)".(/15)
وقال: "وحتى الشيخ ابن باز؛ أيَّد ولم ينكر دلالة حديث عتبان على مشروعية التبرُّك بالأماكن النبوية". ونسبة هذا القول للشيخ ابن باز باطلة بيقين، وقد نقل الشيخ السقَّاف كلاماً صريحاً للشيخ عبدالعزيز بن باز في إنكار مشروعية ما ينادي به الشيخ القاري، فأعرض الشيخ - غفر الله له - عن نقله، مع وضوحه وصراحته، واطِّلاعه عليه، يقول الشيخ ابن باز - رحمه الله -: "والحق أن عمر - رضي الله عنه - أراد بالنهي عن تتبع آثار الأنبياء، سدّ الذريعة إلى الشرك، وهو أعلم بهذا الشأن من ابنه - رضي الله عنهما - وقد أخذ الجمهور بما رآه عمر، وليس في قصة عتبان ما يخالف ذلك؛ لأنه في حديث عتبان قد قصد أن يتأسَّى به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، بخلاف آثاره في الطرق ونحوها؛ فإن التأسِّي به فيها وتتبعها لذلك غير مشروع، كما دل عليه فعل عمر، وربما أفضى ذلك بمن فعله إلى الغلوِّ والشرك؛ كما فعل أهل الكتاب،، والله أعلم". (هامش فتح الباري: 1/569).
فلو قُدر أن الشيخ ذهل عن هذا الكلام مع وجوده في إحدى صفحات "الفتح"، التي نقل منها الشيخ كلاماً للحافظ ابن حجر، وكان تعليق الشيخ ابن باز استدراكاً على نفس كلام الحافظ المنقول؛ أقولُ: لو قُدِّر ذلك، فما بال الشيخ - غفر الله له - يعرض عنه بعد اطِّلاعه عليه في كلام الشيخ السقَّاف!!
بل للشيخ ابن باز جملة من الفتاوى الدالة على عدم مشروعية تتبع الآثار النبوية، فضلاً عن التبرُّك بها؛ فمن ذلك قوله - مثلاً - في حكم قصد المساجد السبعة بالمدينة ومسجد القبلتين: "أما المساجد السبعة، ومسجد القبلتين، وغيرها من المواضع التي يذكر بعض المؤلفين في المناسك زيارتها؛ فلا أصل لذلك، ولا دليل عليه، والمشروع للمؤمن - دائماً - هو الاتباع دون الابتداع" (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة: 6/321).(/16)
ويقول كذلك في فتوى أخرى: "وأما ما نُقل عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - واستلامه المنبر؛ فهذا اجتهادٌ منه - رضي الله عنه - لم يوافقه عليه أبوه، ولا غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أعلم منه بهذا الأمر، وعلمهم موافقٌ لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وقد قطع عمر - رضي الله عنه - الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها، ويصلُّون عندها؛ خوفاً من الفتنة بها، وسدّاً للذريعة" (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة: 9/109).(/17)
ويقول كذلك: "لا يجوز للمسلم تتبع آثار الأنبياء؛ ليصلي فيها، أو ليبني عليها مساجد؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - ينهى الناس عن ذلك، ويقول: "إنما هلك من كان قبلكم، بتتبعهم آثار أنبيائهم"، وقطع - رضي الله عنه - الشجرة التي في الحديبية، التي بويع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحتها؛ لما رأى بعض الناس يذهبون إليها ويصلون تحتها؛ حسماً لوسائل الشرك، وتحذيراً للأمة من البدع، وكان - رضي الله عنه - حكيماً في أعماله وسيرته، حريصاً على سدِّ ذرائع الشرك، وحسم أسبابه؛ فجزاه الله عن أمة محمد خيراً. ولهذا لم يبن الصحابة - رضي الله عنهم - على آثاره - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة وتبوك وغيرهما مساجد؛ لعلمهم بأن ذلك يخالف شريعته، ويسبب الوقوع في الشرك الأكبر، ولأنه من البدع التي حذر الرسول منها - عليه الصلاة والسلام - بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ))؛ متفقٌ عليه من حديث عائشة - رضي الله عنها. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ)؛ رواه مسلم في "صحيحه". وكان - عليه الصلاة والسلام - يقول في خطبة الجمعة: ((أما بعدُ، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))؛ خرجه مسلم في "صحيحه"، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله". (مجموع فتاوى ومقالات: 17/421).
فهذا كلام الشيخ ابن باز، فهل يصحُّ بعد ذلك أن يُنسب القول بجواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية إليه؟!(/18)
7- نقل الشيخ كلاماً لإسحاق بن راهويه في معرِض كلامه عن عدم الفرق بين التبرُّك بالمكان، وبين التبرُّك بما اتصل من المكان بجسد النبي - صلى الله عليه وسلم - كالتراب ونحوه، وذلك في معرِض ردِّه على الشيخ السقَّاف، في بيان الفرق، وأنه بتقدير جواز التبرُّك في الثاني، لوجود عَيْن لامست جسد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يجوز التبرُّك بالمكان بعد انعدام تلك العَيْن، فأتى الشيخ بكلام إسحاق؛ لبيان عدم تفريق السلف بين المسألتين؛ فقال: "وعبارة إسحاق بن راهويه - شيخ الإمام أحمد - تدل على أن السلف لا يفرقون بين هذين القسمين. يقول: "ومما لم يزل من شأن من حج؛ المرور بالمدينة، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتبرُّك برؤية روضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه، وملامس يديه، ومواطئ قدميه".
فيقال أولاً: ليس إسحاق بن راهويه بشيخ للإمام أحمد، وإنما هو من أقرانه، وأحمد أسنُّ منه، ولا ضير أن روى أحمد عن إسحاق؛ فإن روايته عنه لا تصيره تلميذاً له؛ بل هي من قبيل رواية الأقران، ولعل الشيخ أراد أن يُضفي على كلام إسحاق نوع جلالة بذكر هذه المشيخة، ويستميل قلوب القراء بهذا الأسلوب.
ويقال ثانيا: ليس في كلام إسحاق ما يُتعلَّق به في شأن مسألتنا؛ إذ غاية ما في كلام إسحاق أن الحجاج بعد فراغهم من حجهم، يقصدون المدينة للصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولتكتحل عيونهم بمرأى مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتبركوا (برؤية) روضته، (ورؤية) منبره، (ورؤية) قبره، (ورؤية) مجلسه، (ورؤية) ملامس يديه، (ورؤية) مواطئ قدميه. وإني لأعتذر للقارئ عن تكرار كلمة (رؤية)؛ لأنها مقصودةٌ في العطف في كلام إسحاق، كما هو بين واضحٌ، وإلا فهل يُتصوَّر في إسحاق أن يبيح التبرُّك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم!!(/19)
ولقد كنتُ في غنى عن هذا التعليق؛ لولا أن الشيخ عبدالعزيز - غفر الله له - قد علَّق على كلمة إسحاق فقال: "فالروضة الشريفة يُتبرَّك برؤيتها، والمكث بها، والصلاة فيها من باب أوْلى، ومنبره - صلى الله عليه وسلم - يُتبرَّك بالتمسُّح به - كما كان يفعل الصحابة - ومنبره اندرس، ولم يبق منه شيءٌ، لكن بقيت البقعة؛ فيُتبرَّك بالمكث بها - إن أمكن. وأما قبره، وجدار الحجرة النبوية التي بها قبره وقبرا صاحبيه؛ فلا يوصل إلى شيء من ذلك ليتبرَّك به؛ لأنه أُحيط بالجدران الثلاثة. وأما مجلسه – أي: الأماكن التي كان يجلس بها؛ كأسطوانة الوفود، وأسطوانة السرير - فيُتبرَّك بالجلوس فيها والدعاء والصلاة".
وليت شعري؛ لو أمكن للشيخ أن يصل لقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفيجيز التبرُّك ساعتئذٍ؟! ظاهر عبارته: نعم، وهو باطلٌ بيقين، وقد كان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يوصَل إليه زمن الصحابة؛ فهل عُرف عن واحد منهم التبرُّك به، بأي لون من ألوان التبرُّك؟! وحاشا إسحاق - رحمه الله - أن يقول بجواز التبرُّك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبارته كما تقدَّم لا تدلُّ عليه.
8- من الغريب جدّاً ظن الشيخ أن مخالفيه في هذه المسألة يَعتقدون أن هذا اللون من التبرُّك - الذي يعتقده الشيخ - لونٌ من ألوان الشرك؛ فيقول: "هنا قاعدة مهمة: عدم المخالفة يدل على الموافقة في هذه المسائل؛ لأن مسألة التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية لو كانت مرتبطة بالشرك؛ لما سكت الصحابة، وكذلك التابعون؛ فإنهم لا يسكتون على منكر؛ فكيف يسكتون على شرك؟!".(/20)
وكنتُ أربأ بالشيخ أن يتهم مخالفيه بمثل هذه التهمة، دونما مستند أو دليل، ثم يبني عليها مثل هذا الكلام؛ ليجعله دليلاً على المطلوب، والمخالفة في هذه المسألة لا تصل بصاحبها حدَّ الشرك - كما لا يخفى- فما بناه الشيخ على وصف الشرك - والحالة هذه - غير وارد. ثم نقول: ليس في أفعال الصحابة والتابعين تبرُّك بالبقعة - كما تقدَّم - بل غاية ما ثبت موافقة بعضهم لقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - لبقعة معينة، وما وقع من بعضهم من قصد ما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم – اتفاقاً، فليس من قبيل التبرُّك كما يظنه الشيخ، وهذا ما سيتضح في نهاية المقال - إن شاء الله - ثم إنكار ما يريده الشيخ موجودٌ من فعل عمر؛ فلما الإعراض عنه، والتكلُّف في تأويله؟!
9- أعاد الشيخ في ردِّه هذا الكلام على أثر عمر، والمروي عن المعرور بن سُوَيْد، في محاولة لتضعيف دلالة الحديث على عدم مشروعية تَقَصُّد ما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنازل اتفاقاً. يقول المعرور بن سُوَيْد: "وافيتُ الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما انصرف إلى المدينة وانصرفت معه، صلى لنا صلاة الغداة، فقرأ فيها: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل} [الفيل: 1] و: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]، ثم رأى أناساً يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجداً ها هنا صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما أُهلك من كان قبلكم بأشباه هذه، يتبعون آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبِيَعاً، ومَنْ أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله؛ فليصلِّ فيها، ولا يتعمدنَّها".(/21)
ولا شك أن هذا الأثر في غاية القوة في الدلالة على عدم مشروعية تتبُّع المواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفاقاً، وتَقَصُّد الصلاة فيها، ومع ذلك فالشيخ مُصِرٌّ أنه لا دلالة لهذا الأثر؛ فيقول: "وأما حديث عمر الذي رواه المعرور بن سُوَيْد؛ فأجاب عنه الحافظ ابن حجر، وملخص الأجوبة: أنها واقعة عَيْن، ولها أسبابٌ كانت حاضرة في تلك الواقعة، وإلا فكيف تفسر سكوت الفاروق عن ابنه طوال الوقت؟ أيحابي عمر ابنه عبد الله؟!".
والشيخ يشير إلى ما ذكره في كتابه من أجوبة الحافظ ابن حجر على أَثَر عمر هذا، وأن إنكار عمر إنما كان لأحد أمرين:
أ- إمَّا أنه أنكر على قوم يزورون هذه الأماكن ولا يصلون.
ب- أو خشية أن يُعتقد وجوب ذلك.
وكلا الوجهين لا يخلو من تكلُّف بيِّن؛ فالأول: على خلاف نص الحديث؛ بل وعلى خلاف ما يراه الشيخ، فهو لا يرى غضاضة من تَقَصُّد هذه الأماكن للزيارة والمكث المجرَّد.
أما الثاني: فكسابقه، على خلاف ظاهر الأثر، ولقد كان يكفي عمر أن يبيِّن ذلك بكلامٍ عربيٍّ مبين، دون الحاجة لأن ينكر عليهم إنكاره هذا، ويقول لهم ما قال.
يؤكد هذا ما أورده الشيخ من أثر عمر - رضي الله عنه - في قطع شجرة الرضوان، وذلك في سياق نقله من كلام الحافظ ابن حجر، وفيه: "ثم وجدتُ عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع: أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة، فيصلون عندها؛ فتوعدهم، ثم أمر بقطعها، فقُطعتْ".
قال الشيخ معلِّقاً: "لقد ذكر أخي الفاضل خبر قطع الفاروق عمر - رضي الله عنه - الشجرة، وهو مرسلٌ؛ لأن نافعاً لم يلقَ عمر؛ قال الإمام أحمد: "نافع عن عمر منقطعٌ" (انظر: "التهذيب" لابن حجر: 10/414). لكن هذا الخبر مشهور، وإن كان مرسلاً فهو مقبول".
أليس هذا الفعل من عمر كفعله السابق في حديث المعرور، في إنكار قصد هذه المواقع للصلاة، سواءً بسواء، وهو ما لا يراه الشيخ - غفر الله له؟!(/22)
أما قوله فيمن كان يصلي عندها: إنهم إمَّا صحابة وإمَّا تابعون، وأن طارق بن عبدالرحمن مر بمَن كان يصلي عندها، ولا ينكر عليهم. فلا أدري ما وجهه، وما الحُجَّة فيه، وكيف يُترك إنكار عمر الصريح لفعل مجاهيل لا تُعرف أعيانهم، وهل من الإنصاف الإعراض عن الأمر المحكم المعلوم إلى أمر مجهول، وليس ينفع الشيخ قيام الاحتمال بكون بعض أولئك من الصحابة؛ إذ الاحتمال قائم بكونهم ليسوا منهم، ولو قدر أن بعضهم من الصحابة؛ فمن علم - وهو عمر - حُجَّةً على مَنْ لم يعلم، وليس فعلهم هذا بأبلغ مما كان يفعله ابن عمر، ولم يوافقه عليه جماهير الصحابة، كما سيتضح - إن شاء الله.
10- أما ما ذكره الشيخ - غفر الله له - من أن عدم مخالفة الصحابة لابن عمر - على حدِّ زعمه - دالٌّ على الموافقة، وقوله: "فعدم نقل المخالفة أو الإنكار يدلُّ على الموافقة؛ بخلاف العكس، وهو ما حاولتَ الاستدلال به، فجزمتَ بأن أبا بكر وعمر وبقية الصحابة كانوا يخالفون ابن عمر، ولا يرون التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية، ودون أن تثبتَ ذلك خرط القتاد؛ لكنك تستدل بأنه لم يُنقل عنهم، وعدم النقل هنا ليس دليلاً".(/23)
فالشيخ يعتقد أن عدم النقل هنا لا يفيد نقل العدم، وأنه من الممكن المحتمل أن أبا بكر وعمر وبقية الصحابة كانوا يصنعون صنيع ابن عمر، وهذا في الحقيقة أمر عجيب! ولو فتح هذا الباب لانفتحت علينا أبواب البدع؛ فكلما قلنا هذا لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمكن أن يُدعى ما ادَّعاه الشيخ هنا، من أن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، ومعلومٌ أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ بل هي فيما أمكن أن لا ينقل لقلته وندرته، وعدم توافر الهمم على نقله، أما مسألتنا هذه؛ فلو كان من ذلك شيئ لنُقل، ولا أعلم أحداً من أهل العلم ادَّعى أن هذا ليس خاصّاً بابن عمر، وأن الصحابة كانوا مثله في شدَّة تحري أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما نُقل عنه، ولم يُنقل عنهم، مع اشتراك الكل في هذا التحرِّي، كيف وأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تقول: "ما كان أحدٌ يتَّبع آثار - صلى الله عليه وسلم - في منازله كما كان يتبعه ابن عمر"؟ فما كان أحد يصنع كصنيعه، ولا يتحرى تحريه، بل أنكر عمر - وإن أبى الشيخ – على مَنْ صنع صنيع ابنه، وليت شعري؛ أيهما أقرب للمعقول والإمكان: عدم نقل إنكار عمر على ابنه لو وقع، أو عدم نقل موافقة عمر وغيره لابنه؟!!
وهذا كله لو سُلِّم أن ما جرى من ابن عمر كان على وجه التبرُّك، والصواب أن ذلك لم يكن منه - رضي الله عنه - ولا من غيره على وجه التبرُّك بالبقعة على النحو الذي يريده الشيخ – غفر الله له- وهذا يتضح بالنقطة التالية.(/24)
11- أختم مقالتي هذه بهذه النقطة - بعدما تقدم - للتأكيد على مسألة غاية في الأهمية؛ وهي أن ثمة فرقاً حقيقياً بين مَنْ يستدل الشيخ بأفعالهم من السلف، وما يذهب إليه - حفظه الله - في هذه المسألة، فالشيخ يرى أن الاعتبار في التبرُّك بالآثار النبوية المكانية هو سريان البركة فيها، ولذا فهو يرى مشروعية الصلاة والدعاء والمكث بها لبركة المكان، ولا فرق لديه بين أن يكون المكان مما أَحْدَثَ فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبادة أو لم يُحْدِث، وبين أن يكون قاصداً للمكان لإحداث العبادة أو غير قاصد، فكل مكان لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لمدة قصيرة؛ فيُشرع أن يُتبرَّك به -أي بالصلاة والدعاء والمكث.(/25)
ولا يختلف الحكم بين مكان صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو دعا أو جلس، فمجرد مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المكان هذه الخصوصية؛ ولذا يقول الشيخ مبيناً حقيقة الأماكن النبوية: "أي: الأماكن التي وطئتها قدماه الشريفتان، صلى فيها، أو مكث بها ولو لمدة قصيرة"، ويقول مبيناً سريان بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل ما مسَّه - صلى الله عليه وسلم - ووطئته قدماه: "فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جسده الشريف كله بركة، وما انفصل من جسده فهو مباركٌ؛ كشَعْره، وعَرَقه، ودمه، وما باشر جسده الشريف تسري إليه البركة؛ كجبَّته، وقصعته، والتراب الذي وطئه، وما لامسته يداه؛ كرمَّانة المنبر. وتسري بركته - صلى الله عليه وسلم - إلى المكان أيضاً؛ مثل مصلاه، وبيته، وحجرته، والمواضع التي صلى فيها، أو التي مكث بها؛ قال ابن حجر: "ولو لمدة قصيرة". وقد بينّا ذلك. وأوضح مثال لهذا المدينة النبوية كلها، بوركت بوجوده فيها - صلى الله عليه وسلم – بذاته، وبجسده الشريف؛ فالتراب والجدار الذي باشره يُتبرَّك به - إذا وجد - ويُتبرَّك بقصد المكان للمكث فيه أو الصلاة فيه.. كما نقلنا عن السلف؛ فلا معنى لنفي البركة عن المكان".
فهذا هو المعنى الذي لأجله يرى الشيخ جواز التبرك بالآثار النبوية المكانية، ولست أدري لما اقتصر الشيخ على ثلاثة أنواع من التبرُّك دون غيرها، إن كان الأمر كما ذكر، ولما لا يبيح التمسُّح بالمكان الذي لبث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسَّه، ما دام مباركاً، وما الفرق حقيقةً - إن كان الأمر كما يدعي- بين رمَّانة منبره والأرض التي جلس عليها، ما دامت البركة سارية فيها؟! ثم ما الدليل على دعوى الشيخ هذه: أن بركته تسري لكل مكان لبث فيه؟!(/26)
أما إذا تأملنا في أحوال من يستدل الشيخ بأفعالهم من سلفنا الصالح – كابن عمر وغيره - فسنلحظ أنهم كانوا يفعلون ما يفعلون، لا طلباً لبركة المحل والمكان؛ وإنما تحرِّياً لأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يأتوا بها على وجه الموافقة التامة، في هيئتها وصفتها، ومكانها وزمانها، إن قدروا عليه.
فتأمل صنيع سلمة، وتحرِّيه الصلاة حيث كان يتحرَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلِّي، وكذا جابر؛ كان يدعو في المكان الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، فلا سلمة بالذي اقتصر على الدعاء أو مجرد المكث في ذلك المكان، ولا جابر بالذي حرص على الصلاة أو مجرد المكث في المكان الآخر!
وهذا المعنى أوضح ما يكون في سيرة ابن عمر، الذي كان لشدة تحرِّيه يَتَقَصَّد أن يصلي حيث صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتقدَّم في المواقف بعرفة وغيرها إلى المواضع التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وقف فيها، ويقول برأس راحلته بمكة، يثنيها ويقول: "لعل خُفّاً يقع على خُفٍّ"! بل ويبول في المكان الذي بال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قيل فيه - رضي الله عنه - وعن شدة تتبعه لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو رأيت ابن عمر يتَّبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقلت مجنون"! فهل كان هذا الاتباع منه تبرُّكاً بالبقعة، أم هي المتابعة والموافقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله بالمكان الذي فعل؟(/27)
فلم يكن ابن عمر ولا غيره يفعل هذه الثلاث (الصلاة والدعاء والمكث) في كل مكان نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان لا يفعل فيها إلا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وفرقٌ عظيمٌ بين ما يقول به الشيخ، وما وقع من بعض الصحابة، من تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا بيٍّنٌ بحمد الله، وإلا فهل كان ابن عمر يفعل واحداً من هذه الثلاث في المكان الذي نزله النبي - صلى الله عليه وسلم – ليبول؟! وهل بوله حيث بال النبي - صلى الله عليه وسلم - دالٌّ على تبرُّكه بهذه البقعة؟! بل هذا الصنيع منه مخالفٌ لمطلوب الشيخ؛ إذ حظّ المكان المبارك أن يُحترم ويُكرم، ويُجنَّب مثل هذا الصنيع.
وعليه: فلو أن الشيخ قد قال بجواز موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله، بأدائها حيث فعل - ولو اتفاقاً - من غير تحرٍّ للمكان؛ لكان له سلفٌ من السلف الصالح، كابن عمر وغيره، مع قولنا بأن هذا الاجتهاد منه - رضي الله عنه - اجتهادٌ مرجوحٌ، وهو على خلاف رأي أبيه - رضي الله عنه - ورأي جماهير الصحابة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - عليه رحمة الله -: "وكذلك ابن عمر؛ كان يتحرَّى أن يسير مواضع سير النبي - صلى الله عليه وسلم -وينزل مواضع منزله، ويتوضَّأ في السَّفر حيث رآه يتوضَّأ، ويصبَّ فضلَ مائه على شجرةٍ صبَّ عليها، ونحو ذلك مما استحبَّه طائفةٌ من العلماء، ورأوه مستحبّاً، ولم يستحبّ ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبّه ولم يفعله أكابر الصحابة؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل... وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر، ولو رأوه مستحبّاً لفعلوه، كما كانوا يتحرُّون متابعته والاقتداء به.(/28)
وذلك لأن المتابعة: أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة؛ شُرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة؛ خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يلتمس الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرَّى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما.
وأما ما فعله بحكم الاتفاق - ولم يقصده - مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه؛ لكونه نزله، لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه. فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول؛ لم نكن متَّبعين؛ بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب.
كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة، عن سليمان التَّيمي، عن المعرور بن سُوَيْد، قال: "كان عمر بن الخطاب في سفرٍ، فصلى الغداة، ثم أتى على مكان، فجعل الناس يأتونه فيقولون: صلَّى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتَّبعوا آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبِيَعاً؛ فمن عرضت له الصلاة فليصلِّ، وإلا فليمضِ".
فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه؛ بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعةً؛ بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبُّه بهم في ذلك. ففاعل ذلك متشبِّهٌ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصورة، ومتشبِّهٌ باليهود والنصارى في القَصْد، الذي هو عمل القلب. هذا هو الأصل؛ فإن المتابعة في النية أبلغ من المتابعة في صورة العمل" (قاعدة جليلة، في التوسل والوسيلة: 201).
وهذا كلام متين، من إمام محقِّق؛ فاستمسك به.(/29)
أما قول الشيخ بجواز التبرك بكل ما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمكنة فقولٌ غريب، لا دليل عليه، وليس بثابت في أفعال الصحابة كما قد تبيَّن، وعليه؛ فإن قول الشيخ - حفظه الله - في صنيع ابن عمر: "وذكرتُ الحديثَ الصحيح في البخاري، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - وعن سالم ابنه، ونافع مولاه، تتبُّعهم للأماكن النبوية؛ ولا شك أن تتبُّعهم للتبرُّك، وإلا لم يكن له كبير معنى" غير صحيح كما قد تبيَّن.
والتبرُّك عند الشيخ بهذه الأماكن على ثلاثة أنواع كما سبق: الصلاة، والدعاء، والمكث.
وإني لأتساءل ما فائدة المكث المجرَّد فيما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأماكن لصلاة وغيرها؟! وأي خير يستفيده الإنسان من مثل هذا؟! هل يرجو الأجر بمجرد هذا الجلوس، أو الشفاء، أو الخير، أو ماذا؟! وهل جرى مثل هذا من أحد من الصحابة؛ فتَقَصَّد أن يجلس في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مصلاه، أو غير ذلك من منازله، جلوساً مجرَّداً؛ رجاء بركة البقعة؟!
هذا ما لا أعلم ثبوته عن واحد منهم - رضي الله عنهم - وبهذا يتبين بطلان ما قاله الشيخ – حفظه الله - في تقرير هذه المسألة: "بل أقولُ أكثر من ذلك: إن التبرُّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية لا خلاف فيه طوال القرون الثلاثة المفضَّلة، وطوال القرون بعد ذلك، ولا أعلم أحدًا خالف في ذلك؛ إلا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله".
والخلاصة:
أن ما كان يجري من ابن عمر وأمثاله إنما هو المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الهيئة الظاهرة، فيفعل مثل ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكان الذي فعل، وهذا على خلاف رأي الشيخ الذي يعلِّل ذلك بالتبرُّك - كما سبق - وعلى كلٍّ؛ فجماهير الصحابة وساداتهم على خلاف صنيع ابن عمر؛ بل إن عمر - رضي الله عنه - قد أنكر على من فعل مثل صنيع ابنه كما تقدم مراراً.(/30)
هذا ما تيسر ذكره من ملاحظات عن تعقيب الشيخ عبدالعزيز القاري - غفر الله له - على أخيه الشيخ علوي السقَّاف، وإني لأدعو الشيخ أن يتأمل في المسألة، ويراجعها، وينظر؛ لعل شيئاً فاته، ولعل فيما ذَكر ما يستحق أن يستدرك.
أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يهدينا، ويغفر لنا، ويرحمنا، اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.(/31)
العنوان: تعقيبٌ على كلمة الدكتور محمّد سليم العوا
رقم المقالة: 1040
صاحب المقالة: د. عدنان علي رضا النحوي
-----------------------------------------
تعقيبٌ على كلمة الدكتور محمّد سليم العوا حول
دعوة ترك العمل السياسي والاهتمام بالعمل التربوي
إشارةً إلى الحوار الذي أجرته "إسلام أون لاين" مع الدكتور محمّد سليم العوا، والرد عليه من قِبَل الدكتور عصام العريان وآخرين. الدكتور العوا دعا الإخوانَ المسلمين من خلال الحوار دعوةً صريحة واضحة إلى ترك العمل السياسي والانصراف إلى العمل التربوي. وردَّ الدكتور عصام العريان برفض اقتراح د. العوا. وكتب الأستاذ علاء سعد حسن مقالاً في جريدة الأمان الأسبوعية بعنوان "دعوة وسط بين وجهتي نظر العوا والعريان"!
فمن خلال الحوار والردود أثيرت قضايا هامَّة في واقع العمل الإسلامي، تستخفي وراءها قضايا كثيرة لم يُشِرْ إليها الحوار ولا الردود. فالدكتور العوا له نهج أعلن كثيراً منه في مواقف كثيرة، مثل موقفه من قضية المرأة، وقضية "الأخوة الإيمانية" وقضية المواطنة، حتى اختلطت الآراء والمواقف.
وأرى أن سبب الاختلاف في الآراء التي عرضها الحوار والردود هو اختلاف التصور لطبيعة العمل الإسلامي، واختلاف التصور للواقع ومتطلباته.
فدعوة حركة الإخوان المسلمين إلى ترك العمل السياسي، بهذا المصطلح والتعبير، هي إقرار منَّا بأنَّ السياسة هي الانتخابات والبرلمانات، والصدام المباشر مع الدولة أو الآخر، وسائر النشاط الديمقراطي الغربي.
نعم! إنَّ الانتخابات العصرية ومؤسساتها هي نظام غربيّ فُرِضَ على المسلمين كما فرضت عليهم أشياء أخرى، فاتّبعوها طائعين حتى ظنّوها من الإسلام، وهي ليست من الإسلام.(/1)
الإسلام له مفهومه الخاص عن السياسة، مفهوم أخذ يغيب بين ضجيج شعارات الواقع اليوم، وضجيج التيارات المختلفة؛ ففي الإسلام تمضي الدعوة الإسلامية على نهج واعٍ وخطة مدروسة تنبع من قواعد الإيمان والتوحيد، ومن الكتاب والسنَّة كما جاءا باللغة العربية، ومن مدرسة النبوّة الخاتمة. وفي هذا النهج والخطة تكون التربية والسياسة والاقتصاد وغير ذلك يمثل نهجاً متكاملاً، له مراحله المدروسة وخطواته المتماسكة.
الخطأ الذي وقع فيه المسلمون أنَّ الفكر الغربي تسلل إلى عقولنا وقلوبنا، ورفضناه أولاً، ثمَّ سكتنا عنه، ثمَّ قبلناه، ثمَّ أصبحنا من دعاته!
الإسلام كما جاء من عند الله نظام حياة كامل متماسك، يأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباعه والتزامه في كل واقع وكل زمن وكل حالة. وإنه ابتلاء من الله وتمحيص في بعض المواقف حين يبدو تعذّر تطبيق منهاج الله قرآناً وسنَّة ولغة عربية.
لقد أخفق المسلمون في عصرنا الحاضر في تقديم حلول لمشكلات العصر من خلال منهاج الله. وشُغلوا عن ذلك بقضايا غير أساسية اندفعوا إليها من خلال إيحاءات الواقع الذي أخذ الغرب يمسك بزمامه في كثير من ديار المسلمين. إنَّ هذا الإخفاق لم يكن لعجز منهاج الله عن تقديم الحلول، ولكنه لعجز الطاقة البشرية المؤمنة التي شغلت نفسها بتصورات ونشاط حسبوه من الإسلام وما هو من الإسلام. إنَّ منهاج الله حق كامل لكل عصر وأرض وحالة، تستفيد منه الطاقة البشرية المؤمنة إذا استوفت شروطاً رئيسة فيها، شروطاً إيمانية وعلمية ومواهب، حتى ينزل الله رحمته ونصره، فلا شيء إلا بقدر الله وقضائه، وما على المؤمنين إلا أن يستوفوا الخصائص الربانية.
لا نقول: إنَّ كلَّ ما عند الغرب خطأ وحرام أخذه. كلا! ولكننا نقول: إن الاتجاه الفكري لدى الغرب كله اتجاه مخالف للإسلام كل المخالفة، نهجان مختلفان لا يلتقيان
نهجان قد ميّز الرحمن بينهما نهج الضلال ونهج الحقّ والرشَدِ(/2)
لا يجمع الله نهج المؤمنين على نهج الفساد ولا حقّاً على فَنَدِ
لدى الغرب علوم تطبيقية وصناعة وسلاح، وهذا أهم ما نحتاج إليه. ولكننا اليوم شغلنا بصراع حول ما نأخذه من زخرف حضارتهم، ومن الشعر الحر، ومن وسائل الزينة وقشور الحياة، ومن النظم البرلمانية التي لم تقم على أي أساس إيماني، وإنَّما حملت من مفاسد الغرب وأساليبه ما يبرأ منه الإسلام.
لقد أخفق المسلمون في تقديم حلول لمشكلات العصر من خلال منهاج الله، ولذلك فزعوا إلى الغرب يأخذون عنه الزخرف، ولا طائل تحته. عندما ظهرت الاشتراكية أسرعنا إليها على أنها الحل، وانبرى كتَّابنا ليُلبسوها ثوباً إسلامياً رقيقاً لم يُخْفِ عوراتها.
ولما جاءت الديمقراطية هلّل المسلمون لها واندفعوا إليها حتى أصبحت هي رسالة الكثيرين من المسلمين. ففي مؤتمر إسلامي يضمُّ الآلاف أخذ داعية مسلم يدعو إلى الديمقراطية بإلحاح ونسيَ أنه داعية مسلم. ولمَّا سألته: لم تدعو إلى الديمقراطية ولا تدعو إلى الإسلام؟! قال: لأننا نريد حريّة وعدالة. قلت له: إذا لم يكن في الإسلام حريّة وعدالة فأعلن ذلك ليترك الناس الإسلام، وإن كان شرع الله فيه عدل وحريّة، فلمَ تعطي هذا الشرف للديمقراطية وتنزعه ظلماً عن الإسلام. ثمَّ قلت له: إنَّ الديمقراطية لها دول قوية تدعو إليها، والإسلام يتلفّت يميناً وشمالاً يبحث عن دعاته وجنوده فكن منهم خيراً لك!
وفي مؤتمر إسلامي آخر، كان محوره الدعوة إلى العلمانية أمام جمهور يزيد عن خمسة عشر ألفاً. حتى قال داعية مسلم: العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها! وقال داعية آخر: لا نملك إلا أن نندمج في النسيج الثقافي والديني الغربي! وقال آخر شيئاً مثل ذلك، وآخر وآخر، وامتلأت الساحة بالدعوات الغربية واختلط الحابل بالنابل.(/3)
نحن بحاجة إلى وقفة إيمانية هادئة نراجع مسيرتنا ونقوّمها ونردّها إلى منهاج الله، لنحدّد أخطاءنا ونعالجها. لا يعقل أن تكون الهزائم والفواجع وسقوط الديار وتناثر الأشلاء والجماجم في ديار المسلمين على هوان ومذلة، لا يمكن أن يكون هذا ظلماً من الله! إنَّ الله حق عادلٌ لا يظلم أبداً. ولا يقع شيء في الكون إلا بأمر الله وقضائه. فالخلل فينا نحن المسلمين. فلنتواضع إلى الله، ولا نستكبر، ولا نرى أنفسنا فوق الخطأ والخلل، إنَّ الخلل فينا حقيقةً لا وهماً. وإنَّا بحاجة إلى وقفة مراجعة ومحاسبة وتقويم.
وأول قضية أودُّ إثارتها في هذه المناسبة أن أذكّر إخواني المسلمين جميعهم بأنَّ الله لم يخلقنا عبثاً، وإنَّما خلقنا للوفاء بمهمة رئيسة في الحياة الدنيا، عبَّر عنها كتاب الله بمصطلحات أربعة نوجزها في: العبادة، الأمانة، الخلافة، العمارة. ثمَّ فصّلها منهاج الله تفصيلاً:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
فهل نحن نعي هذه المهمة وعياً إيمانياً حتى ننهض للوفاء بها قبل يوم الحساب، فإنها هي مدار الحساب كله.
وللإيجاز، حيث لا مجال هنا للتفصيل، أقول: إنَّ هذه القضايا الأربع كلها لا تتحقّق إلا من خلال المهمّة الرئيسة التي يريدنا الله أن نوفي بها في الحياة الدنيا. ألا وهي أن نبلّغ رسالة الله كما أنزلها على محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافَّة ونتعهّدهم عليها حتى تكون كلمة الله هي العليا في الأرض.
فهل نحن أوفينا بهذه المهمّة وصدقنا الله فيها، وحملنا الزاد الحق من أجل الوفاء بها ؟! إنَّ الله سبحانه وتعالى لم يكلفنا هذه المهمّة الربّانية العظيمة إلا بعد أن وفّر لنا كل الإمكانات للوفاء بها:
{أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة: 36].(/4)
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
أمرنا بالتفكير الإيماني المنهجي، فهل فكّرنا؟!
أمرنا بالنصيحة الصادقة الخالصة لله على أساس من الكتاب والسنَّة، وليس على أساس من الأهواء والتصوّرات البشرية، فهل تناصحنا على أساس ذلك؟!
أمرنا أن نردَّ أمورنا كلها صغيرها وكبيرها إلى منهاج الله عن إيمان وعلم، فهل التزمنا ذلك؟!
أمرنا أن لا نتفرّق وأن نكون أمة واحدة وصفّاً واحداً رابطته أخوّة الإيمان، التي أمر الله بها ورسوله في آيات محكمة وأحاديث صحيحة، فهل أقمنا بيننا أخوة الإيمان، أو أقمنا أخوّة الوطن، وأخوّة العرب، وأخوّة العائلة، وأخوّة القومية، وهجرنا أخوّة الإيمان الممتدّة أو التي يجب أن تمتدّ بين المؤمنين جميعاً؟!
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا........} [آل عمران: 103].
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 52-53].
إنها آيات بيّنات حاسمة فاصلة:
{إنه لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13-14].(/5)
ولا أظنّ أحداً يجهل أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي تؤكد وتشدّد على أخوّة الإيمان والإسلام، وعلى أنَّ المؤمنين كالجسد الواحد!
إنَّ الانتخابات والبرلمانات كما هي الآن ليست من الإسلام في شيء فتركها عبادة وطاعة، وباب السياسة في الإسلام واسع لا ينفصل ولا يمكن أن ينفصل عن حقيقة الدعوة الإسلامية. إنها كلها مهمّة واحدة علينا الوفاء بها.
إنَّ التمزّق الذي يعيشه المسلمون اليوم إثم كبير ومعصية لله، ونتيجتها (وأولئك لهم عذاب عظيم)، وهذا العذاب قد بدأ ينزل بالمسلمين عظيماً!
إنَّ الوطنيّة والدعوة إليها على الصورة التي يعرضها بعْضُهم ليست من الإسلام في شيء، وإنَّما هي باب تمزيق للمسلمين وتقطيع حبال الإيمان بينهم.
لقد مضى على المسلمين في ديارهم سنوات طويلة وهم يمارسون الانتخابات والبرلمانات على صورتها الحالية، فماذا قدمت للمسلمين غير الوهن والتفرّق والصراع على الدنيا؟!
أعود وأؤكد أنَّ علينا أفراداً وحركات وجماعات تنتسب إلى الإسلام أن نتحرّر تحرّراً كاملاً من جميع أنواع العصبيات الجاهلية التي حرّمها الله؛ يجب التطهُّر منها حتى يرضى الله عنَّا ويمدّنا بعونه.
إننا لا ندعو الإخوان المسلمين وحدهم إلى ترك الانتخابات والبرلمانات، بل ندعو المسلمين جميعهم إلى ذلك، إلى أن يقام نظام انتخابات جديد ربّاني إيماني مستوفٍ جميعَ شروط الإيمان.
إننا ندعو الجميع إلى أن يقفوا مع أنفسهم وقفة محاسبة وتقويم وتناصح. إننا نرى أن الحزبية في واقعنا اليوم صورة من صور فتنة الديمقراطية، مثلها مثل الانتخابات والبرلمانات وغيرها، وصورة من صور العصبيات الجاهلية التي مزّقت المسلمين.
إننا ندعو إلى أن يكون للدعوة الإسلامية نهج واضح وخطة مدروسة، تحدد الأهداف بتفصيل، وهي محددة في منهاج الله، وتحدد الدرب والنشاط، ومراحل ذلك كله، على أسس إيمانيّة ربّانية، يلتقي عليها المؤمنون في الأرض كلهم.(/6)
ومن أجل ذلك نقدّم نهج مدرسة لقاء المؤمنين ليكون قاعدة اللقاء ومنطلق البلاغ والبيان، على صراط مستقيم، وهو يحمل النظرية العامة للدعوة الإسلامية، والمناهج التطبيقية ونماذجها، والوسائل الإيمانية، والأساليب، والأهداف الربانية الثابتة والأهداف المرحلية، نقدّم ذلك نصيحة خالصة للمسلمين بعيدين عن أيّ تصوّر حزبي أو عمل سرّي، نصيحة لكل مسلم ولكل بيت مسلم ولكل جماعة، ليتحمّل كلُّ مسلم مسؤوليتَه الشرعية ووقفة الحساب بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.(/7)
العنوان: تعيين بلير.. دليل جديد على 'صدق النيات'!!
رقم المقالة: 1020
صاحب المقالة: عبدالحق بوقلقول
-----------------------------------------
حتى قبل أن يتأكد خبرُ تعيين رئيس وزراء بريطانيا المنتهية عهدتُه، صار (توني بلير) مبعوثًا للرباعية للسلام في الشرق الأوسط.
كتب الصحفي المخضرم (روبرت فيسك) مراسل جريدة الإندبندنت اللندنية يقول: "لقد كان أول ما فعلته حينما سمعت الخبر، هو التيقن أن التاريخ لا يصادف بداية شهر نيسان/أبريل"!
ولعل فيسك في هذا الإطار محق جدا؛ لأن هذا الأمر دليل إضافي على مدى ضخامة الكذبة وهوان السلام أصلا في أعين رعاته بدءًا من أميركا التي هي جزء من المشكلة، ومن ثم لا يمكن أن تكون جزءًا من الحل، مرورًا بروسيا المترددة في كل شيء منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، ثم الاتحاد الأوروبي الذي لا وجود فعليًا له في الوقت الحالي إلا على الورق، وصولاً إلى منظمة 'أمم متحدة' بلا قيمة ولا هدف في عالم ما بعد 11 من سبتمبر، ولا يفكر أحد في موقفها خصوصًا وأن أمينها العام الذي كان يوصف سابقًا أنه الدبلوماسي الأول عالميا، لم يعد في السنوات الأخيرة غير مجرد موظف ملحق بكتابة الدولة الأميركية على اعتبار أن واشنطن هي المشارك الأكبر ميزانية، هكذا بكل سهولة!(/1)
المشكلة إذن أن عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط صارت هينة إلى حد تعيين شخص مجرم يقول عنه فيسك نفسه: إنه "يتحمل دماء آلاف من الرجال والنساء في العراق وأفغانستان على الأقل" وهذا يعني أن هذا الرجل الذي كان يُفترض أن يعاقَب -بسبب الويلات التي جرها على بلاده بغض النظر عن انكساراتها العسكرية في كل من العراق وأفغانستان والتي قد يتطلب أمرُ إصلاحها سنواتٍ طويلةً وربما عقودًا كما يجزم بذلك الصحفي البريطاني الآخر باتريك سيل- كوفئ بهذا التعيين بما يفيد وبشكل قاطع أن الأمر جرى وَفقًا لرغبة أميركية صهيونية واضحة؛ لأن المعيّن لم يدّخر جهدًا منذ بلغ مبنى 10 دوانينغ ستريت قبل عشر سنوات من الآن، في سبيل الانحياز الأعمى صوب السياسة الأميركية الخارجية المتطرفة إلى درجة صارت الصحافة البريطانية نفسها لا تتردد في وصفه بأنه "كلب" الكاوبوي بوش فمن منكم يعرف شخصًا في الشرق الأوسط كله يحب السيد بلير باستثناء الصهاينة؟ إن محمود عباس نفسه رغم أنه رمز 'الاعتدال' في المنطقة لا يستطيع أن يصرح بذلك علنا؛ لأن البريطانيين الذين لا ينكرون أن بلادهم هي أصلا سبب المشكلة الفلسطينية منذ بدايتها قبل تسعين عامًا من الآن بإصدارها ما عرف تاريخيا بوعد بلفور، لا يخفون مشاعر كرههم لبلير ورغبتهم في ذهابه مع بداية الحرب على العراق على أقل تقدير فرئيس وزرائهم هذا هو الذي سجل أدنى نسب الشعبية والتقدير منذ عقود!!(/2)
ثم إن فيسك ليس المتذمر الوحيد، فلقد كتب الصحفي إي جيل، محرر دورية فانيتي فير ومؤلف كتاب 'الجزيرة الغاضبة: اصطياد البريطانيين' على صفحات جريدة الواشنطن بوست يقول: "احتفالاً بانتهاء المدة التي قضاها رئيساً لوزراء بريطانيا، اقترح أعضاء المطبخ السياسي في 10 دوانينغ ستريت على بلير أن يقوم بجولةٍ وداعيةٍ يزور فيها المدارس والمستشفيات ومراكز الفن والمحميات الطبيعية والثكنات العسكرية ليمنح 'الناس الحقيقيين' -كما يحب السياسيون أن يشيروا إليهم- الفرصة كي يقولوا له "شكراً"، ولكي يربت هو على ظهورهم رداً على مجاملتهم إلا أن هذا الاقتراح -الخاص بتلك الجولة- تعطل لسبب ما، وهو ما أتاح لمستشاريه الوقت للتفكير في شيء آخر، وفي النهاية استقروا على أنه يجب أن يقوم بنفس الرحلة الوداعية، ويقابل نفس الأشخاص الذين كان سيقابلهم، ويزور الأماكن نفسها تقريباً، ولكن ليس هنا في بريطانيا وإنما في قارة أفريقيا، نعم في قارة أفريقيا؛ لأنها ستكون أكثر تعاطفاً وأكثر امتناناً بدليل أن الزعيم الليبي معمر القذافي يحبه أكثر مما يحبه بعض ناخبيه، المهم أن هؤلاء المستشارين قد شعروا أن زيارة أفريقيا ستكون أفضل في جميع الأحوال"!!(/3)
طبيعي أن تعيين بلير هو بمثابة مكافأة للرجل على ما قدمه حتى الآن من خدمات جليلة وطاعة عمياء للبيت الأبيض بشكل سخط منه البريطانيون قبل غيرهم، ولا عجب هنا لأن بوش ومن يقف وراءه -من غلاة المحافظين الجدد المتصهينين الذين لا يتعبون من دعم إسرائيل بكل الوسائل- هم من قرر دفع هذا الرجل صوب مهمة الوساطة بعد أن أخفقوا في تعيينه على رأس البنك الدولي خلفا للصهيوني الآخر وولفوفيتز، أو حتى على رأس الاتحاد الأوروبي بسبب رفض الأوروبيين أنفسهم لذلك، وفي هذا التعيين دليل جديد على أنه لا أحد يفكر جديا فيما قد تؤول إليه مشاريع السلام بالشرق الأوسط؛ لأن البنك الدولي ومستقبل اتحاد القارة العجوز أهم وأخطر من أن يتولاهما في نظر الأوروبيين سياسي راسب كبلير، ولا بد أن نتذكر هنا أن السياسيين الراسبين كانوا دوما أول من يدفع الثمن عند أول مناسبة؛ فـ(أنتوني إيدن) رئيس وزراء بريطانيا خلال الخمسينيات سقط سقوطا مريعا بعد إخفاق حرب السويس في العام 1956، أما الرئيس الأميركي ليندون جونسون فلقد ارتحل لأنه صعّد الحرب في فيتنام دون تحقيق أي تقدم، في حين انتهت الحياة السياسية لرئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق ميناحيم بيغن، بمجرد إخفاق حملته على لبنان في 1982 فهل كل هذا غير كاف لنقول: إن قرار تمديد مهمة بلير هو خيار غير مسبوق في العرف السياسي حتى الساعة؟!!(/4)
الواقع أنه لا أحد يشك في سوء نية الفريق البوشي –اللهم إلا بعض غلاة المتأمركين عندنا- فالانحياز أوضح من أن نتحدث عنه، والتورط البريطاني في كل الجرائم التي ارتكبت باسم الحرية والعدالة ونشر الديمقراطية بيّنٌ؛ لأنها أكثر من أن تحصى؛ فبلير هذا هو نفسه الذي أصر على رفض دعوات وقف إطلاق النار خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف العام الماضي، وهو نفسه الذي لم يجرؤ يوما على إدانة أية جريمة صهيونية ضد الفلسطينيين، أما عدد المدن العراقية التي دمرت بفضل مشاركة قوات بلاده هناك وتحت (يافطة) محاربة الإرهاب، فهي عسيرة على العد، واسألوا في هذا الإطار كلا من بغداد، والفلوجة، وتلعفر، والقائم، وسامراء، وتكريت، وأخيرا -وليس آخرا- بعقوبة، أما عدد القتلى العراقيين فلقد بلغوا بحسب دراسة 'The Lancet' نحو ثلاثة أرباع مليون إنسان، ولا شك أن هذا العدد قد ارتفع الآن فضلا على أنه لا دليل في الأفق يشير إلى أنه سائر نحو التوقف.
في افتتاحية جريدة لوموند الفرنسية لهذه الجمعة يمكننا أن نقرأ: "لا يحظى السيد بلير بالإجماع حتى وسط موظفي وزارة الخارجية البريطانية؛ لأنهم يرون فيه شخصا متحيزا إلى الجانب الإسرائيلي أكثر من اللازم، ولا أحد يستطيع الجزم أن هذا الرجل -برغم مقدراته الدبلوماسية- قادر على النجاح، خصوصا بعد أن أعلن سلفه جيمس وولفنسون قبل أكثر من عام من الآن إخفاقه" ثم تختتم الجريدة نفسها تعليقها بالقول: "لسوء حظ السيد بلير فإن فلسطين ليست أيرلندا الشمالية وأن غزة ليست بلفاست"!(/5)
قد يجادل البعض أن بلير الراسب خارجيا نجح في تحقيق نجاحات داخلية، وهذا أمر محل شد وجذب حتى في بريطانيا نفسها فما يقال إنه نمطية ليبرالية 'بليرية' أو "طريق ثالث" في إدارة الاقتصاد وعلاج المشكلات، لا يعدو أن يكون تعديلا طفيفا للمنهجية التي سادت أيام رئيسة الوزراء (مارغريت ثاتشر)؛ فلقد واصل بلير سياسة تحرير مصرف إنكلترا المركزي في الوقت نفسه الذي أتم فيه سياسة خصخصة التعليم والمنظومة الصحية على الرغم من أنه ينتمي أيديولوجيا إلى حزب يساري يفترض أنه يقوم على عكس هذه التوجهات.
الأمر إذن قد يعني بوضوح شديد حرصًا أميركيًا على إطلاق 'رصاصة رحمة' على عملية السلام، بمعنى أن الإدارة في واشنطن وحلفاءها عبر العالم قرروا سحب بساط التسوية من تحت أقدام المؤسسات الدولية -مع كل التحفظ على هذه العبارة الأخيرة- وتكفل المتصهينين بملف الصراع العربي الإسرائيلي بشكل نهائي حتى تصير التسوية مرادفة للتصفية من خلال فرض الأمر الواقع، فلا أحد يتصور مثلا أن بلير سوف يكون على مسافة واحدة من الفرقاء، فسادس المستحيلات أنه سوف يتعامل مع عباس في رام الله كما يتعامل مع أولمرت في القدس المحتلة، أما سابعها فهو تعامله مع حركة حماس؛ لأنه ما انفك يعدها منذ سنوات طويلة 'منظمة إرهابية' ينبغي محاربتها بدل التفاوض معها، ومن ثم فهي في نظره أقل شأنا من الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي انقلب موقف الساسة في لندن منه رأسا على عقب حتى صار شريكا سياسيا لهم بعد أن كان هو أيضا 'إرهابيا مجرما' علاوة على أن الموازنة هنا أيضا غير ممكنة؛ لأن حركة حماس لم تقتل لحد الساعة بريطانياً واحدا على عكس الأيرلنديين!
ثم أخيرا، أليس من حقنا أن نسأل: من يضمن لنا -ما دام التواطؤ قد بلغ هذا الحد من الاستهزاء- أن 'المجموعة الدولية' لن تعين الرئيس بوش عند انتهاء ولايته بعد أقل من عامين من الآن، مبعوثا للسلام في العراق بما أننا نعيش عصر انقلاب الصورة!!(/6)
العنوان: تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف(1)
رقم المقالة: 198
صاحب المقالة: د. خالد بن منصور الدريس
-----------------------------------------
توطئة:
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد.
فهذا بحث عن تفرد الصدوق والثقة أيضاً، استللته من كتابي " الحديث الحسن لذاته ولغيره دراسة استقرائية نقدية "، طلب مني أحد الفضلاء من أعلام المحدثين المعاصرين أن أنشره مستقلاً، فاستحسنت الفكرة ؛ لأن الكتاب الأصلي قد نشر في خمس مجلدات في دار أضواء السلف بالرياض سنة 1426هـ، فغدى ثمنه غالياً على كثير من طلبة العلم، فقل الانتفاع به بسبب ذلك، وكان هذا على غير رغبة مني، وأما أصل البحث فهو موجود في المجلد الرابع، في الباب الثالث المتعلق بالحديث الحسن لذاته، نبهت على ذلك ليعلم أن الإحالات الموجودة داخل البحث على بعض الفصول أو المباحث تُطالع في الأصل المنشور.
والكتاب الأصلي هو رسالة دكتوراه، كانت خطة البحث قدمت في سنة 1415هـ، وتم الانتهاء من طباعة الأصل في شعبان 1420هـ، وجرت المناقشة في أول سنة 1421هـ في الأسبوع الثاني من المحرم، ومن حصلت الأطروحة بحمد الله وتوفيقه على درجة الامتياز مع التوصية بالطبع على نفقة الجامعة.
تعريف الصدوق :
يقول أبو الحسين أحمد بن فارس: (الصاد والدال والقاف أصلٌ يدلُ على قوةٍ في الشيء قولاً وغيره. من ذلك الصدق: خلاف الكذب، سُمي لقوته في نفسه، ولأن الكذب لا قوة له، هو باطل)[1].
فالصدوق: "وصف بالصدق على طريقة المبالغة"[2].
* تفريق المحدثين بين الثقة والصدوق:
سئل عبدالرحمن بن مهدي: أبو خلدة ثقة؟ فقال: (كان صدوقاً، وكان مأموناً، الثقة سفيان وشعبة)[3].(/1)
قال ابن أبي حاتم معلقاً على هذا النص: (فقد أخبر أن الناقلة للآثار والمقبولين على منازل، وأن أهل المنزلة الأعلى الثقات، وأن أهل المنزلة الثانية: أهل الصدق والأمانة)[4]. وقد جعل الصدوق في المرتبة الثانية بعد الثقة كما سبق نقل كلامه في ذلك.
وقال أبو عبدالله الحاكم: (إن أئمة النقل قد فرقوا بين الحافظ والثقة، والثبت والمتقن والصدوق، هذا في التعديل)[5].
استعمالات النقاد للفظة "صدوق":
تأتي لفظة "صدوق" في استعمالات أئمة النقد على ثلاث حالات:
الأولى: مطلقة من دون تقييد كقولهم: "فلان صدوق".
الثانية: مقترنة بما يفيد التوثيق وتمام الضبط، فمن ذلك قول ابن أبي حاتم في كثير من مشايخه: "ثقة صدوق"[6]، وكذا قول أحمد بن حنبل[7] في بعض الرواة، وتجيء الصيغة في بعض المواضع هكذا: "صدوق ثقة"[8] عند ابن أبي حاتم، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
الثالثة: مقترنة بما يفيد عدم الاحتجاج، فمن ذلك مثلاً قول أبي زرعة الرازي في أحد الرواة: (ليِّن الحديث مدلس) فقيل له: هو صدوق؟ قال: (نعم، كان لا يكذب)[9].
وقول ابن معين في عدد من الرواة : (صدوق وليس بحجة)[10]، وقال في أحد الرواة: (صدوق كثير الخطأ)[11].
ومن ذلك ما قاله يعقوب بن شيبة في أحد الرواة: (واهي الحديث، في حديثه اضطراب كثير، وهو صدوق)[12].
ومنها قول ابن خراش: (سيئ الحفظ صدوق)[13]، وقول عمرو بن علي الفلاس: (صدوق، كثير الخطأ والوهم، متروك)[14].
وقد قال البخاري في محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى: (صدوق، إلا أنه لا يُدرى صحيح حديثه من سقيمه)، قال الترمذي : (وضعف حديثه جداً)[15]، وقال البخاري في النعمان بن راشد: (في حديثه وهم كثير، وهو صدوق في الأصل)[16].
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً تدل على أن عدداً من أئمة الحديث يطلقون "الصدوق" على من لم يكن متهماً بالكذب ويدخل في ذلك بدون ريب من كان ضعيفاً لا يحتج به.(/2)
وقد استقر عُرف المحدثين على أن لفظة "صدوق" إذا أطلقت من غير تقييد فإنها تفيد أن الراوي يكون عدلاً ولكنه دون الثقة من حيث الضبط.
ويدخل في حكم الصدوق من قيل فيه: "لا بأس به" و"محله الصدق"، وغيرها من الألفاظ التي سبق ذكرها في الفصل السابق.
وحقيقة الصدوق وماهيته، عبَّر عنها الذهبي في قوله: (الصدوق لا يكثر خطؤه)[17]، وقوله في أحد الرواة: (صدوق، قيل: كان يخطئ، فالصدوق يخطئ)[18].
وقال ابن حجر: (رواية الصدوق الذي لم يوصف بتمام الضبط والإتقان، هو الحسن لذاته)[19]، وهو دون الثقة كما هو العُرف، وفوق من لا يحتج بحديثه إلا إذا اعتضد بغيره كما تم إيضاحه في الفصول السابقة من هذا الباب.
وللفظة "صدوق" علاقة وطيدة بابن أبي حاتم، حيث أكثر من إيرادها في كتابه "الجرح والتعديل" عن أبيه وعن غيره من كبار أئمة النقد، ولا أعرف كتاباً في علم الجرح والتعديل قبل ابن أبي حاتم وردت فيه لفظة "الصدوق" بكثرة كما وردت في كتابه.
فقد بلغ عدد مرات ورودها أكثر من 1200 مرة تقريباً بصِيَغٍ متعددة، وهو أقدم من وضع لها مرتبة في سلم الجرح والتعديل.
وقد أثار حكمه على ما يرويه الصدوق بعض الخلاف بين اثنين من أساتذة الحديث في عصرنا، هما الشيخ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -، والأستاذ الدكتور نور الدين عتر.(/3)
فذهب الشيخ الألباني - رحمه الله - إلى أن "الصدوق" حسن الحديث ويحكم على حديثه بأنه حسن لذاته واحتج على ذلك بكلام الذهبي في مقدمة ميزانه، وبكلام ابن حجر في مقدمة "التقريب"، وقد نقلنا كلامهما في الفصل السابق، ثم علق على ذلك بقوله: (فأنت ترى أن الذهبي جعل من قيل فيه "صدوق" في مرتبة من قيل فيه: "جيد الحديث، حسن الحديث"، وكلام الحافظ ابن حجر لا يخرج عنه، فإن من كان عنده من المرتبة الثالثة لاشك في أن حديثه صحيح، فمن كان عنده من المرتبة الرابعة، فحديثه حسن بداهة، وذلك ما صرح به المحقق أحمد شاكر في "الباعث الحثيث" (ص118)، ولولا ضيق المقام لنقلت كلامه، فأكتفي بالإشارة إليه)[20].
وقد رد الدكتور العتر هذا الكلام بقوله: (وقد كان يكفي.. أن يرجع إلى كتاب إمام الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي... [حيث] يقول: "وإذا قيل له: صدوق أو محله الصدق أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية" انتهى كلامه.
وقد اعتمد كافة أئمة الحديث من بعد كلامه... وهذه عبارة الإمام ابن الصلاح قالها يؤيد بها كلام الإمام الرازي: "وهو كما قال، لأن هذه العبارات لا تُشعر بشريطة الضبط" )[21].
وهو يرى "أن حديث الصدوق ليس ضعيفاً، ولكنه لا يحتج به مطلقاً، بل لا بد قبل الاحتجاج به أن يُنظر في حديثه؛ لأن "الصدوق" لم يوصف بالضبط أي الحفظ، فاحتاج إلى التحري من اتصافه بذلك كي يحتج به"[22].
ونقل الدكتور العتر "الاتفاق[23] على أن كلمة "صدوق" لا يحتج بمن قيلت فيه إلا بعد الاختبار والنظر، ليعلم هل يضبط الحديث أم لا؟" ويرى أن" ذلك يرد ما زعمه بعض الناس من أن من قيلت فيه يكون حديثه حجة من الحسن لذاته، دون أن يقيده بأن ينظر فيه"[24].
فحقيقة الخلاف بينهما تتلخص في السؤال الآتي: هل حديث "الصدوق" حجة حتى يثبت أنه أخطأ أم لا يحتج به حتى يثبت أنه حفظ؟(/4)
ولا ريب أن الخلاف في حكم تفرد الصدوق بين القبول والتوقف؛ مسألة لها آثار مهمة للغاية، ويكفي لبيان أهميتها أن يُعلم أن ما يقارب من ربع رجال تقريب التهذيب قد حكم عليهم الحافظ ابن حجر بعبارات مثل: "صدوق" أو "صدوق يهم" أو "صدوق يخطئ" ونحوها، وقد بلغ عددهم ما يقرب من (1831) من مجمل تراجم الكتاب.
ومنهم (210) راوياً ممن أخرج لهم البخاري في صحيحه، و(269) ممن أخرج لهم مسلم في صحيحه من غير الذين أخرج لهم البخاري[25] فمجموعهم في الكتابين من غير المكرر يبلغ (479) راوياً، وأكثرهم في الشواهد والمتابعات.
ومن المعلوم أن علماء الحديث قد اتفقوا على صحة متون الكتابين إلا أحرفاً يسيرة وقع النزاع فيها، وقد سبق أن ذكرنا أننا مع الرأي القائل بعدم تحسين شيء من أحاديثهما، وإنما ذكرنا تلك الإحصائية ليُعلم أن الكلام في تفرد الصدوق في غاية الأهمية لكثرة الموصوفين بوصف "الصدوق".
ومسألة "التفرد" لها أثر ضخم جداً في علم الجرح والتعديل، وعلم العلل، ومن تأمل كثيراً من كتب العلل والرجال سيرى بما لا يدع مجالاً للشك أثرها الكبير في نقد العديد من كبار الأئمة.
فالنصوص التي تدل على نقد الرواة أو بعض مروياتهم بسبب التفرد أو لعدم المتابعة كثيرة جداً في التاريخين الكبير والأوسط للبخاري، وضعفاء العقيلي، والكامل لابن عدي، وتهذيب التهذيب والعلل لابن أبي حاتم وغيرها من المصادر.
ومن أهم الأسئلة التي سنناقشها في هذا المبحث : هل تفرد الصدوق كتفرد الثقة من حيث القبول إلا في حالة مخالفته لمن هو أولى منه ؟ أم أن لتفرده حكماً مختلفاً لانحطاط مرتبته عن مرتبة الثقة؟
أو بمعنى آخر هل تفرد من يُحسَّن حديثه لذاته محتج به إلا إذا خالف من هو أولى منه؟! أم لابد من التفريق بين ما ينفرد به من يصحح حديثه لذاته وبين من يحسن حديثه لذاته لتفاوتهما في القوة؟
وما أدلة من قبل تفرد الصدوق؟
وما أدلة من توقف في تفرد الصدوق؟(/5)
ومتى يحتمل التفرد من الراوي الصدوق؟
ومتى لا يحتمل منه ذلك؟
المطلب الأول : قبول تفرد الصدوق.
ذهب عدد من أئمة المحدثين إلى قبول تفرد الصدوق، وهذا هو اختيار جمهور المتأخرين من علماء الحديث، ولا يُستثنى من ذلك فيما أعلم إلا الذهبي وابن رجب ومن بعدهما المعلمي اليماني في بعض تطبيقاته كما سيأتي إيضاحه في المطلب القادم.
يقول الحافظ أبو عمرو بن الصلاح: (إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه، فإن كان ما انفرد به مخالفاً لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذاً مردوداً.
وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره، فيُنظر في هذا الراوي المنفرد، فإن كان عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانه وضبطه؛ قُبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد فيه...
وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به، كان انفراده خارماً له مزحزحاً له عن حيز الصحيح.
ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه، فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده؛ استحسنا حديثه ذلك ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف.
فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان:
أحدهما: الحديث الفرد المخالف.
والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف)[26].(/6)
وإذا رجعنا إلى تحديد ابن الصلاح لراوي الحسن فسنجده قد وصفه بأنه من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح؛ لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، ويرتفع عن حال من يُعد ما ينفرد به من حديثه منكراً[27]، ولما ذكر مثالاً لراوي الحسن لذاته اختار محمد بن عمرو بن علقمة وقال فيه: (من المشهورين بالصدق والصيانة، لكنه لم يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه، ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته، فحديثه من هذه الجهة حسن)[28]، فتفرد مثل هذا الراوي يُعد عند ابن الصلاح حسناً، ما لم يخالف.
وممن يرى هذا الرأي أيضاً الحافظ ابن حجر العسقلاني، فقد صَرَّح بأن ما ينفرد به مثل محمد بن إسحاق، أو عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يُعد حسناً[29]، وقال في موضع آخر: (ما ينفرد به ابن إسحاق، وإن لم يبلغ درجة الصحيح، فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث)[30] وقال أيضاً: (وابن إسحاق حسن الحديث، إلا أنه لا يحتج به إذا خولف)[31].
وقال في عبدالرحمن بن أبي الزناد: (غاية أمره أنه مختلف فيه، فلا يتجه الحكم بصحة ما ينفرد به، بل غايته أن يكون حسناً)[32].
وقال في عبدالله بن محمد بن عقيل: (فأما إذا انفرد فيُحسن، وأما إذا خالف فلا يُقبل)[33].
فتفرد من يُحسن حديثه لذاته يكون حجة عند ابن حجر إلا إذا خالف فلا يُقبل، والمخالفة لمن هو أولى منه صفةً أو عدداً توجب الشذوذ.
وممن يرى قريباً من ذلك من القدماء: الإمام ابن حبان فقد قال في ترجمة محمد بن سليم أبي هلال الراسبي: (وكان أبو هلال شيخاً صدوقاً، إلا أنه كان يخطئ كثيراً من غير تعمد حتى صار يرفع المراسيل ولا يعلم، وأكثر ما كان يحدث من حفظه، فوقع المناكير في حديثه من سوء حفظه)[34] ثم قال: (والذي أميل إليه في أبي هلال الراسبي:
ترك ما انفرد من الأخبار التي خالف فيها الثقات.
والاحتجاج بما وافق الثقات.(/7)
وقبول ما انفرد من الروايات التي لم يخالف فيها الأثبات، التي ليس فيها مناكير.
لأن الشيخ إذا عرف بالصدق والسماع، ثم تبين منه ولم يفحش ذلك منه، لم يستحق أن يعدل به عن العدول إلى المجروحين إلا بعد أن يكون وهمه فاحشاً وغالباً، فإذا كان كذلك استحق الترك، فأما من كان يخطئ في الشيء اليسير، فهو عدل، وهذا مما لا ينفك عنه البشر، إلا أن الحكم في مثل هذا إذا عُلِم خطؤه تجنبه واتبع ما لم يخطئ فيه.
هذا حكم جماعة من المحدثين العارفين الذين كانوا يخطئون، وقد فصَّلناهم في الكتاب[35] على أجناس ثلاثة:
1- فمنهم من لا يُحتج بما انفرد من حديثه، ويقبل غير ذلك من روايته.
2- ومنهم من يحتج بما وافق الثقات فقط من روايته.
3- ومنهم من يُقبل ما لم يخالف الأثبات، ويحتج بما وافق الثقات)[36].
فمع وصفه لأبي هلال بكثرة الخطأ وسوء الحفظ، إلا أنه قبل ما تفرد به مما لم يخالف فيه الإثبات، ورد أخباره التي خالف فيها الثقات، واحتج بما وافق الثقات من حديثه، وقد بين ابن حبان مراده من قوله: "ما لم يخالف الأثبات" فقال: (ولا يتوهم متوهم أن ما لم يخالف الأثبات، هو ما وافق الثقات، لأن ما لم[37] يخالف الإثبات هو ما روى من الروايات التي لا أصول لها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أتى بزيادة اسم في الإسناد أو إسقاط مثله مما هو محتمل في الإسناد، وأما ما وافق الثقات فهو ما يروى عن شيخ سمع منه جماعة من الثقات، فإن أتى بالشيء على حسب ما أتوا به عن شيخه [احتج به])[38] [39].
وقد سبق أن ذكرنا أن ابن حبان ممن يدخل "الحسن" في الصحيح ولا يفرق بينهما، وقد نقلنا عنه هناك بعض النصوص التي تدل على أنه يقبل الحديث من الراوي الكثير الخطأ إذا لم يعلم خطؤه[40].(/8)
وممن يرى ذلك أيضاً الحافظ أبو عبدالله الحاكم، وهو ممن لا يفرق بين الحسن لذاته والصحيح[41] أيضاً، وقد أكثر في مستدركه من تصحيح أحاديث تفرد بها رواة هم في حكم من يحسن لهم المتأخرون كأحمد بن جناب المصيصي الذي وصفه ابن حجر بأنه: (صدوق)، وقال الحاكم في حديثه: (هذا حديث صحيح الإسناد، تفرد به أحمد بن جناب المصيصي، وهو شرط من شروطنا في هذا الكتاب أنا نخرج أفراد الثقات إذا لم نجد لها علة)[42].
وقال في حديث آخر: (هذا حديث صحيح، تفرد به عمرو بن محمد بن أبي رزين[43] وهو صدوق، ولم يخرجاه، وقد أوقفه يحيى بن سعيد الأنصاري وغيره عن نافع عن ابن عمر)[44].
وقال في حديث آخر: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، لتفرد عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب[45]، ولما نسب إليه من سوء الحفظ، وهو عند المتقدمين من أئمتنا ثقة مأمون)[46].
ومفهوم الثقة عنده واسع، يدخل فيه حتى الصدوق الذي يهم كما هو ظاهر من هذا النص، ولما عُرف أنه لا يفرق بين الحسن والصحيح، وهو يرى أن تفرد "الثقة" يُسمى شاذاً ولكن لا يمنع التصحيح[47]، ولهذا وجدنا في مستدركه عدة نصوص يقول فيها مثلاً: (صحيح الإسناد على شرطهما، وهو غريب شاذ)[48]، و(صحيح الإسناد... وهو شاذ بمرة)[49]، و(شاذ صحيح الإسناد)[50]، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري... ولعل متوهماً يتوهم أن هذا متن شاذ، فلينظر في الكتابين - يعني الصحيحين - ليجد من المتون الشاذة التي ليس لها إلا إسناد واحد ما يتعجب منه، ثم ليقس هذا عليها)[51].
فمجمل النصوص السابقة تؤكد أن الحاكم يحتج بتفرد الصدوق إذا لم يخالف مخالفة يرى هو أنها ضارة، وقد مر معنا قبل قليل أنه قبل تفرد ابن أبي رزين مع أنه خولف.(/9)
وممن يرى أن تفرد الصدوق مقبول أيضاً الحافظ ابن القطان الفاسي، فقد ذكر قول الحافظ عبدالحق الإشبيلي في ثابت بن عجلان "لا يحتج به"، ثم رد عليه بقوله: (وقوله في ثابت بن عجلان لا يحتج به، قول لم يقله غيره فيما أعلم، ونهاية ما قال فيه العقيلي: "لا يتابع على حديثه". وهذا من العقيلي تحامل عليه، فإنه يُمس بهذا من لا يُعرف بالثقة، فأما من عُرِف بها، فانفراده لا يضره، إلا أن يكثر ذلك منه)[52].
ثم نقل قول بعض النقاد فيه: لا بأس به، ثم قال: (والحق أن من عُرف بالطلب، وأخذ الناس عنه، ونقل الناقلون حُسن سيرته، بتفصيل أو بإجمال بلفظ من الألفاظ المصطلح عليها، مقبول الرواية)[53]، فدل هذا أنه عنده دون الثقة المتفق عليه ومع ذلك قَبِل تفرده.
وقد علق الحافظ ابن حجر على كلام ابن القطان السابق بقوله: (صَدَق، فإن مثل هذا لا يضره إلا مخالفته الثقات لا غير، فيكون حينئذٍ شاذاً)[54]، وقد وصف ثابت بن عجلان بأنه : (صدوق)[55].
وهذا رأي جمهور علماء الحديث من المتأخرين ممن يرون أن الحسن لذاته حجة كما قال الصنعاني: (الحسن لذاته... لم يعتبروا في رسمه إلا خفة ضبط رواته كما عرفت، فإنهم قالوا: "فإن خف الضبط فالحسن لذاته، وبكثرة طرقه يصح"، فلم يجعلوا متابعة غيره له إلا شرطاً لصحته لا لحسنه، وأما الحسن لغيره فقد عرفناك مراراً أنه لا يصير حسناً إلا بمتابعة غيره)[56].
وهكذا قال الشيخ عبدالفتاح أبو غدة: (وإن لم يكن هناك ما يخالف حديث الصدوق، وانفرد هو بحديث الباب، قُبِل حديثه إذ لا معارض له أقوى منه)[57].
وذهب التهانوي إلى "أن تفرد "المختلف فيه" حجة في درجة حجية الحسن على أصل مذهب الحنفية؛ لأن التعديل مقدم على الجرح إلا إذا كان مفسراً، فإذا اختلف في التوثيق والتضعيف ولم يكن الجرح مفسراً، فالراوي ثقة عند الحنفية وآخرين غيرهم، فيقبل تفرده إذا لم يخالف الجماعة مخالفةً تستلزم ردَّ ما رواه"[58].(/10)
وفيما أعرف فإن أغلبية المعاصرين ممن لهم كتابات منشورة على هذا الرأي.
وممن يميلون أحياناً لهذا الرأي من كبار أئمة النقد المتقدمين: الإمام البخاري، إلا أني لم أجد ما يدل صراحة على أنه يعمم ذلك، وإنما وقفت على بعض النصوص القليلة التي تدل على أنه لا يتشدد في بعض تفردات من كانوا دون مرتبة الثقة، ولهذا أخَّرتُ الكلام عنه في هذا المبحث لوجود شكوك لدي في أنه يقبل بصفة مطلقة تفرد الصدوق ومن في حكمه.
فيقول الحافظ ابن حجر في فُليح بن سليمان: (صدوق، تكلم بعض الأئمة في حفظه، ولم يخرج البخاري من حديثه في الأحكام إلا ما توبع عليه، وأخرج له في المواعظ والآداب وما شاكلها طائفة من أفراده)[59]، وبنحو هذا قال الذهبي، فقد قال: (قد اعتمد أبو عبدالله البخاري فليحاً في غير ما حديث...)[60] يريد أنه لم يُتابع عليها.
وقد حَسَّن البخاري تفرد عامر بن شقيق بحديث تخليل رسول الله صلى الله عليه وسلم للحيته [61] مع أن عامر بن شقيق متكلم فيه، فقد قال له الترمذي: (إنهم يتكلمون في هذا الحديث، فقال: هو حسن)[62].
وقد قوى أمر محمد بن إسحاق ودافع عنه دفاعاً قوياً نافياً عنه أسباب الضعف[63]، واحتج بحديثه الذي رواه عن أبي هريرة موقوفاً في أن مدرك الركوع إذا لم يقرأ الفاتحة فلا يُعد مدركاً للركعة[64]، مع علمه بكثرة تفرداته فقد قال: (محمد ابن إسحاق ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد بها لا يُشاركه فيها أحد)[65]، ولم يستنكرها ولم يتكلم فيه بسببها، مع علمه بأنه قد تُكلم فيه.(/11)
وإذا استحضرنا ما ذكرناه أول هذا المبحث عن عدد الرواة الذين أخرج لهم البخاري في صحيحه وأطلق عليهم ابن حجر وصف "الصدوق"، واستحضرنا أيضاً قول الحاكم المتقدم آنفاً عن كثرة المتون التي ليس لها إلا إسناد واحد في الصحيحين، وقول الحافظ ابن حجر[66] أن في الصحيحين قدر مائتي حديث من الغرائب الأفراد، وقول الحافظ ابن رجب[67] أن تصرف البخاري ومسلم يدل على أن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه وليس له علة فليس بمنكر خلاف مذهب يحيى ابن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وغيرهما؛ فيحتمل أن يكون في صحيح البخاري أحاديث تفرد بها بعض الصدوقين، وإن كان ذلك كما يظهر من "هدي الساري" نادراً جداً[68] وقد حرص الحافظ ابن حجر على إيراد المتابعات والشواهد ليرفع التفرد عن بعض المتكلم فيهم ممن احتج بهم البخاري، سواء في الأصول أو في الشواهد والمتابعات والمعلقات.
والذي يحملني على عدم الجزم بأن ذلك اختيار البخاري رحمه الله، لأنني وقفت على عدة نصوص تدل على أنه لم يقبل بعض تفردات الثقات والصدوقين ولو لم يخالفوا، فمثلاً وجدته لا يقبل حديثاً تفرد به شبابة بن سوَّار وهو ثقة حافظ[69] عن شعبة بن الحجاج مع أنه لم يُخالف، ومع أن المتن محفوظ من طرق أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[70]، ومع أن علي بن المديني لم يرده وقال: (لا ينكر لرجل سمع من رجل ألفاً وألفين أن يجيء بحديث غريب)[71].
كما وجدت البخاري رد حديثاً تفرد به حفص بن غياث عن عبيدالله بن عمر العمري وقال: (هذا حديث فيه نظر)[72]. مع أنه احتج بحفص في صحيحه في مواضع عديدة[73]، كما أن حفصاً لم يُخالف، ولهذا فقد صحح حديثه الترمذي[74]، وابن حبان[75]، فلم يقبل البخاري حديثه بسبب التفرد[76] مع كونه ثقة عنده.(/12)
وذكر الترمذي حديثاً لعمر بن هارون البلخي يرويه عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها"[77] ثم قال: (سمعت محمد بن إسماعيل يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث، لا أعرف له حديثاً ليس لإسناده أصل أو قال: ينفرد به إلا هذا الحديث... ولا نعرفه إلا من حديث عمر بن هارون، ورأيته حسن الرأي في عمر)[78].
فرد تفرد من كان يحسن الرأي فيه ويرى أنه مقارب الحديث، ولا أظن البخاري رد حديثه لمعارضته لأحاديث الأمر بإعفاء اللحى؛ لأن لفظ الإعفاء غير صريح ولا قطعي في الدلالة على منع الأخذ من اللحية، بدليل أن جمعاً من الصحابة كانوا يفعلون ذلك[79]، كما أن البخاري من عادته أن يظهر المتن المعارض إذا أراد الإعلال وتأكيد الضعف، ولم يفعل ذلك هنا.
والنصوص السابقة تدل على أن تفرد الصدوق بل الثقة أحياناً لا يكون حجة عند البخاري، ولعله توفرت له بعض القرائن التي استدعت النظر في تلك التفردات ولو لم توجد مخالفة صريحة وواضحة.
وعلى أية حال فإن تلك النصوص وغيرها تمنعنا من إطلاق القول بأن البخاري يقبل تفرد الصدوق، ولكن نستطيع أن نقول - نظراً لما ذكر آنفاً من نصوص أخرى - أنه يميل إلى قبول ذلك أكثر من أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي على سبيل المثال.
---
[1] معجم مقاييس اللغة (3/339).
[2] فتح المغيث (3/113).
[3] الجرح والتعديل (2/37).
[4] المرجع السابق.
[5] المدخل إلى معرفة الصحيحين (ص28)، ونحوه (ص601).
[6] الجرح والتعديل (2/66، 137، 144، 158، 161).
[7] المرجع السابق (2/124).
[8] المرجع السابق (2/57، 63، 67، 72).
[9] المرجع السابق (4/62).
[10] تاريخ ابن معين (3/225)، (4/263)، والجرح والتعديل (7/192)، والنبلاء (9/20).
[11] الميزان (2/508).
[12] تهذيب الكمال (5/427)، وانظر أمثلة أخرى في تاريخ بغداد (13/451) وتهذيب الكمال (2/521).
[13] تاريخ بغداد (11/146).(/13)
[14] تاريخ بغداد (7/350) وتهذيب الكمال (6/272)، وانظر مثالاً آخر في تهذيب الكمال (14/499).
[15] العلل الكبير (ص392).
[16] التاريخ الكبير (8/80).
[17] النبلاء (9/429).
[18] الميزان (1/103).
[19] النكت لابن حجر (1/407).
[20] آداب الزفاف في السنة المطهرة (ص135-136).
[21] ماذا عن المرأة ؟ (ص93-94).
[22] المرجع السابق (ص186-187) بتصرف يسير.
[23] يظهر من سياق الكلام أن المقصود اتفاق ابن أبي حاتم وابن الصلاح والسخاوي على ذلك، فهو اتفاق غير عام لكل المحدثين.
[24] منهج النقد في علوم الحديث (ص111).
[25] استخرجنا هذه الإحصائية عن طريق الحاسب الآلي من برنامج "الموسوعة الذهبية".
[26] علوم الحديث (ص70-71).
[27] المرجع السابق (ص28).
[28] علوم الحديث (ص31).
[29] نزهة النظر (ص30) ولمعرفة أقوال أهل العلم في ابن إسحاق وعمرو بن شعيب انظر ما تقدم في الفصل الرابع.
[30] فتح الباري (11/167).
[31] المرجع السابق (4/32) دار المعرفة.
[32] المرجع السابق (13/187) دار المعرفة، وللمزيد عن مرويات ابن أبي الزناد انظر ما ذكره المعلمي في المبحث الثاني من الفصل المتقدم.
[33] التلخيص الحبير (2/108).
[34] كتاب المجروحين (2/283).
[35] يعني كتاب المجروحين.
[36] كتاب المجروحين (2/283-284).
[37] سقطت "لم" من الأصل.
[38] هذه الزيادة يلزم منها السياق وهي جواب الشرط، وقد سقطت من الأصل.
[39] كتاب المجروحين (3/127).
[40] انظر المبحث الثالث من الفصل الثالث في هذا الباب.
[41] التقريب (20).
[42] المستدرك (1/33).
[43] قال ابن حجر في التقريب (5107): (صدوق ربما أخطأ).
[44] المستدرك (1/180).
[45] قال ابن حجر في التقريب (3592): (صدوق في حديثه لين) وتقدم قبل قليل أنه حسن ما انفرد به.
[46] المستدرك (1/71-72).(/14)
[47] انظر معرفة علوم الحديث (ص119-122)، وقد ذكر في المدخل إلى الإكليل (ص39) أن الأحاديث الأفراد التي يرويها الثقات تعد من الصحيح المتفق عليه.
[48] المستدرك (1/108).
[49] المرجع السابق (1/274).
[50] المرجع السابق (1/277).
[51] المرجع السابق (1/21).
[52] بيان الوهم (5/363).
[53] المرجع السابق (5/364).
[54] التهذيب (2/10).
[55] التقريب (822).
[56] توضيح الأفكار (1/193-194).
[57] قواعد في علوم الحديث (ص246).
[58] المرجع السابق (ص347) مع بعض التصرف اليسير في ترتيب كلامه.
[59] فتح الباري (1/142).
[60] الميزان (3/365).
[61] انظر تخريج الحديث والكلام عليه في مبحث البخاري النص الثامن عشر.
[62] العلل الكبير (ص33).
[63] جزء القراءة خلف الإمام للبخاري (ص40-41).
[64] المرجع السابق (ص37).
[65] تاريخ بغداد (1/227) وتهذيب الكمال (24/419).
[66] النكت لابن حجر (1/368).
[67] شرح علل الترمذي (1/456).
[68] انظر مثلاً هدي الساري: إسماعيل بن أبي أويس، أخرج له البخاري حديثين تفرد بهما (ص410).
[69] التقريب (2733).
[70] العلل الكبير (ص309).
[71] تاريخ بغداد (9/297).
[72] العلل الكبير (2/791) تحقيق حمزة ديب، وقد سقط بعض سند الحديث في نسخة السامرائي.
[73] هدي الساري (ص418).
[74] جامع الترمذي (1880).
[75] صحيح ابن حبان (12/141، 143-144).
[76] وقد رد حديث حفص بسبب التفرد أيضاً ابن معين وأحمد وعلي بن المديني كما في التهذيب (2/417).
[77] حكم الشيخ الألباني على هذا الحديث بأنه موضوع في السلسلة الضعيفة (1/304) لأن البلخي قد وصفه ابن معين وصالح جزرة بأنه كذاب، وانظر كلام النقاد فيه في التهذيب (7/502-505).
[78] جامع الترمذي (5/94) ورقم الحديث (2762).
[79] مصنف ابن أبي شيبة (8/374-376).(/15)
العنوان: تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف(2)
رقم المقالة: 200
صاحب المقالة: د. خالد بن منصور الدريس
-----------------------------------------
أدلة من قبل تفرد الصدوق:
1- الأصل في حديث العدل القبول بدليل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
فدلت الآية الكريمة بمفهوم المخالفة على أن خبر العدل لا يتثبت في قبوله ولا يُتشكك في صحته، والصدوق كالثقة يشملهما اسم العدالة، وقد اتفق أهل العلم كما يقول الخطيب البغدادي[1] على أنه لو انفرد الثقة بنقل حديث لم ينقله غيره لوجب قبوله.
و"الصدوق" الذي يهم أحياناً يستحق الدخول في ذلك، بدليل أن البخاري قال في كتابه الجامع الصحيح: (كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام)[2].
وقال الحافظ ابن حجر مفسراً هذا الكلام: (المراد بالإجازة جواز العمل به، والقول بأنه حجة)[3].
فلا فرق حقيقي بين الثقة والصدوق في وجوب قبول الخبر.
2-الغالب على من وصف بأنه "صدوق" أن أحاديثه مستقيمة، والحكم للغالب، فإذا تفرد بشيء لم يتبين لنا وهمه فيه، فعلينا أن نحتج به؛ لأن الأصل فيه الحفظ والاستقامة وعدم الخطأ، يقول الدكتور عبدالعزيز التخيفي: (ومن ادعى على الراوي الموصوف بأنه "صدوق" بالوهم في شيء من مروياته فعليه الدليل؛ لأن الغالب عليه من حيث الحفظ أنه ضابط لحديثه)[4].
3-الذي يفهم من نص كتب المصطلح أن الجمهور يحتجون بالحسن لذاته وفي ذلك دليل على أن تفرد الصدوق حجة عند الجمهور، لأن الصدوق إما أن يوافق غيره من المعتبر بهم فيكون حجة عند الجميع، وإما أن يخالف فيكون غير حجة، وإما أن ينفرد، فدل قولهم أن الحسن لذاته حجة على قبول تفرده وإلا أصبح كلامهم لا فائدة منه ولا طائل من ورائه.(/1)
4-ما من ثقة إلا له بعض الأحاديث التي يتفرد بها ولم يشاركه فيها أحد، وقد قبلت الأمة جملة من الأخبار النبوية مع تفرد الثقات بها.
من ذلك حديث (إنما الأعمال بالنيات)[5] لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر بن الخطاب، ولا عن عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا عن محمد إلا يحيى بن سعيد، وهو من أشهر الأحاديث، بل خطب به عمر رضي الله عنه على المنبر ومع ذلك لم ينقله عنه بإسناد صحيح إلا راوٍ واحد فقط، ولا عن ذاك الراوي إلا راوٍ واحد فقط أيضاً مع شهرة الحديث، ومسيس الحاجة إليه في كل أبواب العلم والفقه، ومنه استنبطت قاعدة مهمة هي: (الأمور بمقاصدها) التي تعتبر إحدى القواعد الكلية في الفقه الإسلامي، مع ذلك كله فليس له إلا إسناد واحد صحيح فقط، ومثل هذا كثير في أحاديث الصحيحين، فكم فيهما من حديث قد تُفرد به[6].
فإذا كان هذا في الثقات، وعُرف أن الفرق الجوهري بين الثقة والصدوق هو في "خفة الضبط" أو وجود بعض الأوهام غير الكثيرة؛ فما المانع أن يُعامل الصدوق كالثقة في ذلك، لاسيما وأن اسم القبول شامل لهما، وأن الفرق بينهما يسير، ولا يبلغ أن يكون مؤثراً في حكم تفرد أحدهما عن الآخر.
5- من المعلوم أن كثيراً من الرواة يحرصون على أن يتفردوا عن أقرانهم وزملائهم بأحاديث حتى يتميزوا بذلك.
وأخبار المحدثين في ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال قول عبدالرزاق: (كنتُ أسمع الحديث من العالم فأكتمه حتى يموت العالم)[7].
وقال قيس بن الربيع: (كنا إذا أتينا المشايخ قَدَّمنا سفيان الثوري فكتب لنا، وكان أخفنا كتابة، فكان إذا مر بحديث صغيرٍ حسن، حَفِظه ولم يكتبه، ففطنا له، فعزلناه)[8].
وقال شعبة : (حدثنا سلمة بن كُهيل - والحمد لله الذي لم يسمع سفيان منه - عن أبي عمرو الشيباني عن عبدالله...)[9].
وقال ابن معين: (أشتهي أن أقع على شيخ ثقة عنده بيت مليء كتباً، أكتب عنه وحدي)[10].(/2)
وقال ابن جريج لسفيان بن عيينة: (أما أنت مسلم؟! تخبئ عني الأحاديث حتى يذهبوا)[11].
وقد خصص الحافظ الخطيب البغدادي باباً سماه: (المنافسة في الحديث بين طلبته، وكتمان بعضهم بعضاً للضن بإفادته)، أورد فيه جملة من قصص المحدثين وأخبارهم في ذلك[12].
ولا شك أن المحدثين كغيرهم من البشر يحبون التميز، ولكن حبهم لذلك يختلفون فيه - أو يختلف أكثرهم إن شاء الله - فيه عن غيرهم بأنه رغبة في الثواب وزيادة الأجر وحرص على المعروف والتنافس في الخير.
وعلى أية حال فالمراد هنا تقرير حقيقة لا نزاع فيها، وهي أن رواة الحديث بمن فيهم من قيل فيه: "صدوق" ومن في حكمه، يحرصون على أن يحظوا بأحاديث لا يشاركهم في روايتها أحد آخر، ومن لم يفهم هذا الدافع يظن أن تفرد الصدوق دلالة على الخطأ لعدم رواية بعض أقرانه من الثقات لذلك الحديث، والواقع أنه فعل ذلك عن قصد ليحظى بالتفرد من دونهم، ففي عدم الأخذ بتفرده رد لبعض السُنة بسبب الغفلة عن هذا الدافع النفسي الفطري.
المطلب الثاني: التوقف في تفرد الصدوق.
علمنا فيما مضى أن جمهور المتأخرين على المذهب القائل بقبول تفرد الصدوق، حتى كاد مذهب المتوقفة في تفردات بعض الثقات والصدوقين أن يندثر، وتنطمس معالمه، لولا أن الحافظين الذهبي وابن رجب قد نبها عليه، وعملا به، وطرحوا تحقيقات نفيسة وتدقيقات مليحة في ذلك.
يقول الإمام الذهبي: (وقد يتوقف كثير من النقاد في إطلاق (الغرابة) مع (الصحة)، في حديث أتباع الثقات، وقد يوجد بعض ذلك في الصحاح دون بعض، وقد يُسمي جماعة من الحفاظ الحديثَ الذي ينفرد به مثل هشيم، وحفص بن غياث: منكراً)[13].
ويقول ابن رجب: (وانفراد الراوي بالحديث، وإن كان ثقة، هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، وأن يكون شاذاً ومنكراً، إذا لم يرو معناه من وجه يصح.
وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين كالإمام أحمد، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني وغيرهم)[14].(/3)
ويقول في موضع آخر: (وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه:(إنه لا يُتابع عليه"، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه، واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه)[15].
ويقول أيضاً عن القاعدة التي يتبعها الإمام أحمد بن حنبل في تفرد الثقة: (لأن قاعدته: أن ما انفرد به ثقة فإنه يتوقف فيه حتى يُتابع عليه، فإن توبع عليه زالت نكارته، خصوصاً إن كان الثقة ليس بمشتهر في الحفظ والإتقان، وهذه قاعدة يحيى القطان، وابن المديني وغيرهما)[16].
وهذه النصوص وإن كانت في حق بعض الثقات، فهي تنطبق على من قيل فيه:(صدوق)من باب أولى لأنه أقل ممن قيل فيه: (ثقة) من حيث المرتبة، ثم إن الثقة هنا وفي بعض المواضع أحياناً تستعمل بمعنى القبول أي الراوي الذي يصلح حديثه للقبول، والصدوق داخل في ذلك ضمناً بلا شك.
وقد ألمح الحافظ ابن الصلاح قبل الذهبي وابن رجب إلى ذلك في قوله: (وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث)[17]، لكنه لم يوضح الأمر كما فعلا، ولم يبين هل إطلاقهم على تفرد الثقة أم الصدوق أم الضعيف أم مطلق التفرد؟
وجاء الحافظ ابن حجر فأكمل النقص ووضح الخفي في كلام ابن الصلاح فقال: (وهذا مما ينبغي التيقظ له، فقد أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ (المنكر) على مجرد التفرد، لكن حيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده)[18].
وتقرير هذا الرأي ونسبته لبعض النقاد أو لكثيرٍ منهم موجود في كلام بعض الحفاظ المتقدمين على ابن الصلاح، ولكننا أحببنا أن نذكر هذا المذهب أولاً من حيث الإجمال، ومن كلام كبار المصنفين في علم أصول الحديث، ثم نفصل في ذلك.(/4)
وأقدم من صرَّح بهذا المذهب وقرَّره بوصفه قاعدة الحافظ أبوبكر البرديجي (ت301هـ)[19] - وهو معاصر لعدد من كبار الأئمة كالبخاري ومسلم والذهلي وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم -، فقد قال: (المنكر هو التي يحدث به الرجل عن الصحابة، أو عن التابعين عن الصحابة، لا يُعرف ذلك الحديث، وهو متن الحديث إلا من طريق الذي رواه، فيكون منكراً)[20].
وقد وضح ابن رجب أن هذا الكلام أورده البرديجي في سياق ما انفرد به شعبة، أو سعيد بن أبي عروبة، أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال البرديجي بعد ذلك: (فأما أحاديث قتادة الذي يرويها الشيوخ مثل حماد ابن سلمة، وهمام، وأبان، والأوزاعي، يُنظر في الحديث، فإن كان الحديث يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أنس بن مالك من وجه آخر لم يُدفع.
وإن كان لا يُعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرتُ لك، كان منكراً)[21].
وقال أيضاً: (إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً لا يُصاب إلا عند الرجل الواحد، لم يضره أن لا يرويه غيره إذا كان متن الحديث معروفاً، ولا يكون منكراً ولا معلولاً)[22].
وقال أيضاً: (لا يُلتفت إلى رواية الفرد عن شعبة، ممن ليس له حفظ ولا تقدم في الحديث من أهل الإتقان)[23].
وكلام البرديجي إن عُمم على كل الثقات بدون تمييز للحفاظ المتقنين كشعبة والزهري وابن المسيب وغيرهم، عمن سواهم؛ ففيه نظر كبير، ويدل على تشدد يفوق تشدد يحيى بن سعيد القطان وأبي حاتم الرازي، ويكون شاملاً من باب أولى تفرد الصدوق ومن في حكمه.(/5)
والذي يعنينا من كلامه ما ذكره عن تفرد الشيوخ كحماد بن سلمة وهمام والأوزاعي عن قتادة، ومن المعلوم أن اصطلاح الشيوخ يُقصد به في هذا السياق وما يشبهه من يكون دون الأئمة الحفاظ[24]، وعلى هذا فمنزلة حماد بن سلمة إذا روى عن ثابت البناني مثلاً تكون أعلى وأقوى من حديثه عن قتادة، وذلك لما عُرف من شدة تثبته وإتقانه فيما يرويه عن ثابت، فالراوي الواحد تتنوع مرتبته باختلاف من يروي عنه وقس على ذلك غيره.
ومما يدل على أن بعض النقاد من المحدثين كان يرد بعض الأحاديث بالتفرد، ما وجدناه في كلام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) عند كلامه على علل الأخبار التي يخرجها في كتابه (تهذيب الآثار) يقول : (وهذا الحديث عندنا صحيح سنده، لا علة فيه توهنه، ولا سبب يضعفه، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيماً غير صحيح، لأنه خبر لا يعرف له مخرج عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، والخبر إذا انفرد بنقله عندهم منفرد وجب التثبت فيه )[25].
فهو ينقل عن غيره من أهل العلم أن الحديث إذا انفرد به منفرد ولو كان ثقة يجب التثبت في ذلك الخبر، وذلك في عشرات[26] النصوص مما يدل على انتشار هذا الأمر واشتهاره، وإن كان الطبري كما هو ظاهر كلامه لا يرى ذلك سبباً لرد الحديث، ولكنه يورد من المتابعات والشواهد ما يجعل تلك العلة لا محل لها.
وممن نقل التوقف في حديث الصدوق ابن أبي حاتم فقد قال: (يكتب حديثه وينظر فيه) وقد شرحنا معنى كلامه هذا فيما تقدم وأنه لا يعني التوقف مطلقاً.(/6)
وقد سمى أبو عبدالله الحاكم[27] ما ينفرد به الثقة ولا يكون له أصل متابع له شاذاً، وهذا المذهب كما قال النووي: (مذهب جماعات من أهل الحديث، وقيل إنه مذهب أكثرهم)[28]، مع العلم أن الحاكم لا يرى ذلك من قسم المردود بل هو عنده من الصحيح المتفق عليه[29]، وتسمية المنفرد بالشاذ دال على الرد كما سيأتي في كلام الخليلي وإن لم يصرح به الحاكم.
وقال الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبدالله الخليلي (ت446هـ): (وأما الشواذ فقد قال الشافعي وجماعة من أهل الحجاز: الشاذ عندنا ما يرويه الثقات على لفظ واحد، ويرويه ثقة خلافه زائداً أو ناقصاً.
والذي عليه حفاظ الحديث: الشاذ: ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة. فما كان من غير ثقة فمتروك لا يُقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به)[30].
وقال في موضع آخر: (وأما الأفراد: فما يتفرد به حافظ، مشهور ثقة، أو إمام من الحفاظ والأئمة؛ فهو صحيح متفق عليه)[31]، و(نوع آخر من الأفراد: لا يحكم بصحته ولا بضعفه، ويتفرد به شيخ لا يعرف ضعفه ولا توثيقه)[32].
وقال الحافظ ابن رجب موضحاً كلام الخليلي: (وفرَّق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات، وبين ما ينفرد به إمام أو حافظ، فما انفرد به إمام أو حافظ قُبِل واحتج به، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ، وحكى ذلك عن حفاظ الحديث)[33].(/7)
وقال أيضاً: (كلام الخليلي في تفرد الشيوخ، والشيوخ في اصطلاح أهل هذا العلم عبارة عمن دون الأئمة والحفاظ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره، فأما ما انفرد به الأئمة والحفاظ فقد سماه الخليلي فرداً، وذكر أن أفراد الحفاظ المشهورين الثقات، أو أفراد إمام من الحفاظ الأئمة صحيح متفق عليه)[34] وقد ذكر الحافظ أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت474هـ) كلاماً في (تفرد حماد بن سلمة وغيره من الشيوخ عن قتادة عن أنس، وأنه إذا كان الحديث معروفاً من غير تلك الطريق عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أنس لم يُردَّ، وإن كان لا يُعرف من حديث أنس ولا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم من غير تلك الطريق فهو منكر)[35].
وهذا الكلام مطابق لكلام البرديجي المنقول آنفاً وأظن الباجي أخذه منه ولكن لم ينسبه إليه، وذكره له مع عدم تعقبه يدل على إقراره له ولو في الجملة، إلا أن الباجي صرح بأن تفرد الإمام مالك وأمثاله بحديث يكون محتملاً[36].
والملاحظ في النصوص السالفة أن بعضها صَرَّح بالرد، والبعض صرح بالتوقف، وكلا الأمرين يجمعهما عدم الاحتجاج بالحديث ابتداءً، إلا أنني
آثرتُ استعمال لفظ (التوقف) في عنوان المطلب لما يلي:
1- لنص الخليلي والذهبي وابن رجب، ومفهوم كلام الطبري عن (وجوب التثبت في الحديث المنفرد)، ولمفهوم عبارة ابن أبي حاتم: (وينظر فيه)، مما يشعر بالتوقف.
2- لا يُشك أن تفرد الصدوق ليس كتفرد الضعيف المتفق على ضعفه، فوجب التفريق بينهما؛ لأن تفرد الصدوق مشكوك فيه عند من لا يقبله، وأما تفرد الضعيف فالمترجح في الظن أنه خطأ، ولهذا فالأولى أن يُستعمل لفظ (التوقف) بدل الرد إلا بالنسبة لمن صرح بالرد كالبرديجي مثلاً فيُحافظ على عبارته كما قالها، وأما من حيث عموم المذهب فلفظ (التوقف) أولى.(/8)
3- حقيقة التوقف المقصود هنا يعني التريث والنظر طلباً للترجيح في حديثٍ بعينه من أحاديث ذلك المنفرد، فهو توقف نظر وفحص وتثبت، وليس توقفاً مطلقاً لكون الأدلة متكافئة كما هو موقف من توقف في راوٍ أوفي مسألة لعدم التوصل إلى رأي راجح، والفرق بين التوقفين أن التوقف الأول وقتي، والغرض منه البحث والتفتيش لاحتمال وجود قرينة ترجح قبول ذلك التفرد، أما التوقف الثاني فهو توقف دائم فهو نتيجة للبحث والنظر حصل بعدهما التوقف بصفته نتيجة ما بعد البحث.
وسنرى في بعض النصوص التي سنذكرها عن يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل أنهما تراجعا عن رأيهما في بعض التفردات لما وقفا على ما يدل على أن ذاك المنفرد قد توبع.
وسنذكر فيما يلي بعض النصوص التطبيقية لبعض أئمة النقد، التي تدل على التوقف عن بعض ما يتفرد به الثقة أو الصدوق وهؤلاء هم:
أولاً: يحيى بن سعيد القطان.
ثانياً: أحمد بن حنبل.
ثالثاً: أبو حاتم الرازي.
رابعاً: أبو جعفر العقيلي.
خامساً: النسائي.
أولاً : يحيى بن سعيد القطان:
(النص الأول): في مسائل الإمام أحمد بن حنبل لابن هانيء النيسابوري، ورد هذا النص: (قال لي أبو عبدالله[37]: قال لي يحيى بن سعيد : لا أعلم عبيد الله أخطأ إلا في حديث واحد لنافع. حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام).
قال أبو عبدالله: فأنكره يحيى بن سعيد عليه.
قال أبو عبدالله: فقال لي يحيى بن سعيد : فوجدته قد حدث به العمري الصغير عن نافع عن ابن عمر مثله.
قال أبو عبدالله: لم يسمعه إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العمري صححه)[38].
والحديث رواه يحيى بن سعيد عن عبيد الله به عند البخاري في صحيحه وغيره[39]، ورواه آخرون غير يحيى عن عبيد الله به[40]، وله طرق أخرى عن نافع به من غير طريق عبيدالله[41].(/9)
وعبيدالله بن عمر العمري، يرى القطان أنه أثبت من الإمام مالك في نافع[42]، وهذا يدل على أنه يراه من كبار الثقات الأثبات، ومع ذلك فقد استنكر حديثه السابق، ولم يُزل النكارة إلا لما رأى متابعة عبدالله بن عمر العمري لأخيه، ومن المعلوم أن عبيدالله أوثق وأثبت من أخيه الذي تكلم في حفظه النقاد[43]، وعبيدالله أكبر سناً وإن كان مصغراً في الاسم، وعبدالله مكبر في الاسم وهو الأصغر سناً، وكان يحيى القطان لا يحدث عن عبدالله استضعافاً له[44].
ويظهر لي أن القطان توقف في تفرد عبيدالله لحال نافع وأنه شيخ له تلاميذ كثر من كبار الثقات وليس لأن كل تفرد من الثقة يعد منكراً، يؤكد ذلك أن توقفه زال بمجرد متابعة من يراه هو أنه ضعيف مما يدل على أن توقفه كان خفيفاً ومؤقتاً لمجرد شبهة أو شك خفيف.
(النص الثاني) : قال الإمام أحمد : (كان يحيى بن سعيد يحمل على همام - بن يحيى - حتى قدم معاذ بن هشام، فوافق هماماً في أحاديثه)[45].
وقال أيضاً: (كان يحيى ينكر على همام أنه يزيد في الإسناد، ثم قال: زعم عفان قال: كان يحيى يسألني عن همام كيف قال همام حيث قدم معاذ بن هشام - الدستوائي -، وذاك أنه وافق هماماً في أحاديث)[46]، ويظهر من نص آخر أن موافقة معاذ لهمام كانت في أحاديث هشام الدستوائي[47].
وقال عفان بن مسلم : (كان يحيى بن سعيد يعرضُ على همام في كثير من حديثه، فلما قدم معاذ بن هشام، نظرنا في كتبه فوجدناه يوافق هماماً في كثير مما كان يحيى ينكره، فكفَّ يحيى بعدُ عنه)[48].
وهمام بن يحيى بن دينار العَوْذي ثقة عند جمهور النقاد إلا أن بعضهم صرح بأنه يغلط أحياناً وخاصة إذا حدث من حفظه، وكان قديماً يحدث من حفظه دون أن يكثر من تعاهد كتابه ثم تنبَّه لذلك فصار يتعاهد كتبه، ولذا ذهب الإمام أحمد والحافظ ابن حجر إلى أن سماع المتأخرين منه أثبت من سماع المتقدمين[49].(/10)
والذي يظهر لي أن القطان لم يكن يرى هماماً أصلاً ثقة، فقد ذُكر عن الإمام أحمد أن يحيى بن سعيد شهد في حداثته شهادة، وكان همام على العدالة[50]، فلم يَعدله فتكلم فيه يحيى لهذا[51]، وقال أحمد : (كان يحيى بن سعيد لا يستمرئ هماماً)[52].
وقد قال عبدالرحمن بن مهدي: (ظلم يحيى بن سعيد همام بن يحيى لم يكن له به علم ولا مجالسة)[53].
فإنكار يحيى لتفردات همام كانت إما بسبب ما يقع في حديثه القديم من مخالفات جعلته في نظره دون مرتبة الثقة، أو كان ضعيفاً عنده بسبب الحادثة التي ذكرها الإمام أحمد، وعلى أية حال فمن المؤكد أنه لم يكن يرى همام بن يحيى ثقة، ومع ذلك استنكر تفرداته، فليُفطن لهذا فإنه مهم.
(النص الثالث): قال علي بن المديني: (قال لي يحيى بن سعيد: قيس بن أبي حازم منكر الحديث، ثم ذكر له يحيى أحاديث مناكير، منها حديث كلاب الحوأب)[54].
وقيس بن أبي حازم من كبار التابعين ثقة ثبت، قال الذهبي: (ثقة حجة، كاد أن يكون صحابياً، وثقه ابن معين والناس، وقال علي بن عبدالله عن يحيى بن سعيد : منكر الحديث، ثم سمى له أحاديث استنكرها، فلم يصنع شيئاً، بل هي ثابتة، لا ينكر له التفرد في سعة ما روى... وأجمعوا على الاحتجاج به، ومن تكلم فيه فقد آذى نفسه، نسأل الله العافية وترك الهوى فقد قال معاوية بن صالح عن ابن معين: كان قيس أوثق من الزهري)[55].
وقد قال يعقوب بن شيبة: (وقيس من قدماء التابعين، وقد روى عن أبي بكر الصديق فمن دونه وأدركه وهو رجل كامل... وهو متقن الرواية.
وقد تكلم أصحابنا فيه: فمنهم من رفع قدره وعظمه، وجعل الحديث عنه من أصح الإسناد.
ومنهم من حمل عليه وقال: له أحاديث مناكير.
والذين أطروه حملوا هذه الأحاديث عنه على أنها عندهم غير مناكير، وقالوا: هي غرائب.(/11)
ومنهم من لم يحمل عليه في شيء من الحديث وحمل عليه في مذهبه، وقالوا: كان يحمل على علي رحمة الله عليه وعلى جميع الصحابة، والمشهور عنه أنه كان يقدم عثمان، ولذلك تجنب كثير من قدماء الكوفيين الرواية عنه.
ومنهم من قال: إنه مع شهرته لم يرو عنه كبير أحد، وليس الأمر عندنا كما قال هؤلاء، وقد روى عنه جماعة...)[56].
وحديث كلاب حوأب، رواه الإمام أحمد في مسنده[57] عن يحيى بن سعيد القطان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: لما أقبلت عائشة، بلغت مياه بني عامر ليلاً، نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا : ماء الحوأب. قالت: ما أظنني إلا أني راجعة، فقال بعض من كان معها : بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عز وجل ذات بينهم، قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها ذات يوم : (كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب)[58].
وقد أخرجه عدد من الأئمة في مصنفاتهم، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي والهيثمي وابن حجر[59] من طرق عن إسماعيل به.
ويقول الحافظ ابن حجر مفسراً كلام القطان في قيس: (ومراد القطان بالمنكر، الفرد المطلق)[60].
والذي يظهر أن يحيى بن سعيد لم يوثق قيساً، فلهذا استنكر أحاديثه لأنه لم يبلغ في نظره مبلغ من يُقبل تفرده، فليس إنكاره لحديث كلاب الحوأب وغيره بسبب تفرد الثقة، لأننا لا نسلم أن يحيى يرى قيس بن أبي حازم ثقة، وإن كان ثقة عند غيره، وكما يظهر من كلام يعقوب بن شيبة أن يحيى بن سعيد من الذين طعنوا في قيس ولم يقبلوه، ربما لكثرة تفرداته، ولكن من المؤكد أنه ليس بثقة عنده.
(النص الرابع): قال علي بن المديني: (قلت ليحيى بن سعيد: حَدَّث عبدالكريم - الجزري - عن عطاء في لحم البغل؟ فقال: قد سمعتُهُ،وأنكره يحيى، وأبى أن يحدثني به)[61].
وقال أبو داود: (عبدالكريم الجَزَري... وهو ثقة، كان يحيى القطان يُنكر عليه حديث عطاء عن جابر(حديث البغال)[62].(/12)
والحديث المقصود رواه جمع من الرواة عن عبدالكريم عن عطاء عن جابر قال: (كنا نأكل لحوم الخيل. قلتُ : البغال؟ قال: لا)[63].
ويشهد له حديث حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر:(أنهم ذبحوا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينه عن الخيل)[64].
وعبدالكريم الجزري وثقه[65] الجمهور إلا أن يحيى بن معين قال: (أحاديث عبدالكريم عن عطاء رديئة)[66]، وقد أقره ابن عدي على ذلك[67].
وقال ابن حبان: (كان صدوقاً، ولكنه كان ينفرد عن الثقات بالأشياء المناكير، فلا يعجبني الاحتجاج بما انفرد بالأخبار، وإن اعتبر معتبر بما وافق الثقات من حديثه فلا ضير، وهو ممن أستخير الله فيه)[68].
فإنكار يحيى بن سعيد لحديث البغال الذي رواه عبدالكريم الجزري راجع لضعف حديثه عن عطاء فيما يبدو، ولأن عدداً من الرواة الثقات كعمرو بن دينار ومحمد بن علي بن الحسين وأبي الزبير رووا عن جابر رضي الله عنه حديث إباحة لحوم الخيل ولم يذكروا شيئاً عن البغال[69]، ولذلك كان تفرد عبدالكريم بالحديث السابق غير محتمل عند يحيى بن سعيد القطان.
(النص الخامس): سأل أبو عبدالله الحاكم الإمام الدارقطني عن أسامة بن زيد الليثي فقال: (قد كان يحيى القطان حَدَّث عنه، ثم تركه، وقال: إنه حَدَّث عن عطاء عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (منى كلها منحر)، فقال يحيى: اشهدوا عليَّ أني تركت حديثه)[70].
وقال الدارقطني أيضاً في سؤالات ابن بكير: (أسامة بن زيد الليثي، روى عنه الثوري، ليس بالقوي، حدث عنه يحيى القطان، وتركه لجهة حديث عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم :(عرفة كلها موقف)[71].(/13)
وروى يعقوب بن سفيان الفسوي حديث أسامة عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى، ثم جلس، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني حلقت قبل أن أنحر؟ قال:(لا حرج)، ثم جاءه آخر فقال: حلقت قبل أن أرمي؟ قال: (لا حرج)، قال؛ فما سئل عن شيء إلا قال: لا حرج، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(كل عرفة موقف، وكل مزدلفة موقف، ومنى كلها منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر)[72].
ثم قال الفسوي : (وكأن يحيى القطان أنكر هذا الحديث، فتكلم في أسامة لهذا الحديث، وأسامة عند أهل بلده بالمدينة ثقة مأمون، وكان يجب على يحيى غير ما قال، لأن قيس بن سعد قد روى بعض هذا عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم )[73] وأسامة تكلم فيه بعض النقاد كأحمد بن حنبل والنسائي وأبي حاتم الرازي وغيرهم[74]، وقال ابن حجر: (صدوق يهم)[75]، فالراجح أنه ليس بثقة فإنكار يحيى القطان لحديثه لأنه عنده في حكم من لا يحتمل له التفرد عن مثل عطاء بن أبي رباح في كثرة تلاميذه وملازمة العديد من كبار الثقات له.
وآخر الحديث محفوظ عن جابر من وجه آخر صححه مسلم[76]، وأما أوله إلى قوله فما سئل عن شيء إلا قال: (لا حرج)، فقد رواه قيس بن سعد عن عطاء به[77]، ورواه بعض الحفاظ عن عطاء عن ابن عباس[78] مرفوعاً، فلعل القطان تكلم فيه لذلك لما رأى أن أسامة لم يتابع على الحديث بتمامه عن عطاء.
---
[1] الكفاية (ص465).
[2] صحيح البخاري مع فتح الباري (13/244) وهذا النص استفدته من بحث "الصدوق" للدكتور التخيفي.
[3] فتح الباري (13/246).
[4] بحث "الصدوق ومن في مرتبته" (ص189) من مجلة البحوث الإسلامية عدد 47 صفر 1417هـ.
[5] صحيح البخاري (1)، وصحيح مسلم (1907) وجمهور الكتب المشهورة في السنة النبوية.
[6] انظر علوم الحديث لابن الصلاح (ص69-70)، ورفع الإشكال عن صيام ست أيام من شوال للعلائي (ص60).
[7] الجامع لأخلاق الراوي (2/208).
[8] المرجع السابق (2/209).(/14)
[9] المرجع السابق (2/202)، وقد بين الخطيب البغدادي أن سفيان الثوري قد سمع من سلمة ولكنه لم يسمع هذا الحديث بالذات الذي رواه شعبة.
[10] المرجع السابق (2/199).
[11] المرجع السابق (2/208).
[12] المرجع السابق (2/199-210).
[13] الموقظة (ص77).
[14] سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث لابن المبرد جمال الدين يوسف بن حسن بن عبدالهادي (ص28) وهذا النص نقله المصنف عن الحافظ ابن رجب من كتابه: (مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة).
[15] شرح العلل (1/352-353).
[16] فتح الباري لابن رجب (4/174).
[17] علوم الحديث (ص72).
[18] النكت لابن حجر (2/674).
[19] وولد بعد الثلاثين ومائتين أو قبلها كما قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/122).
[20] شرح علل الترمذي (1/450)، وغالب ظني أن اسم كتاب البرديجي هو(معرفة أصول الحديث)كما ذكره ابن رجب في كتابه فتح الباري (7/315)، ويحتمل أنه غير ذلك.
[21] شرح العلل (1/451-452)، (2/507-508).
[22] شرح العلل (1/452).
[23] فتح الباري لابن رجب (1/301)، وشرح العلل (2/507).
[24] شرح العلل (1/461).
[25] تهذيب الآثار - مسند عمر - (1/208).
[26] انظر تهذيب الآثار - مسند عمر - (1/4-5، 275، 290، 406-407).
وانظر مسند علي (ص 4،45، 70، 91، 104، 118، 156، 159، 163،171،208،234،238، 246، 274،277).
وانظر مسند ابن عباس (1/187، 240، 472)، (2/605-606، 654، 757، 774).
وانظر مسانيد عبدالرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - المطبوعة في الجزء المفقود - بتحقيق علي رضا: (ص103، 121، 123، 161، 162، 197، 209، 268، 330 334، 341، 359، 361، 368، 376، 380، 426، 437، 443، 525، 550، 570).
[27] معرفة علوم الحديث (ص119).
[28] المجموع شرح المهذب (1/59).
[29] انظر المدخل إلى الإكليل (ص39) وقد تقدم في المطلب السابق عدة نصوص تؤيد ذلك.
[30] الإرشاد (1/174-177).(/15)
[31] المرجع السابق (1/167).
[32] المرجع السابق (1/172) وانظر المثال الذي ذكره، وما نقله المحقق من كلام العلماء أن الراجح ضعف الحديث ونكارته.
[33] شرح العلل (1/462).
[34] شرح العلل (1/461).
[35] التعديل والتجريح (1/302).
[36] المرجع السابق (1/300).
[37] هو الإمام أحمد بن حنبل.
[38] مسائل ابن هانيء (2/216)، وذكره أيضاً ابن رجب في شرح العلل (2/453-454) وقومت بعض كلمات الأصل منه.
[39] صحيح البخاري (1087)، وأبو داود (1727)، وصحيح ابن خزيمة (2521) وغيرهم.
[40] صحيح مسلم (1338) والبخاري (1086) وغيرهما.
[41] صحيح مسلم (1338) وصحيح ابن حبان (6/434،435).
[42] الجرح والتعديل (5/326)، وانظر عظم مكانته عند النقاد في تهذيب الكمال (19/127-129).
[43] تهذيب الكمال (15/329-331).
[44] الجرح والتعديل (5/109).
[45] العلل للمروذي (ص51-52).
[46] العلل لعبدالله (1/226).
[47] المرجع السابق (1/525).
[48] الجرح والتعديل (9/108).
[49] تهذيب التهذيب (11/70).
[50] أي يعدل الشهود.
[51] الكامل لابن عدي (7/2591).
[52] المرجع السابق (7/2590).
[53] تهذيب التهذيب (11/70).
[54] تاريخ دمشق - مخطوط - (14/476)، وعنه في تهذيب الكمال (24/15).
[55] الميزان (3/392-393).
[56] تاريخ دمشق (14/475)، تهذيب الكمال (24/14)، سير أعلام النبلاء (4/199).
[57] أخرجه أحمد في المسند (6/52).
[58] الحوأب: موضع في طريق البصرة فيه مياه معروفة - معجم البلدان (2/314).
[59] أخرجه أحمد (6/97)، وابن أبي شيبة في المصنف (15/259) وإسحاق بن راهويه في مسنده (1569)، وأبو يعلى في مسنده (8/282)، وابن حبان (15/126)، والحاكم (3/120)، والذهبي في النبلاء (2/177-178)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/234)، وابن حجر في الفتح (13/55) دار المعرفة.
[60] تهذيب التهذيب (8/389).
[61] تهذيب الكمال (18/257).
[62] سؤالات أبي عبيد الآجري (2/265-266).(/16)
[63] أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (4/527) ابن ماجه (3197)، والنسائي (7/202)، وفي سننه الكبرى (3/160)، والطبري في تفسيره (14/83)، والدارقطني في سننه (4/288) وغيرهم.
[64] أخرجه أحمد (3/356)، وأبو داود (3789) والدارقطني (4/289)، والبيهقي (9/327)، وصححه ابن حبان (12/77-78)، والحاكم (4/235).
[65] تهذيب التهذيب (6/274-275).
[66] الكامل لابن عدي (5/1979).
[67] المرجع السابق (5/1980).
[68] كتاب المجروحين (2/146).
[69] صحيح البخاري (4219، 5520)، وصحيح مسلم (1941)، وسنن أبي داود (3788) وغيرهم.
[70] سؤالات الحاكم للدارقطني (ص187).
[71] سؤالات ابن بكير (ص26-27).
[72] أخرجه أحمد (3/326)، وأبو داود (1937) وابن ماجه (3048) والبيهقي (5/239) وغيرهم.
[73] المعرفة والتاريخ (3/181).
[74] تهذيب التهذيب (1/209-210).
[75] التقريب (317).
[76] صحيح مسلم (1218).
[77] أخرجه أحمد (3/185)، وابن حبان (9/190)، والبيهقي (5/143).
[78] أخرجه البخاري (1721)، (6666) وأحمد (1/216) والبيهقي (5/143).(/17)
العنوان: تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف(3)
رقم المقالة: 201
صاحب المقالة: د. خالد بن منصور الدريس
-----------------------------------------
ثانياً: أحمد بن حنبل:
سرد الحافظ ابن رجب الحنبلي بعض النصوص التطبيقية للإمام أحمد محتجاً بها على أنه لا يقبل تفرد الثقة، فقد قال بعد أن نقل كلام البرديجي السابق في تعريف (المنكر): (وهذا كالتصريح بأنه كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يُعرف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في(النهي عن بيع الولاء وعن هبته)[1].
وهذا التعميم عندي فيه بعض النظر؛ إذ مقتضاه أن الإمام أحمد لا يحتج بتفرد الثقة مطلقاً ولو لم يخالف، وهذا فيه ما فيه كما سيظهر في بعض الأمثلة الآتية.
(النص الأول): تكلم الإمام أحمد في حديث (نهى عن بيع الولاء وعن هبته) فقال: (لم يُتابع عبدالله بن دينار عليه)، قال ابن رجب: (وأشار إلى أن الصحيح ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء لمن أعتق) لم يذكر النهي عن بيع الولاء وهبته[2].
قلتُ: وروى نافع عن ابن عمر من قوله النهي عن بيع الولاء وعن هبته، غير مرفوع، وهذا مما يعلل به عبدالله بن دينار)[3].
وعبدالله بن دينار ثقة مستقيم الحديث عند الإمام أحمد[4]، وعند غيره، ولكن استنكار الإمام أحمد - فيما يظهر لي - راجع إلى ما ذكره ابن رجب من مخالفة وليس لمجرد التفرد فقط.
وحديث عبدالله بن دينار في الصحيحين[5]، وكذلك حديث نافع[6](الولاء لمن أعتق) فيهما أيضاً، وأحمد يقدم نافعاً على ابن دينار، ويرى أنه أكبر وأقوى منه[7]، ولهذا رجح روايته.
فلا يستقيم احتجاج ابن رجب في النص السابق بكلام أحمد على هذا الحديث على أن تفرد الثقة يعد منكراً؛ لأن الثقة قد خولف ممن هو أقوى عند الإمام أحمد ولذا تكلم في تفرده.(/1)
ويشبه ما تقدم قول ابن رجب بعد كلامه السابق: (وكذا قال أحمد في حديث مالك عن الزهري عند عروة عن عائشة:(إن الذين جمعوا الحج والعمرة طافوا حين قدموا لعمرتهم، وطافوا لحجهم حين رجعوا من منى)[8].
قال:(ولم يقل هذا إلا مالك)، وقال:(ما أظن مالكاً إلا غلط فيه، ولم يجيء به أحد غيره)، وقال مرة:(لم يروه إلا مالك، ومالك ثقة).
ولعل أحمد إنما استنكره لمخالفته الأحاديث في أن القارن يطوف طوافاً واحداً)[9].
ولهذه العلة التي أبانها ابن رجب فلا يستقيم له الاستدلال بالنص الآنف على دعواه؛ لأن الثقة تفرد هنا بشيء خولف فيه ممن هو أولى منه من حيث العدد كما هو ظاهر العبارة.
(النص الثاني): قال عبدالله بن أحمد: (سألتُ أبي: ما الذي يعتمد عليه في مواقيت الصلاة من الأحاديث التي جاءت؟ وأي حديث أقوى؟ والحديث الذي روى ابن المبارك عن الحسين بن علي عن وهب بن كيسان عن جابر ما ترى فيه؟ وكيف حال الحسين؟
فقال أبي: (أما الحسين، فهو أخو أبي جعفر محمد بن علي، وحديثه الذي روى في المواقيت حديث ليس بالمنكر، لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره)[10].
والحسين هو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- ويقال له: حُسين الأصغر، وثقه النسائي وابن حبان[11]، والحديث رواه الحسين عن وهب عن جابر في إمامة جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم لبيان مواقيت الصلوات الخمس[12].
قال الترمذي: (وحديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح، وعمرو ابن دينار وأبو الزبير عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم )[13].
وقد فسر ابن رجب كلام أحمد بقوله: (وإنما قال الإمام أحمد ليس بالمنكر لأنه قد وافقه على بعضه غيره، لأن قاعدته: أن ما انفرد به ثقة فإنه يتوقف فيه حتى يُتابع عليه، فإن توبع عليه زالت نكارته، خصوصاً إن كان الثقة ليس بمشتهر في الحفظ والإتقان)[14].(/2)
وفي هذا النص تقييد مهم جداً من ابن رجب لما أطلقه في (شرح علل الترمذي) من أن أحمد يعد تفرد الثقة منكراً ما لم يتابع عليه، ولا شك أن حسيناً الأصغر وإن وثق فليس هو ممن اشتهر بالضبط والإتقان كمالك والزهري وشعبة وسفيان الثوري وغيرهم، فلابد من الانتباه لهذا القيد لأهميته.
(النص الثالث): ذكر ابن رجب عن الإمام أحمد نصوصاً تفيد أنه يطلق النكارة على تفرد رواة أُخرج لهم في الصحيحين، مما يعني أنه يستنكر تلك التفردات ولا يقبلها، وإلا لقال فيها أنها غرائب أو غريبة بدل مناكير ومنكرة.
قال: (وقال أحمد في بُريد بن عبدالله بن أبي بردة:(يروي أحاديث مناكير)[15] وبُريد وثقه ابن معين والعجلي وأبو داود والترمذي وابن عدي، وتكلم فيه أبو حاتم الرازي والنسائي ولم يرو عنه القطان ولا ابن مهدي، وقال النسائي في رواية: ليس به بأس، وقال ابن حبان: يخطىء[16].
وقال ابن حجر: (احتج به الأئمة كلهم، وأحمد وغيره يطلقون المناكير على الأفراد المطلقة)[17].
وما أُخرج له في الصحيحين فكله عن أبيه عبدالله بن أبي بردة فتفرده عنه محتمل، ولعل أحمد استنكر بعض حديثه عن غير أبيه، وعلى أية حال فكلام بعض النقاد فيه دال على أنه ليس في الضبط والإتقان كمشاهير المتقنين المتفق على إمامتهم وجودة ضبطهم.
(النص الرابع): ثم قال ابن رجب: (وقال أحمد في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وهو المنفرد برواية حديث (الأعمال بالنيات)[18]: (في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير أو قال منكرة)[19].
أما حديث (الأعمال بالنيات) فلا أعلم أحداً من فقهاء الأمة تخلف عن الاحتجاج به، وقد وصفه أحمد بأنه من أصول الإسلام، وقال: (ينبغي أن يبدأ به في كل تصنيف)[20].(/3)
ولا ندري على وجه التحديد ما الذي أنكره أحمد من حديث التيمي، وهل خولف في ذلك أم لا؟ ولا يستقيم الاستدلال إلا بنفي احتمال وجود مخالفات لتلك الأحاديث التي استنكرها أحمد، ولو كان كل تفرد من الثقة لا يقبل عنده لما احتج بحديث (النيات) مع تفرد التيمي به، لا سيما مع اتفاق النقاد أنه ليس للحديث إسناد صحيح إلا سند التيمي[21].
وقد قال ابن حجر في ترجمة التيمي: (المنكر أطلقه أحمد بن حنبل وجماعة على الحديث الفرد الذي لا متابع له، فيُحمل هذا على ذلك، وقد احتج به جماعة)[22].
ولا يُظن أن معنى كلام ابن حجر أن أحمد يطلق المنكر على حديث غير مردود عنده، ولكن قصد الحافظ ابن حجر - فيما ظهر لي- أن هذا مذهب لأحمد وغيره من النقاد لا يقبلون الحديث الفرد ويسمونه منكراً، ولا يعنون بالمنكر ما استقر تعريفه عند المتأخرين من تفرد الضعيف أو مخالفة من لا يحتج بحديثه لمن هو أولى منه، وهذا هو الراجح عند ابن حجر ولذا نبَّه على اصطلاح أحمد ليبين أنه غير راجح عنده.
(النص الخامس): ثم قال ابن رجب: (وقال في زيد بن أبي أُنيسة:(إن حديثه لحسن مقارب، وإن فيها لبعض النكارة، قال: وهو على ذلك حسن الحديث).
قال الأثرم: قلت لأحمد: (إن له أحاديث إن لم تكن مناكير فهي غرائب، قال: نعم وهؤلاء الثلاثة -يعني بُريداً والتيمي وابن أبي أُنيسة- متفق على الاحتجاج بحديثهم في الصحيح، وقد استنكرها أحمد ما تفردوا به)[23].
أقول كما قلت سابقاً: هذا الاستدلال لا يصح إلا بعد إثبات أن أحمد لم يستنكر تلك الأحاديث إلا لمجرد التفرد فقط، ولا توجد مخالفات أو قرائن أوجبت في نظره استنكار تلك الأحاديث، وصاحبا الصحيح ينتقيان أحاديث الرواة ولا يحتجان بكل مروياتهم كما هو معلوم ومشتهر، فيقوم احتمال أنهما لم يحتجا بكثير من تلك الأحاديث التي استنكرها أحمد لأولئك الرواة.(/4)
وزيد بن أبي أنيسة لم يحتج به البخاري في الأصول إنما ذكره في موضع واحد في المتابعات[24]، وفي موضع آخر ذكر روايته عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفاً في التفسير[25]، وأما مسلم فقد احتج به في عدة أحاديث.
وظاهر النقولات عن الإمام أحمد أنه يراه وسطاً ليس بثقة متقن، فقد سأله المروذي عنه فحرك يده وقال: (صالح، وليس هو بذاك)[26].
وروى عنه أبو داود أنه قال فيه: (ليس به بأس)[27].
فلعل أحمد لكونه يراه لا يخلو من بعض النقص في ضبطه استنكر بعض تفرداته التي لا تحتمل لمثله.
(النص السادس): ثم قال ابن رجب: (وكذلك قال في عمرو بن الحارث:(له مناكير)، وفي الحسين بن واقد، وخالد بن مخلد، وفي جماعة خُرج لهم في الصحيح بعض ما يتفردون به)[28].
ونص عبارة الإمام أحمد في عمرو بن الحارث توضح أنه لم يستنكر بعض حديثه للتفرد فقط كما يوهم كلام الحافظ ابن رجب، فقد ذكر الأثرم: (عن أحمد: عمرو بن الحارث فحمل عليه حملاً شديداً، قال:(يروي عن قتادة أحاديث يضطرب فيها ويخطئ)[29].
وقال أيضاً: (ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث بن سعد، لا عمرو بن الحارث ولا أحد، وقد كان عمرو بن الحارث عندي ثم رأيت له أشياء مناكير)[30].
فسبب الاستنكار واضح في النص الأول أنه بسبب الاضطراب والخطأ.
وأما الحسين بن واقد فالظاهر أن أحمد لا يراه في مرتبة الثقة المتقن فقد سئل عنه فقال: (ليس بذاك)[31]، وقال: (في أحاديثه زيادة ما أدري أي شيء هي، ونفض يده)[32].
وأنكر أحاديثه عن عبدالله بن بُريدة، وذلك فيما يظهر لي لكثرة تفرداته عنه، ولأنه لا يُحتمل له مثل ذلك لعدم بلوغه مرتبة الثقة المتقن الذي يقبل تفرده ولو لم يخالف.(/5)
وأما خالد بن مخلد القَطَواني فهو كذلك مرتبته لا تصل لمرتبة الثقة المتقن، وقد تكلم عدد من النقاد فيه[33]، وقد سرد الذهبي جملة من تفرداته التي خالف فيها من هو أولى منه في الحفظ والإتقان مما يدل على وجود شذوذات في بعض مروياته، ثم ذكر الذهبي حديثه الذي أخرجه البخاري (من عادى لي ولياً...)[34]، ثم قال: (فهذا حديث غريب جداً، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه...)[35].
فالظاهر أن أحمد استنكر بعض تلك الأحاديث الشاذة التي خولف فيها، ولهذا لم يقبل بعض تفرداته لأنه ليس في حكم من يحتمل له التفرد في كل ما رواه ولو لم يخالف كما هو حال مشاهير المتقنين الأثبات كشعبة والثوري وغيرهما.
والخلاصة التي انتهى إليها الحافظ ابن رجب صاغها في قوله: (فتلخص من هذا أن النكارة لا تزول عند يحيى القطان، والإمام أحمد، والبرديجي وغيرهم من المتقدمين إلا بالمتابعة وكذلك الشذوذ كما حكاه الحاكم.
وأما الشافعي وغيره فيرون أن ما تفرد به ثقة مقبول الرواية، ولم يخالفه غيره؛ فليس بشاذ، وتصرف الشيخين يدل على مثل هذا المعنى)[36].
ولكن فيما أطلقه بعض النظر خاصة في حق الإمام أحمد، وكذا القطان كما ظهر لي من نصوصه السابقة، أما البرديجي فظاهر كلامه الذي نقله ابن رجب يحتمل الإطلاق.
والذي أراه على ضوء ما ساقه ابن رجب من نصوص عن القطان والإمام أحمد أن إطلاق القول بأن النكارة لا تزول عندهما إلا بالمتابعة فيه نظر، والأصل عند نقاد المحدثين أن الراوي الثقة المتقن حديثه صحيح معمول به ولو لم يتابع، وما ورد في بعض النصوص من تكلم في بعض تفردات الثقات فهو راجع لأحد أسباب ثلاثة:
1- المخالفة سنداً أو متناً ممن هو أولى صفة أوعدداً، كما وضحته في بعض النصوص السابقة عن القطان والإمام أحمد، ودرجات المخالفة تتفاوت من حيث القوة.(/6)
2- أن لا يكون ذلك الراوي ثقة عند ذلك الإمام وإنما دون ذلك، وإن كان ثقة عند نقاد آخرين، كما وضحته أيضاً في بعض النصوص السابقة.
3- وجود قرينة من القرائن التي تبعث الشك في ضبط الثقة للحديث الذي انفرد به.
ومن المآخذ المنهجية على الحافظ ابن رجب في أسلوب استدلاله على دعواه، أنه أورد نصوصاً جزئية محدودة العدد ثم بنى عليها قولاً عاماً شديد العمومية، ولا يصح في ميزان النقد العادل مثل ذلك، بل الواجب في مثل هذه الدعاوى العامة مراعاة النصوص التي قَبِل فيها القطان والإمام أحمد تفرد الثقة وإن لم يُتابع، كقول أحمد لما سئل: (من تابع عفان -بن مسلم- على حديث كذا وكذا؟ قال: وعفان يحتاج إلى أن يتابعه أحد.؟!)[37]، فهذا النص وما يشبهه، بالإضافة للأحاديث التي حكم عليها الإمام أحمد مثلاً بالغرابة ولم يستنكرها، وكذا ما استحسنه من أحاديث أفراد ولم يطعن فيها، كل ذلك موجب لعدم الأخذ بالتعميم والإطلاق الذي صاغه الحافظ ابن رجب في صورة تحرير لمحل النزاع، ولعله فطن في كتابه (فتح الباري) إلى عدم دقة إطلاقه فقيده بـ"إذا كان الثقة ليس بمشتهر بالحفظ والإتقان) كما تقدم آنفاً.
وأما من كان دون مرتبة (الثقة) كالصدوق ومن في حكمه، فقد وجد للإمام أحمد ولغيره من النقاد نصوص تدل على عدم قبول بعض ما ينفرد به أولئك، لا سيما إذا كان تفردهم عن رواة ثقات لهم أصحاب ملازمون لهم قد أكثروا عنهم كما في النص الآتي.
(النص السابع): سئل الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن أبي المَوَال المدني فقال: (عبدالرحمن لا بأس به، كان محبوساً في المُطْبَق[38] حيث هزم هؤلاء، يروي حديثاً لابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستخارة، ليس يرويه أحد غيره، هو منكر. قلتُ: منكر؟ قال: نعم، ليس يرويه غيره، وأهل المدينة إذا كان حديث غلط يقولون: ابن المنكدر عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس، يحيلون عليهما)[39] .(/7)
ففي هذا النص تصريح واضح وجلي أن الإمام أحمد استنكر هذا الحديث لأن راويه عنده في مرتبة (لا بأس به) ولا يحتمل له أن ينفرد عن محمد بن المنكدر المحدث المشهور بحديث في صلاة الاستخارة مع كثرة الحاجة لاستعمالها كما في لفظ الحديث نفسه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها..)، فعد تفرد مثل هذا منكراً مع أنه لم يُخالف.
وقد ذهب الإمام البخاري إلى صحة الحديث فأخرجه في صحيحه[40] عن ابن أبي الموال، وذكر له الحافظ ابن حجر عدة شواهد[41]، وكذا أشار ابن عدي[42] إلى أن له شواهد من طرق أخرى عن غير جابر -رضي الله عنه-.
(النص الثامن): قال الأثرم: (قال أبو عبدالله في حَرَمي بن عُمارة كلاماً معناه: أنه صدوق، ولكن كانت فيه غفلة، فذكرت له عن علي بن المديني عن حرمي بن عمارة عن شعبة عن قتادة عن أنس: (من كذب..) فأنكره.
وقال: علي أيضاً حدَّث عنه حديثاً آخر منكراً في الحوض عن حارثة بن وهب، فقلت: حديث معبد بن خالد؟ قال: نعم
[فقلت][43]: ترى هذا حقاً؟ فتبسم كالمتعجب)[44].
قال العقيلي: (أنكرهما من حديث شعبة، وهما معروفان من حديث الناس)[45] فتفرد من هو في مرتبة (صدوق) بما لا يحتمل له يعده أحمد منكراً؛ لأنه تفرد عن شعبة من المعروف مدى عناية عدد من كبار الحفاظ من تلامذة شعبة بحديث شيخهم مع ملازمتهم له السنين الطوال كعبدالرحمن بن مهدي وغُندر ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم.
وحديث حرمي عن شعبة عن معبد بن خالد عن حارثة مرفوعاً في(الحوض)، أخرجه الشيخان[46] وذكرا متابعة ابن أبي عدي لحرمي.
وحديثه عن شعبة عن قتادة عن أنس مرفوعاً: (من كذب علي...)، رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة من عتاب عن أنس[47].
وكما هو ظاهر كلام العقيلي فإن إنكار أحمد لجزئية التفرد عن شعبة وليس إنكاراً للمتن أيضاً.(/8)
وقد وقفت على عدة نصوص أخرى غير ما تقدم ولكن بعد دراستها ترجح لي أن الراوي المنفرد قد خولف فيما رواه، ولذلك تركتها لأنها ليست على شرطنا فمن ذلك مثلاً قول أحمد: (محمد بن ثابت العبدي، ليس به بأس، لكن روى حديثاً منكراً في التيمم، لا يتابعه أحد)[48]. وقد ذكر البخاري والعقيلي أنه خولف ممن هو أولى منه[49].
وغير ذلك كثير مما وقفتُ عليه ولم أُدخله هنا، كما أنني أيضاً لم أذكر بعض النصوص التي اتضح لي أن أحمد استنكرها لوجود قرينة وإن كانت لا ترقى لمستوى المخالفة الصريحة، ولكنها تبعث الشك، ومن ذلك على سبيل المثال: حديث محمد بن عبدالله الأنصاري - وهو ثقة[50] - عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس:(احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم)، فقد أنكره الإمام أحمد وغيره[51]، والسبب كما وضحه بعضهم[52] أن المحفوظ عن حبيب حديثه عن ميمون عن يزيد بن الأصم:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال)[53]، ووهم الأنصاري فيه لأن المحفوظ عن حبيب بن الشهيد حديث زواج المحرم عندما يتحلل، وليس احتجام المحرم الصائم، كما أنه ليس في الكتب الستة ومسند أحمد رواية ثابتة لحبيب عن ميمون إلا حديث زواج ميمونة فقط، مما يقوي احتمال خطأ الأنصاري، لأن الثقات إنما رووا لحبيب عن ميمون حديثاً واحداً فقط، فتفرده بمتن آخر يوجب الشك.
والأمثلة على ذلك عديدة، والمقصود إثبات أن الإمام أحمد استنكر بعض تفردات من هم في مرتبة (الصدوق) وما في حكمها، ولو لم يخالفوا إذا كان تفردهم غير محتمل كما بينا في النصين السابع والثامن، ولا أُعمم ذلك في كل تفرد بل ذلك مقيد بأن يكون التفرد غير محتمل، وذلك لأني وجدته رحمه الله قد قبل بعض تفردات من كان في تلك المرتبة كما سيأتي ذكره في المطلب القادم.
ثالثاً: أبو حاتم الرازي.(/9)
سبق أن ذكرنا في المبحث السابق عدة نصوص عن أبي حاتم الرازي تدل على عدم احتجاجه بمن يقول فيه (صدوق) ومن في حكمه، كما وجدناه قد قبل وقوى بعض ما تفرد به أصحاب هذه المرتبة.
وله نصوص كثيرة جداً في كتاب (العلل) لابنه دالة على أنه يستنكر بعض تفردات الرواة ممن هم في نظره لم يبلغوا درجة من يقبل ذلك منهم، وقد ذكرنا سابقاً أن الحجة في اصطلاحه ليست كما عند الآخرين لما عرف من تشدده رحمه الله.
وفيما يلي بعض النصوص الدالة على مذهبه في ذلك:
(النص الأول): قال ابنه: (سألتُ أبي عن حديث رواه بُرد بن سنان عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم(أنه كان يصلي فاستفتحت الباب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ففتح الباب ومضى في صلاته)[54].
قلت لأبي: ما حال هذا الحديث؟
فقال أبي: لم يرو هذا الحديث أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم غير بُرْد"، وهو حديث منكر، ليس يحتمل الزهري مثل هذا الحديث، وكان بُرد يرى القدر[55].
وبُرد قال فيه أبو حاتم: (كان صدوقاً)[56]، ووثقه ابن معين[57]، وقال أبو زرعة: لا بأس به[58].
فعد أبو حاتم تفرد هذا الصدوق عن الزهري منكراً مع أنه لم يخالف غيره، وحكم عليه الشيخ الألباني[59] - رحمه الله - بالحسن لذاته لأنه يحسن تفرد الصدوق، وأبو حاتم يرى أن هذا التفرد عن الزهري في جلالته وكثرة الملازمين له لا يُحتمل، وإلا فأين كان أصحاب الزهري المكثرين عنه عن هذا الحديث؟!
(النص الثاني): قال ابن أبي حاتم: (سألت أبي عن حديث أوس بن ضمعج عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: قد اختلفوا في متنه، رواه قطن والأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسُنة)، ورواه شعبة والمسعودي عن إسماعيل بن رجاء لم يقولوا: (أعلمهم بالسنة).(/10)
قال أبي: كان شعبة يقول: إسماعيل بن رجاء كأنه شيطان من حُسن حديثه، وكان يهاب هذا الحديث، يقول: حكم من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه أحد.
قال أبي: شعبة أحفظ من كلهم.
قال أبو محمد: أليس قد رواه السُدي عن أوس بن ضمعج؟
قال: إنما رواه الحسن بن يزيد الأصم عن السُدي وهو شيخ، أين كان الثوري وشعبة عن هذا الحديث؟ وأخاف أن لا يكون محفوظاً)[60].
وحديث إسماعيل بن رجاء هذا صححه مسلم وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم[61]، وقد وثقه أبو حاتم[62]، ومع ذلك توقف هنا عن حديثه لما تفرد بحكم من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يخالف، والاختلاف في المتن إنما هو في زيادة عبارة فقط وليس اضطراباً كما هو صريح كلامه.
ولما ذكر له ابنه أن إسماعيل بن عبدالرحمن السُدي قد تابع إسماعيل بن رجاء لم يقبل هذه المتابعة لأنها من رواية الحسن بن يزيد مع أنه لما سئل عنه قال: (لا بأس به)[63]، وعلل عدم قبوله لروايته بقوله: (أين كان الثوري وشعبة عن هذا الحديث) أي لماذا لم يروياه عن السدي؟ وإنما رواه شعبة عن إسماعيل بن رجاء فقط ولو كان عند السُدي لرواه عنه أيضاً ولما تهيب حديث ابن رجاء.
ولا شك أن عدم قبول أبي حاتم لحديث إسماعيل بن رجاء تشدد خالفه فيه عدد من الأئمة كمسلم وابن خزيمة وغيرهما ممن احتج بهذا الحديث وعمل به.
ويظهر من هذا النص بجلاء أن أبا حاتم يتوقف في تفرد بعض من يوثقه ولم يخالف، وعلى هذا فتفرد الصدوق ومن في حكمه بحكم من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب التوقف أو النكارة عنده من باب أولى.
(النص الثالث): وقال ابن أبي حاتم: (وسمعت أبي يقول: طَلْق بن عم حفص بن غياث، وهو كاتب حفص بن غياث[64]، روى حديثاً منكراً عن شريك وقيس - ابن الربيع - عن - أبي حَصين عثمان بن عاصم- عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :(أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)[65].(/11)
قال أبي: ولم يرو هذا الحديث غيره)[66].
وطلق أخرج له البخاري في صحيحه، ووثقه العجلي وابن نمير وابن حبان والدارقطني[67]، وقال أبو داود: (صالح)[68]، ولم أجد لأبي حاتم فيه كلاماً.
واستنكر أبو حاتم حديثه هذا لتفرده به، ولم يستنكره لضعف شريك أو قيس بن الربيع، وعلة الإنكار -فيما أظن- لأن هذا الحديث غير معروف عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا بهذا السند، ولو كان ثابتاً لرواه الثقات عن أبي صالح.
وقد حكم الشيخ الألباني[69] - رحمه الله - على السند السابق بأنه حسن لمتابعة قيس لشريك فيه، وصحيح لغيره لشواهده الأخرى، ولم يتكلم في تفرد طلق به.
وعلى أية حال فالشواهد كثيرة على أن أبا حاتم يكثر من التوقف والاستنكار لتفردات من هم دون مرتبة الثقة، وفيما ذكر آنفاً نماذج على ذلك، ولمن رغب في الزيادة فعليه بكتاب (العلل) لابنه ففيه من النصوص المؤكدة لذلك ما يرضي يقين الباحث.
---
[1] شرح العلل (1/451).
[2] العلل للميموني (ص229).
[3] شرح العلل (1/415-416).
[4] الجرح التعديل (5/46)، تهذيب الكمال (41/473).
[5] أخرجه البخاري (2535، 6756)، ومسلم (1506).
[6] أخرجه البخاري (6757)، ومسلم (1504).
[7] تهذيب التهذيب (5/202).
[8] موطأ مالك (940)، وصحيح البخاري (294)، وصحيح مسلم (1211) ورواه مالك عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة وعن الزهري عن عروة عنها رضي الله عنها.
[9] شرح العلل (1/451).
[10] مسائل عبدالله (ص51)، شرح العلل (1/454-455).
[11] تهذيب الكمال (6/396).
[12] أخرجه الترمذي (150)، والنسائي (1/263)، وابن حبان في صحيحه (4/335)، والحاكم (1/195-196).
[13] جامع الترمذي (1/283).
[14] فتح الباري (4/174).
[15] شرح العلل (1/455). وكلام أحمد في العلل لعبدالله (2/11).
[16] تهذيب التهذيب (1/431-432).
[17] هدي الساري (ص412).
[18] أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) وغيرهما.(/12)
[19] شرح العلل (1/455)، وكلام أحمد في العلل لعبدالله (1/566).
[20] جامع العلوم والحكم (1/61) بتصرف يسير.
[21] جامع العلوم والحكم (1/60).
[22] هدي الساري (ص459).
[23] شرح العلل (1/455-456).
[24] صحيح البخاري (1953).
[25] صحيح البخاري (8/418).
[26] العلل للمروزي (ص85).
[27] سؤالات أبي داود (ص279).
[28] شرح العلل (1/456).
[29] تهذيب الكمال (21/573).
[30] تهذيب الكمال (21/573).
[31] العلل للمروزي (ص96).
[32] تهذيب التهذيب (2/374).
[33] تهذيب التهذيب (3/117-118)، والميزان (1/640-642).
[34] أخرجه البخاري (6502) في كتاب الرقاق باب التواضع.
[35] الميزان (1/641).
[36] شرح العلل (1/462).
[37] تاريخ بغداد (12/274).
[38] المطبق: اسم سجن في بغداد، انظر تاريخ بغداد (10/227)، (7/151)، (8/116)، (10/20).
[39] الكامل لابن عدي (4/1616).
[40] صحيح البخاري (6382).
[41] فتح الباري (11/187).
[42] الكامل لابن عدي (4/1616).
[43] زيادة يقتضيها السياق.
[44] الضعفاء للعقيلي (1/270).
[45] الضعفاء للعقيلي (1/270).
[46] صحيح البخاري (6591)، مسلم(2298).
[47] مسند الطيالسي (2084)، وأما حديث حرمي فقد أخرجه أحمد في المسند (3/287) وأبو يعلى في مسنده (5/288).
[48] سؤلات أبي داود (ص339).
[49] التاريخ الكبير (1/51)، والضعفاء للعقيلي (4/39).
[50] انظر تهذيب الكمال (25/542-543).
[51] العلل لعبدالله (1/320) حقيقة الصيام لابن تيمية (ص93).
[52] تاريخ بغداد (5/409-410).
[53] أخرجه مسلم في صحيحه (1411).
[54] رواه أبو داود (922) والترمذي (601) والنسائي (3/11)، والبيهقي (2/265).
[55] العلل لابن أبي حاتم (1/164-165).
[56] الجرح والتعديل (2/422).
[57] الجرح والتعديل (2/422).
[58] الجرح والتعديل (2/422).
[59] إرواء الغليل (2/108).
[60] العلل (1/92).(/13)
[61] صحيح مسلم (673)، صحيح ابن خزيمة (1507)، صحيح ابن حبان (5/500، 505، 516).
[62] الجرح والتعديل (2/168).
[63] المرجع السابق (3/43).
[64] هكذا في الأصل، وفي تهذيب الكمال (13/456) : (وكان كاتب شريك بن عبدالله النخعي).
[65] أخرجه أبو داود (3535)، والترمذي (1264).
[66] العلل (1/375).
[67] تهذيب التهذيب (4/34).
[68] مصدر سابق (4/34).
[69] السلسلة الصحيحة (1/708).(/14)
العنوان: تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف (4)
رقم المقالة: 331
صاحب المقالة: د. خالد بن منصور الدريس
-----------------------------------------
رابعاً: الإمام النسائي.
تكلم -رحمه الله- في بعض تفردات من هم دون مرتبة الثقة عنده، وقد نقلنا أول المطلب كلام الحافظ ابن حجر أن النسائي والإمام أحمد وآخرين يطلقون (المنكر) على مجرد التفرد إذا كان المتفرد ليس في وزن من يحكم لحديثه بالصحة.
ووجدت له بعض النصوص المؤكدة لذلك ولكنها قليلة.
منها: أنه حكم على حماد بن سلمة بأنه لا بأس به، ثم استنكر[1] حديثه الذي يرويه عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً: (إذا سمع أحدكم الآذان والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه)[2].
وظاهر الأمر أنه استنكره لتفرد حماد بن سلمة به، وقد قال أبو حاتم في الحديث نفسه: (ليس بصحيح)[3]، ولم يُبدِ له علة من مخالفة أو غيرها، وحماد كما نقل الإمام مسلم[4] عن أهل الحديث أنه إذا حدث عن غير ثابت البناني يخطئ كثيراً.
وقد حكم الشيخ الألباني[5] - رحمه الله - على هذا الحديث بأنه حسن لذاته لكلام في حفظ محمد بن عمرو بن علقمة، وصححه من وجه آخر، وذكر له شواهد أخرى.
وحديث آخر: يرويه ضمرة بن ربيعة عن الثوري عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر مرفوعاً:(من ملك ذا رحم محرم عتق)[6].
قال النسائي: (لا نعلم أن أحداً روى هذا الحديث عن سفيان غير ضمرة، وهو حديث منكر)[7].
وضمرة ثقة عند النسائي وغيره[8]، وقد وافق الإمام أحمد وغيره النسائي في إنكار هذا الحديث[9]، وقال البيهقي: (المحفوظ بهذا الإسناد: النهي عن بيع الولاء وعن هبته)[10] يعني المحفوظ عن الثوري.
وقد خالف في ذلك عبدالحق الإشبيلي فقال: (ليس انفراد ضمرة علة فيه، لأن ضمرة ثقة، والحديث صحيح إذا أسنده ثقة، ولا يضره إنفراده به)[11].
وقال ابن القطان الفاسي: (وهذا هو الصواب..)[12].(/1)
وقال الألباني - رحمه الله - في ضمرة: (هو ثقة، فلا غرابة أن يروي متنين بل وأكثر بإسناد واحد، فالصواب أن هذا الحديث بهذا الإسناد صحيح)[13].
وقال ابن التركماني في رده على البيهقي: (ليس إنفراد ضمرة به دليلاً على أنه غير محفوظ، ولا يوجب ذلك علة فيه، لأنه من الثقات المأمونين... والحديث إذا انفرد به مثل هذا كان صحيحاً، ولا يضره تفرده، فلا أدري من أين وهم في هذا الحديث راويه ؟!)[14].
وقال ابن حزم: (هذا خبر صحيح، كل رواته ثقات تقوم به الحجة، وقد تعلل فيه الطوائف المذكورة بأن ضمرة انفرد به وأخطأ فيه. فقلنا: فكان ماذا إذا انفرد به؟ ومتى لحقتم بالمعتزلة في أن لا تقبلوا ما رواه الواحد عن الواحد، وكم خبر انفرد به راويه فقبلتموه.. فأما دعوى أنه أخطأ فيه؛ فباطل لأنها دعوى بلا برهان)[15].
وكلام هؤلاء الأعلام في وادٍ، وكلام جهابذة النقد وأساطينه كأحمد والنسائي في وادٍ آخر، فمن أنكر الحديث فله دليله الواضح القوي، وهو أن سفيان الثوري له أصحاب حفاظ ملازمون له لم يرووا عنه بهذا السند في العتق إلا حديث النهي عن بيع الولاء وعن هبته الذي تفرد به عبدالله بن دينار عن ابن عمر، فأين كانوا عن هذا الحديث لينفرد به ضمرة وهو فلسطيني لم يلازم الثوري ملازمة طويلة ولم يحدث عنه إلا أحاديث قليلة؟!
ولا شك أن ربيعة لم يخالف مخالفة صريحة، ولكن تلك القرينة تبعث الشك في نفس الناقد.
خامساً: أبو جعفر محمد بن عمرو العقيلي (ت322هـ).
أكثر العقيلي في كتابه الضعفاء من الطعن في الأحاديث وفي رواتها بسبب عدم المتابعة.
وقد قال الحافظ ابن رجب: (وقول العقيلي: لم يتابع عليه، يشبه كلام القطان، وأحمد والبرديجي الذي سبق ذكره في أن الحديث إذا لم يتابع راويه عليه، فإنه يتوقف فيه أو يكون منكراً)[16].(/2)
وقد شنَّع الذهبي -رحمه الله- على العقيلي لما ذكر إمام العلل علي بن المديني وذكر في رده عليه ما يدل على أن من منهج العقيلي القدح في بعض الرواة العدول وإن كان في ضبطهم بعض القصور بسبب التفرد وعدم المتابعة فقال: (وأنا أشتهي أن تعرفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه)[17]، ثم قال: (فانظر أول شيء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبار والصغار، ما فيهم أحد إلا وقد انفرد بسُنة، فيقال له: هذا الحديث لا يُتابع عليه؟! وكذلك التابعون، كل واحد عنده ما ليس عند الآخر من العلم)[18].
وللوقوف على نموذج واضح عن موقف العقيلي من مسألة تفرد بعض الثقات والصدوقين فليرجع إلى ترجمة عبدالله بن دينار في كتابه الضعفاء[19].
ونصوص العقيلي في ذلك كثيرة جداً وظاهرة المعنى، فعلى من أراد أن يُرضي يقينه أن يرجع إلى ضعفائه.
أدلة من توقف في تفرد الصدوق غير المحتمل:
1- فرَّق المحدثون بين الثقة والصدوق، فجعلوا الأول أعلى من الثاني مرتبة، وذلك لأن أخطاء الصدوق أكثر من معدل الخطأ المعفو عنه الذي لا يخلو منه ثقة.
فمن قال: إن تفرد الصدوق مقبول ما لم يخالف، فقد ساواه بالثقة، وعمل المحدثين على التفريق بينهما، ولا يكون للتفريق حقيقة إلا في التفرد الخالي من الموافقة أو المخالفة، لأنه في حالة الموافقة لا نزاع في قبوله ولا يتطرق الشك في حفظه لوجود العاضد، وفي حالة المخالفة فلا نزاع في أن حديثه يكون مردوداً، وكذلك الثقة إذا خولف ممن هو أولى منه، فالحاصل أن الفارق الحقيقي بين الثقة والصدوق يتمثل في قبول تفرد الأول مطلقاً إلا عند المخالفة، وقبول تفرد الثاني إذا كان تفرده محتملاً، والتوقف في تفرده إذا كان غير محتمل.(/3)
2- أن هذا مذهب كثير من كبار النقاد الذين نحتج بأقوالهم المجملة في الجرح والتعديل، فالعمل به يؤدي إلى أن الخلاف مع كبار النقاد يصبح نادراً خاصة في أحكامهم النقدية على الأسانيد والأحاديث، لا كما يُشاهد من كثرة التعارض بين المتأخرين والمتقدمين، مما يعني أن العمل به يؤدي إلى اتساق المنهج العلمي وتماسكه بصورة أفضل.
ومما يؤكد قدِم هذا المذهب وأصالته أن إمام النقاد وأميرهم الحافظ المتقن الثبت شعبة بن الحجاج لما سمع من عبدالله بن دينار حديث(النهي عن بيع الولاء)[20] قال: (استحلفتُ عبدالله بن دينار هل سمعته من ابن عمر، فحلف لي) وقال أبو حاتم الرازي معلقاً على ذلك: (كان شعبة بصيراً بالحديث جداً، فهماً فيه، كان إنما حَلَّفه لأنه كان يُنكر هذا الحديث، حكمٌ من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه أحد، لم يروه عن ابن عمر أحد سواه علمنا)[21].
تقدم أن شعبة كان يهاب من تفرد إسماعيل بن رجاء بحديث فيه حكم من الأحكام[22]، مما يدل على أنه لم يكن يتعامل مع بعض التفردات بحسن ظن ويقبلها مطلقاً كما يفعل كثير من المتأخرين.
3- أليس من الوجاهة إذا رأينا تفرداً لراوٍ (صدوق) عن شيخ له أصحاب كثر وتلامذة ملازمون له؛ أن نتساءل: أين كان الحفاظ عن ذلك الحديث حتى يتفرد به ذاك الرواي؟
وقد لهج بذلك كبار الأئمة في العديد من الأحاديث كقول الإمام مالك منكراً على عبدالرحمن ابن أبي الزناد لما حدث عن أبيه بكتاب (الفقهاء السبعة): (أين كنا نحن من هذا ؟!)[23].
وكقول شعبة: (لم يجيء بالرخصة في نبيذ الجر: ابنُ عمر وابن عباس اللذان بحثا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء به ابن بريدة من خراسان !!)[24].
وكقول ابن معين: (لو كان هذا هكذا؛ لحدَّث به الناس جميعاً عن سفيان ولكنه حديث منكر)[25] وهذا في حق حديث تفرد به يحيى بن آدم وهو من الثقات عن الثوري.(/4)
وكقول الإمام أحمد: (أصحاب أبي هريرة المعروفون ليس هذا عندهم)[26].
وكقول أبي حاتم الرازي: (أين كان الثوري وشعبة عن هذا الحديث؟)[27].
وكقوله: (أين أصحاب أيمن بن نابل عن هذا الحديث؟)[28].
وكقوله: (وقد روى عن سهيل -بن أبي صالح- جماعة كثيرة، ليس عند أحدٍ منهم هذا الحديث... لا أدري لهذا الحديث أصلاً عن أبي هريرة أعتبر به، وهذا أصل من الأصول لم يُتابع عليه ربيعة)[29].
وكقوله: (فلو أن هذا الحديث عن الحُر - بن الصيَّاح- كان أول ما يُسأل عنه، فأين كان هؤلاء الحفاظ عنه؟)[30] أي وإذا سئل عنه انتشر وتعددت رواته.
وكقوله: (ولو كان هذا الحديث عند شعبة، كان أول ما يُسأل عنه)[31].
وكقول ابن عدي في حديث أنكره: (وأصحاب منصور بن زاذان: صاحبه المختص فيه هُشيم بن بَشير لأنه من أهل بلده، وبعده أبو عوانة، وغيرهما ممن روى عن منصور بن زاذان، وليس عند هُشيم وأبي عوانة هذا الحديث لا موصولاً ولا مرسلاً)[32].
وكقول ابن القيم: (والذي يدل على بطلان هذا الحديث أنه لو كان عند عمرو ابن دينار عن ابن عمر؛ لكان معروفاً عند أصحاب عمرو، مثل قتادة وأيوب وشعبة والسفيانين والحمادين ومالك ابن أنس… وأيضاً فعمرو بن دينار حديثه محفوظ مضبوط يُجمع وكان الأئمة يسرعون إلى سماعه منه وحفظه وجمعه..)[33].
وكقوله أيضاً: (وقال بعض الحفاظ: بعيدٌ جداً أن يكون الحديث عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً، ثم لا يرويه واحد من أصحابه الملازمين له، المختصين به، الذين يحفظون حديثه حفظاً، وهم أعلم الناس بحديثه)[34].
وكقوله أيضاً: (فأين نافع وسالم وأيوب وسعيد بن جبير؟ وأين أهل المدينة وعلماؤهم عن هذه السنة التي مخرجها من عندهم، وهم إليها أحوج الخلق لعزة الماء عندهم، ومن البعيد جداً أن تكون هذه السنة عند ابن عمر، وتخفى على علماء أصحابه وأهل بلدته، لا يذهب إليها أحد منهم، ولا يروونها ويديرونها بينهم !)[35].(/5)
وكقول ابن رجب: (وأين كان أصحاب عبدالوهاب الثقفي، وأصحاب ابن سيرين عن هذا الحديث حتى ينفرد به نُعيم -بن حماد-)[36].
وكقول المعلمي اليماني: (وهذا الحديث في حكم مختلف فيه تعم به البلوى، وعطاء إمام جليل فقيه معمر، وكان بمكة حيث ينتابها أهل العلم من جميع الأقطار، وله أصحاب أئمة حفاظ فقهاء، كانوا أعلم به وألزم له من أيوب بن موسى وعمرو بن شعيب، فلو كان عنده هذا الحديث عن ابن عباس لما فاتهم)[37].
وكقوله أيضاً: (وقد كان لابن عباس أصحاب حفاظ فقهاء، كانوا ألزم له وأعلم به من عطاء، ولم يرو أحد منهم عنه في هذا الباب شيئاً)[38].
4- من كان له معرفة واسعة وحسنة بمداخل الأوهام على الرواة غير المتقنين وهي كثيرة جداً سيزداد شكه في التفرد غير المحتمل من راوٍ عُلم أنه يخطىء خطأ ليس بالقليل النادر.
من ذلك أن كثيراً من الرواة لم يكونوا يكتبون في مجلس التحديث عن شيخهم، كما قال الإمام الترمذي: (وأكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون، ومن كتب منهم إنما يكتب بعد السماع)[39].
ويقول الميموني:(سئل أحمد عن الحكم بن عطية فقال: لا أعلم إلا خيراً. فقال له رجل: حدثني فلان عنه عن ثابت عن أنس قال: (كان مهر أم سلمة متاعاً قيمته عشرة دراهم).
فأقبل أبو عبدالله يتعجب، وقال: هؤلاء الشيوخ لم يكونوا يكتبون، وإنما كانوا يحفظون، ونُسِبوا إلى الوهم، أحدهم يسمع الشيء فيتوهم فيه)[40].
وقال البيهقي: (وقد يَزِل الصدوق فيما يكتبه، فيدخل له حديث في حديث، فيصير حديث رُوي بإسناد ضعيف مركباً على إسنادٍ صحيح، وقد يزل القلم، ويخطيء السمع، ويخون الحفظ، فيروي الشاذ من الحديث من غير قصد)[41].
ولا تكاد تحصى النصوص التي يقول فيها أئمة النقد: فلان دخل له حديث في حديث[42] كأن يكتب إسناد حديث ثم يكتب متناً بإسناد آخر، فيصبح الحديث لا يُعرف[43].(/6)
كما أن بعض النقاد فسَّر سبب خطأ بعض الرواة بأنه قد(شُبِّه له)[44]، كما قيل لابن معين: (كيف يحدث ثقة بباطل؟ قال: شُبه له)[45]. أي يُخيل له الشيء فيحدث به[46].
وفَسَّر بعضهم سبب الخطأ أحياناً بسبق اللسان، كما قال الإمام أحمد في حديث أخطأ فيه شَريك: (لعل شريكاً سبقه لسانه)[47]، وكما قال البزار في حديث أخطأ فيه أحد الثقات: (وإنما كان سبقه لسانه عندنا)[48].
ويقع الخطأ أحياناً أن يحدث الراوي الصدوق بحديث ليس من حديثه نسياناً منه، كما قال ابن معين لعلي بن عاصم وهو من أهل الصدق: (ليس هذا من حديثك. فقال علي: فأكذب ؟! [فقال يحيى]: فاستحييت منه، وقلتُ: ذوكرتَ به فوقع في قلبك، فظننت أنك سمعته ولم تسمعه، وليس من حديثك)[49].
وقال عبدالرحمن بن مهدي لأبي عوانة أحد مشاهير الثقات: (هذا ليس من حديثك؟ فقال: من أين أُتيت ؟ فقال ابن مهدي: ذوكرتَ به وأنت شاب، فظننت أنك سمعته)[50].
والمذاكرة كانت منتشرة جداً عند المحدثين، وربما تذاكروا على أبواب المحدثين قبل دخولهم للسماع، وكانوا يتذاكرون أبواب الفقه أو مرويات أحد الرواة، أو يسأل أحدهم الآخر: ماذا تحفظ في كذا وكذا… الخ. وعلى هذا فربما يكون سبب بعض التفردات غير المحتملة ما علق في ذاكرة الراوي من إحدى مذاكراته.
ويقع الخطأ أحياناً بسبب الكتب إما بسبب الورَّاق[51] كما قال يحيى بن عبدك لما بعث إليه أبو زرعة الرازي برسالة ينبهه فيها على خطأ له فقال: (لا جزى الله الوراق عني خيراً، أدخل لي أحاديث المعلى بن أسد في أحاديث مُسدَّر، ولم أميزها منذ عشرين سنة، حتى ورد كتابك، وأنا أرجع عنه)[52].
وإما بسبب عدم إعجام كلمات الكتاب فيقع التصحيف كما وقع من بعضهم تصحيف (السبيعي) إلى (الشعبي)[53].(/7)
وإما بانتقال النظر كما حدث للإمام علي بن المديني في حديث أنكره عليه شيخه عبدالرحمن بن مهدي، فلما رجع إلى بيته كما يقول: (نظرتُ فإذا قبله حديث في هذه المسألة، وبعده: عبدالمؤمن رأيتُ سعيداً يتكلم في الطواف) وكان وهمه أنه قال: (رأيت سعيداً يشرب في الطواف) والصواب يتكلم[54].
وإما أن يحدث من كتب غيره فيخطئ بسبب ذلك[55]، وإما أن يقرأ في كتابٍ لم يسمعه فيعلق بقلبه ما ليس من حديثه[56]، وإما أن تشتبه عليه كتبه وتختلط فلا يميز ما سمعه من ذلك الشيخ عن ما سمعه من آخر، كما وقع لأبي اليمان الحكم بن نافع أحد الثقات؛ فقد روى حديثاً أنكره عليه النقاد، وأبان الإمام أحمد عن كيفية وقوعه في الخطأ حيث قال: (كان كتاب شعيب عن ابن أبي حسين ملصقاً بكتاب الزهري)[57]، وقال أبو اليمان: (الحديث حديث الزهري والذي حدثتكم عن ابن أبي حسين غلطت فيه بورقة قلبتها)[58].
وأحياناً يكون الخطأ برفع المتن الموقوف على صحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأحياناً يكون الخطأ بسبب بُعد الراوي عن مكان الشيخ أثناء السماع، كما حدث ليزيد بن هارون في إسناد أخطأ فيه من حديث شعبة، وقال مبيناً سبب خطئه: (لقد سمعته من شعبة ببغداد، وكنتُ في آخر الناس، وأنا أشك فيه منذ سمعته)[59].
ومداخل الوهم كثيرة جداً يصعب حصرها، ويخشى على الصدوق إذا تفرد بما لا يُحتمل أن يكون وقع في شيء من ذلك، لا سيما مع وجود الأخطاء في مروياته، فكيف إذا كان معتمداً على حفظه وليس له كتاب، والحفظ خوَّان كما يقال ؟!
والتفرد مشعر باحتمال وجود خطأ، بدليل أن الإمام مالكاً - وهو من كبار المتقنين - لما قيل له في حديث تفرد به: (لا يرويه غيرك. فقال: لو علمتُ هذا ما حدثت به)[60].
ومن ذلك قول أحد الرواة بعد أن روى حديثاً قال: (هذا خطأ، ولم أر أحداً تابعني عليه)[61].(/8)
5- هذا الرأي هو الأحوط، وعلم الحديث قائم على الاحتياط، كما قال أحد كبار أئمة النقد وهو الإمام عبدالرحمن بن مهدي: (خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن، الحكم والحديث)[62].
ويقول ابن القطان الفاسي: (وأهل هذه الصناعة أعني المحدثين بنوها على الاحتياط، حتى صدق ما قيل فيهم: لا يخف على المحدث أن يقبل الضعيف، وخَفَّ عليه أن يترك من الصحيح، وبذلك حفظت الشريعة لما أراد الله عز وجل حفظها)[63].
فالقول بالتوقف في تفرد الصدوق غير المحتمل موافق لهذا الأصل العظيم الذي هو عماد علم الحديث، وعماد منهج كبار أئمة النقد، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الأمور بالاحتياط.
ـــــــــــــــــــــ
[1] التعديل والتجريح (2/524).
[2] أخرجه أحمد (2/423) وأبو داود (2350)، والحاكم (1/426)، والبيهقي (4/218).
[3] العلل لابن أبي حاتم (1/123، 256).
[4] التمييز (ص218).
[5] السلسلة الصحيحة (3/382).
[6] السنن الكبرى للنسائي (3/173) وسنن ابن ماجة (2525)، والمستدرك للحاكم (2/214)، والسنن الكبرى للبيهقي (10/289).
[7] السنن الكبرى للنسائي (3/173).
[8] تهذيب الكمال (13/319).
[9] تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/459-460)، ونصب الراية (3/278).
[10] معرفة السنن (14/407).
[11] بيان الوهم والإيهام (5/437)، ونصب الراية (3/278).
[12] بيان الوهم والإيهام (5/437)، ونصب الراية (3/278).
[13] إرواء الغليل (6/170).
[14] الجوهر النقي (10/290).
[15] المحلى (9/202).
[16] شرح العلل (2/477).
[17] الميزان (3/140).
[18] مصدر سابق (3/140).
[19] الضعفاء للعقيلي (2/247-249).
[20] تقدم الكلام عليه في نصوص أحمد آنفاً (النص الأول).
[21] مقدمة الجرح والتعديل (1/170).
[22] تقدم في نصوص أبي حاتم آنفاً (النص الثاني).
[23] سير أعلام النبلاء (8/169).(/9)
[24] مسائل أحمد لأبي داود (ص289). وهو هنا لا ينكر تفرد الصحابي ولكن يُنكر مخرج الحديث كأنه يقول: أين أهل المدينة ومكة عن هذا لينفرد به أهل خراسان !!
[25] التاريخ لابن معين (3/346).
[26] المنتخب من علل الخلال (ق94/أ).
[27] العلل لابن أبي حاتم (1/92).
[28] المرجع السابق (1/296).
[29] المرجع السابق (1/463).
[30] المرجع السابق (1/392).
[31] المرجع السابق (2/400-401).
[32] الكامل (3/1028).
[33] الفروسية (ص78).
[34] الفروسية (ص58).
[35] تهذيب مختصر أبي داود (1/62) وهذا الكلام لا يتبناه ابن القيم إنما ذكره على سبيل المناظرة بين رأيين.
[36] جامع العلوم والحكم (ص339).
[37] التنكيل (2/111).
[38] التنكيل (2/112).
[39] العلل الصغير (5/746).
[40] التهذيب (2/436).
[41] معرفة السنن (1/144).
[42] انظر العلل برواية عبدالله (1/556)، والعلل للرازي (1/41، 77، 84، 91، 96، 118)، (2/132، 147، 284/ 301).
[43] انظر تعليلاً مفسراً للدار قطني عن كيفية دخول حديث في حديث - سؤالات السلمي (ص294-295).
[44] الجرح والتعديل (9/320)، والعلل برواية عبدالله (3/23).
[45] تاريخ بغداد (13/307).
[46] الضعفاء لأبي زرعة (ص442).
[47] طبقات الحنابلة (1/287).
[48] كشف الأستار (2/22).
[49] الضعفاء لأبي زرعة (ص396).
[50] تهذيب الكمال (17/440) ببعض التصرف.
[51] اسم مهنة يعهد للقائم بها ترتيب كتب المحدث، وتطلق أحياناً على من يبيع الكتب وينسخها بالأجرة.
[52] الضعفاء لأبي زرعة (ص580).
[53] تاريخ ابن معين (2/32-33).
[54] المعرفة والتاريخ (1/714-715).
[55] التهذيب (2/354).
[56] شرح علل الترمذي (1/283).
[57] التهذيب (2/442-443).
[58] التهذيب (2/442- 443).
[59] العلل برواية عبدالله (1/527).
[60] التعديل والتجريح (1/300).
[61] طبقات المحدثين بأصبهان (4/235).
[62] الضعفاء للعقيلي (1/9).
[63] النظر في أحكام النظر (ص35).(/10)
العنوان: تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف (5)
رقم المقالة: 332
صاحب المقالة: د. خالد بن منصور الدريس
-----------------------------------------
المطلب الثالث: الموازنة بين الرأيين والترجيح.
بالنظر إلى أدلة الفريقين ترجح لدي قوة أدلة الفريق الثاني ؛ ولأنه مذهب كثير من قدماء النقاد، كما أن أدلة الفريق الأول لا تخلو من نظر.
فالدليل الأول فحواه مساواة الصدوق بالثقة، وهذا خلاف ما استقر عليه عرف المحدثين وجرى عليه عملهم، وقد صرح ابن مهدي وابن أبي حاتم والحاكم - كما تقدم في المبحث الأول - أن الصدوق أنزل رتبة من الثقة، ولابد لهذا التفريق في المراتب من ثمرة عملية كما ورد في الدليل الأول لأصحاب الرأي الثاني.
ولا حجة لهم في كلام البخاري عن قبول خبر الآحاد لأن الحافظ ابن حجر بين مراد الإمام رحمه الله فقال: (وقصد الترجمة الرد به على من يقول: إن الخبر لا يحتج به إلا إذا رواه أكثر من شخص واحد حتى يصير كالشهادة، ويلزم منه الرد على من شرط أربعة أو أكثر)[1].
فالمقصود أن خبر الآحاد حجة وهذا لا خلاف فيه بين المحدثين.
أما الدليل الثاني: فيصلح للرد على من رد كل ما تفرد به الصدوق، وهذا ما لا نقول به، بل حُدد التوقف في تفرده غير المحتمل فقط، ومعنى هذا أنه مقبول فيما تفرد به وكان محتملاً؛ أخذاً بأن الاستقامة غالبة على مروياته والحكم للأغلب.
وأما إذا بان لنا أن التفرد غير محتمل، فإن الثقة بذلك التفرد تضعف، ويقوى احتمال الخطأ ويتوجه القول: أين كان الحفاظ عن ذلك الحديث؟!
أما الدليل الثالث: فالجمهور احتجوا بتفرد الصدوق المحتمل هذا لا نخالف فيه، والقول باحتجاجهم بالحسن لذاته هذا صحيح ولكن لا نسلم أن تفرد الصدوق غير المحتمل من الحسن، لأن من توقف فيه أو أنكر لم يعده حسناً، أما من قبل تفرده فهو حسن عنده، ولا يلزم من تحسينه لذلك أن يكون حسناً عند من لا يحتج بالتفرد غير المحتمل.(/1)
أما الدليل الرابع: فلا نزاع في أن تفرد الثقة الضابط مقبول ومحتمل منه إذا سلم من قادح معتبر، ولا يصح قياس الصدوق على الثقة في ذلك؛ لما تقدم في الرد على الدليل الأول.
أما الدليل الخامس: فهو لا يخلو من قوة ووجاهة، ولكنه قد يصدق على بعض الحالات، وأما في حالات أخرى فيصعب قبوله، فمثلاً المحدث الذي له طلاب كثر ملازمون له فمن أين يمكن لراو صدوق سمع منه عدة مجالس أن يتفرد عن أولئك الرواة بحديث؟!
ثم هل أحاديث الأحكام المرفوعة والأحاديث الأصول يمكن إخفاؤها عن الأقران؟!
إنما يصدق ذلك على أحاديث غير مرفوعة أو على أحاديث في الفضائل والرقائق ونحو ذلك. ويصدق كذلك على مشايخ تكون شهرتهم غير واسعة أو ليسوا بمعروفين جداً بحيث يسهل إخفاء أمرهم عن الأقران، ولأن هذه الأمور ممكنة فلم نهمل هذا الدليل مطلقاً بل نأخذ به. ولذا قلنا: إن التفرد المحتمل من الصدوق مقبول، ويكون كذلك إذا انطبق عليه ما ذكرنا آنفاً أنه يصدق في بعض الأمور.
وقبل الخوض في الأسباب التي دعتني لترجيح الرأي القائل بالتوقف في حديث الصدوق إذا كان تفرده لا يحتمل، يستحسن أن أعرض تحريراً بمحل النزاع يلخص ما سبق.
فأقول: إن تفرد الثقة الضابط مقبول مطلقاً عند أغلبية النقاد إلا في حالات ثلاث تقدم ذكرها في نصوص الإمام أحمد[2]، وهذا بعكس ما ذكره الحافظ ابن رجب، وقد ناقشته رحمه الله مع عِظم محبتي له وإجلالي لعلمه وفضله فيما تقدم أثناء الكلام على النصوص التطبيقية للإمامين يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل.
وقبول تفرد الثقة الضابط هو الذي عليه العمل والمتسق مع منهج المحدثين العام، يقول الإمام الشافعي: (وكلاً قد رأيته استعمل الحديث المنفرد) يعني فقهاء الأمصار في المدينة والعراق وغيرهما.(/2)
ويقول ابن القيم في الرد على من لم يحتج بتفرد الثقة: (إن هذا القول لا يمكن أحداً من أهل العلم ولا من الأئمة، ولا من أتباعهم طَرْده، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم)[3]. وهذا صحيح بلا أدنى ريب.
ويقول الذهبي : (الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له، وأكمل لرتبته، وأدل على اعتنائه بعلم الأثر، وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها، اللهم إلا أن يتبين غلطه ووهمه في الشيء فيعرف ذلك، فانظر أول شيء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبار والصغار، ما فيهم أحد إلا وقد انفرد بسُنة، فيقال له: هذا الحديث لا يتابع عليه؟! وكذلك التابعون، كل واحد عنده ما ليس عند الآخر من العلم)[4].
ويقول أيضاً: (هكذا سائر الثقات ينفردون)[5].
وما قاله الذهبي صحيح، لأن الحفاظ المكثرين المعروفين بسعة مروياتهم تقع التفردات في أحاديثهم خاصة قبل انتشار التدوين انتشاراً عاماً، ومثالاً على ذلك قول الإمام علي بن المديني الذي يقول فيه: (نظرنا فإذا يحيى بن سعيد - الأنصاري - يروي عن سعيد بن المسيب ما ليس يروي أحد مثلها، ونظرنا فإذا الزهري يروي عن سعيد بن المسيب شيئاً لم يروه أحد، ونظرنا فإذا قتادة يروي عن سعيد بن المسيب شيئاً لم يروه أحد)[6].
وكل هؤلاء الثلاثة من كبار الحفاظ.
وقال الإمام أحمد: (حَدَّث عبدالرزاق عن معمر أحاديث لم يسمعها ابن المبارك، وحَدَّث ابن المبارك أيضاً بشيء لم يسمعه عبدالرزاق)[7].
وقال عبدالرزاق لعلي بن المديني حين ودعه: (إذا ورد حديث عني لا تعرفه فلا تنكر، فإنه ربما لم أحدثك به)[8].
وقال علي بن المديني: (ولا ينكر لرجلٍ سمع من رجلٍ ألفاً أو ألفين أن يجيء بحديث غريب)[9].
ولما أنكر الناس حديثاً لابن جريج عن الحسن البصري قال: (ما ينكرون عليَّ فيه؟! لزمت عطاء عشرين سنة ربما حدثني عنه الرجل بالشيء الذي لم أسمعه منه)[10].
فقبول تفرد الثقة الضابط هو المتعين لما تقدم.(/3)
وأما تفرد الصدوق ففيه اختلاف، فبعض النقاد كأبي حاتم الرازي فيما ظهر لي من تصرفاته أن الأصل عنده - غالباً - عدم الاحتجاج بتفرد الصدوق إلا إذا ترجح له أنه تفرد محتمل، وقد سبق أن نقلنا العديد من النصوص التي يقول فيها: (صدوق ولا يحتج به)، لا بأس به ولا يحتج به... الخ.
النقاد - الذين وقفت على كلام لهم - يبدو أن الأصل عندهم قبول تفرد الصدوق إلا إذا ثبت أنه تفرد بما لا يحتمل لمثله.
وأما المتأخرون وبعض المتقدمين فيقبلون تفرد الصدوق مطلقاً إلا إذا خالف من هو أولى منه.
فمسألة تفرد الصدوق هل يقبل أم يتوقف فيه خلافية حتى عند المتقدمين، وخير مثال على ذلك موقف بعض كبار النقاد من تفرد محمد بن إسحاق، فقد صرَّح الإمام أحمد بن حنبل[11] والإمام يحيى بن معين[12] والإمام أبو زرعة الرازي[13] بعدم الاحتجاج بما يتفرد به في الأحكام والفرائض، وأما علي بن المديني[14] والبخاري[15] فقبلوه.
ومثال آخر: قال ابن أبي حاتم: (سألت أبا زرعة عن حديث خالد بن سلمة عن البهي عن عروة عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه).
فقال: ليس بذاك، هو حديث لا يروى إلا من هذا الوجه.
فذكرتُ قول أبي زرعة لأبي رحمه الله فقال: الذي أرى أن يذكر الله على كل حال على الكنيف وغيره على هذا الحديث)[16].
فرده أبو زرعة للتفرد، وقبله أبو حاتم لأنه محتمل عنده، وقد صححه البخاري خارج صحيحه[17]، وصححه أيضاً الإمام مسلم[18]، فهذا مثال واضح في اختلاف المتقدمين.
وفيما سبق من نصوص القطان وقع خلاف من المتقدمين في ذلك كحديث: (عرفة كلها موقف)، وكذلك في نصوص الإمام أحمد كحديث صلاة الاستخارة استنكره أحمد وقبله البخاري إلى غير ذلك من أمثلة عديدة تدل أنها مسألة خلافية في جانبها التطبيقي على وجه الخصوص.
وأما الراجح في شأن تفرد الصدوق، فهو قبوله حين يكون محتملاً، والتوقف فيه حين يكون غير محتمل، ورده حين يخالف.(/4)
وهذا هو رأي الإمام الذهبي فقد قال في تعريف الشاذ: (هو ما خالف راويه الثقات، أو ما انفرد به من لا يحتمل حاله قبول تفرده)[19].
وقال في تعريف المنكر: (وهو ما انفرد الراوي الضعيف به، وقد يُعدُّ مُفرد الصدوق منكراً)[20].
وقال: (فمثل يحيى القطان يقال فيه: إمام، وحجة، وثبت وجِهْبذِ، وثقة ثقة، ثم ثقة حافظ، ثم ثقة متقن، ثم ثقة عارف، وحافظ صدوق، ونحو ذلك.
فهؤلاء الحفاظ الثقات، إذا انفرد الرجل منهم من التابعين فحديثه صحيح، وإن كان من الأتباع قيل: صحيح غريب، وإن كان من أصحاب الأتباع قيل: غريب فرد[21].
ويندر تفردهم، فتجد الإمام منهم عنده مائتا ألف حديث لا يكاد ينفرد بحديثين، ثلاثة.
ومن كان بعدهم فأين ما ينفرد به[22]؟ ما علمته، وقد يوجد!
ثم ننتقل إلى اليقظ الثقة المتوسط المعرفة والطلب، فهو الذي يُطلق عليه أنه ثقة، وهم جمهور رجال (الصحيحين)، فتابعيهم إذا انفرد بالمتن خُرِّج حديثه ذلك في (الصحاح).
وقد يتوقف كثير من النقاد في إطلاق الغرابة مع الصحة في حديث أتباع الثقات، وقد يوجد بعض ذلك في (الصحاح) دون بعض.
وقد يُسمي جماعة من الحفاظ الحديثَ الذي ينفرد به مثل هُشيم، وحفص بن غياث: منكراً.
فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة أطلقوا النكارة على ما انفرد به، مثل عثمان بن أبي شيبة، وأبي سلمة التبُوذكي وقالوا: منكر...
وليس من حد الثقة أنه لا يغلط ولا يخطئ، فمن الذي يسلم من ذلك غير المعصوم الذي لا يُقر على خطأ)[23].
وفي هذا النص إيضاح جلي إلى أهمية طبقات المنفردين.
وقال الذهبي أيضاً: (فأما من وثق ومثل الإمام أحمد يتوقف فيه، ومثل أبي حاتم يقول: صالح الحديث، فلا نرقيه إلى رتبة الثقة، فتفرد مثل هذا يعد منكراً)[24].
وقال: (عبدالرزاق راوية الإسلام، وهو صدوق في نفسه، وحديثه محتج به في الصحاح، ولكن ما هو ممن إذا تفرد بشيء عُدَّ صحيحاً غريباً، بل إذا تفرد بشيء عُدَّ منكراً)[25].(/5)
وقال في تفرد أسامة بن زيد الليثي وابن إسحاق عن عمرو بن شعيب: (ففي النفس منه، والأولى أن لا يحتج به)[26]، مع أن حديثهما حسن عند المتأخرين.
وقال في محمد بن إسحاق: (فالذي يظهر أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً، وقد احتج به أئمة)[27]، وله رحمه الله نصوص أخرى مشابهة وتطبيقات لما حرره آنفاً[28].
وممن تابع الذهبي على بعض أقواله في تفرد الصدوق: العلامة المحقق عبدالرحمن المعلمي اليماني فقد ذكر كلامه في ابن إسحاق وارتضاه على أنه التحقيق، واحتج به في الحكم على تفرد لابن إسحاق بأنه منكر[29].
كما أنه ذكر (التفرد الذي لا يحتمل) بوصفه أحد القوادح في السند الموثق الرجال[30]، ورجح أن تفرد (صدوق يهم) لا يحتج به[31].
وترجيحنا لهذا الرأي للأمور التالية:
1- قوة أدلته كما تقدم.
2- توسطه وبُعده عن الغلو، مع عدم إغفال موجبات الاحتياط المعتدل، فلا يساوي مفرد الصدوق بمفرد الثقة مطلقاً، ولا يساوى بما رواه الضعيف فلا يقبل من مروياته إلا ما اعتضد بعاضد، بل ينظر في تفرده بحسب القرائن، فإن كان محتملاً قُبِل ولو لم يعتضد، وإن كان غير محتمل توقف فيه ولو لم يخالف.
3- لأنه مذهب كثير من كبار النقاد خاصة من جمع منهم بين الاعتدال في الجرح والتعديل والفقه كالإمام أحمد، فمذهبه في ذلك حري بالقبول؛ لأنه من المعتدلين في النقد ومن كبار الفقهاء أيضاً.
ومنهج الإمام أحمد في ذلك قائم على الانتقاء من حديث من يُحسن المتأخرون حديثهم، فمثلاً قال في عمرو بن شعيب: (أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا به، وإذا شاؤوا تركوه)[32].
وقد احتج ببعض حديثه الذي تفرد به[33]، ولم يحتج ببعضه[34].(/6)
ومع تصريحه بعدم الاحتجاج بتفرد ابن إسحاق إلا أنه - في رواية عنه - قَبل حديثاً قد تفرد به، وقال: (أذهب إليه ليس يدفعه شيء، وإن كان حديثاً واحداً)[35]، وقال: (لا أعلم شيئاً يخالفه)[36]. وقد احتج ببهز بن حكيم في حديث[37]، وتوقف عن ذلك في حديث آخر[38].
ومذهب الانتقاء هو منهج الإمام عبدالرحمن بن مهدي وهو من المعتدلين أيضاً، فقد حدثه تلميذه عمرو بن علي الفلاس بحديث فيه عبدالله بن عثمان بن خثيم -وحديثه حسن عند المتأخرين - فقال له: (أنت من هذا الضرب ؟!) منكراً عليه، قال الفلاس: (وكان عبدالرحمن يحدثنا عن الرجل بالحديث، ولا يحدث بحديثه كله)[39].
وقال ابن مهدي أيضاً: (اثنان إذا كتبت حديثهما هكذا رأيت فيه، وإذا انتقيتها كانت حساناً: معمر وحماد بن سلمة).
وختاماً لابد من توضيح لمعنى(التفرد غير المحتمل).
متى يكون التفرد لا يحتمل؟
هناك أسباب عديدة وقرائن متنوعة تجعل التفرد من(الصدوق)ومن في حكمه غير محتمل، ومن أهم هذه الأمور على سبيل المثال لا الحصر:
1- إذا تفرد(الصدوق)بحديث عن حافظ له تلامذة كثر، وبعضهم مختص به وملازم له، فحينها يكون التفرد غالباً لا يحتمل.
قال الإمام مسلم: (فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك. قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثر، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس)[40].
وقد طبق مسلم ذلك كما في قوله: (فأما رواية المعافى بن عمران عن أفلح عن القاسم عن عائشة فليس بمستفيض عن المعافى، إنما رواه هشام بن بَهْرام[41] وهو شيخ من الشيوخ، ولا يقر الحديث بمثله إذا تفرد)[42].
وقد تقدم في أدلة الرأي الثاني بعض النصوص المؤيدة لما هنا.(/7)
2- إذا تفرد الصدوق بأصل أو حكم من الأحكام المهمة ولم يشاركه فيه أحد؛ فمن الوجاهة أن نتساءل أين كان حفاظ الأمة المعاصرين له عن هذا الحديث؟!
وقد تقدم قول شعبة : (حكم من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه أحد)[43]، وكذا قول أبي حاتم بنحوه[44]، وقوله: (وهذا أصل من الأصول لم يُتابع عليه ربيعة)[45].
وقال الجوزجاني في حديث تفرد به عاصم بن ضمرة عن(صفة تطوع رسول الله صلى الله عليه وسلم):
(فيا لعباد الله! أما كان ينبغي لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه يحكي هذه الركعات إذ هم معه في دهرهم، والحكاية عن عائشة رضي الله عنها في الاثنتي عشرة ركعة من السُنة، وابن عمر عشر ركعات، والعامة من الأمة أو من شاء الله قد عرفوا ركعات السُنة الاثنتي عشرة، منها بالليل، ومنها بالنهار.
فإن قال قائل: كم من حديث لم يروه إلا واحد؟
قيل: صدقتَ كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس فيتكلم بالكلمة من الحكمة لعله لا يعود لها آخر دهره فيحفظها عنه رجل، وهذه ركعات كما قال عاصم كان يداوم عليها فلا يشتبهان)[46].
وقد رد الحافظ ابن حجر عليه فقال: (ولا إنكار على عاصم فيما روى، هذه عائشة تقول لسائلها عن شيء من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم :(سل علياً)، فليس بعجب أن يروي الصحابي شيئاً يرويه غيره من الصحابة بخلافه، ولاسيما التطوع)[47].
ولكن لم يجب الحافظ رحمه الله عن المداومة على تلك الركعات، إذ يُفترض أن يشتهر ذلك للمداومة عليه، فلما لم يحصل ذلك يصبح ما قاله الجوزجاني لا يخلو من وجاهة لاسيما وأن عاصماً متكلم في حفظه.
وقد نبَّه ابن القيم[48] في عدة مواضع أن الذين يعللون بالتفرد يبنون قولهم على أن المتن إذا كانت حاجة الأمة شديدة إليه وفي أمر تعم به البلوى، فينبغي أن يشتهر من حديث الثقات عن ذاك الراوي المتفرد به عنه.
وقد سبق معنا قول المعلمي: (وهذا الحديث في حكمٍ مختلف فيه تعم به البلوى...)[49].(/8)
وليس في كلامهما موافقة لأهل الرأي في اشتراط الشهرة وتعدد رواة الحديث من الصحابة إذا كان الحديث فيما تعم به البلوى، لأنهما لم يشترطا التعدد أصلاً، وإنما أرادا القول بأن المتن لو كان ثابتاً لكان يجدر بأحد الثقات المتقنين أن يرويه لأهميته، ومصدر أهميته أنه فيما تعم به البلوى، فالفرق بين الأمرين لا يخفى.
3- تفرد متأخر الطبقة ولو كان ثقة لا يقبل كما ذكر الذهبي فيما مضى، وكلما تأخرت طبقة المتفرد كلما قوي احتمال رده، خاصة بعد تدوين السنة، وبعد انتشار الاهتمام بجمعها، ولا شك أن التفرد في عصر الرواية الشفهية قبل انتشار التدوين واشتهاره وقَبول المحدثين به بعد زمن من ممانعة الكثيرين منهم، أقوى احتمالاً، ولذا كان الأمر كما قال الذهبي أن تفرد التابعي مقبول ولا يُشدد فيه، ويتدرج التشدد في التفردات كلما بعد الزمن عن عصر النبوة وتأخرت الطبقة.
وعلى هذا فقد يكون لقبول التفرد علاقة طردية مع التدوين، ففي عصر عدم انتشار التدوين يكون التفرد محتملاً نوعاً ما، وفي عصر انتشار التدوين وحصر الأحاديث وجمعها يكون التفرد غير محتمل، ويقوى الحكم بعدم قبوله.
وهناك أمور أخرى غير ما سبق يُعرف بها التفرد غير المحتمل، ولعل هذا المقام مناسب أن اقترح على من يرغب في الاستزادة أن يدرس ولا أقول يقرأ (العلل) للرازي، و(العلل الكبير) للترمذي، و(شرح علل الترمذي) لابن رجب؛ لما فيها من غرر الفوائد ودرر النفائس المتعلقة بعلم العلل، والمداومة على قراءة تلك الكتب وأمثالها تنمي لدى الباحث ملكة النقد الحديثي كما يجب أن يكون، وتسهم في بناء عقلية نقدية لها عاداتها الفكرية وسلوكياتها الذهنية المبنية على منهج أئمة المحدثين رحمهم الله تعالى.
تفرد الصدوق بزيادة.
فيما مضى تكلمنا عن تفرد الصدوق بحديث، وهنا سنتكلم بإيجاز عن حكم زيادة الصدوق هل تعامل كزيادة الثقة أم لا؟(/9)
وهذا المبحث ما كنا سنتطرق إليه لولا عبارة للحافظ ابن حجر موهمة إذ قال: (وزيادة راويهما - أي الصحيح والحسن - مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة)[50].
والمعروف من كلام عدد من كبار الأئمة أن الزيادة إنما تقبل من الثقات الحفاظ، كما قال الإمام مسلم: (والزيادة في الأخبار لا تلزم إلا عن الحفاظ الذين لم يعثر عليهم الوهم في حفظهم)[51].
وقال الترمذي: (فإذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظه قُبل ذلك عنه)[52]. وقال ابن رجب: (يعني وإن كان الذي زاد ثقة لا يعتمد على حفظه لا تقبل زيادته)[53].
قال ابن رجب متصلاً بكلامه السابق: (وهذا أيضاً ظاهر كلام الإمام أحمد)[54].
وقال: (فالذي يدل عليه كلام الإمام أحمد في هذا الباب أن زيادة الثقة للفظة في حديث من بين الثقات إن لم يكن مبرزاً في الحفظ والتثبت على غيره ممن لم يذكر الزيادة ولم يتابع عليها، فلا يقبل تفرده)[55].
ورجح أن منهج البخاري والدارقطني في قبول الزيادة أن تكون من ثقة مبرز في الحفظ[56].
فعلى هذا فلا تقبل زيادة الصدوق لانحطاط مرتبته عن وصف الثقة المبرز في الحفظ، ويتعين ذلك إذا كان المشارك له في الرواية ثقة ومع ذلك لم يذكر تلك الزيادة، فيكون بذلك خالف من هو أوثق منه ويصح احتمال وهمه قوياً جداً.
ولا تقبل الزيادة إلا من الحافظ المتقن كما تقدم وفي المسألة تفصيل يطلب من مظانه[57].
ـــــــــــــــــــــــ
[1] فتح الباري (13/246).
[2] انظر (النص السادس).
[3] إغاثة اللهفان (1/296).
[4] الميزان (3/140).
[5] المرجع السابق (2/306).
[6] سؤالات ابن أبي شيبة (ص83-84).
[7] مسائل ابن هانىء (2/194).
[8] الجامع لأخلاق الراوي (2/209).
[9] تاريخ بغداد (9/297).
[10] الجامع لأخلاق الراوي (2/96).
[11] تاريخ بغداد (1/230).
[12] الجرح والتعديل (7/194).
[13] النبلاء (13/80) وعبارته: (إذا انفرد ابن إسحاق بالحديث لا يكون حجة).(/10)
[14] انظر الفصل الرابع المتقدم.
[15] انظر ما تقدم في المطلب الأول عن ميل البخاري لقبول بعض تفردات من هو في مرتبة (صدوق).
[16] العلل لابن أبي حاتم (1/51).
[17] العلل الكبير (2/905) تحقيق حمزة ديب.
[18] صحيح مسلم (373) عن خالد بن سلمة به.
[19] الموقظة (ص42).
[20] المرجع السابق.
[21] لاحظ أنه لم يقل: صحيح، مما يعني تردداً في قبول تفرد متأخر الطبقة وإن كان ثقة.
[22] بعد انتشار تدوين السنة وظهور دواوين موسوعية لجمعها كمسند أحمد وغيره.
[23] الموقظة (ص76-78).
[24] الميزان (1/365).
[25] تاريخ الإسلام [211-220هـ] (ص262).
[26] النبلاء (5/177).
[27] الميزان (3/475).
[28] النبلاء (5/184)، (4/33)، والميزان (2/400،442)، وفي رده على ابن القطان (ص101، 120، 121).
[29] عمارة القبور (ص32).
[30] الأنوار الكاشفة (ص19).
[31] المرجع السابق (ص295).
[32] سؤالات أبي داود (ص230).
[33] مسائل ابن هانيء (2/90) والتمهيد (22/312) في مضاعفة الغرامة على من سرق دون النصاب فدرئ عنه الحد.
[34] المغني (1/182) لم يحتج بحديث عمرو في أن المرأة إذا مست فرجها ينتقض وضوؤها، والمغني (3/11) لم يأخذ بحديث عمرو في زكاة الحلي ورجح عليه قول خمسة من الصحابة أن لا زكاة في الحلي.
[35] المغني (2/87) حديث نضح المذي إذا أصاب الثوب، وفي روايات أخرى لم يحتج بالحديث لتفرد ابن إسحاق به - انظر مسائل صالح (3/48)، والمغني (2/87).
[36] انظر الفصل الرابع.
[37] المغني (2/573) حديث: (إنا آخذوها وشطر ماله...).
[38] الميزان (2/459).
[39] المعرفة والتاريخ (3/157).
[40] مقدمة صحيح مسلم (1/7).
[41] في التقريب (ثقة) (7287).
[42] التمييز (ص215).
[43] العلل لابن أبي حاتم (1/92).
[44] مقدمة الجرح والتعديل (1/170).
[45] العلل لابن أبي حاتم (1/464).
[46] أحوال الرجال (ص44-45).
[47] التهذيب (5/46).
[48] تهذيب مختصر أبي داود (1/62)، (3/223).(/11)
[49] التنكيل (2/111).
[50] نزهة النظر (ص34).
[51] التمييز (ص189).
[52] شرح العلل (1/419).
[53] المرجع السابق.
[54] المرجع السابق.
[55] المرجع السابق (1/423).
[56] المرجع السابق (1/429).
[57] للاستزادة انظر: النكت لابن حجر (2/686-702)، وشرح العلل (1/419-437)، نصب الراية (1/336-337)، وتوضيح الأفكار (2/16-24)، وتدريب الراوي (1/245-248).(/12)
العنوان: تفسير الأحلام صناعة زبائنها نساء
رقم المقالة: 1920
صاحب المقالة: نهى الفخراني
-----------------------------------------
شَغَفُ النساء بالأحلام وتفسيرها لا يستطيع أحد إنكارَه؛ فالأحاديث بين النساء والفتيات سواءٌ أكانت عبر الهاتف أم في التجمعات النسائية - يدور جزءٌ كبيرٌ منه عمَّا يحلُمن به، وما أن تشتهرَ إحدى السيّدات في العائلة بقدرتها على تفسير الأحلام حتّى يتهافَتَ عليْها الجميع، يحكينَ لها بالنهار عمَّا يدور في أحلامهنَّ بالليل.
وقد وصل الأمر ببعض السيدات عندما تُؤَرِّقُهُنَّ بعض المشكلات الحياتية، ويُردْنَ استشراف المستقبل - أن يحاولْنَ النوم، آملاتٍ في إيجاد حلٍّ عن طريق الأحلام! أو بمعني أصح: الأوهام.
وقدِ استغَلَّتْ كثيرٌ من الفضائيات العربية هذا الشَّغفَ، فأصبحت تُخصِّص برامجَ كثيرة لتفسير الأحلام، تتنافس من خلالها للاستِحْواذ على اهتمامات وإقبال الجمهور، لاسيَّما النساء!
فلماذا النساء بالذات دون الرجال يحلُمنَ كثيرًا؟ وما الحقيقة العلمية للأحلام؟ وما الفرق بين الرُّؤَى والأحلام؟ وهل من الممكن أن نحدِّد أهدافنا ومسيرة حياتنا ومواقفنا من البشر من خلال الأحلام؟
هذه الأسئلة وغيرها نحاول الإجابة عليها في التحقيق التالي.
أثق في أحلامي
نيللي الشَّاهد - طبيبة نساء - تقول:
"الرؤية هي بشارةٌ من الله- سبحانه وتعالى. وأنا في حياتي أحبُّ الأحلام، وأهتمُّ بها كثيرًا، ليس لشيءٍ إلاَّ لأنها تمثِّل لي حقيقةً في حياتي، فطوال أيام دراستي أكون قَلِقَةً جدًّا، فأرى في منامي رؤيا رمزيَّة تدلُّ علي نجاحي، وكان هذا يُسبِّب لي طُمأنينةً.(/1)
وأنا إنسانةٌ علميَّة وناجحة في دراستي وعملي المهنيِّ، وعندما أكون على طاعةٍ وملتزمةً بالعبادات بصورةٍ جيِّدة - أرى في نومي أشياءَ طيبة، والعكس يحدث عندما أكون قَلِقَةً ومقصِّرةً في العبادات؛ أجدُ كوابيسَ، وأيضًا حالتي النفسية تبدو فيما أراه في منامي.
لكنَّ الأحداث المباشرة والتفاصيل التي أراها في منامي غالبًا ما تكون مِمَّا أُحدِّث به نَفْسِي، لكنَّ الرؤية والحُلم الذي يُفسَّر غالبًا ما يكون رمزيًّا وغيرَ مباشر.
وأنا - مثلاً - أحلُم كل يوم، وزوجي طبيب مثلي، لكنه لا يحلُم مطلقًا، أو بمعنى أصح: لا يتذكَّر أيَّ شيءٍ من أحلامه، ولم أسمعه مرةً واحدةً يحكي عمَّا رآه في منامه".
فاطمة عبدالحميد- مدرسة ثانوي- تقول:(/2)
"لَقَدْ تأخَّرتُ في سنِّ الزواج، وأنا أعلم أنَّ هذا شيءٌ قَدَرِيٌّ، لكنّي لظروفٍ مُعَيَّنَة ولكثرة مَنْ تقدَّموا لي - كُنْتُ أَستخيرُ رَبِّي دائمًا، وأرى في منامي أشياءَ كثيرة، ولذا حاولتُ أن أَتَفَقَّه في هذا الأمر، فاشْتَرَيْتُ العديد من الكُتُبِ، خاصَّةً كتبَ التراث، وقد لاحظتُ أنَّ تلك التفاسيرَ غير متطابقة في كثير من الأحيان مع تفسير العامَّة، وكنتُ أرى أنَّ من واجبي عندما أستَمِعُ إلى رُؤْيَةٍ أَوْ حُلْمِ أحدٍ من أقاربي وأصدقائي ويكون فَزِعًا من هذا المنام - خصوصًا عندما يفسِّر له العامَّة أو مَنْ لَيْسَ لَدَيْهِ مَعْرِفةٌ أو وعيٌ هذا الحُلمَ تفسيرًا غيرَ صحيح أو غير مقبول - أن أقوم أنا باستدراك هذا الأمر باستجماع معلوماتي التي قرأتها - خصوصًا أنني خرِّيجة الأزهر، ودرستُ العلوم الشرعية - وأجتهد في تفسير الحُلم، ومن هنا صار العديد من الأقارب والأصدقاء يتَّصلون بي لِفَكِّ رُموز ما صَعُبَ عليهم من أحلام، ومعظم زبائني طبعًا من النساء، وطبعًا ألتزمُ الهَدْيَ النبويَّ؛ فأبشِّر ولا أنفِّر، فإن كانت رؤيا صالحةً فهي من الله، أما الحُلم فهو تخويفٌ من الشيطان، وأنا لا أدَّعي في النهاية أنَّني خبيرةٌ، لكنها محاولاتٌ من واقع خبرتي الحياتية البسيطة".(/3)
أما راوية- إِخْصَائِيَّةٌ اجتماعية- فتقول: يتصوَّر البعض أن تفسير الأحلام أمر سهل يمكن تعلُّمه من خلال الكُتُب أو من مفسري الأحلام، وهذا أمر غير سليم؛ لأن تفسير الأحلام هِبة من الله، يخصّ بها من يشاء، من ناحيتي فقدِ اكتشفْتُ مَوْهبتي في تفسير الأحلام مصادفةً عندما كنت أفسر أحلام أهلي وجيراني وأُلاحظ أنا ومَنْ حولي أن تفسيراتي تتحقق، بعد ذلك تحدث الناس عني وانتشر أمري بينهم، وأصبح يَقْصِدُني في اليوم الواحد العشرات ويتصل بي العشرات أيضًا، ويُتَاحُ لي أن أعرف بعض المشكلات من خلال التفسير، وهُنا أتجنَّب أن أخبر صاحبة الرؤيا بتفسيرها، لكنَّنِي أَنْصَحُ المرأةَ بأن تنتَبِهَ إلى زوجها إذا علمت من خلال الحُلم أنه يخونها مثلاً.
هوس الأحلام
إيمان زغلول- الكاتبة الصُّحُفية - تقول:
"النساء أكثرُ اهتمامًا بالأحلام؛ لأن عواطفَهُنَّ تتغلَّب على تفكيرهنَّ العقلي، ومن ناحيةٍ أخرى فإن انتشار تلك الظاهرة بين الناس وخِدمة الإعلام لها مؤشّرٌ سلبيٌّ؛ لأننا - أولاً - لا نبْنِي أحكامَنا ولا مسيرةَ حياتِنا على الأحلام، حتَّى إنَّنا نطلق على من يتصوَّر أشياءَ أو يتوهمها، أو يأمل في أن تتحقَّق له أُمْنِيَّات مستحيلة - أن هذه تعتبر (أحلام يقظة).
فالأحلام هي نقيضُ الواقع، ونحن نريد أن نكون شعوبًا واقعية، وذلك أفضل من أن نجري وراء الأحلام.
ومَنْ يقومون بتدعيم مثل هذه الأشياء أَعتبرهم مثل الذين يفتحون (المَنْدَل) ويضربون الوَدَع، فمعظم ما يدور في خَلَد الإنسان وهو نائمٌ أضغاثُ أحلام، وأيضًا ما يحدِّث به نفسه أو يتمنَّاه.(/4)
أمَّا الرؤى والبشارات؛ فهذه قد تحدث لأناسٍ على درجة كبيرة من التعبُّد والطَّاعات، وهم أيضًا لا يبنون عليها أحكامًا، ولا يجب أن يتباهَوا بها؛ فهي قد تكون مِنحةً من الله، وتثبيتًا لأمرٍ يعلمه المولى - سبحانه وتعالي، أمَّا أن نُكوِّن من خلالها موقفًا، أو (نُبَرْمِج) عليها حياتنا-فهذا خطأٌ، ويجب على المرأة أن تهتمَّ أكثر بواقِعِها ومشاكِلِها بدلاً من الجَرْيِ وَرَاءَ الأوهام".
د. إيهاب سيد أحمد - إِخْصَائِيُّ الأمراض النفسية والعصبية-:
يرى أن طبيعة المرأة ومِزاجها النفسيَّ يختلف عنِ الرجل؛ فهي أكثر انفعالاً وأكثرُ عاطفيَّةً، وهذا لا يمنع أنَّ هناك نساءً لا يحلُمن، وقد تجد رجالاً أيضًا يهتمون بالأحلام.
فالأحلام - عمومًا - مسألة غير مَرَضِيَّة إطلاقًا، وهي تحدث عند درجة معينة من النوم، ومعظم الناس يحلُمون - حتى الأطفال - لكن درجة تذكُّر الحُلم هي التي تختلف من شخص لآخَر حسب مستوى وعمق النوم الذي يعيشه.
والعقل الباطن والأحْداث التي تمرُّ في الذاكرة والخيالات - كل هذه عوالم يرصدها الإنسان ويَعِي من خِلالِها وهُو نائم، والأحلام العادية التي لا تمثِّل خطورة على المِزاج النفسي والحالة العصبية للإنسان مقبولة، لكن أن تتحوَّل إلى هَوَسٍ وتوتُّر وفزعٍ بالليل؛ فهذه قد تكون مؤشِّرًا لاضطرابٍ نفسيٍّ معيَّن، يجب أن يتعامل معه الطبيب المختص".
المحاولات العلمية لضبط الأحلام
د. محمود أبو سالم - أستاذ الطب النفسي- يُعرِّف الحُلم بأنه: "نشاطٌ تفكيريٌّ يُحدث استجابةً لمنبِّه أو دافعٍ ما، وهو عِبارة عن سلسلة من الصُّور أو الأفكار أو الانفعالات التي تتمثَّل لعقل المرء أثناء النوم، وقد وصف بعضهم الأحلام بأنها مسرحيات تحدث في الذهن، وتصوِّر بعض الجوانب اللاشعورية من حياة النائم.
ومُثيرات الأحلام بعضها (سيكولوجي) وبعضها (فسيولوجي):(/5)
فأما المثيرات (السيكولوجية) فتتمثَّل في الرَّغبات الدَّفينة التي تحاول التعبير عن نفسها خلال النوم، مثل الرَّغبات العدوانِيَّة والجنسية المحرَّمة التي تُكبَت في اللاوعي.
وأما المثيرات (الفسيولوجية) فتنشأ عن أوضاع كثيرة، نذكر منها - على سبيل المثال -: تناول المرء قُبَيْل النوم عَشاءً ثقيلاً، يَعجِز جهازه الهضميُّ عن هضمه، وهو ما يؤدِّي إلى حصول أحلام أو كوابيسَ.
وقدْ عرَّف بعض الباحثين الأحلام بأنها سلسلة من الصور أوِ الأفكار أوْ الانفعالات التي تتمثَّل لِعَقْلِ المرء أثناء النوم، وقيل إنها "مسرحيات" عقلية، تصوِّر جانبًا من حياة النائم غير الواعية.
ومن الناس مَنْ يزعم أنه "لا يَرى في المنام أحلامًا"، ولكن زعمه هذا غير صحيح؛ فالواقع أنَّ الناس جميعًا يحلُمون، بَيْدَ أنَّ كثيرًا منهم يعجِزون عن تذكُّر هذه الأحلام عند اليقظة.
وقد عُنِي الناس منذ أقدم العصور بتأويل الأحلام، ولكنّ دراسة الأحلام دراسة علمية منهجية لم تبدأ إلاَّ في مطلع القرن العشرين، بعد أن أصدر (فرويد) كتابه "تأويل الأحلام" عام 1899م، وقد ذهب فيه إلى القَوْل بأنَّ الحُلم ينبع من اللاوعي أو ما دون الوعي، وأنه عبارة عن رغبة مكبوتة تُشبَع عن طريق الرؤيا، والصعوبة في تأويل الأحلام إنَّما ترجع إلى أن هذه الرغبة المكبوتة تَتَبَدَّى في صورة مقنَّعَة، ومن هنا وضع مجموعة من الرموز التي تعتبر "مفاتيح" يُستعان بها على فَهْم الحُلم.(/6)
ويعتبر (فرويد) أوَّل مَنْ وضع الأسس العلمية لتفسير الأحلام؛ حيث ذهب فيه إلى أنَّ الأحلام تنتج عن الصراع النفسي بين الرغبات اللاشعورية المكبوتة والمقاومة النفسية التي تسعى لكبت هذه الرغبات اللاشعورية، ومن ثمَّ فإنَّ الحُلم عبارة عن حلٍّ وَسَط أو محاولة للتوفيق بين هذه الرغبات المتصارعة، ويلعب الحُلم عند فرويد وظيفة "حراسة النوم"، وصدِّ أيِّ شيءٍ يؤدِّي إلى إقلاق النائم وإيقاظه، فإذا أحسَّ النائم بالعطش - مثلاً - فإنه يرى في منامه أنه يشرب الماء، وبهذا يستمرُّ نائمًا، ولا يُضطرّ للاستيقاظ لشرب الماء، ولقد وضع (فرويد) مجموعةً من الرموز يُستعان بها في فَهْم الحُلم وتفسيره.
أما (ألفريد أدلر) فقد رأى أن للحُلم وظيفةً تَوقُّعيَّةً؛ أي: إنَّ النائم يتنبَّأ من خلال الحُلم بما يمكن أن يواجهه في المستقبل.
أما (كارل يونغ) فكان يقول: "إن الحُلم ليس فقط استباقًا لما قد يحدث في المستقبل، ولكنه ناتجٌ عن نشاطات اللاوعي". وهو يرى أن الأحلام تقدِّم حلولاً لمشكلات الشخص، في محاولةٍ لإعادة التوازن إلى الشخصية.
الضَّوابط الشَّرعيَّة للأحلام
يرى د. محمد المتوكِّل - الأستاذ في جامعة الأزهر -: "أنَّ الرُّؤيا الصادقة هي من أجزاء النُّبوَّة؛ كما ثبت عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والرؤيا مبدأ الوحي، وصِدْقها بحسب صِدْق الرَّائي، وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثًا".
ويضيف د. المتوكل: إن الرؤيا عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ، كما قال النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - وذلك لبُعْد العهد بالنبوَّة وآثارها؛ فيكون للمؤمنين شيءٌ من العِوَض بالرؤيا التي فيها بشارة لهم، أو تصبير وتثبيت على الدِّين.(/7)
ثم إن الأحلام ثلاثة أنواع: منها رحمانيٌّ، ومنها نفسانيٌّ، ومنها شيطانيٌّ؛ وكما قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم – فإن الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزينٍ من الشيطان، ورؤيا ممَّا يحدِّث به الرجل نفسه في اليقظة؛ فيراه في المنام.
ورؤيا الأنبياء وحيٌ؛ فإنَّها معصومةٌ من الشيطان، وهذا باتّفاق الأمَّة، ولهذا أَقْدَم الخليل على تنفيذ أمر الله له في المنام بِذَبْحِ ابنِه إسماعيل - عليهما السَّلام - وأمَّا رؤيا غير الأنبياء فتُعرض على الوحْي الصريح، فإنْ وافَقَتْهُ وإلاَّ لم يُعمل بها، وهذه مسألةٌ خطيرةٌ جدًّا، ضلَّ بها كثيرٌ من المُبتدِعة، من الصوفيَّة وغيرهم.
ومَنْ أراد أن تَصْدُقَ رؤاه؛ فلْيَتَحَرَّ الصدقَ وأكلَ الحلال والمحافظةَ على الأمر الشَّرعي، واجتناب ما نَهَى الله ورسوله- صلَّى الله عليه وسلَّم- عنه، وينام على طهارةٍ كاملة، مستقبِلَ القِبْلَة، ويذكر الله حتى تغْلِبَهُ عيناه؛ فإنَّ رؤياه لا تكاد تكذب أَلْبَتَّةَ.
وأصدق الرُّؤَى رُؤَى وقتِ السَّحَر؛ فإنه وقت النزول الإلهي، واقتراب الرحمة والمغفرة، وسكون الشياطين، وضده: رؤيا العَتَمة، عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية.
وجميع المرائي تنقسم إلى قسمَيْن:
- الصادقة: وهي رؤيا الأنبياء ومَن تَبِعهم مِنَ الصالحين، وقد تقع لغيرهم - نادرًا - كالرؤيا الصحيحة التي رآها الملك الكافِرُ، وعبَّرها له النبيُّ يوسف - عليه السلام - والرؤيا الصَّادقة هي التي تقع في اليقظة على وَفْق ما وقعت في النوم.
- والأضغاث: وهي لا تُنذِرُ بشيءٍ، وهي أنواعٌ:
الأول: تلاعب من الشيطان ليَحْزُنَ الرَّائيَ؛ كأنْ يَرَى أنَّه قُطِعَ رأسه وهو يَتبعه، أو رأى أنه واقعٌ في هَوْل ولا يجد من ينجده، ونحو ذلك.
والثاني: أن يرى أن بعض الملائكة تأْمُره أن يفعل المحرَّمات – مثلاً - ونحوه من المُحال عقلاً.(/8)
والثالث: أن يرى ما تتحدَّث به نفسُهُ في اليقظة أو يتمناه هو، فيراه كما هو في المنام، كذلك رؤية ما جرت به عادته في اليقظة، أو ما يغلب على مِزاجه، ويقع عن المستقبل غالبًا، وعن الحال كثيرًا، وعن الماضي قليلاً.
ومن الهَدْي النبوي أنه: ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبُّها - فإنما هي من الله؛ فليحمَدِ اللهَ عليها، وليحدِّث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره - فإنما هي من الشيطان؛ فليَسْتَعِذْ من شرِّها، ولا يذكرها لأحدٍ؛ فإنها لا تضرُّه)).
ومن الهَدْي النبويِّ أيضًا: ((إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها؛ فليبصق عن يساره ثلاثًا، وليَسْتَعِذْ بالله من الشيطان ثلاثًا، وليتحوَّل عن جنبه الذي كان عليه)).
وحاصل ما ذُكر من أدب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء:
الأوَّل: أن يحمد الله عليها.
والثاني: أن يستبشِر بها.
والثالث: أن يتحدَّث بها، لكن لمَن يُحبُّ دون مَنْ يكره.
وحاصل ما ذُكر من أدب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء:
الأول: أن يستعيذ بالله من شرِّها.
والثاني: أن يستعيذ من شرِّ الشيطان.
والثالث: أن يَتْفُلَ حين يَهُبُّ من نومه عن يساره ثلاثًا.
والرابع: ألا يذكرها لأحدٍ أصلاً.(/9)
العنوان: تفسير القرآن بغير لغته
رقم المقالة: 1919
صاحب المقالة: د. محمد حسين الذهبي
-----------------------------------------
تفسير القرآن بغير لغته، أو الترجمة التَّفسيريَّة للقرآن، بَحْثٌ نرى من الواجب علينا أن نَعْرِضَ له، لما له من تعلُّقٍ وَثِيقٍ بموضوع هذا الكتاب، وقبل الخوض فيه يَحسُنُ بنا أن نُمَهِّد له بعُجالة موجزةٍ تكشف عن مَعْنَى الترجمة وأقْسامها، ثُمَّ نتكلَّم عمَّا يدخل منها تحت التفسير وما لا يدخل، فنقول: الترجمة تطلق في اللغة على معنين:
الأول: نَقْلُ الكلام من لغة إلى لغة أخرى بدون بيان لمعنى الأصل المترجَم، وذلك كوضع رديف مكان رديف من لغة واحدة.
الثاني: تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى.
قال في "تاج العروس": "والتَّرجُمان المفسِّر للِّسان، وقد تَرْجَمَهُ عنه إذا فَسَّرَ كلامه بلسانٍ آخَرَ، وقال الجَوْهَرِيُّ: وقيل: نَقْلُهُ مِن لُغَةٍ إلى لغة أُخرى"[1].
وعلى هذا: فالترجمة تنقسم إلى قسمين: ترجمة حَرْفِيَّة، وترجمة مَعْنَوِيَّة أو تفسيريَّة.
أما الترجمة الحرفية: فهي نَقْل الكلام من لغة إلى لغة أخرى، مع مراعاة الموافَقَة في النَّظْمِ والترتيب، والمحافظةِ على جميع معاني الأصل المترجَم.
وأما الترجمة التفسيرية: فهي شرح الكلام وبيان معناه بلُغة أخرى، بدون مراعاة لنظم الأصل وترتيبه، وبدون المُحَافظة على جميع معانية المُرادَة منه.
وليس من غرضنا في هذا البحث أن نَعْرِضَ لما يجوز من نَوْعَيِ الترجمة بالنسبة للقرآن، وما لا يجوز، ولا لمقالات العلماء المُتقدمينَ والمتأخرينَ؛ ولكن غَرَضنا الذي نريد أن نكشفَ عنه ونُوَضِّحَه هو: أيُّ نوعَيِ الترجمةِ داخل تحت التفسير؟ أهو الترجمة الحرفيَّةُ؟ أمِ الترجمةُ التفسيريَّة؟ أم هما معًا؟ فنقول:
الترجمة الحرفية للقرآن:(/1)
الترجمة الحرفية للقرآن: إما أن تكون ترجمةً بالمثل، وإما أن تكون ترجمة بغير المِثْل، أمَّا الترجمة الحرفية بالمثل: فمعناها أن يُتَرْجَم نَظْم القرآن بلغة أخرى تحاكيه حَذْوًا بحَذْوٍ، بحيث تَحِلُّ مفردات الترجمة محلَّ مفرداته، وأسلوبها محل أسلوبِهِ، حتَّى تتحمَّل الترجمة ما تحمَّلَهُ نَظْمُ الأصل من المعاني المقَيَّدَة بكَيفِيَّاتها البلاغيَّة وأحكامها التشريعيَّة، وهذا أمر غير ممكن بالنسبة لكتاب الله العزيز، وذلك لأنَّ القُرآنَ نزل لغرضينِ أساسيَّيْنِ:
أولهما: كونُه آيةً دالَّةً على صِدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يُبَلِّغُهُ عن رَبِّه، وذلك بكونه معجِزًا للبشر، لا يقدِرون على الإتيان بمثله، ولو اجتمع الإنس والجن على ذلك.
وثانيهما: هداية الناس لما فيه صلاحهم في دنياهم وأخراهم.
أما الغرض الأول: وهو كونه آيةً على صِدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يمكن تأديته بالترجمة اتّفاقًا؛ فإنَّ القرآن – وإن كان الإعجاز في جملته لعِدَّةِ معانٍ؛ كالإخبار بالغيب، واستيفاء تشريع لا يعتريه خَلَل، وغيرِ ذلك مما عُدَّ من وجوه إعجازه – إنما يدور الإعجاز الساري في كُلِّ آيةٍ منه على ما فيه من خواصَّ بلاغيةٍ جاءت لمقتضِيات معيَّنَةٍ، وهذه لا يمكن نقلها إلى اللُّغات الأخرى اتفاقًا؛ فإنَّ اللُّغاتِ الراقيةَ وإن كان لها بلاغةٌ؛ ولكن لكلِّ لغة خواصُّها لا يشاركها فيها غيرها منَ اللغات، وإذًا فلو تُرجم القُرآنُ ترجمةً حَرْفِيَّة – وهذا مُحالٌ – لَضَاعَتْ خواصُّ القُرآن البلاغية، ولنَزل من مرتبته المعجزة إلى مرتبة تدخل تحت طَوْقِ البشر، ولَفَاتَ هذا المقصِدُ العظيم الذي نزل القرآن من أجله على محمد صلى الله عليه وسلم.(/2)
وأمَّا الغرض الثَّاني: وهو كونُهُ هدايةً للنَّاس إلى ما فيه سعادتهم في الدارين، فذلك باستنباط الأحكام والإرشادات منه، وهذا يرجع بعضُهُ إلى المعاني الأصلية التي يشترك في تفاهُمِها وأدائها كُلّ النَّاس، وتَقْوَى عليها جميع اللغات، وهذا النوع من المعاني يمكن ترجمته واستفادة الأحكام منه، وبعض آخر من الأحكام والإرشادات يستفاد من المعاني الثانوية، ونجد هذا كثيرًا في استنباطات الأئمة المجتهدينَ، وهذه المعاني الثانوية لازمةٌ للقرآن الكريم، وبدونها لا يكون قرآنًا، والترجمة الحرفية إن أمكن فيها المُحافظة على المعاني الأولية، فغير ممكنٍ أن يحافظَ فيها على المعاني الثانوية، ضرورة أنها لازمة للقرآن دون غيره من سائر اللغات.
ومما تقدَّم يعلم: أنَّ الترجمة الحرفية للقرآن، لا يمكن أن تقوم مقام الأصل في تحصيل كل ما يقصد منه؛ لما يترتَّب عليها مِن ضياع الغرض الأوَّل برُمّته، وفوات شطر من الغرض الثاني.
وأمَّا الترجمة الحرفية بغير المثل: فمعناها أن يترجَم نظم القرآن حذوًا بحذوٍ، بقدر طاقة المترجِم وما تَسَعُهُ لغتُهُ، وهذا أمر ممكنٌ، وهو - وإن جاز في كلام البشر - لا يجوز بالنسبة لكتاب الله العزيز؛ لأن فيه من فاعله إهدارًا لنظم القرآن، وإخلالاً بمعناه، وانتهاكًا لحُرْمته، فضلاً عن كونه فِعلاً لا تدعو إليه ضرورة.
التَّرجمة الحرفيَّة ليست تفسيرًا للقرآن:
اتَّضح لنا مِمَّا سبق معنى الترجمة الحرفية بقسمَيْها، وأقمنا الدليل بما يناسب المقام على عدم إمكان الترجمة الحرفية بالمثل، وعدم جواز الترجمة الحرفية بغير المثل - وإن كانت ممكنة - ولكن بقي بعد ذلك هذا السؤال: هل الترجمة الحرفية بقسميها – على فرض إمكانها في الأول، وجوازها في الثاني - تسمى تفسيرًا للقرآن بغير لغته؟ أو لا تدخل تحت مادة التفسير؟
وللجواب عن هذا نقول:(/3)
إنَّ الترجمة الحرفية بالمثل، تقدم لنا أن معناها ترجمة نظم الأصل بلغة أخرى تُحاكِيه حذوًا بحذوٍ، بحيث تَحُلُّ مفردات الترجمة محل مفردات الأصل، وأسلوبها محلَّ أُسلوبه، حتى تَتَحَمَّل الترجمة ما تحمله نَظْمُ الأصل من المعاني البلاغية، والأحكام التشريعية، وتقدَّم لنا أيضًا أن هذه الترجمة بالنسبة للقرآن غير ممكنة، وعلى فرض إمكانها فهي ليست مِن قبيل تفسير القرآن بغير لغته؛ لأنَّها عبارةٌ عنْ هيكل القرآن بِذاته، إلا أنَّ الصورة اختلفت باختلاف اللغتينِ: المترجَم منها والمترجَم إليها.
وعلى هذا: فأبناء اللّغة المترجَم إليها يحتاجون إلى تفسيره، وبيان ما فيه من أسرار وأحكام؛ كما يحتاج العربِيّ الَّذي نزل بلغته إلى تفسيره، والكشف عن أسراره وأحكامه، ضرورة أنَّ هذه الترجمة لا شرح فيها ولا بيان، وإنما فيها إبدال لفظ بلفظٍ آخر يقوم مقامه، ونقل معنَى الأَصْل كما هُو من لغة إلى لغة أخرى.
وأما الترجمة الحرفية بغير المثل، فقد تقدم لنا أن معناها ترجمة نظم القرآن حذوًا بحذوٍ، بقدر طاقة المترجِم وما تسعه لغته، وتقدم لنا أن هذا غير جائز بالنسبة للقرآن، وعلى فرض جوازها فهي ليست من قبيل تفسير القرآن بغير لغته؛ لأنها عبارة عن هيكل للقرآن منقوص غير تام، وهذه الترجمة لَمْ يترتب عليها سوى إبدال لفظٍ بلفظٍ آخَرَ يقوم مقامه في تأدية بعض معناه، وليس في ذلك شيء من الكشف والبيان، لا شرح مدلول، ولا بيان مجمل، ولا تقييد مطلق، ولا استنباط أحكام، ولا توجيه معانٍ، ولا غير ذلك من الأمور التي اشتمل عليها التفسير المتعارَف.
الترجمة التفسيرية للقرآن:(/4)
الترجمة التفسيرية أو المعنوية، تقدم لنا أنها عبارة عن شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى، بدون محافظة على نظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معانية المُرادة منه، وذلك بأن نفهم المعنى الذي يراد من الأصل، ثم نأتي له بتركيب من اللغة المترجَم إليها، يؤديه على وَفْق الغرض الذي سيق له.
وعلم مما تقدّم مقدار الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة التفسيرية، ولإيضاح هذا الفرق نقول:
لو أراد إنسان أن يترجِم قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] ترجمة حرفية لأتى بكلام يدل على النَّهْي عن ربط اليد في العنق، وعن مَدِّها غايةَ المَدِّ، ومثل هذا التعبير في اللغة المترجَم إليها ربما كان لا يؤدي المعنى الذي قصده القرآن؛ بل قد يستنكر صاحب تلك اللغة هذا الوَضْع الَّذي ينهى عنه القرآن، ويقول في نفسه: إنه لا يوجد عاقل يفعل بنفسه هذا الفعل الذي نَهى عنه القرآن؛ لأنه مثير للضَّحِك على فاعله والسخرية منه، ولا يدور بخَلَدِ صاحب هذه اللغة، المعنى الذي أراده القرآن وقصده من وراء هذا التشبيه البليغ، أمَّا إذا أراد أن يترجِم هذه الجملة ترجمة تفسيرية فإنه يأتي بالنهي عن التبذير والتقتير مصوَّرَيْنِ بصورة شنيعةٍ، يَنْفِرُ منها الإنسان، حَسْبَمَا يناسِب أُسلوب تلك اللغة المترجَم إليها، ويناسب إِلْف مَن يتكلم بها، ومن هذا يتبيَّنُ أنَّ الغَرَضَ الَّذي أراده الله من هذه الآية، يكون مفهومًا بكل سهولة ووضوح في الترجمة التفسيرية، دون الترجمة الحرفية.
إذا عُلم هذا، أصبح مِن السهل علينا وعلى كل إنسان أن يقول بجواز ترجمة القرآن ترجمة تفسيرية بدون أن يتردَّدَ أدنى تردُّد، فإن ترجمة القرآن ترجمة تفسيرية ليست سِوى تفسيرٍ للقرآن الكريم بلغة غير لغته التي نزل بها.(/5)
وحيثُ اتَّفقت كلمةُ المسلمينَ، وانعقد إجماعهم على جواز تفسير القرآن لمن كان من أهل التفسير بما يدخل تحت طاقته البشرية، بدون إحاطةٍ بجميع مراد الله، فإنَّا لا نشك في أنَّ الترجمة التفسيرية للقرآن داخلة تحت هذا الإجماع أيضًا؛ لأنَّ عِبارة الترجمة التفسيرية محاذيةٌ لِعبارة التَّفسير، لا لِعبارة الأصل القرآني، فإذا كان التَّفسير مُشْتَمِلاً على بيان معنى الأصل وشرحه، بِحَلِّ ألفاظه فيما يحتاج تفهمه إلى الحَلِّ، وبيان مراده كذلك، وتفصيل معناه فيما يحتاج للتفصيل، وتوجيه مسائله فيما يحتاج للتوجيه، وتقرير دلائله فيما يحتاج للتقرير، ونحو ذلك من كلّ ما لَهُ تعلّق بِتَفَهُّم القرآن وتدبّره، كانتِ الترجمة التفسيريَّة أيْضًا مُشتَمِلة على هذا كله؛ لأنها ترجمةٌ للتفسير لا للقرآن.
وقُصارَى القَوْلِ: إنَّ في كُلٍّ من التفسير وترجمته بيان ناحية أو أكثر من نواحي القرآن، التي لا يحيط بها إلا من أنزله بلسان عربي مبين، وليس في واحد منهما إبدال لفظ مكان لفظ القرآن، ولا إحلال نظم محل نظم القرآن؛ بل نظمُ القرآن باقٍ معهما، دالٌّ على معانيه من جميع نواحيه.
الفرق بين التفسير والترجمة التفسيرية:
لو تأمَّلنا أدنى تأمّل، لوجدنا أنه يُمْكِن أن يُفرَّقَ بين التفسير والترجمة التفسيرية من جهتينِ:
الجهة الأولى: اختلاف اللغتينِ: فلغة التفسير تكون بلغة الأصل، كما هو المتعارَف المشهور، بخلاف الترجمة التفسيرية فإنها تكون بلغة أخرى.(/6)
الجهة الثانية: يمكن لقارئ التفسير ومُتفهمه أن يلاحظَ معه نظم الأصل ودلالته، فإن وجده خطأً نبه عليه وأصلحه، ولو فرض أنه لم يتنبه لما في التفسير من خطأٍ تَنَبَّهَ له قارِئٌ آخَرُ، أما قارئ الترجمة فإنه لا يتسنى له ذلك، لجهله بنظم القرآن ودَلالته؛ بل كل ما يفهمه ويعتقده أن هذه الترجمة التي يقرؤها ويتفهَّم معناها تفسير صحيح للقرآن، وأمَّا رجوعه إلى الأصل ومقارنته بالترجمة، فليس مما يدخل تحت طوقه ما دام لم يعرف لغة القرآن.
شروط الترجمة التفسيرية:
تفسير القرآن الكريم من العلوم التي فُرِضَ على الأمَّة تَعَلُّمُها، والترجمة التفسيرية تفسير للقرآن بغير لغته، فكانت أيضًا من الأمور التي فُرِضَتْ على الأمَّة؛ بل هي آكَدُ؛ لمَا يترتب عليها منَ المصالح المهمة؛ كتبليغ معاني القرآن؛ وإيصال هدايته إلى المسلمين وغير المسلمين، مِمَّن لا يتكلَّمون بالعربيَّة، ولا يفهمون لغة العرب، وأيْضًا حماية العقيدة الإسلامية من كَيْدِ الملحدين، والدفاع عن القرآن بالكشف عن أضاليل المبشرين الذين عَمَدُوا إلى ترجمة القرآن ترجمة حَشَوْهَا بِعقائدَ زائفةٍ، وتعاليمَ فاسدةٍ، ليُظهِروا القرآن لمن لم يعرف لغته في صورة تُنَفِّرُ منه وتَصُدُّ عنه، وكثيرًا ما علت الأصوات بالشكوى من هذه التراجم الفاسدة؛ لهذا نرى أن نذكر الشروط التي يجب أن تتوافر وتراعى، لتكون الترجمة التفسيرية ترجمة صحيحة مقبولة، وإليك هذه الشروط:(/7)
أولاً: أن تكون الترجمة على شريطة التفسير، لا يعول عليها إلاَّ إذا كانت مستمَدَّةً منَ الأحاديث النبوية، وعلوم اللغة العربية، والأصول المقرَّرَة في الشريعة الإسلامية؛ فلا بد للمترجِم منَ اعتماده في استحضار معنى الأصل على تفسير عربيٍّ مستمَدٍّ من ذلك، أما إذا استقل برأيه في استحضار معنى القرآن، أو اعتمد على تفسير ليس مستمدًّا من تلك الأصول، فلا تجوز ترجمته ولا يعتد بها، كما لا يعتد بالتفسير إذا لم يكن مستمدًّا من تلك المناهل، معتمدًا على هذه الأصول.
ثانيًا: أن يكون المترجِم بعيدًا عن الميل إلى عقيدة زائفة تخالف ما جاء به القرآن، وهذا شرط في المفسر أيضًا، فإنه لو مال واحد منهما إلى عقيدة فاسدة لتسلطت على تفكيره، فإذا بالمفَسِّر وقد فَسَّرَ طِبْقًا لهواه، وإذا بالمترجِم وقد تَرْجَمَ وَفْقًا لمُيُولِهِ، وكلاهما يَبْعُدُ بذلك عن القرآن وهُداه.
ثالثًا: أن يكون المترجِم عالمًا باللغتينِ، المترجَم منها والمترجَم إليها، خبيرًا بأسرارهما، يعلم جهة الوضع والأسلوب والدَّلالة لكل منهما.
رابعًا: أن يُكتَبَ القرآن أوَّلاً، ثم يؤتى بعده بتفسيره، ثم يُتبَع هذا بترجمته التفسيريَّة حتى لا يَتوهم متوهِّمٌ أن هذه الترجمة ترجمة حرفيَّة للقرآن.
هذه هي الشروط التي يجب مراعاتُها لمن يريد أن يُفَسِّرَ القرآن بغير لغته، تَفْسِيرًا يَسْلَمُ من كل نَقْدٍ يُوَجَّهُ، وعَيْبٍ يُلْتَمَسُ[2].
---
[1] الجزء الثامن ص 211.
[2] المراجع: "المدخل المنير" ص 41 – إلى النهاية، ومجلة نور الإسلام "الأزهر" السنة الثالثة ص 57 – 65، و"منهج الفرقان": 2 / 71 – 90.(/8)
العنوان: تفسير سورة الزلزلة
رقم المقالة: 1369
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله - عزّ وجل - ففي التقوى سعادة الدنيا وفوز الآخرة: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77].
أيها المسلمون: كتاب الله - تعالى - فيه الدواء لمن أراد الشفاء، والعلوم لمن رام المعرفة. من حفظ حروفَهُ، والتزم حدوده، وتدبّر معانيه، وعمل بما فيه كان في الدنيا من علمائها، وفي الآخرة من سعدائها: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 2 - 3]، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].
أيها الإخوة: وهذا حديثٌ عن سورة من سوره العظيمة، قليلة في حروفها، عظيمةٍ في معانيها؛ فيها العبرة والعظة، والترغيب والترهيب، والتذكير بيوم الوعيد.(/1)
{أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة: 1-8].
إنَّها تَتَحَدَّثُ عن يوم القيامة وما يَجْرِي فيه من أهوال وعظائم، تبدأ هذه الأهوال بزلزلة الأرض؛ أي: اهتزازها واضطرابِها. والزلازل: هي أشدُّ ما يشهد العالم من حركة، وقد شوهِدَتْ زلازلُ حدثت في أقلَّ من ربع ثانية فأطاحت جسورًا، وحطمت قصورًا، وأهلكت بشرًا كثيرًا، ودمرت مدنًا كاملة[1]·
ومع هذا فإنَّ زِلزالَ الدنيا ليس شيئًا يذكر عند زلزال الآخرة الذي وصف بالعظمة دلالة على قوته وشدة دماره: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 1]. عبّر عن ذلك بالشيء العظيم إيذانًا بأن العقول قاصرة عن إدراك كُنْهِهَا، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام[2]·
إنها زلزلة مهما أُطنب في وصفها، وذكر أجزائها فإن العقل لا يستطيع بلوغ العظمة التي وصفت بها، وإلا فما ظَنُّكُمْ بزلزلة تُسَيَّر على إثرها الجبال، وتُسَجَّر البحار، وتنفطر السماء، وتنتثر الكواكب: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقَّة: 14]، {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} {الواقعة: 4 - 6}.(/2)
هذه الجبال الرَّواسي الصِّلاب هل يَستَوْعِبُ العَقْلُ القاصِرُ أَنَّها ستصبح من شدة هذه الزلزلة صوفًا يتطاير حتى يتلاشَى: {وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالعِهْنِ المَنْفُوشِ} [القارعة: 5]، {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبحمْدِكَ ما أعظم قدرتَكَ! وما أشدَّ قُوَّتَكَ! وما أَضْعَفَ خلقك!
ومن جراء هذه الزلزلة العنيفة تقذف الأرض مكنوناتها، وتخرج ما في بطنها، من مُخَبَّأٍ وَمَدْفُونٍ، من إنس وجِنٍّ وَكُنُوزٍ: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلزلة: 2] فمن أثقالها: كنوزها والأمواتُ في داخلها[3]، قال أهل اللغة: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقلٌ لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها، وسمي الجن والإنس بالثقلين؛ لأن الأرض تثقل بهم إذا كانوا في بطنها، ويثقلون عليها إذا كانوا فوقها[4]، وهذه الآية مثل قوله - تعالى -: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:3- 4] وجاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئًا))؛ أخرجه مسلم[5]·(/3)
ولأجل هذه الزلزلة وما حدث من جرائها من تحريك شديد، وإزعاج عنيف؛ بحيث زالت الأشياء من مقارِّها، وخرجت عن مراكزها[6]، وألقت الأرض ما في داخلها، كان ذلك محلاً للسؤال والاستفهام عن هذا الحدث العظيم: {وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزَّلزلة: 3]؛ أي: أيُّ شيء عرض لها، يستنكر ما حدث لها، فأمَّا الكفار فيقولون: {وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 25] فيجيبهم المؤمنون {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ} [يس:52][7].
وحيث إن نظام العالم قد تغير بتلك الزلزلة فإن الخلق يُقبلون على مرحلة جديدة تنطق فيها الجمادات، وتشهد الأركان. إنها مرحلة الحساب، والسؤال والجواب، والنعيم والعذاب. ومن جملة الشهداء: الأرض؛ إذ تنطق وتشهد[8]، {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزَّلزلة: 4 – 5] يأمرها ربنا أن تخبر عمّا عُمِل عليها فلا تَعْصِي أمره؛ بل تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير وشر. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "قال لها ربها: قولي، فقالت"؛ وخرَّج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: ((أتدرون ما أخبارها))؟ قالوا: "الله ورسوله أعلم"، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذه أخبارها))؛ قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح[9]·(/4)
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزَّلزلة: 6]؛ أي: ينصرفون فرقًا متفاوتين بحسب طبقاتهم، منهم: بيضُ الوجوه آمنين، ومنهم: سود الوجوه فزعين، كل جنس مع جنسه، يصدرون من كل ناحية[10]. ليس معهم ما كان يميزهم على الناس في الدنيا كما قال الله - تعالى -: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 49]، وقال – سبحانه -: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي العَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الرُّوم: 14- 16].(/5)
يصدرون ليرى كل واحد منهم ما عمل في هذه الدنيا من خير وشر: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النَّبأ: 40]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة: 7- 8]. إنه عدل ربنا - تبارَكَ وَتَعالى - حيث يجد العبد جزاء الذرة: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]. {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
إنه كرمٌ واسعٌ، وعَدْلٌ تامٌّ، من ذي الجلال والإكرام. أتدرون - رحمكم الله - ما الذَّرَّةُ التي لا يضيع جزاؤها؟ أدخل ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها، وقال:"كل واحد من هؤلاء مثقال ذرة"[11] ·
وجاء العلم الحديث؛ ليسمى هذا العصر بعصر الذرة؛ لأن الإنسان اكتشفها، واستطاع أن يفتتها إلى جزيئات لتصبح الذرة الواحدة ذرات، وفرح الإنسان بما أوتي من علم، وما وصل إليه من تقدم واكتشاف، وزعم من زعم من طغاة بني آدم أن القرآن وقف عند الذرة، وأنَّ الإنسانَ تجاوز ذلك فاستطاع أن يفتت هذه الذرة؛ وما علم من قال ذلك أنه يَسْتدل بعلمه على جهله، وبقوله على قلة عقله؛ حيث إن القرآن ذكر ما هو أقل من الذَّرَّةِ: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].(/6)
ولو لم يُذْكَرْ ذلك في القرآن لكان عند المؤمن الحق من الإيمان واليقين بقدرة الله - تعالى - وعظمته ما يرد شبهات أهل الزيغ والضلال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلاق:12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم··
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشْهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وَمَنْ سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أمَّا بَعْدُ: فإنَّ لهذه السورة العظيمة فضلاً اخْتَصَّتْ به، فهي السورة الجامعة التي جمعت أسباب الخير فحثَّتْ عليه، والشر فحذرت منه، فمن أخذ بها فقد أخذ بالإسلام كله؛ دلَّ على ذلك أن رجلا أتى النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم - فقال: ""أقرئني يا رسول الله"، قال: ((اقرأ ثلاثًا من ذوات {آلر})) فقال: "كبرت سني، واشتد قلبي، وغلظ لساني" قال: ((فاقرأ ذوات {حم})) فقال مِثْلَ مقالته الأولى، فقال: ((اقرأ ثلاثًا من المسبحات)) فقال مثل مقالته، فقال الرجل:" ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فأقرأه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزَّلزلة: 1] حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدًا، ثم أدْبَرَ الرَّجُلُ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلح الرُّوَيْجِل، أفلح الرويجل..))؛ أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم[12]·(/7)
إنَّ هذه السورة وُصفت بأنها الجامعة؛ لأنها حَوَتْ آيتين جمعتا عمل الثقلين من خير وشر؛ ولذلك لما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقسام الخيل، وأنها لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر وبيّن كيف ذلك، سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الحُمر فقال: ((لم ينزل عليّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذّة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [ القدر: 7-8]))؛ متفق عليه[13]، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "هذه أحكم آية في القرآن"[14]، ونقلوا عن كعب الأحبار أنه قال: "لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [15]، ولما قَدِمَ عَمُّ الفَرَزْدَق صعصعة بن معاوية المدينة سمع: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قال: "حسبي لا أبالي أن لا أسمع غير هذا"؛ أخرجه أحمد[16]·
إنَّ هذه السورة الشاملة الجامعة ترشد المسلم إلى الخير، وتحذره من الشر مهما كان قليلاً، فالقليل مع القليل يصبح كثيرًا، حتى الذرة لها وزنها عند رب العالمين، فأيُّ دين علّم أتباعه هذه المعاني العظيمة، وربّاهم على هذه الدقة المتناهية؟! وجاءت أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤكدة لهذا المعنى الدقيق، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تحقِرَنَّ مِنَ المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أخاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ))؛ أخرجه أحمد[17]، وفي الصحيحين قال النَّبِيُّ - عليه الصلاة والسلام -: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ولو بكلمة طيبة))[18]·(/8)
وفي المقابل يجب على المسلم ألا يَحْتَقِرَ قليل الشر؛ كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((إياكم ومحقَّرات الذنوب؛ فإنَّما مُحَقَّرات الذنوب؛ كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن مُحقَّرات الذنوب متى يؤخذْ بها صاحبُها تهلكه))؛ أخرجه الإمام أحمد[19]·
لقد فهم الصحابة - رضي الله عنهم - هذا المعنى الجليل الدقيق، فها هي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - يستطعمها مسكين وبين يديها عنب فقالت لإنسان: "خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب، فقالت عائشة: أتعجب؟ كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة"[20]·
قال ابن عبدالبر: "قد جاء مثل ذلك عن عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، ومن اعتاد الصدقة تصدَّق مرَّة بالكثير، ومرَّة باليسير"[21]·
وعن سعد بن مالك - رضي الله عنه - أن سائلا أتاه وبين يديه طبق عليه تمر فأعطاه تمرة فقبض السائل يده، فقال سعدٌ: "ويحك تقبَّل الله منا مثقال الذرة والخردلة، وكم في هذه من مثاقيل الذر"[22]·
وبهذا يُعْلَمُ ـ أيها الأخوة ـ أن قليل الخير لا يحتقر؛ كما أن قليل الشر لا يحتقر؛ فقليل مع قليل يصبح كثيرًا
اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين.
---
[1] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/429).
[2] تفسير أبي السعود (6/91)، ومحاسن التأويل للقَاسِمِي (5/186).(/9)
[3] اختلف المفسرون في معنى ذلك على ثلاثة أقوال: أ - قيل: تخرج الأموات من بطنها؛ أي من قبورهم. ب - وقيل: تخرج كنوزها ويشهد له حديث أبي هريرة عند مسلم. ج - وقيل: تخرج أسرارها بالشهادة على العباد في موقف الحساب، والآية تحتمل هذه المعاني كلها إلا أن المعنى الثالث يدل عليه صراحة قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فلا داعي لإقحامه في تلك الآية، وانظر: "النكت والعيون" للماوردي (6/319)، "وزاد المسير" لابن الجوزي (9/202)، "وتفسير الرازي" (32/55 ـ 56).
[4] نقل هذا عن أبي عبيدة والأخفش؛ كما في تفسير الرازي (32/55)
[5] أخرجه مُسْلِم في الزكاة؛ باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها واللفظ له (1013)، والترمذي في الفتن باب (36) (2209).
[6] تفسير أبي السعود (6/91)، ومحاسن التأويل (5/185).
[7] أضواء البيان (9/431).
[8] تفسير السعدي (5/445).
[9] أخرجه أحمد (2/374)، والترمذي في تفسير الزلزلة وقال: حديث حسن غريب صحيح (3353)، والنسائي في السنن الكبرى (11693)، والبغوي في شرح السنة (4308)، وفي معالم التنزيل (4/515)، والحاكم وصححه، فتعقبه الذهبي بقوله: يحيى هذا منكر الحديث قاله البخاري (2/532)، وصححه ابن حبان (7360)، ويحيى هو أبو سليمان صالح المدني ضعفه الأئمة، وهو علة هذا الحديث؛ ولكن معناه صحيح دلت عليه الآية، ومجمع عليه عند المفسرين؛ ولذلك أوردته.
[10] انظر: "زاد المسير" (9/204)، "وتفسير ابن كثير" (4/856).
[11] أخرجه هنَّاد في "الزهد" (193). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/649).
[12] أخرجه أحمد (2/169)، وأبو داود في الصلاة؛ باب تحزيب القرآن (1399)، والنسائي في الكبرى (8027)، وهو في عمل اليوم والليلة برقم (716)، والحاكم وصححه على شرط الشيخين، وتعقبه الذهبي بأنه صحيح فقط، وليس على شرطهما (2/532)، وصححه ابن حبان (774)، والشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (6575).(/10)
[13] أخرجه البخاري في الجهاد، باب: الخيل لثلاثة (2860)، ومسلم في الزكاة؛ باب إثم مانع الزكاة (987)، والنسائي في الخيل (6/216)، وأحمد (2/262).
[14] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/104).
[15] الجامع لأحكام القرآن (20/104).
[16] أخرجه أحمد (5/59)، والنسائي في الكبرى (11694)، والحاكم في معرفة الصحابة (3/613).
[17] أخرجه أحمد (5/63)، قال الألباني بعد أن ذكره بسنده: وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الشيخين غير عقيل بن طلحة وهو ثقة، انظر: "السلسلة الصحيحة" (1352).
[18] أخرجه البخاري في الزكاة؛ باب اتقوا النار ولو بشق تمرة (1417)، ومسلم في الزكاة؛ باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة (1016).
[19] أخرجه أحمد من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - (5/331)، والبيهقي في شعب الإيمان (7267)، والطبراني في الأوسط واللفظ له (7323). قال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال صحيح، ورواه الطبراني في الثلاثة من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير عبدالوهاب بن عبدالحكم وهو ثقة" انظر: "مجمع الزوائد" (10/190)، وصححه الألباني وقال: على شرط الشيخين، انظر: "السلسلة الصحيحة" (389). وله شاهد من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - رواه أحمد (1/402) ، والطبراني في الأوسط (2529)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (3818).
[20] الاستذكار (27/407)، والدر المنثور وفيه آثار كثيرة جدًّا (6/649).
[21] الاستذكار (27/407 ـ 408).
[22] الدر المنثور (6/649).(/11)
العنوان: تفسير سورة القدر
رقم المقالة: 1370
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، أنزل القرآن: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ} [البقرة: 185] أحمده فهو أَهْلُ الحمد، وأشكره فقد أعطى كثيرًا، وأَنْعَمَ جزيلاً، وأتوب إليه وأستغفره فهو: {أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ} [المدَّثر: 56]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ} [غافر: 3]، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، أقوى النَّاسِ إيمانًا، وأصدقُهم يقينًا، وأكثرُهم تبتلاً، وأصلحهم قلبًا، صلى الله وسلَّم وبارَك عليْهِ وعلى آله وأصحابه عَرَفَتْهُمُ المحاريبُ راكعينَ ساجدينَ، قائمين مخبتين، كم من سارية في المسجد ابتدروها تالين لكتاب ربِّهِمْ، مُتَدَبِّرِينَ خاشعينَ، والتابعين وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أمَّا بَعْدُ: فيا أيُّها النَّاس اتَّقوا الله ربكم؛ فشهركم يوشك على الانقضاء، وقد تأذن بالرحيل، وإذا رحل فيوشك أن لا ترى في النهار صائمًا، ولا تسمع في الليل قارئًا، ومن لم يتق ويتب في هذا الزمن الفاضل فيا ترى متى سيتوب ويتَّقِي؟!
أيها الإخوة المؤمنون: بما أنَّ شهرَكم شهرُ القرآن، فيه أنزل، وفيه يُتْلَى، ولقد كان جبريل - عليه السلام - يدارس النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فإن هذه وقفةٌ مع سورةٍ عظيمة من سُوَرِه، موجزةٍ في حروفِها، محكمةٍ في مبناها، غزيرةٍ في مَعْنَاهَا، حَوَتْ عِلمًا كثيرًا، وحازتْ فَضْلاً عَظِيمًا، ذَكَرَ الوَاقِدِيُّ أنَّها أوَّلُ سُورةٍ نَزَلَتْ في المدينة[1]، كان نزولها في أول رمضان يفرض على المسلمين، يتزامن نزولها مع أول نصر على الكافرين في بدر الكبرى·(/1)
تثبت هذه السورة إنزال القرآن، وترفع شأن الوقت الذي أنزل فيه، وتخبر عن نزول الملائكة في ليلة إنزاله، وتقضي بتفضيل الليلة التي توافق ليلة إنزاله من كل عام[2].
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} [القدر: 1] أنزل فيها جُملةً منَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ إلى السَّماءِ الدُّنْيَا، وأوَّلُ آياتٍ نزلتْ على مُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلم - كانت فيها[3]· قال الشعبي: "ابتدأ بإنزاله ليلة القدر؛ لأنَّ البعث كان في رمضان"[4]·
وكون أوَّلِ نزولٍ للقرآن في الليل دُونَ النَّهارِ مُشعِرٌ بِفَضْلِ اختصاصِ اللَّيْلِ، وقد جاء لهذا الفَضْلِ مايدل عليه" {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1]، {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [الإسراء: 79]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40]، {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6]، ولما امتدح الله - تعالى - الصالحين أخبر أنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17][5]· ودلت السنة على أن ربنا - تعالى - ينزل ثلث الليل الآخر فيستجيب دعاء الداعين، ويغفر للمستغفرين، ويعطي السائلين.
وهذا يدل على أنَّ الليل أخصُّ بالنفحات الإلهية، وبتجليات الرب - سبحانه - لعباده؛ وذلك لخلوِّ القلب، وانقطاع الشواغل، وسكونُ الليل ورهبتُه أقوى على استحضار القلب وصفائه[6].
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ} [القدر: 2] كلمة تُقَال في تفخيم الشيء وتعظيمه، والمعنى: أيُّ شيء يعرفك ما هي ليلةُ القدر؛ أي: يعسر على شيء أن يعرفك مقدارها، وأعيد اسم: "ليلة القدر" مرة أخرى تصريحًا بتعظيمها كما حصل كناية؛ حيث اختار الله إنزال القرآن فيها ليتطابق الشرفان: شرفُ إنزال القرآن؛ وشرفُ الزمان[7].(/2)
{لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] روى مالكٌ في المُوَطَّأِ بلاغًا عن بعض أهل العلم أنَّ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ فكأنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أن لا يبلغوا من العمل مِثْلَ ما بلغ غيرُهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر[8]، والمقصود أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وهذه الخيرية في عملها؛ أي: صيامها وقيامها؛ كما قاله مجاهد وغيره[9].
وألفُ شهر تزيد في الحساب على ثلاث وثمانين سنة؛ أي: فوق متوسط أعمار هذه الأمة، فإذا كان كذلك فكيف يفرط العباد فيها وفي التماسها والعبادة فيها؟! من أحياها سنة فكأنه +عبد الله نيِّفًا وثمانين سنة، ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعمارًا كثيرة[10]؛ حتى إنَّ عمره في العبادة يكون أكثر من عمره في الحياة بأضعاف مضاعفة. تأمَّلوا هذا الفَضْلَ العظيم من الله - تعالى - ثم انظروا إلى التفريط الكبير من بني آدم.
ومن أجلِّ فضلها وثوابها صحَّ عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم – ((أنَّ مَنْ قامَها إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))؛ متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- [11]·
فالمغبون من حُرِمَ خَيْرَها فَضَيَّعَهَا وقضاها فيما لا ينفع. يا تُرَى كم سَتَبْلُغُ خسارةُ مَنْ قضاها في مَعْصِيَةِ الله - سُبحانه - لاسيَّما إذا +عَلِم أنَّ بعض المفسرين ذكروا أن الذنب يضاعف فيها؛ كما يضاعف الثواب، وأن المعصية فيها؛ كالمعصية في ألف شهر[12].
{تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] ومن كثرة تنزل الملائكة فيها تضيق الأرض بهم حتى قيل: "سميت ليلة القدر من الضيق، لضيق الأرض بالملائكة" [13]·(/3)
ولما ذكر العلماء حديث أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه - في صحيح مسلم الذي يذكر أنَّ مِنْ علامات يومِها أن تطلع الشمس بيضاء لا شعاع لها قالوا: "لأن أنوار الملائكة عند صعودهم تتلاقى مع أشعة الشمس فتحدث فيها بياض الضوء" [14]، وذلك من كثرة الملائكة الذين حضروا مع المؤمنين في مساجدهم، ثم يصعدون صبيحتها إلى السماء، قال بعضهم: "تنزل الملائكة؛ ليروا عبادة البشر وجدَّهم واجتهادهم في الطاعة" [15]·
وقد جاء في حديثٍ عند أحمد والطيالسي بإسناد حسن أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم – ذكر" ((أن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثرُ من عدد الحَصَى))[16].
{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ} [القدر: 5] قال الشعبي: "هو تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجِدِ حتى يطلع الفجر"[17]، وهي كذلك سلام لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو أذًى[18]، وتكثر السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العباد من طاعة الله - عزَّ وجلَّ -[19]، والانطراح بين يديه، والانكسار له، والافتقار إليه، والتضرع والدعاء.
وقد سألت عائشة - رضي الله عنها - النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "يا رسول الله، إن وافَقْتُ ليلة القدر ما أقول؟: قال: قولي: ((اللهم إنَّكَ عَفُوّ كريم تُحِبُّ العَفْوَ فاعْفُ عَنِّي))؛ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح[20]، وهذا الدعاء على إيجازه جامع لخيري الدنيا والآخرة، فالعافية في الدنيا سعادةٌ، وفي الآخرة نجاة[21].(/4)
أيها الإخوة: هذا شرفُ هذه الليلة وفضلُها اختصت بنزول القرآن فيها، وتَنَزُّلِ الملائكة والروح فيها، وأنَّها خيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وأنها سلام حتى مطلع الفجر، وفيها تقدر الأرزاق، وتكتب الآجال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} {الدُخان: 3 – 6][22].
ولو لم يكن في فضلها إلا أنَّ من قامها إيمانًا واحتسابًا غفرت ذنوبه المتقدمة لكان ذلك كافيًا لحثِّ العباد على تحرِّيها والتماسها، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر التماسًا لها.
فاتقوا الله ربكم، واجتهدوا في التماسها كل عام، وذلك بعمارة رمضان والعشرِ خصوصًا بأنواع الطاعات، والإلحاح في الدعاء، والتضرع بين يدي الله - تعالى - فَمَنْ صَدَقَ مع اللَّهِ في الْتِماسِها وفَّقَهُ الله - تعالى - لإدْراكها وقيامها؛ وذلك المفلح إن كان مقبولاً، نسأل الله - تعالى - أن يُوَفِّقَنا لها، وأن يَرْزُقَنا إيمانًا واحتسابًا في قيامها، وأن يجعل القبول والرضوان حليفَنا إنه سميع مجيب.
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} {بسم الله الرحمن الرحيم} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ * لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ} {القدر: 1-5} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
في زكاة الفطر وبعض أحكام العيد(/5)
الحمد لله، حمدًا طيّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى أَثَرَهُمْ إلى يوم الدين.
أما بَعْدُ: فيا عباد الله: اعلموا أنَّ الله - تعالى - قد شرع لَكُمْ زكاةَ الفِطْرِ، وَهِيَ واجبةٌ، قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفِطْرِ صاعًا من تَمْرٍ، أوْ صاعًا من شعير، على العبدِ والحُرِّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة"؛ متفق عليه [23]·
يخرجها الإنسان عن نفسه وعمن تلزمه نفقته إذا كانوا لا يستطيعون إخراجها، وإن استطاعوا إخراجها، فالأَوْلى أن يخرجها كل واحد منهم عن نفسه.
والوقت الفاضل لإخراجها صباح العيد قبل الصلاة، ويجوز تقديمُ إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين [24]·
ويشرع ليلة العيد: التكبيرُ ورفعُ الصوت به؛ تعظيمًا لشعائر الله – تعالى - وشكرًا له على إدراك رمضان وصيامه وقيامه: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
ومِنَ السُّنَّةِ: أن يخرج النِّساء لصلاة العيد؛ لقول أم عطية - رضي الله عنها -: "أمرنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيَّض وذواتِ الخدور. فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: ((لتلبسها أختها من جلبابها))؛ أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم[25].(/6)
ومن السنة: أن يأكل قبل الخروج إلى صلاةِ العيد تمرات وترًا. وتجب طاعة الله - عز وجل - في العيد، والمحافظة على الفرائض، ومُجَانَبَة النَّوَاهي. والفرح في العيد لابُدَّ أن يكون في حدود المشروع. أما أن تعلو المعازف، ويرتفع الغناء، وتتكشف النساء فذلك ليس من شكر نعمة إدراك رمضان، ولا هو من علامة القبول والإحسان، وعسى أن لا يكون دليلاً على الرد والحرمان.
فيجب على الأولياء المحافظةُ على أولادهم من الوقوع في المعاصي في العيد، كما يجب على كل مسلم أن ينظر في لباس أهله وبناتِه المُعَدِّ لِلْعِيدِ، فإنْ كان لِباسًا مشروعًا ساترًا وإلا وجب منعُهن من لبْسِه؛ حفظًا لَهُنَّ؛ وحِفاظًا على عباد الله مِنَ الفِتْنَةِ بِهِنَّ.
ثم اعلموا - رحمكم الله - أنَّ ربَّ رمضان هو رب الشهور كلها - تعالى وتقدس - وأن الله - تعالى - يُعبد في كل مكان وفي كل زمان، فاستمروا على العمل الصالح والكفِ عن السيئات، وأتبعوا رمضان ستًا من شوال حتى يكون لكم كصيام الدهر كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[26]، ثم صلوا وسلموا على محمد بن عبدالله كما أمركم بذلك ربكم...
---
[1] انظر: التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (30/455).
[2] المصدر السابق (30/455).
[3] انظر تفصيل ذلك في: "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (7/381).
[4] التفسير الكبير للرازي (32/28).
[5] أضواء البيان (7/393).
[6] المصدر السابق (7/393).
[7] التحرير والتنوير (30/458).
[8] أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا عمن يثق به من أهل العلم في الاعتكاف؛ باب ما جاء في ليلة القدر (1/321) قال ابن عبدالبر: "لا أعلم هذا الحديث يروى مسندًا ولا مرسلاً من وجه من الوجوه إلا ما في الموطأ، وهو أحد الأربعة أحاديث التي لا توجد في غير الموطأ ثم ذكرها، وقال: وليس منها حديث منكر ولا ما يدفعه أصل. انظر: "الاستذكار" (10/342).(/7)
[9] وهو قول قتادة والشافعي، واختاره ابن جرير، وصوبه ابن كثير - رحمه الله تعالى -، انظر: تفسيره (4/842).
[10] انظر: التفسير الكبير (32/31).
[11] أخرجه البخاري في كتاب فضل ليلة القدر؛ باب فضل ليلة القدر (2014)، ومسلم في صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (760).
[12] أضواء البيان(7/386).
[13] التفسير الكبير (32/28).
[14] الحديث أخرجه عبدالرزاق (7700)، والحميدي (375)، وابن أبي شيبة (3/76)، ومسلم في صلاة المسافرين؛ باب الترغيب في قيام رمضان (180)، وأبو داود في الصلاة؛ باب في ليلة القدر (1378)، والترمذي في الصوم؛ باب ماجاء في ليلة القدر (793)، والبيهقي في الكبرى (4/312)، وانظر: "أضواء البيان" (7/390).
[15] التفسير الكبير (32/32).
[16] أخرجه الطيالسي في مسنده (2545)، وأحمد (2/519)، وابن خزيمة (2194) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، قال الهيثمي: "رواه أحمد، والبزار، والطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات (3/175)، وسكت عنه الحافظ في "الفتح" (4/209)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2205).
[17] تفسير ابن كثير (4/843).
[18] المصدر السابق (4/843).
[19] مجالس شهر رمضان للشيخ ابن عثيمين (105)، والمختار للحديث في شهر رمضان لمجموعة من طلبة العلم (255).
[20] أخرجه الترمذي في الدعوات؛ باب (85)، وقال: حسن صحيح (3513)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (257)، وابن ماجه في الدعاء باب الدعاء بالعفو والعافية (3850)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4423).
[21] أضواء البيان (7/390).
[22] المصدر السابق (7/386).
[23] أخرجه البخاري في الزكاة؛ باب فرض صدقة الفطر (1503)، ومسلم في الزكاة؛ باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984).(/8)
[24] نص عليه في "الروض المربع"، وقال ابن قاسم في "حاشيته على الروض" (3/280): "باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وأجاز أبو حنيفة والشافعي أكثر من يومين؛ حتى من أول الشهر، والنص يدل لمالك وأحمد. وقيل: يجوز بثلاث ونحوها إلى من تجمع عنده؛ ليفرقها يوم العيد قبل الصلاة. وفي الموطأ أن ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة".
[25] أخرجه البخاري في العيدين؛ باب خروج النساء، والحيض إلى المصلى (974)، ومسلم في صلاة العيدين باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى، وشهود الخطبة مفارقات للرجال واللفظ له (890).
[26] في حديث أبي أيوب الأنصاري عند مسلم في الصيام؛ باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان (1164)، وأبي داود في الصوم باب في صوم ستة أيام من شوال (2433)، والترمذي في الصوم باب ماجاء في صيام ستة أيام من شوال (759).(/9)
العنوان: تقاليد بالية.. تمنع زواج الصغرى قبل الكبرى..!!
رقم المقالة: 1062
صاحب المقالة: تحقيق: هيفاء الوتيد
-----------------------------------------
** تقدم لِخِطبتها شابٌّ ذو خلق ودين ونسب.. فأصبح الأهلُ بين نارَين.. هو شاب لا يُرد.. ولكنها البنت الصغرى..!! فلم تتزوجْ أختُها الكبرى بعدُ.. عرضوا عليه الكبرى.. لكنه رفض.. فالقلبُ يريد الصغرى.. رفض الأهل، فأغلق بابهم وخرج..!
رفضوه من أجل عاداتٍ وتقاليدَ لا تنكسرُ أبدا مهما كانت الفرص..! يتكرر الرد عن الأخت الصغرى.. فيُوسم أهلُ هذا البيت بأنهم لا يزوجون بناتهم.. وتبقى الكبرى وأخواتها في قائمة اللاتي ينتظرن القطار.. لكنه فات..!! ترى ما ذنبُهن؟ وما ذنب الكبرى إن كانت هي أيضا لا تمانع فقد ينفتح أمامها البابُ..؟؟
حول هذا الموضوع قلّبتُ أوراقا.. وسألتُ المتخصصين فيه.. ففي البداية وصفتها الأستاذةُ والداعية (خيرية الحارثي) بأنها عادات وتقاليد بالية وأن هذه الظاهرةَ تدورُ رحاها حول قطبين أساسيين: أولهما العادات والتقاليد، وثانيهما ضعف الإيمان وعدم صدق التوكل على الله.. أما العاداتُ والتقاليد فكم جرَّت علينا من ويلات ما زلنا نتجرع عواقبها، لكننا لا نستطيع التخلص منها، وكأنها قانون ثابت لا يتغير.. ومنها ألا تتزوج الفتاة إلا من قبيلتها، أو من هو أكبر منها سنا.. وغيرها، أما قضية عدم تزويج الصغيرة قبل الكبيرة ففيه إجحاف وظلم، وتعصب للرأي دون النظر للعواقب، فقد تخطب الصغيرة إما لأنها الأجمل، أو يختارها الخاطب ملائمة لسنه، أو قد يكون بها من المواصفات ما يتمناه الخاطب.. فهل نحكم عليها بعدم الزواج لأن أختها التي تكبرها لم تتزوج؟!(/1)
فلو افترضنا أن الفتاة الكبيرة لم تخطب فما ذنب الأخريات ممن يصغرنها سنا.. أيحكم عليهن بالإعدام؟ ويذبن في صمت تحت وهج عواطف ساخنة وآراء متعسفة؟ وتفوت عليهن فرصة الزواج المناسب.. خاصة إذا كان الخاطب ذا خلق ودين.. فربما لا يعود الخاطب ويضيع العمر.. وقد تنفلت الفتاة من عقلها فيصيبها اليأس أو قد تنحرف.
أما ظاهرة ضعف الإيمان وعدم التوكل على الله فإن المجتمع بحاجة للتربية الإيمانية وتثبيت القلوب على التوكل على الله {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق: 3]. وما أحسنَ كلامَ ابن القيم - رحمه الله - "فمن علم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه.. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة، ولا يتأخر عن تدبيره خطوة واحدة، فيلقي نفسه بين يديه، ويسلم الأمر كله لله".
حرية الاختيار:
من الجانب الاجتماعي قالت الإخصائية الاجتماعية (هدى أحمد بخاري): إن كان الفارق في العمر متقاربا فلا يلاحظ، ويكون الاعتراض في حالة أن تكون الأخت الكبرى قد تقدم بها العمر، وهنا تكمن المشكلة؛ فقد نجد الغيرة والحسد بين الأخوات، ويكون مصدر قلق للأسرة، فهي تعيش في صراع بين تزويج الصغرى والخوف من أن يصبح مصيرها كالكبرى، برغم أن المحصلة النهائية على المستوى الديني والاجتماعي في الزواج هي النصيب والقدر، ويجب أن تعطى كل فتاة تصل إلى سن الزواج الرأي وحرية الاختيار في الزوج الذي ستتزوجه.
الأثر النفسي:(/2)
أما عن رأي الإخصائي النفسي الدكتور (سلطان الغريبي) فيقول: عدم زواج البنت الصغرى قبل الكبرى لا شك أنها قضية تؤرق الكثيرَ من الأسر والفتيات؛ فبعض الأسر ترزح تحت الضغط العددي الكبير للفتيات لديها؛ خصوصا عندما يكون التسلسل العمري للفتيات متقاربا جدا، فالإرث الثقافي للمجتمع السعودي يتبنى بإخلاص كبير مبدأ الزواج التراثي للفتيات، وعدم الحياد عن ذلك، فلو حدث أن تزوجت الصغرى قبل الكبرى تحت أي ظرف من الظروف فإن ذلك كفيل بأن يتسبب بإحداث أثر نفسي كبير للأخت الكبرى؛ يظهر ذلك من خلال نظرة الآخرين المليئة بالشك والريبة تجاهها، مما يفقدها الكثير من حظوظها في الزواج، ويظهر ذلك في بروز بعض الأعراض مثل: انهيار الثقة بالنفس، والكراهية تجاه الآخرين، والانطواء والعزلة، وعدم الاهتمام بالذات وغيرها. والأثر النفسي والاجتماعي سيكون مضاعفا في حالة ما إذا كانت الأخت الكبرى حاجزا بين الأخوات الأخريات بحجة اشتراط زواج الكبرى أولا، سواء كان ذلك بإرادة منها لرفضها أو رفض أبويها لمن تقدم إليها لعدم أهليته، أو رغما عنها لعدم تقدم أحد لخطبتها لأي سبب من الأسباب، فإن ذلك سيولد لديهن الحقد والضغينة تجاه الوالدين إذا كانا هما السبب في رد الخاطبين عنهن، وتجاه الأخت الكبرى أيضا، كما سيتولد لديهن القنوطُ واليأس وفِقدانُ الأمل والخوف من المستقبل، وقد ينتج عن ذلك اضطرابات سلوكية، وفساد أخلاقي في محاولة لإشباع غرائزهن وشهواتهن بطرق غير شرعية؛ فإيجاد حل لهذه القضية الاجتماعية مسؤولية الجميع مسؤولين وعلماءَ وأدباء ومشرعين؛ فعليهم أن يعملوا على تصحيح المفاهيم الخاطئة، وأن يعملوا على حماية الأسرة ومن ثم المجتمع من التفكك والانحلال، وعلى الآباء والأمهات خصوصا أن يراعوا مصلحة بناتهم، وأن يحافظوا عليهن بتزويجهن لمن يروا فيه الصلاح والاستقامة دون النظر إلى أولوية الكبرى قبل الصغرى، وأن يعلموا أن لكل نصيبا.
تكريس للعنوسة:(/3)
حول هذه القضية قالت الكاتبة (مشاعل العيسى): لم يرد دليل شرعي على وجوب الترتيب أو استحبابه؛ حتى أعتقد أن رفض زواج الصغرى قبل الكبرى فيه ظلم للصغيرة؛ لأن للصغيرة الحق نفسه الذي للكبيرة، كما أن في الرفض اعتراضا على قضاء الله وقسمته، أوليس خطبة الصغيرة قبل الكبيرة من القدر، والله هو الذي قسم لها ذلك؟ فبأي حق نرفض قسمة الله لمجرد أوهام وشكوك وعادات وتقاليد بالية، نحن نعرف أن زواج الصغيرة قبل الكبيرة مؤلم للكبيرة ومحزن لها، ومقلل من ثقتها بنفسها ووضعها في واجهة المجتمع المتسائل، لكن هذا الألم الذي تعانيه لا يجيز لنا ظلم أختها التي جاء رزقها قبلها، وهب أن الكبرى لم تتزوج ولن تتزوج فهل على جميع أخواتها ألا يتزوجن؟ هل نحرمهن لمجرد وجود واحدة منهن لم تتزوج؟ ثم ماذا لو طلقت الكبيرة هل يلزمنا تطليق الأخريات مراعاة لمشاعرها؟ إن عدم تزويج الفتيات في أي عمر ودون ترتيب نوعٌ من تكريس العنوسة والدعوة بطريقة غير مباشرة للانحراف.(/4)
العنوان: تقبيح الحسن وتحسين القبيح
رقم المقالة: 1075
صاحب المقالة: أحمد الحازمي
-----------------------------------------
ليست هذه المقالة استهجاناً لعقل أحد في تحسينه لأمر قبيح، أو سخرية من كاتب من أجل تقبيحه لأمر حسن..
كلا؛ بل كل ما في الأمر هو أني أردت أن أشركك -أخي القارئ- معي في متعة من متع الأدب، وأفنونة من أفانينه.
فهذا العنوان الذي اخترته لك ما هو إلا اسم لكتاب صغير الحجم، كبير المعنى، لطيف العنوان، جاد المضمون، حسن التأليف، بديع السبك والترصيف، في مدح أشياء تعارف الناس على ذمها، وذم أشياء تعارف الناس على مدحها[1]..
ومؤلف هذا الكتاب هو جاحظ نيسابور، وزبدة الأحقاب والدهور، وخاتمة مترسلي العصر العباسي الثالث، الأديبُ الشاعر، أبو منصور، عبد الملك بن محمد الثعالبي النيسابوري، المتوفى عام 429 هـ، نقل ابن خلكان في (وفيات الأعيان): أنه كان راعي تَلَعَات العلم، وجامعَ أشتات النثر والنظم.
ويكفيك -أخي القارئ- لتعرف قدر هذا الرجل ومنزلته في اللغة والأدب أن تعلم أنه هو صاحب كتاب (فقه اللغة)، وكتاب (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر)، وهذان الكتابان مصدران أصيلان في بابهما، وعمدة لمن جاء بعده في دراسة الأدب والشعر في القرن الرابع الهجري، خاصة أنه نقل فيهما من مصادر لم تعد موجودة اليوم.
وهذا الكتاب -أعني: (تحسين القبيح وتقبيح الحسن)- هو ثالث ثلاثة كتب أنشأها الثعالبي في اختلاف الناس في مدح الأشياء وذمها، والكتابان الآخران هما: (الظرائف واللطائف) و(اليواقيت في بعض المواقيت)، إلا أن نصوص الكتابين الأخيرين تتعلق بمدح الشيء وذمه في مكان واحد.
وهو -رحمه الله- في هذا الكتاب -بل وفي كل مؤلفاته- يسلك سبيله المعهود، من حيث الجِدَّةُ، والطرافة، وإشباع المعاني، وكثرة الشواهد، واختيار النوادر، حتى قال ابن خِلِّكان يصف مؤلفاته: "تواليفه أشهر مواضع، وأبهر مطالع، وأكثر راو لها وسامع".(/1)
وهذا الكتاب أهداه الثعالبي -كعادة كثير من الأدباء في ذلك العصر- إلى أحد فضلاء خراسان، وهو الشيخ السيد أبو الحسن محمد بن عيسى الكرجي، وهو الذي أهدى إليه -أيضاً- (تتمة اليتيمة).
ويرى الثعالبي أنه ما سُبِقَ إلى تأليف مثله في طرائف المؤلفات وبدائع المصنفات، ولعله يقصد بالسبق -هنا- جمع هذه المعاني بين دَفَّتي كتاب؛ وإلا فالمعاني التي ذكرها دائرةٌ قبله على ألسنة كثير من الحكماء والعلماء.
ثم يصف الثعالبي كتابه بقوله: "أودعته لمعاً من غرر البلغاء، ونكت الشعراء، في تحسين القبيح وتقبيح الحسن، إذ هما غايتا البراعة، والقدرة على جزل الكلام في سر البلاغة، وسحر الصناعة".
وإياك أن يهجم على عقلك -أخي القارئ- أن المؤلف يقصد بالبلاغة -هنا- ما هو متداول عند بعض من امتلكوا أَزِمَّةَ الكلام، وأوتوا بسطة في اللسان؛ من القدرة على قلب الحق إلى باطل، ومدح الشيء ونقيضه، والاستطالة بالذكاء، واللعب بنواصي الكلام؛ للتاثير في النفوس ! كلا..! إنما هو يريد بالبلاغة البيانَ الصادق الذي أعجز به القرآنُ الكريمُ العربَ قاطبة، وأوتيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي مطابَقة الكلام لواقع الحال. وهذا هو الذي يظهر من سياقات الكتاب لمن تأمل ذلك، فهو لا يُقبِّح أو يحسِّن الأمور لذاتها، وإنما يقبح ويحسن أفعال الناس لها؛ ففي كل أمر يفعله الناس؛ يعتورهم مَزلَقان: إما إفراط، وإما تفريط، وهذان المزلقان هما ما يذمه الثعالبي، رحمه الله.
فيذكر -مثلاً- في "باب المقابح": تقبيح العلم، والشجاعة، والأدب، والغنى، والحلم، والصبر.. في قائمة تصل إلى ثلاثين خصلة مما يمدحها الناس، ثم إذا أتينا على حقيقة ما قَبَّح؛ وجدناه لا يقبح سوى العلم الذي لا يثمر عملاً، والشجاعة المتهورة التي لا تجني إلا ندماً، والأدب الذي يشغل قلب صاحبه وعقله عن تدبير شؤونه، والغِنى الذي يورث البَطَر، والحِلم الذي يجرِّئ السفهاء ويصل إلى حد الخُمول..(/2)
والحال كذلك في "باب المحاسن"؛ فهو يذكر فصولاً في تحسين الكذب، والوقاحة، والذنوب، والمرض، والموت، والجبن، وسواد اللون، والسجن.. ولو ذهبنا لكلامه؛ لوجدناه لا يحسِّن الكذب ذاتَه، وإنما يحسن المواضع الثلاثة التي أجازت الشريعة فيها الكذب، وهي الحرب، والصلح، وملاطفة الزوجة، ولا يعني بتحسين الوقاحة إلا المعنى المقابل للخجل والحياء الزائد، كما أنه لا يشيد إلا بآثار الذنوب ،من الندم والتوبة والانكسار لله -عز وجل- ولا يحسن الذنوب نفسها..
إلا أنه -رحمه الله- قد يُغْرِب في البابين جميعاً -أعني: باب ذكر المحاسن، وباب ذكر المقابح- ويأتي بالمعاني التي تدور في خواطر الناس، فيحومون حولها، ويرفرفون عليها، ولا يتوصلون إليها، فيجيء هو فيفصح عنها، ويوشِّحها بنكت الشعراء وألفاظ الحكماء، فما تظنه سيقول في تحسين الملل؟! أو تحسين الحقد؟! بل والأغرب من ذلك ما ذكره في تقبيح المطر، وتقبيح القمر!! إنك -أيها القارئ الكريم- لفي طرب مرة، وفي عجب مرات، من اختيار هذا الأديب اللغوي الشاعر! وحُقَّ لك ذلك؛ فاختيارُ المرء قطعةٌ من عقله تدل على تخلقه وفضله.
وها أنذا أقتطف لك -أيها القارئ الكريم- طائفة يسيرة من زهور بستانه، تُغريك بالكتاب، ولا تُغنيك عنه، وما تركت أظرف مما ذكرت.
يقول -رحمه الله- في باب ذكر المحاسن:
تحسين الدَّيْن:
دخل عمرو بن عتبة يوماً على خالد بن عبد الله القسري، فقال خالد: إن ها هنا رجالاً إذا خفت أموالهم؛ عوّلوا على الدَّين، وأخذوا في الاستدانة! فقال عتبة: إن رجالاً تكون أموالهم أكثر من مروءاتهم؛ فلا يدانون، ورجالاً لا تكون مروءاتهم أكثر من أموالهم؛ فيدانون، على سعة ما عند الله.
ويقول في تحسين العمى:
قيل لقتادة: ما بال العميان أذكى وأكيَس من البُصَراء؟
فقال: لأن أبصارهم تحولت إلى قلوبهم.(/3)
وقال الجاحظ: العميان أحفظ وأذكى، وأذهانهم أقوى وأصفى؛ لأنهم غير مشتغلي الأفكار بتمييز الأشخاص، ومع النظر يتشعب الفكر، ومع انطباق العين اجتماع اللب، ولذلك قال بشار: عميت جنيناً، والذكاء من العمى.
وكان أبو يعقوب الخُزيمي يقول: من فضائل العمى ومحاسنه: سقوط الواجب من الحقوق، والأمان من فضول النظر الداعية إلى الذنوب، وفقد النظر إلى الثقلاء والبغضاء.
ويقول في تحسين الحقد:
لم يزل الحقد مذموماً بكل لسان، مقبَّحاً عند كل إنسان، حتى جرى بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الملك بن صالح الهاشمي كلام يؤذي، إلى أن قال له يحيى: لله درك أي رجل أنت، لولا أنك حقود!!
فقال عبد الملك: إن كنت تريد بقاء الخير والشر عندي؛ فإني كذلك!
ويروى أنه قال له: أنا خزانة تحفظ الخير والشر!
فقال يحيى: هذا جبل قريش، ووالله ما رأيت أحداً احتج للحقد، حتى حسّنه وظرّفه؛ غيره!
ويقول في تحسين أمر الغَوغاء:
في الخبر أن الله -تعالى- ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم!
وكان الأحنف يقول: أكرموا الغوغاء والسفهاء؛ فإنهم يكفونكم العار والنار!
وقال جعفر بن محمد رحمه الله: إنهم ليطفئون الحريق، ويستنقذون الغريق، ويسدون البُثُوق!
ويقول في تحسين الملل:
جرى يوماً في مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وبين جلسائه كلام في ذم الملل وتقبيحه والتعريض به، فقال: ويحكم أتدرون أنكم تذمون ممدوحاً? ألا ترون أن الرئيس إذا كان غير ملول؛ اختُص بثمرة فضله قوم، بل شرذمة قليلون من خواصه وندمائه، وحُرم الأكثرون من أفاضل المستحقين صوب سمائه؟!!
وإذا كان ملولاً، ولا يصبر على نفر بأعيانهم؛ استجد الإخوان على تكرر الزمان، واستمالهم بالإنعام والإحسان، وتشارك الناس في أثاريده، وتضاربوا بالسهام في أياديه ومننه؟!!
فقالوا له: والله، إن الأمير ليسحرنا بلسانه وبيانه، ويحسِّن ما تطابقت الألسن على تقبيحه!
ويقول في تحسين الفراق:(/4)
قال بعض الظرفاء: في الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأَوبة، والسلامة من الملل، وعمارة القلب بالشوق، والأنس بالمكاتبة!
وكتب أبو عبد الله الزنجي الكاتب: جزى الله الفراق عنا خيراً! فإنما هو زفرة وعبرة، ثم اعتصام وتوكل، ثم تأميل وتوقع.. وقبح الله التلاقي! فإنما هو مَسرة لحظة، ومساءة أيام، وابتهاج ساعة، واكتئاب زمان.
وكتب أحمد بن سعد: إني لأكره الاجتماع؛ محاذرة الفراق، وقصر السرور. ومع الفراق غُمةٌ يخفيها توقُّعُ إسعاف النوى، وتأميل الأوبة والرُّجْعى.
ويقول في تحسين أمر البنات:
دخل عمرو بن العاص يوماً على معاوية، وعنده ابنته عائشة، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين?
فقال: هذه تفاحة القلب!
فقال: انبذها عنك!
قال: ولم?
قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقربن البُعَداء، ويُوَرِّثن الضغائن!
قال: لا تقل ذلك يا أبا عبد الله، فوالله ما مرَّض المرضى، ولا ندب الموتى[2]، ولا أعان على الأحزان مثلهن، وإنك لواجد خالاً قد نفعه بنو أخته.
فقال: يا أمير المؤمنين قد حبَّبتَهن إليّ.
وكتب أحدهم في التهنئة بابنة: ...فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها،... والأرض مؤنثة، ومنها خلقت البَرِية، وفيها كثرت الذُّرِّية، والسماء مؤنثة، وقد زُيِّنت بالكواكب، وحُليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة، وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة، وبها وعد المتقون، وفيها يتنعم المرسلون.
ويقول -رحمه الله- في باب ذكر المقابح:
تقبيح الخط والقلم:
نظر المأمون يوماً في خط أحمد بن يوسف، وهو يكتب بين يديه، فقال وهو يتنفس الصعداء: يا أحمد، أود لو أن خطك لي بنصف ملكي!
فقال: يا أمير المؤمنين، لو أن في الخط فضيلة؛ لما حرمه الله أعز خلقه، وأجل رسله، محمداً، صلى الله عليه وسلم!
فقال: قد سَلَّيتني مما كنت أجد يا أحمد!
ويقول في تقبيح الأصدقاء والإخوان:
كان عمرو بن العاص يقول: من كَثُر إخوانه؛ كثر غرماؤه!(/5)
وكان بعضهم يقول في دعائه: اللهم احرُسني من أصدقائي! فإذا قيل له في ذلك؛ قال: إني أقدر على الاحتراس من أعدائي، ولا أقدر على الاحتراس من أصدقائي![3]
وقال ابن الرومي:
عَدُوُّكَ مِنْ صَدِيقِكَ مُسْتَفَادٌ فَلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحابِ
فَإنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ
ويقول في تقبيح الولد:
قال أكثم بن صيفي: من سره بنوه ساءته نفسه.
وقال يحيى بن خالد: ما أحد رأى في ولده ما يحب؛ إلا رأى في نفسه ما يكره.
وكان الشيخ أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي يطرب لقول أبي الفتح البستي الكاتب:
يَقُولُونَ: ذِكْرُ المَرْءِ يَحْيَا بِنَسْلِهِ وَمَا أَنْ لَهُ ذِكْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَسْلُ
فَقُلْتُ لَهُمْ: نَسْلِي بَدَائِعُ حِكْمَتِي فَإِنْ فَاتَنَا نَسْلٌ؛ فَإِنَّا بِهَا نَسْلُو
ويقول في تقبيح المطر:
كان يقال: المطر مفسد الميعاد. والغَيث لا يخلو من العَيث[4].
وفي كتاب المبهج: قد عاقت الأمطار عن الأوطار، وحالت دون الوصال.
وقال أبو نُوَاس:
هُوَ الْغَيْثُ! إِلاَّ أَنَّهُ بِاتِّصَالِهِ أَذًى، لَيْسَ قَوْلُ اللهِ فِيهِ بِبَاطِلِ
لَئِنْ كَانَ أَحْيَا كُلَّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ لَقَدْ حَبَسَ الأَحْبَابَ بَيْنَ المَنَازِلِ
ويقول في تقبيح القمر:
قال بعض ظرفاء الأدباء، ممن سكن دور الكِراء، وقد قيل له: انظر إلى القمر ما أحسنه!
فقال: والله، لا أنظر إليه لبغضي له!
قيل: لم؟!
قال: لأن فيه عيوباً؛ لو كانت في حمار لرُدَّ بالعيب!
قيل: وما هي؟
قال: ما يصدقه العِيان، وتشهد به الآثار!.. إنه يهدم العُمُر يُقرِّب الأجل، ويُحِلُّ الدَّين، ويُوجِب كِراء المنزل، ويقرض الكَتَّان، ويُشحِب الألوان، ويسخِّن الماء، ويفسِد اللحم، ويُعين السارق، ويفضح العاشق والطارق!!
ــــــــــــــــــــــــــــ(/6)
[1] على هذا؛ فالتحسين والتقبيح -في هذا الكتاب- يقوم على ما تعارف الناس على تحسينه أو تقبيحه؛ وليس على ما حسنه الشرع أو قبَّحه، ولذا قد نرى في هذا المقال -كما في الأصل- ما يتنافى مع الشريعة الغراء، ولا يقبله الذوق السليم..
[2] هذه القصة، وإن كانت موجودة في (الآداب الشرعية) لابن مفلح، وهو كتاب متداول لا يمكن أن يقارن بكتاب (المستطرف)، ولا بكتاب (ثمار القلوب)؛ فإنها لا تصح عن معاوية -رضي الله عنه- لأنها رويت بدون إسناد، ثم إنها تتعارض مع ما ثبت في السنة من تحريم النياحة، والله أعلم.
[3] لا يخفى ما في هذا الكلام من جور على الصداقة، فالصديق مَن صدقك ! وإن كان المرء يخشى أن يؤتى من قبل أصحابه؛ فليقلل منهم، وخير له من ذلك أن يصبر على أذاهم، فقد ورد عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي لا يُخَالِطُهُمْ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)). رواه أحمد.
[4] ليكن حالنا مع هذه النعمة -إن خشينا ضررها- كحال النبي -صلى الله عليه وسلم- ففي البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
(أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: قَحَطَ الْمَطَرُ؛ فَاسْتَسْقِ رَبَّكَ!
فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، وَمَا نَرَى مِنْ سَحَابٍ، فَاسْتَسْقَى، فَنَشَأَ السَّحَابُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ مُطِرُوا، حَتَّى سَالَتْ مَثَاعِبُ الْمَدِينَةِ، فَمَا زَالَتْ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا تُقْلِعُ!
ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ -أَوْ غَيْرُهُ- وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ، فَقَالَ: غَرِقْنَا! فَادْعُ رَبَّكَ يَحْبِسْهَا عَنَّا!(/7)
فَضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: [اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا] مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً، فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَصَدَّعُ عَنْ الْمَدِينَةِ يَمِينًا وَشِمَالاًُ، يُمْطَرُ مَا حَوَالَيْنَا، وَلا يُمْطِرُ مِنْهَا شَيْءٌ، يُرِيهِمْ اللَّهُ كَرَامَةَ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِجَابَةَ دَعْوَتِهِ).(/8)
العنوان: تقدير الرزق والأجل
رقم المقالة: 1405
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 2-3]، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3].
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أمَّا بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فاتقوه حق التقوى، وأصلحوا سركم تصلح علانيتكم، واهتموا بآخرتكم يكفكم الله أمر دنياكم.
أيها الإخوة المؤمنون: خلق الله – تعالى - الخلق، وأجرى فيهم أمره، وقضى فيهم بحكمه، وسيرهم على مقتضى حكمته ورحمته، وأرسل إلى المكلفين منهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وهداهم صراطه المستقيم. فمنهم من قبل هدى الله – تعالى - وشرُف بعبوديته؛ فكان له الشرف الأسنى في الدنيا والآخرة. ومنهم من رفض شريعة الله - تعالى - استِكبارًا وعنادًا؛ فما أوبق إلا نفسه، ولن يضر الله – تعالى - شيئًا.(/1)
وتدبير الله – تعالى - للمخلوقات هو أمر من الله – تعالى - على وَفْق حكمته، وهو رحمة منه – سبحانه - بعباده؛ إذ لو وكل تدبير شؤون +الخلق إليهم لضاعوا وأضاعوا، وهلكوا وأهلكوا {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 22-23].
أرأيتم لو أن أرزاق الناس وآجالهم بيد بشر منهم، فكم يحصل في الأرض من الظلم والبغي والفساد؟! ما ترك الله – تعالى - ذلك للخلق، ولو تُرك إليهم إذًا لظلم بعضهم بعضًا، ونسي بعضهم بعضًا، وغفل بعضهم عن بعض، فأرزاق الناس وآجالهم بيد من لا يظلم ولا ينسى ولا يغفل، جلَّ ثناؤه، وتقدست أسماؤه، سبحانه وبحمده.
روى الشيخان من حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق، قال: ((إن أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربع كلمات: بِرِزْقِه وَأَجَلِه وشَقِيّ أو سعيد...))[1].
وفي لفظٍ آخَرَ عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((أن المَلك يسألُ الله - عزَّ وجلَّ - فيقول: يا رب، ذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء، ويكتبُ الملك، ثم يقول: يا رب، أجلُه؟ فيقضي ربك ما يشاء، ويكتبه الملك، ثم يقول: يا رب، رزقه؟ فيقضي ربك ما يشاء، فيأخذ الملك بالصحيفة في يده، فلا يُزاد في أمر ولا يُنقص))؛ رواه مسلم[2].
وفي حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وكل الله بالرحم مَلكًا فيقول: أيْ ربِّ نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أرد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب ذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد؟ فما الرزق، فما الأجل؟ فيُكتب كذلك في بطن أُمِّه))[3].(/2)
فقضية الآجال والأرزاق محسومة، لا يزاد فيها، ولا ينقص منها، ولن يموت حيٌّ حتى يستكمل ما له من رزقٍ، وما له من عُمُرٍ.
وبناء على تدبير الحكيم الخبير لخلقه، وقسمته لأرزاقهم، وضربه لآجالهم؛ فإن الخلق متفاوِتُون في الرزق وفي الأجل وفي العمل؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الناس أربعة، والأعمال ستة: موجِبتان، ومثل بمثل، وحسنة بعشر أمثالها، وحسنة بسبع مئة ضعف، والناس موسَّعٌ عليه في الدنيا والآخرة، وموسَّعٌ عليه في الدنيا مقتورٌ عليه في الآخرة، ومقتورٌ عليه في الدنيا موسَّع عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا والآخرة، وشقي في الدنيا وشقي في الآخرة))؛ رواه أحمد وصححه ابن حبان من حديث خريم بن فاتك الأسدي رضي الله عنه[4].
إن العبدَ إذا أيقن بأن الأجل محدد، وأن الرزق مقدر، واطمأن قلبه بذلك؛ فإنه لن يجزع من فقر أصابه، أو جائحة أتلفت ماله، ولن يشغل نفسه بالدنيا عن عمل الآخرة؛ لأنه يعلم أنه مهما سعى واجتهد وأجهد نفسه فلن يكتسب إلا ما كُتب له. والمؤمن الحق الذي يفهم قضية الرزق فهمًا صحيحًا لن تستشرف نفسه ما في أيدي الناس، ولن تتطلع عينه على ما في خزائنهم، ولن تمتد يده إلى ما حرم الله – تعالى - عليه مهما كلف الأمر؛ لعلمه أن الذي خلقه سيرزقه، ولن يبث شكايته للناس؛ لعلمه أنهم لا يرزقون أنفسهم فضلاً عن أن يرزقوا غيرهم، ومن أخلَّ بذلك فهو ضعيف الإيمان، ولا سيما إذا كان يقرأ ويفهم قول الله – تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].(/3)
لقد حذَّرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن تتعلق قلوبنا بتحصيل أرزاقنا؛ فننسى الله – تعالى - والدار الآخرة، ونُشْغَل عن العمل الصالح بالجمع والتحصيل، والعد والتنمية، ولربما شحت نفوسنا عن أداء حق الله – تعالى - في أموالنا، أو امتدت أيدينا إلى ما لا يحل لنا؛ فنكون كالذي يأكل ولا يشبع، ويجمع ولا ينتفع! نعوذ بالله من نفوس لا تشبع، ومن قلوب لا تخشع.
وما كان هذا التحذيرُ منه - عليه الصلاة والسلام - إلا لأن الإنسان بطبعه همَّام جمَّاع، يُهمه رزقه، ويحب جمع ما فضل عن حاجته، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((أجملوا في طلب الدنيا فإن كلاًّ ميسر لما كتب له منها))؛ رواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه[5].
وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبدٌ ليموت حتى يبلغ آخر رزقٍ هوَ له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال وترك الحرام))؛ صححه ابن حبان والحاكم[6].
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس مِن عملٍ يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، لا يستبطئن أحدٌ منكم رزقه، إن جبريل - عليه السلام - ألقى في رُوعي أن أحدًا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحدٌ منكم رزقَه فلا يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله لا يُنال فضله بمعصيته))؛ رواه الحاكم[7].
ما هو واقع المسلمين في هذا العصر من هذه النصوص المحكمة؟ وما مدى عملهم بها؟!
إن بينهم وبينها لمفازة واسعة، وبونًا شاسعًا، إلا من رحم الله – تعالى - وقليل ما هم.(/4)
إن همَّ الرزق قد أكل قلوبهم، وسيطر على عقولهم، وعطلوا من أجله ما كُلفوا به، وهم قد كُفوه. لقد اعتادوا على مستوى من العيش فيه من السرف ما فيه، في مآكلهم ومشاربهم ومراكبهم وملابسهم ومساكنهم، وكثير من متطلباتهم لا تصل إلى مستوى الحاجات فضلاً عن الضرورات، وأكثرها من التحسينات والكماليات، وما هو دونها مما يصل بصاحبه إلى حد الإسرافِ المذموم، وأضحى الواحد منهم يشكو من قلةِ دخله ولو كان كثيرًا، ومن كثرة مصروفاته ولو كان أكثرها ليس محتاجًا إليه.
وفي الناس من الهلع والجزع ما فيهم؛ نتيجةً لتردِّي أحوال الاقتصاد العالمي، وكلَّما سمِعُوا خبرًا عن مشكلةٍ اقتصادية، +أو خسارة أسهم أو شركات كادت قلوبهم تنخلع، وعقولهم تطير خوفًا من امتداد ضرر ذلك ووصولِهِ إليهم، ولو أنَّ إيمانهم بأن الرزق من عند الله – تعالى - كان قويًّا، وأنَّ الوجودَ خاضع لأمره وقضائه، وسائرٌ على وفق سننه وحكمته لما أهمتهم قضية الرزق أصلاً، ولما شُغِلوا بالدنيا عن الآخرة.
وكما قيل في الرزق يُقال في الأجل، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
ولما أصاب المسلمين ما أصابهم في أُحُدٍ من المصيبة والقتل، وأظهر المنافقون مقولاتهم المرجفة وقالوا: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154]، كان الجواب: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154].(/5)
ولما فرض الله – تعالى - الجهاد على المؤمنين وقال من قال منهم: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77]، قال الله – تعالى -: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 77-78].
وروى التِّرْمِذي وصححه من حديث أبي عزة يسار بن عبدٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قضى الله لعبدٍ أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة)) أو قال: ((جعل له بها حاجة))[8].
فلا يملك الأجل إلا الله، ولا يرزق الأحياء إلا اللهُ، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، إنها جُمَلٌ مفيدةٌ ويسيرةٌ ومفهومة، يفهمها العاميُّ من المسلمين، وقد أفنى كبارُ الفلاسفة والنُظَّار أعمارهم في فهمها وما فهموها، وقضى كثير من الأطباء القدماء حياتهم في البحث عن إكسير الحياة، وعلاجٍ للموت، فما وجدوا للحياة إكسيرًا، ولا للموت دفعًا.
وعلى الرغم ممَّا وصلت إليه البشريَّةُ من تقدم وعمران، وما تفرزه كل يوم من عجائب وبحوثٍ، ودراسات متخصصة في الطب والاقتصاد وسائر التخصصات؛ فإن بحوثهم ودراساتهم تقف عاجزة عند قضيتي الرزق والأجل؛ فذلك ليس للبشر وإنما هو من خصائص ربّ العالمين، وخالقِ الناس أجمعين. به آمنا، وعليه وتوكّلنا، ولا حول لنا ولا قوة إلا به.(/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [العنكبوت: 56-60]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - فإن التقوى من أسباب حصول الرزق، وحفظ العبد في الدنيا والآخرة {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق:2-3].
أيها الإخوة في الله: لما كان المسلمون قائمين بأمر الله – تعالى - مشتغلين بنشر دينه، موقنين بأن الرزق لا يعجله حرصُ حريص، ولا يؤخره كراهية كاره، وأن الموت لا يتقدم إلى مجاهد عن قاعد، ولا يتأخر عن آمن إلى خائف، لما كانوا كذلك ما كان جيشٌ يقف أمامهم، ولا قوة تعرقل زحفهم؛ لأنهم يطلبون الموت كما يطلب أعداؤهم الحياة، ويبذلون أموالهم فداءً لدينهم.(/7)
قدَّم أبو بكر ماله كله، وقدَّم عمر نصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة، ومات خالدٌ ولم يترك إلا القليل من المال، رضي الله عنهم وأرضاهم، وتوفي صلاح الدين - رحمه الله تعالى - وما ورَّثَ إلا بضعة دراهم، وغيرهم كثير؛ كانوا ينفقون في سبيل الله - تعالى - ولا يخافون الفقر. أرأيتم لو أن قضية الرزق شغلتهم، وأنهم خافوا على أولادهم الفقر والعيلة أكانوا يفعلون ذلك؟!
وقتل في أُحُد سبعون من خيار الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - وقضى أبو أيوب الأنصاريُ - رضي الله عنه - في غزو القسطنطينية، ودُفن تحت أسوارها، ومات أبو طلحة الأنصاري - رضي الله عنه - غازيًا في البحر، فما وجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام ولم يتغير!
وتاريخ المسلمين زاخرٌ بنماذج كانت تطلب الموت مظانه، وتقدمُ أرواحها رخيصة في سبيل الله – تعالى - فلو أن أولئك لم يكن عندهم إيمان راسخ بأن الأجل مكتوب، وأن الحي لا يموت حتى يستكمل عمره؛ لاشتغلوا بالحفاظ على أنفسهم وصيانتها بدل تعريضها للمخاطر والموت.
إن من أعظم أسباب ذلة المسلمين في العصور المتأخرة هو الخللُ في فهم قضيتي الرزق والأجل، أو ضعفُ الإيمان بهاتين المسألتين المهمتين.(/8)
وقد نبهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك لما ذكر تداعي الأمم على أمة الإسلام رغم كثرتهم؛ وأنَّ المسلمين سيُصبحون غثاءً كغثاء السيل، وستنزع مهابتهم من صدور أعدائهم، وسيُقذف في قلوبهم الوهن، فلما سئل - عليه الصلاة والسلام - عن الوهن قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت))[9]. وهذا ما وقع تمامًا في هذا العصر بسبب الخلل في فَهْم مسألتي الرزق والأجل؛ فحب الدنيا لا يكون إلا حبًّا في ملذاتها وشهواتها، وهذه تحتاج إلى مال، والمال يحتاج إلى جمع وتحصيل وكدح. وكلَّما كان مالُ الإنسان أكثر كان استمتاعه بالملذات أكثر، وكان حبه للدنيا أقوى وأمكن، وحينئذ يتنافس الناس على الدنيا، ويعطلون الفرائض من أجلها، ويرتكبون المحرماتِ في سبيلها.
وكراهية الموت ما كانت إلا بسبب ضعفِ الإيمان في مسألة الأجل، ومن ثم يتولى الإنسان حفظ نفسه من الموت بالابتعاد عن مظانه، ولو كان في سبيل الله – تعالى - وهو ميت لا محالة!!
ولما كثر هذا في أفراد الأمة المسلمة، وانتشر فيما بينهم مفهوم الحفاظ على الرزق والأجل؛ خرست الألسن عن نطق الحق خوفًا على الرزق، أو خوفًا من تقدم الأجل، وأحجمت النفوس عن ميادين الوغى، ونصرة المسلمين؛ حفاظًا على النفس من العطب، وخشية على الأولاد من اليتم والعالة.
ولما كانت أكثر جموع المسلمين على هذه الحالة من الجزع على الرزق، والخوف من الأجل كانوا غثاءً كغثاء السيل، وما عاد أعداؤهم يحسبون لهم حسابًا؛ فلا مهابة في قلوبهم منهم.(/9)
وعلى الرغم من هذه الحال المُزْرِية في مجموع الأمة، فإن أفرادًا منها ما شغلتهم مسألة الرزق والأجل، فخرجوا في سبيل الله – تعالى - ينصرون إخوانهم المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، قُتل منهم مَن قُتل، وعاش منهم مَن عاش، وأوذي منهم من أوذي؛ ولكنهم أحيوا شعيرة الجهاد في أمة شارفت على الهلاك، وفي فِلَسطين نماذج للبطولات والفداء، وأمهاتٌ يودعن أولادهن للقتل في سبيل الله تعالى مما يؤذن بفرج قريب بإذن الله تعالى.
ولئن كان قائد مغوار، وبطل كرار من قادة الجهاد في الشيشان[10]، قد قُتل غِيلةً قبل أيام، وحزن المؤمنون على قتله، وسألوا الله – تعالى - أن يتقبله في الشهداء؛ فإن نساء الأمة لن تعقم عن إنجاب أبطالٍ نجباء، ينصرون دين الله – تعالى - ويقيمون شرعه، ويلبون النداء؛ نصرةً لله – تعالى - ونجدة لإخوانهم، وطلبًا للشهادة في مظانّها.
وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته))؛ رواه ابن ماجه، وصححه ابن حبان[11].
ولئن صار الجهاد يعدُّ إرهابًا في القوانين الدولية، بل حتى الدفاع عن الأوطان والحرمات أضحى إرهابًا عند الأعداء، وقد عجز جمهور المسلمين عن إقامة هذه الشعيرة العظيمة؛ فإن طائفة من هذه الأمة ستقوم بالأمر، وستحمي بيضة الإسلام، وتتولى الدفاع عن المسلمين، وأفراد هذه الطائفة لا يزالون ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله – تعالى - وهم على ذلك.
فأبشروا - معاشر المسلمين - وأمِّلوا خيرًا، وانصروا دين الله - تعالى - بأنفسكم، وأموالكم، ودعائكم، واعلموا بأن العاقبة لأهل هذا الدين، وأن النصر سيكون للمؤمنين. أسأل الله – تعالى - أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، إنه سميع مجيب.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
---(/10)
[1] أخرجه البخاري في القدر باب في القدر (6594)، واللفظ له، ومسلم في القدر باب: كيفية خلق الآدمي (2643)، وأبو داود في السنة باب في القدر (4708)، والترمذي في القدر باب ما جاء: إن الأعمال بالخواتيم (2137)، وابن ماجه في المقدمة باب في القدر (76)، وأحمد (1/382).
[2] هذه الرواية أخرجها مسلم في القدر باب: كيفية خلق الآدمي (2645)، وأحمد (4/6)، واللالكائي في "أصول اعتقاد أهل السنة" (1047)، وابن حبان (6177).
[3] أخرجه البخاري في القدر باب في القدر (6595)، ومسلم في القدر باب كيفية خلق الآدمي (2646).
[4] أخرجه أحمد (4/422)، والترمذي في فضائل الجهاد باب فضل النفقة في سبيل الله (1625)، وابن حبان واللفظ له (6171)، والطبراني في الكبير (4155)، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي (2/87)، وحسنه الترمذي.
[5] أخرجه ابن ماجه في التجارات باب الاقتصاد في طلب المعيشة (2142)، وابن أبي عاصم في السنة (418)،والبيهقي (5/264)، وأبو نعيم في الحلية (3/265) والحاكم وقال: صحيح على شرطهما (2/3) وتعقبه الألباني فقال: "إنما هو على شرط مسلم وحده..." انظر: السلسلة الصحيحة (898).
[6] أخرجه ابن ماجه في التجارات باب الاقتصاد في طلب المعيشة (2144)، وأبو نعيم في الحلية (3/156)، والبيهقي في الكبرى (5/264)، وصححه ابن حبان (3239 ـ 3241)، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (2/4).(/11)
[7] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/79) برقم: (34332)، والقضاعي في مسند الشهاب (1151)، والحاكم (2/5)، وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه عن معمر عن عمران مرسلاً (20100)، وأخرجه الطبراني في الكبير (8/194) برقم: (7694)، وابن عبدالبر في التمهيد (24/435) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - وأخرجه الشافعي في مسنده من حديث عبدالعزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن المطلب بن حنطب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: .... فذكره (ص233)، وصححه الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - (2085).
[8] أخرجه الترمذي في القدر باب ما جاء أن النفس تموت حيث ما كتب لها، وقال: هذا حديث صحيح، وأبو عزة له صحبة اسمه يسار بن عبد (2147)، والحاكم وقال: هذا حديث صحيح ورواته عن آخرهم ثقات (1/43)، وقال الذهبي: رواته ثقات.
وله شاهد من حديث مطر بن عُكَامِس - رضي الله عنه - أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، ولا نعرف لمطر بن عكامس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث (2146). والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين (1/43).
[9] أخرجه أحمد (5/278) وأبو داود في الملاحم باب تداعي الأمم على الإسلام (4297)، وأبو نعيم في الحلية (1/182)، وذكره الألباني في الصحيحة (258).
[10] هو القائد المجاهد خطاب - رحمه الله تعالى - قتله الروس بالسم.
[11] أخرجه أحمد (4/200)، وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (8) والبخاري في التاريخ الكبير (9/61)، والدولابي في الكنى (1/46) وصححه ابن حبان (326)، وأخرجه في الثقات (4/75) من حديث أبي عنبة الخولاني - رضي الله عنه - وقال البوصيري في الزوائد: هذا إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات. (1/45)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (2442).(/12)
العنوان: تقريب القرآن وتيسير قراءته
رقم المقالة: 1026
صاحب المقالة: محمد عيد العباسي
-----------------------------------------
تقريب القرآن وتيسير قراءته لبني العروبة والإسلام
مازال العلماء والدعاة في كل زمان يبحثون عن الوسائل التي تسهِّل على الناس تعلُّم دينهم، وتقرِّب إليهم فهمه ودراسته، ودين الإسلام إنما هو الكتاب والسنة، وقد خدمهما العلماء خدمات جليلة؛ فصنفوا الكتب وأكثروها في تفسير القرآن، وبيان وجوه إعجازه وبلاغته، وشرحوا أحكامه وحكمه، واستخلصوا فوائده وعِبَره. كما بذلوا الجهود الضخمة لخدمة السنة، فجمعوها من أفواه الرواة الذين تفرقوا في مشارق الأرض ومغاربها تبعاً للفتوحات الإسلامية الواسعة والسريعة، ورتبوها وشرحوها، ووضعوا القواعد العلمية الدقيقة التي صارت علماً مستقلاً يسمى بمصطلح الحديث، وعلماً آخر في تراجم الرواة يسمى علم الجرح والتعديل؛ كل ذلك لأجل تمييز صحيحها من سقيمها، وإبطال حيل الوضّاعين الذين افتروا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولوا عليه مالم يقل، ثم صنفوا في علوم الحديث كشرح غريبه والتوفيق بين مشكلة، ووضع فهارسه في كتب الأطراف وغيرها.
ومن الأعمال الجليلة في خدمة السنة ما قام به العلامة محمد ناصر الدين الألباني تحت عنوان "تقريب السنة بين يدي الأمة" فكان من ثمرة هذا المشروع تحقيق السنن الأربعة و"الأدب المفرد" ومختصري الصحيحين وغيرها فسهَّل على المسلمين الاستفادة من هذه الكتب القيمة بعد ما كانت صعبة لا يستطيعها إلا المتمكنون.
وفيما يتعلق بالقرآن الكريم فقد ظهر منذ سنوات عمل جيد لتقريبه وتسهيل تلاوته بصورة حسنة مجوَّدة، وَفق أحكام التجويد المعروفة في طبعة خاصة للمصحف الشريف أصدرتها مكتبة المعرفة بدمشق.
وتميزت بميزات عديدة أهمها:(/1)
أولاً: تضمين كتاب "كلمات القرآن تفسير وبيان" للشيخ حسنين محمد مخلوف في الهامش، فيفيد القارئ معاني الكلمات الغريبة، التي تفتح له الباب لفهم الآيات فهما إجمالياً.
ثانياً: كتابته بخط واضح وجميل وحروف بارزة وكبيرة، على ورق متين، وبلون صحي مناسب للنظر، هو الأصفر اللطيف.
ثالثاً: إخراجه إخراجاً فخماً أنيقاً لائقاً، مع ما في الزخرفة الموجودة من الكراهة شرعاً ولكن دون مبالغة.
رابعاً: وهو الأمر الجديد والمهم والذي يعد نوعية جديدة، هو بيانه أحكام التجويد عن طريق تلوين الحروف التي فيها مدود وأحكام النون الساكنة بالألوان المختلفة، والإشارة إلى المقصود بها في كل صفحة، وتزييل المصحف ببيانها بالتفصيل - وذلك يساعد القارئ على تطبيق هذه الأحكام إذا كان ملمّاً بقواعدها، وتذكيره بها في مواضعها.
وهذه المَيزات كلها تساعد على تيسير قراءة كتاب الله لأبنائنا التلاميذ دون شك وجزى الله القائمين بهذه الطبعة خيراً، ولكن الذي يؤخذ عليها أن بعض الإشارات والألوان غير واضحة ومتشابهة ولا تكاد تتميز إلا بصعوبة، فقد جعل اللون الأخضر رمزاً لثلاثة أشياء: لما يمد ست حركات لزوماً، ولما يُغَن حركتين، ولما لا يُلْفَظ، والناظر إلى هذه الألوان يجدها متقاربة كثيراً، بحيث لا تتميز ولا تبين بسهولة، وجعل اللون الأحمر رمزاً لما يمد خمس حركات وجوباً، ولما يمد حركتين أو أربعاً أو ستاً، والفارق بينهما قليل، وهناك لون بنفسجي لما يمد حركتين يكاد لا يلفِتُ النظر، وكان الواجب اختيار ألوان تتميز بسرعة وسهولة، ويحسن في ذلك تغيير الألوان، واختيار ما كان واضحاً كالأصفر الفاتح، والأحمر القاني، والأسود وغيرها مما يبين لأول نظرة؛ كيلا نجهد القارئ وخاصة الطالب الصغير، فالفكرة جيدة جداً ولكن تطبيقها لم يكن بالصورة الكافية الناجحة.(/2)
وثمة أمر لعله يزيد على ذلك في الأهمية، وأعني به كتابة المصحف بالرسم العثماني، وهو الرسم الذي كان عليه الكتابة العربية في الجاهلية وصدر الإسلام، ومعلوم أن هذه الكتابة قد طرأ عليها تغيير وتحسين حتى صارت إلى صورتها الحالية في الإملاء الحديث المضبوط بقواعد دقيقة محكمة.
وهذه الكتابة هي المعمول بها في كل وسائل الثقافة؛ من الكتب المدرسية وغيرها ومن النشرات والمجلات والصحف، والإعلانات والافتات وغيرها، وقد اعتاد الناس عليها واستساغوها وتعلموها، وصارت جزءاً منهم، وهي قريبة المطابقة للنطق، وبها يقرؤون ويكتبون، بينما الرسم العثماني محصور في المصحف فقط، وأكثر الناس لم يتعلموا قواعده، ولم يستسيغوها، ولذلك تجد كثيراً من خريجي الجامعات في بلدان العالم الإسلامي لا يستطيعون إقامة ألسنتهم بكتاب الله، ويخطئون في تلاوته أخطاء كثيرة وجسيمة، فيسبب ذلك لهم حرجاً يدفعهم إلى هجر كتاب الله والإعراض عنه، وفي هذا ما فيه من الخطر الشديد والضرر العظيم إذ لك أن تتصور ما يصيب الأمة إذا انقطعت صلتها بمصدر عزتها وسعادتها ومجدها.
لهذا راوَدَتْ بعضَ العلماء والمصلحين فكرةٌ صائبة وحل سليم، لهذه المشكلة وهي إجراء إصلاح في الرسم العثماني بكتابته بحسب الإملاء الحديث، فيقرأ المسلمون كتاب ربهم كما يقرؤون كل ما يصادفون من الكتب المدرسية وغير المدرسية، والصحف والمجلات ووسائل الثقافة المختلفة، واللافتات بسهولة ويسر، فيكتبون الكلمات المكتوبة بالرسم العثماني هكذا (الصلواة لشىء، لا أذبحنه، ننجي). يكتبونها حسب الإملاء الحديث هكذا: (الصلاة، لشيء، لأذبحنه، ننجي) فيخلصون بذلك من هذا التعارض والاختلاف والازدواجية في الكتابة، وبهذا تزول عقبة من أكبر العقبات دون إتقان الناس تلاوة كتاب ربهم وإقبالهم عليه وإفادتهم منه.(/3)
وحجة أصحاب هذا الرأي الإصلاحي أن الرسم العثماني ليس وحياً من الله - تعالى - بل هو عمل بشري قام به الصحابة - رضوان الله عليهم - بالطريقة التي كانت شائعة في زمنهم، ولم ينزل عليهم أمر من الله أن يكتبوه بهذه الطريقة، والقرآن إنما نزل منطوقاً به ولم ينزل مكتوباً، فإذا أصبح الرسم الذي كتب به الصحابة عائقاً دون قراءة كتاب الله القراءة الصحيحة، أو مسبباً لهم المشقة والعسر فليس هناك أي مانع شرعي من تغيير هذا الرسم؛ فقد جاء الإسلام باليسر، وما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما، كما أن ذلك من باب مخاطبة الناس بما يعرفون وما يعقلون، ومن باب المصلحة المرسلة، إذا أنه قد جد في الأمر جديد لم يكن زمنَ الصحابة - رضوان الله عليهم - فاقتضى ذلك إحداث هذا الإصلاح بما يحقق المصلحة الشرعية في تقريب كتاب الله إلى الناس، وتسهيل قراءته عليهم ما دام ليس ثمة إثم في ذلك، ولا مخالفةً لنص شرعي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يقول: ((يسروا ولا تعسروا)).
ثم إن الأمر الذي نحن بصدره وهو الكتابة بالإملاء الحديث هو أمر دنيوي، فالكتابة رموز للمعاني والأصل في الأمور الدنيوية أنها متروكة للناس يفعلون من ما يرونه أصلح وأنسب لحالهم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أنتم أعلم بأمور ديناكم)).
ويضاف إلى ذلك أن سلفنا الصالح قد قام بنفسه بإجراء إصلاحات عدة على الرسم العثماني، دون تحرج أو تردد؛ ومن تلك الإصلاحات نقط الحروف المعجمة، وضبطها بالشكل، ووضع إشارات للأجزاء والأحزاب والأعشار ومواضع السجدات والسكتات، وكتابة أرقام الآيات وأسماء السور وعدد آياتها، وكونها مكية أو مدينة، ووضع إشارات لأحكام التجويد وغيرها، وكل ذلك لم يكن في الرسم العثماني الأول. فما الفرق بين هذه الإصلاحات والإصلاح الجديد المقترح؟(/4)
إنني أرجح أن سلفنا الصالحين أنفهسم لو كانوا في زماننا، وشعروا بالمشكلة التي نشعر بها لقاموا بهذا الإصلاح دون تردد.
وليس في يد المانعين من هذا الإصلاح حجة مقبولة، ودليل له وزن، اللهم إلا قولهم: إنه أثر تاريخي له قيمة تاريخية. وقولهم: إن الرسم العثماني يتسع للقراءات، ويحتمل الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن. والجواب أن هذا إنما يهم العلماء وطلبة العلم المتخصصين، وهم قلة, وأما الغالبية العظمى من القراء وطلبة المدارس فلا يهمهم ذلك، بل الذي يهمهم كل الأهمية هو صحة تلاوتهم للقرآن الكريم بالقراءة الشائعة في بلادهم، والقراءة المنتشرة في المشرق الإسلامي هي قراءة حفص عن عاصم بن أبي النجود الكوفي، والقراءة المنتشرة في بلاد المغرب هي قراءة ورش عن نافع، فما المانع أن تطبع المصاحف في البلاد الإسلامية بحسب الإملاء الحديث بما يناسب القراءة الشائعة فيها؟
هذا مع العلم أننا لا نمنع من أن يطبع المصحف بالرسم العثماني لمن يرغب فيه، وكل الذي نطالب به أن يطبع طبعة أو أكثر بما يلبي رغبة الكثيرين وبما يسهل على جماهير المسلمين تلاوته تلاوة صحيحة، وذلك عن طريق الإملاء الحديث.(/5)
ومن الجدير بالذكر أن الشيخ عبد الفتاح القاضي شيخ معهد القراءات بالأزهر الشريف قد ذكر في كتابه "تاريخ المصحف الشريف" صـ43-45 الأقوال في ذلك، وبين أن العلماء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال فقال: "القول الأول: أنه لا يجب التزام الرسم العثماني بل تجوز كتابة المصحف حسب القواعد الإملائية العامة، وممن أيد هذا القول وانتصر له ابن خلدون، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وآخرون. القول الثاني: أنه يجب كتابة المصحف لعامة الناس وَفق القواعد الإملائية المعروفة لهم، ولا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني، وممن جنح إلى هذا صاحب "البرهان" وشيخ الإسلام العز بن عبد السلام. القول الثالث: أنه يجب التزام الرسم العثماني في كتابة المصاحف، وإلى هذا ذهب جماهير العلماء من السلف والخلف. ثم أخذ يذكر أدلة كل فريق.
أقول: وبما أن هذه المسألة من مسائل الاجتهاد وقد اختلف فيها العلماء وليس لدى المانعين نص صحيح وصريح فلا أرى مانعاً من الأخذ برأي المبيحين، خاصة إذا وجدناه أكثر تحقيقاً للمصلحة الشرعية لغالب الأمة، وفي الوقت نفسه قال به عدد من أكابر علماء المسلمين الثقات المجتهدين وقد شعر بعض علماء الأزهر في مصر الشقيقة بهذه الحاجة للإصلاح، وحققوا خطوة رائدة في هذا السبيل فحصلوا في عهد الملك فؤاد على إذن رسمي بطبع المصحف طبعة خاصة سميت باسمه، وامتازت هذه الطبعة بِمَيزتين هامتين، أولاهما: مد الحروف فيها بحيث يوضع شكل كل حرفه فوقه بصورة واضحة ومريحة دون أن يختلط بغيره أو يلتبس بسواه، وثانيتهما: هي وضع جدول في أسفل كل صفحة كتبت فيه الكلمات التي تشق قراءتها بالرسم العثماني بحسب الإملاء الحديث.
وقد أعادت دار الشروق بالقاهرة طبع هذا المصحف بعد زوال العهد الملكي في مصر باسم "مصحف الشروق المفسر الميسر" وضمنته مَيزة جديدة وهي طبع مختتصر تفسير شيخ المفسرين الإمام الطبري على هامشه فزادت بذلك حسناً على حسن.(/6)
وأرى من المفيد جداً أن نكمل مشروع الإصلاح، ونخطو خطوة أخرى جريئة: هي نقل الكلمات الموجودة في الجدول أسفل الصفحة إلى الأعلى، وإنزال الكلمات الموجودة في الأعلى إلى الأسفل، فنريح القارئ من أن ينقل بصره من الأعلى إلى الأسفل، ونعالج المشكلة من أصلها.
فإن لم يتيسر ذلك أو حالت دون تحقيقه عوائق فإننا نقنع بإعادة هذه الطبعة واعتمادها في المدارس وغيرها، أو السماح بها لمن أراد القراءة بها وبذلها للناس على الأقل تيسيراً على التلاميذ في المدارس وعلى جماهير المسلمين، وتسهلاً عليهم قراءة كتاب ربهم الذي وصفه - سبحانه - باليسر فقال: {وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}؛ [القمر: 15]. وفي هذا من الفوائد والمصالح ما لا يحصى.
وفي الختام أقول كما قال العبد الصالح: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }؛ [هود: 88].
وصلى الله وسلم وبارك على النبي الهادي البشير المرسل بالحنيفية السمحة، والحمد لله رب العالمين.(/7)
العنوان: تقسيم الدار في الفقه الإسلامي
رقم المقالة: 1995
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
تقسيم الدار في الفقه الإسلامي (عرض لرسالة ماجستير)
• عنوان الرسالة: تقسيم الدار في الفقه الإسلامي.
• إعداد: خالد بن عبدالله البشر.
• البيانات: الرياض، جامعة الملك سعود، كلية التربية، 1419هـ، (رسالة ماجستير).
يعني دار الإسلام ودار الحرب، ومنهم من يزيد: دار العهد.
في أهمية الموضوع يذكر الباحث أن تقسيم الدار تقوم عليه جملة من الأحكام الفقهية في حياة الدول والأفراد، في جانب المعاملات والأحوال الشخصية والعقوبات، فمن خلال تحديد تباين دار الإسلام عن دار الكفر ترتب على هذا التباين أحكام فقهية تختلف باختلاف الدار في الجوانب السابقة، مما يدل على أهمية بيان أوجه الاختلاف بين الدارين...
ويذكر أنه لم يجد بحثاً بهذا العنوان، فكان لابد من جمع الأقوال، والتحقق من نسبتها إلى أصحابها، ومن ثم تأصيلها.
وجعله في خمسة فصول، بعد أن مهد لمعنى التقسيم والدار.
- وصف الدار وتقسيمها في الكتاب والسنة.
- مبدأ تقسيم الدار.
- دار الإسلام ودرا الكفر (معايير الحكم على الدار من حيث الإسلام والكفر من خلال تعريفات الفقهاء، القدماء والمعاصرين).
- دار العهد (حقيقتها ومدى استقلالها).
- تحوُّل الدار (من دار الكفر إلى دار الإسلام، والعكس).
وفي الخاتمة ذكر الباحث أن الدولة في القانون الدولي المعاصر هي مجموعة من الأفراد يقطنون على سبيل الدوام والاستقرار إقليماً معيناً، ويخضعون لسلطة سياسية معينة.
وأن أركان الدولة في القانون الدولي المعاصر هي: الإقليم، والسكان، والسلطة السياسية.(/1)
أما الدولة الإسلامية فهي: الإقليم، والسكان، والسلطة السياسية، والحكم بما أنزل الله، وأن الأخير هو الذي يميز الدولة الإسلامية، وأن دار الإسلام هي ما كانت الغلبة والظهور فيها للمسلمين وأحكامهم، ودار الكفر ما كانت الغلبة والظهور فيها للكفار وأحكامهم، وأن دار الإٍسلام لا تتحول إلى دار الكفر ما دامت أحكام الإسلام وشعائره ظاهرة والمتعلقة بالإمام والسكان معاً، كالصلاة والأذان ووجود المساجد كمعالم بارزة مميزة لبلاد الإسلام وسلطته.
وأضاف فوائد أخرى في الخاتمة مفيدة ومهمة للمسلم.(/2)
العنوان: تقهقر العربيَّة
رقم المقالة: 105
صاحب المقالة: مصطفى صادق الرافعي
-----------------------------------------
قال الرافعيُّ محاكيًا حافظ إبراهيم في تقهقر اللغة العربية:
أمٌّ يكيدُ لها من نَسْلِها العَقِبُ ولا نقيصةَ إلاَّ ما جنَى النَّسَبُ
كانتْ لهم سببًا في كلِّ مكرمةٍ وهمْ لنكبتها من دهرِها سببُ
لا عيبَ في العَربِ العَرْباء إنْ نَطَقوا بين الأعاجمِ إلاَّ أَنَّهُم عَرَبُ
والطيرُ تصدحُ شتَّى كالأنامِ وما عند الغراب يُزَكَّى البُلبلُ الطَّرِبُ*
أتى عليها طَوال الدهرِ ناصعةً كطلعةِ الشمس لم تَعْلَقْ بها الرِّيَبُ
ثم استفاضتْ دَياجٍ في جَوانِبِها كالبدرِ قد طَمَسَتْ مِن نورِهِ السحبُ
ثم استضاءَتْ، فقالوا: الفجرُ يَعْقِبُهُ صبحٌ، فكانَ ولكنْ فجرُها كَذِبُ
ثم اختفتْ وعلينا الشمسً شاهدةٌ كأنَّها جمرةٌ في الجوِّ تلتهبُ
سَلُوا الكواكبَ كم جيلٍ تَدَاولَها ولم تَزَلْ نَيِّراتٍ هذه الشهبُ
وسائلوا الناسَ كم في الأرضِ من لغةٍ قديمةٍ جدَّدت من زهوها الحِقَبُ؟
ونحنُ في عَجَبٍٍ يلهُو الزمانُ بنا لم نَعْتَبِرْ ولَبِئْسَ الشيمةُ العَجَبُ!
إنَّ الأمورَ لمن قدْ باتَ يَطْلبُها فكيف تبقى إذا طلاَّبُها العَجَبُ!
إنَّ الأمورَ لمن قدْ باتَ يَطْلبُها فكيف تبقى إذا طلاَّبُها ذَهبوا؟
كانَ الزمانُ لنا واللِّسْنُ جامعةٌ فقد غدونا لهُ والأمرُ ينقلِبُ
وكانَ مَن قَبْلَنا يرجوننا خَلَفًا فاليومَ لو نَظَرُوا من بعدهمْ نَدَبُوا
أَنتركُ الغربَ يُلْهِينَا بزُخْرُفِهِ ومَشْرِقُ الشمسِ يَبْكِينا ويَنْتَحِبُ؟
وعندنا نهَرٌ عذْبٌ لشاربهِ فكيفَ نتركهُ في البحرِ ينسربُ؟
وأَيُّما لغةٍ تُنْسِي أمرأً لغةً فإنها نكبة من فيهِ تنسكبُ
لكَم بكَى القولُ في ظلِّ القصورِ على أيامَ كانتْ خيامُ البيدِ، والطُّنُبُ
والشمسُ تلفحُهُ والريحُ تنفخُه والظلُّ يعوزهُ والماءُ والعشُبُ(/1)
أرى نفوسَ الورى شتى، وقيمتُها عندي، تأثُّرها لا العزُّ والرُّتبُ
ألم ترَ الحَطَب استعلى فصارَ لظًى لمَّا تأثَّر مِن مَسِّ اللظى الحَطَبُ؟
فهل نُضَيِّعُ ما أبقى الزمانُ لنا ونَنْفضُ الكفَّ لا مجدٌ ولا حَسَبُ؟
إنَّا إذًا سُبَّةٌ في الشرقِ فاضحةٌ والشرقُ منا، وإنْ كنا به، خَرِبُ
هيهاتَ ينفعُنا هذا الصياحُ، فما يُجدي الجبانَ، إذا روَّعْتَه، الصَّخَبُ؟
ومنْ يكنْ عاجزًا عن دفعِ نائبةٍ فقصرُ ذلك أن تلقاهُ، يَحْتَسِبُ
إذا اللغاتُ ازدهت يومًا فقد ضَمِنَتْ للعُرْب أيَّ فخارٍ بينها الكتبُ
وفي المعادنِ ما تمضي برونقِهِ يدُ الصدا، غيرَ أنْ لا يَصْدأ الذهبُ(/2)
العنوان: تكافل الأسر بين الواقع والنظر
رقم المقالة: 248
صاحب المقالة: د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
-----------------------------------------
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فقد رزحت الإنسانية – على شتى مشاربها الفكرية وفي فترات حياتها المتطاولة - ، تحت وطأة أعباء الحياة، وأثقلت كاهلها مصاعب العيش الكريم، مع سعيها الدؤوب الجاد للتخلص من ذلك، ولكن عبثاً حاولت، فها هي مجتمعات زخرفت الحضارة المادية عيشها، وغلب على ظنها رشدها من حيث هو طيشها، لقد ناءت تلك المجتمعات مع سطوة إمكانياتها بحمل تلك الأعباء، حيث شرع كل فرد منها في استقطاب الثروات ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فحقق الملذات وتمتع بالشهوات، ولقد حق له ذلك – كما يزعم – فهو أسد في غاب مجتمعه ، فلا ضير لديه لو أن نملاً قد نال فتات حبات سكر، أو حتى لو لم يجدها!.
إن المجتمع الإنساني الفاضل الذي طالما حلمت به البشرية منذ فجر التاريخ، وسطره الفلاسفة وأتباعهم إلى يومنا هذا، لم يتحقق بعد، ولا أحسبه سيكون واقعاً ملموساً، فنحن نرى الإنسانية تارة تسعى للكمال بتمجيد الفرد، وتارة أخرى بتقديس النزعة الجماعية، وطوراً ببناء الحجر وهدم البشر، وطوراً آخر بوجدانية تُعلي إرادة الإنسان فلا تحدها حدود ولا تقام دونها سدود.
والواقع أنه لم يسلم من ذلك الترنح البغيض إلا من ارتضى شرعة الله لعباده، وانتهج منهاج الحق، لذا فقد شهد التاريخ الاجتماعي الإنساني مخاضاً عسيراً تمخض عنه مولود التكافل، حيث أمسك الإسلام بزمام أمره وجسّده واقعاً مثالياً بعد أن كادت تزيغ قلوب الخليقة آيسة من خلاص، موقنة ألا مهرب من ظلم ولا مناص.(/1)
عزيزي القارئ: لقد تأرجح أنموذج تكافل المجتمع الإسلامي عبر التاريخ بين واقع ونظر، لكنه كان الأقرب – ولا شك – للمثال المتكامل، وذلك عند توافر إصرار على تطبيقه، فها هو التاريخ الإسلامي شاهد على حصول فترات فاضت فيها الثروات حتى لقد زهد طلابها في تحصيلها فهي في متناول الجميع، لذا فلا مسوغ للتنافس فيها، هذا الأنموذج الفذ الفريد في تاريخ البشرية قد تحقق فعلاً، ثم نحن نراه اليوم وقد تحول فجأة إلى نظرية، كأن بينها وبين الواقع بُعد المشرقين، لكنه ما زال أملاً منشوداً، ومثالاً كاملاً مطلوباً وبناءاً فريداً مفقوداً.
لذا عزيزي القارئ، فقد أحببت أن أضع لبنة في هذا البناء، ولو كانت متواضعة، فالقليل خير من عدم، والإسهام خير من الإحجام.
هذه المساهمة هي دعوة لكل عائلة كريمة في مجتمعنا، لتفكر ملياً في تحقيق تواصل معنوي ومادي فيما بينها، ولتكون بدورها دعامة متينة في بناء تواصل المجتمع بأسره وسبباً هاماً في قوته الروحية والمادية، هذا التواصل العائلي قد يكون من المفيد لتحقيقه بعض أمور:
أولاً: إنشاء مجلس العائلة ممن هم على دراية تامة بأحوالها، وممن يتبوؤون مراكز ثقافية واجتماعية مرموقة، ويقوم هذا المجلس برعاية مصالح العائلة، الخاصة والعامة، وإصلاح ذات بينهم، عملاً بقول الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} [النساء: 114].
ثانياً: عقد لقاءات دورية – ولو سنوية – للمنتسبين للعائلة ليتعارفوا وتتوثق لديهم عرى القرابة، ويتراحمون فيما بينهم، استجابة لوصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [متفق عليه].(/2)
ثالثاً: تأسيس صندوق للتكافل الاجتماعي بين أفراد العائلة، يعتمد أساساً على تبرعات أبنائها واشتراكاتهم السنوية، وقد يتم من خلاله إنشاء وقف خيري يعود ريعه على الأيتام والمحتاجين منهم، وتحقيق رعاية للموهوبين علمياً من أفراد العائلة، وكذلك توفير مشاريع قد تكون فرص عمل مناسبة لهم، تمثلاً بحسن تكافل الأشعريين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا إذا قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية، حتى نالوا شرف الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( فهم مني وأنا منهم) [متفق عليه].
رابعاً: إصدار مطوية داخلية تعرف بأهم رجالات العائلة، وتحوي أخبارها المستجدة، كما تُعلم بأنشطة أبنائها الخاصة والعامة، وتُشيد بالمبرزين منهم في شتى الميادين الثقافية والعلمية والاجتماعية اقتداء بقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أحسن : أحسنت . وقد قالها مراراً صلى الله عليه وسلم كما صح في السنة المطهرة.
عزيزي القارئ: هذه خواطر تواردت، رجوت بكتابتها الإسهام في باب للخير، مع علمي بأن عائلات كريمة في مجتمعنا لم يفتها مثل ذلك. فهل لي بعد ذلك بأن أطمح في تعميم هذه الظاهرة الخيرة، وتحقيق التنافس فيها؟(/3)
العنوان: تلخيص أحكام الحج
رقم المقالة: 1703
صاحب المقالة: عبدالسلام بن صالح العييري
-----------------------------------------
تلخيص أحكام الحج
أحكام المناسك
1- تعريفه:
قال الشيخ في (العمدة 2/73): الحج معناه في أصل اللغة قصد الشئ وإتيانه ومنه سمي الطريق محجة لأنه موضع الذهاب والمجئ ومنه الحجة والحاجة. وقال بعض أهل اللغة هو القصد إلى من يعظم.
قال الشيخ: ثم غلب في الاستعمال الشرعي والعرفي على حج بيت الله فلا يفهم على الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد.
قال في (الفتح 3/482): في الشرع: القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة.
2- حكمه:
ركن، فرض، واجب؛ وبعض العلماء يفرِّق بين الفرض والواجب.
ونقل ابن المنذر الإجماع عليه، إلا أن ينذر نذرًا فيجب عليه الوفاء.
في مسلم عن أبي هريرة: خطبنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)). فقال رجل: أكلّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا؛ فقال: ((لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم)).
دلَّ على أنه فرض وأن الأمر لا يفيد التكرار وأن النبي له أن يجتهد وكلامه شرع. وأن الأصل في أمره الوجوب والكلام مع الخطيب لمصلحة يجوز. قال في (الفتح 3/483): "أجمعوا على أنه لا يتكرَّر إلا لعارضٍ كالنَّذر".
3- حكم تاركه:
ذكر ابن رجب في (شرح الأربعين: 1/147): ذهب طائفة من العلماء إلى أن من ترك شيئًا من أركان الإسلام عمدًا أنه كافر. وروي عن ابن جبير ونافع والحكم، ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه، وهو قول ابن حبيب من المالكية.
خرَّج الدارقطني عن أبي هريرة: قيل: يا رسول الله، آلحجُّ في كلِّ عام؟ قال: ((لو قلت نعم لوجب عليكم، ولو وجب ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم)).
قال المحقِّق: جاء عند عبد بن حميد عن الحسن مرسلاً، وعن ابن ماجه: ((ولو لم تقوموا بها عُذِّبْتم)). قال في التلخيص: "رجاله ثقات".(/1)
قال الحافظ: روي عن عمر ضربُ الجزية على مَنْ لم يحج، وعن أحمد رواية: أن ترك الصلاة والزكاة كفرٌ، دون ترك الصيام والحج.
روى الترمذي من طريق الحارث عن علي مرفوعًا: ((من مَلَك زادًا وراحلةً تبلِّغه إلى بيت الله ولم يحج؛ فلا عليه أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا)).
قال أبو عيسى: "غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقالٌ، وهلال بن عبدالله مجهولٌ، والحارث يضعَّف وله طرقٌ ضعيفة؛ لكن جاء عند البيهقي وسعيد بن منصور عن عمر: ((لقد هممت أن أبعث رجالاً))، وإذا جمعتَ هذا إلى ما قبله؛ علمت أن له أصلاً، ومحمله على مَنِ استحلَّ التَّرْك، وتبيَّن بذلك خطأ من ادَّعى أنه موضوع". قال ابن كثير [2/84]: (ومن كفر) عن ابن عباس ومجاهد: مَنْ جَحَدَ فريضة الحج. أما قول عمر؛ فعند الإسماعيلي عنه بسند صحيح.
4- متى فُرِضَ؟
سنة 9 للهجرة عند الأكثر، أو عند الشافعي سنة 6هـ، وقيل سنة 5هـ.
قال في (الفتح: 3/483): قيل فُرِضَ قبل الهجرة، وهو شاذٌّ.
والأظهر أنه فُرض سنة 9هـ، روايةً عن أحمد، ولم يحج النبي إلا حجةً واحدةً، أما ما جاء عنه أنه حجَّ حجَّتَيْن بعد الهجرة؛ فكلها منكرة، جزم بنكارتها أحمد والبخاري والترمذي".
5- هل هو على الفور أم على التراخي؟
اختلفوا على قولين:
1- على الفور، ومن قدر بماله وبدنه ولم يحج فهو آثم، وهذا مذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد، وهو قول أهل الظاهر.
2- على التراخي، وهو مذهب الشافعي ومذهب محمد بن الحسن؛ لأن الحج فرض سنة 6هـ، والنبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - تأخر إلى عام 10هـ. واستدلَّ الجمهور بالعمومات، والأصل في الأمر أنه على الفور ما لم يصرفه صارف، وأن فرض الحج كان سنة 9هـ أو 10هـ، وعلى فرض أنه سنة 6هـ؛ لم يتأخَّر النبي إلا لأجل أن يتمحَّض الحج للمسلمين. واستدلوا بأحاديث الحثِّ على التعجُّل للحج؛ منها: (( مَنْ أراد الحجَّ فليتعجَّل))؛ رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.(/2)
ومن الأعذار في عدم المبادرة به: لأن مكة لم تُفتح يومئذ، أو حتى يستدير الزمان كهيئته، والأوامر الشرعية والفرائض على الفور، إلا قضاء رمضان فإنه موسَّع، ولأن المبادرة أبرأ للذمَّة. ورجَّح أنه على الفور شيخ الإسلام وابن القيم.
وقوله ((مَنْ أراد الحجَّ فليتعجَّل)): ليست الإرادة هنا على التخيير، مثل: ((مَنْ أراد الصلاة فليتوضأ))، ومثل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28].
ومما يدلُّ على الوجوب على الفوريَّة: أنه لو مات لأَثِمَ وقُضيَ عنه، فدل على أنه يبادر به لئلاَّ يأثم.
6- هل العمرة واجبة؟
- تجب بشروط الحج مرَّةً في العمر: مذهب الشافعي في قول، وأحمد في روايةٍ، مروي عن عمر وابنه وابن عباس وزيد، وقال به السعيدان وإسحاق وأهل الظاهر.
- مذهب مالك وأبو حنيفة، وقولٌ للشافعي، ورواية عن أحمد لا تجب؛ قول ابن مسعود وأبي ثور.
7- أسراره وحكمه وفوائده وفضله:
على الدعاة والمرشدين أن يخصِّصوا كلماتٍ ودروسًا في أسرار التشريع في الحج، ومقاصد الإسلام في هذه الشعيرة، والحِكَم المستفادة من قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]؛ لأن معرفة الحكمة والفائدة والفضل تعمِّق الفَهْم في الشريعة، وتجعل الإنسان يغوص في المعاني ويعرف المقاصد، ويعمل بقناعة تامة بالنص.
8- أركانه:
1- الإحرام؛ وهو النية.
2- الوقوف بعرفة.
3- طواف الزيارة.
4- سعي الحج بعد الإفاضة أو قبله، وهذه اتفق عليها الأئمة الأربعة بالجملة.
الإحرام:
أي النية للنسك، هذا معلومٌ متَّفقٌ عليه.
الوقوف بعرفة:
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ} [البقرة: 198]، ((الحجُّ عرفة)) وفي لفظ: ((عرفات))؛ رواه الخمسة من حديث عبدالرحمن بن يعمر الدَّيْلَمِي، وطواف الإفاضة بالإجماع: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29].
والسَّعي:(/3)
{إِنَّ الصَّفَا} [البقرة: 158]، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله كتب عليكم السعي))؛ رواه أحمد والشافعي والبيهقي، عن حبيبة بنت أبي تَجْرَاة.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سنَّ لكم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الطواف بينهما، فليس لأحدٍ أن يترك الطواف بينهما. رواه البخاري ومسلم.
وعند ابن ماجه قالت: لعمري ما أتمَّ الله - عزَّ وجلَّ - نُسُكَ مَنْ لم يَطُفْ بينهما.
ومن أدلَّة ركنيَّة الإفاضة: حديث ((أحابستنا هي))؛ فدلَّ على أنه حابسٌ لمَنْ لم يأتِ به.
وطواف الزيارة:
من شرطه أن يكون بعد عرفة لا قبلها؛ لما في سياق آيات الحج في سورة البقرة، ثم قال في الحج: {ثُمَّ لْيَقْضُوا}. والسَّعي ركنٌ على المذهب، وقيل: يُجْبَر بدمٍ، وهو واجبٌ، وقيل سنَّة وهو أضعفها، والصواب أنه ركنٌ.
ذكر الشيخ في (شرح العمدة: 3/572) الفرقَ بين أركان الصلاة والحج؛ فقال: "مَنْ ترك أركانه لم يصح ولم يتمَّ حجه، لعذر أو غير عذر. أما أركان الصلاة فتجب مع القدرة وتسقط مع العجز، لكن في الحج تمكنه الاستنابة فيما عجز عنه، بخلاف الصلاة؛ فلا نيابة فيها".
قلتُ: وفُرِّق بين الواجبات فيهما؛ فترك الواجب عمدًا في الحج لا يبطله؛ بل على مَنْ ترك الواجب دم جبران، ومن ترك الواجب في الصلاة عمدًا بطلت، ولو أتى به.
9- واجباته:
يصحُّ الحجُّ بدونها، وهي بخلاف الركن، وهي:
1- الإحرام من الميقات المعتبَر له، والدليل: (( يُهِلُّ...))؛ خبرٌ يُراد به الأمر، وعند البخاري: ((فرض رسول الله لأهل المدينة...)).(/4)
2- الوقوف بعرفة إلى الغروب، وزعم بعض العلماء عدم الوجوب؛ لحديث عروة بن مضرِّس، والصحيح الوجوب إلى الغروب؛ لأن النبي مكث فيها إلى الغروب، مع أنه لو دفع بالنهار لكان أرفق وأوضح بالنهار، وتَرْكُهُ للأيسر يدلُّ على أن الأيسر ممتنعٌ، لحديث عائشة: ((ما خُيِّر رسول الله...))؛ رواه البخاري ومسلم، ولأنَّ الدفع قبل الغروب فيه مشابهةٌ للمشركين.
3- المبيت بمنى ليالي التشريق.
4- المبيت بمزدلفة ليلة النحر.
ودليل المبيت بمنى: أنه رخَّص لعمِّه العباس أن يبيت بمكة ليالي التشريق لأجل السقاية؛ رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، والرخصة مقابل العزيمة، وحديث: ((لتأخذوا عنِّي...)).
أما المبيت بمزدلفة: فقيل واجبٌ، وهو وسطٌ بين الرُّكن والسُّنة، ويُقاس على السُّقاة والرُّعاة مَنْ لهم اشتغالٌ بمصالح الناس العامة.
ويخطئ مَنْ يُلْزِم بالدَّم مَنْ بات خارجها ليلة واحدة، لكن لو كانت ليلتان - باعتبارهما جنسٌ - لكان له وجهٌ. والوجوب أصلاً فيه نظر، والدم على مَنْ ترك الواجب لا جزءًا منه، ولذا كان أحمد يقول: ((عليه قبضةٌ من طعام)). وقال بعضهم: عليه درهمٌ.
واستثناء السقاة والرعاة ليلة مزدلفة فيه نظرٌ؛ لأن الناس معهم رواحلهم، وهي لا ترعى ليلة مزدلفة. والجنود ورجال الإطفاء والأطباء لا يرخَّص لهم في ترك مزدلفة؛ لأنه أوْكَد بكثيرٍ من مِنى.
ووقت المبيت في مزدلفة إلى نصف الليل على المذهب، فيدفع حتى القادر، والصحيح أنه آخِر الليل.
5- الرمي؛ لحديث: ((بأمثال هؤلاء فارموا))، ولكونه عملاً يترتَّب عليه الحِلُّ، وحافظ عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يتركه.
6- الحلق أو التقصير؛ لفعله - عليه الصَّلاة والسَّلام - وعدم تركه، ولقوله: ((إن شاء الله محلِّقين)). قال العلماء: والتعبير عن العبادة بجزءٍ منها دليلٌ على وجوبه فيها.(/5)
7- الوداع: هكذا عدَّه كثيرون، والصواب أنه ليس من واجبات الحج؛ بل هو على مَنْ أراد السفر بعد الحج، ولو أطال المكث بمكة.
10- شروطه:
الإسلام، العقل، البلوغ، كمال الحرية، الاستطاعة، وتزيد المرأة بوجود المَحْرَم.
1- الإسلام: لا يصحُّ من الكافر ولا المرتد، ومثله من لا يصلي أو يسب الدين.
2- العقل: فلا حجَّ على مجنون ولا سائر العبادات، إلا الزكاة.
3- البلوغ.
فإن بلغ الصغير أو عِتْق الرقيق قبل الوقوف أو بعده وعاد ووقف؛ أجزأه عن حجة الإسلام.
وحج الصغير يصحُّ عند الجمهور؛ فإن عقد النية عن الصغير لا بأس به، ويجعله يلبي، وله أن يفسخ ولا كفارة عليه عند المحظور؛ لأن عمده خطأ، وهذا قول أبي حنيفة. ويفعل المناسكَ بنفسه، إلا ما يعجز عنه كالرمي. وفي الطواف يطوف به بنيَّة واحدة محمولاً، ولا يجعل البيت عن يساره، فيحمله كيف شاء.
4- كمال الحرية.
5- الاستطاعة: هي القدرة، والمراد بها عند الجمهور الزاد والراحلة. أما حديث الزاد والراحلة؛ فرواه الدارقطني والحاكم، وجاء عن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وجاء عن الحسن مرسلاً عند أبي بكر في "مصنفه" وابن جرير، وصوَّب البيهقي إرسالَه عن قتادة عن الحسن، يعني: جميع رواياته، وقال: لا أرى الموصول إلا وهمًا. وشواهده جميعًا ضعيفة، والصحيح منها مرسل الحسن؛ كما ذكره في التلخيص.
بعد قضاء الواجبات والديون والنفقات، ومن عليه ديونٌ فيه تفصيل، أما قولهم: على الدوام؛ فالمراد مدَّة ذهابه ورجوعه، وهذا رأي الجمهور.
عند الجمهور لا يصير مستطيعًا ببَذْل غيره له، وعند الشافعية نعم، والصواب الأول؛ إذ لا يلزمه تحصيل المال ليحجَّ، فما لا يتمُّ الوجوب إلا به فليس بواجب.
ومَنْ يؤخَذ منه مال للخفير - وهي خفارةٌ على المذهب - غير مستطيع، وعند الموفق: يجب عليه إذا كان المال يسيرًا.
القدرة على ثلاثة أقسام:
- بالمال والبدن، يجب عليه فورًا.(/6)
- قادرٌ بدنًا دون المال؛ فيجب عليه إذا استطاع الخدمةَ أو المشي.
- قادرٌ بماله دون بدنه، وله حالات:
* أن يُرجى برؤه؛ فليس له أن يستنيب؛ بل ينتظر حتى يبرأ.
* ألاَّ يُرجى برؤه؛ فعند الجمهور يجب عليه أن يستنيب أحدًا، وعند مالك لا يجب.
أحكام الإنابة:
1- هل ينوب عنه من بلده الذي وجب عليه الحج منه؟
المذهب: نعم؛ لأن القضاء بصفة الأداء.
والصواب قول الجمهور بعدم الوجوب؛ لأن السعي إلى مكة ليس مقصودًا بحدِّ ذاته.
2- يجوز حج الرجل عن المرأة والعكس؛ لحديث الخثعمية.
3- مَنْ لم يحج عن نفسه لا يحج عن غيره، على المذهب ومذهب الشافعية.
4- مَنْ حجَّ فقط له أن ينوب عن حجَّةٍ أخرى، ولو لم يعتمر، وكذا لو اعتمر ولم يحج.
5- ليس للصبي والعبد أن ينوبا عن أحد؛ لأنهما لم يُسقطا الفرض عن أنفسهما.
6- يصحُّ أن ينوبَ عن أحدٍ في عمرة، ثم يُحِلَّ، ثم عن آخَر في حجٍّ ويصير متمتِّعًا.
7- لا يُنيب إلا الحي العاجز أو الميت، أما الحي القادر فلا ينوب عنه في الفرض أحدٌ.
8- يُستحبُّ الأداء عن الوالدَيْن، لكن يقدَّم الأم، ويقدَّم فَرْضُهُ على نفلها.
9- النائب أمينٌ، يفعل الأصلح في النُّسُك والنفقة، ويردُّ الزَّائد.
أما المحرم للمرأة ففيه مسائل:
هل هو شرط لها؟
المذهب يقول نعم.
من هو المحرم؟
هو الزوج، ومَنْ تحرم عليه تحريمًا أبديًا وهم 7، أو بسبب مثل الرضاع مثلهم 7، أو بمصاهرة وهم 4: أبو الزوج، ابن الزوج، زوج البنت، وزوج الأم.
لابدَّ من مَحْرَمٍ موافق لها على السفر، ومن ماتت وهي غنية ولا مَحْرَم لها فلا يُحَجُّ عنها من تركتها؛ لأنه ما وجب عليها، وهو أصحُّ، وقيل: يُحَجُّ عنها من مالها.
شروط المَحْرَم ثلاثة:
1- الإسلام: فالكافر ليس بمحرم عند الأصحاب والصواب خلافه.
2- البلوغ.
3- العقل.(/7)
فإن بذلت المرأة لأحد محارمها مالاً؛ فلا يجب عليه أن يذهب بها، أما حديث: "انطلق فحجَّ مع امرأتك"؛ فلأنها شُرِعَتْ في السفر، ولا سبيل إلا بالسفر معها. ولو وافق مَحْرَمها ومنعها زوجها فلا تطيعه؛ لأنه وجب عليها.
11- المحظورات، وهي تسعة:
أولاً حلق الشعر:
قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا} [البقرة: 196]؛ وبقية الشعر قاسه العلماء على الرأس.
مَنْ حلق رأسه لمرض أو أذى فعليه الفدية؛ للآية ولحديث كعب، والفدية: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو شاة، على التخيير، وهذا قول الجمهور.
ومَنْ حلق رأسه لغير عذر فهو آثمٌ وعليه الفدية. هذا قول مالك والشافعي، وظاهر مذهب أحمد.
أما كدُّ الشعر فيجوز، وكذا حكُّه وسقوطه بسبب الوضوء والنوم، أو السهو إذا مسَّ لحيته فسقط منها شيء. علَّق البخاري عن عائشة ووصله مالك بسند جيد: أن عائشة أجازت حكَّ الرأس، وقالت: "لو رُبِطَتْ يداي لحككتُ برِجْلي". وابن عمر كان لا يرى بأسًا بالحكِّ؛ علَّقه البخاري ووصله البيهقي.
عند الشافعية والحنابلة: يجوز للمُحْرِم حلق شعر الحِلال. ولو نبت في عينه شعرٌ فآذاه قَلَعَه، ولا فدية عند الجمهور.
ثانيًا تقليم الأظافر:
هذا قول الجمهور، وحكاه ابن المنذر إجماعًا، وقال داود وابن حزم: لا شيء فيه. دليل الجمهور: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29].
عند ابن جرير، عن ابن عباس: التَّفَث: وضع الإحرام، وحَلْق الرأس، ولِبْس الثياب، وقصُّ الأظافر.
قال في "المجموع": "حك الرأس لا أعلم خلافًا في إباحته، حكى ابن المنذر جوازه عن ابن عمر وجابر وغيرهما، لكن قالوا: برفقٍ؛ لئلا ينتف شعرًا. نقل ابن المنذر الإجماع على أن المُحْرِمَ ممنوعٌ من أخذ أظفاره، وعليه الفدية عند أكثرهم".
فالشعر للرأس على ثلاثة أقسام:
1- إذا أخذ شعراتٍ لا يُعَدُّ حلقًا؛ فليس عليه شيٌء.
2- إذا حلق بعضه لعذر؛ فلا شيء عليه.
1. إذا حلق الرأس أو أكثر؛ فعليه فدية.(/8)
ثالثًا تغطية الرأس بمُلاصق، وله أقسام:
- وضع الحنَّاء والعسل والصمغ على الرأس جائزٌ بالنصِّ والإجماع، وهو التَّلْبِيد، جاء عن ابن عمر في البخاري، عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
- أن يغطيه بما لا يقصد به التغطية؛ كحمل العفش، فذلك لا بأس به.
- أن يستره بما يلبس؛ فهذا حرامٌ بالنصِّ والإجماع.
- تغطيةٌ لكن لا تسمى لِبْسًا، ممنوعٌ لقوله: ((لا تخمِّروا رأسه))؛ رواه البخاري ومسلم.
- يظلِّل رأسه بتابعٍ كالسيارة، فالصحيح جوازه.
- أن يستَظلَّ بمنفصلٍ عنه كالخيمة؛ فهذا لا بأس به.
اختلفوا في الوجه بناءً على رواية مسلم، وقال ابن حزم: "لا يصحُّ للميت ويجوز للحيٍّ".
نقل النووي عن الجمهور جواز ستر الوجه للمُحْرِم، أما المرأة فتغطِّي رأسها ولا تغطِّي وجهها، إلا إذا خافت نظر الرجال. وجاء عن عثمان وزيد وابن عباس وابن عمر وجابر أنهم يغطُّون وجوههم، أو يُفتون بالجواز.
رابعًا لبس المَخِيط:
وهو كلُّ ما فُصِّل على عضوٍ، ولُبِسَ على عادته.
أما النعل - وإن كان فيها خيوطٌ - فهي جائزةٌ؛ لأن الشارع أجازها. والمرأة لها أن تلبس ما شاءت إلا التبرُّج والقفَّاز والنِّقاب، وتجوز لها الجوارب وتَحْرُم على الرجال، والرجل يَحْرُم عليه القفَّاز. بعضهم حكاه إجماعًا. وإذا لم يجد نعلاً أو إزارًا ولبس خفًّا أو سراويل - لبِسَهُما ولا فديةَ عليه، إلاَّ إذا لبس قميصًا فيفدي.
خامسًا الطِّيب:
حرامٌ باتفاقٍ؛ لحديث ابن عمر وصاحب الجبَّة، وفعل عائشة بالرسول - - - عليه الصَّلاة والسَّلام - - -، والذي وَقَصَتْهُ راحلتُه.
ذكر ابن القيِّم أن المُحرَّم على المُحْرِم شمّ الطِّيب للترفُّه واللذَّة، أما إذا وصلت الرائحة إليه فلا، أو إذا شمَّه بقصدِ استعلامه عند شرائه لم يُمنَع منه.
إذا تطيَّب قبل الإحرام وبقي أثره بعد النية؟(/9)
مستحبٌّ عند الإحرام. قول الجمهور، والسنَّة أوْلى، وعائشة ردَّت على ابن عمر في مسلم أنها طيَّبته بيديها، وهذا آخِر الأمرَيْن.
والطِّيب: هو ما أُعِدَّ للتطيُّب عادةً، وليست الروائح الزكيَّة منه، وكذا الصابون المعطَّر ليس طِيبًا؛ لأنه لا يُستعمَل على أنه طِيب.
قهوة الزعفران لا يشربها المُحْرِم إلا إذا بقيت لونًا.
سادسًا الصيد:
أجمعوا على منعه للمحرم في مأكول اللحم الوحشي، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة. وأجمعوا على أن ما صاده المحرم لا يجوز أكله لأحد ولا لحلال؛ لأنه مَيْتَةٌ.
اختلفوا في صيدٍ من حلال؛ هل يأكله المُحْرِم؟
إن صاده لأجله حَرُمَ، وإن صاده له فأهداه للمُحْرِم جاز، وهذا جمعٌ بين الأدلَّة، ولحديث جابر: ((صيد البرِّ لكم حلالٌ))؛ رواه الخمسة. وهذا أظهر وأقوى.
لو ذكَّى المحرم الصيدَ أيضًا لا يجوز مثل قتله، وهو قول الجمهور.
الحيوان البري على ثلاثة أقسام:
- صيدٌ إجماعًا؛ ما كان كالغزال.
- ليس بصيدٍ إجماعًا ولا بأس بقتله؛ كالغراب.
- مختلَفٌ فيه؛ كالأسد والنمر.
أما الغراب فمطلقٌ قُيِّدَ في مسلم بالأبْقَع، وهو الذي فيه بياضٌ. أما الكلب العَقور فعند الجمهور: كل ما عَقَر الناس وعدا عليهم وأخافهم؛ كالأسد والنمر.
ومن قتل صيدًا خطأً أو نسيانًا اختلفوا فيه:
لا شيء عليه ولا فدية؛ قول ابن جرير روايةً عن أحمد وسعيد بن جبير وأبي ثور وداود، وروي عن ابن عباس وطاوس، وهذا قويٌّ من جهة النظر والدليل.
كلما قتل صيدًا وجب عليه الفداء بعدد قتله؛ هذا قول الجمهور؛ مالك والشافعي وأبو حنيفة.
الصيد على نوعَيْن:
ما له مِثْل من النُّعْم، والمِثْلِيَّة تقريبية عند الجمهور في الصورة والخِلْقة، أو ما ليس له مِثْل كالعصفور؛ فيقوم عند الجمهور. قاتل الصيد مُخَيَّرٌ بين الجزاء المِثْلِي أو الإطعام أو الصيام.
المثل له ثلاث حالات:(/10)
الحالة الأولى: ما ورد فيه حكمٌ للرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم - فنأخذ به، مثل: جَعَلَ في الضَّبْع كبشًا؛ كما رواه أهل "السنن".
الحالة الثانية: أن يتقدَّم فيه رأيُ عدلَيْن من الصحابة؛ فهذا يُؤخَذ بقولهم وحكمهم عند الجمهور، وعند مالك لا بأس بحكمٍ جديد، والأحسن الأخذ برأي الصحابة.
الحالة الثالثة: ألاَّ يتقدَّم فيه حكمٌ، فنأخذ بقول عدلَيْن أيضًا.
والصواب قول الجمهور من جَعْلِ المِثْلِيَّة في الصِّغَر والكِبَر والحجم.
الحلال إذا قتل صيدًا في الحرم المكيِّ عند الأربعة عليه الجزاء؛ كصَيْد المُحْرِم.
المدينة تدخل عند الجمهور في تحريم صيدها، واختلف الجمهور: هل فيه فدية؟
فيه جزاءٌ، وهو أخذ سلب قاتل الصيد أو قاطع الشجر فيه، وهذا أقوى؛ لحديث سعدٍ في مسلم، وهو عامٌّ ليس بخاصٍّ بسعد خلافًا للقرطبي، والحديث لا طعن فيه، والمُراد أَخْذُ ثيابه إلا سراويله، وهي لمن سلبه كالمقاتل.
الجمهور على إباحة صيدِ وَجٍّ.
- ما يعيش في البر والبحر الأحوط تحريمه.
- إذا صاد السمك داخل حدود الحرم؛ الصحيح أنه يجوز، خلافًا لمن حرَّمه.
- العبرة فيما صِيدَ بأصله؛ إما متوحِّش أو مُستأنَس.
- لا يَحْرُم صيد البحر ولا مُحرَّم الأكل؛ كالهر ولا الصائل.
- المُحْرِم لو غصب شاةُ وذبحها قيل بالتحريم كالصيد، وقيل: تحلُّ مع الإثم، وهو الصواب وعليه الضمان.
- لو اضطرَّ إلى الصيد؛ جاز له ذبحه والأكل منه.
- إذا شارك المُحْرِم حلالاً في الصيد؛ حَرُمَ عليهما.
- إذا دلَّ أو أعان الحلال؛ فإنه يحرم على الدالِّ المُحْرِم دون غيره.
- الجراد عند الجمهور من صيد البر، فيه الجزاء عند عمر وابن عباس؛ رواه البيهقي. وعن بعض الحنابلة: هو بحريٌّ؛ لحديث: ((الجراد من صَيْد البحر))؛ رواه أبو داود وضعَّفه.
سابعًا عَقْدُ النِّكاح:(/11)
عند الجمهور محظورٌ، واحتجوا بدليل عثمان في مسلم. وردَّ عمر نكاح رجلٍ تزوَّج وهو مُحْرِمٌ؛ رواه البيهقي، وجاء عن عليٍّ وزيد عند البيهقي. والمراد بالحديث: لا يزوَّج امرأة لا بولاية ولا وكالة.
والنهي للتحريم؛ فلو عقد لم ينعقد، والنكاح باطلٌ إذا كان المُحْرِم أي طرف، حتى لو كان الزوجان والولي مُحِلَّيْن.
هل يحلُّ عقد النكاح بعد التحلُّل الأوَّل؟
رواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام أنه يحلُّ؛ لأنه بعد التحلُّل الأوَّل لا يُطلَق عليه أنه مُحْرِم، لكن لو وقع لصار له مخرجًا من رأي شيخ الإسلام، لما فيه من المشقَّة. ولو عقد حالٌّ الإحرامَ ثم تزوَّج هو حلالٌ؛ فهذا وطءُ شبهةٍ؛ لابدَّ له من عقدٍ جديد والأولاد لهما. ولا فديةَ على مَنْ عقد النكاح.
وتصحُّ الرجعة؛ لأنها استدامةٌ لا ابتداء، مثل الطِّيب قبل الإحرام.
الأظهر تحريم الخِطْبة خلافًا لمن كرهها، وقوله مخالفٌ لظاهر النص، والقول بالتحريم مذهب ابن عقيل وشيخ الإسلام.
ثامنًا الجِماع:
لا خلاف أنه لا يُفسد الحج من المحظورات إلا الجماع، ولا خلاف أنه إذا جامع المُحْرِم قبل عرفات فإن حجه يفسد، وعليه إتمامه والقضاء والهَدْي، والهَدْيُ عند الجمهور بَدَنَة.
إن كان جماعه بعد عرفة قبل العقبة والإفاضة؛ فحجُّه فاسدٌ عند الجمهور.
إذا كان بعد العقبة قبل الإفاضة؛ فحجُّه صحيحٌ عند الجميع، لكن اختلفوا في الفدية.
اتفق العلماء على أن القُبْلَة واللَّمس والمفاخَذَة حرامٌ، لكن اختلفوا: هل عليه فدية أم لا؟
الحج الفاسد بجماعٍ يجب قضاؤه على الفور عامًا قابلاً لقضاء الصحابة، خلافًا لمَنْ قال: هو على التراخي.
الحكم على مَنْ جامع في الحج جاء في آثارٍ عن الصحابة، وليس منها شيءٌ مرفوعٌ صحيحٌ إلا ما جاء عند أبي داود في المراسيل والبيهقي، وهو منقطعٌ لا يصحُّ.(/12)
أما الصحابة: فقد روى مالكٌ بلاغًا عن عمر وعلي وأبي هريرة، وهو منقطعٌ أيضًا، وجاء عن ابن عباس في "الموطأ" وعند البيهقي، وعن عبدالله بن عمرو عند البيهقي وصحَّحه البيهقي.
إذا جامع مرارًا كفاه هَدْيٌ واحدٌ، وإن كفَّر لزِمَتْه كفَّارةٌ أخرى، وإذا جامع ناسيًا؛ فإنه عند الشافعي معذورٌ.
والجماع يحصل بإيلاجٍ في قُبُلٍ أو دُبُرٍ، وله حالاتٌ:
- قبل التحلُّل الأوَّل، ويكون برمي جمرة العقبة وحدها عند كثير من العلماء، وقيل مع الرَّمي حلقٌ أو تقصيرٌ، فمن جامع قبل التحلُّل الأوَّل فعليه خمسة أمور: الإثم- فساد النسك- وجوب المضي فيه- وجوب القضاء- الفدية؛ وهي بَدَنَةٌ تُذبح في القضاء.
إفساد النسك هو رأي الصحابة، ووجوب المُضِيِّ فيه صحَّ عن عمر - رضي الله عنه.
- إذا جامع بعد التحلُّل الأوَّل؛ يجب عليه أن يخلع ثيابه ويُحْرِم ليطوف الإفاضة محرمًا، وعليه فديةٌ، وهي شاةٌ.
أما المباشرة دون الفرج ففيها حالتان:
- إذا أنزل؛ فإنَّ حجَّه لا يفسد عند الجمهور، وقال مالكٌ بفساده.
- إذا لم ينزل. قال ابن قدامة: "لا نعلم أحدًا قال بفساد حجِّه".
والعادة السرية فيها الإثم، ولا فسادَ ولا فدية.
12- أمور ليست من المحظورات:
- إخراجُ الدم، وخروجه من الأسنان وغيرها.
- الترفُّهُ بالأكل والشرب وكثرة الاغتسال.
- تبديلُ ملابس الإحرام.
- شمُّ الطِّيب عمدًا أو بغير عمد.
- استعمالُ الصابون المطيِّب.
- تغطيةُ الوجه.
- كدُّ الشعر.
- حكُّ الرأس واللحية.
- إزالةُ الجِلد الجاف.
13- أنواع الأنساك:
تمتُّعٌ، قِرانٌ، إفرادٌ
دليلها؛ عن عائشة - رضي الله عنها -: "حججنا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمنَّا من أَهَلَّ بحجٍّ ومنَّا من أَهَلَّ بعمرة، ومنَّا مَنْ أَضهََّ بحجٍّ وعمرةٍ، وأَهَلَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – بالحجِّ"؛ رواه البخاري ومسلم.
قولها: "بالحجِّ" من حيث الأفعال، وإلا فهو قارِنٌ.
صفة التمتُّع:(/13)
أن يُحْرِم بعمرة في أشهر الحَجِّ ويفرغ منها، ثم يُحْرِم بالحج من عامه.
على الأُفُقِيِّ دمٌ للمتعة والقِران، وعكسه حاضرو المسجد الحرام، واختلفوا فيهم، أقربها أهل مكة وأهل الحرم، ولو امتدت بيوت مكة؛ كما وراء التنعيم، الدم الواجب عليهم هو شاة أو غيرها، يسمَّى هديًا، وله شروطٌ:
1- أن يكون من بهيمة الأنعام.
2- بلوغ السنِّ المعتبَر.
3- السلامة من العيوب، والهدي كالأضحية؛ لأن العيب لا يكون قربةً.
4- أن يكون في زمن الذبح فيه خلافٌ:
- لا يكون إلا في وقت الأضاحي، وهو يوم العيد وثلاثة أيام بعده.
- يجوز تقديم الذَّبح بعد الإحرام، فيذبح ولو قبل الخروج إلى مِنى؛ لأن الصيام يجوز أن يكون قبل الخروج إلى الحج مع أنه بدلٌ، فإذا جاز في البدل جاز في الأصل. هذا مشهورٌ عند الشافعية، والصحيح الأوَّل؛ لحديث: ((لا أُحِلُّ حتى أنحر))؛ رواه البخاري ومسلم.
5- أن يكون في مكان الهَدْي، وهو الحرم.
* إذا أتى بعمرة وسافر، هل عليه دم التمتُّع أم انقطع تمتَّعه؟
- إن السفر إلى بلده أو غيره لا يسقط الدم.
- إن السفر مسافة قصر يسقطه، سواء لبلده أم لغيره.
- إن سافر إلى أهله فإنه يسقط عنه الهَدْي، وإن كان لغير أهله فلا يسقط، وهذا مرويٌّ عن عمر وابنه - رضي الله عنهما.
14- المواقيت
له مواقيتٌ زمانيَّة ومكانيَّة:
الزمانية: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]؛ شوال، ذو القعدة، عشرٌ من ذي الحجة.
المكانية: خمسة مواقيت، أربعٌ مُجمعٌ عليها عن النبيِّ - عليه الصَّلاة والسَّلام -، والمختلَف فيه هو ذات عِرْق.
والصواب أنها بتوقيت عمر واجتهاده؛ قول مالك والشافعي، ورجَّحه النووي، وجاء عند البخاري أنَّ عمر وقَّتها.
مسائل في المواقيت:
1- مَنْ كان مسكنه دونها؛ فميقاته مكانه.(/14)
2- أهل مكة يُهِلُّون منها، هذا في الحج بلا خلاف، أما العمرة: فالجمهور على أنه لا يُهَلُّ من مكة؛ بل يخرج إلى الحِلِّ. هذا قول الأئمة الأربعة، وحكاه بعضهم إجماعًا.
2- مَنْ مرَّ على مكانٍ لا ميقات فيه يُحْرِم بالمحاذاة بلا خلاف.
3- عند الجمهور أنَّ مَنْ جاوز الميقات ولم يُحْرِم: أن عليه دمًا إذا كان مُريدًا للنُّسُك. وأظهر الأقوال: أنه إن رجع فإن الدم يسقط عنه، وأنه إن أحرم بعد الميقات ثم رجع للميقات؛ فإن الدم يبقى عليه، أما ما جاء في "الموطأ" أن ابن عمر تجاوز ذا الحُلَيْفَة وأحرم من الفرع؛ فالجواب: أنَّ نيَّته طرأت بعد الميقات.
4- إذا مرَّ على ميقاتٍ وهو لا يريد النُّسُك: يجوز الدخول من غير إحرام؛ قول الشافعية، ورواية عن الأئمة الثلاثة، دليلهم قوله: ((مِمَّنْ أَرَادَ))، وأن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - دخل عام الفتح وعلى رأسه المِغْفَر.
أمَّا مَنْ قال من المالكية أن هذا من خصائص الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهذا لا تنهض به حجَّة.
5- إذا أحرم من مكانٍ قبل الميقات: أكثر العلماء على الجواز، وحكاه بعضهم إجماعًا، وخالف داود فقال: "لا يجوز، والإجماع منعقدٌ قبله".
6- اختلفوا؛ أيهما أفضل: من الميقات أو قبله؟ والميقات أفضل؛ لفعل النبيِّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وفعل خلفاءه، مع فضل مسجده.
7- الإحرام قبل أشهر الحجِّ بالحج لا ينعقد؛ هذا مذهب الشافعي وأحمد. قال ابن عباس: "لا يُحْرِم بالحجِّ إلا في أَشْهُرِه". واتفقوا على أن الأعمال لا تجوز - بلا خلاف - قبل أَشْهُرِه.
8- أَشْهُرُ الحجِّ معها عشرٌ من ذي الحجة عند أحمد، لكن الله قال: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وأقلُّ الجمع ثلاثة؛ فيكون كل ذي الحجة داخلاً فيها، وهذا قول مالك، وهو الصواب.
15- الإحرام:
نيَّة الدخول في النُّسُك؛ لأنه يُحَرِّم عليه ما كان حلالاً، يقال: أحرم وأشتى إذا دخل في الشتاء.
مسائله:(/15)
1- ينعقد بالنية مع التلبية أو سَوْق الهَدْي؛ قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد وبعض المالكية. قاله الشيخ.
2- يُسَنُّ الاغتسال له لكلِّ مريدٍ للنُّسُك، حتى الحائض والنفساء؛ لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمر أسماء بنت عُمَيْس أن تغتسل لمَّا ولدت؛ رواه مسلم، وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض، وجاء أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تجرَّد لإهلاله واغتسل.
ولم ينقل عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه إلا الغُسْل للإحرام، عند دخول مكة، قبل الذهاب لعرفة. وما سوى ذلك لا أصل له ولا استحبَّه الجمهور، وإن كان قد ذكره طائفةٌ من متأخِّري أصحاب أحمد؛ بل هو بدعةٌ، إلاَّ أن يكون هناك سببٌ مثل الرائحة، فيغتسل.
3- على المذهب وعند الشافعية: يتيمَّم إذا لم يجد الماء، والصواب لا، فلا يُشْرَع، وهو مذهب الحنفية والمالكية، ورجَّحه ابن قدامة؛ لأنه غُسْلٌ غير واجب، فلم يجب عند عدمه التيمُّم كغسل الجمعة، والتيمُّم لا يحصل به التنظيف.
4- يُسَنُّ له التنظُّف وتقليم الأظافر وإزالة العانة والإبط إن احتاج، لكنه ليس من خصائص الإحرام، ولم يعرف عن الصحابة، وكذا لمصلِّي الجمعة.
5- يُسَنُّ التطيُّب، لكنه في البدن والشعر وليس في ثياب الإحرام. والطِّيب في البدن مباحٌ، فعله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يأمر به.
6- التجرُّد من المَخِيط واجبٌ لا شرط، فلو أحرم وعليه ثيابٌ صحَّ باتفاقٍ، وعليه أن ينزع اللباس المحظور.
7- أن يُحْرِمَ في إزارٍ ورداءٍ أبيضَيْن نظيفَيْن، وله أن يُحْرِمَ بما شاء من الأنواع؛ من الصوف والكتَّان، والألوان.
8- أن يُحْرِمَ بعد أن يصلِّي ركعتين عند الجمهور، وعند شيخ الإسلام لا؛ إذ ليس له صلاةٌ تخصُّه، لكنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحرم ولبَّى بعد الصلاة. واختلفوا: هل بعد الصلاة، أو لمَّا ركب، أو لمَّا علا على البيداء.(/16)
9- عند الجمهور يستحبُّ أن يقول: اللهم إني أريد النُّسُك الفلاني، ويقولون: هذا نطقٌ بالنيَّة معفوٌّ عنه. والصواب عند شيخ الإسلام: أنه لا يستحبُّ شيءٌ من ذلك، ولا كان النبيُّ ولا أحدٌ من أصحابه يتلفَّظ بالنُّسُك؛ بل لمَّا سألته ضُباعَة بنت الزُّبير أخبرها.
10- الاشتراط عند المذهب سنَّة. عند شيخ الإسلام: يستحبُّ لمن كان خائفًا وإلا فلا. فائدته: إذا عاقه عائقٌ أو حُصِرَ؛ فإنه يُحِلُّ ولا دمَ عليه.
11- التَّلبية: السنَّة فيها ملازمة تلبية الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإن زاد عليها لا بأس؛ لفعل الصحابة ولإقرار الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام. كان أنس يقول: "لبَّيْك حقًّا حقًّا، تعبُّدًا ورِقًّا"، وكان عمر يقول: "لبيك مرغوبًا ومرهوبًا، إليك ذا النعماء والفضل الحسن"؛ رواه أبو بكر.
12- معناها من أَلَبَّ إذا أقام؛ أي: أنا مقيمٌ على طاعتك، والتثنية هنا للتأكيد.
13- يُشْرَع الإكثار منها وعدم قطعها، ورفع الصوت بها للرجال، وهذا لا ينافي: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} [الأعراف: 55]؛ لحديث السَّائب بن خلاَّد، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية))؛ رواه الترمذي.
14- يقطعها المعتمر إذا شرع في طواف العمرة، والحاج إذا رمى الجمار يوم العقبة.
15- تجوز بغير العربية.
16- يدعو بعدها ومعها، ويصلي على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
17- تخفيها المرأة، تُسْمِعُ نفسها.
18- لا تُكْرَه التلبية لحلال. قاله في "الرَّوْض"، وهو مذهب الحسن وإبراهيم وأصحاب الرأي.
لبَّى بمعنى: أجاب، معناها: اتجاهي، قصدي إليك، مقيمٌ على طاعتك.
اختلفوا في حكمها على أربعة مذاهب، قال الحافظ: يمكن توصيلها إلى عشرة، أرجحها أنه سنَّة.
رواية أنسٍ في التلبية عند البخاري: أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حمد الله وسبَّح وكبَّر، ثم أَهَلَّ.(/17)
- الحوادث ليست من أسباب الاشتراط؛ لأنها قليلة بالنسبة لكثرة الحجاج والسيارات، ومن الخوف: النفاس والحيض على قولٍ.
- حديث جابر: "كنَّا نصرخ بالتَّلبية صراخًا"؛ في مسلم، و: ((لا يسمع مدى صوته حَجَرٌ ولا مَدَرٌ ولا شَجَرٌ إلاَّ شهد له يوم القيامة"؛ رواه الترمذي.
- من ذهب لجدَّة وبعدها أراد الحج أو العمرة: إن كان الباعث له على السفر النُّسُك فيُحْرِم من الميقات، وإن كانت النية مشتركَة فيُحْرِم من جدَّة، وهو الأظهر.
- نقل ابن المنذر الإجماعَ على استحباب الاغتسال.
- من اعْتَمَر عن غيره أو حجَّ؛ حصل له أجرٌ؛ لأنه أحْسَنَ، والدعاء أجرُه للفاعل.
- لو اشترط خشية الحوادث لا يُنكر عليه، أما الاشتراط خوف الحيض فهذا مستمرٌ لا عارضٌ، وهو عند الصحابة، ولا يُعرف عنهم.
16- دخول مكة:
- الأفضل أن يدخلها أوَّل النهار؛ لفعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ابن عمر في البخاري ومسلم.
- من أعلاها من الحَجُون، واختلفوا: هل هي سنَّةٌ مقصودةٌ أم لا.
- الدخول من باب بني شيبة، وهل هو مقصود أم لا.
- إذا رأى البيت رفع يديه ودعا، لكنَّ الأحاديث فيها نظرٌ، وأكثرها ضعيفٌ، ولم يذكر الواصفون لحجِّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال شيئًا، والسنَّة أن يقول عند دخول الحرم ما يقول في أيِّ مسجد.
- ويتجه للطواف مباشرةً، إلاَّ إذا صادف صلاةَ فرضٍ أو جِنازة أو نَفْلٍ لا يتمكن معها من الطواف.
- الطواف: يكون مضطبعًا من أول الطَّواف إلى آخِره في القدوم فقط.
- لا يبدأ بتحية المسجد إلاَّ إذا أراد الجلوس، لكن لو أراد الطواف فإنه يطوف بلا تحية.
- يجعل الحجر الأسود عن يساره، يحاذيه بكل جسده، ويخطئ من يسميه "الحجر الأسعد"؛ لأنه اسم تفضيلٍ، فيكون أسعد السعداء، وقد نزل من الجنة أشد بياضًا من اللبن؛ رواه أحمد والترمذي وقال: "حسنٌ صحيح".(/18)
- الأفضل أن يقابل الحجر بكل بدنه إن تيسَّر؛ فإن لم يتيسر؛ فيجوز ببعض بدنه، كما اختاره شيخ الإسلام.
- يستلم الحجر الأسود في أوَّله، أما حديث: ((إن الحجر الأسود يمين الله))؛ فهو لا يصحُّ مرفوعًا؛ بل هو من قول ابن عباس، أخرجه عبدالرزاق، وعند ابن ماجه عن أبي هريرة. ويقبِّل الحجرَ، فإن لم؛ فإنه يشير إليه ويكبِّر.
- الإشارة في بدايته باليد اليمنى، ولا يكبِّر كالصلاة.
- الطواف سبعة أشواط كاملة، لا تقل ولا تزيد، ولا يدخل في الحِجْر أو الحطيم.
- يَرْمُل في الأشواط في القدوم، وهو مقاربة الخطا مع السرعة، وليس هو هزُّ الكتفين. والرَّمَل في كلِّ الأشواط بدعةٌ. وإن لم يستطع في بعضها واستطاع في الخامسة؛ فإنه لا يَرْمُل؛ لأنه سنَّةٌ فات محلُّها.
- البُعْد مع الرَّمَل أوْلى من القرب بدونه.
- يستلم الحجر والرُّكْن كلَّ مرةٍ، إلا آخِر شوطٍ لا يستلم الحجر الأسود؛ لأنه في البداية لا النهاية. وبناءً عليه؛ فإنه لا يكبِّر. الركن اليماني يُستلَم؛ فإن لم يستطع فإنه لا يشير إليه، ولا يقول أيَّ ذِكْرٍ إذا استلمه.
- يقول بين الرُّكنَيْن: ((ربَّنا آتنا ...))؛ عن عبدالله بن السائب عند أحمد وعبدالرزاق وأبي داود. وجاء عند ابن ماجه: ((اللهم إني أسألك العفو والعافية))، لكنه ضعيفٌ. وله أن يدعو بما شاء أو يقرأ أو يسبِّح.
- إذا شكَّ في العدد بنى على الأقل، لكن إذا انتهى ثم شكَّ فإنَّه لا يؤثِّر.
- الاضطباع سنَّةٌ، خلافًا لمالك؛ حيث يقول: ليس بسنَّة.
- ذهب الجمهور إلى اشتراط الطهارة للطواف من الحَدَث والخَبَث وستر العورة، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد. استدلُّوا بحديث عائشة - رضي الله عنها - في وضوء النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.(/19)
فإن قيل: هو فعلٌ؛ الجوابُ: إنه لازمٌ لقوله: ((خذوا عني))، وأنه تقرَّر في الأصول أنَّ فعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا كان لبيان نصٍّ من كتاب الله فهو على اللزوم، ولذلك أجمعوا على قطع يد السارق من الكوع؛ لأن النبي قطعها من الكوع، وهذا بيانٌ لقوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. واستدلُّوا بقوله لعائشة: ((افعلي ما يفعل الحاج)).
- طواف الوداع فيه قولان:
1- واجبٌ، وهذا قول الجمهور، وهو أظهر، وعليه دمٌ بتَرْكه.
2- سنَّةٌ. قول مالك؛ لأنه رخَّص بتَرْكه. لكنَّ الدمَ يحتاج إلى دليل.
3- طاف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ماشيًا في القدوم وراكبًا في الإفاضة، هذا الجمع بين الروايات.
- صلاة ركعتين خلف المقام:
1- واجبتان. هذا وجهٌ للشافعي وقولُ مالك.
2- أنهما سنَّةٌ؛ قول الجمهور.
- لو صلَّى في أيِّ موضعٍ صحَّ ذلك، لا يشترط عند الجمهور خلف المقام.
- رَخَّصَ في الصلاة بعد الطواف في كلِّ وقت جمهورُ الصحابة ومَنْ بعدهم؛ نقله الحافظ عن ابن المنذر.
- إذا أُقيمت الصلاة يقف ويصلِّي عند الأئمة الأربعة، وهذا عند بعضهم للصلاة المكتوبة، ويكمل من حين وقف، وإن قطعه لغير فريضة يعيد الشوط.
- الطواف أفضل للغريب، والصلاة أفضل لأهل مكة. هذا قول ابن عباس.
- كُرِهَ الجَمْع بين الأسباع في الطواف من غير فصل بركعتين، وهذا قول ابن عمر وأكثر أهل العلم؛ لكن جاء عن عائشة من غير كراهة.
- المرأة حُكْمُ سَتْرِها في الطواف كالصلاة.
- إذا اضطرَّت المرأة للإفاضة؛ فإنها تتحفَّظ وتطوف.
- الدعاء الجماعي لم يُنقَل عن السلف، لكن إذا كان بصوتٍ خافتٍ لتعليم مَنْ معه؛ فأرجو ألاَّ يكون به بأسٌ، وأخذ الأجرة عليه يجوز؛ لأنه من جنس أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
- الذين يطوفون في السطح ويخرجون إلى المسعى، هؤلاء طافوا خارج البيت والمسجد، لكن للضرورة يُجزئ عنهم.
أحكام السعي:(/20)
- اختلفوا فيه، والصواب قول الجمهور أنه ركنٌ، لا يجبر تَرْكَهُ دمٌ.
- لا تُشترط له الطهارة من الحَدَث ولا الخَبَث ولا ستر العورة؛ مذهب الأربعة والجمهور.
- الترتيب شرطٌ عند الجمهور وخالف أبو حنيفة. نُسِبَ لابن حزم أنه يقول: الذهاب شوطٌ مع الرجوع، فيكون سعى أربع عشر، وهذا خطأٌ عليه. وابن حزم يرى الرَّمَل في الأشواط الثلاثة كما في "المحلَّى". وسأل ابن القيم شيخه عن هذا فقال: "ابن حزم لم يَحُج".
- هل يصحُّ السعي قبل الطواف؟
* الجمهور ومعهم الأربعة، ونقل بعضهم الإجماع عليه: أنه لا يصحُّ السعي إلا بعد الطواف.
* عن عطاء وبعض أهل الحديث: يجوز السعي قبل الطواف؛ لحديث أبي داود، لكن قال عنه ابن القيِّم: "ليس بمحفوظ".
- قول الجمهور: أنه لا يصحُّ لو ترك منه خطوة.
- لو سعى أو طاف راكبًا صحَّ، خلافًا لمن قال إنه لا يصحُّ إلا لضرورة.
- عند الجمهور: لا رَمَل للنساء ولا سعيَ بين العَلَمَيْن، وخالف بعضهم، وهو وجهٌ عند الشافعية؛ أنه لا بأس بشروط.
- إذا صعد على الصفا يستقبل البيت ويكبِّر ثلاثًا ويهلِّل؛ كما في حديث جابرٍ - رضي الله عنه.
- حدُّ السعي إلى ممرِّ العربات.
- يشترط أن يتقدَّمه طوافٌ، أما حديث: "سعيتُ قبل أن أطوف"؛ فهذا في الحجِّ، وهذا قول عطاء، وبعضهم أجازه مع الجهل والنسيان.
- الموالاة في السعي والطواف شرطٌ، وهذا أصحُّ، لكن لو حصل لأحدٍ حرجٌ فلا بأس؛ لأنه جاء عن بعض السلف.
- إذا انتهى قَصَر إن كان متمتَّعًا، أما المفرد والقَارِن؛ فلا يُحِلاَّن إلا يوم النحر.
فائدة: كان الصحابة إذا صعدوا على الثنية ورأوا الكعبة رفعوا أيديهم بالدعاء. والتسمية عند دخول المسجد فيها انقطاع. وإذا رأى البيت يدعو بما روى البيهقي عن سعيد عن عمر، أنه رآه يقول: "اللهم أنت السلام..."؛ سماعه منه ثابتٌ، كما هو الصحيح عند المحدِّثين.(/21)
وإن شاء رفع يديه كما قال ابن عباس: "تُرْفَع الأيدي في سبعة مواطن ..."، ومنها: "...إذا رأى البيت".
السنة التكبير مرةً في الطواف والبسملة عن ابن عمر، والتكبير حتى في آخِر شوطٍ؛ لحديث جابر عند أحمد، وفيه ابن لهيعة.
إذا أقيمت الفريضة لا تجزئ عن ركعتي الطواف.
وتكبيرات الطواف ثماني تكبيراتٍ قبله وبعده، وأهل مكة يرملون، والتكبير عند كل شوطٍ سنَّة، لو مضى لا شيء عليه.
"مَنْ طاف بالبيت خمسين مرَّة؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"؛ رواه الترمذي، رَفْعُهُ ضعيفٌ، صحَّحه البخاري موقوفًا.
وجاء عن ابن عمر مرفوعًا: ((مَنْ طاف بالبيت أسبوعًا؛ كأنما أعتق رقبةً، ولم يَخْطُ خطوةً إلا رُفِعَ له درجة وحُطَّتْ عنه خطيئة)).
17- صفة الحج:
- يُحْرِمُ ضحى اليوم الثامن؛ يوم التَّرْوِيَة.
- الصواب أنه يُحْرِمُ من مكانه الذي هو فيه، لا من تحت الميزاب ولا من عند الكعبة.
- لو أحرم من الحِلِّ أجزأ، لكنه لا ينبغي.
- المبيت بمِنى ليلة 9 سنَّة/ ويبقى يوم 8، فيها يصلِّي كلَّ صلاةٍ وحدها مقصورةً بلا جَمْع.
- إذا طلعت الشمس يوم 9 يذهب إلى عرفة، وينزل في نَمِرَة، فإذا زالت الشمس ركب إلى عرفة ونزل بها، هكذا فعل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخطب الناس، وقرر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم – في خطبته تلك:
1- أن ربا الجاهلية موضوعٌ.
2- أوصى بالمرأة.
3- ذكر حرمة الدماء والأموال والأعراض.
- ثم أذن بلال وأقام وصلى الظهر، ثم أقام وصلى العصر؛ فدل على أنها ليست صلاة جمعة؛ لأنه قدَّم الخطبة على الأذان، وجمع بين الظهر والعصر؛ فدل على أن المسافر لا يصلِّي الجمعة.
- ثم وقف بعد الصلاة موقف عرفة للدعاء، مستقبلاً القبلة، وله أن يجلس أو يركب؛ ينظر الأرفق به، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان راكبًا.
- وينبغي الصلاة مع الإمام الأعظم وسماع الخطبة ولو عن طريق الإذاعة، فإن لم يستمعوا يُشْرَع لهم أن يخطب لهم أحدهم؛ يعلمهم.(/22)
- لو لم يجمع فلا بأس، لكنه السنَّة.
- صعود الجبل تعبُّدًا بدعة؛ أما للتفرُّج فهو جائزٌ إلا لقدوة فلا، إلا إذا كان للإرشاد.
- ويُكثر من الدعاء، وينوِّع بين الذكر والدعاء، ويرتاح قليلاً لئلا يمل، والإنسان طبيب نفسه في هذا المكان، قد يكون أنفع لقلبه توزيع الصدقات، لكن يغتنم آخِر النهار بالدعاء.
- لو دعا شخصٌ وأمَّن معه عددٌ؛ إذًا كان أنفع لقلوبهم، لا بأس ولا مانع منه، لكن الأفضل أن كلَّ شخصٍ يدعو لنفسه.
- من أُغميَ عليه قبل عرفة ووقف به، ثم انصرفوا به وهو مغمى عليه؛ على المذهب لا يصح وقوفه، والصواب أنه يصحُّ.
- ينتهي وقت الوقوف بطلوع فجر يوم النَّحْر.
- قول الجمهور أن أهل مكة يتمُّون الصلاة في المشاعر كلِّها، خلافًا لمالك.
- إذا صلُّوا دخل وقت النهي بلا نزاع.
- السنة في عرفة الفطر، وذهب بعض العلماء إلى الوجوب.
- ثم إذا غربت الشمس ذهب إلى مزدلِفة بسكينةٍ ووقار، ولا يصلي إلا بها، إلا إذا خشيَ خروج وقت العشاء.
- إذا وصلوها أذَّنوا وصلوا المغرب، ثم حطوا رحالهم، ثم صلوا العشاء بإقامتَيْن؛ فدلَّ على جواز التفريق بين المجموعتين، وأن الإنسان يصلِّي متى ما وصل، إما جمعَ تقديمٍ أو تأخيرٍ. إن صلى قبل مزدلفة أجزأته، وتَرْكُ السنَّة عند الأربعة وعند ابن حزم لا يصح.
- ثم يبدأ وقت الوَتْر لمن أراد أن يُوتِر.
- ثم ينام ليتقوَّى على أعمال يوم النَّحر؛ إذ هو يوم الحجِّ الأكبر؛ ففيه أكثر أعمال الحج. ولا يلزم من المبيت النوم؛ بل المراد المكث، مثل الوقوف بعرفة؛ لا يلزم أن يكون على القدمين.
- الضَّعَفة ومن معهم له أن يدفع معهم آخر الليل بعد مغيب القمر.
- اختلفوا في وتره قيل أوتر ولم يحيي الليل وقيل بل صلى كما كان قد اعتاد.
- يصلي الصبح في أوَّل وقتها، ثم يقف يدعو حتى يسفر جدًّا، ثم يذهب إلى مِنى.(/23)
- مَنْ كان مع الضَّعَفَة وهو قويٌّ؛ فإنه لا يرمي حتى تطلع الشمس، أما حديث ابن عباس: ((لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس))؛ فهذا أنكره البخاري وقال: "مضطربٌ"، وفيه شذوذٌ عند أبي داود. وإذا رمى حتى الضعيف جمرةَ العقبة قبل منتصف الليل ليلة النَّحر - لم يصح إجماعًا.
الذهاب إلى مِنى فجر يوم النَّحر:
1- يَلْقُطُ الحصى من أي مكان لرمي جمرة العقبة. والجمرة: هي الحصاة، أو من التجمير: وهو الاجتماع.
2- الحكمة منه طاعة الله والاقتداء بإبراهيم ومحمد - عليهما الصلاة والسلام. روى أبو داود والترمذي عن عائشة مرفوعًا: ((إنما جعل الطواف بالبيت...)).
3- هي سبعٌ لكلِّ جمرة، من ترك واحدة كأنما ترك الجميع، أما مَنْ رخَّص في أقل؛ فهذا مخالِفٌ، وحديث سعد: "كنا نرمي مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعضنا بخمسٍ وبعضنا بستٍّ، ولم يعب بعضنا على بعض"؛ فهذا رواه البيهقي، وهو منقطعٌ؛ مجاهدٌ لم يسمع من سعد.
4- الحصاة تكون بقدر حبة الحمُّص أو الفول.
5- أفضل موقفٍ لرمي العقبة: أن تكون مِنى عن يمينه ومكة عن يساره، وكلٌّ جائزٌ.
6- الرمي ليلاً جائزٌ؛ قول مالك والشافعي، ورأي ابن عمر. روى أبو بكر في "مصنفه" عن عبدالرحمن بن سابط: "كان أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرمون ليلاً"؛ وسنده صحيحٌ.
- وإذا وكلت المرأة بالرمي وهي قادرةٌ؛ فإن كانت في الحج فعليها أن تعيد وترمي بنفسها. أما مَن احتجَّ بالرمي عن النساء مطلقًا بحديث جابر عند ابن ماجه: "حججنا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - معنا النساء والصبيان، فلبَّيْنا عن الصبيان ورمينا عنهم"؛ ففيه أشعث بن سوَّار، متروكٌ، لكن العمل عليه لكن بشروطه، وهو أنها لا توكِّل إلا متلبِّسًا بنُسُكٍ، عند الأربعة.
7- لا بأس بالرمي عنه وعمَّن وكله في موقفٍ واحد.(/24)
8- لا يجوز الرمي أيام التشريق إلا بعد الزوال؛ لفعل النبي، وتأخيره الظهر في شدَّة الحرِّ. ومَنْ أجاز إنما أجاز الرمي يوم النَّفْر، وهذا مذهب أبي حنيفة وإسحاق.
9- يجب الترتيب في رمي الجمار؛ يبدأ بالصغرى، ثم يسهل قليلاً عن اليمين ويستقبل القبلة ويدعو، ثم اليسرى ويقف عن يسارها، ثم يقف ويدعو طويلاً. إن لم يرتِّب لا يجزئه عند الجمهور، لكن يسقط بالجهل والنسيان في كلِّ ترتيبٍ في الشريعة.
10- المطلوب الرمي لا وضعها؛ فلابدَّ من وقوعها في نفس المرمى، ولو وقعت في مجمع الحصى ثم تدحرجت جاز، خلافًا لمن منع.
11- لو رمى بحصاةٍ رُمي بها أجزأته.
12- الحلق يوم النحر أوٍْلى وأفضل من التقصير، ويحلق بيده أو يكلف أحدًا بالحلق.
13- فإذا رمى الإنسان وحلق؛ ((فقد حلَّ له كلَّ شيءٍ إلا النساء))؛ رواه أحمد وابن خزيمة عن عائشة. وقال بعض العلماء: إنه يحلُّ بمجرد الرمي؛ هذا رواية عن أحمد وداود: ((إذا رميتم فقد حلَّ لكم كلَّ شيءٍ))؛ وضعفه أبو داود.
14- لا يشترط أن يطوف طواف الإفاضة يوم النَّحْر؛ بل له تأخيره إلى يوم الوداع، لكن ينوي الأكبر ويُدخل فيه الوداع.
وقد نقل النووي الإجماعَ على أن يوم النحر لا يُشترط فيه الإفاضة لمن أراد أن يُحِلَّ، وقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا أُحِلُّ حتى أَنْحَرَ)). وخالف الألباني في هذا؛ فيرى أنه إن لم يَطُفْ يوم النحر يعود حُرُمًا كما كان؛ لحديثٍ جاء عند أبي داود، وهو معلولٌ، ضعَّفه غير واحد؛ منهم ابن حزم، وقال البيهقي: "لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال به"؛ ((فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حُرُمًا كحرمتكم قبل أن ترموا حتى تطوفوا به))؛ رواه أحمد، وهو شاذٌّ.(/25)
15- ثم يبقى في مِنى، يصلي الظهر في وقتها قَصْرًا والعصر كذلك، وكل جماعة وحدها بأذانٍ وإقامة، لا يجب على كل مصلي أن يذهب لأي جماعة إلا إذا كان منفردًا. ويبقون في مِنى، وتسمى هذه أيام التشريق؛ لأنها يشرق فيها اللحم، وهي أيام أكل وشرب، ولا يحلُّ صومها إلا لمن لم يَجِدِ الهَدْي.
16- ويبيت بمِنى وجوبًا، ويكفيه أكثر الليل.
17- مَنْ لم يجد مكانًا فليذهب لأي محلٍّ؛ لأن الواجب يسقط مع العجز، ولا واجب إلاَّ مع القدرة، وهذا غير قادر، والرصيف لا يليق بالبشر، وفيه كشفُ عوراتٍ وتضيق الأمكنة وتعريضٌ للخطر؛ فلهذا يسقط عنهم المبيت، ولهم الذهاب لأيِّ محلٍّ، ولا يُشترط اتصال الخيام، ولا يجب عليهم الاستئجار.
18- يرمي الجمار كل يوم: يأتي للصغرى ويجعلها عن يساره ويستقبل القبلة ويرمي، ثم يتقدم ويقف طويلاً للدعاء، ثم الوسطى، ثم العقبة، ولا دعاء بعدها.
19- مَنْ أراد التعجُّل يوم 12 فله ذلك، لكن يخرج من مِنى قبل الغروب، ومَنْ أدركه المساء فيلزمه البقاء، وهذا رأي عمر عند البيهقي ومالك. لكنَّ مَنْ حبسه السير فغربت عليه الشمس وهو في مِنى - جاز له أن يغادرها.
20- طواف الوداع يسقط عن الحائض، أما المريض فيُطاف به أو يوكِّل أحدًا يطوف عنه. ولابدَّ أن يكون آخِر أعمال الحج، ومن الخطأ أداء طواف الوداع ثم الذهاب لرمي الجمار.
وانتظار الرفقة - ولو طال - لا بأس به، ولا يقطع الوداع، لكن لو اشترى شيئًا للتجارة أو نوى الإقامة انقطع الوداع، ولو اشترى لأهله شيئًا أو لنفسه فلا يقطع الوداع، وإذا كان الوداع والإفاضة ولو كان بعده سعي الحج آخِر يومٍ - يجزئ عن الوداع.
21- يقف عند الملتزَم ويلصق وجهه وصدره وذراعيه، وكفيه مبسوطتين. صحَّ عن ابن عباس عند عبدالرزاق، وهذا عند القدوم والوداع، لا فرق عند الصحابة؛ ذكره شيخ الإسلام في مَنْسَكِه.
مسائل متفرقة(/26)
* قول الجمهور تحريم المرور بين يدي الإمام والمنفرد في المسجد الحرام، وهو قول ابن عمر وأنس، ورجَّحه ابن عثيمين.
ذهب بعضهم إلى الجواز روايةً عن أحمد، ورجحه ابن باز - رحمه الله. والمنع أوْلى إلا إذا صلى في الطرقات أو عند الدَّرَج أو في المطاف.
* التكبير في عيد الأضحى للحجاج من بعد صلاة الظهر إلى عصر آخِر أيام التشريق، ولغير الحجاج من صلاة الفجر يوم 9 حتى عصر آخِر يوم من أيام التشريق، بعد كل فريضة، في المسجد أو غيره.
* التعريف بغير عرفة - الاجتماع المعروف في العصر في البلدان عصر يوم عرفة - رخَّص فيه ابن عباس وأحمد، وكرهه بعض السلف.
* من خصائص مكة المكرمة:
- أنها أفضل من المدينة عند الجمهور؛ لتفضيل الصلاة فيها، ووجود المشاعر ومقام إبراهيم وزمزم، وأنها لا يدخلها الدجَّال.
- ولا يقرب المسجد الحرام مشركٌ.
- لا ينفر صيدها ولا يقطع شجرها، وهذا على نوعَيْن: ما أنبته الآدمي؛ فلا بأس بقطعه. وما نبت بنفسه؛ فلا يجوز قطعه إلا الأخضر.
- أن مضاعفة الصلاة فيها لكل صلاة؛ أما باقي الحسنات فلم يَرِدْ فيها فضلٌ، أما السيئات فتعظم بالكيفية والجُرْم والكَمِّ.
- لا تلتقط ساقطتها ولقطتها؛ لأنها لا تملَّك.
- لا بأس بإقامة الحدِّ في الحرم والقصاص، والممنوع هو القتال.
- لا تشدُّ الرِّحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمسجد الحرام والمسجد الأقصى في القدس.
- لا بأس بإخراج تربتها وحجارتها منها بلا كراهة.
* ماء زمزم مباركٌ؛ ((طعام طُعْمٍ)) عند مسلم، ((وشفاء سقمٍ)) عند غيره، وجاء عند أحمد وابن ماجه عن جابر: ((ماء زمزم لما شُرِبَ له)).
- وهو شفاءٌ من أمراض معقََّدة عرفت عند الأطباء.
- ويُجْلَس عند شربه؛ لأن الجلوس له سنَّة، أما الوقوف فلسببٍ، ولم يَرِدْ استقبال القبلة.
- وجاء عند ابن ماجه بسندٍ ضعيف: ((أن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلَّعون من ماء زمزم)).(/27)
- وله أن يغتسل به ويتوضأ ويزيل النجاسة؛ أما قول العباس: "لا أحلها لمغتسلٍ"؛ فهذا إن صحَّ فليس بشرعٍ، إنما يَمنع باعتبار أنه الساقي.
- أما حمله؛ فقد جاء عند الترمذي: أن عائشة كانت تحمل معها ماء زمزم، وتُخبر أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يحمله.
- لا بأس أن يغسَّل به الميت.
* في مصنفات الحج: يجعلون زيارة المدينة وقبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في نهاية المناسك، وهي لا تعلُّق لها به، لكن لمَّا كان الناس يأتون من كل فجٍّ عميق، ويجعلون مجيئهم واحدًا - احتاج العلماء إلى ذِكْر أحكام وآداب المدينة وآداب الزيارة، ولا ارتباط.
أما أحاديث الزيارة جميعًا فهي ضعيفة: ((مَنْ حجَّ فلم يزرني ...))، ((مَنْ زارني وزار أبي في عامٍ واحدٍ؛ ضمنتُ له الجنة))؛ بعضهم قال موضوع.
أما شدُّ الرحال لزيارة قبره فلا يجوز: ((صلاة أربعين فرضًا في المدينة ...))، وليس هذا من الجفاء؛ بل من تعظيم الله، وألاَّ نعظِّم نبيه تعظيمًا منهيًّا عنه. وكُذِبَ على شيخ الإسلام أنه يحرِّم الزيارة؛ بل يحرِّم شدَّ الرحال لأيِّ قبرٍ.
* طواف الوداع هل هو للعمرة أم لا؟
نقل أبو عمر الإجماع على أنه من سنن الحج، وقال بوجوبه في العمرة بعضُ الحنفية. وبعضهم قال: يُشرع لكلِّ خارجٍ من مكة في الحج وجوبًا وفي العمرة استحبابًا.
* العمرة يُشرع فيها التَّكرار، ولا ميقات لها، وهي مشروعةٌ كلَّ وقتٍ، خلافًا لمن قال: كلٌّ سنَّة، أو إذا حمم الرأس.
* هل قراءة {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 125] مقصودة لذاتها أو للتعليم؟ فيه احتمال؛ مثل رفع الصوت بالذِّكر بعد الصلاة.
* إذا استدبر الكعبة أثناء الطواف: إن تعمد فإنه يرجع إلى ما قبل الاستدبار، وإن كان يسيرًا لشدَّة الزحام فلا بأس.
* لا يأخذ من الزكاة ليحجَّ إلاَّ إذا كان فقيرًا.(/28)
* الدماء في الحج أصلها حديث كعب بن عُجْرة على مَنْ حلق جميع رأسه، أما مَنْ حلق بعضه فيأثم إن كان لغير عذر، ولا فدية، واستدلُّوا بقول ابن عباس: "مَنْ ترك شيئًا من نُسُكه فعليه دمٌ"؛ رواه البيهقي وغيره.
وهذا رأي الجمهور؛ لأنه قول صحابيٍّ، وليس فيه للرأي مجال، ولم يخالف أحدٌ من الصحابة، لكن ابن حزم والشوكاني والصنعاني وصدِّيق حسن لا يرون الدماء في الحج إلا حديث كعب بن عُجْرة.
والواقعون في المحظور في وقائع في السنة لم يرد فيهم أي فدية، لا المتضمِّخ ولا العباس، ولم يَفْدِ لما حلق ليحجم رأسه، وأمر بلبس الخف لمن لم يجد النعل ولم يأمر بفدية، وأمر بلبس السراويل إن لم يجد الإزار، ونهى عن عقد النكاح ولم يأمر بفدية، ولم يرد إلا في حلق الشعر كاملاً والصيد والجماع.
لكن أحيانًا من ضبط الفتوى وإلزام العامة - يفتي المتكلِّم برأي للجمهور وإن كان لا يعتقده؛ ليضبط الناس.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد(/29)
العنوان: تمكين المرأة يستهدف اقتلاعها من جذورها الدينية والثقافية
رقم المقالة: 1812
صاحب المقالة: حوار: جمال سالم
-----------------------------------------
د. نشوى ثابت أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس:
تمكين المرأة يستهدف اقتلاعها من جذورها الدينية والثقافية.
• الانخداع ببريق التمكين بعيدًا عن الدين سيؤدي إلى صراع مع الرجال.
• مؤشرات التمكين التي حددتها الأمم المتحدة مضلّلة.
• مطلوب مفهوم إسلامي للتمكين يحمي المرأة من الظلم باسم الدين والتقاليد.
• • • •
"تحرير المرأة"، و"النهوض بالمرأة"، و"مشاركة المرأة"، و"التمكين للمرأة"، وغيرها من الأهداف والمصطلحات تمتلئ بها مبادرات الإصلاح التي تتساقط علينا من الغرب فما المقصود بـ "التمكين"؟ وما الهدف منه؟ وهل هو مقبول إسلاميًّا؟
هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها الدكتورة نشوى ثابت الناشطة في مجال حقوق المرأة وأستاذة الاجتماع بجامعة عين شمس، وقد طالبت علماء المسلمين في العديد من المؤتمرات بضرورة الاجتهاد لوضع مفهوم إسلامي لتمكين المرأة، ورفض أي ظلم لها باسم الدين، ونشر الوعي بحقوقها وواجباتها بدلاً من الانخداع بمفهوم التمكين الغربي الذي يريد اقتلاع المرأة من دينها، وإقحامها معترك صراع مع الرجل....
• يعد مصطلح" التمكين" جديدًا بالنسبة لنا فمتى ظهر؟ وما دواعي ظهوره؟(/1)
ظهر المصطلح الجديد (التمكين) في منتصف الثمانينيات، وأصبح من المفاهيم الشائعة، وخاصَّة في مجال التنمية، وفي كتابات المرأة؛ حيث حلَّ مفهوم التمكين جوهريًّا - سواء في مناقشة السياسات أو البرامج - محلَّ مفهوم النهوض والرفاهية ومكافحة الفقر والمشاركة المجتمعية، وظل محصورًا في هذه المجالات لأنَّ أصل الكلمة Empowerment. وقد ظهر نتيجة الظلم والتهميش الذي تعانيه المرأة في المجتمع ثم تغيَّر إلى Women Empowerment ومع هذا ظل هذا المصطلح غامضًا؛ حيث كثر استخدامه، وندر أن نجد له تعريفًا شاملاً جامعًا نتيجة تخوّفات البعض منه وسوء فهم آخرين.
مصطلح غامض
• ألا نلاحظ أن الرأي العام الذكوري عنده حق في التخوّف من هذا المصطلح الغامض؟
الرجال عندهم حق، وخاصَّة أنَّ اللفظ كثر تكراره على ألسنة دعاة التَّحرّر وتغريب المرأة مع أنَّنا إذا نظرنا إلى هذا المصطلح لغويًّا لوجدناه في المعجم الوسيط مصدر تمكن [مكَّن] فيقال أن فلانًا تمكن عند الناس أي: علا شأنه، وتمكن من الشيء أي: قدر عليه أو ظفِر به، والمكنة أي: القدرة والاستطاعة والنصرة والشدة وهذا ما يفهم من قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف: 84]، ومكن مكانه فهو مكين أي: ثبت واستقر فهو مستقر قال تعالى: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]، وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13].(/2)
وظهر مفهوم التمكين كنتاج للعديد من الحوادث والانتقادات التي أفرزتها الحركات النسائية في العالم الثالث، ومن الممكن إرجاع أصله كمفهوم للتفاعل والعلاقة بين الاتجاه النسوي ومفهوم التعليم العامّ الذي تطوَّر في أمريكا اللاتينية في سبعينات القرن العشرين، وترجع جذور مفهوم Popular Education إلى نظرية "فريري" عن الوعي، وهى النظرية التي تجاهلت النوع وتأثرت بأفكار "جار مكسين" في تأكيده على الحاجة إلى آليات المشاركة في النظم والمجتمع، وذلك لإيجاد نظامٍ أكثر مساواة غير مستغل، ولهذا فإن التبعية النوعية والبناء الاجتماعي لنوع يعد نقطةَ البداية في التحليل النسوي، فهم يستهدفون مساعدة النساء في تحسين مهاراتِهنَّ وتأكيد أنفسهن ورفضهن للسلوك القهري وذلك من خلال تأسيس شبكة دولية من النساء والرجال تتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات العمالية للضغط من أجل التغيير في المفاهيم الظالمة للمرأة.
الحركات النسوية
• ما الأدوات التي اتخذَتْها المنظَّمات النسوية الدولية لتنفيذ مخطَّطاتها فيما يتعلَّق بمفهومها لتتمكَّن المرأة؟
في أثناء عقد الثمانينات ظهرت انتقادات الحركات النسوية للاستراتيجيات التنموية التي فشلت في تحقيق أي تقدم ملحوظ في تحسين مكانة النساء، ولهذا تأصَّلت الفكرة عمليًّا عام 1985م من خلال لقاء مجموعة DAWN وهى الاسم المختصر لـ (التنمية البديلة بمشاركة المرأة من أجل عهد جديد) وحددوا لهم أربعة أهداف رئيسية هي:
- تحليل تبعية النساء.
- محو جميع الأشكال البنائية للتمييز على المرأة.
- تحقيق المساواة السياسية وحرية الاختيار.
- اتخاذ التدابير والإجراءات لمنع عنف الرجال على النساء، "واتخذت مجموعة من الإجراءات القانونية الدولية للضغط على الدول التي يرون فيها زيادة سيطرة الرجال على النساء ومن بينها بلا شك دول العالم الإسلامي، وذلك لسوء فهمهم لعلاقة الرجل بالمرآة في الإسلام".
مخالفة الأديان(/3)
• ما الأسس التي استندت إليها الحركات النسوية الدولية في دعواها أن الأديان وفي مقدمتهم الإسلام يحثون على قهر النساء؟
حددت هذه الحركات مجموعة من العوامل الدينية والثقافية التي رأت فيها عداء للنساء أو تقليلا من مكانتها مثل الهيكل الهرمي للأسرة الذي يكون فيه الرجل هو المسؤول عنها، وكذلك الأصولية الدينية التي تحبذ العنف أمام المرأة مما يضعها في فئة المستضعفة ولهذا عقد مؤتمر في نيروبي.
وفي عقد التسعينات حل مصطلح: "تمكين النساء" محل أغلب المصطلحات السابقة عليه في أدبيات التنمية، وهذه المرة كان متأثرًا بالفكر الغربي ونظرته للمرأة، ولهذا يمكننا التأكيد أن بداية ظهور مفهوم التمكين ترجع إلى منتصف السبعينات، أما الثمانينات والتسعينات فقد شهدت تطوراته وتحديد خصائصه وأدواته.
خصائص التمكين
• ما أهم خصائص مفهوم التمكين في مجتمعنا العربي؟
للأسف الشديد مازال مفهوم التمكين يتسم بالغموض، وربما يرجع ذلك إلى حداثة المفهوم أو التنوُّع في استخدامه أو كثرة تردُّده في المحافل الدولية والمؤتمرات لدرجة أنه أصبح كلمة طنانة خصوصًا في عقد التسعينات، الأمر الذي ترتب عليه صعوبة تحديد ما يعنيه وتحديد استخداماته واستراتيجيته، كما أنَّ هناك تعدد استخداماته في تخصصات مختلفة فمثلاً في مجال الرعاية الاجتماعية يقال تمكين المسنين والمعاقين، وفي مجال التنمية المستدامة وبرامج مكافحة الفقر يقال: تمكين الفقراء، ورغم هذا فإنَّ تناوله في الأدبيات العربية قليل جدًا لأن هناك مفاهيم أخرى يتداخل معها مثل: المكانة والاستقلال والقوة والمشاركة والإرادة والمساواة، كما أنَّ لمفهوم التمكين جوانب متعددة نفسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، ولهذا نجد له مؤيدين ومعارضين، وهذا هو سبب الاختلاف والتخوُّف من مفهوم التمكين في بلادنا.
المفهوم الإيجابي
• إذا أحسنَّا الظن بمفهوم تمكين المرأة من المفهوم العربي فكيف يكون ذلك؟(/4)
تمكين المرأة بمفهومه الإيجابي البنَّاء يكونُ مُتَاحًا أكثر كلَّما كانت المرأة متعلمة وذات مهارات إنتاجية ولديها رأس مال وثقة في نفسها، ومن هنا فهي تستطيع أن تتقدَّم على أساس من المهارات والإمكانيات والقدرات لديها، لذا فهي تنهَضُ بِنَفْسها وأسرتها ومجتمعها على عكس النظرة الغربية التي تجعل "الأنا" وتحقيق الذات هي الأساس في تمكين المرأة لتعتمد على نفسها بعيدًا عن الرجل، وإزاحته من طريقها إذا كان يمثل عائقًا لها، بل تغيير مفاهيم دينية وثقافية تراها الحركات النسوية عائقًا أمام تمكين المرأة.
مؤشرات قاصرة
• وضع تقرير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عدة مؤشرات تؤكد أن هناك تمكينًا للمرأة من عدمه في المجتمع، فما أهمها؟
يقاس التمكين من خلال عدة مؤشرات أهمها: التمكين الاقتصادي وذلك من خلال النصيب النسبي لكل من الرجل والمرأة في الوظائف الإدارية والتنظيمية والمهنية، وكذلك التوزيع النسبي للدخل المكتسب بواسطة السكان النشيطين اقتصاديًّا من الجنسيين والأجور النسبية للإناث مقارنة بالذكور، أما بالنسبة للتمكين السياسي فيقاس بعدد من المقاعد البرلمانية المتاحة للرجال والنساء، وهذه مقاييس قاصرة من وجهة نظري حيث الأبعاد الثقافية والاجتماعية لا تقل أهميَّة عمَّا ركَّز عليه التقرير إن لم تكن أكثر أهمية، بل إن البعد الاقتصادي أوسع مما ذكره التقرير حيث هناك مؤشرات هامة مثل ملكية وحيازة الأصول الإنتاجية وشروط العمل توقيتاته وعوائده المادّيّة والمعنويّة، أمَّا البعد السياسي فإن هناك مؤشرات أخرى لم يذكرها التقرير مثل مشاركتها في منظمات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات والمنظمات الأهلية وغيرها.
مفاهيم براقة خادعة
• هناك بعض جوانب التمكين للمرأة بمفهومه الغربي يرفضها الإسلام فما خطورة الانخداع بهذا المصطلح البرَّاق من المرأة المسلمة؟(/5)
إذا نظرنا إلى جوانب التكريم التي كفلها الإسلام للمرأة المسلمة سنجدها كثيرة جدًا وواجبنا تطبيقُها في حياتنا وأن نبتعد عن بعض التقاليد البالية والعصبية المقيتة التي تنظر للمرأة على أنها إنسان من الدرجة الثانية أو تظلمها باسم الإسلام عن طريق الفهم الخاطئ لبعض النصوص الدينية.
ونحن من جانبنا نطالب بمراجعة وعدم تعميم المفهوم الغربي لتمكين المرأة؛ لأن فيه ظلمًا لها وللرجال وللأسرة والمجتمع في نفس الوقت؛ لأنه يريد اقتلاعها من جذورها الدينية، ومن عضويتها الفعالة في الأسرة والمجتمع، عن طريق مطالبتها برفض أي سلطة للرجال عليها، أو حتى أي تعامل بناء معه، وهو ما يطلقون عليه في الغرب: تحدي الأيديولوجية الذكورية في كل مراحلها، والمطالبة بالمساواة التامَّة في كل شيء حتى وإن تعارض ذلك مع التشريعات الدينية وهذا ما نعتبره كارثة على الأمة كلها لأنه سيحول العلاقة بين الجنسين إلى صراع بدلاً من التعاون.
مفهوم إسلامي
• هل يمكن تحديد مفهوم تمكين المرأة من المنظور الإسلامي؟
أطالب العلماء في مختلف التخصصات أن يحددوا مفهومًا إسلاميًّا لتمكين المرأة ينطلق مما أعطاها الإسلام من حقوق، وما فرضه عليها من واجبات بحيث نتخلص من أي ظلم للمرأة باسم الدين أو التقاليد والعصبية وهو ما يتخذ منه الغرب وسيلة لتشويه صورة الإسلام والحكم عليه من خلال سلوكيات المسلمين حتى وإن كانت مرفوضة شرعًا.(/6)
وللعلم فإنَّ الإسلامَ هو الدين الوحيد الذي تتعمَّد وسائل الإعلام الغربية نسبة سلوكيات أتباعه إليه، حتى وإن كانت مرفوضة منه؛ ولهذا أحذر المسلمين رجالاً ونساء من الانخداع بالمفاهيم الغربية البراقة، مثل تمكين المرأة، وإنَّما علينا أن نضع مفهوم ذلك من خلال ديننا وثقافتنا، حتى وإن غيَّرنا مصطلح التمكين الذي يفهم منه أنه يتطلب إزاحة الرجل، واقتلاع المرأة من دينها وأسرتها والعمل على استقلالها، حتى في السلوكيات الشاذة المرفوضة شرعًا مثل: حريتها في ممارسة الجنس الآمن، وتناوُل وسائل منعِ الحمل، والإجهاض - إذا لزم الأمر - وإقامة علاقات جنسية مع من تشاء دون الرجوع إلى أسرتها، التي عليها تلبية احتياجات المرأة حتى ولو وصل الأمر إلى الشذوذ والزواج المثلي باسم حقوق المرأة وحريتها في تسيير أمور حياتها، وتوضع خطَّة لوضع هذه الرؤية الغربية في قوانين ومواثيق واتفاقيات دولية وفرضها بكل السبل على المجتمعات الإسلامية وفرض عقوبات إذا تطلَّب الأمر. أي أن يطبق المفهوم الغربي للتمكين سواء بالترغيب أو الترهيب.
وأحذر من خطورة ما يدبَّر للقضاء على هوية المرأة المسلمة، عن طريق تعميم كل مؤشرات التمكين على نساء العالم، دون مراعاة لأية خصوصية دينية أو ثقافية.
عمومية التمكين
• ألا ترين أن قصر مفهوم التمكين بمعناه الإيجابي على المرأة دون الرجل فيه استعداء وتمييز على الرجال الذين قد يعانون نفس مشكلات المرأة؟(/7)
إذا كان هناك مفهوم إيجابي للتمكين فيجب أن يشمل الجنسين، دون أدنى تمييز؛ لأن مشكلات الرجل الفقير هي نفس مشكلات المرأة الفقيرة، وقد طالب بعض مفكري الغرب بالعقلانية في الدعوة لتمكين المرأة حتى لا تتحول القضية إلى صراع ورغبة في إذلال الرجل وإزاحته لصالح المرأة وهو الأمر الذي يدفعه إلى الانتقام منها بكل الوسائل، ولهذا فإن نشر التعليم والوعي بكل صوره هو الصورة المثالية الأفضل للتمكين للجنسين وليس للمرأة فقط كما يريد الغرب.(/8)
العنوان: تنمية الأخوَّة بين طلاب حلقات القرآن
رقم المقالة: 537
صاحب المقالة: عبدالله بن عبدالرحمن
-----------------------------------------
كان مخيماً جميلاً جداً؛ حمل الشباب أمتعتهم، وذهبوا إلى ساحل البحر، اجتمعوا على مرضاة الله وطلب الدار الآخرة، ومع أن عدتهم لم تكن تتجاوز بضعة عشر شاباً، إن ما في قلوبهم ليُغني عن كل عدد...
مضت البرامج والأنشطة "والهجومات" كما يجب، عاش الأحبة أجواءً سعيدةً وجميلة.
ثم حضرت النهاية.. نهاية المخيَّم.. وما أقساها!.. قوض الشباب خيامهم ثم راحوا يتبادلون الرسائل بينهم؛ نصحاً وثناءً وتوجيهاً وإبداءً للمحبة.
جلس الشباب جلستهم الأخيرة، بدأ مُدَرِّسُهم في إلقاء الكلمة المعتادة في نهاية كل مُخيَّم، تحدَّث وذَكَّر بالدار الآخرة، والمقارنة بين نهاية المخيَّم ونهاية الإنسان، ثم عرَّج على فضل الأخوَّة، وأسهب في الحديث عن آثارها.
وفجأةً.. وبلا مقدمات..
انفجر أحد الشباب ببكاء حارٍّ، ونحيب عجيب؛ لفت أنظار الجميع..(/1)
استمر المُلقي في حديثه عن الأخوَّة؛ يشرح حديث أبي سعيد الخُدْري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما مجادلة أحدكم في الحق يكون له في الدنيا، بأشد مجادلةً من المؤمنين لربهم، في إخوانهم، الذين أُدخلوا النار؛ يقولون: ربنا، إخواننا كانوا يصلُّون معنا، ويصومون معنا، ويحجُّون معنا، فأدخلتهم النار؟! فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم؛ فيأتونهم، فيعرفونهم بصورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه؛ فيخرجونهم؛ فيقولون: ربنا، قد أخرجنا من أمرتنا. ويقول: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم قال: من كان في قلبه وزن نصف دينار، حتى يقول: من كان في قلبه وزن ذرة، قال أبو سعيد: فمن لم يصدِّق فليقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48]"؛ أخرجه النسائي، وابن ماجه، وصححه الألباني.
بكاء الشاب الذي بكى في أول الكلمة زاد الشباب كلهم تأثراً وبكاءً، وحزناً على أيام وساعات مضت، كانت من أجمل أيامهم.
كان ذلك الموقف - وغيره من المواقف - من الأسباب التي صنعت جيلاً أخويّاً؛ وأثمر ذلك الجيل ثمراً يانعاً يُرى أثره.
كانت هذه قصة أخوَّة حقيقية، يتمناها ويبحث عنها كل مربٍّ؛ ليربي عليها طلابه.
ولعل المجال يكون مفتوحاً للنقاش، في الأسباب التي تجعل الأخوّة تنمو وتنمو حتى تثمر بإذن الله، ومن هذه الأسباب:
1 - الصدق مع الله:(/2)
وهذا أقوى العوامل وأهمها، إن الصدق مع الله - عز وجل - في هذا الموضوع وغيره - يجعل التوفيق حليف الإنسان في كل ما يعمل؛ ومنها طلب الأخوَّة؛ فتأليف القلوب بيد الله - عز وجل -: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63]، والمربي إذا صدق في تربيته لطلابه، وأخرج من قلبه كل شيء يشوب هذه النية؛ فلن يخيِّب الله رجاءه.
2 - العدل بين الطلاب:
إن الشاب حين يرى أنك لا تفضِّل عليه أحداً، ولا تفضله على أحد، يقوده هذا إلى أن يعلم أن هذا من باب العدل، وأن هذا المربي إنما يحرص على هذا، لأنه يرى الجميع سواسية، وأنهم إخوة متحابون، وأعلاهم كأدناهم، ولا فضل لبعضهم على بعض؛ فيحب إخوانه.
3 - عدم سماع قالة بعضهم عن بعض:
وأعني بـ (قالة): النميمة، وهي من أخطر ما يقوِّض بنيان الأخوّة، ويجعلها هباءً منثوراً؛ فالمربي حين يستمع لبعض الطلاب في ذمهم لإخوانهم، إنما يجعل طلابه يبحث بعضهم عن أخطاء بعض، ويتصيَّدونها، ويوصلونها له؛ لأنهم يشعرون أن هذا العمل يقربهم إلى مدرسهم؛ ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا؛ فقال: ((لا يبلغني أحدٌ منكم عن شيء؛ فإني أحبُّ أن أخرجَ إليهم، وأنا سليمُ الصدر)).
وكم من القصص المؤلمة التي تُذكر في هذا لمربِّين يفضِّلون بعض الطلاب على بعض، ويجعلونهم (دبابيس) بين الطلاب؛ ينقلون لهم كل صغيرة وكبيرة، بل يكذب هؤلاء الطلاب، ويزوِّرون؛ لأجل مصلحة شخصية أو انتقام، وكأنَّ هؤلاء يعيشون في سلك عسكري!! وما علم هؤلاء أن الأصل في المسلم الستر، وأنهم بهذا العمل يهدمون عملهم بأيديهم.
4 - نبذ الحزبيَّة ومحاربتها بلا هوادة:(/3)
وأعني بالحزبيَّة: التجمعات الصغيرة التي تكون داخل الحلقة، أو غيرها من المحاضن التربوية، وتجدهم - دائماً - معاً، ولهم رحلات خاصة، ولا يختلطون ببقية الطلاب، وربما يشعرون باحتقار تجاه الطلاب الآخرين، ويُتبِعون هذا بتعليقٍ عليهم.
ولا تستغرب من قولي: "بلا هوادة"؛ فهي تستحق هذا وأكثر؛ لأنها عامل هدم في الحلقات، وفيها إفساد لنفوس الطلاب، وتنفير لبعضهم، ونشر للضغائن، والله المستعان.
5 - الحديث المستمر وذكر القصص المؤثرة:
إن كثرة الطَّرْق تكسر الحديد - كما قيل - وكذا كثرة الحديث في الأخوَّة، يجعل النفوس متشبعة بها، ومشتاقة لتطبيقها، وكذلك ذكر القصص المؤثرة في جانب الأخوَّة، ومن المواضع المهمة لهذا كلمات ما بعد الصلاة في المخيمات.
6 - القدوة المباشرة من الرئيس أو القائد:
حين يطبِّق القائد مفهوم الأخوَّة؛ فيؤثرهم على نفسه، ويضحي لهم بكل ما يستطيع، ويعمل لأجلهم ليل نهار، ويحمل همهم، ويساعدهم في حاجاتهم، ويصلح بينهم - فإنه بذلك يعطي قدوة عملية في أداء حقوق الأخوَّة وتفعيلها.
7 - اتخاذ قدوة مؤثرة من الطلاب:
بعض الطلاب رزقه الله قدرةً على تفعيل حق الأخوَّة ونشره؛ بمبادرته وفدائيته لإخوانه، وحبه لهم، وطاعته، وذله لهم؛ {أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
أولئك هم الذين يملكون عاطفة جياشة، ويجب على المربي أن يستخدم هؤلاء الطلاب قدوة للبقية، في نشر هذا المفهوم.
هذا ما تيسَّر كتابته من الأسباب والوسائل، التي تساعد على تنمية الأخوَّة بين طلاب حلقات التحفيظ، ولعل الأحبة يثرون الموضوع، بما في جَعبتهم.(/4)
العنوان: تنمية النزعة الإنسانية (1)
رقم المقالة: 521
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
خلق الله – تعالى – الدنيا داراً للابتلاء، فوفَّر فيها كل شروط الابتلاء؛ والحقيقة أننا نظلُّ في هذه الحياة في حالة من الاختبار الدائم، وهو اختبارٌ غنيٌّ بالوجوه والأشكال والمستويات.
ولعلَّ عيش الإنسان في إطار علاقات صحيحة مع ربِّه – عزوجل – ومع الناس والأشياء من حوله؛ يشكِّل الشيء الجوهريَّ في كل الابتلاءات التي نتعرَّض لها، حيث إننا مفطورون على التأثُّر الشديد بالعلاقات التي تربطنا بغيرنا، ومن ثَمَّ كان من الضروريِّ دائماً مراقبةُ تلك العلاقات وترشيدُها وتوجيهها.
ومن وجه آخرَ، فإن مما لا شك فيه أن الإنسان في الماضي كان عاجزاً عن فعل الأسوأ، كما كان عاجزاً عن فعل الأفضل، وذلك بسبب ضآلة الأدوات التي يمتلكها على صعيد البناء وعلى صعيد الهدم؛ إن الإنسان قبل مئتي سنة كان عاجزاً عن قتل الملايين بضغطة زِر، كما كان عاجزاً عن رفع درجات حرارة الأرض أو تلويث الماء والهواء، وفي الوقت نفسه فإنه كان لا يتخيَّل أنه سيكون في وسعه أن يتحدَّث في غرفة مغلقة، فيسمعه مئاتُ الملايين في مشارق الأرض ومغاربها، أو يتخذ أحدهم قراراً في شمال الأرض، فيَسعد، أو يَشقى به أناس في جنوبها...
ما الذي يعنيه كلُّ هذا؟
إنه يعني: أن القوةَ التي نملكها اليوم يمكن أن تصبحَ مصدراً لتدمير البشريَّة مادياً ومعنوياً؛ ما لم نعمِّق شعورنا بالمسؤولية نحوها، وما لم نعمِّق المشاعر الإيمانية والإنسانية في نفوسنا.
إن إنسان اليوم قد يتحوَّل إلى (وحش مسلَّح) إذا لم يقم بمبادرات كبيرة وكثيرة للمحافظة على النزعة الإنسانية لديه، بغضِّ النظر عن ديانته و(الأيدلوجية) التي يرى من خلالها الحياة والأحياء، ولعلِّي ألمس في هذا الإطار المعاني الآتية:(/1)
1 – إن الله تعالى سخَّر لنا ما في السماوات والأرض منَّةً منه وكرماً، كما نجده في قوله – سبحانه –: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأََرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[1]، هذا التسخير للانتفاع، له ثمن يجب دفعه عن طِيب خاطر، وهو شكر الله – تعالى – على ما أفاض من النِّعَم ثم المحافظة عليها والعناية بها، على نحوٍ يساعد على استمرارها ودوامها من أجل الأجيال القادمة، وهذا يقتضي صيانةَ ما هو موجود وتنميتَه وتكثيرَه؛ لأن الناس يكثرون، وهم بحاجة إلى المزيد من الموارد، ونجد في هذا المعنى قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن غَرَسَ غَرساً لم يأكُل مِنهُ آدَمِيٌّ ولا خَلقٌ من خَلق الله -عز وجل- إلا كان لهُ صَدَقَة))[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم -: ((إن قامَتِ الساعةُ على أَحَدِكُم وفي يَدِهِ فَسيلَةٌ، فإنِ استَطاعَ ألاَّ تقومَ حتى يَغرسَها فَليَغرِسها))[3].
2 – تدلُّ شواهدُ كثيرة على أن التحضُّر الذي أطنبنا في ذكره لم يكن أكثرَ من قشرة رقيقة، يكمُن خلفها وحشٌ كاسر، ينتظر الفرصة كي ينقضَّ، ويخرِّب ويدمِّر، وما رأيناه في أنحاء العالم من مَجازر يذهب ضحيَّتها نساء وأطفال وشيوخ، وما نراه من التجارة بالأعضاء والأطفال، وما نراه من صور مبتكَرة للغشِّ والخداع والاحتيال.... إن ما نراه من كلِّ ذلك ليؤكِّد المعنى الذي أشرنا إليه؛ وهذا شيءٌ خطير للغاية، حيث إنه يعني أن التقدُّم والازدهار اللذين نراهما في كلِّ مكان من العالم لم يكونا على صعيد البنية الخُلُقيَّة والشعوريَّة لبني البشر، وإنما هو تقدُّم وانتعاش على صعيد المخترَعات وأدوات الرفاهية والزينة وأسباب القوَّة؛ وهذا يشكِّل مأساةً على المدى البعيد!(/2)
إننا نريد أن نعمِّقَ النزعة الإنسانية لدى الأجيال الجديدة؛ من خلال التعاطف مع الحيوان ومع الأشياء من حولنا؛ بغيةَ بناء خطوط دفاع متقدِّمة، تَحول دون ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وقد ثبت أن فرضَ القوانين من غير تثقيف وتربية وإحداث تغييرات مهمَّة على صعيد الرُّوح والنفس... لا يكون ذا فائدة تُذكَر؛ ومن هنا فإني أعتقد أن النصوصَ الواردةَ في مديح من يُساعد الحيوان وذكرَ الوعيد الشديد على إيذائه – تستهدف تنميةَ المشاعر الخيِّرة ومشاعر الألفة والرعاية، كما تستهدف كبحَ المشاعر الشرِّيرة. وتأمَّلوا معي قوله – صلى الله عليه وسلم - : ((إن رجُلاً رأى كَلباً يأكلُ الثَّرى منَ العَطَش، فأخذ الرجُل خُفَّه، فجعل يَغرفُ له به حتَّى أَرواه، فشَكَرَ اللهُ له فأدخَلَهُ الجنَّة)) [4]، وفي بعض روايات الحديث أن الذي فعل ذلك بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، ومع ماهي عليه من الإثم والانحراف تجاوز الله – تعالى – عنها بسبب إحيائها لنَفْس، وبسبب ما عبَّرَت عنه من نزوع إلى الخير. وتأمَّلوا معي قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((في كلِّ ذات كَبِدٍ حَرَّى أَجر))[5].(/3)
أي أن الله – تعالى – أعدَّ أجراً للإحسان إلى كلِّ إنسان أو حيوان أو طائر أو حشرة؛ وفي هذا توجيهٌ للمسلم أن يتعاطف مع مخلوقات الله تعبيراً عن الرحمة التي في قلبه وشكراً له – سبحانه – على ما سخَّره منها للناس. ولدينا نصوص أخرى عديدة تحذِّر من الاعتداء على الحيوان بأيِّ وسيلة من وسائل الاعتداء؛ وذلك بغيةَ المحافظة على الحياة الفطريَّة، وبغية تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه ما أنعم الله به علينا، وقبل ذلك وبعده تهذيب مشاعرنا ونفوسنا ومحاصرة نزغات الشرِّ لدينا؛ ومن تلك النصوص قوله – صلى الله عليه وسلم –: ((دخَلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ ربَطَتها، فلا هيَ أطعَمَتها، ولا هيَ أرسلتها تأكُلُ من خَشاشِ الأرض، حتى ماتَت هَزْلاً))[6]. وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرَّ عليه حمار قد وُسِم في وجهه، فقال: ((لعنَ الله الذي وَسَمَهُ))[7].
نحن جزءٌ من هذا العالم، لكننا الجزء المكرَّم، ومن شُكر التكريم التصرُّف فيه وَفق مرادات الخالق الكريم المنعم.
للحديث بقية
ــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الجاثية: 13.
[2] رواه أحمد وغيره من حديث أبي الدرداء.
[3] رواه أحمد وغيره من حديث أنس بن مالك.
[4] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
[5] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
[6] رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
[7] رواه مسلم من حديث جابر بن عبدالله.(/4)
العنوان: تنمية النزعة الإنسانية (2)
رقم المقالة: 541
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
الإنسان هو محورُ الكون، فقد ذكر – سبحانه – أن السماواتِ والأرضَ مسخراتٌ له، وأرسل الله – تعالى – إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وأسجد له ملائكته... {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[1].
ولهذا فإن ما تحدَّثنا عنه في الحلقة الماضية من التعاطُف مع الحيوان ومع النبات والأشياء... ليس في الحقيقة سوى وسيلة لتنمية تعاطُف الإنسان مع أخيه الإنسان، وتنمية إحساسه به وتعاونه معه، وهذا يتحقَّق حين يتوافر في المجتمع المسلم عدد من الأخلاق والسلوكات الفاضلة، وهي في الحقيقة كثيرةٌ، أشير إلى عدد منها عبر المفردات الآتية:
1 – هناك شيء يمكن أن نسمِّيه فضيلة (الاهتمام) بالآخرين، والذي يعني الإحساس الأكيد والصادق بوجودهم وحقوقهم وأشكال معاناتهم وألوان احتياجاتهم، وهذا الإحساس يتولَّد لدى المسلم من وراء رجائه لما عند الله – تعالى – من المثوبة والبرِّ والجزاء على الإحسان.
وإن المرء قد لا يجد نفسه من غير ذلك الاهتمام في أيِّ سياق خيري أو موقف نبيل، ولعله – عليه الصلاة والسلام – كان يودُّ أن يؤكد هذا المعنى، ويرسخه في نفوس المسلمين حين قال: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مَثَلُ الجسد؛ إذا اشتَكى منه عُضوٌ تَداعى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحُمَّى))[2] . إن الجسد حين يُصاب جزء منه بضرر بالغ فإن ذلك العضوَ لا ينفرد بالدفاع عن نفسه أو إصلاح العطب الذي حلَّ به، ولكن ينهض الجسد كلُّه لذلك، والدليل هو ارتفاع حرارة كلِّ عضو منه بسبب الترابُط والتضامن الشاملَين، وهكذا ينبغي أن يكون حالُ المجتمع المسلم.(/1)
ويؤكِّد – صلى الله عليه وسلم – فضيلةَ الاهتمام بالآخرين مرَّة أخرى حين يقول: ((إذا صلَّى أحدُكُم إماماً للناس، فليُخفِّف، فإن فيهم الضعيفَ والسقيمَ والكبيرَ، وإذا صلَّى لنفسه – أي مُنفرداً – فليُطوِّل ما شاء))[3]. وفي حديث أبي قتادة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إني لأقومُ إلى الصلاة، وأريدُ أن أطوِّلَ فيها، فأسمعُ بكاءَ الصبيِّ، فأتجوَّزُ في صلاتي كراهيةَ أن أشُقَّ على أمِّه))[4].
إنها إشارة عظيمة إلى مراعاة جماعة المسلمين للواحد منهم، حيث يتكيَّف كلُّ من في المسجد مع الوضع الطارئ على أحد المصلِّين من أجل رفع الحرج عنه!.
إن الأسرة هي من يقوم بإلقاء الدرس الأخلاقي، وهي التي تتحمَّل المسؤولية الأساسية عن تكوين مشاعر أبنائها وتأسيس اتجاهاتهم العقلية تجاه الآخرين. ولا شك في أن سلوك الوالدين والإخوة الكبار يشكِّل البيئة الثقافية التي يتنفَّس فيها الصغار؛ ومن ثَمَّ فإن على الكبار إذا ما أرادوا غرسَ فضيلة الاهتمام بالآخرين في نفوس الصغار، أن يعبِّروا أولاً عن ذلك من خلال سلوكهم اليومي، وهذا أهم تحدٍّ تواجهه التربية، ويواجهه المربون.
ومن وجه آخرَ فإن علينا أن نشجِّع الطفل، ونبدي له فرحنا وتقديرنا كلما رأينا منه موقفاً متعاطفاً مع الآخرين؛ كأن يُطعم حيواناً أليفاً، أو يتبرع بشيء من نقوده لعمل خيري، أو يتألم لألم جار أو قريب أو مسكين... وهذا يستهدف تدعيم المشاعر النبيلة لديه تجاه الآخرين، حيث إننا من خلال التشجيع على عمل البرِّ نؤكد للطفل أنه لائق اجتماعياً، وأنه على الطريق الصحيح.
وقد دلَّت تجارب ومعطيات كثيرة على أن المشاعر النبيلة تجاه الآخرين تُصاب بالذبول والاضمحلال بسبب إهمال الأهل وتقصيرهم في منح الاهتمام والتقدير.(/2)
أحد الآباء المهتمين بتنمية نوازع الخير لدى ابنه اخترع نظام (الحصَّالة الثلاثية) وهذا النظام يقوم على مبدأ: القليل من الادِّخار، والقليل من الإنفاق، والقليل من الإحسان. يقول الرجل: أعطيت ابني ثلاث حصَّالات من درجات مختلفة: الحصالة الكبيرة للإنفاق على حاجاته الشخصية، والوسطى للادخار، والصُّغرى للتبرُّع والإحسان. وكان أساس النظام ألا يقوم الصغير بشراء أي شيء قيِّم ومرتفع الثمن إلا إذا امتلأت حصالةُ الإحسان، والتي كان حجمها يساوي 15% من حجم الحصالتين الأخريين. وقد كانت النتيجة مذهلة، فقد صار التفكير في عمل الخير وفي كيفية صرف المبلغ الموفَّر جزءاً من هواجس الطفل واهتماماته.
إن على المدارس مسؤوليات كبيرةً في موضوع تنمية المشاعر الإنسانية لدى الأطفال؛ وذلك من خلال التركيز على أهمية التطوع والعطاء المجاني، وأهمية العناية بالعناصر الضعيفة في المجتمع المسلم.
ولا يكفي هذا بل لابد من تصميم برامج شهرية ونصف شهرية للخدمة العامة ونظافة البيئة، وتقديم بعض الخدمات للتجمُّعات السكانية البائسة وغير ذلك كثير، وعلينا أن نتخلَّص من الاعتقاد بأن إشغال الطلاب بالمزيد من حفظ المعلومات، هو أفضل شيء نقدِّمه إليهم، إذ إن إعدادهم ليحيَوا الحياة الإسلامية الصحيحة، وإعدادهم للإسهام في بناء أوطانهم يشكِّلان حجر الزاوية في مقاصد التربية والتعليم.(/3)
2 – نحن في حاجة إلى تنمية مشاعر الصَّفح والعفو والإعذار؛ وذلك من الاستجابة لأمر الله – تعالى – في هذه الأمور أولاً، ومن أجل التكيُّف مع مفرزات القصور البشري، حيث إن علينا دائماً أن نتوقَّع تصرفات غيرَ ناضجة، ومواقف غير سديدة، وإن التوقُّف عندها والمحاسبة عليها على نحو مستمر من العوامل التي تزيد في الاضطراب الاجتماعي، وقد قال الله – تعالى – مادحاً العفو وأهله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[5]. وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأََرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[6]. وقد كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – يقدم النموذج الأسمى في العفو عن الإساءات وغض الطرف عن الهفوات، وفي هذا تقول أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -: ((ما ضربَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – شيئاً قطُّ بيده، ولا امرأةً ولا خادماً، إلا أن يجاهدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقمَ من صاحبه إلا أن يُنتهَكَ شيءٌ من مَحارم الله – تعالى – فَينتقمَ لله))[7].
إن الأسباب التي تجعل الناس يُسيئون التقدير، أو يقعون في الزلل، أو يَجرون خلف رغباتهم أكثر من أن تحصى، ولو أننا عرفنا هذا حقَّ المعرفة، فإننا سنجد أن العفو والصفح هو الموقف الصحيح في معظم الأحيان.
والله ولي التوفيق.
وللحديث صلة.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الإسراء: 70.
[2] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير.
[3] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
[4] متفق عليه.
[5] سورة النور: 22.
[6] سورة آل عمران: 133، 134.
[7] رواه مسلم.(/4)
العنوان: تنمية النزعة الإنسانية (3)
رقم المقالة: 572
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
لدينا الكثير من الشواهد على أن العلاقات الإنسانيَّة تعدُّ مصدراً من أهم مصادر السعادة والهناء، ولدينا أيضاً الكثير من الدلائل على أن الحياة الاجتماعية هي محصِّلة مبادرات أبناء المجتمع ومحصِّلة عطاءاتهم وسلوكاتهم العامَّة، حيث إن من الثابت أننا لا نستطيع بناء مجتمع أقوى من مجموع أفراده، أو بناء مجتمع فاضل من أشخاص سيئين تماماً مثلما لا نستطيع بناء جدار صُلب من لَبِنات هشة.
ومن هنا فإن تنمية النزعة الإنسانية والمشاعر الإنسانية تعني أننا ننمِّي الجانب المشترك من حياتنا، أو جانب التبادل والأخذ والعطاء.
وأودُّ هنا أن أشيرَ إلى أن المرء لا يكون مواطناً صالحاً إلا إذا كان مسلماً صالحاً؛ لأن صلاح الأوطان وأمنها وازدهارها يتطلَّب مسلماً صالحاً، وصلاحُه يتجلَّى في إعداده لنفسه كي يكون لَبِنَةً صالحة وقوية في الصَّرح الاجتماعي، وهذا يعني استقامته في أموره الشخصيَّة حتى لا يكون عاملَ إفساد، أو عِبئاً على أهله أو على الدولة، كما يتطلَّب قدرته على الإسهام في حمل الكَلِّ والضعيف والمنكوب وصاحب الظَّرف الصعب والطارئ، وهذا كله يتطلَّب تنميةَ مشاعر الإحسان والعطاء والتبرُّع....(/1)
ومن اللافت أننا حين نطلق كلمة (عطاء) فإن الذي يتبادر إلى أذهان معظم الناس هو العطاء المادي: عطاء الأموال والأشياء، وهذا يحتاج إلى مراجعة وتدقيق، وقد أعجبني قول أحدهم: ((حين نكون صغاراً نظنُّ أن السعادةَ في الأخذ، فإذا كَبِرنا وجدنا أن السعادةَ في العطاء، وحين نكون صغاراً نظنُّ أن العطاء هو عطاءُ المال، فإذا كَبِرنا اكتشفنا أن العطاء الحقيقيَّ يكمن في التعاطف والاهتمام والتسامح والتشجيع ومنح الأفكار والرُّؤى والأهداف)). ولعلي أشير في سياق العطاء والإحسان إلى أن في إمكاننا أن نتحدث هنا عن ثلاث مراتب:
1 – كفُّ الأذى عن الناس، وتجنُّب إحراجهم أو إثارتهم... وهذا أدنى شيء يمكن أن يقدمه المسلم لأخيه المسلم، وهو ليس بهيِّن، إذ إن معظم ما يعانيه المسلمون في مجتمعاتهم من إساءات شعورية ومن ظُلم وهضم للحقوق، ليس مصدره أناساً يسكنون في الِمرِّيخ، ولا نعرف عنهم أيَّ شيء، إنهم مسلمون، وبعضُهم ظاهره الالتزام، لكنَّ لديه نواقصَ في تربيته أو فهمه للدين أو في سيطرته على غرائزه.
وإن لدينا العديدَ من النصوص الشريفة التي تؤكِّد معنى كفِّ الأذى بوصفه مطلباً شرعياً، وبوصفه مساهمة إيجابيَّة في تشييد الصَّرح الاجتماعي، وفي هذا يقول الله – تعالى -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [1].
وقال صلى الله عليه وسلم - : ((المسلمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لسانِه ويَدِه، والمهاجرُ مَن هَجَرَ ما نَهى اللهُ عنه))[2]، أي المسلمُ الجدير باسم مسلم، والمسلمُ المتحقِّق بمعاني الإسلام، هو الذي يَسلم المسلمون من إيذائه باللسان أو باليد.(/2)
وقال – عليه الصلاة والسلام – ((مَن أحبَّ أن يُزَحزَحَ عن النَّار، ويدخلَ الجنَّةَ، فَلتأتِهِ مَنيَّتُه وهو يُؤمنُ باللهِ واليوم الآخِر، وليأتِ إلى الناسِ الذي يُحبُّ أن يُؤتى إليه))[3]. وهذا في الحقيقة ميزانٌ واضح ودقيق لتحديد السلوك الذي ينبغي على المسلم أن يسلكَه، ولو أننا استخدمناه في جُلِّ شؤوننا لاختفى الكثير من الشرور في حياتنا، ولسَعدنا وأسعدنا.
نحن نحب من غيرنا ألا يذكرَنا إلا بخير، كما نريد منه أن يدافعَ عنا في غيابنا، ونحب ألا يعتديَ على شيء من حقوقنا، وأن يعاملَنا معاملة قائمة على الصدق والأمانة والنصح... وإن علينا في المقابل إذا ما أردنا النجاةَ، وأردنا أن نُزحزَح عن النار أن نقدِّم للناس من حولنا ما نحب أن يقدِّموه لنا.
سأل رجل ابن عمر – رضي الله عنه - : أن اكتُب لي عن العلم، فقال ابن عمر: ((إن العلمَ أكثرُ من أن أكتبَ به إليك، ولكنْ إذا استطعتَ أن تَلقى اللهَ – تعالى – كافَّ اللسان عن أعراضِ المسلمين، خفيفَ الظَّهر من دمائهم، خَميصَ البطن من أموالهم، مُلازماً لجماعتهم فافعل)).
إن مما يستدعي الأسفَ والجَزَعَ أن مجتمعاتنا تزحف نحو مُستنقع الرأسمالية بسرعة فائقة، ولهذا فإنك ترى اليومَ من المسلمين من يملك الجرأةَ على أكل حقوق ألفٍ من العمال، ومن ثَمَّ إدخال الضِّيق وإلحاق الأذى والارتباك بألف أسرة، ليس في سبيل سدِّ حاجاته أو الحصول على بعض ما هو ضروريٌّ له، ولكن من أجل زيادة رَفاهيته وفتح فُروع جديدة لمؤسَّسته، وهذا من الظلم الصريح الذي تُخشى عواقبُه في الدنيا والآخرة.(/3)
وإن لدينا عشرات الألوف من الشباب المدمنين على المخدِّرات، والذين تحوَّلوا إلى مشكلة كُبرى، تواجه أُسرَهم، وتواجه الدولة والمجتمع، وهؤلاء المدمنون ما وقعوا فيما وقعوا فيه إلا بسبب رُفَقاء السوء المتحالفين مع الشيطان والمالكين لكلِّ أدوات الإغواء، وبسبب المهرِّبين والمروِّجين للمخدِّرات، وهؤلاء جميعاً ينتسبون إلى الإسلام ويعيشون بين ظهرانَي المسلمين، ويُحسبون عليهم، ولهذا فقد صدق فعلاً من قال: ((لا يستطيع أحدٌ أن يفعلَ بالمسلمين أسوأَ مما يفعلونه بأنفسهم))!.
وهنا أود أن أشيرَ إلى نقطة مهمة، هي أن الناسَ كلما درجوا في سُلَّم الحضارة صارت حساسيتهم نحو الغِلظة والجفاء والاعتداء أشدَّ، وذلك لأنهم يتوقَّعون من غيرهم درجةً عالية من اللطف والرقَّة والاهتمام، وتتفاقم المشكلةُ حين نمتلك من الحضارة الأثاثَ والرِّياش والآلات، ويظلُّ الإنسان على بُدائيته بعيداً عن التهذيب والشفافية والتأنُّق في السلوك! وهذا يحدث لدى الناس حين لا يَبذلون ما يكفي من الجهد في التربية الاجتماعية، وحين تحدثُ طفرة في العمران، على حين يظلُّ المجتمع عاجزاً عن استيعاب التغيُّرات الثقافية والأخلاقية المواكبة للنموِّ العمراني.
والله المستعان
وللحديث صلة
ــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الأحزاب: 58.
[2] متفق عليه من حديث عبدالله بن عَمرو.
[3] رواه مسلم من حديث عبدالله بن عَمرو.(/4)
العنوان: تنمية النزعة الإنسانية (4)
رقم المقالة: 629
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
ذكرت في المقال السابق أن لدينا ثلاثة مستويات من الإحسان والعطاء؛ هي: كف الأذى، والعطاء المادي، والعطاء المعنوي، وتحدثت عن كف الأذى بوصفه نوعاً من العطاء، وسأتحدث اليوم عن بعض ملامح العطاء المادي، والمعنوي في المفردات الآتية:
تزداد أهمية المال في حياة الناس بسبب وجود كثير من الحاجات وبصورة متزايدة - التي لا يمكن قضاؤها من غير المال، بل إن من الممكن القول: إننا نسير في اتجاه انعدام الأشياء المجَّانية، وهذا يعني أننا على المستوى التربوي والدعوي مطالبون بتنمية مشاعر الإحسان، وأخلاقيات العطاء المجاني لدى الناشئة، ولدى الكبار على وجه العموم.
نحن نعرف أن سد حاجات الناس، وتحقيق درجة عالية من التضامن الاجتماعي ينبغي أن يحدث عن طريق النظم والتشريعات الاجتماعية، لكن علينا أن نقول أيضاً: إن كل النظم التي يضعها البشر مصابة بالقصور الذاتي، ونقص الكفاءة؛ ولهذا فإن العمل الخيري، وأعمال البر والإحسان، وكل صور المساعدة المادية، تكون نوعاً من الاستدراك على قصور تلك النظم، ومن غيرها ستظل لدينا ثغرات، لا نعرف كيف نسدها.(/1)
ومن هنا ندرك الثواب العظيم الذي وعد الله به عباده المتصدِّقين، حيث قال - سبحانه -: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[1]. وقال - عز من قائل -: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[2]. إن الجزاء على الإنفاق في سبيل الله يتخذ صورا متعددة، فهناك جزاء في الدنيا في صورةِ وفرةٍ في الرزق، وفي صورة دفعٍ للبلاء، وشفاء من الأسقام. وجزاء في الآخرة في صورة حسنات كثيرة تصل إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ونجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرغِّب كلَّ مسلم في أن تمتد يده بالعطاء والخير مهما كانت أوضاعه المادية عصيبة، وهذا ما نلمسه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة))[3]. وكان - عليه الصلاة والسلام - يقدم من نفسه النَّموذَج الأسمى في الكرم والجود، فقد قال جابر - رضي الله عنه - "ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط، فقال: لا"[4].
وفي رصيد أمة الإسلام من الصور والأخبار والنماذج المشرفة في ميدان الصدقة، والإيثار، والمواساة ما يقل نظيره لدى أمة أخرى.(/2)
قد لا نستطيع أن نقدم أشياء كبيرة، أو ذات قيمة عالية، لكننا نستطيع أن نقدم ما نود تقديمه بطريقة جميلة وعظيمة، بل نستطيع أن نجعل من طريقة تقديم المعروف شيئاً مدهشاً ومثيراً، يشبه لوحة فنية جذابة، تخيلوا معي رجلاً يريد أن يتصدق على بعض إخوانه الذين يصلون معه في المسجد، فتنحى به في زاوية من زوايا المسجد بعد أن انصرف الناس، وأخذ يسأله عن حاله وحال عياله، ثم دس في يده شيئا من المال قائلاً: هذا شيء قليل وزهيد، وهو أقل من حقك علي، وما أنت فيه إنما هي أزمة عارضة، وسيأتي الله بالفرج، وستتحسن الأحوال، ولا تنسني من صالح دعائك، وإذا كنت ترى أنني أستطيع مساعدتك في الحصول على عمل، فأنا مستعد لتقديم الخدمة.
إن ما صاحب المال القليل الذي وضع في يد الفقير هو أكبر من المال وأهم، وهذا في مقدور كلِّ واحد منا أن يفعله. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهمية طريقة تقديم الصدقة حين ذكر أن من السبعة الذين يظلهم الله - تعالى - في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"[5].
النوع الثالث من العطاء هو العطاء المعنوي، وهو العطاء الحقيقي، وهذا موضع اتفاق، فأكثر شخص في العالم يشعر الناس بأنهم مدينون له، وعاجزون عن مكافأته هو الأم.
وعطاء الأمهات في معظم الأحوال ليس عطاء مادياً، وإنما هو الشفقة والرحمة والاهتمام، والعطاء المجاني السخي وغير المشروط، والشغف بالخدمة على امتداد الحياة. والعطاء المعنوي هو ما قدمه الأنبياء - عليهم السلام - للعالم عبر التاريخ، وهو ما قدمه، ويقدمه المصلحون والدعاة والعلماء، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. يقول أحد الحكماء: "إن ما نهديه من مال وجواهر وخواتم ليس هو الهدايا الحقيقية، إنه اعتذار عن الهدايا الحقيقية، إن الهدية الحقيقية هي قطعة من الروح، وبَضْعَة من النفس".(/3)
إن المسلمين يملكون اليوم الكثير من الأدوات والكثير من الأسباب، لكنهم حائرون في تنسيقها وإدارتها واستثمارها على النحو المطلوب؛ ولهذا فإن المجتمعات الإسلامية اليوم في أمس الحاجة إلى من يمنحها الرؤى، والأهداف، والغايات الكبرى والمرحلية، كما أنها في أمس الحاجة إلى من يمنحها الأفكار والمفاهيم التي تستخدمها في فهم العالم، واستيعاب المعطيات الجديدة، والتعامل معها على نحو مثمر ومنتج.
إن كثيراً من الشباب يشعرون باليأس والإحباط؛ بسبب سوء الأحوال وتدهور الظروف المعيشية، وهم في حاجة إلى من يمنحهم الأمل. ويبث فيهم الحماس للعمل، ويفتح أمامهم آفاقاً جديدة للتقدم. أضف إلى هذا أن هناك أعداداً كبيرة من المسلمين الذين لا يعرفون عن دينهم إلا القليل، وهم يحتاجون إلى تفهيم وتعليم، وهناك أعداد أخرى ضلوا الطريق؛ بسبب خضوعهم لغرائزهم، وهم يحتاجون إلى من يرشدهم إلى طريق الهداية، ويعينهم على أنفسهم.
يأتي في قمة العطاء المعنوي أن يجعل المرء من نفسه نَمُوذَجاً يقتدي به الفتيان والشباب على صعيد السمو الخلقي، والنقاء السلوكي، وعلى صعيد الأداء الجيد والنجاح الباهر والتفوق العظيم. إن علينا أن نتعلم من جديد فنون العطاء المعنوي، وعلينا أن نجاهد أنفسنا من أجل سلوك دروبه، ومن الله - تعالى - الحول والطول.
ــــــــــــــــــــــ
[1] سورة البقرة: [261].
[2] سورة البقرة: [272].
[3] متفق عليه.
[4] متفق عليه.
[5] رواه مسلم.(/4)
العنوان: تنمية حواس طفلك ضرورة نفسية وجسدية
رقم المقالة: 851
صاحب المقالة: سناء موسى
-----------------------------------------
مراحل متعددة تمر بها حواس الطفل الخمس أثناء نموها وتطورها.
تَدَخُّل الأم في تنمية حواس طفلها ضرورة حتمية.
يأتي الطفل إلى هذا العالم وعقله مهيأ لتلقي الكثير من المعلومات التي سيحصل عليها من خلال حواسه الخمس: السمع والبصر والتذوق والشم واللمس، فكيف نستطيع تنمية هذه الحواس لديه كي يكبر وينمو بطريقة طبيعية؟
تمييز:
يملك المولود الجديد الذي لم يتجاوز بعد أيام معدودة رغبة جامحة في النطق واللعب واستكشاف المحيط الخارجي وما يدور فيه، ويحاول التمييز بين هذا الفعل أو ذاك، ويرى الألوان لكنه لا يميزها في البداية؛ حيث تتطور هذه الحاسة لديه شيئاً فشيئاً؛ إذ لا يرى سوى الألوان المتناقضة كالأبيض والأسود في الأشهر الأولى.
ويستمتع بسماع صوت أمه وهي تدندن لينام في الفراش، ويتصرف في هذه المرحلة على مبدأ الفعل ورد الفعل، فيلتفت إلى مصادر الصوت، ثم في المراحل المتقدمة يميل إلى بعض الأصوات، وينفر من بعضها الآخر لاسيما المزعجة منها، بيد أن هذا التَّلَفُّتُ باتجاه الأصوات، وهذه الردود سوف تختفي بعد شهرين من ولادته وتحل محلها في الشهر الرابع من عمره تعاونٌ حقيقيٌ في المعلومات بين العين والأذن.
وفيما يتعلق بحاستي التذوق والشم يقول الخبراء: بعد أسبوع من ميلاد الطفل يستطيع أن يميِّز رائحة أمه؛ فحاسة الشم من الحواس المهمة لارتباط الطفل الرضيع بأمه، كما بيَّنت إحدى الدراسات أنّ الطفل يشعر بالسرور إذا اشتم رائحة ليمون.
ومن ناحية أخرى يستطيع الطفل عند ميلاده أن يتذوَّق الطعم الحلو والمر والحامض، ولكنه يفضل الطعام الحلو أكثر من غيره.(/1)
أما ردود الأفعال الخاصة بحاسة اللمس، فتظهر بجلاء واضح؛ حيث يسحب يده ويشدها عندما تتلامس مع الأشياء الغريبة عنه، ويخشى من اليد الممدودة إليه ولا يلامسها، ولمساعدته على تحريك حواسه وتنشيطها لابد أن تحدثه بصوت واضح، وتهمس في أذنه، وتدندن له، وتحدق في عينيه، وتلامس جسمه وكتفيه، ثم تشده شيئاً فشيئاً، وتساعده على الإمساك بالأشياء المحيطة به.
ولتنشيط انتباه الطفل نضع له في كل زاوية من زوايا المنزل مزهرية ملونة تحمل وشاحات بألوان زاهية وأدوات زينة، وخاصة تلك التي تصدر أصواتاً؛ إذ من شأنها أن تساعده على زيادة مساحة الرؤية.
في الشهور الأولى:
ينتبه الطفل إلى كل ما يجري حوله فالألوان المتناقضة والنور والإضاءة تجذب نظره، وتوقظه الأصوات القوية نسبياً، وفي هذه المرحلة يبتسم ابتسامة لا إرادية، ثم يكتشف لاحقاً أن هذه التي يمررها على جميع الأشياء المحيطة به هي يديه، ولا يهتم بالألعاب إلا إذا ما استخدمت في تنبيه نظره، ففي هذا العمر لا يحتاج الطفل سوى لنشاطات أمه التي تجلب له الدفء والحنان، والتي تملك الدور الأساسي في تنشيط وتحريك حواسه؛ فهي تحرضه ليكتشف يده وقدراته من خلال تقديم ألعاب يدوية يسيرة له، ومراقبة ميوله تجاه الألعاب المختلفة، وتركه يستخدم أصابعه تدغدغ الألعاب والأقمشة الناعمة، وعندما تبدأ أنامله الصغيرة بالحركة وتلمس الأشياء، نستطيع حينها وضع ألعاب يسيرة وخفيفة بين يديه ليحكم هو بنفسه القبض عليها.
أما لبعث النشاط في حاسة السمع لديه في هذه المرحلة العمرية، فيمكن استخدام ألعاب ملونة ذات أصوات ناعمة وجذابة، ولا يخفى أن لحديث الأم لطفلها دوراً عظيماً في ذلك.
وينوه الأطباء إلى أن الضوضاء الشديدة يمكن أن تتلف إذن الطفل؛ لأن أجزاءها رقيقة للغاية؛ لذا يوصون الوالدين بحماية أطفالهم من الضوضاء العالية، ومنحهم فترات صمت بعيداً عن التلفزيون والهاتف والضجة التي يحدثها إخوانهم.(/2)
من الشهر الثالث إلى السادس:
يحاول الطفل تحريك كل ما يقع بين يديه، وبجميع الطرق وفي جميع الاتجاهات، ويبحث عن مكانٍ يضع فيه ما يسقط بيديه من أشياء تلقاها من محيطه، إلا أن بحثه هذا غير إرادي؛ حيث يندهش من يديه أحياناً وتكون لسانه وشفاهه أكثر حساسية من أصابعه، وأصابعه التي يمصها بسعادة تعد لديه لعبة مسلية؛ فتبرز أهمية الألعاب وتكتسب معنى آخر.
يزحف الطفل على بطنه رويداً رويداً، ويتكئ على يديه، ويرفع رأسه ليراقب ويتأمل ما يدور حوله؛ لذا يفضل تركه يعبث على الأرض، بعد أن نوفر له مجموعة من الأغراض والأشياء التي يمكن تحريكها والسير من خلالها؛ فبهذا نحرر حركاته وننمي قدراته، ولمساعدته على الالتفات إلى الوراء والإمساك بما يحيط به نحاول أن نقلده في ذلك ونجعله يصنع دائرة بجسده؛ فتقوى بذلك عضلاته، وهكذا نُكَوِّن لديه شعوراً بالمتعة في إدارة أعضاء جسمه والتحكم بها.
تناغم بين الحواس والحركات:
في الشهر الخامس والسادس يبدأ الطفل بالاهتمام بلعبة "الأخذ والعطاء" بطريقة تدريجية؛ حيث يتعلم فتح يده ولمس الأشياء للوصول إلى أفضل النتائج؛ فَتُعْطَى له قطعة حلوى ليستخدم يده في التعرف عليها ومن ثم تذوقها، وبذلك نصل إلى تناغم حقيقي وتعاون بين حواسه وحركاته.
كما أن للعبة "الإخفاء " أهمية كبيرة في تنمية حواسه؛ فإخفاء الأشياء وإظهارها فجأةً تجعله يتعلم معنى بداية الأشياء ونهايتها، ويفهم إن كان هناك أشياء وإن لم تكن ظاهرة لكنها مستمرة في الوجود، فمثلاً يفهم إن كان والده موجوداً أم لا، وإن لم يكن هنا فسوف يراه لاحقاً.
ولتمكين الطفل من التمييز بين الأشكال والأحجام لابد أن نقدم له القوارير البلاستيكية متعددة المقاسات ومختلفة الأحجام والألوان، وألعاب من قطع القماش مختلفة في قياساتها.(/3)
وفي هذا العمر يحبذ تقديم مرآة مناسبة له، تكون غير قابلة للكسر كي تساعده على معرفة أبعاد جسمه وحدوده فيكتشف بذلك حركاته وابتسامته.
استقلالية:
يظهر لدى الطفل شعور بالاستقلالية بين الشهر السادس والسابع؛ فيحاول التعلق بالأشياء والتمسك بها ويحاول الجلوس، ويستمر الطفل في تنمية حاسة اللمس لديه، فيتحسس الأشياء ويتلمسها بيديه وينقلها من يد إلى أخرى ويلاحظ الأشياء الملفتة للنظر. كما يعشق اللعب بالماء في هذه المرحلة وصناعة الضجيج والصخب على مائدة الطعام، واللعب على الأرض. هذه الحركات كلها تجعله يختبر طاقته وقدراته على الفعل والتصرف وتزداد ثقته بنفسه يوم بعد آخر.
لابد من تقديم الألعاب التي تمكنه من استخدام جسده وتساعده على صناعة الحركات الضرورية للجسم، إلا أن ذلك لا يتحقق بسهولة، فهو يحتاج للمساعدة والتشجيع، ولن يتردد الطفل في فعل كل ما يستطيع فعله؛ لذلك لا داعي لإكراهه على عمل شيء فوق طاقته؛ كالخطأ في تقديم وسائل المشي قبل أوانه، ولابد من تجهيز محيطه بالوسائل التي تحرض على الحركة لديه؛ كأدوات الوقوف والوسائل التي تتغير بأوضاع متعددة وتولد لديه قدرات السير والحركة السريعة.
وأخيرا يرى الخبراء أن الكيفية التي يستخدم بها الطفل حواسه في الأشهر الأولى من حياته لها أثر بالغ في نموه مستقبلاً، وتستطيع الأم إيجاد الأرضية المهيأة لبناء شخصية الطفل الأولى، التي تبنى عليها الكثير من الآمال في المستقبل، فهي لا تتكون إلا في المراحل الأولى من العمر، وما يليها تكون الأغصان التي نمت بفعل الجذور السليمة والصحية.(/4)
العنوان: تنوع إنفاق المال
رقم المقالة: 763
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي من علينا بالأموال وشرع لنا إنفاقها فيما هو مصلحة في الدين والدنيا ووعدنا على ذلك الخلف العاجل في الدنيا والثواب الجزيل في الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجود والإحسان والأفضال، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي ينفق ماله لله ويعيش في نفسه عيش الفقراء ابتغاء مرضاة ذي الإكرام والجلال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليال وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما خولكم من هذه الأموال التي جعلها لكم قياماً يقوم بها دينكم ودنياكم وتصلح بها أحوالكم العامة والخاصة، واشكروه إن أنعم عليكم بها نعمة أخرى، حيث شرع لكم إنفاقها فيما فيه مصلحة لكم ووعدكم على ذلك الخلف والأجر، ولو شاء لم يشرع لكم إنفاقها ولم يتعبدكم بذلك فكان إنفاقها مغرماً، وليشكر الله من وفقه الله تعالى فقام بإنفاقها على الوجه الذي أمر به فلم يقصر في ذلك فيكون من الباخلين، ولم يغل في ذلك ويزد فيكون من المبذرين. واعلموا - رحمكم الله - أن إنفاق الأموال على وجهين وجه يثاب عليه العبد ويؤجر ونوع يعاقب عليه ويوزر، أما الذي يثاب عليه العبد ويؤجر فهو أن ينفقها في طاعة الله وما أمر به، وأما الذي يعاقب عليه ويوزر فأن ينفقها في معصية الله وما لا فائدة فيه فإن ذلك من السفه والتبذير.(/1)
واعلموا أن إنفاق الأموال في طاعة الله له أبواب كثيرة، فمن ذلك إنفاق الأموال في الزكاة المفروضة التي هي أحد أركان الإسلام، ولا يكون العبد مسلماً حتى ينفقها في الوجوه التي أمر الله بصرفها فيها، ومن ذلك أن ينفق الإنسان على نفسه فإن إنفاقك على نفسك صدقة تثاب عليها لأنك مأمور بحفظ نفسك بالطعام والشراب واللباس وغيرها مما تطلبه حاجتك أو ضرورتك. فإذا أنفقت المال في ذلك فقد قمت بحفظ نفسك ونيلها ما أباح الله لها من الطيبات وهذا خير وأجر. ومن الإنفاق في طاعة الله أن ينفق الإنسان على أهله من الزوجات والأمهات والآباء والأولاد وغيرهم، فإن الإنفاق عليهم طاعة لله وبر وأجر، ((قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وقد عاده في مرض ألم به واستشاره في الوصية فقال له: " واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فم امرأتك)).
أيها الإخوان: إن بعض الناس يقصر أو يتثاقل في الإنفاق على أهله شحا وبخلا، والشح والبخل من أوامر الشيطان {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولكن متى علم المؤمن أن الإنفاق على نفسه وأهله ليس بغرم وإنما هو مكسب وغنيمة، فالإنفاق فيما أمر الله به غنيمة لأنه زيادة في الإيمان وسبب لبركة المال ونموه وسبب للأجر المدخر عند الله، أما الإمساك عما أمر الله به فهو نقص في الإيمان وسبب لمحق بركة المال ونقصه ولعقوبة الله ومقته، ثم أن الممسك البخيل إن فاته المال ونزع منه في الدنيا فقد حرم خير الدنيا والآخرة، وإن بقي حتى مات صار لغيره غنمه وعليه غرمه وإثمه.(/2)
ألا وإن من إنفاق المال في طاعة الله أن تنفقه في الإحسان إلى القرابات الذين لا تجب عليك نفقتهم، إما لكون مالك لا يتحمل الإنفاق أو لغير ذلك، فهديتك على غنيهم هدية وصلة، وصدقتك على فقيرهم صدقة وصلة. وإن بعض الناس في هذه الناحية يقصر ويفرط، فتجده يقتصر على الإحسان إلى القرابة الذين يتبادلون معه الصلة وهذا في الحقيقة ليس بصلة، وإنما هي مكافأة للصلة أو مجلبة لها، فالواصل حقيقة هو الذي يصل من قطعه ويعطي من حرمه.
وأبواب إنفاق المال في الخير كثيرة، وكلما كان الإنفاق أنفع لعمومه أو شدة الحاجة إليه أو جلبه لمصالح أخرى كان أفضل وأجدى، وكل نفقة تبتغي بها وجه الله فأنت مأجور عليها لدخولها في الإحسان. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/3)
العنوان: (تهذيب تفسير الجلالين) للصباغ
رقم المقالة: 497
صاحب المقالة: الألوكة
-----------------------------------------
(تفسير الجلالين) من أشهر كتب تفسير القرآن على الإطلاق، ولا يكاد يخلو منه بيت من بيوت المسلمين، وهو على صغر حجمه من أجلِّ التفاسير وأفضلها وأنفعها، فقد صيغ بإيجاز مُحكَم ، وعبارته عبارةٌ علميَّة مركَّزة، جمعت لُباب ما في كتب التفسير، حتى لتخالها لم تغادر معنى من المعاني المنتثرة فيما سواه.
وقد ألَّفه إمامان جليلان، كلٌّ منهما يلقَّب بـ جلال الدين، ولذلك سمِّي بتفسير الجلالين، وهما: جلال الدين المَحَلِّي المتوفَّى سنة (864هـ)، وجلال الدين السُّيوطي المتوفَّى سنة (911هـ). وقد فسَّر كلٌّ منهما نصف القرآن، المحلِّي: من أول سورة الكهف إلى آخر القرآن مع الفاتحة، والسيوطي من أول البقرة إلى آخر سورة الإسراء.
صَحِبَ فضيلة العلامة الشيخ د. محمد بن لطفي الصباغ تفسير الجلالَين تلاوةً ومطالعةً دهراً طويلاً، وقام بتدريسه عقوداً من الزمان، فحصَّل من هذه الصحبة فوائد عظيمة، ولم يمنعه بعضُ ما فيه من عيوب أن يقطف ثمرات محاسنه الجمَّة، فلا يخفى أنه لا يكاد يخلو كتاب من صنع البشر من زلل أو خطأ.
وقد لخَّص الشيخ الصبَّاغ مآخذه على تفسير الجلالين فيما يأتي:
1- جنح المؤلفان - المحلِّي والسيوطي- إلى تأويل آيات الصفات، خلافاً لمنهج سلف هذه الأمة في إمرارها من غير تأويل، يفضي إلى التحريف، ولا تشبيه ولا تجسيم.
2- وجود بعض الإسرائيليات الباطلة، على نحو ما هو ملاحظ في عامَّة كتب التفسير.
3- التوسع في استعمال مصطلحات نحوية لا يفهمها إلا المتخصِّصون.
4- الإيجاز المؤدِّي في كثير من الأحيان إلى الغموض.
5- السكوت في بعض الأحيان عما يتطلَّب التفسير.
6- اختيار أقوال مرجوحة في التفسير.(/1)
7- إحالة القارئ في تفسير آية معيَّنة إلى مواضعَ أخرى لم تُحدَّد، مما ينتج عنه صعوبة في الوقوف على التفسير المطلوب.
8- بنى المؤلفان هذا التفسير على قراءة غير قراءة حفص التي انتشرت وشاعت في جُلِّ بلاد المسلمين، وهذا يؤدي بالذين لا يعرفون سواها من القراءات إلى الظن بوجود خطأ في الآية، في حين هي على الصواب.
9- ويرى الشيخ الصباغ أن تعدد القراءات في التفاسير الموجزة لا يفيد غير المتخصِّصين من القرَّاء.
ولما تقدَّم من ملاحظات رأى الشيخ الصباغ أن يهذِّب تفسير الجلالين، لينفيَ عنه ما سبق من مثالب ومآخذ، حتى يتهيأ للقارئ المتدبِّر أن يتأمَّل السياق الكريم، ويتدبَّر معانيه، مما يهيِّئ له الفهمَ السليم للنصوص القرآنية الكريمة.
وقد صدرت الطبعة الأولى من (تهذيب تفسير الجلالين) للشيخ الصباغ في مجلَّد كبير، في 605 صفحات، بهامش المصحف الشريف بخط عثمان طه، قبل أشهر قليلة، في نهاية عام 1427هـ، عن المكتب الإسلامي.
وقد اعتمد المؤلِّف صاحب التهذيب قراءة حفص عن عاصم في تهذيبه، وحذف الكلام على القراءات الأخرى.
ووافق الجلالين في غالب الأحيان، وخالفهما في بعض المواضع معتمداً على أرجح الأقوال عند أئمة المفسرين، وبخاصَّة إذا وافقت أقوالُهم ما صحَّ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما حذف بعض التفصيل فيما لا يراه ضرورياً، وأبقى على الإطناب الذي يساعد في فهم المعنى.
وأورد ما صحَّ من أسباب النزول، وهو يرى أن هذا الباب ما يزال بحاجة إلى خدمة متأنية دقيقة، تنقيه مما لا يصح.
وقد نبه الشيخ الصباغ على أنه اضطرَّ إلى حذف طامَّات نتجت من ذكر الإسرائيليات، باعتبار أنه قام بتهذيب التفسير، ولم يقم بتحقيقه.
ثم عاد مرة أخرى إلى الثناء على تفسير الجلالين، ليرفع من همم طلاب العلم، حتى لا يكون سيرهم في رحاب العلم خبط عشواء.(/2)
نسأل الله الكريم أن يتقبل من الشيخ الصباغ هذه الخدمة الجليلة، وأن يجزيه خيراً على هذا العمل، وأن ينفع به المسلمين عامَّة، وطلاب العلم خاصَّة.
والله من وراء القصد.(/3)
العنوان: توبة شاب.. معاكس
رقم المقالة: 1609
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
هذه القصة تناسب خطب الجمعة في موضوعات: الموت - القَدَر - حسن الخاتمة - الابتلاء - التوبة - العمل الصالح - الآخرة - النصح - الدعوة - المعاصي...
حدثت هذه القصة في أسواق العويس بالرياض. يقول أحد الصالحين: كنت أمشي في سيارتي بجانب السوق، فإذا شاب يعاكس فتاة, يقول: فترددتُ هل أنصحه أم لا؟ ثم عزمت على أن أنصحه, فلمَّا نزلت من السيارة، هربت الفتاة، وخاف الشاب؛ توقعوا أني من الهيئة, فسلَّمتُ على الشاب، وقلت: أنا لست من الهيئة، ولا من الشرطة، وإنما أخٌ أحببت لك الخير، فأحببت أن أنصحك.
ثم جلسنا وبدأتُ أذكره بالله؛ حتى ذرفت عيناه، ثم تفرَّقنا، وقد أخذت هاتفه، وأخذ هاتفي.
وبعد أسبوعين كنت أفتّش في جيبي، وجدت رقم الشاب، فقلت: أتصل به، وكان وقت الصباح، فاتَّصلت به قلت: السلام عليكم، فلان هل عرفتني؟
قال: وكيف لا أعرف الصوت الذي سمعت به كلمات الهداية، وأبصرتُ النور وطريق الحق؟! فضربنا موعد اللقاء بعد العصر, وقدّر الله أن يأتيني ضيوف, فتأخَّرت على صاحبي حوالي الساعة، ثم تردَّدت هل أذهب له أو لا؟ فقلت: أفي بوعدي ولو متأخرًا.
وعندما طرقت الباب فتح لي والده. فقلت: السلام عليكم.
قال: وعليكم السلام.
قلت: فلان موجود؟
فأخذ ينظر إليَّ, قلت: فلان موجود؟
وهو ينظر إليَّ باستغراب.
قال: يا ولدي هذا تراب قبره، قد دفناه قبل قليل.
قلت: يا والد قد كلمني في الصباح.
قال: صلى الظهر، ثم جلس في المسجد يقرأ القرآن، وعاد إلى البيت، ونام القيلولة، فلما أردنا إيقاظه للغداء، فإذا روحه قد فاضت إلى الله.
يقول الأب: ولقد كان ابني من الذين يجاهرون بالمعصية؛ لكنه قبل أسبوعين تغيَّرتْ حاله، وأصبح هو الذي يوقظنا لصلاة الفجر، بعد أن كان يرفض القيام للصلاة، ويجاهرنا بالمعصية في عقر دارنا, ثم منَّ الله عليه بالهداية.(/1)
ثم قال الرجل: متى عرفت ولدي يا بني؟
قلت: منذ أسبوعين.
فقال: أنت الذي نصحته؟
قلت: نعم.
قال: دعني أقبِّل رأسًا أنقذ ابني من النار!(/2)
العنوان: توصيف مقررات الثقافة الإسلامية اتفاقاً واختلافاً
رقم المقالة: 1176
صاحب المقالة: د. محمد بن عبدالله حياني
-----------------------------------------
توصيف مقررات الثقافة الإسلامية اتفاقاً واختلافاً وأثر ذلك في تغطية حاجة الواقع المعاصر
الملخص:
جاء هذا البحث ليلبي ما مست إليه الحاجة من إعادة النظر في مقررات الثقافة الإسلامية في جامعات المملكة على طريق التعديل كي تؤتي ثمارها المرجوة بتحقيق أهدافها المنشودة، وقد تضمن البحث المقارنة بين مقررات الثقافة الإسلامية في الجامعات لتكشف الستار عن مواطن الضعف في تلك المقررات ليتسنى تعديلها حسب المناسب.
كما تضمن البحث طرح آلية التعديل بالإفادة من المقررات الأتم، وإضافة مقررات أو مفردات جديدة كي تلبي حاجة الواقع المعاصر، أو بتوحيد المقررات بين جميع الجامعات بمفرداتها، وفقراتها، وأسمائها، وأقسامها، ومصادرها بعد تعديلها بالأسلوب الذي سبق ذكره.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:(/1)
فقد أضحى واضحاً أهمية تدريس مقررات الثقافة الإسلامية للطالب والطالبة الجامعية بالشكل الكافي الذي يغطي حاجة الواقع المعاصر من المستجدات والمتغيرات؛ لذا قامت هذه الندوة للنظر في مقررات الثقافة الإسلامية من حيث كفاءتها لتلبية حاجة المتغيرات والمستجدات على الساحة ليتم تعديلها وإعدادها إعداداً يناسب مستجدات العصر، بهدف تعديل المسار الفكري، والثقافي، والسلوكي في الطالب مع غرس المناعة ضد التيارات المعادية للثقافة الإسلامية، ولا شك أن ذلك يعود بالإيجابية على جميع شعب المملكة، وقد ترجح لدي أن أقدم دراسة لجميع مقررات الثقافة الإسلامية في جامعات المملكة مقارناً بينها ليتجلى مدى التفاوت بينها كماً وكيفاً، ثم مقابلاً إياها بالأهداف المرجوة والمنشودة من تدريس هذه المقررات في ضوء التطورات والمستجدات العلمية والفكرية والتربوية في عالمنا المعاصر، ليتبين مدى تغطية هذه المقررات لأهدافها في ضوء تلك المستجدات، ومدى الضرورة إلى تغطيتها، ولا شك أن علم الثقافة الإسلامية علم بكر، ومتجدد، يعالج ما يستجد على الساحة، ويسد ذرائع فكرية، وثقافية، وتربوية في حياة المجتمع، للحفاظ على استقامة مسيرته ومثالية شخصيته.
وفي نفس الاتجاه والقصد، وتتميماً للفائدة أذكر مدى الحاجة إلى توحيد مقررات الثقافة في جامعات المملكة كماً وكيفاً لسد الثغرات ولتعم الفائدة والنفع لجميع طلاب وطالبات الجامعات دون استثناء.
هذا وقد وسمت البحث بعنوان (توصيف مقررات الثقافة الإسلامية في جامعات المملكة اتفاقاً واختلافاً وأثر ذلك في تغطية حاجة الواقع المعاصر).
وقد حصرت خطة البحث في ما يلي:
المبحث الأول: أهداف مقررات الثقافة الإسلامية في جامعات المملكة.
المبحث الثاني: المقارنة بين مقررات الثقافة الإسلامية في الجامعات وجوداً وعدماً، وإجمالاً وتفصيلاً.
ويتضمن ما يلي:
المطلب الأول: جدول إحصائي مقارن يوضح فقرات الاتفاق والافتراق.(/2)