دفعت الثقافة الغربية إلى الاستمرار على هذا المنهج المتطرِّف أحادي الثقافة.
وإذا كنا في سياق الحديث عن الثقافة الإسلامية فإنها ثقافة اختلفت كثيراً عن غيرها في موقفها من الثقافات الأخرى؛ فقد اعترفت بثقافات الأديان التي كانت موجودة داخل الوطن الإسلامي، ومنحت أصحابها حرية الممارسة، واحترمت مقدساتهم ومصادرهم الدينية والفكرية، فقد أقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته إلى المدينة، وتأسيسه لدعائم الدولة الإسلامية - لليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة حقهم في ممارسة دينهم، ففي المعاهدة التي عقدها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أهل يثرب من المسلمين واليهود، التي تعد أول دستور مكتوب للدولة الإسلامية التنصيص على أن: ((لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم)) [41، ج2، 121]، كما أن العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأهل إيلياء دليل على أن إقرار الإسلام للأديان الأخرى، واحترام معقتداتها وما ينشأ عنها من قيم ومبادئ – موقف ثابت في تاريخ المسلمين، فكان مما جاء في عهد عمر - رضي الله عنه -: "هذا ما أعطى عمرُ أميرُ المؤمنين أهلَ إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أماناً لأنفسهم، ولكنائسهم، وصلبانهم. لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا يُنتقَض منها ولا من حِيَزها، ولا من صُلُبهم، لا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم" [42، ج4، ص158]، وحاور المسلمون أتباع هذه الأديان بالتي هي أحسن دون إكراه يحمل أحداً على الانسلاخ من ثقافته، أو مصادرة آرائه؛ وإنما حوار منفتح، ومقنع على أساس: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 111] يمكِّن الأمة من القيام بواجب الشهادة على الناس التي جعلها الله وظيفة من وظائفها في علاقتها بغيرها، وتواصلها مع الآخرين، قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ(/30)
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143].
إن الثقافة الإسلامية تمتلك خطاباً وسطياً بعيداً عن الغلوِّ، والتفريط، والتنفير في الأسلوب والمضمون، تستمدُّه من وصايا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي موسى - رضي الله عنهما - لمّا بعثهما إلى أهل اليمن، وكانوا أهل كتاب: ((يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّراً ولا تنفِّراً)) [43، ج5، ص107]، وتسعى أيضاً إلى تأليف القلوب، والابتعاد عن كل ما يؤجج مشاعر العداء لدى الآخر، والعمل على تضييق دائرة الخلاف معه تجنباً لكل ما يؤدي إلى القطيعة والسباب، ففي الحديث عن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - قالت: "أتتني أمي راغبة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أأصلها؟ قال: ((نعم)). قال ابن عيينة: فأنزل الله - عز وجل - فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]"، وقال - تعالى -: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}" [الأنعام: 108]. قال القرطبي في تفسير الآية: "نهى – سبحانه - المؤمنين أن يسبُّوا أوثانهم؛ لأنه علم إذا سبوها نَفَر الكفار، وازدادوا كفراً" [44، ج7، ص61]، كما ترعى الثقافة الإسلامية في تعاملها مع الآخرين منهج العدل، والإنصاف في جميع الأحوال [45، ص13-15] عملاً بأمر الله - تعالى - للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا(/31)
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
وفي الجملة فإن توخي النزاهة والموضوعية والاحترام في قضايا الاختلاف، والتعدد الثقافي، والتمايز الحضاري، والنظرة العادلة إلى كل الثقافات التي تعطي كلَّ ذي حق حقَّه - سيعزز مستقبل الإنسانية بالوئام والتعايش الممكن؛ بدلاً من التنافس والصدام المهلك للشعوب، المكرس للكراهية بينها [40، ص123]، وسيتيح مجالاً رَحْباً للحوار بين الشعوب، وسيمنح الآراء الصائبة الظرف المناسب لإقناع الآخرين، والانتفاع بها دون حاجة إلى إكراههم على قبولهم، ومن ثَمَّ سيجعل ثقافتها ظاهرة على الثقافات الأخرى، ذلك أن الثقافة الأقوى التي تمتلك العلم والحق والإقناع لا تخشى على نفسها من السقوط أو الانهزام.
تعدد الثقافات داخل الوطن الإسلامي
إن الوطن الإسلامي على امتداده يعِجُّ بالاتجاهات الفكرية، والمذهبيات العقدية والفقهية، وإذا كان من جامع له فإنه يجتمع على قدر كبير من الثقافة الإسلامية العامة التي هي ثقافة كل أطيافه، ونخبه، ومذاهبه، وهي مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ويفترقون في تفصيلاتهم، وهذا الافتراق - وبالأحرى الاختلاف - يعود إلى مشارب، ومدارس، وقناعات شخصية، وجمعية، ونظرات إلى المستقبل لها بعد تاريخي، وعقدي، وفقهي، وقومي، وواقعي، ولا يمكن أن يُستثنَى مجتمعُ أيِّ دولة من الدول الإسلامية من هذا الاختلاف، أو التعدد الثقافي، فقد افترقت الأمة الإسلامية إلى فرق متعدِّدة، اندرس كثير منها، وبقي بعضها، لكل فرقة عقائدها، وأعلامها، ورؤاها، وتعددت الاجتهادات الفقهية في الوقائع والمستجدات، وتشكَّلت بسببها مذاهب فقهية، لكل مذهب منهجه وقواعده واستدلالاته، واختلفت النزعات الوطنية والقومية، ولكلٍّ حزبه وطموحاته، وتباينت النظرات إلى المستقبل، ولكلٍّ رأيه وتوقعاته ومعالجاته، وقد نشأ عن كل منها ثقافة خاصة بها، لها سماتها، ومفرداتها، وأطروحاتها.(/32)
وأمام هذه الثقافات المحلية ذات العمق التاريخي: كيف نقف ونحن في حال من التحدي من الثقافات الأجنبية التي تريد أن تفرض نفسها علينا، وتُلغي كل أنواع ثقافتنا؟ هل نقف موقف الإقصاء من الآخر، أم نقف منه موقف الاعتراف؟
نعم هناك من يرى ضرورة الاعتراف بتعدد الثقافات المحلية، وقبول الآخر من المواطنين في الوطن تعايشاً، وتحاوراً، وتسامحاً بحجة أن العصبيات والمذهبيات والطوائف لا يمكن أن تكون القاعدة أو المرجعية لأي مجتمع يواجه تحديات العصر الحديث [46، ص149]، وأن هذه التعددية لا تُعَدُّ خطيرة ولا ضارة، وبخاصة في ظل قيم تربوية متوازنة، يحترم فيها كل فرد خصوصيات الآخر، وكثيراً ما يقع التعايش والتساكن بين المجتمعات المتباينة في مواقفها إذا احترم كل فريق خصوصيات الفريق الآخر، وكلَّما نمت قيم الفضيلة في المجتمع، واتسعت آفاق الرؤية الإنسانية كانت أسباب التعايش والتساكن أرسخ وأقوى، وكانت قادرة على صياغة قاعدة سليمة وعادلة لتعاون مثمر ومفيد، لتحقيق مصالح مشتركة لكل من الفريقين.
والمجتمعات الإسلامية أقدر من غيرها على تحقيق هذه المعادلة بين الطوائف والمذاهب والأديان، وهذا ما يؤيده تاريخنا الإسلامي الذي احتضن أروع صورة من صور هذا التعايش في ظل قوميات متباعدة، ولغات متباينة، وبين شعوب متنافسة [47، ص383].(/33)
وهناك من يرى أن تبنِّي ثقافة واحدة ترعى الوحدة في أركان الدين وقواعد الملة، وتقر الاختلاف في القضايا الفرعية [48، ص2] دون الأصول هو الأولى، حفظاً لوحدة الأمة وتماسكها واجتماعها، لاسيما أن النصوص الشرعية من القرآن والسنة قد دعت إلى البعد عن الاختلاف والفرقة، قال - تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. وقال - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "الظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفاً له؛ فإن الله بعث رسوله بالهدى، ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه، ولا افتراق، فمن اختلفوا فيه، وكانوا شيعاً - أي فرقاً كأهل الملل، والنِّحَل، والأهواء، والضلالات - فإن الله - تعالى - قد برأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما هم فيه" [49، ج2، ص196]. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "خطبنا عمر بالجابية، فقال: "يا أيها الناس، إني قمت فيكم كمقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا، فقال: ((أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة))" [9، ج...، ص...]. وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالانصراف عن قراءة القرآن - على عظم فضله - إذا كانت قراءته تؤدي إلى الاختلاف، والتنازع، والتعادي، فعن جندب بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم(/34)
فقوموا عنه" [43، ج6، ص115، و17، ج4، ص2053].
لعل الجمع بين أثر هذين الرأيين في الواقع يتضح إذا أدركنا أن الاختلاف عموماً على نوعين: الأول: اختلاف تنوُّع، وهو أن يكون كل واحد من القولين والفعلين والرأيين حقاً مشروعاً، كاختلاف الصحابة - رضي الله عنهم - في القراءات، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "سمعت رجلاً قرأ آية، وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ خلافها، فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهة، فقال: ((كلاكما محسن، ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا))" [43، ج3، ص88]. ومنه كون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر، لكن العبارتين مختلفتان، كما قد يختلف في ألفاظ الحدود، والتعبير عن المسميات، والمفاهيم [50، ص514]، فهذا الاختلاف سائغ، فقال العلامة ابن الوزير: "الخلاف الذي نهى عنه، وحذر منه الهلاكَ هو التعادي؛ فأما الاختلاف بغير تعاد فقد أقرهم عليه، ألا تراه قال لابن مسعود: ((كلاكما محسن)) حين أخبره باختلافهما في القراءة؟! ثم حذرهم من الاختلاف بعد الحكم بإحسانهما في ذلك الاختلاف، فالاختلاف المحذِّر منه غير الاختلاف المحسَّن به منهما، فالمحذر منه التباغض، والتعادي، والتكاذب المؤدي إلى فساد ذات البين، وضعف الإسلام، وظهور أعدائه على أهله، والمحسَّن هو عمل كل أحد بما علم مع عدم المعاداة، والمخالفة، والطعن عليه". قال: "وعلى ذلك درج السلف الصالح من أهل البيت والصحابة والتابعين" [51، ص375].(/35)
أما النوع الثاني من الاختلاف: فهو اختلاف التضاد – أي: القولين المتضادين - إما في الأصول، وإما في الفروع، على أساس أن المصيب واحد، وهو المحمود، فهذا الاختلاف يؤول غالباً إلى العداوة والبغضاء، لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك، ولذلك جعل الله مصدره البغي [50، ص516] في قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213]. ولو حصل الإنصاف واحترام الآخر لكان هذا الاختلاف أيضاً مقبولاً سائغاً؛ إلا أن الواقي من الوقوع في البغي بين المختلفين يكون في ابتغاء كلٍّ منهما الحقَّ وحده.(/36)
ولما كانت الثقافة الإسلامية مرتبطة بالوحي الإلهي، ومستقلة في نشأتها عن تأثير الثقافات الأخرى، فهي لم تتطور عن أحد منها، أو تتولد عنها، وإنما نشأت في كنف مفاهيم القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وتصوراتهما، ونمت في ظلهما، وارتبطت بالإسلام الذي هدم الشرك، ونسخ الأديان، وانفردت بوصف الدين الصحيح، كما قال - تعالى -: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]. وقال - تعالى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. فبسبب ارتباط الثقافة الإسلامية بالوحي اختلفت عن الثقافات التي قامت على آراء البشر واجتهاداتهم، أو تطورت عن ثقافات قديمة، أو تولدت عنها؛ إذ قامت الثقافة الإسلامية على أصل ديني صحيح هو الإسلام، ونشأت مستقلة عن غيرها من ثقافات الأمم والمجتمعات، فهي ليست متطورة عنها، ولا امتداداً لأحدها.(/37)
ولا ريب أن استنادها على الوحي في كل قضاياها وتصوراتها يجعلها أيضاً مصونة عن الوقوع تحت تأثيرات الأهواء، والآراء الفاسدة، والمذهبيات المنحرفة التي ينشأ عنها الاختلاف المتضاد، وتتولد عنها العداوات؛ فالعاصم لها من ذلك يعود إلى رد مسائل التنازع والاختلاف في كل القضايا إلى كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لاستجلاء الحق وبيانه، وإلى تسويغ الاختلاف لأسباب علمية وظنية؛ شريطة ألا يفسد ما بين أهل العلم والفكر من ألفة وعصمة، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن: "العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله في قوله - تعالى -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرةَ مشاورةٍ ومناصحةٍ، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة، والعصمة، وأُخوَّة الدين.
نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع" [52، ج24، ص172] الذين يتبعون أهواءهم، ويتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله.(/38)
وإذا كانت الأمة مطالبة بأن تجتمع وتتحد على أصول الدين، وأركانه العلمية والعملية العظام، ومفاهيمه العامة، ومقاصد الشريعة التي تشكِّل مضامين الثقافة الإسلامية، ومعالمها الظاهرة - فإنه لا يضرها أن تختلف في القضايا التي دونها من الفروع والجزئيات؛ فإن الخلاف فيها سائغ وواسع؛ لاختلاف الناس في الفَهْم، "والاستنتاج، والاستنباط، واختلافهم في الرأي، والنظر، والإحاطة بعلوم الشريعة، وأسرارها، ومعانيها، وظروف النصوص النازلة وأسبابها" [48، ص2]، ذكر الإمام الشاطبي في هذا الأمر كلاماً نافعاً بعد أن ذكر اختلاف أهل الملل السابقة، واتفاق أهل الحق من أمة الإسلام فقال: "ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني، لا بالقصد الأول، فإن الله - تعالى - حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار، ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنِّيَّات عريقة في إمكان الاختلاف فيها؛ لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات؛ فلذلك لا يضر هذا الاختلاف" [53، ج2، ص168]، فهو مع كونه ضرورة، هو كذلك رحمة بالأمة، وتوسعة عليها؛ فقد اجتهد الصحابة - رضي الله عنهم - واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم يضِيقُوا ذرعاً بذلك؛ بل وطَّنوا أنفسهم على ذلك، قال يونس الصدفي: "ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة" [54، ج10، ص16]. وقد كان الإمام أحمد يحترم رأي الإمام إسحاق بن راهويه؛ وإن كان يخالفه في أشياء، قال عن ذلك: "لم يعبر الجسر إلى خرسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا" [54، ج11، ص371]؛ بل إن هؤلاء الفقهاء باختلافهم أتاحوا لمن بعدهم فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم، كما أنهم سَنُّوا لنا سنة الاختلاف في(/39)
القضايا الاجتهادية، وظلوا معها إخوة متحابين [55، ص47-51]؛ فهذا عمر بن عبدالعزيز الخليفة الراشد يرى اختلاف الصحابة سعة ورحمة، فيقول: "لا يسرني أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة" [56، ج1، ص209، 57، ص392]، كما أن من بعدهم من الأئمة المتبوعين لم يروا أن يُحمَل أحدٌ على رأيهم بالعنف والقوة، يدل على هذا أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور لما أراد أن يحمل الناس على ما في "موطأ الإمام مالك" من آراء وأحكام بلسطان الدولة بحيث يلتزم بها الكافة، وتلغى الآراء والاجتهادات الأخرى نهاه الإمام مالك عن ذلك؛ لما في ذلك من مصادرة للآراء السائغة، وإلغاء لاجتهادات الآخرين، وما بني عليها من أوضاع وأحوال، فقد روي أنه لما حج المنصور قال لمالك: "قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنفتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصرٍ من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم بأن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره. فقال: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأُتُوا به من اختلاف الناس؛ فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم" [58، ج1، ص145].(/40)
يبدو أن ثقافة الاختلاف، وتعدد الثقافة شائعة وممارسة إلى درجة عالية في عهود سلف الأمة الصالح وَفق ما نطقت به أقوالهم والقصص السابقة، وأن التنوع الثقافي كان ظاهرة من الظواهر الفكرية في مجتمعهم التي لا يمكن إخفاؤها، وأن الثقافة العامة التي تمثل اتجاه جمهور العلماء وعليها غالب الناس لم تكن الوحيدة في المجتمع؛ وإنما هناك ثقافات محلية تختلف سعتها، ويتباين عدد أتباعها هي ثقافة مدارس واتجاهات فكرية موجودة وقائمة، وأن العلاقة بينها كانت علاقة حوار، وتغافر، واعتذار؛ لا علاقة عداوة، وبغض، وكراهية، فعلماؤها كانوا يراعون الألفة، والعصمة، وأخوة الدين وإن اختلفوا في القضايا العلمية العَقَديَّة، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية [52، ج24، ص172]، ومن الأمثلة على ذلك اعتذار شيخ الإسلام ابن تيمية لشيوخ أهل التصوف الذي حسُن ذكرهم، وثبت إيمانهم، فقال: "لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق وإن وقع في كلام بعضهم ما هو خطأ منكر فأصل الإيمان بالله ورسوله إذا كان ثابتاً غفر لأحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاده" [59، ج1، ص265]. وإنكاره ذم المجتهد وتأثيمه؛ إذ يقول: "ومن عُلِم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له؛ فإن الله غفر له خطأه" [52، ج28، ص234]. مما يجعل مسلك الاقتصار على المذهب السائد متشدِّداً؛ لما في ذلك من تنكُّر للتراث الإسلامي الذي يعترف بالثقافات المختلفة، والمذاهب المتنوعة، ولسير العلماء، ومفكري الأمة الذين كانوا يتعاملون مع مخالفيهم على أساس الحق والعدل، ويراعون في ذلك تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، ويجتنبون كل ما يفضي إلى الكراهة والعداوة.
الثقافة الوطنية و(العولمة)(/41)
إن (العولمة) في اتجاهها الفكري "تطمح إلى صياغة ثقافة كونية شاملة، تغطي مختلف جوانب النشاط الإنساني، فهناك اتجاه صاعد يضغط في سبيل صياغة نسق ملزم من القواعد الأخلاقية الكونية" [60، ص104]، وإن هذه الثقافة مهما استخدم في صياغتها من صيغة علمية ومعرفية فإنها - كما يراها الأستاذ عبدالوهاب المسيري - صيغت داخل التشكيل الحضاري والسياسي الغربي، فهي تحمل معالم هذا التشكيل، وتدور في إطار العلمانية الشاملة، التي تدعو إلى إنكار القيم، وتأكيد النسبية المعرفية والأخلاقية، وتطوُّر العالم؛ ولا يبعد أن تكون الصفة المعرفية لهذه (العولمة) وسيلة للتسلل إلى أرجاء العالم من أجل بناء الهيمنة الثقافية الغربية [61، ص20] التي تسعى الدول الغربية إليها، وتعمل على تحقيقها عن طريق الاتفاقات الثقافية والاقتصادية وغيرها مع الدول الأخرى، والتي غالباً ما تفرض فيها مصالحها الثقافية، وسيادة قيمها على الأطراف الأخرى؛ لكونها تمثل الطرف الأقوى، سواء كانت هذه الاتفاقيات ثنائية، أم عن طريق المنظمات الدولية، كمنظمة التجارة، ومنظمة العمل الدولية، أو عن طريق المؤتمرات التي تقرر فيها القيم الغربية، وتلزم بها الدول الأخرى، وتربط الدول الغربية مساعداتها للدول الأخرى بتنفيذها، أو عن طريق وسائل الإعلام العالمية؛ كالفضائيات، وشبكة (الإنترنت) [62، ص37] التي تعتمد مادتها الإعلامية على تسويق الفكر الغربي؛ لذا لا يرى الدكتور عبدالرحمن الزنيدي غرابة في أن تصبح (العولمة) نهجاً جديداً للغرب، يروِّج بصورة صريحة وظاهرة من خلاله قيمه ذات البعد الجسدي المادي في القضايا التي تتصل بالمرأة، والأسرة، والمجتمع، ومعطيات حضارته المادية الشهوانية التي تُعَد أشد الحضارات فساداً في الأمور الاجتماعية، وقد تجلت بدايات هذا الترويج في قرارات مؤتمرات السكان والمرأة [62، ص29] التي عقدت في القاهرة عام (1994م)، وفي بكين عام (1995م) باهتمام ورعاية(/42)
غربية.
ومن الناحية الواقعية نجحت (العولمة) الثقافية بوسائلها السياسية والمعلوماتية والاجتماعية في صياغة مفاهيم جديدة في بعض التصورات الثقافية والسياسية والاجتماعية، واستطاعت أن تحلها محل الثقافات الوطنية، ولا ريب أنها من هذه الناحية شكلت خطراً على الهوية الثقافية الوطنية للمجتمعات، وعلى الحس الوطني الرسمي المتولد عن خصوصية التجربة التاريخية للدول.
نعم؛ إنه قد لا يستطيع أي مجتمع أن يبقى صامداً في زمن انهيار الحدود، وتدفُّق الأفكار والنظم بشكل سريع ومتتابع عبر منافذ متعدِّدة أمام هذه (العولمة) دون أن يتأثر بمفاهيمها الثقافية الجديدة؛ إلا أن ذلك ليس مطَّرداً، أو حتميّاً لا مناص منه؛ فإن المجتمعات التي تمتلك ثوابت عقدية وخلقية متجذرة في قلوب أفرادها، وعقولهم، وسلوكهم، وحياتهم - قادرة بفضل ما لديها من منظومة عقدية، وتصورات فكرية، وقيم خلقية على رد هجمات (العولمة) الثقافية الغربية التي تصر على إلغاء ثقافتها لتَحلَّ محلها، دون أن تأبه بسياقها التاريخي والثقافي الخاص، مما يجعل هذه المجتمعات في حال من التحدي أمام هذا الطوفان الثقافي الغربي المندفع نحوها ليجرف ثقافتها، ويمسخ هويتها، ومصادرة ما لديها من خصوصيات.(/43)
لذا كان لزاماً على علماء الأمة ومفكِّريها من الغيورين على دينهم وأوطانهم وهم يرون ما يجري حالياً على المستوى الدولي من تهميش لثقافات الشعوب لتحل محلها ثقافة النظام الواحد، وهي ثقافة الغرب عن طريق الوسائل الحديثة المستخدمة من أجل إحداث الإحلال المطلوب، ومن هذه الثقافات ثقافتنا الإسلامية التي تتعرض كغيرها إلى محاولة مستعِرَة لإلغاء خصوصيتها، ومسخ شخصيتها التي تستمدهما من انتمائها إلى الإسلام الحنيف - كان لزاماً على هؤلاء أن يعملوا على تعزيز هوية الوعي، والولاء، والانتماء بين المادية والروحية، وغرس روح المحبة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والخشية من مخالفة أمرهما، وعلى توضيح قضايا العقيدة، وأحكام الشريعة بما يعين على تفهُّم روح الإسلام، والطرائق السوية لتناول الحياة، وتمييز الباطل من الحق، والحرام من الحلال [63، ص162].
وأمام هذا التحدي الذي تتعرض له ثقافتنا لابد في المملكة العربية السعودية - وهي مستهدفة كغيرها من الدول في عالم يعيش تطوُّراً عاصفاً تهيمن عليه الدول المتقدمة، وتعمل على فرض ثقافتها على الآخرين - من وضع استراتيجية واضحة وواقعية ومنظمة لمواجهة هذا التحدي، بحيث تساعدها على حماية ذاتها، والحفاظ على هوية المجتمع الثقافية، وصيانتها من أي ضرر تغريبي يلحق بها، والسعي في تطوير هذه الثقافة، مع التمسك بالثوابت، ومراعاة المستجدات بحيث تصبح ثقافة منتجة؛ وليست مستهلكة وحسب [21، ص48].(/44)
إذا كانت الثقافة الإسلامية أكثر من غيرها مقاومة لتيار (العولمة)؛ لما تمتلكه من مقومات الثبات، وفي مقدمتها الرصيد العقدي النقي، ومصادر الوحي الصحيحة، والماضي التاريخي المشرق، والتراث العلمي المتكامل - فإن هذا لا يعني أن الثقافة الإسلامية ليست بحاجة إلى تكريس الجهود من أجل اتخاذ موقف حضاري من حركة (العولمة) العالمية في مسارها الإلزامي، يحافظ على شخصية الأمة من الذوبان في غيرها من الثقافات، وهذا يستلزم أن نفتح عقولنا، ونعطي الدراسة والبحث العلمي حقهما، وسنجد في تراثنا الخالد ما يجعلنا الأقوى في ظل المواجهة الواعية لهذا المد العارم.
الخاتمة
يمكن فيما يلي الإشارة إلى أهم ما خلص إليه هذا البحث:
1- المواطنة لها معنيان: الأول: معنى فطري يعتبرها نزعة غريزية نابعة من حب الإنسان لوطنه، وشعوره بالانتماء إليه. والآخر: يعتبرها نزعة فكرية مذهبية، لها مبادئها العامة، وطقوسها السلوكية، تزرع في نفوس الناس، وينشَّأ عليها ناشئة المجتمع، وتحاكم مواقف أتباعها عليها، وينظر إلى الآخرين من خلالها.
2- الوطنية من المفاهيم الحديثة التي فرضت نفسها على خريطة الفكر الإنساني، وإن كانت ذات جذور عميقة في التاريخ، فهي بهذه الصفة الفلسفية عرفت في المجتمعات القديمة، ومن أشهر صورها: وطنية اليونان، ثم وطنية الإمبراطورية الرومانية، وظهرت هذه النزعة من جديد مقترنة بقوميات محلية في أوروبا بعد الثورة الفرنسية لتحل محل النزعة الدينية المسيحية تدريجياً، وأصبحت من معطيات القرن التاسعَ عشرَ الميلادي الموجِّهَة لكل نظم الدولة نحو خدمة هذه النزعة المذهبية.(/45)
3- إذا كان الاتجاه المذهبي عمل على ربط معنى الوطنية بالأرض والوطن فإن الإسلام لا يتنكَّر لفطرة حب الوطن؛ ولا يعُدُّه مناقضاً له، ذلك أن الإسلام نظر إليه على أنه ميل فطري راسخ في النفس، فنمّاه ولم يقيده بمضامين أي نزعة من النزعات ذات المنحى العنصري؛ بل ربط بينه وبين الدين، وعمل على إدماج البشرية بعضهم ببعض دون تمييز على أساس الحدود الجغرافية؛ فمدَّ بذلك مفهوم الوطن على امتداد العقيدة، ووسع مفهوم الوطنية؛ لتكون انتماء فطرياً إلى الأرض، وموالاة دينية لعقيدة الإسلام ومبادئه وقيمه.
4- إن الإسلام أوجد انسجاماً بين الدين والوطنية؛ بحيث تكون الوطنية متشربة للإسلام، ويكون الوطن داراً له، وجعل للوطنية معنى واسعاً يتجاوز المعنى المحصور في الأرض، كما أن الإسلام جعل الوطنية حقاً من حقوق الشعوب، والمحافظة عليه حياة لها بين الأمم، فلا معنى لحياة أمة وهي تفقد حق استقلالها في أرضها وبلادها، وتعيش تحت هيمنة عدوِّها وحُكْمه؛ فتلك أمة مَيْتَة؛ وإن كانت في حكم الأحياء.
5- تمثل الوطنية في المملكة العربية السعودية المعنى المنسجم مع الفطرة والإسلام؛ إذ يعني مفهوم الانتماء إلى المملكة العربية السعودية معاني وقيماً عظيمة تستمدها من موقعها، واحتضانها للحرمين الشريفين، وكونها مهبط الوحي وداراً للإسلام، ومأرزاً لأتباعه، كما يقتضي معنى الانتماء إلى هذا الوطن حماية أرضه، والنهوض برسالته التي هي رسالة الإسلام، والجهاد في سبيل الحفاظ على حرماته ومقدساته، والذبَّ عن منجزاته الحضارية بشقَّيها: المعنوية والمادية.(/46)
6- برزت الوطنية منذ انطلاقها في أوائل القرن التاسعَ عشرَ الميلادي مقترنة بالقيم (الليبرالية) أو الحريَّة الفردية و(الديموقراطية)، وتعتبر فرنسا أنصع مثال على هذا التلازم في أوروبا الحديثة، وظهرت الوطنية في العالم العربي مقرونة بمشروع الدعوى إلى الوحدة العربية الذي كان من أهدافه مقاومة الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية، وتم التسويق لهذا المشروع عن طريق بناء ثقافة وطنية جديدة على المنحى القومي للثقافة السياسية الغريبة المتجِه إلى فصل الدين عن الدولة، وكانت رَدة الفعل الأولى عليه من المفكرين الإسلاميين بإعلان التمسك بفكرة الخلافة الإسلامية، والتنادي إلى مشروع إعادتها من جديد؛ مما أدى إلى تبلوُر اتجاه فكري مناهض لفكرة الوطنية العربية، يدعو إلى حماية الهوية الإسلامية، والدفاع عنها.
7- إن الاختلاف في مفهوم المواطنة بين القوميين والإسلاميين نشأ عنه تباين في الثقافة التي تحدد هوية الوطن وصلته بغيره؛ إلا أن الفريقين متفقان على أن الوطنية: "جمع بين الثقافة كهوية، وبين الثقافة كطريقة اتصال"، إذ الثقافة عند الفريقين من أخص خصائص الإنسان، وإذا كان أي وطن بحاجة إلى تنمية شاملة وهادفة في كل مرافقه تستثمر كل إمكاناته وطاقاته فإن هذه التنمية لابد أن تكون متلائمة مع ثقافته، ومعطياته، ومكونات مجتمعه.(/47)
8- يُعَدُّ الدين في الثقافة الإسلامية بمصادره الصحيحة الأساس الأول الذي تقوم عليه، وتأخذ منه مادتها العلمية والفكرية، وتستمد منه ذاتيتها، ووجهتها، وتصوراتها، وقوام فكرها، وتعتمد عليه في نقد التراث البشري، ومواجهة التحديات التي تعترض سبيل المحافظة على شخصيتها من الذوبان في غيرها، وهو العاصم لها من الانحراف عن الطريق السوي، أو الاندثار مع الثقافات الضعيفة التي لم تستطع الصمود أمام متغيرات الحياة، أو الذوبان في غيرها من الثقافات الأخرى، كما أن الثقافة الإسلامية تضطلع بوظيفة مؤثرة ورائدة في بناء الهوية الوطنية وصياغتها وَفق تعاليم الإسلام، وقيمه السامية.
9- الثقافة الإسلامية واقعية في نظرتها إلى الثقافات الأخرى؛ فهي تراها متولدة عن سُنَّة الاختلاف بين بني البشر، وهي على وعي تام بهذه الثقافات، وهذا يعود إلى كونها ثقافة إنسانية تحترم الإنسان وتُكرِمه، وتحتفل بالمثل العليا، والوحدة الإنسانية، وتُعنَى بالاتصال بالشعوب ومحاروتها على أساس من العلم والحق، وتهتم بمخاطبة الثقافات الأخرى على أساس من الاحترام المتبادل، كما أنها تشاركها في حماية القيم، وإرساء المبادئ الإنسانية، فهي ثقافة ذات نزعة إنسانية واضحة في كل جانب من جوانبها.
10- إذا كانت الثقافة الإسلامية تأخذ بمبدأ التفاهم مع الثقافات الأخرى، والاحترام المتبادل بينها فإنها في الوقت نفسه لا تأخذ بفكرة التعايش مع الثقافات التي تستهدف كسر الحواجز المانعة من تأثيرها؛ لغرض إحلال ثقافتها مكانها وتوطينها، لكنها لا تمانع من تفاعل الثقافات، وتقاربها في الجوانب العلمية والتطبيقية والحضارية على أن يكون ذلك مبنياً على الاحترام المبتادل في جو سلمي، بعيد عن الروح العدائية والتعصب ضد الثقافات الأخرى.(/48)
11- الثقافة الإسلامية اعترفت بثقافات الأديان التي كانت موجودة في داخل الوطن الإسلامي، ومنحت أصحابها حرية الممارسة، واحترمت مقدساتهم ومصادرهم الدينية والفكرية، وحاورت أتباعها بالتي هي أحسن؛ دون إكراه يحمل أحداً على الانسلاخ من ثقافته، أو مصادرة آرائه؛ وإنما حوار منفتح ومقنع، يمكِّن الأمة من القيام بواجب الشهادة على الناس التي جعلها الله وظيفة من وظائفها في علاقتها بغيرها، وتواصلها مع الآخرين، وهي تمتلك خطاباً وسطياً بعيداً عن الغلو والتفريط، والتنفير في الأسلوب والمضمون.
12- إن توخِّي النزاهة والموضوعية والاحترام في قضايا الاختلاف، والتعدد الثقافي، والتمايز الحضاري، والنظرة العادلة إلى كل الثقافات التي (تعطي كل ذي حق حقه) سيعزز مستقبل الإنسانية بالوئام والتعايش الممكن، بدلاً من التنافس والصدام المهلك للشعوب، المكرس للكراهية بينها، وسيتيح مجالاً رحباً للحوار بين الشعوب، وسيمنح الآراء الصائبة الفرصة المناسبة لإقناع الآخرين، والانتفاع بها دون حاجة إلى إكراههم على قبولها، ومن ثم سيجعل ثقافتها ظاهرة على الثقافات الأخرى.(/49)
13- يعِج الوطن الإسلامي على امتداده بالاتجاهات الفكرية والمذهبيات العقدية والفقهية، وإذا كان من جامع له فإنه يجتمع على قدر كبير من الثقافة الإسلامية العامة التي هي ثقافة كل أطيافه، ونخبه، ومذاهبه، ويفترقون في تفصيلاتها، وهذا الافتراق - وبالأحرى الاختلاف - يعود إلى مشارب، ومدارس، وقناعات شخصية، وجمعية، ونظرات إلى المستقبل، لها بعد تاريخي وعقدي وفقهي وقومي وواقعي، ولا يمكن أن يستثنى مجتمعُ أيِّ دولة من الدول الإسلامية من هذا الاختلاف، أو التعدد الثقافي، وأمام هذه الثقافات المحلية هناك من يرى ضرورة الاعتراض بتعدد الثقافات المحلية، وقبول الآخر تعايشاً وتحاوراً وتسامحاً؛ بحجة أن العصبيات والمذهبيات والطوائف لا يمكن أن تكون القاعدة أو المرجعية لأي مجتمع يواجه تحديات العصر الحديث، وهناك من يرى أن تبنِّي ثقافة واحدة ترعى الوحدة في أركان الدين وقواعد الملة، وتقر الاختلاف في القضايا الفرعية دون الأصول هو الأولى حفظاً لوحدة الأمة وتماسكها واجتماعها.(/50)
14- إذا كانت الأمة مطالبة بأن تجتمع وتتحد على أصول الدين، وأركانه العلمية والعملية العظام، ومفاهيمه العامة، ومقاصد الشريعة التي تشكل مضامين الثقافة الإسلامية، ومعالمها الظاهرة، فإنه لا يضرها أن تختلف في القضايا التي دونها من الفروع والجزئيات؛ فإن الخلاف فيها سائغ وواسع لاختلاف الناس في الفهم والاستنتاج والاستنباط، واختلافهم في الرأي، والنظر، والإحاطة بعلوم الشريعة، وأسرارها، ومعانيها، وظروف النصوص النازلة وأسبابها، ولنا في السلف الصالح أسوة حسنة، فقد كانت ثقافة الاختلاف، وتعدد الثقافة شائعة وممارسة في عهدهم إلى درجة عالية، وأن التنوع الثقافي كان ظاهرة من الظواهر الفكرية التي لا يمكن إخفاؤها، وأن الثقافة العامة التي تمثل اتجاه جمهور العلماء، وعليها غالب الناس لم تكن الوحيدة في المجتمع؛ وإنما هناك ثقافات محلية تختلف سعتها، ويتباين عدد أتباعها هي ثقافة مدارس واتجاهات فكرية موجودة وقائمة، وأن العلاقة بينها كانت علاقة حوار وتغافر واعتذار؛ لا علاقة عداوة وبغض وكراهية، فعلماؤها كانوا يراعون الألفة والعصمة وأخوة الدين، وإن اختلفوا في القضايا العلمية العقدية.(/51)
15- ومن الناحية الواقعية نجحت (العولمة) الثقافية بوسائلها السياسية والمعلوماتية والاجتماعية في صياغة مفاهيم جديدة في بعض التصورات الثقافية والسياسية والاجتماعية، واستطاعت أن تحلها محل الثقافات الوطنية، ولا ريب أنها من هذه الناحية مثلت خطراً على الهوية الثقافية الوطنية للمجتمعات، وعلى الحس الوطني الرسمي المتولد عن خصوصية التجربة التاريخية للدول؛ إذ لا يستطيع أي مجتمع أن يبقى صامداً في زمن انهيار الحدود، وتدفق الأفكار والنظم بصورة سريعة ومتتابعة عبر منافذ متعدِّدة أمام هذه (العولمة) دون أن يتأثر بمفاهيمها الثقافية الجديدة؛ إلا أن ذلك ليس مطَّرِداً، أو حتميّاً لا مناص منه؛ فإن المجتمعات التي تمتلك ثوابت عقدية وخلقية متجذرة في قلوب أفرادها وعقولهم وسلوكهم وحياتهم - قادرة بفضل ما لديها من منظومة عقدية وتصورات فكرية وقيم خلقية على رد هجمات (العولمة) الثقافية الغربية، ومن هذه الثقافات ثقافتنا الإسلامية التي تتعرض كغيرها إلى محاولة مستعرة لإلغاء خصوصيتها، ومسخ شخصيتها التي تستمدهما من انتمائها إلى الإسلام الحنيف؛ لذا كان لزاماً على علماء الأمة ومفكريها أن يعملوا على تعزيز هوية الوعي والولاء والانتماء للدين الإسلامي في نفوس المسلمين.
المصادر والمراجع:
1- ابن منظور، جمال الدين الأنصاري، تحقيق عبدالله علي الكبير وآخرين، "لسان العرب"، دار المعارف.
2- الأزدي السجستاني، سليمان بن الأشعث، "سنن أبي داود"، راجعة، عبدالحميد محمد محيي الدين، دار الفكر.
3- التهانوي، "كشاف اصطلاحات الفنون"، دار صار ببيروت.
4- الزنيدي، عبدالرحمن، مقالة "الإسلام والوطنية ممتزجان"، "مجلة المعرفة"، الكتاب العاشر "الوطنية كائن هلامي" الطبعة الأولى عام 1421هـ.
5- عبود، عبدالغني، "ديناميات المجتمع الإسلامي"، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي بالقاهرة.(/52)
6- الجندي، أنور، "الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي"، دار الاعتصام بالقاهرة، 1980م.
7- نادي الفكر الإسلامي بالرباط، "لماذا نادي الفكر الإسلامي؟" 1400هـ.
8- حسين، محمد محمد، "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر"، الطبعة السادسة، مؤسسة الرسالة ببيروت، 1403هـ.
9- الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى، "الجامع الصحيح"، تحقيق عوض، إبراهيم عطوة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
10- العسقلاني، أحمد بن علي ابن حجر، "الإصابة في تمييز الصحابة"، تحقيق الزيني، طه محمد، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة.
11- العجلوني، إسماعيل، "كشف الخفاء ومزيل الإلباس"، دار التراث بالقاهرة.
12- قطب، محمد، "مذاهب فكرية معاصرة"، الطبعة الأولى، دار الشروق،1403هـ.
13- عمارة، محمد، مقالة "الروح الوطنية"، "مجلة المعرفة"، الكتاب العاشر "الوطنية كائن هلامي" الطبعة الأولى عام 1421هـ.
14- عزام، عبدالرحمن، "الرسالة الخالدة"، الطبعة الأولى، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1365هـ.
15- الحقيل، سليمان، "الوطنية ومتطلباتها في ضوء تعاليم الإسلام"، الطبعة الثانية، دار الشبل بالرياض 1413هـ.
16- عمارة، محمد، "الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده"، طبعة بيروت، 1972م.
17- القشيري النيسابوري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج، "صحيح مسلم"، تحقيق عبدالباقي، محمد فؤاد، رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء بالرياض، 1400هـ.
18- مزروعي، علي، مقالة "الوطنية العربية وفق القرن الحادي والعشرين"، "مجلة المعرفة"، الكتاب العاشر "الوطنية كائن هلامي" الطبعة الأولى عام 1421هـ.
19- السيد، رضوان وبرقاوي، أحمد، "المسألة الثقافية"، الطبعة الأولى، دار الفكر بيروت، 1418هـ.
20- الجندي، أنور، "الإسلام والدعوات الهدامة"، دار الكتاب اللبناني.(/53)
21- الغرايبة، فيصل محمود، بحث "الثقافة العربية في عصر الاتصالات و(العولمة)"، ندوة استراتيجية الثقافة والتنمية، ودور كليات الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في دول مجلس التعاون الخليجي، المنعقدة بدولة الكويت من 27-29 مارس عام 2000م.
22- الحسني، محمد بلبشير، "في سبيل تأصيل الثقافة الإسلامية وتجديد الفكر"، الطبعة الأولى، منشورات الفرقان، 2000م.
23- المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، "الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي"، منشروات المنظمة عام، 1422هـ.
24- نجيب، عمارة، "الإنسان في ظل الأديان: المعتقدات والأديان القديمة"، مكتب المعارف بالرياض، 1400هـ.
25- الخطيب، عمر عودة، "لمحات في الثقافة الإسلامية"، الطبعة الرابعةَ عشرَ، مؤسسة الرسالة، 1419هـ.
26- القرضاوي، يوسف، "الخصائص العامة للإسلام"، مكتبة وهبة، عام 1397هـ.
27- الحليبي، أحمد بن عبدالعزيز، "ثقافة الطفل المسلم: مفهومها وأسس بنائها"، الطبعة الأولى، دار الفضيلة بالرياض، 1419هـ.
28- الطريقي، عبدالله، وآخرون، "الثقافة الإسلامية تخصصاً"، عام 1417هـ.
29- العمري، نادية شريف، "أضواء على الثقافة الإسلامية" عام 1401هـ.
30- قطب، سيد، "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته"، دار الشروق، عام 1399هـ.
31- سالم، محمد رشاد، "المدخل إلى الثقافة الإسلامية" عام 1407هـ.
32- مرسي، محمد عبدالعليم، "الثقافة والغزو الثقافي في دول الخليج العربية" عام 1415هـ.
33- القرضاوي، يوسف، "الثقافة العربية بين الأصالة والمعاصرة"، مكتبة وهبة عام 1414هـ.
34- ابن خلدون، عبدالرحمن، "المقدمة"، الطبعة الأولى، دار القلم ببيروت، عام 1987هـ.
35- السهيلي، عبدالرحمن تحقيق عبدالرحمن الوكيل، "الروض الأنف في شرح السيرة النبوية"، الطبعة الأولى، دار الكتب الحديثة عام 1387هـ.
36- ابن القيم، "إعلام الموقعين"، دار الجيل ببيروت.(/54)
37- السباعي، مصطفى، "من روائع حضارتنا"، المكتب الإسلامي ببيروت.
38- مجموعة من الكتاب، ترجمة حافظ الجمالي، ويوسف مراد، "أصالة الثقافات ودورها في التفاهم الدولي"، تحت عنوان: إنسانية الغد وتنوع الثقافات، دار الفكر العربي بالقاهرة عام 1963م، مطبوعات اليونسكو.
39- الطريقي، عبدالله، "الثقافة والعالم الآخر"، دار الوطن عام 1415هـ.
40- العليان، عبدالله، مقالة "من صراع الحضارات إلى تعايشها"، "مجلة العربي" العدد / 532 مارس 2003م.
41- ابن هشام، أبو محمد بن عبدالملك، "سيرة النبي" - صلى الله عليه وسلم - تحقيق عبدالحميد، محمد محيي الدين، إدارات البحوث والإفتاء بالرياض.
42- الطبري، ابن جرير، "تاريخ الأمم والملوك"، طبعة بيروت.
43- الجعفي، أبو عبدالله محمد بن إسماعيل، "صحيح البخاري"، المكتبة الإسلامية بتركياً.
44- القرطبي، "الجامع لأحكام القرآن" دار إحياء التراث العربي عام 1965م.
45- جاب الله، أحمد، ورقة "انفتاح الخطاب الإسلامي ومتطلبات المرحلة المعاصرة"، مقدمة لمؤتمر كلية الشريعة بالكويت عام 1425هـ.
46- الأنصاري، حمد جابر مقالة "نحن في علاقة مشوهة مع النفس"، "مجلة العربي" العدد 518 يناير عام 2002م.
47- النبهان، محمد فاروق، "بحث ظاهرة التطرف في المجتمعات الإسلامية: أسبابها، ووسائل علاجها"، "مجلة دار الحديث الحسينية"، العدد / 13 عام 1417هـ.
48- التركي، عبدالله، "أسباب اختلاف الفقهاء"، مكتبة الرياض الحديثة، عام 1397هـ.
49- ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، "تفسير القرآن العظيم"، دار المعرفة، طبعة عام 1388هـ.
50- الحنفي، ابن أبي العز، "شرح العقيدة الطحاوية" الطبعة التاسعة، المكتب الإسلامي، عام 1408هـ.
51- ابن الوزير، "إيثار الحق على الخلق"، دار الكتب العلمية بيروت.
52- ابن قاسم، عبدالرحمن، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"، مؤسسة الرسالة ببيروت.(/55)
53- الشاطبي، أبو إسحاق، "الاعتصام"، دار المعرفة ببيروت، عام 1402هـ.
54- الذهبي، محمد بن أحمد، "سير أعلام النبلاء"، الطبعة السابعة، مؤسسة الرسالة ببيروت عام 1410هـ.
55- القرضاوي، يوسف، "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم"، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة عام 1412هـ.
56- المناوي، محمد عبدالرؤوف، "فيض القدير شرح الجامع الصغير"، دار الفكر.
57- النمري القرطبي، أبو عمر يوسف بن عبدالبر، "جامع بيان العلم وفله"، الطبعة الثانية، دار الكتب الإسلامية بمصر، عام 1402هـ.
58- الدهلوي، ولي الله عبدالرحيم، حجة الله البالغة، دار التراث بالقاهرة.
59- ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، الصفدية عام 1406هـ.
60- مسعد، محيي محمد، "ظاهرة (العولمة): الأوهام والحقائق"، الطبعة الأولى عام 1990م.
61- المسيري، عبدالوهاب، مقالة "عولمة الالتفات بدلاً من المواجهة"، مجلة المعرفة، الكتاب العاشر "الوطنية كائن هلامي" الطبعة الأولى عام 1421هـ.
62- الزنيدي، عبدالرحمن، "(العولمة) الغربية والصحوة الإسلامية"، دار إشبيليا، الطبعة الأولى عام 1421هـ.
63- بدوي، صال جمال، "تعقيب على بحث كيفية تحقيق الهوية الإسلامية للطالب الجامعي الخليجي"، ندوة استراتيجية الثقافة والتنمية المنعقدة بدولة الكويت من 27-29 مارس عام 2000م.(/56)
العنوان: الوعي بالحواس الخمس - قصيدة للأطفال
رقم المقالة: 1633
صاحب المقالة: صهيب بن محمد خير يوسف
-----------------------------------------
بحَواسِيْ الخَمسِ أنا أحْيا وبِها أُدرِكُ سِرَّ الدُّنيا
أقرأُ بالعَينينِ الكَوْنا وأُميِّزُهُ لوناً لونا
أتنفَّسُ نَسْماتِ الصُّبْحِ وأشُمُّ أَزاهيرَ الفرْحِ
أَلمِسُ بِيديَّ الأجساما وأَحُسُّ بجِلديْ الآلاما
أسمعُ كلَّ كلامٍ عَذْبِ لا أُصغيْ لحديثِ الكِذْبِ
أتذوَّقُ ما لذَّ وَطابا أستَطعِمُ أَكلاً وشَرابا
هيَّا نمضيْ للبُستانِ لِنَشُمَّ أريجَ الرَّيحانِ
ولِنسْمعَ عُصفوراً طَرِبا ونَذوقَ مِنَ النخلِ الرُّطَبا
ونُلامِسَ خُضْرَ الأوراقِ ونَرى إبداعَ الخَلاَّقِ
سَمْعٌ،
بَصَرٌ،
شَمٌّ،
لَمْسُ،
ذَوقٌ:
تِلكَ حَوَاسِيْ الخَمسُ(/1)
العنوان: الوقاية من الجريمة في التشريع الجنائي الإسلامي
رقم المقالة: 299
صاحب المقالة: د. محمد بن سعد الشويعر
-----------------------------------------
الحمد لله الذي شرع لعباده ما تستقيم به أحوال معاشهم، ويسعدهم في معادهم بالجزاء الاوفى الذي حدّ الحدود لتبعث في النفوس اطمئناناً، يمنع من الجريمة، وواقياً يحمي المجتمعات من تسلط المجرمين، والصلاة والسلام على البشير النذير الذي أرسله ربه مقيماً للعدل وموضحاً للحق وحريصاً على تنفيذ حدود الله، حتى لا تفسد الأمة، وعلى آله وصحابته الذين أقاموا سنته، ونشروا راية الإسلام في أرجاء المعمورة. رمزاً للعدل، وتمكيناً لحق لا إله إلا الله.(/1)
أما بعد: فإنها حدود وزواجر، وترغيب وترهيب، منها الوازع الديني ومراقبة النفوس، ومنها الوازع السلطاني وردع المعتدي بالقوة، حكمة أرادها الله لتحدث توازناً في المجتمع ككفتي الميزان، فالشعرة المحددة للعدالة هي شريعة الله التي توازن بين الحالين، فتبين الحق وتردع الظالم، وتعين المظلوم. فالإسلام قد كفل بتعاليمه، والشرع الذي أبانه لله فيه للمجتمع الراحة والأمان، وللفرد فيه الهدوء والاستقرار بما جاء في كتاب الله. وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن فهم الصفوة الأولى من هذه الأمة للشريعة وما تدل عليه، وما اشتملت عليه من أوامر وزواجر، لمما يتلاءم مع النفس البشرية وما يردعها، وهو الدين الذي ارتضاه الله جل وعلا لخير أمة أخرجت للناس، لأنه المصلح لأحوال البشر والمنظم لمعيشتهم، والحالّ لكل معضلة تعترض مسيرتهم، فهو دين الفطرة، وهو الدين الحق، الذي لا يقبل سبحانه من البشر سواه، لأن سعادتهم باتباعه، وفلاحهم في تطبيق حدوده، وشقاوتهم في الانصراف عنه، واتخاذ قوانين وضعية لتحكيمها بدلاً منه، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الأَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}[1]. وهو الدين الذي بعث الله به الرسل، وأنزلت به الكتب، ودعا إليه أنبياء الله أممهم، منذ خلق الله آدم حتى أتم جل وعلا الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فهذا نبي الله نوح عليه السلام يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ}[2] وإبراهيم الخليل قال عنه سبحانه:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُوِديًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً}[3].(/2)
ويوسف عليه السلام دعا ربه قائلاً: {أَنتَ وَلِىِّ فِي الدُّنْيَا وَالأَخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[4] وموسى عليه السلام قال لقومه: {يَا قَومِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ}[5].
فما من نبي إلا وقد كان الإسلام هو معتقده، وهو ما يدعو قومه إليه، وقد خصّ الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ليكون سمة لهم بين الأمم، وامتثالاً لإرادة الله جل وعلا التي جاءت على لسان أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، عندما سمى خير الأمم وخاتمها، أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فقال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ}[6]، وعندما بنى الكعبة هو وابنه إسماعيل، عليهما السلام دعا ربه قائلاً: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}[7].
ذلك أن الإسلام مع كونه دين الفطرة، وهو دين العدالة الاجتماعية، وهو دين التوازن، وأمة حباها الله بالإسلام، وشرفها بالانتماء إليه، عليها أمانة الفهم، ودراية التطبيق، وفتح الصدور لإدراك ما تنطوي عليه شريعة هذا الدين من مصالح يؤمر المرء بها، ومفاسد يدرؤها الله عن البشر بزواجر هذا الدين، وحدوده الرادعة.(/3)
والجريمة واحدة من المفاسد الإجتماعية التي جاءت تعاليم الإسلام، ترسم للناس: قادة ومرؤوسين، طريقاً ممهداً، تحمى به المجتمعات من آفاتها، ومن تسلط ضعفاء النفوس على الآخرين مستغلين قدرتهم وحيلهم، وغفلة الناس أو ضعفهم أمامهم، فكان لولي الأمر، وبما أعطاه الله من سلطان في التتبع والإصلاح، وبما أيد به من حكم صادر عن شرع الله، أن يعمل جاهداً في حصر نطاق الجريمة بأضيق الحدود، وأن يتابع ببذل الطاقة للقضاء عليها، في منهجين مستمدين من تربية الإسلام، وحسن رعايته للفرد والجماعة، حيث اهتم التشريع الجنائي في الإسلام بذلك، وهما:
– الطرق الوقائية.
– أسلوب المكافحة.
وقبل الحديث في هذين الأسلوبين، يحسن بنا أن نعرّف الجريمة، والجناية، والحدود، تعريفاً لغوياً، وشرعياً لندرك من ذلك المقصود بالدلالة وما عليه أكثر العلماء من تعيين المراد بهذه الألفاظ كما هي عادة الفقهاء رحمهم الله، بجعل التعريف اللغوي والشرعي، مدخلاً لكل موضوع يريدون التحدث عنه، ليكون منبئاً عن الهدف الذي أرادوا به الإحاطة والشمول، ذلك أن اللغة العربية هي وعاء الدين والمفسرة لما قد يغمض من دلالات المعاني فيه.
الجريمة:
مأخوذة من مادة جرم، وقد أطال ابن منظور في لسان العرب[8] والزبيدي في تاج العروس[9] في توضيح دلالة هذه المادة واشتقاقاتها، ويهمنا هنا ما يدل على الموضوع الذي نحن بصدده حيث قال الزبيدي: "جرم فلان جرماً: أذنب كأجرم واجترم، فهو مجرم وجريم، وجرم لأهله كسب لهم، يقال: خرج يجرم لأهله، ويجرم أهله: أي يحتال ويطلب، وهو جارم أهله أي كاسبهم".
والجرائم جمع جريمة، وهي الجناية والذنب كيفما كان، سواء كان صغيراً أو كبيراً.
أما في الإصطلاح الفقهي، فمن ذلك ما حكاه الماوردي في الأحكام السلطانية بقوله: "الجرائم محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير، يعني إذا كانت ممن يتعمد ارتكابها"[10].(/4)
ويظهر من دلالة الكلمة أجرم وما تدل عليه في كتاب الله جل وعلا، حيث وردت أكثر من خمسين مرة وأغلبها في حالة الجمع ((مجرمين)): أن المجرم هو من ارتكب كبيرة فقط، والكبيرة في تعريف أكثر العلماء، هي:
ما استحق عليها عقاب أو وعيد، يدل على مثل هذه الدلالة الآيات الكريمات: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِّنَ المُجْرِمِينَ}[11] وقوله تعالى: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون}[12]. وقوله سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[13] وقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}[14] وقوله جل وعلا: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى}[15].
الجناية:
جمعها جنايات وهي مصدر جنى يجني جناية، والقياس في اللغة العربية أن المصادر لا تجمع، وإنما ساغ جمع الجناية هنا على جنايات لأسباب منها:
– اختلاف أنواعها فإن منها ما هو قتل أي جناية على النفس، ومنها ما هو غير قتل، أي جناية على ما دون النفس من الأطراف وغيرها، كالشجاج والجراحات، وغير ذلك، بل إن الجناية على النفس تختلف فقد تكون عمداً موجبة للقود، وقد تكون شبه عمد أو خطأ أو ما في معناه[16].
قال الزبيدي في تاج العروس: جنى الذنب عليه يجنيه جناية: بكسر الجيم، جرّه إليه قال أبو حية النميري:
وإن دماً لو تعلمين جنيته على الحي جان مثله غير سالم(/5)
ثم ظاهر سياق صاحب اللسان ((ابن منظور)) أنه حقيقة، وصرح الراغب بأنه مستعار من جني الثمرة، كما استعير اجترم، وفي الحديث لا يجني جان إلا على نفسه. الجناية الذنب، والجرم ما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العقاب، أو القصاص في الدنيا والآخرة، والمعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا جنى أحدهم جناية لا يطالب بها الآخر قال أبو عبيدة: "قولهم جانبك من يجني عليك يضرب مثلاً للرجل يعاقب بجناية، ولا يؤخذ غيره بذنبه، وإنما يجنيك من جنايته راجعة إليك، وذلك أن الأخوة يجنون على الرجل".
ويقال للرطب جنى، والكمأة تجنى، والذهب جنى، وتجنّى فلان على فلان ذنباً: إذا ادعى ذنباً ولم يفعله[17] وملخص الرأي اللغوي: التعدي على بدن أو مال أو عرض، وفي العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان[18]، يقال: جنى فلان ثمرة عمله الصالح، فالأول في الخير والثاني في الشر.
أما التعريف الشرعي: فيرى بعض الفقهاء أنها: أي الجناية اسم لفعل محرم حل بمال أو نفس، كما قال بذلك ابن عابدين في حاشيته[19]، ووافقه على هذا التعريف ابن حطاب من المالكية فإنه قال: "الجناية ما يحدثه الرجل على نفسه أو غيره، مما يضر حالاً أو مالاً"[20].
فالتعريف هنا عام في كل محرم حل بمال، كالسرقة والنصب ونحوهما، وفي كل محرم حل بالنفس كالزنا والقذف والشرب، وغير ذلك من المحرمات. والبهوتي من الحنابلة عرّف الجناية: بأنها التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً أو مالاً[21]، ويعبر كثير من الفقهاء الشافعية عن الجناية بأنها الجراحات، فيقولون في كتبهم كتاب الجراح، ويذكرون تحت ذلك بحث كل الجنايات وأحكامها.. وهذا اصطلاح، والبلاغيون قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح، لكن الشيخ زكريا الأنصاري منها قال: والتعبير بالجنايات أولى ليشمل التعدي بغير المحدد[22].
وأكثر الفقهاء يقسم الجناية إلى ثلاثة أضرب:
– عمد يختص القود فيه. بشرط أن يقصد الجاني الجناية.(/6)
– شبه العمد، ويسمى بخطأ العمد، وعمد الخطأ.
– الخطأ... وقد اتفق على هذا التقسيم جمهور الفقهاء، وبإثباته قال عمر وعثمان وعلي وغيرهم، ولا مخالف لهم من الصحابة[23].
ولم ترد مادة جنى في كتاب الله جل وعلا إلا مرتين بمعنى الثمر، وهو من المعاني اللغوية[24].
الحدود: جمع حدّ وهو في اللغة المنع، ومنه يقال للبواب حداداً، لأنه يمنع الناس من الدخول، فكل ما يحجر بين شيئين. ويمنع اختلاطهما يسمى حداً، ومثله في المحسوسات حدود الأرض، وحدود الحرم، وفي المعنويات: العقوبات.. فإنها تمنع مرتكب الجريمة من العود لمثل عمله، وتمنع غيره عن طريق الخوف أو الاعتبار كذلك فهي مانعة زاجرة، والحدّ تأديب المذنب كالسارق والزاني وغيرهما بما يمنعهما عن المعاودة[25].
وفي الإصطلاح الشرعي: عقوبة مقدرة شرعاً في معصية كالزنا والقذف، وقطع الطريق والسرقة. لتمنع من الوقوع في مثلها[26].
وقد أوجبها الله سبحانه على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع، وليس عليها وازع طبيعي فهي من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد. بل لا تتم معايشة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم حيث يزع الله[27].
وللفقهاء رحمهم الله: اصطلاحات في تخصيص الحدود بالعقوبات:
– فالحنفية: عرفوا الحدود بالعقوبات المقدرة حقاً لله عز وجل[28] فأخرجوا عقوبة التعزير لأنها غير مقدرة. وأخرجوا عقوبة القصاص ونحوها لأنها ليست حقاً لله غالباً، بل حق لله وللعبد، إذ تسقط بعفو العبد.
– والحنابلة: عرّفوا الحدود بالعقوبات المقدرة شرعاً في معصية من الوقوع في مثلها[29]، فأخرجوا عقوبة التعزير كالحنفية، لكنهم أدخلوا عقوبات القصاص ونحوها في مسمى الحدود، لأنها وإن لم تكن حقاً لله خاصة، فهي مقدرة شرعاً[30].(/7)
وقد وردت الكلمة: بالحدود والمحادّة في كتاب الله جل وعلا ثماني عشرة مرة، وفي ذلك أمر للفئة المسلمة عقيدة، والمؤمنة بربها سلوكاً ومنهج عمل، بالتزام حدود الله، والوقوف عند شرعه الذي شرع لعباده، لتستقيم أحوال الناس، وينتظم معاشهم.. وحدود الله هي محارمه.
– الوقاية من الجريمة:
يقول ابن تيمية رحمه الله: "لولا العقوبة التي فرضها الله على الجناة والمفسدين، لأهلك الناس بعضهم بعضاً، وبذلك يفسد نظام العالم، وهي لا تتم إلا بمؤلم يردعهم، ويجعل الجاني نكالاً وعظة، لمن يريد أن يفعل مثل فعله"[31].
ولذا تهتم الدراسات الأمنية بالجريمة، ومعرفة المداخل التي أوصلت إليها، والأسباب والمسببات التي تدفع المجرم إلى الجريمة، وهل وراء الانسياق إلى ارتكاب الجريمة دوافع شخصية، أو مؤثرات اجتماعية، وعلى ضوء ما يسفر من نتائج تتضح المقترحات التي تبرز أمام الدارسين لذلك ليروها حلاً معيناً في تلافي الجريمة، ومن ثم محاولة حصرها في أضيق السبل والمختصون في الدراسات الأمنية، وحسبما يظهر أمامهم من ملابسات للجريمة، ومجريات للأمور، يدركون أن الغالبية العظمى من المجرمين، يمتازون بالذكاء، وسعة الحيلة، والمكر والمراوغة، ولكن هؤلاء يستخدمون هذه الصفات في أمور تضر بالمجتمع، وتثير القلق لدى المواطنين.
وما يرسمه المخططون للوقاية من الجريمة، من أساليب يقصد بها مكافحتها، والحدّ من تزايدها، واتساع دائرتها في المجتمع، لا تعطي نتائج مرضية في الغالب، وليس ذلك لقصور في أفكار وتوجيهات ودراسات المهتمين بمحاصرة الجريمة، أو نقص في استعداداتهم، ولكن لأن ما يضعونه من حلول توجد عليه مداخل كثيرة من حيث:
– الرأفة بالمجرم.
– إعادة الجريمة لعوامل نفسية أو اجتماعية.
– تخفيف الحكم على المجرم إذا لمس منه السلوك الحسن.
– تحديد الجزاء بغرامة مالية، أو مدة زمنية قد يوقف تنفيذها.
– إتاحة الفرصة لكل مجرم أن يشتري مدة الحكم أو نوع الجزاء بمبلغ مالي.(/8)
– عدم إحصاء الجرائم السابقة التي لم يضبط متلبساً بها، وبالتالي قد لا يعطى عليها حكماً ولا جزاء.
إلى غير ذلك من أسباب ومؤثرات جعلت الإجرام في بعض مناطق المعمورة يأخذ شكلاً تنظيمياً، يخيف المجتمعات، ويزعج رجال الأمن، ويؤثر على النمو الاقتصادي، لأن المال كما يقال: جبان لا ينمو إلا في الجو الآمن، ولا يتسع نطاقه مع الخوف.
ولو تتبعنا بأرقام إحصائية ما تدفعه دول العالم صغيرها وكبيرها، على الأمن من جهود وأموال، وما ينجم من خسارة يوقعها المجرمون يومياً على الأنفس والأموال، وسائر الممتلكات، لوجدنا أرقاماً خيالية، كفيلة بتنظيم حياة الناس، وتوفير العيش الرغيد لهم براحة واطمئنان وهدوء نفس.
ولكن الضعف النفسي الذي سببه الضعف الإيماني الذي يدفع أناساً للتسلط على الآخرين، والتعدي على نفوسهم وأعراضهم وأموالهم، بالحيلة أو القوء ليصبح هؤلاء المجرمون عالة على المجتمع، مفسدين بين أفراد الأمة متسلطين على حقوق غيرهم، حاقدين على الناس عموماً، كما حرص علماء النفس على تسميتهم بمصطلحات عديدة ذات دلالة في المعنى، كالنرجسية والسادية والأنانية.. صفات تنبئ عن حقيقة العمل، واتجاه صاحبه.
وفي نظري أن أهم الثغرات في دراسات وتخطيطات المهتمين بمكافحة الجريمة، وإغفالهم الجانب الروحي، وإبعادهم التدين الذي يخاطب القلوب بما يؤثر فيها، وليس كل مؤثر روحاني يعطي نتيجة في هذا، ولا كل تدين يعتبر تديناً، لأن كل ما يرسمه البشر من سماته الخطأ والقصور، وما جاء من عند الله فهو الكامل الذي لا نقص، ولا مدخل فيه لتأويل.(/9)
ودين الإسلام الذي رضيه الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، عقيدة في القلوب، ومنهج عمل للنفس يقوّمها، وللمجتمع يحميه من الآفات، ويسير نظانم أبنائه، هو الذي ينبعث من المؤثر الروحاني، ويتعمق مفهوم التّدين، وما ذلك إلا أن تعاليمه المستقاة من كلام الله جل وعلا، تخاطب الوجدان، وتنفذ إلى القلب وتمتلك نتائجها المشاعر إحساساً ظاهراً، ونتيجة ملموسة، لأنه دين رضيه الله سبحانه: عقيدة ومنهج سلوك لخير أمة على وجه الأرض، بنعمة منه سبحانه وتعالى وفضل، وشيء رضيه الله لابد أن يكون كاملاً في توجيهه، متناسقاً في تنظيمه، شاملاً في حمايته لأبنائه، ورعاية مصالحهم، كما ندرك هذا من النص الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}[32].
فالبشر يعتريهم القصور، وتكثر المداخل عليهم وعلى أعمالهم، وينقصهم بعد النظرة، أما ما يشرعه الله وهو سبحانه أرأف بعباده من الأم بولدها، فلا اختلاف فيه ولا تباين مع الأزمنة والأشخاص، ولا مع اختلاف البيئات والمتطلبات كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[33].
وهذا سرّ من أسرار عالمية الإسلام، إذّ رغم أن أنظمة البشر، ووجهات نظرهم في كثير من الأمور، قد تبدّلت باختلاف الأمم، وتعاقب العصور، إلا أن ما شرعه الله من حدود وزواجر، وما نظمته الشريعة من جزاءات وعقوبات، فإنه قد ثبتت سلامتها في تقويم النفوس، حيث تتلاءم مع الطباع السليمة، ونجحت في حماية المجتمعات من الفوضى، فلم تكن وقتية تتلاءم مع أمة دون أمة، أو تصلح لبلد دون بلد.
ذلك أن التركيب الغريزي للنفس البشرية واحد: طبعاً وتهذيباً، وتأثيراً واستجابة، كما أن الماء منذ أن خلقه الله واحد في تركيبه، وفائدته وحاجة الجسم إليه.(/10)
والله سبحانه وتعالى هو الخالق للبشر، العالم بطبائعهم، وهو جل وعلا الذي شرع لهم الواجبات ليتبعوها، ويتعبدوه بها، وحدّ الحدود لئلا ينتهكوها، ويعصوه باقترافها، وبيّن سبحانه المحرمات حتى لا يقعوا فيها وسكت عن أشياء رحمة بعباده غير نسيان، فيجب عدم الإلحاف بالسؤال عنها، حتى لا يقع التشديد على الأمة، حسبما حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أمته، لئلا يحل بها ما حلّ بالأمم السابقة.
والدارسون لأثر الشريعة الإسلامية في مكافحة الجريمة، من أبناء الغرب أدركوا ما اشتملت عليه أوامر الإسلام ونواهيه، من حواجز تحمي النفوس من المصائب، وتحيطها به عن التردي إلى أوحال الجريمة، وما ينجم عن ذلك من الإضرار بالأفراد والمجتمعات، فقال أحدهم في مؤتمرات الاستشراق: لو طبق المسلمون تعاليم دينهم، وحرصوا عليها عملاً، فإن دور الشرطة والمحاكم والسجون ستغلق، لأنه لن يبقى لها عمل، وبذلك يوجد المجتمع الصالح الذي رسم الإسلام معالمه، وتتشوق لمثله شعوب الأرض، وسوف تنساق أوروبا بأكملها للإسلام، وبمثل هذا المفهوم قال الشاعر العربي:
لو أنصف الناس استراح القاضي وجنح الجميع للتراضي(/11)
وما ذلك إلا أن تعاليم الإسلام، قد جاءت لمداخل الجريمة بتعليمات تسد منافذها، فالأموال والأعراض والنفوس هي وسائل يطمع بواسطتها بعض الناس للتعدي على بعض، والتسلط عدواناً وبغياً، رغبة في الاستئثار أو التكبر أو الظلم، فجاء تنظيم مداخلها ومخارجها في شرع الله الذي شرع لعباده، ورسم المنهج الذي يجب أن تلتزم به النفس المعتدلة، حتى لا يبغي أحد على أحد، وحتى لا يتسلط قوي على ضعيف، رحمة من الله بعباده، وإحساناً منه إليهم. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الحدود صادرة عن رحمة الخلق، وإرادة الإحسان إليهم... وينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم، أن يقصد بذلك الإحسان إليهم.. والرحمة بهم كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض"[34].
فالقسوة هنا ليست ظلماً ولكنها عدل ورأفة لأن الأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.
ذلك أن الأموال التي هي محك النفوس، ومنزلة الترابط والتآخي في المجتمع، قد تولى الله جل وعلا تقسيمها بين الناس، وأبان مداخلها الشرعية: من ميراث وغنيمة ومصرف زكاة، وبيع وشراء، ومداينة وصداق للنساء، وهبات وغير ذلك.. فكان الحق واضحاً، ومداخل الاعتداء فيها بيّنة، وعليها تشفق النفوس: طمعاً وخوفاً، وزكاة للنفوس، تبرز بالحرص عليها أداء، وتنقية من أمانات وحقوق، ووقاية النفس منها، تعدياً واستضعافاً، فكان الحلال منها بيّناً وواضحاً أثره في العمل والعلامات عليه في الأعمال التعبدية متميزة بالدليل العقلي والنقلي.
والحرام منها فيه علامات تميزه أيضاً، وتوضيحات تقطع الحجة على كل متقوّل، كما نجد في مثل هذا النص الكريم الذي قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم: لمن سأله بأن يدعو الله له بأن يكون مستجاب الدعوة: ((أطلب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) رواه الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لحم نبت من السحت فالنار أولى به)) رواه الدارمي في مسنده.(/12)
وبعد المال يهتم الإنسان بعرضه دفاعاً ومحافظة، لأن التطاول على الأعراض، مما يهدد كيان الأسرة، وينخر في سوس المجتمع، فالعرض هو السمعة وهو الكرامة.. لذا حرصت تعاليم الإسلام على حمايته وصيانته عن التطاول والاعتداء.. ولحرص العرب على حماية الأعراض كانت الحروب تدور من أجله، وكانت الدماء تراق، والغارات تتتابع من أجل كلمة، ووقاية من مسبة، خوفاً من العار، وتوجساً من فضيحة اجتماعية صحيحة أو مفتعلة. فجاءت تعاليم هذا الدين تضع الحواجز، وتردع المعتدي، وتحمي الضعيف، حيث يقول رسوله الله صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) متفق عليه.. وأكد هذه الدلالة صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وفي خطبته صلى الله عليه وسلم البليغة، والتي تعتبر من أسس الأمور التشريعية في كثير من القضايا الإسلامية.
والعرض والمال عند الإنسان يعادلان النفس التي قد يتجرأ بعض الناس بالتطاول عليها بالقتل أو الإعاقة. أو الإضرار بأي نوع من الجروح، فأحاطها التشريع الإسلامي بسياج من الحماية والمدافعة لتبقى في مأمن من التسلط، مع الوعيد الشديد، بعقاب دنيوي، وجزاء أخروي لمن في قلبه وازع إيماني حتى لا يقدم، ولمن لم يبق محافظاً على حرمة الآخرين، أما من مات وازعه الديني فإن السلطة التي جعلها الله للولي، بواسطة الحاكم الشرعي، القائم على حدود الله، وقوة دافعة للعمل، وحجاب يحمي عن التطاول والانتهاك حيث يبرز أثرها الرادع لمن يفكر بالإقدام، على مثل ذلك العمل.
هذه الأمور الثلاثة، هي في الغالب أقوى الركائز المحركة للإجرام، والتي من أجلها يكثر التنازع بين الناس، وتتكالب الفتن في المجتمعات، مستشرية بين صفوفهم.
فكان للتشريع الجنائي في الإسلام طرق في التضييق على الجريمة، ومكافحتها إذا وقعت، تتمثل في مثل:
– تهذيب النفوس، وتهيئتها للاستعداد قبولاً وإدراكاً.(/13)
– إبانة الحق من الباطل بعلاماتها ومميزاتها، وتحريك ملكة العقل لاتباع الحق بمنافعه، والابتعاد عن الباطل لمساوئه.
– وضع المعالم الزجرية كحواجز تكبح جماح النفوس، وتردها عن غيها.
– تطبيق الحدود، وتنفيذ القصاص.
وغير هذا من أمور يمكن إجمالها في منهجين فقط:
1 - الطرق الوقائية.
2 - الطرق الزجرية.
وكل رادع نفسي أو اجتماعي، أو مؤثر بيئي أو سلطوي، استجابة أو قناعة أو خوفاً، فإنه داخل تحت هذين المنهجين مهما كان سببه أو أثره.
فالعقاب في الشريعة الإسلامية بطريقيه: الوقائي والزجري، مبعثه المحافظة على الضرورات الخمس:
النفس والعقل والدين والعرض والمال.
وهذه الأمور الخمسة هي دعائم حياة الجنس البشري على الأرض، فمتى اختل واحد منها اضطرب ميزان الأمن والاستقرار.
الطرق الوقائية:
طرق الوقاية من الإضرار بالمجتمع وأهله، أنفساً أو أموالاً أو أعراضاً، أو وقاية اجتماعية، مما تحرص الأديان كلها عليه، وقد أبان الله في كتابه الكريم، وسنة رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام أن الفساد في الأمم السابقة، ما جاء إلا من إخلالهم بالنصوص، وتحايلهم على ما بين أيديهم من تشريع ومفاضلتهم في الأحكام بين الشريف القوي، وبين الضعيف الوضيع، ممن لا سند له من جاه أو مال أو عشيرة.
فالأول: يعفى من الإيقاع أو التشهير، أما الثاني: فيضاعف الجزاء عليه ويذل. كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) حيث قال ذلك لأسامة بن زيد عندما جاء ليشفع في أمر المخزومية التي سرقت، وأهم الناس أمرها[35].(/14)
وإذا كان الناس يلمسون الأثر الوقائي في الأمور الصحيّة، ودوره المحسوس في المحافظة على الأجسام عن كثير من الأوبئة، حيث اختفت بعض الأمراض التي كانت تفتك بالناس، وخاصة الأطفال كالجدري والسعال الديكي، والدفتريا والحصباء، والدرن وغيرها، إيماناً بالهدف القائل: الوقاية خير من العلاج، فكانت اللقاحات في وقت معين، وبمقدار معين، مفيدة في إعطاء الجسم مناعة، وبتوفيق من الله – عن كل مرض يلقح الجسم عنه، ذلك أن الأمراض أوبئة يحتاج الجسم إلى أن يحافظ صاحبه عليه، ويهتم به، ويراعي الجو المحيط به، ويقسر القادرون الناس الذين لا يدركون البعد الصحي لأنفسهم، على ضرورة المحافظة على أجسامهم وأولادهم، الذين هم أمانة في أعناقهم، لأن الولاية والمسؤولية في مناحي الحياة، لا تقل أهمية عن الناحية الصحية، وذلك باتباع أساليب السلامة التي تعين في الوقاية من المخاطر.
وأساليب السلامة كثيرة، ومتنوعة منها الصحي والمروري ومخاطر الطريق والحريق، وحماية الأطفال من الأمور الضارة التي لا يدركون خطرها كالأدوية والغازات والسموم، ولذا أنشئت لها في كثير من دول العالم مؤسسات، وعقدت الندوات، واهتم المختصون بتنظيمها، ووضع جزاءات رادعة لمن لم يبد اهتماماً ومتابعة.
والجريمة آفة اجتماعية اكثر خطراً من الآفة الجسمانية، فكان اهتمام الإسلام بالوقاية منها أكثر من الأساليب الزجرية، لأن الزجر جزاء يوقع على من فسد ضميره، وعمي قلبه، فكان بمثابة تكثيف الدواء للجسم، أو إجراء العملية، بعدما استفحل المرض، فقد تكون النتائج إيجابية أو سلبية، وقد تكون بعض النتائج استرشادات يأخذ بها الأصحاء في تلافي أسباب المرض.(/15)
أما الوقاية فهي اهتمام فردي لمعرفة الأثر السيئ، وما يترتب عليه، ثم تهذيب النفس، ومدافعة نوازعها عن الانجذاب إلى الشر، وهذا الاهتمام الفردي يأتي من تفهم النصوص الشرعية لمن أعطاه الله قدرة وعلماً، واستفادة من مجالس العلماء وحلقات الذكر، حيث أمر الله بالسؤال في قوله تعالى: {فَسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[36]. وبالاستجابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث ينظر رجال الحسبة للمجتمع وما فيه بميزان التوجيه والنصح، غيرة عليهم، وحمية لدين الله.
وللوقاية من الإجرام ومراقبة المجتمع عن أن تستشري فيه ثلاثة خطوط متوازية لا يؤدي أحدها الدور الكامل، إلا بتكامل هذه الثلاثة، من حيث الإحاطة والشمول، والحرص والتطبيق.
ذلك أن المجتمع مكون من فرد وأسرة وجماعة، كما أن الجسم مكوّن من أعضاء متعددة، ومرض العضو الواحد من الجسم يعوق الجسم كله، فكذلك المجتمع لا تستقيم أحوال الأمة فيه، ولا ينتظم معاشهم، إلا بسلامته كله، ومعالجة الخلل الذي نجم في أحد أطرافه.
الرقابة الذاتية:(/16)
ما أكثر التوجيه القرآني الكريم للنفس البشرية، حتى تستعمل العقل في التبصر، وحتى تدرك ما تدل عليه الحواس التي وهبها الله للإنسان، فتميز الخير من الشر، والنافع من الضار، لأن الإنسان سوف يحاسب على سرائر أعماله وظواهرها، ولأن كل ما يعمله محصى عليه، ومرصود في سجل أعماله كما قال تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}[37]. ورسول الله صلى الله عليه وسلم مكث في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً، يرسخ في الناس القاعدة الأساسية التي عليها مدار الأمور، لأن سلامة الجوهر في صفاء العقيدة، وصحة الأعمال في صدق المأخذ، وترسيخ قاعدة الإسلام التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة تزيد عن 56% من مدة مكثه صلى الله عليه وسلم يبلغ رسالة ربه، كانت في تأصيل الوحدانية مع الله: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.. التي هي أول أركان الإسلام، وتأكيد حقها على الفرد المسلم، لأن هذه الكلمة، إذا تمكنت من النفوس فهماً وعملاً، وسيطرت على الأحاسيس إدراكاً وتشبعاً، كانت حصناً منيعاً يحمي الله به النفوس من مسارب الشرور والآفات، ويقف عمق معناها دون الانحدار إلى الرذيلة والاستسلام للجريمة.
فمن أدرك هذه الدلالة لابد أن يحافظ على شعائر دينه، كما أمر الله: من صلاة وزكاة، وصوم وحج، وإيمان بالله، ووقوف عند حدوده التي أبانها لعباده سبحانه وبحمده.
وكل أمر تشريعي في الإسلام يلمس من المستقرئ تحليلاً يقي النفس، أو المجتمع ضرراً تبين نتائجه بمعرفة المداخل عليه.(/17)
– فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: يعطي مفهومها إدراك حقيقة الوحدانية مع الله فتمنح النفس البشرية رقابة تحجز عن الوقوع فيما يناقضها، فلا يصرف العمل لغير الله ولا يعبد بحق إلا الله، ولا يشرك معه غيره، فيما لا يصح صرفه إلا له سبحانه، كالدعاء والذبح والخوف والرجاء وغير ذلك من أنواع العبادات، كما قال سبحانه: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَداً}[38].
فمشاركة المخلوق للخالق في العمل المصروف، ينفي تحقيق الوحدة لله جل وعلا، كما جاء في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)).
والمشاركة مع الله في العبادة شرك حذر الله منه، وجعله البارئ جل وعلا من أشد العقوبات، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}[39].
والرقابة الذاتية في المحافظة على النفس، من إدراك دلالة كلمة الوحدانية مع الله سبحانه، والعمل بمقتضاها، واليقين بما تدل عليه، والصدق والمحبة في ذلك، وأنه الإله الحق ومصرف الأمور، خالق الخلق، وكافل أرزاقهم، فلا يجب أن تتعلق القلوب إلا به، ولا تنقاد الجوارح إلا لشرعه الذي شرع لعباده، مع القناعة بأن ما جاء من عند الله، فهو المصلح لمعاشهم، والمسعد لهم في معادهم، وأن على الخلق الامتثال له، إذا كانوا يريدون السعادة والفوز، والخلاص من كل مشكلة.
وإن من مهمات الوقاية العقدية، قناعة النفس بأن محمداً هو آخر رسل الله، وأن الديانة التي جاء بها من عند الله، هي الديانة الحق، الذي لا يقبل الله من البشر سواه، فهو رسول الله يقيناً، نشهد أنه قد أدّى الأمانة، وبلّغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.(/18)
فاليقين بذلك عصمة للنفس من اتباع الطرق المتشعبة، أو اللجوء إلى تحكيم القوانين الوضعية لأن في رسالته صلى الله عليه وسلم، وتبليغه ما أوحي إليه غنى عن كل بديل وضعته الأمم التي لا تؤمن بذلك، ولم تمتثل لشرع الله الذي شرع لعباده، أو ترضى به دستوراً في تصريف شئون حياتها.
ورقابة النفس في ذلك، مما يطرد الوساوس، ويقضي على التشكيك والرياء في الأعمال، إذ سوف تحرص بما تشبعت به، على أداء حق هذا الإحساس الوجداني بالمتابعة، والابتعاد عما ينافي مدلول كلمة الإخلاص.
– وإقامة الصلاة مما يعطي النفوس: فردية أو جماعية، حباً للنظام وتقيداً بالطهارة، وانقياداً للسلطة، لأنها طهارة البدن والثوب والبقعة للصلاة، مما يعطي أهمية في تربية النفس للاهتمام بالطهارات الأخرى، في تنقية الأعمال والبعد عما فيه إضرار بالنفس أو المجتمع مما حذر منه التشريع، والجريمة في مقدمة ذلك.
فالنظام في الأوقات، والتهيؤ للصلاة، والتقيد بعدد الركعات المفروضة، بدون زيادة أو نقص، حيث المسلم المصدر في ذلك عن كيفية صلاته بحسن الإستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فهو صلى الله عليه وسلم مشرع للأمة، ومبلغ عن الله، ذلك أن الصلاة خضوع أمام الله، واستجابة لأمره، ولذا كانت من أعظم العبادات، المهذبة للطباع، والناهية عن المنكر، والرادعة عن طرق الغواية، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ}[40].(/19)
وإدراك حقيقتها، واستحضار القلب عند أدائها، ثم أخذها سلاحاً تحارب به النفس الشرور المحيطة، والآثام المتسلطة، ومنها الجريمة التي لا تتحرك في النفس، إلا من مدخل ضعف جاء من الإخلال بفرضية الصلاة، ونقص في مراقبة ما يجب أن تنتهي عنه النفس، من أمور تتباين مع منزلة الصلاة، ودورها في حماية النفس، ووقاية المجتمع من كل ما يضرّ به، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يطع الصلاة))، قال ابن كثير: "وطاعة الصلاة أن تنهاك عن الفحشاء والمنكر، وقال: قال سفيان: ((قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك)) قال: فقال سفيان: أي والله تأمره وتنهاه"[41].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن فلاناً يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال: إنه سينهاه ما تقول))[42].
ولما كان القلب كما يقال: هو ملك الجوارح، والمسيطر على أفعالها وتوجيهها، فإن القلب الخاشع في الصلاة، هو الذي يتشبع بدلالة الآية، وهو الذي يعطي الرقابة للمفهوم الوقائي عن كل منكر وفاحشة، والجريمة من ذلك سواء كان مردودها على الفرد، أو بان أثرها في المجتمع.
– وإيتاء الزكاة: طهرة للمال، ومشاركة للفقير في حق فرضه الله له في مال الغني، لأن بذله بسخاء وطيبة نفس، مما يغني نفوس الفقراء، ويهدئ قلوبهم، فلا تتطاول أيديهم على ما في أيدي الآخرين، ولا يحقدون على الأغنياء المتنعمين بالمال، وهم محرومون منه.(/20)
وإذا كان البدن يتطهر بالماء وضوءاً واغتسالاً من أجل الصلاة، التي يجب أن تستقبل بالطهارة الحسية الظاهرة ليتهيأ الجسم بحواسه كلها للطهارة المعنوية التي توجبها الصلاة، وتنعكس آثارها على الأعمال، ومسيرة الفرد والمجتمع، فإن الزكاة تحصّن المال، وتطهر قلب صاحبه، ليحرص على تجنّب كل مدخل حرام، أو أن يصرف ذلك المال في الحرام، حيث إن المال مال الله، وما صاحبه إلا مستحفظ عليه، لينظر جل وعلا ماذا يعمل فيه أخذاً وإنفاقاً، وماذا يؤدي منه حقاً وإحساناً لأنه: نعم المال الصالح عند الرجل الصالح.
فالإنفاق منه على النفس، وعلى من تلزم نفقته شرعاً من أداء حق المال، لما فيه من كفاية عن التطاول على ما في أيدي الآخرين بسرقة أو غيرها، والتصدق منه براً وإحساناً على القريب والمحتاج وسبل الخير الأخرى، ومن تزكية النفس وتعويدها على السخاء بأحب شيء إليها، وترضيته للنفس المدفوع إليها بما يعفها ويشعرها بالترابط الاجتماعي.. أما الزكاة فهي حق لله في مال الغني، تولى الله جل وعلا تسمية أهلها الثمانية، ليكون في ذلك إعانة على الرقابة الذاتية للنفس جوداً بالعطاء، وتنقية للمال، وتلمساً لمن يستحقها حتى تبرأ بها الذمة، وكلما كان بذل المال للآخرين خافياً، كان الأثر أبلغ في المعطي تزكو نفسه، ويرتاح قلبه.
وفي الآخذ حيث يرتفع به عن ذلّ السؤال، وكشف الحال، وفي كليهما ترضى النفوس، وتحمى من الاندفاع إلى الجريمة، يقول جل وعلا: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُم وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[43] لأن في إبدائها إظهاراً للإحسان ومدافعة للنفس، وتحبيباً للآخرين في الاقتداء وفي إخفائها منزلة إيمانية عميقة، وبعداً عن الرياء، وعفافاً للآخرين وصوناً لماء جوههم، وقطعاً للألسنة عن الإساءة، والأيدي عن التطاول.(/21)
– ومثل ذلك يستنتج من حكمة أداء الصيام، وكبح رغبات النفس، وتعويدها منهجاً خاصاً في العمل والإلتزام ومنعها من الطعام والشراب والجماع في نهار شهر رمضان، لتأخذ من ذلك درساً عملياً في الابتعاد عن الشر، وسبل الإضرار بالنفس أو بالآخرين، حيث تندفع النفس إلى الترويض على صيانة اللسان من الغيبة والنميمة، وفحش القول، وللبدن بمغالبة الشهوات، ذلك أن اللسان هو الذي يورد النفس المهالك، ويوقعها في الموبقات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه، ضمن وصيته له ضرورة حفظ اللسان، ولما سأل معاذ: أنحن مؤاخذون يا رسول الله بما نقول؟ أجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم، وفي رواية على مناخرهم)) متفق عليه.
فالصيام ترويض بدني وكبح للشهوات، وهو رقابة ذاتية، فإذا لم ترسخ في الوجدان إحساساً وإيماناً وينعكس أثرها على المرء عملاً ويقيناً، فإن المرء لا يلتزم بهذا الركن على الوجه المطلوب، ولا انتهى عما يحدثه الصيام من أثر في البعد عن المنكرات، والمقترنة باحساس الصوم، ولا الجرائم التي رسخ ضررها من تفاعل الصوم في النفس، مع مغالبة الحواس بترك كل ما يفسده.
وقول الزور، الذي هو من مداخل الجريمة، وأخذ أموال الناس، والتعدي على أعراضهم بالباطل، هو من فلتات اللسان الذي جاء الصوم ليهذب النفوس عنها، مثل الكذب، والشتم والسبّ، والكلام القبيح الذي هو رمي أعراض الناس بالمعايب، وثلبهم وذكرهم بقبيح القول، في حضورهم أو غيابهم، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذّر من كل ذلك، في وجوب إعطاء الصوم حقه، لنخرج منه بنفس مهذبة، وإحساس عميق، وأعمال مستمرة وزاكية، يقول صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))[44].(/22)
– والحج الذي هو عبادة مالية وبدنية، يدفع المرء إلى الحرص على جمع المال الحلال، وتقوية البدن على أداء تلك الشعيرة، والمجيء في وقت مخصوص، وبلباس متميز، وإلى أماكن موحدة تجمع المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، ليكون في مجتمعهم عبرة، وفي التقائهم درساً من دروس الحياة المهمة، كأهمية التعارف والتدارس، ومراقبة النفس عن الوقوع في المحظورات الإحرامية، وفداء كل عمل يخل بالحج السليم بما يلائم ذلك من الكفارات البدنية والمالية، وحتى لا تكون تلك الكفارات مربحاً شخصياً نلمس رقابة ذاتية جاء بها التشريع في الجزاءات والكفارات، بأن يكون النسك لفقراء الحرم، ولا يأكل منها صاحبها شيئاً، وأن يكون بعض الصيام في أيام الحج، وهي ثلاثة لمن لم يستطع الفداء، وسبعة إذا رجع إلى أهله تلك عشرة كاملة.
وإن تتبع أحكام الحج، والحرص عليها أداء وعملاً، لما يعطي المسلم درساً في معرفة السبل التي يتّقي بها المرء ارتكاب ما يؤثر في هذه الشعيرة والمنهج السلوكي الذي يجب أن يسير عليه أثناء تأديتها، أدباً وحسن تعامل واهتماماً بإخوانه المسلمين، الذين تقاطر جمعهم على بيت الله الحرام، استجابة لأمر الله، وتلبية لنداء إبراهيم الخليل، عندما أذن في الناس بالحج.(/23)
ولولا مراقبة الله، والحرص على امتثال أمره الذي شرعه لعباده، والقدوة برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال: ((خذوا عني مناسككم)) لكان كل فرد يعمل ما يشاء، فلا يلتزم بميقات، ولا يتقيد بلباس، ولا يتجنب محظوراً ولا يصرف الكفارة لمستحقها، إلى غير ذلك من أمور هي في صحة وسلامة الحج، لكن الوازع الإيماني، والرقابة الذاتية، جعلتها على النفس حارساً، يأخذ بها العمل المفيد، ويوجهها إلى الصواب، ويدفعها إلى السؤال استرشاداً، ورغبة في الخير، فعرفت الحق بعلاماته، واتجهت إليه محبة فيه، وأدركت الشر بالتحذير منه، لأنه محظور يجب اجتنابه، والتكفير عنه إذا تمّ الوقوع فيه.
وجميع فرائض الإسلام، إذا حرص المرء فيها على معرفة الحلال من الحرام: بأن حرص على الحلال فألزم نفسه به، لأنه هو المنهج السليم الذي وجهه دينه إليه، ورُغِّب فيه بالإندفاع إليه، بأمر يجب احترامه لقدسيّه مصدره، فإنه بذلك يجد الفضيلة التي تتوقد إليها النفوس، ويرتاح للعمل الذي يتفق مع الفطرة.
والنصوص الشرعية التي توضح الحلال من الحرام، فترغب في الحلال وتجازي عليه، وتنهى عن الحرام الذي يمثل الشر وآثاره، فتعاقب عليه وعلى فعله، هي زواجر وحدود تقوّي الرقابة بالوقوف عند النص واتباعه في الحلال، والتبصر في دلالته، والابتعاد عما حذر منه من حرام.. ذلك أن الحرام هو كل ما فيه ضرر بالنفس أو المجتمع، سواء أدرك الإنسان النتيجة أو خفي السّر عنه.
وإذا كانت أنظمة البشر تعطي طابعين في المتابعة والتقويم: ذاتي بإحساس النفس، ورقابي مدفوع بقوة النظام، فإن الذاتي، يحرص عليه التربويون والإداريون، لإشعار أهل هذين التخصصين بأن القناعة العلمية، والارتباط المعرفي، هما الدافع لإجادة العمل، ومحاسبة النفس، واتخاذ ميزان تقاس به الأعمال وتقوّم به النتائج.(/24)
أما الرقابي المدفوع بقوة النظام، فهو سلطة قوية، يستعملها الرقابيون بأساليبها الرادعة، مع المقصرين في العمل، المتراخين في متابعة الواجبات الملقاة عليهم.
ومن هذا الأمر المحسوس في حياة الناس، نقارن النظرة الشرعية في مكافحة الجريمة، فالطريقة الوقائية: هي منهج يحرص عليه الإسلام في تحصين النفس، وتزويدها بالطاقة الإيمانية، المكافحة للجريمة قبل وقوعها، من حيث إدراك كنهها، وتجسّم ضررها، ومداخل وطرق الوقاية منها، ويتعاون عليها ثلاث فئات: الفرد والأسرة، ثم المجتمع.. ولكل من هذه الفئات الثلاث، مداخل للمعرفة، ومسارب لتمكين الهدف في معرفة الجريمة ورسم الطريق الموصل إلى مكافحتها، وحصرها في نطاق الكراهية والتنفير.
رقابة الفرد:
رقابة الفرد على نفسه أولاً، وتوجيهه لغيره ثانياً بتوسيع المدارك، وزيادة التمكن في أخذ المعرفة من مصادرها الصحيحة الثابتة، وغرس الفضيلة، ومقاومة الرذيلة، كما يستفاد من هذا النص الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[45]، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا سمعت يا أيها الذين آمنوا، فأصخ لها سمعك، فهي إما أن تأمرك بخير تتبعه، أو تحذرك من شرّ فتجتنبه. قال ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره، لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريباً منه أو بعيداً.(/25)
قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال، ونهيته عنه من الحرام فلا يضره من ضل بعده، إذا عمل بما أمرته به. وعندما سئل أبو ثعلبة الخشني عن دلالة هذه الآية قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام.. الحديث)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح[46].
رقابة الأسرة:
والأسرة عندما يدرك أفرادها ما يجب عليهم فهمه من نصوص شرعهم، ودلالات دينهم، ويحرصون على ذلك عملاً، فإن نتيجة ذلك الالتزام بالأخلاق، ومراقبة الأعمال لتزنها من منطلق الفهم الصحيح، حتى توجه الأبناء منذ حداثة أعمارهم التوجيه السليم، وتغرس في نفوسهم حب الفضيلة لفضلها، وعمق أثرها، وكراهية الرذيلة لسوئها، وآثار نتائجها، لأن الرذيلة يتمثل فيها شبح الجريمة التي يحسن بالأسرة تجسيمها لدى الناشئة، وإيصاد الطرق المؤدية إليها، ليكبر هذا الإحساس معهم، فيرونها شبحاً مخيفاً، وعملاً رذيلاً، تكبر أحاسيسهم حياله مع الأيام، حتى إذا كبروا، وصاروا في موطن المسئولية، وعمق الفهم، أدركوا بالدليل الشرعي سرّ ما رسخ في قلوبهم، ودور ما أنشئوا عليه من أعمال وأفكار، حيث أدرك ذلك المفهوم التربوي الشاعر العربي في قوله:
وينشأ ناشيء الفتيان منا على ما كان عوده أبوه(/26)
وأسوة المسلمين في ذلك منهج الصحابة، وفهم التابعين في حسن توجيههم لأبنائهم، وتلقينهم الفضيلة طبعاً وخلقاً وتعويدهم الأعمال الحميدة ترويضاً ومتابعة، حيث تابعوا التطبيق مع أقرب الناس إليهم، ونشأوا محبين لكل عمل مستحسن، آلفين كل منهج سليم، سائرين على الفطرة السليمة، التي هي تعاليم الإسلام الصحيحة، لأن كل مولود يولد على الفطرة، والإسلام وتشريعاته هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فالأسرة المسلمة، في كل عصر ومصر، عندما يهتم أربابها بأبنائهم تربية وحسن خلق، وإنكاراً للمنكر، وتحذيراً من الصغائر، التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إياكم ومحقرات الذنوب)) أي ما تحتقره النفس ويصغر في العين. فإن هذا من أسباب توفر البيئة الصالحة، التي تبغض الجريمة، وتنكر الجنوح إليها، لأن صلاح الأحداث، وتعظيمهم شرائع الله، والوقوف عند حدوده، دافعه الزاجر الإيماني، والتربية السليمة التي حرصت الأسرة على تمكينه في جوانب البيت، ضمن التربية الأولية التي يلقنها الآباء والأمهات لأبنائهم، فالكبير يمتثل ويوجه ويضرب النموذج الصالح بالقدوة والالتزام، أما الصغار فيبيّن لهم أن ذلك العمل ما هو إلا استجابة لشرع الله الذي جاء به الإسلام تربية وتوجيهاً وتعليماً وتطبيقاً.
فالصغير عندما يتعوّد ذلك عملاً، وتنطبع به أخلاقه سلوكاً، فإن الأمر سيعظم في قلبه، والمصدر الذي جاء منه وهو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي استجاب من أجلها، سيكون له مكانة راسخة في أعماقه، لأن هذا من تعظيم حرمات الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}[47].(/27)
وقوله سبحانه: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِر اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[48] إن الأسرة التي تحرص على غرس الروح الإيمانية في قلوب أبنائها، منذ تفتح براعمهم، فإنما تحصنهم لمجابهة الحياة، والاستعداد لإدراك المخاطر، لأن الإيمان بالله وبكتبه وبملائكته وبرسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ترسيخ هذا الإيمان يعطي الأبناء سلاحاً قوياً يدفعهم للعمل، وينمي عندهم بغض الشرّ، وإدراك خطره، ويحبب إليهم الخير، ويرغبهم في البحث عن مداخله، والإستئناس بأهله، لأن من شبّ على شيء شاب عليه، وبذلك يسلم الأحداث – بتوفيق من الله – من الجنوح في صغرهم، ومن ثم الابتعاد عن الجريمة في كبرهم، لأنها لم تجد في قلوبهم باباً مفتوحاً، ولا ارتياحاً يدفعها للاستقرار.
ومعلوم أن من يركب مخاطر اليمّ، إذا لم يكن قادراً على السباحة، فإنه يعرض حياته للموت، ونفسه للخطر، بل أبسط ما يقال عنه: إنه قد ألقى بنفسه إلى التهلكة، لأنه لم يستعد من قبل، بما يعينه على مصارعة الأخطار، والقدرة على توقي أضرارها.
رقابة المجتمع:
ثم يتبع ذلك رقابة أوسع، ونظرة أشمل، هي عين المجتمع الفاحصة، وانتقاداته لكل أمر خارج عن المألوف في البيئة الإسلامية، حيث أن البيئة الإسلامية يجب ألا يؤلف فيها، إلا ما يتمشى مع منهج دين الإسلام، كما جاء في الأثر: ((ما رآه المؤمنون حسناً فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو قبيح))[49]، فإيمانهم القوي يردعهم عن تغيير النظرة للأمور الحسنة أو القبيحة، فالحسن عندهم ما أباحه شرع الله والقبيح في نظرهم ما حذّر منه الشرع وحرمته تعاليم الإسلام.(/28)
وأهمية الجار والمحافظة عليه سمعة ونصحاً من أساسيات دين الإسلام، حيث وردت أحاديث تدل على أن الجار يتعلق بعنق جاره يوم القيامة، ليحاجه أمام خالقه جل وعلا، لأنه رآه يعمل المنكر فلم ينهه، واستحق بنو إسرائيل اللعن في كتاب الله على ألسنة أنبيائهم، لتركهم التناصح والأمر بالمعروف، كما قال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرِ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[50] فحق عليهم بعدم التناصح، وراحة النفس بالجريمة التي يعملها الاخرون، أن وجب عليهم لعن الله، وهو الطرد من رحمته جل وعلا.
والعصيان والاعتداء جريمة، لأن في ذلك مجاوزة لحدود الله التي حدّ لعباده، وأعظم الجرائم عصيان الله في أمره، والاستكبار على شرعه، كما فعل إبليس – لعنه الله – حيث أخرجه ذلك من رحمة الله واستحق مقته وغضبه إلى الأبد، فأعظم بها من خسارة، قال ابن كثير في تفسيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم)) قال يزيد، وأحسبه قال: ((في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ((ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون))، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فقال: ((لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطراً)) وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه: ((كلاّ والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهوّن عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو تقصرنّه على الحق قصراً))[51].(/29)
فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من الأسس المتينة، التي تقي المجتمعات من الجريمة، وبهيمنة الرجال العارفين لما يدعون إليه المدركين حقيقة ما ينهون عنه بحكمة وموعظة حسنة يمكن بتوفيق من الله، وبالنية المخلصة، والصدق في القول والعمل، حماية للأمة من تسلط فئة نبت الشر في قلوبهم، وفقدوا هيمنة الرقابة الذاتية لنقص إيمانهم، والرقابة الأسرية لعدم توجيههم وقت التهيؤ الذهني، والاستعداد العقلي للقبول، لأن أمثال هؤلاء في المنزلة الثالثة، بحيث تردعهم السلطة، وتؤثر فيهم التوجيهات، وتخوفهم الجزاءات الملائمة معهم، ذلك أن سلطة الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر يجب أن تكون مستندة إلى قاعدة صلبة من الإيمان، الذي يملأ النفس بحرارة اليقين، ويمدها بالشحنات الدافعة إلى العمل، كما يجب أن تدعم بالسلطة الشرعية، لينزجر المعائدون، ويقمع المكابرون، ويجازى المتجاوزون المصرون، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن[52]، والرفق ما كان في شيء الإزانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
لقد جعل الله جل وعلا في شرائع دين الإسلام، وفي كل أمر ونهي، حكمة بالغة تنصلح بها الحياة، في كل زمان ومكان، فالزواجر والحدود التي شرعها الله، ونظمتها تعاليم الإسلام، ليست إلا وقاية للمجتمع من تسلط فئة على فئة، وحماية لأفراده وأمنه، من أصحاب النزعات الشريرة، أو الإغراءات المادية.(/30)
ولما كان الدين النصيحة والتوجيه، فإن الفرد مسئول بأن يكون عيناً تراقب الأضرار للتنبيه عليها والتساند مع الجهات المعنية في إنكار المنكر، والترغيب في المعروف، كما جاء في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟. قال: لله ولكتابه ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم)). رواه مسلم فنصح العامة يتم بالتوعية والتنبيه على الأخطاء برفق ولين، لأن الثمرة لا تتم إلا بهما. أما إذا خيف اتساع النطاق، واستمراء الباطل، فيجب على الجهة المعنية أخذهم على الحق بالقوة، كما جاء في الحديث الذي ساقه ابن كثير في تفسيره، ومرّ بنا آنفاً. ذلك أن رجال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهم الذين عرفوا في تاريخ دولة الإسلام برجال الحسبة، وأخذ فكرتهم وجزءاً من مهماتهم رجال الغرب، وسموهم برجال الآداب، أو بوليس الآداب، وعنهم أخذت هذه الفكرة بعض الدولة العربية الإسلامية، لكن ذلك سار في درب يختلف عما عهد عن المسلمين في أعمال الحسبة، حيث عرف عنهم أعمال كثيرة منها:
– الحرص على متابعة صغائر الشر حتى لا يستفحل خطرها.
– مراقبة المكاييل والموازين، والاهتمام بالأسعار ومنع الغش.
– المحافظة على الأمن، وذلك بمتابعة الجانحين من الشباب، وتتبع أصحاب الجرائم الأخلاقية.
– منع النساء من مخالطة الرجال في الأماكن العامة، ومزاحمتهم في الأسواق.
– الاهتمام بمداخل الفتنة، والنصح والتوجيه لكل من يتجرأ على حدود ومحارم الله.
– الاهتمام بتأمين الطرق، والقضاء على شتى صور التعدي فيها على الفرد أو الجماعة[53].
– منع الجار من الاعتداء على جاره، وردع القوي من التسلط على الضعيف.(/31)
وغير هذا من أعمال، كلها تدعو إلى الاهتمام بما يصلح المجتمع الإسلامي، وإغلاق منافذ الشر فيه، والمفضية إلى الجريمة لأن في متابعة تلك الأمور حصراً للشرور قبل حدوثها، وحجزاً بالحدود، حتى يمتنع الناس من التحايل على بعضهم، وحتى يشعر من لديه ريبة، بأن هناك أعيناً يقظة، ترصد أحوال الشرور، وتتابع المنتمين إليها، لتقضي عليها قبل بروزها، مما يجعل للمجتمع شخصية آمرة، ولرجال الحسبة الذين هم عين المجتمع مهابة وردعاً لما يجب أن يتصفوا به من علم وحسن سيرة وسلوك، ويقظة ومعالجة للأمور الظاهرة أمامهم بحكمة ولين، وعلم حقيقي لمقتضيات التشريع الإسلامي، حتى يكون الآمر والناهي عالماً بما يأمر به، عالماً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه، وأن تهيأ لذلك البيئة الصالحة، والظروف الطيبة، لأن رجال الحسبة عليهم دور مهم، في الاضطلاع بالمحافظة على الدين، الذي هو قوام المجتمع، والمصلح لما فيه من اعوجاج، حفاظاً عن التعدي على الحرمات، لما في ذلك من حصانة للإسلام، وسلامة لأهله.
وهذا من حماية المجتمع عن كل عمر يجر إلى الجريمة، لأن معظم النار من مستصغر الشرر، والسكوت عن الصغائر يجعلها تستشري وتكبر، وسدّ الذرائع مما يوصي به كثير من الفقهاء رحمهم الله، مخافة اتساع النطاق، والإفضاء إلى ما هو أشمل وأكبر حيث يرى الأصوليون بأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح[54].(/32)
والمجتمع بالتكافل والتعاطف، والراحة النفسية والهدوء والاستقرار، فإنه بإذن الله، سيقضي على الجريمة، بالقضاء على أسبابها، وحصر المؤثر فيها، وبكبت صغائرها قبل التفاقم، ما دام فيه من يمثل رجال الحسبة بالأمر والنهي، والنصح والتبيين، ورجال في المجتمع يتقبلون منهم التوجيه، ويستجيبون للنصح، ويمتثلون بالتطبيق، وهذا يمثل الأخذ والعطاء، أو السالب والموجب، اللذين بهما يتكامل المجتمع، ويتراحم أبناؤه، ويردع قادرهم المعتدي، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع المؤمن بالترابط والمحافظة على مداخل الشّر فيه من أن تنتهك حيث جعله بمثابة الجسد الذي يتألم من أي طارئ يحس أي عضو فيه فقال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) رواه البخاري وأحمد في مسنده.(/33)
وقد رسم صلى الله عليه وسلم في أصول تربيته للمجتمع المسلم، وتوجيهاته لأبناء الأمة المسلمة، طرقاً يستنير بها أبناء المجتمع في التوجيه والعمل، وتعينهم في رسم المنهج لبيئة الإسلام، من حيث الحصانة الفردية، والوقاية الجماعية، حيث أبان صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن المرء في توقيه الشبهات والمحارم كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه وأن حمى الله محارمه، ولكي يستبرئ المرء لدينه وعرضه، ويتجنب المحارم التي نهى التشريع الإسلامي عنها، فإن عليه أن يتقي الشبهات وأن يقف عند حدود الله، وبذلك يقي نفسه مسارب الجريمة، ويقوده القلب السليم إلى العمل الحسن، حيث إنه ملك الجوارح، وهو الموجه للخير إن صلح، وللشر إذا هو فسد، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). وكان الدعاء المأثور: اللهم أصلح لي قلبي الذي هو عصمة أمري، واصلح لي دنياي التي فيها معاشي، واصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر.. وفي البعض: ديني قبل قلبي.
وروى الدارقطني وغيره من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)).
الطريقة الزجرية:(/34)
والمرتبة الرابعة التي تستنتج من استقراء التوجيه الشرعي، للوقاية من الجريمة، هي القوة التي تحدّ من استشراء الجريمة، وتغلبها على فئة من المجتمع لتفسده، وتدك دعائمه التي يقوم عليها بنيانه، تلك هي الطريقة الزجرية التي يلجأ إليها ولي الأمر عند استنفاد فرص الإصلاح، فالقلب له حالة الانطماس، والذهن له مرتبة في الانغلاق. فمن انطمس قلبه فإنه لا يفيد فيه نصح ولا توجيه، لأنه أصبح كالصخرة الصماء التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. والذهن إذا انغلق أصبح كالباب الموصد، لا يدخل معه أحد، ولا يخرج منه أحد، والمعاندون لشرع الله المتجاوزون لحدوده سبحانه، ممن طبع الله على قلوبهم، فلا يفيد فيهم توجيه، ولا يردعهم نصح، كهذا الباب لا يتحقق النفع إلا بكسره، أو كالجسم المريض بمرض خبيث لا يرجى برء الجسم منه، إلا بقطع العضو الموبوء، ولو أنه جزء من الجسم، إلا أن الإبقاء على الجسم لا يتم إلا بذلك، ومن أجل المحافظة على الجسم يحرص الطبيب على المبادرة باستئصال العضو المصاب الذي لا يرجى شفاؤه، لأن نزعه من الجسم، فيه مطمع بسلامة باقي الجسم، والإبقاء على صاحبه ممتعاً بصحة وسلامة ليعيش ما شاء الله له.
وقد شبه بعض العلماء حوزة الإسلام بدائرة، تحيط بها من جوانبها الحدود، التي بالمحافظة عليها تسلم للإسلام نقاوته، وبتجاوزها يتخلخل أمن المجتمع، ويدبّ الفساد في أرجائه.
ولأهمية أمن المجتمع في البيئة الإسلامية، فإنه قد جاء ذكر هذه المادة، ومشتقاتها في كتاب الله أكثر من أربعمائة مرة، واشتق الإيمان منها، الذي هو راحة النفس، بصدق العقيدة، ولذا جاء الحديث: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)). ومن الأمانة معرفة واجبات شرع الله، والوقوف عند حدود الله، وذلك بالفقه في الدين، الذي هو: العلم بالأحكام الشرعية، العملية المكتسبه من أدلته التفصيلية[55].(/35)
ذلك أن العلم بالأحكام الشرعية، يستوجب إدراك كنهها، سواء أخذت من الشرع تصريحاً أو استنباطاً، وذلك من أجل الوقوف عند حدودها، وزجر من يتجاوز هذه الأحكام الشرعية، بما يمكن السلطة، ويؤمن المجتمع، ومن أجل ذلك جاءت الأحكام الزاجرة المانعة، لكي تردع المجرمين عن الاسترسال في الجريمة، وحددت عقوبات كل جرم بما يتناسب مع مكانة ونوعية ذلك الجرم، والأثر الذي يتركه في البيئة الإسلامية، من قتل وقطع، إلى سجن وجلد، أو غرامة في الجناية، أو قصاص لعضو بدل عضو، أو تغريب عن البلد الذي أوقع فيه الجرم، إلى غير ذلك مما بسط في كتب الفقه، في أبواب الحدود والجنايات والقصاص، ومن النصوص الشرعية التي ورد فيها القول الثابت، ندرك أن فساد الأمم السابقة جاء من تركهم حدود الله، ورغبتهم عن حكمه إلى أحكام البشر، كما حكى الله عن بني إسرائيل بقوله جل وعلا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}[56].
وهذا في معرض التبكيت لهم، ومجانبتهم للمنهج الذي رسمه لهم شرع الله، ثم ابتغوا عنه بديلاً، يتفق مع الأهواء البشرية، وتركوا حكم الله الذي أبانه لهم في التوراة التي أنزلها الله جل وعلا على موسى عليه السلام، فغيّروا فيها، وبدّلوا ورغبوا عن حكم الله، إلى أحكام أخرى، من وضع البشر زادت مجتمعاتهم جريمة وتطاولاً، فوصفهم الله بعدم الإيمان، وبالكفر والظلم والفسوق[57].(/36)
والقرآن الكريم الذي هو المصدر الأول في شريعة الإسلام، قد مكّن هذه الأحكام بما يخيف المجرمين، لأن في القصاص حياة لأولى الألباب ورغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الحدود، حتى تحرص الفئة المؤمنة على التطبيق والملاحقة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إقامة حدّ من حدود الله، خير من أن تمطروا أربعين سنة)). لأن هذا الحدّ يمثل الغيرة لله، والاهتمام بشرعه الذي شرع لعباده، ومن قصة المخزومية التي سرقت، حيث غضب الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، عندما جاء إليه من يتشفع فيها. وقال: ((أتشفع في حدّ من حدود الله؟)) ثم قام خطيباً فقال: ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))[58].
ومن هنا تشدد علماء المسلمين رحمهم الله في تحريم الشفاعة في الحدود، إذا وصلت القضية إلى السلطان وفي تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى، وأن الشفاعة الجائزة فيما يمكن إصلاحه قبل الوصول إلى الحاكم الشرعي، أو من يمثل ولي الأمر.
والحدود الزاجرة أهمها:
– الزنا وله حكمان إذا ثبت بالبينة الشرعية: إقراراً أو شهوداً: الجلد والتغريب سنة لغير المحصن، والرجم للمحصن، ويقام الحدّ في مشهد طائفة من المسلمين، ليكون لذلك صدىً في النفوس، وتشهير بالفاعلين، وهذا من خزي الدنيا.
– وحدّ القذف يتم بعبارات صريحة أو كنايات دالة على المقصود، ليحدد الحاكم الشرعي نوعية القذف، وما يستوجب من التعزير، وللمقذوف التنازل وإسقاط الحق، لأن هذا حق فردي، يدخل في ترويع المسلم، والإضرار به، وهو صاحب الحق في المطالبة أو عدمها.(/37)
– وحدّ السكر عند ثبوت ذلك بالبينة القطعية كالاقرار أو شهادة عدلين، من الروادع عن استشراء هذه الآفة الاجتماعية وقد يكون من القياس في هذا وغيره، إقامة الحدود في أمور جدت على الفقهاء الأوائل وما مرّ عليهم، كالمخدرات بأنواعها، وقياسها هي أو غيرها على ما يلائمها من الجرائم والحرابة، ونتائج الأضرار.. كما في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة رقم 138 تاريخ 20/6/1407هـ حول المخدرات.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلد في الخمر أربعين جلدة، وقال في حديث صحيح من شرب الخمر فاجلدوه. إلى أن قال الثالثة أو الرابعة ثم إن شرب الخمر فاقتلوه[59] وجلد أبو بكر رضي الله عنه وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثر شرب الخمر بسبب كثرة الفتوحات فتشاور الصحابة في ذلك. فاجتهدوا بالجلد ثمانين، لأن المرء إذا سكر هذى، وإذا هذى قذف، فقاسوا الحكم على أثر القذف وحكمه.
– حد السرقة وذكر ما يتم القطع به، بعد معرفة ملابسات السرقة، والدوافع إليها، وهل المسروق في حرز مثله، حيث يشترط الفقهاء في القطع للسرقة شروطاً بسطت في كتب الفقه[60]، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تساهل في حدّ السرقة عام الرمادة، لأن الدافع إليها المجاعة التي حصلت للناس.
وعندما استهزأ المتقولون على الإسلام بحد السرقة، كما قال شاعرهم:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
وهو الحد الأدنى للقطع كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بذلك، فرد عليه ابن القيم رحمه الله:
عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذلّ الخيانة فاقهم حكمة الباري[61]
فالحدود والتجرؤ عليها، وعدم الوقوف عند شرع الله الذي شرع لعباده، هذه الأمور هي التي تذل صاحبها، فيستوجب الحدّ، الذي يزجره، ويخيف غيره مما قد تسوّل له نفسه، بعدما يعرف المصير.(/38)
– حد القتل عمداً، وتوضيح حقيقة العمد، حيث أفاض المفسرون والفقهاء في ملابسات القتل، ومعرفة الدوافع إليه، والتمييز بين القتل عمداً، والقتل خطأ، وما يدخل في عمد الخطأ، وخطأ العمد، وما يستوجب قصاصاً، أو يفادى عنه بدية، إلى غير ذلك من تفاصيل أوضحها الفقهاء أحكاماً تزجر النفوس عن العدوان، وتشفي غيظ المجني عليه، وتحفظ النفوس والأطراف، وطهرة للمقتول، وحياة للنوع الإنساني، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ}[62].
كما أوضح الله سبحانه وتعالى في سورة النساء، قيمة النفس البشرية، وحرمتها وجزاء الإعتداء عليها: جزاء دنيوياً وجزاء أخروياً، فقال جل وعلا: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ، ومن قتل مؤمناً خطأ، فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا} إلى آخر الآية، ثم يقول سبحانه في الآية بعدها مشدداً في عقوبات القاتل المتعمد: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}[63].
– أما الجنايات المختلفة التي يتسبب عنها أضرار وجروح، ففي بعضها إرش عن الجناية، وفي بعضها قصاص، وفي بعضها مبادلة شيء من الأعضاء تالف بالجناية، بمقابلة من أعضاء الجاني، وقد يصطلح الطرفان على الدية التي حددها الشارع، بحسب العضو المجني عليه، والضرر الذي أصابه، أو أعاقه عن العمل، والديات والأرش تتفاوت بحسب نوعية الجناية، وباختلاف الزمان والمكان، وحال المجني عليه. ذكراً كان أو أنثى، مسلماً أو كافراً، جنيناً أو صبياً متكاملاً[64].(/39)
– وقطاع الطرق المحاربون لله ولشرعه، المخيفون للناس الآمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وقد أوضح الله في سورة المائدة حكمهم، ونوعية العقاب الشديد الذي يجب أن يحل بهم، جزاء وفاقاً، لتماديهم في الجريمة، وإخافة لمن تسول له نفسه أن يعمل عملهم، ويستهين بالسلطة الحاكمة، ويتجرأ على حدود الله وشرعه، حيث حرم صلى الله عليه وسلم على المسلمين دماء بعضهم البعض، وأموالهم وأعراضهم فقال في حجة الوداع، مؤكداً ذلك الحكم ((أي يوم هذا؟)). قالوا: يوم النحر العيد الأكبر، فقال: ((أي شهر هذا؟)). قالوا: شهر الله الحرام. قال: ((أي بلد هذا؟)). قالوا بلد الله الحرام. فقال صلى الله عليه وسلم ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد)). ويقول صلى الله عليه وسلم: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه، كل مسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم
وقد أعطى جل وعلا في التشريع الإسلامي، لولي الأمر سلطة تنفيذية، لإقامة حكم الله في الفئات المخالفة، إذا لم تتب من عملها، قبل أن يقدر عليهم، فقال سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَواْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[65]. قال كثير من أهل العلم: يطبق الجزاء الوارد في الآية، كحد من حدود الله الرادعة والمريحة، حتى يستتب الأمن في المجتمع الإسلامي، بحسب نوعية الحرابة، من سطو وقتل وسرقة، أو شهر سلاح، أو تعد على السلطة، أو إخافة للآمنين، فهي جزاءات خمسة للولي الشرعي أن ينفذ منها ما يزجر ويؤمن المجتمع بدون مثلة أو تعذيب، ولكل جريمة ما يماثلها من الجزاء.(/40)
– ومقاتلة البغاة الخارجين على السلطة، أو إخافة للآمنين، من الروادع ذات الأثر، لأن منهج الإسلام الالتفاف حول قيادة موحدة، وهو من يرتضيه المسلمون إماماً لهم، حيث يحرم الخروج عليه، لما في ذلك من فتح باب الإجرام والفوضى والقتل والهتك، وقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من خرج على بيعة الإمام، أو من جاء ينازع من في أعناق الناس له بيعة.
ومن حرص الإسلام على الإمامة يؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم على أهميتها حتى في السفر، بضرورة تنصيب أمير من المسافرين، حتى ولو كان عددهم ثلاثة، إذ عليهم أن يؤمروا أحدهم والصدور عن أمره، كما جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم))[66].
وأن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية[67]، وذلك لأهمية الجماعة في الإسلام، وضرورة السمع والطاعة للإمام، وتمثل ذلك الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام، بانقياد المصلين للإمام، وسيرهم خلفه.
يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ شذّ في النار)).
– أما من ارتد عن دينه، فإنه مجرم يجب محاربته، بعد إتاحة الفرصة له بالاستتابة، فإن تاب وإلا نفذ فيه حكم المرتد بالقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من بدّل دينه فاقتلوه))[68]، وقوله صلى الله عليه وسلم ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين)) متفق عليه.
الحكمة:(/41)
– ويبرز من حكمة العقوبات المفروضة في الإسلام، قوة هذا الدين في إسناد السلطة، لإيقاع الجزاء الوفاق على كل عمل ينافي سلامة وحوزة إسلام، مهما كان نوع هذا التعدي، إذْ لكل ما يسيء للمجتمع أو يضر بالفرد، ما يلائمه من الزواجر، لكي يشعر المجتمع الإسلامي بقوة السلطة التي جعلها الله لولي الأمر، في ملاحقة المجرمين، واستئصال شأفة المفسدين، بما يشفي الصدور، ويؤمن الخائف، ويردع من لا وازع له، وبذا يسعد المجتمع بالأمن، ويحيا الأفراد بالقصاص، وبدون ذلك يتحول المجتمع إلى الفوضى، ثم يلي ذلك طغيان القوي على الضعيف، وانتهاك الأعراض، وتنظيم عصابات البغي والعدوان. ومن أصدق من الله حكماً، فالله الرؤوف الرحيم بعباده، هو جل وعلا أعلم بما يصلح أحوالهم، وأدرى بما تستقيم به حياتهم، وبما ترتدع به نفوسهم.
وإذا كانت أكثر العقوبات جاءت من تجاوز الناس بعضهم على بعض، أو من ظلم الإنسان لنفسه، بالاستهانة بالحرمات، فإن في الكفارات عن كثير من الذنوب والمعاصي، كالظهار، ومواقعة الزوجة في نهار رمضان، والنذر والقتل الخطأ، وغير ذلك مما أبانه كتاب الله جل وعلا، أو شرحته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلاً آخر على صيانة حرمات التشريع، وإذاقة النفس ألم التراخي، وتسليم القيادة، للشهوات والرغبات.
وما حرص المسلم على السؤال عن هذه الكفارات، إلا رغبة في إبراء الذمة، والحرص على التوبة مما اقترفت النفس، وتنمية القوة الإيمانية بالامتثال، وتوعية الآخرين بحسن الاستجابة والقناعة.
والبشر طباعهم تختلف، وشعورهم يتباين، ونظرتهم للحدود والزواجر تختلف أيضاً بحسن فهمهم ووقوفهم عند النص الشرعي، بحسب قوة الإيمان، وسلامة النية.
فقد تقام الزواجر والحدود، ولا يرعوى القلب، ولا يرتدع الفاعل عن تكرار أعماله، ولذا جاء الحكم بتشديد العقوبة، أو استئصال الشأفة، لأن حماية المجتمعات أمكن من وقاية الأفراد.(/42)
ولن تبقى للإسلام مهابة، ولمجتمعه أمن، إلا بالصدور عن حكم الله في ملاحقة المجرمين، وردعهم بسلطة التشريع. وقوة حكم الله، حيث يتميز المجتمع الإسلامي في كل عصر ومصر بالمكانة الأمنية المرموقة، كلما حرص ولاة الأمر على الاهتمام بشرع الله، وتطبيق حدوده.
أما عندما يأتي التراخي في ذلك، ووصف أحكام الله بالشدة والقوة، فإن المجتمع سيجني ثمار ذلك قلقاً اجتماعياً، وجريمة منظّمة، وخوفاً مستمراً على النفس والمال والولد، كما يلمس هذا في المجتمعات التي لم ترض بحكم الله، ولم تحرص على حدوده.
إن المجرم مع جرأته جبان إذا أدرك ما ينتظره من جزاء عادل، ولكنه شرير مخيف، إذا عرف أنه لن يمس بأذى، أو أنه سيمكث في السجن أو الإصلاحية فترة وجيزة، يثبت فيها حسن سيرته، وتأدبه مع نظرائه في السجن، ليخرج بعد ذلك بأسلوب جديد، وعمل منظم، مما يجعل رواد السجون في نظر رجال البوليس في بعض الجهات، أناساً ثابتين، وإذا كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله قد قال: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.. فأولها صلح بالإسلام، وآخرها لا يصلحه إلا الإسلام، ولذا فإن أهل الحل والعقد من المسلمين. عليهم دور مهم في المحافظة على شرائع الله، وبالذات في الجنايات والحدود، وترسيخ العقيدة في القلوب، حيث يضمن للمجتمع الاطمئنان، ورخاء العيش، وإلا حلَّ بالمسلمين ما وقع بغيرهم من الخوف والقلق، والفزع والتعدي، وتفشي أمراض لم تعرف فيمن قبلهم، وذلك بما كسبت أيدي الناس، مع أن ما يعفو الله عنه كثير، وكثير جداً..".
والله الموفق
ـــــــــــــــــــــ
[1] سورة آل عمران آية 85، واقرأ الآية 19 من نفس السورة والىية 22 من الزمر، والآية 3 من المائدة، والآية 125 من الأنعام.
[2] سورة يونس آية 72.
[3] سورة آل عمران آية 67.
[4] سورة يوسف آية 101.
[5] سورة يونس آية 84.
[6] سورة الحج آية ((78)).
[7] سورة البقرة آية ((128)).
[8] جـ14، 357 – 362.(/43)
[9] جـ8: 224 – 226.
[10] ص216.
[11] سورة الفرقان آية 31.
[12] سورة الزخرف آية 74.
[13] سورة القلم آية 35.
[14] سورة السجده آية 22.
[15] سورة طه آية 22.
[16] فقه عمر للدكتور رويعي بن راجح 2:6.
[17] راجع تاج العروس 10 :77 – 78، ولسان العرب 18 :167 – 170.
[18] حاشية الروض المربع لابن قاسم 7 :164.
[19] 6 :527.
[20] راجع مواهب الجليل 6 :277.
[21] انظر كشاف القناع 5 :585.
[22] انظر مغني المحتاج 4 :2.
[23] حاشية الروض المربع لابن قاسم 7 :165 – 166.
[24] سورة الرحمن آية 54، وسورة مريم آية 25.
[25] راجع تاج العروس 2 :331.
[26] راجع التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع ص369.
[27] حاشية ابن قاسم على الروض المربع 7 :300.
[28] فتح القدير 4 :112.
[29] كشاف القناع 6 :63.
[30] فقه عمر للدكتور رويعي 1 :73.
[31] حاشية ابن قاسم على الروض المربع 5 :164.
[32] سورة المائدة آية 3.
[33] سورة النساء آية 82.
[34] حاشية ابن قاسم على الروض المربع 5 :300.
[35] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود جامع الأصول 3 :561.
[36] سورة النحل آية 43.
[37] سورة الكهف آية 49.
[38] سورة الجن آية 18.
[39] سورة النساء آية 48.
[40] سورة العنكبوت آية 45.
[41] تفسير ابن كثير 3 :414.
[42] نفس المصدر ص415.
[43] سورة البقرة آية 271.
[44] رواه البخاري وأحمد وأبو داود.
[45] سورة المائدة آية 105.
[46] تفسير ابن كثير 2 :109.
[47] سورة الحج آية 30.
[48] سورة الحج آية 32.
[49] يروى موقوفاً على ابن مسعود.
[50] سورة المائدة الآيتان 78، 79.
[51] تفسير ابن كثير 2 :83.
[52] من كلمات عثمان بن عفان رضي الله عنه.
[53] راجع كتاب الحسبة لابن تيمية نشر دار الكاتب العربي ص8، 43.(/44)
[54] أعمال الحسبة في الإسلام تحدث فيها كثير من العلماء، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ألف كتاباً في أعمال الحسبة وأثرها في مكافحة الجريمة، وذلك بالقضاء على مسبباتها، وبين ما يجب على رجال الحسبة أداؤه، وأوضح أعمالهم التي كانوا يقومون بها في عصور الإسلام الأولى، حتى وقت المؤلف، حيث استمدوا ذلك من مصدري التشريع كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما سار عليه السلف الصالح من هذه الأمة، وبالأخص ما جاء في سيرة الخلفاء الراشدين، حيث كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه النموذج الفريد لأعمال الحسبة.
[55] راجع في هذا التعريف شرح مراقى السعود. ص10 – 11.
[56] سورة المائدة آية 45.
[57] راجع الآيات 43 – 47 من سورة المائدة.
[58] إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 2 :266.
[59] رواه أبو داود 4 :3385.
[60] انظر على سبيل المثال حاشية ابن قاسم على الروض المربع 7 :353 – 376.
[61] وللشافعي بيت يقول فيه:
هناك مظلومة غالت بقيمتها وها هنا ظلمت هانت على الباري
انظر حاشية الروض ج5 ص360.
[62] سورة البقرة آية 179 وانظر المصدر السابق.
[63] سورة النساء الآيتان 92 – 93.
[64] انظر المغني والشرح الكبير جـ12 الجنايات والحدود.
[65] سورة المائدة آية 33.
[66] أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[67] رواه مسلم من حديث عبدالله بن عمر.
[68] رواه النسائي عن ابن عباس.(/45)
العنوان: الوقاية منَ العقم
رقم المقالة: 1918
صاحب المقالة: د. رجاء منصور
-----------------------------------------
الوقاية منَ العقم
من أجمل الأمثلة أو المأثورات وأكثَرِها قِيمَةً، وأعمَقِها معنًى، وأقصرِها كلامًا المَثَلُ أوِ الحكمة التي تقول: "الوقايةُ خير منَ العلاج"، وسوف تَظَلُّ هذه الحِكمة المَثَلَ الأوَّلَ في الطِّبِّ بجميع تخصُّصَاتِهِ؛ ولكن هل هناك وقايةٌ من أسباب عدم الإنجاب؟:
هناك كثير من العوامل التي يجب مراعاتها؛ حتى لا تحدث مشكلةٌ تَمْنَعُ الحَمْلَ:
1 – التطعيم ضد مرض الدَّرَن:
إن الإصابة بمرض الدَّرَن قد تمتدُّ إلى الجهاز التَّنَاسُلِيِّ مما ينتج عنه تَلَف، والتصاقاتٌ في قَنَاتَيْ فالوب والجدار الداخلي للرَّحِم وكذلك المِبْيَض، وعند الرجُل يتسبب في تَلَفِ وانسدادِ الحَبْل المَنَوِيِّ وتَلَفِ الخِصْيَة، وفي السبعينيات من القرن الماضي اعتقد البعض أن مرض الدَّرَنَ قدِ انتهى من العالم، ولكن للأسف بدأ المرض في الظهور مرة أخرى في مناطق مختلفة من العالم، وساعد على انتشاره سُوء الأحوال المعيشيَّة والتغذية الغير صِحيَّة في البلدان النامية، وللأسف ساعد أيضًا على انتشاره في مصرَ انتشارُ ظاهرة تدخين الشِّيشَة، ويجب الانتباه إلى ضرورة التطعيم ضد الدَّرَن.
2 – تجنب الإصابة بالتهابات الجهاز التناسلي:(/1)
من المعروف أنَّ التهاباتِ المِهْبَلِ وعُنُقِ الرَّحِمِ قد تؤدي إلى صعود الميكروبات المسبِّبة لها؛ لتُحدِثَ التهابات في قناة فالوب، ومن أهمِّ الالْتِهابات المعروفة التي تُحدِثُ التهابًا وتَلَفًا في قناة فالوب هي الإصابة بميكروب السَّيَلانِ (Gonorrhea )، والدَّرَن، والكلاميديا (Clamedia )، ومنَ الأعراض التي تحدث عند الإصابة بمرض السَّيَلان أن تنزل إفرازات (غير طبيعية) من حيث اللونُ من المِهْبل (مائل إلى الصفار)، ويمكن تشخيصها بعمل اختبار بكتريولوجي، ويجب تجنب الإصابة بالتهابات الجهاز التناسلي، واستعمال العازل الذكري، أو تجنب حدوث الجِماع في حالة إصابة أحد الزوجينِ بالتهابات حتى تعالَج؛ ويجب مراعاة أن تتم عمليات الإجهاض والولادة تحت إشراف طبي سليم؛ لتجنب حدوث مضاعفات والتهابات في الجهاز التناسلي، وإعطاء المضادات الحيوية الوقائية.
3 – تشخيص وعلاج التهابات الزائدة الدودية:
كثيرًا ما ينتج منَ الالتهابات المزمنة للزائدة الدودية التهاب والتصاقات في الغشاء البريتوني، ويليه التصاقات حول قناة فالوب المجاورة (اليمنى)، ويجب عدم الإهمال في علاج التهاب الزائدة الدودية، وإجراء الجراحة اللازمة دون تأجيل حتى لا يصبح التهابًا مزمنًا، وينتج عنه التصاقات.
4 – تجنب العمليَّات الجراحية الغير ضرورية:
يجب عدم الإقدام على إجراء عملية جراحية في منطقة الحوض إلا للضرورة، وبعد استشارة أكثر من طبيب؛ لتجنُّب تكوِّن الالتصاقات في الحوض، وعند الإقدام على أيِّ جراحةٍ فإنه يجب أن يَتَّبِعَ الطبيبُ الطُّرُقَ الجراحيةَ الميكروسكوبية الدقيقة؛ لمنع حدوث مضاعفات.
ويجب أن نذكر أنَّ هناك بعضَ العمليات الجراحية لا يجب أن تُجرى؛ حيث إنَّ ضَرَرَها أكثَرُ من فائدتها، ومثال ذلك:
أ – إزالة التكيُّسِ منَ المبيض:(/2)
هذه العملية قد وُصِفَتْ لأول مرة بواسطة الدكتورين Stein and Ieventhal في عام 1935، وقد قام هذان الطبيبان بإجراء العملية معتقدَيْنِ أنَّ إزالة جزء من قشرة المبيض التي بها التكيُّسات سوف يساعد على التبويضِ، وفعلاً فإنَّ اثنين من بين أوَّلِ سَبْعِ حالات أُجريت لهم العملية حدث انتظام في التبويض؛ لكن الدِّراسات الطبية الحديثة ودراسة الحالات التي أجريت لها العملية قد أثبتت أن الضرر الناتج من هذه العملية كبير؛ نتيجة حدوث التصاقات في الحوض حول الأنابيب؛ كما أنَّ المرضى يعودون إلى حالة عدم التبويض بعد فترة، ولهذا فإن الرأي الطبي الحديث لا ينصح بعملها.
ب – عمليات كَيْ المبيضين عن طريق المنظار:
انتشر حديثًا تكنيك طبي عبارة عن إدخال آلة عن طريق منظار البطن؛ لعمل كي في أكثر من مكان في المبيض لعلاج التكيسات، ويستخدم لهذا الحرارة الناتجة عن التسخين بالكهرباء أو الليزر، وللأسف الشديد فقد كثر إجراء هذه العملية قبل التأكد من الأثر الطبي ومدى الفائدة منها، ويترتَّب على هذا الكي نتائج خطيرة مثل: تدمير جزء من نسيج المبيض المحيط بمنطقة الكيّ، وأيضًا حدوث التصاقات قَدْ تُؤَثِّر على وظيفة الأناببب.
ج – كَيْ عنق الرحم:
قد ينتج عنه تدميرُ الخَلايا الَّتي تفرز الموادَّ الزُّلاليَّة من عُنُق الرحم، وقد ينتج عنه تَلَيُّفٌ وضِيق في عُنُق الرحم.
5 – عدم التعرُّض للإشعاع وبعض المواد الكيميائية: حيثُ إنَّها تؤثِّر على البويضات، والحيوانات المَنَوِيَّة.
6 – تجنب التعرض لبعض الظروف المِهنية: التي تتطلب الوقوف في درجة حرارة مرتفعة بالنسبة للرجال، وأيضًا بعض الأدوية (ص30).
الطرق المختلفة لعلاج العقم(/3)
إن علاج عدم الإنجاب يمكن أن يكون عن طريق استخدام الأدوية المختلفة، أو عن طريق الطرق الجراحية، أو باستخدام وسيلة من وسائل الإخصاب الطبي المساعد، وسوف نتناول أولاً علاج الأسباب المختلفة لعدم الإنجاب عن طريق الأدوية أو الجراحة، ثم يخصص الجزء الأخير للطرق المختلفة للعلاج عن طريق أطفال الأنابيب، والإخصاب المجهري، والإخصاب الطبي المساعد:
علاج ضعف التبويض:
إن مشكلة عدم التبويض أو ضعفه، أو عدم انتظامه من أهم المشكلات التي تتسبب في عدم الإنجاب، وكما ذكر سابقًا فإنَّ لها أسبابًا مختلفة، ويمكن أن تعالج حسب كل حالة كما يأتي:
1- تَكَيُّس المبيض:
من أهم أسباب عدم انتظام التبويض وأكثرها شيوعًا ما يسمى بـ "بتكيس المبيض"، وفي إحدى الدّراسات وجد أنَّ حوالي أربع إلى سبع سيدات بين كل مائة سيدة في سن الإنجاب تعاني من تكيس المبيض، وهي حالة مركبة من عدة عوامل، وحتَّى الآن لا يعرف تمامًا السبب الرئيسي لها (انظر ص 39)، وغالبًا ما تعاني السيدة من أحد أو بعض هذه المشكلات؛ مثل تأخّر نُزول الدَّورة الشهريَّة لِمُدَّة تتراوح بين عدة أيام إلى عدة أشهر، ويصاحب ذلك في بعض الحالات ظهورُ الشَّعْرِ بِطَريقةٍ كثيفة في الجسم، أو نموه في الوجه والبطن، ويعاني حوالي 50 % من الحالات من زيادة في وزن الجسم، وعند عمل الموجات الفوق صوتية يلاحظ وجود أكياس عديدة في المبيض مِمَّا يُعْطِيهِ شكْلاً مُمَيَّزًا، وحديثًا فقد وُجِدَ أنَّ هذه الحالات أيضًا تعاني مِمَّا يُطْلَقُ عليه "عدم الحساسية لِهرمون الأنسولين" "insulin resistance "(/4)
ويجب الانتباه إلى وجود هذه الحالة ومحاولة علاجها حتى عند السيدات اللاتي لا يرغبن في حدوث الحمل، وذلك لأن مشكلة تكيّس المبيض - وما يصاحبها من مشكلات أخرى ذكرت سابقًا - تؤدي إلى زيادة القابلية للإصابة بمرض السكر مستقبلاً، وكذلك مثل هؤلاء السيدات لديهنَّ قابلية أكثر للإصابة بارتفاع في ضغط الدم، ارتفاع نسبة الكوليسترول، وتصلب الشرايين، والإصابة بالأزمات القلبية، ونتيجة لتعرض الغشاء المبطِّنِ للرَّحِمِ إلى هرمون الإستروجين لمدة طويلة في حالة عدم حدوث الدورة الشهرية، فإن ذلك يؤدي إلى الزيادة المضطَرِدة في حجم الغشاء ونمو خلاياه الزائد، وبالتالي الإصابة بسرطان غشاء الرحم مستقبلاً، ولذلك يُنْصَح بإعطاء هرمون البروجيستيرون لِمُدَّة أسبوعين كل شهر لمعادلة أثر هرمون الإستروجين على بطانة الرحم وإنزال الدورة الشهريَّة؛ حتَّى في الحالات الَّتِي لا ترغَبُ فِي حدوثِ الحَمْلِ، وبِصَرْفِ النظر عن أدوية التنشيط التي تُعْطَى لِلسَّيّدة في حالة تكيّس المبيضَيْنِ لِحُدوث التبويض والحمل، فإنَّ هؤلاء السيّدات مُعَرَّضات لحدوث الإجهاض بنسبة أكبر من الطبيعي.
ويُمْكِن علاج حالات تكيس المبيض كما يلي:
* إنقاص الوزن:
ويلاحَظ أنَّ حوالي 50 % من هذه الحالات تُعانِي من زيادةٍ في الوزن، وبِالرَّغْمِ من أنَّ زيادة الوزنِ ليستِ السببَ فِي هذه الحالةِ لكن من المعروف أنَّ عمل رجيم، وإنقاص الوزن يُحَسِّن النتائج، وَبَعْض السيّداتِ تحدث لهنَّ الدَّوْرة بانْتِظامٍ بِمُجَرَّد أن ينقص الوَزْنُ، وحتَّى في حالة عدم نزول الدَّورة بانتظام بعد إنقاص الوزن، فإنَّ الجسم يكون أكثرَ قابليةً للاستجابة لأدوية تنشيط التبويض.
* أدوية تنشيط التبويض:
أ – كلوميفين سترات (كلوميد – Clomid )(/5)
وهذه الأقراص تعتبر من أكثر الأدوية شيوعًا لتنشيط التبويض، وهي تستخدم منذ أكثر من أربعين عامًا، وهي تشبه التركيب الكيميائي لهرمون الإستروجين مما يجعلها تحتل أماكن مستقبلات هرمون الإستروجين في المُخّ والغدة النخامية، وهذا يجعل المخ غير قادر على معرفة نسبة الإستروجين في الجسم، ويترجم ذلك على أنَّ نسبته منخفضة، ومِنْ ثَمَّ يُرْسِلُ المُخُّ إشاراتٍ إلى الغُدَّة النُّخامِيَّة لإفْراز هرمون LH. FSH ، والنتيجة النهائية هي نُمُو عِدَّة بويضات في المبيض, وتعطى أقراص الكلوميد 50 مليجم في اليوم لمدَّة خَمسة أيام ابتداء من اليوم الثالث للدَّوْرَة، ويَجِبُ مُتابعة التَّبويض بواسطة الموجات الفوق صوتية، وأيضًا يمكن قياس هرمون LH في البول، ومِنَ المُتوقَّع أن يحدُث التَّبويضُ بعد 24 ساعة من ظهور هرمون LH في البول، وبناءً على هذا يمكن التوقيت المُناسب لحدوث الجماع، أو عمل التلقيح الصناعي من الزوج، وإذا لم تأتِ الدورة الشهرية بعد 35 يوما يمكن عمل اختِبار حمل، وإذا لم يحدث التبويض يمكن زيادة الجرعة إلى 100 ثُمَّ 150 ملجم في اليوم بدلاً من 50 ملجم، ويُنْصَح بعدم تكرار تناول الكلوميد لمُدّة أكثر من 6 دورات، ومن الأفضل ألا يكونوا متَّصلين.
ودواء الكلوميد ينجح في إحداث التبويض في حوالي 80 % من السيدات المصابات بتكيُّس المبيض، ويحدث الحمل في حوالَي 35 % من هؤُلاء السَّيّدات، وينتج الحمل في التَّوائِم في 5 % من الحالات، ويجب مُراقبة استجابة التَّبويض وحالة السيّدة بعد حُدوث الحمل؛ حيثُ إِنَّهن معرَّضاتٌ لحدوث زيادة في نشاط المبيض وتضخّمه مع تجمّع سوائل في تجويف البطن، ومن الآثار الغير مرغوب فيها لدواء الكلوميد التأثير السلبي على جدار الرحم وإفرازات عنق الرحم.(/6)
وقد يحدث في بعض الحالات زغللة في العين والشعور بالحَرّ (موجات من الصهد)، والميل إلى القيء مع تعب في منطقة الحوض والبطن والثَّدْيِ، وليس معنَى هذا إيقافَ العلاج إلا في حالة حدوث زغللة العين فيجب أن يوقف في الحال؛ ولا يجب إعطاء الكلوميد في حالات أمراض الكبد وسرطان جدار الرحم، ووجود نزيف رَحِمِيٍّ.
ب – تاموكسفن (Tamoxifen )
وهو مثل الكلوميد ويعطى في جرعات من 20 – 40 مليجم لمدة خمسة أيام.
ج – الهرمونات التي تفرز من الغدة النخامية: لتحث المبيضين على النشاط مثل FSH ، وLH وهذه الهرمونات تستخلص من بول السيدات في سن اليأس، وتمر بمراحل تقنية عالية وتسمى Hmg ، وهي متوفرة في الصيدليات على شكل حُقَن عضل مثل Menogone ، Merional ، Humegon ، Pergonal ، وحديثًا أمكن إنتاج هرمون FSH (المستحدث لنشاط المبيض) عن طريق الهندسة الوراثية ويسمى "recombinant FSH" ، ويوجد في السوق تحت اسم Puregon وGonal f .
وحتى الآن لم تثبت كل الدراسات التي أجريت للمقارنة بين هرمونات FSH ، LH المنتجة بالهندسة الوراثية وبين أمثالها المنتجة عن طريق الاستخلاص من البول أيَّ ميزة إضافية من حيث الفاعلية في تنشيط المبيض وإحداث الحمل، وقد حاولت الشركة المنتجة لـ FSH بالهندسة الوراثية أن تثير بعض النقاط للتقليل من قيمة HMG ومثالاً لذلك أنها منتجات مستخلصة من البول، وقد يكون هناك احتمال نقل بعض الأمراض.
والحقيقة أن هذه الأدوية أثبتت كفاءة عالية في الاستخدام الإكلينيكي لمدة طويلة جدًّا قاربت من الأربعين عامًا، ولم يحدث أيُّ مشكلات من هذا النوع.
وفي نفس الوقت يجب أن نتذكر أن rFSH المُصَنَّعَ بالهندسة الوراثية ينتج من خلايا المبيض لحيوان هامستر Hamester "، ويستخدم أيضًا معه بروتين من (Calf serum )، ولذا يجب أن نترك هذه النقاط جانبًا، حيث إنه في الحالتين hMG وrFSH تجري عمليات تقنية عالية الكفاءة.(/7)
ولذلك لا يوجد مبرِّر كافٍ للفرق الكبير في السعر بين هذه الأدوية، والأمل أن تقتنع الشركات المنتجة بهذه الحقيقة فتجعل الأسعار متقاربة والأغلب أنه ستضطر لذلك وعند استخدام هذه الحقن في تنشيط التبويض يجب أن تكون السيدة تحت الرعاية الطبية لمتابعة التبويض بالموجات فوق صوتية، وأيضًا قياس هرمون الإستروجين.
ومن أخطر المضاعفات التي يمكن أن تحدث هو زيادة نشاط المبيضين وتضخمهما وتجميع السوائل في تجويف البطن في حالات تكيس المبيض، وتحدث بدرجة شديدة في حوالي 1 – 2 % من الحالات:
ويمكن تلافي حدوث هذه المضاعفات بالمتابعة الدقيقة وتقليل الجرعة المستخدمة، وعدم إعطاء هرمون تفجير البويضة hCG " وهذه الحقن (hMG وFSH ) تنجح في إحداث التبويض في حوالي 75 % من السيدات اللاتي لم تنجح معهن أقراص الكلوميد.
ويحدث الحمل في حوالي 60 - 70 % بعد ستة أشهر من العلاج ليس بالضرورة أن يكونوا متصلين. وترتفع نسبة حدوث التوائم إلى حوالي 20 %.
* كي المبيضين "ovarian drilling" :
ومن المعروف تاريخيًّا أنَّ أوَّل طُرُقِ علاج تكيُّس المبيضَيْنِ كان جِراحيًّا عن طريق عملية أطلق عليها تقشير المبيضين "wedge resection" ، وهي عبارة عنِ استِئْصال جزءٍ من المبيض، وقد تلا هذه العمليَّةَ حدوثُ تبويضٍ تِلْقائي وحالات حَمْل في بعض الأحيان، ولم يكن معروفًَا تمامًا التفسير العلمي لكيفية تأثيرها؛ إلا أنَّه حديثًا وبعد ظهور الأدوية المُنَشِّطة لِلتَّبْوِيض لم يَعُدْ هُناك أيُّ داعٍ طبِّيٍّ لإجْراء هذه العمليَّة خُصُوصًا بعدما أَثْبَتَتِ الدّراسات أنَّها مصاحَبَة بِمُضاعفات مثل: حدوث التصاقات في الحوض مِمَّا يُعَقِّد المشكلة أكثر للسيدات في حدوث الحمل.(/8)
وحديثًا جدًّا عاد الاهتمام بالعلاج الجراحي لتكيسات المبيضين؛ ولكن عن طريق المنظار الجراحي؛ حيث يتم إجراء عدة ثقوب في كل مبيض عن طريق الكي بالليزر (Lazer )، أو التسخين (diathermy )، وهي تجرى للحالات التي لم تستجب للعلاج لتنشيط التبويض عن طريق أقراص الكلوميد.
وقد نشرت بعض الأبحاث التي تسجل حدوث تبويض بعد هذه العملية في حوالي 70 % من الحالات؛ ولكن يجب أن نتذكَّر أنَّ هذه العمليات أيضًا ينتج عنها التصاقات مِمَّا يُعَقِّد مشكلة عدم الإنجاب أكثر.
وكذلك في بعض الأحيان ينتج عنها تدمير جزء كبير من المبيض نتيجة تليف الأجزاء المحيطة بمنطقة الكي، مما يتسبَّبُ في فقدان نشاط المبيض؛ ولذلك لا ينصح بإجراء هذه العملية وخصوصًا بعد توافُر وسائلَ أُخرَى للعلاج عن طريق تنشيط التبويض بأدوية أحدث من الكلوميد، وكذلك توافر وسائل الإخصاب المساعدة المختلفة.
2 – ارتفاع نسبة هرمون اللبن "Hyperprolactinaemia"
هناك أسباب كثيرة لارتفاع نسبة هرمون Prolactin في الدم (انظر ص 42)، ويجب أولاً البحث عن السبب حتَّى يمكن علاجه، وفي غياب وجود سبب مباشر يمكن علاج هذه الحالة عن طريق الأدوية، أو عن طريق الجراحة.
* العلاج بالأدوية:
استِخْدام الأدْوِية هُو الاختيار الأوَّل لِعلاج ارتفاع نسبة هرمون اللبن، والدواء الأول هو "Bromocriptine "، وقد أثبتت فاعليته ويستخدم منذ حوالي (20 عامًا)، وقد يتطلب مدة حوالي من 6 – 10 أسابيع حتى تظهر فاعليته الكاملة في الحالات التي لا تعاني من ورم في الغدة النخامية، فبعد هذه المدة تنخفض نسبة الهرمون في الدم، ويتوقف إفراز الثدي للبن، وتبدأ الدورة الشهرية في الانتظام ويحدُثُ التَّبويض، وعندما تتحقَّق كلُّ هذه العلامات الإكلينيكية يمكن تقليل جرعة الدواء.(/9)
أمَّا السيدات اللاتي يعانين من ورم صغير في الغدة النخامية "Pituitary microadenoma " فقد يتطلب الأمر من 10 – 16 أسبوعا قبل أن تظهر فاعلية الدواء.
وجدير بالذكر أن فاعلية هذا الدواء مؤثرة حتى في حالات ورم الغدة النخامية، وقد يؤدي إلى ضمور الورم في حوالي 90 % من الحالات. أما إذا لم يضمر الورم فمعنى ذلك أن الورم لا يفرز هرمون اللبن، ولكن الورم الموجود يضغط على أجزاء معينة في المخ تؤدي إلى اضطراب نشاط الغدة النخامية وإفراز الهرمون.
ويمكن أن يمتد استخدام هذا الدواء إلى مدة عام أو عامين، وقد يؤدي إلى الشفاء التَّامِّ في حوالي 10 – 20 % من الحالات التي تعاني من ورم (microadenoma )، وحديثًا ظهر دواء جديد (cabergolin ) له نفس التأثير، ولكن يمكن أن يستخدم مرة واحدة في الأسبوع.
* العلاج الجراحي
يجب أن تُعالج الحالة بكل الطرق باستخدام الأدوية قبل التفكير في اللجوء إلى الجراحة.
وقد نلجأ إلى استئصال الورم جراحيًّا في حالات "microadenoma " التي لا تستجيب إلى الأدوية، أو في حالات الأورام التي لا تفرز هي هرمون اللبن؛ ولكن وجودها وضغطها على الغدة النخامية يتسبب في ذلك، والاستئصال الجراحي للورم ينتج عنه شفاء تام في حوالي 65 – 80 % من الحالات، وأيضًا يحدث عودة للمرض بعد فترة في حوالي 20 – 80 % من الحالات.
هذا بِجانِبِ حُدُوث المُضاعفات المتوقَّعة من العملية مثل الإصابة بنوع معين من السكر "diabetes insipidus " في حوالي 10 – 40 % من الحالات، والأخطر هو حدوث فِقْدَانٍ تامّ لوظيفة الغُدَّة النخامية في حوالي 2 % من الحالات.
* العلاج بالإشعاع(/10)
قد يُلْجَأ إلى العلاج بالإشعاع في بعض الحالات التي لم تنجح الجراحة في إزالة الورم من النوع الذي لا يستجيب للأدوية، ويتم الإشعاع من الخارج أو عن طريق زرع موادَّ مُشِعَّةٍ في المكان المطلوب، وللعلاج بالإشعاع أضرار وعادة ما ينتج عنه تدمير كامل للغدة النخامية، والتأثير على العَصَبِ البَصَرِيِّ ولا ينصح به.
3 – التوقف المبكر لنشاط المبيض:
قد يَفقِد المبيض نشاطه قبل سن الأربعين لأسباب مختلفة، وللأسف لا يوجد علاج لمثل هذه الحالات ويجب أن تعرف السيدة تلك الحقيقة، كما يجب أن يعطى الاهتمام لمعالجة الحالات العامَّة التي قد تكون سببًا في ذلك؛ مثل أمراض المَنَاعة الذاتيَّة، ومن المهمِّ أيضًا أن تعطى السيدة أدوية تعويضية عن نشاط المبيض المفقود، وتتمثَّل في هرمونَي الإستروجين والبروجيستيرون حتَّى تُقَلّل من حدَّة الأعراض الناتجة عن نقصيهما وخصوصًا في هذه السن الصغيرة.
أمَّا إمكانية حدوث الحمل في هذه الحالات فتعتبر نادرة جدًّا، وغالبًا ما ينصح باللجوء إلى البويضات عن طريق التبرُّع من سيِّدة أخرى، وهو ما يُتَّبع في دول أوروبا وأمريكا، ولا يتمُّ عملُهُ في مصر لأنه مرفوض من الناحية الدينية والأخلاقية.
علاج انسداد الأنابيب:
إنَّ مُشكلة وجود التِصاقات حول قناتي فالوب أو انسدادهما يمكن أن يتغلب عليها عن طريق أطفال الأنابيب، وبعض الحالات يمكن أن تُعالج عن طريق الجراحة، والاختيار بين طريقتي العلاج يعتمد على عدة عوامل يجب أن تؤخذ في الاعتبار الاختيار الجراحيّ يكون مناسبًا عندما يكون سن الزوجة صغيرًا (أقل من 30 عامًا) وعندما تكون الالتصاقات حول الأنابيب بسيطة، وحالة الأنابيب من الداخل سليمة، وأن يكون تحليل السائل المنوي للزوجي طبيعيًّا.(/11)
وإذا لم تتوفر هذه الشروط، فالعلاج المناسب يكون عن طريق أطفال الأنابيب سواء بالطريقة التقليدية، أو عن طريق الحقن المجهري السيتوبلازمي، وسوف نشرح هذه الطرق بالتفصيل لاحقًا.
وتجرى الجراحة لإزالة التصاقات الأنابيب عن طريق فتح البطن، أو عن طريق المنظار الجراحي حسب كل حالة.
علاج الإندوميتريوزس "endometriosis"
ويعتمد علاج الإندوميتريوزس على رغبة السيدة في الحمل:
في السيدات اللاتي ليس لديهن الرغبة في إنجاب أطفال أخرى، فالعلاج يهدف إلى إيقاف الألم والأعراض المصاحبة عن طريق علاج هرموني يؤدّي إلى وقْفِ التَّبويض, نظرًا لأنَّ أنسجة الإندوميتريوزس تعتمد على الهرمونات فيمكن إيقاف نشاطها بواسطة هرمون البروجيستيرون المصنع، حيثُ إنَّ له بعض خصائص الهرمون الذَّكري (أندروجين) "androgen "، ويؤدِّي إلى ضمور هذه الأنسجة، والعلاج الجراحي غالبًا ما يشمل استِئْصال المبيضين والأنابيب والرحم؛ لإزالة تكيسات الإندوميتريوزس.
أمَّا في حالة الرغبة في الحمل فالعلاج يكون مختلفًا، ويجب الأخذ في الاعتبار سِنّ الزوجة في المقام الأول؛ ففي السّنِّ الصغيرة (أقل من 30 عامًا) مع مرور فترة قصيرة على الزواج، وفي حالة تشخيص الإندوميتريوزس من الدرجة المتوسِّطة (مع عدم وجود ضعف في تحليل السائل المَنَوِي للزوج)، فيمكن أن تجرى عملية المنظار الجراحي لاستئصال الأكياس الشكولاتية، وإزالة بعض الالتصاقات المصاحبة له.
أما في السن الأكبر للزوجة وفي حالة الدرجات الشديدة للمرض فيجب أن تُعْطَى للسيدة فرصة لِحدوث الحمل عن طريق أطفال الأنابيب، وفي هذه الحالات أيضًا يسبق عمليةَ أطفال الأنابيب العلاجُ لفترة شهرين أو ثلاثة أشهر بواسطة دواء يتحكم في نشاط الغُدَّة النخامية فيوقف إفراز الهرمون المستحث على التبويض (GnRHa ).(/12)
العنوان: الوقت والحياة
رقم المقالة: 1089
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.(/1)
* قال الله - تعالى - في كتابه العزيز: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:53-59].
أيها الناس:
لقد ودعنا عامًا قد انصرم، واستقبلنا عامًا جديدًا قد أتى، ودّعنا عامًا بحسناته وسيئاته، بأفراحه وأتراحه، ربح فيه من ربح بطاعة الله - عزَّ وجلَّ - وخسر فيه من خسر بمعصيته - تبارك وتعالى.
وإذا كنَّا قد نسينا ما فعلناه في هذا العام من حسنات وسيئات، فإن ربِّي لا يضل ولا ينسى، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها، وقبل أن يحال بينه وبينها إما بمرض أو موت أو شغل أو غير ذلك.(/2)
ويُروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا مُنْسيًّا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هِرَمًا مفنِّدًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجَّال فشرُّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمر))[1].
قال الحافظ ابن رجب معلقًا على هذا الحديث: والمراد من هذا أن هذه الأشياء كلها تعوق عن الأعمال، فبعضها يشغل عنه، إما في خاصة الإنسان كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته، وبعضها عام كقيام الساعة وخروج الدجال، وكذلك الفتن المزعجة، وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل، كما قال تعالى:
{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام:158].
* وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا))[2].
وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض))[3].
قال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة، يوشك أن تنفق، فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير، ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبقى له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكَّن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية[4].
* فيا أيها الإنسان:
دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الْحَيَاةَ دَقِائِقٌ وَثَوَانِ
فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا فَالذِّكْرُ للإنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِ(/3)
وقال بكر المزني: ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: يا ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي.
* وينادي الله - تبارك وتعالى - يوم القيامة: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]. كم مكثتم على هذه الأرض؟ كم عمَّرتم في هذه الدنيا؟ كم أكلتم؟ كم شربتم؟
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:112-116].
هذا هو عمر الإنسان وهذه هي حياته كلُّها، عمر قصير يمرّ مرّ السحاب، وهذا العمر هو رأس مال العبد، إن أحسن فيه كان من أهل النعيم، وإن أساء كان من أهل الجحيم، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]. أولم نمهلكم، أولم نترككم، أولم نجعل لكم مديدًا من العمر؟ فما بالكم أعرضتم، وما بالكم اتخذتم حياتكم لهوًا ولعبًا، وعبثًا وتفلتًا على شرع الله وأمره.
* آلآن تتندَّمون؟ آلآن وتبكون وتقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107].
* وتقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27].
* وتقولون: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53].(/4)
* ولكن الأمر كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28].
إنَّهم لكاذون في دعواهم أنهم إذا ردوا فسوف يعملون الصالحات، لأن نفوسهم خبيثة، وقلوبهم منطوية على الكفر والنفاق، منافقون حتى وهم في جهنم، كَذَبةٌ حتى وهم يصلون نارًا تلظَّى.
عباد الله،
إن الوقت من أكبر النعم التي أنعم الله بها علينا، فماذا عملنا في أوقاتنا، وبماذا شغلنا أنفسنا؟
هل شغلنا أنفسنا بطاعة الله - عزَّ وجلَّ - والسعي في مرضاته؟ أم جعلنا أوقاتنا تضيع في اللهو واللعب والأغنية والمسلسل؟
إن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحفظ الناس لوقته، فكانت حياته كلها ذكرًا لله - عزَّ وجلَّ - وطاعة له، فقد قال عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: كنا نعدّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مئة مرة: ((رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التوَّاب الرحيم))[5].
* وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّه ليُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة))[6].
* وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((والله إنِّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))[7].
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ما كان فيه من انشغال بأمور الأمة، ومصالح المسلمين، كان لا يفتر عن ذكر الله - عزَّ وجلَّ - وكان إذا عرض له عارضٌ بشري فشغله بعض الشيء عدّ ذلك ذنبًا وفزع إلى ساحة الاستغفار، والتوبة إلى الله - عزَّ وجلَّ - فأين نحن من هدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حفظ الوقت واستغلال العمر فيما يقربنا من الله - عزَّ وجلَّ.
* يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ))[8].(/5)
فكثير من الناس لا يستغلون أوقات الشباب والقوة، في التقرُّب إلى الله - عزَّ وجلَّ - بأنواع القربات؛ كالصلاة، والصيام، والحج، والجهاد في سبيل الله، والسعي في مصالح المسلمين.
وكذلك لا يستغلون أوقات الفراغ وما أكثرها في حياة المسلمين، فلا يعمرون أوقاتهم بذكر الله - عزَّ وجلَّ - والدعوة إلى دينه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد حثَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على المسارعة إلى الطاعات والمسابقة إلى فعل الخيرات فقد روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سِقَمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلِّك، وحياتك قبل موتك))[9].
كان الربيع بن خزيم يكتب كلامه من الجمعة إلى الجمعة، ويحاسب نفسه مساء كل يوم سبت!!
وقال المنذر: سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه: ويحكِ! بادري قبل أن يأتيكِ الأمر، ويحكِ! بادري قبل أن يأتيكِ الأمر، حتى كرّر ذلك ستين مرَّة! أسمعه ولا يراني.
وكان الحسن يقول: المبادرة المبادرة، فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله - عزَّ وجلَّ - رحم الله امرءًا نظر إلى نفسه وبكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]. يعني الأنفاس: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك.
أيها الناس،
إنَّ هناك أناسًا يرتكبون في اليوم الواحد جبالاً من الخطايا، وتلالاً من الذنوب ومع ذلك لا يهتمون لها، ولا يتأسفون عليها، فتراهم يلعبون ويمرحون، ويضحكون ولا يبكون، وكأنهم سوف يخلدون في هذه الدار، وكأنَّ الموت بمعزل عنهم، وكأنَّهم لن يعرضوا على الله - عزَّ وجلَّ - ليس بينهم وبينه حجاب ولا تَرْجُمان، في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدُّون.
قيل لسفيان الثوري: اجلس معنا نتحدَّث؟ فقال: كيف نتحدَّث والنهار يعمل عمله!!(/6)
نَرُوحُ وَنَغْدُو لِحَاجَتِنَا وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لا تَنْقَضِي
تَمُوتُ مَعَ الْمَرْءِ حَاجَاتُهُ وَتَبْقَى لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِي
ولذلك شكى وبكى الصالحون والطالحون ضيقَ العمرِ، وبكى الأخيارُ والفجَّارُ انصرامَ الأوقات.
أما الأخيار فبكوا لأنهم تمنَّوا أن كانوا قد ازدادوا من فعل الخيرات والطاعات والقربات.
وأمَّا الفجّار فندموا على أنهم لم يستعدُّوا للآخرة، ولم يتزودوا لها بالعمل الصالح.
حضرت الوفاة نوحًا، عليه السلام، قيل له: يا نوح كم عشت؟ فقال عليه السلام: ألف سنة. قالوا: كيف وجدت الحياة؟ قال: والذي نفسي بيده ما وجدت الحياة إلا كبيت له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر!!
فيا أبناء الستين والسبعين ماذا تنتظرون؟ إنكم لن تعمروا كما عَمَّر نوح - عليه السلام - ولا قريبًا من ذلك، فكيف تصرفون هذا العمر القصر في الغفلة والمعصية، في انتهاك حدود الله، في التجرؤ على محارم الله
اسْتَعِدِّي يَا نَفْسُ للْمَوْتِ وَاسْعِي لِنَجَاةٍ فَالْحَازِمُ الْمُسْتَعِدُّ
ذكروا عن الجنيد بن محمد أنه حين حضرته الوفاة، وغشيته سكرات الموت، أخذ يقرأ القرآن ويبكي، قالوا له: تقرأ القرآن وأنت في سكرات الموت؟ قال: سبحان الله من أحوج مني بقراءة القرآن، وقد أصبحت أنفاسي معدودة.
* عباد الله،
اعلموا أن جميع المعاصي محاربة لله – عز وجل – قال الحسن بن آدم: فهل لك بمحاربة الله من طاقة؟ فإن من عصى الله فقد حاربه، لكن كلما كان الذنب أقبح كانت المحاربة لله أشد، ولهذا سمَّى الله تعالى أكلة الربا وقطاع الطريق محاربين لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لعظم ظلمهم لعباده، وسعيهم بالفساد في بلاده.(/7)
وكذلك من عادى أولياء الله تعالى – أهل الإسلام – من العلماء وطلاَّب العلم والصالحين والدعاة وأهل الفضل فهو محارب لله – عز وجل – متعرِّضٌ لسخطه كما قال تعالى في الحديث القدسي: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب))[10] فهل تقدر أيها العبد المسكين على محاربة رب العالمين؟ هل تجرؤ على أن تكون خصمًا لله تبارك وتعالى ؟
فيا مَن انصرم عمره في الغفلة والضياع، ويا من ضاعت أوقاته في اللهو واللعب، ويا من انقضت ساعاته في الغيبة والنميمة، ويا من آذى أولياء الله وحارب العلماء والدعاة والصالحين، إنَّ أبواب التوبة مفتوحة، وإنَّ ساعات الإجابة كثيرة، وإنَّ الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها[11].
.
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135-136].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
* أما بعد.. أيها الناس،
احتجت النار والجنة، فقالت النار: ما لي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين، فقال الله – عز وجل – للنار: ((أنت عذابي أعذِّب بك من أشاء))، وقال للجنة: ((أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها))[12].(/8)
فالله – عز وجل – خلق الخلق وجعلهم قسمين، فريق في الجنة، وفريق في السعير، وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أهل الجنة وصفاتهم وأهل النار وأحوالهم.
* فقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟)) قالوا: بلى. قال: ((كل ضعيف مُتَضَعِّف[13] لو أقسم على الله لأبرّه)) ثم قال: ((ألا أخبركم بأهل النار؟)) قالوا: بلى. قال: (( كل عُتلّ[14]جواظ مستكبر))[15].
فعلى العاقل أن لا يأمن مكر الله – عز وجل – فهو سبحانه وتعالى يحول بين المرء وقلبه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء[16].
* وأخبر صلى الله عليه وسلم أيضًا: أن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وأن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))[17].
وكان أبو بكر الصدِّيق – رضي الله عنه – يقول: والله لو كانت إحدى قدميّ في الجنة ما أمنت مكر الله.
ولشدَّة هذا الأمر أخبر النبي، عليه الصلاة والسلام، أن أوَّل من تسعَّر بهم النار ثلاثة: عالم، ومتصدِّق، ومجاهد.(/9)
فقد دخل شفيٌّ الأصبحيُّ المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، قال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أنشدك بحقّ وبحقٍّ لما حدثتي حديثًا سمعته من رسول الله عَقَلْتَه وعلمته. فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنَّك حديثًا حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقلته وعلمته، ثم نشغ[18] أبو هريرة نشغة، فمكث قليلاً ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثًا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أُخرى، ثم أفاق فمسح وجهه فقال: لأحدثنك حديثًا حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خارًّا على وجهه فأسندته عليَّ طويلاً، ثم أفاق فقال: حدَّثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله - تبارك وتعالى - إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأولُ من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل يَقْتَتِلُ في سبيل الله، ورجل كثيرُ المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا ربّ، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال إن فلانًا قارئٌ فقد قيل ذاك، ويُؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا ربِّ. قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصلُ الرحم وأتصدَّق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذاك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: فيماذا قتلت؟ فيقول: أُمرتُ بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله: بل أردت أن(/10)
يقال فلان جرئ فقد قيل ذاك، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة[19].
فدخل شُفيّ على معاوية – رضي الله عنه – فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من النَّاس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا حتى ظننا أنه هالكٌ. وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال: صدق الله ورسوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود:15-16].
فيا عباد الله،
لقد بكى الصالحون يوم تذكروا العرض على الله – عز وجل – وتطاير الصحف، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، بكوا لأنهم لا يعلمون مصيرهم هل سيؤمر بهم إلى الجنة أو تكون الأخرى.
ونحن والله أحق منهم بالبكاء؛ لأننا لم نقدِّم مثل ما قدموا، ولم نجاهد جهادهم، ولم ننفق إنفاقهم، ومع ذلك إذا صلَّى أحدنا بعض الركعات ظنَّ أنه مستحق للفردوس الأعلى، وأن منزلته لا تقل عن منزلة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا!!
أما الصالحون؛ فقد بكوا لأنهم لم يأمنوا مكر الله عز وجل، قال تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
وقال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:28].
بكى سفيان عند الموت وجزع، فقيل له: يا أبا عبد الله، عليك بالرجاء، فإن عفو الله أعظم من ذنوبك، فقال: أوَ على ذنوبي أبكي؟ لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا!!(/11)
وحكي عن بعض الخائفين أنه أوصى بعض إخوانه فقال: إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي، فإن رأيتني مت على التوحيد فخذ جميع ما أملكه، فاشتر به لوزًا وسكرًا، وانثره على صبيان أهل البلد، وقل: هذا عرس المنفلت، وإن مت على غير التوحيد فأعلم الناس بذلك، حتى لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحبّ على بصيرة.
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون على أنفسهم النفاق ومن هؤلاء عمر بن الخطاب – رضي الله عنه.
قال الحسن: لو أعلم أني بريء من النفاق كان أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس.
وكان حذيفة - رضي الله عنه - قد خصَّ بعلم المنافقين وأسباب النفاق وكان يقول: إنه يأتي على القلب ساعة يمتلئ بالإيمان حتى لا يكون للنفاق فيه مغرز إبرة، ويأتي عليه ساعة يمتلئ بالنفاق حتى لا يكون للإيمان فيه مغرز إبرة.
فهؤلاء هم سادات القوم من الصحابة والتابعين وغيرهم كانوا يخافون على أنفسهم الفتنة مع رسوخ أقدامهم وقوة إيمانهم، فكيف لا نخاف نحن على أنفسنا، مع تفريطنا وتضييعنا لحدود الله وأوامره، ألا نعلم أن الله أخرج آدم من الجنة بسبب معصية واحدة، وأبعد إبليس عن رحمته بسبب معصية واحدة، وقرَّب الملائكة إليه من غير وسيلة، وأنه يوم القيامة سوف يقول: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي!!
فالله الله في أوقاتنا أن تضيع هباء منثورًا، فإن الوقت هو الحياة، وإن العمر قصير، يضيع بين التسويف والانشغال، فالسعيد من خاف ((ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة))[20].
عباد الله،
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
* وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا))[21].(/12)
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم واعرض صلاتنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك ومَنِّك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] أخرجه الترمذي (4/478، 479) رقم (2306) وقال: حسن غريب وضعفه الألباني كما في السلسلة الضعيفة رقم (1666).
[2] أخرجه البخاري (7/191) كتاب الرقاق، ومسلم (1/137) رقم (157).
[3] أخرجه مسلم (1/138) رقم (158).
[4] جامع العلوم والحكم ص (336، 337).
[5] أخرجه أبو داود (2/85) رقم (1516). والترمذي (5/461) رقم (3430). وابن ماجه (2/1253) رقم (3814). قال الترمذي: حسن صحيح غريب وصححه الحاكم في المستدرك.
[6] أخرجه مسلم (4/2075) رقم (2702).
[7] أخرجه البخاري (7/145) كتاب الدعوات.
[8] أخرجه البخاري (7/170) كتاب الرقاق.
[9] أخرجه الحاكم، والبيهقي في الشعب. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1077). وقال الحافظ العراقي: أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد حسن. انظر: الإحياء (4/459).
[10] أخرجه البخاري (7/190) كتاب الرقاق.
[11] أخرجه مسلم (4/2113) رقم (2759).
[12] أخرجه مسلم (4/2186) رقم (2846).
[13] متضعف: متواضع متذلل لإخوانه.
[14] العتل: الجافي الشديد الخصومة بالباطل. والجواظ: الجموع المنوع.
[15] أخرجه البخاري (6/72) كتاب التفسير، ومسلم (4/2190) رقم (2853).
[16] أخرجه مسلم (4/2045) رقم (2654).
[17] أخرجه البخاري (8/188) كتاب التوحيد ومسلم (4/2036) رقم (2643).
[18] نشغ نشغة: أي شهق حتى كاد يغمى عليه، ويحصل ذلك للإنسان إذا اشتد أسفه على فائت.
[19] أخرجه الترمذي (4/510-512). رقم (2382) وقال: حسن غريب. وهو عند مسلم مختصرًا (3/1514) رقم (1905).(/13)
[20] أخرجه الترمذي (4/546) رقم (2450) قال الترمذي: حسن غريب وصححه الألباني بشواهده كما في السلسلة الصحيحة رقم (2335).
[21] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/14)
العنوان: الوقت
رقم المقالة: 132
صاحب المقالة: كامل كيلاني
-----------------------------------------
قالَتِ الطَّيْرُ: لَقَدْ حَلَّ الشِّتاءْ: حَلَّ فَصْلُ الْبَرْدِ، واشْتَدَّ الصَّقِيعْ
فَوَداعًا أَيُّها الْغُصْنُ وَداعًا سَوْفَ أَلْقاكَ إذا عادَ الرَّبِيعْ
قالتِ الأَوْراقُ لِلْغُصْنِ: ودَاعًا أَيُّها الْغُصْنُ فَقَدْ جاءَ الشِّتاءْ
سوف أَلْقاكَ، إذا ما الطَّيْرُ عادَتْ في الرَّبِيع الطَّلْقِ، تَشْدُو بالغِناءْ
ثُمَّ قالَ الْوَقْتُ لِلنّاس: وَداعًا إنَّني أَنْفَسُ شَيْءٍ في الْوُجُودْ
تَرْجِعُ الأَوْراقُ وَالطَّيْرُ جَميعًا وَأَنا مِنْ حَيْثُ أَمْضِي لا أَعُودْ!(/1)
العنوان: الولائم
رقم المقالة: 1781
صاحب المقالة: عبدالله بن إبراهيم الهويش
-----------------------------------------
عاش صاحبنا وهو لا يكاد يَضيق بشيء كما يَضيق بهذه الولائم، التي كثيرًا ما تُفرَض عليه فرضًا، ويُدْعى إليها بغير إرادته، فلو تُركَ وشأنَهُ لما أجاب داعيًا، ولما حَضَرَ وليمة، ولكنه مضطر إلى إجابته؛ بحُكْم أنه لا يستطيع أن يقطع عَلاقاته بالناس، خاصةً أن الكثير منهم يتخذها مقياسًا في علاقاته بالآخَرين، ويحاسب عليها.
وكم دُعي إلى وليمة كانتْ عليه أشدَّ من حمل الحصى؛ لأنها تفسد عليه برنامجه اليومي الذي ألِفَه وسار عليه، وتفرِضُ عليه ألوانًا من الأطعمة قد لا توافق طبيعته، كما أنه يرى فيها مظهرًا من مظاهر السرف والتبذير، وإضاعة الوقت، وهي - فوق ذلك - مُحرِجة ملجئة، كثيرًا ما أخَّرتْ عن فرض من فروض الله، ثم هي - بعد هذا - تَجمَعه أحيانًا بمن لا يحرص عليه لأي سبب من الأسباب التي تَعْتَرِي عَلاقات البشر، وقد خُلِقَ حسَّاسًا تنطبع في نفسه المواقف، ولا يكاد ينمحي أثرها:
ويَكْفِي بعض هذا لكي تصبح هذه الولائم المتكررة عنده شرًّا لابدَّ منه.
كان هذا شأنَهُ؛ فقلتُ له يومًا - وقد جرى شيء من هذا الحديث -:
إنك لَرجلٌ تسرف في الخيال، وتعطي الأمور أكبر من حجمها، وتنظر إليها من زاوية حادَّة تبعدك عن تصورها على واقعها؛ إن هذه الولائم – على ما فيها – مَظهَر من مظاهر الأُلفة والتعارف، وشدِّ الأواصر، وبذْل الندى، ثم هي تقليد حميد، وعُرْف سائر، وأخلاق متوارَثة، وهَبْها شغلتْكَ عن بعض ما أنت فيه، أو جَمَعَتْكَ بمن لا تود، فإنها في مقابل ذلك عوضتك أضعافًا من جوانب أخرى لا تتاح لك من غير طريقها.(/1)
فالتفتَ إليَّ وقال: نعم هناك اجتماعٌ وتلاقٍ كما تقول، ولكن ما هذا الاجتماع يا تُرى؟ إنها دقائق معدودة، ريثما يكتمل الجمْع فيُدلجون إلى طعامهم المُعَدِّ ثم يَنداحون، ولا يتم شيء مستطاب من الاجتماع المفيد الذي تقصده لضيق الوقت؛ ولأن كلاًّ يحرص على الذهاب، والتخلص من هذا الارتباط.
ثم أليس عجيبًا أنه ما يكاد يَقدَم قادمٌ من بلد إلى آخَرَ إلا وتُقام الدوريات، وتُذبح الذبائح، ويجتمع الفئام من الناس في ظروف غير مناسبة، ولا مواتية لكثير منهم؟! لقد كان مثل هذا التصرف مقبولاً منطقيًّا يوم كان القادم لا يكاد يجد ما يؤويه، والاتصالات في حكم المعدومة، وأحوال الناس المادّيّة يسيرة هينة، أما اليوم فالأمر يختلف.
وأرجو ألا يظن أحد أنَّ في هذا الكلام دعوة للبخل، والتخلي عن خُلُق الكَرَم، الذي انحصر في عُرْف بعض الناس في مثل هذه الولائم فقط.
إن الكرم والجود أشمل من ذلك وأعمُّ، فالكرم والجود – وهما من أخلاق الإسلام – هما البذل في أي وِجهةٍ، بشرط أن يوافق الحاجة، وأن يكون مباحًا، وليست هذه الولائم مما يوافق الحاجة، كما أن مجرد البذل والإنفاق لا يُعَدُّ كرمًا يُحمد فاعله؛ إن في بعضه ما يعد تبذيرًا وإفسادًا للمال عندما يصرف في غير وجهه.
إنه لا يليق بنا أن نعيش على هذه الموائد صباح مساء، وإخواننا في بلاد الإسلام شرقًا وغربًا يتضوَّرون جوعًا، ويبيتون الطوى، لا يجدون ما يَسُدُّ رمقهم.
أَوَليس من شكر النعمة أن نبذل لهم بعض ما عندنا؟!
ثم: ألم يكن الأَوْلَى أن يُجعل ثمن هذه الولائم والدوريات، التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ، في طعام وكساء لفقراء العالم الإسلامي الذين يُعدون بالملايين؟!(/2)
كيف يصح لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، يتغدى على ذبيحة، ويتعشى على أخرى، وهناك من لا يكاد يرى اللحم عامَه كلَّه من إخوانه المسلمين؟! أين نحن من قوله - عليه السلام -: ((ليس لمؤمن أن يشبع وجاره جائع))، ولما قَدِمَ عمرُ الشام صُنع له طعام لم يرَ قبله مِثله، فقال: "هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟!"، قال خالد بن الوليد: "لهم الجنة"، فاغْرَوْرَقَتْ عينا عمرَ، وقال: "لئن كان حظُّنا في هذا الطعام، وذهبوا بالجنة؛ لقد باينونا بونا بعيدًا!"[1].
ولما أُتي له بالخَبِيص (نوع من الطعام الجيد) قال: "أَأَكَلَ المسلمون من هذا؟"، فقيل: لا، فردَّه إلى صاحبه، ولم يأكل منه، وكتب للوالي الذي أرسله:
"أما بعد: فإنه ليس من كَدِّك ولا كَدِّ أمِّك، أَشبِعِ المسلمين مما تَشبَع منه في رَحْلك.."[2].
ولعل الأمر يكون أشدَّ سوءًا في مناسبات الزواج، التي تحولت إلى مظهر من مظاهر التفاخر والتباهي، سواء في اختيار القصور الفخمة الغالية الثمن، أو ما يُعرض من أصناف الطعام الفائض عن الحاجة، أو ما يُشترى من الثياب والزينة مما لسنا في حاجة إلى إضاعة الأموال فيه.
إنَّ المال عصب الحياة، ونريده في بناء بلدنا، والمساهمةِ في إعمار العالم الإسلامي، والنهوضِ به بدلاً من إنفاقه في عوائدَ وتقاليدَ محَكَّمَةٍ دون وعْيٍ أو بصيرة..
عندها ودَّعت صاحبي، وأنا أقول في نفسي: إن معه بعضَ الحق، أليس كذلك؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] "أخبار عمر" 301.
[2] "أخبار عمر" 306.(/3)
العنوان: إلى أبي.. (قصيدة)
رقم المقالة: 1994
صاحب المقالة: مصطفى قاسم عباس
-----------------------------------------
إلى أبي ..
لم تكتبِ الشّعرَ يوماً ما، ولا الأدَبا وما سهرتَ اللياليْ تقرأُ الكُتُبا
ولمْ تكنْ من ذَوي الأموال تجمعُها، لمْ تكنِزِ الدُّرَّ والياقوتَ والذهَبا
لكنْ كنزتَ لنا مجداً نعيشُ به .. فنحمدُ اللهَ مَن للخير قد وَهبا
أضحَى فؤاديَ سِفراً ضَمَّ قافيتي ودمعُ عيني على الأوراق قد سُكِبا
سأنظم الشعرَ عِرفاناً بفضلك يا مَن عشْتَ دهرَك تجني الهمَّ والنّصَبا
سأنظم الشعر مدحاً فيكَ منطلِقاً يجاوزُ البدرَ والأفلاكَ والشُّهُبا
إن غاضَ حِبريْ بأرض الشّعر، والهفي! ما غاض نبعُ الوفا في القلب أو نضبا
قالوا : تغاليْ! فمَن تعني بشعرك ذا؟ فقلت: أعني أبي، أنْعِمْ بذاك أبا
كم سابقَ الفجرَ يسعى في الصباح ولا يعودُ إلا وضوءُ الشمس قد حُجبا
تقول أمي : صغارُ البيت قد رقدوا ولم يَرَوْك، أنُمضي عمْرَنا تعَبا؟
يجيب : إني سأسعى دائماً لأرى يوماَ صغاريْ بُدوراً تزدهي أدبا
ما شعريَ اليومَ إلا مِن وَميضِ أبي لولاه ما كان هذا الشعرُ قد كُتبا
فأنتَ أولُ مَن للعلم أرشدني في حمصَ طفلاً، ولمّا كنتُ في حَلَبا
في الشام، في مصرَ طيفٌ منك في خلَدي أرنو إليه، فقلبي ينتشي طرَبا
ولم تكن -أبتي- في المالِ ذا نسَبٍ لكنْ بخيرٍ نكونُ السادةَ النّجُبَا
فالمالُ لن يُعلِيَ الإنسانَ منزلةً إنْ لم يكنْ بالمزايا يرتقي السُّحُبا
لقد نُسبتَ -أبي- للخير في كرمٍ يا منبعَ النبل.. فلْتَهْنأ بذا نسبا
نصحْتنا ما أُحيلى النّصْحَ يا أبتي فأنت مدرسةٌ في النصح.. لا عَجَبا
حَماك ربيْ من الحُسَّاد يا أبتي قد ارتقيتَ، وكم من حاسدٍ غَضِبا
فاحفظ لنا -ربَّنا- ديناً نَدينُ به قد شرَّف العُجمَ طولَ الدهرِ والعَربا
واحفظ لنا والدي والأمَّ يا سندي وإخوتي وأُناساً حبُّهُم وَجَبا(/1)
العنوان: إلى المسجد
رقم المقالة: 134
صاحب المقالة: د. عبدالمعطي الدالاتي
-----------------------------------------
أتَينا وُفودًا إلى المسجدِ صِغارًا كبارًا لكي نهتَدي
فَزدنا إلهي هُدًى وتُقًى وحبًّا وشوقًا إلى أحمدِ
أتينا لنحفظَ آيَ الكتابْ ففيهِ الهدايةُ.. فيهِ الصوابْ
أتينا لنقرأ هديَ النبيِّ وسيرَتَهُ وحكايا الصِّحابْ
سنحيا جميعًا بظلِّ القلمْ سنرْقى به لأَعالي القممْ
نعيدُ لأُمَّتنا مجدَها ونرفعُها فوق كلِّ الأُممْ
أتينا نصلِّي لربِّ الورى ونركعُ، نسجُدُ فوق الثَّرى
صُفوفًا، صُفوفًا وراءَ الإمام جميعًا نكبِّرُ إن كبَّرا(/1)
العنوان: إلى أين أيها الحبيب الجفري؟!
رقم المقالة: 475
صاحب المقالة: الألوكة
-----------------------------------------
(إلى أين أيها الحبيب الجفري؟) كتاب صدر حديثاً عن دار المشرق للكتاب بدمشق، متوسط القياس، في 118 صفحة.
وهو على وجازته عظيم النفع، كثير الفوائد..
تتبع فيه مؤلفه الدكتور خلدون بن مكي الحسني كتاب (معالم السلوك للمرأة المسلمة) للحبيب علي الجفري، ونبَّه بأسلوب علمي محكم، وبلغة نقدية بصيرة، على تجاوزات الجفري في كتابه، وتنكبه جادة الصدق والأمانة العلمية، واستدباره الحقَّ في كثير مما أورده فيه!.
وسنعرض فيما يأتي تقديم الكتاب بقلم العالمين الكبيرين: فضيلة الدكتور مصطفى الخن، وفضيلة شيخ قراء الشام محمد كريم راجح.
ومقدمة المؤلف، والباعث على الكتاب، وفهارس الكتاب.
1 - تقديم العلامة الأصولي أد. مصطفى الخن:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيّبين الطاهرين، وبعد:
فقد أطلعني الأخ الحسيب النسيب الدكتور خلدون بن مكي الحسني على رسالته التي كتبها متعقّباً لكتاب ((معالم السلوك للمرأة المسلمة)) للشيخ الحبيب علي الجفري، فوجدتُ تلك الرسالة قد نهجَ كاتبها المنهج العلميَّ السليم، فكان منضبطاً بقواعد المناقشة والاستدلال وفق أصول الفقه، كما أن الأخ الدكتور الحسني قد تحرَّى الدِّقة في نقول العلماء، فغَدَت تلك الرسالةُ رسالةً علميةً خالية من الذمِّ والقدح، وغرضها الإصلاح والنصح.(/1)
فدَمَاثةُ الكاتب وحُسْنُ خُلُقِه لم تقف حاجزاً له عن الصدع بالحق، كيف لا والنّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يمنعنَّ أحدَكم مهابةُ الناس أن يقولَ الحقَّ إذا عَلِمَه))، ثمّ إن نشأَتَه العلمية وتلقيه العلم عن أكابر العلماء واستشارته إياهم فيما يعترضه، مع ما وهبَهُ الله من جرأة في الحق وغَيْرَةٍ على شرع الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى أنّه سليلُ بيت النّبوة، وحفيدُ أمير المجاهدين الأمير عبدالقادر الجزائري؛ كل ذلك جعله أهلاً ليكون من النَّصَحَة لله ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامَّتهم.
ولابدّ لي من التنبيه إلى أن الأخ الحسني بذلَ جهداً كبيراً في تخريج الأحاديث والروايات التي أوردها الشيخ الجفري، وبيَّنَ حالها وأقوال العلماء فيها.
وختاماً أتمنى على الشيخ الجفري أن يستجيب لهذه النصائح القيّمة فهي جديرةٌ بالنّزولِ عندها والعمل بها ولاسيّما مسألة عدم تحريه لصحة الرواية عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا وأسألُ الله العليّ القدير أن يجعلنا وقّافين عند حدوده، متمسّكين بكتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأسأله أن يوفّقنا إلى طريق الهدى والسَّداد، والخير والرَّشاد، إنّه كريمٌ جواد.
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
د.مصطفى سعيد الخن
2 - تقديم مفتي الشافعية وشيخ القراء العلامة محمد كريِّم راجح:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:(/2)
فقد أطلعني الدكتور خلدون مكي الحسني الجزائري على كتابه ((إلى أين أيّها الحبيب الجفري وقفات هامّة وتنبيهات مهمّة على كتاب "معالم السلوك للجفري")) فقرأتُ الكتاب، وكنتُ قرأت كتاب الشيخ ((الحبيب علي الجفري)) "معالم السلوك للمرأة المسلمة" فأعدتُ النظرَ فيه ثانيةً، ثم رأيت أن أكتبَ لكتاب ((وقفات هامّة..)) مقدمةً أرجو نفعها لكل قارئ لها وللكتابين.
أولاً، السيد الدكتور خلدون مكي الحسني هو من أحفاد الأمير الشهير عبدالقادر الجزائري رحمه الله، وهو من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمّ هو فقيهٌ مالكيٌ جيد، مطلع على كتب المالكية ومستحضرٌ للأحكام الفقهية فيها، ثمّ تفقّه بعد ذلك وأطال النّظر في مذهب الشافعي عليه رحمة الله. ثم له اطلاعٌ جيد جداً على علم الحديث ورجاله وأسانيده، وهو جامعٌ للقراءات العشر، ثم هو لا يكاد يقرأ المسألة إلاّ ويعود للأدلّة، ذلك أنه مستمسكٌ بالدليل، ولا يرى حكماً إلاّ ودليله معه.
إذن هو على معرفة بالفقه والحديث والتفسير والدليل، ثمّ هو حسنُ المحاكمة والمناقشة، وهو إلى ذلك معتدلٌ يريد العودة إلى السنّة فلا هو سلفي متحجّر، ولا هو متجاوزٌ في صوفيّته، ولكنّه صوفيٌّ صوفيّةَ السلف، وسلفيٌّ سلفيّة السلف، فهو مقلّدٌ للإمام مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي وأمثالهم كالأوزاعي وسفيان الثوري، رحمهم الله.
والخلاصة هو مع قوله عليه الصلاة والسلام "خيرُ الناس قرني ثمّ الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
ثانياً، رأيتُ الجفريّ في كتابه يطلب إصلاح المرأة، بل إصلاح الناس ويستدل بأدلّة كثيرة. غيرَ أنّ أدلّته يدخلها في بعض الأحيان ما دخلَ على بعض العلماء من قِصصٍ موضوعة، أو أحاديث واهية ظناً منه وممن سبقه أنّ ذلك ربما يكون أشد في إصلاح الناس، والذي أرى أنّ الأمّة لا تصلح اليوم إلاّ بالكتاب والسنّة الصحيحة اللذين أصلحَ اللهُ بهما من كانوا على الوثنيّة؛ وفي طلعةِ البدر ما يُغنيك عن زُحَل.(/3)
والدكتور خلدون تتبع هذا الكتاب، لا لغرضٍ شخصي يضمره للجفري، بل لبيان الحقيقة، والكمال لله.
ثالثاً، الذي أرى أن يقرأَ الحبيب الجفري هذا الكتاب قراءة المتمهّل المنصف، فما كان فيه من الثناء عليه شكرَ عليه، وما كان فيه من تبيين أخطائه رجعَ عنه، وذلك ولا شك يشهد له بالفضيلة، وحسن الحال.
رابعاً، يجب أن يكون منطلقنا التآزر على نصرة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نبيّن الصحيح من غيره، وأن لا نغترَّ بقصصٍ موضوعة أو غير معقولة رأيناها في كتابٍ ما فأخذنا نذكرها ونستشهد بها، وكان الواجب علينا أن ننبه على أنها موضوعة أو إسرائيليّة، ولقد نجد في كتب التفسير كثيراً من ذلك، والمتتبع لما كُتِب يرى ذلك واضحاً، والعجب أن بعضهم ربما ذكرَ ذلك ولم يُنبّه عليه!
خامساً، في نظري أنّ الدكتور خلدون من أعظم أصدقاء الجفري لأنّه نصحَ له، وقد يُقال: لِمَ لم ينصح له سراً؟ والجواب أن الكتاب أُذيعَ فلم يعد سِرّاً، ولذلك يجب ألاّ يكون البيان عليه سراً بل جهرا.
سادساً، كتاب "وقفات" نقاشه هادئ، وردّه علميّ، واستناده إلى المراجع المعتبرة، فهو في نقاشه يقرأُ عليك كلمة "معالم السلوك" التي يريد أن يردَّ عليها، ثمّ يناقشها فقرة فقرة، وكلمة كلمة. وياليت الذين يكتبون الردود يكتبون بهذه الطريقة العلمية الهادئة الموثّقة التي تعتمد الحوار والبحث. ثمّ هو في كلّ ما ردَّ أديبٌ لا يلسع ولا يلدغ ولا يثرّب، بل يقول الحقّ كما يراه.
وبعد، فهل يعودُ الناس إلى الكتاب والسنّة كما هو واجب كل مسلم؟ وهل نتمسّك بما قال العلماء من أصحاب المذاهب المعتبرة، وهل ندع الأحاديث الموضوعة أو الواهية؟ ترى متى نرعوي ونتخلّص من الأخلاط في الدين، لنعود إلى الدين الحق، والنقل الصحيح.
أرجو أن لا يجدني القارئ في هذه المقدمة منحازاً لغير الحق، فإنّ بعض القرّاء لا يقرأ ما في الكتاب ولكن يقرأ ما في ذهنه، وذلك هو الضلال المبين.
والله وليُّ التوفيق(/4)
شيخ القرّاء في الشام محمد كريّم راجح
3 - مقدمة المؤلف د. خلدون بن مكي الحسني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي وَعَدَ مَن اهتدى وأوْعَدَ مَن اعتدى، والصَّلاة والسَّلام على مَنْ مَدَّتْ عليه البلاغةُ رُوَاقَها، فاخْتُصِرَ له الكلامُ اختصاراً، فقال: ((قَدْ تَرَكْتُكُم على البَيْضَاء لَيْلُها كَنَهَارِها لا يَزيغُ عنها بَعْدي إلا هالك، ومَنْ يَعِشْ مِنْكُم، فسَيَرى اخْتِلافاً كثيراً، فَعَلَيْكُم بما عَرَفْتُم مِنْ سُنَّتِي وسُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشِدين المَهْديِّين))[1] وعلى آله وصحبه، أمَّا بعد:
فإنني لغيرتي على دين الإسلام وحرصي على ما ينفع المسلمين، وعملاً بالعهد الذي بايعَ عليه الصَّحابةُ الكرام رسولَهم الأمين، وهو (النصحُ لكل مسلم) أُقدّم هذه المناقشة العلميّة لِما ذَهَبَ إليه الدَّاعية الحبيب علي زين العابدين الجفري، في كتابه (معالم السلوك للمرأة المسلمة) الذي لابدَّ وأنّه أَخْرَجَه في تمهّل خلافاً لكلامه الآخر المُرْتَجَل في المحطّات الفضائية وغيرها، الذي ربّما وَجَدَ فيه غيري العُذْرَ له لِعلَّة الارتجال، ولكنَّ الأمر هنا يَختَلِف: فالجفري هذه المرّة يَضَعُ كتاباً ويُصرِّح بذلك[2] كما أنّه خرَّج أحاديثه وأخَذَ يعزوها إلى المصادر مع ذكر الصفحات والأرقام.
وقد قدّمَ له شيخه عمر بن حفيظ بمقدِّمَة أَثْنى فيها على الكتاب وعلى المؤلّف ثناءً عظيماً، ووصفَ الكتاب بأنّه أنفاسٌ مباركات وتنبيهات سنيّات... أجراها الله على لسان الجفري! وحَمِدَ الله على تيسير طباعته [3].
إذاً فالكتاب مِنْ وَضْع الشيخ الجفري نفسه وبمباركة وتقديم شيخه ابن حفيظ ومِنْ ثَمَّ فإنّ الشيخ الجفري يتحمّل مسؤوليّة المعلومات التي أوْرَدَها في كتابه.(/5)
وقد وَضَعْتُ في هذه المناقشة كلامَهُ في ميزان الشرع وتَعَقّبتُه بالأدلّة الواضحة، راضياً منه بالذَّمِّ علانيةً والانتفاعِ بكلامي سراً، وآملاً أن يجِدَ هذا الكلامُ عنده وعند مَنْ يُقرّ نهْجَه أذناً صَاغية.
{إنْ أريدُ إلاّ الإصْلاحَ ما اسْتَطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلتُ وإليه أُنيب}[4].
د.خلدون مكّي الحسني
دمشق 25 / شوَّال / 1426هـ
4- الباعث على الكتاب:
أهدَى إليَّ أحدُ إخواني كتاب معالم السلوك للجفري، وناشدني أن أقرأه وأدوّن له ملاحظاتي عليه ففعلتُ. وكنتُ سأكتفي بإعطاء ذلك الأخ نسخة من الملاحظات التي دوّنتُها، ولكنني ارتَأيت أن أنشرها للناس لعدّة أسباب:
أوّلها، أنّ الأخطاء والمغالطات التي في الكتاب شديدة الخطورة، وتَفَشّيها بين الناس يَسِيرُ بخُطاً سريعة، لأنّ غالبها في صورة قصص وحكايات ؛ وهذا مما يُسَهِّل على الناس حفظه وتداوله.
ثانيها، أن الكتاب يُطبع بكثرة ويوزّع في المناسبات، وهو صغير الحجم تسهل قراءته.
ثالثها، عندما أصدرَ شيخ القرّاء بالشام محمد كريّم راجح، حفظه الله، بيانَه الخاص بالتنبيه على أخطاء الجفري وكثرة روايته للأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك القصص المنكرة، ادّعى البعض أنّ ما رآه الشيخ كريّم راجح من تسجيلات للجفري، والتي فيها تلك الأمور، إنما هو مدسوسٌ عليه و"مدبلج"[5].
فكان هذا الكتاب الذي وَضَعَهُ الشيخ الجفري وأعاد طباعته عدّة مرّات، ومنها هذه الطبعة التي بين يديَّ وهي الطبعة الثانية 1424هـ أي قبل صدور بيان الشيخ كريّم، أكبرَ دليل على صحّة ما رآه الشيخ كريّم راجح، فالكتاب في مُعْظَمِه، مبنيٌّ على الأحاديث الباطلة والمكذوبة والقصص الخرافيّة والمنكرة!! والجفري يُعْلِنُ كتابه هذا ويُروّج له في موقعه الخاص على الشابكة (الإنترنت)، ويُهديه بنفسه للعديد ممن يلقونه، فهو إذاً ثابتُ النّسبةِ إليه.(/6)
وهذا الكتاب - كما يصرّح مؤلِّفه - في التصوّف، ولكنّه عَدَلَ عن تسميته بذلك خشيةَ أن تنفرَ من شرائه ومطالعته النساء وغيرهن. انظر الصفحة:(71) من الكتاب.
ولو أردتُ أن أبيّن جميع ما في كتابه من عبارات غير شرعيّة أو أحكام غير صحيحة أو أفكار باطلة أو حقائق تاريخيّة مقلوبة لطال الأمر بنا كثيراً. ولكنني سأقتصر على بيان الأمور العلميّة الواضحة التي لا تحتاج إلى كثير كلام، ولا يحتاج الإنسان العاقل فيها إلى مزيد بيان خشية التطويل، وغرضي من ذلك هو إظهار الحق وتنبيه المسلمين للأخطاء التي يدعوهم إليها الجفري كي يتجنّبوها ويراجعوه فيها.
وإذا وجد القارئُ ركاكةً في العبارات التي أنقلها من كلام الجفري فأرجو ألاّ يُؤاخذني، لأنني مضطرٌ إلى نقل الكلام بالحرف، ومن المؤسف أنّ لغة الجفري العربية غير سليمة.
كما أرجو من الشيخ الجفري ألاّ يؤاخذني إذا وجَدَ في كلامي بعض العبارات التي لا تروق له، فإنّ طبيعةَ الكلام النقدي غالباً ما تكون جامدة، والنّصحَ بطَبْعِهِ ثقيلٌ، وأنا لا أحمل في قلبي للشيخ الجفري أي غلٍّ فليطمئن، وإنّما الأمر كما قال الشاعر:
ما ناصَحَتْكَ خَبَايا الوُدِّ مِنْ رَجُلٍ ما لم يَنَلْكَ بمكروهٍ مِنَ العَذَلِ
محبَّتي فيكَ تأبى عن مُسامَحَتي بأنْ أراكَ على شيءٍ مِنَ الزَّلَلِ
وأُذَكِّره بقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ((لا تظنَّ بكلمةٍ خرَجَت مِنْ أخيك المسلم سوءاً وأنتَ تجِدُ لها في الخيْر محمَلاً))[6].
وبقولِ العالم الرَّباني الزاهد ابن رجب الحنبلي رحمه الله: ((إنَّ كراهةَ إظهار الحق إذا كان مخالفاً لقول الرَّجل ليس مِنَ الخِصال المحمودة، بل الواجبُ على المسلم أن يُحبَّ ظهورَ الحق ومعرفةَ المسلمين له، سواءٌ كان ذلك في موافقته أو مخالفته. وهذا من النصيحة لله ولكتابه ورسولِهِ ودينه وأئمَّة المسلمين وعامَّتهم، وذلك هو الدِّين كما أخبر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم))[7].(/7)
وقبل المضي في عرض المخالفات والأخطاء التي أوردَها الجفري في كتابه أقول: إنّ الجفري لمّا تكلّم على أمهات الصفات المذمومة كالعُجْب والكِبْر والرّياء والحسد، قد تكلّم بكلامٍ حسن لولا ما شابَهُ من استشهاداتٍ باطلة تُفسدُ المعنى.
وكذلك لمّا تكلّم على قاعدة المحبّة في الله والبغض في الله، فإنّه سرّني أنه ليس من أولئك الذين يقولون بحبّ الكفّار من اليهود والنّصارى والبوذيين فقد قال في الصفحة 195: "هناك ناس يقولون: الدّين دين محبّة ووئام ما هو دين عصبيّة ولا تخلف وتطرّف ولا إرهاب.. هؤلاء ناس أهل دين وأهل كتاب وهم مؤمنون " فردّ الجفري قائلاً: " لا ليسوا بمؤمنين، هم كفّار في القرآن ؛ وساق آياتٍ ؛ ثمّ قال: نصّ صريح في القرآن، هناك كلام الآن يُبثّ في مجتمعاتنا المقصود به إزالة بقايا الحواجز التي بيننا وبين الكفّار حتّى يندمج مجتمعنا ويختلط بهم ويصير كمجتمعاتهم، لا وألفُ لا، الكافر كافر، نصرانياً كان أو يهودياً أو مجوسياً أو بوذياً، أُحسنُ إليه، أحسن معاملته، أتخلّق معه بالأخلاق الحسنة لكن لا آنس إليه ولا أحبّه في كفره.. الخ انتهى.
فهذا الكلام منه حسن، لذلك أحببتُ أن أُشير إليه لسببين، أولاً لذكر الكلام الصحيح الذي ورد في الكتاب. وثانياً ليعلم القرّاء أن الجفري ليس من طائفة المتصوّفة الذين ضاعت عندهم جميع المبادئ والمفاهيم الإسلامية.
5- فهرس الكتاب:
- تقديم الكتاب للدكتور مصطفى سعيد الخن.
- صورة تقديم الدكتور مصطفى الخن.
- تقديم الكتاب للشيخ محمد كريّم راجح.
- صورة تقديم الشيخ كريّم راجح.
- مقدّمة المؤلف.
- الباعث على الكتاب.
- كلام جميل للشيخ الجفري حول قاعدة الحب والبغض في الله.
- الشروع في بيان الأخطاء التي وقع فيها الشيخ الجفري.
الخطأ الأول في العقيدة.
الخطأ 2 حديث مخاطبة الله للعقل وللنفس، وهو مكذوب.(/8)
الخطأ 3 الزعم أن حديث (كن كما أريد أكن كما تريد) هو حديث قدسي، مع أنه من الإسرائليات.
الخطأ 4 إدراج كلام ضمن حديث الضرير، ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
* مذهب الإمام أبي حنيفة في دعاء الله بخلقه.
الخطأ 5 الزعم أن حديث (يا دنيا من خدمنا فاخدميه) هو حديث قدسي، وليس كذلك.
الخطأ 6 يروي قصّة باطلة.عابد يأمره جبريل بترك العبادة!.
الخطأ 7 أحاديث ضعيفة يعزوها الجفري للبخاري ومسلم!.
الخطأ 8 حديث موضوع يعزوه الجفري لمسند أحمد والترمذي وليس فيهما!.
الخطأ 9 يروي حديثاً موضوعاً: (يا أهل المحشر غضوا أبصاركم..).
الخطأ 10 يروي قصة مكذوبة وحديثاً مكذوباً (هل أنت راض عن ربك..).
الخطأ 11 حديث لا يُعرف يعزوه الجفري لمسند أحمد وليس فيه!.
الخطأ 12 حديث محرَّف يعزوه الجفري لأحمد وأصحاب السنن وليس فيها!.
الخطأ 13 حديث في صحيح مسلم يزيد الجفري فيه!.
الخطأ 14 الجفري يشرح معنى الاتّباع، فيتنقّص من الصحابة!.
الخطأ 15 يروي الجفري حديثاً باطلاً وينسبه للنبي صلى الله عليه وسلم!(رجل أخرج ريحاً في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم).
* الجفري يتهكّم ويسخر ممن يعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
الخطأ 16 إبليس سجّاد ورئيس للمقربين!!.
الخطأ 17 يروي الجفري حديثاً باطلاً عن جبريل وميكائيل.
الخطأ 18 تحريف في معنى البدعة والخلط بينها وبين المعصية.
الخطأ 19 الإصرار على نفي وجود البدعة، واختلاق قاعدة جديدة!.
الخطأ 20 الزعم بأن معروفاً الكرخي من أئمة الصوفية ونسبة الكلام للذهبي!.
* مقولة (وقبر معروف ترياق مجرّب) غير صحيحة سنداً ومعنى.
* كلام العلماء الكبار في أحكام زيارة القبور.
فتوى الإمام علي زين العابدين (ابن ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فتوى الإمام الحسن المثنى (ابن حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الإمام النووي يشرح آداب زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/9)
فتاوى الغزالي وابن حجر الهيتمي والمناوي في بدع زيارة القبور.
الخطأ 21 الزعم أن الذهبي وابن الجوزي يستخدمان كلمة صوفي للمدح.
* الذهبي يذمّ غلاة الصوفية.
* ابن الجوزي من أشد الناس على المتصوفة.
الخطأ 22 الزعم أن الإمام النووي إذا أراد الثناء على أحد وصفه بأنّه كان صوفيّا.
* كلمة الصوفية وما تعنيه.
* الإمام النووي عندما يذكر التصوف فهو يقصد التصوّف المحمود.
* الإمام النووي يقول بوجوب الإنكار على من يخالف الشرع من الصوفية.
الخطأ 23 يروي الجفري قصّة غير صحيحة (الإمام الشافعي يتبرك بقميص الإمام أحمد).
الخطأ 24 الزعم أن الكلام على الصوفية فيه تجنٍ على الأمة كلها.
الجفري يفتح باباً للمرجفين للتشكيك بالقرآن. والمؤلف يغلق هذا الباب.
الزعم بأن أسانيد القرآن مرصّعة بأئمة التصوف.
شيخ القراء ابن الجزري وموقفه من الصوفية.
شيخ قراء الشام كريم راجح ليس صوفياً وكذلك شيخه أحمد الحلواني.
حادثة جرت مع شيخ القراء محمد سليم الحلواني، وأخرى مع ابنه أحمد.
توضيح معنى أسانيد القرآن، وإزالة الشبهات التي أثارها الجفري.
الخطأ 25 الجفري يروي شعراً محطماً وينسبه للسيدة فاطمة رضي الله عنها ولا يصح عنها.
الخطأ 26 الجفري يضع قاعدة خطيرة في التعبد ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
الخطأ 27 قصة سخيفة رجل لم تسمح له نفسه بالصدقة إلا وهو في بيت الخلاء.
الخطأ 28 ضرب أمثال غير لائقة.
الخطأ 29 تغيير وتبديل وإعادة صياغة أحداث مشهورة في السيرة النبوية.
الخطأ 30 مجازفات في وصف صلاة شيخ الطريقة التي ينتمي إليها الجفري.
الخطأ 31 ادعاء الجفري أن أئمة طريق التصوف هم مالك وأبو حنيفة والشافعي!.
* فتاوى الإمام مالك في الصوفية.
* فتاوى الإمام الشافعي في الصوفية.
* حقيقة موقف الأئمة من رجال التصوف المنحرفين.
* فتوى تقي الدين السبكي الشافعي.
* فتوى المحدث أبي العباس القرطبي في الصوفية.(/10)
* تعليق الإمام ابن حجر العسقلاني على فتوى القرطبي.
* الإمام السخاوي ينكر على السيوطي دعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.
* شيخ الشافعية الحصني ينكر على المتصوفة.
* بعض فتاوى علماء المذهب الحنفي في الصوفية.
* فتوى الإمام القاضي أبي بكر الطرطوشي في مذهب التصوف.
* كلام القاضي عياض في انحرافات الصوفية.
* فتوى الإمام القرطبي المفسر في الصوفية.
* كلام الفقيه عبد الله الحفار المالكي في الصوفية.
* كلام للإمام أبي حيان الأندلسي في بيان أشهر رجال التصوف المنحرفين.
* الغرض من عرض أقوال من سبق هو بيان أن الجفري يقلب الحقائق.
* ثمرة ما يدّعيه الجفري.
* الجفري يعترف بوجود الكثير من الصوفية المنحرفين ولكن لا يبين من هم ولا ما هي انحرافاتهم ولا ينكر عليهم.
* موقف علماء المسلمين من الصوفية يلخصه كلام لابن رجب الحنبلي.
* السيوطي ينزه الشريعة عن عقائد بعض الصوفية في الحلول والاتحاد وينقل الإجماع على كفر أصحاب الحلول.
* كلام جميل للإمام الغزالي يبين فيه حقيقة دعاوى الصوفية والحكم عليهم.
الخطأ 32 تهجّم الجفري على القائلين بوجوب الوضوء من لحم الجمل اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول إنهم بحاجة للأدب!!.
* الإمام أحمد والبيهقي والنووي يقولون بوجوب الوضوء من لحم الجمل!.
الخطأ 33 اتهام الآخذين بكلام أئمة المذاهب في مسألة زيارة النساء للقبور بأنهم يقفزون فوق النصوص!.
* شيخ الشافعيّة أبو إسحاق الشيرازي لا يجوّز زيارة النساء للقبور.
* الإمام الطحاوي ينقل فتاوى كبار الأئمة الحنفيّة في تحريم زيارة القبور على النساء.
* مذهب الإمام أحمد هو كراهة زيارة القبور للمرأة.
الخطأ 34 مسألة قراءة القرآن للأموات وإهدائهم ثوابها غالط فيها الجفري وأتى بمجازفات جديدة، وسفّه كلام العلماء المالكية والشافعية بغير حق!.
* زَعَمَ الجفري أنّ جمهور السَّلَف قالوا بوصول ثواب القراءة للميّت!.(/11)
* الإمام النّووي يقول:مذهب الشافعي والجمهور أنها لا تلحق.
* إمامُ المالكيّة في عصْرِهِ أبو عبد الله الحطّاب يقول: لا يصل.
* الإمام الحطّاب المالكي يروي أن مذهب الشافعي ومالك والأكثرين أنه لا يصل.
* الإمام الأصولي المالكي القرافي ينقل أن المعتمد في مذهب المالكية هو عدم الوصول.
* فتوى سلطان العلماء العز بن عبد السلام في بدعة تلقين الميت وعدم جواز إهداء الثواب.
* التطاول على الأئمة ووصف أفهامهم أنها سقيمة.
* الزعم بأن قول الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) هو شرع لمن قبلنا وليست لنا.
* وبعد كل ما سبق الجفري يُطالب الآخرين بعدم الإنكار عليه.
* ما يقوله علماء الأمة في قضية قراءة القرآن على الميّت.
الخطأ 35 التشويش على المسلمين في صحة فهمهم لحديث (اسكت فبئس الخطيب أنت).
* النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أمر فخالفه بعض الصوفية فوقعوا في المحذور.
* عبد الهادي الخرسة يقول: إن الله تعالى ورسوله حضرة واحدة!!!!.
* الإمام الشافعي يقول بمضمون الحديث الذي لم يعجب الجفري!.
* الجفري يصف القائلين بمذهب الشافعي بأنهم ضعاف الفهم قساة القلوب...
الخطأ 36 الجفري يروي قصّة خرافيّة مخالفة للدين جرت بين إبليس ورجل يحتضر.
- بيان الفرق بين كتب الصوفية القديمة وبين كتاب الجفري، والمأمول من الشيخ الجفري.
- خاتمة.
- مصادر البحث ومراجعه.
- الفهرس.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وغيرهم.
[2] انظر ص71 من كتاب معالم السلوك حيث يقول:" كل المواضيع التي خضنا فيها في هذا الكتاب هي التصوّف، لو كنا قلنا: كتاب في التصوف لما قرأته واحدة منكن.. صحيح ؟............ هذه الصفحات الآتية كلها هي التصوّف بعينه." انتهى كلامه.
[3] انظر مقدّمة الكتاب.
[4] سورة هود الآية (88).(/12)
[5] وحاولَ بعضُ الناس أن يدافع عن الجفري بأنّه ربّما عزا الحديث إلى غير مرجعه لأنّه كان يرتجل الكلام. فكان هذا الكتاب دليلاً على صحّة ما قاله الشيخ كريّم راجح. فالجفري هنا لا يرتجل بل هو يطبع كتاباً ويعزو الكلام متعمّداً. ومن المؤسف أنّ ذاك الذي دافع عن الجفري قد أساء جداً للشيخ الجليل كريّم راجح بدون وجه حق، في حين دافع عن الجفري ولكن أيضاً بدون وجه حق.
[6] أخرجه أحمد في ((الزهد)) كما قال السيوطي في ((الدر المنثور)) 6/92.
[7] في كتابه ((الفرق بين النّصيحة والتّعيير)) ص10.(/13)
العنوان: إلى حافظات القرآن
رقم المقالة: 1590
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
ترنّميْ في خشوعٍ بالتلاواتِ وأسمِعي الكونَ آياتٍ .. وآياتِ
ورَدّديها بصوتٍ منكِ ذِيْ شجَنٍ عَذبٍ رخيمٍ يهزُّ المُعرض العاتي
هيّا، أفيضي علينا مِن فرائدهِ ومِن كنوزِ المثاني والهُدى هاتي[1]
وإذا ختمتِ القرآن حفظاً، واجتهدتِ للإفادة منه في حياتك.. فسيقال لكِ يومها:
اقرئي وارقَي.. ورتليْ كما كنتَ ترتلين في الدنيا.. فإنّ منزلتك عندَ آخرِ آيةٍ تقرئينها..!
أختي المؤمنة،
رأى موقع الألوكة أن خير بداية لِـ "أدب المؤمنات" هي: القرآنُ الكريم..
وهل من معجزة أعظم من هذه المعجزة "القرآن" الذي لا يأتيهِ الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه؟
وهل من نِعمة أغلى من أن يلبس والداك تاجاً من نور يوم القيامة، بفضل الله ثم بحفظك لكتابه؟!
اقرَئيْ وارقَيْ.. أُخيّهْ للفَراديسِ العَليّهْ
واحمَديْ اللهَ.. فقدْ حُزْ تِ على أغلى هديَّهْ
يبتهج الشعراء الإسلاميون في قصائدهم بتيجان النور في بيوتهم وفي دُور حِفظ القرآن الكريم..
فيقول الأستاذ إبراهيم محمد السبيل:
أمَلٌ تحققَ يا "أمَلْ" أعظِمْ بذلكَ مِن أمَلْ
ملأَ الفؤادَ بنورهِ نُورٌ مِن المولى اكتمَلْ
أكرمْ بقلبٍ يحملُ الـ ـقُرآنَ أعظمَ ما نزَلْ
طوبَى لعقلٍ يجعلُ الـ ـقرآنَ أكرمَ ما عقَلْ
فلتهنَئي، ولتَسعَدي ولْيقبلِ اللهُ العمَل[2]
إن في تعلّم القرآن الكريم وتعليمه وتدبر معانيه وحفظه ومعرفة القراءات وتفسير الآيات.. في ذلك أجرٌ عظيم، دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "خيرُكمْ مَن تعلّمَ القرآنَ وعلّمَهُ).
وفي ذلك يقول الشاعر الإسلامي حبيب بن معلاّ اللويحق؛ مقتبِساً من أنوار القرآن:
فخيرُنا مَن تعلّمْ هذا الكِتابَ، وعلَّمْ
ورتّلَ الذِّكرَ دَوماً بِآيِهِ يترنّمْ[3]
اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا.
ـــــــــــــــــــــــــ(/1)
[1] ندوة "المرأة المسلمة والحضارة"، ص31.
[2] نقوش على صفحة المجتمع، مكتبة العبيكان، 1417هـ.
[3] أغاريد شذا، ص 8.(/2)
العنوان: إلى فاطمة
رقم المقالة: 334
صاحب المقالة: أديب الإسماعيل
-----------------------------------------
هذه القصيدة كتبتها حينما كانت ابنتي فاطمة في شهرها التاسع ، حيث سافرت مع أمها لزيارة بيت جدها المقيمين في دمشق، وغابت ..يوماً ..يومين ..ثلاثة ..وطال بي الشوق ..وفي اليوم السابع كتبتُ لها أقول:
مَضَتْ أيامُكِ السبعة
وأنتِ بعيدةٌ عنِّي
ألا تَدرينَ يا قَلبي
بأنَّكِ قطعةٌ منِّي
***
مَضَتْ أيامُكِ السَّبعَه
وهذا اليومُ قد ولَّى
فَبابُ البيتِ يسألُني
وكلُّ ثيابكِ الحُلوَه
أُجمِّعُها …أُقبِّلُها
وأَرشُقُها …
بدَمعةِ عَينيَ الحَرَّى
بأصدَقِ دَمعةٍ نزلَتْ
من العَينَينِ …ياعَيني
***
فمالي لا أَرى ضَيْراً
بأن أَبكيكِ يا حُلوَه
فمُذ جئتِ إلى الدُّنيا
مَلائكةُ السَّما أنتِ
فأنتِ القلبُ والكَبِدُ
وفيضُ الرُّوحِ والعَضُدُ
فكيفَ أُحِسُّ بالدُّنيا
وكيفَ أُحِدُّ من ظَمَئي
فبعدَ فُراتِك الثرُّ
بحارُ العَصرِ قد جَفَّتْ
مِياهُ النِّيلِ مالحةٌ
لمَنْ أَرِدُ لمَن أَفِدُ
***
مَضَتْ أيَّامُكِ السَّبعَه
وشَمسُ الصُّبحِ قد غابَتْ
غُيومُ الفَجرِ داكِنةٌ
فلا بابا ولا ماما
ولا فَوضَى كما كانتْ
***
مَضَتْ أَيَّامُكِ السَّبعَه
طُيوفُ الحُزنِ قد عادَتْ
وكُحلُكِ غابَ عن عَيني …!
***
مَضَتْ أنوارُ أيَّامِي
وجَوُّ البيتِ يَفتقِدُ
صُراخاً كُنتِِ مَبعَثَهُ
وفَوضَى قد نشَرتيها
فبابا حينَ قُلتيها …
أَماتَتْ فِيَّ أَفراحِي
وأَحيَتْ كُلَّ أحزَاني
من البلقانِ لليَمَنِ ….!
***
فهَل تَدرينَ يا بابا
بأنَّ عُيونَكِ الحُلوَه
وخُصلَةُ شَعرِكِ الأَشقَرْ
تُساوي ثَروَةَ الدُّنيا
فلا أموالُ قارونٍ
ولا كِسرَى ولا قَيصَر
تُعيدُ إليَّ شُطآني
فكُلُّ قَوارِبي تاهَتْ
كَذا مَوجِي
كَذا سُفُني …!
***
فقَلبي اليومَ يَسأَلُني
عنِ الطِّفلَه ..!؟
عنِ الجُورِيَّةِ الحُلوَه
فمُذْ جاءَتْ إلى الدُّنيا
نسَجتُ عَبيرَها بِدَمِي(/1)
فَكيفَ اليومَ أَنساها
وأَبخَلُ عن تَذكُّرِها
بقافِيةٍ منَ الشِّعرِ
فلا عَجَباً ولا نُكراً ..
بأن أجتازَ أَحزَانِي
وأَعبُرَ فوقَ آلامِي
وأَكتُبَ عن تَرانيمٍ …
وأطيافٍ منَ السِّيَرِ
لأُرضِيَ قَلبيَ الصَّادي
وأنثُرَ سِربَ أَشجاني
***
ففاطمةُ ربيع العُمر يا عَيني
ومِرفَأ قَلبيَ المَنفِيِّ للأَبَدِ
فَصُنها رَبِّ واحفَظها
وزِدها عِفَّةً مُثْلى
وَجَمِّلها بعافِيَةٍ
وَحَصِّنها منَ الفِتَنِ …؟(/2)
العنوان: إلى معلماتنا.. هيلين وآن، والمهمة الصعبة
رقم المقالة: 716
صاحب المقالة: يمنى سلام
-----------------------------------------
كدت أذوب خجلاً وأنا أقرأ قصتهما، وأقارن حالهما بحالنا، إنهما: هيلين كيلر، ومعلمتها آن سوليفان.
ولدت هيلين كيلر عام (1880م) طفلة معافاة سليمة الحواس، ولكن بعدما أتمت عاماً ونصف عام، أصابتها حمى شديدة حارَ الأطباء في نوعها، وعجزوا عن علاجها؛ فلم يجدوا - وقد أدركهم اليأس - إلا أن ينفضُّوا سائلين المولى أن يلهم والديها الصبر على فقدانها، ولكن إرادة الحياة كانت جلية في هيلين منذ طفولتها؛ فلم تمض عدة أيام حتى دبت الحياة في جسد الصغيرة، وعادت الحمرة تعلو وجنتيها، ولكن والديها اللذين غمرتهما الفرحة بعودة الروح إلى صغيرتهما،لم يدركا أن المرض قد سلبها قبل أن يغادر جسمها الصغير أهم حاستين، هما حاستا السمع والبصر.
عاشت هيلين في سنواتها الأولى حياة عشوائية بهيمية لا تفقه من الحياة غير حاجاتها الفطرية، ولم تجد الصغيرة طريقة إلى التواصل مع الآخرين في عالمها الدامس إلا بعض الإيماءات والإشارات البدائية، حتى إذا ما فشلت في التعبير عن نفسها، والحصول على رغباتها انتابتها نوبات غضب شديدة، وجنحت إلى البكاء والعويل، وتحطيم كل ما يعترض طريقها، ولم تجد أسرتُها - وقد وجدوا أنفسهم أمام فتاة صعبة المراس أعيتهم الحيل في التعامل معها - إلا أن يبحثوا عن معلمة تعاونهم في تربيتها، وتضيء لها بعض ما أظلم من طريقها، ولم تكن هذه المعلمة إلا Anne Sullivan المعلمة الرائعة التي أضاءت لها الدياجير المظلمة، وفتحت لها الأبواب المغلقة، لم تكن هيلين تدرك أن اليوم الذي التقت فيه معلمتَها لأول مرة وهي لما تبلغ السابعة بعد، سيكون أهم يوم في حياتها كما وصفته لاحقاً، ولم تكن Anne Sullivan الشابة الصغيرة ذات الواحد وعشرين ربيعاً تتصور أن حياتها سترتبط بحياة تلميذتها حتى آخر لحظة.(/1)
ومنذ ذلك اليوم بدأت المعلمة محاولاتها الدؤوبة لتعليم هيلين، وكان أول ما لفت نظر المعلمة هو عادات هيلين البدائية، ومسلكها العدواني مع الجميع؛ فقررت أن تعلمها قبل كل شيء الطاعة والنظام، ولم تمر فترة بسيطة حتى تحولت هيلين الفتاة المرعبة إلى طفلة وديعة هادئة.
وكانت تكتب بإصبعها أسماء الأشياء على كف هيلين، واستعملت كذلك قطعاً من الكرتون عليها أحرف نافرة، كانت هيلين تلمسها بيديها، وتدريجياً بدأت تؤلف الكلمات والجمل بنفسها، وبهذه الطريقة حفظت هيلين هجاء العديد من الأسماء، وبعد مرور عام تعلمت هيلين تسعمائة كلمة، وإن لم تكن تدرك الصلة بين هذه النماذج التي ترسمها والكلمات، أو تدرك الصلة بين الكلمة والفكرة التي تمثلها، حتى أتت لحظة التنوير في حياة هيلين التي سجلتها في كتابها الرائع The Story of My Life؛ حيث تقول: ذهبنا إلى البئر وكان هناك شخص يضخ الماء، ووضعت معلمتي يدي تحت المضخة، وفي حين كان تيار من الماء البارد ينهمر على إحدى يدي كانت معلمتي تكتب بإصبعها على يدي الأخرى كلمة water في البداية ببطء ثم بعد ذلك بسرعة.(/2)
وقفت ساكنة وكل تركيزي منصب على حركة إصبعها، وفجأة شعرت بحالة وعي ضبابية لشيء كان منسياً، بالإثارة المصاحبة لفكرة عائدة، وهكذا تكشف أمامي غموض اللغة، وكم كانت فرحة هيلين عظيمة وقد انفتح لها باب العالم الخارجي الذي كان موصداً دونها، ولم تعد إلى البيت إلا بعد أن سألت عن اسم كل شيء مرت به، منذ تلك اللحظة بدأت هيلين رحلتها مع المعرفة، تلك الرحلة التي لم يكن زادها فيها إلا العزيمة، والإصرار، والإرادة؛ فتعلمت القراءة بطريقة Braille التي أصبحت متعتها المفضلة، وانكبت على الكتب تلتهم ما تقرؤه أصابعها، وعن طريق القراءة تعلمت الكتابة، وتمكنت منها بل فاقت في أسلوبها الأدبي أقرانها من المبصرين، ثم ما هي إلا فترة بسيطة حتى سمعت عن فتاة صماء استطاعت تعلُّم الكلام فأصرت على المحاولة، والخضوع للتجرِبة، وبذلت العديد من المحاولات المضنية لتعلم المحادثة، وهي الفتاة الصماء التي لم تسمع الكلام؛ فكانت تضع يديها على حنجرة المعلمة وشفتيها حتى تتبين مخارج الحروف، وبرغم هذه المحاولات المستميتة فإن كلامها لا يفهمه إلا المقربون منها، و كان أول ما نطقته "أنا لم أعد خرساء" واستطاعت أيضاً دراسة الجغرافيا بواسطة خرائط صنعت على أرض الحديقة ودرست علم النبات.
ثم التحقت هيلين بمعهد كمبردج للفتيات، وكانت الآنسة سوليفان ترافقها وتجلس بقربها في الصف لتنقل لها المحاضرات التي كانت تُلقَى، وأمكنها أن تتخرج في الجامعة عام 1904م حاصلة على بكالوريوس علوم في سن الرابعة والعشرين.
ذاعت شهرة هيلين كيلر فراحت تنهال عليها الطلبات لإلقاء المحاضرات، وكتابة المقالات في الصحف والمجلات.
بعد تخرجها من الجامعة عزمت هيلين على تخصيص كل جهودها للعمل من أجل المكفوفين، وشاركت في التعليم، وكتابة الكتب، ومحاولة مساعدة هؤلاء المعاقين قدر الإمكان.(/3)
وفي أوقات فراغها كانت هيلين تخيط وتطرز وتقرأ كثيراً، ثم دخلت كلية (رد كليف) لدراسة العلوم العليا فدرست النحو، وآداب اللغة الانجليزية، ودرست اللغة الألمانية، والفرنسية، واللاتينية، واليونانية، ثم قفزت قفزة هائلة بحصولها على ثلاث درجات دكتوراه، وقامت برحلات متعددة حول العالم للمطالبة بحقوق المعوقين، وتقديم العون الاجتماعي لهم لكي يشقُّوا طريقهم في الحياة بوصفهم أعضاء منتجين مثمرين وليسوا عالة، أو متسولين، أو ناقمين ساخطين، وراحت الدرجات الفخرية والأوسمة تتدفق عليها من مختلف البلدان.
تلك هيلين كيلر التي قدر الله عليها فقدان ثلاث من حواسها- السمع والبصر والنطق - استطاعت أن تعيش حياة عريضة وضعت خلالها ثمانية عشر كتاباً كل منها يهز الوجدان، ويملأ القلب بالإيمان، ويجعل الحياة جديرة بأن تُعاش، ومن أعظم ما ألفت، كتابها الذي جعلت عنوانه (يجب أن نؤمن بالله) الذي تؤكد فيه أن عمق إيمانها بالله - تعالى – وبرحمته، وحكمته كان سلاحها القوي الماضي الذي خرج بها من سجن البدن إلى رحابة الإيمان لربها الذي أتاح لروحها أن تحلق في آفاق العلم، والحكمة، والخير، والرضا، والتوافق الحقيقي العميق.
تقول هيلين "عندما يوصد في وجهنا أحد أبواب السعادة تنفتح لنا العديد من الأبواب الأخرى، لكن مشكلتنا أننا نضيع وقتنا ونحن ننظر بحسرة إلى الباب المغلق، ولا نلتفت إلى ما فتح لنا من أبواب".
تلك هي هيلين الصماء العمياء البكماء التي استطاعت أن تحقق من الإنجازات العملاقة مالم يحققها أناس طبيعيون يتمتعون بجميع ما حرمت منه؛ فبإرادتها التي استمدتها من قوة إيمانها فاقت وتميزت على قريناتها من النساء الطبيعيات، فهي تقول في بعض كتاباتها "لقد أدركت لماذا حرمني الله السمع، والبصر، والنطق؛ فلو أني كنت كسائر الناس لعشت، ومِت كأية امرأة عادية".
أيهما أجدر بالثناء؟!(/4)
هل كانت هيلين ستصل إلى ما وصلت إليه لو لم يقيِّض لها الله معلمتها الرائعة؟! يقودني هذا السؤال إلى آخر: أيهما أجدر بالثناء وأيهما أولى بالمدح هل هي هيلين أم معلمتها المخلصة؟!
من يقرأ قصة هيلين لن يجد موضعاً لها إلا كانت معها معلمتها؛ فهي تارة مع هيلين تساندها في أحد المواقف، وتارةً أخرى تحدثها وتوجهها بحنان الأم، وأحياناً ترقبها من بعيد، وهكذا لا نعدم لها أثراً في كل صفحة من صفحات حياة هيلين، وكما بهرتني هيلين شدتني هذه المعلمة، وكما أعجبت بهيلين أسرني إخلاص هذه المعلمة؛ فما فرغت من قراءة الكتاب حتى تجدد إيماني بالدور الكبير الذي يقوم به المعلم في حياة تلاميذه.
ولدت آن سوليفان – معلمة هيلين - عام 1866م، وعندما كانت في الثامنة توفيت والدتها، وفي العاشرة هجرها والدها هي وأخويها، وتركهم ليواجهوا مصيرهم وحدهم، عاشت في الملاجئ فترة من الزمن، قليل من الناس يعلمون أنها كانت هي نفسها عمياء حتى سن الثامنة عشرة؛ حيث أجريت لها عملية جراحية في عينيها استردت بعدها جزءاً من بصرها، لكنها فقدته آخر أيام حياتها، تزوجت آن عام 1905م ولكن زيجتها لم يُكتب لها النجاح، قصتها هي قصة الإخلاص، والتفاؤل، والثقة بالنفس، والعزيمة، والإصرار، صفات رائعة كانت هي الصفات ذاتها التي ميزت تلميذتها الذكية، هكذا ارتبط اسمها باسم تلميذتها. فلا يذكر اسم هيلين إلا ويذكر اسم آن، والعكس أيضاً.(/5)
وقد ظلت هيلين وفية لذكرى معلمتها الرائعة، بل إنها ألفت كتاباً كاملاً عن معلمتها أَسمته Teacher تقول هيلين في كتابها The Story of My Life عن معلمتها: كم هي قريبة إلى نفسي (معلمتي) لدرجة أني نادراً ما أفكر في نفسي بمعزل عنها، لا أدري فيما إذا كان استمتاعي بجمال الأشياء من حولي يعود في أغلبه إلى أمر فطري لديّ، أو بسبب تأثيرها في، وأشعر أن وجودها لا يمكن فصله عن وجودي، أفضل ما عندي ينتمي إليها، ولا توجد في داخلي موهبة، أو أمنية، أو متعة إلا أيقظتها بلمستها الحانية.(/6)
منذ البداية أخذت آن على نفسها عهداً أن تخرج هذه الفتاة الصماء، البكماء، العمياء من الظلمات إلى النور، مهمتها لم تكن سهلة قط، بل كان عليها أن تسلك طريقاً شائكاً وعراً، وإذا مرت عليها لحظات إحباط ويأس وملل، فسرعان ما تحرق جذوة النار التي في داخلها هذه المشاعر السلبية، كانت في البداية تقول: لو كنت فقط مؤهلة أكثر لهذه المهمة العظيمة، كل يوم أشعر بقصوري، عقلي مليء بالأفكار ولكني لا أعرف كيف أنظمها، كم أتمنى لو أجد من يساعدني؛ فأنا أحتاج إلى معلمة تماماً مثلما تحتاج هيلين، ثم تضيف فتقول: أعلم أن تعليم هذه الطفلة سوف يكون أهم حدث في حياتي، ولكنها سرعان ما استردت ثقتها بنفسها وتلمست طريقها، فنجدها تقول في رسالة لاحقة إلى إحدى معلماتها: شيء في داخلي يخبرني بأني سأنجح نجاحاً يفوق ما خططت له في أحلامي، أدرك أن هيلين تمتلك قدرات متميزة، وأعتقد أنني سوف أستطيع أن أطور هذه القدرات وأعيد رسمها، لا أدري كيف تكوّن في داخلي هذا الإحساس، إذ منذ فترة قصيرة فقط لم يكن لدي أي فكرة كيف أبدأ عملي، وكنت أتلمس طريقي في الظلام، ولكني الآن أعرف ماذا يجب عليّ أن أفعل، وعندما تواجهني المصاعب لا أنزعج، ولا يصيبني اليأس بل أعرف كيف أتصدى لهما، وتقول: كم هو عظيم أن تشعر بأنك ذو فائدة في هذا العالم، إن وجودك مهم لشخص ما، إن اعتماد هيلين- بعد الله- عليّ، تقريباً في كل شيء، يجعلني قوية وسعيدة.(/7)
في اعتقادي أن أهم ما يميز هيلين كيلر، ومعلمتها آن سوليفان أنهما لا تجيدان الإسقاط في حين أننا احترفناه، وأصبحنا نجيده أكثر من أي شيء آخر؛ فلم أسمع عن إنسان كان حَرِياً به أن يستسلم لظروفه الصعبة أكثر منهما، لكنهما لم تفعلا، في حين ألتقِي كل يوم بأناس يواجهون تحديات لا تقارن بما واجهته هيلين وآن، ويلقون اللوم على من وما حولهم؛ فهم يلومون الحكومة الفاسدة، والمجتمع المنحرف، والظروف المادية الصعبة، وأحياناً يرجعون فشلهم إلى السحر والحسد، هذا إن لم يتحدثوا عن نظرية المؤامرة؛ فكل إحباطاتهم، وفشلهم هي نتيجة للمؤامرة التي يدبرها العالم كله ضدهم، المهم أن ينفضوا أيديهم عن تحمل أي مسؤولية عن واقعهم، حولنا الكثير من الجادين والمصلحين، ولكن أحياناً كثيرة تكون النغمة السائدة في المجتمع هي الشكوى والاستسلام للفشل.
من الرائع أن نتغلب على المعوقات حولنا كي ننجح في الحياة فنعيش سعداء، ونسعد من حولنا، مثلما فعلت هيلين كيلر، و لكن من الأروع ألا نكتفي بذلك، بل نأخذ بيد من حولنا ليتغلبوا على ظروفهم، وينطلقوا في الحياة مثلما فعلت مربيتها آن سوليفان، وإن لم نستطع أن نفعل هذا ولا ذاك، فلا نبحث حولنا عن أسباب انحطاطنا وتأخر أمتنا، ويكفينا النظر في المرآة.(/8)
العنوان: إلى من أدركت رمضان
رقم المقالة: 1251
صاحب المقالة: عبدالملك القاسم
-----------------------------------------
الحمد لله الذي بلغنا هذا الشهر العظيم، وأدعوه - عز وجل - كما بلغنا إياه أن يُعيننا على حُسن صيامه وقيامه، وأن يتجاوز عن تقصيرنا وزللنا، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد:
فهذه رسالة قصيرة سطرتها لك أختي المسلمة على عَجَلٍ، وضمنتها وقفات متنوعة، أدعوه - عز وجل - أن يُبارك في قليلها، وأن ينفع بها إنه سميع مجيب.
الوقفة الأولى:
أذكِّرك بأصل الخلق وسبب الوجود، قال الله - عز وجل -: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسِ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. قال الإمام النووي: "وهذا تصريح بأنهم خُلقوا للعبادة، فحُق عليهم الاعتناء بما خُلقوا له، والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة؛ فإنها دار نفاد لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشروع انفصام لا موطن دوام".
أختي المسلمة:
تفكَّري في عظم فضل الله عليكِ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، والنحل: 18].. وأجَّل تلك النعم وأعظمها نعمة الإسلام، فكم يعيش على هذه الأرض مِن أمم حُرمت شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.. ثم احمدي الله - عز وجل - على نعمة الهداية والتوفيق، فكم ممن ينتسبن إلى الإسلام، وهنّ مخالفات لتعاليمه ظاهرًا وباطنًا، مفرطات في الواجبات، غارقات في المعاصي والآثام! فاللهم لك الحمد!(/1)
وأنتِ - أيتها المسلمة - تتقلبين في نعم الله - عز وجل - من أمن في الأوطان، وسعة في الأرزاق، وصحة في الأبدان، عليك واجب الشكر بالقول والفعل، وأعظمُ أنواع الشكر طاعةُ الله - عز وجل - واجتناب نواهيه؛ فإن النعم تدوم بالشكر.. {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. واعلمي أن حقوق الله - عز وجل - أعظم من أن يقوم بها العباد، وأن نِعَم الله أكثر من أن تحصى ولكن (أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين).
الوقفة الثانية:(/2)
من نِعَم الله عليكِ أن مدَّ في عمركِ، وجعلكِ تُدركين هذا الشهر العظيم، فكم غيَّب الموت من صاحبٍ، ووارى الثرى من حبيب!.. فإن طول العمر والبقاء على قيد الحياة فرصةٌ للتزود من الطاعات، والتقرب إلى الله - عز وجل - بالعمل الصالح. فرأس مال المسلم هو عمره؛ لذا احرصي على أوقاتكِ وساعاتكِ حتى لا تضيع سُدًى، وتذكري مَنْ صَامتْ معكِ العام الماضي وصلَّت العيد!! ثم أين هي الآن بعد أن غيبها الموت؟! وتخيلي أنها خرجت إلى الدنيا اليوم فماذا تصنع؟! هل ستسارع إلى النزهة والرحلة؟ أم إلى السوق والفسحة.. أم إلى الصاحبات والرفيقات؟! كلا ! بل - والله - ستبحث عن حسنة واحدة.. فإن الميزان دقيق، ومُحصًى فيه مثقال الذر من الأعمال {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].واجعلي لكِ نصيبًا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ، شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)).. واحرصي أن تكوني من خيار الناس كما أخبر بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: "يا رسول الله، أيُّ الناس خير؟" قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ)) قال: "فأي الناس شر؟" قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ.))؛ رواه مسلم.
الوقفة الثالثة:(/3)
يجب الإخلاص في النية، وصدق التوجه إلى الله - عز وجل -، واحذري وأنت تعملين الطاعات مداخلَ الرياء والسمعة؛ فإنها داء خطير، تحبط العمل، واكتمي حسناتك واخفيها، كما تكتمين وتخفين سيئاتك وعيوبك، واجعلي لك خبيئة من عمل صالح، لا يعلم به إلا الله - عز وجل - من صلاة نافلة، أو دمعة في ظلمة الليل، أو صدقة سر، واعلمي أن الله - عز وجل - لا يتقبل إلا من المتقين، فاحرصي على التقوى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].. ولا تكوني ممن يأبون دخول الجنة!.. كما ذكر ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟!" قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى))؛ رواه البخاري.
الوقفة الرابعة:
عوَّدي نفسكِ على ذكر الله في كل في كل حين، وعلى كل حال، وليكن لسانكِ رطبًا من ذكر الله - عز وجل -، وحافظي على الأدعية المعروفة، والأوراد الشرعية. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41-42] وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله في كل أحيانه"؛ رواه مسلم. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سَبَقَ المُفَرِّدُونَ)) قالوا "وما المفردون يا رسول الله؟" قال: ((الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ.))؛ رواه مسلم.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وبالجملة فإن العبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية، التي يجد غبَّ إضاعتها يوم يقول: (يا ليتني قدمت لحياتي).."(/4)
واعلمي أختي المسلمة، أنه لن يعمل أحد لكِ بعد موتكِ من صلاة وصيام وغيرها؛ فهُبِّي إلى الإكثار من ذكر الله - عز وجل - والتزود من الطاعات والقُربات.
الوقفة الخامسة:
احرصي على قراءة القرآن الكريم كل يوم، ولو رتبت لنفسكِ جدولاً تقرئين فيه بعد كل صلاة جزءًا من القرآن؛ لأتممت في اليوم الواحد خمسة أجزاء! وهذا فضل من الله عظيم، والبعض يظهر عليه الجد والحماس في أول الشهر ثم يفتر، وربما يمر عليه اليوم واليومان بعد ذلك وهو لم يقرأ من القرآن شيئًا، وقد ورد في فضل القرآن ما تقر به العيون، وتهنأ به النفوس، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ))؛ رواه الترمذي، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه سلم -: ((إنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالبَيْتِ الخَرِبِ))؛ رواه الترمذي.
وعن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ))؛ رواه مسلم.
فعليكِ أختي المباركة بالحرص على قراءة القرآن، بل وحفظ ما تيسر منه، ومراجعة ما قد تفلت منك، فإن كلام الله فيه العظة والعبرة، والتشريع والتوجيه والأجر والمثوبة.
الوقفة السادسة:(/5)
رمضان فرصة مواتية للدعوة إلى الله.. فتقربي إلى الله - عز وجل - في هذا الشهر العظيم بدعوة أقاربك وجيرانك وأحبابك عبر الكتاب والشريط والنصيحة والتوجيه، ولا يخلو لك يوم دون أن تُساهمي في أمر الدعوة، فإنها مهمة الرسل والأنبياء والدعاة والمصلحين، وليكن لك سهم في هذا الشهر العظيم، فإن النفوس متعطشة والقلوب مفتوحة والأجر عظيم.. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))؛ متفق عليه.
قال الحسن: "فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد."
الوقفة السابعة:
احذري مجالس الفارغات، واحفظي لسانك من الغيبة والنميمة وفاحش القول، واحبسيه عن كل ما يغضب الله، وألزمي نفسك الكلام الطيب الجميل، وليكن رطبًا بذكر الله.. ولأختي المسلمة بشارة هذا العام فنحن في عطلة دراسية وهي فرصة للتزود من الطاعة والتفرغ للعبادة.. وقد لا تُكرر الفرصة.. بل وقد تموتين قبل أن تعود الفرص.. واعلمي أن كل يوم يعيشه المؤمن هو غنيمة.. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان رجلان من بني قضاعة أسلما على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشهد أحدهما، وأُخِّر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيدالله: "فرأيت المؤخَّر منهما أُدخِلَ الجنة قبل الشهيد" فتعجبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم –" فقال: ((أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى سِتَّةَ آلافِ رَكْعَةٍ وَكَذَا رَكْعَةٍ صَلاَةَ سَنَةٍ))؛ رواه أحمد.
الوقفة الثامنة:(/6)
منزلك هو مناط توجيهك الأول، فاحرصي أولاً على أخذ نفسك وتربيتها على الخير، ثم احرصي على مَن حولك من زوج وأخ وأخت وأبناء، بتذكيرهم بعظم هذا الشهر، وحثهم على المحافظة على الصلاة وكثرة قراءة القرآن، وكوني آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر في منزلك بالقول الطيب، والكلمة الصادقة، وأتبعي ذلك كله بالدعاء لهم بالهداية. وهذا الشهر فرصة لمراجعة ومناصحة المقصرين والمفرطين فلعل الله - عز وجل - أن يهدي من حولك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ))؛ رواه مسلم.
الوقفة التاسعة:
احذري الأسواق فإنها أماكن الفتن والصد عن ذكر الله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَحَبُّ البِلاَدِ إلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ البِلاَدِ إلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا))؛ رواه مسلم .
ولا يكن هذا الشهر وغيره سواء. واحذري أن تلحقك الذنوب في هذا الشهر العظيم بسبب رغبة شراء فستان أو حذاء، فاتقي الله في نفسكِ وفي شباب المسلمين، وما يضيرك لو تركت الذهاب إلى الأسواق في هذا الشهر الكريم، وتقربت إلى الله - عز وجل - بهذا الترك؟!
الوقفة العاشرة:
العمرة فضلها عظيم، وفضلها في رمضان يتضاعف فعن ابن عباس - رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من حجة الوداع قال لامرأة من الأنصار اسمها أم سنان: ((مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟)) قالت: "أبو فلان (زوجها) له ناضحان حج على أحدهما والآخر نسقي عليه." فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً)) أو قال: ((حَجَّةً مَعِي))؛ رواه البخاري.(/7)
وإلى كل معتمرة باحثة عن الأجر وهي مجانبة الطريق، أربأ بها أن يجتمع عليها في بلد الله الحرام، حرمة الشهر، وحرمة المكان، وحرمة الذنب. فتكون عمرتها طريق إلى الإثم والمعصية من حيث لا تدري وترجع مأزورة غير مأجورة.
وإن يسر الله لكِ العمرة، فتجنبي مواطن الزلل، وعثرات الطريق، واخرجي محتشمة بعيدة عن أعين الرجال، غاضة الطرف، لابسة الحجاب الشرعي، مبتعدة عن لبس النقاب، ومس العطور، واخرجي لبيت الله الحرام وأنت مستشعرة عظمة هذا البيت، وعظمة خالقه - عز وجل -، وتذكري أن الحسنات تُضاعف فيه كما أن السيئات تضاعف فيه أيضًا.
الوقفة الحادية عشرة:(/8)
لقد فتح الله - عز وجل - لنا أبواب الخيرات، وفاضت الأرزاق بيد الناس فاحرصي - وفقك الله - على الصدقة بما تجود به نفسك من مال ومأكل وملبس، وقد مدح الله عباده المتقين ووصفهم بعدة صفات فقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 17-19]وفي هذا الشهر تستطيعين أن تجمعي هذه الأعمال الفاضلة من قيام ليلٍ واستغفار وصدقة في كل يوم. وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة بقوله: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ))؛ رواه مسلم، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)) وذكر منهم ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ))؛ متفق عليه.. وقد أنفق بعض الصحابة أموالهم كاملة في سبيل الله، وبعضهم نصف ماله، فلا يُبخلنك الشيطان ويصدك عن الصدقة، بل سارعي إليها.. وهذا نداء خاص لكِ أختي المسلمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ))؛ رواه مسلم.
الوقفة الثانية عشرة:
في شهر رمضان فرصة مناسبة لمراجعة النفس ومحاسبتها وملاحظة تقصيرها؛ فإن في ذلك خيرًا كثيرًا.. وكان الحسن يقول: "رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من الناس.. ابن آدم: إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك."
وقال ابن عون: "لا تثق بكثرة العمل؛ فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا؟ ولا تأمن ذنوبك؛ فإنك لا تدري أكفر عنك أم لا؟ إن عملك مغيب عنك كله."
الوقفة الثالثة عشرة:(/9)
أوجب الله - عز وجل - بر الوالدين وصلتهم، وحُسن معاملتهم، والرفق بهم، وحذر من مجرد التأفف والتضجر فقال تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وقال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] وقد جاء رجل يستأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد، وهو من أفضل الأعمال، وفيه من المشقة والتعب ما هو معلوم معروف، بل ربما ذهبت فيه النفس والروح.. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – ((أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)) قال: نعم.. فقال - صلى الله عليه وسلم – ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ))؛ رواه البخاري. ومن صور بر الوالدين رحمتهما والسؤال عن صحتهما، وإعانتهما على الطاعة، والتوسعة عليهما بالمال والهدايا، وإدخال السرور عليهما، والدعاء لهما.. وبعض النساء تعرض عن بر والديها، وتراها تقدم الصديقة والزميلة بالتبسط والحديث والزيارة، ولا يكون لوالديها نصيب من ذلك، وبر الوالدين من أفضل الأعمال، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أي الأعمال أحب إلى الله؟" قال: ((الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا)) قلت: "ثم أي؟" قال: ((بِرُّ الوَالِدَيْنِ)) قلت: "ثم أي؟" قال: ((الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ))؛ متفق عليه.
فاحرصي - بارك الله فيك - على برهما والدعاء لهما، والتصدق عنهما أحياءً أو أمواتًا، غفر الله لهما وجزاكِ خيرًا.
واحرصي أيضًا على صلة الأرحام، والتواصل معهم في هذا الشهر الكريم، ولكن لا يكون هذا التواصل باب شر عليكِ، يُفتح فيه حديث الغيبة والنميمة والاستهزاء وضياع الأوقات. بل تكفي زيارة السؤال والاطمئنان، ونشر الخير وتعليم الجاهلة وتذكير الغافلة، وإبداء المحبة، وتفقد الحال ومساعدة المحتاج، ولتكن مجالسًا معطرة بذكر الله - عز وجل - فيها فائدة وخير.
الوقفة الرابعة عشرة:(/10)
التوبة: كلمة نُرددها ونسمعها، ولكن قليلاً من النساء من تُطبقها.. حتى إنه والعياذ بالله قد استمرأت بعض النفوس المنكر، فترى البعض يُقدِمُ على فعل المحرمات المنهي عنها بلا مبالاة مثل سماع الموسيقى والمعازف.. وكذلك رؤية الرجال على الشاشات، وإضاعة الأوقات فيما هو محرم.. فحري بالمسلمة أن تكون ذات توبة صادقة، قارنة القول بالفعل. قال الله تعالى حاثًّا على التوبة ولزوم الأوبة.. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))؛ رواه الترمذي والحاكم.
فسارعي أختي المسلمة إلى التوبة من جميع الذنوب والمعاصي، وافتحي صفحة جديدة في حياتكِ، وزينيها بالطاعة وجمليها بصدق الالتجاء إلى الله - عز وجل -، وحاسبي نفسكِ قبل أن تُحاسبي {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89] وتذكري حالكِ إذا غُسّلت بسدر وحنوط، وكُفنتِ بخمسة أثواب، هيَ كل ما تخرجين به من زينة الدنيا!!
لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَنْت إِذَا غُسِّلْت بِالْكَافُورِ وَالسِّدْرِ
أَوْ لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَنْت عَلَى نَبْشِ الضَّرِيحِ وَظُلْمَةِ القَبْرِ
أختي المسلمة:(/11)
هذه وقفات سريعة كتبتها على عُجالة.. وإن أفزعتكِ دورة الأيام وأهمكِ أمر الآخرة وأردت أن تعملي، فلا تُقصري فاقصدي باب التوبة، وأطرقي جادة العودة، وقولي: لعله آخر رمضان في حياتي، ولعلي لا أعيش سوى هذا العام، ولا تستكثري عليكِ هذا القصور. فاحزمي أمركِ وسيري إلى الآخرة، فوالله إنكِ في حاجة إلى الحسنة الواحدة.. واستحضري عظمة الجبار، وهول المطلع، ويومًا تشيب فيه الولدان، وفكري في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، ونار يُقال لها لظى {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج: 16-17]. وسترين بتذكر كل ذلك - بإذن الله عز وجل - ما يُعينك على الاستمرار والمحافظة على الطاعة، وإن كنتِ قد تصدقتِ بما مضى من عمرك على الدنيا، وهو الأكثر؛ فتصدقي بما بقى من عمرك على الآخرة، وهو الأقل... ولا تكوني ممن إذا حل بهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات قال: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99}.. ولماذا العودة والرجوع؟.. {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 100].. فابدئي الآن واحزمي أمرك فإنما هيَ جنة أو نار ولا منزلة بينهما.
أدعو الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يعيد هذا الشهر علينا أجمعين في خير وعافية، وأن لا يكون هذا آخر رمضان نصومه.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وتجاوز عن تقصيرنا واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا إنك أنت الغفور الرحيم، ربنا هب لنا من ذرياتنا وأزواجنا قرة أعين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/12)
العنوان: اليمينُ المتطرِّف في هولندا
رقم المقالة: 1627
صاحب المقالة: سيف الدين يوسف
-----------------------------------------
تناولت جريدةُ Metro (مترو) موضوعَ اليمين المتطرف في هولندا في عددها الصادر بتاريخ الاثنين 15 من أكتوبر 2007م تحت عنوان (يجب أن نحارب من أجل البلد الأم) الذي كتبه المختص في شؤون جماعات اليمين المتطرف Jaap Van Beek – ياب فان بِيك، والمقال مطول وفي صفحتين كاملتين في الجريدة، مرفقاً بالصور والشعارات؛ صور لشباب برؤوس حليقة وموشمة بشعارات المنظمات تلك، وصور بعض الشباب المتطرف والشرطة تقبض عليهم.
مجموعاتُ اليمين المتطرف تزدادُ عنفاً يوماً بعد يوم، وهذا ما تبيَّنَ من الاستطلاع الذي أجرته مؤسسةُ Anne Frank وهو الاستطلاع التاسع الذي تجريه شاشةُ العنصرية والتشدد في هذه المؤسسة، فقد هَجَم خمسةُ شبان يرتدون الصلبانَ المعقوفة (وهو شعار النازية) على فتاة كونغولية تبلغ من العمر 14 عاماً في قرية Deurne، كما هوجمت امرأةٌ ليبيرية مع أربعة من أطفالها في قرية Waspik يقول شباب هؤلاء المنظمات المتطرفة: لا نحب هؤلاء المقتحمين لبلادنا والمتسللين إليها.
(Tim 18 عاماً) يقف مع أربعة من زملائه أمام المدرسة في قرية Deurne؛ ففي هذا المكان -منذ أسبوعين- قامت مجموعة متطرفة بِسبِّ فتاة أنغولية (14 عاماً) وإهانتها ومهاجمتها. Tim وزملائه لا يتحرجون من هذا؛ لأن الأمر بوضوح أن Deurne قرية هولندية ويجب أن تبقى كذلك.
إذا سمحنا للأجانب أن يسكنوا هنا في هذه القرية، سنجد بعد مدة أن القرية ملئت مساجدَ ومعابدَ يهودية! فيجب أن نحمي قريتنا ونبقيها على هويتها الهولندية.
بينما يجيب شاب آخر (Robert 18 عاماً) بأن هولندا كلها تريد من الأجانب أن يرحلوا، ولكن لا أحد يفعل شيئاً، لكن هؤلاء الشباب يحاولون، نعم فيجب علينا أن نستيقظ جميعا، ونقاتل ضد مجتمع متعدد الثقافات.(/1)
لقد تعوَّد المتطرفون اليمينيون استخدامَ العنف استخداما أكبر. هذا ما تقوله المؤسسة المذكورة.
ففي عام 2005م كان هناك 38 هجوماً عنصرياً باستخدام العنف من قبل اليمين المتطرف، وفي عام 2006م تضاعف هذا العددُ تقريباً؛ إذ صار 67 هجوماً. وإلى جانب ذلك تقول المؤسسة بأن نفوذ اليمين المتطرف يقوى باستمرار.
فأعداد أعضاء المنظمات المتطرفة في السنوات القليلة الماضية في تزايد مستمر.
وتمثل هذه المجموعاتُ المتطرفة خطراً حقيقياً على المجتمع؛ كما اتضح في مارس الماضي (2007م) عندما قبض على (Arrisde B 26 عاماً) عضو المجموعة العنيفة (Combat 18) أحد فروع B&H. وعثر في منزله على أسلحة أوتوماتيكية وبنادق صيد وسلاح يدوي ناري وذخائر ومتفجرات من صنع يدوي.
وبعد شهرين قبض على صديقيه Marten Van M و Robin O وقد عثر على أسلحة في منزل المتطرف Van M وفي عام 2004م كان قد قبض على Robin O و Arris de B عندما قاما بتعذيب أجْنَبِيَّيَن؛ فقد قام Robin O بمحاولة دهس أحد الأجنبيين بسيارته.
ومن جانب آخر لا يخفى على هذه المنظمات استخدامُ الإنترنت في نشاطاتها؛ فهناك موقع على الإنترنت يبلغ عددُ أعضائه أكثر من ثمانين ألف عضو، ويتبادلون المعلومات ويعظمون ويمجدون الأعمال العدائية التي تقوم بها هذه المجموعات ضد الأجانب.
فعندما ظهر فيلم روسي في نهاية آب أغسطس الماضي وفيه أصحاب الرؤوس الحليقة وذوي البدلات الرياضية وهم يقطعون رأسَ أجنبي، قال أحد أعضاء هذه المنظمات المتطرفة معلقاً بأنه في أي حرب تُحصى فقط النتائجُ، وليس كيف جاءت النتيجة؛ فالروسُ نجحوا في تصفية وتطهير بلدهم، وأثبتوا بأنهم أقوياء وشجعان بهذه الطريقة.
ويجيب آخر قائلاً موافقاً الأول: إذا كنا نريد أن نحيا ثانية كشعب وكعرق فعلينا أن نكون قساة لا نعرف الرحمة والشفقة.(/2)
لم تعد مواقعُ اليمين المتطرفة فقط تظهر آراء المتطرفين، بل هناك بعض المواقع الشعبية أيضاً تظهر ردود الفعل القاسية للزائرين خاصة حول مجتمع متعدد الثقافات وخاصة إذا كانت هناك جريمة والمجرمون أجانب حينئذٍ تسمع أصواتاً تنادي برمي الأجانب خارج هولندا.
(Piter 19 عاماً) كان سابقاً مع مجموعة تبحث عن المشاكل بشكل منظم مع شباب الأجانب، وأما الآن فأصبح من مؤيدي شباب زُوت مير عاصفة هولندا نسبة إلى مدينة Zoetmeer مجموعة تكونت 2005م، وكل سنة تنمو بشكل أكبر وأقوى.
يقول Piter سابقاً كنت أفكر بأنّ هولندا بيضاء (نسبة إلى العنصر الأبيض) أما الآن فتقريباً الكل يفكر هكذا.
المسنون كانوا لا يجرؤون أن يمشوا في الشارع؛ لأن مجموعات شباب المغاربة كانوا يحولون دون ذلك.
أما الأنتليان (وهم شعب إحدى الجزر الواقعة في البحر الكاريبي قريبا من كوبا وفنزويلا وهي تابعة للدولة الهولندية) فهم يحاولون منذ سنين أن يحولوا بلدنا إلى بلد لا يسكنه غيرُهم مثل أحياء الأفارقة في أمريكا التي لا يسكنها غيرهم.
فمثل هذه الأعمال يجب أن تتوقف، وهذا ما يجب أن يفعله أحدٌ ما.
يجب أن نعمل على أن تبقى هولندا هولندية.
وهذا يمكن تحقيقه إذا تحركنا ولم نتجنب العنف، وأينما وجد العنف يجب أن يسقط ضحايا.
يقول هذا وهو يكشف عن ساعده وعليه وشم ثمانيتين رمز للحروف الموجودة في كلمتي (Heil Hitler) بركة هتلر – فقد علَّم هتلر الآخرين الذين لم يكونوا راضين عن اليهود كيف يتحركوا.
وهذا ما يجب أن نفعله، يجب أن نكون يداً واحداً ضد هذا التلوين وضد اليهود.
الأمر بات جلياً بأن اليمين المتطرف أصبح أكثر تنظيماً وأكثر عنفاً ضد الأجانب.(/3)
والسيد Van Beek يلاحظ بأن المناخ ملائم لليمين الذي اشتد ساعده في هولندا في السنوات الأخيرة، لذلك تجد شباب اليمين المتطرف لديهم أفكار بأنهم مُسانَدون من قبل الكثيرين، لذلك يُصبحون أكثر تطرفاً ولديهم شعور وكأن العنف مصرح به لِيُبْقُوا على هولندا بيضاء.
وتحاول وزارةُ العدل جاهدةً التصديَ لليمين المتطرف؛ فمنذ السنة الماضية تحاول الوزارة أن تتمكن من هؤلاء.
ولن يتم التساهل والتسامح مع وجهات النظر العنصرية التي تظهر على بعض المواقع في الإنترنت.
وقد حكم على ثلاثة أشخاص لأسباب عنصرية.
ولكن السيد Van Beek يشكك في أن تساعد محاكمة هؤلاء في حل المشكلة؛ فيقول (إن نماذج التفكير لهؤلاء الشباب عميقة الجذر، ولا يمكن بهذه السهولة تغيير ذلك، فنحن نأمُل أن تكون محاكمة هؤلاء محاكمة شديدة تحذيراً لهم، ولكن ما يجب أن نفعله هو أن لا نُقلِّل من شأن هؤلاء، ويجب أن يكونوا في دائرة الضوء لِيُتَمكَّن منهم).
يقول Tim من غير أن يُصرح بالعنف المباشر:
الآن كان الأمر متعلقاً بفتاة كونغولية (14 عاماً)، أما الأسبوع القادم فربما يكون صومالياً، والأسبوع الذي يليه عراقيا. هؤلاء اللاجئون لم يجلبوا لنا حتى الآن غير المشاكل، فسابقاً كان بإمكانك أن تترك الباب الخلفي لمنزلك مفتوحاً، أما الآن فكأنك تحمل سكيناً بين أضلاعك.
وهذه هي نتيجة مجتمع متعدد الثقافات.
وهذا ما لم يعد يقبله الناس هنا في قريتنا.
- (يذكر بأن الأسماء الواردة في النص ليست حقيقية كما ذكر الكاتب).
المنظمات اليمينية المتطرفة:
1 – Blood&Honour (الدم والشرف) منظمة قومية اشتراكية جذورها الأولى في بريطانيا، وأصبح لها وجود في هولندا في عام 2002م، عدد أعضائها يتراوح بين 200 – 250 بينما مؤيدوها أكثر من ذلك بكثير جداً ويرمز لها بـB&H.
2 – 18 Combat وRacial Volunteer Force وهاتان المجموعتان تعدان كفروع لـB&H.(/4)
3 – شباب عاصفة هولندا. تأسست في مدينة Zoetmeer ولها فروع في أماكن أخرى وهي أيضاً منظمة قومية اشتراكية، تعظم هتلر، وتدافع عن الثورة بحيث يتمكن أعضاؤها أن يقدموا أنفسهم شهداء للوطن الأم.
وهؤلاء لديهم ملفات في أقسام الشرطة والمحاكم.
4 – Aktiefront Nederland، منظمة تعمل ضد مجتمع متعدد الثقافات، وقد ظهرت مجموعة من شبابها في فيلم قصير برؤوس حليقة تتدرب في غابة تحت شعار (النضال من أجل البلد الأم).أ.هـ.(/5)
العنوان: اليهود في هيئة الأمم المتحدة
رقم المقالة: 367
صاحب المقالة: أمين الحنفي
-----------------------------------------
إن من دسائس اليهود ومكائدهم في سبيل الوصول إلى أغراضهم ومصالحهم تسللهم في المؤسسات الدولية والجمعيات العالمية لكي يستغلوها حسب منافعهم الدنيئة ، وأهدافهم الصهيونية ، وليوجهوها في الطريق الذي يؤدي بها في نهاية المطاف إلى غاية تلتقي مع غايتهم الحقيرة ، أو إلى الإخفاق والإضمحلال ، كما فعلوا بعصبة الأمم السابقة ، التي أدى تغلغلهم فيها إلى رد فعل عنيف كان من جملة الأسباب التي دفعتها إلى الهاوية والإنحلال ، وكذلك حاولوا السيطرة على الحزب الشيوعي في أول أمره ، وأرادوا استخدامه أداة لتنفيذ أحلامهم المجنحة ، وكذلك لما تأسست منظمة هيئة الأمم المتحدة سمى اليهود في جميع أقطار الأرض ليدسوا أنفسهم بين موظفيها الداخليين والخارجيين ، وليدخلوا في جميع لجانها المختلفة.
وهذه قائمة بأسماء اليهود في هيئة الأمم ، مع بيان وظائفهم ومهامهم:
1 – مكتب السكرتيرية في هيئة الأمم المتحدة:
الدكتور ح.س.بلوك: رئيس قسم التسلح: يهودي.
انتوني كولدت: رئيس قسم الأمور الاقتصادية: يهودي.
آنسكا روزنبرغ: المشاور الخاص للشؤون الاقتصادية: يهودي.
دافيد ونتروب: رئيس قسم الميزانية: يهودي.
كارل لاجمان: رئيس قسم الخزائن والواردات: يهودي.
هنري لانجير: معاون سكرتير الشؤون الاجتماعية: يهودي.
الدكتور ليون ستيننك: رئيس قسم المواد المتبادلة: يهودي.
الدكتور أ.شويل: رئيس قسم حقوق الإنسان: يهودي.
ح.آ.ويتشوف: رئيس دائرة مراقبة البلاد غير المستقلة: يهودي.
بنيامين كوهين: مساعد السكرتير العام لقسم الاستعلامات العامة: يهودي.
ج.بنوت ليفي: رئيس قسم الأفلام: يهودي.
الدكتور ايفان كرنو: مساعد السكرتير العام لشعبة القوانين: يهودي.
ابراهام.ح.فيللر: رئيس الشعبة القانونية: يهودي.(/1)
غ.ساند برغ: مشاور شعبة القانون الدولي: يهودي.
دافيد زابلو دويسكي: رئيس قسم المطبوعات: يهودي.
جورج رابنو فيج: رئيس قسم المترجمين: يهودي.
ماكس ابراموفيج: رئيس قسم التصاميم: يهودي.
ب.س.ج.كين: مدير المحاسبات العامة: يهودي.
مارك شرلبر: رئيس قسم (ستانا): يهودي.
مرسيدس برغمان: مدير الشؤون الذاتية[1]: يهودي.
الدكتور آ.سنجر: رئيس أطباء الشؤون الصحية العالمية: يهودي.
باول رادزيانكو: رئيس قسم المراجعات: يهودي.
2 – مراكز الاستعلامات في هيئة الأمم المتحدة:
جرزي شابيرو: رئيس قسم الاستخبارات في مركز جنيف: يهودي.
ب.ليتجبر: رئيس قسم الاستخبارات في مركز الهند: يهودي.
هنري فاست: رئيس قسم الاستخبارات في مركز الصين: يهودي.
الدكتور بوليوس شاوسكي: رئيس قسم الاستخبارات في مركز دار شوفا: يهودي.
3 – مكتب العمال الدوليين:
دافيد.أ.موريس: رئيس مكتب العمال الدوليين[2]: يهودي.
وإسمه الحقيقي: (موسكو فيج).
ف.كابريل كارسز: مخابر خط الاستواء للمكتب: يهودي.
جان روزنر: مخابر بولونيا للمكتب: يهودي.
4 – مؤسسة التغذية والزراعة:
اندريه ماير: رئيس شعبة التغذية والزراعة: يهودي.
آ.ب.جاكوبس: الممثل الدانمركي في شعبة التغذية والزراعة: يهودي.
أ.فريس: الممثل الهولندي في شعبة التغذية والزراعة: يهودي.
م.م.ليبمان: رئيس شعبة التعمير: يهودي.
كير داكاروس: رئيس شعبة التعايش: يهودي.
ب.كاردوس: رئيس شعبة المتفرقات: يهودي.
م.آزاكليل: رئيس شعبة الاقتصاد التحليلي: يهودي.
م.آ.هوبرمان: رئيس شعبة صيانة الغابات: يهودي.
ج.ب.كانمان: المشاور الفني لشعبة الغابات: يهودي.
ج.ماير: رئيس قسم التغذية: يهودي.
ف.ويزل: رئيس قسم الإدارة: يهودي.
5 – (اليونسكو) مؤسسة التعليم والثقافة والفن:
لقد ثبت هذه المؤسسة تدار من شخصين يهوديين هما:
1 – آلف سومر فلت: رئيس لجنة التبادل الخارجي: يهودي.
2 – ج.ايزنهارد: لجنة تنظيم الثقافة العالمية: يهودي.(/2)
وهنالك آخرون في هذه الشعبة وهم:
م.لافمان: رئيس شعبة الثقافة العالمية: يهودي.
ج.كابلن: رئيس قسم الاستعلامات العام: يهودي.
س.ح. ويتز: رئيس قسم الميزانية والإدارة: يهودي.
س.سامول سلسكي: رئيس شعبة الذاتية: يهودي.
ب.ابراميسكي: رئيس شعبة الإيواء والسياحة: يهودي.
ب.ويرمل: رئيس مكتبة الهيئة والتعيين: يهودي.
الدكتور آ.ويلسكي: رئيس المصلحة الفنية لصحاري آسيا: يهودي.
6 – بنك التعمير والتنقيب الدولي:
ليونارد.ب.رست: المدير الاقتصادي للبنك: يهودي.
ليوبولد تشميلة: الممثل التشكوسلوفاكي في مجلس شورى الإدارة: يهودي.
أ.بولاك: عضو مجلس شورى الإدارة: يهودي.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] عن طريق هذا اليهودي تقدم جميع طلبات التوظيف في دوائر هيئة الأمم المتحدة وهو الذي يقبل أو يرفض هذه الطلبات.
[2] هنالك ثلاثة أشخاص يهود يسيطرون على هذا القسم ، وهم: 1 – آلتمان اليهودي البولوني. 2 – دافيد زلباخ اليهودي الأمريكي. 3 – فينت اليهودي البلجيكي.(/3)
العنوان: اليهود وأحجار الشطرنج
رقم المقالة: 565
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
* الصهيونية العالمية تثير الأحقاد بين الشعوب، وتنشر الفتن والدسائس، وتسعى إلى إحداث حرب عالمية ثالثة، تفوق في آثارها الحروب السابقة بمجموعها.
* مؤلف الكتاب: اليهود ليسوا مخلوقات عادية؛ بل هم قوى تعمل في الظلام، وتسيطر على معظم الذين يشغلون المراكز العليا في العالم.
* الحروب والثورات التي تعصف بحياتنا، والفوضى التي تسيطر على عالمنا؛ ليست سوى نتائج مؤامرة شيطانية مستمرة يدبِّرها اليهود.
* رسم المخطط الصهيوني لحرب عالمية ثالثة تنشب بين اليهود والمسلمين، نتيجة النزاع الذي يثيره اليهود بين الصهيونية السياسية وبين العالم الإسلامي.
* المؤلف يحذِّر: إذا لم تتوقف - الآن - المؤامرة الصهيونية؛ فإن الكارثة العالمية النهائية قادمة لا محالة.
* * *
كثير من قراء العربية - وربما غير قليل من المثقفين - لم يسمعوا أو يقرؤوا عن هذا الكتاب الخطير، الذي يسهم إسهاماً كبيراً في كشف المؤامرة الصهيونية للسيطرة على العالم، وإخضاعه لنفوذ اليهود، وهو كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج"، الذي ألفه الأميرال (وليام غاي كار) رئيس اتحاد الجمهور المسيحي بأمريكا، ونُشر في ولاية فلوريدا 1958م، ونقله إلى اللغة العربية (سعيد جزائرلي)، ونشرت الطبعةَ العربية دارُ النفائس ببيروت عام 1970م.
ولا غرابه في قلة شهرة هذا الكتاب؛ فقد سعى اليهود الى إخفاء نسخه حتى لا تظهر للعالم، بعد أن اغتيل مؤلفه في ظروف غامضة.
وهذا الكتاب الخطير بمنزلة تحذير جريء للعالم، يكشف القوى المجرمة التي كانت وراء ويلات البشرية وآلامها، وما زالت حتى اليوم، وهي الصهيونية العالمية، التي تثير الأحقاد بين الشعوب، وتنشر الفتن والدسائس، وتسعى إلى إحداث حرب عالمية ثالثة، تفوق في آثارها ودمارها الحروب السابقة بمجموعها.(/1)
ولنترك "وليام غاي كار" يتحدث عن تجربته فى فضح المؤامرة الصهيونية بنفسه. يقول: "لقد شرعت فى العمل منذ عام 1911م، مستهدفاً الوصول إلى كُنْه السر الخفي الذي يمنع الجنس البشري من أن يعيش في سلام، وينعم بالخيرات التي منحها الله لنا، ولم أستطع النفاذ إلى قلب ذلك السر إلا في عام 1950م، فعرفت أن الحروب والثورات التى تعصف بحياتنا، والفوضى التي تسيطر على عالمنا؛ ليست سوى نتائج مؤامرة شيطانية مستمرة يدبرها اليهود، فقد أوصلتني الحقائق والبديهيات المتناثرة التي عثرت عليها في كل أرجاء العالم إلى هذه الحقيقة، وأدركت أن هؤلاء ليسوا مخلوقات عادية؛ بل هم قوى تعمل في الظلام، وتسيطر على معظم الذين يشغلون المراكز العليا في العالم، وهم أتباع كنيسة الشيطان كما سماهم المسيح - عليه السلام - وهم كذَّابون، ولا يدينون بأيِّ دين".
خطة شيطانية:
وترجع بداية المؤامرة الصهيونية التي يستعرضها " غاي كار" في كتابه إلى عام 1776م، عندما وضع (وايز هاويت) مع المرابين اليهود خطة للسيطرة على العالم، وفرض المذهب الشيطاني عليه، وتقوم هذه الخطة على تدمير جميع الحكومات والأديان الموجودة عن طريق تقسيم (الجوييم) – غير اليهود- إلى معسكرات متنابذة، تتصارع إلى الأبد بشأن عدد من المشكلات الاقتصادية والسياسية والعنصرية والاجتماعية، التي تتولد دونما توقف!.
ويقضي المخطط بتسليح هذه المعسكرات بعد تقسيمها، وتدبير حادث في كل مرة يكون من شأنه أن تنقضَّ هذه المعسكرات بعضها على بعض، فيضعفون أنفسهم ويحطمونها، ويحطمون الحكومات الوطنية والمؤسسات والقواعد الدينية.
محفل الشرق الأكبر:(/2)
وفي نفس العام الذي انتهى فيه (وايز) من وضع خطة المؤامرة، قام بتأسيس (جماعة النورانيين) - يقصد بهم اليهود - للبدء في تنفيذها، فلجأ إلى الكذب، مدَّعياً أن هدفه الوصول إلى حكومة عالمية واحدة تتكون من ذوي القدرات الفكرية الكبرى، واستطاع بذلك أن يضم إليه ما يقرب من ألفين من الأتباع، من بينهم أبرز المتفوقين في ميادين الفنون والآداب والعلم والاقتصاد والصناعة، وأسس (محفل الشرق الأكبر)، وهو المركز الرئيسي للماسونية، ووضع التعليمات التي يجب على أتباعه تنفيذها للوصول إلى الهدف، ومن هذه التعليمات:
1- استعمال الرشوة بالمال والجنس للوصول إلى السيطرة على الأشخاص الذين يشغلون المراكز الحساسة، على مختلف المستويات، في جميع الحكومات، وفي مختلف مجالات النشاط الإنساني، ودفع من يقع إلى العمل في مخططهم، عن طريق الابتزاز، بالتهديد السياسي أو التخريب المالي، أو حتى الإيذاء الجسدي، وارتكاب جريمة القتل تجاهه وتجاه أفراد أسرته.
2- أن يقوم أساتذة الجامعات والمعاهد العلمية من اليهود بالاهتمام بالطلاب المتفوقين عقلياً، وتدريبهم وتجهيزهم لخدمة الهدف، وتخصيصهم بمنح دراسية، والترسيخ في أذهانهم أن تكوين حكومة واحدة في العالم بأسره هو الطريق الوحيد للخلاص من الحروب والكوارث0
3- أن تُستخدم الشخصيات ذات النفوذ والطلاب الذين تلقوا تدريباً خاصّاً كعملاء، وإحلالهم في المراكز الحساسة خلف الستار لدى جميع الحكومات، بصفتهم خبراء أو متخصصين؛ بحيث يكون في إمكانهم تقديم النصح إلى كبار رجال الدولة، وتوجيههم لاعتناق السياسات التي تخدم المخطط الصهيوني، للتوصل إلى التدمير النهائي لجميع الأديان وجميع الحكومات.(/3)
4- محاولة السيطرة على الصحافة وكل أجهزة الإعلام الأخرى، وعلى مصادر الأخبار في العالم؛ لاستغلالها في تحقيق الخطة الموضوعة، ولا شك أنهم قد نجحوا إلى حدٍّ كبير في السيطرة علي الإعلام العالمي، فمعظم الصحف العالمية في أوروبا وأمريكا، وكذا وكالات الأنباء العالمية تحت سيطرة اليهود.
التسلل إلى الجمعيات الماسونية:
واستمرت المؤامرة الصهيونية تسير في الخط الذي رسمه لها (وايز) حتى عام 1785م، عندما أغلقت حكومة بافاريا – فرنسا - محفل الشرق الأكبر، بعد كشف الوثيقة التي أرسلها (وايز) مع جماعة من اليهود إلى فرنسا لتدبير الثورة فيها، وفضحت الحكومة مخططهم، ونشرت تفاصيل المؤامرة في وثيقة عام 1787م، ومنذ ذلك الوقت؛ انتقل نشاطهم إلى الخفاء، وأصدر (وايز) تعليماته إلى أتباعه بالتسلل إلى صفوف الجمعيات الماسونية السرية، وتكوين جمعية سرية في قلب هذه الجمعيات، واستخدام قناع البر والإحسان لتغطية نشاطهم التخريبي الهدَّام.
مساندة الشيوعية:
وفي عام 1829م عقد (النورانيون) – اليهود - مؤتمراً في نيويورك، وقررت الجماعة ضم حركات الفوضويين في روسيا وأوروبا الوسطى إلى بعضها، في منظمة عالمية يُطلق عليها اسم (الشيوعية)، والهدف من هذه القوى التخريبية مساعدة اليهود في إثارة الحروب والفتن، وقد جمعوا الأرصدة لتمويل (كارل ماركس) و(إنجلز)، اللذين كتبا "رأس المال" و"البيان الشيوعي" في لندن تحت إشراف اليهود، وفي نفس الوقت كان (كارل ريتر) يكتب في جامعة فرانكفورت (النظرية المعاكسة للشيوعية) تحت إشراف جماعة أخرى منهم، بحيث يكون في مقدورهم استخدام النظريتين المتعاكستين في التفريق بين الأمم والشعوب، بصورة ينقسم فيها الجنس البشري إلى معسكرَيْن متناحرَيْن، ومع تسليحهما؛ يدمر بعضهما البعض، وقد ساعدت هذه المذاهب اليهود علي إشعال نيران الحربين العالميتَيْن: الأولى والثانية.(/4)
ففي عام 1870م: وُضِعَ مخطط عسكري مفصل لحروب عالمية ثلاثة، ولثلاث ثورات كبرى، اعتُبر أنها جميعاً سوف تؤدي خلال القرن العشرين إلى وصول المؤامرة الصهيونية إلى مراحلها النهائية، وقد أشرف على وضع الخطة الجنرال الأمريكي (ألبرت بايك)، الذي اقتنع بالمؤامرة التخريبية.
وعندما أصبحت الخطة موضعاً للشبهات والشكوك؛ قام (بايك) بإعادة تنظيم الماسونية حسب أسس مذهبية جديدة، فأسَّس ثلاثة مجالس عليا: في شارلستون بأمريكا، وفي روما، وفي برلين، وعهد إلى (مازيني) - الذي اختير عام 1834م ليكون منفذاً لبرنامجهم في إثارة الاضطرابات في العالم – بتأسيس عشرين مجلساً آخر، موزعة على المراكز الرئيسة في كل أرجاء العالم، وأصبحت تلك المجالس - منذئذٍ وحتى الآن - مراكز القيادة العامة السرية للمؤامرة الصهيونية العالمية، وكان مخطط (بايك) يسيراً وشديد الفاعليَّة، ويقتضي تنظيم الحركات العالمية الثلاث: الشيوعية، والنازية، والصهيونية السياسية.
أما الحرب العالمية الأولى: فكان الهدف منها إتاحة المجال لليهود للإطاحة بحكم القياصرة فى روسيا، وجعل تلك المنطقة معقلاً للحركة الشيوعية الإلحادية، وقاموا بالتمهيد لهذه الحرب بواسطة الخلافات بين الإمبراطوريتين البريطانية والألمانية، وجاء بعد انتهاء الحرب بناء الشيوعية مذهباً، واستخدامها لنسف ما يمكن نسفه من الحكومات والدول، وتدمير المعتقدات الروحية للشعوب.
النازية والصهيونية السياسية:(/5)
وأما الحرب العالمية الثانية: فقد مهدت لها الخلافات بين الفاشيين وبين الحركة الصهيونية السياسية، وكان المخطط المرسوم لهذه الحرب أن تنتهي بتدمير النازية، وازدياد سلطان الصهيونية العالمية، حتى تتمكن أخيراً من إقامة (إسرائيل) في فلسطين، كما كان الهدف منها أيضاً: دعم الشيوعية العالمية، حتى تصل إلى مرحلة تعادل فيها قوتها مجموع قوى العالم المسيحي الغربي، ويقتضي المخطط إذ ذاك إيقاف الشيوعية عند هذا الحدّ، حتى يبدأ العمل في المرحلة التالية، وهي التمهيد للكارثة الإنسانية الكونية الثالثة والنهائية.
حرب عالمية ثالثة:
وقد رسم المخطط الصهيوني لحرب عالمية ثالثة تنشب بين اليهود والمسلمين، نتيجة النزاع الذي يثيره اليهود بين الصهيونية السياسية والعالم الإسلامي، ويقضي المخطط المرسوم بأن تُقاد هذه الحرب وتوجَّه لتحطيم العالم العربي - ومن ورائه - الإسلام ذاته.
وإذا نظرنا إلى مجريات الأحداث خلال القرن العشرين؛ فإننا نجد أن خطة اليهود التي وضعها (وايز) قد تحققت، فقد تحطمت الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية الألمانية، وسقطت إنكلترا وفرنسا إلى دول من الدرجة الثالثة، وسقطت الرؤوس المتوجة في العالم كله، وقسم العالم مرَّتين إلى معسكرَيْن متنازعَيْن؛ نتيجة الدعايات التي بثها اليهود، واشتعلت نيران حربَيْن عالميتَيْن، سفك فيها العالم المسيحي الغربي بعضه دماء بعض.
أما الثورات الثلاث: فقد نشبت منها ثورتان في روسيا والصين، وجرى تنمية الشيوعية وتقويتها، حتى أصبحت معادلة في القوى لمجموع العالم المسيحي الغربي، وعندما قامت بالدور المرسوم لها سقطت في النهاية، وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى دويلات.(/6)
وأما في الشرقين الأدنى والأوسط: فإن الصهيونية تنفِّذ الآن مخطط المؤامرة الرامي إلى الإعداد للحرب العالمية الثالثة في تلك المنطقة، وإذا لم يحدث الآن إيقاف الكارثة الشاملة، عن طريق إعلام الرأي العام العالمي، وحمله على الضغط الشديد لإيقاف المؤامرة الصهيونية؛ فإن الكارثة العالمية النهائية قادمة لا محالة.
والمهم في النهاية: أن يعيَ المسلمون ما يُدبَّر لهم من مؤامرات على أيدي اليهود؛ فالصهاينة يجيدون التخطيط لأهدافهم، وتنفيذ ما وضعوه من مخططات، ونحن المسلمين - وللأسف الشديد - لا نجيد التخطيط ولا التنفيذ، وقد تجد من بيننا مَنْ يسالم اليهود، ويضع يده في أيديهم الملطخة بدماء البشر، ومَنْ يحمل عضوية منظماتهم المشبوهة؛ مثل الماسونية، وما يتبعها من أندية؛ مثل الروتاري والليونز؛ بل أخطر من ذلك: أن يقع بعض حكام العرب والمسلمين في شَرَك اليهود، ويوصموا بالعمالة لهم، والإسهام في تنفيذ مخططاتهم!! فهل لنا من صحوة ويقظة إسلامية، يصحو فيها النائم، وينتبه الغافل، ويعود الشارد إلى حظيرة الإسلام؛ لكي نستطيع الوقوف في وجه اليهود ومخططاتهم التي تستهدفنا، نحن دون غيرنا من أمم الأرض؟.(/7)
العنوان: اليومُ الضّاحكُ!
رقم المقالة: 1155
صاحب المقالة: حسين بن رشود العفنان
-----------------------------------------
أسفرتْ في محاجرِها دمعةٌ خرساءُ..
أغلقتِ البابَ خلفَها بقوةٍ!
علمتْ أنّها هوتْ في بئرٍ لا قرارةَ لها..
كم كانتْ تحلمُ..!
كم كانتْ تُخادع نَفْسها...!!
لم يأتِ ذلكَ اليومُ الضَّاحكُ، الذي تحلمُ بتباشيرِهِ صباحَ مساءَ..!
صبرُها، وتحملُها في المَدرسةِ.. أينَ تولَّى؟!
ألم تكنْ منارةً للجَميعِ؟!
ألمْ تنصحْ صديقتَها (عبيرَ) بالعَودةِ إلى (ابنِ عمِها) الذي تعيشُ مَعَه السَّاعةَ حياةً حالمةً؛ (حَامدٍ) الذي طافَ بها أرْجَاءَ العَالمِ، وغدًا سينقلُها إلى دَارةٍ فسيحةٍ، لها فِيها مِن كلِّ السَّعاداتِ..!
فتماطرتْ دمعاتُها، وحملتْ حقيبتَها مُتمتمةً:
(وَأنا...وَأنا مَازلتُ حَبيسةَ شُقتِه وَأخْلاقِه الضَّيقتينِ)!!
فأضاءَ جَوالُها برسالةٍ مزقتْ حَديثَ نَفْسِها:
(حبيبتي سارةُ، الطَّعامُ سيبردُ، فأنا لا أطيقُ الجلوسَ منفردًا)!!.(/1)
العنوان: أم الحمام
رقم المقالة: 127
صاحب المقالة: كامل كيلاني
-----------------------------------------
أم الحمام مرة قالت لهم: ((لا تخرجوا))
قالت لهم في عشها قالت لهم: ((لا تخرجوا))
فضحكوا من قولها ولم يبالوا بالخطر
وخرجوا من عشهم ولم يبالوا بالخطر
لكن أتاهم ثعلب فأكل الحمائما
رأى المكان خاليا فأكل الحمائما
هذا جزاء كل من يعصُون أمر أمهم
قد هلكوا لأنهم يعصون أمر أمهم(/1)
العنوان: أُمُّ زَرْع.. والزوجةُ الوفية في تراثنا الإسلامي
رقم المقالة: 1152
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
وفاءُ كلٍّ من الزوجين للآخر من الأخلاق الإسلامية العظيمة التي تجسد ما في الحياة الزوجية من مودة ورحمة وسكن، وقد وجدنا في تراثنا العربي والإسلامي نماذجَ رائعة لهذا الوفاء، وخاصة من قبل المرأة.
فعندما مات الأحنف بن قيس بالكوفة عام 67هـ، وهو سيد تميم، وكان معروفا بالعقل والدهاء والعلم والحلم وحسن البيان، وكانت حياته مملوءة بجلائل الأعمال، وقفت زوجته وابنة عمه على قبره، ورَثَتْه قائلة:
"لله دَرُّك مِن مُجَنّ في جنن، ومُدرج في كفن، فنسأل الذي فجعنا بموتك وابتلانا بفقدك أن يجعل سبيل الخير سبيلَك، ودليل الرشد دليلَك، وأن يوسع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك، فوالله لقد كنتَ في المحافل شريفا، وعلى الأرامل عطوفا، ولقد كنت في الحي مُسَوَّدًا، وإلى الخليفة مُوفدًا. ولقد كانوا لقولك مستمعين ولرأيك متبعين.
ثم أقبلت على الناس فقالت: ألا إن أولياء الله في بلاده شهود عباده، وإني لقائلة حقا، ومثنية صدقا، وهو أهل لحسن الثناء، وطيب البقاء؛ أما والذي كنت من أجله في عِدّة، ومن الحياة إلى مُدّة، ومن المقدار إلى غاية، ومن الآثار إلى نهاية، الذي رفع عملك، لما قضى أجلك، لقد عشت حميدًا مودودًا، ومت سعيدًا مفقودًا، ثم انصرفت وهي تقول:
لله درك يا أبا بحرِ ماذا تغيَّبَ منك في القبرِ
لله درك أيَّ حشوِ ثرى أصبحتَ من عُرْفٍ ومن نكرِ
إن كان دهرٌ فيك جدَّ لنا حدثانه ووهت قوى الصبرِ
فلَكَمْ يدٍ أسديتها ويد كانت ترد جرائر الدهرِ
فقال الناس: ما سمعنا كلامَ امرأة قط أصدق ولا أبلغ منه.
• حديث أم زرع:(/1)
ولقد اشتهر في السنة النبوية حديث "أم زرع"، وهو حديث طويل روته السيدة عائشة –رضي الله عنها- ويقدم صورة بلاغية لما كان عليه النساء في الجاهلية، من الوفاء للزوج، أو عدم الوفاء له، وأحوال الرجال معهن من حيث الكرم واللطف ورعاية الحقوق والمعاملة الطيبة تارة، ومن حيث القسوة والعنف وغلظ الطباع وسوء العشرة تارة أخرى.
ومن يقرأ هذا الحديث، لا بد أن يستعين بمعاجم اللغة العربية لكي يفهم معانيه، وما يتضمنه من ألفاظ وأوصاف بلاغية، تدل على المستوى اللغوي الرفيع الذي وصل إليه عرب الجاهلية رجالا ونساء على حد سواء، وسبب هذا الحديث -كما ذكر علماء السنة، ومنهم الإمام النسائي، الذي اشترك في روايته مع الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما-: قالت عائشة: "فخرتُ بمال أبي في الجاهلية، وكان ألف ألف أوقية، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم–: "اسكتي يا عائشة، فإني كنت لك كأبي زرع لأم زرع"، وقيل: سبب الحديث أن عائشة وفاطمة جرى بينهما كلام، فدخل رسول الله –صلى الله عليه وسلم– فقال: "ما أنت بمنتهية يا حميراء عن ابنتي. إن مثلي ومثلك كأبي زرع مع أم زرع" فقالت: يا رسول الله حدثنا عنهما، فقال: كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة، وكان الرجال خلوفا، فقلن: تعالين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب… وقيل: إن هذه القرية كانت باليمن، وقيل: إنهن كن بمكة، وقيل: إنهن كن في الجاهلية.
تقول السيدة عائشة –رضي الله عنها–: "جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئاً.
قَالَتِ الأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٌّ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لاَ سَهْلٍ فَيُرْتَقَى، وَلاَ سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ.
قَالَتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لاَ أَبُثُّ خَبَرَهُ، إِنِّى أَخَافُ أَنْ لاَ أَذَرَهُ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ.(/2)
قَالَتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ؛ إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ.
قَالَتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ؛ لاَ حَرٌّ، وَلاَ قُرٌّ، وَلاَ مَخَافَةَ، وَلاَ سَآمَةَ.
قَالَتِ الْخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ.
قَالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ، وَلاَ يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ.
قَالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَيَايَاءُ -أَوْ عَيَايَاءُ- طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ؛ شَجَّكِ، أَوْ فَلَّكِ، أَوْ جَمَعَ كُلاًّ لَكِ.
قَالَتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ.
قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ.
قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ، مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ قَلِيلاَتُ الْمَسَارِحِ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ.(/3)
قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ، فَمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ، وَمَلأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ، وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَجَدَنِي فِى أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِي فِى أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدائِسٍ وَمُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلاَ أُقَبَّحُ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ، أُمُّ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ؟ عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ، ابْنُ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ؟ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ، بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ؟ طَوْعُ أَبِيهَا، وَطَوْعُ أُمِّهَا، وَمِلْءُ كِسَائِهَا، وَغَيْظُ جَارَتِهَا، جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ؟ لاَ تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثاً، وَلاَ تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثاً، وَلاَ تَمْلأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشاً.
قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالأَوْطَابُ تُمْخَضُ، فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ، يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلاً سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيٍّا، وَأَخَذَ خَطِّيًّا، وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَماً ثَرِيًّا، وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجاً، وَقَالَ: كُلِي أُمَّ زَرْعٍ، وَمِيرِي أَهْلَكِ. قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَىْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ)).
• مجالس النساء:(/4)
وهذا الحديث البلاغي يعبر عن مجلس من مجالس النميمة، التي كان النساء يعقدنها في الجاهلية، وخاصة نساء الطبقة المترفة، اللاتي يعشن فراغا لا يستطعن ملأه إلا بهذه المجالس، فامرأة العزيز فعلت ما فعلت مع نبي الله يوسف، من محاولات الغواية والكيد له بالسجن بضع سنين، لما كانت تعيشه من فراغ، والنسوة اللاتي أشَعْن خبرها كن يعشن فراغا أيضا، ولذلك راودن يوسف عن نفسه، عندما أعدت لهن مجلسا، وأخرجت يوسف عليهن ليرين ما هو عليه من الجمال، قال الله –تعالى- عن هذا الموقف: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 30-31].(/5)
وهكذا كانت تتعدد مجالس النساء في الجاهلية وعصور ما قبل الإسلام، ومنها هذا المجلس الذي شاركت فيه إحدى عشرة امرأة، وروته السيدة عائشة، وهي تتحدث مع النبي -صلى الله عليه وسلم- والحديث يبين الأساليب المختلفة للرجال في سياسة النساء ومعاشرتهن، ولا شك أن الإسلام يدعو الرجل إلى مباسطة زوجته ومسامرتها ولين الجانب لها، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك مع زوجاته، وكان يسابق السيدة عائشة وتسابقه، فتغلبه مرة ويغلبها أخري، ويقول لها: هذه بتلك، وهو -صلى الله عليه وسلم- القائل: "كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا تأديبه فرسه ورميه عن قوسه وملاعبته أهله"، وقيل لرجل من الأعراب كان يجمع الضرائر: كيف تقدر على جمعهن؟ قال: كان لنا شباب يصبّرهن علينا، ثم كان لنا مال يصبّرهن لنا، ثم بقي لنا خلق حسن، فنحن نتعاشر به ونتعايش.
وإذا وقفنا عند كل امرأة ممن تحدثن في حديث "أم زرع" لنرى كيف تصف زوجها، نجد الأولى غير راضية عن زوجها لسوء خلقه وغلظة طباعه، فهي تشبهه بلحم الجمل الغث الذي تعافه النفس، وتشبه سوء خلقه بالجبل الوعر، وليته كان مع غثاثته متاحا سهل المرتقى، بل هو على رأس جبل صعب المطلع، ولذلك فهي تفقد الأمل في زوجها لعيوبه الظاهرة والباطنة وسوء عشرته لها، فهو شديد البخل سيء الخلق ميئوس منه.
أما المرأة الثانية، فلا يختلف زوجها عن زوج المرأة الأولي، فتقول: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذره، أي أنها -لسوء معشره وكثرة مثالبه- تخاف أن تطيل في حديثها عنه وعن صفاته القبيحة ولا تترك من خبره شيئا، وهي تكتفي بالإشارة إلى معايبه، فتقول: إن أذكره أذكر عجره وبجره، والعجر هو تعقد العروق والعصب في الجسد، والبجر كالعجر إلا أنه مختص بالبطن، وهي بذلك أرادت ذكر عيوبه الظاهرة والباطنة، وأن زوجها كثير المعايب معقد النفس عن المكارم.(/6)
وأما المرأة الثالثة، فزوجها في نظرها "عشنق"، وهو المفرط الطول، فله منظر بلا مخبر، وهو سيء الخلق، ولا تستطيع أن تذكر عنه أكثر من ذلك فتقول "إن أنطق أطلق وان أسكت أعلق"، فهي إن ذكرت عيوبه وبلغه ذلك طلقها، وإن سكتت عنها فهي عنده معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة، وهي مع ذلك متعلقة به وتحبه مع سوء خلقه.
ولكن الأمر يختلف مع المرأة الرابعة التي أخذت تمتدح خصال زوجها الحميدة وجميل عشرته لها، فهي تصفه كليل تهامة، وتهامة بلاد حارة في معظم السنة، وليس فيها رياح بارد، فيطيب الليل لأهلها بالنسبة لما كانوا فيه من أذى حرارتها، فقد وصفت زوجها بجميل العشرة واعتدال الحال، وسلامة الباطن، فلا أذى عنده ولا مكروه، وهي تلذ العيش معه كلذة أهل تهامة بليلهم المعتدل.
وأما المرأة الخامسة، فقد امتدحت هي أيضا خصال زوجها الحميدة وعبرت عن سعادتها معه، فقالت: "زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد"، فقد شبهته بالفهد عند دخوله البيت، من حيث الحياء وقلة الشره وكثرة النوم والوثوب، وإذا خرج من البيت كان أسدا بين الناس، تهابه العامة، ويتغلب على عدوه، وهو شديد الكرم، كثير التسامح، لا يتفقد ما ذهب من ماله ولا يسأل عنه.
• ذم الأزواج:
وبعد أن انقلب الحال من الذم إلى المدح، عاد المجلس إلى ذم الأزواج مرة أخري مع المرأة السادسة والسابعة، فكل منهما تعاني سيء الخصال من زوجها معها، فالسادسة تعاني زوجا لا يهتم بها ولا يراعي شعورها كامرأة، فتقول: "زوجي إذا أكل لف" أي أكثر من الطعام لما لديه من نهم وشره للأكل، "وإن شرب اشتف" أي لا يبقي على شيء مما يشرب، "وإن اضطجع التف" أي يعرض عن أهله عند النوم ويلتف بكسائه وحده، "ولا يولج الكف ليعلم البث" أي أنه لا يمس زوجته ولا يلاطفها ولا يسامرها، ويشبع حاجتها إلى الرجل، ولذلك فهي حزينة لذلك، وتشكو بثها وحزنها من رجل لا يفهم طبيعة المرأة.(/7)
وأما المرأة السابعة فإنها تعيش مع زوج غليظ الطباع، تجتمع فيه كل عيوب الرجال، فهو أحمق، ثقيل الصدر، عاجز عن النساء، وكل داء تفرق في الناس فهو فيه "كل داء له داء"، ومع ذلك فهو ضروب للنساء، وإذا ضرب إما أن يشج الرأس أو يكسر العظم، أو يجمع بين الشج والكسر، "شجك أو فلك أو جمع كلا لك".
• طبائع محببة للنساء:
وننتقل مع المرأة الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة لنرى صورا من طبائع الرجال وأخلاقهم المحببة إلى النساء، فكل منهما تقدم أوصافا لزوج كريم المعشر، حسن الخلق، يحترم في المرأة أنوثتها، ويلبي رغباتها، فالمرأة الثامنة تقول: "زوجي المس مس أرنب والريح ريح زرنب" دلالة على رفقه مع المرأة وطيب معاملته لها، فهو كريم الأخلاق، طيب الرائحة.
وتقول التاسعة: "زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد"، فهي تصف بيته بالعلو، وهو من بيوت الأشراف التي يضربونها في المواضع المرتفعة، وهو رجل شجاع كريم، يكثر رماده من كثرة النار التي يوقدها لإكرام الضيوف، وبيته وسط الناس ليسهل لقاؤه، فهو لا يحتجب عن أحد.
وتقول العاشرة تصف زوجها مالكا: "زوجي مالك، وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك" إن زوجها رجل كريم، يحسن استقبال ضيوفه ويكرم وفادتهم، له إبل كثيرة لا تخرج إلى المرعى إلا قليلا استعدادا لنحرهن للضيوف، وإذا سمعن صوت العود والمزمار الذي يستقبل به ضيوفه أيقن أنها هوالك، وأنها ستذبح للضيوف.
• وفاء بعد فراق:
ونصل إلى المرأة الحادية عشرة، وهي أم زرع التي سمي الحديث باسمها، لنرى وفاء المرأة لزوجها الأول في أعلى صوره، فقد أطالت في وصف زوجها وأمه وولده وابنته وجاريته، على الرغم من أنه قد طلقها وتزوج غيرها، إلا أنها -وقد تزوجت غيره من الرجال- لم تنس حسن معشره وإكرامه لها ودماثة خلقه، وأخذت تعددها للنساء.(/8)
تقول: "زوجي أبو زرع، فما أبو زرع؟ أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي"، فقد أثقل أذنيها بأقراط الذهب والحلي واللؤلؤ، وكثرت نعمه عليها حتى سمن جسمها، وعظَّمها فعظمت إليها نفسها، ثم تقول -مبينة التحول الذي حدث لها من أبي زرع الذي نقلها من الضيق إلى السعة ومن الفقر إلى الغنى-: "وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح"، فقد وجدها في أهل غنم يعيشون حياة شاقة، فنقلها إلى أهل خيل وإبل وطعام شهي، وفي بيته كانت تقول فلا يرد لها قولا، وكانت تنام فلا يوقظها أحد، إذ عنده ما يكفيها مؤنة بيتها وأهلها، وكانت تشرب على مهل حتى ترتوي.
ثم تصف أم أبي زرع بأنها كثيرة الآلات والأثاث والمتاع، واسعة المال، كبيرة البيت، وتصف ابن زوجها من امرأة أخرى بأنه خفيف الوطأة عليها، فإذا دخل بيتها وقت القيلولة مثلا لا يضطجع إلا قدرا يسيرا، وأنه لا يحتاج طعاما من عندها، ولو طعم لاكتفى باليسير الذي يسد الرمق من المأكول والمشروب، فهو ظريف لطيف.
وتصف بنت أبي زرع فتقول: "بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها، وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها" فهي بارة بأبويها، مطيعة لهما، كاملة الجسد والشخصية، وأنها تغيظ جارتها لما ترى عليها من أثر النعمة والخير. وحتى جارية أبي زرع توفرت فيها صفات حميدة، فهي لا تفشي سر بيته، وتحافظ على ماله، ولا تخونه في شيء.(/9)
ثم تتحدث أم زرع عن الانقلاب الذي حدث في حياتها مع أبي زرع عندما رأى امرأة ولودا لها طفلان كالفهدين يلعبان تحت خصرها، فطلق أم زرع وتزوجها رغبة في الولد، إذ كانت أم زرع عقيما، فتزوجت أم زرع رجلا غيره من الأثرياء الشرفاء، فأكرمها وأعطاها من كل الخيرات أصنافا وأزواجا، ووسع عليها وعلى أهلها، ولكنها لم تنس زوجها الأول وما زالت تذكر فضله وكرمه وفاء له، فتقول: "فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع".
وينتهي الحديث بقول النبي –صلى الله عليه وسلم– لعائشة -وقد أعجبها صنيعُ أبي زرع مع أم زرع-: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" وفي رواية ".. إلا أنه طلقها، وإني لا أطلقك" وزاد النسائي قول عائشة: "يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع".(/10)
العنوان: أمٌ مؤمنة
رقم المقالة: 1587
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
هذه القصة تناسب خطب الجمعة في موضوعات: التوكل على الله - القدر - المرض - الابتلاء - الصبر - الشكر - الرضا - قدرة الله - القرآن - الموت.
طبيب يقص قصة واقعية حدثتْ أمامه:
امرأة أجريت لابنها عملية في القلب، طفل عمره سنتان ونصف، وبعد يومين من العملية، وابنها بصحة جيدة، وإذا به يُصاب بنزيف من الحنجرة، أدى إلى توقف قلبه 45 دقيقة. قال لها أحد الزملاء: احتمال أن يكون ابنك مات دماغيًّا، وأظن أنه ليس له أمل في الحياة. أتعلمون ماذا قالت؟ قالت: الشافي الله، المعافي الله، أسأل الله إن كان له خير في الشفاء أن يشفيه، ولم تقُل غيرها! ثم استدارت وأخذت مصحفها الصغير الأزرق، وجلستْ تقرأ عليه. وهذا حالها إلى أن بدأ يتحرك، وعندما بدأ يتحرك - الحمد لله - حمدنا الله على هذا، وفي ثاني يوم يأتيه نزيف شديد، مثل نزيفه الأول، ويتوقف قلبه، ويتكرر هذا النزيف ست مرات، ونقول لها: إن ابنك مات دماغيًّا، وهي تقول: الحمد لله الشافي ربي، هو المعافي، وتُعيد كلماتها، ثم تنصرف، وتقرأ عليه، وبعد أن سيطر أطباء القصبة الهوائية على النزيف بعد ستة أسابيع، إذا به يُبتلى بخرَّاج كبير، والتهابٍ في الدماغ، قلنا: ابنك وضعه حرِج جدًّا، وحالته شديدة الخطورة.
قلنا لها هذا الكلام، فردَّتْ: الشافي هو الله، وانصرفتْ تقرأ عليه القرآن، فَبَرِئَ من هذا الخرَّاج الكبير بعد أسبوعين.(/1)
وبعد أسبوع من شفائه من الخراج الذي أصاب دماغه، إذا به يصاب بتوقف والتهاب حاد بالكلى، أدى إلى فشل كلوي حاد، كاد أن يميته، والأم ما زالت متماسكة، متوكلة، منطرحة على ربها، وتردد الشافي هو الله، ثم تذهب وتقرأ من مصحفها عليه، بعد أن تحسنتْ كليتاه، يُصاب بمرض عجيب - لم أرَه في حياتي - بعد أربعة أشهر من العملية، يُصاب بالتهاب في الغشاء البلوري المحيط بالقلب، مما اضطر إلى فتح القفص الصدري، وترْكه مفتوحًا ليخرج الصديد، ووالدته تردد: أسأل الله أن يشفيه، هو الشافي المعافي، وتنصرف عنا. وبعد ستة أشهر في الإنعاش، يخرج ابنها من الإنعاش لا يَرى، لا يتكلم، لا يتحرك، وصدُره مفتوح، وظَنَنَّا أن هذه نهايته وخاتمته، توقف قلبه خمس أوست مرات، المهم.. هذه المرأة استمرت - كما هي - تقرأ القرآن، صابرة، لم تشتكِ إلا لله، ولم تتضجر - كعادة كثير من مرافقي المرضى الذين أدت حالتهم الصحية لأن يمكثوا في الإنعاش لفترة طويله - والله يا إخوان ما كلمتني بكلمة واحدة، لا هي ولا زوجها، وكلما هَمَّ زوجُها بالسؤال تحاول أن تهدئه، أو ترفع من معنوياته، وتذكره بأن الشافي الله، المهم.. بعد شهرين بعد أن حوَّلْنا الطفل لقسم الأطفال، ذهب الطفل إلى بيته ماشيًا، يرى ويتكلم؛ كأنه لم يصب بشيء من قبل. لم تنتهِ القصة.. العجيب ما رأيته بعد سنة ونصف من هذه المرأة، رأيتها هي وزوجها حضروا للسلام عليَّ؛ لأن عندهم موعدًا للطفل، والطفل طبيعي، بصحة جيدة، وجدتها تحمل طفلاً صغيرًا عمره شهرين، قلت للزوج: ما شاء لله، هذا الرضيع رقمُه ستة أو سبعة في العائلة، فردَّ الزوج: هذا الثاني، الولد الأول، الذي عالجتَه، جاءنا بعد 17 عامًا من الزواج، والعلاج من العقم. انظروا يا إخوان امرأة بعد 17 عامًا من الصبر والعقم ترزق ابنًا، وهذا الابن يكاد أن يموت أمامها مرات ومرات، وهي لا تعرف إلاَّ لا إله إلا الله، الله الشافي المعافي!! أي اتكال وأي امرأة هذه؟!(/2)
الإيمان يا إخوان، الإيمان والاحتساب هذا ما نريده، وهذا ما نفقده اليوم إلا فيمن رَحِمَ ربي!
للأسف يجيء المريض يعمل العملية، وهو قلق خائف، نادر منهم المتكل على الله، بالأمس أحدُ مرضاي أقلقني، أنا خفت من كثرة قلقه، ينتفض وحالتُه يرثى لها، مع أنه أستاذ جامعي وله مركز! قضية الاتكال عندنا تحتاج وجهة نظر، تعرفون السبب؟ السبب صلاتنا، سببه أننا لا نقوم الليل، سببها إيماننا قليل، نخاف من الموت؛ لأن أعمالنا قليلة، وذنوبنا كثيرة؛ فلذا نحن نظن أننا لسنا مستعدين للموت.(/3)
العنوان: أماكن... ولكن!!
رقم المقالة: 1356
صاحب المقالة: د. محمد سليمان صعنون
-----------------------------------------
في مجمع رغْدان[1] لا كرامة للإنسان!
فيه كل فقير، وحاقد، وكاره، وشيطان..
فيه أرامل بلدي، وليس فيه فضل لحيتان...
رأيته يتأمل في نفسه، يلْبَسُ بِذْلة الكتان، ونعلاً مطوية -كسفينة على بحر- منسية، وقميص مفتوح الأزرار، يمسك (سيجارة) ساقطة الأركان، يرفعها بشفتيه، يسقطها أرضاً بعد أن لعبت بشاربيه! داسها كأنما يداس إنسان...
في نصف ضحكتي من فعله؛ أيقظني من خلفي ذو الرقم السبعين:
قال: تقدم!
قلت: إلى ماذا؟!
قال: إلى طابور الموت، يا حزين!!
هنا أنت، في رغْدان، الذي يهان فيه الإنسان!!
هل تعي؟ لا تقل: "حتى بلَّ دمعي مِحْمَلي!"[2]؛ فكل من حولَك طمي. وكلٌّ مِن هؤلاء -صغيرهم وكبيرهم- عمي.
ليتني خباز!
تقصد حطاباً؟!
لا! خبازاً.. ليس كما قال شاعرك: حطاباً!
لمَ؟!
لأطعم هذه الجموع بيدي، وأدور بها الأرضَ، كلَّ الأرض، على كتفي. فليس بينهم حاقد، أو كاره، أوشيطان. بل إنه الفقر؛ يصنع الهوان...
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] مجمع رغدان: هو مجمع تجاري في الأردن، يجمع المتناقضات الحسيه؛ إذ يتميز الأشخاص الذين يغشونه بأنهم من ذوي الدخل المحدود، ويحملون هم لقمة العيش..
[2] المِحْمل: علاَّقة السيف، وقوله: "حتى بل دمعي محملي" هو من قول امرئ القيس في معلقته:
فَفَاضَتْ دُموعُ العَينِ منِّي صَبابةً على النَّحْرِ حتَّى بَلَّ دَمعيَ مِحْمَلي
(التحرير)(/1)
العنوان: إمام أهل السنة والجماعة
رقم المقالة: 1298
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها الناس:(/1)
فَسِيَرُ الصالحين مدرسة أسسها القرآن، ووعتها السنة، وحفظتها كتب التاريخ. ومعنا في هذا اليوم، عَلَمٌ من الأعلام، وصالح من الصالحين، وإمام من الأئمة؛ بل إمام الدنيا، وحافظ العصر، أحفظ أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحديث الشريف، حفظ التاريخ سيرته، وأحبته القلوب لصلابته في السنة، ودفاعه عنها، وما أظن أن هناك مسلمًا يصلي خمس صلوات في اليوم والليلة إلا ويعرف هذا الإمام، حتى أعداؤه من الكفار والمنافقين يعرفونه إلى قيام الساعة إنه الإمام المبجّل أحمد بن حنبل، إمام السنة، الواقف يوم المحنة، الزاهد فيما سوى الله، المتقن للحديث، فمن هو الإمام أحمد؟ عَلَّنا نقتدي بشيء من سيرته، فإن لم نستطع فلنحبه في الله، فإن المرء مع مَنْ أحبَّ يوم القيامة[1]، ((والرجل على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل))[2] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21].
أَحَبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْتُ مِنْهُمْ لعلِّي أَنْ أنالَ بهم شفاعهْ
وأَكْرَهُ مَنْ تجارتُه المعاصي وإِن كنَّا سواءً في البضاعهْ
ولد الإمام أحمد في آخر القرن الثاني، وعاش في بيت فقير، مات أبوه وهو طفل، فتكفَّلت أمه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة بتربيته، وهذا دور المرأة يوم أن تكون صالحة، يوم أن تكون ذاكرة لله – عز وجل – يوم أن تكون مستقيمة على أمر الله، ينشأ أطفالها على لا إله إلا الله، فيحبون الله، ويحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون كتاب الله، ويتعلقون ببيوت الله.
قال الإمام أحمد – رحمه الله -: فحفَّظَتني أمي القرآن وعمري عشر سنوات، حفظ كتاب الله واستوعاه في صدره، ففرّت الوساوس والشياطين من صدره، فأصبح عابدًا لله، محافظًا على أوامره، منتهيًا عن نواهيه، علمته أمه الفضيلة، وربته على التقوى.(/2)
قال أحمد – رحمه الله -: كانت أمي تلبسني اللباس، وتوقظني، وتحمي لي الماء قبل صلاة الفجر، وأنا ابن عشر سنوات، وكانت تختمر وتتغطى بحجابها وتذهب معه إلى المسجد؛ لأن المسجد بعيد؛ ولأن الطريق مظلمة. فانظر إلى هذه المرأة الصالحة، وما تبذله من جهد وتعب حتى يصبح ولدها من عباد الله الصالحين وليس ممن استهوته الشياطين في الأرض حيران.
عاش الإمام أحمد في هذا الجو الطاهر، وفي هذه الأجواء النقية، في بيت كلُّ همِه أن يعبد الله – عز وجل – وأن يكون هذا الغلام عبدًا خالصًا لله، قال: فلما بلغتُ السادسة عشرة من عمري، قالت لي أمي: اذهب في طلب الحديث، سافر فإن السفر في طلب الحديث هجرة إلى الله الواحد الأحد. قال: فأعطتني متاعَ السفر، أتدرون ماذا أعطته من الزاد؟ كم أعطته من الألوفِ؟ كم أعطته من الدراهم والدنانير؟ ما كانت تملك شيئًا .. صنعت له ما يقارب عشرة من أرغفة الشعير، عشرة من الأقراص اليابسة، ووضعتها في جراب من قماش وأعطتها إياه، ووضعت معه صُرَّة ملح وقالت: يا بني إن الله إذا استودع شيئًا لا يضيعه أبدًا، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، فذهب من عندها من بغداد، من عاصمة الدنيا، من دار السلام، لماذا ذهب؟ أذهب للسياحة كما يفعل اللاهون اللاغون؟ أم ذهب إلى تسلية الأوقات والتزحلق على الثلج في عواصم بلاد العهر والفجور؟ لا إنما ذهب يبحث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوب الدنيا من أجل ميراث محمد عليه الصلاة والسلام، ذهب إلى جناب المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى مكة والمدينة:
مَنْ زَارَ بابَكَ لم تبرَحْ جَوَارِحُهُ تروي أحاديثَ ما أوْلَيْتَ من مِنَنِ
فالعينُ عن مُرَّةٍ والكفُّ عن صِلَةٍ والقلبُ عن جابر والسَّمعُ عن حسنِ(/3)
فذهب = رضي الله عنه وأرضاه – قال: مضيتُ من بغداد إلى مكة، فضِعْتُ في الطريق ثلاث مرات، فكنت كلما ضِعتُ استغفرت الله ودعوته، وقلت: يا دليل الحائرين دلّني، قال: فوالله ما أنتهي من كلامي إلا ويدلني دليلُ الحائرين على الطريق!!
من هو دليل الحائرين؟ إنه الله، من هو ملجأ الخائفين؟ إنه الله، من هو مناص العارفين؟ إنه الله، فكان كلما ضاع في الصحراء التجأ إلى الله، ما عنده علامات ولا خرائط، ما هناك مواصلات ما هناك نقل ولا خطوط، صحراء يبيد فيها كل شيء، ويضيع فيها الذكي قبل البليد، فضاع الإمام أحمد؛ ولكن الله لم يضيعه، هداه إلى الطريق؛ لأنه توجه إليه بالدعاء والتضرع، احفظ الله يحفظك، فلما حفظ الله، حفظه الله في سمعه وجوارحه ودينه ومستقبله وسمعته إلى يوم القيامة، وحفظ الله اسمه للملايين، عند مسلمي الصين واليابان والملايو والعراق والجزيرة ومصر وسوريا والجزائر ومسلمي أمريكا، كلهم يسمعون بأحمد بن حنبل؛ لأنه حفظ الله، ثم وصل إلى مكة، فأخذ حديث مكة، وبعدها سافر إلى اليمن، إلى صنعاء اليمن إلى عبدالرزاق بن همام الصنعاني يطلب الحديث، وبينما هو في طريقه، ضاع مرة رابعة، قال: وانتهت نفقتي من الخبز، أما الدراهم فما كان عندي دراهم، فماذا فعل؟ قال: نزلت إلى قوم أهل مزارع يحصدون ويصرمون، فأجَّرت منهم نفسي ثلاثة أيام، يا سبحان الله! إمام الأئمة، الذي يحفظ ألف ألف حديث، كما يقول الذهبي وابن كثير، يحفظ مليون حديث؛ بل ما حفظ من الأمة أبدًا أحدٌ كما حفظ ابن حنبل يؤجر نفسه من الحصَّادين، فيحصدُ معهم، ووصل بحفظ الله إلى صنعاء، وأخذ الأحاديث النبوية، وكتبها، كان يسهر الليل حتى الفجر، ويصوم النهار حتى الغروب. قال ابنه عبد الله: كان أبي يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمئة ركعة!! انظروا تذكرة الحُفَّاظ للذهبي، وسِيَر أعلام النبلاء له أيضًا، والبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ بغداد للخطيب، وتاريخ دمشق(/4)
لابن عساكر، كلها أجمعت على أنه كان يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمئة ركعة، وكان يسرد الصوم إلا في بعض الأيام.
وصل إلى صنعاء، فقُدِّم له جوائز من السلطان ومن الأغنياء، فرفض وأبى، وقال: أعمل بيدي، فاشتغل في بعض الصناعات بيده، حتى أعطاه الله بعض الأسباب، وبعض النقود، ثم عاد إلى بغداد.
أما علمه – رحمه الله – فهو البحر. وَحَدِّث عن البحر ولا حرج: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} [البقرة: 282].
العلم ليس بالمؤسسات، ولا بالشهادات، ولا بالجامعات، العلم تقوى الله، العلم من الحيِّ القيوم، يقول عز من قائل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقال الله لإبراهيم: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]. ويقول عن سليمان: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]. فالفهم من الله، والعلم من الله، والفقه من الله، والذكاء من الله، فيا من اغتر بشهادته، أو بمستواه، أو بمنصبه، والله ما تغني هذه الأمور عند الله جناح بعوضة، العلم أن تتعلَّم وتعمل وتعلِّم الناس، سواء كانت عندك شهادة أو لم يكن، سواء تعلَّمت في مدرسة أو لم تتعلَّم: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} [البقرة: 282].
فعَلَّمَ الله الإمام أحمد فحفظ ألف ألف حديث مع القرآن، مليون حديث يستحضرها متى شاء، وقد كتب "المسند" من حفظه، أربعين ألف حديث أكبر مسند في الدنيا، هو بين أيدينا ولكن مَنْ يقرأ "المسند"؟ ومن يطالع "المسند"؟! ومن يعيش مع "المسند"؟!
لقد أعرض الناس عن "مسند الإمام أحمد"، واتجهوا إلى مطالعة الصحف اليومية، والمجلات الأسبوعية، والقصص التافهة، والكتب التي لا تساوي المداد الذي كتبت به، إلا من رحم الله – عز وجل.
أصبح "المسند" مطبوعًا طبعة فاخرة، وغيره من كتب الحديث.(/5)
وأصبح معروضًا لنا عرضًا جيدًا، ولكن الناس أعرض عنه واشتراه الكثيرون ليكون ديكورًا وزينة في البيوت، لاستكمال مظاهر البذخ والترف الذي يعيش فيه كثيرٌ من الناس.
فيا أمة محمد من يقرأ "مسند الإمام أحمد"؟!!
إن من يقرؤه سوف يجد التقوى، والزهد والرفعة، والخوف من الله، والتوكل على الله – عز وجل.
أفتى الإمام أحمد في ستين ألف مسألة، وكان حجته فيها: قال الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذمَّ المنطق، وذمَّ الرأي، وذمَّ الفلسفة والجدل، وقال: نحن قوم مساكين لم يأمرنا الله – عز وجل – بذلك.
أما تواضعه فمنقطع النظير، وطالب العلم والمسلم والعالم والمسؤول إذا لم يكن متواضعًا لله فاعلم أن الله قد مقته من فوق سبع سماوات، وقد سقط من عين الله، قد باء بخزيٍ من الله إن لم يتب.
كان متواضعًا جدَّ التواضع، قال بعض الحفَّاظ: رأينا الإمام أحمد نزل إلى سوق بغداد، فاشترى حزمة من الحطب، وجعلها على كتفه، فلما عرفه الناس، ترك أهل المتاجر متاجرهم، وأهل الدكاكين دكاكينهم، وتوقف المارة في طريقهم يسلمون عليه، ويقولون: نحمل عنك الحطب فهزَّ يديه، واحمرَّ وجهه، ودمعت عيناه، وقال: نحن قوم مساكين، ولولا ستر الله لافتضحنا.
والعجيب في الإسلام أن العبد كلما زاد تواضعًا لله، كلما زاده الله رفعةً، وكلما ارتفع، كلما زاده الله حقارة ومهانة ومذلة جزاءً وفاقًا. قال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد لما أرسله إلى اليرموك، أخذه بتلابيب ثوبه وهزَّه، وقال: يا أبا سليمان فِرَّ من الشرف يوهب لك الشرف، واطلب الموت توهب لك الحياة، وصدق – رضي الله عنه وأرضاه.
أتى رجل يمدح الإمام أحمد، فقال له الإمام أحمد: أُشهد الله أني أمقتك على هذا الكلام، والله لو علمت ما عندي من الذنوب والخطايا لحسوت على رأسي بالتراب!! انظر إلى الإمام، انظر إلى العابد.(/6)
جاءه قوم فقالوا: يا أحمد بن حنبل، إن الله قد نشر لك الثناء الحسن، والله إنا نسمع ثناءك في كل مكان، حتى في الثغور مع الجيش وهم يقاتلون العدو، يدعون لك وقتما يرمون بالمنجنيق. فدمعت عيناه، وقال: أظن أنه استدراج من الله – عز وجل.
أما زهده في الدنيا، فقد رفعه عن كثير ممن عاش معه وعنده الملايين، أتته الدنيا راغمة إلى باب بيته فأبى، طولب منه أن يتولى القضاء فامتنع أبدًا، وقال: إن تركتموني وإلا فوالله لأهاجر إلى مكان لا تجدوني فيه أبدًا!! كان دخله كما يقول الذهبي وابن كثير في الشهر: سبعة عشر درهمًا وقال: هذه تكفينا. قال أبناؤه: يا أبتاه ما تكفينا هذه، قال: أيام قلائل، وطعام دون طعام، ولباس دون لباس، حتى نلقى الله الواحد الأحد!!
يقول ابنه عبد الله بسند صحيح إليه: "بقيت حذاء أبي في رجله ثمان عشرة سنة، كلما خرمت خصفها بيده"، وهو إمام الدنيا.
أرسل له المتوكل ثمانية أطقم من الذهب والفضة حملها الوزراء على أكتافهم مع سرية من الجيش بعد المحنة، فردَّها وقال: والله لا يدخل بيتي منها درهمٌ ولا دينار.
وأما خُلُقه فأحسن الناس خُلُقًا؛ لأن مَنْ يصاحب القرآن، من يدرس القرآن، من يشتغل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتأثَّر بذلك ولو بعد حين، وذلك في الغالب؛ لأن هناك من يتعلم لغير الله – عز وجل – ليصيب به عرضًا من الدنيا قليلاً، فإن هذا من أول من تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة.
وإذا لم نأخذ أخلاقنا وآدابنا من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن أين نأخذها؟ ومن أين نتعلمها؟ أَمِنْ ديكارت وكُنْت؟ أم من أصحاب المدرسة النفعية الذين يقولون: إن الأخلاق والقيم والمبادئ كلَّها أمور نسبية، تتغير بتغير الزمان والمكان، وأن المصلحة هي التي تحدد هذه المبادئ والقيم!!(/7)
متى كان هؤلاء الفئران أساتذة لنا؟ متى كانوا معلمين؟ إنهم أحقر الناس، إنهم أخبث الناس، إنهم أضل الناس، إنما يُتَعلّم من وحي السماء الذي تربَّى عليه محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من أنبياء الله – عز وجل.
يقول الإمام أحمد: رحم الله أم صالح - يعني زوجته وقد توفيت - صاحبتني ثلاثين سنة، والله ما اختلفت أنا وإيَّاها في كلمة واحدة .. زوجته في بيته، صاحبته ثلاثين سنة، ما اختلف معها في كلمة واحدة. أتاه رجل من أتباع السلطان المعتصم، فَسَبَّ الإمام أحمد أمام الناس وشتمه وانتقصه أمام الجماهير، فقال الناس: يا أبا عبدالله، يا أحمد، رُدَّ على هذا السفيه، قال: لا والله، فأين القرآن إذن؟! يقول الله – عز وجل -: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63]، هذا هو اتباع القرآن، هذا هو العمل الحقيقي بكتاب الله - تبارك وتعالى .
كان يجلس الناس إليه – رضي الله عنه وأرضاه – فيتعلمون منه، وينظر إليهم، قال ابنه عبدالله: دخلتُ على أبي وهو جالس في البيت متربع مستقبِل القبلة، ودموعه تنهمر على خديه، فقلت: يا أبتاه، ما لك؟ قال: تذكرت في هذه الغرفة موقفي في القبر وحدي لا أنيس إلا الله، قال: فأراك متربعًا، لماذا لا تتكئ وتريح نفسك – لأنه شيخ كبير – قال: أستحيي أن أجالس الله وأنا متكئ.
دخل عليه الأديب الكبير ثعلب، فقال له الإمام أحمد: ماذا تحفظ من الأدب والشعر؟ قال: أحفظ بيتين، قال: ما هما؟ قال: قول الأول:
إذا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يومًا فلا تَقُلْ خَلَوْتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ
ولا تحسبَنَّ الله يغفُل ساعةً ولا أن ما تُخْفي عليه يغيبُ
فوضع الإمام أحمد الكتاب من يده، وقام وأغلق على نفسه بابًا، وبقي في الغرفة، قال تلاميذه: والله قد سمعنا بكاءه من وراء الباب وهو يردد البيتين.(/8)
كان يتمنى - أكبر الأمنية في حياته - أن يتقدم الصفوف مجاهدًا في سبيل الله، نظر إلى قدميه وقت الوفاة وبكى، وقال: يا ليتها جاهدت في سبيل الله. لكن والله جاهد جهادًا من أعظم الجهاد، بذل علمه، بذل جاهه، بذل ماله، بذل نفسه، بذل كل ما يملك في رفع راية لا إله إلا الله، فكان إمام الدنيا بحق. قال يحيى بن معين: والله ما رأيت أحدًا كأحمد بن حنبل، والله ما أستطيع أن أكون مثله ثلاثة أيام. وقال علي بن المديني: لو كان الإمام أحمد في بني إسرائيل كان نبيًا من الأنبياء. وقال الإمام الشافعي – رحمه الله – خرجتُ من بغداد وسكانها ألفا ألفٍ – يعني مليونين اثنين – فوالله ما خلّفتُ رجلاً أتقى لله وأعلم بالله وأزهد لله وأورع أن تنتهك محارم الله، ولا أحب إليَّ من أحمد بن حنبل.
رحم الله الإمام أحمد وأسكنه فسيح جناته، وحشرنا في زمرته يوم يوفَّى الصادقون بصدقهم، يوم يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
وللحديث بقية إن شاء الله.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله .. الحمد لله ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
* أما بعد:
فيقول سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2-3].
ويقول عز من قائل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].(/9)
لما قرأ الفضيل بن عياض – رحمه الله – هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبلونا فتفضحنا، فنحن في ستر الله نسأل الله ألا يفضحنا، وألا يفتنا، وأن يجعلنا في عافية وستر حتى نلقاه، لكن للفتنة نتائج طيبة يجعلها الله للصابرين، قال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
والفتنة التي تعرض لها الإمام أحمد رواها أهل التاريخ جميعًا، سمعت بها الدنيا شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، مسطَّرة إلى قيام الساعة، وهي محنة خلق القرآن، أو الفتنة التي أورثها المأمون في الأمة.
وملخص هذه المحنة: هو أن المأمون كان مفتونًا برأي منطقي معتزلي فلسفي، ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم.
والمأمون هو الخليفة العباسي ابن هارون الرشيد، قال: إن القرآن مخلوق وكذب على الله، فالقرآن كلام الله – عز وجل – والله يتكلم بما شاء متى شاء لم يزل متكلمًا – سبحانه وتعالى.(/10)
يقول - عز من قائل -: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] والأمر هنا القرآن فقال هذا الخليفة: إن القرآن مخلوق، واستخدم السيف ليثبت هذه القضية في الأمة، وقتل ما يقارب ألفًا من العلماء الكبار، من علماء الأمة، من أساتذة وتلاميذ وزملاء الإِمام أحمد، وملأ السجون من العلماء وطلاب العلم، فبعضهم أجاب خوفًا من السيف، وبعضهم رفض، وقال: لا أجيب؛ فقتل في الحال، ومُنِعَ التدريس في المساجد، ومنعت الخطابة إلا للمعتزلة وانتشر الشر الكثير وعمت البدعة، فنضَّر الله الإسلام بالإِمام أحمد بن حنبل، وقف وحده وقال: لا والله، القرآن كلام الله، فاستدعي، قال الإمام أحمد: أُخذت من بيتي وسط الليل، وأنا أصلي، فوُضِعَ الحديد في يديَّ وفي رجليَّ، حتى كان الحديد أثقل من جسمي، القيود التي سُلسل بها أثقل من وزنه – رضي الله عنه – ووضع على فرس، قال: فلما وُضعتُ على فرسٍ لم أتمالك نفسي فكدت أسقط ثلاث مرات، كل مرة أقول اللهم احفظني، فكان الله يردني حتى أستوي على الفرس: نعم: ((احفظ الله يحفظك))[3]، وكان الجندي الذي معه يضرب الفرس، عَلَّ الإِمام أحمد يسقط على وجهه، قال: فلما أدخلت السجن سحبت على وجهي فنزلت، قال: فكنت أستغفر الله، فنزلت في آخر الليل، قال: فلا أدري أين القبلة، ولا أدري أين أنا، في ظلام وفي وحشة، لا يعلمها إلا الله، فكنت أقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، قال فمددت يدي، فإذا بماء بارد، فتوضأت منه وقمت أصلي إلى الفجر.
انظر إلى حفظ الله، حتى في الساعات الحرجة، لا ينسى ربه - تبارك وتعالى - لأنه يعلم أن دعوة المظلوم تخترق السبع الطباق حتى تصل إلى الله – عز وجل – فيقول الله – تعالى – لها: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
فَالْزِمْ يَدَيْكَ بحبلِ اللهِ مُعْتَصِمًا فإنَّه الرُّكْنُ إنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ(/11)
قال: فلما أصبح الصباح، حُملت على الفرس ثانية، وما طَعِمْتُ طعامًا، وكدت أسقط من الجوع، فأدخلت على المعتصم الخليفة الثاني، الخليفة العسكري صاحب عمُّورية الذي تولى بعد المأمون، قال فلما دخلت عليه هزَّ السيف في وجهي وقال: يا أحمد والله إني أحبك كابني هارون، فلا تعرض دمك لنا، فقال الإمام أحمد آية من كتاب الله أو حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حاول الخليفة معه أن يجيب، وأن يقول القرآن مخلوق فرفض، فدُعِيَ بالجلادين، ودُعِيَ بجبار من الجبابرة، رئيس الحرس الذي يتكون من خمسين ألفًا، واسمه عُجَيْب، فقال له المعتصم: اضرب هذا الرجل – يعني الإمام أحمد – قال: فجلده مئةً وستين سوطًا حتى غُشي عليه، ثم استفاق قال: فكان يقول: لا إله إلا الله، حسبي الله ونعم والوكيل؛ لأنها أقوى الكلمات، إنها قوة هائلة، إنها قوة فتاكة، حسبي الله ونعم الوكيل، يقول ابن عباس – رضي الله عنهما -: قالها إبراهيم فنجاه الله من النار، وقالها محمد فنجاه الله من كيد الكفَّار، ورفض الإمام أحمد أن يجيب حتى ظهرت أخاديد الدماء المتجمدة في ظهره من كثرة الضرب الذي تعرَّض له، فرفع على الفرس وأعيد، وبقي في السجن ثمانية وعشرين شهرًا، وهو في السجن سرد الصيام، لم يفطر يومًا واحدًا - كما ذكر ابنه عبد الله - لأن كل يوم يمرُّ كان يظنُّ أنه سوف يموت فيه، وكان يحبّ أن يلقى الله – عز وجل – صائمًا.(/12)
يعرض عليه الطعام والشراب، واهتم الخليفة بأمره؛ فكان يقول: لا تأتوني بالعشاء حتى تعرضوه على أحمد، فيعرضون له المائدة ليأكل فيقول: والله لا آكل لهم لقمة، والله لا أشرب لهم شربة، ماذا كان يتغذى عليه، كان عنده جراب من سويق، إذا اقترب من المغرب أخرج كفًّا منه ثم وضعه في الماء وشربه، فهذا غذاء الإمام أحمد في ثمانية وعشرين شهرًا، ثم في الأخير عرض على السيف مرات ولكنه رفض أن يجيب، فلما أعجزهم وأَكَلَّهم وأملَّهم أعادوه إلى بيته، فأنزلوه وهو جريح، يقول ابنه عبد الله: دخل أبونا علينا في الليل بعدما أُطلق من السجن قال: فأنزلناه من على الفرس، فوقع من التعب ومن الإعياء ومن الضعف والهزال والمرض على وجهه، وقال: فبقي أيامًا، ثم تولى الخلافة المتوكل، فنصر الله به السنة، وأتى بالمال والذهب إلى الإمام أحمد، فبكى الإمام أحمد، وقال: والله إني أخاف من فتنة النعمة أكثر من فتنة المصيبة والمحنة، فرفضه وما أخذ شيئًا.(/13)
وبقي على هذه الحال، وكان يقول: يا ليتني ما عرفت الشهرة، يا ليتني في شِعْب من شعاب مكة ما عرفني الناس. فلما أراد الله أن يرفع ذكره قبضه إليه في يوم من أسعد الأيام، مرض تسعة أيام، ومحَّص الله ما بقي عليه من خطايا ومن ذنوب ومن سيئات لا يخلو عنها البشر في هذه التسعة أيام، وفي اليوم الأخير سمع الخليفة أنه مريض، فأمر الناس بزيارته فانقلبت بغداد العاصمة، عاصمة الدنيا، دار السلام، صاحبة المليونين نفر، انقلبت ظهرًا وبطنًا متجهة في طوابير وفي كتائب إلى بيت الإمام أحمد لتزوره في اليوم الأخير، قال أبناؤه: والله لقد أغلقت المتاجر حول بيوتنا، ولقد توقف الباعة، ولقد وقف حرس المتوكل من ممر الثكنات إلى بيتنا من كثرة الناس، فرفض الإمام أحمد أن يُدخل عليه إلا الصبيان والمساكين، فأدخلوا الأطفال عليه، فأخذ يبكي ويقبلهم، ويمسح على رؤوسهم، ويدعو لهم، ثم أُدْخِلَ عليه الفقراء فأخذ ينظر إليهم ويقول: اصبروا، فإنها أيام قلائل، لباس دون لباس، وطعام دون طعام، حتى نلقى الله.
وفي سكرات الموت التفت إلى طرف بيته، إلى طرف غرفته، فقال: لا بَعْدُ. لا بَعْدُ، فقالوا: ما لك، قال: تصور ليَ الشيطان ورأيتُه يَعَضُّ على أصبعه ويقول: فُتّني يا أحمد، فُتَّني يا أحمد، يعني هربت مني، فتنتُ الناس إلا أنت، فيقول الإمام أحمد: لا بَعْدُ، يعني: انتظر، فإني أخاف على نفسي، فقبضه الله – عز وجل – واستودع أبناءه، وأوصاهم بوصية إبراهيم عليه السلام لأبنائه: ألا يشركوا بالله شيئًا، وأن يقيموا فرائض الإسلام، وأن يتخلَّقوا بالخلق الحسن.
أتدرون ماذا كان آخر كلماته؟ قال: اللهم اعف عمَّن ظلمني، اللهم اعف عمَّن شتمني، اللهم سامح مَنْ ضربني، اللهم سامح مَنْ سجنني، إلا صاحب بدعة يكيد بها دينك، فلا تسامحه، عدو الإسلام لا تسامحه، أما عدوي الذي عاداني لنفسي وشخصي فسامحه واعفُ عنه. وقُبضت روحه – رضي الله عنه وأرضاه – فماذا كان؟(/14)
طَوَى الْجَزِيرَةَ حَتَّى جَاءَنِي خَبَرٌ فَزِعْتُ فِيهِ بآمَالِي إِلَى الكَذِبِ
حَتَّى إِذَا لَمْ يَدَعْ لِي صِدْقُهُ كَذِبًا شَرِقْتُ بالدَّمْع حتى كاد يَشْرَقُ بي
فلما توفي أعلن المتوكل في الناس أن عليهم أن يُشَيعُوا الجنازة ففتحت الثكنات العسكرية لجيش الخليفة، وحملت الجنازة صباحًا، فما وصلت إلى المقبرة إلا عصرًا، لكثرة الزحام، فقد شيَّعه كما يقول أهل العلم مليون وثلاثمئة ألف: [ألف ألف وثلاثمئة ألف]. وتوقف اليهود والنصارى من بيعهم ذاك اليوم، وهبت رياحٌ على بغداد، حتى ظنَّ بعض الجهلة أن القيامة قد قامت، وخرج الجيش - وقوامه تسعون ألفًا - في مقدمة الناس يرتِّبون الصفوف، وبكت بغداد على بكرة أبيها فراق هذا الإمام الرباني، ووصلت جنازته حتى قال بعض أهل التاريخ: كانت تذهب الجنازة على رؤوس الناس تحمل على الأصابع وتعود إلى المؤخرة، وتذهب وتأتي، فلما وضعت ارتفع البكاء وقام الناس يصلون عليها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27-30] دفن جسده ولكن ما دُفن علمه، ولا تواضعه، ولا زهده، ولا ذكره الحسن، أبقى الله له ذكرًا حسنًا في قلوب أتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - من أهل السنة والجماعة نضَّر الله وجوههم.
قال ابن كثير: رآه كثير من الصالحين تلك الليلة التي توفي فيها فقالوا: ما فعل الله بك؟ قال: ناداني فقال: يا أبا عبدالله الحقْ بأبي عبدالله، وبأبي عبدالله وبأبي عبدالله، قلت: مَنْ هم؟ قال: بالشافعي، وسفيان الثوري، والإمام مالك، كلهم أبو عبدالله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16].
* أيها الناس:(/15)
وفي سيرته – رضي الله عنه – دروس أولها:
أن الرفعة من الواحد الأحد، وأن مَنْ يحفظ الله يحفظه الله.
الدرس الثاني: أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، لعنها الله وهو خالقها، وما التفت إليها منذ خلقها.
الدرس الثالث: أن العلم النافع، العلم الصحيح، العلم القويم، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
العِلْمُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ قَالَ الصَّحَابَةُ هُم أولُوا العِرفَانُ
الدرس الرابع: أن من أراد الرفعة ومن أراد المنزلة ومن أراد المكانة عند الله فعليه أن يتواضع، عليه أن يذل نفسه لإخوانه عليه أن يلغي اعتباراته ليرفعه الله.
الدرس الخامس: أنك كلما سجدت لله سجدةً رفعك بها درجة؛ ولذلك كان الإمام أحمد يصلي ثلاثمئة ركعة كل يوم غير الفرائض؛ لأن كل سجدةً بدرجة عند الواحد الأحد.
الدرس السادس: أن في سِير هؤلاء أثرًا للقلب، وتربيةً للروح، وهداية إلى الواحد الأحد، فطالعوا أخبارهم، وتلمحوا سيرهم، وكونوا متشبهين بهم، علَّ الله أن يهدينا وإيَّاكم سواء السبيل.
* عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
* وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا))[4].
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] حديث: ((المرء مع من أحب))، أخرجه البخاري (7/112)، ومسلم (4/2034) رقم (165).(/16)
[2] أخرجه الترمذي (4/509) رقم (2378)، وأبو داود (4/259) رقم (2833)، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وحسنه الألباني كما في ((صحيح الجامع)) رقم (3545).
[3] جزء من حديث أخرجه الترمذي (4/576) رقم (2516)، وأحمد (1/293) عن ابن عباس. قال الترمذي: حسن صحيح.
[4] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/17)
العنوان: أمانة الكلمة
رقم المقالة: 1844
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
أمانة الكلمة
ملخص الخطبة:
1- شمولية مفهوم الأمانة لأعمال الإنسان وأقواله.
2- اللسان دليل القلب.
3- خطر الكلام وعظم شأنه.
4- وقفات مع الصحافة والكُتَّاب.
ـــــــــــــــــــــ
الخطبة الأولى
أما بعد: فيأيها الناس، اتقوا الله – تعالى - حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله - جلَّ جلاله -: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
أيها المسلم، مفهوم الأمانة في شريعة الإسلام مفهوم عام شامل لأقوال العبد وأعماله، فكما أنه محاسب على أعماله، مُؤتَمَنٌ عليها؛ فهو محاسب على الأقوال، ومُؤتَمَن عليها.
إذًا - أخي المسلم - فالكلمة أمانة، فإمَّا أن تؤدي كلمة صادقة نافعة مفيدة، فتكتسب بها أجرًا وثوابًا، وإما كلمة سيئة، وكلمة خبيثة، وكلمة تدعو إلى باطل، وتؤيد الشرَّ والفساد؛ فتلك كلمة تُحاسَب عليها. فاسمع إذًا فضل الكَلِم الطيِّب، في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان؛ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))[1].
أخي المسلم، كم تتكلّم في حياتك بكلمات؟ هذه الكلمات ستكون وبالاً عليك في دنياك وآخرتك، وسيخفُّ بها ميزان أعمالك، فأنت محاسَب على الأقوال؛ كما أنت محاسب على الأعمال؛ بل الأقوال أشدّ، فكم من مُسيطِر على نفسه في أعمال جوارحه، لكنَّه أمام لفَظَات اللسان عاجز، يُطلِق للسانه العِنان ليقول ما يشاء؛ فتعظم الأوزار والآثام.(/1)
أخي المسلم، إن ربَّنا - جلّ وعلا - أخبرنا أن أقوالنا مُحْصاة علينا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وقال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 24 - 25].
أخي المسلم، كلماتك تُعبِّر عمَّا انطوى عليه ضميرُك، كلماتك تُعبِّر عمَّا استقرَّ في قلبك، كلماتك تُعبِّر عن اتجاهك الفِكري، ومدى ما وصل إليه اتجاهُك وتفكيرُك، إذًا فاللسان تُرْجُمَان القلب، يتكلم هذا بلسانه فتستطيع أن تُقوِّم فكرَه ورأيَه، وتستطيع في الغالب أن تطّلع على أفكاره ومكنوناته من خلال تلكم الكلمات التي تلَفَّظَ بها، ولذا قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - مخبرًا له عن حال المنافقين، وأنّه - جلَّ وعلا - قادر أن يُطْلِع نبيَّه على أعيانهم كلهم، لكن حكمة الله تقتضي عدم ذلك، وإن عَلِم ما عَلِم منهم فغيرُهم لا يعلَمهم، إلا أن الله - جلّ وعلا - أخبر نبيه بصفة عامة، وهي الأقوال فقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]، فما انطوى عليه الضمير لا بدّ أن يكشفه اللسان، وإن تَحَفَّظ ما تَحَفَّظ، فإنّ فَلَتات لسانه تُنبئ عما في مكنون قلبه.(/2)
أخي المسلم، كم زلّت بالكلمات أرجل أقوام، وضلّوا عن سواء السبيل! يقول الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في إخباره عن المستهزئين به وبأصحابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، أناس مع محمد - صلى الله عليه وسلم - مجاهدون معه في غزوة تبوك، تكلَّموا بكلمات زلّت بها القدم فنالوا الوعيد الشديد، قال قائلهم: "ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء، أكذبنا ألسنًا، وأرغبنا بطونًا، وأجبننا عند اللقاء!"؛ يَعنُون رسول الله وأصحابه، فجاء الوحي من الله ليطلع نبيَّه على تلكم المقالة السيئة، والمقالة الخبيثة، والمقالة المُنْبِئة عن نفاق وغِلٍّ على الإسلام وأهله، فجاؤوا ليعتذروا، وليقولوا: هي كلمات قلناها نقطع بها مَشَقَّة الطريق وعناءه، والرسول يقول لهم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]، لا يزيد على ذلك، ولا يرد عليه [2].
إذًا - أخي المسلم - فلنتثبَّت في ألفاظنا، ولنحاسب أنفسنا قبل أن تزلَّ القدم، ولنَعْلَم أن الكلمات السيئة كم هدمت من بناء أعمال صالحة! وكم أوردت صاحبها موارد العَطَب والهلاك! يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد ليتكلّم بالكلمة من سَخط الله، لا يظن أن تبلغ ما بلغت، يَكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه، وإن العبد ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه)) [3].(/3)
أخي المسلم، إن للكلمة أمانة، فالتزم أمانة الكلمة لتكون من المؤمنين حقًّا، أنت مسلم آمنت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا رسولاً، فلتكن كلماتك كلمات نافعة، وكلمات مؤثِّرة، وكلمات تخدم دينك، وكلمات تسعى في لَمِّ شَعَثِ أمَّتك، وكلمات تسعى في جمع الصفّ، وكلمات تُعالج بها قضايا الأمة على ضوء من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أخي المسلم، للصحافة في هذا العصر دورها الفعّال في توجيه الأمّة، وبثّ الأفكار والآراء، وعلاج القضايا، وطرح القضايا من خلال الصفحات؛ لكي تأخذ مسارها في التوجيه والإرشاد، وإن كنا لنشكر لصحافتنا تغطيتها الأحداث، ومحاولتها علاج قضايا الأمّة، إلا أنّ لنا معهم وقفات نريد بها الخير والصلاح للجميع.
فأوّلاً: إنّ أغلى ما عند المسلم دِينه، فدينُه الذي شرَّفه الله به، ودينه الذي أعزّه الله به، ودينه الذي اختاره الله له، أن جعله من هذه الأمّة المحمّدية التي هي خير أمة أخرجت للناس، فالمؤمن بالله ورسوله ودينه حينما يطرح للصحافة قضية، وحينما يكتب مقالاً، وحينما يعالج قضية من القضايا - يُهمّه قبل كل شيء: هل هذه الأطروحة، وهل هذه القضية، وهل هذه الكتابة ستكون في ميزان أعماله عملاً صالحًا، أو تكون عملاً سيئًا؟ فينظر إليها من هذه النظرة، فإن كان ما سيكتبه ويسطّره عملاً صالحًا، يرجو به ما عند الله من الثواب، ويكون سببًا لرجحان ميزانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 7 - 8]، فليكتب وليمضِ مخلصًا لله، قاصدًا وجه الله والدار الآخرة، وإن فكَّر في هذا المقال، ونظر إلى ما يريد طرحه من قضايا فوجد أنها لا تخدم هذا الدين، ولا تساهم في إسعاد الأمّة فليبتعد عنها؛ ليَسلَم له دينه وإيمانه.(/4)
أخي المسلم، كم نقرأ أحيانًا في الصحف مقالات لبعض كُتّابنا أو بعض الكاتبات، لكن للأسف الشديد يطرح بعضهم قضية، ويعالج بعضُهم بعضَ القضايا، وللأسف الشديد العلاج بعيد عن الواقع وشاقٌّ عن الصواب! وهذا للأسف الشديد مرجعه إما لأن هذا الكاتب كتب في حَقْلٍ ليس من اختصاصه، وفي أمر لا يتقنه ولا يدركه حقًّا، وفي أمر لا يتصور نتائجه، فيكتب من فراغ، فتأتي تلك الكتابة مشلولة عن الخير؛ لأنَّ الكاتبَ ليس من أهل الاختصاص، ولا ممن يعرف حقيقة ما يكتب ونتيجة ما يكتب، فتكون الكتابة ضارّة غير نافعة، ومفسدة غير مصلحة.
أيها المسلم، إنّ خدمة هذا الدين أمانة في أعناق الجميع في أقوالنا وأعمالنا، فلابد إذا أردنا أن نعالج قضية من القضايا أن نعالجها من خلال كتاب ربِّنا وسُنَّة نبينا وأخلاق إسلامنا، ففيهما الخير والكفاية لمنِ اكتفى بهما. إنَّ المجتمع المسلم يحلّ قضاياه على وَفق كتاب ربِّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فتُطرح قضايا يتحدَّث المتحدثون عن علاجها، ولكن للأسف الشديد لا ترى إلا قليلاً من الصواب، يُؤتَى بقضية المرأة أحيانًا فيُكتب حولها ما يُكتب، ويقال عنها ما يقال، وكأنّ من يقرأ هذه الكتابة يرى أنَّ المرأة عندنا في سجن وراء القضبان، وأنها، وأنها... وواقعنا - ولله الحمد - يُبين على أنَّ المرأة عندنا قد نالتْ حظَّها من خلال تعاليم دينها، فهي الأم، وهي الوارثة، وهي الأخت، وإلى آخره... وربما غلَوْا في طرح قضايا المرأة، وقالوا عنها ما قالوا، وإذا تأمّلت تلك المقالات رأيت فيها الشَّطَط والبُعد عن الصواب.(/5)
إنَّنا نريد من صحافتنا سُموًّا في الكتابة، وعُلوًّا في الهمّة، نريد إذا عالجنا قضية دينية، أو قضية اقتصاديَّة، أو قضية اجتماعيَّة أن يكون العلاج علاجًا مصيبًا، لا يُكتب إلا بعد التمحيص والنظر الدقيق: هل هذا العلاج مؤثّر أم لا؟ الناس اليوم كُلَّ صباح والصحف بأيديهم يقلِّبونها يمينًا ويسارًا، فلذا نريد أن تكون الصحافة تتحسَّس مشاكل المجتمع باعتدال ووسطية، لا إفراط ولا تفريط، ولكن باعتدال ووسطية، ونظرًا للمصالح العامة؛ لأن هذا من الدعوة إلى الله أن تكون الكتابة هادفة وقاصدةً خيرًا، ولا تكون شاقَّة عن الصواب. وعندما نعالج القضايا السياسية فلنعالجها من خلال مختصِّين، ومن خلال من ينظرون إلى ما وراء السطور، هذا هو الأولى حتى لا تختلط الأوراق، ويتكلّم مَن يتكلّم في أي قضيَّةٍ ما دون أن يحسب لها حسابًا، البعض غيور على أمته بلا شك، ويحاول من خلال كتابته أن يعالج قضيَّة ما، والخطأ موجود، ولا أحد يدَّعي الكمال، لكن كيف أعالج الخطأ؟ هل أعالج الخطأ بخطأ أكبر منه، أم أعالج الخطأ بالصواب والاعتدال؟! إن الاعتدال في الأمور، والوسطية في الأمور هي كفيلة لأن تكون صحافتنا صحافة هادفة، وصحافة نافعة، وصحافة مفيدة توجِّه المجتمع التوجيه الصالح، وتقوده إلى الخير والصلاح.
إن البعض قد ينظر إلى قضية ما، وقد تكون قضية شخصية له، فمن خلال تأثّره الشخصي ربما حمل على فئة معيَّنة، أو على دائرة معيّنة بما يقول ويكتب؛ إذِ المعنى خاص به، فيجعل خصوصيته سببًا للانتقام. عندما أعالج الأفكار الهدَّامة، والأفكار الخاطئة أعالجها بحكمة، أعالجها باعتدال واتزان، كما أني أرفض الغلو، فأنا أرفض التطرف والغلو من الجانب الآخر، فنعالج أي قضية فكرية بعلاج شافع شافٍ، معتدلين في أطروحاتنا، قاصدين الخير، متحرِّين الصواب.(/6)
عندما نطرح إعلانات ما، فليس الهمّ أن يكون الإعلان يأخذ مساحة في صحافتنا، ولكن المهم: هل هذا الإعلان يخدم هدف الأمة؟ هل هو خادم لدينها، وأمنها واستقرارها، وصلاحها، أم هذا الإعلان يحمل في طيّاته ما ينافي الحق، ويبعد عن الصواب؟
إن أمانة الكلمة أمانة عظيمة، لو تدبّرها العاقل لعَلِم حقًّا أنها أمانة كبرى، وأمانة عظمى مُلقاة على رجال صحافتنا. أسأل الله أن يأخذ بأيدي الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل هدف الجميع رضوان الله، والتقرّب إليه بما يرضيه.
فإن المسلم حقًّا داعٍ إلى الله في أيّ ميدان من ميادين حياته: الخطيب على منبره، المدرس في مدرسته، المعلم في جامعته، الصحفي في صحيفته، المُعدّ برامج الإعلام في إعداده، الكل يخدمون هذا الدين، ويسعون لتمكين الخير في قلوب المجتمع، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه إلى يوم القيامة.
فلنحرص - إخواني جميعًا - أن نكون يدًا واحدة في سبيل إسعاد هذا المجتمع المسلم، والحفاظ على دينه وأخلاقه وقِيَمة وأمنه من خلال ما نكتب وما نتحدّث به. أسأل الله أن يأخذ بيد الجميع لما فيه خير الأمة، وصلاحها في أمر دينها ودنياها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
وبعد: فيأيها الناس، اتقوا الله – تعالى - حقَّ التقوى.
جاء في الحديث: ((أن الجوارح تُكفّر اللسان تقول له: نحن بك؛ إن استقمت استقمنا، وإن اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا)) [4]، إذًا فاللسان سبب لاستقامة الجوارح، سبب لاستقامتها وثباتها، أو سبب لانحرافها والعياذ بالله.(/7)
أخي المسلم، يكتب كاتب أحيانًا فيعالج قضية فكرية معيّنة، للأسف الشديد صار ذلك العلاج مبنيًّا على السخرية بأركان الإسلام وأركان الإيمان، فيتحدَّث عن أركان الإسلام عند فئة ما ويقول: إنهم يعدّون أركان الإسلام كذا، وأركان الإيمان كذا، هذه السخرية بأركان الإسلام وإيمانه لا تصدر ممَّن باشر الإيمان قلبه، الواجب عندما أعالج فكرًا خاطئًا، وعندما أناقش رأيًا خاطئًا أن يكون النقاش باعتدال وإنصاف، فلا أَظلم ولا أُجْحِف، لا أزيد ولا أنقص، وإنما أضع الدواء على الداء مُعيِّنًا حتى أعالج القضية، وأمَّا أن أُجازِف في الأقوال، وأما أن أُحاول أن أفتري وأقول فإن هذا أمر غير لائق، الواجب تقوى الله، والله يقول: {إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152]، فأمرنا الله بالعدل في أقوالنا كما أمرنا بالعدل في أعمالنا، فإذا اعتدلت أقوالنا وصارت عدلاً لا جور ولا ظلم؛ استطعنا بتوفيق الله أن نساهم في سلامة هذا المجتمع المسلم، ولَمِّ شَعَثِه، وتوحيد صفّه على الخير، وربط بعضه ببعض، وربطه بقيادته الرشيدة. نسأل الله أن يوفّق الجميع لما فيه الخير والصلاح، وأن يجعلنا دعاة إليه على علم وبصيرة، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا - رحمكم الله - أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد.
---
[1] أخرجه البخاري في الدعوات (6406)، ومسلم في الذكر والدعاء (2694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/1830)، والطبري في تفسيره (14/ 333) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى، وانظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول" (122).(/8)
[3] أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني - رضي الله عنه - وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في "السلسلة الصحيحة" (888).
[4] أخرجه أحمد (3/95)، والترمذي في الزهد (2407) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحسَّنه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (1962).(/9)
العنوان: أُمَّةُ الأَرَانِب وَالْفِيلُ
رقم المقالة: 126
صاحب المقالة: أحمد شوقي
-----------------------------------------
يَحكون أَن أَمَّةَ الأَرانِبِ قد أَخَذَت من الثرَى بِجانِبِ
وابتَهجَت بالوطنِ الكريمِ ومَوْئِلِ العِيالِ والحريمِ
فاختارَه الفيلُ له طريقَا مُمزِّقًا أَصحابَنا تمزيقا
وكان فيهم أَرنبٌ لبيبُ أَذهَبَ جُلَّ صُوفِه التَّجريب
نادِي بهم: يا مَعشرَ الأَرانبِ من عالِمٍ، وشاعرٍ؛ وكاتب
اتَّحِدوا ضِدَّ العَدُوِّ الجافي فالاتحادُ قوّةُ الضِّعاف
فأَقبَلوا مُستَصْوِبين رايَهْ وعقدوا للاجتماعِ رايه
وانتخبوا من بينِهم ثلاثه لا هَرَمًا راعَوْا، ولا حَداثه
بل نظروا إلى كمالِ العقلِ واعتَبروا في ذاك سِنَّ الفضْل
فنهض الأَوّلُ للخِطاب فقال: إِنّ الرأْيَ ذا الصواب
أَن تُترَكَ الأَرضُ لذي الخُرطومِ كي نستريحَ من أَذى الغشوم
فصاحَت الأَرانبُ الغوالي: هذا أَضَرُّ من أَبي الأَهوال
ووثبَ الثاني فقال: إِني أَعهَدُ في الثعلبِ شيخَ الفنِّ
فلندْعُه يُمِدّنا بحِكمتِهْ ويأخذ اثنيْنِ جزاءَ خدمتِه
فقيل: لا يا صاحبَ السُّمُوِّ لا يُدفعُ العدوُّ بالعدوِّ
وانتَدَبَ الثالثُ للكلامِ فقال: يا معاشِرَ الأَقوامِ
اجتمِعوا؛ فالاجتِماع قوّهْ ثم احفِروا على الطريق هُوَّه
يهوي إِليها الفيلُ في مرورِه فنستَريحُ الدهرَ من شرورِه
ثم يقولُ الجيلُ بعدَ الجيلِ قد أَكلَ الأَرنبُ عقلَ الفيل
فاستَصْوَبوا مقالهُ، واستَحْسَنوا وعملوا من فَوْرِهم، فأَحسَنوا
وهاكَ الفيلُ الرفيعُ الشَّانِ فأَمستِ الأُمَّةُ في أَمان
وأَقبلَتْ لِصاحِبِ التدبيرِ ساعيَةً بالتاجِ والسرير
فقال: مهلا يا بَني الأَوطانِ إِنّ محلِّي لَلمَحَلُّ الثاني
فصاحبُ الصَّوتِ القويِّ الغالبِ مَنْ قد دعا: يا مَعشرَ الأَرانِبِ(/1)
العنوان: أمة مستنيرة (1)
رقم المقالة: 428
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
نستطيع القول: إن النظرةَ إلى طبيعة المعارف ودورها في حياة الناس قد دخلَ عليها بعضُ التطوُّرات الأساسيَّة، فقد كانت النظرةُ السائدة للعلم لدى كثيرٍ من المتقدِّمين على أنه شيءٌ يوازي العقل، ولهذا فإنَّ هناك الكثيرَ من الجدال والسِّجال حول أفضليَّة أحدهما على ا لآخر، فمن مفضِّل للعقل على العلم ومن مفضِّل للعلم على العقل. أما النظرةُ الحديثة للعلم فإنها تجعلُ منه المصدرَ الأعظم لتشكيل العقل، كما أن هذه النظرةَ تجعل من المفاهيم والأفكار والمعلومات والإحصاءات وكلِّ المعطيات المعرفيَّة أدوات يستخدمها العقلُ في فهم الوجود والتعامل مع المشكلات.
وهذا يعني باختصار أن الضَّحالة المعرفيَّة لدى أيِّ شعب أو أيِّ أمَّة أو أيِّ فرد ستعني بنيةً عقليَّةً مشوَّهة وقاصرة، كما ستعني تعاملاً فجّاً وغيرَ موضوعيٍّ مع أحداث الحياة. هذه النظرةُ الجديدة للمعرفة تجعلُ أمةَ الإسلام أمام تحدِّيَين كبيرَين:
الأول: إنتاج كمٍّ كبير من الأفكار والمفاهيم والمعارف الموثوقة التي تحتاج إليها الأمَّةُ في فهم واقعها والمحيط العالميِّ المعاصر، كما تحتاج إليها في اكتشاف سُبُل نهضتها وازدهارها.
وإذا أردنا التفصيلَ في هذا، فيمكنُ أن نقولَ: إن كلَّ الأمم لديها مبادئُ وكليَّاتٌ وأصولٌ ثقافيَّة كبرى، وهذه المبادئُ... تشكِّل الإطار العامَّ لعمل العقل، كما أنها تشكِّل الإطار العامَّ لهموم الأمَّة واهتماماتها، وهذا متوافر على نحو لا بأس به لدينا، لكنَّ هناك نوعاً آخرَ من المفاهيم والأفكار والمعلومات الصغرى ذات البُعد الفنِّي التِّقني نحتاج إليه كي نستخدمَه في حلِّ المشكلات اليوميَّة وفي فتح حقولٍ صغيرة للإنجاز والعمل.
السؤال الذي يطرح نفسَه هو: كيف يمكن إنتاجُ هذه الأفكار والمفاهيم، ومَن الذي سيقومُ بذلك؟.(/1)
الحقيقةُ أن مسألةً جليلةً مثل هذه المسألة أكبرُ من أن تُترَك إلى جهة أو جهتين، إنها قضيَّة أمَّة، وعلى الأمَّة جميعِها المساهمةُ في خدمتها.
في الغرب – على سبيل المثال – كانت (الورش) والمصانعُ والشركات هي المصدرَ الر ئيسَ للأفكار والمعلومات التجاريَّة والصناعيَّة والتِّقنيَّة، وبعد ذلك صارت الجامعاتُ ومراكزُ البحوث والدراسات هي المصدرَ الأساسيَّ لها.
الشكل الواضح هو أن ما لدينا من مصانعَ... وما لدينا من جامعاتٍ ومراكزِ بحوث لا يقوم إلا بشيء يسير جدّاً مما نحتاج إليه، والسببُ هو بُدائيَّة المصانع وقلَّة مراكز البحوث وانشغالُ الجامعات بالتدريس، حيث إن البحثَ العلميَّ فيها في أضعف درجاته، وهناك استثناءاتٌ قليلة في كلِّ ذلك. وأرجو ألا يُفهَم من هذا الكلام أن حاجةَ الأمَّة إلى أفكارٍ ومفاهيمَ في المجال الصناعيِّ وحدَه، إذ إن حاجتنا في المجالات السياسيَّة والتعليميَّة والدعويَّة والنهضَويَّة عامَّة لا تقلُّ أهميَّةً وإلحاحاً عن حاجتنا إلى المفاهيم الصناعيَّة. ومن أجل التقدُّم في هذه المسألة، فربَّما كان من المفيد أن نعملَ على الأشياء التالية:
1 – تنشيطُ الاهتمام العامِّ بضرورة توافُر الأفكار والمفاهيم الإصلاحيَّة والنهضَويَّة عن طريق بعض البرامج التِّلفازيَّة، وإصدار بعض المجلات التي تهتمُّ باستقطاب الكتابات التي يقدِّم أصحابُها رؤى حضاريَّة وتطويريَّة فذَّة ومبدعة.(/2)
2 – نأمُلُ أن تقومَ الجماعات الإسلاميَّة والمؤسَّسات الخيريَّة ووزاراتُ الأوقاف والجمعيَّات المهتمَّة بشؤون المعرفة بتأسيس مراكز بحوث صغيرة تابعة لها، تكون وظيفتُها إجراءَ البحوث والدراسات، ونشرَ الأرقام والإحصاءات التي تخدُم مجال عملها. إن لدى كلِّ جهة من هذه الجهات خبراتٍ مهمةً، كما أن لديها بعضَ الإمكانات التي يمكن توظيفُها في إنتاج المعرفة المتخصِّصة التي تُساعد العاملينَ في حقول الدَّعوة والإغاثة والعمل الخيريِّ والإصلاح الاجتماعيِّ على القيام بمهامِّهم على أفضل وجه ممكن.
3 – في تاريخنا الإسلاميِّ إضاءاتٌ جميلة وتجاربُ ناجحة في هذا الشأن، حيث كان بعضُ الوجَهاء والأثرياء يفرِّغون بعض العلماء والأدباء للتأليف والبحث، وكانوا يُنفقون عليهم بسخاء لاعتقادهم بأهميَّة الدَّور العلميِّ والفكريِّ الذي يقومون به. وهذا ما تفعلُه بعضُ الدول المتقدِّمة اليوم – ألمانيا مثلاً – حيثُ يتفقون مع بعض النابغينَ وأصحاب الخبرَة الواسعة في بعض المجالات من أجل تقديم الدراسات والأفكار والمقتَرحات التي يمكنُ أن تستفيدَ منها الدولةُ في حلِّ مشكلاتها وتطوير أدائها. وتقومُ الدولةُ في المقابل بتهيئة المكان والبيئة والاحتياجات التي تساعد الخبيرَ على الإبداع والبحث والعطاء.
ومن الثابت أن فكرةً واحدةً من عالم مرموق قد توفِّر على الدولة الملايين، وقد تجلبُ لها مئات الملايين.
ومن الواضِح أن الأثرياءَ الذين يملكون الغيرةَ على مستقبل الأمَّة وكرامتها كثيرون جدّاً، لكن بسبب عدم الوعي بأهميَّة الأفكار والمفاهيم في تحقيق التقدُّم نجد عزوفاً شبهَ تام عن تمويل البحوث والدراسات وعن تفريغ العلماء والباحثين. وإذا أمكن لجهةٍ من الجهات أن تندُب نفسها لتشكيل إطار يجمعُ بين أهل الثراء وأهل العلم والخبرة، فإننا نكونُ قد حصلنا على خير عظيم.(/3)
4 – لابدَّ أن يكونَ للحكومات دورٌ أساسيٌّ في إنتاج المعارف الدقيقة والمتخصِّصة، وذلك عن طريق تفعيل البحث العلميِّ في الجامعات وعن طريق التشجيع والمساعدة على إنشاء مراكز البحوث والدراسات الأهليَّة، فالدولُ العربيَّة – ولا تبتعد عنها الدولُ الإسلاميَّة الأخرى – من أفقر دول العالم في أعداد المشتغلينَ بالبحث العلميِّ، كما هو معروفٌ ومشهور. ويمكنُ للحكومات أن تقومَ بدور جوهَريٍّ في هذا الشأن عن طريق إلزام الشركات والمصانع بتخصيص 1% على الأقلِّ من دخلها لإنشاء مراكزَ للبحث والتطوير تخدُم منتجاتها ومجالات عملها. وإذا تمَّ هذا فسنجد رواجاً غيرَ مسبوق للكتاب، وسوقاً واسعة جدّاً لعمل الباحثين والمبدعين والمخترعين، وستجني الأمَّةُ والبلاد الإسلاميَّة من وراء ذلك الكثيرَ الكثير من المنافع المتنوِّعة.
إن زماننا هذا هو زمانُ العلم والمعرفة، وإن العقلَ من غير معرفةٍ جيِّدة ودقيقة حديثة يكون مشلولَ القدرة على العمل، ومن واجبنا من هذه اللحظة أن نعملَ في ضوء هذا المفهوم.
وللحديث بقيَّة.(/4)
العنوان: أمة مستنيرة (2)
رقم المقالة: 472
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
ذكرتُ في مفتتح المقال السابق أن أمَّةَ الإسلام تواجه على صعيد الاستنارة واكتساب المعرفة تحدِّيَين أساسيَّين، وتحدَّثت عن أولهما وهو: إنتاج المعرفة المطلوبة للمعاصرة.
أما الثاني فيتمثَّل في نشر المعرفة وتعميمها. وهذا ما سأتحدَّث عنه اليوم.
لدينا على الصعيد الاجتماعي فكرةٌ جوهريَّة، هي أنه لا يعادل قوَّةَ الأفكار وصفاءها سوى إمكانيَّة نشرها؛ فالفكرةُ مهما كانت عظيمةً ومتألِّقة، تكون محدودةَ الفائدة والقيمة إذا لم ينجح تعميمُها على أعداد كبيرة من الناس بسبب بعض الاعتبارات المتعلِّقة بالفكرة نفسها.
وهذا المعنى يحتاج إلى أن يكونَ موضع اهتمام كلِّ أولئك الذين يقومون بالتنظير لإصلاح أوضاع العالم الإسلامي، إذ إن من المهمِّ أن ندرك مدى إمكانيَّة تطبيق الأفكار والنظريات التي نَعرضها على الناس، فنحن نعرفُ أن القيمَ والمبادئ والأفكار لا تعمل في فراغ، وإنما في إطار شروط وظروف ومعطَيات محدَّدة وملائمة.
وحتى تكون الفكرة واضحة أمثِّل بالمشروعات والأفكار التي طرحها أهل الخير والصلاح على صعيد توحيد أمَّة الإسلام، إذ إن من الملموس أن أياً منها لم يلقَ الاستجابة في أيِّ بلد إسلامي، مع أن الأمَّة كلها تتشوَّق إلى الوَحدة والاتحاد، ولكن المسألةَ ليست مسألة حبٍّ وشوق وإنما مسألة ملاءمة المشروعات الإصلاحية للظروف والأوضاع المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة...
إن نشر الوعي العامِّ وما يتطلَّبه ذلك من معارفَ ومعلومات ومفاهيم، يتطلَّب منا الكثير الكثير، ولعل من ذلك الكثير ما يأتي:(/1)
1– نحن ندرك على نحو جيِّد أن أمة الإسلام حديثةُ عهد بأميَّة، فالأميُّون ما زالوا يشكِّلون نحواً من (30%) من المسلمين، كما أن كثيراً من الذين يقرؤون ويكتبون لا يبتعدون كثيراً عن الأميِّين بسبب تدنِّي مستواهم المعرفي وإعراضهم عن القراءة... هذا كلُّه يعني أن علينا أن نحاول صياغةَ نوعين أو مستويَين من الخطاب:
أ – خطاب موجَّه لأصحاب الثقافة العليا من خرِّيجي الجامعات وطلاب الدِّراسات العليا، ومن قاربهم. وهذا الخطابُ يتناول المسائلَ الدقيقة والقضايا الفرعيَّة، كما أنه يعتمد سَوق البراهين المعقَّدة ويستخدم المفاهيم التي قد لا تكون مألوفة...
ب – خطاب تنويري تعليمي موجَّه إلى ذوي الثقافة الشعبيَّة والمتدنِّية، وهذا الخطاب يركِّز على الأساسيَّات، ويستخدم العاطفة في التأثير، وتكون تعبيراتُه سهلةَ الفهم، ولا يغوص نحو المسائل الفرعيَّة، كما أنه لا يطرح الرؤى الإستراتيجيَّة والقضايا الكبرى التي يشعر معظمُ الناس أنهم غيرُ قادرين على الإسهام فيها، لكنه يحاول إشعارَهم بأن هناك انحرافاتٍ وأخطاءً محددة، تحتاج إلى معالجة، ويسعى إلى مساعدتهم على حلها.
وإني أعتقد أن من الممكن اعتمادَ الكتب والمجلات بوصفها وسائلَ أساسيَّة في مخاطبة الصفوة، كما أن المقالات التي تُنشر في الشابكة (الإنترنت) تعدُّ وسيلةً ممتازة للوصول إلى الشباب الطامح والمتعلِّم.
أما الموادُّ المسموعة والمرئيَّة، فهي ملائمة جداً لكلِّ أولئك الذين يرغبون عن القراءة، ويزهدون في صُحبة الكتاب. ومن الواضح جدّاً أن أشرطة التسجيل (الكاسيت) والبرامج الجيِّدة التي تُبثُّ في الإذاعات والفضائيَّات – قد عرَّفت الناسَ بالكثير من أمور دينهم، ورفعت مستوى الوعي العامِّ لدى الخاصَّة والعامَّة.(/2)
ومن المهم أن أؤكِّد في هذا السِّياق أن استنارة الأمَّة تحتاج أن تتصف كلُّ الخطابات الموجَّهة إليها بالصِّدق والموضوعيَّة والدقَّة والتوازن والإنصاف، كما ينبغي أن تتَّسم بأكبر درجة ممكنة من الوضوح ووضع النِّقاط على الحروف. لا يصحُّ أبداً اللعب بعقول الناس وإخفاء الحقائق عنهم، كما لا يصحُّ تخدير مشاعرهم، بالعبارات التي تدلُّ على تفاؤل ليس له رصيدٌ من الواقع.
أضف إلى كلِّ هذا اتصاف الخطاب بـ(العمليَّة) فالأمَّة تعرف الكثير الكثير من فضائل الصلاح والاستقامة والتقدُّم، كما أنها تعرف الكثير الكثير من المبادئ والقيم والأخلاق المطلوبة لذلك، لكنها لا تعرف إلا القليل عن السياسات والبرامج والأساليب والأدوات التي ينبغي توفيرُها من أجل النُّهوض بجوانب الحياة المختلفة. ومن المهم أن أشيرَ إلى أن عدم الاهتمام ببحث هذه الأمور جعل تنظيرَنا للتقدُّم يتسم بالمثاليَّة ويمتلئ بالتكرار الذي يصلُ إلى حدِّ الابتذال!.
إن المطلوب على مستوى الخطاب هو أن ننتقل من (يجب) إلى (كيف)، ومن (المبادئ) و(الكلِّيَّات) إلى (الخطط) و(البرامج) و(الكيفيَّات)، فالناس يحتاجون حاجةً ماسَّة إلى من يدلُّهم على الطريق، ويساعدهم على المضيِّ فيه، ويوفِّر لهم الأدوات التي يمكن أن يستخدموها في كلِّ ذلك.
2- من المهمِّ أن يدرك صنَّاع الأفكار والمنظِّرون للتقدُّم أن هناك عقبةً كؤوداً تحول دون تحقيق تواصُلهم مع الجماهير العريضة، وتلك العقبةُ تتمثَّل في إعراض معظم الشباب المسلم عن القراءة والاطِّلاع. إذ ما الفائدةُ من الكتب العظيمة التي نؤلِّفها إذا كان الناس الذين نظنُّ أنهم يحتاجون إليها معرضين عنها؟! وما فائدةُ الأنوار الساطعة إذا كانت توقَد في دار يسكنُها العُميان؟.(/3)
نحن نخطئ كثيراً إذا كنا نظنُّ أن الناسَ بطبعهم يميلون إلى تكبُّد مشاقِّ التعلُّم والتفكير، فالأمر ليس كذلك، فحبسُ النفس على معالجة الأفكار، والجلوسُ الساعات الطويلة من أجل زيادة المعرفة الشخصيَّة... يحتاجان إلى تربية وبيئة ملائمة وإلى مجاهدة للنفس.
وفي إمكاني القول: إن إعراضَ الإنسان المسلم عن القراءة هو أحد مُفرزات التخلُّف الذي نعانيه.
وإذا أردنا التفصيل، فيمكن أن نقول: إن البيئة المنزليَّة خالية أو شبهُ خالية من التقاليد الثقافيَّة التي تمجِّد العلم، وتغرس حبَّه في نفوس الصغار، كما أن ظروفَ احتكاك معظم أبنائنا مع الكتاب في المدارس هي ظروف محبطة وسلبيَّة، أضف إلى هذا أن معظمَ الوظائف والأعمال في ديار المسلمين لا تحتاج ممارستها إلى الازدياد من المعرفة، وإذا أردنا للاستنارة العامَّة أن تتوقَّد من جديد، فلابدَّ من معالجة هذه القضايا على النحو الصحيح.
والله الموفِّق
للحديث صلة(/4)
العنوان: أمة مستنيرة (3)
رقم المقالة: 501
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
تحدثتُ في الحلقة الماضية عن مشكلة إعراض كثير من الشباب المسلم عن القراءة، وقلت: إن هذا يشكِّل أزمةً كبرى؛ حيث إن العالمَ اتخذ من العلم والتقنية أساساً للنهضة الحديثة؛ وأعتقد أن علينا أن نبحثَ عن حلول لمعالجة تلك المشكلة الخطيرة، والحقيقة أن الذي كُتب في العثور عن حلٍّ ليس بالقليل، لكن نتائجه ضئيلةٌ ومحدودة! ومما يمكن أن يُقال على هذا الصعيد:
1 – مسألة تحفيز الناس على القراءة مسألةٌ كبرى ومعقَّدة، ولابد من أن تشتركَ الحكومات والشعوب في العمل عليها في إطار مشروع وطنيٍّ للقراءة.
نحن بحاجة إلى تشكيل لجان محلِّية مهمتها التفاوضُ مع الأثرياء الذين حباهم الله – تعالى – القصورَ والبيوت الواسعة من أجل وقف زوايا منها على المشروع وتجهيزها بالكتُب وتهيئتها للمطالعة وممارسة الأنشطة الثقافيَّة المختلفة.
كما أن من مهامِّ اللجان المحلِّية تنظيمَ المسابقات والبرامج التي تُتيح للنشء الانخراطَ في تعرُّف الكتب والاستفادة منها، كما أنها تحاول مساعدتَهم على إتقان أساليب القراءة المثمرة وأساليب قراءة الكتب الصعبة. وبما أن كثيراً من الشباب مرتبكون في أمورهم المعيشيَّة، فإن من الأهميَّة بمكان أن تسعى لجانُ الأحياء إلى توفير دعم لأعداد كبيرة من الكتب الممتازة بغيةَ بيعها للقرَّاء بأسعار مخفَّضة.
سنفعل الكثير مما ذكرتُ إذا اعتقدنا أن الأنشطةَ الثقافيَّة والمعرفيَّة تنتمي إلى القطاعات الهشَّة التي لا تنتعشُ من غير مساعدة مستمرَّة من الحكومات ومن أهل الخير وكلِّ أولئك الذين يغارون على أمَّتهم، ويسعَون إلى النهوض بأوضاعها. وأنا هنا لا أحلم، بل أعتقد جازماً أننا سنرى الكثيرَ من العطاءات الخيِّرة في هذا المجال وبأكثرَ مما نظن!.(/1)
2 – الإنتاج المعرفيُّ المتوافر اليوم هائلٌ وفي تزايد مستمر، وإن كثيراً من الشباب حائرون في اختيار الكتُب التي عليهم أن يقرؤوها، كما أنهم حائرون في التعامل مع الكتُب المشوبة بالأفكار المغلوطة والمنحرفة.
وبعض الشباب لا يستطيعون تحديدَ الكتب التي يحسُن أن يقرؤوها أولاً، ثم ينتقلوا إلى ما بعدها في علم أو فنٍّ محدد... وأعتقد أن علينا أن نقومَ بجهود كبيرة على صعيد (تيسير المعرفة) وتسهيل التعامل معها، وذلك من خلال الآتي:
على الأقسام العلميَّة في الجامعات أن تقومَ بدورها في هذا الشأن من خلال تأليف كتب صغيرة ومتوسِّطة الحجم في التخصُّصات التي يتولَّى القسم العلميُّ رعايتها وتدريسها، وينبغي أن تتناولَ تلك المؤلَّفات المسائل الأساسيَّة في ذلك التخصص بعيداً عن الخلافات والتفريعات والحجج والبراهين، وينبغي أن تُكتب بأسلوب سهل وميسَّر وذلك حتى يتمكَّن أكبر عدد ممكن من الناس من قراءتها واستيعابها.
وهذا المشروع كبيرٌ جداً؛ حيث إننا نحتاج في التخصُّص الواحد إلى عشرات الرسائل والكتيِّبات؛ ولكم أن تتصوَّروا ما نحتاج إليه من ذلك في الطبِّ – على سبيل المثال – حيث إن لدينا عشراتِ الأمراض المتفشيةَ والتي يحتاج فيها الناس إلى المعرفة الطبيَّة التي تمكِّنهم من التعامل معها، كما أننا في حاجة إلى عشرات الرسائل التي تُعلم الناس المحافظةَ على الصحة والوقايةَ من الأمراض.
ومثل هذا المشروع العملاق لا يمكن أن يُنجَز إذا ما تُرك لمبادرات أساتذة الجامعات والمعاهد العليا والمتخصِّصين عامَّة، وشواهدُ الماضي تؤكِّد هذا، بل لابد إلى جانب المبادرة الشخصيَّة من تبنِّي الجامعات ووزارات التربية والتعليم العالي والثقافة لذلك، فالمسألةُ لا تتعلَّق بزيادة المعرفة لدى الناس، ولكن بنشر (الثقافة العلميَّة) والتأسيس للنظرة العقلانية للحياة والأحياء.(/2)
والناس في حاجة أيضاً إلى الرسائل والكتيِّبات الميسَّرة ذات الطابع العملي، أي التي تُساعدهم على قضاء حاجاتهم والتعامل مع الأجهزة والأدوات التي بين أيديهم، كما تُساعدهم كذلك على كسب رزقهم، وهذه الرسائل لا تقلُّ أهميَّتُها عن السابقة بسبب مساعدتها على القضاء على البَطالة ومساعدتها الناس في الاعتماد على أنفسهم في إنجاز بعض أعمالهم، وإليك بعضَ الأمثلة على ذلك:
- رسائل تعلِّم الناس طرائقَ زراعة المساحات الصغيرة في أفنية منازلهم.
- رسائل تشرح للناس طرائقَ صيانة منازلهم وإصلاح الأعطال الصغيرة التي تُصاب بها بعض الأجهزة المنزليَّة.
- تعليم النساء في البيوت بعض الأعمال اليدويَّة التي تؤمِّن دخلاً إضافياً للأسرة.
- رسائل تساعد الناس على تدبير شؤونهم الماليَّة، كما تعلِّمهم طريقةَ إدارة الموارد المحدودة.
- تعليم الأزواج والزوجات الأساليبَ التي تحسِّن مستوى الوفاق والتفاهم بينهم، كما تساعدهم على الاهتداء إلى الأساليب الناجحة في تربية أبنائهم.
3 – إن التقدُّم التقني أتاح للعالم وسائلَ جديدة للتثقيف والتنوير، لا تقلُّ في أهميتها اليوم عن الكتاب، فـ(الإنترنت) و(البث الفضائي) على سبيل المثال وسيلتان عظيمتان جداً في نشر المعرفة وترسيخها، ونحن في حاجة ماسَّة اليوم إلى زيادة المواقع والقنوات الفضائيَّة المتخصِّصة؛ مواقع وقنوات تتحدَّث عن الدعوة والإصلاح والفكر والتربية وفعل الخير والعمل الإغاثي، كما تتحدَّث عن الإبداع والتصنيع والعلاقات الدوليَّة والتخطيط الإستراتيجي...(/3)
إنني أحلُم أن يجد الواحدُ منا في المستقبل القريب مواقعَ إلكترونيَّة متخصِّصة تخصُّصاً دقيقاً، حتى يجد الواحد منا كلَّ المعلومات والمعطيات والخبرات التي يحتاج إليها في أيِّ موضوع من الموضوعات أو مجال من المجالات... والقيام بهذا ممكنٌ وسهل بسبب رخص التكاليف ويُسر المتطلَّبات، لكن هذا لن يكونَ إذا لم يساهم كلُّ عالم وكلُّ خبير ومتخصِّص في ذلك على نحوٍ جادٍّ وفعَّال.
آمُل من إخواني المتخصِّصين ومن نفسي أن نتساءل: إذا كان المسلمون يعانون الجهلَ وضحالة المعرفة، فهل وجود الواحد منا في التعليم وفي المؤسَّسات الثقافية والتربوية هو جُزء من المشكلة أو جزء من الحلِّ؟.
والله ولي التوفيق(/4)
العنوان: امرأة عربية تقود النضال دفاعاً عن الدعوة السلفية
رقم المقالة: 391
صاحب المقالة: د. عبدالمنعم إبراهيم الدسوقي الجميعي
-----------------------------------------
الباحث في تاريخ المرأة العربية دائماً يتجشم المشقة في بحثه، ويتعرض للعقبات الكأْداء التي لا يذللها إلا التنقيب في بطون الأسفار، سواء أكانت المطبوعة أم المخطوطة لعله يصل إلى حاجته.
وتاريخ غالية البقميّة[1] – تلك المرأة العربية التي خرجت في وقت المحن، تثير حَمِيَّة الرجال المدافعين عن وطنها، وتنفق الغالي والنفيس من أجل مواجهة قوات محمد علي الغازية لبلادها، لدرجة أنها كانت تثير الرعب والخوف بين صفوف هذه القوات عند سماعهم باسمها[2] – هذا التاريخ لهو جدير حقاً بالتعريف به، وإبراز دور صاحبته حتى يتعرف أبناء هذه الأمة حقيقة البطولات الضخمة والمواقف الحاسمة التي لم تقتصر على الرجال بل شملت النساء أيضاً.
وللتعريف بتلك السيدة نقول: إنها من عرب البقوم، من بادية ما بين الحجاز ونجد، كانت أرملة رجل من أثرياء البقوم، وأحد مشايخ سبيع[3] الذين كانوا أسبق أهل الحجاز إلى موالاة نجد، ومساندة للدعوة الإصلاحية التي قادها الشيخ محمد بن عبدالوهاب والذين كانت لهم مواقف معروفة في أثناء محاربة العثمانيين وقوات محمد علي للدعوة ورجالاتها[4].
وكانت غالية من سراة قومها أوتيت من الثروة حظاً كبيراً فكان لديها من الثروة ما يفوق ما لدى أسرة عربية في منطقتها، واشتهرت بالكرم حيث كان بيتها مقصداً للمحتاجين، فكانت توزع نقوداً ومؤناً على فقراء قبيلتها الذين كانوا على استعداد لقتال الغزاة الطامعين في بلادها. كما كان بَيْتُها مَلْجأً لكل رجالات الدعوة المخلصين الذين يعقد زعماؤهم مجالسهم في بيتها[5].
وكانت هذه السيدة سديدة الرأي نافذة البصيرة، على معرفة بأمور القبائل المحيطة بها.(/1)
وبالرغم من أن البقوم كان لهم زعيم رسمي اسمه ابن جرشان[6] فقد كان صوت (غالية) مسموعاً في كافة المجالس تشارك أبناء وطنها في تصريف الأمور، كما كان لها في معظم الأحوال الكلمة العليا والرأي المطاع[7] لدرجة أن بَالَغَ أبناءُ بلدتها في تقديرها فَنَعَتُوها بالأميرة[8]، كما بالغ الأعداءُ في التَّشْهير بها فوصفوها بالساحرة الذين أصبح قادة الدعوة بفضل وسائلها لا يغلبون[9].
وعن قصة بطولة هذه السيدة نقول: إن اسمها ذاع في معظم أنحاء الجزيرة العربية بعد أنْ أنفذ طوسون باشا جيشاً بقيادة مصطفى بك أحد قواده لمهاجمة رجالات الدعوة الذين اتخذوا من تُربة[10] معسكراً لهم، وأحاطوها بالخنادق[11] وشاركت هذه السيدة المدافعين في الدفاع عن بلدتها[12] وضَاعَفتْ من هِمَمِهِمْ وأثارتْ فيهم الحمية والحماسة[13] وألهبتْ فيهم روح الانتقام من الغزاة مما زاد من مخاوف الجنود الأتراك، وثَبْط من هممهم، وزادت من ثقة الأهالي بأنفسهم[14] وانْتَهى الأمر بهزيمة قوات مصطفى باشا وقتل معظم أفرادها، وارتداد الباقين منهم على أعقابهم[15] بعد أن تركوا مدافعهم وذخيرتهم[16].
ونتيجة لفشل هذه الحملة صمم محمد علي على قِيام قواته بهجوم آخر في ذي الحجة 1228هـ/ نوفمبر 1813م فأرسل ابنه طوسون على رأس قوة مؤلفة من ألفي جُنْدِيٍّ من أجل الاستيلاء على تربة[17]، وغسل عار الهزيمة التي لحقتْ بقواته ولكنه لم يتمكن من ذلك بل مُنِيَتْ قواتُه بأفدح الخسائر.
وعن هذه الواقعة نعرض لما ذكره بعض المؤرخين. يقول المؤرخ النجدي عثمان بن بشر: "أقبل طوسون ومن معه من العساكر والجموع، ونازلوا أهل بلدة تُرَبة وحاصروها نحو أربعة أيام، ونَصبوا على قُصورها المدافع والقنابر، ورموها رَمْياً كثيراً فلم يؤثر فيها شيئاً، وأنزل الله الرعب فيه وفي عساكره، ورحل عنها بعدما قتل من قومه قتلى كثيرة"[18].(/2)
ويقول المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي: "إن طوسون باشا وعابدين بك ركبوا بعساكرهم على ناحية تربة التي بها المرأة التي يقال لها غالية، فَوقَعتْ بينهم حروب ثمانية أيام ثم رجعوا منهزمين، ولم يظفروا بطائل"[19].
ويقول محمود فهمي المهندس: "ففي أوائل نوفمبر 1813م (ذي الحجة 1228هـ) سافر طوسون من الطائف ومعه ألفا نَفْسٍ، للغارة على تربة وأمر عساكره بالهجوم. وكان العرب محافظين على أسوار المدينة بشجاعة ومستبشرين بوجود (غالية) معهم وهي المقدمة عليهم فَصَدُّوا طوسون وعساكره، واضطر هؤلاء إلى ترك خيامهم وسلاحهم وقتل منهم في ارتدادهم نحو سبع مَئة نفس، ومات كثيرون جوعاً وعطشاً"[20].
أما عن الرحالة السويسري بوركهارت فيقول: "إن طوسون أمر جنوده بمهاجمة البلدة فَوْراً، ولكن العرب دافعوا عن أسوارها ببسالة تشجعهم جهود غالية"[21].
ولما أصدر طوسون أوامره بإعادة الهجوم على تربة مرة أخرى أعلن جنوده صراحة أنهم يرفُضون محاربة غالية كما أعربوا عن خشيتهم من الهزيمة مرة أخرى، وحثوه على الانسحاب إلى الطائف.
وخلال انسحاب قوات طوسون خرج البدو الذين شعروا بالوضع الحرج للقوات المهاجمة، وهاجموها بِعُنْفٍ، واستولوا على الممرات التي في طريقها لدرجة أن هذه القوات اضطرت في نهاية الأمر إلى الهرب تاركة أمْتِعَتَها وخيامها وأقواتها ومدافعها[22].
ونتيجة لذلك أَرسل طوسون إلى أبيه يطلب النجدة فاعتزم محمد علي أن يسير بنفسه إلى الحجاز لمتابعة القتَال، وكان أول ما فعله أن اعْتَقَل الشريف غالب أمير مكة لارتيابه في اخلاصه، وعهد إلى ابنه طوسون أن يتخذ من الطائف مقرًّا لقيادته.(/3)
وعلى كل حال فإنه نتيجة للهزائم المتكررة التي لحقت بقوات محمد علي في تربة أرسل زعماء هذه المنطقة برسالة إلى محمد علي يتهكمون عليه ومضمونها: إنَّ أعقل خطة له هو أن يعود إلى مصر، ويتمتع بِماء النيل، أما إذا رأى أن يعاود الكرة معهم مرة أخرى فينبغي عليه أن يأتي بجنود أفضل من أولئك الذين يقودهم الآن[23].
واستمر انتصارُ أهالي تُرَبة أَمام قوات محمد علي ماثلاً للعيان، وحافزاً لأهالي الجزيرة العربية على المقاومة والنضال حتى تمكنَتْ قواتُ محمد علي من الانْتصار في بِسْل[24] والوصول إلى تربة، ونتيجة لذلك لجأت (غالية) إلى البدو ولما كان محمد علي يطمع في القبض عليها وإرسالها إلى عاصمة الدولة العثمانية تذكاراً لانتصاره، فقد حاول إقناعها بالعودة إلى بلدتها، وبذل لها الوعود والأماني ولكنها لم تثق فيها عرض عليها من وعود[25]، وظَلَّتْ بعيدة عن أنظار محمد علي وقواته.
ومما سبق يتّضِحُ أن غالية البقمية قد نجحت في إثارة الحمية والحماسة في أبناء وطنها حتى نجحوا في رَدَّ مطامع القوات الغازية لبلادها، ورَدَّ كيدها إلى نحورها. فقد خرجتْ في وقت المحنة تثير حمية الرجال، معرضة نفسها للموت، ولا سبيل أمامها سوى النّصر أو الشهادة، مستعذبة في ذلك كل المشاق والمتَاعب.
ــــــــــــــــــــ
[1] البقوم من القبائل العربية الكبيرة مقرها جبل حضن وأطرافه حتى تربة والخرمة وأصل البقوم من الأزد، وهم أهل قوة وبأس.
انظر. فؤاد حمزة: في بلاد عسير، القاهرة، دار الكتاب العربي 1951 ص26.
[2] جامعة الرياض: دراسات تاريخ الجزيرة العربية – مصادر تاريخ الجزيرة العربية جـ2، الرياض، مطابع جامعة الرياض 1399هـ/ 1979م ص460.
[3] بيير كرابيتيس: إبراهيم باشا – ترجمة محمد بدران – القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1937 ص21 – 22.(/4)
[4] عمر رضا كحالة: أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام، بيروت، الرسالة، الطبعة الخامسة 1404هـ/1984م، جـ4 (العرب: كيف يكون من البقوم وشيخاً لقبيلة سبيع؟!).
[5] جوهان لودفيج بوركهارت: مواد التاريخ الوهابيين – ترجمة د.عبدالله الصالح العثيمين، الرياض، الطبعة الأولى 1405هـ/1985م ص141.
[6] نفسه.
[7] كرابيتيس: المرجع السابق ص22.
[8] خير الدين الزركلي: الأعلام – قاموس تراجم، المجلد الخامس بيروت، دار العلم للملايين ص115.
[9] بوركهارت: المرجع السابق ص141.
[10] على مسافة 80 ميلاً من الطائف، وتعتبر مفتاح نجد إلى الشرق واليمن إلى الجنوب.
[11] عبدالرحمن الرافعي: ((عصر محمد علي))، القاهرة، النهضة المصرية الطبعة الثالثة 1370هـ/1951م ص139.
[12] كرابيتيس: المرجع السابق ص21 – 22.
[13] عبدالرحمن زكي: ((التاريخ الحربي لعصر محمد علي))، القاهرة، دار المعارف 1950م ص50.
[14] بوركهارت: المرجع السابق ص141.
[15] للتفاصيل انظر، عبدالرحمن الجبرتي: ((عجائب الآثار في التراجم والأخبار)) جـ3، بيروت، دار الجبل، حوادث شهر صفر يوم الأحد 1229هـ ص447.
[16] الرافعي: المرجع السابق ص140.
[17] بوركهارت: المرجع السابق ص142.
[18] انظر ((عنوان المجد في تاريخ نجد)) جـ1، الرياض، الطبعة الثالثة 1385هـ ص201.
[19] الجبرتي: المصدر السابق جـ3 حوادث شهر جمادى الأولى 1299هـ ص453.
[20] انظر ((البحر الزاخر في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر)) جـ1 ص183.
[21] بوركهارت: المرجع السابق ص142.
[22] نفسه.
[23] بوركهارت: المرجع السابق ص166.
[24] تقع بين الطائف وتربةَ، وقد تمكنت قوات محمد علي من احتلالها في 28 من محرم 1230هـ الموافق 10 يناير 1815م وذلك بعد معركة عنيفة مع قوات الأمير فيصل بن سعود. لتفاصيل ذلك انظر، عبدالرحمن الرافعي: المرجع السابق ص112.(/5)
[25] بوركهارت: المرجع السابق ص176، ويذكر محمود فهمي المهندس أن محمد علي تكدر كثيراً من هرب غالية ونجاتها من يده لأنه في اشتياق زائد لإرسالها إلى القسطنطينية انظر ((البحر الزاخر)) وأيضاً مجلة ((العرب)) س15 رمضان شوال 1400هـ ص263.(/6)
العنوان: أمراض اليهود المستعصية
رقم المقالة: 577
صاحب المقالة: محمد علي الزعبي
-----------------------------------------
اليهودي يشبه الناس خلقاً لا خُلُقاً، ولا ريب في أن انفراده هذا كوّن منه إنساناً – أو مخلوقاً – ينفرد بصفات هي أمراض كلما مرت الدهور وكرت العصور تضاعفت قوتها وطغى شرها، أمراض كثيرة حسبنا الآن منها:
1 – مرض الجشع:
لليهود أسلوب يستحيل على سواهم إتقانه، فقد كانوا سبياً ببابل منذ 26 قرناً، فزعموا للملك أن خيرات الأرض والزروع والثمار والأمطار ومَوْر الرياح لا يهبها الله لأي إنسان إلا ببركتهم إذ هم شجرة الورد والأمم إلى جانبها أشواك، والأرض ومن عليها لهم.
ولذا عليهم أن ينتزعوها ويبيدوا الشعوب التي تجرّأت على اختلاس ما ليس لها، ليضعوا أيديهم على زمام ومقادير العالم ويصرّفوا سياسته عملاً بما خطط العهد القديم الذي رشحهم لهذا بقوله:
"ينزلون نقمتهم بالأمم وتأديباتهم بالشعوب ويأسرون ملوكهم واشرافها بأغلال من حديد وينفذون فيهم الحكم المطلوب"[1].
وحيث أن العالم كله يعيش بمال وأرض اليهود فسرقة مال أي شخص من الأمميين (وهم كل من ليس يهودياً) واجبة، واعادة اللقطة له محرّمة، وحبه جريمة وإبادته عبادة.
على هذه النظرية التي ألحقوها بكتبهم وشرحوها بتلمودهم وخيلوا للعامّة وحياً غير مكتوب، أقام فيلسوفهم (موسى بن ميمون) تفاسيره فرأى الزنا محرماً لكن باليهودية والسرقة محرمة لكن من اليهودي... قياساً على الوحي الذي أباح الربا من سوى اليهودي وحرّمه من اليهودي[2].
إله إسرائيل – كما صوّروه بعهدهم وتلمودهم – يحتكر الذهب والفضة ويأنس بالدم، وهو (طبعاً) قدوة شعبه المختار المتحفز المتربص الحريص على اغتيال الناس بكل ظفر وناب، المصمم على إبادة جميع العالم – وفي مقدمتهم المصريون – حرصاً على استمراره وسيادته وبعثاً لعفريت الأنانية الذي قبع في وسطه قروناً وأخذ الآن يحاول الانطلاق مجسّداً.(/1)
إله إسرائيل في الوحي الذي ألصقوه به، كوّن منهم أذكياء وعباقرة لكن في انتزاع لقمة الخبز اليابسة من أفواه البائسين، إذ الأمم جمادات غير جديرة بالتملّك.
إن جميع الأمم ترى الزهد بما في أيدي الناس فضيلة والكف عن ضررهم ديناً، أما اليهودي فيرى سلبهم واجباً وزلفى[3].
ولئن أطلق العهد القديم على الأمم – جميع الأمم سوى اليهود – كلمة (حيوانات) فقد أضاف التلموديون لهذا الاطلاق اجتهاداً جديداً هو كلمة (شيء) أي جمادات لأن الحيوان يحس ويتألم ويشعر وقد يدجنه صاحبه ويستلزم العطف.
أما سوى اليهود فلم يبلغوا درجته إذ هم حجارة تحطمها الذرّية المختارة وحطب تحرقه وحديد تصهره.
ألا يا مساكين!
يا من كنتم في العهد القديم حيوانات فأصبحتم بالتلمود أشياء، لا تظنوا أن هذا منهاج تيودور هرتزل صاحب كتاب (الدولة اليهودية)، ولا منهاج الصهيونية التي يكذب عليكم المسممون ويزعمون أنها شيء واليهودية شيء آخر، بل منهاج العهد القديم نفسه، إذ هو فاتح باب استعباد الأمم.
لا خداع بعد اليوم، إن الصهيونية هي يهودية العهد القديم نفسها، إذ هو جذور ما ترون من لؤم، أما ساقه وأغصانه فالتلمود والصهيونية والبروتوكولات وأما ثماره فما تشاهدون.
الا، لقد فاتكم – إلا أفراداً – إن القوم ما زالوا يبالغون بالتحالف مع الشيطان حتى أصبحوا حزبه، إذ حظه من الأمم مجموعها ومنهم جميعهم مع التفاوت إذ (منهم أمة مقتصدة) أي أقل لؤماً من سواها.
الا، تعلموا أصول الفقه من التلمود، إذ يرى الأيمان الكاذبة لهضم حقوق الحيوانات أو الأشياء واجبة بل فضيلة لا سيما إذا أفضت لنفع اليهود فردياً أو جماعياً، وها هو يمدنا بهذا النص:
1 - ((احلف عشرين يميناً كاذباً لتوصل فلساً واحداً ليهودي)).
2 - ((إذا قتلت غير يهودي احلف انك ما قتلت انساناً لأنك قتلت خنزيراً)).
مرض التعالي والأنانية:(/2)
من نافذة هذا المرض تخيلوا أنفسهم شعباً مختاراً رغم أن المسيح حاول شفاءهم وأفهمهم ان الله قادر على أن تخلق من الحجارة أولاداً لإبراهيم، بل شاهدوا جميع العالم ليس شعوباً بل حيوانات سائمة خلقها الله لخدمة الشعب الجليل المختار.
لا إنسانية في هذا المرض ولا أناسي إذ هما كلمتان لا تعنيان إلا اليهود.
هذا المرض دفعهم لاستباحة أموال الناس وكراماتهم وازدراء وازدراء كل ما يراه الناس مُثُلاً عليا.
هذا المرض ساعدهم على عدم احترام العهود والمواثيق لأن إله إسرائيل نفسه أمر بنقض أي عهد وميثاق مع سواهم[4] وأرادهم أفعى تمتص دم الشعوب.
على أسس هذا المرض أقاموا علاقاتهم بالشعوب وبيّنوا ما يدك مجدها، لأنها ليست شعوباً ولأن أديانها ليست أدياناً إذ لا دين جدير بالحياة والاستمرار إلا ما يحتفظ به العهد القديم والتلمود.
هذا ما يضمرون، وما يتناثر من فلتات ألسنتهم وأقلامهم، ولئن جاملوا سعياً وراء الصيد والافتراس فقد فضح الواقع أسرارهم وأذاع دواخلهم، وذكّرنا بقول الشاعر:
ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا التحفت به فإنك عار
مرض احتكار الله!
اليهود، احتكروا الله ووحيه ورسالاته، إذ سواهم من الأمم ليست جديرة بتلقي الوحي لأنها ليست شعوباً بل حيوانات وأشياء.
هذا الاحتكار مدخل لمرض خطير، أقامهم ويلاً على الأمم.
احتكروا الله وأظهروه بثوب المتحيّز الذي يرسل أشعة شمسه على بعض عباده دون بعض. لقد خلقوا هذا المرض وزركشوه بثوب من دين وأضافوه – كعادتهم – إلى الله نفسه! لقد قالوا ولا يزالون يقولون (قلوبنا غلف) أي يعلوها غطاء يحول بين السمع والوعي.
اتسع خيالهم الاحتكاري حتى وصل إلى مناصبة جبريل العداوة، لأن يهوه الله أمره بحصر الوحي باسرائيل فخالف ومنحه شخصين من الناصرة ومكة.
ضحكوا ولا يزالون يضحكون على ضعيفي العقول بأن الذبيح اسحق وأن إسماعيل محروم لأنه ابن جارية[5].(/3)
تآمروا على المسيح بقصتي (مريم المجدلية) و(اعطوا ما لقيصر لقيصر) وكلموا محمداً كلاماً مبطناً مثل كلمة (راعنا) التي تعطي معنيي الرعاية والرعونة، وكلمة (السام عليكم).
احتكروه (تعالى) وتمردوا عليه ورأوه مغلوباً مستسلماً أما يعقوب[6] وصوروه يقرأ التلمود واقفاً إذ الحق مع التلموديين دونه!
ظنوا أن الله لا يجازيهم لأنهم أبناؤه وأحباؤه ولكنه ضربهم بيد (شيشق) ملك مصر و(بنهدد) ملك دمشق وبيد الفرس والرومان والروم واليونان والأدوميين، ورغم هذا ثابروا على الاحتكار.
قالوا عن المسيح (يتعلم الحيل من بعلزبول) وعن محمد (يتعلم الوحي من عدّاس)، ونادوا (نؤمن بما أنزل علينا)، ولكنهم سطوا على ما انزل عليهم.
غرقوا بمستنقع الاحتكار ورأوا شمس الله تشرق على ذرية إسرائيل وحده ونسوا أن عهدهم بشعيب وهو مدياني وبيونس وهو آرامي وبأيوب وهو عربي.
ارتدوا ثوبين: أحدهما يخاطبون به الأقوياء، إذ طالما رأيناهم يخاطبون ملوك مصر بكلمة (عبدكم)، وآخر للتعالي إذ ألصقوا بالوحي أنه اختارهم وأنبت لهم قروناً لينطحوا العالم ويبدأون بمصر.
ولا عجب من منهاج الاحتكار هذا فهم – كما وصفهم المسيح – عميان يقودون عمياناً وكنيف مبيض وروث مغفض[7].
المبررات التي أعدّوها لتبرير انغماسهم بهذه الأمراض:
بكل جزم وتصميم وتحدٍ نقول:
لا يوجد بين يدي اليهود كُتب تعود لعهد موسى، إذ كل ما لديهم الآن يعود لعصر عزرا وما بعده، وبين هذا وبين موسى أحد عشر قرناً.
لقد كتبوا ما شاءوا – كما شاءوا – فجاء ما كتبوه تبريراً للنفسية الدنيئة التي يحملونها، مثلاً:
1 - ليبرروا إبادة سكان فلسطين أولاً صوروا الله ينفذ قانون الإبادة بكنعان.
2 - ليبرروا السطو على أعراض الناس صوروا موسى عشيقاً لامرأة كوشية وأقاموا الله محامياً عنه.
3 - ليبرروا التجارة بالأعراض صوروا إبراهيم يقدّم زوجته لملك النقب ليكسب بقراً وجمالاً وحميراً.(/4)
4 - ليبرروا الاغتيال والتآمر، صوروا داود يتآمر على قائده (أوريّا) ويظفر بزوجته فتلد سليمان على فراش غير شرعي.
5 - ليبرروا السرقة صوروا إسرائيل يسرق صنم خاله الذهبي.
6 - ليبرروا الاحتيال صوروا يعقوب يحتال على أبيه ويقدّم له رشوة من أكلة العدس!
7 - ليبرروا التعالي والغطرسة صوروا الله ذليلاً بين يدي إسرائيل.
8 - ليبرروا اعتناق أديان الناس بقصد هدمها صوروا سليمان يسجد للأصنام.
9 - ليبرروا إبادة العرب زعموا أن إيليا قتل من أطفال الفلسطينيين خمسة وأربعين طفلاً كي ينجيهم وذراريهم من عذاب القيامة (رغم أن اليهود لا يعتقدون بالقيامة).
10 - ليبرروا الإجهاز على ضفتي الأردن زعموا أن لوطاً زنا بابنتيه فأنسلتا شعب الأردن، وأن الله أمر بإبادته كفارة عن خطيئة لوط.
11 - ليبرروا إبادة العرب، وفي مقدمتهم المصريون، زعموا أن لنوح ولداً يدعى كنعان، وأن هذا مطرودٌ بأمر الله، والطرد يقتضي الإبادة.
12 - ليبرروا مذهب العري والرقص العاري، صوروا داود يرقص أمام التابوت عارياً.
13 - ليبرروا السجود للذهب صوروا هارون يعبد عجلاً ذهبياً.
أما تبريرهم قتل الأطفال بنصوص العهد القديم فحسبنا أن نعرض طرفاً من أخبار ((الخنّاقين)) و(جمعية سر الام المكتوم) وهذا ما نعالجه بكلمة آتية (بحول الله).
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] سفر المزامير، فصل 149.
[2] إباحة الربا من سوى اليهودي راجعها في العهد القديم:
1 – سفر اللاويين 25 – 35.
2 – سفر الثنية 23 – 19.
3 – سفر الخروج 22 – 25.
وقد صرح القرآن الكريم بأن وحي موسى منزه عن هذا الوضع فقال تعالى: "وأكلهم الربا وقد نهوا عنه" أي حذفوا النهي وأدخلوا الإباحة.
[3] أواه، لو شاطرني القارئ نعمة الاطلاع على درجات الماسونية الرفيعة ليرى تعليقها على الشعب الجليلي الذي أعده إله إسرائيل لسيادة العالم.(/5)
[4] راجع فصول 7 و10 و12 من سفر يشوع تر إله إسرائيل يأمر بنقض العهود، وراجع سفر نحميا فصل 2 و4 و20 و21 فترى رد الفعل العربي الكنعاني الذي دفع قاسماً العربي قائد العرب منذ أربعة وعشرين قرناً لقتال إسرائيل وحرمانه من تجديد الهيكل. وراجع 1 و6 و7 و11 و20 و21 و32 من سفر التثنية فتر اسرائيل لصاً يحمل ضبطاً موقعاً بتوقيعه يدينه بالجرم المشهود.
[5] كثيراً ما قال المبشرون أمامي: اسماعيل محروم لأن البكورية لابن الزوجة الأولى، وما أن قلت لهم: إن سليمان ابن الزوجة السبعمئة من زوجات داود حتى كانت هذه ختام الجلسة!؟
[6] العهد القديم يصور الله مستسلماً ليعقوب.
[7] لهذا مراجع كثيرة جداً في الانجيل.(/6)
العنوان: أمريكا.. أمة تستحق الإشفاق
رقم المقالة: 1898
صاحب المقالة: طارق حسن السقا
-----------------------------------------
منذ أيام قلائل نشرت جريدةُ الأهالي المصرية خبرًا صغيرًا مفاده أن طلاب جامعة المنصورة (شمال مصر) نجحوا في طرد السفير الأمريكي (ريتشارد دوني) من الجامعة، حيث قوبل موكبُ السفير الأمريكي لدى اقترابه من بوابة الجامعة بهتافات الطلاب المناوئة للسياسة الأمريكية في المنطقة، والتي نددت بالاحتلال الأمريكي للعراق، والتدخل السافر في الشأن المصري، ومحاباة أمريكا لإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. وذلك أجبر السفير الأمريكي على الانصراف فورًا من الجامعة، في انتصار حقيقي لإرادة جيل جديد من الأجيال التي نشأت على كُرهِ وبغضِ كل ما هو أمريكي، ولكن السؤال الكبير: "لماذا"؟
لقد سرحت بخاطري متسائلاً: ما الذي جعل الولاياتِ المتحدة تصلُ إلي هذه الدرجة من الكره والبغض في كل مكان في العالم؟ ما الذي جعل العلَمَ الأمريكي يُداس بالأقدام هنا وهناك؟ ما الذي جعل المصالحَ الأمريكية مهددةً في كل بقاع الأرض؟ ما الذي جعل شعارَ (الموت لأمريكا) يترددُ في كل شارع وفي كل حارة؟ ما الذي جعل الكره والبغض حليف الولايات المتحدة على مر الأزمان جيلا بعد جيل، وكان آخرهم شباب جامعة المنصورة؟
من الثابت تاريخيًا أن الولايات المتحدة كان لها منذ نشأتها سمعة طيبة في العالم الإسلامي، فالتاريخ يخبرنا أن الولايات المتحدة لم يكن لها أي ميل للاستعمارية في ابتداء نشأتها، حيث كانت معزولة جغرافيًا بسبب بعدها عن المنطقة، وكانت تتبع في بداية نشأتها سياسةً معتدلة تجاه منطقتنا، ظهرت ملامحُ هذه السياسة في "مبدأ مونرو" الذي تمر ذكرى خروجه للنور في مثل هذه الأيام من شهر ديسمبر من كل عام. وهنا يطيب لي أن أذكر بهذا المبدأ وبنوده كحَلْقة من الحَلَقات التي بها تتضح معالمُ الصورة. فما بنود "مبدأ مونرو" ؟، ومن "مونرو"؟(/1)
"جيمس مونرو" هو الرئيس الأمريكي الخامس، وهو الذي حكم الولايات المتحدة ما بين عامي (1758 و1831)، ويتمثل مبدؤه الشهير –الذي عرف باسمه– في رسالته الشهيرة التي أرسلها إلى الكونجرس الأمريكي في شهر ديسمبر سنة 1823م، ويتلخص مبدأ مونرو في: أن تظل الولايات المتحدة في قارتها بعيدة عن صراعات العالم القديم، وألا تتدخل أبداً في مشاكله، مقابل عدم تدخل أي من الدول الأوروبية في شؤون القارة الأمريكية، وأعلنت الولايات المتحدة يومها أنها لن تتردد في إعلان الحرب على أي دولة تحاول التدخل في شئون القارة الأمريكية.
ظلت الولايات المتحدة متمسكة –ومنذ نشأتها واستقلالها سنة 1783م– بهذه السياسة وحتى إلى قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى. ركزت الولايات المتحدة كل اهتماماتها طول هذه المدة لصالح التنمية والبناء، عاد مردودُ هذه السياسة بفوائد جمة على الشعب الأمريكي، وصار لأمريكا اقتصاد قوي، ونظام ديمقراطي أقوى، وشعر المواطنُ الأمريكي العادي بهذا المردود، وعاش في قمة الرفاهية، في الوقت الذي كانت فيه شعوبُ العالم تعاني مرارة الفكر الاستعماري الذي سيطر على عقول وألباب قادة العالم آنذاك.
غير أن اليهودَ عزَّ عليهم أن تظل الولاياتُ المتحدة تنعمُ بما هي فيه، عز عليهم أن تظل أمريكا بمنأى عن صراعات العالم، فلعبت الرأس اليهودية لعبتها، ونجحت في استدراج الولايات المتحدة إلى أتون الحروب والصراعات في كل بؤر العالم الملتهبة. فمن الحقائق التاريخية أن اليهود هم الذين حولوا أمريكا إلى دولة استعمارية، حولوها إلى دولة إرهابية تضرب، وتدمر، وتحرق، وتقتل، وتقاطع من أجل المصالح اليهودية. وأصبحت الولاياتُ المتحدة تستنفدُ كل مواردها، وتخسر العديد من خيرة أبنائها في كثير من بقاع العالم لصالح اليهود، ولصالح تحقيق أوهام حكماء صهيون المعروفة بالبروتوكولات.(/2)
فانطلاقًا من نفوذ اليهود داخل الولايات المتحدة، وانطلاقًا من سيطرتهم على كثير من مجريات الأمور داخل الولايات المتحدة، وبالتعاون مع بريطانيا، نجح اليهودُ في إخراج أمريكا من عزلتها في أثناء الحرب العالمية الأولى، والزج بها لتحارب في صف بريطانيا، وفعلا حاربت أمريكا إلى جانب بريطانيا. وقبض السمسار اليهودي من بريطانيا الثمن –ثمن توريطهم للولايات المتحدة في وحل الحروب والصراعات- ولكن ترى أي ثمن حصل عليه اليهود مقابل هذه الصفقة؟!!!!
كان من بين أهم هذه المكاسب التي حصل عليها اليهود ما وعدهم به وزير الخارجية البريطاني "آرثر بلفور" بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وحَمَل الدولَ الكبرى على الاعتراف بهذا الوعد المشؤوم في مؤتمر الصلح 1919م في باريس. وكان العمل على تنفيذه تحت حماية بريطانيا بعد انتزاع فلسطين –قلب العالم الإسلامي– من جسد الخلافة الإسلامية ووضعها تحت الانتداب، فلولا اليهود لما أمكن بريطانيا إخراجُ أمريكا من عزلتها التقليدية. كما يؤكد هذا البعد الأستاذ "محمد خليفة التونسي" في مقدمة ترجمته "بروتوكولات حكماء صهيون".
لقد عارض الشعبُ الأمريكي هذا التحولَ في السياسة الخارجية لأمريكا أيما معارضة، كما عارض الكونجرس هذه السياسة رسميًا في العشرين من أبريل سنة 1920م. وطالب بأن يظل مبدأ مونرو هو حجر الأساس في السياسة الخارجية الأمريكية. ولكن ذهب كل ذلك هباءً. وانتصرت إرادة الشرذمة اليهودية. وأصبحت الولايات المتحدة من يومها وإلى الآن –وبدافع خبيث– وراء كل الأزمات والمشكلات والجرائم التي ترتكب في كل بقاع العالم.(/3)
إن الولايات المتحدة أمة تستحق الإشفاقَ، فكل قرارات هذه الدولة العظمى وتوجهاتها وسياساتها تصنع في المطبخ اليهودي وعلى يد الطباخين اليهود، ولا يعرف غالبية الشعب الأمريكي ما يسمى بالمشاركة في صنع القرار وهذه حقيقة، فاليهود يعيشون في أمريكا؛ ينعمون بخيرها، ويستغلون ديمقراطيتها، ويؤدي كل يهودي في أمريكا العمل الذي به يساعد في علو شأن بني جلدته، والتمكين لحكومة بلاده في إسرائيل. إنهم لا يعترفون بغير إسرائيل حكومة لهم، ولا يضعون حدًّا لطموحهم، ولا نهاية لأحلامهم بأن تكون إسرائيل فوق الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
إننا نهمس في أذن السفير الأمريكي -أو في آذان أصدقائه في بلادنا لعلَّ أحدهم يخبره- بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستظل في هذه المهانة دائمًا وأبدًا ما لم تتحرر من هذا القيد اليهودي، ستظل في هذا الوحل ما لم يُعِد قادتُها التفكير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة تُِجاهَ عالمنا الإسلامي وقضاياه، وعلى رأسها قضية فلسطين، وما لم يوازن المواطنُ الأمريكي: كيف كانت الولايات المتحدة في ظل مبدأ مونرو، وكيف أصبحت في ظل هذا القيد اليهودي المهين؟(/4)
العنوان: أمريكا بين الاستفراد والاستبداد!
رقم المقالة: 234
صاحب المقالة: د. عدنان علي رضا النحوي
-----------------------------------------
هذه لحظات فريدة من التاريخ البشري، تنفرد فيها أمريكا بقوة طاغية وكأنها القوة المادية الوحيدة في الأرض، بعد أن تفسَّخ الاتحاد السوفيتي، ووقفت روسيا تحاول أن تنهض على مجد سابق. ولكنها مرحلة فيها امتحان لأمريكا وغيرها، يمحّص الله فيها موقف كل فريق، موقف أمريكا، وموقف أوروبا وروسيا، والصين، والمسلمين وغيرهم، حتى يكون الموقف لهم أو عليهم يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى. وإن كانت هذه النظرة والإيمان بالدار الآخرة غير واردة في مفهوم رجال العلمنة والعلمانية. ولكنها الحق الذي سيفاجؤون به قريباً عندما ينتهي الأجل المسمى لكل إنسان ولكل أمة ولكل دولة:
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [ يونس:49].
وكذلك:
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}.
وكذلك:
{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم: 42-43].
هذا التصور غائب عن كثير من الناس وخاصة أهل العلمانية والعولمة. فإذا ضاق بهم السبيل يتساءلون أين نذهب؟!
يقول سياسي: في اليوم الذي كنَّا نختلف مع الاتحاد السوفياتي كنا نذهب إلى أمريكا، ويوم أن كنا نختلف مع أمريكا كنا نذهب إلى الاتحاد السوفياتي. واليوم لم يعد إلا أمريكا، فأين نذهب؟(/1)
وكثيرون أمثال هذا السياسي، لا يخطر ببالهم أن يلجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى في كلِّ حال، وظنُّوا أنَّ الاتحاد السوفياتي وهو في أوج قوته قادر على أن يفعل ما يشاء، وأنه دائم القوة! فأراهم الله آية من آياته وسنَّة من سننه، وذلك بسقوط الاتحاد السوفياتي بقدر من الله، كما سقطت دول أخرى في التاريخ غرَّها ما كان في يدها من قوّة مادية سرعان ما ذهبت القوة وهانت الأمة.
وكلما يضيق الأمر برجل أو دولة يفزع إلى رجل آخر يظنه قويَّاً خالداً، أو إلى دولة قوية يظنها خالدة.
كُتِبَ في إحدى المجلات اقتراحٌ يُطْلَب فيه عدم السعي لإسقاط أمريكا، وطالب بالحفاظ عليها دولة وحيدة مهيمنة! لأن في سقوطها ضرراً كبيراً... كأنه لم يذكر الله في حياته، ولم يقرأ القرآن، ولم يعمر قلبه بالإيمان. وكان حسبه أن يتذكر دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك)).
إنَّ ميزة زعماء أمريكا أنهم واضحون جريئون في تصريحاتهم التي تكشف حقيقة أطماعهم وجوهر سياستهم وعزيمة عدوانهم.
لمحة على التاريخ تكشف لنا ظاهرة الغرور والكبر عند كلِّ من أنعم الله عليه بقوّة. فغالباً ما يدَّعي هذا وذاك أنه هو سيد العالم وأنَّ الله اختاره لقيادة العالم، وإن كان شعباً، فالشعب هو الشعب المختار. مرضٌ واضح في تاريخ الضالين من الشعوب والزعماء.(/2)
فاليهود حرَّفوا كلام الله، وأعلنوا أن الله اختارهم وحدهم، وسموا أنفسهم أنهم "شعب الله المختار" والتحريف واضح، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى رب جميع الشعوب، وخالق جميع الناس، فلا يفضِّل دماً على دم، ولا جنساً على جنس، ولكن يفضل الإيمان والتقوى والعمل الصالح ومن يلتزم ذلك. فالله فضَّل المؤمنين المسلمين الذين آمنوا بموسى عليه السلام ودخلوا معه في دينه الإسلام، وفضَّل المؤمنين المسلمين الذين آمنوا بالنبيّ الذي بعثه الله إليهم بدين واحد هو الإسلام، دين جميع الأنبياء والرسل الذين ختموا بمحمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وبرسالته الخاتمة المهيمنة.
فعلى مدار التاريخ كانت الأمة المفضَّلة عند الله، هي الأمة التي تلتزم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالإيمان بالله. الأمة التي تحمل رسالة الله ودينه فتبلّغه للناس وتتعهّدهم عليه، لنشر المعروف الحق بذلك، وتنهى عن المنكر الباطل. وهذه الأمة أمة واحدة على مدار التاريخ:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..........} [ آل عمران: 110]
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [ البلد: 17-20 ]
ولكن الناس غيَّروا هذا الميزان الرباني وحرَّفوه وبدَّلوه، وأخذ كلٌّ يدَّعي أنه هو المختار، دون أن يخشع بين يدي الله ويشكر نعمته عليه، فيؤمن ويعمل عملاً صالحاً.(/3)
ففي القرن السابع عشر، كانت فرنسا هي القوة المسيطرة، فرفعت بذلك شعارها الذي ينادي بدور فرنسا في "تحضير العالم "، مهملة كل شعوب الأرض وكلَّ إنجازاتهم. ولما برزت بريطانيا كقوة مسيطرة رفعت شعار مسؤولية الرجل الأبيض في "تحضير العالم". وارتكبت من المجازر والظلم والإفساد في الأرض ما ملأ تاريخها بصفحات سوداء، كما ملأت فرنسا تاريخها في فترتها بصفحات سوداء من شدَّة ما اعتدت وظلمت وأفسدت.
ولما جاء دور أمريكا اعتبرت نفسها سيدة العالم، وأنها مسؤولة عن نشر ما تدعيه من زخرف الديمقراطية والحريَّة من خلال مجازر كان من ضحاياها الملايين من شعوب الأرض، بالإضافة إلى جرائمها في سجونها ومعتقلاتها، حيث تُلْغي ما يدّعونه من ديمقراطية وحرية وعدالة ومن حقوق الإنسان.
ولا نزال نحن اليوم في عصر أمريكا وسلطانها. ولقد أسكرها ما بلغته من قوة وسيطرة، وهول سلاح وتقدّم صناعي، فلم تعد تقيم وزناً للمبادئ والقيم، وشعارات العدالة والحريّة. فالعدالة هي حق أمريكا في تأمين مصلحتها وحدها فقط، والحرية هي لأمريكا وحدها. ولعلَّ تاريخ أمريكا ونشأتها قد بدأ بالظلم والفتك والعدوان على شعب أمريكا الأصلي - الهنود الحمر - ثمَّ مجازر الحرب بين بريطانيا والمستعمرين لأمريكا، الحرب التي انتهت باستقلال أمريكا عن التاج البريطاني، من خلال حروب اشترك في هول جرائمها بريطانيا والمستعمرون لأمريكا.
ومع نموّ قوة أمريكا حتى تفرّدت بذلك اليوم، أصبح المبدأ الديمقراطي ومعاني الحريَّة والعدالة يعني عندها أنه ما يحق للأمريكان لا يحق لغيرهم، وأنهم هم الشعب المختار "لتحضير العالم". ونسوا ما بيّن الله سبحانه وتعالى لهم ولنا وللناس كافة من عِبَر في التاريخ ومواعظ:
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [ الأنعام: 11 ](/4)
قلنا إن تاريخ أمريكا بدأ منذ لحظة النشوء بأسوأ أنواع الجرائم، فلقد كان عدد الهنود الحمر، كما يسميهم المعتدي الجديد، مليوناً من خلق الله، فلم يبق منهم بعد مراحل النشوء إلا (350) ألفاً فقط. فالذين أبيدوا على يد المعتدين (750) ألفاً. وانظر كذلك ما فعلوا في أفريقيا، وكيف ساقوا الرجال والنساء عبيداً يحملونهم إلى أمريكا ليكونوا خدماً لهم في أجواء الإذلال. وحسبك أن تقرأ كتاب "الجذور the Roots " لمؤلفه "ألكس هالي Alex Haley "، الذي يصف رحلة الأفريقيين الذين سيقوا عبيداً إلى أمريكا، وما لاقوه من عذاب وإجرام في الرحلة القاسية، وبعد وصولهم، وما لا قوه من حقد كبير ضد السود بعامة. ولقد بلغ عدد العبيد في أمريكا سنة (1850) ( 3.200.000) وكان سكان أمريكا 23 مليوناً.
وقد قامت أمريكا منذ نشأتها باستعباد شعب نُزِعَ من أرضه في أفريقيا لِتَسْتعبده في أرضها، وكذلك فعل المجرمون الفارون من أوروبا وأبناء السجون وأمثالهم الذين راقت لهم الهجرة من أوروبا لإحياء الأرض الجديدة البكر، فواجههم بقايا السكان الأصليين، خليط عجيب من الناس لا يجمعهم إلا أن يتخلوا عن هويتهم وأخلاقهم ودينهم، ليذوبوا في صياغة جديدة يذوب فيها الجميع ذوباناً كاملاً، يعملون ويأكلون ويتلذَّذون في سباق هائل في طلب الدنيا، يتمتعون بما يشاؤون! كأنه لم يعد هناك شيء حرام إلا ما حرَّمتْهُ القوانين الجديدة، دون اعتبار تاريخ البشرية الطويل، والرسالات السماوية، متحرّرين من كل شيء، ليتخلَّصوا من الحياة الأوروبية التي كانت تمثل لهم استعباد الأرواح والأجساد.
لقد تَمَّ هذا الذوبان، في هذا المجتمع الجديد المتحرر من كل شيء. لقد كتبت صحيفة الواشنطن بوست في افتتاحيتها عقب الإعلان بفوز كلينتون بالرئاسة للمرة الثانية: "الأمريكيون مهتمون فقط بأمور الزبدة والخبز، ويعتبرون النظام السياسي جهازاً إداريَّاً...." .(/5)
ولذلك كانت القاعدة الأولى في السياسة الأمريكية والحياة الأمريكية هي: مصلحة أمريكا أولاً و آخراً. إنها مصلحة مادية، تسحق كل شيء أمامها لتحقيق هذه المصلحة. ومعنى هذه المصلحة أنها تبرز في كلِّ ميدان: اقتصادي، سياسي، اجتماعي، ليستغلَّ كلّ ذلك من أجل مصلحة أمريكا. سواء أكان ذلك في المصلحة الاستراتيجية التي تمسُّ الأمن الأمريكي وحده أم في غيرها. وقد تُهَدَّم بلاد وأقطار، ويُقْتَلُ عشرات الألوف هنا وهناك، تحت ادعاء حماية الأمن الأمريكي، ولا عبرة لأمن أي بلد آخر، أو أمن البشرية كلها.
لقد عبَّر عن هذه المصلحة المادية الذاتية لأمريكا عدد كبير من المسؤولين وخاصة وزراء خارجية أمريكا، ورؤساء أمريكا مثل: روزفلت، وكلينتون، وبوش، في تصريحات واسعة في مختلف وسائل الإعلام. يقول كلينتون: "وعندما تصبح القوة مطلوبة ( لضمان أمننا ) فإنَّ علينا استعمالها، وعلينا أن نرحّب بآمال العالم لا أن نعرض عنها، ليس من أجل العالم فقط، بل لأجلنا نحن أيضاً"4
ويقول "زوبرت دول" في دراسة في مجلة: "فورين بولسي": "... غير أنَّ الأحداث في رواندا والصومال لا تنطوي، في أسوأ الأحوال، إلا على تأثيرات هامشية بالنسبة لأمريكا. إننا لا نستطيع أن نستمرَّ في نسف سمعة قواتنا المسلحة من أجل عمليات إنسانية لا تفعل شيئاً في مجال تعزيز مكانة أمريكا"!5
أما مادلين أولبرايت فتوجز سياسة وزارة الخارجية بأن: "الأهداف الرئيسة الحيوية هي تأمين مصالح الولايات المتحدة، والتوسّع بها لتشمل الكرة الأرضية"!(/6)
ومعنى كلمة: "أولبرايت": "... والتوسع بها لتشمل الكرة الأرضية "، فإن التوسع لن يكون بالتعاون الإنساني، بل بالقوة العسكرية التي بنيت من أجل هذا التوسّع اللاإنساني. فألغى مجلس النواب قانون الحياد مع الحرب العالميَّة الثانية بحجة مساعدة بريطانيا وفرنسا. وبهذه النفسية استخدمت أمريكا كلَّ الوسائل المتاحة: الدبلوماسية وسياسة الضغط والإكراه، وسخرت الإعلام والشركات التجارية والحركات التنصيرية وأجهزة التجسس والمخابرات من أجل تحقيق هدف التوسع اللاإنساني العدواني المدمّر! وحسبك ما ألقته القوات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية على طوكيو انتقاماً من اليابانيين الذين سبق أن أسروا 75 ألف جندي أمريكي في الفلبين، حيث ألقى الأمريكيون (150) طناً من القنابل بواسطة 72 طائرة قاذفة، فهدَّمت 28 ألف منزل، وقتل مائة ألف ياباني. ثم ألقت القنبلة النووية الأولى على هيروشيما فقتلت مائة ألف في 6/8/1945م، ثمَّ ألقت قنبلة نووية أخرى على نجازاكي فقتلت 40 ألفاً من السكان، ومات آلاف عدة بعد ذلك من الإشعاع.
هذا هو معنى التوسع، وهذا هو معنى الدبلوماسية المملوءة بالحقد وحب الانتقام، وزيادة الرغبة بالتفوق العسكري واستخدامه الوحشيّ بالتدخل العسكري، وسرعة الانتشار والتدخل.
ومن هنا أخذت أمريكا تشعر بأهمية السلاح ودوره وخطورته، فسعت إلى السيطرة على سوق السلاح، فكانت أكبر بائع للسلاح في العالم. فقد بلغت المبيعات 17.5 بليون دولار سنة 1993م. فشغلت مصانعها وجنت أرباحاً طائلة، وجعلت الدول المستوردة مرتبطة بها من أجل التدريب وقطع الغيار، وأصبحت تتواجد بشكل سريع وفعَّال في بؤر الصراع.(/7)
وأخذت أمريكا تنمّي قدراتها العسكرية بصورة مستمرة مذهلة لا يستطيع أن يجاريها في ذلك أي بلد آخر. وإنما انضمَّ إليها الغرب في تنسيق سياسي وعسكري حسب ما تخطط له أمريكا لمصلحتها الخاصة. وأصبح المبدأ الأمريكي نقاتل من أجل أن ننتصر انتصاراً سريعاً حاسماً بأقل الخسائر.
وبهذا الاستفراد بدا كأنَّ التاريخ أوشك أن يبلغ نهايته. فجاء كتاب: " فرانسيس فوكوياما "الياباني الأصل الأمريكي الجنسية بعنوان: "نهاية التاريخ والرجل الأخير: The end of history and the last man ". يبيّن فيه أنَّ الديمقراطية الغربية هي التي ستسود العالم، وأن التاريخ توقف عند انتصار النظام الأمريكي. كانت دراسته فيها استعراض لكثير من المبادئ والفلسفات، واعتبر في دراسته أنه لم يبق إلا الديمقراطية الغربية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ولكنه أشار من ناحية أخرى إلى أنَّ الإسلام هو القوة الوحيدة الباقية التي تملك القدرة على التصدي والمنافسة. كل دراسته تقوم على تصورات دنيوية مادية، لا يدري أنَّ لهذا الكون ربّاً هو الذي يقدّر فيه المقادير كلها تقديراً حقاً عادلاً نافذاً على حكمة لله بالغة.
وظهر كتاب: "نظرية احتواء الشيوعية" لجورج كينان" الدبلوماسي والأستاذ الجامعي، يبيّن فيه أنَّ الشيوعية هي الخطر الجديد على أمريكا والغرب، ولابدَّ من تأسيس أحلاف عسكرية تحيط بالاتحاد السوفياتي وتمنع انتشار الشيوعية في الأرض.
وفي السنوات الأخيرة ظهر صمويل هنتجتون الأستاذ بجامعة هارفارد ليعلن نظرية صدام الحضارات يكشف فيه أنَّ العدو الرئيس ليس الشيوعية، وأنَّ القضاء على الشيوعية لم يُنْهِ المشكلة، وأن العدو الحقيقي الذي يهدد الحضارة الغربية هو الإسلام.(/8)
هكذا تدرَّجت الأحداث والتصورات لتبحث دائماً عن عدو يقاتله الغرب، أمريكا ومعه الغرب، ابتداء من النازية، ثمَّ الشيوعية، ثمَّ الإسلام. ولكن المعركة مع الإسلام مختلفة كل الاختلاف. فمن أراد أن يحارب الإسلام، فإنه يحارب الله سبحانه وتعالى، فالإسلام دين الله الذي اختاره للناس كافة، دين جميع الأنبياء والرسل ومن آمن بهم. وتبعهم، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم!
ولذلك أفلتت من فم بوش "كلمات غداة حادثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 عند انهيار برجي التجارة العالميين في نيويورك، حين قال عن هذا العمل: "الآن بدأت الحروب الصليبية"! واتّهم الإسلام بالفاشية، ونحى كبيرهم" بابا الفتيكان - بنديكت السادس عشر "في محاضرته في جامعة" ريجينسورج، ذات المنحى فأعلن أن الإسلام دين منافٍ للعقل، وقال: "أرني شيئاً جديداً أتى به محمد (صلى الله عليه وسلم)، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف". في سلسلة الاتهامات للإسلام وللرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
إنها تكشف عن ما في أعماق النفس من تصور مسبق ثابت عن عزيمة الحرب مع الإسلام. ولكنهم لا يريدون أن تكون الحرب حرباً مباشرة، كما قال نيكسون في كتابه: "نصر بلا حرب": "يقوم في منطقة الشرق الوسط عاصفة إسلامية، لا نستطيع مجابهتها ولكن نستطيع أن نغيّر اتجاهها..." أو ما معناه.
ثم تطورت الأساليب من تحويل اتجاه العاصفة إلى حرب مباشرة ابتدأها بوش، وصممها، وأعلنها تحت شعار الحرب على الإرهاب. ولكنْ في حقيقة الأمر هي حرب على الإسلام والمسلمين، انكشفت في مواقع كثيرة من الكرة الأرضية، يستغلّون أخطاء بعض المسلمين الذين يخرجون باجتهاداتهم عن مصلحة الإسلام وعن دقة فهم النصوص، ويتجاهلون المواقف المشرِّفة الرائعة للإسلام في تاريخه الطويل وفي واقعه اليوم.(/9)
وأصبحت قضية الإرهاب دويَّاً كبيراً في الإعلام وفي سياسة الغرب تجاه العالم الإسلامي، وضمُّوا إليه مصطلحاً آخر وهو: " الأصولية الإسلامية "! وماذا يعنون بالأصوليَّة الإسلامية؟! إنهم يعنون الذين يتمسكون بأصول الإسلام، وهل للإسلام أصول غير الكتاب والسنَّة؟! ولكن إذا كان هناك فهم خاطئ لدى بعضهم، فإنَّ ذلك ليس ناتجاً عن عدم وضوح الكتاب والسنَّة، وإنما هو ناتج عن ضغط الواقع والظلم الشديد، والعدوان السافر، واحتلال بلاد المسلمين، وإعطاء فلسطين لليهود وطرد شعبها منه! هذه المآسي والفواجع والظلم الشديد يدفع كثيراً من المسلمين إلى الانطلاق انطلاقاً عفويّاً كردّ فعل طبيعيٍّ لما يعانونه من ظلم وقهر! فتحسب أمريكا أنَّ هذه المواقف نابعة كلها من الإسلام وتتجاهل أنها أهم أسباب هذه المواقف، بما ترتكبه هي من جرائم بحق الشعوب.
وإذا وجد من المسلمين من اتخذ موقفاً عنيفاً نتيجة لشدَّة القهر والظلم، فمن المسلمين من اتخذ موقف الضعف والاستسلام، والجرأة على تحريف الأحاديث الشريفة أو فساد تأويل الآيات، ليُرضوا الغرب بانحرافهم هذا، وليظهر بمظهر المتحضِّرين بالحضارة الغربية. فإذا كان هنالك من غالى وتطرَّف فهنالك من تهاون وفرَّط، وبدَّل وحرَّف. ولكن دين الله - كتاباً وسنَّة ولغة عربية - سيظلُّ حقَّاً يحفظه الله، لا يضيره عدوان الظالمين ولا تحريف المرجفين.(/10)
العنوان: أن الحياة الحقيقية حياة الآخرة
رقم المقالة: 652
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وجعل للوصول إليه طرائق واضحة وسبلاً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها عالي الجنان نزلا وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أقوم الخلق دينا وأهداهم سبلا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: لقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً حتى أوجدكم الله من العدم وأسبغ عليكم النعم ودفع عنكم النقم ويسر لكم من أسباب البقاء وأسباب الهداية وبين لكم ما ينفعكم وما يضركم بين لكم أن للإنسان دارين دار ممر وزوال ودار مقر وخلود أما الدار التي هي دار ممر وزوال فهي دار الدنيا التي كل ما فيها فهو ناقص إلا ما كان مقرباً إلى الله تعالى آمالها آلام وصفوها أكدار لو تبصر العاقل فيها أقل تبصر لعرف قدرها وهوانها وعرف كيف غدرها وخداعها تتراءى لعاشقيها كالسراب يحسبه الظمأن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً وتتزين لهم بأنواع الزخارف والمغريات حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمر الله ليلاً أو نهاراً فجعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس فمآلها عدم وفناء وجمالها عذاب وشقاء هذه هي الدنيا: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]. أيها الناس أما الدار الآخرة فهي الحياة الحقيقية التي فيها جميع مقومات الحياة من البقاء والسرور والسلام والحبور هي الحياة الحقيقية التي ينطق الإنسان إذا شاهد حقائقها يقول يا ليتني قدمت لحياتي فالحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة التي يحيا الناس فيها فلا يموتون: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:101-103]أيها الناس اتقوا الله تعالى(/2)
وانظروا نظر العاقل البصير المرمن، قارنوا بين الحياة الدنيا وحياة الآخرة لتعرفوا الفرق بين الدارين ففي الدار الآخرة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهي دار السلام سالمة من كل نقص ومن كل بلاء لا مرض فيها ولا موت ولا بؤس ولا هرم يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) وهذا كلام الصادق المصدوق إن موضع العصا في الجنة خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها بكل ما فيها من نعيم وترف إذا كان هذا خيراً من الدنيا كلها فكيف بما أدركت منها من الزمن القليل وإذا كان موضع السوط خيراً من الدنيا كلها فكيف بمنازل أدنى منزلة فيها مسيرة ألفي عام يرى أقصاها كما يرى أدناها.
أيها الناس: إن من العجب أن يؤثر أقوام الحياة الدنيا على الآخرة والآخرة خير وأبقى يؤثرونها على الآخرة فيعملون لها ويدعون عمل الآخرة يحرصون على تحصيل الدنيا وإن فوتوا ما أوجب الله عليهم ينغمسون في شهواتهم وسهواتهم وينسون شكر من أنعم بها عليهم علامة هؤلاء أنهم يتكاسلون عن الصلوات ويتثاقلون ذكر الله ويخونون في الأمانات ويغشون في المعاملات ويكذبون في المقالات ولا يوفون بالعهود ولا يبرون الوالدين ولا يصلون الأقارب.(/3)
أيها الناس: إن من آثر الحياة الآخرة على الدنيا حصل له نعيم الآخرة والدنيا لأن عمل الآخرة يسير على من يسره الله عليه ولا يفوت من الدنيا شيئاً فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه والله سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أما من آثر الحياة الدنيا على الآخرة فإنه قد يؤتى من الدنيا ولكن ليس له في الآخرة من نصيب: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15،16].
اللهم اجعلنا ممن آثروا الآخرة على الدنيا وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
أقول قولي هذا.. الخ.(/4)
العنوان: إن فاتك (المارينز)؛ تمرغ بنعاله!!
رقم المقالة: 939
صاحب المقالة: أحمد الفلو
-----------------------------------------
يبدو أن هناك إصراراً عجيباً لدى بعض الأنظمة العربية، وكذلك لدى بعض المعارضين؛ على تدمير ما تبقى من كيان الأمة العربية، خاصة أن العداوات فيما بين العرب تتنامى يوماً بعد يوم، على حساب الصراع الحقيقي، العربي الإسرائيلي، ومن المؤكد أن هذه القيادات وتلك المعارضات قد سقطت -منذ زمن- في فخ الارتهان لرغبات الإدارة الصهيونية للبيت الأبيض.
فالولايات المتحدة -دائماً- تجد ما يكفي من الذرائع لتسوغَ احتلالها لأي بلد في العالم، وجعلِ أهلِه قطعاناً من اللاجئين، تارة باسم الدفاع عن (الديمقراطية)، كما حدث في فيتنام، ومرة تحت شعار "مكافحة الإرهاب"، كما في أفغانستان، وأخرى لكشف أسلحة الدمار الشامل، كما في العراق..
وهكذا ألمَّت الكوارث بالبلاد التي وطئتها أقدام الجنود الأمريكيين؛ نتيجة تطبيق نظرية "الفوضى الخلاقة"، لصاحبها "ناتان شارانسكي"، حسب آرائه التي شرحها في كتابه "قضية الديمقراطية"، الذي اتخذه الرئيس "بوش" منهجاً لسياسته الخارجية!
و"شارانسكي" هذا كان وزيراً في حكومة "أرييل شارون"، انسحب من تلك الحكومة احتجاجاً على الانسحاب من غزة..
وهو -في كتابه هذا- يرى أن العربَ مجموعاتٌ عرقيةٌ، دينيةٌ، مذهبيةٌ، متنافرةٌ، لا يمكنها العيشُ في دول متحضرة! بل إنهم إرهابيون؛ يهددون أمنَ الولايات المتحدة الأمريكية. ويرى أن الإسلامَ حركةٌ إرهابيةٌ تهدد العالمَ الغربيَّ كلَّه تهديداً مستمراً لا يتوقف. وأن العملَ الأمني البحت لا يكفي للقضاء على هذا التهديد؛ بل يجب أن يُشْفَعَ (باستراتيجيات) أخرى تضمن انتزاعَه والقضاءَ عليه تماماً.(/1)
وعليه؛ فإن (استراتيجية) "الفوضى الخلاقة" تعد الأهمَّ؛ لأنها تَلقى قَبولاً وترحيباً عند بعض العرب، ممن يعلِّقون آمالَهم على أمريكا، باعتبارها المخلِّصَ الوحيدَ لهم من الظلم والقهر، الذي سيجلب لهم (الديمقراطية) والعدالة، بجيوشه الجرارة؛ حيث لم يتمكن هؤلاء البعضُ من تحقيق الإصلاح داخل بلدانهم بجهودهم الذاتية الخالصة؛ والذي سيمكنهم من مناصب قيادية في بلدانهم، يُتاحُ لهم من خلالها نهبُ ما تبقى من ثروات بلدانهم!!
أما عن كيفية التدخل الأمريكي؛ فقد اتخذ هؤلاء المُرتهنون من "التدويل" غطاءً سياسياً بالتوافق مع البنتاغون، يُعطي القوات الأمريكية شرعيةً -على عِلم الأمم المتحدة- تسوِّغ لها انتهاكَ سيادة أي دولة في العالم، يتوافر فيها أحد ثلاثة شروط:
الأول منها: أن تكون تلك الدولةُ تناهضُ السياساتِ الأمريكية، وضد النزعة الاحتكارية الاستغلالية لشركاتها.
والشرط الثاني: أن تكون تلك الدولة ضد الهيمنة والعنصرية الإسرائيلية.
أما الشرط الثالث: فهو أن تتبنى هذه الجهة أو الدولة سياسات عروبية.
والتدويلُ -بمعناه الحقيقي، كما يُعرِّفه المفكر العربي الدكتور عبد الله النفيسي- هو: "فقدانُ السيادةِ على الأرض والشعب، وهو البوابة التي تنفذُ منها إسرائيل إلى البلدان العربية".
ووقائع التاريخ تؤكد صحة هذا التعريف؛ منذ تدويل القضية الفلسطينية بقرارات مجحفة أعطت الحق لمن لا يستحق، ونزعت الحق من أصحابه! تلا ذلك احتلال العراق، بموجب قرار دولي، وكان استجلابُ أمريكا من قبل المتعلقين بالحلم الأمريكي، أمثال الجلبي والحكيم وعلاوي، الذين ساهموا بدور مهم في تسهيل احتلال العراق!!
وكذلك ما يقوم به المتاجرون بدماء أهالي دارفور في السودان، من استجداء الأمريكيين عند عتبات البيت الأبيض..(/2)
ويحاولُ القيامَ بالدور ذاته -الآن- السنيورةُ وسعدُ الحريري وجعجع، ومعهم جنبلاط؛ لاستجلاب القواتِ الأمريكية إلى المنطقة، ولكن هذه المرة بالإلحاح على تشكيل المحكمة الدولية لقتلة رفيق الحريري، وهم يعلمون تمام العلم أن مثل هذا التوجه، يعني -قبل أي شيء- أن لبنان سيكون فاقداً للسيادة، وهذا ما ظهر منذ الآن..
فقد كشف تقرير "واينماديسون" الاستخباري -الذي نُشر سابقاً- خططاً أمريكيةً لإنشاء قاعدة عسكرية شمال لبنان، بذريعة تدريب الجيش اللبناني!
وكشف التقرير أن وزارة الدفاع الأمريكية منحت شركتي "جاكوبس" و"سفيردرب" وعداً بمنحهما عقداً مربحاً، لبناء قاعدة جوية كبرى للولايات المتحدة في شمال لبنان.
وأشار التقرير إلى أن إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية في لبنان أصبح أمراً مؤكداً؛ لتسهيل الإمدادات (اللوجستية)، ولبقاءٍ طويل الأجل في منطقة الشرق الأوسط، والمحافظة على الوجود الأمريكي في العراق المحتل.
وذكرت مصادر صحفية أن جهات في المخابرات اللبنانية أكدت أن عقد إقامة قاعدة جوية في شمال لبنان، خُصِّصَ لمجموعة "جاكوبس"، دون موافقة الحكومة اللبنانية.
إن المغامرة التي يخوضها الطرف الحاكم في لبنان -ويمثل فيها سعد والسنيورة أدوات تنفيذ لا أكثر!- لتحقيق عدة أهداف خطيرة:
أولها: إظهار المسلمين السنَّة على أنهم عملاء لأمريكا وإسرائيل، خاصة بعد انتصارات المقاومة في فلسطين والعراق.
وثانيها: توريط سورية بقضية مقتل الحريري؛ لتستخدمها أمريكا أداة ضغط على سورية، من أجل التنازل عن الجولان المحتل، أو إثارة فوضى هدفُها تدمير سورية.
وثالثها: تشكيل درع مضاد لأي تحرك شعبي إسلامي في البلاد العربية.
ولكن يبقى الهدف الأساس: هو جعل لبنان بلداً لا سيادة لشعبه على الأرض.(/3)
ومما يثير الشبهات في نوايا الحكم اللبناني الحالي: عدم مطالبته بفتح تحقيق دولي، أو محكمة دولية؛ لمحاكمة مرتكبي مجزرتي قانا، الأولى والثانية، وكأن دماء رفيق الحريري أغلى -في نظر هؤلاء- من دماء آلاف اللبنانيين الذين قتلتهم إسرائيل.
ومن يظن أن التقوِّي بـ(المارينز) على سورية، وعلى الفلسطينيين، سيشفي غليله من سورية؛ فهو واهم؛ لأن الولايات المتحدة لا يهمُّها آلُ الحريري، ولا يهمُّها من يقتلُهم، أو من يواليهم، ولأن ما تتطلع إليه هو مصالحها الاقتصادية وخدمة إسرائيل، ولا شك أن ولوج التاريخ من أبواب الشرف والجهاد، لن يكون مثل دخوله عبر بوابات قرضاي وأبي مازن وعلاوي!!!!(/4)
العنوان: انحلال الزواج
رقم المقالة: 2021
صاحب المقالة: د. عبدالسلام الترمانيني
-----------------------------------------
انحلال الزواج
ينحلُّ الزَّواج بِالموت والفرقة:
أ - انحلال الزواج بِالموت:
إذا مات أحد الزوجَينِ انحلَّت عُقدة الزواج، فإذا كان المتوفَّى هو الزوج وجب على الزوجة أن تظهر الحزن عليه، وظاهرة الحزن تختلف باختلاف العادات في الزمان والمكان، فعند بعض الشعوب القديمة كانت الزوجة تُظهر حزنها بأن تُدفن حية مع زوجها، أو تدفن معه بعد قتلها، أو تُحرق معه عند الشعوب التِي اعتادت حرق جثة الميت، وعند شعوب أخرى كانت الزوجة تُظهر حزنها على زوجها بتشويه أعضائها، حتَّى يزهد فيها الرجال.
أمَّا الشعوب التي كانت فيها المرأة لا تلتزم بمثل هذه الظاهرة في الحزن على الزوج، فإن المرأة كانت تنعزل عن الناس مدة من الزمن تُدعَى بِمُدة الحداد، وتختلفُ هذه المُدَّة باختلاف الأعراف، فقد تكون أربع سنين، أو ثلاث سنين، أو سنة، أو أقل من ذلك، ولا يسمح لها بالزواج إلا بعد انقضاء هذه المدة فإذا تزوَّجت قبل انقضائها فإنَّ روح زوجها الميت تنتقم منها، وكانت تعمل على إرضائه، وتجنب نقمته بتقديم القرابين، وينبغي على الرجل الذي تزوجته أن يفعل مثل ذلك، ليتوقى غضب الميت، ومحو الخطيئة التي ارتكبها من الزواج بامرأته، قبل انقضاء مدة حزنها عليه.(/1)
وتسري قاعدة الحداد على الزَّوْجِ أيضًا، فلا يَحِلُّ له أن يتزوَّجَ إلا بَعْدَ انْقِضاءِ مُدَّة الحداد، وهِيَ أقلُّ عادة من مدة حداد المرأة على زوجها، وهي تتراوح بين ستة أشهر وشهر واحد، وعلى الزَّوْج إذا أراد أن يتزوج قبل انقضاء هذه المدة أن يسترضي روح زوجته بتقديم القرابين لها، ويسود الاعتقاد عند بعض الشعوب أنَّ روح الزوجة الميتة تظل غيرى، وتنتقم من الزوجة الثانية، ومن أجل أن يتفادَى الزَّوج انتقامَها يعلق في رقبة زوجته الثانية طوقًا يحمل صورة زوجته الميتة، أو يطلق اسمها عليها[1].
وعند عرب الجاهلية، كانتِ المرأة المتوفَّى زوجُها تحلق رأسها، وتخمش وجهها، وتغمس قطنة في دمها، وتضعها على رأسها، وتخرج طرف قطنتها من خرق في قناعها، ليعلم الناس أنها مصابة، ويسمى ذلك (السقاب)، من ذلك قول الخنساء في امرأة مات زوجها:
لَمَّا اسْتَبَانَتْ أَنَّ صَاحِبَهَا ثَوَى حَلَقَتْ وَعَلَّتْ رَأْسَهَا بِسِقَابِ[2]
وتعتزل المرأة في خفش (بيت صغير)، تقضي فيه مدة حدادها وهي سنة، تلبس فيها شر ثيابها ولا تَمَسُّ طيبًا ولا تقلِّم ظفرًا، ولا تنتِفُ مِن وَجْهِها شعرًا، ويحمل إليها الطعام، فإذا مضى الحول يؤتى لها بدابة أو شاة أو طير، فتفتض به؛ (أي تنهي عدتها) فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج من الخفش فتعطى بعرة فترمي بِها، ومعنى رَمْيِها البعرة أنَّها أنْهت عِدَّتَها[3].
وقد أبطل الإسلام هذه العادات، وقضى أن تعتدَّ المرأة حدادًا على زوجها المتوفَّى بِمُدَّةٍ حدَّدَهَا بأربعة أشهر وعشرة أيام، فلا تتزيَّن خلالها ولا تظهر لغير المحرمين عليها من الرجال.
وإذا توفِّيت الزوجة، فليس للرجل في الجاهلية أن يحزن عليها، ويُعاب إذا زار قبرها، وقد استمرَّت هذه العادة في الإسلام، فهذا الفرزدقُ تَموت امرأته حدراء، ويأبَى أن يزور قبرها ويقول:(/2)
يَقُولُونَ زُرْ حَدْرَاءَ والتُّرْبُ دُونَهَا وَكَيْفَ بِشَيْءٍ وَصْلُهُ قَدْ تَقَطَّعَا
وَلَسْتُ وَإنْ عَزَّتْ عَلَيَّ بِزَائِرٍ تُرَابًا عَلَى مَرْمُوسَةٍ عَادَ بَلْقَعَا
وَأَهْوَنُ مَفْقُودٍ إِذَا المَوْتُ غَالَهُ عَلَى المَرْءِ مِنْ أَخْدَانِهِ مَنْ تَقَنَّعَا
وَأَيْسَرُ رُزْءٍ لامْرِئٍ غَيْرِ عَاجِزٍ رَزِيَّةُ مُرْتَجِّ الرَّوَادِفِ أفْرَعَا
تَهُزُّ السُّيُوفَ المَشْرفِيَّات دُونَهُ حِذَارًا عَلَيْهِ أَنْ يَذِلَّ وَيَفْزَعَا
وَلا يَشْهَدُ الهَيْجَا وَلا يَحْضُرُ النَّدَى وَلا يُصْبِحُ الشَّرْبَ المُدَامَ المُشَعْشَعَا
فهي عنده أدنى مِن أن تُزار، لأنَّها لا تحارب، ولا تحضُر مجالس النِّدْمان، وهذا جرير أيضًا يصرِّح بأن الحياء يمنعه من البُكاء على زوجته ومن زيارة قبرها، على شدة حبه لها، ويقول:
لَوْلا الحَيَاءُ لَهَاجَنِي اسْتِعْبَارُ وَلَزُرْتُ قَبْرَكِ وَالحَبِيبُ يُزَارُ
ونرى الشاعر البحتريَّ يلوم صديقه أبا نَهشل بن حميد؛ لبُكائِه على ابنتِه التي ماتت، ويقول:
أَتُبَكِّي مَنْ لا يُنَازِلُ بِالرُّمْ حِ مُشِيحًا وَلا يَهُزُّ اللِّوَاءَ
قَدْ وَلَدْنَ الأعْداءَ قِدْمًا وَوَرَّثْ نَ التِّلادَ الأَقَاصِيَ البُعَدَاءَ
وَلَعَمْرِي مَا العَجْزُ عِنْدِيَ إِلاَّ أنْ تَبِيتَ الرِّجَالُ تَبْكِي النِّسَاءَ
ب – انحلال الزواج بالفرقة:
ينحل الزواج ويفترق الزوجان بالطلاق والخُلْع، وبحكم القاضي في حالة الإضرار، وعدم الإنفاق على الزوجة، والعيب، وفي حالة غِياب الزَّوج.
1 – الطلاق:
أ – الطلاق في القوانين والأعراف القديمة:(/3)
لما كانت الغاية من الزواج هي استمرار الحياة في الإخلاف، لذلك أجازت القوانين والأعراف القديمة طلاق المرأة العاقر، ولاختبار قدرة المرأة على الإنجاب، فإنَّ بعض الشعوب البدائيَّة تعمد إلى زواج التجربة، فإذا حَملتِ المرأة عقد الرَّجُل نِكاحه عليها، وإذا لم تَحْمِل بعد سنة فإمَّا أن يطلقها أو يتزوج من أخرى، ومثل ذلك ما لو كانت لا تلد سوى البنات[4].
وقد قضى قانون مانو بعدم جواز تطليق المرأة بسبب عقرها، أو كانت لا تلد سوى البنات ولكنه أجاز للرجل أن يتزوج من امرأة أخرى[5]، ونصَّ القانون البابلي على مثل ذلك، ولكن العرف جرى على أنْ تزوج المرأة العاقر زوجها من جاريتها، لتبقى هي السيدة الأولى في البيت الزوجي، وتبقى لها الهيمنة على جاريتها؛ ولذلك كانتِ الجارية تقوم في كل مساء بغسل أقدام سيدتها، تعبيرًا عن خضوعها لسيطرتها.
ب – الطلاق في شريعة اليهود:
يَملك الزوج في هذه الشريعة حق تطليق زوجته، غَيْرَ أنَّه يَمتَنِعُ عليه طلاقها في حالتين:
الأولى: إذا اتَّهم الرجل زوجته بأنَّها غير عذراء، وثبت كذبه وافتراؤه عليها، والثانية: إذا اغتصب الرجل فتاة، فإنه يلتزم بزواجها ودفع غرامة لأبيها ففي هاتين الحالتين يسقط حق الزوج في تطليق زوجته[6]، وحرمان الرجل من حق تطليق امرأته إنما هو عقوبة فرضتها الشريعة اليهودية؛ جزاء لعمل ذميم قارفه الرجل، وفيما عدا ذلك يحق للرجل أن يطلق زوجته إذا لم تسره أو وجد فيها عيبًا، ويكون الطلاق بكتاب يسلمه إليها ويخرجها من بيته[7].(/4)
غير أن حرية الزوج في تطليق زوجته قد تقيَّدت بقرار أصدره المجمع اليهودي المنعقد في مدينة (مايانس Mayence ) بألمانيا في أواخر القرن الحادي عشر، فلم يعد من حق الرجل أن يطلق زوجته إلا إذا كانت عاقرًا أو ثبت زناها، أو شاع ذلك عنها، أو ارتدَّت عن دينها، أو امتنعت عن وصاله مدة سنة، أو رفضت الانتقال معه إلى مسكن آخر، أو شتمت أباه، أو أصيبت بمرض خطير يمنع من معاشرتها[8]، وقد نص قانون الأحوال الشخصية للطائفة اليهودية في لبنان على بعض هذه الحالات، وأجاز فيها الطلاق (المواد 231، 258، 270، 279، 315)[9].
ج – الطلاق في المسيحية:
ورد في الإنجيل على لسان السيد المسيح نصٌّ غامض فيه ما يفيد عدم جواز الطلاق بشكل مطلق، فقد جاء في الإنجيل المذكور أنَّ رجلاً سأل السيد المسيح، هل يحق للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب، فأجاب: إن الذي خلق من البدء، خلقهما ذكرًا وأنثى؛ ومن أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الإنسان جسدًا واحدًا، إذًا ليس بعد اثنين؛ بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان[10]، ويستفادُ من هذا النَّصّ أنَّ الطلاق غير جائز لسبب من الأسباب، ثُمَّ يَجِيءُ في الإنجيل نفسه نَصٌّ آخَر يقول فيه السيد المسيح: "إن من طلق امرأته – إلا بسبب الزنا – وتزوج بأخرى يزني"[11]، ويُسْتفاد من هذا النص أنَّ الطلاق غير جائز إلا في حالة الزنا.(/5)
غير أنَّ الكنيسة لم تَسْتَطِعْ في مطلع عهدها أن تفرض عدم جواز الطلاق؛ لأن قاعدة الطلاق كانت مقرَّرة في القانون الروماني ولا يمكن تجاوزها، وقد أصدر أباطرة الرومان الذين اعتنقوا المسيحية مراسيم عددوا فيها الحالات التي تجيز الطلاق وفي مقدمتها الزنا، فلزمت الكنيسة هذا السبب وأجازت الطلاق في حالة زنا الزوجة، آخذة بأحد قولي المسيح المجيز للطلاق بسبب الزنا، وقد سادت قاعدة الطلاق المقررة في القانون الروماني في أوربا حتى عهد الملك شارلماني (742 – 814م)، فلما قويت سلطة الكنيسة الغربية (الكاثوليكية) أخذ آباؤها بقاعدة عدم جواز الطلاق؛ لأيِّ سبب من الأسباب إلا بالموت، وفرَضَتْ هذه القاعدة في القوانين الدنيوية والتَزَمَتْ بتطْبيقها المحاكمُ تَحْتَ رِقابة الكنيسة، وكل ما فعلته الكنيسة في حال عدم اتفاق الزوجين أنها أقرَّت مبدأ التفريق الجسدي، بحيثُ يَعيشُ كلٌّ من الزوجين منفصلاً عن الآخر (في الفراش والمائدة) على أن يظلَّ عقدة زواجهما قائمًا، ولا يحلُّ لهما فسخه حتَّى بإرادتهما.
ولمَّا ظهرت في القرن السادس عشر حركة الإصلاح التي نادى بها (لوثر)، واحتج فيها على تصرُّفات الكنيسة؛ أجاز المذهب الجديد (البروتستانتي) قاعدة الطلاق، لا بسبب الزنا فحسب؛ بل أجاز الطلاق باتِّفاق الزوجين إذا استحال دوام العشرة بينهما.(/6)
وأخذت قوانين البلاد التي انتشر فيها هذا المذهب بهذه القاعدة؛ كألمانيا؛ وإنكلترا؛ والدانمارك؛ والسويد؛ وغيرها من البلاد الأخرى، ولما نشبتِ الثورة الفرنسية سنة 1789م أجازت الطلاق بقانون 20 سبتمبر 1792 م، وبموجبه اعتبر الزواج عقدًا مدنيًّا يخضع لقواعد الفَسْخ؛ شأنه في ذلك شأن سائر العقود، ثم تأيَّد جواز الطلاق بالقانون المدني الذي أصدره نابليون سنة 1804م مع قيود روعيتْ فيها مصلحة الأسرة، وقد سرى جواز الطلاق بعد ذلك إلى أكثر الدول الكاثوليكية، وشَمل في الوقت الحاضر جَميع القوانين في دول الغرب، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكثر البلاد تسامُحًا في الطلاق، ففي كل سنة يزداد عدد المطلقين حتى بدا الزواج؛ كأنه علاقة مؤقتة بين زوجين[12].
أمَّا الكنيسة الشرقية (الأرثوذكسية) التي كان يرعاها أباطرة الشرق البيزنطيون، فقد ظلَّت آخذة بقاعدة جواز الطلاق في الحالات التي كانت مُقررة في القانون الروماني، الذي صاغه الإمبراطور جستنيان الأول (482 – 565م)، وفيها سند من قول المسيح، وقد سرَى الأخذ بِهذه القاعدة إلى الكنائس الشرقية الأخرى، مع اختلاف بينها من حيث السعة والضيق.
على أنَّ نفاذ الطلاق في جميع المذاهب المسيحية الغربية والشرقية لا يتم بالإرادة المنفردة، أو بالاتفاق؛ بل لا بد فيه من صدور حكم قضائي[13].
د – الطلاق في الجاهلية:
كان الرجل في الجاهلية إذا أراد تطليقَ زوجتِه قال لها: "حبلُكِ على غاربك"؛ أي خلَّيْتُ سبيلك فاذهبي حيث شئت، أو يقول لها: أنت مُخلًّى كهذا البعير، أو الحقي بأهلك، أو اذهبي فلا أنده سربك[14]، أو يقول لها: بِينِي، أي فارقي (من البَيْن: وهو الفراق) ومنه قول الأعشى:
أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ كَذَاكِ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ(/7)
وكان الطلاق يتِمّ على ثلاث مرات متفرِّقات، فإذا طلق الرجل امرأته للمرة الأولى والثانية جاز أن يعود إليها، أما إذا طلَّقها للمرَّة الثَّالثة فلا تَحِلُّ له إلا بعد أن تتزوَّج من رجل آخر يحل لها، وكانوا يشترطون عليه أن يطلقها بعد العقد، فتعود إلى زوجها الأول، وكانوا يُطْلِقون على الرَّجُل الذي يتزوَّجُها بعد طلاقها اسم (المحلل)، ويلقبُّونه بالتَّيْسِ المُستعار؛ لأنَّ زواجه من المرأة كان زواجًا صوريًّا، وقد دُعِي لِهذه المهمة ليحلل عودة المرأة إلى زوجها.
هـ ـ الطلاق في الإسلام:(/8)
أخذ الإسلام بمبدأ الطلاق على النحو الذي كان مألوفًا في الجاهلية؛ ولكنه أخضعه لأحكام استبعد فيها سوء استعماله، ورتَّب للمرأة حقوقًا، لم تكن تَحْظَى بها في الجاهلية، ففي الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته للمرة الأولى، وقبل أن تنقضي عدتها يُراجعها، ويفعل ذلك عدة مرات ما دامت في العِدّة، وبذلك كان يضارُّها، وقد شكت امرأة لرسول الله ما صنع زوجها، فنزلت الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229][15] ففي هذه الآية تحدد الطلاق بمرَّتَيْنِ ففي المرَّة الأولى يكون رجعيًّا، بمعنَى أنه يَحِقُّ للرجل أن يراجع زوجته قبل انقضاء عدتها، أمَّا إذا طلَّقها مرَّة أخرى، أو مضت عدتها ولم يراجعها، فتبين منه، ولا تحل له إلا بعقد جديد ومهر جديد، وبذلك قطع الإسلام سوء استعمال الطلاق، وحمى المرأة من مضارة زوجها، وإذا طلَّقها بعد ذلك مرة ثالثة، فتبين منه بينونة كبرى بمعنى أنها لا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجًا غيره ويدخل بِها، ثُمَّ يطلِّقها بإرادته أو بالاتفاق، وفي ذلك يقول تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وذلك بعد قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، وبذلك نهى الإسلام عن الزواج الصوري الذي كان يدعى إليه (المحلل) في الجاهلية، واشترط أن يكون الزواج حقيقيًّا لا شُبْهَة فيه، ولا تواطُؤ.
والطلاق حق يملكه الرجل، ويمكن للمرأة أن تَمْلِكَه، ففي الجاهلية كان بعض النسوة من الشريفات يشترطن على أزواجهن أن يكون أمرهن بيدهن؛ أي أن يكون لهن حق تطليق أنفسهنَّ متى شئن، وكانت علامة التطليق ألا تصنع المرأة طعامًا لزوجها، أو أن تحول باب خبائها، فإن كان قبل المشرق حولته قبل المغرب، فيعلم الزوج أن زوجته طلقت نفسها منه فلا يأتيها.(/9)
ويروي صاحب "الأغاني" أن ماوية زوجة حاتم الطائي طلَّقته وكان أمرها بيدها، وذلك أنه جاءها، فرآها حولت باب خبائها فانصرف[16].
ومِن هؤلاء النسوة سلمى بنت عمرو بن زيد النَّجَّارية، وهي أم عبدالمطلب بن هاشم جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفاطمة بنت الخرشب الأنمارية، وتدعى (أم الكَمَلَة)؛ لإنجابِها أربعة أولاد كل منها كان يلقب بالكامل[17]، وعاتكة بنت مُرّة بن هلال، وهي أم هاشم، وعبدشمس، والمطلب أبناء عبدمناف، وأم خارجة: وهي عمرة بنت سعد البجلية، وكان يضرب بها المثل فيقولون: (أسرع من نكاح أم خارجة)، ويدعى هؤلاء النسوة بالمنجبات؛ لأنهن ولدن عدة بطون من العرب، وعرف أولادهن بالنجابة، ونالوا في قومهم شرف المقام.
وقد أخذ الإسلام بِحقِّ المرأة في أن تشترط على زوجها تطليق نفسها منه، فإذا قالت طلقت نفسي منك، أو اخترت نفسي كانت طلقة بائنة عند أبي حنيفة، بحيث لا تحل له إلا بعقد جديد ومهر جديد، وعند الشافعي كانت طلقة رجعية، بحيث يمحو الزوج أثر الطلقة إذا راجعها في مدة العدة، وهذا ما أخذ به قانون الأحوال الشخصية المصري والسوري، على أنه يبقى للزوج حق طلاقها متى شاء؛ لأنه صاحب الحق الأصلي في التطليق، ومنحه المرأة حق تطليق نفسها منه؛ إنما هو تفويض لا يسلبه حق الأصيل.
2 - الخلع:
الخلع: هو إزالة الزوجية بطلب من المرأة، إذا كرهت من زوجها أمورًا لا تطيقها، وقد أفسح الإسلام لمثل هذه المرأة المجال للتخلُّص من زوجها، لقاء مال تدفعه إلى زوجها، فتفدي نفسها بالمال، أو بمنفعة تقدمها للزوج؛ كإرضاع ولده أو حضانته دون أجر، وقد استدل الفقهاء على جواز الخلع بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}[18].(/10)
وتأيد هذا الجواز بالسنة، فقد روى البخاري أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أبغضت زوجها وكرهته، فأتَتِ النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس لا أعتب عليه في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال الرسول: ((أَتَرُدِّين عليه حديقته؟))، وكان قد جعلها مهرًا لها، فقالت: "نعم"، فقال الرسول لثابت: ((اقبل الحديقة وطلِّقها تطليقة))، فردت عليه حديقته، وفرق الرسول بينهما، وكان ذلك أول خلع في الإسلام[19].
ويروى أن عمر بن الخطاب سمع امرأة في الطواف تقول:
فَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِعَذْبٍ مُبَرَّدِ نُقَاخٍ فَتِلْكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَرَّتِ
وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِأَخْضَرَ آجِنٍ أُجَاجٍ وَلَوْلا خَشْيَةُ اللَّهِ فَرَّتِ
ففهم عمر شكواها، فبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم، فخيَّره بين خمسمائة درهم والتمسك بها فاختار الدراهم، وطلقها[20].
ونرى عمر قد أخذ بمبدأ الخُلْعِ، وأَشْفَقَ على امرأةٍ تشكو أمرها إلى الله وهي تطوف، فطلب من زوجها أن يطلقها، أو يُخالعها على مال، فخالَعَها على مال وخلعها من عصمته.
وقد جعل الإسلام حقَّ المرأة في افتداء نفسها في مُقابل حق الرجل في الطلاق، فإذا كرهت المرأة معايشة زوجها، كان لها الحق في طلب خلعها من عصمته، وبذلك يتوازن حقها في طلب الخلع مع حقه في طلاقها إذا كره أحدهما الآخر.
وإذا رفض الزوج خلع امرأته، رفعت أمرها إلى القاضي فإذا امتنع الصلح بينهما، أمر القاضي أن تدفع المرأةُ إلى زوجها ما قبضت من مهر، أو يقرر القاضي التعويض الذي ينبغي أن تدفعه إلى الزوج، فإن لم يرضَ ألزمه القاضي بالقبول، ويثبت واقعة الخلع، ويكون طلاقًا بائنًا[21].
3 – الطلاق بحكم القاضي:
يُمكِنُ الحكم بالطلاق قضاء في أربع حالات: للضرر، والعيب، وغياب الزوج، وعدَمِ إنْفاقِه.
أ – الطلاق للضرر:(/11)
إذا أساء الزَّوج معاملة زوجته وأضر بها، وقام بسببها شقاق مستمر، فيحق للزوجة أن تطلب مِن القاضي أن يفرق بينها وبينه، ويسعى القاضي في الصلح، فإذا لم يثمر سعيه أحال الزوجين إلى حكمين من أهلهما، وفقًا لقوله – تعالى -: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}[22]، وعلى الحكمين أن يتعرفا أسباب الشقاق ويبذُلا جهدهما في الإصلاح بين الزوجين، فإذا عجزا وتبيّن أن الإساءة كلها من الزوج، قرر الحكمان التفريق وإلزامه بجميع الحقوق المترتبة عليه في الزواج والطلاق.
وإن كانت الإساءة كلها من الزَّوجة، قرَّر الحكمان التفريق بين الزوجين، وإلزام المرأة برد ما قبضَتْهُ منَ المهر، وسقوط جميع حقوقها المالية المترتبة على الزواج والطلاق، وهذا الحق ليس قاصرًا على المرأة؛ بل يحقُّ للرجل أيضًا أن يطلب التفريق من زوجته؛ للضرر الذي يلحق به من مشاكستها وعنادها، وإهمالها لواجباتِها نحوه، ونحو أولاده وبيته، حتى لا تتخذ الزوجة المشاكسة إساءتها وسيلة لتطليقها من زوجها دون مقابل، فتُحَمِّله خسارة كبيرة من باقي المهر، ونفقة العدة والمتعة (التعويض)، فإعطاء الزوج الحق في طلب التفريق للضرر يَحول - غالبًا - بين الزوجة وتعمدها الإساءة لتتوصَّل إلى الطلاق.
وإذا كان كل من الزوجين يطلب التفريق، فإن تبين أن الإساءة من الزوج، اقترح الحكمان رفض دعواه، وإن لم يعرف المسيء منهما، أو كانت الإساءة مشتركة، قرَّرا التفريق دون تعويض أو بتعويض يتناسب مع الإساءة[23].
ب – الطلاق للعيب:(/12)
يحقُّ لكُلٍّ منَ الزوجين أن يطلب من القاضي الحكم بالتفريق إذا ظهر في أحدهما عيب يَمنَع من الوصال والإنجاب، كعقم الرجل، وعقر المرأة، وما شابه ذلك، أو إذا طرأ على أحدهما مرض خطير؛ كالجنون والجذام والبرص، وكل داء لا يُرْجَى شفاؤه، فإذا ثبت للقاضي العيب حكم بطلاق بائن.
ج – الطلاق للغيبة:
يحق للزوجة أن تطلب الحكم بالتفريق بينها وبين زوجها إذا غاب عنها مدة سنة، أو أكثر لغير عذر مقبول، وكذلك إذا حكم عليه بالحبس ثلاث سنين، فيجوز للزوجة بعد مضي سنة من تنفيذ الحكم أن تطلب التفريق، ويحكُم القاضي بطلقة بائنة.
د – الطلاق لعدم الإنفاق:
كذلك يحقُّ للزَّوْجة أن تطلب التفريق إذا امتنع زوجها عن الإنفاق عليها وكان موسرًا، أمَّا إذا كان مُعْسرًا، وطلبت الطلاق فالقاضي يأمره بطلاقها، فإن أَبَى طلَّقها القاضي طلاقًا بائنًا.
وما أوْرَدَنا من هذه الأحكام في بعضه خلاف وتفصيل يرجع إليه في كتب الفقه، وفي شروح قوانين الأحوال الشخصية، وهناك أسباب أخرى للتفريق بين الزوجين؛ كالردة؛ واللعان؛ والإيلاء؛ وهي أسباب أضحت نادرة الوقوع.
عدة الطلاق:
بحثنا من قبل في عدة الوفاة وظاهرة الحزن على الزوج، وهذا نبحث في عدة الطلاق، وهي المدة التي ينبغي على المرأة أن تقضيها بعد طلاقها، والغرض من العدة هو التأكد من خلو الرحم من الحمل حفظًا للأنساب.
وقد حددت الشريعة اليهودية عدة الوفاة وعدة الطلاق باثنين وتسعين يومًا؛ أي بثلاثة أشهر شمسية، وتعتد المرأة ولو كانت صغيرةً أو عاقرًا أو لم يدخل بها زوجها، وحددت المسيحية عدة الوفاة والطلاق بعشرة أشهر؛ كما كانت في القانون الروماني، وقد أخذت القوانين الأوروبية بتحديد هذه المدة في العدة[24].(/13)
وفي الجاهليَّة لم يكن للمرأة المطلقة عدة، فكانت تتزوج بعد طلاقها ولو كانت حاملاً، فإذا ولدت عُدَّت حاملاً من زوجها الثاني، ويكون الزوج والدًا شرعيًّا لذلك المولود؛ لأنه ولد على فراشه، وقد فصلنا ذلك في بحثنا في المحرمات من النساء تحريمًا مؤقتًا.
وقد جعل الإسلام عدة الطلاق على ثلاثة أنواع: عدة تكون بالقروء (الحيض)، وعدة تكون بالأشهر، وعدة تكون بوضع الحمل.
1 – العدة بالقروء: إذا كانت المرأة من ذوات الحيض، وطلقها زوجها بعد الدخول بها، فعدتها ثلاث حيضات كوامل، لقوله – تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}[25].
2 – العدة بالأشهر: تكون العدة بالأشهر في حالتين:
الحالة الأولى: إذا لم تكن المرأة من ذوات الحيض لبلوغها سن اليأس وهو خمس وخمسين سنة، وحدثت الفرقة بينها وبين زوجها فعدتها ثلاثة أشهر، لقوله – تعالى -: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}[26].
والحالة الثانية: إذا توفي الزوج عن زوجته، ولم تكن حاملاً فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، وقد أشرنا إلى ذلك في عدة الوفاة.
3 – العدة بوضع الحمل: إذا كانت الزوجة حاملاً وقت الفرقة، سواء أكانت بالوفاة أم بغيرها، فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل لقوله – تعالى -: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[27]، وبالوَضْع يبرأ الرحم، وهو الأصل في فرض العدة[28].
موقف الإسلام من الطلاق:(/14)
يرتبط الطَّلاق في الشريعة الإسلامية بالتصوُّر الإسلامي للأسرة، فالأسرة في تصوُّر الإسلام مؤسَّسة اجتماعيَّة واقتصاديَّة، تستمدُّ مفهومها من التسمية التي تدل عليه، فهي تدعى الأسرة و(العائلة)، فالأُسْرة مشتقَّة من الأسر، والأسر بمعناه المادِّي هو الشد والربط بقطعة من الجلد تسمى (السير)، كان يشدُّ به العدو ويدعى (الأسير) وبالمعنى المجازي، تعني الأسرة الرابطة التي تربط بين أفرادها، وتشد بعضهم إلى بعض، وتجعل منهم قوة، وهي بذلك تعني الجانب الاجتماعي منَ المُؤسَّسة[29]، والعائلة مُشتقَّة من العول، وهو كثرة العيال، والعيال هم من يلتزم الرجل بمؤونتهم والإنفاق عليهم[30]، وهي بذلك تعني الجانب الاقتصادي مِنَ المُؤسَّسة.(/15)
وقد ناط الإسلام إدارة هذه المؤسسة بالرجل أبًا وزوجًا، ومنحه السلطة للحفاظ على الرابطة التي تشد أفرادها بعضهم ببعض، وألزمه الإنفاق عليها وتأمين ما تحتاجُ إليه من نفقة ومؤونة، وبذلك وضعه في مركز القيادة في مُؤسسة هي عماد المجتمع والأساس الذي يبنى عليها، وإلى جانب ذلك نقل الإسلام المرأة من مرتبة التبعية إلى رتبة المشاركة في إدارة الأسرة، وألقى عليها أعباء القيام بمرافقها الداخلية وبكل ما يتصل بطبيعتها، وساواها بالرجل في الحقوق القانونية والإنسانية، ولولا شدة الإيمان بالرسول وبدعوته لاستحال على العرب قبول هذا التعديل في مرتبة المرأة، وإذا كان الإسلام قد فضل الرجل على المرأة في بعض الحقوق المالية، كزيادة نصيبه في الإرث، ومنحه حق الولاية عليها، فإن هذا التفضيل كانت تقتضيه طبيعة حياتها، وتستلزمه الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي استحدثت بالإسلام، وقد راعى الإسلام الدقة البالغة في تفضيل الرجل على المرأة، حتى كاد الفرق بينهما لا يستبين فقال – تعالى -: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}[31]، وهذه الزيادة في حق الرجل إنما كانت في مقابل قيامه برعاية المرأة، والإنفاق عليها، فقال – تعالى -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[32]، وبذلك نرى الإسلام قد أقام تفضيل الرجل على المرأة على أساس من الواجب الذي يلزمه برعايتها والإنفاق عليها.
ويستمد الرجل سلطته في الأسرة من مركزه القيادي، وهو مركز اعترفت له به جميع القوانين والشرائع، غير أن الإسلام أخضع هذه السلطة لمعايير إنسانية وأخلاقية مضمونة بضوابط الإيمان، وأقام العَلاقة بين الزوجين على أساس المودة والرحمة، كل مِن مركزه فيها.(/16)
من أجل ذلك كان الزواج علاقة مستمرة في الإنشاء والبناء على قواعد راسخة مُحْكَمَة، فإذا لم تتحقق الغاية منه؛ لقصور في التعاون والتكافل يرجع إلى تنافُر في الطباع، أو إلى تقصير أحد الزوجين أو كليهما في القيام بواجباته، أو تنكر لحقوق الآخر عليه، كان لا بد من فصم العلاقة بين الزوجين؛ لأن في استمرارها - وهي عليلة - ضررًا لا يستقيم معه بناء الأسرة وتنهار به قواعدها، ومِنْ هنا نشأتِ الضرورة للأَخْذ بمبدأ الطلاق؛ كعلاج واقٍ لسلامة الأسرة، وتقدير هذه الضرورة يعود للرجل، باعتباره رأس الأسرة وهو المكلف برعايتها والإنفاق عليها، غير أنه لا يسوغ للرجل أن يمارس حق الطلاق إلا في حدود الضرورة التي تقتضيه، ويعتبر ظالمًا ومسؤولاً ديانة إذا تَجَاوَز هذا الحق، فهو عند الله أبغض الحلال، والمؤمن حقًّا يخشى سخط الله على الظالمين والعقوبة الأخروية، التي أعدها لهم؛ ولذلك جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين والخلق العنصرين الأساسيين لضمان السلامة المطلوبة للرابطة الزوجية.(/17)
وقد جعل الإسلام الطلاق على مراحِلَ؛ لِكَيْ يُراجِعَ الرجل نفسه في المرة الأولى إذا كان قد تسرَّع فيه، وأراده زاجرًا لِلمرأة لكي تصلح نفسها، وحدد مهلة قدرها (ثلاثة قروء)؛ أي بما يعادل ثلاثة أشهر، أباح فيها لِلرَّجُل أن يراجع زَوْجَتَهُ بِما يفيد الرضا عنها، وناط هذه الرجعة بإرادته، فقد تصلح المرأة نفسها، أو يندم الرجل على ما فرط منه، فإذا مضت المدة المحددة للرجعة ولم يراجعها، أو أوقع خلالها أو بعد مضيها طلاقا ثانيًا، انفصمت الرابطة الزوجية، ويسقط حقه بمراجعتها، وتحرم عليه إلاَّ إذا عقد عليها من جديد بمهر جديد، وكانت راغبة فيه، وهنا يتحمَّل الرجل عبئًا ماليًّا مضاعفًا، إذ إنَّ عليه بعد طلاقها للمرة الثانية التي انفصم فيها العقد أن يدفع إليها حقوقها المالية المترتبة لها، وهو ما تبقى لها مِن مهر ومتعة؛ (أي تعويض عما أصابها من ضرر بطلاقها) ونفقة عدَّة، ثم عليه أن يدفع إليها مهرًا جديدًا، فإذا طلقها بعد ذلك للمرة الثالثة، سقطت في العودة إليها إرادتها وإرادته، ولا تحل له إلا إذا خطبها رجل آخر وتزوجها زواجا فعليًّا، فإذا طلَّقها بعد ذلك أو فارقَتْه بأحد أسباب الفرقة، أمكن لزوجها الأول أن يعود إليها بعقد ومهر جديد، إذا رغبت فيه.
وقد راعَى الإسلام في مراحل الطلاق الحالة النفسية التي تحدثها الفرقة بين الزوجين، فقد يطلق الرجل زوجته ثُمَّ تتبعها نفسُه، ويندم على فعله، وفي الأخبار أمثلة كثيرة على ذلك، فقد طَلَّق عبدالله بن أبي بكر زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، ثم ندم وقال متحسِّرًا على فراقها:
أَعَا تِكَ لا أَنْسَاك مَا ذَرَّ شَارِقٌ وَمَا نَاحَ قُمْرِيُّ الحَمَامِ المُطَوَّقُ
أَعَاتِكَ قَلْبِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَيْكِ بِمَا تُخْفِي النُّفُوسُ مُعلَّقُ
وَلَمْ أَرَ مِثْلِي طَلَّقَ اليَوْم مِثْلَهَا وَلا مِثْلَهَا فِي غَيْرِ شَيءٍ تُطَلَّقُ(/18)
لَهَا خُلُقٌ جَزْلٌ وَرَأْيٌ وَمَنْطِقٌ وَخَلْقٌ سَوِيٌّ فِي الحَيَاءِ وَمَصْدَقُ[33]
ومثله عبدالله بن العجلان، أحد الشعراء المُتيَّمين، فقد طلَّق زوجته هندًا، وكان يحبها، ثم ندم وتاقت نفسه إليها فقال:
فَارَقْتُ هِنْدًا طَائِعًا فَنَدِمْتُ عِنْدَ فِرَاقِهَا
فَالعَيْنُ تُذْرِي دَمْعَةً كَالدُّرِّ مِنْ آمَاقِهَا
مُتَحَلِّيًا فَوْقَ الرِّدَا ءِ يَجُولُ مِنْ رَقْرَاقِهَا
وَلَقَدْ أَلذُّ حَدِيثَهَا وأُسَرُّ عِنْدَ عنَاقِهَا [34]
ومثله أيضًا الفرزدق حين طَلَّقَ زوجته النوار، ثم تبعتها نفسه، فقال متحسرًا:
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ[35]
وَكَانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنْهَا كَآدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ الضِّرَارُ
وَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ بِهَا يَمِينِي لَكَانَ عَلَيَّ لِلْقَدَرِ الخِيَارُ[36]
وقد أسقط الإسلام أثر الطلاق إذا أوْقَعَه الرجل وهو غضبان أو سكران أو مُكْرَه، ذلك أن الزواج عقد لا يفسخ إلا بإرادة واعية تقدر النتائج المادية والمعنوية التي تترتب عليه، ومِن لطيف ما يروى حكاية أثبتها ابن قتيبة عن رجل من بَنِي عُذرة، تزوَّج ابنة عمٍّ له تدعى (سعدى) كانت تحبه ويحبها، ثم نازعه أبوها وحَملها إلى بيته مكرهة، وأتى الزوج إلى المدينة يشكو أمره إلى عاملها وهو يومئذ مروان بن الحكم، وكان قد بلغه جَمالها، فدعا مروان أباها، ودفع إليه عشرة آلاف درهم؛ ليزوِّجَه إيَّاها، وضمن له خلاصها من زوجها، وسيق الزوج إلى الأمير فطلب إليه أن يطلِّقها، فأبَى فزجَّه في السجن وضيَّق عليه وعذَّبه بأنواع العذاب، فلم يجد بدًّا من النزول على حكم الأمير فطلَّقها مُكرهًا، فلمَّا استكملت عِدَّتَها تزوجها مروان وأطلق الزوج السجين، فما عَتَّمَ أن توجَّه إلى دمشق بعد خروجه من السجن، ودخل على معاوية بن أبي سفيان، وقصَّ عليه قصته وهو يبكي، ويستجيره مِمَّا فعل عامله مروان ويقول:(/19)
سَبَانِيَ سُعْدَى وَانْبَرَى لِخُصُومَتِي وَجَارَ وَلَمْ يَعْدِلْ وَغَاصَبَنِي أَهْلِي
فَطَلَّقْتُهَا مِنْ جَهْدِ مَا قَدْ أَصَابَنِي فَهَذَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مِنَ العَدْلِ؟!
فَرَقَّ له معاوية وكتب لمروان كتابًا، طلب فيه أن يُطلِّق سعدى، وأرسله مع رسول خاص فلما قرأ مروان الرسالة تنفَّس الصعداء، وقال: ودِدْتُ أنَّ أمير المؤمنين خلَّى بيني وبين سعدى سنة، ثم عرضَنِي على السيف، وجعل يُؤامِرُ نفسه في طلاقها فلا يقدر، فلمَّا أزعجه الرسولُ طلَّقها وأسلمها إليه، وكتب إلى معاوية كتابًا قال فيه:
اعْذُرْ فَإِنَّكَ لَوْ أَبْصَرْتَهَا لَجَرَتْ مِنْكَ الأَمَانِي عَلَى تِمْثَالِ إِنْسَانِ
وَسَوْفَ تَأْتِيكَ شَمْسٌ لَيْسَ يَعْدِلُهَا عِنْدَ البَرِيَّةِ مِنْ إِنْسٍ وَمِنْ جَانِ
حَوْرَاءُ يَقْصِرُ عَنْهَا الوَصْفُ إِنْ وُصِفَتْ أَقُولُ ذَلِكَ فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ
فلمَّا قرأ معاوية الكتاب أمر بإحضار الجارية، فإذا هي أحسن الناس كلامًا وأكملهم شكلاً ودلالاً، فقال لِزَوْجِها: يا أعرابِيُّ، هذه سُعْدى، ولكن هل لك من سلوة عنها بأفضل رغبة؟ قال: نعم، إذا فرَّقْتَ بَيْنَ رأسي وجسدي، فقال: أعوِّضُك عنها ثلاث جوارٍ أبكار، ومع كل واحدة ألف دينار، وأقسم لك من بيت المال ما يكفيك في كل سنة، ويعينك على صحبتهنَّ، فقال العذري لمعاوية: استجرتُ بعدلِكَ مِن جور عاملك، فعند من أستجير من جَوْركَ؟ فقال له معاوية: أنت مقر بأنَّك طلَّقتها، ومروان مقر بأنه طلقها، ونحن نُخَيّرها، فإنِ اختارتكَ أعدناها إليك بعقد جديد، وإن اختارتْ سِواك زوَّجناه بِها، ثم التفت إليها معاوية وقال: ما تقولين يا سعدى؟ أيهما أحب إليك، أمير المؤمنين في عزه وشرفه وسلطانه، وما تصيرين إليه عنده، أو مروان بن الحكم في عسفه وجوره، أو هذا الأعرابي في فقره وسوء حاله؟
فأنشأت تقول:(/20)
هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي فَقْرٍ وَإِضْرَارِ أَعَزُّ عِنْدِي مِنْ قَوْمِي وَمِنْ جَارِي
وَصَاحِبِ التَّاجِ أَوْ مَرْوَانَ عَامِلِهِ وَكُلِّ ذِي دِرْهَمٍ عِنْدِي وَدِينَارِ
ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بِخاذِلَتِه لحادثة الزمان، ولا لغدرات الأيام، وإن لي معه صُحْبةً لا تُنْسى، ومحبة لا تبلى، والله إني أحق مَن صبر معه في الضراء؛ كما تنعمت معه في السراء، فعجب كل من كان حاضرًا، فأمَر له بِها ثم أعادها إليه بعقد جديد، وأمر لهما بألف دينار، فأخذها الأعرابي وانصرف وهو يقول:
خَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ لِلأَعْرَابِي أَلَمْ تَرِقُّوا وَيْحَكُمْ لِمَا بِي؟[37]
ولم يقطع الإسلام على الرجل طريق العودة إلى زوجته، إن أرادت، بل أتاحها له بعلاج تشتد مرارته كلما تكرر وقوع الطلاق.
وإلى جانب حق الزوج في التطليق أتاح الإسلام للزوجة الحق في فصم علاقتها بزوجها في ست حالات:
1 – إذا فوضها بتطليق نفسها منه، ويدعى ذلك تمليك العصمة.
2 – إذا كرهت زوجها ولم تطق العيش معه، فيحق لها أن تطلب تطليقها منه لقاء مال تفتدي به نفسها، ولا يحقُّ له ديانة أن يأخذ منها أكثر مِمَّا أعطاها من مهر.
3 – إذا كان الزوج مصابًا بعيب، لا يمكن معه استمرار الحياة الزوجية.
4 – إذا أساء إليها أو طلَّقها.
5 – إذا قصر في الإنفاق عليها.
6 – إذا غاب عنها وطال غِيابه، أو صَدَرَ بِحَقه حكم بالحبس مدة ثلاث سنوات فأكثر، فلها بعد سنة مِن حبسه أن تطلب الطلاق منه.
فنرى الإسلام قد وازَن بين حق الزوج في فصم علاقته بزوجته، وبين حقها في فصم هذه العلاقة، ولم يلزمها بالعيش معه على كره أو مضض، كما هو حالها في حكم التوراة والإنجيل، وفي ذلك دليل على مراعاة الإسلام حرية المرأة، وصون كرامتها الإنسانية.(/21)
ومهما يكن من أمر، فإن الإسلام قد أقام رابطة الزوجية على المشاركة في نعيم الحياة وبُؤْسها، وجعل الوفاء عنصرًا أساسيًّا للالتزام بها، والإسلام وإن أعطى للزوج حق الطلاق، وجعل حل عقدته بيده، فليس له أن يستعمل هذا الحقَّ إلاَّ إذا بدر من الزَّوجة ما يخلُّ بِسلامة المُشاركة في الحياة الزوجيَّة، ومِنَ الظلم الَّذي يأباه الإسلام أن يستعمل الزَّوج حقه على هواه، فالطلاق وإن كان حلاًّ له فإنه - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أبغض الحلال إلى الله.
ولقد رأينا أزواجًا يُوقعون الطلاق في نزوة طيش أو سعيًا وراء حب جديد، ينطلق من هوى جامح، فيهدمون بكلمة واحدة بيتًا كان ينبغي أن يبقى معمورًا، وينقضون عهدًا كان ينبغي أن يراعى فيه حق الوفاء، وليس من المروءة في شيء أن يبلى حب الزوج إذا ذهبت نضارة زوجته وذوى شبابها، وأن ينسَى حسن الصحبة والرِّعاية والوُدّ.
وإذا كان الحب مطلوبًا في التزاوج، فلا يمكن استمراره لارتباطه بالشباب والجمال، وهما عنصران لا يقبلان الدوام، ومن أجل ذلك نرى الإسلام يراعي الحب في انعقاد الزواج، ويتجلى ذلك بجعله إرادة المرأة ركنًا أساسيًّا في انعقاده؛ ولكنه لا يعتمده في بناء الأسرة؛ لأنه عنصر زائل، وإنما يعتمد في بنائها على المودة والرحمة، وهما عنصران ثابتان، وعنهما ينشأ الالتزام بالوفاء، ومصداق ذلك في قوله – تعالى -: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[38].
فليس منَ الوفاء إذًا أن يفارق الرجل زوجته، وقد تزوَّجَهَا عن حُبٍّ وأُغْرِمَ بِجمالِها وشبابِها، أو بِغَيْرِ ذلك من الصفات، وكانت وفية له، راعية لعهده، ليستبدل بها أخرى، فيها نضارةٌ وشباب، أو له فيها مآرب أخرى.(/22)
وإنِّي أضع أمام القراء تصوُّرًا لامرأة محزونة، هَمَّ زوجها بطلاقها لنزوة في نفسه، بعد أن اعتصر شبابها، وقد صاغت من شعورها المتدفق بحنين الذكريات قصيدة؛ تُعاتبه فيها؛ وتذكره بحسن صحبتها ووفائها؛ وتعبر عن حزنها في شعر رائق تقول فيه:
طَالَ السُّهَادُ وَأَرَّقَتْ عَيْنِي الكَوَارِثُ وَالنَّوَازِلْ
لَمَّا جَفَانِي مَنْ أُحِبُّ وَرَاحَ تَشْغَلُهُ الشَّوَاغِلْ
وَطَوَى صَحِيفَةَ حُبِّنَا وَأَصَاخَ سَمْعًا لِلْعَوَاذِلْ
يَا أَيُّهَا الزَّوْجُ الكَرِي مُ وَأَيُّهَا الحِبُّ المُوَاصِلْ
مَا لِي أَرَاكَ مُعَانِدِي وَمُعَذِّبِي مِنْ غَيْرِ طَائِلْ؟!
لَمْ تَرْعَ لِي صِلَةَ الهَوَى وَهَجَرْتَنِي وَالهَجْرُ قَاتِلْ
هَلْ رُمْتَ أَنْ تَغْدُو طَلِيقًا لا يَحُولُ هَوَاكَ حَائِلْ
أَوْ رُمْتَ غَيْرِي زَوْجَةً يَا لَلأَسَى مِمَّا تُحَاوِلْ
إِنْ تَبْغِ مَالاً فَالَّذِي تَدْرِيهِ أَنَّ المَالَ زَائِلْ
أَوْ تَبْغِ أَصْلاً فَالَّتِي قَاطَعْتَهَا بِنْتُ الأَمَاثِلْ
أَوْ تَبْغِ حُسْنًا فَالمَحَا سِنُ جَمَّةٌ عِنْدِي مَوَاثِلْ
أَوْ تَبْغِ آدَابًا فَأَشْ عَارِي عَلَى أَدَبِي دَلائِلْ
أَنَا مَا حَفِظْتُ سِوَى الوَفَا ءِ وَلا ادَّخَرْتُ سِوَى الفَضَائِلْ
وَأَنَا وَلِي شَرَفُ العَفَا فِ أُعَدُّ مَفْخَرَةَ العَقَائِلْ
فَجَزَيْتَنِي شَرَّ الجَزَا ءِ وَكُنْتَ فِيهِ غَيْرَ عَادِلْ
أَنَسِيتَ عَهْدًا قَدْ مَضَى حُلْوَ التَّوَاصِلِ وَالتَّرَاسُلْ؟
أَيَّامَ تَبْذُلُ مِنْ وَسَا ئِلَ أَوْ تُنَمِّقُ مِنْ رَسَائِلْ
وَتَبُثُّ مَعْسُولَ المُنَى وَتَمُدُّ أَسْبَابَ الوَسَائِلْ
وَلَبِثْتَ تُغْرِينِي بِمَا تُبْدِيهِ مِنْ غُرِّ الشَّمَائِلْ
فَحَسِبْتُ أَنَّ الدَّهْرَ أَنْ صَفَنِي وَأَنَّ السَّعْدَ مَاثِلْ
ظَنًّا بِأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ لا بِالعَقُوقِ وَلا المُخَاتِلْ
مَاذَا جَرَى فَهَجَرْتَنِي وَهَوَاكَ فِي عَيْنَيَّ آهِلْ(/23)
عَاشَرْتَ أَهْلَ السُّوءِ فَاقْ تَنَصُوكَ فِي شَرِّ الحَبَائِلْ
وَمَضَيْتَ تَطْلُبُ بَيْنَهُمْ عَيْشَ المُقَيَّدِ بِالسَّلاسِلْ
وَرَضِيتَ هَجْرَ خَلِيلَةٍ هِيَ لَمْ تَزَلْ خَيْرَ الحَلائِلْ
وَاللَّهِ مَا فَكَّرْتُ يَوْ مًا فِي جَفَاكَ وَلَمْ أُحَاوِلْ
فَجَفَوْتَ يَا قَاسِي الطِّبَا عِ وَلَمْ تُدَارِ وَلَمْ تُجَامِلْ
فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ قَاتِلِي وَالمَوْت فِيمَا أَنْتَ فَاعِلْ
أَيْنَ المَوَدَّةُ فِي الهَوَى فِي الأُمْسِياتِ مَعَ الأَصَائِلْ
أَيْنَ الحَدِيثُ العَذْبُ مِنْ كَ وَأَيْنَ وَلَّى سِحْرُ بَابِلْ؟!
إِنِّي أُسَائِلُ أَيْنَ عَهْ دُكَ فِي الهَوَى إِنِّي أُسَائِلْ؟!
أَعَلِمْتَ مَا فَعَلَ النَّ وَى أَمْ أَنْتَ غَافِلْ؟
فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ وَانْهَهَا وَارْجِعْ إِلَى زَيْنِ العَقَائِلْ[39]
وقد هزت هذه القصيدة مشاعر الزوج، وأحيت ما بلي من حب قديم، فعاد إلى زوجته بحب جديد، شدَّه إليه حنين الذكريات التي أحسنت الزوجة تصويرها، وهذا مثل نادر، فمثل هذه الزوجة في النساء قليل، وقليل مثل زوجها في الرجال.
وهناك مَن يرى أنَّ التطليق من حق الرجل يتصرَّف به على هواه، ونحن نرى أن مصلحة الأسرة تقضي أن يصدر بالطلاق حكم قضائي، فالزواج عقد ينعقد بالتراضي كسائر العقود، ولا يجوز للرجل أن ينفرد بحله أو فسخه متى يشاء، وليس ثَمَّ ما يمنع من تقييد التطليق بحكم القاضي، ففي ذلك مصلحة للزوجين وحفاظ على الأسرة، ذلك أنَّ الرجوع إلى القاضي قد يُتيح الفرصة للزوج لمراجعة نفسه، ويبدد عزمه على الطلاق، وهو يتيح الفرصة للقاضي لإصلاح ذات البين، وإنقاذ الأسرة ومن فيها من سوء المصير[40].
---
[1] ويستر مارك: المصدر المتقدم 2/ 55 – 65.
[2] "لسان العرب"، و"تاج العروس": سقب.
[3] "لسان العرب"، و"تاج العروس": فضض، "نهاية الأرب" 3/ 120، "صبح الأعشى" 1/ 403، "بلوغ الأرب"2.(/24)
[4] "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، لجواد علي: 5/ 173.
[5] قانون مانو، الباب التاسع، المادة 82.
[6] سفر التثنية: الإصحاح 22: 13، 14، 28.
[7] سفر التثنية: الإصحاح 24: 1 – 2.
[8] ويستر مارك: المصدر المتقدم 5/ 324 وما بعدها.
[9] نشر هذا القانون في مجلة النشرة القضائية اللبنانية، في الجزء 12 لسنة 1962.
[10] إنجيل متى: 19: 2 – 7.
[11] إنجيل متى: 5: 21، 9؛ 9 – 10.
[12] ويستر مارك: المصدر المتقدم 5/ 366 وما بعدها.
[13] "أحكام الأحوال الشخصية": توفيق فرج ص/ 798 وما بعدها.
[14] السرب: المال، يراد به الإبل، أي يقول لزوجته إذا أراد طلاقها: اذهبي إلى أهلك، فإني لا أحفظ عليك مالك، ولا أزجر إبلك عن مذهبها ولا أردها؛ بل أهملها لتذهب حيث تشاء، ("لسان العرب"، و"تاج العروس": نده - سرب).
[15] "أسباب النزول" للواحدي: 43.
[16] "الأغاني": 13/ 274، 16/ 102، "ذيل الأمالي" ص: 153.
[17] "المحبر" ص: 398، "المعارف" للثعالبي ص: 609، 610، و"العمدة" لابن رشيق 2: 197.
[18] البقرة: 229.
[19] "أسد الغابة": المجلد 45، ص: 61.
[20] "العقد الفريد" 2/ 463.
[21] أحمد الغندور: "الأحوال الشخصية في التشريع الإسلامي" ص/ 462.
[22] سورة [النساء: 35].
[23] أحمد الغندور: "الأحوال الشخصية في التشريع الإسلامي" ص/ 508، 509.
[24] توفيق حسن فرج: "المصدر السابق" ص/ 537، 541، 595.
[25] سورة [البقرة: 228].
[26] سورة [الطلاق: 4].
[27] سورة [الطلاق: 4].
[28] أحمد الغندور: المصدر المتقدم/ 553 وما بعدها، و"محاضرات عن فرق الزواج"، لعلي الخفيف، ص/ 330 – 333.
[29] "لسان العرب"، و"تاج العروس": (سير).
[30] "لسان العرب"، و"تاج العروس": (عول).
[31] سورة [البقرة: 228].
[32] سورة [النساء: 34].
[33] "أسد الغابة": المجلد 47 ص/ 183، (طبعة الشعب)، "المحبر" ص/ 437.
[34] "الأغاني" 22/ 237، وما بعدها.(/25)
[35] الكسعي: رجل من قبيلة الكسع، من قيس بن عيلان اليمنية، اشتهرت بحسن الرمي، وقد رمى هذا الرجل عيرًا (حمارًا وحشيًّا)، فأصابه وظن أنه أخطأه، فكسر قوسه ثم ندم من الغد حين نظر إلى العير فوجده مقتولاً وسهمه فيه فصار مثلاً لكل نادم على فعل يفعله، وإياه يعني الفرزدق: ("لسان العرب": كسع).
[36] "العقد الفريد": باب النساء.
[37] "نهاية الأرب" 2/ 145 – 149، "ذم الهوى" لأبي الفرج الجوزي ص/ 338 – 341.
[38] سورة [الروم: 21].
[39] نشرت هذه القصيدة في "جريدة الوطن الكويتية" في عددها الصادر في 21 مارس سنة 1983.
[40] هذا ما أخذت به المادة (30) من قانون الأحوال الشخصية التونسي لعام 1964، والمادة 38 من قانون الأحوال الشخصية الإندونيسي لعام 1937.(/26)
العنوان: إنزال مظلّي في سماء دمشق
رقم المقالة: 458
صاحب المقالة: محمد سعيد المولوي
-----------------------------------------
حين كنا في السنة الأخيرة من الدراسة الثانوية كانت أكبر طموحات كثير من الشباب الانتساب إلى الكلية العسكرية أو الكلية الجوية. فقد كان منظر طلاب الضباط وهم يرتدون ملابسهم العسكرية مزينينها بالأشرطة ساترين أكفهم بقفازات بيضاء، متجمعين حول نادي الضباط أو متجولين في شارع "الصالحية" وقاماتهم منتصبة تعلوهم مظاهر الرجولة تسحر نفوسنا وتأسر قلوبنا.
لذا ما إن ظهرت نتائج امتحانات الدراسة الثانوية وأعلنت الدولة رغبتها في تنظيم مسابقة لمن يرغب من الشباب في إحدى الكليات الحربية أو الجوية أو البحرية حتى بادرت إلى التقدم إلى امتحان القبول في الكلية الجوية.
كان الامتحان الطبي صعبًا ودقيقًا وقد جزت مراحله كلها حتى إذا وصلت إلى امتحان العيون وصلاحيتها كانت الصدمة التي حطمت آمالي فبعد أن أنهى الطبيب فحصي التفت إليّ وقال بكل هزء: "رح يا بني لو كنت راكبًا طيارة لهوّرت ووقعت على الأرض".
وخرجت كسير الخاطر محزونًا لأتجه إلى طبيب عيون خاص، وهناك تأكدت أن الرجل لم يتجن علي فقد كان محقًا، وكانت عيناي تعادل قوة عين واحدة فهما مصابتان بالشرس "الانحراف" ولابد من وضع نظارة حتى تستقيم الرؤيا.
اشتريت النظارة وأنا لها كاره، ففيها توضعت خيبة آمالي وعلى زجاجها تكسر مستقبلي المنشود، وحين وضعتها أمام عيني وحاولت السير كان لزامًا علي أن أقع نحو الأرض أكثر من مرة، ولا سيما إذا كنت سأنزل من الرصيف، فقد كان الرصيف يرتفع أو ينخفض مستواه حسبما يروق للنظارة أن تتكرم علي.(/1)
استقرت كراهية النظارة في قلبي، وكم تمنيت أن أتخلص منها فلم أستطع، بل على العكس من ذلك فقد كانت تترسخ أكثر فأكثر، فكلما تقدمت في السن تقدمت هي تطالب بمزيد من درجات العدسات، حتى جاء يوم أصبحت لا أقدر أن أسير أو أقرأ بدونها. ولست أدري ماذا كان شعور والدي رحمه الله حين كنت أقف للصلاة والنظارة على أنفي فيقول لي: اخلع النظارة وصلِ لأن النظارة تمنع من حسن السجود. وكنت أجيبه وكيف سأستطيع أن أقرأ في الصلاة.. ثم أضحك.
سارت الأيام وجاءت حرب رمضان وكان أخي يؤدي الخدمة الإلزامية الثابتة وقد زودوه ببندقية رشاشة، ووجد خلسة من الوقت فأتى البيت يطمئن علينا. ولم يمض زمن طويل على مجيئه حتى أشرقت السماء بأضواء كاشفة كالمصابيح من السماء وانقلب إلى ما يشبه النهار، وقال أخي: لقد ألقيت قنابل ضوئية خشية إنزال مظلي. وقد تكون هذه القنابل قد ألقاها العدو ليبين لأفراده المظليين أين سيهبطون.
وأسرعت إلى الشرفة ونظرت إلى السماء فإذا هي مليئة بالمظلات وهي تلمع، وصحت: يخرب بيتهم لقد صنعوها.. وجاء أخي وقال: ما بالك..؟! قلت: انظر إلى السماء.. فهذا إنزال مظلي! وراح ينظر إلى السماء بينما دخلت الغرفة مسرعًا، وأحضرت بندقيته وجثوت في الشرفة على ركبتي وأخذت وضع الاستعداد لإطلاق النار.
وقال أخي مستغربًا: أخي أين المظليون؟
قلت: انظر إلى السماء ألا ترى.. وكانت الرؤية قد تأكدت عندي إذ خلعت النظارة.(/2)
كانت المظلات في شكلها الأهليجي، ولونها الأبيض اللامع، وتحركها يمنة ويسرة لا تدع لي شكًّا.. وسألت أخي: ما رأيك أن ننتظر حتى يصبح المظليون قريبين، ثم نطلق النار. واعترض أخي وقال: إياك أن تطلق الرصاص فليس هناك مظليون.. قلت له: ما بك ألا ترى.. قال: من الذي لا يرى؟! انظر إلى السماء لا يوجد شيء، لكن كلامه لم يقنعني فقد كنت أرى المظلات وهي تتأرجح وتلمع بألوانها البيضاء.. قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. أتريدني أن أشك بما أرى بعيني.. دعني.. بينما تتحقق أن هناك إنزالاً مظليًا فإن المظليين سيكونون قد تمكنوا من الأرض.. ونحن الآن نستطيع أن نصطادهم وهم في الجو.. وأسرع أخي إلى الداخل ثم عاد وبيده منظار مقرب وراح ينظر في السماء ثم قدم لي المنظار، وقال لي: خذ انظر وتأكد! ونظرت بالمنظار إلى السماء فإذا المظلات قد أصبحت قريبة لكني لم أستطع أن أدقق النظر أكثر لأن النظارة لم تكن على أنفي.. ووضعت النظارة ونظرت إلى السماء.. يالله! أين ذهب المظليون؟! لقد كانت السماء خالية.. واحترت ولعب بي الشك، فأنا ومنذ خمس دقائق أرى المظلات هابطة.. والآن بواسطة المنظار المقرب كنت أرى المظلات، وتحول منظري إلى صورة مضحكة، فحين أضع النظارة تغيب المظلات وحين أنزعها تمتلئ السماء بالمظلات!! ووجدتني أضحك.. لقد كنت أضحك من نفسي، إذ تبين لي أني عندما كنت أنزع النظارة يلعب الانحراف دوره فتصبح النجوم اللامعة بقعًا بيضاوية لامعة مهتزة، فأظنها مظلات، وعندما كنت أضع النظارة كانت تصح الرؤية فلا أرى سوى النجوم وتغيب عني المظلات. ونظرت إلى أخي وأنا أضحك!! نحمد الله أننا لم نطلق النار إذ كنا أحدثنا ذعرًا في الحي والناس في غنى عنه.
وسبب ذلك كله هي النظارات، فمنذ اليوم الذي وضعناها على آنافنا أصبنا بانفصام.....(/3)
العنوان: أنشطة أوقات الفراغ لدى الشباب الجامعي وعلاقاتها ببعض جوانب الصحة النفسية
رقم المقالة: 468
صاحب المقالة: د. إبراهيم وجيه محمود ود. محمد محروس محمد الشناوى
-----------------------------------------
مقدمة:
منذ أن هبط الإنسان إلى الأرض وهو في كد دائم وصراع مع الظروف البيئية من حوله، يحاول جهده أن يشبع حاجاته ويؤدي واجب الخلافة في الأرض وعمرانها، ذلك الواجب الذي شرفه به خالقه سبحانه وتعالى.
وفي سبيل إشباع حاجاته فإن الإنسان يسعى ويسعى ويبذل الجهد تلو الجهد باحثاً عن وسائل لانتاج طعامه ومشربه وبناء مسكنه ووسائل يخفف بها آلامه وأدوات ومعدات توفر له الأمن وغيرها وغيرها كثير، وكان لابد من عمل وعمل متواصل وسط ظروف الحياة الصعبة، وهكذا فإن مواصلة العمل يسلمه إلى حاجة أخرى – الحاجة إلى الراحة، إلى الفراغ من التعب والانشغال بشيء آخر يساعده على بدء رحلة العمل من جديد.
وهكذا جاءت حكمة الخالق جل وعلا في أن جعل الليل سكناً والنوم سباتاً والنهار للسعي والكفاح.
{وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا} [سورة النبأ: 9 – 11].
{هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا} [ سورة يونس: 67 ].
{ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} [سورة القصص: 73].
والفراغ Leisure يحمل في طيه معنيين: (نيولينجر 1983 Neulinger).
الأول: معنى الوقت الفائض أو الوقت الحر.
residual or Free time
والثاني: حالة للعقل State of mind تتسم بحرية مدركة وواقع داخلي.(/1)
وبينما يؤكد بعض الباحثين أن وقت الفراغ يعبر عن الوقت الحر المباح للفرد، والذي لا يقضيه في أي نشاط يتصل بكسب العيش، أو إشباع الحاجات الأساسية كالأكل والنوم، (جونز 1963 Jones، زهران 1980)، يرى إبراهيم وجيه أن وقت الفراغ هو الوقت الذي يقضيه الفرد في نشاط مفيد يتمكن أثناءه من تحقيق بعض ما يرغب فيه ويميل إليه. (1981 ص155).
ويقدم ماكدويل 1981 Mc Dawell تعريفين لوقت الفراغ هما:
1 - وقت الفراغ هو وقت غير مكرس لشيء أساسي، إنه وقت غير مخصص للعمل به إنه وقت غير مخصص للعمل به إنه وقت للتحرر من العمل. إنه وقت يخصص للراحة والاسترخاء.
2 - إن الفراغ رافد من روافد الشعور، يرتبط بخبرات جمالية محققة تعطى للفرد إحساساً بالسرور وتحقيق الذات.
ويضيف ماكدويل إلى تعريفيه الجوانب الآتية:
أن الفراغ صورة مرغوبة من المشاركة الجمالية للفرد وهو سرور وإنجاز محدد ذاتياً، يمكن أن يحدث في أي نشاط أو خبرة مرغوبة، وبذلك فإن خبرة الفراغ يمكن أن تظهر في صورة نمط فراغي في الشعور يمكن أن يظهر في ثلاثة أبعاد متصلة ببعضها.
(أ) بعد توقعي:
بمعنى أن خبرات الفراغ يجب أن تكون ببساطة في شكل توقع أو ترقب واعداد أو أحلام يقظة، أو تخيلات عن الاشتراك في نشاط بشكل ما، سواء كان ذلك بعد لحظات أو كان ذلك بعد سنوات.
(ب) بعد موضوعي:
ويشتمل ذلك على الاشتراك في نشاط فعلي يعتبر مصدراً للخبرة، مثل السباحة لخبرة الاسترخاء، تسلق الجبال سعياً وراء خبرة التحرر من الضغوط العصبية.
(جـ) بعد انعكاسي:
(استرجاعي) حيث تكون خبرات الفراغ محفوظة في الذاكرة حيث يمكن استرجاع هذه الخبرة بعد حدوثها، سواء كان ذلك بسنوات طويلة أو منذ لحظات معدودة.
ويرى الباحث أن خبرة الفراغ حالة شرطية وموقفية ودافعية للعقل ولكيان الفرد تتسم بالخصائص الآتية:
1 - شعور مدرك بالحرية.
2 - التركيز على ماهو مرغوب في الخبرة.
3 - تعاون بين القدرة والغرض والإدارة.(/2)
4 - الإختيار الذاتي.
5 - الأمل.
6 - الجانب الجمالي الموجه ذاتياً أي الذي تستعذب النفس التعبير به ومعايشته.
كما يحدد ثلاثة عوامل تحدد قدرة كل فرد على التعبير عن الخصائص الموضحة عالية، في إطار كل بعد من أبعاد الفراغ وهي:
أولاً: الفروق الفردية:
في الاتجاهات والمعتقدات والقيم والعوامل البدنية والروحية والعقلية والعاطفية والاجتماعية.
ثانياً: الجوانب البيئية: والسياسية المهنية.
وأخيراً: أهمية الموضوع (خبرة الفراغ) بالنسبة للفرد.
ويضيف ماكدويل أنه على حين يمكننا الفصل بين العمل كنظام وبين الأسرة والتعليم والمجتمع، وكذلك فصل أي نظام منها عن الآخر، فإننا لا يمكننا أن نفصل الفراغ عن هذه النظم لارتباطه الوثيق بها، فكما نتحدث بصورة مطلقة عن الفراغ فإنه بوسعنا أن نتحدث عن أنواع من الفراغ مثل:
فراغ العمل وفراغ التعليم وفراغ الأسرة وفراغ الاسترخاء وفراغ الترويح وفراغ المجتمع والفراغ الروحي والتأملي.
لقد كان الفراغ مثار إهتمام الإنسان منذ فجر التاريخ وإن تنوعت أساليب شغل وقت الفراغ من مجتمع إلى مجتمع، فقد عرف الرومان المناظرات والترويح والمبارزة، وعرفت اسبرطة ألوان الرياضة وعرض القوة، وعرفت الجزيرة العربية فنون الشعر والكلام والمبارزة، ولكن الفراغ أيضاً كان نقمة على سلوك البشر في كثير من الأوقات فقد استمتع البعض بأوقات فراغهم في تعذيب الآخرين، وفي معاقرة الخمور والمجون، وفي قرض شعر الهجاء.
ومن هنا كان الفراغ نقطة صراع حتى بين الإنسان ونفسه، فالفراغ كما ذكرنا حالة للعقل يحتاجها ويسعى إليها، بل ويرى بعض الباحثين أنها حالة يرثها الإنسان ولكن يبقى دائماً السؤال الذي يدور حوله الصراع هو كيفية شغل الإنسان لهذا الفراغ أو خبرة الفراغ نفسه.(/3)
يقول إبراهيم وجيه محمود (1981): "إن شغل أوقات الفراغ ليس بالأمر الهين بالنسبة لحياتنا، فأوقات فراغنا تشغل جزءاً كبيراً من هذه الحياة، والذين يفكرون منها في حدود عملهم أو دراستهم فحسب، ويجرفهم تيار العمل أو الدراسة، وتتعاقب عليهم الأيام بدون وجود ما يرفه عنهم، وبدون ارتياد نشاط خاص أو هواية تروح عن نفوسهم وتستحوذ على بعض اهتماماتهم، تستهلكهم الأيام بسرعة، ويضيقون في النهاية بحياتهم، حياة العمل فحسب العمل الرتيب الممل الذي يقتل فيهم كل حماس أو إحساس آخر بالحياة (ص169)".
إن وقت الفراغ في العصر الحديث بعد أن طور الإنسان وسائل انتاجه ومواصلاته واتصالاته وأنظمته المعيشية أصبح يحتل جانباً كبيراً من الحياة، وهو جانب إن أحسنا الاستفادة به سارت بنا سفينة الحياة إلى بر الأمان، وإن أسأنا استغلاله فويل للبشرية من ويلات الفراغ، الفسق، والمجون، والخمر، والميسر، والقتل، والسرقة إنه بلا شك الارتداد إلى جاهلية تسحق المجتمعات، وما مشكلة الهيروين التي اجتاحت الولايات المتحدة في الستينات والتي بدأت تهدد بعض المجتمعات الإسلامية إلا جانب واحد من جوانب عدم توظيف أوقات الفراغ توظيفاً بناء.
ومن هنا يتبين لنا أهمية وقت الفراغ في حياة الإنسان وعلى كيفية شغل هذا الوقت تترتب بعض الجوانب النفسية.
أهمية الفراغ وأنشطته في حياة الإنسان:
للفراغ ببعديه – كوقت حر نحتاج إلى أن نشغله، وكحالة للعقل نحتاج إلى أن نصل إليها – أهمية كبيرة في حياة الإنسان وعلى كيفية شغل هذا الوقت تتوقف جوانب كثيرة من حياته...
وعلى سبيل المثال فإن جونز (1963) Jones يرى أن الفراغ يخدم الوظائف الآتية:(/4)
1 - زيادة الانتاج – إذ يعتبر وقت الفراغ فرصة لالتقاط الأنفاس بين الفترات الطويلة من العمل المستمر، وهذه الفترات من الراحة من شأنها أن تساعد العامل على البرء من التعب وزيادة الانجاز، وقد نشأت فكرة الإجازات منذ عهد الرومان حيث كانت تعرض فيها للجمهور الأعمال الرياضية والتهريج.
2 - زيادة الاستهلاك – إذ أن أنشطة وقت الفراغ تزيد من استهلاك بعض السلع وبعض الخدمات، مما يساعد على زيادة الانتاج وتنشيط الدورة الاقتصادية.
3 - وقت الفراغ له علاقة بالجريمة والانحراف حيث تزدهر الجريمة والجناح عندما لا يجد الشباب والراشدون شيئاً له أهمية يقومون به عندما يتوفر لديهم وقت الفراغ، وقد ظهر في عديد من المدن الأمريكية أنه كلما ازدادت الأنشطة الرياضية وغيرها من الأنشطة المفيدة، فإن الجناح يقل وإن الأشخاص المنتجين أقل انغماساً في الجريمة.
4 - وقت الفراغ له علاقة بالنمو الإنساني، وقد بدأت عدة نظريات للشخصية في النظر إلى أنشطة وقت الفراغ باعتبارها مساعدة أو معوقة لنمو شخصية الفرد من ناحية كونها إيجابية أو سلبية.
أما ماكدويل (1981) فإنه يقدم تلخيصاً لبعض الآراء التي ذكرها الباحثون في ميدان الفراغ حول أهمية أنشطته.
1 - تعطي أنشطة الفراغ وخبراته الفرد شعوراً عالياً بالتحرك نحو هوية مرغوبة.
2 - تعطي أنشطة الفراغ وخبراته الفرد قيمه.
3 - تعطي أنشطة الفراغ وخبراته للفرد شعوراً عالياً بالتعبير الذاتي وضبط الذات.
4 - تتبع أنشطة الفراغ وخبراته فرصاً للتعليم وللإنجاز وتحقيق الذات والنمو الذاتي.
5 - تتيح أنشطة الفراغ وخبراته فرصاً من التحدي والطموح، الراحة والاسترخاء، اللعب والراحة، الاجتماعية والوحدة، البناء والتشتت بين كثير من الأنشطة المتوازنة.
6 - تسمح للفرد أن يكتشف الأطر الخارجية للتحمل والجدة والتعقد وعدم الألفة والضغوط والمهارة.(/5)
7 - تضمن للفرد شعوراً بالخصوصية مستقلة عن الجماعية، وكذلك بعيداً عن الأماكن العامة.
8 - تتسق أنشطة الفراغ مع ضمير الفرد.
9 - تختار أنشطة الفراغ كأشياء إيجابية في حد ذاتها يمكن أن يظهر فيها جانب من تقديرهم لذواتهم.
10 - تسمح للشخص أن ينوع في مستويات الود والرضاء مع الآخرين ومع نفسه أو بيئته.
11 - أنشطة وقت الفراغ تجمل أو تعوض بعض مشاغل الحياة مثل العمل أو الأسرة.
أولاً: أنشطة وقت الفراغ وعلاقتها بالصحة النفسية:
يرى نيولينجر (1983) Neulinger أن هناك علاقة بين الفراغ والصحة النفسية، بحيث يمكن أن يكون كل منهما سبباً للآخر فمن ناحية قد يؤدي غياب أو وجود وقت حر إلى تغييرات في الصحة النفسية للفرد، ومن الناحية الأخرى فإن حالة الصحة النفسية للفرد قد تؤثر على الدرجة التي يمكن بها للفرد أن يعايش خبرة الفراغ، وينادي نيولينجر بأن يأخذ الأطباء النفسيون خبرة وقت الفراغ في اعتبارهم كمحك للتشخيص.
وقد أجرى بروكس وايليوت (1970) Brooks & Eliot دراسة في ولاية كاليفورنيا خلص منها إلى أن هناك علاقة بين الاشتراك في أنشطة وقت الفراغ وبين نمو الشخصية، وقد اهتمت الدراسة بإمكان التنبؤ بالتوافق النفسي للأفراد في سن 30 سنة بناء على أنشطة وقت الفراغ التي كانوا يقومون بها في طفولتهم. وقد أوضحت الدراسة أن أنشطة وقت الفراغ في الطفولة كانت أكثر في قدرتها التنبؤية للتوافق الشخصي للأفراد في سن 30 سنة عما كان لتقديرات سمات الشخصية.(/6)
إن خبرة وقت الفراغ تعتبر مصدراً هاماًً من مصادر الرضا الذاتي والإحساس بالسعادة، وهذه الأنشطة تساعد الفرد على تنمية هويته الذاتية التي تعتبر هامة في المحافظة على صحة الفرد النفسية والبدنية، أيضاً وتساعد على حل المشكلات واتخاذ القرارات والاتجاه نحو الابداع، وكذلك فإن أنشطة وقت الفراغ يمكن النظر إليها على أنها جوانب علاجية إذ أنها تساعد على تنمية الأساليب والمهارات التي يمكن الاستفادة بها في استعادة التوافق والتأهيل، كما يمكن استخدامها كأساليب وقائية تحرر الأفراد من التوترات المعيقة التي قد تمنعهم من المواجهة الناجحة والتعامل المناسب مع مهام الحياة ومطالبها اليومية.
ويجب أن نوضح هنا أن برامج شغل أوقات الفراغ يجب أن تعد إعداداً جيداً، لتقابل وتشبع حاجات محددة وإلا فإنها تتحول إلى مضار. وإذا كانت خبرة الفراغ متكاملة ومعدة جيداً فإنها تترك الفرد منتعشاً، منجزاً، راضياً، يشعر بسلام مع نفسه ومع بيئته لأنها تشبع حاجات هامة لديه وهذه هي أهم علامات الصحة النفسية. ولهذا فإن دراسة وقت الفراغ والتعرف على أنشطته ذات أهمية كبيرة للمهتمين بمشكلات المجتمعات والأفراد من وعاظ ومرشدين ومربين ومخططين للبرامج الاجتماعية وغيرهم.
موقف الإسلام من وقت الفراغ:
جاء الإسلام خاتماً للديانات والرسالات السماوية، بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم لهداية البشر، ولإقامة عقيدة التوحيد ولتزكية نفوسهم وتطهيرها. يدعو البشر للخير، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث... والإسلام – وهذه بعض صفاته وأهدافه – أخذ في اعتباره حاجات البشر صغيرهم وكبيرهم، ضعيفهم وقويهم.. ووضع لهم حدوداً لا يعتدوها.(/7)
ولقد جاء الإسلام في عصر فيه الفوضى واللهو والظلم، حتى عميت الأبصار عن نور الحق، فكان لابد من إعادة التوازن بين حاجات الدنيا وحاجات البدن وحاجات الروح، وحين بدأت العقيدة ترسخ في النفوس كانت تتمة الإصلاح بشجب اللهو وما يحيط به من خمر وميسر وغيرها من مسببات الفساد ومن عوامل هدم البشر. ولكن الإسلام لم يأمر الناس بأن يقضوا كل وقتهم في العبادة، ولا أن ينسوا الترويح عن أنفسهم ترويحاً يعيد إليهم نشاطهم، ويقوي أجسامهم وعقولهم دونما فساد أو مضره – وورد في هذا قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)). رواه البخاري[1].
وقد أمر الإسلام أتباعه بالاعتدال، ونهاهم عن الخبائث، فحرم عليهم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، والوقوف في طرقات الناس وشجع فيهم القوة وبناء أجسامهم وإراحة عقولهم..
يقول أبو الفرج ابن الجوزي في مؤلفه صيد الخاطر: "لما سطرت هذا الفصل المتقدم رأيت أذكار النفس بما لابد لها في الطريق منه، وهو أنه لابد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف، فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ما يمكن، وإذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها، وأخذ الراحة للجد جد، وغوص السابح في طلب الدر صعود، ودوام السير يحسر الابل، والمغازة صعبة".
ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس فلينظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان يتلطف بنفسه ويمازح...
وهذا كله رفق بالناقة في طريق السير.. فأما من برد عليها السوط فإنه يوشك أن لا يقطع الطريق وقد قال صلى الله عليه وسلم((إن هذا الدين متين فاوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)).
قال البسمتى:
أفد طبعك المكدود بالهم راحة تحم وعلله بشئ من المزح
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن بقدر ما تعطي الطعام من الملح
وقال أيضاً:(/8)
يحفظ الجسم تبقى النفس فيه بقاء النار تحفظ بالوعاء
فباليأس الممعن لاتمتها ولا تمدد لها طول الرجاء
وعدها في شدائدها رخاء وذكرها الشدائد في الرخاء
يعد صلاحها هذا وهذا وبالتركيب منفعة الدواء
((انتهى كلام ابن الجوزي)) (صيد الخاطر ص322)
ويبقى أن نؤكد في هذا المقام أن الفراغ الذي يعرفه المسلم يختلف عن الفراغ عند غيره، فالمسلم بجانب مطالب البدن وحاجاته له مطالب للروح يلبيها بعقيدته وعباداته، وهذه تشغل عليه جانباً من وقته في ليله ونهاره، وفي فترات من العام ومواقيت وهي تدخل عليه السرور والراحة، وتعينه على الراحة من جهد الحياة فيشعر بالطمأنينة، ومن هنا كان توجيه القرآن الكريم للرسول صلوات الله وسلامه عليه.
{فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب} [سورة الشرح: 7 – 8].
وكان توجيهه للمؤمنين:
{قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}
وفي الوقت نفسه فإن القرآن الكريم يحض اتباع الإسلام على النظر في ملكوت الله، والاستمتاع بما فيه من جمال وبشكل يساعدنا على تمام العبودية بالله لنقول في الختام سبحان الذي سخر لنا هذا.
{ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [سورة النحل: 6].
{انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} [سورة الأنعام: 99].
{ومن الحبال جددٌ بيضٌ وحمرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سودٌ} [سورة فاطر: 27].
والإسلام لا يمنع أتباعه من التماس الراحة بعد العناء فأعيادهم خير شاهد على ذلك، ولا يمنعهم من الترويح، ولكنه ترويح في غير معصية ولا مضرة ولا إسراف – الإسلام بناء وإصلاح وفراغ المسلم يجب أن يكون كذلك بناء وإصلاحاً. وسعياً في الخير وعمراناً في الأرض وإسعاداً للناس.
الدراسات السابقة:
أولاً: الدراسات التي أجريت في البيئة السعودية:(/9)
أجريت مجموعة من الدراسات المتصلة بأنشطة وقت الفراغ لدى الشباب في المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى الدراسات الأجنبية التي تمت لهذا الغرض وفيما يلي عرض لأهم هذه الدراسات:
1 – دراسة مركز البحوث التربوية والنفسية بجامعة الملك عبدالعزيز بالتعاون مع الرئاسة العامة للشباب 1397هـ (1977م).
أجريت هذه الدراسة للتعرف على الأوقات الحرة لدى الشباب السعودي في المنطقة الغربية في مختلف مراحله العمرية والتعرف على المشكلات التي لا تساعد الشباب على حسن استثمار أوقات فراغه استثماراً إيجابياً، يساعد على بناء الشخصية وتكاملها، واقتراح الحلول لهذه المشكلات وعرض النتائج في صورة تساعد الرئاسة العامة للشباب على رسم خطة لشغل وقت الشباب الحر. وقد شملت عينة الدراسة 14554 شاباً تتراوح أعمارهم ما بين العاشرة والخامسة والعشرين، من المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية ومن العمال والموظفين وشباب القرى وشباب البادية.
ومن أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة أن نسبة كبيرة من الشباب لديها ساعات فراغ يومية مقدارها أربع ساعات تزداد إلى أكثر من 7 ساعات في نهاية الأسبوع والإجازات الأخرى. أما أهم الأنشطة السائدة فكانت كرة القدم، ومشاهدة التلفزيون، وأن معظم الشباب يمتلكون أدوات النشاط.
2 – دراسة مركز مكافحة الجريمة عن فراغ الشباب: 1405هـ (1985م).
أجريت هذه الدراسة بقصد حصر النشاطات الحية والهوايات التي يمارسها الشباب في أنحاء المملكة خلال أوقات الفراغ، تحديد الاتجاه العام الذي يسلكه غالبية الشباب في المملكة لملئ أوقات الفراغ، وتحديد العوامل الديموغرافية والنفسية التي تؤثر في اختيار الشباب لأي من أنواع النشاطات والهوايات.(/10)
وقد تكونت عينة الدراسة من 1266 شاباً تقع أعمارهم بين 13، 26 سنة، ممن التقى بهم الباحثون في الأماكن العامة، 480 ممن التقى بهم الباحثون في النوادي والمكتبات، 395 شاباً تمت مقابلتهم داخل دور الملاحظة والسجون. وقد استخدمت استمارة مقابلة أعدت خصيصاً لجمع بينات الدراسة، وقد انتهت الدراسة إلى مجموعة من التوصيات الهامة وأوضحت أن الرياضة البدنية تأتي في مقدمة الأنشطة التي يشغل بها الشباب أوقات فراغهم، وأن هناك عوامل هامة في اختيار الأنشطة مثل العمر، نوع السكن، المهنة، التعليم، الحالة الإجتماعية.
3 – دراسة عبدالعزيز حمود الشترى (1406هـ/ 1986م).
تقدم الباحث بدراسة لنيل الماجستير من قسم الاجتماع بكلية العلوم الاجتماعية بعنوان ((وقت الفراغ وشغله في مدينة الرياض – دراسة ميدانية)).
وكانت الاسئلة التي طرحها الباحث في دراسته كالآتي:
1 - ما معدل ساعات الفراغ اليومي لدى الشباب من أفراد العينة؟
2 - ما الأساليب المفضلة لشغل وقت الفراغ؟، وما أكثر تلك الأساليب انتشاراً بين الشباب من حيث الممارسة الفعلية؟
3 - ما العلاقة بين أوضاع الأسرة الاجتماعية والاقتصادية وبين طرق شغل الشباب لأوقات فراغهم؟
4 - ما مدى إقبال الشباب على الاستفادة من خدمات الدولة في مجال الترويح وشغل أوقات فراغهم؟، وما المشكلات المرتبطة بذلك؟
5 - ما الصورة المقترحة لاستثمار وقت الفراغ ومعالجة مشكلاته من وجهة نظر الشباب أنفسهم؟
وقد شملت عينة الدراسة 210 من طلاب المرحلة الثانوية في مدينة الرياض.
ومن بين النتائج التي توصل إليها الباحث في دراسته:
– أن نسبة كبيرة من الشباب لديهم أوقات فراغ يومية بمعدل ثلاث ساعات يومياً تزداد في أيام الأسبوع والاجازات لتصل إلى سبع ساعات في اليوم، وأن غالبية هؤلاء الشباب يمتلكون أدوات ووسائل النشاط.(/11)
– هناك اتجاه شائع بين الشباب لقضاء وقت الفراغ في المنزل، وأن أغلب أساليب قضاء هذا الوقت مشاهدة التلفزيون وممارسة الرياضة، ثم زيارة الأصدقاء والتجمعات الشبابية ويقل عن ذلك القراءة الحرة، والتردد على المكتبات العامة.
ويتبين من نتائج هذه الدراسات أنها تتفق في وجود وقت فراغ لدى الشباب في المملكة العربية السعودية يتراوح بين ثلاث إلى أربع ساعات في اليوم، تزداد في أيام نهاية الأسبوع والعطلات والاجازات لتصل إلى سبع ساعات وأن أغلب أنشطة وقت الفراغ لدى شباب المملكة تتمثل في مشاهدة برامج التلفزيون في المنزل، وممارسة بعض أنواع الرياضة وبصفة خاصة كرة القدم، كما يتبين من الدراسات أيضاً أن أغلب الشباب يمتلك أو تتاح له فرصة الأدوات والوسائل الخاصة بالنشاط.
ثانياً: الدراسات الأجنبية:
1 – دراسة بيشوب، ويت (1970) Bishop & Witt
اختيرت عينتان من 49، 91 طالباً في الجامعة حيث درجت اختباراتهم عن رغبتهم في الاشتراك في مجموعات من أنشطة وقت الفراغ عددها عشر مواقف افتراضية. وقد تم تحليل المصفوفات التي تم الحصول عليها من إجابات المفحوصين إلى مكونات التباين المقدر المرتبط بالاشخاص والمواقف وانماط الاستجابة وتفاعلاتها المختلفة، وقورنت مصادر التباين في سلوك الفراغ مع تلك التي عرضها اندلر وهنت Endler& Hunt للعدوان والفلق.
وتوضح النتائج فروقاً أساسية بين الإسهامات ومصادر التباين لسلوك العداوة والقلق، كما أن هناك أيضاً بعض الفروق بين الجنسين في مصادر التباين عبر ثلاثة مجالات من السلوك، وبالاضافة إلى ذلك تم اختيار وجهتين تقليديتين من وجهات النظر الخاصة بسلوك وقت الفراغ عن طريق مقارنة تباينات التفاعلات بين الأشخاص×أنماط الاستجابة وقد أيدت النتائج وجهتي النظر رغم أن الفروق بين الجنسين تفترض أن وجهتي النظر هاتين يمكن تطبيقهما بشكل فارق لكل الجنسين.
2 – دراسة مارتن وميريك (1976) Martin & Myrick(/12)
قان الباحثان بدراسة على عينة من 374 من الذكور ممن يقومون بانشطة متصلة بالغوص والتزحلق على الماء والتزحلق على الجليد طبقت عليهم قائمة للصفات الشخصية، وتم مقارنتها مع عينة من قسم إدارة الأعمال مكونة من 302 طالباً من الذكور وقد أظهرت الدراسة عدة علاقات دالة بين سمات الشخصية والاشتراك في الانشطة، حيث اتضح أن الاشتراك في أنشطة وقت الفراغ التي تحتاج إلى نشاط كبير (مثل التزحلق) يرتبط بسمتين من سبع سمات هما سمتي السلوك، القلق.
3 – دراسة كليبر (1980) Kleiber
أجرى الباحث دراسة لتحديد العلاقة بين أنشطة وقت الفراغ والتوافق النفسي الاجتماعي، وقد أيدت النتائج جزئياً الفرض القائل بأن الأشخاص الذين انخرطوا بنشاط في الترويح تقل معاناتهم من القلق، ويشعرون بأنهم يسيطرون على بيئاتهم.
وقد تكونت عينة الدراسة من 152 من طلاب وطالبات الجامعة (66 ذكور، 86 إناث) واستخدم الباحث مقياس تيلور للقلق الظاهر، ومقياس روتر لمركز الضبط بالاضافة إلى تسجيل الطلاب لانشطتهم.
4 – دراسة فورنهام (1981) Furnham
أوضحت الدراسات أن الناس يختارون الوظائف المختلفة، ومعاهد التعليم وأنشطة وقت الفراغ بما يناسب تكوين شخصياتهم وللوفاء بحاجاتهم المختلفة وقد تناولت الدراسة التي قام بها فورنهام البحث عن العلاقة بين متغيرين للشخصية هما الانبساطة Extraversion والميل العصابي Neuroticism وبين اختيار أو تجنب مواقف اجتماعية معينة.(/13)
وقد أجريت الدراسة على عينة من 130 طالباً من ثلاثة مجالات تخصصية مختلفة حيث طبق عليهم قائمة ايزينيك للشخصية (E P Q ) وطلب منهم أن يوضحوا الوقت الذي أمضوه في مواقف الفراغ في الأسبوع السابق، كما قاموا بتدريج تفضيلاتهم للانشطة التي تعكس الحاجات الاساسية، كما حددها موراى (1938) والضغوط المرتبطة بها وأن يقدروا درجات لاختيارهم أو تجنبهم للمواقف الاجتماعية الضاغطة، والمولدة للقلق على مقياس من خمس درجات، وقد اتضح من تحليل التباين في اتجاهين أن الانبساطيين لديهم نمط مختلف اختلافاً دالاً في تفضيل الانشطة عن الانطوائيين وكانت نفس النتيجة صحيحة، ولكن ليست إلى نفس الدرجة لمن لديهم ميل عصابي عال مقارناً بما لديهم ميل عصابي منخفض.
5 – دراسة هورنيك وسكلنجر (1981) Hornick & Schlinger
قام الباحثان باجراء دراسة على عينة مكونة من 1832 من الاناث، 1739 من الذكور، وجميعهم من الراشدين حيث درسا العلاقة بين أنشطة وقت الفراغ وأسلوب الحياة والخصائص الديموجرافية والنفسية، والوقت الذي يمضونه مع وسائل الاعلام وقد تبين من الدراسة أن هناك علاقة بين المكانة الوظيفية لرب الاسرة والحالة العملية وبين الوقت المخصص لوسائل الاعلام ولم يكن هناك علاقة بين الدخل وبين الوقت المخصص للاعلام كما اتضح أن الأشخاص الأكثر نشاطاً من الناحية الاجتماعية والذهنية والبدنية يميلون لقراءة المجلات على حين أن الأشخاص الأكثر سلبية يميلون لمشاهدة التليفزيون بكثرة، وأن الأشخاص الذي يميلون لمشاهدة التليفزيون كانوا أكثر ميلاً إلى أن يكون لديهم قلق مما يوحى بأن التلفزيون يتيح لهم فرصة الهروب من القلق.
6 – دراسة فيتيلي وفريسك (1982) Vitalli & Frisch(/14)
قام فيتلي وفريسك بدراسة على عينة من 97 من طلاب الجامعة تشتمل على 42 من الذكور، 55 من الإناث لدراسة الفرض القائل بأن النموذج المتعدد للقلق يمكن أن يعطي تفسيراً للاختلاف في أنشطة وقت الفراغ يشتمل على 29 نشاطاً واختبار قلق السمة – الحالة لسبيلبيرجر ومقياس السمة العامة للقلق S.r وقد أوضحت نتائج التحليل العنقودي أن الطلاب ينقسمون إلى ثلاث مجموعات المجموعة الأولى أظهرت ميلاً قليلاً نحو الأنشطة الفريقية (16 من الذكور، 6 إناث) بينما المجموعة الثانية والتي شملت 18 طالباً، 27 طالبة قد أظهرت ميلاً للأنشطة المرتبطة بالجلوس (مثل مشاهدة التليفزيون أو القراءة..) ومع ذلك فقد كان معدل نشاطها العام أكبر من المجموعة الأولى، أما المجموعة الثالثة (11 من الذكور، 9 إناث) فقد أظهرت درجة أعلى لممارسة معظم الأنشطة بالنسبة لأربع متغيرات للقلق هي قلق الحالة (على مقياس سبيلبيرجر)، قلق العلاقات، قلق الخطر البدني، القلق الغامض على مقياس S.r ، وباستخراج معاملات الارتباط بين الدرجة الكلية للانشطة (مجموع درجات 29 نشاطاً) اتضح وجود ارتباطات سالبة بالنسبة للذكور والاناث بين القلق وبين درجة النشاط الكلية، لكن هذه المعاملات كانت دالة فقط في حالتين هما العلاقة بين الدرجة العامة للنشاط وبين قلق الخطر البدني لدى الذكور ولدى الاناث.
7 – دراسة فورنهام (1982) Furnham(/15)
كان الهدف من هذه الدراسة دراسة ما إذا كانت سمات الميل الذهاني Psychoticism والرغبة الاجتماعية Social Desirability ترتبط كذلك بالاختبار الموقفي، وقد صنف 130 طالباً تبعاً لدرجاتهم على مقياس الميل الذهاني في قائمة ايزيثك للشخصية (E P Q ) إلى عال ومنخفض وقد أوضح أفراد البحث مقدار الوقت الذي أمضوه في مواقف وقت الفراغ في الأسبوع السابق للبحث كما رتبوا تفضيلاتهم للانشطة المرتبطة بالحاجات الرئيسية ودرجوا اختيارهم أو تجنبهم لمواقف أخرى، ثم درجوا المواقف الاجتماعية المولدة للقلق والضغوط. وقد تبين أن كلاً من المجموعة التي لديها ميل ذهاني عالي، مرغوبية اجتماعية عالية تقوم باختيار المواقف بطرق تختلف عن أولئك الذي كانت درجاتهم منخفضة مما يدل على وجود علاقة بين أبعاد الشخصية على مقياس ايزينك وبين اختبار المواقف التي يقضى فيها المرء وقت فراغه.
8 – دراسة ريديك ودانييل (1984) riddick & Daniel
قام الباحثان بدراسة على عينتين الأولة من 698 من النساء المحالات للتقاعد، 403 من ربات البيوت المشتغلات بصناعات منزلية، وكان متوسط العمر 73 سنة، وتشير النتائج إلى أن الرضا في الحياة يتأثر إيجابياً وبشكل مباشر بالمتغيرات الآتية في ترتيب تنازلي: أدوار وقت الفراغ، الدخل، المشكلات الصحية، الخلفية العملية.
9 – دراسة تينسلي، تيف، كوليس وكوفمان (1985) Tinsley, Teaf, Colbs & Kaufman
قام الباحثون بدراسة على عينة مكونة من 1449 شخصاً من المسنين في أعمار 65 سنة فأكثر وذلك للتعرف على الفوائد النفسية التي تنتج من ممارسة 18 نشاطاً تم اختيارها من أنشطة وقت الفراغ حيث أكمل أفراد البحث الاجابة على فقرات استبانة خاصة حول الفوائد النفسية للاشتراك في أنشطة وقت الفراغ.(/16)
كذلك أجريت مقابلات لعدد 200 من المشتركين في مراكز الشيخوخة، وتم تحليل البيانات باستخدام أسلوب التجميع الهرمي Hierarchical Grouping - ونتج عن ذلك إعداد إطار نظري حول الفوائد النفسية الناتجة عن أنشطة وقت الفراغ لمن هم في سن الشيخوخة.
وقد تحددت مجموعات الأنشطة على النحو التالي:
– الصداقة أو الصحبة Companionship – مثل لعب الورق، البولينج Bowling .
– التعويض Compensation – مثل إقامة الحفلات.
– التحرر المؤقت Temporarily disengagment – مثل مشاهدة الانشطة الرياضية أو مشاهدة التلفزيون.
– العزلة المريحة Comfortable Solitude – مثل تربية النباتات المنزلية، جمع التحف، القراءة.
– العزلة التعبيرية Expressive Solitude – مثل أشغال الأبرة، أشغال النجارة.
– الخدمة التعبيرية Expressive Service – مثل التطوع لأنشطة الخدمة، حضور اجتماعات الخدمات الاجتماعية.
وخلص الباحثون إلى أن أنشطة وقت الفراغ يمكن تجميعها في عائلات (مجموعات) لها معنى وذلك على أساس من الفوائد النفسية لها...
10 – دراسة ثورنتون وكولينز (1986) Thornton & Collins
قام الباحثان بدراسة على 119 من كبار السن (متوسط العمر 65.9سنة) في كولومبيا البرطانية، وأماكن أخرى في كندا باستخدام 9 أدوات في بطارية للمقابلة، واشتملت التوصيات على الحاجة إلى إدخال الحركة البدنية والتفكير والتعبير عن المشاعر في كل من برامج أنشطة وقت الفراغ، والأنشطة البدنية لكبار السن، وخلص الباحثان إلى أن برامج النشاط يجب أن تهتم بجوانب القلق، الشكوك والتوقعات وأن تشرك الأعضاء في تحديد أهدافهم، ووصف طرق تحليل هذه الأهداف وقد ناقش الباحثان الأثار النفسية للنشاط البدني.(/17)
ويتبين من هذا الغرض للدراسات الأجنبية أنها لم تقتصر على التعرف على أساليب شغل وقت الفراغ، كما اتجهت أغلب الدراسات التي تمت في المملكة العربية السعودية، بل حاولت دراسة علاقة وقت الفراغ وأساليب شغله ببعض المتغيرات التي تلقي الضوء على الجوانب النفسية، واعتمدت في ذلك على اختبارات نفسية عديدة لدراسة هذه العلاقة.
فقد حاولت دراسة فيتلي وفريسك (1982) مثلاً معرفة ما إذا كان النموذج المتعدد للقلق يعطي تفسيراً للإختلاف في أنشطة وقت الفراغ عن النموذج الآحادي للقلق، مستخدمة مقياس القلق، السمة والحالة (سبيلبرجر)، ومقياس سمة القلق العام، وقائمة لأنشطة وقت الفراغ وحاول فورنهام (1981) دراسة العلاقة بين متغيري الانبساطة والميل العصابي، وبين اختيار مواقف قضاء وقت الفراغ باستخدام إختبار ايزيتك للشخصية EPQ ، واستخدم نفس الاختبار في دراسته عام 1982 لدراسة العلاقة بين متغيري الميل الذهاني والرغبة الاجتماعية وبين اختيار مواقف وقت الفراغ.
واهتمت دراسة هورنيك وسكلنجر (1981) بدراسة العلاقة بين أنشطة وقت الفراغ والخصائص الديموجرافية والنفسية للفرد واهتمت دراسة مارتن وبيريك (1976) بالعلاقة بين سمات الشخصية والاشتراك في أنشطة وقت الفراغ، ودراسة بيشوب، ويت (1970) بمصادر التباين المرتبطة بالأشخاص والمواقف وأنماط الاستجابة وتفاعلاتها المختلفة، ودراسة ثورينتون وكولينز (1986) بعلاقة أنشطة وقت الفراغ بالعمر والآثار النفسية لهذه الأنشطة عند كبار السن... وهكذا.
ويحاول البحث الحالي الجمع بين هذين الجانبين الأساسيين اللذين تمثلا في الدراسات التي تم عرضها، الدراسات السعودية والدراسات الأجنبية، للتعرف على الأنشطة التي يقضي فيها الشباب وقت فراغه، وفي الوقت نفسه دراسة العلاقة بين أنشطة وقت الفراغ وبين بعض الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب والعدوانية.
وهكذا تحدد مشكلة البحث وأهدافه على النحو التالي:
مشكلة البحث:(/18)
تتحدد مشكلة الدراسة في تساؤلين أساسيين هما:
1 - ما الأنشطة التي يشغل بها الشباب من طلاب كليات العلوم الاجتماعية والتربية أوقات فراغهم؟
2 - هل لهذه الأنشطة علاقة ببعض متغيرات الصحة النفسية مثل القلق، الاكتئاب العدوانية؟
1 – أهداف الدراسة:
تهدف هذه الدراسة إلى:
(أ) إعداد أداة للتعرف على الأنشطة التي يقضي فيها الشباب وقت فراغه، وهي قائمة أنشطة وقت الفراغ.
(ب) إعداد قائمة الحالة الوجدانية واستخدامها في الدراسة.
(جـ) التعرف على أنماط أنشطة وقت الفراغ وبين بعض الاضطرابات النفسية مثل القلق، الاكتئاب والعدوانية وذلك من خلال صحة الفروض التالية.
1 - توجد علاقة ارتباط بين أنشطة وقت الفراغ وبين القلق كما تقيسها أدوات الدراسة.
2 - توجد علاقة ارتباط بين أنشطة وقت الفراغ وبين الاكتئاب كما تقيسها أدوات الدراسة.
3 - توجد علاقة ارتباط بين أنشطة وقت الفراغ وبين العدوانية كما تقيسها أدوات الدراسة.
2 – عينة الدراسة:
تشمل عينة الدراسة على 96 طالباً من المستوى الجامعي على النحو التالي:
56 طالباً من كلية العلوم الاجتماعية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 40 طالباً من كلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض. وجميع أفراد العينة من السعوديين.
3 – أدوات الدراسة:
تشمل أدوات الدراسة المستخدمة على:
(أ) استبانة أنشطة وقت الفراغ من إعداد الباحثين.
(ب) قائمة الحالة الوجدانية.
4 – وصف أدوات الدراسة:
أولا: استبانة أنشطة وقت الفراغ:
قام الباحثان بإعداد هذه القائمة بالاسترشاد بالأسلوب الذي بنيت به بعض قوائم أنشطة وقت الفراغ المستخدمة في الدراسات الأمريكية من حيث التنظيم – أما الأنشطة التي تشمل عليها الاستبانة فقد حددت نتيجة لدراسة استطلاعية قام بها الباحثان على عينة من 50 طالباً من طلاب قسم علم النفس بكلية العلوم الاجتماعية عام 1406/ 1407هـ، وذلك بالحصول على إجاباتهم على سؤال مفتوح كالآتي:(/19)
أذكر الأنشطة التي يقضي فيها الشباب وقت فراغهم؟
وقد أستبعدت الأنشطة التي حصلت على إجابات أقل من خمسة أفراد أو التي لا تتسق مع القيم الإسلامية.
وقد أعدت القائمة في صورتها النهائية لتشتمل على 42 نشاطاً وقد صنفت هذه الأنشطة من قبل الباحثين إلى خمس مجموعات على النحو التالي (انظر الملحق رقم 1).
1 - الأنشطة الاجتماعية وتشتمل على سبعة أنشطة.
2 - الأنشطة الثقافية والترويحية وتشتمل على تسعة أنشطة.
3 - الأنشطة الخلوية وتشتمل على تسعة أنشطة.
4 - الأنشطة الرياضية والألعاب الثنائية وتشتمل على ثمانية أنشطة.
5 - الهوايات الشخصية وتشتمل على تسعة أنشطة.
(أ) ثبات المقياس:
تم حساب ثبات المقياس التي تشمل عليها استبانة أنشطة وقت الفراغ باستخدام طريقة الفا – كرونباخ[2] (Cronbach) (1951) حيث تراوحت معاملات الثبات بين 50، 81، وجميع هذه المعاملات دالة عند د 01.- (جدول رقم 1) وقد بلغ معامل ثبات المقياس كله 0.895، بطريقة الفاكرونباخ.
(ب) صدق المقياس:
تم عرض الاستبانة على سبعة من أعضاء قسم علم النفس بكلية العلوم الاجتماعية، حيث اتفق المحكمون على صلاحية الاستبانة للتعرف على أنشطة وقت الفراغ ووضوح عباراتها.
كذلك حسبت معاملات الارتباط بين المقاييس الخمسه التي تشتمل عليها الاستبانة، وكانت جميع المعاملات موجبة ودالة مما يدل على وجود اتساق داخلي بين أبعاد الاستبانة مما يعد دليلاً على صدق الاستبانة (انستازي 1982 Anstasi ) انظر الجدول رقم (2).
جدول رقم (1)
المتوسطات والانحرافات المعيارية ومعامل الثبات (الفا – كرونباخ) لأبعاد استبانة أنشطة وقت الفراغ
البعد ... المتوسط ... الانحراف المعياري ... معامل الثبات
الأنشطة الاجتماعية ... 21.55 ... 3.72 ... 0.51
الأنشطة الثقافية ... 27.80 ... 5.13 ... 0.65
الأنشطة الخلوية ... 24.80 ... 4.62 ... 0.50
الأنشطة الرياضية ... 20.60 ... 5.33 ... 0.68(/20)
الهوايات الشخصية ... 16.32 ... 6.24 ... 0.81
الدرجة الكلية ... 109.99 ... 20.82 ... 0.895
جدول رقم (2)
بيان معامل الارتباط بين درجات أفراد البحث على أبعاد استبانة أنشطة وقت الفراغ ومستوى الدلالة
... الأنشطة الثقافية ... الأنشطة الخلوية ... الأنشطة الرياضية ... الهوايات الشخصية
الأنشطة الاجتماعية ... 0.527 ×× ... 0.470 ×× ... 0.448 ×× ... 0.473 ××
الأنشطة الثقافية ... ... 0.430 ×× ... 0.261 ×× ... 0.315 ××
الأنشطة الخلوية ... ... ... 0.433 ×× ... 0.455 ××
الأنشطة الرياضية ... ... ... ... 0.313 ××
× دالة عند مستوى 0.05 ×× دالة عند مستوى 0.01
ثانياً: قائمة الحالة الوجدانية:
وهذه القائمة مقتبسة من قائمة الحالة الوجدانية Multiple Affective Adjective Checklist التي أعدها زوكرمان ولوبين (1965) Zuckerman & Lubin وتشتمل القائمة الأصلية على 132 صفة يمكن أن يصف بها الأفراد أنفسهم، تنقسم إلى صفات إيجابية وصفات سلبية وتقيس هذه القائمة أبعاد القلق، الاكتئاب، العدوانية.
وقد ترجم الباحثان القائمة إلى اللغة العربية ثم عرضا مفرداتها على عينة من طلاب قسم علم النفس بكلية العلوم الاجتماعية لمعرفة مدى استخدام هذه المفردات في وصف الذات، حيث حذفت المفردات التي لم تجد قبولاً لدى هؤلاء الطلاب، إما لعدم وضوحها وإما لعدم ملاءمتها وانتهى الباحثان إلى صورة تشتمل على 90 صفحة فقط تم توزيعها على النحو التالي:
1 – القلق صفة إيجابية 10 صفة سلبية 12
2 – الاكتئاب صفة إيجابية 18 صفة سلبية 20
3 – العدوانية صفة إيجابية 15 صفة سلبية 18(/21)
وقد تم إعداد مجموعة من المفاتيح لتصحيح القائمة، بحيث يصحح كل بعد من الأبعاد الثلاثة بمفتاحين المفتاح الأول تحدد فيه الصفات السلبية، حيث يحصل من يجيب عليها بنعم على درجة واحدة، والمفتاح الثاني يشتمل على الصفات الايجابية، حيث يحصل من يجيب بنعم على صفر ومن لا يختار الاجابة يحصل على 1 (أنظر ملحق رقم 2).
(أ) ثبات المقياس:
حسب ثبات المقياس بطريقة الاختبار وإعادة الاختبار على فترة طولها أسبوعين وذلك على عدد 25 مفحوصاً، وقد كانت معامل الارتباط بين نتائج التطبيقين هو 0.82، مما يدل على أن القائمة تتمتع بدرجة مناسبة من الاستقرار عبر الزمن، أما المقاييس الفرعية فتترواح بين 0.68، 0.89 كذلك فإن معامل الارتباط بين المقاييس الفرعية للقائمة – القلق – الاكتئاب والعدوانية كانت موجبة ودالة مما يدل على تمتع القائمة بدرجة مناسبة من الثبات والصدق – ويوضح جدول رقم 3 المتوسطات والانحرافات المعيارية للمقاييس التي تتكون منها القائمة.
(ب) صدق المقياس:
عرضت القائمة على سبعة من أعضاء هيئة التدريس بقسم علم النفس بكلية العلوم الاجتماعية حيث كان هناك اتفاق عال بين المحكمين على ملاءمة مفردات المقياس ووضوحها – كما حسبت معامل الارتباط بين درجات أفراد البحث على المقاييس الثلاثة التي تشتمل عليها القائمة حيث كانت الارتباطات موجبة ودالة عند 0.01 ويوضح ذلك جدول رقم 4.
جدول رقم (3)
المتوسطات والانحرافات المعيارية لقائمة الحالة الوجدانية مقاييس القلق – الاكتئاب والعدوانية
البعد ... المتوسط ... الانحراف المعياري ... معامل الثبات
(اعادة الاختبار)
القلق ... 6.83 ... 3.60 ... 0.72
الاكتئاب ... 9.54 ... 6.89 ... 0.68
العدوانية ... 8.08 ... 3.82 ... 0.89
الدرجة الكلية ... 24.57 ... 13.03 ... 0.82
جدول رقم (4)
معاملات الارتباط بين درجات المفحوصين على المقاييس الفرعية لقائمة الحالة الوجدانية(/22)
البعد ... الاكتئاب ... العدوانية
القلق ... 0.822 ×× ... 0.629 ××
الاكتئاب ... ... 0.694 ××
× دالة عند مستوى 0.05
×× دالة عند مستوى 0.01
نتائج الدراسة:
تحدد مشكلة الدراسة كما سبق في الاجابة على سؤالين أساسيين هما:
1 - ما الأنشطة التي يشغل بها الشباب الجامعي أوقات فراغهم؟
2 - هل لهذه الأنشطة علاقة ببعض اضطرابات الصحة النفسية مثل القلق، والاكتئاب والعدوانية؟
وفيما يلي نتائج الاجابة على هذين السؤالين:
أولاً: بالنسبة للأنشطة التي يشغل بها الشباب الجامعي أوقات فراغهم فقد استخدمت استبانة أنشطة وقت الفراغ على أفراد عينة البحث، وعددهم 96 شخصاً حيث طلب من المفحوص الاجابة على جميع الأنشطة التي تتناولها الاستبانة بتحديد درجة قيامه بالنشاط على الوجه التالي:
لا يقوم به أبداً الدرجة 1
يقوم به نادراً الدرجة 2
يقوم به أحياناً الدرجة 3
يقوم به كثيراً الدرجة 4
يقوم به دائماً الدرجة 5
وقد استخدم لتحديد الدرجة للمفحوص بالنسبة لكل مجموعة من المجموعات الخمس التي يشتمل عليها القياس مفتاح خاص حيث تحدد الدرجة بالنسبة للنشاط وتحدد درجة المجموعة (المقياس الفرعي) من مجموع درجات الأنشطة المشتملة عليها وهذه المجموعات هي.
الأنشطة الاجتماعية
الأنشطة الثقافية
الأنشطة الخلوية
الأنشطة الرياضية والألعاب
الهوايات الشخصية
وتوضع الجداول 5، 6، 7، 8، 9 توزيع إجابات أفراد البحث بالنسبة لكل نشاط من الأنشطة حسب المجموعة التي ينتمي إليها النشاط والنسب المئوية لهذه الاجابات – كما تم حساب معامل تفضيل لكل نشاط على حدة، والذي يحسب على النحو التالي:(/23)
أو بمعنى آخر هو المتوسط الحسابي للدرجات التي حددها المفحوصون لقيامهم بالنشاط مضروباً ×100 وذلك للتخلص من الأرقام العشرية، ويتيح حساب هذه المعامل الفرصة للمقارنة بين الأنشطة المختلفة، كذلك فقد حسب المعامل العام للتفضيل لكل مجموعة من مجموعات الأنشطة ويلخص جدول رقم 10 ملخصاً لهذه المعاملات
نوع النشاط
لا يقوم به أبدا
يقوم به نادراً
يقوم به أحياناً
يقوم به كثيراً
يقوم به دائماً
المجموع
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
حضور أنشطة اجتماعية
21
21.88
24
25
38
39.58
11
11.46
2
2.08
96
247×100%
حضور حفلات أو دعوات
5
5.21
15
15.63
31
32.29
31
32.29
14
14.58
96
335×100%
التحدث مع أفراد الأسرة
1
1.04
4
4.17
14
14.58
25
26.04
52
54.17
96
428×100%
التحدث مع الأصدقاء
–
–
3
3.12
10
10.42
44
45.83
39
40.63
96
424×100%
اجتماعات في جمعيات أو نوادٍ
47
48.96
16
16.67
20
20.83
10
10.42
3
3.12
96
202×100%
التحدث إلى الأصدقاء بالهاتف
7
7.29
17
17.71
37
38.54
19
19.79
16
16.67
96
321×100%
كتابة خطابات شخصية
42
43.75
14
14.58
27
28.13
8
8.33
5
5.21
96
100%
× الأرقام الموضحة تحت النسبة المئوية للمجموع تمثل معامل التفضيل للنشاط حيث معامل التفضيل هو مجموع درجات إجابات أفراد عينة البحث مقسوماً على عددهم ومضروباً × 100، أو بمعنى آخر هو المتوسط الحسابي مضروباً × 100 وذلك للتخلص من الأرقام العشرية ولتسهيل المقارنة بين الأنشطة وبعضها البعض.
يوضح جدول رقم (5) توزيع أفراد عينة الدراسة حسب قيامهم بالأنشطة الاجتماعية ونوع النشاط، ويتضح من هذه البيانات أن نسبة من لا يقومون بهذه الأنشطة تتراوح بين 1%، 49% وتبلغ أدناها في نشاط التحدث مع أفراد الأسرة حيث أبدى 1% من أفراد البحث أنهم لا يقومون بهذا النشاط لشغل وقت فراغهم أبداً على حين كانت أعلاها 49% في نشاط اجتماعات في جمعيات أو نوادٍ.(/24)
أما بالنسبة للإجابة دائماً يقوم بالنشاط لشغل وقت الفراغ فقد كانت أدناها في نشاط حضور أنشطة اجتماعية 2% وأعلاها في التحدث مع أفراد الأسرة 54% تقريباً.
وتتنوع الأنشطة الاجتماعية التي يقوم بها الطلاب لشغل أوقات فراغهم، بين حضور أنشطة اجتماعية وحضور حفلات أو دعوات والتحدث مع الأصدقاء... واجتماعات في نوادي وجمعيات خيرية.. والتحدث مع الأصدقاء بالتليفون.. وكتابة خطابات شخصية.
وقد كانت أعلى الأنشطة التي حازت على تفضيل أفراد البحث هي التحدث مع أفراد الأسرة (معامل تفضيل = 428)، يليها التحدث مع الأصدقاء (424) ثم حضور الحفلات والدعوات (335)، أما أقلها تفضيلاً فكانت الاجتماعات في جمعيات أو نوادي (202)، يليها كتابة الخطابات الشخصية (217) ثم حضور الأنشطة الاجتماعية (247).
أنظر جدول رقم (8)
جدول رقم (6)
توزيع أفراد عينة الدراسة حسب قيامهم بالأنشطة الثقافية ونوع النشا
نوع النشاط
لا يقوم به أبدا
يقوم به نادراً
يقوم به أحياناً
يقوم به كثيراً
يقوم به دائماً
المجموع
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
قراءة الكتب للتسلية
9
9.37
18
18.85
30
31.25
22
22.92
17
17.71
96
100
321
حضور محاضرات دينية
11
11.46
35
36.46
28
29.17
13
13.54
9
9.37
96
100
273
حضور ندوات علمية وأدبية
25
26.04
34
35.42
23
23.96
11
11.46
3
3.12
96
100
230
قراءة المجلات للتسلية
7
7.29
8
8.33
36
37.5
28
29.17
17
17.71
96
100
342
قراءة الصحف
1
1.04
4
4.17
19
19.79
33
34.38
39
40.62
96
100
409
الاستماع إلى الإذاعة
5
5.21
9
9.37
35
36.46
26
27.08
21
21.88
96
100
351
مشاهدة برامج التلفزيون
1
1.04
10
10.42
26
27.08
34
35.42
25
26.04
96
100
375
التردد على المكتبات العامة
19
19.79
23
23.96
32
33.33
16
16.67
6
6.25
96
100
255
حضور عروض مسرحية
38
39.58
22
22.92
20
20.83
12
12.5
4
4.17
96
100
219(/25)
يوضح جدول رقم (6) توزيع أفراد عينة البحث حسب قيامهم بالأنشطة الثقافية، حيث كان أدنى الأنشطة هو حضور العروض المسرحية وربما يرجع ذلك إلى قلة العروض المسرحية، واقتصارها على الأنشطة الثقافية في الجامعة، وما شابهها، يلي ذلك حضور الندوات العلمية والأدبية – ومع أن عينة الدراسة من الشباب الجامعي إلا أنه من الملاحظ نقص إقبالهم على هذه الندوات، فقد بلغت نسبة من لا يحضرون هذه الأنشطة (الندوات العلمية والأدبية) 26% على حين بلغت من يقومون به دائماً أي من يواظبون على حضور الندوات العلمية والأدبية 3.12%.
أما أكثر الأنشطة تفضيلاً لدى الشباب فهو قراءة الصحف حيث بلغت نسبة من يواظبون على قراءتها 40.62% بينما بلغت نسبتهم من لا يقرؤونها 1% فقط، يلي ذلك مشاهدة البرامج التليفزيونية، حيث بلغت نسبة من يواظبون على مشاهدتها 26%، على حين أن من لا يشاهدونها بلغت نسبتهم 1% ويلي ذلك قراءة المجلات للتسلية، ثم قراءة الكتب للتسلية، فالاستماع للاذاعة، فالتردد على المكتبات العامة، فحضور المحاضرات الدينية، ثم حضور الندوات العلمية والأدبية، وأخيراً حضور العروض المسرحية.
وتحتل الأنشطة الثقافية المرتبة الثانية في التفضيل لدى الشباب الجامعي كأنشطة يشغل بها الأوقات الحرة، حيث بلغ معامل التفضيل العام لها 309 ولا يسبقها من التفضيل سوى الأنشطة الاجتماعية التي يبلغ معامل تفضيلها 311.
أنظر جدول رقم (8)
جدول رقم (7)
توزيع أفراد عينة الدراسة حسب قيامهم بالأنشطة الخلوية ونوع النشا
نوع النشاط
لا يقوم به أبدا
يقوم به نادراً
يقوم به أحياناً
يقوم به كثيراً
يقوم به دائماً
المجموع
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
زيارة المعارض
11
11.46
24
25.00
36
37.5
15
15.62
10
10.42
96
100
288
التنزه في الحدائق
17
17.71
25
26.04
33
34.37
16
16.67
5
5.21
96
100
266
زيارة المتاحف
33
34.37
24
25.00
22
22.92
13
13.54(/26)
4
4.17
96
100
228
التسوق
5
5.21
17
17.71
39
40.62
21
21.88
14
14.58
96
100
323
الصيد أو صيد الأسماك
43
44.79
24
25.00
14
14.58
11
11.46
4
4.17
96
100
205
المعسكرات الكشفية
56
58.33
15
15.63
15
15.63
6
6.25
4
4.19
96
100
182
الجلوس والتفكير
5
5.21
10
10.42
33
34.37
27
28.13
21
21.87
96
100
351
الذهاب إلى البر
5
5.21
12
12.5
28
29.17
26
27.08
25
26.04
96
100
356
التجول بالسيارة
8
8.33
20
20.83
27
28.13
16
16.67
25
26.04
96
100
330
يوضح جدول رقم (7) توزيع عينة البحث حسب تفضيلهم للأنشطة الخلوية تلك الأنشطة المتصلة بالجوانب الطبيعية والبيئية، مثل التنزه في الحدائق، وصيد الأسماك، ورحلات البر، وزيارة المعارض، والتجول في الأسواق – ويتبين من الجدول أن الذهاب إلى البر يحتل المرتبة الأولى بين الأنشطة الخلوية التي يقوم بها الشباب لشغل وقت فراغهم، حيث بلغ معامل التفضيل 356، وبلغت نسبة من يقومون بذلك دائماً 26%، ومن لا يقومون به أبداً 5.2% يلي ذلك الجلوس والتفكير حيث بلغ معامل تفضيله 351، وتبلغ نسبة من يقومون بذلك دائماً 21.87% بينما من لا يقومون به فإن نسبتهم تبلغ 5,2% – وهذا يدل على أن الشباب يميل إلى الذهاب في رحلات خارج البيت، أو الجلوس وإطلاق عنانه للخيال.
أما أقل الأنشطة الخلوية تفضيلاً لدى الشباب فهو المعسكرات الكشفية حيث معامل التفضيل 182، ونسبة من يقومون به دائماً 4%، ومن لا يقومون به أبداً 58%، وربما يرجع ذلك إلى أن هذه الأنشطة من الأنشطة المنظمة والتي يقتصر القيام بها على من ينتمون إلى جماعات الكشافة.
ويلي ذلك النشاط في الترتيب من حيث عدم القيام به نشاط الصيد وصيد السمك، حيث بلغ معامل القيام بالنشاط 205، ونسبة من يقومون به دائماً 4% أما نسبة من لا يقومون به أبداً 44.79، 44%.(/27)
وتمثل الأنشطة الخلوية الترتيب الثالث بين الأنشطة من حيث قيام الشباب الجامعي بها لشغل أوقات فراغهم، كما عبر عنه أفراد عينة البحث حيث بلغ معامل التفضيل العام 281.
ويلاحظ أن هذه الأنشطة هي الوحيدة التي أظهرت الدراسة وجود علاقة بينها وبين جوانب الصحة النفسية، وهو القلق، حيث كان هناك ارتباط موجب بين القيام بهذه الأنشطة وبين القلق – وتفسير ذلك أن الأفراد الذين يعانون من القلق يحاولون أن يجدوا مهرباً من القلق في القيام ببعض الأنشطة، مثل التجول في الأسواق، والتجول بالسيارة، والتنزه في الحدائق، والجلوس والتفكير وغير ذلك من الأنشطة التي تشتمل عليها هذه المجموعة.
جدول رقم (8)
توزيع أفراد عينة الدراسة حسب قيامهم بالأنشطة الخلوية ونوع النشا
نوع النشاط
لا يقوم به أبدا
يقوم به نادراً
يقوم به أحياناً
يقوم به كثيراً
يقوم به دائماً
المجموع
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
لعب الورق
37
38.54
7
7.29
25
26.04
10
10.42
17
17.71
96
100
261
لعب الشطرنج
53
55.21
16
16.67
15
15.62
3
3.13
9
9.37
96
100
195
لعب الطاولة
45
46.87
11
11.46
25
26.04
5
5.21
10
10.42
96
100
221
ألعاب الكمبيوتر
34
35.41
10
10.42
29
30.21
12
12.5
11
11.46
96
100
254
ألعاب جماعة مثل السلة
17
17.71
21
21.87
34
35.42
14
14.58
10
10.42
96
100
278
ألعاب رياضية خارج المبنى
15
15.62
12
12.5
23
23.96
28
29.17
18
18.75
96
100
323
مشاهدة مباريات كرة القدم
4
4.17
6
6.25
14
14.58
29
30.21
43
44.79
96
100
405
حضور سباقات الخيل
63
65.63
21
21.87
9
9.37
3
3.13
–
–
96
100
150
يوضح جدول رقم (8) الأنشطة الرياضية والألعاب الرياضية الثنائية التي يقوم بها الشباب في أوقات فراغهم حسب درجة القيام بالنشاط والنسبة المئوية وكذلك معامل التفضيل لكل نشاط من الأنشطة.(/28)
ويتضح من الجدول أن أعلى الأنشطة من حيث الممارسة هو مشاهدة مباريات كرة القدم، والذي كان معامله 405، وتبلغ نسبة من يقومون به دائماً 44.79% أما من لا يقومون به إطلاقاً فتبلغ نسبتهم 4.17%.
ويلي ذلك ممارسة الألعاب الرياضية خارج المباني مثل كرة القدم، وغيرها ومعامل التفضيل لها 323، ونسبة من يمارسونها دائماً 18.85% ومن لا يقومون بها على الإطلاق 15.62% ثم الألعاب الجماعية مثل كرة السلة والكرة الطائرة.
أما أقل الأنشطة من حيث ممارسة الشباب لها في أوقات فراغهم بين أنشطة هذه المجموعة فهو حضور سباق الخيل، حيث كان معامل التفضيل 150، ونسبة من يمارسونه دائماً كنشاط في وقت فراغهم صفر%، أما من لا يمارسونه على الاطلاق فهم 65.63% وربما يرجع ذلك إلى أن هذا النوع من العروض الرياضية يمثل رياضة تقليدية لا تجذب الشباب في المرحلة الجامعية حيث تخلو من التنافس بين المجموعات على عكس مباريات كرة القدم، ويلي ذلك لعب الشطرنج حيث بلغ معامل التفضيل له 195، ونسبة من يقومون به دائماً 9.37% ونسبة من لا يقومون به على الاطلاق 55.21%.
وبصفة عامة فإن الأنشطة والألعاب الثنائية تمثل المركز الرابع بين مجموعة الأنشطة ومعامل التفضيل لها 261، وهذه الأنشطة تشتمل على مجموعتين الأولى مجموعة الأنشطة الرياضية، وهذه ينبغي تشجيع الشباب عليها خاصة ما يقوى فيهم جانب الانتماء الإسلامي والعربي، مثل مسابقات الخيول، والألعاب الرياضية، وألعاب القوى.
والمجموعة الثانية هي الألعاب الثنائية وبعضها مفيد في تنمية القدرات الذهنية مثل ألعاب الحاسب الآلي (الكمبيوتر) والبعض الآخر يعد مضيعة للوقت، ويمارسها عدد من الشباب مثل لعب الورق وهو ما ينبغي على المرشدين الطلابيين بيان مضاره.
جدول رقم (9)
توزيع أفراد عينة الدراسة حسب قيامهم بأنشطة الهوايات الشخصية ونوعه
نوع النشاط
لا يقوم به أبدا
يقوم به نادراً
يقوم به أحياناً
يقوم به كثيراً(/29)
يقوم به دائماً
المجموع
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التكرار
%
التمثيل
67
69.79
13
13.54
11
11.46
3
3.13
2
2.08
96
100
154
الأشغال الفنية
47
48.96
27
28.12
14
14.58
5
5.21
3
3.13
96
100
185
التصوير الفوتوغرافي
41
42.71
21
21.87
17
17.71
12
12.5
5
5.21
96
100
216
كتابة القصص أو الشعر أو المقالات
39
40.62
23
23.96
18
18.75
7
7.29
9
9.38
96
100
221
هوايات خاصة مثل جمع الطوابع
74
77.08
12
12.5
4
4.17
3
3.13
3
3.12
96
100
143
تربية الدواجن
69
71.87
9
9.38
9
9.38
8
8.33
1
1.04
96
100
157
تربية أسماك الزينة
76
79.17
8
8.33
7
7.29
5
5.21
–
–
96
100
138
زراعة الأزهار
47
48.96
21
21.87
13
13.54
9
9.38
6
6.25
96
100
202
الرسم
50
52.08
22
22.92
13
13.54
7
7.29
4
4.17
96
100
188
يوضح الجدول رقم (9) توزيع أنشطة الهوايات على أفراد العينة حسب درجة قيامهم بكل نشاط والنسبة المئوية ومعامل تفضيل النشاط، ويتضح من هذا الجدول أن أعلى الأنشطة تفضيلاً هو الكتابة الأدبية، مثل كتابة القصص والشعر، ويتسق هذا مع كون العينة من طلاب الجامعات، وفي مرحلة تتسم بالرغبة في التعبير الوجداني ومعامل التفضيل هو 221، ونسبة من يقومون بهذا النشاط دائماً 9.38% أما نسبة من لا يقومون به أبداً فهي 40.62%.
يلي ذلك نشاط التصوير الفوتوغرافي، وهو أيضاً من الأنشطة السهلة التي تناسب الشباب في هذه المرحلة، ومعامل تفضيله 216، ونسبة من يمارسونه دائماً 5.21% أما نسبة من لا يقومون به أبداً فهي 42.71%.
وأما أقل الأنشطة ممارسة من قبل الشباب في مجموعة الهوايات فهي تربية أسماك الزينة، ومعامل تفضيلها 138 ونسبة من يمارسونها دائماً صفر%، على حين أن نسبة من لا يقومون بها إطلاقاً 79.17%.(/30)
يلي ذلك هواية جمع طوابع البريد حيث يصل معامل التفضيل إلى 143، ونسبة من يواظبون عليها 3.12%، أما نسبة من لا يقومون بها على الإطلاق فهي 77.08%.
وبصفة عامة فإن الهوايات تأتي في آخر مجموعات النشاط من حيث قيام الشباب بها كأنشطة وقت الفراغ، وربما يرجع ذلك إلى مجموعة عوامل منها أنها تحتاج إلى وقت لممارستها، وأنها تشغل حيزاً من الوقت، ولذلك فهي قد تلائم كبار السن أكثر من الشباب ويبلغ معامل التفضيل لهذه المجموعة 178.
نوع النشاط ... معامل التفضيل ... نوع النشاط ... معامل التفضيل
الأنشطة الإجتماعية:
حضور أنشطة اجتماعية
حضور حفلات أو دعوات
التحدث مع أفراد الأسرة
التحدث مع الأصدقاء
اجتماعات في جمعيات أو نوادي
التحدث إلى الأصدقاء بالتليفون
كتابة خطابات شخصية
إجمالي النشاط ... 247
335
428
424
202
321
217
311 ... الأنشطة الرياضية والألعاب الثنائية:
لعب الورق
لعب الشطرنج
لعب الطاولة
ألعاب الكمبيوتر
ألعاب جماعية
ألعاب رياضية خارج المبنى
مشاهدة كرة القدم
حضور سباق الخيل
الإجمالي ... 261
195
221
254
278
323
405
150
261
الأنشطة الثقافية:
قراءة الكتب
حضور محاضرات دينية
حضور ندوات علمية أو أدبية
قراءة المجلات للتسلية
قراءة الصحف
الاستماع إلى الاذاعة
مشاهدة برامج التليفزيون
التردد على المكتبات العامة
حضور عروض مسرحية
إجمالي الأنشطة الثقافية ... 321
273
230
342
409
351
375
255
219
309 ... الهوايات الشخصية:
التمثيل
الأشغال الفنية
التصوير الفوتوغرافي
كتابة القصص أو الشعر أو المقالات
هوايات خاصة مثل جمع الطوابع
تربية الدواجن
تربية أسماك الزينة
زراعة الأزهار
الرسم
إجمالي الهوايات ... 154
185
216
221
143
157
138
202
188
178
الأنشطة الخلوية:
زيارة المعارض
التنزه في الحدائق العامة
زيارة المتاحف
التسوق
الجلوس والتفكير
الصيد أو صيد السمك
المعسكرات الكشفية
الذهاب للبر
التجول بالسيارة(/31)
إجمالي الأنشطة الخلوية ... 288
266
228
323
351
205
182
356
330
281 ... ...
ملحوظة: معامل تفضيل النشاط = متوسط درجات النشاط (الفقرة) × 100
ويوضح جدول رقم (10) الأنشطة التي يقضي فيها الشباب وقت فراغه حسب نوع النشاط ومعامل التفضيل لكل نشاط على حده، وكذلك معامل التفضيل لكل مجموعة ويتضح من الجدول:
1 - أن أقل الأنشطة ممارسة بين الشباب هو تربية أسماك الزينة كهواية من الهوايات الشخصية (138)، يليه هواية جمع الطوابع (143)، ثم حضور سباق الخيل (150)، والتمثيل (154)، وتربية الدواجن (157)، ثم المعسكرات الكشفية (182) والأشغال الفنية (185).
2 - أن أكثر الأنشطة ممارسة بين الشباب هي قضاء الوقت في التحدث مع الأسرة (428)، يليه التحدث مع الأصدقاء (424)، يلي ذلك قراءة الصحف (409) ومشاهدة مباريات كرة القدم (405)، يلي ذلك مشاهدة برامج التلفزيون (375)، يليه الذهاب في رحلات إلى البر، (356) فالاستماع إلى الاذاعة (351) أو الجلوس والتفكير (351).
3 - أن ترتيب مجموعات النشاط حسب درجات ممارسة الشباب لأنشطتها هي كالآتي:
الأنشطة الاجتماعية 311
الأنشطة الثقافية 309
الأنشطة الخلوية 281
الأنشطة الرياضية 261
الهوايات الشخصية 178
ثانياً: بالنسبة لعلاقة أنشطة وقت الفراغ ببعض اضطرابات الصحة النفسية (القلق والاكتئاب والعدوانية) فيوضح جدول رقم 11 نتائج الدراسة.
جدول رقم (11)
بيان بمعاملات الارتباط بين درجات أفراد البحث على أبعاد قائمة أنشطة
وقت الفراغ ودرجاتهم على أبعاد قائمة الحالة الوجدانية ودرجة الدلالة
البعد ... القلق ... الاكتئاب ... العدوانية
الأنشطة الاجتماعية ... - 0.135 ... - 0.065 ... - 0.071
الأنشطة الثقافية ... 0.067 ... 0.052 ... 0.041
الأنشطة الخلوية ... 0.198 ... 0.095 ... 0.134
الأنشطة الرياضية والألعاب الثنائية ... - 0.023 ... - 0.157 ... - 0.094
الهوايات الشخصية ... - 0.053 ... 0.011 ... 0.095(/32)
× دالة عند مستوى 0.05
ويتضح من جدول (11) السابق:
1 - هناك ارتباط موجب بين الأنشطة الثقافية وبين كل من القلق والاكتئاب والعدوانية، ولكن هذه الارتباطات غير دالة عند مستوى 0.05، كذلك توجد علاقة ارتباط موجبة بين الأنشطة الخلوية وبين القلق، وهذا المعامل دال عند د 0.05، وكذلك بين الأنشطة الخلوية وكل من الاكتئاب والعدوانية، وأن كانت هذه المعاملات غير دالة عند 0.05، كما توجد علاقة ارتباط موجبة بين كل من الهوايات الشخصية والاكتئاب، وكذلك العدوانية ولكن هذه المعاملات غير دالة عند 0.05.
2 - هناك علاقة ارتباط سالبة بين ممارسة الأنشطة الاجتماعية في وقت الفراغ وبين كل من القلق والاكتئاب والعدوانية، ولكن هذه المعاملات غير دالة عند 0.05 كما توجد علاقة ارتباط سالبة بين الأنشطة الرياضية وبين أعراض الأمراض النفسية الاكتئاب والقلق والعدوانية، وكذلك بين الهوايات الشخصية والقلق.
وهذه النتائج رغم عدم وجود دلالة إحصائية في المعاملات التي أسفرت عنها، ما عدا بين الأنشطة الخلوية وبين القلق إلا أنها تعبر عن الواقع فممارسة الأنشطة الاجتماعية يقلل في وجود أعراض مرض العصاب سواء القلق أو الاكتئاب أو العدوانية، كما أن ممارسة الأنشطة الخلوية يرتبط ارتباطاً موجباً بالأعراض العصابية، إذ يعتبر القيام بالأنشطة الخلوية ابتعاداً عن الناس، ومساعدة على التخلص من الأعراض المرضية. على حين أن ممارسة الأنشطة الرياضية يرتبط ارتباطاً بالأعراض المرضية وبصفة خاصة الاكتئاب.
مناقشة النتائج
أجريت هذه الدراسة للوصول إلى إجابة على السؤالين الآتيين:
1 - ما الأنشطة التي يشغل بها الشباب الجامعي وقت فراغه؟
2 - وهل لهذه الأنشطة علاقة ببعض متغيرات الصحة النفسية مثل القلق والاكتئاب والعدوانية؟
وقد قام الباحثان بإعداد أداتين لجمع البيانات
الأداة الاولى وهي استبانة أنشطة وقت الفراغ، والتي تشمل على 42 نشاطاً.(/33)
الأداة الثانية وهي قائمة الحالة الوجدانية، والتي تقيس جوانب القلق والاكتئاب والعدوانية.
وقد شمل إعداد الأداتين استخراج الثبات والصدق لهما، حيث اتضح ثبات وصدق الاداتين وصلاحيتهما للغرض الذي أعدتا من أجله والاستخدام في دراسات أخرى.
وبالنسبة للإجابة على السؤال الأول فقد أوضحت نتائج الدراسة أن الشباب من طلاب الجامعات، والذين شملهم البحث (96 طالباً من جامعتي الإمام محمد بن سعود الإسلامية والملك سعود) يقضون أوقات فراغهم في الأنشطة المختلفة التي شملتها استبانة أنشطة وقت الفراغ، وبدرجات متفاوتة بين عدم القيام بالنشاط اطلاقاً، والقيام به دائماً وقد صنفت الأنشطة في خمس مجموعات هي:
1 – الأنشطة الاجتماعية:
والتي تتسم بقيام الفرد بأنشطة تشمله مع آخرين في موقف تفاعلي مثل حضور مناسبات اجتماعية، والتحدث مع أفراد الأسرة، والتحدث مع الأصدقاء وغيرها.
2 – الأنشطة الثقافية:
والتي يقوم بها الفرد بقصد إضافة معلومات جديدة مثل قراءة الصحف والمجلات والتردد على المكتبات ومشاهدة التلفزيون وغيرها.
3 – الأنشطة الخلوية:
وهي الأنشطة التي تتسم بالخروج بعيداً عن بيئة المنزل وغيره من البيئات الرسمية، وتشتمل على الذهاب للبر، التجول في الأسواق، التجول بالسيارة وغيرها.
4 – الأنشطة الرياضية:
وتشمل على الأنشطة الرياضية والألعاب الثنائية ومن أمثلتها الاشتراك في ألعاب كرة القدم – كرة السلة – المصارعة – الملاكمة – السباحة – وألعاب مثل الشطرنج والطاولة وغيرها.
5 – الهوايات:
وهي تلك الهوايات التي تجذب الفرد للقيام بها منفرداً، نتيجة ميله لها وعادة ما تشتمل على جانب يدوي ومن بين الهوايات جمع الطوابع، الأشغال الفنية، تربية الدواجن، تربية أسماك الزينة وغيرها.(/34)
وقد أوضحت الدراسة أن الأنشطة الاجتماعية تحتل المكانة الأولى بين الأنشطة التي يقضي فيها طلاب الجامعة من أفراد البحث وقت فراغهم، تليها الأنشطة الثقافية، ثم الأنشطة الخلوية، فالأنشطة الرياضية، وأخيراً الهوايات الشخصية. وربما يرجع هذا الترتيب إلى طبيعة المرحلة التي يمر بها أفراد البحث من الأشغال بالدراسة.
أما السؤال الثاني – والذي يتناول مدى وجود علاقة بين الأنشطة التي يقوم بها الأفراد وبين بعض متغيرات الصحة النفسية، وهي القلق، والاكتئاب، والعدوانية، فقد أوضحت الدراسة وجود علاقة ارتباط واحدة ذات دلالة وهي العلاقة بين قضاء أوقات الفراغ في الأنشطة الخلوية وبين وجود القلق، وهذه العلاقة تتسق مع ما هو معروف عن رغبة الأفراد الذين يرتفع مستوى القلق لديهم في القيام بأي نشاط يشغلهم عن القلق – أما باقي العلاقات فهي غير دالة احصائياً عند مستوى 0.05 وتدل هذه النتيجة على أنه لا توجد علاقة بين الأنشطة الاجتماعية والأنشطة الثقافية والأنشطة الرياضية والهوايات، وبين كل من القلق والاكتئاب والعدوانية وكذلك لا توجد علاقة ارتباط بين الأنشطة الخلوية وبين كل من الاكتئاب والعدوانية. ومعنى هذا أن طلاب الجامعة لا يتأثرون بحالتهم النفسية في اختيار أنشطة وقت الفراغ التي يقومون بها، وتتفق هذه النتيجة مع نتائج دراسة فيتلي وفريسك (1982).
أهمية النتائج:
توضح نتائج الدراسة أن الطلاب يبتعدون في شغل أوقات فراغهم عن الهوايات، وعن الأنشطة الرياضية على حين يميلون إلى الأنشطة الاجتماعية والثقافية، وهي في الغالب أنشطة تتطلب قدراً قليلاً من الحركة – وبذلك فإن العاملين في مجال ارشاد وتوجيه طلاب الجامعة بحاجة إلى أن يوجهوا الطلاب إلى تلك المجالات الهامة، التي تؤثر على تكوينهم البدني والعقلي مثل الانشطة الرياضية وعلى مستقبلهم العملي مثل الهوايات الشخصية.(/35)
كما توضح النتائج وجود علاقة متبادلة بين الأنشطة الخلوية والقلق، وأنه يمكن التعرف على وجود حالات بين من يمارسون هذه الأنشطة خاصة بشكل مكثف، مما يعين على التدخل المبكر في التخلص من القلق بطرق إيجابية بالإضافة إلى الأنشطة التي يقومون بها.
حدود البحث:
اقتصار العينة على الذكور، واقتصارها على عدد محدود من الكليات. هي كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وكلية التربية جامعة الملك سعود.
الخاتمة
أمكن من خلال هذه الدراسة إعداد أداتين يمكن استخدامها في مزيد من الدراسات الكلينيكية والبحوث وهما استبانة أنشطة وقت الفراغ، والتي يمكن الاستفادة بها في بعض الجوانب التشخيصية بالتعرف على الأنشطة التي يقوم بها الفرد في أوقات فراغه، وقائمة الحالة الوجدانية التي تساعد من خلال قائمة صفات شخصية على التعرف على وجود بعض الاضطرابات مثل القلق، الاكتئاب والعدوانية وهي ذات قيمة في التشخيص الكلينيكي. وقد شملت الدراسة ستة وتسعين طالباً من كلية العلوم الاجتماعية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وكلية التربية جامعة الملك سعود، وقد تم تحقيق أهداف الدراسة وهي إعداد الأدوات، والتعرف على أنواع الأنشطة التي يقضي فيها الطالب الجامعي وقت فراغه، والتعرف على العلاقة بين أنواع النشاط وبين متغيرات الصحة النفسية وهي القلق والاكتئاب والعدوانية. نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذا الجهد طلاب العلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
1 – العربية:
ابراهيم وجيه محمود: المراهقة، خصائصها ومشكلاتها. القاهرة دار المعارف 1981م.
ابي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي: صيد الخاطر، تحقيق محمد عبدالرحمن عوض – بيروت دار الكتاب العربي 1407/ 1987.
حامد عبدالسلام زهران: التوجيه والارشاد النفسي، القاهرة عالم الكتب 1980م.(/36)
شرف الدين الملك: الجنوح والترويح في الأوقات، الحرة لدى الشباب في المملكة العربية السعودية 1405/ 1985 مركز أبحاث الجريمة – وزارة الداخلية –.
عبدالعزيز حمود الشتري: وقت الفراغ وشغله في مدينة، الرياض – دراسة ميدانية، رسالة ماجستير مقدمه لقسم الاجتماع بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض 1406/ 1986.
عز الدين بليق: منهاج الصالحين من أحاديث وسنة خاتم، الانبياء والمرسلين بيروت دار الفتح للطباعة والنشر 1398هـ/ 1978م.
2 – الأجنبية:
Anastasi, A (1982) Psychological testing 5th ad. NY . Macmillan Bishop, D. W & Witt, P,A (1970) Sources & Behavioral Variance during Leisure time. Journal of Personality and Social Psychology 16, 2, 532-360.
Brook, J & Elliot, D. (1971) Prediction of Psychological adjustment at age 30 From Leisure time activities and satiafaction in childhood.
Human Development. 14, 15, 61.
Cronbach, L. J. (1951) Coefficient alpha and the internal structure of tests.
Psychometrika 16, 297-334.
Furnham, A. (1981) Personality and activity Preference.
British Journal of social Psychology 20, 1, 57-68.
Furnham, A. (1982) Psychoticism, social desirability and situation selection.
Personality & individual Differences 3, 1, 43-51.
Hornick, J. & schlinger, M.J (1981) Allocation of time to the mass media. Journal of consumer research. 7, 4, 343-355.
Jones, A.J. (1963) Principles of guidance. 5th ed.
Newyork Mecraw: Mcgraw-Hill.
Kleiber, D.A. (1980) Free time activity and Psychosocial adjustment in college student; A Perliminary analysis.
Journal of Leisure research. 12, 3, 205-212.
Martin, W.s & Myrick, F.L. (1976) Personality and Leisure time-activities.(/37)
research Quartrely. 47, 2, 246-253.
Mc-Dowell, C.F. :(1981) Leisure: consciouness, Well-being and counseling.
The counseling Psychologist. 9, 3, 3-31.
Neulinger, J. (1983) Leisure: A criterion of mental health.
Paper presented at the Biennial congress of the world Fedration of mantal Health. Washington. D.c 23-24 uly 1983.
riddick, C.C. & Danial, S.N. (1984) The relative contribution of Leisure activities and other factors to the mental health of older woman.
Journal of Leisure research. 16, 2, 136-148.
Tinsley, H.E., Teaff, J.D., colbs, S.L., & Kaufman, N (1985)- A system of classifying leisure activities in terms of the psychological benefits of participa Journal of gerentolegy. 40, 2, 172-178.
Thornton, J.E. and collins, J.B. (1986) patterns of leisure and Physical activities among older adults. Activities, Adaptation & Aging. 8, 2, 5-27.
Vitelli, r. & Frisch, G.r. (1982) relationship between trait anxiety and leisure time activities. Comparison of the unidimensional and multi dimensional models of anxiety.
Perceptual and Motor Skills. 54, No2, 371-376.
ـــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري – الايمان – 29 – جـ1 – 93.
[2] معادلة الفا كرونباخ هي رس س:
حيث رس س معامل الثبات، ن عدد فقرات المقياس، ع2ز تباين الفقرة، ع2س تباين المقياس كله.(/38)
العنوان: أنشودة (( قلمي))
رقم المقالة: 1659
صاحب المقالة: أمل مطر الشلوي
-----------------------------------------
قلمي قلمي ما أحلاهُ في القول الصادق تلقاهُ
قلمي قلمي يهوى الخيرَ وأنا بالطبع سأهواهُ
وسأسقيه حبراً أكثرَ كيما يشدو: "ربي أكبرْ،
ربي أعلى، ربي أقوى ربي أغنى وأنا الأفقر"
وسأعطيه من أوراقي كي يشذو عطر الأخلاق
أخلاق محمد هادينا هي راسخة في الأعماق
قلمي مثلي يشبه طبعي لايأتي إلا بالنفعِ
ألوانٌ من قصصٍ حُلوَهْ أشهى من أثمار الطلعِ
تعليق "حضارة الكلمة":
الأخت / أمل ..
نرحب بك وبمشاركاتك الدائمة..
تميز هذا النص بالنفَس الإسلامي والتوجيهي المبسّط، وباتباع قواعد الكتابة الحديثة للطفل بشكل جيد، كالحالة (التحدث بلسان الطفل) والواقعية والخيال المعقول البسيط وتنويع القوافي بشكل متوازن..
ولتميّز أكثر، لابد لنا من أن نتجنب المتكرر في شعر الأطفال، مثل "أهلاً، ما أحلاه، هيّا".. وغيرها مما يتكرر كثيراً في الشعر الطفلي ويكون غالباً من باب التخلّص والتكميل لا أكثر.
ونلاحظ أيضاً أن كلمة "يشذو" ستصعب على فهم الطفل نطقاً وعبارة "يشبه طبعي" ستصعب عليه فهماً..
أخيراً، نشير إلى أهمية شكل الكلمات بالحركات في أثناء كتابة أية قصيدة.(/1)
العنوان: أُنشودةٌ للفَجْر!
رقم المقالة: 1579
صاحب المقالة: محمد جاسم الياقوت
-----------------------------------------
قصيدة: أُنشودةٌ للفَجْر!
أيا فجرُ لا شيءَ..
ينسابُ في أضلعي
ويغرسني مشعلاً من ضِياءْ !!
• • •
ولا شَيءَ يَجتاحني
ويصعَدُ بي نَحوَ بَوابةِ الشمْسِ..
أُمَسِكُ مزلاجَهَا و أصيحُ وأطرُقُ..
يا شَمْسُ رُدِّي
أأنْتِ تُضَاهِينَ نُوري؟!!
فتطرِقُ في خَجَلٍ رَأسَهَا لا تردُّ
• • •
أدُورُ إلى الليلِ..
أقعُدُ فوْقَ الغُيُومِ وأكتُبُ أنْشُودةً في هواكَ بلحنِ الإباءْ
يُشَارِكُنِي الشَّدْوَ نجمٌ..
وبرقٌ
ورعدُ
• • •
وأبصر من كلمات إلهيَ تبراً يُّخَطُّ على صَفَحاتِ السَّماءْ
فيكسو فؤادي خُشُوعاً
........... ويَغْسِلُ وَجْهي دُمُوعاً
وأُسْمِعُ كلَّ الوجودِ وجودي بـ"اَللهُ أكبرْ"
أردِّدها في الفضاااااااء
• • •
أيا فجرُ كابرْ
ولكنْ تحرَّ زُهُوري
وأرهفْ بسمعكَ للضَّارِياتِ النُّمورِ
• • •
أجل يا حبيبي أرَى الدربَ وعرا
ولا شيءَ غيرَ كتابِ الإلهِ وسنةِ أحمَدْ
يُحيلُ الوعُورةَ دَرباً معبّدْ
يُضَاحِكُ وَجْهَ العَنَاءْ
يُحَطِّمُ أعْمِدةَ الشرِّ يَمْحَقُ كُلَّ بِغَاء
وينزَعُ أشجَانَ قَلبي
وَيَروي
...... سُرُورِي
ويَطوي
...... دُهُوري
• • •
أيا فجرُ هذي
رَسَائِلُ نبضِكَ دوماً أرَدِّدُهَا في اعتصَاري
وإنِّي أهيمُ بلحظِِكَ يا وهْجَ نَاري
• • •
فكنْ في انتِظاري
عَلَى الشَّوكِ سِرْتُ
أردِّدُ آياً
وفي الكفِّ يسْطُعُ حدُّ المهنَّدْ!
تعليق: "حضارة الكلمة"
الأستاذ: محمد الياقوت..
يسرنا أن نرحب بك وبأولى مشاركاتك في الألوكة – حضارة الكلمة
استشراف للمستقبل، وتفاؤل بتبدد الظلام، وتعبير عن عزة المؤمن وقوّته..
في صياغة حديثة، وكلمات وأخيلة منتقاة بعناية من المعجم المعاصر..
تنبئ عن مبدعٍ متمكن من مجاله الأدبي الإسلامي يسرنا أن يكون في طليعة "شعراء الألوكة"
.. ننتظر منكم المزيد من مشاركات وتعليقات..(/1)
العنوان: إنصافُ المخالفين، ولا سيما الأقربين
رقم المقالة: 1110
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله.
أما بعد: فإن الاختلافَ سنة كونية؛ لتباين الأفهام وورود الأوهام، يقعُ بين أهل الملةِ، كما يقع بين أهل الملل، بل يقعُ بين أهل المذهب الواحد، والبيت الواحد، بل قد يقع بين الخليطين، وفي كل ذلك للشيطان تجاهه نزغتان: إما نزغةُ إفراط في يسيرِه غيرِ المؤثر فيُعَظِّم خطرَه في أعين المختلفين وما يترتب عليه. وإما نزغةُ تفريط فلا يكاد يرى بعضُهم شيئاً من الخلاف مؤثراً.
وكلما كان المختلفان أقربَ إلى الحق في أصولهم كان نزغُ الشيطان تجاه الغلو والإفراط في تضخيم الخلاف، والعكس إذا كان الخلاف بين أصول مفترقة، وحق وباطل محض. ومع الأسف إلى كلا الطرفين نزعت فئام.
فهذا يقلل من خطر اختلاف الأديان وما يترتب عليه، أو العقائد فلا يبالي من إطلاق دعوات تَقارُب مشبوهة بين أقطاب متنافرة، وذاك يصورُ الخلافَ مع طائفة مخالفةٍ من أهل السنة وكأنه خلاف مع مِلِّيين، بل ربما عظَّم خطره ليجعله في مصاف خلاف أهل الأديان، بل ربما جعل الخلاف مع إخوانه أعظم خطراً من الخلاف مع اليهود والنصارى، ولا يستحيي من المجاهرة بذلك بين الملأ، بل قد يرى ما هو فيه من الشقاق سنة وقربة!
نسأل الله السلامة والعافية!
{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].(/1)
ولعلي أقف مع هذه الطائفة؛ أذكر نفسي وإياها بمنهج السلف وطريقتهم في إنصاف المخالفين، فكم حز في نفوس الطيبين ما يتقاذفه بعضُ منتسبي السنة من ردود مليئة بالغمز واللمز، وتفخيم الصغائر، والتماس أبشع الأوجه لحمل المجمل، نعوذ بالله من "عيب العايب الغافل عما فيه من المعايب، الظان بجهله أو تجاهله عصمة الإنسان من الخطأ والنسيان، وإنما الإنسان للوهم كالغرض للسهم، ومن نظر في كلام الفضلاء، من المتأخرين والقدماء، وما وقع في آثارهم العلمية من الخلل والنقص، وما أبداه بعضهم من كلام بعض، مهد العذر لمن بعدهم في الخطأ والزلَل، وإنما يفعل ذلك من في فضله كمَل، لا جاهل يهمل في تحصيل الفضائل، ويشري نفسه لنقص الأفاضل"[1].
ولعل مما يحسن التذكير به ما كان عليه الناس في صدر الإسلام من حسن أدب تجاه بعضهم على رغم ما شجر بينهم من الأمور العظام.
فعن عاصم بن كليب عن أبيه قال انتهينا إلى علي –رضي الله عنه- فذكر عائشة فقال: خليلة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال الذهبي بعد أن ساق الخبر: "هذا حديث حسن، ومصعب فصالح لا بأس به، وهذا يقوله أمير المؤمنين في حق عائشة مع ما وقع بينهما، فرضي الله عنهما"[2].
وفي الصحيح عن عبد الرحمن بن شماسة، قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر. فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ تعني معاوية بن حديج؛ قاتل أخيها محمد بن أبي بكر. فقال: ما نقمنا منه شيئاً، إن كان ليموت للرجل منّا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة. فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في بيتي هذا: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به"[3].(/2)
وجاء رجل فوقع في علي وعمار –رضي الله عنهما- عند عائشة، فقالت: أمّا علي فلست قائلة فيه شيئاً، أما عمار فإني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يخير بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما"[4].
وعلى الجهة الأخرى خطب عمار بن ياسر –رضي الله عنهما- في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكُفّهم عن الخروج مع أم المؤمنين –رضي الله عنها- فقال: والله إنها لزوجة نبيكم –صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة، ولكن الله –تبارك وتعالي- ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي[5].
قال ابن هبيرة -في هذا الحديث-: "إن عماراً كان صادق اللهجة، وكان لا تستخفه الخصومةُ إلى أن ينقص خصمه، فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من حرب"[6].
وهذا علي -رضي الله عنه- وقف بين القتلى يوم الجمل، فجعل كلما مر برجل يعرفه ترحَّم عليه ويقول : يعز علي أن أرى قريشاً صرعى .
وقد مرَّ -على ما ذكر- على طلحة بن عبيد الله وهو مقتول، فقال : لهفي عليك يا أبا محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت كما قال الشاعر :
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر[7]
وليس الأمر مختصاً بذلك الجيل، بل شواهدُه في كتب التراجم والتواريخ أكثرُ من أن تحصر.
وقد آثرتُ التقديم مذكراً بهذه الأخلاق لظني بأن عقلاء المختلفين من أهل السنة لا يرون أن الخلاف بينهم قد بلغ مبلغاً يدعو لحمل السيف في مواجهة المخالف، وهؤلاء بعضُ صَدْرهم وأسوتهم بلغ بهم الخلاف حداً رأى بعضُهم معه أن التقويمَ بالسيف شرٌّ لا بد منه، ومع ذلك تأمَّلْ كيف كان رأيُهم في بعضهم.
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: "ومن لم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادى من خالفه فيها أو كفره فإنه هو ظلم نفسه، وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق، يتبعون الرسول فلا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه..."[8].(/3)
بل قال الذهبي لما ترجم لقتادة بن دعامة السدوسي[9]: وكان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ... وكان يرى القدر، ومع هذا يُعذر أمثالُه ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه... ثم إن الكبيرَ من أئمة العلم إذا كثر صوابُه وعُلم تحريه للحق واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك.
وقال الإمام ابن تيمية في وصف منهج أهل السنة مع المخالفين وإن كانوا مبتدعة: "فأهل السنة يستعملون معهم [يعني أهل البدع والأهواء] العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض"[10].
فعجباً ممن زعم اتباع السنة واقتفاء الأثر كيف يقفو أثر أهل الأهواء والبدع!
فتراه يفجُر في الخصومة ويجانب الإنصاف، شأن المبتدعة، قال شيخ الإسلام: "وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق كما وصف الله به المسلمين بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]..."[11]. وقال في الموضع نفسه: "والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يكفّر فسّق، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم".
فلله هل يعز الإنصاف بين أهل الإنصاف! انظر كيف انقسم بعضُ منتسبي السنة إلى مكفر لمخالفيه، وآخر مفسق مبدع، وثالث مسيء لمن هو أهل للإحسان.
وإن الظلم من كلٍ قبيحُ وأقبحُ ما يكونُ من النبيهِ
فهلا أنصفنا مخالفينا، ونظرنا لإخوتنا بعين الشفقة؟(/4)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، وقال في الآية قبلها: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، وقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، فانظر كيف أمر بالعدل، ثم لم يقتصر عليه فجاوزه للإحسان، ثم لم يقتصر على مطلقه حتى خص بالإيتاء قوماً، ثم لم يقتصر حتى أكد بالنهي عن البغي وقول الفحش والنكر.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، وقد قيل: ما أعطي أحدٌ قط النَصَفَ فأبى إلاّ أخذ شراً منه.
ويروى عن الأحنف قوله: ما عرضت النصفة على أحد فقبلها إلاّ تداخلني منه هيبة، ولا ردها أحد إلاّ طمعت فيه.
أسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرور أنفسنا، وأن يمن علينا بالاستقامة على ما أمرنا ولا سيما الإنصاف وترك الجور والاعتساف.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] من كلام للطوفي في خاتمة شرح البلبل 3/752 الطبعة الثانية لوزارة الشئون الإسلامية.(/5)
[2] ينظر سير أعلام النبلاء ترجمة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، 2/177.
[3] صحيح مسلم حديث رقم 1828، وينظر سير أعلام النبلاء ترجمة معاوية بن حديج 3/38.
[4] تنظر السلسلة الصحيحة، للألباني 2/489 رقم 835.
[5] ينظر البخاري مع الفتح حديث رقم 7100، قال ابن حجر: "فكان ذلك يعد من إنصاف عمار وشدة ورعه وتحريه قول الحق".
[6] ينظر فتح الباري لابن حجر 13/59.
[7] البداية والنهاية 7/275.
[8] مجموع الفتاوى 16/96.
[9] ينظر سير أعلام النبلاء، للذهبي، 5/270 وما بعدها، والنقل باختصار.
[10] انظر منهاج السنة النبوية 5/157.
[11] السابق 5/158.(/6)
العنوان: أنصفها الله وظلمها العباد ميراث المرأة.. حق ضائع
رقم المقالة: 1672
صاحب المقالة: تحقيق: إيمان الحلواني
-----------------------------------------
أنصفها الله وظلمها العباد
ميراث المرأة.. حق ضائع
• د. مانع المانع: نظام التوريث عدالة ووصْل وقرة عين للوارث والموروث.
• د. إبراهيم البشر: الطمع وضعف الإيمان وراء مشكلات الميراث.
• د. نوال العيد: الرجل يرث ضِعف المرأة في حالة واحدة من أصل (24) مسألة في الإرث.
• القاضي الشيخ الشعلان: التربية الإيمانية تجنبنا مشكلات الميراث.
• د. محمد رأفت عثمان: اتَّقوا الله في النساء فعذاب الله شديد.
• د. سامية الساعاتي: مطلوب حملات توعية حِرصًا على الحقِّ والعدل وصلة الرحم.
• المستشار حسن منصور: الحِرمان من الميراث جريمةٌ دينيَّة وأخلاقيَّة واجتماعيَّة.
• • • •
من تكريم الإسلام للمرأة أن جَعَلَ لَها حقًّا شرعيًّا في التَّرِكَةِ الَّتي تركها موروثها، حق ثابت لها منذ خلقها في بطن أمها، ويظلّ هذا الحق واجبًا لها مهما كانت حالتها: فقيرة أو غنية، عاقلة أو مجنونة، رشيدة أو سفيهة، بنتًا أو أمًّا أو أختًا، ولا يجوز لأحد أن يحرمها من هذا إلا بموانعه الشرعية من كفر أو ردة أو قتل لموروثها.
ولكن هناك من يضيع هذا الحق لا سيَّما في بعض المجتمعات والقبائل لمن ليس لهم نصيب كبير من العلم والدين حيث يمنعون المرأة - وخاصة المتزوجة - من الميراث ولا يخبرون المحكمة، بل إن بعضهم يقسم التركة دون الرجوع إلى المحكمة ولا يعطي المرأة شيئًا!
احتدَّت المناقشة بين المحاسبة الشابَّة وشقيقها المزارع؛ بسبب رغبة الأخير في الاحتفاظ بكل الأرض الزراعية التي تركها والدهما وحرمان أخته منها، التقط المزارع "عصا غليظة" وهشم بها رأس شقيقته الوحيدة، التي لفظت أنفاسها بمجرد نقلها إلى المستشفى لإنقاذها.(/1)
ذهبت المدرسة إلى أشقائها تطالبهم بميراثها الشرعي في تركة والدها فرفضوا وطردوها خارج المنزل وأثناء عودتها إلى منزل زوجها وهي في حالة انهيار من سلوك أشقائها صدمتها السيارة ولقيت مصرعها في الحال.
هذه الجرائم التي يرتكبها ضعاف النفوس على شقيقاتهم بسبب النزاع على الميراث وهذه الأمثلة تملأ ملفات الجرائم. لماذا يحرم الأخ شقيقاته من الميراث؟ وكيف يطيع الأب أبناءه ويقدم على حرمان بناته من الميراث؟ وما تأثير ذلك في العلاقات الأسرية؟ وكيف نتخلص من هذا النوع من الجرائم؟ وما موقف الشرع ممن يحرم أحد أقاربه من الميراث؟ كل هذه الأسئلة وغيرها نجيب عنها من خلال التحقيق التالي:
انتهى عصر الحرمان:
ليلى السيد- سيدة من إحدى العائلات الكبرى في صعيد مصر- كانت حديث الشارع منذ شهور؛ فقد قامت بالمطالبة بميراثها، وحصتها من الأرض التي آلت إليها وإلى الورثة، وحجبها عنها إخوتها، وهددوها إن تجرأت وطالبت بها، ولكنها لم تسمع إلى هذه التهديدات ودخلت حربًا قضائية مع إخوتها؛ بل حتى مع بعض أفراد أسرتها وقريتها؛ لأنها تجرأت وقدَّمت دعوى قضائية عن حرمان البنات من الميراث.
هذه السيدة فتحت الطريق أمام سواها كي يطالبن بحقوقهن المالية. ونصيبهن من الميراث.
(ن. ف) تقول: أنتمي لعائلة من كبرى عائلات المنوفية - إحدى محافظات مصر - ترك لنا والدنا مالاً كثيرًا من شركات وعقارات وأموال في البنوك، وأنا ابنته الوحيدة مع أربعة رجال، وعندما تُوُفي الوالد طلب مني أخي الأكبر أن أُوَقِّعَ له أوراقًا لكي يدير الثروة، وكان يخصص لي راتبًا شهريًّا.
مضت بي الحياة وبعد 20 عامًا كبر أولادي وبدأوا يسألونني عن حقي في الميراث، ولماذا لم آخذه بالكامل من البداية، وكان موقفي صعبًا، فماذا سأقول لأخي، وتحت إلحاح الحاجة طلبت منه ميراثي، ففوجئت بأنه ينفي أي حقوق لي ويقول أنني تنازلت له عن حقي بموجب توكيل عام.(/2)
لم أصدق أن أخي فعل ذلك بي وبميراثي الذي يقدر بملايين الجنيهات، وكان أهون عليَّ أن أموت ولا أشتكي أخي في المحاكم، لكن لماذا يتمتع أبناؤه بمالي ويحرم منه أبنائي؟!
سالمة هنداوي تقول: تزوجت حديثًا، وبعد زواجي طالبت أخي بنصيبي من ميراث أمي وأبي؛ فقد كانا من الأثرياء قبل أن يختارَهما الله وعمري 7 أعوام، قال لي أخي: لقد ربَّيتك وعلَّمتك بنصيبك في الميراث. وها أنا أُقَاضيه أمام المحكمة، حتى أحصل على نصيبي الذي استولى عليه منذ 21 عامًا.
عدل إلهي:
الدكتور مانع بن محمد المانع - أستاذ الشريعة بالرياض - يشير إلى الحكمة الإلهية من نظام المواريث في الإسلام بقوله: اقتضت حكمة الله - جل وعلا - أن يكون المال توأم الحياة، وحفظه مقصد مهم من مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة؛ حيث إن المسلم يسعى في جمعه طوال حياته ليقضي حوائجه ومتطلباته الأساسية، ويتعب ويكد في جمعه، ويعاني مشقة تحصيله، فإذا مات انتقل هذا المال إلى ورثته بشروط وضوابط حدَّدها الشرع المطهر، عندئذ يطمئن المسلم على أن ماله انتقل إلى ذريته وذويه وعصبته، فيأكلون منه ويدعون الله له. ويسعدون بهذا المال الموروث.
وبهذا تتبين الحكمة الإلهية من نظام التوريث أنه عدالة ورحمة ومودة ووصل وراحة وقرة عينٍ للوارث والموروث وقد تولَّى الله تعالى قِسْمته في القرآن الكريم في سورة النساء لبيان أهميته، واهتم به الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه، وخاصَّةً عمر - رضي الله عنه - ومن الصحابة من تميَّز وتخصَّص في هذا العلم الذي يعتبر نصف العلم، وهو زيد بن ثابت - رضي الله عنه.(/3)
ويضيف د. المانع: حينما تَرِثُ المرأة نصف الرجل لا يعني هذا ظلمًا ولا هضمًا ولا إجحافًا للمرأة؛ وإنما هو عدالة ورعاية وعناية؛ لأنَّ المرأة مكرمة لا تطالب بدفع المهر بل يدفع لها ولا تطالب بالنفقة وإنما ينفق عليها ولا تطالب بالسكن بل من حقوقها السكن، والنفقة والكسوة وبوسيلة النقل، والمتطلبات كثيرة والحياة بأعبائها ومتطلباتها صعبة وثقيلة فجعل الله سبحانه وتعالى للذكر مثل حظّ الأنثيين إذن الحكمة الإلهية واضحة لأن الزوج مطالب بالإنفاق حتى ولو كانت زوجته غنية.
تفنيد:
وتؤكد الدكتورة نوال العيد كلام الدكتور المانع وتقول: من الشبهات التي أثارها أعداؤنا حول قضية المرأة، ونادَوْا بمساواتها بالرجل في مسألة الميراث، وإثارة هذه الشبهة تدل على الجهل التام بأحكام الشرع، ولو دَرَسُوا ميراث المرأة في الإسلام لَخَجِلُوا من هذه المطالبة فهم يقولون: لماذا يرث الرجل ضعف المرأة؟ والإجابة: إنها حالة واحدة من أصل (24) مسألة في الإرث، وهذه الحالة شرعت للتوازن بين حقها في الميراث والنفقة، ولأن من يقوم عليه غيره مترقب للزيادة، ومن يقوم على غيره مترقب للنقص، وإيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة ظاهر الحكمة.
وهناك دراسة قام بها الباحث صلاح الدين سلطان لهذا الغرض، ووضع المرأة مكان من يحاذيها من الرجال في قوة القرابة، فإذا بالاستقراء يظهر الآتي:
- هناك (4) حالات ترث فيها المرأة نصف الرجل.
- هناك (8) حالات ترث فيها المرأة مثل الرجل تمامًا، كما لو مات ميت عن أب وأم وابن.
- هناك (10) حالات أو تزيد ترث المرأة فيها أكثر من الرجل كما لو ماتت عن زوج وأب وأم وابنتان.
- هناك حالات ترث المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال كما لو ماتت عن زوج وأبوأم وبنت وابن ابن.
من مخلفات الجاهلية:(/4)
الدكتور محمد رأفت عثمان - أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر - يؤكد أن حرمان النساء من الميراث بصوره المختلفة من المشكلات المنتشرة، ليست في مصر فقط ولكنها في معظم بلادنا العربية والإسلامية، ويقول: كثيرًا ما يترتب على هذا الحرمان مآسٍ من ظلم وقهر وأكل أموال الناس بالباطل.
ويضيف: إن حرمان النساء من الميراث أحد مخلَّفات الجاهلية التي هدمها الإسلام فقد كان أهل الجاهلية لا يُوَرّثُون النساء ولا الصبيان وكان أكبر الأولاد هو الذي يأخذ جميع الميراث وكانوا يقولون: لا يعطى إلا لمن قاتل على ظهور الخيل وطاعن بالرمح وضارب بالسيف وحاز الغنيمة، وهذه جاهلية جهلاء حاربها الإسلام وأعطى المرأة نصيبها من الميراث.
ويقول الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء:7].
فهذه الآية الكريمة أوجبت النصيب من الميراث للرجال والنساء، والمرأة سواء كانت زوجة أو أختًا أو بنتًا فلها نصيبها من الميراث، وهذا النصيب حق شرعي لها وليس منة أو تفضلاً من أحد، فلا يجوز لأحد أن يحرمها من نصيبها الذي قرَّرَهُ الشرع الحنيف.
ويوضح د. عثمان أنَّ كلَّ من يحرم امرأة من نصيبها بأي وسيلة كالتهديد والوعيد أو بإجْبَارها على التنازل عن ميراثها، أو بالتحايل عليها لإسقاط حقها بما يسميه عامة الناس (إرضاء الأخوات) زورًا وبهتانًا؛ فهو آثم ومعطّل لحكم الله في هذه القضية، ومتعد على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآكل لأموال الناس بالباطل.
إنني أذكر كل شخص يحرم النساء من الميراث بتقوى الله، فاتقوا الله في النساء وأعطوا الحقوق لأصحابها وأعيدوا نصيب النساء لهن قبل الرحيل عن هذه الدنيا وقبل الوقوف بين يدي الله يوم القيامة.
طمع وضعف إيمان:(/5)
يقول الشيخ الدكتور إبراهيم البشر القاضي والمستشار بمكتب وزير العدل: أكثر المشاكل التي ترد إلى المحاكم هي مشكلة العقارات: كالأراضي والعمائر، وكذلك المزارع، والغالب أنَّ الابن الأكبر للمتوفى هو الذي يظلم بقية الورثة أو الابن الذي يرافق والده في حياته ويعمل معه في التجارة ويعرف أملاكه أو معه وكالة عامة قبل وفاة الأب.
وبعض من يتقدَّم لحصر ميراث المتوفى لا يذكر أمه ولا ابنته المتزوجة مثلاً؛ ظنًّا منه أنَّ أمَّه أو ابنته المتزوجة لا ترث كذلك إذا لم يكن للمتوفَّى أصولٌ ولا فروع؛ وإنَّما الذي يَرِثُ إِخْوَتُه الأشقاء، بل لا يذكرون الإخوة من الأم ظنًّا منهم أن الإخوة والأخوات من الأم لا يرثون مع الإخوة الأشقاء والأخوات الشقيقات.
ويؤكد الدكتور البشر إن سبب وقوع المشاكل في الميراث هو الظلم وضعف الإيمان عند بعض الورثة، وكذلك الطمع المتأصل في بعض النفوس، وإلا فإن تقسيم الإرث قد تولاه الله، ولم يترك الفرائض لاجتهاد المخلوق كما هو واضح في سورة النساء فأكثر الناس يعرف فلانًا نصيبه كذا والزوجة لها كذا، ولكنَّ جشعه وطمعه يحملانه على التعدّي وإخفاء الحقيقة.
جريمة نكراء:
المستشار حسن منصور يصف الحرمان من الميراث بالجريمة التي تقطع الروابط الاجتماعية بين ذوي القربى، ويقول: قبل أن تكون هذه الجريمة دينية فهي أخلاقية واجتماعية بالدرجة الأولى؛ لما يترتب عليها من آثار خطيرة على العلاقات الإنسانية في المجتمع، وخاصَّة بين ذوي القربى، ولكل ذي عقل أن يتصوَّر الآلام التي تحيط بإنسان حَرَمَهُ غيرُه من المقرَّر له وفقًا للشرع الحكيم، بل إنَّ مرارة هذه الآلام تزداد إذا كان من حرمه من هذا الحق هو أقرب الناس إليه وربما كان أحد أبويه.(/6)
ويضيف: الغريب في أمر هذه الجريمة أنَّها تقع ممن لا دخل له أصلاً في توزيع الأنصبة في الميراث، وهو المورث لأن الميراث لا يتحقق إلا بوفاته وقبل ذلك لا تكون هنالك تركه تحدد فيها أنصبه الورثة؛ إذ إن الأموال التي ملكها الإنسان لا تسمى تركة إلا بعد رحيله عن الحياة وتركها خلفه.
ويستنكر المستشار منصور تصرّف بعض الآباء والإخوة من حرمان النساء من الميراث سواء كانت زوجة أو أختًا أو أمًا أو ابنة، ويقول: هذا تعدٍّ لحدود الله تعالى بالنص الصريح في القرآن الكريم فقد قال الحق سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13-14].
ويوضح المستشار منصور ذلك قائلاً: للأسف ألفت بعض المجتمعات حرمان البنات، خصوصًا في الأراضي الزراعية، وزين لهم الشيطان أعمالهم، فقالوا إن البنت تزوجت بأجنبي فكيف نسلم هذا الأجنبي أرض آبائنا وأجدادنا؟ وهذا من عمل الشيطان، فإن الأرض لم تسلم لزوج البنت في الحقيقة فليس هو من الوارثين وإنما تسلم لابنة المتوفَّى أو أخته أو غيرهما من النساء الوارثات ويقوم هذا الذي يسمى أجنبيًّا برعايتها لها والعمل فيها، فإن باعتها له أو وهبتها إياه فهذا حقُّها لأنها حرَّة التصرف في مالها وأرضها التي امتلكَتْها بِحَدّ الله وحكم الله، وعلى المسلم أن يحرص على ما ينفعه ومِمَّا ينفعه أن يسلم الحقوق لأصحابها.
حملات التوعية:(/7)
الدكتورة سامية الساعاتي - أستاذة علم الاجتماع - تؤكّد أنَّه من المدهش أنَّ بعض من يستبدّون ويظلمون ليسوا جهلة ولا أميّين ولا أناسًا غير أسوياء بالمفهوم المصطلح عليه، بل إن بعضهم يعمل في المحاماة والهندسة والتجارة، ويُديرون أعمالاً ويعرفون حقوق وواجبات الأهل والأبناء والأصدقاء؛ ولكن يتجاهلون حقوق ميراث أخواتهم وأحيانًا أمهاتهم.
وتقول: مطلوب تكثيف حملات التوعية على هذا السلوك المرفوض دينيًّا واجتماعيًّا؛ حرصًا على الحقّ والعدل، وحرصًا على صله الرحم، وهذا هو واجب العلماء والدعاة وخطباء المساجد، أن يكثّفوا من حملاتهم ويكشفوا للجماهير خطورة هذا السلوك الجاهلي، الذي فرض نفسه على بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية الآن وكثُرت الشكوى منه.
وتحذر د. سامية الساعاتي من التَّداعيات الاجتماعيَّة لحالات حرمان النساء من الميراث، وتَصِفُها بأنَّها تداعياتٌ خطيرةٌ ومتعدّدة وتقول: هذه التداعيات مشاهدة في مجتمعاتنا لكل ذوي عقل وبصيرة وأخطرها قطع صلة الرحم بين الأشقاء، وقد لا يقف الأمر عند القطيعة والتباعد، بل يتطور أحيانًا إلى جرائم قتل وعدوان بين الأشِقَّاء وملفات المحاكم مليئة بهذا النوع من الجرائم.
وتضيف: إن هذا السلوك الشاذَّ يغرسه الآباء في الأبناء، وتتوارثه الأسرة، وهذا يعني أن الآباء يدمرون علاقات المودَّة والمحبَّة والتَّراحُم بين أبنائهم، ولنا أن نتخيل مشاعر الجميع عندما تضطر امرأة إلى الوقوف في ساحة القضاء أمام أشقائها للحصول على حقها الشرعي بعد أن حرموها منه.
نحو العلاج:(/8)
يرى الشيخ الشعلان - قاضي المحكمة العامَّة بمحافظة المزاحميَّة - أنَّ علاج مشكلات الميراث يتطلب أولا معرفة الأسباب، والدَّاء الَّذي أورث هذه المشكلات متنوّع وأشده ضعف الإيمان، وعلاج هذا الداء يكون بتقوية الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأنه إذا قوي الإيمان حصل عند المسلم خوف من الله عز وجل ومراقبة له؛ لأنه يعلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ عليم سميع بصير لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم حركات العباد وسكناتهم، فإذا قوي إيمانه بالله فإنه يستحيي من الله ويخشاه ويتقيه؛ فلا يجعل المال أكبر همه ولا مبلغ علمه؛ فتقل المشكلات بين الورثة في المال ويحصل القسم فيه بينهم برضا وطيب نفس وبأسرع وقت وكل واحد يحاول إبراء ذمته في هذا المال.
ومنَ الدَّاء أيضًا اتّهام بعض الورثة بعض بإخفاء الميراث أو جزء منه؛ فتحدث بسبب ذلك المشكلات التي تطول وتقوى فهذا ينكر أنه أخفى الميراث أو بعضه، والبقية يصرّون على دعوى الاتهام، وعلاج هذا الدَّاءِ أنَّ على من أخفى الميراث أو بعضه لا سيما إذا كان الاتهام صحيحًا ولكنه يخفيه عنهم فلا يجوز له أن يأكل مال شركائه في الميراث بغير حق لأن الله -عز وجل- قال في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. كما جاء في الحديث: ((لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه))، وإذ كان الاتهام في غير محله ويعلم صدق نفسه؛ فإنه يحاول أن يبرهن لبقية الورثة أنَّه لم يَخْفِ شيئًا من الإرث بالطرق المناسبة فإن لم يقتنعوا فليس أمامهم إلا المحكمة الشرعية فهي الَّتي تفصل في موضوع هذا النزاع.
ومن الداء أن يدعي بعض الورثة بأن له حقًا زائدًا على نصيبه من الميراث كدين أو مشاركة أو عمل ونحو ذلك فهذا لا تقبل منه هذه الدعوى إلا بإثباتها وإلا فليعط كل ذي حق حقه.(/9)
العنوان: انعكاس السيرة في الإبداع
رقم المقالة: 1529
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
إن معرفة سيرةِ المؤلف، وتفاصيلِ حياته، والأحداثِ المختلفة التي مرت به تُعينُ - من غير شك - على تفسير جوانبَ من أدبه، وعلى فَهْم بعض الألفاظ، والعبارات، والإشارات، التي وردتْ فيه، وهذا ما تَبَنَّاهُ المنهج النفسي، ودافع عنه بقوة.
كما أن معرفة سِيَر الأُدباء - ولا سيما الكبار المتميزون منهم - ممتعة ومُفيدة، وقد تعين - زيادة على تفسير العمل الأدبي - على تقدير قيمته كذلك.
يقول ديفيد ديتش: "السيرة قليلة العونِ في تعيين قيمة الأثر الأدبي، ولكن علينا أن نؤكدَ أن هذا لا يعني أن سيرة الأدباء الكبار قليلةُ القيمة في ذاتها؛ ربما تساعدنا السيرة على تقدير قيمة الأثر الأدبي؛ ولكنها دراسة مهمة ممتعة على وجهها، والتطلع الفكري مثمرٌ دائمًا، وبخاصة ذلك التطلع الشغوف لمعرفة سِيَر العُظماء، ومن كان باحثًا جادًّا في الأدب كانت كل معرفة لديه ذات فائدة[1]...".
وإذن فإنَّ معرفة سيرة المؤلف تُعين على تفسير جوانب من أدبه، وهي - إن لم تكن ذات فائدةٍ كُبرَى في تقدير قيمة العمل الأدبي وتقويمِه - ليست عديمةَ الجَدْوى تمامًا في هذا الجانب؛ إذ قد تُعين عليه، وتفتح بعض مَغاليقه.
ولكنَّ الخطأ الكبير الذي يقع فيه من يُعْنَوْنَ عناية بالِغَة - من أصحاب المنهج التاريخي - بسيرة المؤلف، هو اعتقادهم أن الأثر الأدبي - وثيقة من حياة صاحبه، أو أنه يُعَبِّرُ عن تَجْرِبَتِه الذاتية، وأن ذلك يُعَدّ من باب الصدق، وأنه هو مقياس الجودة في الأدب.
إن الحق الذي تُؤَيِّدُه القرائنُ الكثيرة، أن الأمر ليس كذلك في كثير من الأحيان، فالأثر الأدبي لا يَعْكِس دائمًا حياة مؤلفه، ولا هو - باستمرار - تعبير عن تَجَارِبِه الشخصية الذاتية.(/1)
بل إنَّ الأثر الأدبي - كما يقول ديتش – "قد يجسد (حلم) الأديب لا واقع حياته، أو قد يكون (القناع) أو قد يكون (النقيض) الذي يخفي وراءه شخصه الحقيقي، أو قد يكون صورة من الحياة التي يريدُ الأديب أن يهرُب من نطاقِها، ثم علينا ألا ننسى أنَّ الفنَّان قد "يجرِّب" الحياة تجربة مباينة من خلال فنه، فيرى التَّجارِب الواقعية من حيث فائدتُها للأدب، فتجيءُ إليه وقد تَلَوَّنَتْ بعض الشيء بلون التقاليد والمواصفات الفنية..."[2].
كما أن معيارَ الصدق لا يقصد به على الإطلاق أن يكون الأثر الأدبي صفحة من تاريخ مؤلفه، أو وثيقة من وثائق حياته، إذ هو عندئذٍ حكم على الصدق الواقعي المستمد من سيرة الأديب، وليس حُكْمًا على الصدق الفني الذي هو مَنَاطُ بحث الناقد واهتمامه.
ثم من يستطيع أن يتخيل - وإنْ مجرد تخيّل - أن عشرات التجارِب والأحداث والأفعال التي عَبَّر عنها الأديب في قصصه، ورواياته قد عاشها جميعًا؟، وأي عمر هذا الذي يَتَّسِعُ لذلك؟!
إنَّ مُجرَّد الاعتقاد أنَّ الأَثَرَ الأدَبِيَّ هو مَحْض نسخة من الحياة، أو أنه صورة فوتوغرافية عنها، هو اعتقاد غير صحيح، ذلك أنَّ الأدب يقوم على التَّخَيُّر والانتِقاء، على الأخذ والتَّرْك، الحياة مصدر له، لكنه لا يَنْسَخُها نَسْخًا، وله شروطُه وطبيعتُه وفنيته التي تجعله يتعامل مع الحياة بطريقة تحققها، ومثل هذا - أو أكثر - ينطبق على ما يمر بالمؤلف من أحداث وأحوال، فهو - في كل ذلك - خاضعٌ لمبدأ (الانتفاء)، ومبدأ (تحقيق العرف الأدبي) لهذا الجنس الذي يكتب فيه.(/2)
ويضاف إلى ما تقدَّمَ كُلِّه أنَّ كثيرًا من الأدباء - ولا سيما الشعراء - مَوْسُومُون بالمبالغة، والغلو، والتَّجَوُّز، والكذب، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، مصداقًا لقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا} [الشعراء: 224 – 227].
وهذا يعني - بشكل صريح - أن قولهم لا يعبر – دائمًا؛ بل كثيرًا - عن فعلهم، وهو لا يعكس حقيقة السلوك، والتصرفات الفعلية التي قاموا بها، ولذلك لا يجوز الربط بين سيرة المؤلف وإبداعه، أو الاعتقاد الجازم أن الإبداع (انعكاس) لحياة المبدع أو سيرته.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] "مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق"؛ ديفيد ديش، ترجمة د/ محمد يوسف نجم: ص 504.
[2] السابق: ص502.(/3)
العنوان: إنفاق للصد عن سبيل الله
رقم المقالة: 1133
صاحب المقالة: قمراء السبيعي
-----------------------------------------
إنفاقٌ للصد عن سبيل الله.. أسماء وأرقام
طفَت على السطح بأخرة (فقاقيعُ) المستغربين، واعتلت المنابرَ الإعلامية مرتزِقةٌ تحمل أقلامها المسعورة للطعن في الثوابت ما استطاعت، تم اختيارُها بعناية فائقة، ثُم تم الزج بها إلى مسارح الإعلام لتؤدي دورها المعد سلفاً، فأصبحت أدواتٍ محليةً تُدار وَفق (أجندة) دولية، إذ سعت سعياً حثيثاً لتقليص هيمنة الإسلام وتغيير ثوابته من خلال نشر مخطط تغريبي مشبوه.
ولا شك أن تعرية هذا الفكر، والجهات التابعة له، ومتابعة عمالته للأجندات التي تخالف دين الأمة وهويتها وثقافتها أمر غاية في الأهمية، وبقدر المقدرة على بيان خفايا هذا المسلك الفاسد وتوضيحه لعامة الناس يتحدد موقفُ الكثير من المسلمين تجاهه من نبذ ومجافاة.
فعندما نرى حال كُتَّابنا وكاتباتنا الذين لا يألون جهداً في كتابة عدد من المتناقضات والتي تحمل كلمات متلبسة برداء الثقافة الاجتماعية وتغليبها على الشريعة الربانية، حتى إننا عندما نقرأ لهم نحسب أن الواحد منهم أجهل من الجهل نفسه، أو مستغرِباً أكثر من الغربيين أنفسهم! هذا عدا أنهم يسعون لعقد اللقاءات، والندوات، وورش العمل التي تدعم أفكارهم هنا وهناك، كل ذلك يتم برعاية وتأييد متواصل يحظون به من عدة جهات غربية! وسيتبادر إلى أذهان العقلاء –فقط!- أسئلة منها: من أين يأتي لهم هذا الدعم؟ وما طبيعته؟ وما الأهداف المُخطط لها والتي يسعون لتحقيقها؟ وهل هناكَ أرقام يمكن رصدها فعلاً في هذا الصدد؟!
ولعلنا نلقي الضوء على شيء من ذلك:(/1)
فقد تم صرف أرقام خيالية من الدولارات الأجنبية لدعم الأجندة النِّسْوية والمضي قدماً لتحقيق أهدافها من خلال تقديم المنح للأدوات المحلية التي باعت دينها بعرض من الدنيا، ومحاولة خلخلة المنظومة الإسلامية وقولبتها قيمياً، وذلك من خلال تذويب الكيان الأسري عملياً، ودفع المرأة المسلمة إلى ميدان غير أخلاقي دون هوية تستند إليها!
فتوالت تلك الشنشنات التي تسيدتها كلمات تنادي بحرية المرأة وتمكينها من العمل، زاعمين أن نصف المجتمع معطل وهم يسعون لجعله يعمل مجدداً من خلال تحريرهم لها!، وكأن المرأة لا تعمل لدينا، أو لا يمكنها العمل حتى تتخلى عن ثوابت دينها، علماً أن المرأة في بلادنا ولله الحمد تقبض راتباً كاملاً مقابل عملها، وليس ما يقارب 60% مما يقبضه الرجل الغربي، كما في أمريكا مثلاً (حتى تحصل المرأة على مثل الراتب الذي يحصل عليه نظيرها من الرجال يجب عليها أن تعمل طوال العام بالإضافة إلى أربعة أشهر أخرى!) [مايكل مور- رجال بيض أغبياء].
فهل يسعى الغربُ فعلاً إلى تمكين المرأة العربية وتحريرها وتفعيل دورها؟!
إن ما تريده أمريكا من إطلاق هذا المشروع هو شيء آخر يستخفي تحت هذه الشعارات البراقة، يتلخص في ضرب مواطن القوة التي تحول دون اختراق المجتمعات الإسلامية، ولا شك أن الأسرة الإسلامية المتماسكة هي أهم مواطن هذه القوة، والمرأة المسلمة أحد أركانها، فكل المؤشرات تدل على أن الغرب يريد أن يسوّق إلينا قسراً قوانينَ تهدم كيان الأسرة، بحجة أنه يريد أن يسوق إلينا الحضارة والديمقراطية!!
ولا شك أن هناك فلسفة غربية تقف وراء ذلك، لا تخفى على كل من يريد تتبع الحقيقة، وسأكتفي بإيراد قول صريح للرئيس الأمريكي "نيكسون" خلال حملته الرئاسية: (يجب أن نتذكر أن الغرض الرئيسي للمعونة الأمريكية ليس مساعدة الشعوب ولكنها مساعدة لأنفسنا) [تقييم أداء المعونة الأمريكية- ماجد رضا، ص97](/2)
ولتسهيل وصول المعونات قامت بعض الجهات التي سأذكرها لاحقاً بفتح مكاتب رسمية لها في البلدان العربية، والبعض الآخر يمارس أعماله بخفاء تحت صبغة ظاهرة محلية بيد أدوات خانت نفسها ودينها ووطنها من أجل الدولار ولا غير!
ومن أهم المؤسسات التمويلية الدولية التي تربعت دولارتُها في جيوب المرتزقة:
1- مؤسسة فورد فاونديشن:
وهي من أنشط المؤسسات التمويلية التي تدعم الحركة النسوية والتي وصفها "رفعت سيد أحمد" بـ(أخطر مؤسسات التجسس العلمي في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية) [اختراق العقل المصري ص59]، ويؤيد ذلك ما طرحته "سناء المصري" في كتابها تمويل وتطبيع (هذه الإعانات ظاهرها المساعدة الإنسانية، ولكنها في حقيقة الأمر استخدمت هذه المساعدة لدعم بحوث ودراسات تقدم عن المجتمعات التي يُراد اختراقها حيث تنتهي كلها إلى مكاتب المخابرات الأمريكية) [ص66].
وقد مولت (فورد فاونديشن) سفر الناشطات إلى المؤتمرات النسوية العالمية، وسخاؤها معلوم لجميع العاملين والعاملات في الحقل النسوي؛ إذ بلغ إجمالي ما قدمته المؤسسة عام 2000م 7.5 مليار دولار، ويمثلها هنا مركزُ ابن خلدون الإنمائي برئاسة "سعد الدين إبراهيم" الذي حاكمته الحكومة المصرية بتهمة تلقيه مساعدات أجنبية!!
2- منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة - اليونسكو:
إذ تهتم بتطوير مناهج التعليم لدينا، وذلك بشرط أن يتفق ذلك مع أجندة الأمم المتحدة، وهذه المنظمة تدعم من يأخذ بزمام الحديث عن مناهجنا - الدينية تحديداً – واتهامها بدعمها للإرهاب، ويذكر "غراهام هانكوك" أن اليونسكو تنفق من أجل ذلكَ 80% من ميزانيتها التي تبلغ 370 مليون دولار.
3- الأميدست:(/3)
هدفها نشر ثقافة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، من خلال البرامج التثقيفية وتمويل البحوث، وزاد اهتمامها في السنوات الأخيرة بالبرامج النسوية، وقد حضرتُ ذلك شخصياً من خلال عدة حلقات نقاش ودورات تثقيفية تبجل الثقافة الغربية منها لقاء كان بعنوان (اتجاهات الفتيات السعوديات نحو قيم التحديث) حيث تم عقد موازنة بين مجتمعنا والمجتمعات الغربية المقدسة عند فاقدي الهوية وفاقدي القيم السوية كعبدة الدولار!
4- الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية – USAID:
وهي الوكالة الرئيسية التي تطبق المعونة الثنائية الأمريكية، وتقدم القروض والمنح للمشروعات في الدول العربية في مجالات عدة منها: المرأة، وهذه الوكالة يقول عنها نبيل عبد الفتاح: (إن معوناتها ليست هبة، وإن هناك ثمناً باهظاً دُفع ويُدفع، وإنها مستودع ضخم لنقل المعلومات إلى أجهزة صنع القرار الأمريكي) [رفعت سيد أحمد- علماء وجواسيس، ص128].
5- برامج مبادرة الشراكة الأمريكية للشرق الأوسط:
حيث خصصت الولايات المتحدة مبلغ مليارين من الدولارات ربعها ذاهب لمشروعات نسوية، بهدف تعزيز آليات المساواة بين الجنسين، والقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة من خلال اتفاقيات (الجندر، السيداو)، وتعزيز الإحصاءات والعاملين في مجالها وذلك للحصول على صورة خاصة بالمرأة المسلمة في الشرق الأوسط ومن ثم بناء برامج خاصة لقولبة اجتماعية عبر بوابة المرأة ولا غير!
ويؤكد موقع (MEPI) التابع لوزارة الخارجية الأمريكية:
أن الفرص الحالية للتمويل تتنوع مقادير المنح فيها، وتتراوح من فئة الاستجابة العاجلة (عادة من 200.000 إلى 900.000 دولار) إلى منح رئيسية أكبر على مدى عدة سنوات وبعدة ملايين من الدولارات عادة.(/4)
فالمرتزقة بالطبع لا يكون دخلهم معتمداً على وضعهم المادي في أثناء العمل، بل يخططون لما بعد التقاعد، فانظروا إلى ما يقول هانكوك: (ومن غير المستغرب أن هؤلاء المرتزقة الذين يأخذون أموالاً عالية قد رتبوا أمورهم لينتفعوا من هذه المزايا، حتى لو أعفوا من خدمتهم الأساسية، فعلى سبيل المثال تصل الفوائد لما بعد الخدمة في المتوسط لربع مليون دولار للفرد) [سادة الفقر، هانكوك، ص45].
وبعد هذه الأرقام والإحصائيات هل زال تعجبك من تجاوزات هؤلاء المرتزقة؟ ولا أجد لهم وصفاً أصدق من تشبيههم بهواتف العملات فبقدر ما يوضع في حصالتها تزداد تجاوزاتها، وبقدر (دهن السير) كما يُقال، تجد الطعن في المناهج الدينية وفي الثوابت والدندنة على قضايا المرأة وغيرها، لا سيما والمثل الإنجليزي يقول: إن العجلة التي تصرخ كثيراً تُعطى شحماً!
بل إن بعض هذه الأدوات دافعت عن تلك الإعانات بوصفها بالبريئة وتساءلت بكل بجاحة: لماذا نغلق الأبواب في وجه الدعم المادي الغربي الذي يُراد به تطوير بلادنا، ولماذا ترفضون التحضر، ولماذا تريدون قمع نسائكم و.. و..الخ، ولن نجيبهم بأكثر من حقيقة واحدة لن يستطيعوا إنكارها تتمثل في: أن جميع القوى العالمية تدرك الدور الكبير للمال وتدرك قدرته الهائلة على تنفيذ أجندته الخاصة في البلاد التي يُنفق فيها، ولا أدل على ذلك من وقوف أمريكا بكل ما أوتيت من قوة أمام المؤسسات الخيرية الإسلامية حتى لا تتصادم جهودها مع الجهود الصليبية هناك، حيث ضيقت عليها وعلى نشاطاتها تضييقا كبيرا، وأغلقت عدداً كبيراً منها، والبقية أخضعتها للإشراف المباشر والمتابعة الدؤوب، فهل بلاد المسلمين أقل حرصاً على إسلامهم وسلامة شعوبهم من الصليبين على كفرهم؟!
وختاماً:(/5)
أؤكد أن أمتنا الإسلامية اليوم في أشد الحاجة لاستحثاث همة صاحب القلم، وصاحب العلم، وصاحب الفكر، بل ويمتد الأمر للخاصة بعد العامة، ليقفوا جميعاً يداً واحدة، وصفاً واحداً أمام تلك المحاولات البغيضة والتي تريد بنساء أمتنا الفساد والانحلال، ولا سبيل إلى دحرها بعد اللجوء للمولى - سبحانه - واستمداد عونه إلا بالعمل الجاد الهادف وفق خطط مدروسة مبنية على تحليل الواقع واستشراف المستقبل، لتكون الجهود في اتجاه واحد يجمعها هدف واحد متمثل في تعرية جذور هذا النبت الفاسد قبل فروعه!(/6)
العنوان: إنهم يغتالون فرحتنا برمضان!!
رقم المقالة: 1198
صاحب المقالة: د. رياض بن محمد المسيميري
-----------------------------------------
يفرح المؤمنون الصادقون بإقبال شهر الصيام والقيام ، ولا تسعهم الأرض حين حلوله وشروعهم في صيامه وقيامه!!
أليس هو شهر القرآن والتلاوة والذكر؟! أليس هو شهر البر والصلة والصدقة؟! أليس هو شهر الاعتكاف وليلة القدر؟! أليس هو شهر الجهاد والفتوحات؟!
أليس هو شهر الاعتمار والجوار لبيت الله الحرام؟! إلى غير ذلك من المناقب والفرائد، والمزايا والخصائص التي لا يسع المقام لذكرها... فلله الحمد والمنة.
بيد أن هذه الفرحة برمضان وبهائه وجلاله سرعان ما تُذبح بتلك المخازي والمهازل، التي دأبت القنوات العربية على بثها طيلة الشهر الكريم، ودون خوف أو وجل من الله تعالى الذي يقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40].
ولقد تسابقت القنوات الفضائية والأرضية في بث كل رذيلة على وجه الأرض، وتفننت في إغواء المُشاهد، وإرغامه على البقاء ذليلاً أمام شاشاتها؛ بفضل الإخراج المذهل، والإغراء المدهش الذي يجعل أعقل الناس مجنونًا!! وأحلمهم حيرانًا!!
ولقد تنافس المنتجون والمخرجون والفنانون في (اغتنام!!) موسم رمضان، وتقديم كل أسباب الإفساد والتضليل، والصد عن سبيل الله!! ونتج عن هذا الإنتاج المهول، والواقع المرير أن ركع الكثيرون أمام مشاهد الغانيات الفاتنات، والفاجرات العاهرات!!
وباع الأكثرون دينهم وأمانتهم، حين رضوا بأن يهتكوا حرمة الشهر الجليل، ويغضبوا الملك الجبار، وهم يتابعون بشغف وأشر وبطر أفلامًا عارية، وتمثيليات فاضحة، وبرامج مشبوهة ،وكأنهم في منأى من الحساب والعقاب والبعث والنشور!!(/1)
وأسوأُ من ذلك وأدهى وأمر متابعتُهم بنشوة بالغة إلى مسلسلات مخزية من أمثال (طاش ما طاش)، الذي لم يقف عند حد الإغراء والإغواء الأخلاقي؛ بل تعداه إلى السخرية المباشرة من ثوابت العقيدة وشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة!! (وتلقف الصائمون!) كل هذا الإسفاف والخلاعة، والهدم لدين الأمة وأخلاقها بكل رحابة صدر، ولربما تمايلوا نشوة وطربًا، وضحكًا وفرحًا بهاتيك المشاهد التي تخر لهولها الجبال الصُم!!
وبعد إحياء الليل كله أمام عبث الشاشات يتحلق المشاهدون (الأوفياء!!) و (العُباد الأتقياء!!) أمام موائد السحور؛ استعدادًا لصيام يوم جديد، لا حظَّ لهم منه إلا الجوع والعطش بخبر المعصوم - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ بِأَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)). وفي رواية: ((قَوْلَ الزُّورِ وَالجَهْلَ)). فأي زور وأي جهل فوق هذا يا مسلمون؟؟ لمصلحة مَن تنتهك حرمة رمضان، ويُستخف بالملك الديان؟ لمصلحة مَن تفتن الشاشاتُ الجماهيرَ المسلمة وتضللهم؟!
إن أمتنا اليوم تعيش واحدة من أحرج مراحل حياتها، والأخطار تحدق بها من كل اتجاه، والأعداء يتربصون من كل جهة، فهل من الحكمة في قليل أو كثير، أو قبيل أو دبير أن نظل في هذه الغفلة القاتلة، وقد رأينا حواضر العالم الإسلامي يتساقطن في أيدي الأعداء واحدة بعد الأخرى؟! أجيبوا بربكم أجيبوا!! ثم أنيبوا إليه.. أنيبوا إن كنتم مؤمنين!!(/2)
العنوان: انهماك الناس في الدنيا وتحصيل المال
رقم المقالة: 767
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق للعباد دارين دار عمل واكتساب ودار جزاء وثواب، فدار العمل والاكتساب هي الحياة الدنيا جعلها الله عبوراً للعباد ومزرعة يحصدون ما زرعوا فيها يوم يقوم الأشهاد وحينئذ يتبين ربح التجارة من الكساد، وأما دار الجزاء والثواب فهي الدار الآخرة والحياة الباقية إما في جنة وإما في نار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وله العزة والاقتدار، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا ما لأجله خلقتم وماذا تصيرون إليه إذا أنتم متم، فكروا في هذه الدنيا وأحوالها وتقلباتها تجدوها غروراً وباطلاً ولهوا ولعباً ولحظات تمر سريعاً وتمضي جميعاً، قيسوا ما يستقبل منها بما مضى واعتبروا يا أولي الأبصار.(/1)
أليس فينا معشر الحاضرين من عمر طويلاً ومن كان صغيراً وكلنا بالنسبة إلى ما مضى واحد، فكل ما مضى من زمن طويل فكأنه أحلام نائم أو خيال هائم. والإنسان في اللحظة التي هو فيها هذه، أيها الناس، حقيقة الدنيا فكيف يليق بالعاقل أن تكون أكبر همه؟ كيف يليق به أن يقدمها على الآخرة؟ كيف يليق به أن يشغل قلبه وفكره وجسمه في الحصول عليها وهو عن الآخرة في إعراض؟ إن كثيراً من الناس قد انهمك في الدنيا حتى صارت أكبر همه ومبلغ علمه، يجمع المال لا يبالي من أين جمعه ويسرف في إنفاقه على وجه غير مشروع لا يبالي كيف أنفقه، كأنه خلق في هذه الدنيا ليخلد ويتناول ما يشاء من شهواته ولو كان في غضب الله، إن باع أو اشترى فكذب وخداع وغش، وإن صنع شيئاً لأحد لم يؤد فيه الأمانة، وإن صار في وظيفة أضاعها وأهملها يتقاضى راتبها ولا يؤدي عملها كاملاً، وجدير بمن يأكل الأموال بمثل هذه الأمور أن يسمى السارق الخفي.
أيها الناس: إن اتجاهات الناس وأغراضهم مختلفة، فمنهم من يريد المال ويسعى لتحصيله ولو بالطرق المحرمة، ومنهم من يريد الجاه والرئاسة والعلو على الخلق، ومنهم من يريد السيطرة على الناس بحق أو بغير حق، ومنهم من يريد اللهو بالأغاني والألعاب فيصد عن ذكر الله وعن الصلاة إلى غير ذلك من الأغراض الدنيوية، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيناً حال هؤلاء وأمثالهم: ((تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش))، ((طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن شفع لم يشفع وإن استأذن لم يؤذن له)).(/2)
أيها الناس: إنه لم يطلب منكم أن تتركوا الدنيا بتاتاً فإن هذا شيء لا يمكنكم وإنما يطلب منكم أن تعتدلوا في طلبها فتطلبوها باتزان واعتدال على وجه مباح لا يصدكم عن ذكر الله وطاعته، فتقوموا بطاعة الله وتسعوا في طلب رزق الله على ما أمر به الله، صدق في المعاملة وأداء للأمانة ونصح للخلق وإخلاص للخالق وبذلك تدركون الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم... إلخ.(/3)
العنوان: أنواع الصبر
رقم المقالة: 679
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي وعد الصابرين أجرهم بغير حساب، وبشر الشاكرين لنعمته بالمزيد، ووعد الكافرين بالعذاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عليه توكلنا وإليه المتاب، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل من شكر لربه، وأناب، وأصبرهم على أحكام الله بلا ارتياب صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن كل أحد لا يخلو من إحدى حالين إما سراء، وإما ضراء، وأن على العبد في كليهما وظيفة يجب عليه أن يؤديها ليتمم بذلك إيمانه، فوظيفة العبد عن الضراء أن يكون من الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فإن الله خالق العبد، ومالكه، ومدبره، والمقدر عليه ما يشاء يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فالعبد عبد الله عليه أن يستسلم له، وأن لا يتسخط من قضائه وقدره، فإن المرجع إليه، ولا مفر منه إلا إليه، ومن أصيب بمصيبة، وأراد أن تسهل عليه، فليتذكر ما في الصبر عليها من الأجر والثواب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يصيب المؤمن من هم، ولا غم، ولا أذى إلا كفر الله به عنه حتى الشوكة)). ومما يهون المصيبة أيضاًً أن يذكر نعم الله عليه التي لا تحصى، وأن يقرن تلك المصيبة بما هو أعظم منها مما ابتلى به هو أو غيره، فإنه ما من مصيبة إلا فوقها أعظم منها. وهناك صبر آخر وهو الصبر عن معاصي الله، فإن الصبر عن المعاصي يحتاج إلى معاناة ومجاهدة، فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي، وقد يصبر بعض الناس عن شيء من المعاصي، ولكنك تراه منهمكاً في غيره، فتجد بعض الناس يمنع نفسه مثلاً من أكل أموال الناس والخيانة فيها، ولكنه لا يمنع نفسه عن أكل لحومهم والوقوع في أعراضهم مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرن الدماء والأموال والأعراض في حكم واحد حيث قال في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، وهناك صبر ثالث، وهو الصبر على طاعة الله، فإن طاعة الله تعالى بفعل أوامره تحتاج إلى مجاهدة النفس، وعمل الجسم، وكل هذا يحتاج إلى صبر، فالصبر ثلاثة أنواع: صبر على الأقدار، وصبر عن المعاصي، وصبر على الطاعات)). وأما الحال الثانية وهي حال السراء والرخاء والنعم، فإن على العبد فيها وظيفة الشكر، وذلك بأن يعلم أن هذه النعمة من فضل الله عليه،(/2)
وأنه لولا لطف الله وتيسيره ما حصلت له. تلك النعمة، ثم بعد ذلك يثني بها على ربه بما أنعم به عليه من نعم ظاهرة وباطنة دينية ودنيوية، ثم يقوم بطاعة من أنعم بها عليه، فالشكر لا بد له من اعتراف بالقلب، واعتراف باللسان، وعمل بطاعة النعم في الجوارح والأركان.
فمن حقق مقام الصبر، ومقام الشكر كمل بذلك إيمانه، ونجا، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر، فكان خير له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/3)
أنواع كذب الأطفال وطرق التغلب عليهاالعنوان: أنواع كذب الأطفال وطرق التغلب عليها
رقم المقالة: 1328
صاحب المقالة: أنس محمد خير يوسف
-----------------------------------------
إنّ الكذب عادةً غرضٌ ظاهري لدوافع وقوى نفسية تجيش في نفس الفرد؛ سواء كان طفلاً
أو بالغاً..
والكذب من الوجهة الفلسفيّة والتحليليّة لا يُعد كذباً إلا إذا توافرت النيّة
والقصد في الموضوع؛ فالذين يذكرون أموراً علميّة ويتوهّمون أنها صحيحة وهي في
الحقيقة خلاف ذلك، لا يمكن أن نعدهم كاذبين، والذي ينقل خبراً على أنه صحيح
متوهّماً الصدق فيما يقول، ويكون الخبر كاذباً؛ فهذا ينطبق عليه القول المتعارف
عليه (ناقل الكفر ليس بكافر) وعلى غراره (ناقل الكذب ليس بكاذب)، من أجل ذلك قامت
في الأوساط الفكرية والجتماعية والفلسفيّة دراسات حول استقصاء الأخبار.
والطفل منذ ولادته يملك استعداداً للتأثر بكل ما يتّصل به من مؤثرات عن طريق
التلقين والتقليد، فإبعاده عن المؤثرات السيئة، وتقريبه من المؤثرات الحسنة
الصالحة؛ هو الباب الصحيح لإدخاله في عالم خالٍ من الكذب؛ لأنه بمنزلة الأساس
لعملية التربية بصورة كلية، فإذا أحسن المربّي بناء هذا الأساس؛ نشأ البناء متيناً
راسخاً، وما يكتسبه الطّفل في المرحلة الأولى من عمره يصعب تغييره مستقبلاً.. فعلى
الوالدين أن يتنبّها لهذا الأمر. وكل طفل يُعد حالة خاصة، وكل موقف يُعد حالة خاصة،
فلا بد من مراعاة فروق الأطفال والتعامل معهم بشكل مناسب في كل موقف مختلف. فنحن
الذين نؤثر في أطفالنا، وكلما كنّا واعين أكثر بطبيعة الطفل وحاجته، استطعنا أن
نجعل سلوكياتهم الاجتماعيّة مقبولة لدى الناس بقدر أكبر..
وقد دعا الرسول -صلى الله عليه وسلّم- إلى الصّدق في معاملة الأطفال؛ فعن عبد الله
بن عامر رضي الله عنه قال: ((دعتني أمي يوماً -ورسول الله صلى الله عليه وسلّم(/1)
قاعدٌ في بيتنا- فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
وما أردتِ أن تعطيه؟ قالت: تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أما إنك
لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليكِ كذبة)). فإذا نشأ الطفل في بيئة يحترم أهلها الحق
والصدق، ويفون للناس بما وعدوا، وإذا عجزوا عن الوفاء شرحوا السبب، في بيئة لا
يتخلّص فيها الآباء بانتحال المعاذير، وفي أسرة تلتزم بالصدق؛ فمن الطبيعي أن
يتعلّم الطفل الصّدق من هذه البيئة الرائعة المحيطة به، ولمّا كان الوالدان ألصق
الناس بالطفل وجب عليهما التزام الصدق في كل تعامل مع أطفالهما.. فالطّفل الذي
يأمره والده أن يجيب في الهاتف بأنه غير موجود، والأم التي تأمر ابنتها أن تجيب
عنها أنها غير موجودة لتتخلّص من زيارة أو ما شابه؛ فهذا الطفل يصعب أن يتعلم الصدق
ويلتزم بالحقيقة.
وفي زاوية الأخلاق والآداب نعلّم الولد الأخلاق الفاضلة، كالصّدق والجود والسخاء
والحياء والجرأة؛ فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلّم- بتعهّد الأطفال والناشئة،
فعلينا تعليم الولد في نطاق الشرع بنحوٍ موجز أصولَ الشريعة وضرورتها وجدواها في
إرساء معالم الحقوق والنظام والحريات والمساواة والعدل والإنصاف كما دلّت على ذلك
الوصايا العشر في أواخر سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ
إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ(/2)
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151-153].
وإن المبادئ في النظرية الإسلامية التربوية مستمدّة من شريعة الإسلام الخالدة، ومن
ثم فهي متميّزة عن المبادئ الأخرى المستمدّة من نظريات تربويّة وضعية، والمبادئ
الإسلامية ثابتة لا تتغيّر، وتعترف بأهميّة المعرفة الحسيّة التي تعين المرء على
التعامل مع الواقع كما أنها تمنح صاحبها اطمئناناً قلبياً يدعم الجانب الإيماني.
وقد أكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة في سؤال إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى.
فعندما تكون هذه المبادئ ثابتة فهذا يسهّل على المربّين بناء هذه النظريّة، فهي
نقطة البداية عند عملية البناء.. كما يجب أن نعلم أن سمة فلسفة التربية الإسلامية
متميّزة وتجعلها تقف فريدة بين سائر أنواع التربية التقليديّة منها والحديثة،
فالإسلام يعدّ التربية مقدّسة لتحقيق هدف أساسي في الحياة وهو "عبادة الله سبحانه
وتعالى بأوسع معانيها".
وإن من أكثر الدراسات المعروفة حول مشكلات السلوك عند الأطفال الأسوياء (غير المرضى
الخاضعين للعلاج)، هي الدراسة التي قام بها (Macfarlane and Allen and Honzik 1954)
والتي فحصوا فيها مشكلات النمو التي يعانيها الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 21
شهراً و 14 سنة، وما سنأخذه هنا هو موضوع حديثنا اليوم هو: الكذب؛ إذ كانت نسبته
على وَفق التفصيل التالي:
المشكلةالجنسسن الثالثةسن الخامسةسن العاشرةسن الرابعة عشرة
الكذبولد1449156
أنثى1242120
الأسباب الظاهرة لكذب الأطفال:(/3)
1- اضطراب الحياة الأسريّة وتفكّكها وعدم الشعور بالأمان داخلها.
2- الشعور بالنّقص.
3- التمييز بين الأولاد.
4- ظلم المدرّس للطالب الذي يدفعه للكذب بقصد الخلاص.
5- المدرّس الذي يحدد موعداً للامتحان ثم لا يجريه.
6- تجنّب العقاب.
7- الزهو ولفت الأنظار.
8- الهرب من المسؤولية.
9- الكذب على سبيل اللعب.
10- الكذب خوفاً من العقاب.
11- الحصول على العطف والمحبّة من الكبار.
12- طمع في تحقيق غرض نفسي (مثل: الانتقام والكراهية..)
13- وضع الوالدين أبناءهم في مواقف يضطرون فيها إلى الكذب، فيشعر الطفل أنه أُرغم
على الكذب.
14- تقليد الوالدين حين يستمع إلى كذبهم (ويدخل ضمن هذا أيضاً مبالغة الوالدين عند
سرد بعض الحكايات مما يسوغ تسميتهم بكاذبين).
15- لجوء الوالدين إلى المبالغة في تنشئة الطفل على الصدق، والتضييق عليه، والإصرار
على أن يكون صادقاً 100% مما يؤثّر فيه عكسياً؛ حيث يندفع الطفل إلى الكذب كمحاولة
للظهور بالمظهر الذي يطلبه الوالدان.
أنواع الكذب عند الأطفال:
أولاً: الكذب الخيالي.
يُراد بهذا النوع من الكذب عند الأطفال إظهار النزعة القيادية، ومحاولة انتزاع
إعجاب الآخرين، والإيهام بأنه يمتلك قوة كافية للردع بالإضافة إلى التعبير عن خياله
الذي يستخدمه لخلق البطولة الوهمية التي يتمنى أن يكون عليها؛ ولكنها لا تزال
بدائية ومشوشة، كما أنه يعد هذا الكذب أيضاً وسيلة للتسلية، أو تعبيراً عن حلم يقظة
تظهر فيه آمال ورغبات لا يمكن أن يُفصح عنها بأسلوب واقعي، ويمكن جعلها مثل قصص
الأجداد والأمهات الخيالية التي يقصونها للتسلية أو قبل النوم، فالطفل مثلاً في سن
الرابعة قد تختلط في ذهنه الأفكارُ فيصور له خيالُه أفكارًا بعيدة عن الواقع، ولعلّ
هذا هو سبب شغف الأطفال بسماع القصص الأسطورية، وربما لا يدركون واقعيّة القصص
الخرافية، لذا فهم يعيشون أجواءها بشغف ولذّة وسرور، وقد يعدون أنفسهم أبطال هذه(/4)
القصص.. ويعد المحللون هذا الكذب ضربًا من القصص الخياليّة أو التأليف.. وقد يكبر
هذا الطفل ويصبح ممثلاً يجسّد هذه الصورة الكامنة بداخله على خشبة المسرح في
المدرسة تجسيدا يفوق التصوُّر!
ويمثَّل لهذا النوع من الكذب بطفل لم يتجاوز الثالثة من عمره ذكر أنه رأى كلباً ذا
قرنين؛ وذلك بعد أن أحضر والده خروف العيد (وهُنا يتّضح السر في الخلط) وبدل
اتّهامه بالكذب يمكن أن يوضّح له الأب الفرق بين الكلب والخروف.
ثانياً: الكذب الالتباسي.
وهنا يلتبس الواقع بغير الواقع، وتلتبس الحقيقة بالخرافة، ويتداخل الخيال مع
الواقع، ويظهر من القصص التي يسمعها الطفل، ومرجع الكثير منه يكون أحلام الطفل، فقد
يتصور الطفل -نتيجة أحلام حلمها في أثناء الليل- أن كلباً هجم عليه، ويقص قصة
يصورها على أنها واقعية.. والواقع أن الطفل يلجأ للكذب في هذه الحالات لأن الحقائق
تلتبس عليه؛ وتعجز ذاكرته أن تعي حادثة معينة بتفاصيلها؛ فيلجأ إلى تكويرها في عقله
الصغير ومنطقه المحدود؛ فإذا قصّها بدت لنا كذبًا.
ثالثاً: الكذب الادّعائي.
يلجأ الطفل إلى هذا النوع من الكذب لتعظيم ذاته فيبالغ في صفاته، أو للظهور بشكل
محدّد لشعوره بالنّقص فتجده يبالغ فيما يملك، أو يبالغ في صفات والديه أو أقربائه
بين أقرانه بهدف الشعور بالمركز؛ أو استجابة لمؤثرات يتعرّض لها في المدرسة أو
غيرها.. فقد يدّعي أن والده يشغل مركزاً مرموقًا لمجرّد التفاخر وتعظيم الذات،
ويمثّل بعض المتخصصين لذلك بإحدى الحالات التي قدمت له في عيادته النفسية؛ قدم له
أحد الأولاد من عائلة ذات دخل مرتفع ومن الخمسة الأوائل في أغلب الشهور؛ وكانت
المدرسة تطلب من جميع أولياء أمور الطلاب الحضور للتسلم لا عن طريق الطلاب، ولكن
الطالب لم يكن يخبر والده، ويقول لمدرس الفصل: إن والده مسافر خارج البلاد وكذلك
والدته، والحقيقة عكس ذلك، وكان بين طلاب الفصل من يتباهى بأشياء جديدة يحضرها لهم(/5)
والداهم من الخارج، وكان هذا الطالب قصير القامة بشكل ملحوظ، ويعاني من اعوجاج في
أسنانه، وكان التلاميذ يعيّرونه بذلك؛ فاخترع قصة سفر والديه مراراً ليفاخر بذلك
أمام زملائه، وليُشعرهم أنه سيحصل مثلهم قريباً على لعب وملابس وهدايا من الخارج..
وسبب الكذب هنا واضح؛ وهو الشعور بالنقص، ويلجأ إليه الأطفال لاستدرار العطف
والشعور بالقبول في البيئة، وأيضاً للأطفال المدللين في الصّغر إذا تغيّرت معاملة
الوالدين لهم على أساس أنهم لم يعودوا أطفالاً صغاراً. وقد يتّهم الطالب أيضاً بعض
المدرسين بأنهم يعذبونه أو يضربونه أو يضطّهدونه، وهو بذلك يحاول أن يستدر عطف
الوالدين، ويجد لنفسه سببا ليسوغ عدم نجاحه في دروسه..
وهذا النوع يجب الإسراع في علاجه بتفهّم الحاجات النفسيّة التي يخدمها الكذب
ومحاولة إشباعها.
رابعاً: الكذب بغرض الاستحواذ.
وهذا النوع من الكذب يقوله الطفل الذي يُعامل بقسوة من والديه، أو يتّصف والداه
بالرقابة المبالغة له؛ فنجده دائماً يلجأ لذلك لتحقيق رغباته، فإذا سألته: هل معه
نقود؟ أجاب بالنّفي، أو يدّعي ضياع لعبة ليشتري له والده لعبة أخرى، كل ذلك بهدف
الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأشياء، وذلك لفقدانه الثقة في أقاربه.
خامساً: الكذب الانتقامي.
قد يُسقط الطفل اللوم على شخص يكرهه أو يغار منه.. وهو من أكثر أنواع الكذب خطراً؛
لأنه كذب مع سبق الإصرار، ويحتاج من الطفل إلى تفكير وتدبير مسبق مصحوباً بالتوتّر
النفسي بقصد إلحاق الضرر.. وقد يحدث بين الإخوة في الأسرة الواحدة، بسبب التفرقة في
المعاملة بين الإخوة، أو في المدرسة بسبب الغيرة؛ وأذكر في هذا الباب قصّة مشهورة
لأحد المشايخ تحدّث فيها عن طالب وضع بعض المخدّرات في حقيبة أحد المتفوّقين
دراسياً وذلك بغرض الحقد والحسد والكره والانتقام، وبلّغ الشرطة بذلك، وقدمت الشرطة(/6)
وفتّشت الحقيبة فوجدت المخدّرات، فأخذت الطالب إلى السّجن، ثمّ ثبتت براءة الطالب
المتفوّق؛ ولكن بعد ماذا؟؟!.. بعد أن انهارت نفسيّة الطالب وتغيّرت نظرة الطلاب
والمدرسين له، وأصبح الجميع يسأله عن هذه الحادثة، فأصبح حديث الطلاب والمدرسين
والطلاب وشغلهم الشاغل، مما أدى بالطالب إلى التدهور الدراسي، وترك المدرسة وضعف
وأصابه وهن في الجسم، ثم الذهاب إلى المستشفيات النفسيّة للعلاج، ثمّ يكمل الشيخ
قاصاً روايته أن الله عزّ وجل بقدرته أنزل على هذا الطالب الذي كذب عقاباً من عنده
وأخذ يترجّى الطالب الذي كان متفوّقاً أن يسامحه، ولكنه رفض وذكر أنه قد حطّم حياته
ومستقبله.. وبذلك انهارت حياة الطالبين معاً..
كما يحدث الكذب الانتقامي في مجتمعاتنا بين الفتيات وذلك بسبب الغيرة.. لذلك فعلى
المدرسين والآباء مقابلة هذه الاتّهامات بالحذر والإشفاق الشديدين.
سادساً: الكذب الدفاعي (الخوف من العقاب).
ويبدر هذا النوع من الكذب من الأسر التي يسود فيها نوع من النظام الصارم والعقوبة
الشديدة، فترى الطفل يكذب ليهرب من العقاب، وقد يلصق التّهمة ببريء سواء كان أخاً
له أو زميلاً خوفاً من أن تقع عليه عقوبة ما. لذلك فإن الآباء الذين يميلون إلى ضرب
أطفالهم وعقابهم بهدف أن يقولوا الصّدق، إنما يدفعونهم دفعاُ إلى الكذب، بل وإلى
إدمانه؛ لأنّهم يضطرّون للكذب مع مصاحبة شيء من الغش والخداع، وقد أظهرت الدراسات
أن 70% من أنواع سلوك الأطفال الذي يتّجه إلى الكذب ترجع إلى الخوف من العقاب.
علاج ظاهرة كذب الأطفال:
1- الضّبط: فالضبط من القواعد العامّة لتحفيز السلوك الإيجابي لدى الطفل، وهو أسلوب
تربوي إيجابي، يُشعر الطّفل بالجائز من الأمور والمحظور منها، ومن خلال عمليّة
الضبط يتشرّب الطفل معايير المجتمع وقيَمه، ويتعلّم أيضاً احترام الآخرين وحقوقهم،
ومن أمور الضبط للأبناء تعليمهم وتوجيههم أن الكذب من التصرفات المخالفة للشرع وغير(/7)
المستساغة اجتماعياً..
2- التزوّد بالقيم الدينيّة.
3- أن تكون البيئة المحيطة بالطّفل بيئة صالحة والجميع فيها صادقون وقدوة حسنة.
4- إذا اعترف الطّفل بذنبه يجب أن لا يُعاقب، بل يُكافأ.
5- القيام بتشجيع الطفل على قول الصّدق.
6- التروّي في إلصاق تهمة الكذب بالطّفل لئلا يألف اللفظة.
7- ألا نترك الطّفل يمرر كذبته على الأهل أو المدرّسين؛ لأنّ ذلك يشجّعه ويعطيه
الثّقة بقدرته على ممارسة الكذب.
8- المساواة بين الإخوة.
9- تنمية ثقة الطّفل بنفسه.
المراجع:
(1) أطفالنا انعكاس لطريقتنا في التعامل معهم، د. نزار بن حسين الصالح، وزارة
الشؤون الاجتماعية بالمملكة العربية السعودية - وحدة الإرشاد الاجتماعي- 1427هـ.
(2) نشأة الأطفال وتعديل سلوكهم، د. عبد الله بن عبد العزيز اليوسف، وزارة الشؤون
الاجتماعية بالمملكة العربية السعودية - وحدة الإرشاد الاجتماعي- 1427هـ.
(3) أبناؤنا.. وسائل العناية بهم صحياً وتربوياً، حسن ملا عثمان، مديرية التأليف
والترجمة بوزارة الثقافة والإرشاد القومي في الإقليم السوري، دار الفكر-1961م.
(4) مستقبل الفلسفة المعاصرة في الوطن العربي والعالم، أ.د. عبد الأمير الأعسم –
ضمن أعمال المؤتمر الفلسفي العربي الأول لبيت الحكمة- العراق 2002م.
(5) حقوق الأطفال والمسنين، أ.د. وهبة الزحيلي- دار المكتبي - دمشق 1423هـ.
(6) أمراض الأطفال النفسية وعلاجها، د. قاسم عبد الله - دار المكتبي - دمشق 1421هـ.
(7) تربية الأولاد في رحاب الإسلام في البيت والروضة، محمد حامد الناصر - خولة عبد
القادر درويش - مكتبة السوادي للتوزيع - جدة 1419هـ.
(8) مشاكل الأطفال..! كيف نفهمها؟ المشكلات والانحرافات الطفولية وسبل علاجها، د.
محمد أيوب شحيمي – دار الفكر اللبناني - بيروت 1994م.
(9) لماذا يكذب الأطفال وكيف يتعلّمون الصدق، د. ملاك جرجس- دار اللواء - المملكة
العربية السعودية 1405هـ.(/8)
العنوان: أنور الجندي.. الفارس المجاهد في مواجهة (العلمنة) والتغريب
رقم المقالة: 1116
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
• حَمَلَ على كاهله مقاومةَ التغريب والتنصير والاستشراق والغزو الفكري الذي يسلخ الأمة من جلدها، ويحاول تغيير وجهتها، وتبديل هويتها.
• كَشَفَ خطورةَ الحداثة باعتبارها ثورة على الثوابت والقيم الإسلامية.
• درس في الجامعة الأمريكية؛ ليتقن اللغة الإنجليزية، ويستطيع متابعة ما يثار من شبهات حول الإسلام من الشرق والغرب ويقوم بالرد عليها.
• تميز بغزارة فكره وكتاباته وموسوعاته التي تقارب ثلاثمائة كتاب حول الصحوة واليقظة الإسلامية ومواجهة التغريب والفلسفات القديمة والتيارات الوافدة والدعوات الهدامة.
• حياة الجندي الاجتماعية كانت متوسطة يقتدي فيها بالنبي –صلى الله عليه وسلم– في زهده وانصرافه عن متع الدنيا وزخارفه.
• • • •
يعد الكاتب والمفكر والمؤرخ الإسلامي أنور الجندي الذي قضى في يناير 2002م، عالما من طراز فريد، ومناضلا عنيدا في حقل مليء بالألغام، زرعه أعداء الإسلام في الشرق والغرب، فقد حمل على كاهله مقاومة التغريب والتنصير والاستشراق والغزو الفكري الذي يسلخ الأمة من جلدها ويحاول تغيير وجهتها، وتبديل هويتها، وإلغاء صبغتها الربانية {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة} [البقرة: 138]، ووقف بالمرصاد لكل دعاة التغريب؛ يكشف زيفهم، ويهتك سترهم، وإن بلغوا من المكانة ما بلغوا، حتى رد على طه حسين وغيره من أصحاب السلطان الأدبي والسياسي.
واهتم الجندي بكشف الزيف والأباطيل التي راجت وانطلت على الكثير من المثقفين، فأخذ يحذر من كتب طفحت بالسموم والزيف، فكتب كتابه (سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية) محذرا من كتب لا يُعتمد عليها في التاريخ ولا في الدين، منها كتاب (الأغاني) وكتاب (كليلة ودمنة) وغيرهما من الكتب.(/1)
وقد خلف من ورائه ميراثا فكريا، شمل مؤلفاته وموسوعاته الإسلامية التي تربو على مئة كتاب، ذلك الميراث الذي يرسُم الطريق الصحيح أمام أجيال من الشباب المسلم في مواجهة تيارات التغريب والغزو الفكري والثقافي الذي يسعى إلى استئصال هذه الأجيال المسلمة من جذورها وتاريخها وهويتها الإسلامية الأصيلة.
وكانت حياة أنور الجندي الاجتماعية متوسطة أو أقل؛ يقتدي فيها بالنبي –صلى الله عليه وسلم– في زهده وانصرافه عن متع الدنيا وزخارفها؛ فكان قانعا بالقليل من الرزق، راضيا بما قسم الله له، لا يطمع أن يكون له قصر ولا سيارة، حسبه أن يعيش مكتفيا مستورا، وكان بهذا من أغنى الناس.
وكان عالما ربانيا، ومن دلائل ربانيته ما ذكرته ابنته الوحيدة عنه أنه كان يحب أن يكون متوضئا دائما، فيأكل وهو متوضئ، ويكتب وهو متوضئ، فما خَطَّ الجندي كلمة عبر سبعين عاما منذ بدأ الكتابة، أو أكل لقمة إلا وهو على وضوء، وكان ينام بعد العشاء ثم يستيقظ قبل الفجر ليصلي التهجد، ويصلي الفجر، ثم ينام ساعتين بعد الفجر، ويقوم ليقضي بعض حاجات البيت بنفسه، وكان يخدم الجيران، ويملأ لهم (جرادل) الماء إذا انقطع الماء، ويضعها أمام شققهم.
ولم يكن ممن يسعون للظهور وتسليط الأضواء عليه، كما يفعل الكثيرون من عشاق الأضواء، بل عاش عمره راهبا في صومعة العلم والثقافة، يقرأ ويكتب، ولا يبتغي من أحد -إلا الله سبحانه- جزاء ولا شكورا.
وحمل خلال هذه السنوات الطوال ريادة مدرسة الأصالة الفكرية، وقيادة كتائب المقاومة في ميادين التبشير والاستشراق والتغريب والغزو الفكري، وخلف من ورائه رصيدا فكريا وعلميا تفخر به الأمة، وتسير على نهجه الأجيال المسلمة لعدة قرون قادمة.
• بداية قرآنية:(/2)
ولد أنور الجندي عام 1917م بمدينة ديروط التابعة لمركز أسيوط بصعيد مصر، وكان جده لوالدته قاضيا شرعيا يشتغل بتحقيق التراث، ووالده يشتغل بتجارة الأقطان، إلى جانب حفاوته بالثقافة الإسلامية ومتابعة الأحداث الوطنية والعالمية، وكان بيت الجندي مغمورا بالصحف والمجلات وصور الأبطال من أمثال عبد الكريم الخطابي زعيم الريف المغربي، وأنور باشا القائد التركي الذي اشترك في حرب فلسطين –والذي كان ذائع الشهرة حينئذ– وباسمه تسمى أنور الجندي من قبل والديه تيمنا وإعجابا.
وقد حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية، ويسرت له ظروف والده التجارية أن يعمل وهو صغير ببنك مصر بعد أن درس التجارة، ثم واصل دراسته الجامعية في المساء حيث درس الاقتصاد والمصارف وإدارة الأعمال، وتخرج في الجامعة الأمريكية مجيدا للغة الإنجليزية التي درسها خصيصا ليستطيع متابعة ما يثار من شبهات حول الإسلام في الشرق والغرب ويقوم بالرد السديد عليها.
وبدأ الجندي رحلة الفكر والكتابة مبكرا؛ إذ نشر في مجلة "أبولو" الأدبية الرفيعة التي كان يحررها الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام (1933)، وكانت قد أعلنت عن مسابقة لإعداد عدد خاص عن شاعر النيل حافظ إبراهيم، فجرد أنور الجندي قلمه، وأجاد في حافظ إبراهيم إلى حد أنه يقول: "ما زلت أفخر بأني كتبت في (أبولو) وأنا في هذه السن (17 عاما)، وقد فتح لي ذلك باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذ مثل (البلاغ) و(كوكب الشرق) و(الرسالة) وغيرها من المجلات والصحف".
• مقاومة التغريب والغزو الفكري:(/3)
وبعد انطلاقه في الكتابة الصحفية والتأليف حمل الجندي على كاهله مقاومة التغريب والغزو الفكري، الذي يسلخ الأمة من جلدها ويحاول تغيير وجهتها، وتبديل هويتها، وإلغاء صبغتها الربانية (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)، ووقف بالمرصاد لكل دعاة التغريب، يكشف زيفهم، ويهتك سترهم، وإن بلغوا من المكانة ما بلغوا، حتى رد على طه حسين وغيره من أصحاب السلطان الأدبي والسياسي.
واهتم الجندي بكشف الزيف والأباطيل التي راجت وانطلت على الكثير من المثقفين، فأخذ يحذر من كتب طفحت بالسموم والزيف، فكتب كتابه (سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية) محذرا من كتب لا يعتمد عليها في التاريخ ولا في الدين، منها كتاب (الأغاني) وكتاب (كليلة ودمنة) وغيرهما من الكتب.
كما حذر من كتَّاب اشتهروا بيننا بالكتابات الإسلامية، فحذر من كتابات محمد حسين هيكل وما يعتريها من تفكير مادي، وكتب طه حسين وما يعتريها من تزييف لحوادث التاريخ، وكتب جورجي زيدان وما تطفح به من سموم ضد الإسلام، وأحقاد ضد حضارته وتراثه، ثم بيّن الدعاة الأصلاء من الدخلاء، وذلك في كتابه (اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب).
كما حذر من رموز سياسية أحاطتهم الدولة بهالة من التوقير، فكشف موقفهم من الإسلام وقيمه.
• مئة كتاب:
ويتميز الجندي بغزارة فكره وكتاباته، ومن كتبه الأولى كتاب (اخرجوا من بلادنا) الذي يخاطب فيه الإنجليز المحتلين، وقد كان هذا الكتاب سببا في سجنه واعتقاله لعدة أيام في عهد الملك فاروق، ثم أفرج عنه.
وللجندي كتب كثيرة تقارب ثلاثمائة كتاب، بعضها موسوعات، مثل كتابه (مقدمات المناهج والعلوم)، الذي نشرته دار الأنصار بالقاهرة وبلغت مجلداته عشرة من القطع الكبير. وموسوعته (في دائرة الضوء) التي بلغت الخمسين جزءا.(/4)
ومن أهم كتبه: أسلمة المعرفة.. نقد مناهج الغرب.. أخطاء المنهج الغربي الوافد.. الضربات التي وجهت للأمة الإسلامية.. اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار.. تاريخ الصحافة الإسلامية.. أقباس من السيرة العطرة.. السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية.. اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب.. القيم الأساسية للفكر الإسلامي والثقافة العربية.. قضايا الشباب المسلم.. قضايا العصر ومشكلات الفكر تحت ضوء الإسلام.. قضايا مثارة تحت ضوء الإسلام.. وحدة الفكر الإسلامي: مقدمة للوحدة الإسلامية الكبرى.. هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام.. نوابغ الإسلام.. نظريات وافدة كشف الفكر الإسلامي زيفها.. نحن وحضارة الغرب.. نحو بناء منهج البدائل الإسلامية للنظريات والأيديولوجيات والمفاهيم الغربية الوافدة.. موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية.. مناهج الحكم والقيادة في الإسلام.. كيف يحتفظ المسلمون بالذاتية الإسلامية في مواجهة أخطار الأمم؟.. مقدمات العلوم والمناهج: محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل.. ابتعاث.. الأسطورة.. مواجهة جديدة تواجه الفكر الإسلامي.. آفاق جديدة للدعوة الإسلامية في عالم الغرب.. الاستشراق.. الإسلام تاريخ وحضارة.. الإسلام في أربعة عشر قرنا.. الإسلام في مواجهة الفلسفات القديمة.. الإسلام في وجه التغريب: مخططات التبشير والاستشراق.. الإسلام في وجه التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية.. الإسلام والدعوات الهدامة.. الإسلامية نظام مجتمع ومنهج حياة.. أسلمة المناهج والعلوم والقضايا والمصطلحات المعاصرة.. أضواء على الأدب العربي المعاصر.. إطار إسلامي للفكر المعاصر.. أهداف التغريب في العالم العربي.. بناء منهج جديد للتعليم والثقافة على قاعدة الأصالة.. تاريخ الإسلام في مواجهة التحديات.. تاريخ الدعوة الإسلامية في مرحلة الحصار من حركة الجيش إلى كامب ديفيد.. تأصيل اليقظة وترشيد الصحوة.. التبشير الغربي.. تحديات في وجه(/5)
المجتمع الإسلامي.. التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام.. ترشيد الفكر الإسلامي.. تصحيح المفاهيم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية.. الثقافة العربية الإسلامية أصولها وانتماؤها.. جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام.. حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني.. حركة تحرير المرأة في ميزان الإسلام.. حركة اليقظة الإسلامية في مواجهة النفوذ الغربي والصهيونية والشيوعية.. حقائق عن الغزو الفكري للإسلام.. سقوط العلمانية.. سقوط نظرية دارون.. سموم الاستشراق والمستشرقين.. الشباب المسلم: مشاكله وقضاياه في مواجهة تحديات العصر.. شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي.. الشعوبية في الأدب العربي الحديث.. الصحافة والأقلام المسمومة.. الطريق إلى الأصالة والخروج من التبعية.. عالمية الإسلام.. العودة إلى المنابع: دائرة معارف إسلامية.. الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري.. القاديانية : خروج على النبوة المحمدية.. المد الإسلامي في مطالع القرن الخامس عشر.. المرأة المسلمة في وجه التحديات.. الإسلامية نظام مجتمع ومنهج حياة.. المعاصرة في إطار الأصالة.. المؤامرة على الفصحى: لغة القرآن.. مستقبل الإسلام بعد سقوط الشيوعية.. أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب والعلمانية والتنوير الغربي: قضايا الأدب
• الجندي ودعاة الحداثة:(/6)
وإذا وقفنا عند قضية واحدة من عشرات القضايا التي شغلت الجندي على مدي سنوات عمره المديدة، وهي قضية الحداثة ودعاتها، نجد أن الرجل كان على وعي كامل بهذه القضية، ونبه على خطورتها على الإسلام منذ بداية ظهورها، فكان يرى أن الحداثة ليست دعوة مرحلية من دعوات التغريب في مجال الأدب، وإنما هي شيء أكبر من ذلك؛ إنها ثورة على الثوابت الإسلامية الأساسية عن طريقٍ خافت الضوء، هو "الشعر" حتى لا تحدث ضجيجاً أو صياحاً يفسد عليها هدفها الذي تسير فيه حتى تصل إلى غايتها الخطيرة.
وهي تهدف أساساً إلى محاربة القيم الإسلامية وإزاحة فكرة الأصول الثابتة، بهدف تغليب طوابع التطور المطلق، والتغيير المتوالي الذي لا يعترف أساساً بالضوابط والحدود. وترمي إلى فتح الطريق أمام الحرية الإباحية، وتمجيد العلاقة الجنسية، والجرأة على أعلى القيم التي جاءت بها الأديان، وذلك بتحطيم هذه الضوابط والحدود.
ثم يقول الجندي: "وإذا ذهبنا نستعرض الدعاة إلى الحداثة نجدهم جميعاً من متعصبي الأديان الذين دأبوا على محاربة الإسلام واللغة العربية، واتخذوا شعار الحداثة ستاراً ينفثون من تحته سمومهم، ويظهر ذلك واضحاً في كتاب غالي شكري (شعرنا الحديث إلى أين؟)". ومنهم أدونيس.
والحداثة العربية هي ثورة متمردة على كل نظام وقاعدة وقانون، لأنها ترمي إلى هدم الضوابط والحدود والقيم والقواعد التي قدمها المنهج الرباني؛ إفساحاً للمنهج البشري القائم على التحول الدائم، ولذلك فإن دعاة الحداثة يهاجمون الثوابت التي قدمها الدين الحق في عنف شديد، ويصفونها بالجمود والمحافظة والتحكمات.(/7)
ويؤكد الجندي في كتاباته أن هذه المؤامرة قد وضعت قواعدها على أساس حركة الزندقة القديمة، وجماعة المجّان الذين كان على قيادتهم الشاعر "أبو نواس" الذي كان حاقداً على الإسلام، والذي جندته قوى الباطنية والمجوسية والقرامطة ليهدم عن طريق الشعر جميعَ مقومات الثبات الإسلامي في البيئة العباسية، وقد أعانه على ذلك مجموعة من الزنادقة والشعوبيين الذين تركوا تراثاً مسموماً استطاع المستشرقون إحياءه عن طريق شعوبي جديد يحمل في أعماقه جميعَ أحقاد المجوسية والباطنية.
ويرى أنور الجندي أن أدونيس قد وضع نظرية الحداثة على جملة أصول:
1- نظرية التطوير المطلق التي نقلها من فكر هيجل في دعوته إلى إلغاء الثوابت، وهي نقيض نظرية أرسطو. وقد اصطنعتها القوى الصهيونية والماسونية لإحياء الفكر التلمودي وخلق نظرية تقول بأنه ليس هناك شيء ثابت أصلاً، وأن كل شيء متطور، وذلك لهدم ثبات الأديان والأخلاق والقيم. ويرون أن الإنسان هو محور العالم.
2- إحياء الوثنيات القديمة، فقد كشفت رسالة أدونيس عن تقديره الوافر لفكر أبي نواس واهتمامه بفكر الملاحدة وأصحاب نظرية وحدة الوجود والحلول والاتحاد، وإعادة إحيائها من جديد، وهي الخطة التي وضع قواعدَها المستشرق لويس ماسنيون.
3- تحطيم عمود اللغة العربية. وهدف تحطيم الفصحى لغة القرآن هدف قديم وقد شارك فيه منذ بدأت حركة التعريب والغزو الثقافي: (ويلكوكس - لطفي السيد - سلامة موسى - سعيد عقل… إلخ)؛ أملاً من هؤلاء الدعاة بأن تحطيم اللغة العربية سيحولها إلى المتحف ويفسح الطريق أمام تفرق الوحدة القرآنية الإسلامية الجامعة.
4- تحطيم عمود الشعر؛ وذلك إيماناً منهم بأن عمود الشعر هو القاعدة الأساسية للأدب والبيان العربي بعد القرآن والسنة، ومن هنا جاءت الحملة على الخليل بن أحمد وعلى كل الشعراء الملتزمين للنظم العربي الأصيل.(/8)
5- مهاجمة منهج الثبات والقيم، وإطلاق اسم السلفية عليه، والسلفية هنا تعني المعتقد الديني، فالحداثة ترى أن الأفكار الباطنية والصوفية تحوُّل من الثبات الديني، بل تعد هذا التحول منطلقاً تاريخياً للحداثة العربية.
6- تغليب مفاهيم السريالية (النظرة التي لا يحكمها العقل) أو ما يسمى "فوق الواقع"، وقوامها احتقار التراكيب العقلية والروابط المنطقية المعروفة والقواعد الأخلاقية والجمالية المألوفة والاعتماد على (اللاشعور) و(اللامعقول)، والرؤى والأحلام والحالات النفسية المرضية، ولا سيما حالات التحلل النفسي، ويعنون بالرغبات الجامحة.
7- تغليب طوابع الجنس والإباحة استمداداً من مفهوم الإغريق وعبادة الجسد وإباحيات الوجودية التي دعا إليها سارتر، ونظرية التحليل النفسي الذي يعتمد الجنس وهي التي دعا إليها فرويد، ونظرية العلوم الاجتماعية التي دعا إليها دوركايم، وفتح أبواب المجون والجنس والإباحة والتحلل الاجتماعي.
ثم يقول الجندي: وقد عمد أدونيس -في سبيل صياغة هذه النظرية التي قدمها له شيخ المنظرين القس يوسف الخال- إلى استقطاب خيوط من التاريخ لتكون أدلة واضحة وأضواء كاشفة على الطريق، وذلك بالاعتماد أساساً على الفكر الباطني الفلسفي والاهتمام برموزه ومحاولة ربط الخطوات بتطور الشعر الحديث وبالمرحلة الأخيرة منه (قصيدة النثر وشعر التفعيلة) واختيار الحاقدين الجدد على نسق الحاقدين القدامى: أبي نواس ومهيار الديلمي، واعتماد الحركات التمردية الهدامة للمختار الثقفي والقرامطة.(/9)
ويؤكد الجندي أن الحداثة تهدف إلى تجاوز القواعد الأساسية للإسلام: قواعد الثوابت، وهي بمثابة الضوابط والحدود التي تحفظ شخصية الفرد والوجود الاجتماعي، وهي تحاول أن تخدع الناس بأن هؤلاء الرواد والرموز السابقين قد حطموا هذا القيد وتجاوزوه، وأن هذه المحاولة هي التي مكنتهم من الإبداع. وهم يدّعون أن الحداثة هي الثورة الدافعة لتجاوز التأخر والجمود والارتقاء إلى منطلق العصر.
وهذه المحاولة كاذبة ومضللة ومحكوم عليها بالسقوط؛ لأنها لا تقوم على أساس من الفطرة أو العلم أو الحق أو المنطق، وإنما هي نوع من التمويه الكاذب والخداع المضلل؛ لأن كل هؤلاء الذين اعتمد عليهم مفهوم الحداثة من رموز قديمة قد سقطوا فعلاً وداستهم الأقدام، ولم يدخلوا التاريخ إلا في باب الشعوبيين والباطنيين وأعداء الإنسانية، ولقد هُزموا فكرياً في عصرهم وذهب كل ما قالوه من أكاذيب وادعاءات، حتى جاء الاستشراق والغزو الفكري ليعيدهم إلى الحياة مرة أخرى.
• توهين سلطة الدين:
إن "دعاة الحداثة" هؤلاء إنما يدعون إلى توهين السلطة المطلقة -وهي الدين- والنيل من السيد الأعظم (الله تبارك وتعالى، جل وعلا عن كلماتهم المسمومة) ولن يتحقق يوماً أن تغلب الفئة الباطلة على النظام الرباني القائم في حكمه وقواعده، أو أي أصل من أصوله، مهما تجمع لهذا دعاة الشعوبية والباطنية.
ويرمي أدونيس إلى إلغاء كل قديم باعتبار أنه لا شيء في الوجود اسمه قديم، ويهدف من ذلك إلى إلغاء فهمنا للقرآن الكريم وأنه كلام الله القديم.(/10)
والحرية عند الحداثيين –كما يؤكد الجندي- هي التحلل من كل قيد ديني أو اجتماعي أو نظامي أو قانوني. وهم عندما يسمون الحداثة "الثورة المتجهة لتجاوز السلفية" يقصدون تجاوز قيم الدين والأخلاق، وحين يدعون إلى حرية اللغة يقصدون الخروج باللغة عن سياقها ومضمونها وتحررها من إطارها التاريخي والبلاغي المرتبط بالبيان العربي والقرآن الكريم.. وبالجملة فإن الحداثة "أيدلوجية مناهضة" للإسلام الدين الحق، والأخلاق.
• المراجع:
1- أنور الجندي.. راهب الثقافة والفكر - د. يوسف القرضاوي.
2- أنور الجندي.. العالم الزاهد – مجلة الحج – أحمد أبو زيد – رجب 1423هـ/سبتمبر 2002م.
3- الحداثة - أنور الجندي.
4- أنور الجندي الزاهد الرباني الدؤوب - محمود خليل.
5- أنور الجندي.. رجل بكته الأرض والسماء - عصام تليمة.
6- بعض مؤلفات أنور الجندي - شبكة الإسلام على الإنترنت – 6 من فبراير 2002م.(/11)
العنوان: إني أحبك
رقم المقالة: 1274
صاحب المقالة: جيهان السلاموني
-----------------------------------------
صدقاً أقولها: أنت أحب الناس إلىَّ، وأنت صديقي الحميم، أتمنى صحبتك دائماً، أنتظر عودتك إلى البيت وكلي شوق لرؤيتك والتحدث معك وتبادل الابتسامات و المزاح، أتدري لم كل هذا الحب؟
• منذ أن كنت صغيراً وإلى الآن وأنت تتعهدني بالرعاية والحنان، تعود من عملك تحتضنني وتقبلني، تسألني عن أخباري، كيف استمتعت بلعبتي المفضلة؟ كيف قضيت يومي في المدرسة؟ كيف كانت الدروس والاختبارات؟ هذه الأسئلة ووجهك البشوش ينتظر مني الجواب، وإذا وجدتني باكياً أو حزيناً كنت تخفف عني، وتسأل عما أحزنني، وتشاركني في حل مشكلاتي، مداعباً لي ومراعياً لشعوري.
• عندما نجتمع لتناول الطعام نتحدث ونتحاور ونتشاور: أين نقضي العطلة الصيفية؟ كيف نسافر بالطائرة أم بالسيارة؟ وأحياناً كنت تحكي لي عن بعض مشكلاتك بالعمل وتأخذ برأيي بالرغم من صغر سني فغرست بداخلي معنى الثقة بالنفس وازداد حبي واحترامي لك.
• كنت تدعوني إلى التنزه معك فنذهب إلى الحدائق أو الأسواق أو المطاعم وتدور بيننا أحاديث جميلة، أذكر يوم أن حدثتني عن مرحلة البلوغ ومظاهرها وما يكون فيها من مشاعر متداخلة وكيف نتصرف في تلك المرحلة فكان ذلك خير عون لي إذ مرت تلك المرحلة بلا مخاوف أو مشاكل وعندها أحببتك أكثر فقد أنرت لي الطريق وكنت خير صديق.
• تحرص دائماً على نجاحي في الحياة وفي الدراسة فتبين لي السلوك الحسن والتصرف السليم وتعلمني كيف أتعامل مع الناس ومع المواقف المختلفة، فإن أحسنت نلت منك المدح والإطراء على ما فعلت، وإن أخطأت نبهتني ووجهتني وبينت لي الخطأ حتى أتجنبه، وعلمتني الصواب، كل ذلك بأسلوب هين لين، ونظرة عاتبة، بعيداً عن الصراخ والتعنيف والضرب والتشهير والتعيير، فأنت بحق معلمي ولك مني كل الحب.(/1)
• تشاركني دوماً في نشاطاتي اليومية، في ألعابي وفي دراستي وفي مشكلاتي وفي إنجازاتي وتشعرني بوجودك معي ودعمك لي في كل المواقف، فلم أقف وحيداً في أول يوم لي في المدرسة، ووجدتك بجانبي عندما ظلمني جارنا، وعلمتني كيف آخذ حقي بحسن الحوار وبالحجة والدليل والبرهان، وألا ألجأ إلى العنف إلا دفاعاً عن النفس، وعندما أخطئ أجدك بجانبي تعلمني التوبة والاستغفار، وإعادة الحق لأهله والاعتذار، هكذا علمتني فكيف لا أحبك؟!
• غرست في نفسي حب الله فهو يعينني ويوفقني ويحميني ويحفظني، جعلتني أشعر بلذة الطاعة وحب الجنة والشوق إليها، أذكر يوم تسلقت شجرة عالية لأقطف من ثمرها قلت لي: إن ثمار الجنة تدنو بدون تعب أو مجهود، وتلك الزهرة الجميلة ثمة أجمل منها في الجنة، ويوم أطعمتني بيدك الحلوى قلت أن هناك في الجنة أنواع كثيرة أحلى وألذ، وعلمتني كيف أغرس أشجاري في الجنة بذكر الله، وكيف أبني لي قصوراً بصلاة النوافل، وكيف يحبني ربي بأداء ما فرضه علي، حببت لي حياتي لأنها تقربني من ربي ومن جنان ربي.. أفلا أحبك!
• أبداً لم تفرق بيني وبين أخواتي وإخواني، أشعرتنا جميعاً بالسعادة، جعلت منا إخوة متحابين متعاونين نسعى لإسعادك أنت وأمي فننال رضاكما ورضا ربنا.
• جلست يوماً إلى زملائي في المدرسة هذا يشكو أبيه الذي لا يبتسم ولا يضحك خوفاً من ذهاب هيبته ووقاره بين أبنائه ولا يسمح لأحد أن يتكلم في حضرته، وآخر يضربه أبوه بسبب أو بغير سبب ويستهزئ به كلما تحدث ولا يأخذ برأيه، وذاك الذي يسمع ويرى والده وهو يتشاجر مع والدته وينهرها ويبكيها ولا يجد من يحكي له مشكلاته، عندها استأذنت منهم وغادرت المكان وسجدت لله شاكراً وحمدت ربي على نعمة الأب الرائع الذي وهبني إياه.(/2)
أخذت أسأل نفسي لماذا يعاملني أبي هذه المعاملة الجميلة؟! وكيف أصبحت علاقتنا علاقة حب وصداقة واحترام؟! وكيف يعرف ما يدور في نفسي من مشاعر؟! ذهبت إليك لأسألك فلم أجدك، فجلست أنتظرك بجوار مكتبتك فإذا بالعديد من الكتب التي تعتني بتربية الأطفال وتنشئتهم على أسس إسلامية تملأ رفوف المكتبة، وإذا بلوحة جميلة لم ألتفت إليها من قبل قد كتبتها بيدك وصنعت لها بروازاً جميلاً ووضعتها على مكتبك لتكون أمامك دوماً كانت تلك الكلمات الخالدات هي الإجابة عن السؤال، "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
بوركت يا أبي فأنا أشهد لك أنك تؤدي رسالتك تجاهي وتجاه إخواني، وأدعو لك في صلاتي أن يدخلك ربي جناته بحسن رعايتك وتربيتك لي ولإخوتي، فهل عرفت الآن لم أنت حبيبي؟!(/3)
العنوان: أهداف التربية الإسلامية ومقاصدها
رقم المقالة: 179
صاحب المقالة: محمد بن سالم بن علي جابر
-----------------------------------------
يُقصد بالأهداف التربوية : «الأغراض أو الغايات، التي تسعى العملية التربوية إلى تحقيقها والوصول إليها، قريبة كانت أو بعيدة».
وتحديد الأهداف لأي عمل من الأعمال التربوية أمرٌ أساسي قبل الشروع في هذا العمل وتنفيذه؛ لأن هذا التحديد يؤثر تأثيرًا كبيرًا في تكييف وتحديد مجال الدراسة، وطرقها، ووسائلها، وأساليبها التي تحقق هذه الأهداف، كما أن الأهداف غالبًا ما تكون محركًا للسلوك وموجهًا إليه.
لذا؛ كان لزامًا على دارسي التربية الإسلامية أن يحددوا أهدافها أولاً؛ حتى يستطيعوا أن يحددوا الطرق والوسائل والأساليب التي يمكن أن تحقق لهم أهدافهم، وتحركهم تجاه هذه الأهداف بقوة وفعالية؛ فالإنسان عندما يضع لنفسه هدفًا محددًا ينشط كلما اقترب منه خطوة، وكلما حقق جزءًا منه ازداد فرحًا وسرورًا وبهجة، وتصميمًا على مواصلة العمل في سبيل تحقيق باقي الهدف، ويدفعه ذلك إلى تنظيم حياته، «وتجنب اللهو والأمور التافهة التي ينشغل بها – عادةً - من ليست لهم الأهداف السامية، ولا يعرفون كيف يملَئُون أوقات فراغهم بما يعود على حياتهم بالنفع».
والإنسان الذي لا هدف له، لا يعرف لذة العمل، ولا يتذوق طعم الحماس، بل يحيا حياته ضائعًا، لا يعرف أين الجهة التي يولي وجهه شطرها، ولا يدري أين المنتهى، ولا يستطيع الجزم بأفضلية طريقة على طريقة أخرى، أو الأخذ بوسيلة دون أخرى.
إذن، فتحديد أهداف معينة للتربية الإسلامية يعد أمرًا لازمًا وضروريًّا لممارسة العملية التربوية في الإسلام، وضمان نجاحها واستمرارها وتطورها؛ لتؤتي ثمارها بأقل جهد، وأقصر وقت، وأفضل عطاء.(/1)
كما أن تحديد أهداف التربية الإسلامية يساعد على تحديد «مسارات التقدم العلمي والحضاري، ويُوَجِّه هذا التقدم إلى حيث يجب أن يتجه إليه. وكل ذلك يعد بمثابة موجهات واقية من انحراف التربية عن مسيرها المستقيم».
والأهداف التربوية الإسلامية تدورحول أربعة مستويات:
الأول: الأهداف التي تدور على مستوى العبودية لله - سبحانه وتعالى - أو إخلاص العبودية لله.
الثاني: الأهداف التي تدور على مستوى الفرد؛ لإنشاء شخصية إسلامية ذات مثل أعلى يتصل بالله تعالى.
الثالث: الأهداف التي تدور حول بناء المجتمع الإسلامي، أو بناء الأمة المؤمنة.
الرابع: الأهداف التي تدور حول تحقيق المنافع الدينية والدنيوية.
أما مصادر اشتقاق الأهداف التربوية فلا تخرج غالبًا عن مصدرين رئيسين، هما: الفرد والمجتمع؛ وعلى هذا اتفقت معظم الفلسفات والنظريات التربوية في الماضي والحاضر، وتتفق التربية الإسلامية مع هذه النظريات والفلسفات - في تحديد هذين المصدرين كمصادر لاشتقاق الأهداف التربوية، لكنها تنفرد عن غيرها من الفلسفات والنظريات في أن هناك مصدرًا ثالثًا يحتل مركز الصدارة بين مصادر اشتقاق الأهداف في التربية الإسلامية، وهو «الوحي الإلهي»، الذي يعد الضابط الذي تقوم عليه تربية الفرد في الإسلام.
وعلى هذا تكون مصادر اشتقاق الأهداف في التربية الإسلامية ثلاثة، هي:
1 - الوحي الإلهي: المتمثل في كتاب الله – تعالى - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2 - المجتمع المسلم: الذي يجب التعرف على احتياجاته، ومتطلباته، وظروفه، وأحواله المتغيرة؛ لتحديد الأهداف التي تناسبه.
3 - الفرد المسلم: الذي يجب التعرف على طبيعته، وميوله، ورغباته، ومواهبه؛ لوضع الأهداف التي تناسب ذلك.
ويمكن تقسيم أهداف التربية الإسلامية في ضوء المصادر التي اشتقت منها، والمستويات التي تعمل على تحقيقها إلى نوعين من الأهداف:
الأول / الهدف العام للتربية الإسلامية:(/2)
ويتمثل الهدف العام للتربية الإسلامية في تحقيق معنى العبودية لله تعالى؛ انطلاقًا من قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56].
فالهدف الأساسي لوجود الإنسان في الكون هو عبادة الله، والخضوع له، وتعمير الكون؛ بوصفه خليفة الله في أرضه.
والعبودية لله – تعالى - لا تقتصر على مجرد أداء شعائر ومناسك معينة: كالصلاة، والصيام، والحج - مثلاً - وإنما هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فالإنسان الذي يريد أن يتحقق فيه معنى العبودية، هو الذي يُخضع أموره كلها لما يحبه الله – تعالى - ويرضاه، سواء في ذلك ما ينتمي إلى مجال الاعتقادات، أو الأقوال، أو الأفعال؛ فهو يكيف حياته وسلوكه جميعًا لهداية الله وشرعه؛ فلا يفتقده الله حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه، وإنما يلتزم بأوامر الله فيأتي منها ما استطاع، وينزجر عن نواهيه سبحانه فلا يقربها؛ تصديقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فَأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن أمر فاجتنبوه»؛ فالمسلم دائمًا إذا أمره الله – تعالى - أو نهاه، أو أحل له، أو حرم عليه - كان موقفه في ذلك كله: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285].
وهذا هو الهدف العام الذي تعمل التربية الإسلامية على تحقيقه.
ثانيًا / الأهداف الفرعية للتربية الإسلامية:
إن تحقيق الهدف العام للتربية الإسلامية - متمثلاً في العبودية الحقة لله تعالى - يتطلب تحقيق أهداف فرعية كثيرة، منها:
أولاً: التنشئة العقدية الصحيحة لأبناء المجتمع المسلم؛ لإعداد الإنسان الصالح الذي يعبد الله - عز وجل - على هدى وبصيرة.(/3)
ثانيًا: أن يتخلق الفرد في المجتمع المسلم بالأخلاق الحميدة: من صدق، وأمانة، وإخلاص... إلخ؛ مقتديًا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي شهد له ربه سبحانه بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4]، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثتُ؛ لأتمم مكارم الأخلاق»؛ وبذلك يمكن تهيئة المجتمع المسلم للقيام بمهمة الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثًا: تنمية الشعور الجماعي لأفراد المجتمع المسلم؛ بحيث يرسخ لدى الفرد الشعور بالانتماء إلى مجتمعه؛ فيهتم بقضاياه وهمومه، ويرتبط بإخوانه؛ عملاً بقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»؛ وبذلك تتأكد روابط الأُخوَّة الإيمانية الصادقة بين أبناء الأمة المسلمة.
رابعاً: تكوين الفرد المتزن نفسيًّا وعاطفيًّا، وذلك بحسن التوجيه وحسن الحوار مع الأطفال، ومعالجة مشاكلهم النفسية... إلخ؛ مما يساعد على تكوين شخص فاعل وعضو نافع لمجتمعه.
خامسًا: صقل مواهب النشء ورعايتها؛ لتكوين الفرد المبدع، الذي يتمتع بالمواهب والملكات التي باتت ضرورة ملحة لتقدم المجتمعات في الوقت الحاضر، وذلك بتنمية قدرات النشء على التفكير الابتكاري، ووضع الحلول للمشكلات المختلفة، وتنمية قدراتهم على التركيز والتخيل والتعبير، واستثارة الذهن بالأسئلة والمناقشات، وتوجيه الأطفال إلى الأمور التي قد تكون أكبر من سنهم، ورفعِ همتهم، وتنظيم تفكيرهم.(/4)
سادساً: تكوين الفرد الصحيح جسميًّا وبدنيًّا، الذي يستطيع القيام بدوره وواجبه في عمارة الأرض واستثمار خيراتها، والقيام بأعباء الاستخلاف في الأرض ومهامه، التي جعله الله خليفته فيها؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»؛ ولهذا شجع الإسلام على أمور تقوي الجسم: كالرمي، والفروسية، والسباحة، وكان الصحابة يتبارَوْن ويتمرنون على رمي النبل، وصارع الرسولُ صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد يزيد فصرعه صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك سببًا في إسلامه.
هذا وسيأتي تفصيل القول في موقف الإسلام من هذه الأهداف، وكيفية سعيه إلى تحقيقها عند الحديث في مقالات لاحقة عن ميادين ومجالات التربية في ضوء السنة النبوية بمشيئة الله تعالى.
ودمتم
المراجع المتخصصة:
1 - أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، عبد الرحمن النحلاوي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثالثة، 1425هـ - 2004م.
2 - أهداف التربية الإسلامية وغاياتها، مقداد يالجن، دار الهدى للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية، 1409هـ.
3 - التربية الإسلامية للأولاد: منهجًا وهدفًا وأسلوبًا، عبد المجيد الحلبي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م.
4 - تربية الطفل في الإسلام: النظرية والتطبيق، د/ محمد عبد السلام العجمي، وآخرون، مكتبة الرشد، المملكة العربية السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1425هـ- 2004م.
5 - التربية قديمها وحديثها، فاخر عاقل، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة 1981م.
6 - الطفل في الشريعة الإسلامية ومنهج التربية النبوية، سهام مهدي جبار، سلسلة الكتاب التربوي الإسلامي، إشراف: د/ محمد منير سعد الدين، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م.
7 - العبادة في الإسلام، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1393هـ-1973م.(/5)
8 - العبودية، لابن تيمية، دار المدني للطباعة والنشر والتوزيع، جدة، (1398هـ-1978م).
9 - مقدمة في التربية الإسلامية، د/ صالح بن علي أبو عراد، الدار الصولتية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1424هـ - 2003م.
10 - منهاج الطفل المسلم في ضوء الكتاب والسنة، أحمد سليمان، مطبعة النرجس التجارية، الرياض، الطبعة الثانية، (1422هـ-2001م)، ص (24-26).(/6)
العنوان: أهلاً رمضَان
رقم المقالة: 1430
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
أهلاً بشهر الصوم رَوْحَ قلوبنا..
أهلاً بشهر الصوم يجمعُ بيننا..
أهلاً بشهر تشتاقه نفوسنا.. وتهفو إليه قلوبنا.. يعتادنا عاماً بعد عام، فنجد فيه الأُنس بعد الوحشة، والراحة بعد التعب، والطمأنينة والسكينة بعد اللهاث والغليان، والنظام والترتيب بعد الفوضى والتشتت، و الذكرى والموعظة بعد الإعراض والنسيان.
أهلا بالأيام المعدودات، تجلو عن قلوبنا الران، وتمحو عن نفوسنا الغل والحقد، وتطهر أرواحنا من الإثم والحوب؛ لتسموَ بها نحو بارئها صافيةً ضافيةً، راضيةً مرضيةً، هانئة سعيدة، في نعمى لايعرفها إلا من ذاقها، ولا يدركها إلا من عاشها، نعمى يتقلب فيها الصائم في دنياه قبل آخرته، وفي عاجل أمره قبل آجله.
أهلاً بشهر تقام فيه للعبادات دولة، ويُشاد في للطاعات صروح.. فمن صيام إلى صلاة، ومن تلاوة للقرآن إلى ذكر للرحمن، ومن زكاة إلى صدقات ومَبرَّات.
أهلاً بشهر يُعيد للأخلاق نقاءها، وللنفوس صفاءها، وللقلوب والسرائر أُنسَها وبهجتها، فترى الناس فيه متحابِّين متعاونين, وترى الأرواح فيه متعارفة متآلفة، وترى الخير فيه يعمُّ الجميع .
أهلاً بشهر يجمع الشمل بعد طول شَتات، ويؤلف القلوب بعد طول تنافُر، ويزكِّي النفوس بعد طول تنافس وتدابر.
أهلاً بموسم الطاعات، ومَوئل الرحمات، ومستودع المبرَّات والصدقات، وزمان الخيرات والمسرَّات.
أهلاً بشهر التراويح، شهر القيام والتسابيح، والمجالس التي تحفُّها الملائكة وتَغشاها الرحمة ويذكرها الله فيمن عنده.
أهلاً بشهر الغني والفقير، والصالح والطالح، والتائب والعاصي، والمقبل والمدبر، والبَرّ والعاق.. يزداد فيه الغني إنفاقا، والصالح تقى وصلاحا، والتائب استقامةً وفلاحا، والمقبل قرباً ووصالا، والبَرُّ طاعةً ورضوانا.(/1)
ويعود الفقيرُ فيه حامداً شاكرا، والطالحُ صالحاً فالحا، والعاصي تائباً نادما، والمدبرُ مقبلاً ساعيا، والعاقُّ بَرّاً راضيا.
أهلاً بشهر القرآن.. شهر الكلام مع الرحمن، وما أجملَ أن يكلِّم العبد ربه، والمملوك مليكه، والمخلوق خالقه، وما أجملَ أن يناجيَ الحبيب حبيبه دون واسطة أو وسيلة.. أو رقيب أو حسيب.
ما أجملَ أن يناجيَ الصائم ربه، وهل يناجيه إلا بالقرآن؟
ما أجمل أن يكون المرء من أهل الله وخاصته، وهل لله أهل وخاصة إلا أهل القرآن؟
((إن لله تعالى أهلينَ من الناس. قالوا: يارسولَ الله، مَن هُم ؟ قال: هُم أهلُ القرآن، أهلُ الله وخاصَّته)).
ما أجملَ أن يأكلَ المرء من مأدبة الرحمن، وهل للرحمن مأدبةٌ في الأرض إلا مأدبة القرآن؟
((إن هذا القرآنَ مأدبةُ الله تعالى فاقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآنَ حبلُ الله والنورُ المبين، والشفاءُ النافع، عصمةٌ لمن تمسَّك به، ونجاةٌ لمن اتَّبعه، ولا يَزيغ فيُستَعتَب، ولا يَعْوَجُّ فيُقَوَّم، ولا تَنقَضي عجائبُه، ولا يَخْلَق على كثرة الردِّ، اتلوهُ فإن الله يأجُرُكم على تلاوته، كل حَرف عشر حسنات، إني لا أقولُ (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
أهلاً بشهر يضمُّ ليلة القدر، أعظم ليالي الدهر، وهي خيرٌ من ألف شهر.. فطوبى لمن عرف قدرها، وطوبى لمن ترقَّبها، وطوبى لمن أدركها.
أهلاً بشهر يبدأ بالمغفرة، ويُتوسَّط بالرحمة، وينتهي بالعتق من النار.. فيا سعادة من غنمه، ويا فوز من كان فيه من المقبولين.
أهلاً برمضاننا، مجمع خيراتنا، ومراح نفوسنا، ومبلغ أمانينا.
رمَضانَنا أنتَ المُنى في كُلِّ عامٍ بالهَنا
قد زُرتَنا يا فَوزَنا بفَضلكَ نِلنا المَرام(/2)
العنوان: أهمية الاستثمار في تنمية الموارد البشرية
رقم المقالة: 553
صاحب المقالة: محمود حسين عيسى
-----------------------------------------
مقدمة:
أصبح عالمنا اليوم لا يعترف إلا بالدولة القوية، لا من حيث القوة العسكرية فحسب، وإنما من حيث قوتها الاقتصادية، وإذا كانت القوة العسكرية ضرورةً لأية دولة لكي تحمي بها سيادتها، فإن القوة الاقتصادية أصبحت ضرورةً أيضاً؛ تحمي بها قرارها، فالدولة التي تعتمد في مأكلها، وصناعتها، وتجارتها... إلخ على الغير تفقد الكثير من عناصر التحكم في قراراتها - إن كان بيدها قرارٌ في الأصل - وقديماً قالوا: "مَنْ أكل من فأسه، قراره من رأسه"!، وهذا لا يتعارض مع التبادل التجاري، والتقني، والتكنولوجي، والزراعي... إلخ بين الدول، القائم على أساس المشاركة لا التبعية؛ فالدولة الحرة لا تكون عالةً على غيرها، سواء كانت دولةً أو اقتصاداً عالمياً.
ولم يعد خافياً على أحد أن مقياس تقدم الدول هو فيما تنتجه وتقدمه لشعبها أولاً، ثم لشعوب الدول الأخرى، فها هو العالم الموسوم بالعالم المتقدم - (7+1): الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وكندا، واليابان، وروسيا - لم يوسم بالتقدم إلا من خلال ما قدمه للعالم أجمع من تكنولوجيا صناعية متقدمة، أنتج بواسطتها منتجات متقدمة ومتنوعة.
واعتمدت الدول المتقدمة في نهضتها العلمية والعملية على ما تمتلكه من ثروة بشرية، فوجهت جل استثماراتها نحو تنمية هذه الثروة البشرية وتمكينها، من أدوات ووسائل العلم النظري، والتطبيق العملي المتقدم..! وهدفت من وراء ذلك إلى رفع الكفاءة الإنتاجية، وتميز هذه الثروة البشرية، وقد حققت هدفها، والواقع خير دليل على ذلك.(/1)
وإن كان تقدم الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا - وهم الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية – طبيعياً، فإن من غير الطبيعي أن نجد من بين الدول المتقدمة (ألمانيا، واليابان) وهما الدولتان الخاسرتان في الحرب! وهما خير نموذج للاهتمام بالاستثمار في تنمية الموارد البشرية، وخاصةً اليابان، التي لديها ندرة شديدة في الموارد الطبيعية، وبالرغم من ذلك؛ فقد استطاعت بما تمتلكه من ثروة بشرية أن تبني اقتصاداً قوياً، تقف من خلاله بين مصاف الدول الثمانية الكبار – المشار إليها آنفاً.
وقبل الولوج في الحديث عن أهمية الاستثمار في تنمية الموارد البشرية، ومساهماته في معالجة التنمية الاقتصادية، نود أن نتحدث بإيجاز عن بعض المفاهيم الخاصة بالتنمية بشكل عام، وكذلك الحديث عن الإنتاجية، وأهمية الإنتاجية على مستوى كل من: الفرد، والشركة أو المنظمة، ومردود ذلك على الاقتصاد الوطني والمجتمع ككل؛ ومن ثَمَّ الحديث عن أهمية واستخدامات تحليل الوظائف والتدريب كوسيلتين هامتين تشترك كلٌّ منهما - مع العديد من الوسائل الأخرى - في عملية الاستثمار في التنمية البشرية.
التنمية Development:
للتنمية مفاهيم عدة، تختلف هذه المفاهيم باختلاف المجال الذي تنشده التنمية، فهناك مفهوم خاص بـ (التنمية الاقتصادية)، يهتم بإحداث تغييرات اقتصادية تساعد على إكساب المجتمع القدرة على إشباع حاجاته الأساسية (الفسيولوجية)؛ من مأكل، ومشرب، ومسكن، تتبعها مراحل أخرى تصل بهذا المجتمع إلى درجات متزايدة من الرفاهية، وذلك عن طريق الترشيد اليقظ والمستمر في استغلال هذا المجتمع لثرواته البشرية، وموارده الاقتصادية المتاحة.
وهناك مفاهيم خاصة بـ (التنمية السياسية)، و(التنمية الثقافية)، و(التنمية الاجتماعية).. وغيرها.(/2)
وما يهمنا في هذا المقام هو مفهوم (التنمية البشرية)؛ حيث اهتم هذا المفهوم بدعم القدرات الخاصة بالفرد الذي يتكون منه المجتمع، وقياس درجة مستوى معيشة هذا الفرد، ومدى تحسن أوضاعه المعيشية في المجتمع الذي ينتمي إليه.
وبالنظر إلى مفهوم التنمية البشرية – كما ذكرنا – نجده أكثر شمولاً عن مفهوم التنمية البشرية الذي سيطر على فكر الدول بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى بداية التسعينيات من القرن الماضي (القرن العشرين)، والمفهوم القديم للتنمية البشرية كان مقتصراً على كمية ما يحصل عليه الفرد من سلع وخدمات مادية (فسيولوجية)، أي: كلما استطاع الفرد أن يحصل على المزيد من تلك السلع والخدمات؛ كلما ارتفع مستوى معيشته؛ ومن ثَمَّ زادت رفاهيته، وهنا تتحقق التنمية البشرية.
إلا أنه مع توسيع مفهوم التنمية ليشمل العديد من النواحي النفسية (السيكولوجية) مثل: الغايات والأهداف الخاصة بالفرد، والتي يحقق معها ذاته وطموحاته... إلخ، إضافةً إلى الأهداف الاقتصادية، مما أدى إلى تغيير مفهوم التنمية البشرية من مجرد إشباع النواحي الفسيولوجية للفرد - كدليل على وصوله إلى مستوى معيشي كريم - إلى مفهوم التنمية البشرية الأوسع، والذي يرتبط بجودة حياة الفرد، بإشباع حاجاته الفسيولوجية والسيكولوجية معاً؛ وليس حياته الفسيولوجية فقط.
وقد أخذت الأمم المتحدة على عاتقها إبراز مفهوم التنمية البشرية، وذلك منذ العام 1990م؛ حين نادت بـ (برنامج الأمم المتحدة للإنماء)، وخصَّصت له تقريراً سنوياً.(/3)
ويرجع الاهتمام العالمي بتنمية الموارد البشرية إلى أن البشر هم الثروة الحقيقية لأيَّة دولة، ولأي أمة، وكلما تمكنت الأمة من الحفاظ على ثروتها البشرية، وعملت على تنمية قدراتها عن طريق التأهيل والتدريب المستمر، لإكسابها القدرة على التعامل مع الجديد الذي يظهر على الساحة الدولية بين الحين والآخر؛ كلما تقدمت هذه الأمة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بين الأمم الأخرى.
فالتنمية البشرية تهدف إلى توسيع مدارك الفرد، وإيجاد المزيد من الخيارات المتاحة أمامه، كما تهدف إلى تحسين المستويات الصحية، والثقافية، والاجتماعية، وتطوير معارف ومهارات الفرد، فضلاً على توفير فرص الإبداع، واحترام الذات، وضمان الحقوق الإنسانية، وضمان مشاركاته الإيجابية في جميع مناحي الحياة.
فالاستثمار في تنمية الموارد البشرية أمر هام وضروري، لما للموارد البشرية من أهمية قصوى؛ فهي الثروة الحقيقية والرئيسة للأمم، والأمم المتقدمة أيقنت تلك الحقيقة؛ فأحسنت التخطيط الاستراتيجي، ونفذت برامج محددة لتنمية هذه الثروة البشرية على مدار عقود من الزمان، ونجحت فيما خططت ونفذت، وها هي اليابان خير شاهد على نجاح الاستثمار، وها هي الصين – صاحبة المليار ونصف المليار من البشر - تخطو بخطى ثابتة ومدروسة نحو قيادة العالم، من خلال هذه الثروة البشرية الهائلة، التي جعلت منها ميزة تميزها عن سائر الأمم، ولم تجعل منها عبئاً ثقيلاً أو شماعة تلقي عليها فشلها كما تفعل كثير من حكومات العالم الثالث أو العالم النامي - كما يسمونه.(/4)
إن الموارد الطبيعية والأموال المتوافرة لدولة ما - رغم أهميتهما وضرورتهما الكبرى - لا يغنيان أبداً عن العنصر البشري الكفء، والماهر، والفعال، والمدرَّب، والمعد إعداداً جيداً مبنياً على أسس علمية دقيقة، وهذه حقيقة راسخة على مر العصور والأزمان، فالأموال والموارد الطبيعية لا ينتجان منتجاً بذاتهما، فالبشر – بخصائصهم التي خلقهم الله - سبحانه وتعالى - عليها - هم القادرون على استخدام هذه الموارد - بنسب متفاوتة من حيث الكفاءة والفعالية - في العمليات الإنتاجية، للحصول السلع والخدمات التي تعمل على تحقيق أقصى إشباع ممكن للحاجات الفسيولوجية للفرد، بهدف الوصول إلى تحقيق الرفاهية أو الحياة الكريمة للفرد والمجتمع؛ ومن ثَمَّ التقدم الاقتصادي للدولة، وللاقتصاد العالمي ككل.
فالعنصر البشري بما لديه من قدرة على التجديد، والإبداع، والاختراع، والابتكار، والتطوير، يمكنه أن يتغلب على ندرة الموارد الطبيعية، وألا يجعلها عائقاً نحو النمو والتقدم، عن طريق الاستغلال الأفضل - إن لم يكن الأمثل - لطاقات المجتمع العلمية والإنتاجية، فضلاً عن الاستغلال الرشيد للموارد الطبيعية والاستثمارات المتاحة.
ومما ذكرنا: يتبين لنا أهمية العنصر البشري؛ والذي يمثل الركيزة الأساسية لتحقيق التنمية الشاملة في كافة المجالات الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية... إلخ.
ومما لا شك فيه أن الدولة التي لا تستطيع - أو تعجز عن - تنمية مواردها البشرية لا يمكنها أن تحقق غاياتها وأهدافها المخططة والمأمولة، مهما ابتكرت من وسائل، وإنما يمكنها أن تحقق غاياتها وأهدافها عن طريق تضافر جميع عناصر الإنتاج: ( الأرض، والعمل، ورأس المال، والإدارة).(/5)
ونلاحظ: أن العنصر البشري بما حباه الله - سبحانه - من عقل وطاقات وجهد بشري يمثل عنصرين من عناصر الإنتاج، وهذا التضافر يؤدي بلا ريب إلى التطور والتقدم المنشود، واستغلال الموارد الطبيعية المتاحة الاستغلال الأمثل، وفتح الأسواق، والقيام بعمليات التبادل التجاري... إلخ، فهناك دول تمتلك موارد بسيطة، ومع ذلك فهي دول متطورة، مثل اليابان – كما ذكرنا سابقاً.
وقبل أن نوضح دور تحليل الوظائف والتدريب في رفع الكفاءة الإنتاجية للأفراد المكونين للعمالة البشرية، أود أن أتطرق للحديث – بإيجاز - عن: ماهية الإنتاجية، أهمية الإنتاجية على مستوى الفرد (العامل)، والشركة أو المنظمة، والاقتصاد الوطني، والمجتمع.
ماهية الإنتاجية:
الإنتاجية: هي كمية الإنتاج من السلع أو الخدمات، التي تتحقق خلال مدة زمنية محددة، عن طريق وحدة معينة من وحدات العمل.
أهمية الإنتاجية على مستوى الفرد (العامل)، والشركة أو المنظمة، والاقتصاد الوطني، والمجتمع:
- أهمية الإنتاجية على مستوى الفرد (العامل):
إنتاجية الفرد العامل ما هي إلا انعكاس حقيقي لمدى مساهمته في العمل - ككل - بالجزء المكلَّف به، والذي يستخدم جهده، وعلمه، ومهارته في أدائه، وتحسب مساهمة الفرد العامل بمقدار القيمة المضافة إلى المنتج النهائي.
ومن الطبيعي أنه كلما زادت إنتاجية الفرد؛ زادت مساهمته في القيمة المضافة إلى المنتج النهائي، فضلاً عن زيادة أهمية دوره الوظيفي، مما ينعكس على شعوره بمدى أهميته في مكان عمله، وما يحصل عليه من مزايا معنوية، متمثلة في شهادة تقدير، أو ثناء رؤسائه على عمله وتقديرهم له، مما يزيد من روحه المعنوية، التي تدفعه إلى بذل المزيد من الجهد، ومن ثَمَّ الحصول على المزيد من التقدم على المستوى الفردي، وعلى مستوى العمل، ومن ثَمَّ شعوره بمدى أهميته داخل مجتمعه، فضلاً عن المزايا المادية، المتمثلة في زيادة الدخل، والمزايا العينية الأخرى.(/6)
وعلى النقيض من ذلك: كلما انخفضت إنتاجية الفرد؛ انخفضت – وقد تتلاشى - مساهمته في القيمة المضافة إلى المنتج النهائي، فضلاً عن انخفاض أهمية دوره الوظيفي، مما ينعكس على شعوره بمدى عدم أهميته في مكان عمله – والذي قد يتعرض لفقده – وما يترتب على ذلك من آثار نفسية سلبية ومؤلمة، تؤدي بلا شك إلى المزيد من انخفاض الروح المعنوية، فضلاً عن العقوبات المادية التي قد يتعرض لها، من خصومات تؤدي في النهاية إلى انخفاض دخله، ومن ثَمَّ شعوره بمدى عدم أهميته داخل مجتمعه.
- أهمية الإنتاجية على مستوى الشركة أو المنظمة:
استمرار الإنتاجية يعبر عن وجود إدارة تؤدي دورها، وزيادة الإنتاجية وجودتها وكفاءة عملياتها يعبر عن كفاءة الإدارة في استغلال الموارد الطبيعية والإمكانيات المادية والبشرية المتاحة لها على الوجه الأمثل، وهذا يؤدي إلى تحقيق النتائج المرجوَّة – وليست المطلوبة فقط - من العملية الإنتاجية.
ومن المسلَّم به: أن زيادة الإنتاجية لا تأتي فقط نتيجة كفاءة الإدارة في استخدام الأساليب الإدارية الحديثة في إدارتها للعملية الإنتاجية؛ بل يتواكب مع ذلك استخدام التكنولوجيا المتطورة والحديثة في تطوير المنتج بشكل مستمر، فضلاً عن الاستثمار في تنمية الموارد البشرية، وتطويرها المستمر، عن طريق وضع البرامج التدريبية المدروسة على أسس علمية؛ للنهوض الدائم والمستمر بالقوى العاملة المتاحة للشركة أو المنظمة، وحرص الإدارة الدؤوب على جودة المنتج وتميُّزه، وهذا يتطلَّب التخطيط السليم، والمتابعة المستمرة للعملية الإنتاجية؛ منذ البداية، وحتى الوصول إلى المنتج النهائي في الصورة المرجوَّة، ويتطلب ذلك من الإدارة أن تكون حريصة على كفاءة الخامات المكوِّنة للمنتج، والآلات والمعدات التي يمر بها المنتج، فضلاً عن كفاءة العمالة الماهرة التي تقوم بالعملية الإنتاجية.
- أهمية الإنتاجية على مستوى الاقتصاد الوطني:(/7)
كما ذكرنا آنفاً – إن استمرار الإنتاجية يعبر عن وجود إدارة تؤدي دورها، وزيادة الإنتاجية وجودتها وكفاءة عملياتها يعبر عن كفاءة الإدارة في استغلال الموارد الطبيعية والإمكانيات المادية والبشرية المتاحة لها على الوجه الأمثل، وهذا يؤدي إلى تحقيق النتائج المرجوَّة – وليست المطلوبة فقط - من العملية الإنتاجية – هذا على مستوى الشركة أو المنظمة – وكذلك ينطبق الحال على أهمية الإنتاجية على مستوى الاقتصاد الوطني – مع الاحتفاظ بالفوارق بين اقتصاد الشركة أو المنظمة والاقتصاد الوطني ككل - فإن الإنتاجية تعبر عن كفاءة الدولة ككل في إنتاج سلعها وخدماتها، فالعملية الإنتاجية - على مستوى الدولة - تعكس مستوى أداء كافة أجهزة ومؤسسات الدولة، ومدى نجاح هذه الأجهزة وتلك المؤسسات في تحقيق غايات وأهداف خطة الدولة في مجال إنتاج السلع والخدمات بالجودة والكفاءة المرجوَّة.
- أهمية الإنتاجية على مستوى المجتمع:
إذا لم تُزد العملية الإنتاجية في القيمة المضافة للمجتمع، ولم يكن تأثيرها إيجابياً ومباشراً وملموساً على رفاهيته؛ فإن العملية الإنتاجية في هذه الحالة تكون قد انحرفت عن المسار الطبيعي لها.
فالمسار الطبيعي للعملية الإنتاجية هو: توفير السلع والخدمات - بالجودة والكفاءة العالية - لجميع أفراد المجتمع، وأن تعمل هذه السلع المنتَجَة والخدمات المقدَّمة على إشباع أذواق ورغبات المستهلكين لها، فضلاً عن توافر كميات مناسبة من هذه السلع وتلك الخدمات لمواجهة حاجات المستهلكين.
تحليل الوظائف:(/8)
من بين الأساليب والوسائل الإدارية الهامة التي تأخذ بها الإدارات العليا الناجحة في أيَّة منظمة أو شركة أسلوب (تحليل الوظائف)، فهذا التحليل الدقيق للوظائف يوفر للإدارة بيانات ومعلومات هامة عن واجبات ومسؤوليات الوظائف، ومدى الحاجة إلى إنشاء وظائف جديدة، أو إلغاء وظائف قائمة، وهذا من شأنه مساعدة الإدارة في إدارة مواردها البشرية بشكل ناجح وفعَّال.
ويمكننا تلخيص بعض المزايا التي يقدمها تحليل الوظائف للإدارة فيما يلي:
1- التنظيم الإداري للشركة: عن طريق تقسيم العمل، وتحديد المسؤوليات والسلطات الممنوحة للمسؤولين، والعمل على إيجاد التوازن بين السلطة والمسؤولية.
2- التدريب: حيث يقوم تحليل الوظائف بتحديد الفجوة بين المهارات الحالية للموظفين والمهارات المأمول والمطلوب توافرها، ومن خلال هذا التحديد تتمكن الإدارة من وضع الخطة التدريبية الصحيحة لسد هذه الفجوة.
3- التخطيط السليم للقوى العاملة.
4- التعويضات والمكافآت والحوافز للعاملين.
5- إعادة تصميم وتصنيف الوظائف.
6- تحسين الأداء الوظيفي.
7- اكتشاف الخلل في بيئة العمل الداخلية، ومحاولة القضاء عليه، والعمل على تحسين ظروف العمل الداخلية والخارجية، في حدود الإمكانات المتاحة.
التدريب والتنمية البشرية والاقتصادية:
تتجه غالبية دول العالم الآن نحو الأخذ بوسائل التدريب المتقدِّمة؛ لرفع وزيادة الكفاءة الإنتاجية؛ والتي تمثل إحدى الأهداف الرئيسية للتنمية البشرية، وإن اختلفت درجات هذا التوجُّه بين العالم المتقدم، والعالم الذي يقف على أبواب التقدم، والعالم النامي.
فمعظم الدول أصبحت تعي أهمية التدريب؛ لما له من دور فعَّال في المحافظة على مكتسباتها الحالية، والمساعدة في تحقيق استراتيجياتها المستقبلية.
وهناك علاقة وطيدة بين التدريب وتنمية الموارد البشرية؛ حيث ترتكز تنمية الموارد البشرية فيما ترتكز على:(/9)
1- وجود كفاءات منتقاة من المديرين، تم صقلها بأساليب تدريبية عالية، أكسبتهم مهارات خاصة، وخبرات كبيرة.
هؤلاء المديرين تعقد عليهم شركاتهم آمالاً عريضة في الانتقال بها نحو مصاف الشركات الناجحة؛ بل والمتميزة، فالمدير الناجح يعمل دائماً على رفع مستوى أدائه، ورفع مستوى أداء وتنمية مهارات العاملين معه تحت إدارته.
وتظهر كفاءة المديرين من خلال نتائج عدة، أهمها:
استمرار جودة المنتج وتطوره، مع خفض التكاليف، وخلق أسواق جديدة للمنتج، مع المحافظة على حصة شركاتهم، والعمل على زيادتها في الأسواق الموجودة بها، مما يساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية فيها، ويكون له مردوده الإيجابي والمباشر على التنمية البشرية للعاملين في هذه الشركات، وعلى التنمية الاقتصادية للصناعة التي تنتمي إليها، فضلاً عن التنمية الاقتصادية للمجتمع والدولة ككل.
2- العمل على توافر وامتلاك المهارات المكتسبة، عن طريق التدريب، وتنمية هذه المهارات واستغلالها الاستغلال الأمثل، فالمهارات يمكن إكسابها للأفراد عن طريق الخطط التدريبية ذات الكفاءة العالية، والمخطط لها بشكل علمي سليم، مع الحفاظ - في ذات الوقت - على المهارات الموهوبة للأفراد بعد اكتشافها، بالعمل على تنميتها وصقلها ببرامج تدريبية خاصة، وتوفير البيئة الصحيحة المساعدة على تأصيل هذه الموهبة.
3- وجود خطط تدريبية عامة وخاصة؛ فتدريب العاملين أمر هام وضروري، خاصةً العاملين أصحاب المهن الفنية المعقَّدة، باتباع طرق التدريب الأساسي، والتدريب التخصصي.
فالصناعات الدقيقة والمعقدة تتطلب دائما عمالة فنية ذات مهارات عالية، وهذه العمالة تحتاج أيضاً – وبشكل مستمر – برامج تدريبية متخصصة؛ لكي تؤهلهم وتمكنهم من التعامل مع الصناعات القائمة، وما يستجد عليها من تطور وتقنيات حديثة.(/10)
ولا يخفى على أحد أن العمالة الماهرة المدربة، تتهافت عليها كبريات الشركات العالمية، ولها كادر مميز من حيث الرواتب والمكافآت والحوافر لا يتوافر لغيرها، فالتدريب المتخصص يساعد على تنمية الموارد البشرية.
4- انفتاح العمالة (المدرِّب والمتدرِّب) على العلم في مجال التخصص، والثقافة بشكل عام، والعمل على اكتساب لغات الدول المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً؛ حتى تتمكن هذه العمالة من مسايرة كل جديد في مجال تخصصها، فضلاً عن فتح فرص عمل ذات مميزات خاصة لها، عن طريق الالتحاق بالوظائف المميزة في الشركات متعددة الجنسيات، التي أصبحت منتشرة حول العالم كمظهر من مظاهر العولمة، أو ترغيب هذه الشركات في الاستثمار في بلدان هذه العمالة الماهرة، مما ينعكس بدوره على إنعاش اقتصاديات أوطان هذه العمالة، وخلق فرص عمل جديدة، وبالتالي تنمية الموارد البشرية والاستثمار فيها، وهذا كله يصب في تقدم بلدانهم صناعياً، واجتماعياً، وثقافياً.
إن الاهتمام بالفكر والتخطيط الاستراتيجي يساعد كلاًّ من الشركة أو المنظمة أو الدولة على الوصول إلى ما تصبو إليه من تقدم، ونموٍّ مطَّرد؛ ومن ثَمَّ الازدهار والرفاهية، وصولاً إلى الحياة الكريمة.
ويعد الاهتمام بالتنمية البشرية حجر الزاوية، وأساساً جوهرياً لتأكيد التنمية بمفهومها الشامل لكل المجالات، سواء كانت اقتصادية، أم اجتماعية، أم سياسية، أم ثقافية... إلخ.
والأخذ بالتطوير الشامل المدعوم بالتدريب العام والمتخصص يمكِّن الدولة، والشركة، والمنظمة، والفرد، من مواكبة التغيُّرات السريعة التي يشهدها عالم اليوم.(/11)
والتدريب هو استثمار حقيقي ومباشر يؤدي إلى تنمية الموارد البشرية؛ فكلما زاد استثمار الدولة - أو الشركة أو... - في تنمية مهارات الأفراد، ورفع مستوى كفاءتهم العلمية والعملية، ومن ثَمَّ الإنتاجية، مما يصب في النهاية في مجرى رفع مستوى معيشتهم؛ كلما ملكت عليهم أفئدتهم وعقولهم، وولائهم وانتمائهم، فضلاً عن امتلاكها لمهاراتهم التي أكسبتهم إياها ببرامج التدريب المدروسة والمفيدة.(/12)
العنوان: أهمية التربية الإسلامية في المحافظة على المال العام
رقم المقالة: 485
صاحب المقالة: عبدالرحمن صالح عبدالله
-----------------------------------------
ملخص البحث: تهدف الدراسة إلى معرفة بعض مظاهر الاعتداء على المال العام, والأسباب التي تؤدي إلى ذلك, ثم تحديد دور التربية في المحافظة على المال العام. فالدراسة معنية بتوضيح المفاهيم والاتجاهات والأساليب التي يمكن أن يتبعها المربون للمحافظة على المال العام، ولتحقيق هذه الأهداف استُخدم المنهج الوصفي التحليلي.
والمال في الاصطلاح: كل ما له قيمة, ويمكن حيازته والانتفاع به، وهو في الاصطلاح ما يتوافر فيه ثلاثة شروط، هي: أن يكون له قيمة, وأن يكون حيازة ذلك الشيء ممكنة, وأن يكون مما يُنتفع به. والمال العام هو ما تعود ملكيته إلى الأمة.
حددت الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة المال، ثم صنف من تعلق بهم المال في إحدى الفئات التالية: مؤمن, وكافر, وعام؛ أي لم يحدده النص، أما فيما يتعلق بالاتجاه نحو المال كما جاء في تلك الآيات, فقد صنف في إحدى الفئات التالية: اتجاه إيجابي, واتجاه سلبي, وسكوت عن الاتجاه؛ أي أن المال لم يُمدح، ولم يُذم.
لقد أثبتت نتائج الدراسات التي أجريت في عدد من الدول الغربية أن من بين العوامل المؤدية إلى الاعتذار: ضعف سيطرة الأسرة على أفرادها, وإضفاء صفة البطولة على بعض تصرفات المجرمين, وتعاطي المخدرات, وفقد بعض الطلاب الطموح للوصول إلى مستوى تحصيلي مناسب, وأوضحت الدراسة أهمية اكتساب الطلاب بعض المفاهيم الأساسية, مثل: المال العام, والاستخلاف والتسخير, والجزاء, والدولة, والعبادة.(/1)
ومراقبة النفس ومحاسبتها أهم قيمة ينبغي غرسها في النفوس، ولا بد أن يستشعر الفرد أن الله سبحانه وتعالى يراقبه في كل تصرف يقوم به. وهذا لا يتحقق إلا بتنوع أساليب التعليم والتعلم. وأبرزت الدراسة أهمية القدرة في تنمية قيمة المحافظة على المال العام.
مقدمة
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وكرمه, وهيأ له الأسباب التي تساعده على حمل الأمانة التي كلف بها، وكل إنسان يعيش في بيئة اجتماعية, وتحيط به بيئة طبيعية مسخرة له. قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي اْلأَرْضَ} [لقمان:20]. فهذه الآية الكريمة تبين أن كل ما في السماوات من شمس, وقمر, ونجوم, وكل ما في الأرض من معادن, وبحار, وأنهار, وثمار, هي لمنفعة الإنسان [1, ج1, ص159].
والإنسان لديه ميل فطري لامتلاك بعض ما يوجد في بيئته؛ فكل فرد من أفراد أي مجتمع من المجتمعات يميل لامتلاك بيت خاص به, ويجب أن يكون لديه مال ينفق منه على نفسه؛ لكنه في الوقت ذاته يشارك غيره استخدام أشياء أخرى لا تخضع للملكية الفردية, مثل الأنهار, وشواطئ البحار, والطرقات العامة. وقد يحسن المرء استخدام ماله الخاص, وما يشترك فيه من مال مع الآخرين, كما أنه قد يستخدمه بصورة سيئة. وهذا يعتمد على عوامل عدة، يأتي في مقدمتها نوعية التربية التي يتلقاها الفرد، فبعض السفهاء يبذرون أموالهم, ولا ينتفعون بها، ووصف القرآن الكريم المبذرين بأنهم إخوان الشياطين.
وهناك عدد أكبر من هؤلاء يقومون بالاعتداء على الممتلكات العامة التي يشترك المجتمع في الانتفاع بها، وظاهرة الاعتداء على الممتلكات العامة أو سوء استخدامها تنتشر في المجتمعات بدرجات متفاوتة، ولا يكاد يخلو منها مجتمع واحد، والاعتداء أو سوء الاستخدام قد يقع من أفراد ينتمون لفئات عمرية مختلفة؛ أي قد يقترفه الصغار والكبار، ويترتب على هذا الاعتداء خسارة كبيرة لأفراد المجتمع جميعاً.(/2)
لقد عُني المسلمون بتنظيم موارد الدولة منذ صدر الإسلام؛ وتجلى حرصهم في ظهور المؤلفات التي تبحث في هذا المجال, ومن هذه المؤلفات: كتاب الخراج لآبى يوسف القاضي المتوفى عام 182هـ / 798م, وكتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي المتوفى عام 203هـ / 818م, وكتاب الأموال لأبى عبيد القاسم بن سلام المتوفى عام 224هـ / 838م.
كما أن الدول المعاصرة تحرص على ضبط مواردها كي تنفق منها على المشاريع التنموية؛ ولهذا ازدادت أهمية التخطيط، وبخاصة في مجال الواردات والمصروفات، كما قامت الدول بسن تشريعات للمحافظة على وارداتها، وللمحافظة على ممتلكاتها.
ومع أن المحافظة على المال العام من القضايا المهمة التي تهم التربية, إلا أن الدراسات التي تبحث في هذا الموضوع في البلاد العربية شديدة الندرة، وبالرجوع إلى قاعدة البيانات التربوية ERIC اتضح أن مئات الدراسات أجريت في الغرب في السنوات الخمس الأخيرة؛ بينما لم أحصل بعد الاستعانة بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية - وهو مركز متخصص, وبه بنك معلومات إسلامي متميز – إلا على بضع دراسات؛ ولم يناقش أي منها البعد التربوي للقضية؛ ولهذا فإن مشكلة الاعتداء على المال العام مشكلة جديرة بالدراسة.
أهداف الدراسة
للدراسة مجموعة من الأهداف التي يمكن تحقيقها من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية:
1- ما مفهوم التربية؟
2- ما مفهوم المال؟
3- ما مفهوم المال العام؟
4- ما موقف الإسلام من المال؟
5- ما مظاهر الاعتداء على المال، وما أسبابه؟
6- ما المفاهيم التي يجب أن تغرسها التربية للمحافظة على المال العام؟
7- ما القيم والاتجاهات التي يجب تنميتها للمحافظة على المال العام؟
8- ما الأساليب التي يمكن اتباعها للمحافظة على المال العام؟
منهجية الدراسة(/3)
المنهج البحثي الملائم لتحقيق أهداف الدراسة هو المنهج الوصفي التحليلي، ويقوم هذا المنهج على وصف الظاهرة, وتحليلها إلى عناصرها المكونة لها, ثم استخلاص النتائج، ويظهر هذا المنهج بوضوح عند استقصاء مفهوم المال في القرآن الكريم, فقد حُددت الآيات القرآنية الكريمة التي ورد فيها ذكر كلمة المال، ثم حُدد من يتعلق به المال في كل آية, كما رُصد موقف القرآن الكريم من المال إيجاباً أو سلباً أو حياداً، وهذا التحليل ساعد على استخلاص مفهوم واضح للمال مشتق من الآيات القرآنية الكريمة.
مفهوم التربية
التربية عملية متكاملة، هدفها تنشئة الفرد تنشئة تشمل النواحي النفسية, والعقلية, والاجتماعية, والجسمية, وغيرها، والله سبحانه وتعالى رب العالمين, وهو مربي البشرية. وكلمتا الرب والتربية مشتقان من مصدر واحد؛ فمفهوم الربوبية يتضمن التربية والعناية بالإنسان [ا, ج1, ص56]؛ وفي هذا دلالة واضحة على عظم أهمية التربية. كما أن إشارة القرآن الكريم إلى تلقي آدم عليه السلام كلمات من ربه تدل على أن التربية التي عاشت في ظلها البشرية أولاً كانت تربية مهتدية.
ولقد نشأت فيما بعد مجتمعات انحرفت عن طريق الهداية, وتبنت نظريات تربوية خاصة بها، ولا مجال لمناقشة النظريات المتعددة في هذه الدراسة, ويكفي أن يشار إلى أن كل مجتمع يدين بعقيدة معينة، له نظريته التربوية الخاصة به المنبثقة عن تلك العقيدة، ولا يستطيع أي مجتمع أن يتبني النظرية التربوية لمجتمع آخر دون أن يتخلى عن عقيدته، أو يجري تحويراً فيها؛ فالتربية لا تستعار ولا تستورد؛ بل هي ذات صلة وثيقة بعقيدة المجتمع ومبادئه التي يؤمن بها، وهذا لا ينفي وجود نقاط التقاء بين النظريات التربوية, كما انه لا يتعارض مع تبادل الخبرات بين المجتمعات في المجال التربوي، فالأمة الحية هي التي تستفيد من خبرات غيرها؛ سواء أكان ذلك في المجال الصناعي, أم التجاري, أم التربوي.(/4)
والتربية لها أركان, من أهمها: المتعلم, والمنهاج, والمعلم. والمنهاج يقوم على أسس, هي: الأساس العقدي, والأساس النفسي, والأساس الاجتماعي, والأساس المعرفي. وتختلف نظرة المربين إلى مفهوم عملية التعليم التي تعد جوهر العملية التربوية، ويمكن تلخيص أبرز الاتجاهات فيما يلي:
1- الاتجاه المعرفي: الذي يركز على الطريقة التي تقدَّم بها المعلومات؛ فنقل المعلومات إلى الطالب أهم ما يجب أن يركز عليه المعلِّمون، ونجد داخل هذا الاتجاه أكثر من مدرسة؛ فبعض المربين يرى أن حشو أذهان الطلاب بأكبر قدر ممكن من المعلومات هو ما ينبغي عمله؛ بينما يرى آخرون أن على المعلم تقديم المعلومات وترك الطالب يتفاعل معها, ويختار ما يراه مناسباً منها، إنهم يعطون مجالاً أكبر للتفكير القائم على الاستبصار.
2- الاتجاه السلوكي: يركز أنصار هذا الاتجاه على تعديل السلوك من خلال ضبط المثيرات والاستجابات، فالمثير يحدث استجابة معينة؛ فإذا كانت الاستجابة مرغوباً فيها عززت، وقدم لها التدعيم المناسب دون تأخير, وإذا كانت غير مرغوب فيها عوقبت أو أهملت.
3- الاتجاه الاجتماعي: يرى بعض المربين أن التعليم في جوهره عملية اجتماعية؛ فهي تتم في وسط اجتماعي, وتهدف إلى إعداد الفرد كي يكون متوافقاً مع البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها؛ ولهذا لا يجوز أن تغفل التربية البعد الاجتماعي؛ وبخاصة الطريقة التي يتفاعل بها الطلاب مع بعضهم, ومع معلميهم.
4- الاتجاه الفردي: يرى أنصار هذه الاتجاه أن مشاعر الطالب واتجاهاته هي محور العملية التربوية, ولا يجوز أن يفرض عليه ما يتعارض مع اتجاهاته, أو ما لا يستطيع فهمه، ولهذا يركز المربون أصحاب الاتجاه الفردي على تفريد التعليم, ويعنون الفروق الفردية عناية كبيرة, ويطالبون أن يتقدم كل طالب في التعلم بالقدر الذي تسمح به قدراته [2, ص ص249 – 251].(/5)
إن النظرة المتأنية في الاتجاهات السابقة تقود إلى الاستنتاج بأن المعرفة, والسلوك, ورعاية مشاعر الفرد, والروح الاجتماعية لديه ليست اتجاهات متناقضة؛ بل هي مظاهر متعددة للعملية التربوية؛ فالمربي لا يحقق أهدافه إلا إذا كانت لديه معرفة يستخدمها لإحداث تغيير في أولئك الذين يشرف على تربيتهم، وهناك انسجام وتناغم بين الجانب الفردي والجانب الاجتماعي في النفس الإنسانية، وهذا يظهر بوضوح في قوله سبحانه وتعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [الأنفال:65]. فهذه الآية الكريمة تشير إلى عدد الكفار الذين يستطيع المؤمن مواجهتهم في ساحة القتال، فالمؤمن يستطيع أن يواجه عشرةً من الكفار؛ ولكن الخطاب جاء على صورة الجماعة؛ مما يدل على أن الفرد يستمد بعض خصائصه من الجماعة التي ينتمي إليها.
والسلوك هو المحصلة النهائية التي تهدف إليها التربية؛ فلا خير في معرفة لا تؤدي إلى عمل مفيد، ونجد في كثير من الآيات القرآنية ربطاً بين الإيمان والعمل الصالح، ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [سورة المؤمنون, الآيات 1-5]. فالعمل من مقتضيات الإيمان ولوازمه.
وهكذا يبدو واضحاً أن التربية عملية مقصودة, هدفها العناية بالإنسان الفرد, وبالمجتمع الذي يعيش فيه، وهي تسعى لإكساب الفرد سلوكاً مرغوباً فيه، والعلم الذي تقدمه التربية للمتعلمين علم نافع يؤدي لتعديل السلوك نحو الأحسن، ولكي يتضح مفهوم التربية؛ فإنه لابد من ذكر الحقائق التالية:
- ليست التربية مجموعة من المعارف والحقائق وحسب, وإن كانت هذه تدخل في العملية التربوية.(/6)
- ليست التربية مجرد نقل للمعلومات من الكتب أو أذهان المربين إلي الطلاب؛ وإن كانت تنطوي على اكتساب الطلاب معارف ومعلومات.
- ليست التربية مجرد عملية تحفيظ لنصوص معينة؛ وإن كان حفظ بعض النصوص من الأهداف التي تسعى إليها التربية.
- ليست التربية مجرد ضبط لسلوك الطلاب ضبطاً صارماً, فضبط السلوك لا يفرض على الطلاب فرضاً, كما أنه لابد من إدراك أن ضبط السلوك في الصف ليس هدفاً في حد ذاته؛ بل إجراء يقصد به توجيه الطلاب إلى القيم والمثل العليا.
- ليست التربية اهتماماً بالجانب الفردي في الإنسان على حساب الجوانب الأخرى, وهي ليست كذلك ترجيحاً للجانب الاجتماعي على الجانب الفردي؛ فالتربية الصحيحة هي التي توازن بين جوانب النفس الإنسانية؛ ولا تضحي بأي منها لصالح الجوانب الأخرى.
مفهوم المال
المال لغةً: ما يمتلكه الإنسان من أشياء, وجمعها أموال. وقد أطلق المال في الأصل على ما يمتلكه المرء من الذهب والفضة, ثم توسع المفهوم، ودخل فيه امتلاك الحيوانات وغيرها من المخلوقات [3, ج11, ص635 – 636], والمال في الاصطلاح: كل ما له قيمة, ويمكن حيازته والانتفاع به. وفي اصطلاح الفقهاء لا يعد الشيء مالاً إلا إذا توفر فيه ثلاثة شروط، هي:
1- أن يكون له قيمة؛ ولهذا يلزم كل من أتلف عن قصد شيئاً ذا قيمة دفع ثمن ما أتلف.
2- أن يكون حيازة ذلك الشيء ممكنة؛ ولذلك فإنه لا يعد الهواء وضوء القمر من الأموال.
3- أن يكون مما يُنتفع به؛ فكل ما لا ينتفع به, مثل لحم الميتة, أو الطعام الفاسد, لا يعد مالاً، أما الأنعام, وميتة السمك, وميتة الجراد, فإنها مال. ومن هنا يبدو بوضوح أن مفهوم المال مرتبط بالقيم التي يؤمن بها المجتمع؛ فالخنزير مال في المجتمعات غير الإسلامية التي تبيح أكله, وتستخدمه في أغراض متعددة منه، وهو خلاف ذلك في المجتمع الإسلامي الذي يعد أكله محرماً [4, ج4, ص40].(/7)
إن المال من الأسس المهمة التي تُبنى عليها الحضارات، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الأهمية الكبيرة للمال في قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [النساء: 5]. ولدى تفسير هذه الآية الكريمة ذكر أحد العلماء أن المال يساعد على تحقيق سعادة الإنسان, وبه يتقدم العلم, ويتحقق النصر على الأعداء [1, ج4, ص248]، فالإعداد للقاء الأعداء يحتاج إلى الأموال الكثيرة؛ وهذه الحقيقة تؤيدها من التاريخ الإسلامي وقائع معروفة؛ فقد تنافس الصحابة رضوان الله عليهم لتجهيز جيش العسرة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
والأمم المعاصرة التي تفتقر إلى المال تقع ضحية البنك الدولي والقروض الربوية؛ ولهذا نجد بعض دول العالم النامي عاجزة عن قيمة ربا القروض التي وقعت تحت وطأتها، وغير خافٍ أن المجتمعات الغربية استغلت حاجة بعض المجتمعات إلى الأموال؛ فربطت بين تقديم المساعدات ونشر معتقداتها, وأفكارها, وأهدافها السياسية، ولعل هذا هو الذي يفسر انتشار النصرانية في أوساط بعض المجتمعات في جنوبي شرقي آسيا.
ولابد من التأكيد هنا على أن الإقرار بأهمية المال لا يجوز أن يفهم منه القليل من أهمية الإيمان؛ سواء أكان ذلك في بناء الحضارة, أم في مجال التصدي للأعداء، وإذا كانت بعض الفلسفات التي اندثرت تعلل سير التاريخ الإنساني بالعوامل المادية؛ فإن الإنسان المسلم يرفض هذه النظرة الأحادية، إنه لا يغفل قيمة المال؛ ولكنه في الوقت نفسه لا يعده العامل الوحيد المفسر لقيام الأمم والحضارات؛ فالإيمان بالله سبحانه وتعالى يفجر من الطاقات ما تعجز عنه العوامل المادية كلها.
ويقسم الفقهاء المال تقسيمات عدة:(/8)
فالمال باعتبار مدى الانتفاع به يقسم إلى قسمين: مال متقوم؛ وهو كل ما أباح الشرع الانتفاع به, ومال غير متقوم؛ ويشمل كل ما لا يجوز الانتفاع به إلا في حالات الضرورة؛ مثل الخمر. والمال باعتبار استقراره في محله نوعان: عقار؛ وهو ما لا يمكن نقله من مكان لآخر؛ مثل الدور والأراضي, ومال منقول؛ وهو ما يمكن نقله من مكان لآخر؛ مثل النقود والسلع التجارية. والمال باعتبار بقاء عينه نوعان: استهلاكي، واستعمالي. والمال الاستهلاكي: هو المال الذي لا ينتفع به إلا باستهلاك عينة؛ مثل: الطعام والوقود. والمال الاستعمالي: هو الذي يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه؛ مثل: الدور والكتب [4, ج4, ص ص 43 – 54]. والمال باعتبار من يمتلكه نوعان: مال عام, ومال خاص.
مفهوم المال العام
المال الخاص: هو ما أعطي حق التصرف فيه لفرد أو مجموعة من الأفراد, والمال العام: هو ما تعود ملكيته إلى الأمة. وقد حافظ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أرض السواد – وهى الأراضي الخصبة المزروعة في جنوبي العراق – ولم يقسمها بين المسلمين؛ حتى تظل مورداً ثابتاً لبيت المال [5, ص60], ومن الأمثلة على المال العام في العصر الحديث: دخل الدولة من النفط أو الصناعات, والمرافق العامة التي تضعها تحت تصرف أبناء الأمة جميعاً؛ مثل المدارس, والمستشفيات, والطرقات العامة, والجسور, والقلاع, والحصون، فالمال العام يشمل أموالاً منقولة وأخرى غير منقولة [6, ص74]. والمال لا يكون عاماً إلا إذا توافر فيه شرطان, هما [7, ص ص 11 – 12]:
1- أن يكون خاصاً بالأمة أو الدولة.
2- أن يخصص للمنفعة العامة؛ فالأصل في المال العام أن يكون حقاً لجميع أفراد الأمة.(/9)
والمال العام يرتبط بمفهوم الدولة والوظائف التي تقوم بها؛ ففي العصور السابقة كان الأفراد يتولون مهمة التربية ونشر التعليم، وأخذ إشراف الدولة على التعليم يتزايد في القرون الأخيرة، وبخاصة بعد النصف الثاني من القرن العشرين، وأصبحت الدولة في معظم المجتمعات ملزمة بفتح المدارس، وتعليم أبنائها فترة زمنية محددة تطول أو تقصر بناء على عوامل عدة، منها مدى قدرة الدولة على الإنفاق. فمقدار المال العام الذي ينفق على المؤسسات التربوية في تزايد مستمر؛ وهذا ينطبق على مجالات أخرى مثل الطرقات والمستشفيات. فتعدد وظائف الدولة ونموها أدى إلى اتساع نطاق تعامل جمهور الناس مع المال العام.
ثم إن مفهوم المال العام يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة التي يؤمن بها مجتمع معين أو أمة معينة؛ ففي الفلسفة الاشتراكية يحتل المال العام مساحة واسعة مقارنة بالمساحة التي يحتلها في المجتمعات الإسلامية، أو تلك التي تؤمن بالنظام الرأسمالي، فالدولة في الفلسفة الاشتراكية التي مثَّلها الاتحاد السوفييتي قبل انهياره هي التي تملك المصانع والمزارع، أما في المجتمعات الرأسمالية الغربية فيعطى المجال واسعاً للجهد الفردي؛ ولهذا فإن ما يعد مالاً عاماً في دولة قد لا يكون كذلك في دولة أخرى.
ومهما كان نوع الفلسفة أو العقيدة التي تؤمن بها الدولة, فإنه لا مناص من قيام الدولة بسن تشريعات تكفل حسن استخدامه الأفراد للمال العام؛ فسلطات المرور تضع أنظمة وتعليمات تنظم مرور الشاحنات فوق الجسور, والسلطات المشرفة على الحدائق العامة تحدد ما ينبغي مراعاته, وما لا ينبغي عمله في هذه الحدائق. لكن الذي لابد منه هو عدم تعارض ما تسنه الدولة من تشريعات مع المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه المال العام، وهو المساواة بين الأفراد فيما يتعلق بحرية الانتفاع بهذا المال [8, ص 54].(/10)
وغني عن البيان أن حرية الأفراد في استخدام المال العام ليست مطلقة؛ فالحرية المطلقة تؤدي إلى خراب المال العام.
إن التفريق في المعنى بين مفهوم المال العام ومفهوم المال الخاص لا يقتضي وجود تعارض بينهما؛ فالمال العام ينتفع به أفراد الأمة جميعاً, وكأن كلاً منهم له حق فيه، والإنسان العاقل يحافظ على ماله الخاص وعلى المال العام، ولقد حث القرآن الكريم على عدم أكل أموال الناس بالباطل في قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 188]. ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على أموال الناس؛ والمال العام داخل بكل تأكيد في أموال الناس؛ لأن المال العام لمنفعتهم. وهذا الربط الجلي بين المال العام والمال الخاص لا نظير له في أية فلسفة من الفلسفات الوضيعة؛ ولهذا فإن التعرف إلى نظرة الإسلام إلى المال تزيد البحث جلاء ووضوحاً.
موقف الإسلام من المال
تكررت كلمة مال في القرآن الكريم ستاً وثمانين مرة في صيغة المفرد والجمع، وقد جاءت نكرة, ومعرفة بأل التعريف, ومضافة إلى ضمير المفرد الغائب "أمواله"، وضمير الجمع المخاطب "أموالكم"، وضمير الجمع الغائب "أموالهم"، وضمير الجمع المتكلم "أموالنا". كما أضيفت الكلمة إلى لفظ الجلالة في آية واحدة. واقترن المال بالبنين أو الأولاد في أكثر من ثلاثين آية قرآنية.
لقد أضيف المال إلى لفظ الجلالة "الله" في الآية (33) من سورة النور؛ وبالنظر في الآيات التي أضيف فيها المال للإنسان؛ يتبين أن من يتعلق به يقع في إحدى الفئات التالية: مؤمن, وكافر, وعام؛ أي لم يحدده النص.(/11)
أما فيما يتعلق بالاتجاه نحو المال كما جاء في تلك الآيات فإنه لا يخرج عن إحدى الفئات التالية: اتجاه إيجابي, واتجاه سلبي, وسكوت عن الاتجاه؛ أي أن المال لم يُمدح ولم يُذم، وجدول رقم 1 يبين عدد الآيات القرآنية لدى كل فئة من الفئات السابقة في كل من الاتجاهات الثلاثة.
جدول رقم 1:
الآيات القرآنية موزعة حسب الاتجاه والفئة
الفئة ... الاتجاه ... إيجابي سلبي ... غير محدد ... المجموع
مؤمن ... 38 ... 4 ... 4 ... 46
كافر ... 1 ... 31 ... - ... 32
عام ... 4 ... 3 ... - ... 7
المجموع ... 43 ... 38 ... 4 ... 85
يظهر من جدول رقم 1 أن ارتباط المال بالمؤمنين، هو الأكثر تكراراً مقارنة بالفئتين الأخريين؛ لوروده في ستة وأربعين موضعاً, وأن الاتجاه الذي نجده في القرآن الكريم نحو المال عند المؤمنين اتجاه إيجابي في أغلبيته، ومن المظاهر الدالة على الموقف الإيجابي نحو المال الذي ارتبط بالمؤمن ما يأتي:
1- يحرم القرآن الكريم أكل أموال اليتامى؛ وفي هذا حث للمحافظة على المال.
2- يباعد الله سبحانه وتعالى بين النار والمؤمن الذي ينفق في سبيل الله سبحانه وتعالى.
3- المؤمنون يجاهدون في سبيل الله سبحانه وتعالى بأموالهم وأنفسهم.
4- المال من أسباب قوامة الرجل على المرأة؛ فالرجل ملزم بتقديم المهر للزوجة, والإنفاق على أسرته [1, ج5, ص55].
5- الله سبحانه وتعالى يشتري المال من المؤمن بالجنة لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [سورة التوبة: 111].
6- ينهى الله سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [النساء: 5].(/12)
ومع أن معظم الآيات التي يتعلق المال فيها بالمؤمن تحمل اتجاهاً إيجابياً نحو المال؛ إلا أن بعضها يحمل اتجاهاً سلبياً؛ فالقرآن الكريم يحذر المؤمنين من تقديم حب المال على حب الله سبحانه وتعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم، والجهاد [انظر سورة التوبة, الآية 24] كما يحذرهم من فتنة المال والولد [انظر سورة الأنفال, الآية 28].
ولم يتحدد الاتجاه نحو المال في أربع من الآيات التي تتعلق بالمؤمن؛ فطالوت لم يؤت سعة من المال, وهود - عليه السلام - لا يسأل قومه مالاً لقاء دعوته إياهم إلى الإيمان, والله سبحانه وتعالى يبتلى المؤمن بالمال؛ أي أن المال وسيلة من وسائل الابتلاء [انظر سورة النساء, الآية 155].
وارتبط المال بالكفر اثنتين وثلاثين مرة في القرآن الكريم، والاتجاه الذي نجده في القرآن الكريم نحو ارتباط المال بالكافر إيجابي في آية واحدة, وسلبي في سائر الآيات الأخرى. فالله سبحانه وتعالى أورث المؤمنين أموال اليهود في المدينة المنورة؛ والمؤمن لا يرث إلا طيباً. أما المظاهر السلبية لموقف الكافر من المال فمتعددة, منها:
1- يغتر الكافر بالمال؛ ويبتعد نتيجة لذلك عن طريق الهداية؛ فالكافر يموت وهو منشغل بالأموال؛ فلا يفكر في مصيره بعد الموت.
2- يعطي الكافر نفسه حرية التصرف في المال؛ ولهذا فإنه يرفض كل نصيحة تقدم له وتتضمن حثاً على مساعدة الفقراء.
3- المال سبب في قلق الكافر في الحياة الدنيا وعدم راحته, ويوم القيامة يعذب بسببه [سورة التوبة, الآية 55].
4- يفقد المال الكافر القدرة على الرؤية الصحيحة للأحداث؛ ولهذا يظن أن ماله لن يزول, ويصبح المال ميزان المفاضلة عنده. ويظهر هذا بوضوح في قوله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } [الكهف: 34].(/13)
لم يرتبط المال في سبع آيات قرآنية بفئة محددة, بل ذُكر المال دون إضافة لأحد, أو أضيف للناس، وجاء الاتجاه نحو المال إيجابياً في أربع آيات, وسلبياً في ثلاثٍ منها. ومن الآيات التي تحمل الاتجاه الإيجابي قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم: 39].
فالقرآن يحث على المحافظة على أموال الناس, ويحذر من أكل الربا. ثم إن كثيراً من الرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل [انظر سورة التوبة, الآية 34ٍ]. أما الآيات التي تحمل الاتجاه السلبي فتشير إلى أن الحياة الدنيا بما فيها من أموال وأولاد لهو ولعب وزينة [انظر سورة الحديد, الآية 20]؛ فالمال في الآخرة لا ينفع إلا من أتى الله بقلب سليم [انظر سورة الشعراء: الآية 88].
إن موقف الإسلام من المال واضح لا غموض فيه؛ فالمال ليس شراً يجب على المؤمن محاربته أو الخلاص منه؛ كما أنه ليس هدفاً في حد ذاته يستحق أن يعمل الإنسان من أجله جل حياته، إنه وسيلة تعين الإنسان على الحياة, ونعمة من الله سبحانه وتعالى تستحق الشكر والعبادة.
والمال له بعد نفسي؛ فقد يولِّد في النفس اتجاها إيجابياً, أو اتجاها سلبياً؛ ولهذا يجدر بالإنسان أن لا ينسيه المال الحقائق الجلية, وأن لا يتخذه هدفاً. فالمال يكتسب بالطريق الحلال؛ ولا يصح اكتسابه بطرق تنطوي على الظلم, مثل أكل مال الناس غصباً, أو عن طريق الربا.(/14)
والإسلام يحافظ على المال سواء أكان المال مالاً عاماً أم خاصا، ومن الأدلة على حرص الإسلام على المال الخاص قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) [9, ج3, ص1329]. فمن الواضح إذن حرمة المال، وقد قرر الإسلام عقوبات على كل من يتعدى عليه بالسرقة, أو الغصب, أو الغش.
والمال في الحقيقة لله سبحانه وتعالى, ومصداق ذلك قوله سبحانه وتعالى: {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [سورة المائدة: 120]. فالإنسان ليس مالكاً حقيقاً للمال؛ بل هو مستخلف فيه بنص القرآن الكريم: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد: 7]. فالإنسان المؤمن يتصرف في المال وفق ما شرعه الله سبحانه وتعالى، وكون الإنسان مستخلفاً في المال لا يعني نزعه منه دون مبرر؛ إذ لم يحدث في تاريخ الإسلام أن أُخذ مال غني بغير رضاه وأعطي لفقير [4, ج5, ص516].
ومع هذا فالمال له بعد اجتماعي؛ لآن المال مال الله, والناس عباد الله؛ ولهذا وجب الإنفاق من المال على أبناء المجتمع حتى لو كان خاصاً، لكن هذا لا يتم قسراً, أو عن طريق المصادرة, أو إلغاء الملكية الخاصة؛ ولكنه وفق ما شرعه الله من تربية النفس على البذل والعطاء، فالمؤمن ينفق من أمواله بالليل والنهار سراً وعلانية. وفي ظل هذه النظرة الوسيطة للمال في الإسلام تنتفي أسباب الصراع بين الفقراء والأغنياء, ولا يتكدس المال في أيدي فئة قليلة تتخذه وسيلة لقهر غيرها من أفراد المجتمع؛ فيشعر كل فرد أنه آمن على ماله.
مظاهر الاعتداء على المال العام وأسبابه(/15)
الاعتداء على المال العام ظاهرة غير محصورة في فئة عمرية معينة, وهى موجودة في المجتمعات الغنية والفقيرة على حد سواء، ويتخذ الاعتداء على المال العام أشكالاً متعددة, منها:
1- الإتلاف: قد يقوم بعض أفراد المجتمع بتخريب المباني والحدائق وأثاث المدارس بصورة متعمدة، ويتخذ التخريب صوراً متعددة, منها: تشويه منظرها بالكتابة عليها, أو كسر النوافذ الزجاجية منها, أو إتلاف الأشجار.
2- الاستيلاء: ويقصد به أن يضم شخص بصور مباشرة جزءاً من المال العام إلى ماله الخاص، ويكون الاستيلاء بطرق متعددة, منها: الاختلاس، والنصب، والاحتيال، وقد يكون الاستيلاء بطريقة غير مباشرة؛ كأن يسهل لشخص آخر الحصول على المال العام مقابل الحصول على جزء منه [10, ص ص 62 – 63].
3- الغش: وأكثر ما يكون هذا في تنفيذ العقود المتعلقة بالمال العام؛ فبعض الشركات التي تقوم بتنفيذ عقود المقاولات والأشغال العامة لا تفي بالشروط التي يتم الاتفاق عليها، ويزداد الغش كلما قلت الرقابة على تنفيذ تلك العقود. ومما يساعد على الغش تقديم الرشوة للموظف المسؤول عن مراقبة التنفيذ، ولا جدال في أن انتشار الرشوة يضر بالمال العام ضرراً كبيراً [11, ص217]؛ ولهذا جاء تحذير الإسلام من الرشوة, وتهديد الراشي والمرتشي من عذاب الله يوم القيامة.
4- الإهمال: قد يرتكب الموظف في حق المال خطأً تترتب عليه جوانب جسيمة تضر بذلك المال، ويقصد بالإهمال عدم بذل المسؤول الجهد الذي يتطلبه عمله أو وظيفته، فالحارس المسؤول عن حراسة المبنى المدرسي يعد معتدياً على المال العام إذا ما أهمل في أداء وظيفته, وترك المدرسة دون حراسة معظم ساعات اليوم.(/16)
من الواضح أن الأطفال وطلاب المدارس لا يقومون باعتداءات على المال العام عن طريق الاستيلاء أو الغش في تنفيذ العقود أو الإهمال؛ لأنهم ليسوا في موضع السلطة، لكنهم قد يعتدون على المال العام عن طريق الإتلاف والتخريب، وهذا ما أشارت إليه دراسات عدة أجريت في أكثر من قطر؛ فقد أجرت دائرة التربية في كاليفورنيا عام 1996م دراسة عن السلامة في المدارس هدفت إلى معرفة الجرائم التي يرتكبها الطلاب في أربعة مجالات، هي: الاعتداء على الممتلكات العامة, والاعتداء على الأشخاص, والجرائم المتعلقة بالمخدرات والمسكرات, وجرائم أخرى، وأظهرت نتائج الدراسة أن الجرائم المتعلقة بالاعتداء على الممتلكات العامة كانت الأكثر شيوعاً؛ إذ بلغت نسبتها 34% من مجموع الجرائم، وكان معدلها 4.1 جريمة لكل ألف طالب وطالبة. وضمن فئة الاعتداء على الممتلكات, كان التخريب المتعمد الأكثر شيوعاًً؛ إذ بلغت نسبته 1.7 جريمة لكل ألف طالب [12]. وأظهرت دراسة أخرى أجريت في كندا عام 1995م أن ملايين الدولارات تنفق سنوياً على إصلاح الممتلكات العامة؛ نتيجة للاعتداء المتعمد من جانب الطلاب [13]. وفي دراسة أجريت في بريطانيا, وزعت استبانة على 225 كلية, وأجاب عنها حوالي نصف هذه الكليات، وقد أفادت 109 من الكليات أنه وقع بها سرقات واعتداءات على الممتلكات [14].
ولمعرفة بعض العوامل التي تدفع الطلاب إلى الاعتداء على المال العام أجريت دراسة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1992م، وأظهرت نتائج الدراسة أن من بين العوامل المؤدي إلى الاعتداء: ضعف سيطرة الأسرة على أفرادها, وإضفاء صفة البطولة على بعض تصرفات المجرمين, والأثر الذي يتركه رفاق السوء, وانتشار ظاهرة السكر وتعاطي المخدرات بين الطلاب, وضعف الطموح لدى بعض الطلاب للوصول إلى مستوى تحصيلي لائق [15].(/17)
وتظهر الإحصاءات الصادرة عن المركز القومي للإحصاءات التربوية الأمريكية عام 93/1994م أن نسبة حدوث الاعتداء على الأشخاص والممتلكات في المدارس الابتدائية أقل مما هو عليه الحال في المدارس الثانوية، كما تظهر الإحصاءات أن الاعتداء يتناقص كلما تم الانتقال من المدن إلى الضواحي، ثم إلى المناطق الريفية [16].
ولمعرفة أثر جنس الطالب (ذكر/ أنثى) على تخريب الممتلكات في الجامعات أجريت دراسة في الولايات المتحدة عام 1997م, وأظهرت نتائج الدراسة أن الذكور أكثر ميلاً للاعتداء على الممتلكات من الإناث [17].
يبدو مما تقدم أن البيئة الأسرية غير المناسبة, وأقران السوء, وبعض العوامل المتعلقة بالمناخ المدرسي تؤثر سلباً في الطلاب, وتدفعهم إلى الاعتداء على الممتلكات العامة؛ فالطالب الكسول أو المنبوذ من قِبَل الرفاق أو المعلمين يجد في الاعتداء على ممتلكات المدرسة وسيلة للتنفيس عن حالة الإحباط التي يعيشها.
وغني عن البيان أن الجهل وعدم إدراك المعتدي أهمية المال العام يساعده على الاعتداء، إنه يجهل أن هذا المال ينفق منه على أفراد المجتمع, وأنه شخصياً يستفيد من هذا المال, كما أنه شخصياً يلحقه الضرر نتيجة للتلف الذي يحدث, والأموال التي تنفق لإصلاح التلف.
وبعض البالغين في المجتمع قد تكون لديهم المعرفة الكاملة لأهمية المال العام؛ لكنهم مع ذلك لا يترددون في الاعتداء عليه، ومن الأسباب التي تدفعهم إلى ذلك ضعف الرقابة على المال العام, وضعف العقوبات التي تفرض على كل من يتعدى عليه؛ ولهذا لابد لكل مجتمع يرغب في المحافظة على المال من سن التشريعات التي تكفل الحفاظ عليه.(/18)
وربما كان لظاهرة الاعتداء على المال العام بُعْد سياسي؛ فقد خضعت أجزاء كبيرة من العالم العربي لسيطرة الدول الاستعمارية, وحدثت حروب ومواجهات بين سكان البلاد والسلطات المستعمرة، والعداء بين سكان البلاد والدولة المستعمرة جعل السكان ينظرون إلى مال الدولة على أنه مال مباح؛ لهذا نسمع في بعض البلاد العربية هذه العبارة: "هذا مال دولة"، ويقصد بذلك تبرير الإضرار به، أو الاعتداء عليه!! وواجب المربين ترسيخ مفهوم الدولة الحديثة في أذهان الناشئة، ومما يؤسف له أن القمع والاستبداد الذي مارسته بعض الدول الوطنية الحديثة في العالم العربي يحول دون تغيير مفهوم الدولة الموروث من عهود الاستعمار، ولابد من تحسين العلاقة التي تربط الدولة بالمواطن؛ حتى يحدث تغيير في اتجاهات المواطن نحو الدولة ومؤسساتها, ومالها.
المفاهيم التي تغرسها التربية
تستطيع المؤسسات التربوية أن تحد من ظاهرة الاعتداء على المال العام إذا ما أكسبت أفراد المجتمع في أثناء سنوات الدراسة وما بعدها بعض المفاهيم الأساسية, ومن أبرز هذه المفاهيم:
1- المال العام: كل ما تحوزه الدولة, وله قيمة, ويعود نفعه لأفراد المجتمع.
2- الاستخلاف: عمارة الأرض وفق ما شرعه الله سبحانه تعالى، وقد شرف الله سبحانه تعالى الإنسان بهذه الوظيفة دون سائر المخلوقات, ووهبه من الخصائص ما يعنيه على أداء مهام الخلافة؛ ومن هذه الخصائص القدرة على التعلم، وحرية الإرادة, والعقل، فالخليفة يعرف كيف يتعامل مع كل ما يحيط به بما في ذلك المال العام.
3- التسخير: التسخير لغةً القهر والتذليل, ومعنى هذا أن الأشياء على هذه الأرض والكواكب والنجوم لا تملك إلا أن تكون لصالح الإنسان وخدمته، فمفهوم التسخير يدل على أن سائر المخلوقات هي في خدمة الإنسان, وهو مطالب بأن يعرف كيف يحصل على ما يفيده منها، والمال العام من بين الأمور المسخرة للإنسان.(/19)
4- الجزاء: المكافأة على التصرفات التي تصدر عن الأفراد, ويكون ثواباً في حالة التصرفات الخيرة, وعقاباً في حالة التصرفات التي تنطوي على شر, وإضرار بالفرد والمجتمع.
5- الدولة: مجموعة من الأفراد تقيم في إقليم معين, وتربط بين أفرادها أواصر عديدة يأتي في مقدمتها الدين, واللغة, وتتمتع بالاستقلال والسيادة، ولها أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية الخاصة بها.
6- الضمير: قوة داخلية تنمو مع نمو الفرد, والضمير رقيب داخلي يعمل على إبعاد صاحبه عن اقتراف الأعمال غير المرغوب فيها, وتوبيخه في حالة إقدامه على ذلك، والنفس اللوامة التي أقسم بها الله سبحانه تعالى هي هذا الرقيب الداخلي الذي يغني في حالة اكتماله عن الحاجة للرقابة الخارجية.
7- العبادة: اسم جامع لما يحبه الله سبحانه تعالى ويرضاه؛ وبهذا فإن الصلاة عبادة, والصيام عبادة, والمحافظة على الأثاث, والمحافظة على المال العام عبادة.
8- الوسطية: وسط الشيء أعدله وأفضله؛ لقوله سبحانه تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [سورة البقرة: 143]. فالوسطية خاصية من خصائص الأمة الإسلامية التي تدل على حسن التصرف في كل موقف من المواقف. والأمة الوسط تبتعد عن التبذير والإسراف, وتحافظ على المال العام, ولا تنفقه إلا في الأوجه المشروعة.
إن اكتساب الطلاب لهذه المفاهيم الأساسية مقدمة لا غنى عنها إذا ما أريد لهم أن يحسنوا التعامل مع المال العام، وهذه المفاهيم المجردة لا تؤتي أكلها إلا إذا غرست معها مجموعة من القيم والاتجاهات في نفوس الطلاب.
القيم والاتجاهات التربوية(/20)
اكتساب المفاهيم الأساسية المتعلقة بالمال العام أهداف مهمة لا غنى عنها إذا ما أريد تربية الفرد الصالح الذي يحافظ على المال العام؛ لكنها ليست الأهداف الوحيدة؛ فهناك مجموعة من القيم والاتجاهات التي ينبغي غرسها في الأفراد. ومع أن القيم ترتبط بالمفاهيم ارتباطاً قوياً, إلا أنها مختلفة عنها؛ فالطبيب الذي يدخن السجائر يعرف أضرارها؛ ولكن الاتجاهات الإيجابية نحو التدخين ليست قوية بالقدر الذي يبعده عن هذه العادة الذميمة التي تلحق ضرراً بصحته. فالتربية معنية بغرس القيم والمحافظة عليها؛ إذ تشكل القيم والاتجاهات أحد المجالات المهمة لأهداف كل منهاج تربوي، وفيما يلي أهم القيم التي توجه صاحبها للمحافظة على المال العام:
1- أن يستشعر أن الله سبحانه تعالى يراقبه في كل تصرف يقوم به؛ ويدخل في ذلك طريقته في التعامل مع المال العام.
2- أن يحافظ على بيئته التي يعيش فيها, وأن يتجنب إلحاق الضرر بها, سواء أكان ذلك في مجال المال العام أم المال الخاص.
3- أن ينهج في تصرفاته منهجاً وسطاً؛ كأن يحرص على ترشيد الاستهلاك, وتجنب الإسراف.
4- أن يتخير الأصدقاء الذين يعينونه على أداء الأعمال الصالحة, وأن يحذر من أصدقاء السوء.
5- أن يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح, والمعلمين, وكل من يعرف بحسن التصرف في الأقوال الأفعال.
6- أن يعتقد بأن الله سبحانه تعالى يحاسب الإنسان يوم القيامة على كل ما يصدر عنه من أعمال، وهذا الاعتقاد الجازم رادع للمرء من الاعتداء على المال العام, وحافز قوى للمحافظة عليه، فالخوف والرجاء كجناحي طير؛ لا تستغني التربية عن واحد منهما.
7- أن يعتقد بأن المجتمع المسلم كالجسد الواحد, فكل اعتداء على عضو يؤثر على سائر الأعضاء الأخرى، والاعتداء على المال العام يؤثر سلباً على كل المؤسسات التي تشرف عليها الدولة؛ خدمةً لأفراد المجتمع جميعاً.(/21)
8- أن يعوِّد نفسه على الطاعات, وأن يحارب الأهواء والرغبات؛ وهذا لا يكون إلا بالتدرج.
9- أن يحاسب نفسه على التصرفات التي تصدر عنه عندما يتبين أنها تضر بالمصلحة العامة, وأن يندم على ما بدر منه.
10- أن يعتذر عن التصرفات التي يقوم بها وتلحق الأذى بالآخرين أو بالمال العام, وأن يعيد ما أخذه من المال العام، ويدفع قيمة ما ألحقه من أذى, وأن يعلن ندمه على ذلك, وعزمه على عدم تكرار ما صدر عنه من مخالفات.
إن هذه المنظومة من القيم النابعة من العقيدة الإسلامية كفيلة بتربية الإنسان الصالح؛ هذا الإنسان الذي يراقب نفسه، ويشعر أن الله سبحانه تعالى يراقبه، هذا الإنسان الذي يؤمن بأن الحياة الدنيا مزرعة للآخرة؛ فيقبل على عمل الطاعات, وتجنب المنكرات.
ولعل الخواء الروحي, وسيطرة الفلسفات المادية في كثير من المجتمعات المعاصرة, وضعف الوازع الديني هي التي تقف وراء الاعتداء على المال العام؛ سواء أكان ذلك عن طريق الرشاوى, أم الاختلاسات, أم غير ذلك. ويعجز كل مجتمع من المجتمعات المعاصرة عن تعيين مراقبين أو رجال شرطة لمراقبة المواطنين جميعاً، وحتى لو نجح مجتمع في ذلك؛ فلن ينجح في تعيين مراقبين لمراقبة المراقبين، وهذا يجعل الرجوع إلى العقيدة الصحيحة مفتاح الحل الأمثل لهذه المشكلة.
الأساليب التربوية
يعتمد اكتساب المفاهيم والقيم والاتجاهات التي سبق ذكرها على استخدام أساليب تربوية ملائمة، ومن أبرز الخصائص التي تتصف بها تلك الأساليب أنها متنوعة؛ فالمربون يمكنهم توظيف الأسلوب القصصي, وأسلوب المناقشة الذي يعتمد على الاستقراء, والأسلوب الاستقصائي الذي يقوم على جمع المعلومات من مصادر متعددة، وكلما تعددت الأساليب التربوية أصبح الوصول إلى الهدف المنشود أكثر قرباً, وأسهل منالاً.(/22)
وعلى المربين اختيار الأسلوب الملائم للمرحلة العمرية للطلاب، فتلاميذ الصفوف الأولى يناسبهم ذكر قصة الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الذي بعث غلامه ليشوي له لحماً, فجاءه بها سريعاً مشوية, فسأله: أين شويتها؟ فأجاب الغلام: في المطبخ. فسأل: في مطبخ المسلمين؟ فأجابه الغلام: نعم. قال: كلها؛ فإني لا أريدها [18, ج9, ص210]. أما طلاب الجامعات فقادرون على استخدام الأسلوب الاستقصائي أكثر من غيرهم؛ نظراً لعوامل عديدة، منها: توافر مصادر المعرفة من مراجع وشبكة معلومات في مكتبات الجامعات, وقدرتهم على التلخيص, والتنظيم, ومقابلة الأدلة, وترجيح الدليل الأقوى.
والأسلوب التربوي الملائم لإكساب الطلاب المفاهيم والاتجاهات السليمة نحو المال العام يقدم للطلاب معرفة صحيحة, ويحرك عواطفهم وانفعالاتهم؛ فالطريقة الناجحة لا تقتصر في خطابها على الجانب العقلي من الشخصية الإنسانية؛ بل تُعنى بالجانب النفسي، والمربي الذي يرغب في تنفير الطلاب من الاعتداء على المال العام يمكنه أن يقدم الحديث الشريف التالي، ويشرحه شرحاً وافياً:
جاء في كتاب هدايا العمال في صحيح الإمام البخاري: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من بني أسد على صدقه, فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ. فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، وحمد الله سبحانه تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي ويقول: هذا لك ،وهذا لي؟! فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيُهدى إليه أم لا؟! والذي نفسي بيده, لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته؛ إن كان بعيراً له رغاء, أو بقرة لها خوار, أو شاة تيعر. ثم رفع يديه وقال ثلاثاً: ألا هل بلغت؟!)). [9, ج4, ص2243].(/23)
فهذا الحديث الشريف يبين المصير البشع يوم القيامة لمن يعتدي على المال العام, إنه يفتضح أمره على رؤوس الأشهاد، وكل عاقل يفكر في هذا المصير لا يجرؤ أن تمتد يده إلى المال العام؛ فالعواطف والانفعالات التي يولدها الحديث الشريف تدفع صاحبها بعيداً عن العدوان على المال العام, وتحصنه من الوقوع في الإثم.
والأساليب التربوية الفعالة التي تراعى جوانب الشخصية الإنسانية كلها تستثمر قابلية الإنسان للتعلم باستخدام الثواب والعقاب. وكل نظام تربوي يغفل العقاب، أو يسيء استخدامه يعوق نمو القيم عند الطلاب، وليس معنى هذا أن يسود الإرهاب, وأن تعتمد التربية الأساليب القمعية، فالجزاء من جنس العمل, والذي يحسن التصرف يكافأ على ما يصدر عنه, والذي يعتدي على المال العام ينبه إلى خطئه أولاً, ثم يعاقب عقوبات تلائم مستوى الاعتداء، وعمر المعتدي ودوافعه، ولكن علينا أن ندرك أن حماية الأفراد من الوقوع في الخطأ تسبق إيقاع العقوبة؛ ولهذا لابد من وجود توعية كافية في جميع المراحل التعليمية، تهدف إلى التعريف بأهمية المال العام، وسبل المحافظة عليه, والآثار الاجتماعية والاقتصادية التي تترتب على الاعتداء عليه.
والأسلوب التربوي الذي يبالغ في التساهل مع المخالفين بدعوى مراعاة نفسية الفرد يسهم في إيجاد جيل متمرد؛ أما الأسلوب الذي يبالغ في الزجر والتخويف فيسهم في إيجاد جيل مقهور، لا يستجيب إلا للمثيرات التي ترد إليه من الخارج.
والأساليب التربوية الملائمة تمتاز بقدرتها على حفز الطلاب للارتقاء في أهدافهم, وبلوغ الدرجات العلى، فالأسلوب التربوي الناجح لا يكتفي بتزويد الطلاب بالحقائق المتعلقة بالمفاهيم المرغوب فيها, بل يولد فيهم الدافعية لمزيد من التعلم، ومن تنمو لديه الدافعية للتعلم يصبح أكثر قدرة على التعلم الذاتي، ومن تنمو لديه القدرة على التعلم الذاتي يتفوق على نظرائه الذين يفتقرون إلى هذه القدرة.(/24)
ونظراً لتباين قدرات الطلاب العقلية؛ فإن الاهتمام بالتعلم الذاتي يصبح مطلباً ملحاً، ويمكن أن توجه التربية الطلاب للإفادة من التقانات التربوية، والطفرة الحالية التي يشهدها العالم في مجال المعلومات.
ويمكن للطالب أن يزداد دراية بالمعرفة عن المال العام من خلال الاطلاع على الدراسات التي تعرض على شبكة الإنترنت، فالتعلم الذاتي, والتقانات الحديثة, والثورة في عالم المعلومات عوامل تساعد على توسيع مدارك الطلاب, وتمكنهم من إجراء مقارنات بين مدى الاعتداء على المال العام في أكثر من بلد من بلدان العالم، وهذا من شأنه أن يساعد على تشكيل الاتجاهات السليمة, وتنمية العمليات العقلية العليا.
يضاف إلى ذلك أن الجو العام الذي تهيئة المؤسسات التربوية جزء لا يتجزأ من الطريقة، فالقدوة أسلوب تربوي شديد التأثير، والطلاب الكبار يعدون قدوة لمن هم أصغر منهم سناً.
والمناخ الذي يوفر للطلاب جواً من الحرية أكثر ملاءمة من مناخ قائم على الاستبداد؛ ففي أجواء الحرية يسأل الطلاب عن هذه المشكلة أو تلك؛ وهذا ما قد يجنبهم الوقوع في الخطأ، أما الأجواء غير المناسبة فتصيب الطلاب بحالة من الإحباط, ولهذا يلجأ هؤلاء إلى التنفيس عن الإحباط بالاعتداء على ممتلكات المدرسة من أثاث وأجهزة, وغير ذلك.
وأخيراً... فإنه يجدر التذكير بأن فاعلية الأساليب التربوية تقاس بمدى قدرتها على تحقيق الأهداف، ومن الأهداف الأساسية للتربية تنمية الضمير الداخلي في الفرد؛ كي يكون رقيباً على الفرد ذاته، وبلوغ درجات الإحسان هدف يجب أن يضعه نصب عينيه كل تربوي مخلص لله سبحانه وتعالى، ويجب أن تقاس فاعلية الأساليب التربوية بمدى نجاحها في تقريب الطالب إلى هذا الهدف الذي يمثل قمة العبادة بمعناها الشامل.
الخاتمة(/25)
الإنسان مستخلف في هذه الحياة الدنيا, والمال من بين المخلوقات التي سخرها الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان، والمحافظة على المال العام قيمة مهمة يمكن غرسها في الطفل وهو في سنواته الأولى؛ أي قبل الالتحاق بالمدرسة، وتنمو هذه القيمة للفرد كلما انتقل من مرحلة لأخرى في التعليم العام والتعليم الجامعي؛ بل يستمر نموها ما دامت الحياة.
ونمو هذه القيمة على النحو المطلوب يقتضى تعاون المؤسسات التربوية وتكاملها في هذا المجال؛ فالأم التي تزجر ابنها عندما يكسر غصن شجرة في حديقة عامة؛ تحرص على تربيته على المحافظة على المال العام، ومؤسسة التلفزيون التي تعرض فلماً يمجد الجريمة والاعتداء على ممتلكات الدولة؛ مقصرة في أداء واجبها، ورجل الشرطة الذي يضع علامات تحدد الحد الأعلى لحمولة الشاحنات التي تمر فوق جسر معين؛ يدرك أهمية المحافظة على الممتلكات العامة.
وحتى تكون كل مؤسسة تربوية قادرة على أداء وظيفتها على الصورة المثلى لابد لها من تحديد الأهداف التي تريد الوصول إليها, والأساليب التي تعينها على ذلك. فالمؤسسة التعليمية - على سبيل المثال - تحرص على أن تكون بين أهداف المنهاج أهداف تتعلق بالمحافظة على المال العام, وتضع من بين مفردات المنهاج مفاهيم مرتبطة بتلك الأهداف, وتختار الأساليب التعليمية التي تلائم عمر الطلاب، والوقت المتاح للتعلم.(/26)
إن الإنسان حر التصرف في ماله الخاص؛ ولكن تلك الحرية ليست مطلقة، ومن باب أولى أن لا تطلق يده لدى التعامل بالمال العام، وعلى الذين تقع تحت تصرفهم أموال عامة أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في تلك الأموال, وأن يتذكروا تحذيرات نبيهم من افتضاح أمرهم يوم القيامة, وعليهم أن يقتدوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبالسلف الصالح من أمثال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، الذي تمثل شفافيته في نظرته إلى المال العام منزلة عالية، لقد كان يطفئ الشمعة التي تصرف له من بيت مال المسلمين بعد الانتهاء من النظر في أمور المسلمين, ثم يضئ شمعة من ماله الخاص بعد ذلك.
المراجع
[1] الزحيلي, وهبة. التفسير المنير. بيروت ودمشق: دار الفكر, (1411هـ / 1991م).
[2] Schubert, W, Curriculum. New Yurok and London: Collier and Macmillan, 1986.
[3] ابن منظور, أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم. لسان العرب. بيروت: دار صادر, د. ت.
[4] الزحيلي, وهبة. الفقه الإسلامي وأدلته. بيروت ودمشق: دار الفكر, 1404هـ / 1984م.
[5] القرشي, يحيي بن آدم. كتاب الخراج. تحقيق حسين مؤنس. القاهرة: دار الشروق, 1987م.
[6] حمدان, مازن. "تحريم التلاعب بالمرافق والممتلكات العامة." مجلة الهداية، مجلة إسلامية تصدرها وزارة العدل والشؤؤن الإسلامية بدولة البحرين, 202 (ذو الحجة / يونيو 1994م), 74 – 76.
[7] أبو زيد, محمد عبد الحميد, حماية المال العام: دراسة مقارنة. القاهرة: دار النهضة العربية, 1978م.
[8] أبو زيد, محمد عبد الحميد. استعمال الجمهور للمال العام. مجلة الأمن العام: المجلة العربية لعلوم الشرطة, مجلة تصدرها جمعية نشر الثقافة لرجال الشرطة, القاهرة, 87 (ذو القعدة 1399هـ أكتوبر 1979هـ), 53 – 60.
[9] البخارى, أبو عبد الله محمد بن إسماعيل. صحيح البخارى. مراجعة محمد على قطب وهشام البخارى. بيروت: المكتبة العصرية, 1417هـ/ 1997م.(/27)
[10] طاهر, مصطفى. "الحماية الجنائية للمال العام." مجلة الأمن العام, 044 (شوال 1388هـ / يناير 1969م), 59 – 68.
[11] العمروسي, أمجد. جرائم الأموال العامة. الإسكندرية: دار الفكر الجامعي, (1991م).
[12] California State Department. "Promoting Safe Schools. "Presenting the Results of the 1995 – 96 California State Schools Assessment – ERIC Document ED 406736.
[13] Cooze,J. "Curbimng the Cost of School Vandalism" Education Document, EJ 523573.
[14] Further Education Development Agency – Bristol F E Matters, 1 no. 19, (1977).
[15] Benson, P., and E. Roehikepartain. "Youth Violence in Middle America. "Midwest Form, 3, on. (1993) (1993), ERIC Document 384478.
[16] Shen, J. "The Evolution of Violence at Schools. "Educational Leadership, 55, on. 2 (1997), ERIC document EJ 551999.
[17] Bennett, j. "An Introduction to the Developmental Student and Antisocial Behaviors on the College and University Campus. " Educational Research Quarterly, (1977) ERIC document EJ 554756.
[18] ابن كثير, أبو الفداء الدمشقي. البداية والنهاية. تحقيق أحمد أبو ملحم وزملائه. ط3. بيروت: دار الكتب العلمية, 1407هـ / 1987م.(/28)
العنوان: أوَ مضى العام ؟
رقم المقالة: 337
صاحب المقالة: مروة يوسف
-----------------------------------------
عندما أسدل الليل ستاره كنت كعادتي أتململ في سريري ..يا إلهي لقد عاودني الأرق ..
أخذني التفكير بعيداً ..
في كل شيء.. في حالي ..
في أمنيَّاتي التي كنت أحلم بها في بداية هذا العام ..
يا الله .. كانت كثيرة ..
تذكرت أحوال أمتي ..
وتذكرت أحوالي مع الله .. تذكرت وتذكرت .. يا إلهي فزعت من مكاني وقد شدني صوت من أعماقي ...لقد مضى عام ...
أسرعت إلى المرآة أنظر إلى ملامح وجهي .. هل تغيرت ؟
لقد كبرت عاماً كاملاً
أبدو شاحبة .. نعم لقد فات موعد نومي
لا بد أني مرهقة ..
لملمت ذكرياتي وقد تبعثرت في أرجاء غرفتي ..
هُرعت إلى الشرفة ..
وكأن روحي قد أبحرت مغادرة ميناء قلبي .. وأخذت تحلِّق في سماء هذا الليل الذي ما أراه يزداد إلا سواداً ..
وأخذت أطير مع روحي على أرجوحة ذكرى ذلك العام المنصرم ..
ولكنها ليلة غير مقمرة , نعم لماذا هي متسربلة بهذا السواد الكئيب؟؟!! ..
وتبدو أكثر ظلاماً .. حتى من غيرها ..
شعرت بخوف ..
تسارعت نبضاتُ قلبي حتى شعرت به وكأنه يخفق في أذني
بل كاد أن يغص به حلقي!! ..
وسرت برودة عجيبة في أطرافي ..
أول مرة أتعجل مجيء الصباح ..
تساءلت وأنا أرتجف .. أهي بداية عامٍ جديد .. أم نهاية عامٍ مضى ؟؟
عام كامل من حياتي سُجِّل فيه علي كل ما فعلت، ما أذكر وما نسيت وهو أكثر ...وكنت في هذا العام مراقَبة في كل ما فعلت ..ولن يعود أبداً ..
وبدأ حديث قلبي ..
لقد مر عامكِ كله ..ماذا عملتِ فيه ؟؟ كنتِ منصرفة لشؤونك الخاصة ..أحياناً تتعبدين وتدخلين جنة الدنيا ثم تعاودك الغفلة ..
أخذت الصور تتوالى على عقلي تباعاً.. بعضها نقش في قلبي وأصبح ذكرى جميلة وأكثرها كانت أليمة فيما استمر حديث قلبي ..(/1)
..كل كلمة قلتِها في عامكِ محسوبة عليك وقد قيَّدها السفرة الكرام البررة ..نعم ترى كم كلمة قلتِها في عامك هذا المنصرم ؟؟ ترى ماذا تعلمتِ ؟ .. ماذا حفظتِ من كتاب الله ؟ .. كم من الناس اغتبتِ..؟؟ كم من مرة نمتِ فيها عن صلاة الفجر ؟؟
شعرت بخوف وهول من هذا الكلام .. أنا لا أكاد أذكر شيئاً فقد .. فقد كنت مشغولة .. وأحياناً تعبة ..
وربما .. لا أدري ..
وهذا عام كامل أنى لي أن أتذكر أحداثه ؟؟ ...
ولكن .. لحظة ..
أكان حقّاً عاماً ؟؟!!
أكان عاماً كاملاً ؟؟
لعلي أخطأت الحساب .. بل لعلي متوهمة !!
لقد مضى سريعاً .. كنت أنوي أن أفعل وأفعل ..
أهناك من سرقه مني ؟؟
يا الله من لي سواك ..
مالك أيها القلب.. دعني أنام وغداً.. غداً .. نكمل .. لابد أن أنام ..!!
استمر قلبي ..
نعم كان عاماً كاملاً .. فيه ما يزيد على خمسين جمعة.. في كل واحدة ساعة استجابة وكان فيه شهر الخير رمضان.. فيه ليلة القدر خير من ألف شهر.. أتراكِ فزتِ بها ؟؟ وعاشوراء، وعشر ذي الحجة.. وغيرها كثير من سائر الأيام الفضيلة التي كانت فرصاً سانحة .. ويا لخسارة من ضيَّعها ..
ألا تذكرين ذلك كلَّه ؟؟
على كل حال .. ذكرتِ أم نسيتِ ..
كما مر عامكِ ستمر حياتكِ كلها، ولكن حينها لا ينفع الندم ولا المحاسبة ..
انظري كم من أناس كانوا معكِ في العام الماضي يمشون على الأرض بصحة وعافية فأخذهم الموت على غرَّة من غير سابق إنذار .. وقد منَّ الله عليكِ بأن أبقاكِ لهذه اللحظة لتتوبي وتستغفري وتبدئي مع إطلالته صفحة جديدة مشرقة من حياتكِ ..
نعم .. مات فلان .. وفلانة ماتت على المعاصي .. حزنتِ عليها
ومات الشيخ فلان ..
كُفَّ يا قلبي فقد تعبت ..
أجاب : راحتَكِ أريد ..
اسمعي هذا الكلام من خير البرية صلى الله عليه وسلم : " نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس .. الصحَّة والفَراغ ".(/2)
هيا توبي إلى الله توبة نصوح، وجدِّدي العهد، وابدئي عامكِ بتوبة خالصة، فباب الرب مفتوح يستقبل التوَّابين.. وهو سبحانه أفرح بتوبة عبده من العبد الذي وجد راحلته بعد أن أضاعها في الصحراء ..
والله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ..
اندفعت من عيني دمعاتٌ ساخنة معلنة توبة صادقة إلى الله بعد أن أيقنت أن العام قد .. مضى .. مضى بلا عودة ..(/3)
العنوان: أوجه القراءة في رواية حفص عن عاصم بقصر المنفصل من طريق المصباح
رقم المقالة: 166
صاحب المقالة: يسري حسين محمد سعد
-----------------------------------------
أوجه القراءة في رواية حفص عن عاصم من طريقي الشاطبية، وطيبة النشر من طريق كتاب "المصباح":
الحمامي, عن الولي, عن الفيل, عن عمرو, عن حفص, عن عاصم؛ بقصر المد المنفصل
... القراءة ... من طريق الشاطبية ... من طريق طيبة النشر
1 ... المد المنفصل ... التوسط بمقدار أربع أو خمس حركات ... القصر بمقدار حركتين
2 ... المد المتصل ... التوسط بمقدار أربع أو خمس حركات ... التوسط بمقدار أربع أو خمس حركات
3 ... ( يبسط ) البقرة: 245 ... تقرأ بالسين ... ( يبصط ) تقرأ بالصاد فقط
4 ... ( بسطة ) الأعراف: 69 ... تقرأ بالسين ... (بصطة) تقرأ بالصاد فقط
5 ... ( المصيطرون ) الطور: 37 ... تقرأ بالصاد والسين, وبالصاد أشهر ... (المسيطرون) تقرأ بالسين فقط
6 ... ( بمصيطر ) الغاشية: 22 ... تقرأ بالصاد فقط ... تقرأ بالصاد أيضًا
7 ... (آلذكرين) الأنعام: 143و144
(آلان) يونس: 51 و91
(آلله) يونس: 59 والنمل: 59 ... وجهان: الإبدال بالمد المشبع، أو التسهيل في الهمزة الثانية ... الإبدال بالمد فقط
8 ... (يلهث ذلك) الأعراف:176 ... الإدغام ... الإدغام أيضًا
9 ... (اركب معنا) هود: 43 ... الإدغام ... الإدغام أيضًا
10 ... (يس والقرآن) حال الوصل ... الإظهار ... الإظهار أيضًا
11 ... (ن والقلم) حال الوصل ... الإظهار ... الإظهار أيضًا
12 ... السكت ... السكت في المواضع الأربعة: (عوجًا قيمًا), (مرقدنا هذا)،
(من راق), (بل ران) ... السكت في المواضع الأربعة أيضًا
في الكهف ويس والقيامة والمطففين
13 ... (تأمنا) يوسف: 11 ... الوجهان: الإشمام، والروم ... الإشمام فقط(/1)
14 ... العين في (كهيعص) سورة مريم, والشورى (عسق) ... الوجهان: التوسط أربع حركات والمد 6 حركات، والطول أفضل ... التوسط أربع حركات فقط
15 ... ( فرق ) الشعراء: 63 ... الوجهان: التفخيم أو الترقيق ... التفخيم فقط
16 ... (فما آتان) النمل: 36 ... وجهان وقفًا : إثبات الياء وحذفها، وفي الوصل تثبت الياء ... حذف الياء فقط وقفًا
17 ... (سلاسلا) الإنسان: 4 ... الوجهان وقفًا : إثبات الألف، وحذفها، وتحذف حال الوصل ... حذف الألف وقفًا
18 ... (ضعف) جميعها، الروم: 54 ... تقرأ بفتح الضاد وضمها: وجهان ... تقرأ بفتح الضاد فقط
19 ... (نخلقكم) المرسلات: 20 ... وجهان: إدغام كامل وإدغام ناقص ... إدغام كامل
20 ... التكبير ... ليس له التكبير ... له التكبير في سور الختم من آخر سورة الضحى إلى الناس, وصفته:لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد. بوصل الجميع(/2)
العنوان: أوراق رمضانية
رقم المقالة: 1199
صاحب المقالة: أحمد زايد عسيري
-----------------------------------------
الورقة الأولى
شهر رمضان الكريم مناسبة عطرة من أمجاد الإسلام العزيزة؛ حيث يهب بنسائمه على النفس، ويشع فيها الشعور بالعظمة والعزة، ويوقظ فيها وفي مكامنها تاريخًا حافلاً بالبطولات والتضحيات والرجولة الفذة.
ونحن نستقبل شهر رمضان المبارك لتبدأ يد الذاكرة تقلب صفحات التاريخ، تعبق بأمجاد الإسلام العظيم، وشريط طويل من الصور المفعمة بشذى المجد والعلا يواكب صفحاته صفحة صفحة، رمضان الفضيل والتاريخ ناطق بأحاديثه الخيرة على ديار المسلمين ونفوسهم، وشاهد عدل على صدق مكارم الإسلام بَدْءًا من حراء (إشراقه الإسلام الأولى بوحي السماء على رسولنا العربي الكريم - صلى الله عليه وسلم -)، ومرورًا بكل المواقف والمشاهد الجليلة للإسلام، بما فيها من صبر وتفان، وإيثار وتضحية، وامتدادًا إلى الفتوحات المجيدة التي حملت إلى الناس كافةً الهدى والرحمة والعدل والمساواة.
واليوم ونحن في هذه الأيام المباركة، نتذكر المواقف العظيمة لصاحب الرسالة المهيمنة الخاتمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، صبره على بلاء المشركين، وشجاعته في سبيل الدعوة الإسلامية، الدعوة إلى الله، وثباته في المواقف العصيبة التي تزحزح الجبال الرواسي، ووفاؤه للعقيدة التي من أجلها هاجر وكافح؛ حتى ارتفعت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله عزيزة خفاقة فوق كل أرض وتحت كل سماء.
جدير بنا ونحن نعيش أروع أيام الشهر الفضيل، ونفحاته الغالية أن نقتدي بنهج الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه الأبرار الذين تخرجوا من مدرسته أبطالاً صنعوا كل هذا التاريخ المجيد للإسلام.(/1)
قد شرف الله هذه البلاد بأن تكون مهبط الرسالة فهذا قدرها، نحملها في القلوب والوجدان عقيدة راسخة، وفي النفوس ضياء ساطعًا، وفي الصدور قرآنًا مجيدًا، وفي السلوك خلقًا كريمًا صالحًا نافعًا.
الورقة الثانية
لا يكن صيامك صيامَ مَن صام عما أحل الله، وأفطر على ما حرم الله؛ بإفساد الصيام بكل قبيح من قول أو فعل. فرُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر. احرص على صيانة صومك من اللغو، ولا تجهل مع الجاهلين، ولا تفرط مع المفرطين، ولْيَصُمْ سمعُك وبصرك وجوارحك عن كل ما يغضب الله عز وجل.
وحافظ على ما أوجب الله عليك من أداء الصلوات مع جماعة المسلمين، ولا تغتر بكثرة مَن ينام عنها؛ فإن الحق لا يعرف بكثرة اتباعه، وإنما يعرف بموافقته لما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية، وما عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.
فالصلاة عماد الدين، وهي الركن الثاني والفاصلة بين الإيمان والكفر، وأما الصوم فهو الركن الرابع يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الكُفْرِ أَوِ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلاَةِ))، ويقول: ((العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ.))
ورمضان فرصة كبيرة لقراءة كتاب الله، والعيش في روحانيته، فليكن لك من ذلك أوفر الحظ والنصيب، وإياك أن تقرأ بلسانك، وقلبك غافل، بل احرص على تدبر ما تقرأ، وذلك بالاستعانة بكتب التفسير، واستحضار القلب، وجمعه حين التلاوة، نسأل الله لنا ولك التوفيق.
الورقة الثالثة(/2)
في رمضان ومع شدة الحر يحس المسلم بالجوع والعطش، ويتمنى أن ينتهي اليوم بسرعة كبيرة، ويظل بين الحين والآخر ينظر إلى الساعة لعل ساعة الفرج قد آنت، هذا وهو قد ملأ بطنه قبل الفجر بما لذ وطاب من النعم، وانقطاعه عن الأكل والشرب لا يزيد عن أربع عشرة ساعة، ولكن هل تذكرنا إخوانًا لنا في إفريقيا وأفغانستان، يطوون الأيام والليالي لا يجدون ما يسد رمقهم؛ حتى نحلت أجسامهم، ودقت عظامهم، واصفرت وجوههم؛ فأصبحوا عرضة للكثير من الأمراض بسبب نقص الغذاء؟! هل فكرنا في مد يد العون لهم ولو بالقليل من الطعام والكساء؟!
إن شراءك أخي المسلم كيسًا من الأرز أو البر كفيلٌ بسد حاجة ما لا يقل عن مائة مسلم يومًا أو يومين. فليكن هذا الشهر منطلقًا لإغاثة إخوانك في إفريقيا و أفغانستان؛ لأن من فطر صائمًا فله مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيءٌ؛ لتجد هذا مدَّخرًا لك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، في ذلك اليوم الذي تتمنى فيه الحسنة الواحدة؛ لتنقذك من النار.
الورقة الرابعة
شهر رمضان الكريم شهر سماحة ويسر، شملت فضائله كل أمور الإنسان في هذه الحياة الدنيا والآخرة، ورسم رمضان الكريم للإنسان المؤمن طريق الفلاح والنجاح، وفضائل وبركات رمضان واسعة بحيث احتوت على كل ما يمكن أن يخطر على ذهن بشر، ولله في خلقه شؤون، وفي فرائضه حِكَم، ولصيام رمضان غايات نبيلة، وأهداف رفيعة، يفتح الآفاق أمام المؤمن ليفكر ويتذكر، ويراجع ويعود بأعماله وأفعاله لله - جلت قدرته -، والله غفور رحيم، تسع رحمته ذنوب المسيئين، ويقبل لا إله إلا هو توبة التائبين.
ففي هذا الشهر الكريم فرصة لمراجعة النفس، والتقرب من الله - جل وعلا - مثلما هو شهر صلة الرحم والعمل الصالح، وشهر العبادة والتمعن في قراءة القرآن، واستنباط الدروس والعبر.(/3)
لقد كان رمضان الفضيل خيرًا على الأمة الإسلامية، ففي رمضان تحققت الانتصارات للجيوش الإسلامية، وانهزم الكفر أمام الإيمان، وانكشفت الظلمة أمام الحقيقة، لقد كانت بداية انتصارات المسلمين في رمضان، حين انطلقت هذه الانتصارات من الجزيرة العربية، وامتدت أجنحة الإسلام السمح إلى مختلف بقاع العالم؛ لتنشر الرحمة والعدالة بين أبناء البشر.
الورقة الخامسة
أيها الإخوة المؤمنون، في هذا الشهر الفضيل تزكى النفوس، ويشعر الإنسان بالمسؤولية أمام الآخرين، فجوعه وعطشه وصبره عليهما يعطيان مؤشرًا على قدرة تحمل الإنسان، ومدى سيطرته على نفسه، وتحكمه بغرائزه وشهواته، وانتصاره على نفسه الذي هو أساس انتصاره على عدوه.
ورمضان ليس امتناعًا عن الطعام والشراب فقط، وإنما هو تدريب وممارسة وتهذيب للنفس والروح، حيث يخضع الجميع لإحساس واحد، ولنظام واحد يلتقي الجميع على الإخوة في الله، وعلى العبادة الحقة، وفي رمضان تكريم للنفس، وحفظ لكرامتها، وصون وتطهير لها من الرجس والذنب، فلنقابل الله بعمل صالح، وصيام خالٍ من كل شائبة، ولنعتصم بالله لتجتمع كلمتنا ويتوحد صفنا، ولنقبل على الله بنية صافية وبعمل مخلص.
يقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] صدق الله العظيم.(/4)
العنوان: أوربا تعيش حُمّى الهجمات في ذكرى تفجيرات سبتمبر
رقم المقالة: 1418
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
ألمانيا على خط النار
أوربا تعيش حُمّى الهجمات في ذكرى تفجيرات سبتمبر
قبل أيام قليلة على الذكرى السادسة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، التي وقعت في الولايات المتحدة، تعيشُ بعضُ الدول الأوربية اليومَ حُمَّى الخوفِ من الهجمات التفجيرية، التي أجَّجَت حملةً من الاعتقالات ضد مشتبه بهم، تحاول السلطات إثبات صِلاتهم بالقاعدة.
وبغَضّ النظر عن الآلاف من الذين تم اعتقالُهم منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001م في أمريكا أو أوربا أو غيرها، وما إذا كانوا على علاقة بالقاعدة بالفعل أوْ لا.. فإن حملة الاعتقالات الجديدة تسعى إلى محاولة توجيه ضربة اسْتِبَاقِيّة لهجماتٍ، قد تصيب بعض الدول الأوربية بالفعل، على غرار ما حدث في مدريد ولندن.. خاصة وأن بعض الدول الأوربية باتت هدفاً معلَناً للقاعدة.
فخلالَ أقلَّ من يومين، أعلنت كلٌّ من الدنمرك وألمانيا أنها اعتقلت جماعة مشتبهًا في انتمائهم لتنظيم القاعدة، يحاولون شن هجمات تفجيرية، تستهدفُ المصالحَ الأمريكية، أو المصالح القومية في تلك الدول.
جاءت الاعتقالاتُ الأولى في الدنمرك صباح الثلاثاء الماضي، وشملت 8 أشخاص... وتقول السلطات الدنمركية: إن اثنين من المشتبه بهم يُعتقد أنهما المخططان للتفجيرات المفترضة، وأنهما قد يواجهان الاعتقال لوقت طويل، خلالَ وبعدَ استجوابهما، في حين يُتوقعُ إطلاقُ سراح الستة الباقين بعد إجراء استجواب أوّلي معهم.(/1)
وحسَبَ تصريحات السلطات المحلية، فإن الشرطة الدنمركية عثرت على بعض الأدلة التي تثبت نيتهم في تنفيذ هجمات في البلاد، برغم أن السلطات لم تشر إلى الأماكن المحتملة لهذه الضربات.. على عكس ما صرّحت به السلطات الألمانية، التي قالت: إن المشتبه بهم كانوا ينوون تنفيذ هجمات تفجيرية في قاعدة أمريكية ومطار قومي.
وبرغم أن اعتقالات سابقة شملت أربعة دنمركيين مسلمين، قيل: إنهم ينوون تنفيذ هجمات تفجيرية في البلاد، أدّت إلى إطلاق سراح ثلاثة منهم، وسجن الرابع. إلا أن حملة الاعتقالات الجديدة أريد لها أن تأخذ طابعاً أكبر وأشمل، عبر إعلان أن المعتقلين الثمانية لديهم علاقات قوية وأكيدة مع تنظيم القاعدة، وهو ما يعني أن الدنمرك تشهد للمرة الأولى وجود تنظيم له صلة بالقاعدة.
والشيء الأهم، هو أن الكثير من الوسائل الإعلامية الغربية، كتبت مباشرة في فرضية هذا الارتباط، باحثةً عن الأسباب التي تستعدي تنظيمَ كالقاعدة، لشنّ هجمات في بلد كالدنمرك.
على سبيل المثال، تنقل وكالةُ رويترز عن ماجنوس رانشتورب (خبير شؤون الإرهاب في كلية الدفاع الوطني السويدية) قوله: "إن الدنمرك مستهدفة من جانب المتطرفين لأسباب مختلفة: أولها بالطبع هو مشاركتها المثيرة للجدل في العراق"، مشيراً إلى أن الحملة ضد الساعين للجوء السياسي منذ عام 2001م وأزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي زادت من خطورة التهديد الذي تتعرض له الدنمرك.
كذلك أشارت صحيفةُ (التايمز) البريطانية، في تقرير لها يوم الأربعاء 5 من سبتمبر، إلى إمكانية أن يكون لمشاركة الدنمرك -بإرسال قوات إلى العراق وأفغانستان- دورٌ في وصول تهديد القاعدة لها.(/2)
وفي كل الأحوال، لم تشهد الدنمرك حتى الآن أي هجمات على أرضها، ولا يشير تاريخ الجماعات المسلحة فيها إلى أهمية تذكر، كما لا تثير مخاوف حقيقية، على الأقل حتى وقت قريب.. فحملة الاعتقالات التي حدثت صباح الثلاثاء الماضي هي الثانية في البلاد منذ عام 2005م.
وبخلاف الحكم الذي صدر على أحد الشباب المسلمين بالسجن 7 سنوات بتهمة التخطيط لشن هجمات في أوربا، والحكم بالسجن مدة 3 سنوات ونصف على دنمركي من أصل مغربي بتهمة التحريض على الجهاد؛ لا يوجد معتقلون في البلاد متهمون بالانتماء لتنظيم محظور، أو المشاركة بهجمات فعلية.
حتى المتهمون الأربعة على خلفية تهمة التآمر لشن هجوم بقنبلة، في أودنيس الدنمركية، لم يصدر الحكم عليهم حتى الآن..
التهديد الحقيقي:
لا تبدو الدولةُ الألمانية بعيدةً كالدنمرك عن القاعدة وهجماتها المحتملة.. فالدولةُ التي تترأس هذا الوقت الاتحادَ الأوربي، والتي شهدت على أرضها آخرَ اجتماع لقِمّة دول الثمانية، شهدت تاريخاً مميزاً للقاعدة وحرب الولايات المتحدة على ما تسميه (بالإرهاب).
فخلية (هامبورغ) التي تزعمت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وينتمي إليها أشهرُ المنفذين للهجمات بالطائرات المدنية في نيويورك (محمد عطا) قدمت من ألمانيا.. بعد أن تدربت فيها على قيادة الطائرات.. ودرس أعضاؤها نظريات إسقاط المباني الضخمة عبر إحداث تفجير في أحد أجزائها.
كما تضم الأراضي الألمانية إحدى أهم القواعد العسكرية الأمريكية، التي تستخدمها الولاياتُ المتحدة في إرسال قواتها للعراق وأفغانستان.. وتضم ألمانيا أيضاً مستشفى عسكريا أمريكيا هو الأشهر في أوربا (لاند شتول) ويقع غرب ألمانيا، يستقبل الجنود الأميركيين القتلى أو المصابين، المرحلين من العراق أو أفغانستان.(/3)
وتشارك ألمانيا الولايات المتحدة في حربها بأفغانستان، عبر 1800 جندي ألماني هناك، بعد أن وصل عددُ الجنود الألمان في أفغانستان منذ بداية الحرب إلى 3 آلاف جندي تقريباً.
كما أن تنظيم القاعدة هدّد مرارًا بتنفيذ هجمات في ألمانيا، بسبب مشاركتها الحربَ في أفغانستان، من ذلك التهديد الذي بثه أحدُ المواقع الإلكترونية المحسوبة على تنظيم القاعدة، نشر يوم السبت 10 من مارس 2007م، وتضمّن تسجيلاً مرئياً جاء فيه: إن ألمانيا سوف تواجه مزيداً من التهديدات والأخطار، إذا لم تقم بسحب قواتها من أفغانستان".
فضلاً عن تسجيل آخر ظهر في وقت سابق، تضمّن صورا لأم ألمانية وابنها، تم اختطافهما مطلع العام الحالي، طالب خلالها الخاطفون بسحب القوات الألمانية خلال 10 أيام.
وقد تحدت ألمانيا هذه التهديدات، عندما أعلن وزيرُ الداخلية (وولفجانج شويبل)، بعد نشر شريط القاعدة في مارس الماضي، أن ألمانيا "لن تخضع لتهديدات المسلحين"، قائلا: إن ألمانيا "جزء من منطقة الخطر العالمي".
ووازن بين التهديدات الموجهة لبلاده، وتلك التي وقعت بالفعل في دول أوربية أخرى، بالقول: "في الوقت الذي لم نُصَب فيه بشيء، فإننا لم نستسلم لوهم أننا غير خاضعين لتهديدات شأننا شأن البريطانيين، والإسبان، وآخرين".
مؤشرات سابقة:
الاعتقالاتُ التي وقعت يوم الخميس الماضي، شملت 3 أشخاص، منهم ألمانيان، قيل: إنهما اعتنقا الإسلام سابقا، بالإضافة إلى تركي. وبعد وقت قصير من إعلان اعتقال الثلاثة المشتبه بهم، قالت السلطات الألمانية: "إنها تبحث عن عشرة أشخاص آخرين مشتبه بهم، شاركوا في دعم المعتقلين الثلاثة".
وتحدثت مصادر إعلام ألمانية وعالمية عن "دلائل" و"إثباتات" تشير إلى نية المعتقلين الثلاثة تنفيذَ هجمات تفجيرية في البلاد، منها قاعدة عسكرية أمريكية، ومطار فرانكفورت الدولي.(/4)
ولمزيد من التهم، قالت الشرطة الألمانية: "إنها عثرت على أكثر من 700 كيلوغرام من مادة (بيروكسايد الهايدروجين) المستخدمة في تنفيذ هجمات تفجيرية"، مشيرة إلى أن المسلحين الذين نفّذوا هجمات لندن عام 2005م، كانوا قد استخدموا المادة نفسها.
وأضافت مصادرُ مثل (سي إن إن) والأسوشيتدبرس الأمريكية، أن المعتقلين الثلاثة تلقوا تدريبات في معسكر بباكستان، قبل وقت سابق!
وتنقل صحيفة التايمز البريطانية، عن الشرطة الألمانية قولها: "إن أحد المعتقلين الثلاثة، كان قد اعتقل قبل عام تقريباً، بتهمة مراقبة قاعدة أميركية عسكرية، إلا أنه تم إطلاق سراحه بعد ذلك بمدة وجيزة".
ويبدو أن السلطات الألمانية كانت قد وضعت المشتبه بهم الثلاثة تحت المراقبة، لمدة طويلة، واختارت اعتقالهم خلال هذه المدة، في محاولة لكسب تعاطف أكبر مع الولايات المتحدة، في ذكرى هجمات الحادي عشر من سبتمبر، خاصة وأن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، أعلنت فور اعتقال المشتبه بهم، أن ألمانيا تواجه "مخاطر فعلية للإرهاب"!
في حين سعى وزيرُ الداخلية (وولفجانج شويبل)، للحصول على مزيد من التعاون مع الاستخبارات الأجنبية، عندما صرّح بأن "التعاون مع أجهزة استخبارات أجنبية أتاح كشفَ وإحباطَ هذا المخطط"، واصفاً المشتبهَ بهم الذين لم يدانوا بعد، "بالإرهابيين الخطرين جداً"!!(/5)
وبرغم أن ألمانيا لم تشهد حتى الآن أي تفجير، إلا أن عدة محاولات كانت حاضرة، منها حادثة اكتشاف قنبلتين في قطارين للركاب في يوليو الماضي، وذلك أثار مخاوف أمنية حقيقية هناك. وخلال الأشهر الأخيرة، كانت هناك تقارير تتحدث عن مخاوف أمنية جديدة، خاصة ضد الأهداف الأمريكية. ففي إبريل الماضي، أعلنت السفارة الأمريكية في برلين، أنها رفعت مستوى الأمن في المنشآت الأمريكية بألمانيا.. وفي أواخر عام 2006م، اعتقلت السلطات الألمانية مشتبهاً بهم، بشبهة مراقبة ثكنة أمريكية. وفي يونيو الماضي، اعتقلت السلطات الباكستانية 3 ألمان على الحدود المشتركة مع أفغانستان، وسط تقارير تحدثت عن وجود 10 ألمان آخرين، وصلوا إلى باكستان لتلقي تدريبات هناك، حسب تقرير نشرته هيئةُ الإذاعة البريطانية باللغة الإنكليزية، بتاريخ 5 من سبتمبر الحالي.
وبطبيعة الحال، حصلت ألمانيا –وما زالت تحصل- على دعم أمريكي مكثف تجاه هذه القضايا, وهو ما أكدته واشنطن آخرًا، بعد عملية اعتقال المشتبه بهم الثلاثة، إذ صرح ريتشارد كولكو (المتحدث باسم مكتب التحقيقات الفيدرالي) بأن وكالته ووزارة الأمن الداخلي الأمريكي، قامتا بالتنسيق مع أجهزة الأمن الألمانية في مراقبة الوضع! كما نقلت وكالة الأسوشيتدبرس عن جوردون جوندرو (المتحدث باسم مجلس الأمن الوطني الأمريكي) قوله: "إن الرئيس جورج بوش -الذي يحضر حالياً قمة التعاون الاقتصادي لاسيا- الباسيفيك الـ15 في أستراليا- أعرب عن امتنانه لعمل السلطات الألمانية!".
مهما يكن من أمر الاعتقالات والتهديدات في أوربا... فهناك حقيقةٌ تثيرها ميزة تاريخية، هي أن معظم الدول الأجنبية، تمر بوقت أمني عصيب، في ذكرى هجمات الحادي عشر من سبتمبر، في كل عام. يثير زوبعة من التكهنات والتحليلات. كما هو الحال في الذكرى السادسة هذه.(/6)
العنوان: أوربا والإسلام
رقم المقالة: 1972
صاحب المقالة: حامد الإدريسي
-----------------------------------------
لقد كان من قَدَرِ الله سبحانه أن اهتمَّ المسلمون في فُتوحِهم بمشارق الأرض أكثرَ من اهتمامهم بمغاربها، إذ كانت حضاراتُ الأمم في تلك الناحية من الأرض، فكان الفرس والروم في شمال وشرق الجزيرة العربية، ولم يكن في أوربا من الحضارة ما يعد قيمًا إلى درجة أن تهتم به هذه الأمةُ الصاعدة، التي أخذت على كاهلها أن تقمع الظلمَ وتخلص العالمَ، فاتجهت إلى القوى العالمية آنذاك، ولم تحفل للبربر في أوروبا، ولم تعرهم اهتمامًا.
دخل الإسلام أوربا في نهايات القرن الأول، وبالتحديد سنة 92 للهجرة، عندما عبر طارق بن زياد المحيط، ووطئ أوربا ثلاثون ألفًا من أتباع محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- يوم لم تكن الأمة غثاء كغثاء السيل، ففتحوا أوربا، ووصلوا بعد ثلاث سنوات إلى حدود مدينة باريس، حيث لا يفصلهم عنها إلا ثلاثون كيلومتر، ولولا هزيمةُ المسلمين في معركة بلاط الشهداء، التي وقعت قرب مدينة بواتيه الفرنسية، وحشد لها النصارى أربعَمائة ألف مقاتل، لكان حالُ عالمنا اليوم أحسنَ بكثير، ولكنها الأقدارُ تجري في أعنتها، وربك فعال لما يريد.(/1)
وكان لأوربا موعدٌ آخرُ مع المسلمين، لكن من جهة أخرى ، ومن لون آخر، إنهم الأتراك العثمانيون الذين رفعوا راية الإسلام مدة من الزمن، فبدأوا يوجهون حملاتِهم إلى أوربا بعد أن أثخنوا في روسيا، فغزاهم السلاطين العثمانيون، وكانت قلعة مدينة بلغراد سدًّا منيعًا في وجه المسلمين، إلى أن دكتها مدافعُ السلطان سليمان القانوني ففتحت المدينة سنة 927هـ، وانطلق هذا السلطان المجاهد فلم ترده إلا أسوارُ فيينا التي لم يستطع أن يَجُرَّ مدافعَه إليها بسبب الوحل والأمطار، وقَفَل عنها ليعود إليها جيشُ السلطان محمد الرابع بعد قرن ونصف، وبالتحديد في سنة 1094هـ، وكاد أن يفتحها لولا خيانةُ أحد قواده، لتقبع أوربا في الظلام مزيدًا من السنين. والله غالب على أمره.
دارت الأيام، وانقلبت الأحوال، وهوت أمةُ الإسلام بعدما تخلت عن قيادتها للبشرية، فتداعت عليها الأممُ كما تتداعى الأكلةُ إلى قصعتها، ودُخل على المسلمين في ديارهم، واغتُصبت بلدانهم، واستبيحت بيضتهم. وتغيرت الحال حتى أصبحت دولة الخلافة تتملق إلى أوربا بشتى أنواع التملق كي تقبلها عضوًا في اتحادها، وتغفر لها ماضيها المشرق، لكن هيهات {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].(/2)
وجاء عصر (العلمانية)، وتداخلت أجزاء العالم بعضها ببعض، واحتك الناس بالمسلمين، فوقعت أوربا فيما أرادت ألا تقع فيه، وهُدرت دماؤها التي سالت في مواجهة الإسلام، وضاعت جهودُها في محاولة طمس أنواره، ولم تستطع أن تمنع نفسها من الإعجاب بهذا الدين، ولم تتمكن من مقاومة تأثيره، فانبعث الإسلام في أوربا من جديد، ليس من جنوبها كما في المرة الأولى، وليس من شرقها كما في المرة الثانية، بل ولد الإسلام هذه المرة في عقر دارها، وترعرع في دروبها، وتشربته أفئدةُ أبنائها، وبدأ هذا الدين -الذي طردته أوربا شر طردة، وقتلت أبناءه شر تقتيل- ينتشر بين أرجائها كالنار في الهشيم، وكضوء النهار في الليل البهيم، بسرعة لم تعرفها أوربا من قبل، حتى أصبح الدينَ الأول في الانتشار على الصعيد العالمي، بل أسلم في فرنسا وحدها سنة 2004م ما يزيد عن 50 ألف شخص، ومن الطريف أن منتخبهم الذي يحمل علمَهم في كرة القدم به سبعة مسلمين {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
وقد كان من عجيب صنع الله لهذا الدين، أن كانت الجاليةُ العربية التي استقدمتها أوربا بغرض احتقارها في مهن وأعمال مرهقة، هي الطلائع الأولى لهذا الفتح الإسلامي الجديد، الذي غزاهم بما ليس لهم به طاقة، وهاجمهم بما لا قبل لهم به، لتتكرر قصةُ الحق حين يواجه الباطل، والنور حين يواجه الظلام، فاستسلمت أوربا لهذا الغزو الذي لم تشعر به، ولم تنتبه إلا وبها ما يزيد عن اثني عشر مليون مسلم، وأصبح في باريس وحدها 97 مسجدًا، وأصبحت الشرطة الفرنسية هي من يقوم على تنظيم الطرق التي تغلق بسبب المصلين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36].(/3)
لقد أظهر الإسلامُ أنه الحق الذي يلامس الفطرة ويخالط القلوب، وأثبت أنه الدين الوحيد، الذي يعتنقه الناسُ بمجرد قراءة كتيب أو سماع شريط، بخلاف الديانة النصرانية التي بلغت مؤسساتُها حول العالم ربع مليون مؤسسة تنصيرية أنفق على نشر باطلها في عام 1991م حوالي 181 مليار دولار[1]؛ ومع كل ما أوتوه من قوة وجبروت، وكل ما مكنته لهم الحضارةُ من أساليب التأثير والإغراء، ومع ما وصل إليه المسلمون من ضعف وبعد عن الإسلام، ومع كل ما ينفق من أموال ويبذل من جهود، فإن عدد المرتدين من المسلمين قليل ولله الحمد، وما زالت كلمة التوحيد إعصارًا يشتت رياحهم، وشمسًا تعشي أبصارهم، وهداية تسبق ضلالهم.
وما زلنا إلى اليوم نرى فلذاتِ أكباد أوربا يقبلون على الله أفواجًا، وما زلنا نسمع ألسنتهم الأعجمية تتعتع لتنطق بالشهادتين، لتعلن للعالم أنه ليس بين الناس والإسلام إلا أن يعرفوه حق المعرفة، وهذا ما تحاول الكنيسة وجندها الحيلولة دون وقوعه، تمامًا كما كان أسلافهم الأولون {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
إن الإسلام ينتشر في أوربا انتشارًا كبيرًا، ينتشر بعدد المتحولين إلى الإسلام، وينتشر بعدد المواليد الجدد من أبناء المسلمين، ممن يحققون ما رُوِي عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مرسلا: (تكاثروا تناسلوا فإني مُباهٍ بكم الأممَ يوم القيامة)، بخلاف النصارى الذين ينقص عددُهم يومًا بعد يوم، فلو استمر الحال على ما هو عليه اليوم، لتغيرت الخارطة الدينية في أوربا بعد عقد أو عقدين.
لكن إلى متى سيسكت أعداء الإسلام على هذا النصر العظيم؟(/4)
إن الكنيسة النصرانية بجنودها وبابواتها لن تترك لهؤلاء الحرية في أن يختاروا ما يريدونه لأنفسهم، ولن تترك الإسلام يستوطن الأرض التي قاتل آباؤهم ليحُولوا بينه وبينها، فلابد للشر أن يثور ولا بد لهذه الطائفة أن تعيد عملها القديم، وأن تصد عن سبيل الله بكل ما تستطيع، وذلك طبقًا لما أخبر الله عنهم في كتابه إذ يقول : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99]، لقد أدركوا خطر اجتياح الإسلام لبلادهم، لكنهم لا يستطيعون التخلص من القيود الفكرية التي وضعوها لأنفسهم، والمبادئ التي أسسوا عليها ديموقراطيتهم، فكم هاجموا المسلمين بهذا السلاح الذي ارتد عليهم ولله الحمد، حتى أصبح شعارًا يحمي المسلمين ويحمي الدعوة الإسلامية في كل أرجاء الأرض {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
لن يتمكن هؤلاء من أن يستخفوا خلف هذه الأقنعة إلى الأبد، وقد بدأنا نسمع ونرى وجوهًا قبيحة لم تعد تتحمل وجودَ مسجد أو ملتحٍ أو محجبة، وقد بدأت هذه الوجوه تتجمع، وبدأ مكرها يكبر {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران: 118-119].
فهل ستدوم هذه الابتسامات؟
وهل سيكتفي هؤلاء بمجرد التحذير والتنديد؟
وهل ستبقى أوربا محضناً للدعوة والدعاة؟
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] الإحصائيات من موقع شبكة نور الإسلام.(/5)
العنوان: أول مسجد بمئذنة لمسلمي إمارة ليشتنشتاين
رقم المقالة: 1930
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أعلن الأمير هانز آدم الثاني حاكم ليشتنشتاين الإمارة الأوروبية الصغيرة – الواقعة بين غرب النمسا وشرق سويسرا – دعمه لحقّ المسلمين في إنشاء أول مسجد بمئذنة.
فقد تلقَّتِ الأقليَّة المسلمة في ليشتنشتاين تَشجيعًا حكوميًّا للمساعدة على اندماج أفرادها في المجتمع؛ إذ تدرس لجنة عمل حاليًّا إدخال مادة الدين الإسلامي ضمن المناهج التعليمية في المدارس الابتدائية، بالإضافة إلى تخصيص قطعة أرض لإنشاء مقابر خاصة بالمسلمين.
وأعرب الأمير هانز آدم الثاني حاكم الإمارة، دعمه لمطلب مسلمي ليشتنشتاين بإقامة مسجد بمئذنة على أرض الإمارة، كما أيد كذلك إنشاء مقابر خاصة بالمسلمين.
واعتبر أن مَن يعترض على إقامة هذا المسجد عليه أولاً أن يؤيّد إزالة منارات الكنائس في الدول الإسلامية.
وأكَّد أن الدول الإسلامية قطعت منذ زمن طويل شوطًا كبيرًا في التسامح أكثر من المسيحيين و"علينا ألا نشكو عدم تسامح الآخرين معنا إذا كنا نحن غير متسامحين".
ودعا الأمير آدم الثاني الغرب إلى منح الحرية الدينية للمسلمين في دول الغرب، إذا كان الغرب ينادي بحرية دينية للمسيحيين في الدول الإسلامية.(/1)
العنوان: أولادنا في رمضان
رقم المقالة: 1200
صاحب المقالة: عزة محمد حسن
-----------------------------------------
بَوَّبَ البخاري في صحيحه عن الربيع بنت مُعّود قالت: " كنا نصوم، ونصوَّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العِهْن، فإذا بكى أحدهم على الطعام، أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار".
العِهْن: أي الصوف.
قال العلماء: وهو ليس بواجب، ولكن ليتمرن الطفل عليه، وقاسوه على الصلاة، والأمر بها: ((مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاء سَبْعٍ، واضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)).
فما هو دَوْرُكِ أيتها الأم مع أولادك في رمضان.
1- عند الاستعداد لاستقبال الشهر يجب الاهتمام بإظهار الفرحة وتزيين البيت؛ ليشعر الأولاد بأهمية الزائر الجديد.
2- لتكن لك جِلْسة مع أولادك في بداية رمضان - ويفضل أن يحضرها الوالد -، وحَدِّثِيهم عن فضل الشهر الكريم، وأبواب الجنة المفتوحة، وأنه فُرْصة لكل واحد أن يزيد حسناته ويتقرب إلى الله، وانْزِلي لمستواهم في التفكير، وحدثيهم بما يفهمونه هم عن حب الله وطاعته.
- ضَعِي معهم نظامًا لليوم، وقواعد للاستفادة من الوقت كله، مثلاً: صَمِّمِي معهم جَدْوَلاً للأعمال اليومية المطلوب أداؤها؛ من مذاكرة؛ وأداء واجبات؛ ونظميها حسب المواعيد الجديدة في رمضان.
4- حَدِّدِي للعبادات التي تريدين تعويدهم عليها أوقاتًا محددة في الجدول مثل: الصلاة في وقتها، وقراءة القرآن، والأذكار، والصلاة في المسجد، وكذلك الأخلاق والسلوكيات مثل: العفو، وعدم التشاجر، أو التلفظ بألفاظ سيئة... وهكذا، وفي نهاية كل يوم يتحدث كل واحد منا ما فعل من خير في يومه، وهل وقع في محظور أم لا؟.(/1)
5- قولي لهم بأنك أنتِ أيضًا تُريدِين الاستفادة من رمضان؛ لذلك يجب عليهم مساعدتك في أعمال المنزل؛ حتى تأخذي ثواب رمضان أنتِ أيضًا، وحَدِّدِي لكل منهم أعمالاً واضحة يستطيع أداءها، وأهمها: تنظيم غرفهم؛ وملابسهم؛ وكتبهم؛ وكل ما يخصهم.
6- أمَّا الصوم؛ فعليك بالتدرج مع الصغير عِدَّة ساعات، ثم عِدَّة أيام.
واجعلي مُكافأة عن كل يوم يصومه، وعن أول شهر يصومه كاملاً. أمَّا الأطفال الذين لا يصومون: اجعلي وَجْبَتَيْهِم الأساسيَّتَيْن: الإفطار والسحور؛ ليسمعوا الدعاء؛ ويشاركوا الكبار فرحتهم، وراعِي الفروق بين الأولاد في التَّحَمُّل.
7- اهتَمِّي بالبنات، وخاصة القريبات من البُلوغ، وعلِّمِيهن فِقْه الصيام.
8- اهتَمِّي بابنك المُراهِق في مَرْحلة البلوغ، وحاولي أن تعقدي صداقة معه تقوم على الثقة، والتقدير بجانب العَطْف والحنان.
9- وفي رياض القرآن اجْعَلِي للطفل الذي يحسن القراءة وِرْدًا يَوْمِيًّا، وليقرأه من المصحف، ويستمع إلى قراءتك، واجعليه يُقَلدك ما استطاع.
ويمكن أن يقرأ مُقَرَّر المدرسة، ولكن عليك أن تُحَدِّدِي مكانه من المصحف، فهذا يشبع الإثارة عنده ويزيد رغبته في تقليد الكبار.
ولماذا لا يحفظ قدرًا - ولو يسيرًا - مِنَ القُرآن في رمضان؟
10- عَوِّدِي طفلك على الجُود في رمضان، وأن يَدَّخِر من مصروفه لذلك، وارْوِي لهم بعض القصص حول الصدقة مثل: ( ليته كان كاملاً).
11- اصْطَحِبِي – أنت والوالد - طفلك إلى صلاة القيام، وصلاة الفجر، واهْتَمِّي بمحافظتهم على الصَّلوات الخمس.
12- أَفْهِمِي ابنك وابنتك أنَّ الصيام لا يَصْلُح بدون الخلق الحسن.
13- هل ستتركين ابنك فريسة للتلفاز؟! حاولي توظيفه جيدًا، واهتمي بالشروط الصحية للمشاهدة.
14- وأخيرًا؛ استعيني بالله، وتوجهي إليه بالدعاء أن يتقبل الصيام، والقيام، وأن نخرج من رمضان بحال أفضل مما دخلنا بها.(/2)
العنوان: أولويات الدعوة في منهج الأنبياء عليهم السلام
رقم المقالة: 1473
صاحب المقالة: د. زيد بن عبدالكريم الزيد
-----------------------------------------
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فبين يدي هذا البحث عن: (أولويات الدعوة في منهج الأنبياء عليهم السلام) أقدم بالنقاط التالية:
1 - أن دعوة الأنبياء دعوة واحدة، من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والأنبياء إخوة لعلاَّت أمهاتهم شتى ودينهم واحد))[1].
2 - إن هذه الوحدة بين الأنبياء عليهم السلام لم تأت عبثاً، بل هي وحدة تستدعي من الدعاة الاقتداء والتأسي بها فيما بينهم، درءاً للفرقة والخلاف، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[2].
3 - أن الخلط بين ما يجوز فيه الاجتهاد، وما لا يجوز فيه الاجتهاد في أولويات الدعوة، أدى إلى الخلاف والشقاق بين الدعاة، وهو ما نرى أثره في تفرق الأمة إلى أحزاب، وفرق، وانتماءات، وولاءات، سببها – في غالب الأحيان – الخلاف حول أولويات الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
4 - أن المنهج الذي تلتقي عليه الأمة، لتكون حقاً (أمة واحدة) هو منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين كانوا يتلقون هذا المنهج بوحي من الله سبحانه، لا باجتهاد بشري. ولذلك أُمر محمد صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِه}[3]، وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[4].(/1)
ولكي نقرر في هذا المبحث نتيجة دعوية، تكون ذات قبول من الجميع، فإننا لن نتجاوز نصوص القرآن الكريم التي روت لنا دعوة الأنبياء عليهم السلام، وبعض الأحاديث الصحيحة الثابتة عن دعوته صلى الله عليه وسلم. وبخاصة وأن القضية ذات أساس مكين في الدعوة، تمس أولوياتها وتنسب إلى الأنبياء عليهم السلام، داعين الإخوة الدعاة في كل مكان، إلى هذه الأولويات؛ لتكون جزءاً رئيساً في منهج الدعوة، الذي لا يتأثر بالزمان ولا بالمكان.
مدخل:
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[5]، فتحقيق العبودية لله سبحانه؛ هي الغاية من خلق الجن والإنس، وللدلالة على طريق هذه العبودية: بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيهِ أَنَّهُ لاَ إِلَه إِلاَّ أَنَاْ فَاعبُدُونِ}[6].
وجاء التركيز على هذه العبودية، لتحرير الإنسان من الارتباط بالشهوات، والأهواء، والآراء، التي تجر صاحبها إلى قيود العبودية البشرية، {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}[7].
وإن الحرية الحقيقية هي في العبودية لله سبحانه وتعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الحرية: حرية القلب، والعبودية: عبودية القلب"[8].
ويقول: "إنما دين الحق: تحقيق العبودية لله، بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية؛ تكمل محبة العبد لربه ومحبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا، يكون نقص هذا"[9].(/2)
فالمهم هو: تحرير هذا القلب لربه، فلا يصرف أي شيء من العبادة لغير الله، وإذا استقام القلب استقامت الجوارح: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))[10].
ولن تجتمع قلوب هذه الأمة إلا على التوحيد، وإذا اختل التوحيد فكل له معبود، وكل له هدف، وعندها تتعدد الأودية والشعاب، وكل سيسلك وادياً يهلك فيه، إلا من عصم الله بالبقاء على التوحيد.
ولن تستقر النفوس إلا بالتوحيد: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ}[11]، ويقول تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[12]. هذا في الدنيا، أما في الآخرة فكل الذنوب وعد الله سبحانه وتعالى بمغفرتها، إلا الشرك، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِك بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}[13].
يقول ابن قيم الجوزية، في (مدارج السالكين): "وكلما كان توحيد العبد أعظم كانت مغفرة الله له أتم، فمن لقيه لا يشرك به شيئاً البتّة؛ غفر له ذنوبه كلها، كائنة ما كانت، ولم يعذب بها"[14].
ويقول أيضاً رحمه الله تعالى في زاد المعاد: "ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات؛ لم تطهر النار خبثه، بل لو خرج منها لعاد خبيثاً كما كان، كالكلب إذا دخل البحر، ثم خرج منه، فلذلك حرم الله تعالى على المشرك الجنة"[15].
هذا هو التوحيد؛ يجمع القلوب، ويحرر الإنسان في الدنيا، وصاحبه لديه وعد من الله بالغفران، مهما كانت ذنوبه؛ متى نجا من تلويث الشرك وأدرانه.(/3)
ولذلك لم يكن غريباً أن يكون للتوحيد مكانة خاصة، مميزة في منهج دعوة الأنبياء عليهم السلام، اتفقوا عليها في كل دعواتهم، رغم تباعد العصور والأمكنة، وهو ما سنوضحه في الفقرة التالية.
أولويات الدعوة في منهج الأنبياء عليهم السلام
لمعرفة أولويات الدعوة في منهج الأنبياء عليهم السلام؛ لابد من الرجوع إلى تاريخ دعواتهم عليهم السلام، بماذا بدأ كل منهم، وبماذا ثنّى في قضاياه مع أمته التي بعث إليها، وأوثق مرجع وأصدقه هو القرآن الكريم، مع ما يبينه من السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد تحدث القرآن الكريم في مواضع منه، عن دعوات الأنبياء، منها ما جاء مجملاً، ومنها ما جاء مفصلاً، ولذلك سنتحدث في هذا الموضوع وفق الفقرتين التاليتين:
أولاً: النصوص الإجمالية من القرآن الكريم، عن دعوة الأنبياء إلى الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: النصوص التفصيلية من القرآن الكريم، عن بعض الأنبياء في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى.
أولاً: النصوص الإجمالية من القرآن الكريم:
1 – يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}[16]، أي: (ولقد بعثنا أيها الناس، في كل أمة سلفت قبلكم رسولاً، كما بعثنا فيكم بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأفردوا له بالطاعة، وأخلصوا له العبادة)[17]. و(ما من أمة متقدمة، أو متأخرة، إلا وبعث الله فيها رسولاً، وكلهم متفقون على دعوة واحدة، ودين واحد؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له)[18]، وهذا فيه تقرير منهج شامل، لجميع الأنبياء عليهم السلام، يسعهم ويسع الدعاة من بعدهم.
2 – يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيهِ أَنَّهُ لاَ إِلَه إِلاَّ أَنَاْ فَاعبُدُونِ}[19].(/4)
(فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم، زبدة رسالتهم وأصلها: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وبيان أنه الإله الحق المعبود، وأن عبادة ما سواه باطلة)[20].
رُوي عن قتادة رحمه الله تعالى قال: "أُرْسِلت الرسل بالإخلاص والتوحيد، لا يقبل منهم عمل حتى يقولوه ويقروا به"[21].
فهو الخطوة الأولى، الذي لا يصح تجاوزه إلى غيره، ما دام لا يقبل منهم عمل؛ حتى يتم تقريره والإقرار به.
ثانياً: النصوص التفصيلية من القرآن الكريم عن دعوة بعض الأنبياء:(/5)
يقول الله سبحانه وتعالى عن دعوة نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[22]، وقال سبحانه وتعالى عن دعوة هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّن إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}[23]، وقال تعالى عن دعوة صالح عليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[24]، وقال تعالى عن دعوة إبراهيم عليه السلام: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، إِنَّمَا تَعْبُدُون مِن دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَّعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدوهُ واشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[25]، وقال تعالى عن دعوة شعيب عليه السلام: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[26]، وقال سبحانه وتعالى عن دعوة عيسى عليه السلام: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُو الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[27]، وقال عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَواْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}[28]، عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم،(/6)
التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات: {قُلْ تَعَالَواْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا...}، إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} الآية"[29].
هذه دعوة الأنبياء، كل منهم يواجه قومه بالدعوة إلى التوحيد، فما بعث نبي إلاّ وبدأ مع قومه بهذه الدعوة[30].
وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج لأصحابه، فإنه لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: ((إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله؛ فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا الصلاة، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم، وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس))[31]، يقول ابن حجر رحمه الله تعالى: "ووقعت البداءة بهما – أي بالشهادتين – لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما"[32].
من هذه الآيات والأحاديث التي استعرضت تاريخ دعوة الأنبياء عليهم السلام، نستطيع أن نقرر أن الأنبياء عليهم السلام، متواطئون على دعوة الناس إلى التوحيد أولاً، لا فرق بين رسول ورسول، وأن من كذب رسولاً من رسل الله فهو مكذب بالرسل أجمعين، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ}[33]، مع أنهم لم يواجهوا بهذا التكذيب إلا رسولاً واحداً، هو نبي الله نوح عليهم السلام، ومثل هذا قيل لقوم هود: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}[34]، وقوم صالح: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ}[35]، وقوم لوط: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المُرْسَلِينَ}[36]، وأصحاب الأيكة: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُْرْسَلِينَ}[37]، مما يدل على وحدة الدعوة، وترابطها ترابطاً وثيقاً، يجعل المصدق بواحد من الأنبياء مصدق بالجميع، والمكذب لواحد منهم مكذباً بالجميع.(/7)
وعلى هذه الأصول اتفقت دعوتهم عليهم السلام، واجتمعت كلمتهم لتؤكد أن القضية الأولى، في جميع الدعوات، من لدن أول الأنبياء إلى آخرهم، يجب أن تبدأ بالتوحيد، أياً كانت الظروف والأحوال التي يعيشها هذا المجتمع، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة.
ثم إذا سرنا قليلاً في دراسة دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سنجد أنهم بعد هذه القضية – قضية تقرير العقيدة في النفوس – وعند الشروع في القضية الثانية، التي يدعون إليها، يختلف الأمر، فنجد أن لكل نبي قضية خاصة يركز عليها، فكل نبي يُعنى عناية خاصة بالأمراض التي توجد في مجتمعه وبين قومه.(/8)
فإبراهيم (أبو الأنبياء) عليه السلام اهتم كثيراً بالتوحيد، ومحاربة الشرك، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[38]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[39]، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ، إَئِفْكاً ءَالِهةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ}[40]، وكأنه عليه السلام يرى ما وقع فيه بعض الناس من الضلال؛ بسبب الشرك الذي صرفهم عن الحق، الذي أتى به الرسل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنَىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[41]. وإنه ليخيل لمن يقرأ قصص دعوة إبراهيم عليه السلام في القرآن، أنه عليه السلام لم يبعث إلا بالتوحيد؛ وذلك بسبب تفشي الوثنية في مجتمعه، فكان التوحيد هو قضية إبراهيم عليه السلام الأولى والثانية، في حين نرى أن لوطاً عليه السلام مع اتحاد زمان بعثته، لكن اختلف المجتمع[42]، فقد كان قوم لوط مجتمعاً فشت فيه الفاحشة، واعتادوها، حتى أصبح التنزه عنها جرماً يستحق صاحبه الإخراج والطرد، قال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُم قَومٌ عَادُونَ، قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المُخْرَجِينَ}[43]، ولذلك نجد لوطاً عليه السلام يركز بعد الدعوة إلى التوحيد على التحذير من هذه الفاحشة، قال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ(/9)
الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}[44]، وقال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكم لَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ}[45]، وهذا التركيز على هذه القضية، من قبل لوط عليه السلام لا نجد له ما يماثله من قبل الأنبياء الآخرين، مما يعني أن التركيز كان سببه البيئة، وانتشار الفاحشة فيها، وليس لنوعية الفاحشة فقط.
ونجد أنّ نبيّ الله شعيباً عليه السلام يدعو قومه بعد التوحيد إلى أن يوفوا الكيل والميزان؛ وذلك لأن الغش في الكيل والوزن منتشر شائع في قومه، قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوفُوا الكَيْلَ والمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُم وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[46]، وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ}[47].(/10)
وموسى عليه السلام بعث في قوم قد تسلط عليهم فرعون، وسامهم سوء العذاب؛ يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، فاهتم عليه السلام – بعد التوحيد الذي أشرنا إلى أدلته في البداية – بإنقاذ بني إسرائيل من الذل الذي نشأوا عليه، وإحباط ظلم وطغيان فرعون، وتربية العزة والكرامة في نفوس القوم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَءَاتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ العَالَمِينَ، يَا قَوْمِ ادخُلُواْ الأَرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ}[48]، وكما خاطب موسى قومه بهذه القضية فقد واجه بها فرعون، قال تعالى: {فَأتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِل مَعَنَا بَنِي إِسرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُم قَد جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى}[49].
وعلى هذا فالقضية الثانية في الدعوة تختلف اختلافاً كاملاً عن القضية الأولى؛ القضية الأولى محسومة منتهية، لا مجال فيها لاجتهاد بشر، ولا تتأثر بالبيئة، ولا تختلف باختلاف الزمان أو المكان، فلابد من التوحيد؛ لأنه أساس كل دعوة، ومنطلق كل داعية.(/11)
أما القضية الثانية فهي بخلاف ذلك، إذ هي تتأثر بالبيئة وبالزمان والمكان، وكل نبي – كما رأينا – له قضية خاصة؛ نشأت من حاجة مجتمعه، فالمجتمع الوثني المنغمس في الوثنية، تستمر معه قضية التوحيد؛ تأثراً بحاجة المجتمع إلى الاستمرار في هذا الأمر، والمجتمع الذي تتفشى فيه الأخلاق السيئة، يكون مواجهة هذا الأمر هو القضية الثانية وهكذا. ولم يؤثر هذا الاختلاف في وحدة الأنبياء، ولم يكن مصدر نزاع أو مشاقة، بل هو مما يؤكد اتجاه غايتهم جميعاً نحو أسلم طريق للإصلاح وتحقيق الهدف المشترك، وأهم أمر يُصْلَح هو إصلاح علاقة العبد بربه، ثم بعد ذلك يصلح ما فسد من أمر المجتمع كل بحسبه.
ويهمنا من هذا أن نقرر أن الداعية إلى الله صلى الله عليه وسلم يبدأ دائماً – وفي كل الأحوال – بإصلاح العقيدة، ثم يصرف همه إلى معالجة الأمراض الموجودة في المجتمع الذي يدعو فيه[50]، وإذا كان هناك أمراض متفاوتة بدأ بأشدها فتكاً وأعمقها ضرراً على المجتمع.
وما دامت دعوة الأنبياء عليهم السلام بهذا المنهج الواضح، وهم القدوة والأسوة لكل داعية، فلا يسع أحداً الخروج عن هذا المنهج، أو تقديم بعض أولوياته المقررة على بعض، وذلك بإصلاح العقيدة أولاً وهي الأساس.
أما القضية الثانية فالدعاة لهم فيها متسع من الاجتهاد، إذ لكل مجتمع مشكلاته وقضاياه التي قد تختلف عن غيره، وبالتالي يتسع الصدر بين الدعاة في هذا الجانب، فالمجتهد في تقدير القضية الثانية مأجور – إن شاء الله تعالى – فإن أصاب الحق فله أجر آخر على الإصابة، وإن كانت الأخرى فلن يعدم من يعذره؛ لكون المجال سائغاً فيه الاجتهاد، وليس لأحد حق اللوم والتثريب أو المشاقة والمنازعة والفرقة.
وبهذا تتلقى آراء الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وتتآلف القلوب، وينتفي الخلاف، ويحل التعاضد والتآزر، وصلى الله عليه نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ(/12)
[1] صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري، جـ6 ص478 رقم 3443.
[2] سورة الأنبياء، الآية 92.
[3] سورة الأنعام، الآية 90.
[4] سورة النجم، الآيتان 3، 4.
[5] سورة الذاريات، الآية 56.
[6] سورة الأنبياء، الآية 25.
[7] سورة الجاثية، الآية 23.
[8] ابن تيميه، فتاوى شيخ الإسلام، جـ10 ص186.
[9] ابن تيميه، العبودية، ص41.
[10] صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري، جـ1 ص126 حديث رقم 52.
[11] سورة الرعد، من الآية 28.
[12] سورة الزمر، الآية 29.
[13] سورة النساء، الآية 48.
[14] عبدالمنعم العزي، تهذيب مدارج السالكين لابن قيم الجوزية، ص186.
[15] ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، جـ1 ص68.
[16] سورة النحل، من الآية 36.
[17] الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن، جـ14 ص103.
[18] السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، جـ2 ص59.
[19] سورة الأنبياء، الآية 25.
[20] السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، جـ2 ص59.
[21] انظر، الطبري، جامع البيان، جـ17 ص15.
[22] سورة الأعراف، الآية 59.
[23] سورة الأعراف، الآية 65.
[24] سورة الأعراف، الآية 73.
[25] سورة العنكبوت، الآيتان 16، 17.
[26] سورة هود، الآية 84.
[27] سورة المائدة، الآية 72.
[28] سورة الأنعام الآية 151.
[29] سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، ص63.
[30] انظر، محمد أحمد العدوي، دعوة الرسل، ص1.
[31] صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري، جـ3 ص322 حديث رقم 1458.
[32] ابن حجر فتح الباري، جـ3 ص358.
[33] سورة الشعراء، الآية 105.
[34] سورة الشعراء، الآية 122.
[35] سورة الشعراء، الآية 141.
[36] سورة الشعراء، الآية 162.
[37] سورة الشعراء، الآية 176.
[38] سورة الأنعام، الآية 74.
[39] سورة الأنبياء، الآيتان 51، 52.
[40] سورة الصافات، الآيتان 85، 86.
[41] سورة إبراهيم، الآيتان 35، 36.(/13)
[42] انظر، ابن كثير (البداية والنهاية)، ج1 ص152، وقال قوم لوط عليه السلام: (فنزل بمدينة سدوم وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان وكان أهلها أشراراً كفاراً فجاراً).
[43] سورة الشعراء، الآيات 165 – 167.
[44] سورة الأعراف، الآيتان 80، 81.
[45] سورة العنكبوت، الآيتان 28، 29.
[46] سورة الأعراف، الآية 85.
[47] سورة هود، الآية 84.
[48] سورة المائدة، الآيتان 20، 21.
[49] سورة طه، الآية 47.
[50] انظر محمد العدوي (دعوة الرسل إلى الله) صفحة (ل) في المقدمة.(/14)
العنوان: أيُّ الفريقين أحقُّ بالأزْرِ
رقم المقالة: 1779
صاحب المقالة: د. ياسر سقيرم
-----------------------------------------
أي الفريقين أحق بالأزر؟ آلذين آمنوا ولَبَسوا إيمانَهم بظلم فثلثوا ومثلوا، أم الذين قالوا ربنا الله ثم راموا الاستقامة فجانبوها لأجل جهلهم؟
ليس ما سبق دعوةً إلى التجاهل، وإلى طي دعوة قوم تقديمًا لآخرين، غير أن ثمة أولويات يجدُر بمن تزيا بلباس المصلحين اتباعُها، يقول الشيخ عبد الرحمن السميط إمام الدعاة بأفريقيا ما خلاصته: (قد تخرَّج بعالم المسلمين دعاةٌ كثر، فقهوا وسائلَ الدعوة، غير أنهم لم يُعلَّموا التضحيةَ في سبيل ذلك).
إن شرعتنا هي شرعة التضحية بما يفنى تشوُّفًا لما يدوم ويبقى، والآي الكريمات ملأى والشواهد أكثر من أن تعد وتحصى، وخيار صحب رسول الهدى فقهوا عنه ذلك فكان بثوب من يحكم العرب والعجم ثلاث وعشرون رقعة، وعند من ينتدب لولايتهم ثوب واحد، ولميِّتهم كفنٌ من عشب، ولقدوتهم حجران يربطهما على بطنه إذا اشتد به ألمُ الجوع، بأبي هو وأمي وبنيّ وجميع صحبي.
لقد عاتب القرآنُ خيرَ من وطئ الحصى لتركه الفاضل إلى المفضول، وكلنا يعرف ما الفاضل وما المفضول في قصة الأعمى {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 5-9].
نقول لجموع الدعاة ممن تترس ببلاد الصقيع وألفت نفسُه عبقَ الشمال: هم قوم يمجُّونكم، ولا يفتأ الأنَفُ بأفئدتهم ترقى بوائقُه، وهم قومُ سوء بأرض سوء وفتن، وحياتهم ضنكة مكلفة، فلِمَ رميُ العصا بأرضِهم وأرضُ غيرهم أخصب؟(/1)
لن أسوق كثيرًا من الأمثلة بين يدي القارئ خلا مثالا واحدًا: إن بأفريقيا ما يزيد على مائتين وخمسين مليون وثني وأكثر منهم نصارى لا يعرفون عن النصرانية إلا رسم الصليب وعصا القساوسة المعقوفة، قوم تكفيهم ابتسامة من مخلص ليسلموا، ليس لديهم علم يمارونك به ولا يريدون، ألا يكفيك بشارةً أن تعلم أن رجلاً واحداً أسلم على يديه ثلاثةُ ملايين منهم؟ أي غنائم أبرد؟ لقد عايشتُ قصصًا يندى لها الجبين عن أناس كنسوا وقار المسلم عن قلوبهم ثم نفخوا على غبار العزة فصار واحدهم مسخاً بلحية.
يقول أحد الإسكندينافيين -وقد بقي من مدة حبسه النذر اليسير بأحد الدول المسلمة-: (لقد منّ الله عليّ بالإسلام في حبسي، وأحمد الله على ذلك، لقد كنت أجلب ما حرم الله إلى داخل البلاد التي أعمل بها، وما شجعني أن ضباط الجمارك كانوا يجدّون عند كل وافد، ولكن حين آتي تفترّ الشفاه عن ابتسامات عريضة وهمهمات متكسرة مفادها أن: (أهلا بك وسهلا).
أين منا فخرٌ كفخر الجاهلي ابن كلثوم في معلقته:
ونشربُ إن ورَدْنا الماء صفوًا ويشرب غيرُنا كدراً وطينا
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ تخِرُّ له الجبابرُ ساجدينا(/2)
لله درُّ ذلك الفتى اليافع الذي سبق درهمُه ألفَ درهم، قدم مطوية قيمتها خمس هللات إلى رجل فلبيني، وقدّم قبلها دعوة صادقة لرب رحيم أن اهدِ عبدَك الضال، ثم كسا شفتيه بابتسامة بيضاء من قلب وجل، وما هي إلا أيام حتى فتح الرجلُ المطويةَ فضولا ليطير قلبه شَعاعاً وليذوب بدنه فيخرج سائلا بين مقلتيه، أطرق إلى الأرض وأطرق، وزاغت عيناه تبحثان بين جنبات حائطه المشقق عمن يخبره أنه كان على صواب، ولكن هيهات، نهض عن أريكته مسرعًا إلى الباب فقابله زملاؤه على عتبته، ظنوا به الشر حين رأوا هيئته، أمسك به أحدهم فصعّد فيه النظر وصوّبه، نظرات زائغة وعيون باكية وكف يرتجف، انفلت وعاد ليخبرهم أنه ذاهب إلى البلاد، وحين سألوه عن السبب قال: لأنقذ أهلي من النار!! ألا ليت شعري هل تمثل قول الشاعر:
ولو أني حُبيتُ الخلدَ فردًا لما أحببتُ بالخلد انفرادا
فلا هطَلَتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا
سافر وآب بعد عام واحد، قابل أحد المشايخ بمكتب للجاليات، قائلاً: إن الله قد هدى على يديه ثلاث مئة من أهل بيته وأصدقائه، وأنه بصدد بناء مركز إسلامي كبير بمانيلا.
بخٍ بخٍ ليد غضة قدمت هلللاتٍ خمس فنالت بها أجر صلوات قوم وحجهم وزكواتهم وصومهم من دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، هم وآباؤهم وأحفادهم إلى يوم القيامة.(/3)
لقد راعني بأحد مكاتب الدعوة يومًا أن رأيتُ حركة ونشاطًا وترتيبًا لغرفة المدير وأطباق الحلوى والعصيرات تترى، فما هو إلا أن علمت أن (سويدياً) آتٍ ليسلم. تمنيتُ -وقد اعتصرني الألم- أني لم أرَ ما رأيت، لقد والله عاصرتُ ساعياً للشاهي أسلم فحسن إسلامه وجدَّ في الدرس حتى لكأني أرى علمه في سنتيه يضارع ما لدي، وعاشرتُ أوربياً مرموقاً أسلم وأسلم صلاته إلى مهد النعاس، وحين سؤالي زوجته المسلمة العربية تعلَّلَتْ بأنه لم يعتد ذلك!! لو كان الأمرُ من باب إنزال الناس منازلهم لما تكدر خاطري ولكنها الدنية. نسيت أن أقول إن السويدي عقب نطقه الشهادتين طالب بورقة من الشؤون الإسلامية تثبت إسلامَه فهو مستشارٌ هندسي بشركة عالمية تعمل بالمشاعر المقدسة وهو بصدد الذهاب إلى هناك؟؟؟
(إنما بعثتم دعاة ولم تبعثوا قضاة) عبارة نطق بها الفاروق وصدق، ليس لنا التنقيب في أفئدة البشر، ولكن لنا البكاء على حالنا كما لنا أن نعدل من مسارنا، لا نريد لعلمنا وعلمائنا أن تصدق عليهم عبارة (وليم شكسبير) واصفاً شعر وجهه: (وفرة في الإنتاج وسوء في التوزيع).
إن تكدس العلم والعلماء بمناطق وندرته بمناطق تنوء بعدد ساكنيها لأمرٌ يستحق التدبر، وإن زهد العلماء عن سكنى الديار المقفرة بغية تعليم أهلها لأمر يستحق التفكر.(/4)
العنوان: آيات في وصف القرآن ووجوب الإيمان به
رقم المقالة: 1504
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
سورة البقرة
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)}
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ (99)}
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)}
سورة النساء(/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47)}
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82)}
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105)}
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)}
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (116)}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً (174)}
سورة المائدة
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)}(/2)
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)}
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)}
سورة الأنعام
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (19)}(/3)
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (50)}
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66)}
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ (157)}
سورة الأعراف
{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3)}
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
{وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}
سورة يونس(/4)
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108)}
سورة هود
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (17)}
سورة يوسف
{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)}
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104)}
سورة الرعد
{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1)}
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}(/5)
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (37)}
سورة إبراهيم
{هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (52)}
سورة الحجر
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}
سورة النحل
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}
{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
سورة الإسراء
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)}
سورة طه
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100)}
سورة الأنبياء
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50)}
سورة الفرقان
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1)}(/6)
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)}
سورة الشعراء
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)}
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)}
سورة النمل
{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (1)}
{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}
سورة القصص
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)}
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (85)}
سورة العنكبوت
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)}
سورة الروم
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)}
سورة لقمان
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)}
سورة سبأ
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)}
سورة ص(/7)
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29)}
سورة الزمر
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)}
سورة غافر
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)}
سورة فصلت
{تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)}
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)}
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)}
سورة الشورى
{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)}
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)}
{اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)}(/8)
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)}
سورة الزخرف
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)}
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43)}
سورة الدخان
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3)}
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)}
سورة الجاثية
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}
سورة الأحقاف
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}
سورة محمد
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)}(/9)
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}
سورة القمر
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17)}
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22)}
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (32)}
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (40)}
سورة الواقعة
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80)}
سورة الحشر
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
سورة التغابن
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)}
سورة الطلاق
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)}
سورة القلم
{وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52)}
سورة الحاقة
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43)}(/10)
{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48)}
{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)}
سورة الجن
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2)}
سورة المزّمِّل
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)}
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)}
سورة المدّثر
{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55)}
سورة القيامة
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}
سورة الإنسان
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً (23)}
سورة عبس
{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)}(/11)
سورة التكوير
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)}
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)}
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27)}
سورة البروج
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)}
سورة العلق
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}
سورة البينة
{رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}(/12)
العنوان: أيتها المرأة.. لا يفوتنك هذا الخبر!
رقم المقالة: 1775
صاحب المقالة: د. عبدالرزاق مرزوكَ
-----------------------------------------
سببُ كتابة المقالة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
وبعد، فقد قرأت إدراجًا هامًا في إحدى المدونات العربية بعنوان (احذري هذا الرجل)؛ ذكرت فيه صاحبتُه –نقلا عن المحللة النفسية الدكتورة (بيتاني مارشال)- خصالا سالبة طاعنة في شخصية أصناف من الرجال؛ تحذر المرأةَ من التعلق بهم، فوجدته جديرًا بالتأمل لما اشتملت عليه مضامينُه المختصرةُ من الإثارة والتعميم، لا سيما وأن المحذرة متخصصة، فكتبتُ هذه المقالة تعليقًا على ما قرأت؛ بذكر أمور أرى إضافتها لازمة، ودفع أمور تأباها قواعدُ الدين والعلم، والله أعلم، وهذا عنوان المدونة:
http://shawar2.maktoobblog.com/
موضوع المقالة:
فأردتُ تخصيصَ ذلك التعميم تذكيرًا باستثناء يجب اعتبارُه في عد أصناف الرجال، بل حسبت أن تعليقي هذا أشبه بالإسعاف الضروري لمريض يئس أن يجد من يرعاه حتى شفائه، لا سيما وأن صاحبة المدونة جعلت في استخلاصها تقسيم (بيتاني مارشال) لأصناف الرجال هو التقسيم الجامع المانع الحاسم، ثم سارعت فأسست عليه قولَها العام في الحكم على الرجل الشرقي، وحصرت خصاله في أسوأ ما يقع من رجل ظالم في معاملة زوجته، ولعلها لم تر من الرجل الشرقي -بالنظر إلى حصيلة دراستها وتجربتها- ما يدفعها إلى التخصيص والاستثناء، لكني أرى أن تعميمها في غير محله.
وأسوق فيما يلي كلام الدكتورة (مارشال) كما أوردته السيدة صاحبة المدونة قبل التعليق عليه؛ إذ ذكرت أنها تحذر المرأةَ من خمسة أصناف من الرجال؛ تنصحها أن "لا تتورط معهم بعلاقةٍ أو زواج"، وتعلل ذلك ببيان سلوك كل صنف.(/1)
الأول: الرجل السيناريست، ومثلت له بصناع الأفلام، "فهو صانع الأحداث والنهايات؛ يتعامل مع زوجته كأنها إحدى بطلات قصته دون أن يكون لها حق تغيير معالم وحدود الشخصية التي يرسُمها لها، لذلك فإن أي تصرف فردي من قبل الزوجة مرفوض سلفًا".
الثاني: الرجل المسؤول، الذي "يلقي الأوامر والنواهي بأسلوب تسلطي كطغاة الحقبة السوفيتية، ليس هذا فحسب؛ إنما يتدخل في كل تفاصيل المنزل، ويدس أنفه في اللازم وغير اللازم على اعتبار أنه يفهم في كل شيء".
الثالث: رجل بلا نقائص، وهو الذي "لا يدور إلا في فلك ذاته؛ شعاره: أنا والطوفان من بعدي، تضخمه الذاتي لا يسمح له برؤية أبعد من اهتماماته الشخصية".
الرابع: الرجل الخفي، وهذا في نظر الدكتورة بيتاني مارشال "وجوده كعدمه؛ فهو لا يبادر، ولا يتجاوب، ولا يتفاعل".
الخامس: الرجل الطفل، "الذي يوجد أصلا داخل كل رجل مهما بلغ من العمر عتيا، إلا أن طفولته في بعض الحالات تطغى على رجولته؛ فيتكشف نقصُه العاطفي ورغبتُه الدائمة في الاعتماد والاتكال على غيره لا سيما زوجته المسكينة، فوق ذلك يتهرب الرجل الطفل من تحمل المسؤولية، وبرأيي هذا أسوؤهم جميعا".
وهذا في الواقع تقسيم دقيق، ووصف عميق؛ تتجلى فيه آثار اختصاص صاحبته وخبرتها، لكنه –مع كونه واقعيا مثيرًا– ليس جديدًا؛ فقد صحَّ من أخبار الجاهلية الأولى ما يدل على اهتمام النساء "الجاهليات" بمعرفة أصناف الرجال، وتمييز خصالهم الحميدة من الشائنة، وعنايتهن الدقيقة، وخبرتهن البالغة آنذاك بهذا الشأن، ونبوغهن الباهر في وصفه وعرضه.(/2)
وذكرت كل واحدة منهن –في الخبر التالي- خلاصةَ تجربتها الصادقة إلى التاريخ مما تعيشه حقيقة، فجمعت بين صفة المنظّرة المحللة المتخصّصة، وصفة المجرّبة.. آنذاك في زمن الرمال والجمال والخيام؛ حيث لم يكن وجودٌ لمدارس التربية والتثقيف، ولا لمعاهد التوجيه والتطوير ذات التخصصات الدقيقة المختلفة الكفيلة بتفتيق المواهب الإنسانية واستثمارها بالبحث في مجال علم النفس.
بل زدن على الخبرةِ الإنصافَ والشمول، فذكرن القبيح والحسن من خصال الرجال، فوافقن قواعدَ الفطرة والمنطق السليم؛ إذ إن الاكتفاء بعدّ خصال الرجل السيئة في سياق نصح المرأة وتحذيرها لا يحملها إلا على العزوف عن الزواج.
أما الخبر الذي أقصده؛ فهو حديث أم زرع الصحيح المشهور الزاخر بدلائل وعي المرأة العربية الأولى بهذا الشأن، ونبوغها الباهر في وصفه وعرضه، وكذا وعيها بذاتها ورفيع مكانتها، وإدراكها الثاقب لقيم أنوثتها، وإبصارها بحقوقها المكسوبة والمسلوبة، وريادتها في مجال التحليل النفسي، والتوجيه الاجتماعي.
ولا يخفى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استثنى من الحياة الجاهلية الأولى مشاهد رشد واستقامة في التصور والسلوك؛ لا يفصلها عن النموذج الإسلامي ما يفصل الجاهلية عن الإسلام؛ كحلف الفضول الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "شَهِدتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفاً مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلاَمِ لأَجَبْتُ" [سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام 1/145، والبدر المنير لابن الملقن 7/325، وهو صحيح كما في تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول رقم 147985 ].(/3)
أما خبرُ أم زرع فترويه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْيَمَنِ كَانَ بِهَا بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ الْيَمَنِ، وَكَانَ مِنْهُمْ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَأَنَّهُنَّ خَرَجْنَ إِلَى مَجْلِسٍ لَهُنَّ؛ فَقَالَ بَعْضُهُنَّ لِبَعْضٍ: تَعَالَيْنَ فَلْنَذْكُرْ بُعُولَتَنَا بِمَا فِيهِمْ وَلاَ نَكْذِبُ، فَبَايَعْنَ عَلَى ذَلِكَ...". أخرج أصلَه موقوفًا البخاريُّ في كتاب النكاح من صحيحه، باب حسن المعاشرة مع الأهل (9 / 254 فتح).
ثم ساق النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر كل امرأة، وخلاصة ما خبرت به زوجها، وعاملها به من الخصال الشائنة والحميدة، فأفضين إلى بعضهن؛ فمنهن اللائمة الشاكية، ومنهن الراضية الشاكرة..، والحديث صحيح رواه البخاري وغيره، أورده فيما يلي مختصرًا، مشفوعًا بتقريب غريبه واستخراج فوائد انتقيتها من كلام شارحيه:
وقد بدلت ترتيبه كي أضم الخصال الحميدة إلى بعضها، وجعلتها في الطليعة اعتبارًا لمقصدي من هذا التعليق، وإننا حقا لمغبونون في تاريخ ديانتنا؛ لأن فيه أسرارًا ودفائن علمية وثقافية لو أثرناها وكشفناها وأحسنَّا عرضها لوجدنا كثيرًا مما يثيرنا ونستحسنه لدى أهل المعرفة من الغربيين قد اشتمل عليه دينُنا أحسنَ اشتمال وأتَمَّه، وتضمنه أجلَّ تضمنٍ وأجْمَلَه؛ على بعد ما بين زماننا "الحديث" وزمان الأسلاف "القديم".
وإن أحسن ما في هذا الخبر القديم النفيس العجيب –بالنظر إلى كلام المحللة النفسية بيتاني مارشال– الاعتدال والتوسط، إذ عد بعض النسوة خصالَ أنواع من الرجال السيئين، وعدت الباقيات خصالَ رجال كرام طيبين، فهذا صدقٌ وعدل واتزان يشهد له الواقعُ في زماننا وزمانهم سواء.(/4)
وأحسب أن الدكتورة مارشال لو اطلعت على تصنيفهن وحسن أدائهن، وما عرفن به من إنشاء النوادي الثقافية النافعة، وترتيب اللقاءات الاجتماعية الهامة، وتنظيم جلسات التكافل النفسي والمواساة والرعاية لحقوق بعضهن تضامنًا وتناصرًا، وتعاهدهن على ميثاق شرف محلي أشبه بمواثيق حقوق النساء المحلية والدولية المعاصرة.. لعلا لديها شأنُ بدويات منسيات؛ قد ضرب ذكرُهن في غياهب عهد منبوذ.
فلله ما أعظمَ جنايتَنا على أصول ثقافتنا، فقد صرنا لقلة عنايتنا بنفائسها، وانبهارنا بثقافة غيرنا كأننا لا تراثَ لنا ولا حضارة، فانظر إلى ما اجتمع عليه هؤلاء النسوةُ (الجاهلياتُ) في ذلك العهد (البالي) من الشؤون المعالي، وما اشتمل عليه كلامُهن من البلاغة والجزالة والإيجاز والإبداع مع وفرة المعاني الكبيرة، وجلال المقاصد والمرامي العجيبة المثيرة:
قالت الأولى -وهي مهدد بنت أبي هزومة- (اللَّيْلُ لَيْلُ تِهَامَة، وَالْغَيْثُ غَيْثُ غَمَامَة، وَلاَ حَرَّ وَلاَ خَامَة، وَلاَ مَخَافَةَ وَلاَ سَآمَة).
فهذه تصف حال زوجها بأربع خصال حميدة:
- أنه جميلُ العشرة، معتدلُ الحال، سليم الباطن، فهي تلذّ العيش عنده كلذة أهل تهامة بليلهم المعتدل، لا يؤذيها، ولا يمل من عشرتها، ولا تمل من عشرته.
- أنه لين الجانب، خفيف الوطأة على الصاحب، لذلك قالت (ولا خامة)؛ أي لا تستثقله، ولا تشكوه.
- أنه كريم جواد، فشبهت جوده بغيث الغمامة.
- أنه حامي الذمار، مانع للدار والجار؛ لا مخافة عند من يأوي إليه، كأهل تهامة المتحصنين بجبالها.
وإنما ضربَت المثلَ بليل تهامة في الطيب لأنها بلاد حارة في غالب الزمان، وليس فيها رياح باردة، فإذا كان الليل سكن وهجُ الحر، فيطيب الليلُ لأهلها بالنظر إلى ما كانوا فيه من أذى حر النهار.
وقالت الثانية –وهي كبشة-: (زوجي إِذَا دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ).
فهذه تصف زوجها بصفات حميدة ثلاث:(/5)
- اللين والغفلة المحمودة عند دخول البيت، وشبهته فيما قالت بالفهد؛ لأنه يوصف بالحياء وقلة الشر.
- النشاط والغزو إذا خرج من البيت، فيصير كالأسد في إقدامه.
- شدة الكرم والسماحة، وكثرة التغاضي، لا يتفقد ما ذهب من ماله، وإذا جاء بشيء لا يسأل عنه بعد ذلك، ولا يلتفت إلى ما قد يرى في البيت من المعايب.
وقالت الثالثة –وهي بنت أوس بن عبد-: (زوجي: الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَب، وَأَنَا أَغْلِبُهُ، وَالنَّاسَ يَغْلِب).
الأرنب معروف، والزَّرْنَبُ: نبت طيب الريح.
واللام في (المس) و(الريح) نائبة عن الضمير؛ أي : مس زوجي وريحه.
فهذه تصفُ زوجَها بأنه ناعم الجسد، حسن الخلق، لين العريكة.
وأنه طيب العرق لكثرة نظافته واستعماله الطيب.
وأنها تغلبه لصبره عليها وجميل عشرته لها، وهي خصلة لا تنافي الشجاعة، ولذلك قالت (والناس يغلب)؛ لئلا يظن أنه لكرم سجاياه جبان ضعيف.
وقالت الرابعة: (زوجي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ البَيْتِ مِنَ النَّاد)
فهذه تصف زوجها بأربع خصال حميدة:
- أنه طويل البيت عاليه لأنه من الأشراف؛ قد بنى بيته في موضع مرتفع كي يقصده الطارقون والوافدون، ولازِمُ طول البيت أن يكون متسعًا كثيرَ الحاشية والغاشية، فكَنَتْ بذلك عن شرفه ورفعة قدره.
- وأنه طويل القامة يحتاج إلى طول نِجاد، والنِّجاد حِمالة السيف، فضمَّنت ما مدحته به من طول القامة الإشارةَ إلى أنه أيضا شجاع.
- وأنه كريم لا تطفأ نار قراه كي تهتدي إليها الضيفان، فيصير رماد النار كثيرًا لذلك، ولذلك قالت (عظيم الرماد).
- وأنه في قومه شريف سيد، فهم إذا تفاوضوا وتشاوروا في أمر أتوا فجلسوا قريبًا من بيته، فاعتمدوا رأيه، وامتثلوا أمره، ولذلك قالت (قريب البيت من الناد)، والنادي: مجلس القوم.(/6)
وقالت الخامسة –وهي كبشة بنت الأرقم-: (زوجي مَالِك، وَمَا مَالِك؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِن ذَلك، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِك، قَلِيلاَتُ الْمَسَارِحِ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِك)
والمِزْهَر : آلة من آلات اللهو.
وقولها (وما مالك؟) استفهام للتعظيم والتعجب، وتكرير الاسم أَدْخَلُ في باب التعظيم، وقولها (مالك خير من مالك) زيادة في إعظام زوجها، وأنه خير مما أشارت إليه من ثناء، وفوق ما يعتقد فيه من السؤدد، و فضله أجل من أن يوصف.
فهذه وصفت زوجها بأنه كريم، فإبله قليلات المسارح؛ فلا يوجِّه منهن إلى المسارح إلا قليلا ويستبقي سائرهن بفنائه استعدادًا للضيفان، فهي في الأصل إبل كثيرات، ثم إذا سرحت صارت قليلة لأجل ما ذهب منها.
فعادته بنحر الإبل للضيفان كثيرة حتى صارت إذا سمعت صوت الغناء فرحًا بهم عرفت أنها منحورة لا محالة.
وقالت السادسة –وهي أم زرع-: (زوجي أبو زَرْع، فَمَا أَبُو زَرْع، أَنَاسَ مِنْ حُلِيِّ أُذُنَيَّ وَفَرْعَيَّ، وَمَلأَ مِن شَحْمِ عَضُدَيَّ، وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، فعنده أَقُولُ فَلاَ أُقَبَّح، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّح، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّح..)
وقولها (أَنَاسَ) معناه: أثقل، أي أثقل أذنيها بالحلي حتى تدلى واضطرب.
وقولها (وَفَرْعَيَّ) معناه: مِعْصَمَيَّ.
وقولها (وَمَلأَ مِن شَحْمِ عَضُدَيَّ) المراد به الجسد كله؛ لأن العضد إذا سمنت سمن سائرُ الجسد، وخصت العضد لأنها أقرب ما يلي بصر الإنسان من جسده.
وقولها (وَبَجَّحَنٍي) معناه: وسَّع عليَّ وترَّفني فعظمت عندي نفسي.
وقولها (فَأَتَصَبَّحُ) معناه: أنام الصُّبْحَة، وهي نوم أول النهار، فلا أوقظ، إشارة إلى أن لها من يكفيها مؤنة بيتها ومهنة أهلها.
وقولها (فَأَتَقَنَّحُ) معناه: أنها تشرب على مهل لكثرة اللبن، لأنها آمنة من قلته فلا تبادر إليه مخافة نفاده.(/7)
فهذه تثني على زوجها بكونها عزيزة عنده وكثيرة الخير لديه، وأنه لا يبالي بما يملك رعاية لها وعناية بها، فأثقل أذنيها ومعصميها بالحلي، ووسع عليها في المعيشة والعطاء حتى نعمها تنعيمًا، وكفاها مؤنة بيتها، بمن يرعاها حرصًا على راحتها، حتى صارت لكثرة إكرامه لها وتدللها عليه لا يرد لها قولا ولا يقبحه، فهي تزهو لذلك.
وقالت السابعة: (زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثّ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْثٍ، لاَ سَهْلٍ فَيُرْتَقَى، وَلاَ سَمِينٍ فَيُنْتَقَى).
والْغَثُّ: الهزيل، يقال في مقابلة السمين.
والْوَعْثُ: الصعب المرتقى الذي يشق المشي فيه.
وقولها (فَيُنْتَقَى) راجع إلى اللحم؛ أي لا نِقْيَ له، والنِّقْيُ -بكسر النون-: المخ، أي أنه لحم لا مخ له يطلب لأجله، ويقال إن آخر ما يبقى في الجمل مخ عظم المفاصل، ومخ العين؛ فإذا نفدا لم يبق فيه خير.
فهذه وصفت زوجها بثلاث خصال ذميمة :
- أنه كلحم الجمل الذي ضاقت عظامُه عن أن يكون فيها مخ، مع كونه مستكره الطعم والرائحة، وهذه كناية عن البخل وقلة الخير.
- أنه صعب التناول، يسمو بنفسه فوق موضعها؛ فلا يوصل إليه إلا بمشقة، وهذه كناية عن العجب والكبر ووعورة الخلق.
- أن زوجته يائسة مما ينبغي أن يبذله زوجُها من أجلها رعاية وحبًا، فهو بمثابة لحم هزيل على رأس جبل بعيد.
وقالت الثامنة -وهي عمرة بنت عمرو-: (زَوْجِي مَنْ لاَ أَذْكُرُهُ، وَلاَ أَبُثُّ خَبَرَهُ، إني أَخَافُ أَن لاَ أَذَرَهُ؛ إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ).
والْعُجَرُ والْبُجَرُ: جمع عُجْرَة وبُجْرَة، فالعجر: ما تعقد من عصب الجسد وعروقه، والبجر: ما تعقد من ذلك في البطن خاصة، ويستعملان في الأحزان والمعايب، وقيل: العجر عامة في سائر البدن، والبجر خاصة بالقلب.(/8)
فهذه أرادت أن زوجها كثير المعايب، جافي القلب، متعقد النفس عن المكارم، وتخاف إن شرعت في عد خصال زوجها أن لا تقدر على إكمال حديثها حسرة وتألما، فاكتفت بالإشارة إلى تلك المعايب خشية أن يطول الخطب بإيرادها جميعا.
وقالت التاسعة –وهي حُبَّى بنت كعب-: (زَوْجِي الْعَشَنَّق، إِنْ أَنطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ).
والْعَشَنَّقُ : صفة لمن فحش طوله من الرجال، وهو ليس عيبًا، لكن بالنظر إلى ما ساقته بعدُ من سوء خلق زوجها أرادت أنه ليس عنده أكثر من طوله بغير نفع.
فهذه تصف سوء حالها عند زوجها، وأنها منه على حذر، فهو لا يحتمل كلامها إن هي شكت له حالها بادر إلى تطليقها، وإن سكتت صابرة على تلك الحال فهي عنده كالمعلقة؛ لا ذات زوج ولا أيم.
وقد يكون قولها (أعلق) مشتقا من علاقة الحب، أي إن نطقت طلقني، وإن سكتت بقيت زوجة له، وأنا أوثر السكوت لأني لا أحتمل تطليقه لي.
وقالت العاشرة –وهي هند-: (زوجي إِنْ أَكَلَ لَفَّ، وَإِن شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِن اضطَجَعَ الْتَفَّ، وَلاَ يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ)
فهذه تصف زوجها بأربع خصال ذميمة:
- إذا أكل لف؛ أي يستقصي إذا أكل حتى لا يترك من الطعام شيئًا، ويخلط صنوف الطعام لشدة نهمه وشرهه.
- الاشتفاف في الشرب، والمراد به الاستقصاء أيضا.
- الالتفاف؛ أي يرقد ناحية، وينام نوم العاجز الكسول، أو يتلفف بكسائه وحده وينقبض إعراضًا عن زوجته، فيدعها كئيبة حزينة، فلا يدنيها منه.
- عدم السؤال عما يعنيها، ويقع اهتمامها به من الشؤون، والمراد بـ (البث) شدة الحزن؛ أي لا يمد يده ليعلم ما هي عليه من الشكوى والحزن ليزيله.
وهو أيضا كناية عن تركه مداعبتها وتجنبه إياها، فجمعت في وصفها لحاله معها بين اللؤم، والبخل، والنهم، والمهانة، وسوء العشرة مع أهله.(/9)
وقالت الحادية عشرة –وهي حبى بنت علقمة-: (زَوْجِي غَيَايَاء، طَبَاقَاء، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلاًّ لَكِ).
والغَيَايَاء: من الغَيايَة، وهي الظلمة، أي لا يهتدي إلى مسلك.
والطَّبَاقَاء: الأحمق المطبق عليه من الحمق.
والشَّجُّ: الجرح في الرأس.
والْفَلُّ: الجرح في الجسد.
فهذه تصفُ زوجها بالخيبة وثقل الروح، وأنه مظلم الحال كالظل المتكاثف الظلمة الذي لا إشراق فيه.
وأن كل ما تفرق في غيره من المعايب قد اجتمع فيه، وأن كل علة فيه غاية في التناهي، لذلك قالت : (كل داء له داء).
وأنه لا يخلو إما أن تحدثه فيسبها، أو تمازحه فيشجها، أو تغضبه فيشق جلدها، أو يكسر عضوًا من أعضائها، أو يغير على مالها، أو يجمع كل ذلك من الضرب والجرح والأذى بموجع الكلام، وأخذ المال.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(/10)
العنوان: أيسر القواعد لبلوغ ما نبل من المقاصد
رقم المقالة: 1981
صاحب المقالة: د. محمد بريش
-----------------------------------------
القاعدة الأولى
العناية القصوى هي للحق وأصواته
ولا فزع من ضخامة حجم الباطل، ولا من تعدد أبواقه
يقول الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 11-20].
فلا يزال الباطل يتسعُ مجالُه بغياب الحق وتراجع أهله عن مواقعهم، وتخليهم عن مسؤولياتهم، حتى انطفاء آخر جذوة للحق أو ضعفها. فإذا حصل ذلك أضحى القومُ في غير مأمن من عذاب الله إلا أن يلطف الله جل في علاه، وأوشكوا أن يَستبدِل الله قومًا غيرهم فلا يكونوا أمثالهم. ثم ينصر الله الفئة المستضعفة المتمسكة بالدين والمعتصمة بحبله المتين، فيقدف الله بالحق على الباطل "فيدمغه" ويقهره ويهلكه، فإذا هو زاهق فارّ مُوَلٍ للدبر.
وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ. ذلك أن الباطل لا يزول بالتفاوض معه، ولا بـ(التطبيع) مع رهطه، ولا بالاكتفاء بالنظر إليه بوجه عبوس. وإنما مزهقُ الباطل الوحيد هو الحق، والقوة الكبرى دائمًا مع الحق، لا يؤثر فيها حجمُ الباطل وشكلُه بشيء، ولهذا لزم الاهتمامُ بالحق وأصواته ومنابره وأدواته دون غيره.(/1)
والمراد بالحق في الآية الوحي المعصوم كتابًا وسنة، وما يدعو إليه من عبادات وأخلاق ومعاملات، وتقوى والتزام ونهج للصراط المستقيم، وما يعرضه من بيان وما يرسيه من أركان، وما يقدمه من حجج، وما يجليه عبر وحيه وسننه من دلائل وبراهين.
والباطل الشيطان، وما مكّنه الله -عز وجل- من سبل تزيين ووسوسة وتخويف وتضليل، وما يدلي به هو وقبيله من شبه، وما يقومون به من مكر، وما يأمرون به من منكر، وما يفترونه على الله وعلى أهل الحق من الكذب والبهتان.
والآية تشير بوضوح إلى أننا لسنا ملزمين باللَّحاق بالباطل حتى نمسك به كليا، ولا أن نستغرق الجهدَ ملاحقةً له منشغلين به دون غيره، بل تدعونا أن نسعى بما استطعنا وما استجمعنا من قوة أن نقذف بالحق باسم الله وبعونه على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. وزهوقه لا يعني القضاء النهائي عليه، وإنما المتحقق استحالة رجوعه ما دام للحق الدامغ وجود.
هذه السنة -التي لن نجد لها تبديلا ولا تحويلا- تفرض علينا صرف العناية أساسًا لتوطيد وتقوية الحق، ونصرة أهل الحق، والاستثمار العلمي والعملي في دوام حضور الحق، ذلك أن ضعفه مؤذن بعودة الباطل. فالثبات على الحق والدفاع عنه واستمرارية وجوده هو الأساس، أما أن نفرط في شروط بقاء الحق سائدًا، وننشغل بكيفية احتلال الباطل للمواقع بغياب الحق، فذلك جانب من الغفلة والجهل بالسنن غير هين.
فالنهي عن المنكر لا يقتضي صب العناية جهةَ المنكر استغراقًا للجهد في وصفه، ولا تقعيد النفس بالتهويل من فعله. أكيدٌ أن النهي عن المنكر هو في حد ذاته حق ومعروف، وفعلنا يلزم أن يتجلى دائمًا في دائرة الحق والمعروف، لكن من حسن المعروف وترسيخ المعروف أن ينصب اهتمامُنا جهةَ سيادة الحق وتوسيع دائرة المعروف، بالحفاظ على شروط بقاء المنجز من أركان قيام تلك السيادة وسعة تلك الدائرة، والبحث عن الاستجابة لشروط بقائها ونمو أثرها في سلوك الفرد والجماعة ومؤسسات المجتمع.(/2)
فلو أن شارعًا من شوارع المدينة به مائة مصباح موزعة بين اليمين والشمال، معطل جلها لغياب الصيانة وعدم العناية إلا مصباحان أو ثلاثة، وجاء المكلفون بالإصلاح يهوّلون من فعل الظلمة، ويكثرون من تهويل أمرها وتعظيم اشتدادها وانتشارها، والناس يرددون معهم يا هولنا قد قوي الظلام، ويا ويلتنا كم اشتدت العتمة، ... ألا يكون هذا من قبيل سخرية بعضهم من بعض؟ هل الشرعة المثلى والمنهج السليم في إصلاح المصابيح أو في سب الظلام ووصف قبحه وتهويل مفعوله؟
فكذلك ما نحن فيه من واقع محزن، إذ الكثير منا يردد أنه قد استفحل المنكر، دون أن يدرك -إلى جنب تلك الحقيقة المرة- أن الذي استفحل واشتد حتى أضحى مرضًا مزمنًا هو ضعف انتشار واستقرار المعروف وتقاعس أصوات الحق. فكثير منا يردد أن واقعنا وعصرنا قد عمت به البلوى، وكثرت فيه أصوات الشيطان والهوى، وعمّ فيه المنكر أرجاء المعمور كافة، ناسيًا أو متناسيًا أن الذي ضعف حضورُه وطال غيابُ صولته هو صوت الحق وإقدام رجال الحق. فنحن لا نقبل عذرًا ممن يصرخ حين الظلمة أن لا سبيل للنور في وجه تفاقم الظلام، ولكن نسأل معه: لم انعدمت مشكاة النور ومصابيح الضياء؟؟؟ مستحضرين علمنا الفطري بأن غياب النور هو عين الظلمة.
وأصل الداء أن فئات واسعة من الناس ترى في القيام بأعباء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرد فرض كفاية، وما دامت هنالك أجهزة للشؤون الدينية وأخرى للشؤون الاجتماعية والإدارية والقضائية والأمنية مفروض فيها القيام بتلك الأعباء، فلا مسؤولية عليهم. وهذا قول لا يبرئنا أمام الله عز وجل؛ لأن بقاء الحق والعناية بأهله وأصواته واجب يجب أن يجنّد له الجميع، كل حسب مسؤولياته. فكون المسؤوليات متعددة لا يعني انتفاءها عن أهلها أو تخلي البعض عن واجباتهم التي يرونها صغرى أو غير ذات جدوى بدعوى عظم وجسامة مسؤوليات آخرين فوقهم في السلطة وتدبير الشان العام.(/3)
فالله -عز وجل- يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، أي ظهرت المعاصي في بر الأرض وبحرها بما اكتسبت أيدي الناس وباقترافها ما نهى الله عنه، وانتشار المنكر بسكوت أهل الحق وضعف تواصل أثرهم. فهذا هو مآل الكون إذا ما ضيع الحق وسكت أهله، أو أسكتوا واكتفوا بلغو يهوّل الباطل ويتفنن في وصف كيفية فتكه بالعقول والنفوس، ويشرح احتلاله للمواقع، بل أمثلهم طريقة يرى من الأولوية أن يُبكي وينتحب لغياب الحق ويشفق على حاله.
يقول الله عز وجل في سورة الأعراف [الآية: 96]: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
ويقول سبحانه في سورة المائدة [الآيتان 65-66): {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}.(/4)
وكلمة "ولو أن" تشير في الآيتين معا إلى مستقبل ممكن ومحقق بإذن الله ومشيئته لو استجيب لشروطه، لكنه مستقبل مفقود بضياع تلك الاستجابة وفسح المجال تهاونًا وضعفًا وكسلا للباطل. فالباطل لا يقنع بجزء من الذات، ولا بركن من الكون، فهو بطبعه لا يزهقه إلا الحق، ولا يمكن بأي حال التفاوض مع أهله -وعلى رأسهم إبليس- بأن لا يتجاوزوا نسبة مئوية معينة، فهو من سنته التي أنشأه الله عليها أن لا يقف حتى يعم البر والبحر، فلا يدع مكانًا إلا احتله، ولا مجالا إلا سكنه، مثله مثل الظلمة، إذا غاب النور اكتسحت كل شيء، بل غياب النور كما قلنا هو عين الظلمة. أما الانشغال بحركة تلك العتمة، وعد المساحات التي احتلتها، وتقدير سرعة حركتها، فذلك كله لا يغير من فعلها ونموها في غياب الحق أو ضعف أهله عن الدمغ به للباطل شيئًا.
وهذا لا يعني عدم السعي لإبطال شبهات الكفار ودفع أباطيلهم، بل هي من الواجب، فقد أبطل الله في القرآن جميع ما احتج به الكفار من حجج لما هم عليه من الباطل والشرك والضلال، ورد الله على مزاعمهم وضلالهم وشبههم وتأويلاتهم. لكن هذا العمل هو جزء من فعل الحق، مصاحب لعمل آخر هو توطيد أصوات الحق، وتوسيع دائرة فعله، والإكثار من منابره.
فليس من المعقول ولا المقبول، لا منطقًا ولا منهجًا، أن يترك أهل الحق مواقعهم التي هم مطالبون بالذود عنها، فيستهينوا بالإنفاق اللازم لبقائها، والحرية الضرورية من أجل نفع الناس بها، ويكتفوا بالغضب والضيق والحزن لكثرة الباطل ونفوذ أبواقه. فإنهم إذ يفعلون ذلك، يكونون قد أضحوا في حكم العبيد مملوكين لا يقدرون على شيء، لا استطاعة لهم ولا قدرة إلا الإشارة بنوع من الحسرة والتأسي لما يفعله الباطل وأهله.(/5)
ولنتأمل في قوله تعالى في سورة النحل [الآيات 74-76]: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
فنحن مسؤولون عن ضياع فرص يصاغ فيها الغد بتخلينا عن مباشرة الإعداد لمستقبلات هي بأيدينا، وانشغالها أساسًا بلوم الآخرين للسبق في غيابنا بصياغة مستقبلاتهم. فالباطل بطبعه زهوق، وكيد الشيطان في أصله ضعيف، ولكنها قلة الإيمان بقوة الحق، وضعف الإنفاق في سبيل تقوية منابر الحق وأهل الحق، وغفلة عن المتاح من القدرة والاستطاعة لتفعيل أركان استراتيجية الفعل الجاد المتواصل المنطلق من الحق والداعم للحق.
وأنا لا أريد أن أكثر الكلام في أمر نحتاج فيه أساسًا إلى ضبط الفعل مع القول، فلا حاجة لكي يقول ذو القوة لمن يريد أن ينال منه سأشج رأسك، وأقطع دابرك، وأفني وجودك، وإنما يكثر من تكرار ذلك صاحب الضعف، والمتردد الجبان!(/6)
لنتأمل في قول سيدنا نوح لعتاة قومه: {يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]؛ فهو قد أبلغهم التهديد الشديد، في بيان بديع وخلق رفيع، فخوفهم وأرعبهم بالجزم أنهم لو اجتمعوا على أكثر ما يقدرون، ثم جاؤوه وهو في نوم عميق أو غفلة تامة عما يمكرون، ما استطاعوا لغلبته سبيلا! بل زاد وكشف لهم السلاح: إتقان توكله على الله واعتصامه بحيل الله. فما أخالهم إلا وقد أضحوا منه في رعب يترقبون، وفي مكرهم به يترددون.
ومن ثَمَّ؛ فمتى كمل في قلوبنا الإيمان، واستقام عندنا الميزان، وانسجم لدينا الفعل واللسان، صلح فينا المجتمع والسلطان، وولى الباطل مدبرًا ولم يعقب حتى ينسينا عن العناية بالحق الشيطان.
فليس عبثا أن ينهانا الله ويعيب علينا أن نقول ما لا نفعل، قبل أن ينبهنا على أن أحبنا إليه من يقاتل صفا في سبيله كأنهم بنيان مرصوص. يقول عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4]؛ فميزان انضباط القول مع العمل هو الضابط لحسن الصف وإقامة البنيان المرصوص، والفيصل في ما يعطى لجانب الأمر بالمعروف وما يخصص للنهي عن المنكر.(/7)
فشتان بين صف مرصوص دون اعوجاج، وبين جيش ضخم يسوده الارتباك ومِن خصمه دائم الانزعاج. ومصيبتنا أننا ننزعج أكثر مما ننضبط، وننفعل أكثر مما نفعل، ذلك بأنه كثيرٌ فينا القولُ قليلٌ بيننا العمل، فنحن لا نتردد في أن نخصص أورادًا لشتم الباطل، وكم هو قليل ذكرنا للحق سبحانه وما أنزل علينا من الحق، وأضعف منه استثمارنا في تعزيز الحق ونصرة الحق.
تجدنا على استعداد في كثير من الأحيان للتنديد بما نراه من تقتيل وتنكيل بضعفاء المسلمين في شتى بقاع الأرض، نسب هذا ونلوم ذاك. لكن قلما نمد يد مساعدة منظمة، أو نكتب لجهات مسؤولة دولية أو إقليمية رسالة مؤثرة ومحكمة، نتبعها باتصالات متواصلة ومنظمة.
فإياك أيها اللبيب -وأنت المخاطب- من أن تنزعج من فظيع واقعك وتنفعل، فيستفزك الباطل يخوّفك برهطه ويشغلك بحركاته، فتنسى أمر ربك تباركت عزته بأن لا تهن ولا تحزن أيًّا كانت الظروف والمواقف. وتذكر على الدوام أنك صاحب الحق والمكانة العالية. فأن تمسك بمقعدك ومنبرك للذوذ عن الحق أحق من أن تغادره مغاضبًا بسبب أنَّ متلبسًا بباطل أضحى يضايقُك بجنبك. فأنت بفعلك غيرِ الموزون هذا -لو غاب لبك فأقدمت عليه- ستكونُ قد أسعدتَ خصمَك ورهطَه، ومكنته ورسخت بقاءه، وأبعدت عنك الكثير من سبل دمغه، فضيعت فرصًا سانحة لإزهاقه.
وسبق أن شرحنا بالمثل ما نعجز عن وصفه بالكلام في غير هذا المقام فقلنا: "أكيدٌ انزعاجُ من لم يبق عليه من الثياب إلا جورب في رجله اليسرى، بعد أن أنساه التقادمُ انكشاف عورته الكبرى! فتلك قد أضحى يراها الخاص والعام، أما غياب الجورب فابتلاء بالعري التام! وليس من العجب أن يظل همه الجورب!!!!" فتلك حال من تعرى من العلم والحلم، وتباين القول عنده مع الفعل.(/8)
وأشير في ختام هذه القاعدة الأساسية إلى لمحات من استراتيجية الفعل الجاد المستوحاة من القاعدة ذاتها، والمتجلية في خمس قواعد فرعية، كل منها كالبرنامج العملي، للتمكين من ترسيخ أركان الدعوة وسيادة متين الشرعة وقويم المنهاج، كل منها بمثابة القاعدة التي أفردنا لها بحثا مستقلا سنعمل على نشره بإذن الله:
1. إن الراشد من أصوات الحق ينبغي أن يحفظ:
فهناك مدارس قرآنية ينبغي أن تبقى، وهناك جامعات ومؤسسات ومعاهد ومدارس إسلامية ينبغي أن يدوم أثرها، ومراكز ومواقع وقنوات يلزم أن يتواصل فعلها، وهناك مقررات وبرامج ومناهج يراد اقتلاعها ينبغي للأمة أن تحافظ عليها، وهناك مساجد ومراكز أسست لذكر الله ورفع كلمة الله والدعوة لدينه ينبغي أن تبقى وتستمر، فكل ذلك وغيره من منابر الخير وأصوات الحق، إذا لم يحافظ عليها أهلها عطلت أو أزيلت أو خضعت لتفكيك أدواتها وإحداث التغيير في جوهرها لتكون شيئا آخر منقطعًا عن الحق ومعاكسًا للحق.
فالراشد من أصوات الحق ينبغي أن يجتهد في بقائه، ويجب بذل الجهد تلو الجهد للمحافظة على استمرار حياته ودوام عطائه وفعله،..... فهناك مشاريع شتى تفعل فعل الخير في الأمة، ومن أجلها يغضب ذلك الباطل ويتحرك بجنوده وجيوشه، تحتاج على الدوام إلى أن تحصّن وتصان وتحفظ، والحفظ مشروع استراتيجي قائم بذاته.
2. وإن القاصر منها ينبغي أن يرشد:(/9)
والقاصر من أصوات الحق ينبغي أن يرشد، فهناك مؤسسات خير ومنابر حق لا تحتاج منا إلا للجهد اليسير لتبلغ مستوى الرشد، وتدخل منتصبة سليمة الأركان ساحة الفعل من بابه الواسع باطمئنان. فالملاحظ أننا كثيرا ما نبذل الجهود الكثيفة حين انطلاق الكثير من مشاريع الخير، ثم نتقاعس عن استمرار إنجازها بعد تجاوز العقبات الأولى، وخاصة حين دخول تلك المشاريع إلى مستويات إنجاز المراحل الأخيرة والدقيقة منها. وهذا عيب لا يتغلب عليه إلا أهل الحنكة الاستراتيجية الذين يدركون معنى قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، والعبرة هنا بعموم لفظها لا بخصوص سببها.
3. وأن المعوج منها ينبغي أن يقوم ويسدد:
والمعوج من تلك الأصوات ينبغي أن يقوّم ويسدّد، لا أن تلصَق به -كيدًا أو قسوة- الكثيرُ من الشبه والتهم، أو يقصد عمدًا إلى التشهير بسوء فعله وشنيع عمله، أو يضعف ليتمكن الآخر منه فيزيله أو يغيّب أثره.
فإذا كنا نعرف أن في فكره دخنًا، أو أن في منهجه اعوجاجًا، عالجنا منه ما يلزم أن يعالج، وتعاملنا معه كجزء منا يلزم تطبيبه وإصلاحه وتقويته ما دامت له صلة بالحق ونصرة للحق؛ ذلك أنه لو ترك لحاله لضل وغوى، فاشتد بذلك ضعفه وكبر اعوجاجه، فيصبح هزيل الأساس سهل الافتراس، ويستغل ليكون في أضعف حالات الاستغلال صوت حق يراد به خدمة الباطل، أو ينقلب على عقبيه كليا والعياذ بالله ليكون مدخلا من مداخل الفساد.
4. وإن المكبل منها ينبغي أن يفك قيده ويساعد:(/10)
فالمكبل من أصوات الحق وأنوار الحق يلزم حتميًا أن يفك قيده ويساعد، فهناك الكثير من الأصوات في عالمنا الإسلامي الفسيح منعت ظلمًا أو جهلا من أن تجهر بالحق، وتحتاج لأن تساعد على نصرة الحق، وأخرى كبلت بشتى القيود، المادية والمعنوية، ووضعت في وجهها الكثير من العقبات،... هذه الأصوات من واجب أصوات الحق الراشدة أن تعمل على مساعدتها لتقوم هي كذلك بعملها ورسالتها على صعيد الأمة.
5. وإن الغائب منها ينبغي أن يوجد:
وهناك أصوات غائبة فعلا على مستويات شتى، في العلوم والفنون والثقافة والتربية والإعلام والمعالجات الاجتماعية وغيرها، نحتاج إلى إخراجها للوجود عاجلا لنتمكن من النماء والبقاء. وهي كثيرة بقدر حجم الغياب في المجالات المتعلقة بها.
ذلك ما نحتاج إليه حالا من مستعجلات الإنقاذ.(/11)
العنوان: "إيقاظ" الصحوة الإسلامية !!
رقم المقالة: 584
صاحب المقالة: إبراهيم العسعس
-----------------------------------------
الصحوةُ في سبيلها إلى النوم !... فلا بُدَّ - إذن - من يَقَظة قوية !
بدايةٌ مزعجةٍ لقضيةٍ غيرٍ مفكر فيها عند كثير من الناس.. لكنَّه " الإيقاظ " فعلٌ مُزعج، وصاحبُه غيرُ محبوب، خاصةً عند من يظنُّ نفسَه في حالة صَحْوٍ!
يحتاج بحثُ القضية لكثير من الصراحة والجرأة، فهل نمتلكُ القدرةَ على وضع أنفسنا وجهودنا تحت مِجهر النقد؟! إنَّها أزمة، وأزمةٌ ضخمة، ضخامةَ موضوعها، وخطيرةٌ خطورةَ أهدافها! ومن أجل تجاوزها، والتعامل معها بطريقة سليمة، نحتاج لِما هو أكثر من تغيير الأسماء، واجترار الأشكال، وتقليد السابق. إنَّ تحقيق اليقظة لا يُمكن أن يتمَّ بالتصورات والإمكانات المعمول بها الآن. إنَّ ممارسة النقد دليلٌ على الوعي، والوعيُ يُؤهلنا للتعامل مع الأفكار بشكل مُنفصل عن الأشخاص، وتقويمِ النتائج على أرض الواقع بعيداً عن تُهمة التحيُّز مع أو ضد الذين حقَّقوا هذه النتائج.
والتحدي الذي يُواجه أيَّ محاولة للإيقاظ يَكمُن في الاستعداد لإعادة طرح الأسئلة القديمة، والالتفاتِ للأسئلة الجديدة التي تُفرزها مُعطيات الواقع الذي نعيش. ولا شكَّ أنَّ طرح الأسئلة سيُشعر المعنيين بالمأزق، وسيدفعهم إلى كدِّ الذهن في البحث عن سُبُل الخروج منه، وسيوقفهم أمام مسؤوليتهم الشخصية.
إنَّ كلَّ من يتحدث، أو يكتب إذا استطاع - على الأقل - إثارةَ التساؤلات عند الدعاة والقائمين على العمل الإسلامي، بل وكلِّ مهتم، فسنتقدم خطوةً إلى الأمام، وسنُدرك بأنَّنا حقَّقنا تقدُّماً ملموساً مع الأيام، فما الظنُّ إذا استطاعت الجهودُ المُلِّحةُ، الضاربةُ على جدار هذا الموضوع أنْ تُساهم في اليقظة، وتحريك الماء الراكد ؟!
اليقظةُ شيءٌ آخر لا يقتصر على فتح العينين، وفركهما، إنها صحوةٌ قوية تقتضي:
مراجعة...(/1)
وندماً على ما فات...
وفكرة واضحة...
وبصيرة نافذة...
وعزماً على التصحيح...
ثمَّ إرادة تُحوِّل كلَّ ذلك إلى عمل مستمر، ومحاسبة دائمة. وكم يعجبني تعريف ابن القيم رحمه الله لليقظة إذ يقول :"... هي انزعاجُ القلب، لروعة الانتباه، من رَقْدة الغافلين " (تهذيب مدارج السالكين : 1/153). إنها انتفاضةٌ مزعجةٌ تُؤرق القلب، وتُزعجه ندماً على ما فات أيام الغفلة والنوم، ثمَّ هي إحساس بروعة الوعي، وحلاوة الفهم، وعظمة الصحو. وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟!
إنَّ الحُداة يَطرقون آذاننا بنشيدهم، ألا استيقظوا، ولا تكتفُوا بصحوة تقف بكم عند فتح العيون، والتثاؤب من بقايا كسل النوم ! والترتيل يُردِّد : "قل إنما أعظكم بواحدة : أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا..." (سبأ : 46). يقول لنا القرآن إنَّ اليقظة الفاعلة هي اليقظة المستمرة التي لا تقف عند حدٍّ، ولا تعتمد على انتباهةٍ ضعيفةٍ مغرورة، إنَّها تنميةٌ دائمة دائبة لا تفتر عن فعل اليقظة، والمراجعة، والمحاسبة، وإلا فالبديل رهيب، وخطط المراقبين لن ترحمنا، وستنتهي الصحوة إلى ذكرى، وإلى مجرد مرحلة تاريخية، ككثير من تجارب النهوض التي مرت بالأمَّة، أو التي مرت بها الأمَّة!
إنَّ العلمانيين، ومعهم المؤسسة الجاهلية يراهنون منذ زمن على أنَّ الصحوة الإسلامية ليست إلا مُجرد مرحلة أفرزتها عواملُ اقتصادية، واجتماعية، وسياسية! ويراهنون على "أنَّ الصحوة الإسلامية في طَوْر التراجع، وأنَّ العمل الإسلامي قدَّم ما لديه وهو يُعاني من الضمور". ولقد قُدِّمت دراسات، ورُفعت توصيات للتعامل مع هذه العوامل للتأثير على الصحوة وجوداً ونُموَّاً. والواقع أنَّ القوم قطعوا أشواطاً في هذا المجال.
فما هي ردة فعلنا تجاه هذا الذي يحدث؟(/2)
نستطيع أن نقول - وقد قيل -: إنَّهم حاقدون مُغرضون.. الخ.... وبهذا نريح أنفسنا من مؤونة البحث، والتدقيق، ومأزق مواجهة الذات ! ولا عجب، فهذا هو المِشجب الذي اعتدنا أنْ نُعلِّق عليه أزماتنا ! وهنا تكمُن المشكلة، فنحن ننام، ونستغرق في النوم حتى يأتي من يُهاجمنا، أو ينتقدنا، فنقوم عندها لندافع، ونُبرِّر، ونهاجم. وهذا الأسلوب ليس خاصاً بالإسلاميين، بل إنَّه ماركة مسجلة باسم شعوب المنطقة التي ننتسب إليها. إنه أسلوب إبليسي. إذ إن آدم عليه السلام عصى، وإبليس عصى، لكنَّ آدم عليه السلام عندما نُبِّه تَنبَّه، ولم يجد اللهُ له عزماً. أما إبليس فقد أصرَّ واستكبر عندما عُرضت عليه معصيته، وذهب يُدافع عن نفسه ويسوق المُسوغات الهزيلة ! وأعود إلى المشكلة: لماذا نرفض مراجعة أنفسنا، ونبقى نحيا على الأماني حتى إذا جاء من يصدمنا بكشف واقعنا لنا - بصرف النظر عن نيته - فإمَّا أن نَنْتكس! وإمَّا أن نصرَّ ونَخبط يمنةً ويسرةً في تبريراتنا!
إنَّ موقف الاعتراف، ومراجعة الذات قمةُ الإنسانية.
لقد آن الأوان للعاملين في الساحة الإسلامية كي يُعيدوا النَّظر في واقع العمل الإسلامي، ولا ينتظروا الآخرين ليقوموا بهذا الدور عنهم، مُكتفين بردَّات الفعل غير الناضجة. وحينها ستصدُق فينا ظُنون العلمانيين، والأبحاثِ العابرة للبحار، من أنَّنا مُجرد مرحلةٍ ألَمَّت بالمنطقة، كسحابة صيف، ثم تُوشك أنْ تَقشَّعا!
إنَّ الهدف من هذا الإيقاظ إثارةُ صفة الآدمية داخلنا، فإنْ حصل صحَّ لنا شرفُ الانتساب لآدم عليه السلام. وإلا.... فما ثمَّة إلا إبليس... ولنا الخيار!(/3)
العنوان: أيمكن للديمقراطية أن توقف الإرهاب ؟
رقم المقالة: 160
صاحب المقالة: إف. جريجوري جوس [مترجم]
-----------------------------------------
الكاتب: إف. جريجوري جوس، الأستاذ المشارك في العلوم السياسية بجامعة فيرمونت ، ومدير برنامج الدراسات الشرق أوسطية .
ترجمة: حافظ حمزة الريمي.
ما الذي تجلبه الحرية ؟
إن الولايات المتحدة الأمريكية منشغلة فيما أسماه الرئيس جورج بوش " تحدي الأجيال " " Generational Challenge " لغرس الديمقراطية في العالم العربي .
إدارة الرئيس بوش والمدافعون عنها يؤكدون أن السير نحو عالم عربي ديمقراطي لن يساعد على نشر القيم الأمريكية فحسب، بل إنه إضافةً إلى ذلك سيحسن من أمن الولايات المتحدة، وكلما نمت الديمقراطية في العالم العربي تتوقف المنطقة عن إنتاج الإرهاب المناهض لأمريكا، ومن هنا فإن الترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط ليس متلائمًا مع الأهداف الأمنية للولايات المتحدة فقط، بل إنه ضروري لإنجاز تلك الأهداف .
لكن ذلك يثير سؤالاً جوهرياًً هو: هل من الصحيح أنه كلما أصبحت الدول أكثر ديمقراطية ، انخفض احتمال ظهور الإرهابيين والجماعات الإرهابية ؟؟.
وبعبارة أخرى: هل الاستنتاج الأمني لترويج الديمقراطية في العالم العربي قائم على مقدمة منطقية سليمة ؟ ولسوء الحظ فإن الإجابة تبدو: " لا " .
وعلى الرغم من أن ما هو معروف عن الإرهاب بيانات ناقصة وغير كاملة، فإن ما يتوافر منها لا يبدي أي ارتباط قوي بين الديمقراطية وغياب الإرهاب .
فالإرهاب يبدو كأنه ينحدر من عوامل أكثر خصوصية من نوعية الأنظمة، ومن غير المحتمل أن نشر الديمقراطية سوف ينهي الحملة الحالية ضد الولايات المتحدة .(/1)
فالقاعدة والمجموعات ذات الأفكار المماثلة لا تقاتل من أجل الديمقراطية في العالم الإسلامي ولكنهم يقاتلون لفرض رؤيتهم في دولة إسلامية، وليس هناك ثمة دليل على أن الديمقراطية في العالم العربي سوف "تجفف المستنقع" وتزيل الدعم المعنوي للمنظمات الإرهابية بين الجمهور العربي، وتقلل من عدد المجندين المتوقع انخراطهم في تلك المنظمات.
حتى إذا ما تم تحقيق الديمقراطية في الشرق الأوسط، فأي نوع من الحكومات سوف تنتج عنها ؟ وهل يا ترى سيتعاونون مع الولايات المتحدة على أهداف سياسية مهمة، إلى جانب كبح الإرهاب، مثل تقدم عملية السلام العربية الإسرائيلية، أو الحفاظ على الأمن في الخليج الفارسي، وتأمين التموينات الثابتة من النفط ؟
لا يمكن لأحد أن يتنبأ بما ستؤول إليه الديمقراطية الجديدة، ولكن وفقاً لاستطلاعات الرأي العام والانتخابات الأخيرة في العالم العربي، فإن وصول الديمقراطية إلى هناك من المحتمل أن ينتج عنه حكومات إسلامية جديدة يمكن أن تكون رغبتها في التعاون مع الولايات المتحدة أقل بكثير من الحكام المستبدين الحاليين .
الأجوبة عن هذه الأسئلة يجب أن تعطي مهلة لواشنطن.
فمبادرة إدارة بوش الديمقراطية يمكن الدفاع عنها على أنها محاولة لنشر القيم الديمقراطية الأمريكية مهما كلف الأمر، أو على أنها مقامرة طويلة المدى حتى إذا ما وصل الإسلاميون إلى السلطة فواقع الحكومة سيعدلهم، أو أن الجماهير ستنمو خائبة الأمل فيهم. ومع ذلك فإن التأكيد على الديمقراطية الانتخابية لن يخدم المصالح الأمريكية مباشرة، لا في الحرب على الإرهاب ولا في سياسات الشرق الأوسط المهمة الأخرى .(/2)
لقد حان الوقت إذاً لإعادة التفكير في تأكيدات الولايات المتحدة الأمريكية على ترويج الديمقراطية في الوطن العربي، وبدلاً من الضغط باتجاه انتخابات سريعة، على الولايات المتحدة أن تركز جهودها في تشجيع وترقية العلمانية و القومية، ومنظمات التحرر السياسي التي يمكنها أن تنافس على أرضية متكافئة مع الأحزاب الإسلامية.
بهذه الطريقة فقط يمكن لواشنطن أن تضمن عندما تحدث انتخابات أن تكون النتائج أكثر توازياً في مسارها مع مصالح الولايات المتحدة .
الارتباط المفقود
لقد كان الرئيس بوش واضحاً فيما يعتقده من أن ترويج الديمقراطية في الوطن العربي شيء أساسي في طرق المصالح الأمريكية، حيث يقول في خطاب له في آذار مارس 2005 : " إن إستراتيجيتنا لحفظ السلام على المدى الطويل، هي المساعدة على تغيير الظروف التي ساعدت على ظهور التطرف والإرهاب خصوصاً في الشرق الأوسط الكبير. فإن أجزاء من تلك المنطقة وقعت في دوامة من الاستبداد واليأس والراديكالية. فعندما تسيطر الدكتاتورية على الحياة السياسية لأي بلد فإن المعارضة المسؤولة لا تستطيع النهوض، فيُقاد الانشقاق سراً نحو التطرف. ولصرف الانتباه بعيداً عن فشلهم الاجتماعي والاقتصادي يلقي الدكتاتوريون اللوم على بلدان وأجناس أخرى، ويثيرون الكراهية التي تقود إلى العنف. وهذا الوضع الراهن من الاستبداد والغضب لا يمكن تجاهله أو تهدئته أو كبته أو شراؤه بالمال."
إن اعتقاد بوش الربط بين الإرهاب وقلة الديمقراطية لم يكن مقصوراً على إدارته فقط.(/3)
فأثناء الحملة الانتخابية عام 2004 أكد السيناتور جون كيري ( (John Kerry الحاجة إلى إصلاحات سياسية كبيرة في الشرق الأوسط كجزء مكمل للحرب على الإرهاب. وكتب مارتين إنديك ( Martin Indyk ) أحد كبار صانعي سياسة الشرق الأوسط في إدارة كلينتون، كتب قائلاً: إنه كان خطأً من كلينتون أن رَكَّزَ على السلام العربي الإسرائيلي، في حين قلل من الاهتمام بقيمة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وحث واشنطن على التركيز على الإصلاح السياسي .. وفي كتاب جديد شارك في تأليفه مورتون هالبيرن ( Morton Halperin ) مدير التخطيط السياسي في وزارة خارجية كلينتون، أثبت هالبيرن أن جذور القاعدة تكمن في الفقر ونقص التعليم في كل من مصر وباكستان، وهذه النقص التعليمي سبَّبته الطبيعة الاستبدادية لتلك الدول، ولا يمكن مكافحتها إلا من خلال نشر الديمقراطية. وقد بذل معلق (النيويوك تايمز) الصحفي توماس فريدمان جهداً كبيراً -أكثر من أي شخص آخر- لترويج هذا المنطق بين الجمهور .
وعلى الرغم من القبول الواسع لهذا الربط، فإن الكتابات الأكاديمية عن العلاقة بين الإرهاب والمؤشرات الاجتماعية الأخرى مثل الديمقراطية تبدو ضئيلة جداً .
فهناك دراسات جيدة للأوضاع واستطلاعات عامة حول الإرهابيين والمنظمات الإرهابية، ولكن القليل منها تحاول أن تحدد ما إذا كان انتشار الديمقراطية يقود إلى تقليل الإرهاب، وتبقى نوعية المعلومات المتوافرة جزءاً من المشكلة، فالصحافة الغربية تميل إلى طرح الحوادث الإرهابية مع التأكيد على العنصر الخارجي أكثر من الداخلي في الهجمات الإرهابية، وإضافة إلى ذلك فإن معظم الإحصائيات تؤكد هوية موقع الحادث، ولكنها لا تؤكد هوية المقترفين له .
مثل هذه المعلومات الناقصة ما هي إلا شيء محتمل من استنتاجات أولية من الكتابات الأكاديمية .(/4)
وعلى أية حال حتى هذه الاستنتاجات تبدو كأنها تشكك في الارتباط الوثيق المزعوم بين الإرهاب والاستبداد الذين يقعان تحت منطق بوش .
وفي دراسة موسعة يجدر الاستشهاد بها حول الأحداث الإرهابية في ثمانينيات القرن العشرين، يؤكد عالما السياسة وليام يوبانك (William Eubank ) وليونارد وينبرج ( Leonard Weinberg ) أن معظم الحوادث الإرهابية وقعت في الدول الديمقراطية التي كان ضحاياها والجناة -عموماً- مواطنين في دول ديمقراطية.
وبعد فحصه للأحداث من 1975م على 1997م وجد كوان لي ( Quan Li ) من جامعة ولاية بنسلفانيا أنه على الرغم من أن الهجمات أقل تكراراً عندما تكون المشاركة السياسية الديمقراطية عالية، فإن نوع عمليات المراقبة التي تفرضها الديمقراطية التحررية على السلطة التنفيذية تبدو كأنها تشجع الأعمال الإرهابية .
ووجد روبرت بيب ( Robert Pape ) في كتابه الجديد (الموت من أجل الفوز): "الإستراتيجية المنطقية للانتحار الإرهابي" أن أهداف القائمين بالتفجيرات الانتحارية أغلبها تقريباً ديمقراطية، ولكن تحريض تلك الجماعات على التفجيرات هو من أجل محاربة الاحتلال العسكري ولتقرير المصير .
فالإرهابيون إذاً لا يقادون بواسطة الرغبة في الديمقراطية، ولكن بمعارضتهم لما يرونه سيطرة أجنبية .(/5)
إن الأرقام التي نشرتها الحكومة الأمريكية لا تؤكد الادعاءات أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الإرهاب والاستبداد، وطبقاً لتقرير وزارة الخارجية " نماذج الإرهاب العالمي" فإن 269 حادثة إرهابية رئيسة شهدها العالم بين عامي 2000 و 2003م حدثت في دول صنفت على أنها " حرة "، و 119 وقعت في بلدان متحررة جزئياً، و 138 وقعت في بلدان لا حرية فيها. ( يستثنى من هذا الإحصاء هجمات الفلسطينيين على إسرائيل، والتي يمكن أن تزيد من عدد الهجمات في البلدان الديمقراطية بدرجة أكبر، وهجمات 11 سبتمبر 2001م على الولايات المتحدة والتي جرى الإعداد لها في بلدان أخرى). وهذا ليس لإثبات أن الدول الحرة هي أكثر احتمالاً من غيرها لإنتاج الإرهاب، ولكن هذه الأعداد تشير إلى أنه لا علاقة بين الأحداث الإرهابية في بلد ما ودرجة الحرية التي يتمتع بها مواطنوه، وهي بالتأكيد لا تشير إلى أن البلدان الديمقراطية أقل تعرضاً للإرهاب من الحكومات غير الديمقراطية .
وبالطبع فإن الإرهاب لا ينتشر عشوائياً، وطبقاً للبيانات الرسمية للحكومة الأمريكية فإن الأغلبية العظمى من الأحداث الإرهابية وقعت في بضعة بلدان فقط، وفي الواقع إن نصف هذه الحوادث الإرهابية التي شهدتها البلدان غير المتحررة عام 2003، وقعت في دولتين فقط، العراق وأفغانستان، وهذا يبدي أن تعزيز الديمقراطية ذو أثر ضعيف في تثبيط الإرهاب والحد منه، بل ربما شجع على الإرهاب .(/6)
أما الدول الحرة فقد كان نصيب الهند من الحوادث الإرهابية 75% من المجموع الكلي، ومن العدل الافتراض أن تلك المجموعات المتمركزة في باكستان هي التي نفذت تلك الهجمات، وخصوصاً في كشمير، ولكنه كان من الواضح أن الجناة ليسوا كلهم أجانب. وعدد مهم من الحوادث الإرهابية في الهند حدثت بعيداً عن كشمير، عاكسةً شكاوى محلية أخرى ضد الحكومة المركزية. وعلى قدر قوة وحيوية الديمقراطية الهندية فإن كلاً من رئيسة الوزراء أنديرا غاندي وابنها راجيف غاندي اغتيلا على التوالي، فإذا كانت الديمقراطية تقلل من احتمالات الإرهاب فإن من الواجب أن تكون الأرقام منخفضة في الهند .
وإذا ما قارنا الهند أكثر الدول الديمقراطية سكاناً، والصين أكثر الدول الاستبدادية سكاناً، فإن من الصعب افتراض أن الديمقراطية يمكن أن تحل مشكلة الإرهاب .
ويشير تقرير " نماذج الإرهاب العالمي" للأعوام 2000 – 2003 أن 203 هجوماً إرهابياً وقع في الهند في حين لم يقع في الصين أي عمل إرهابي. وقائمة من الأحداث الإرهابية بين عامي 1976 – 2004م والتي جمعها المعهد التذكاري الوطني لوقف الإرهاب تَعرِض أكثر من 400 هجوم وقع في الهند، و 18 في الصين فقط .
حتى لو كانت الصين تقلل من الإعلان عن هذه الحوادث بنسبة عشرية فما زالت تتعرض لهجمات أقل من الهند، فإذا كانت العلاقة بين الاستبداد والإرهاب قوية بحجم ما تقدره إدارة بوش، فالتناقض بين عدد الحوادث الإرهابية في الصين وعددها في الهند يتجه اتجاهاً آخر .
وهناك شواهد طريفة أيضاً تستدعي البحث في العلاقة اللازمة بين نظام الحكم والإرهاب، ففي السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم ظهر عدد من المنظمات الإرهابية الوحشية في الدول الديمقراطية: الألوية الحمراء في إيطاليا، والجيش الجمهوري الأيرلندي في أيرلندا والمملكة المتحدة، والجيش الأحمر الياباني في اليابان، وعصابة الجيش الأحمر أو(عصابة بادر مينهوف) في ألمانيا الغربية .(/7)
والانتقال إلى الديمقراطية في أسبانيا لم يحد من نشاط منظمة (إيتا) الانفصالية (إرهاب الباسك الانفصالي) .
والديمقراطية التركية عانت خلال عقد من العنف السياسي المتزايد والذي استمر حتى أواخر السبعينيات.
والنظام الديمقراطي القوي والجدير بالإعجاب في إسرائيل أنجب إرهابييه الخاصين ومنهم قاتل رئيس الوزراء إسحاق رابين.
ويبدو أن ثلاثة على الأقل من القائمين بالعمليات الانتحارية في هجمات (يوليو) تموز في لندن، وُلِدوا وترعرعوا في المملكة المتحدة الديمقراطية.
وفي كل يوم تقريباً تأتينا رسالة تذكير مؤلمة مفادها أن تعزيز الديمقراطية الحقيقية في العراق صاحَبَها إرهاب خطير.
وتذكار مدينة أوكلاهوما يشهد بالحقيقة التي تقول إنه حتى ديمقراطية الولايات المتحدة لم تكن خاليةً من الإرهاب ذي الأصول المحلية .
وبعبارة أخرى، ليس ثمة دليل تجريبي قوي على وجود صلة مباشرة بين الديمقراطية أو أي من أشكال الأنظمة والإرهاب، لا في الاتجاه الإيجابي ولا السلبي.
وتؤكد جيسيكا ستيرن ( Jessica Stern ) في دراستها - التي أُثني عليها - بعد أحداث 11 سبتمبر حول الفدائيين الدينيين "الإرهاب باسم الله" تؤكد أن "نشر الديمقراطية ليس بالضرورة الطريقة المثلى لمكافحة التطرف الإسلامي "؛ لأن الانتقال للديمقراطية "وُجد أنه فترة غير حصينة للدول في أنحاء العالم." فالإرهاب ينبع من منابع أخرى غير نظام الحكم في بلد ما، ولا يوجد أي سبب للاعتقاد أن وطناً عربياً أكثر ديمقراطية سوف يُوجِد عدداً أقل من الإرهابيين لمجرد كونه أكثر ديمقراطية.
إن وجهات النظر المناصرة للديمقراطية تم تأكيدها عمليّاً في الميدان. فالتصويت في الانتخابات الشرعية في الدول العربية يلقى إقبالاً عالياً جدّا.(/8)
35% من العراقيين المقيدين شاركوا في انتخابات يناير 2005م البرلمانية، على الرغم من تهديدات العنف والمقاطعة من قبل أكثر العرب السنة الذين يشكلون حوالي 20% من السكان. وبلغت مشاركة الجزائريين 58% في الانتخابات الرئاسية في إبريل نيسان 2004م . ووضحت الأرقام الرسمية أن نسبة إقبال الفلسطينيين على انتخابات يناير كانون الثاني 2005م الرئاسية بلغت 73% على الرغم من رفض حماس للمشاركة. وبلغ الإقبال على الانتخابات الكويتية أكثر من 70% .
و76% من الناخبين اليمنيين المؤهلين اقترعوا في انتخابات 2003م التشريعية .
وعلى الرغم من وجود قوى معادية للديمقراطية في العالم العربي، وتميز بعض الانتخابات بضعف الإقبال، وانخفاض تسجيل الناخبين، فالعرب عموماً متحمسون للتصويت في الانتخابات. والحجج بأن الثقافة العربية تقف -وبكل سهولة- حاجزاً أمام الديمقراطية، لا تقاوم نتائج الفرز في الانتخابات .
إن مشكلة ترويج الديمقراطية في الوطن العربي ليست في أن العرب لا يحبون الديمقراطية، بل في أن واشنطن ربما لا تحب ما ينتج عن ديمقراطية الحكومات العربية، وبافتراض أن ديمقراطية الحكومات العربية تمثل آراء شعوبها أفضل مما تفعله الأنظمة العربية الحالية، فتعزيز الديمقراطية في العالم العربي لابد أن يُنتج سياسات خارجية أكثر عداءً للولايات المتحدة .
ففي فبراير ومارس 2003 أجرى كل من مؤسسة زوجبي الدولية (Zogby International ) و مقعد أنور السادات للسلام والتنمية في جامعة ميريلند استطلاعاً للرأي عبر فيه الأغلبية الساحقة ممن شملهم الاستطلاع عن مواقفهم الساخطة تجاه الولايات المتحدة.
اللبنانيون يؤيدون الولايات المتحدة إلى حد كبير، ونسبة 32 % ممن شملهم الاستطلاع يحملون رؤية حسنة أو مقبولة إلى حد ما تجاه الولايات المتحدة، في حين 4% فقط من السعوديين (ممن شملهم الاستطلاع) اتخذوا نفس الرأي .(/9)
إن الحرب في العراق، والتي كانت وشيكة أو جارية أثناء إجراء الاستطلاع، أثرت بالتأكيد على الأرقام، ولكن هذه الإحصائيات لا تختلف كثيراً عن تلك التي جُمِعت من استطلاعات أقل منها أُجريت قبل الحرب وبعدها. ففي استطلاع جالوب (Gallup ) في مطلع 2002 أعربت أغلبية كبيرة ممن شملهم الاستطلاع، في الأردن ( 62% )، والمملكة العربية السعودية ( 64% )، عن وجهة نظر ساخطة تجاه الولايات المتحدة. أما في لبنان فقط فقد ساوت وجهات النظر الإيجابية -بصعوبة- وجهات النظر السلبية.
وفي استطلاع (زوجبي) الدولي الذي أُجري في سبع دول عربية تقريباً في نفس الوقت، تدرجت وجهات النظر الساخطة على الولايات المتحدة من 48% في الكويت إلى 61% في الأردن، و76% في مصر، و87% في المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة. وبعد سنة واحدة فقط من بدء الحرب أظهر استطلاع أجرته مؤسسة (بيو) للمواقف العالمية (Pew Global Attitudes ) أن 93% من الأردنيين و68% من المغربيين لديهم موقف سلبي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية .
ومع أنه من غير الممكن تحديد الأسباب البينة وراء معاداة أمريكا في الوطن العربي من خلال الاستطلاع، إلا أن هناك مؤشرات تقول: إن السياسات الأمريكية في المنطقة هي التي تقود المشاعر المعادية وليس رفض القيم الأمريكية.
وفي استطلاع (زوجبي) الدولي ومقعد السادات في فبراير - مارس 2003 ذكر المجيبون في خمس من الدول العربية الست التي أجري فيها الاستطلاع، أن موقفهم تجاه الولايات المتحدة قائم على السياسات الأمريكية أكثر مما هو قائم على القيم الأمريكية، حيث إن 46% من المصريين الذين استُطلعت آراؤهم عرّفوا سياسات الولايات المتحدة بأنها مصدر مشاعرهم المعادية لها، مقارنةً بـ 43% الذين أكدوا على القيم الأمريكية. وما لا يقل عن 58% من المجيبين في الأردن ولبنان والمغرب والمملكة العربية السعودية أكدوا معارضتهم لسياسات الولايات المتحدة.(/10)
وفي 2004 كانت الجماهير العربية تعيش شكوكاً ذات طابع خاص بشأن سياسة واشنطن في الترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط. ففي استطلاع (زوجبي) الدولي ومقعد السادات، كان لبنان فقط من بين الدول العربية هو البلد الوحيد الذي يعتقد فيه شريحةٌ كبيرة ممن شملهم الاستطلاع ( 44%) أن الترويج للديمقراطية كان دافعاً رئيساً للحرب العراقية، مقارنة بـ 25% من الأردنيين وأقل من 10% من أولئك في المغرب والمملكة العربية السعودية ومصر والإمارات. وأغلب الذين شملهم الاستطلاع في معظم الدول يعتقدون أن الحرب مدفوعة برغبة من واشنطن للسيطرة على النفط وحماية إسرائيل وإضعاف العالم الإسلامي.
وفي استطلاع لمؤسسة Pew أجرته في نفس العام 2004 إلا انه أقل امتداداً، يعتقد 17% فقط من المغربيين و 11% من الأردنيين أن حرب الولايات المتحدة على الإرهاب كانت مجهوداً صادقاً، أكثر من كونها غطاء لأهداف أخرى. ولا حاجة إلى إجراء استطلاع للكشف أن تلك السياسات الأمريكية بشأن القضايا العربية الإسرائيلية ممقوتة جماهيرياً في العالم العربي .
ليس هناك شك أن الرأي العام يمكن أن يتغير باستمرار، فالمشاعر المعادية لأمريكا في العالم العربي يمكن أن تتغير لدرجة كبيرة بتغير الأحداث، لكن على الرغم من احتمال نقص المعاداة العربية لأمريكا إذا ما أوقفت واشنطن دعمها للحكومات العربية المستبدة، فليس هناك إلا القليل من البيانات التي يمكنها تأكيد ذلك، في حين تشير بعض الأدلة إلى غير ذلك. فالسوريون مثلاً لا يحملون وجهات نظر إيجابية تجاه الولايات المتحدة، حتى على الرغم من أن إدارة بوش تعارض الحكومة في دمشق، وعلى ما يبدو فإن الولايات المتحدة مكروهة في العالم العربي بسبب المدى الكلي لسياساتها، وليس لمجرد أنها تدعم الحكومات المستبدة.(/11)
حتى لو استطاع تعزيز الديمقراطية تقليص المعاداة لأمريكا، فليس هناك ضمان بأن مثل هذا التقليص سينتج حكومات موالية لأمريكا. والأدلة الواقعية تشير إلى أن الجمهور غير العربي في إيران -على سبيل المثال- له انطباع تجاه الولايات المتحدة أفضل من انطباع الحكومة الإيرانية، ومع ذلك فموقف الجمهور الإيراني الأكثر تأييداً لأمريكا لم يُتَرجَم إلى تصويت للمرشح الذي يفضل التقارب مع الولايات المتحدة في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الأخيرة .
ويشير التاريخ أيضاً إلى أن الانتخابات الديمقراطية الشرعية في الدول العربية تخدم في الغالب الإسلاميين، ففي كل الانتخابات العربية الأخيرة برز الإسلاميون قادة للمعارضة السياسية للحكومة، وكان أداؤهم جيداً في العديد منها. ففي المغرب حصل الحزب الإسلامي المعتدل "حزب العدالة والتنمية" في أول مشاركة له على 42 من أصل 325 مقعداً في الانتخابات البرلمانية في عام 2002 (لم يكسب مقاعد أكثر منه سوى حزبين منذ فترة طويلة هما الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية، وحزب الاستقلال، وقد حصلا على 50 و 48 مقعداً على التوالي)، وفي السنة نفسها في البحرين حصد المرشحون الإسلاميون ما بين 19 إلى 20 من أصل 40 مقعداً من مقاعد البرلمان (اعتماداً على طريقة تصنيف الملاحظين لبعض المرشحين المستقلين). هذا النجاح جاء على الرغم من أن أكبر تجمع سياسي شيعي قاطع الانتخابات اعتراضاً على التعديلات التي أجريت على الدستور.(/12)
وفي انتخابات 2003 البرلمانية في اليمن فاز التجمع اليمني للإصلاح والمؤلف من عناصر إسلامية وقبلية بـ 46 من 301 مقعد، و يشكل الآن المعارضة. وفي السنة نفسها اتحد الإسلاميون في الكويت ليكسبوا 17 من 50 مقعداً، وأصبحوا يشكلون الأيدلوجية المهيمنة على البرلمان الكويتي. وفي انتخابات 2003 البرلمانية في الأردن والتي أُجريت بعد تأجيلها ثلاث مرات وإجراء تعديلات على القوانين الانتخابية لمصالحة المرشحين المستقلين، فاز الحزب السياسي للإخوان المسلمين بـ 17 من 110مقاعد، وحصل الإسلاميون المستقلون على ثلاثة مقاعد أخرى مشكلين بذلك أكبر كتلة للمعارضة داخل البرلمان.
الأسلوب نفسه تكرر هذا العام، ففي الانتخابات البلدية السعودية فازت القائمة الإسلامية غير الرسمية بـ 6 من 7 مقاعد في الرياض، واكتسحت الانتخابات في جدة ومكة، وكسب المرشحون المدعومون من قبل الإسلاميين السُّنة السيطرة على مجالس البلدية في عدد من مدن المنطقة الشرقية. وفي الانتخابات البرلمانية العراقية فازت القائمة المدعومة من قبل الشيعي آية الله العظمى علي السيستاني بـ 140 من 275 مقعد مقارنةً بـ 45 مقعداً لصالح القائمتين العربيتين الأكثر علمانيةً برئاسة رئيس الوزراء إياد علاوي ورئيس الجمهورية غازي الياور، وحصلت القائمة الكردية الموحدة -الذين لا يعدون إسلاميين إلى حد كبير- على 75 مقعداً.(/13)
وفي الأراضي الفلسطينية فاز بالنصر فوزاً مقنعاً محمود عباس من منظمة فتح القومية في انتخابات 2005 الرئاسية، ولكن ذلك الفوز يعود جزئياً إلى عدم تعيين حماس مرشحاً عنها، ومع ذلك فقد شاركت حماس وبقوة في انتخابات 2006 البلدية الأخيرة في الضفة الغربية، وسيطرت على 7 مجالس للبلدية مقارنةً بمجالس فتح الإثني عشر، وفي وقت سابق من هذه السنة انتزعت السيطرة على 7 من 10 مجالس للبلدية في غزة بالإضافة إلى ثلثي المقاعد. ويتوقع بعض المراقبين أن (حماس) سوف تدحر (فتح) في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية القادمة، ما يمكن أن يكون أحد الأسباب التي جعلت عباس يؤجلها.
إن الاتجاه واضح إذاً : فالإسلاميون بأطيافهم المختلفة يحصدون نتائج جيدة في الانتخابات الحرة، أما في البلدان حيث يسيطر حزب حاكم واحد يحصل الإسلاميون على المرتبة الثانية ويشكلون المعارضة، إلا في المغرب حيث تكثر الأحزاب العلمانية واليسارية ذات الحضور المؤسس والتاريخ الطويل، وفي لبنان حيث يحدد النشاط المسيحي الإسلامي سياسات انتخابية تُؤسس كتلاً سياسية غير إسلامية مستقلة عن الحكومة تتنافس مع القوى الإسلامية .
لا يبدو الموقف أنه على وَشْك التغيير، فطبقاً لاستطلاع (زوجبي) الدولي ومقعد السادات 2004 قالت الجماهير التي شملها الاستطلاع في الأردن والسعودية والإمارات: إن على رجال الدين أن يؤدوا دوراً أكبر في أنظمتهم السياسية .
فكلما أصبح العالم العربي أكثر ديمقراطية ازداد احتمال وصول الإسلاميين إلى السلطة. حتى لو أن أولئك الإسلاميين قبلوا بقواعد الديمقراطية ورفضوا العنف السياسي، فمن غير المحتمل أنهم سيؤيدون سياسات الولايات المتحدة الخارجية في المنطقة.
الانتظار الطويل(/14)
إن دفع إدارة بوش بالديمقراطية في العالم العربي لا يُتَوقَّع أن يكون له تأثير كبير في الإرهاب المعادي لأمريكا المنبعث من هناك؛ بل إنه يمكن أن يساعد في وصول حكومات إلى السلطة لن تتعاون في كثير من القضايا -بما فيها الحرب على الإرهاب-، بل سوف تكون أقل تعاوناً بكثير من الأنظمة الحالية. ولسوء الحظ ليس ثمة بديل في هذه الحالة عن العمل مع الحكومات العربية الاستبدادية التي ترغب في العمل مع الولايات المتحدة الأمريكية.
إذا ما زالت واشنطن تصر على الترويج للديمقراطية في العالم العربي فعليها أن تتعلم من التجارب الانتخابية المختلفة في المنطقة، فحيثما يكون هناك أحزاب غير إسلامية متجذرة وبقوة كما هو الحال في المغرب، فالإسلاميون يعيشون مرحلة أصعب للسيطرة على الميدان.
ويصدق الشيء نفسه في تركيا غير العربية، فقد عدّل الحزب السياسي الإسلامي رسالته مع مرور الوقت ليستطيع المنافسة مع قوة الجيش العلماني والأحزاب الأخرى الأكثر علمانية والأكثر رسوخاً.. وعلى نحو مماثل، إن الخليط الطائفي المتنوع من الناخبين في لبنان من المحتمل أن يمنع حزب الله والإسلاميين الآخرين من الهيمنة على الانتخابات هناك، وبالمقابل، فحيثما تُقمع القوى السياسية غير الإسلامية تتمكن الأحزاب ومرشحوها الإسلاميون من قيادة الميدان السياسي.
وعلى واشنطن ألا تبدي ارتياحاً لنجاح الأحزاب الحاكمة في الجزائر ومصر واليمن وانتصارها على منافسييها الإسلاميين: إذ عندما تتجرَّد من الجهاز الأمني ورعاية الدولة، فإن الأحزاب الحاكمة لن تكون فيما بعد عن انتخابات انتقالية ديمقراطية.(/15)
يجب على الولايات المتحدة أن تركز على دفع الحكومات العربية لصنع مجال سياسي للأحزاب التحررية والعلمانية والسياسية والقومية والأحزاب الأخرى غير الإسلامية لإرساء جذورها وحشد الناخبين، وعلى واشنطن أن تدعم تلك المجموعات التي ستقبل على الأرجح سياسة الولايات المتحدة الخارجية وتحاكي القيم السياسية الأمريكية.
والطريق الأكثر فعاليةً لإثبات ذلك الدعم هو الضغط على الأنظمة العربية التي تعيق النشاط السياسي للمجموعات الأكثر تحررية ( ليبرالية ) .. كما عملت الإدارة مع مصر بعد سجن الإصلاحيين التحرريين سعد الدين إبراهيم وأيمن نور.
ولكن على واشنطن أيضاً أن تصب تركيزها على تعجيل الانتخابات في الدول العربية، حيث لا وجود لبديل قوي ومنظم للأحزاب الإسلامية. حتى لو أدى ذلك للمخاطرة بيأس التحرريين ( اللبراليين ) العرب لكونهم أكثر حذراً من غيرهم بشأن فرصهم الانتخابية .
لطالما ذكر مسؤولو الإدارة -بمن فيهم الرئيس بوش- أن الانتقال إلى الديمقراطية في العالم العربي سيكون صعباً، وأن على الأمريكيين ألا يتوقعوا نتائج سريعة، ولكن كلما دافعت إدارة بوش علناً عن الديمقراطية فإنها تستشهد بالنمط العائلي من الانتخابات في العالم الإسلامي في أفغانستان والعراق ولبنان والأراضي الفلسطينية كدليل على نجاح تلك السياسة .
ومع ذلك فإن القوى السياسية غير الإسلامية ستحتاج إلى سنوات لتكون جاهزة للتنافس من أجل السلطة في هذه الانتخابات، ومن المريب أن هذه الإدارة أو أي إدارة أمريكية أخرى سيكون لديها صبر كاف للسير بالعملية حتى النهاية. وإذا لم تكن واشنطن قادرة على الصبر فعليها أن تدرك أن سياستها لتعزيز الديمقراطية ستؤدي إلى هيمنة إسلامية على السياسات العربية.(/16)
التركيز على الانتخابات ليس وحده الذي يسبب الإشكاليات في مبادرة الإدارة الديمقراطية في العالم العربي، فالمشكلة الأخرى هي الثقة غير المسوَّغة في أن واشنطن قادرة على أن تتنبأ -ولو تنبُّؤاً غير مباشر- بالخطاب السياسي في بلدان أخرى .
لن توقع أي إدارة رسمية -ولو بشكل غير علني- على وجهة النظر الساذجة أن الديمقراطية العربية سوف تنتج حكومات ستتعاون دائماً مع الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن محامي ديمقراطية واشنطن يبدون كأنهم يفترضون أن انتقال الديمقراطية للعرب-كانتقال الديمقراطية أخيراً إلى أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا- سوف يؤدي إلى ظهور أنظمة تدعم -أو على الأقل لا تعرقل- التشكيلة الواسعة من مصالح السياسة الخارجية الأمريكية .
ولا يقدِّرون أن التحررية ( الليبرالية ) سادت في تلك الأنظمة لأن منافسها الأيدلوجي العظيم؛ الاشتراكية، فقد الثقة كليةً، في حين يعرض العالم العربي بديلاً أيدلوجياً حقيقياً للديمقراطية التحررية، وهو الحركة التي تعلن شعارها على الملأ: ( الإسلام هو الحل ).
لقد سُحق كبرياء واشنطن في العراق؛ إذ إن إرسال 140.000 جندي أمريكي لم يسمح للسياسات هناك أن تسير وفقاً للخطة الأمريكية، بيد أن إدارة بوش تُبدي قليلاً من الصبر والتواضع الذي تستدعيه مثل هذه المهمة الرهيبة.
فإن كانت الولايات المتحدة ترى بالفعل أن مبادرة الترويج للديمقراطية في الوطن العربي " تحدٍّ جيلي " " Generational Challenge"فعلى الأمة كلها أن تتعلم هذه السمات.(/17)
العنوان: إيه يا شهر الشهور!
رقم المقالة: 1201
صاحب المقالة: محمد حسين يعقوب
-----------------------------------------
مررت كالطَّيْف، وأسرعت الخُطا.. فكنت كالحلم لا كبقية الآماد..
السلام عليك يا شهر رمضان ! السلام عليك يا شهر الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن.. السلام عليك يا شهر التَّجاوز والغُفْران..
السلام عليك يا شهر البركة والإحسان.. السلام عليك يا شهر التحف والرُّضوان.. السلام عليك يا شهر الأمان..
كنت للعاصين حبسًا، وللمتقين أنسًا.. السلام عليك يا شهر النُّسُك والتعبد.. السلام عليك يا شهر الصيام والتَّهَجُّد..
السلام عليك يا شهر التراويح.. السلام عليك يا شهر الأنوار والمصابيح.. السلام عليك يا شهر المتجر الربيح.. السلام عليك يا شهرًا يُتْرَك فيه القبيح..
السلام عليك يا أنس العارفين.. السلام عليك يا فخر الواصفين.. السلام عليك يا نور الوامقين.. السلام عليك يا رَوْضة العابدين..
السلام عليك يا شهرًا يتسابق فيه المُتَّقون.. السلام عليك من فؤاد لفراقك محزون..
فيا ليت شعرى.. هل تعود أيامك أو لا تعود؟! ويا ليتنا تحققنا ما تشهد به علينا يوم الورود.. ويا ليتنا علمنا من المقبول منا، ومن المطرود؟!
وهل إذا عادت أيامك فسنكون فى الوجود؟! وننافس أهل الركوع والسجود؟ أم سنكون قد انطبقت علينا اللحود؟! ومَزَّقَنا البلى والدود؟!
فيا أسفا لتصرمك يا شهر السعود.. وإذا عزمت على الرحيل فإنما حزن الفراق يحز فى الأكباد.. فيا شهرنا غير مودع ودعناك.. وغير مقلي فارقناك..
كان نهارك صدقة وصيامًا، وليلك قراءة وقيامًا، فعليك منا تحية وسلامًا.. أتراك تعود بعدها علينا؟ أو يدركنا المنون فلا تؤول إلينا؟
مصابيحنا فيك مشهورة.. ومساجدنا منك معمورة.. فالآن تُطْفأ المصابيح، وتنقطع التراويح، ونرجع إلى العادة، ونفارق شهر العبادة.(/1)
يا شهر رمضان ترفق.. دموع المحبين تدفق.. قلوبهم من ألم الفراق تشقق.. عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق..
عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرق.. عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق.. عسى أسير الأوزار يُطْلق.. عسى من استوجب النار يُعْتق !
اللهم أعتقنا من النار يا رب... اللهم تقبل منا رمضان.. اللهم تقبل منا الصلاة والصيام والقيام وسائر الأعمال إنك سميع عليم..
اللهم سلمنا لرمضان.. وسلم رمضان لنا.. وتسلمه منا متقبلاً..
اللهم أَعِدْ علينا رمضان أعوامًا عديدة.. وأزمنة مَديدة.. اللهم لك الحمد على أن وفقتنا لصيام رمضان وقيامه..
لك الحمد يا رب على أن وفقتنا لقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا.. لك الحمد بالإيمان.. ولك الحمد بالإسلام.. ولك الحمد بالقرآن..
ولك الحمد بالصلاة، والصيام، والقيام، والصدقة، والإحسان، وقراءة القرآن.. لك الحمد أولاً وأخيرًا.. لك الحمد لا نُحْصى ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك..
نحمدك حمدًا يُوافى نعمك، ويُكافِئُ مزيدك.. ونستغفرك ربنا من جميع الذنوب والخطايا والطاعات ونتوب إليك.. إنك أنت التواب الغفور الرحيم.(/2)
العنوان: إيهاً أبا الزهراء
رقم المقالة: 325
صاحب المقالة: د. عبدالقدوس أبو صالح
-----------------------------------------
ضَعْني على شفة الحُداة أكنْ لهمْ لحناً مثيرا
ضعني على جفن الهداة أكن لهم فجراً منيرا
ضعني على درب الدعاة أكن لهم أبداً نصيرا
ضعني على سيف الكُماة أكن لهم بطلاً معيرا
ضعني على كبد الطغاة أكن لهم لهباً سعيرا
أنا صاغني حسّانُ مزهواً بجبريلٍ ظهيرا
أنا صاغني كعبٌ فهدَّ بيَ المعاقل والصخورا
وابنُ الرَّواحة ثَبّتَ الرحمنُ إذ صدح البشيرا
وعلى هدى القرآن سَلْسلتُ القوافيَ والعصورا
أمضي على نهج النبيّ لأجلوَ الُدُّرَّ النَّثيرا
نارٌ على الكفّار أحرقهم وعيداً أو نذيرا
وعلى قلوب المؤمنين نزلت سلسالاً نميرا
يا أمة الإسلام مجدُك ها هُنا كتب السُّطورا
فاستلهمي مَدْحَ النبيّ.. وزَيّني الأكوانَ نورا
رُدّي به زيفَ الضلال ليغتدي الأعمى بصيرا
يا خاتم الرّسُل الكرام لقد جلوتَ لنا الأمورا
ورسمتَ منهاجَ النبوّة يانعاً غضًّا نضيرا
ودعوتَ بالقرآن أقواماً عَتَوْا ودَعَوْا ثُبورا
وشفيتَ بالسَّيف الصقيل مُكابراً صَلِفاً كفورا
ومجاهدين تراهم يشكون من عِوزٍ أمورا
مدّوا إلى إخوانهم في الدين يرجون النصيرا
تركوهمُ ويهود عُزْلاً.. ليس يدرون المصيرا
كم ودّعوا بطلاً شهيداً.. أو بَكَوْا بطلاً أسيرا
لكنّهمْ وثِقوا بنصر الله يرجون القديرا
آسادُ حربٍ تسمع الدّنيا لهم أبداً زئيرا
يرجون إحدى الحسنيَيْن فليس تغلوهُمْ مُهورا
ويواجهوا النّارَ.. قد لبِسوا من الكفنِ الحريرا
إيهاً أبا الزهراء.. جئتُ بِمدْحةٍ ضمَّت يسيرا
تعلو بذكرك إن حوتْ في نظمها غَثّا حسيرا
ولقد عرفتُ مكانتي.. أَتّى أكونُ بكم جديرا
من كان حبُّ محمّدٍ في قلبه لقيَ السُّرورا
وأتى البشيرُ شفيعَهُ ودعا له ربّاً غفورا(/1)
العنوان: أيها الحاج .. تذكر حرمة البيت العتيق
رقم المقالة: 233
صاحب المقالة: سلمان بن يحيى المالكي
-----------------------------------------
لا يخفى على كل من له أدنى علم ، وأدنى بصيرة حرمة مكة ومكانة البيت العتيق ؛ لأن ذلك أمر قد أوضحه الله في كتابه العظيم في آيات كثيرة ، وبينه رسوله محمد عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة ، وبينه أهل العلم في كتبهم ومناسكهم وفي كتب التفسير ، والأمر بحمد الله واضح ولكن لا مانع من التذكير في هذا الموضوع وذلك من خلال المحاور التالية :
أولا : يقول الله عز وجل في كتابه المبين : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } أوضح الله سبحانه في هذه الآيات : أن البيت العتيق هو أول بيت وضع للناس وأنه مبارك وأنه هدى للعالمين ، وهذه تشريفات عظيمة ورفع لمقام هذا البيت ، وقد ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال عليه الصلاة والسلام : ( المسجد الحرام ) قلت : ثم أي ؟ قال : ( المسجد الأقصى ) قلت : كم بينهما ؟ قال : ( أربعون عاماً ) قلت : ثم أي ؟ قال : ( حيثما أدركتك الصلاة فصل فإن ذلك مسجد ) .(/1)
ثانياً : هذا البيت العتيق هو أول بيت وضع للناس للعبادة والطاعة ، وهناك بيوت قبله للسكن ، ولكن أول ببت وضع للناس ليعبد الله فيه ويطاف به هو هذا البيت ، وأول من بناه هو خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وساعده في ذلك ابنه إسماعيل ، وأول بيت وضع بعده للعبادة هو المسجد الأقصى على يد يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ، وكان بينهما أربعون سنة ثم عمره بعد ذلك بسنين طويلة سليمان نبي الله عليه الصلاة والسلام .
ثالثاً : هذا البيت العتيق هو أفضل بيت ، وأول بيت وضع للناس للعبادة ، وهو بيت مبارك لما جعل الله فيه من الخير العظيم بالصلاة فيه والطواف به والصلاة حوله والعبادة ، كل ذلك من أسباب تكفير الذنوب وغفران الخطايا ، كما قال تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فالله سبحانه قد جعل هذا البيت مثابة للناس أي يثوبون إليه ولا يشبعون من المجيء إليه ، بل كلما صدروا عنه أحبوا الرجوع إليه ، لما جعل الله في قلوب المؤمنين من المحبة له والشوق إلى المجيء إليه ، لما يجدون في ذلك من الخير العظيم ورفع الدرجات ومضاعفة الحسنات وتكفير السيئات .(/2)
رابعاً : جعل الله بيته العتيق آمنا يأمن فيه العباد ، فهو حرم آمن ، فيأمن فيه الصيد الذي أباح الله للمسلمين أكله خارج الحرم فيأمن فيه حال وجوده فيه حتى يخرج ، فلا ينفّر ولا يقتل ، قال الله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } أي وجب أن يؤمّن ، وليس المعنى أنه لا يقع فيه أذى لأحد ولا قتل لا .. بل قد يقع ، وإنما المقصود : { ومن دخله كان آمنا } أي وجب تأمين من دخله وعدم التعرض له بسوء ، ولقد كانت الجاهلية تعرف ذلك ، فكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يؤذيه بشيء حتى يخرج .
خامساً : كما أن هذا الحرم العظيم جعله الله مثابة للناس وأمنا ، وأوجب على نبيه إبراهيم وإسماعيل أن يطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود كما قال في الآية : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } ، والقائم هنا هو : المقيم وهو : العاكف ، والطائف معروف ، والركع السجود هم : المصلون ولهذا نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يوم فتح مكة وأخبر أنه حرم آمن وأن الله حرمه يوم خلق السماوات والأرض ولم يحرمه الناس ، وقال : لا ينفر صيده ولا يعضد شجره ولا يختلى خلاه ولا يسفك فيه دم ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف فيجب على المسلمين كما وجب على إبراهيم وإسماعيل والأنبياء وعلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم أن يحترموه ويعظموه ، وأن يحذروا ما حرم الله فيه من إيذاء المسلمين والظلم لهم والتعدي عليهم حجاجا أو عمارا أو غيرهم ، كما يجب تطهير هذا البيت للمقيمين فيه والمتعبدين فيه .(/3)
سادساً : يجب على المسلمين أن يطهروه هذا البيت ويحذروا معاصي الله فيه ، وأن يُتقا غضبه وعقابه ، وأن لا يؤذي بعضهم بعضا ، ولا أن يقاتل بعضهم بعضا ، لأن السيئة فيه عظيمة ، كما أن الحسنات فيه مضاعفة ، والسيئات عند أهل العلم والتحقيق تضاعف لا من جهة العدد ، بل من جهة الكيفية ، فإن الأصل : أن من جاء بالسيئة فإنما يجزى مثلها ، فالسيئة في الحرم ليست مثل السيئة في خارجه ، بل هي أعظم وأكبر ولذلك قال الله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، ومن يرد فيه : أي يهمّ فيه ويقصد ، بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ، ويقول جل وعلا في صدر هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي } وهذا يبين لنا أنه محرم ، وأنه لا فرق فيه بين العاكف وهو المقيم ، والباد ، وهو : الوارد والوافد إليه من حاج ومعتمر وغيرهما ، ولما فتح الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطب الناس وقال : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ولم يحرمه الناس وأن الله جل وعلا لم يحله لي إلا ساعة من نهار وقد عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب وقال : إنه لا يحل لأحد أن يسفك فيه دما أو يعضد فيه شجرة ولا ينفر صيده ولا يختلى خلاه ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد أي معرف : فإذا كان الصيد والشجر محترمين فيه ، فكيف بحال المسلم ، فمن باب أولى أن يكون تحريم ذلك أشد وأعظم وأكبر ، فليس لأحد أن يُحدث في الحرم شيئا مما يؤذي الناس لا بقول ولا بفعل ، بل يجب أن يحترمه ، وأن يكون منقادا لشرع الله فيه ، وأن يعظم حرمات الله أشد من أن يعظمها في غيره ، وأن يكون سِلما لإخوانه يحب لهم الخير ، ويكره لهم الشر ، ويعينهم على الخير وعلى ترك الشر ، ولا يؤذي أحدا لا بكلام ولا بفعل فِيهِ لأن(/4)
فيه { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ } ، فالله جعل فيه آيات بينات ، وهي التي فسرها العلماء بمقام إبراهيم ، فالحرم كله مقام إبراهيم الذي تعبد فيه ، ومن ذلك المشاعر؛ عرفات والمزدلفة ومنى ، كل ذلك من مقام إبراهيم ، ومن ذلك الحِجر الذي كان يقوم عليه وقت البناء ، فيجب على المسلمين تجاه هذا الحرم الشريف أن يصونوه ويحفظوه ويحموه من كل أذى كما أوجب الله ذلك ، وأوجب نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما بينه أهل العلم وأجمعوا عليه من وجوب احترام هذا البيت وتطهيره من كل أذى وحمايته من كل معصية ومن كل ظلم ، ووجوب تسهيل أمر الحجيج والعمار وإعانتهم على الخير وكف الأذى عنه ، وأنه لا يجوز لأحد أبدا أن يؤذوا أحدا من الناس ، لا بكلام ولا بفعال ، وإنما يؤذي الناس في هذا البيت العتيق من لا يؤمن بالله واليوم الآخر أو من يجهل أحكام الله أو يقصد ظلم العباد ، فيكون عليه من الوزر ما يستحق بسبب إيذائه وظلمه ، وأما من آمن بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا ، فإن إيمانه يردعه عن كل ما حرم الله في هذا المكان وغيره ، لأن هذا المكان أعظم من غيره ، وأفضل من غيره ، فمكة المكرمة هي أفضل البقاع وهي أحب البلاد إلى الله وأفضل مكان وأعظم مكان ، ثم يليها المدينة المنورة ، ثم المسجد الأقصى ، فهذه هي المساجد الثلاثة التي خصها الله بمزيد التشريف على غيرها ، وهي أعظم مساجد الله ، وأفضل مساجد الله ، وأولى مساجد الله بالاحترام والعناية .(/5)
نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلا ، أن يوفق المسلمين في كل مكان لكل ما فيه رضاه وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم ، وأن يرزقهم أداء حقه ، والبعد عن محارمه أينما كانوا ، وأن يمنحهم الفقه في الدين ، وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح البلاد والعباد ، وأن يعينهم على أداء الواجب ، وعلى حماية بيته العتيق ومدينة رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام من كل أذى ، ومن كل سوء ، وأن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا وأن يشغلهم بأنفسهم عن إيذاء عباده ، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم أينما كانوا ، وأن يكفي المسلمين شرهم إنه جل وعلا جواد كريم وسميع قريب ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/6)
العنوان: أيها العاق
رقم المقالة: 1332
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
* أيها الناس: عنوان هذه الخطبة: (أيها العاقُّ).
والعقوق صوره كثيرة، وهو من أخطر ما ابتليت به هذه الأمة، ومن أبرز صور العقوق: عقوق الوالدين، عقوق الابن لأمه وأبيه، وقد نهى الله – عز وجل – عن عقوق الوالدين، ولو بأقل الألفاظ فقال تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 23-24].(/1)
وقرن سبحانه شكر الوالدين بشكره، فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
وجعلَ الإحسان إليهما بعد الأمر بعبادته وحده لا شريك له فقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23].
والإحسان إلى الوالدين هو وصية الله - تبارك وتعالى - لعباده كما قال سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت: 8].
* وقد شدَّد النبي صلى الله عليه وسلم على عقوق الوالدين وجعله من أكبر الكبائر، وقرنه بالشرك بالله – عز وجل – فعن أبي بكرة قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قالها ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين ...)) الحديث[1].
ومع كل هذا الترغيب في طاعة الوالدين والإحسان إليهما وبرهما، والترهيب من عقوقهما وعصيانما، نجد صوراً مأساوية يتجلَّى فيها العقوق بأبشع صوره، فالولد يتهكَّم على والده، ويستهزئ به في المجالس، ويسخر منه أمام الناس، ويشتم أمه، وربما ضربها بيديه ورجليه، ولطالما كانت تمسح عنه الأذى بيمينها، وتسهر عليه إذا اشتكى، فلا تنام حتى ينام، ولا تستريح حتى يستريح.(/2)
ولقد فُجعنا جميعاً، وفُجعت الدنيا كلُّها، وضجت السماوات والأرض من هذا الحدثِ الرهيب، ومن هذه الجريمة الشنعاء، رجلٌ يفترض أنه من المسلمين يتآمرُ مع زوجته على قتل أمه، فتمسك زوجتُه أمَّه بيديها، ويأتي هذا المجرم بسكين ويطعن أمه طعنة، إلا أنها لم تمت منها واستطاعت أن تتخلَّص من امرأة ابنها، ولكن الابن المارد الخبيث أبى إلا أن يقتلها، فطاردها وأراد طعنها مرة أخرى، فأمسكت السكين بكفها، فانتزع منها السكين بقوة فقطع أصابعها، ثم ألقى عليها باباً من الخشب، فأمسكتها امرأته، فأخذ يطعنها طعناً متتالياً، ولم يكتف بذلك، بل أتى ببطارية سيارته وسكب عليها ماء البطارية ليتفنن في قتلها، وليستمتع بمشاهدة أمه وهي غارقة في دمائها!!
حقاً لقد فُجع المسلمون بهذه الجريمة، التي نشرتها الصحف وتكلَّمت عنها الإذاعات، والحمد لله فقد طبق عليهما حد الله وحكم عليهما بالقتل تعزيراً، ونفذ فيهما هذا الحكم العادل وذهبا إلى الله – عز وجل – يحملان الخزي والعار والخيبة، فلعنتهما القلوب ولم تترحَّم عليهما الألسنة.
ألهذا الحد وصلت بنا الحال؟ أين الله؟ أين كلامه؟ أين رسوله؟ أين شرعه؟ بل قل: أين الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان، أن يحب أمه ويحسن إليها؟!
إن الإنسان مهما أحسن إلى أمه فلن يوفيها حقَّها، ولن يستطيع أن يعوِّضها عن تلك السنين التي أفنتها في خدمته وتربيته.
وإنِّي لأتخيَّل هذه القصة، وقد اكتظَّ الحرم بالطائفين من الحجَّاج، والشمس مشتعلة، والجو ملتهب، والزحام خانق، والناس يطوفون حول الكعبة المشرفة يسألون الله ويتضرَّعون إليه في مشهد من أعظم مشاهد العبودية.
ومن بين هؤلاء جميعاً حاجٌّ من اليمن، أتى يحمل أمه على كتفيه، تصبب عرقُه، وتتابعت أنفاسُه، وخارت قواه، وكَلَّ متنه، وهو يطوف بها؛ لأنها مقعدة لا تستطيع الطواف.(/3)
رأى أن من البر بأمه، ومن باب ردِّ الجميل أن يحملها ويحجَّ بها وهي على ظهره، لعله بذلك يكون قد أدَّى بعض الحق الذي عليه، ألم يكن في مرحلة من المراحل جنيناً بين أحشائها يأكل من لحمها وعظامها، ألم تتألَّم بسببه أثناء الحمل، ثم لما خرج من بطنها طفلاً صغيراً رضيعاً ضعيفاً، لا يملك من أمره شيئاً، ألم تسهر على راحته؟ ألم ترضعه من جسدها؟ ثم تظل على تلك الحال أعواماً عديدة، يمرض فتسهر عليه حتى يعافيه الله، ويجوع فلا ترتاح إلا بعد أن يشبع، ويظمأ فلا تهدأ حتى يروى.
فتذكَّر هذا الرجل كلّ ذلك، وظنَّ أنه بحمل أمه على ظهره، أنه بذلك قد كافأها، وردَّ إليها حقوقها.
وفي أثناء طوافه بأمه مرَّ بالصحابي الجليل عبد الله بن عمر – رضي الله عنه وعن أبيه – وهو واقف عند المقام، فقال الرجل: السلام عليك يا ابن عمر ... هذه والدتي وأنا ابنها، أترى أني كافأتها بذلك؟ فقال ابن عمر: والذي نفسي بيده ولا بطلقة واحدة من طلق الحمل!!
هذا التعب الذي تحمَّله الرجل وهو يحمل أمه ويؤدِّي بها مناسك الحج، وهذه المشقة، وهذا العرق والإعياء والمعاناة، لا يفي بزفرة واحدة من زفرات الأم في ساعات الحمل، فكيف بإحسانها كله إليك، وكيف بتاريخها الطويل معك ومع إخوتك وأخواتك.(/4)
جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: ((اذهب فأتني بأبيك))، فنزل جبريل، عليه السلام، فقال: إن الله يقرئك السلام، ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعَتْهُ أذناه!! فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بال ابنك يشكوك، أتريد أن تأخذ ماله؟)) فقال: سله يا رسول الله، هل أُنفقه إلا على عماته أو خالاته، أو على نفسي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إيه، دعنا من هذا، أخبرنا عن شيء قلتَه في نفسك ما سمعَتْهُ أذناك))، فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي، فقال: ((قل، وأنا أسمع))، قال: قلت:
غَذَوْتُك مولوداً ومُنْتُك يافعاً تَعلُّ بما أجْني عليكَ وتَنْهلُ
إذا ليلةٌ نابَتْك بالشَّكْوِ لم أبِتْ لِشَكْواكَ إلاّ ساهراً أتَمَلْمَل
كأنِّي أنا المطروقُ دونَك بالَّذي طُرِقتَ به دُوني فعَيْنِي تَهْمُلُ
تخافُ الرَّدَى نفسي عليك وإِنَّني لأعلمُ أنّ الموتَ حَتْمٌ مُؤجَّلُ
فلمّا بلغتَ السِّنَّ والغايةَ التي إليها مَدى ما كنتُ فيك أُؤمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائي غِلْظةً وفَظَاظةً كأنَّكَ أنتَ المُنْعِمُ المُتَفضِّلُ
فَلَيْتَكَ إذْ لم تَرْعَ حقَّ أبوَّتي فَعلتَ كما الجارُ المجاورُ يفعلُ
قال: فحينئذٍ أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلابيب ابنه وقال: ((أنت ومالك لأبيك))[2].
قال ابن حبان: معناه أنه- صلى الله عليه وسلم - زجر عن معاملته أباه بما يعامِلُ به الأجنبيين، وأمره ببره والرفق به في القول والفعل معاً[3].
* وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من إغضاب الأب وإسخاطه فقال عليه الصلاة والسلام: ((رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد))[4].
* وقال عليه الصلاة والسلام: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فاحفظ، وإن شئت فضيِّع))[5].(/5)
فهذا حق الوالد على ولده، ولكن – ويا للأسف – فإن الذين يقومون بهذا الحق هم الأقلون، والذين يضيعونه هم الأكثرون، فما أكثر ما نسمع عن أناس قويت سواعدهم، واشتدت كواهلهم، فأول ما فعلوا أن تَكَبَّرُوا على أوامر الله تعالى وشرعه، فأعرضوا عن كتاب الله، وأعرضوا عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لم يعرفوا طريقاً إلى المسجد، ولا سبيلاً إلى طاعة من الطاعات، ثم بعد ذلك عقُّوا الوالدين في وقت ضعفهما، في وقت قد بلغا فيه من أرذل العمر، وهما في حاجة إلى العطف والحنان والرعاية من هؤلاء الأبناء.
فكم رأينا من شيخ يبكي بسبب ابنه، وكم رأينا من امرأة طاعنة في السن تدبُّ على الأرض دبيباً تشكو ابنها وهي باكية منتحبة، ونحن نرفع تلك الشكاوى إلى من لا يغفل ولا ينام، نرفعها إلى الواحد الأحد، الذي لا تخفى عليه خافية، والذي لا تسقط عنده مظلمة، ولا تضيع لديه شكاية.
يقصُّ علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم قصة ثلاثة من بني إسرائيل، خرجوا يتمشون فأخذهم المطر، فأوَوْا إلى غار في جبل، فانحطَّت على فم غارهم صخرةٌ من الجبل، فانطبقت عليهم – أي سُدَّ عليهم بابُ الغار، فلا يستطيعون الخروج – فقال بعضُهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحةً لله، فادعوا الله تعالى بها، لعلّ الله أن يَفْرُجها عنكم، فقال أحدهم – وهو موضع الشاهد من هذا الحديث -:(/6)
"اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، وامرأتي، ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا أَرَحْتُ عليهم[6]، حلبتُ، فبدأت بوالديَّ فسقيتُهما قبل بنيَّ، وأنه نأى بي ذات يوم الشَّجَرُ[7]، فلم آتِ حتى أمسيتُ، فوجدتهما قد ناما، فحلبتُ كما كنتُ أحلُبُ، فجئتُ بالحِلابِ، فقمتُ عند رؤوسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبيةُ يتضاغون[8] عند قدميَّ، فلم يزل ذلك دَأْبي ودأبَهم[9] حتى طلع الفجر، ثم دعا الله فقال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاءَ وجهِك، فافرج لنا منه فرجةً نرى منها السماء، ففرّج الله منها فرجة فرأوا السماء))[10]، ثم دعا الثاني والثالث حتى انفرجت عنهم الصخرة، وخرجوا يمشون.
والشاهد من القصة أن الله استجاب لهذا الرجل ببره لوالديه ولعدم تفضيله أحداً من أبنائه وزوجته عليهما.
فكيف بنا اليوم نسمع ونشاهد من يغضب أمه لترضى زوجته، ومن يقطعُ أمه ليصل زوجته، ومن يَحْرِمُ أمه ويغدقُ على زوجته، إن هذا من أعظم الكبائر.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة قاطعُ رحم))[11] فمن قطع أباه وأمه حرَّم الله عليه الجنة؛ لأنه خبيث الطبع، سيئ الخلق، منكِرٌ للجميل والمعروف.
* وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ((لما خلق الله الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائِذ من القطيعة. قال: نعم. أما ترضين أنْ أصل من أصلكِ وأقطع من قطعكِ؟ قالت: بلى. قال: فذلك لكِ))[12].
* ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْض وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22-23].
وإذا وصل الله عبده فيا فوزه ويا سعادته، وإذا قطع الله عبده فيا حسرته ويا ندامته.(/7)
إذا وصلك الله – عز وجل – جعلك من أهل طاعته، وقرَّب إليك سبل هدايته، ويسَّر لك أمرك، وجعل لك من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، واتتك الدنيا وهي راغمة.
وإذا قطعك الله – عز وجل – عسَّر عليك أمرك، وقرَّب إليك سبل المعصية والغواية، وضيَّق عليك في الدنيا، فكلَّمَا سلكت وادياً هلكت، وكلما التمست باباً أغلقه دونك.
* أما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أحب أن يبسَطَ في رزقه، وَيُنْسَأَ له في أثره[13] فليصل رحمه))[14].
فصلة الرحم من أسباب بسط الرزق وسعته وكثرته، وكذلك من أسباب البركة في المال والعمر والأبناء والزوجة وغير ذلك.
* أيها الناس:
أهل البر في هذه الأمة لهم قصص عَبْرَ التاريخ يضربون بها أروع الأمثلة في البر واحترام الوالدين ورحمتهما.
فهذا الإمام ابن سيرين بلغ من بره بوالدته أن قال: والله ما ارتقيت سطح بيتٍ ووالدتي في البيت لئلا أرتفع عليها!!
كان يقدِّم لها الطعام فلا يبدأ حتى تبدأ هي، وكان لا يأكل من الإناء الذي كانت تأكل منه أمه، فقيل له في ذلك فقال: أخشى أن تقع عينها على شيء من الطعام فآخذه فأكون عاقاً.
وكان إذا جلس أمامها لا يمدها بصره، بل كان يخفض من بصره أمامها وكأنه عبدٌ مملوك.
وإمام آخر، هو الإمام أحمد بن حنبل – رضي الله عنه -:
جعل من نفسه – وهو إمام أهل السنة والجماعة – خادماً لوالدته، يغسل ثيابها، ويصنع طعامها، ويقوم على حاجتها؛ لأنه أخرج حديثاً أن معاوية بن جاهمة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أردتُ الغزو وجئتك أستشيرك. فقال صلى الله عليه وسلم: ((هل لك من أم)). قال: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: ((الزمها فإن الجنة تحت رجليها))[15].
فأي حقٍّ لهذه الأم التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة تحت رجليها، وإذا كانت الجنة تحت رجليها فلن يستطيع أحد دخول الجنة إلا عن طريق أمه.(/8)
وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فاحفظ وإن شئت فضيِّع))[16].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وليُّ الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الناس:
إن صور العقوق كثيرة في هذه الأمة، وهي أمة عاشت الجمود والجحود في فترة من فتراتها طويلة، جحدت في الإبداع والابتكار، وجمدت في مجال الاكتشاف والاختراع، فسبقتها أرذل الأمم وأحط الشعوب.
أمة عقت ربها فجحدت حقوقه في عبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة غيره من الأصنام والأوثان والقبور والمبادئ والشعارات والانتماءات والآراء والأهواء.
وعقت رسولها صلى الله عليه وسلم فلم تتبعه، ولم تهتد بهديه، ولم تسر في طريقه، ولم تحكمه في أمورها؛ بل حكمت الأفكار البشرية، والمبادئ الشيطانية، التي ما قامت إلا للقضاء على هذه الأمة، وسلخها عن دينها، حتى تصبح أمة بلا هُوِيَّة، ولا حضارة، ولا تاريخ، ولا مبادئ، فتكون بذلك كالقصعة التي يتداعى عليا الأكلة من كل جانب، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان - أيضاً - عقوق الوالدين، الذي هو نتيجة طبيعية لتفكك الأسرة، التي بعدت كثيراً عن تعاليم الإسلام، فالأب لا يسأل عن أبنائه، ولا يتفقد صحبتهم، ولا يسأل عن صلاتهم، ولا عن صيامهم، وإنما جلُّ اهتمامه بطعامهم وشرابهم وكسوتهم، فهل هذه هي أمانة الأبوة، وهل هذا هو القيام بالمسؤولية؟(/9)
والأم أيضاً لا تهتم إلا بإعداد الطعام والشراب، فلا تقرأ في كتاب ربها، ولا تعلم شيئاً عن أمور دينها، ولا تغرس في نفوس أبنائها القيم الإسلامية الراقية، التي تحفظهم من شَُلَلِ الإجرام والضياع، كيف ننتظر بعد ذلك أن تكون أسرنا متماسكة، أو أن تكون مجتمعاتنا صالحة، يحترم فيها الأبناء آباءهم وأمهاتهم، ويعرف الصغير للكبير حقه فيجله ولا يتطاول عليه، ويرحم الكبيرُ الصغيرَ فلا يقسو عليه ولا يهنه أو يعمل على إلغاء شخصيته.
وقد عقّت هذه الأمة علماءها، وأهل الفضل فيها، وهم الذين تبنى عليهم الأمجاد، وبفضلهم تصنع البطولات، أين مكانة العلماء في بلاد المسلمين؟ بل أين مكانتهم في قلوب المسلمين؟
يجب على الأمة وهي في مرحلة الصحوة أو اليقظة، أن تضع هؤلاء الأخيار تاجاً على رأسها، وأن تجعلهم في مكان المسؤولية والصدارة، بدلاً من أن تجعلهم في مؤخرة الركب كما هو الحال، بينما نجد في المقدمة أساطين الفن، ونجوم التمثيل، وصرعى الكرة، مع أن هؤلاء لم يصنعوا حضارة، ولم يقدموا مجداً، ولم يشاركوا في انتصار.
أين الابتكار والاختراع في واقع هذه الأمة؟
لماذا لا يُشَجَّع المخترعون والمكتشفون والمبدعون، ويقدَّم لهم ما يحتاجونه من إمكانات، سوف تخدم الأمة في يوم من الأيام؟ لماذا نغلق الأبواب في وجوه هؤلاء، بينما نجد الدول الغربية والشرقية تفتح لهم الأبواب، وتقدِّم لهم كل ما يحتاجونه، ليستفيدوا من علمهم في مخترعات ومكتشفات تصدَّر إلينا فيما بعد بمئات الملايين.
فكيف لا تتخلَّف الأمة إذن؟ وكيف لا تكون في ذيل الأمم؟ وكيف لا تكون متبوعة مقهورة ذليلة غارقة في بحار من الديون والقروض والهزيمة والعار.
* عباد الله:
أين الكتاب والسنَّة في حياة المسلمين؟
أين تحكيم شرع الله في ديارٍ فتحها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأقام عليها دولة الإسلام؟
إن غالب شعوب الإسلام الآن تحكم بأنظمة علمانية لا تعرف ربّاً ولا رسولاً ولا كتاباً.(/10)
* فكيف نرجو بعد ذلك النصر والتمكين، وقد غفلنا عن قوله تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور: 55].
فهل نصرنا الله – عزَّ وجلَّ – في أنفسنا؟ هل أقمنا شرعه فيما بيننا؟ هل عبدناه حقَّ عبادته؟
هل نصرنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بإتباع سنته والاهتداء بهديه؟
لقد كذب أقوام ادَّعوا محبة الله – عز وجل – ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكِّموا شرعه، ولم يتبعوه عليه الصلاة والسلام، قال الله - تبارك وتعالى - : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].
ولقد نفى الله الإيمان عن أقوام أعرضوا عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حكَّموه مع الكراهة وعدم التسليم، فقال – جلَّ وعلا -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65].
* أيها الناس:
أما آن لكم أن تعودوا إلى ربكم وقد كشرت لكم الأمم عن أنيابها؟
أما آن لكم أن ترجعوا وأنتم ترون إخوانكم المسلمين يذبحون في كل مكان، ويقتلون في كل أرض، لا لشيء إلا لأنهم مسلمون؟
أما آن لكم أن تستيقظوا من غفلتكم بعد أن رأيتم سيوف اليهود والنصارى تعمل في المسلمين ذبحاً وتقتيلاً؟
يقول شوقي مصوراً هذه المحنة:
شعوبُكَ في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهفٍ في عميقِ ثُبَاتِ(/11)
بأيْمَانِهِم نورانِ ذِكْرٌ وسُنَّةٌ في بالهم في حالكِ الظلمات
لماذا نسير في الطرق المظلمة والوعرة، التي لا يهتدي سالكها، بينما نترك الطريق الممهد المضيء بأنوار التوحيد؟ لماذا نترك عظماءنا الذين حملوا راية التوحيد، وفتحوا بها مشارق الأرض ومغاربها، بينما نجعل النجوم والكواكب أولئك المنهزمين اللاهين اللاعبين.
إذا تَفَاخَرَ بالأَهْرَامِ مُنْهَزِمٌ فنحن أهْرَامُنَا سَلْمَانُ أو عُمَرُ
لقد أخطأت مناهج التعليم أيما خطأ حينما جعلت لنابليون أو سليمان فرنجية مساحة كالتي جعلتها لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، أو أبي بكر أو عمر، فهذا من أشد صور الجحود والعقوق لتاريخنا الإسلامي وحضارتنا المجيدة التي أسسها رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فكيف يفهم الجيل الجديد تاريخه، وكيف يتعرف على عظمائه، وكيف يعود إلى أمجاده؟
والعقوق صوره متعددة، وأشكاله متباينة، فهناك عقوق في العلوم الشرعية، وعقوق في التاريخ، وعقوق في التربية، وعقوق في الأدب والسلوك، وعقوق في القيم والمبادئ، ولن تمضي هذه الأمة إلى الأمام إلا بالتخلص من هذه الصور جميعاً، لتصبح حرَّةً في مبادئها وقيمها التي فتحت بها مشارق الأرض ومغاربها.
نسأل الله لنا ولكم هداية ورشداً، وتوفيقاً وتسديداً.
* أيها المسلمون:
وصلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
* وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً))[17].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.(/12)
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار, من المهاجرين والأنصار، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] أخرجه البخاري (3/152) كتاب الشهادات، ومسلم (1/91) رقم (87).
[2] أخرجه أبو الشيخ في عوالي الحديث (1/22/1)، والطبراني في ((الصغير)) ص (195) قال الطبراني: لا يروى عن محمد بن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به ((عبيد بن خلصة)).
قال الألباني: ولم أجد من ترجمه، والمنكدر بن محمد بن المنكدر لين الحديث كما في ((التقريب)).
قلت: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت ومالك لأبيك)) صحيح أخرجه بن ماجه رقم (2291، 2292)، وأبو داود (3530). انظر: ((الإرواء)) (3/324)، ((صحيح الجامع)) رقم (1486)، و((الإحسان)) رقم (410).
[3] ((الإحسان)) (2/143).
[4] أخرجه الترمذي (4/274) رقم (1899)، وابن حبان كما في ((الإحسان)) رقم (429)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) رقم (2). وصححه الذهبي في كتاب ((الكبائر)) ص (42)، وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) رقم (516).
[5] أخرجه الترمذي (4/275) رقم (1900)، وأحمد (5/196)، وابن ماجه (1/675) رقم (2089) قال الترمذي: حديث صحيح. وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) رقم (913).
[6] أرحت عليهم: أي إذا عدت بالماشية إليهم من المرعى.
[7] أي بَعُد المرعى.
[8] أي يصيحون ويستغيثون من الجوع.
[9] دأبي ودأبهم: أي حالي وحالهم.
[10] أخرجه البخاري (3/51) كتاب الإجارة، ومسلم واللفظ له (4/2099) رقم (2743).
[11] أخرجه البخاري (7/72) كتاب الأدب، ومسلم (4/1981) رقم (2556).
[12] أخرجه البخاري (7/72-73) كتاب الأدب، ومسلم (4/1981) رقم (2554).
[13] يُنسأ له في أثره: أي يؤخَّر في بقية عمره.
[14] أخرجه البخاري (3/8) كتاب البيوع، ومسلم (4/1982) رقم (2557).(/13)
[15] أخرجه أحمد (3/429)، والنسائي (6/11) رقم (3104)، وابن ماجه (2/929) رقم (2781) ولفظه: ((ويحك الزم رجلها فثمَّ الجنة))، والحاكم (4/151) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح.
[16] تقدَّم تخريجه في نفس الخطبة.
[17] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/14)
العنوان: بالحب نربي أبناءنا
رقم المقالة: 245
صاحب المقالة: د. دعاء العدوي
-----------------------------------------
أبناؤنا هبة الله – تعالى- لنا، قال - عز وجل- {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74]، وقد فطر الله الوالدين على محبة الولد، وجعله ثمرة الفؤاد وقرة العين، وهذه المحبة هي مصدر الأمن والاستواء النفسي للولد، كما أنها القاعدة الصلبة لبناء شخصيته على الاستقامة والصلاح والتفاعل الإيجابي مع المجتمع من حوله. ولكن هل يكفي أن تمتلئ قلوبنا بحب أبناءنا؟ أم أن هناك وسائل للتعبير عن هذا الحب؟
في البداية: ينصحكِ الخبراء أن تجعلي حبَّك الشديد لأطفالك حبّاً إيجابيّاً، يساعدك على أفضل تنشئة صحية ونفسية ودينية ممكنة، ويحذرونك من أن يكون هذا الحب وسيلة إلى إفسادهم - لا قدر الله! - فالحب لا يجب أن يدفعك إلى تدليل أطفالك، بل يجب أن يكون دافعاً لإثابة الطفل عندما يجيد ولعقابه عندما يخطئ، مع التأكيد على أنك في الحالتين تتصرفين بدافع الحب، فعند الثواب تكافئينه لأنك تحبينه وتسعدين لأنه (اختار) التصرف السليم، وتشجعينه بالثواب على الاستمرار فيه ليكون رائعاً معظم الوقت، وعندما تعاقبينه فإنك تفعلين ذلك لأنك تحبينه وترين أنه أخطأ في حق نفسه عندما (اختار) التصرف الخاطئ، ولذا فإن عقابه ليس موجّهاً إلى شخصه ولا ينقص من حبك له، وإنما الخطأ هو ما جرّ عليه هذا العقاب.
* القواعد الست لإظهار الحب:
1 - انتبهي وأنصتي:
من أهم القواعد لإظهار الحب لأبنائك الإنصاتُ لأحاديثهم، وأن يتسع صدرك لهم وتتفاعلي معهم ، وتكوني مستمعةً جيدة وذلك في جو من الحوار الفعال الهادف الهادئ دون أن يأخذ هيئة المحاسبة أو التهديد ، وأن يظهر ذلك على كلامك معهم بأن تقولي مثلاً (أنا معك .ماذا بعد ذلك .أنا منتبهة .استمر).(/1)
وليرتسم على وجهك كثير من تعبيرات الراحة والسعادة عند استماعك لهم فهذا يشعرهم أنك تهتمين بهم وتحبينهم كثيراً وتحترمينهم.
2 - اقضي مع أبنائك وقتاً كافياً:
حاولي دائماً أن تقضي مع أبناءك وقتاً كافياً حتى تشبعي رغبتهم في وجودك بجوارهم والإحساس بحبك وحنانك الغامر ، فما أجمل أن يكون الوالدان مع الطفل كطفلين يسعدانه ويسعدا به .
* نصائح مفيدة لقضاء أوقات سعيدة مع أبنائنا:
* مشاركتهم في ألعابهم وهواياتهم المفضلة.
* مشاركتهم اهتماماتهم.
* إشراكهم في أعمال المنزل مع مراعاة مناسبتها للمستوى العمري لأبنائك ، فأبناؤنا غالباً ما يعرضون عليك العون والمساعدة ليسعدوك؛ لذا حاولي أن تعطيهم هذه الفرصة وتشجعيهم فهذا سوف يكسبهم التعاون والكثير من المهارات.
* الخروج إلى النزهات والرحلات مع مراعاة إشراكهم في اختيار المكان المناسب للنزهة فهذه الرحلات تقوي انتباههم ويوسع مداركهم.
* عمل بعض التجارب العلمية في المنزل :حاولي أن تطبقي بعض التجارب العلمية مع أبنائك مثلاً كأن تريهم خاصية الطفو على سطح الماء عن طريق إحضار بعض الأشياء الخفيفة والأشياء الثقيلة وتنفيذها ومناقشتهم فيها ، فالمطلوب منا أن نعطيهم قدراً من الحرية للتجرِبة والممارسة والمشاركة مع التشجيع والتقدير والوقاية.
وينصحنا أبو حامد الغزالي بضرورة أن يؤذَن للصبي بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعباً جميلاً ويستريح إليه من تعب الكتب فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه بالتعليم دائماً يميت قلبه ويبطل ذكائه وينغص عليه العيش.
3 - استخدمي أدوات الحب اللفظية:
كثيراً ما يحتاج أبناؤنا أن يسمعوا منا كلمات حنونة دافئة ليتأكدوا من حبنا لهم ويثقوا في أنفسهم مثل (أحبكم. أعتز بكم. أفتخر بكم. أقدركم. أحترمكم).(/2)
وقد أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن نخبر من نحبه بأننا نحبه ، ولا شك أن أبناءنا أولى بذلك ، فانظري إلى أبنائك نظرة حب واستحسان ، ولا تقارني بينهم وبين أقرانهم من أصدقاءهم أو أقاربهم .ويكفي أنهم أبناؤك لتحبيهم بغض النظر عن مشكلاتهم وما يسببونه من إزعاج وفوضى أو حتى تقصير؛ فنحن نوجههم لا نعيد تكوينهم من جديد فلكل منهم قدراته الخاصة وإمكاناته الذاتية التي تحتاج إلى أن نكتشفها، وهذه القدرات تنمو في الجو الذي نوفره لهم من حب وحسن خلق وقدوة صالحة ، ثم ندعو الله أن يكونوا على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه ، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (علموا أولادكم على غير شاكلتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ).
4 - استخدمي أدوات الحب البدنية:
فهذه الأدوات لها تأثير إيجابي في نفوس أطفالنا، ومنها: العناق، القبل، اللمسة الحانية ،المسح على الشعر، الرتب على الكتفين ،الحمل، الهدهدة.
ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة، فقد كان يقبل الحسن والحسين ويحملهما، كما كان يقبل ابنته فاطمة بين عينيها، ويمسح بحنان ومودة على الأطفال عندما يلقاهم في الطريق. ولا ننسى موقفه - صلى الله عليه وسلم - حينما أتى له شاب يستأذنه في الزنا فلم ينهره ولم يزجره بل قرَّبه إليه وسأله: أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟ حتى أقنعه ثم وضع يده الشريفة على صدر الشاب وأخذ يدعو له.
فإذا كان هذا موقفه - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الشاب فما بالنا بأبنائنا وهم أحوج إلى عطفنا وإلى لمساتنا الحانية.
5 - أحبك دائماً:(/3)
حين يخطئ ابنك لا تشعريه بأنه فقد حبك واحترامك له، فقط أخبريه أنك كرهتي العمل الذي قام به وأنك لم تتوقعي منه مثل هذا العمل؛ وذلك حتى لا تشعريه أن حبك له عرضة للتغيير أو للضياع لأي سبب حتى لو أخطأ فهذا سوف يبْني بينكم جسراً من الحب القوي والأمان والثقة فيك وفي حبك وفي نفسه أيضاً وسيقر بداخله مبدأ المصارحة دائماً حتى لو أخطأ.
ويشعره بالاستقرار مهما حدث أو صدر منه فإنه يستطيع أن يلجأ إليك ويصارحك لأنك تحبيه وسوف تساعديه وتوجهيه بأمان دون خلاف .
6 - ارفعي شعار "إني أحبكم جميعا":
احترسي من عواقب التفرقة في إظهار الحب فقد نبهنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المساواة بين الأبناء حتى في القبلة، وخاصة أن هناك فروقاً في القدرات والطباع بين الأبناء في الأسرة الواحدة وهذا قد يقود الأم إلى التفرقة بينهم دون أن تعلم .
عاملي أبنائك كفريق واحد حتى يصبحوا كذلك بالفعل ، وابحثي عن إيجابيات كل منهم لتكافئيه فيشعر عندها أنه متميز كأن تكافئي أحدهم على تفوقه الدراسي، والآخر على حرصه على الصلاة في وقتها، والثالث على تفوقه الرياضي، والرابع على تعاونه ، وهكذا.
وأخيراً اصبري واحتسبي واعلمي أن طريق التربية طويل وشاق يحتاج إلى كثير من الجهد والمثابرة، ولن يعينك على ذلك سوى توكلك وإخلاص نيتك لله ، فنحن نربي أبناءنا وننمي قدراتهم ومهاراتهم في جو من الحب والحنان لنفتخر بهم ونكسب برَّهم ويكونوا نعم الأبناء لنعم الآباء .(/4)
العنوان: بحرُ القوافي
رقم المقالة: 2045
صاحب المقالة: أغيد الطباع
-----------------------------------------
بحرُ القوافي
لي فيكَ يا بحرَ القوافي مركَبٌ أطلقتهُ و بقيتُ في الشطآنِ
أودعتُ فيهِ القلبَ أبْحَرَ مسرِعاً نحوَ الأحبةِ قد حدتهُ أماني:
أن يلتقي الأحبابَ قلبيْ مرةً فيعودُ يملأُ بالرَّجَاْ أركاني
قومٌ لهم ترنوْ العيونُ تجلةً وبذكرِ واحدهم يضيءُ زمانيْ
ولَهمْ رؤوسٌ كالجبالِ شموخُها تسموْ فتعلوْ رأسَ كلِّ مكانِ..
لا تنحنيْ إلا ببابِ إلهها.. فتصيرُ دونَ الأرضِ في إذعانِ
أمّا النفوسُ ، فلا تسل عن نُبْلِها فكأنما جُبلت مِنَ الإحسانِ
يُغْضونَ عَمّنْ قد أرادَ أذيّةً لا يَعْبَؤونَ بتافهٍ و جبانِ
لكن إذا رامَ الحياضَ مغامرٌ جعلوا الدِّما سُقْيًا لكُلِّ سِنانِ
حتى إذا ارتَوَتِ الأسِنّةُ كبَّروا لَم يُلههِمْ نَصرٌ عن العِرْفانِ
عرَفوا الحياةَ مطيةً لا تُشتَرى فاستبدَلوا دارَ الفَناْ بجِنانِ
همْ حُجّةُ الرحمنِ تُفحمُ مَن أَبى إلاّ التزلُّفَ في حِمى السُّلطانِ
عَن مِثلهمْ رحلَ الفؤادُ مفتِّشاً و لمثلِهمْ أوقفتُ خَطَّ بَنانيْ(/1)
العنوان: بداية الحملات الصليبية
رقم المقالة: 1608
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، أوجد الخلق من العدم، ورباهم بالنعم. أحمَدُه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنعم على بني الإنسان بأفئدة وأسماع وأبصار؛ حتَّى يسمعوا العِبَر، ويروا الآيات، ويتعلموا العُلوم، وقد كانوا لا يعلمون شيئًا: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ أكرمه الله - تعالى - بالرسالة، وأكرم هذه الأمة به؛ فبلَّغها رسالات ربه، ونَصَحَ لها، وقادها في دعوتها وجهادها حتى توفاه الله – تعالى - صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فتلك وصيةٌ اللهِ لنا ولمن كانوا قبلنا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].
أيها المُسْلِمُون: جرت في الأرض آيات وعِبَر، وحَوَى التاريخ أخبار كثير من الأمم، عاشوا كما عشنا، وعمروا الأرض كما عَمرْنا، ثم صاروا أثرًا بعد عين، وخبرًا يقرأ في تاريخ الأمم؛ ليتسلى به من يتسَلَّى، ويعتبر به من يعتبر: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 137 – 138].(/1)
وكما قيل: فالتاريخ يعيد نفسه، والأيامُ تتوالى، والسننُ تتكَرَّر، والحوادث تتشابه. والمفلحُ من فَقِهَ سنن الله - تعالى - فاعتبر، وكرَّس حياته فيما يرضي ربه، واجتنب كل ما يسخطه. والأحمقُ من يرى السنن، ويبصر الآيات والعبر؛ فلا ينتبه ولا يعتبر؛ بل يأكلُ ويشرب وينام، وينتظر الأجل وهو بلا عمل.
وفي مثل هذه الأيام، أي: قبل رمضان بسبعة أيام، منذ ما يقارب ألف عام انتزع الصليبيون بيت المقدس من المُسْلِمِينَ، ودنَّسوه زهاء تسعين سنة، وأنشؤوا أربع إمارات صليبية في المشرق الإسلامي، ومكثوا في بلاد المسلمين مائتي سنة، كانت أوروبة خلالها ترسل الحملات في إثر الحملات، والجُيوش تردف الجُيوش؛ لإحكام القبضة على بلاد المسلمين، ولكنَّها فشِلت وعادت أدراجها من حيث أَتَتْ، بعد تضحيات جسيمة من قِبَلِ المُسْلِمين في مصر والشام.
اصطلح على تسمية هذه البعوث الإفرنجية الكاثوليكية بالحملات الصليبية؛ لأنَّ الجيوش جُيِّشت تحت راية الصليب، وبشعار تخليص قبر يسوع المقدس - حسب زعمهم - ولهذه الحملات الضَّخْمَة التي استمرَّت قرنين كاملين قصةٌ دينية عند عُبَّاد الصليب؛ إذ إنَّ قادح شرارتها راهب يدعى: "بطرس الناسك"، ومسعر حربها هو المعتلي على سُدَّةِ عرش البابوية الكاثوليكيَّة آنذاك البابا "أوربان الثاني".
كان بطرسُ النَّاسكُ مُنْقَطِعًا للرهبنة والتعبُّد في مَغارة من مغارات أوروبا، وأثناء رهبنته طرأ عليه الحجّ إلى بلد عيسى - عليه السلام - فرحل إليها عام ستة وثمانين وأربعمائة للهجرة، فلمَّا وصل بيت المقدس، ورأى سلطان المسلمين عليها غاظه ذلك، وامتلأ قلبُه حِقدًا على المسلمين، واجتمع مع بطريرك كنائس فِلَسْطِين، وظلا يبكيان وينتحبان ويتذاكران مَجْد النصارى في تلك الأرض، ثم قطع بطرسُ الناسكُ على نفسه عهدًا ليُجَنِّدَنَّ أوربة لانتزاع القدس من المسلمين[1].(/2)
وعاد إلى أوربة للوفاء بوعده، فالتقى بالبابا أوربان في رُوما، وأخبره بخبره، وكان البابا أشدَّ حماسًا من بطرس ليحقق مجدًا للنَّصارى عامَّة، وللبابويَّة الكاثوليكية على وجه الخصوص، واتَّخذ من بُطْرُس وسيلةً إعلامية لتأجيج مشاعر الأوروبيين ضد المسلمين، فسار الراهب بطرس يجوب أرجاء أوروبة راكبًا بغلته، معتنقًا صليبه، مثيرًا لحماسة الناس، داعيًا إلى حرب مقدسة ضِدَّ المسلمين[2]، وكان لرحلته تلك أبلغُ الأثر في تهيئة الناس لغزو المسلمين. فلمَّا رأى البابا أوروبان أنَّ الوقت قد حان لقطف ثمرات دعايات بطرس، وأنَّ الحماسة الدينيَّة قد ألهبت قلوب الأوروبيين عقد مجمعًا كنسيًا ضخمًا في فرنسا تقاطر عليه النصارى من جميع أنحاء أوروبا حتى امتلأت المدن والقرى والمزارع المحيطة بمكان المجمع.
وفي الجلسة العاشرة من المجمع، افتتح بطرس الخطاب بالأكاذيب والدعاوى ضد المسلمين، معدِّدًا ما زعمه شدائد يعاني منها نصارى الشرق، في بلد يسوع. فلما تهيَّأ الناس، واشتد غضبهم قام بابا أوروبا ليخطب خُطبة مليئة بالشحن ضد المسلمين كان من قوله فيها: "أيها المسيحيون: إن تلك الأرض المُقَدَّسَة بحضور شخصها المخلص فيها، وتلك المغارة المريعة المختصة بفادينا، وذلك الجبل الذي عليه تألَّم ومات من أجلنا.. كلها أضحت ميراثًا لشعب غريب.. ولم يعُدْ من معبدٍ داخل المدينة المقدسة الخصوصية، والمشرقُ الذي هو المهدُ والينبوع المقدس لإيماننا، لم يعد مشهدًا إلا لافتخارات أعمال المسلمين"[3].(/3)
وخاطب الشعوب النصرانية الأوروبية بعامة فقال: "يا شعب الفرنجة شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تُخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباءٌ مُحْزِنة، تعلن أن جنسًا لعينًا أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد المسيحيين".. إلى أن قال: "فلْيُثِرْ همتكم ضريحُ المسيح المقدس ربنا ومنقذنا، الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيرُه من الأماكن المقدسة التي لوثت ودنست"[4].
ثم خصَّص البابا جزءًا من خطابه للأُمَّة الفرنساوية التي ترعى هذا المجمع الهائلَ فقال لهم: "أيها الطائفة الفرنساوية العزيزة لدى الله، إن كنيسة المسيحيين قد وضعت رجاها مسندًا على شجاعتكم، فأنا الذي أعرف جيّدًا تقواكم وكفاءتكم بالشجاعة والغيرة، وقد اجتزت الجبال الألبية وحضرت لكي أنذر بكلام الله في وسط بلادكم..
يا أيها الشجعان: اذهبوا متسلحين بسيف مفاتيحي البطرسية، واكتسبوا بها لذواتكم خزائن المكافآت السماوية الأبدية، فإذا أنتم انتصرتم على أعدائكم فالملكُ الشرقي يكون لكم قسمًا وميراثًا، وأما إذا قُتلتم فلكم المجد؛ لأنكم تموتون في المكان الذي فيه مات يسوع المسيح"[5].
- تعالى - الله عن إفكهم وكذبهم علوًّا كبيرًا.
ثم قال: "إن أورشليم أرضٌ لا نظير لها في ثمارها، هي فردوسُ المباهج، إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمّسين تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجدًا لا يفنى في ملكوت السموات"[6].
فعلت أصوات الجموع الحاشدة المتحمسة قائلة: "تلك إرادةُ الله"، ثم أمر البابا الذاهبين إلى الحرب أن يضعوا علامة الصليب على جباههم أو صدورهم، وتقدم جمع من الأساقفة والأُمَراء والتجار، وخروا راكعين أمام البابا معلنين أنهم وهبوا نفوسهم وأموالهم لله، وحذا حذوهم آلاف العامة، وخرج الرهبانُ والنساك من صوامعهم ليكونوا جنود المسيح حسب زعمهم[7].(/4)
قال المؤرخ الأوربي ديورانت: "وهكذا توحَّدتْ أوروبا كما لم تتوحَّدْ في تاريخها كله.. وسرت روحُ الحماسة فيها كما لم تَسِرْ فيها من قبل في أثناء هذا الاستعداد المحموم للحرب المقدسة"[8]، وأصر النساء والأطفال على المشاركة في هذه الحملة ضد المسلمين.
وقد صور المؤرخ المسلم ابن الأثير - رحمه الله تعالى - الحماسة الدينية لدى الصليبيين لما استردَّ المُسْلِمُون منهم بيت المقدس بقيادة صلاح الدين فقال - رحمه الله -: "ثم إن الرهبان والقسس، وخلقًا كثيرًا من مشهوريهم وفرسانهم لبسوا السواد، وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدس من أيديهم.. وذكر أنهم طافوا في بلاد الإفرنج يستنْجِدُونَ أهلها، ويحثُّونَهُم على الأخذ بثأر البيت المقدس، وصوَّروا المسيح - عليه السلام - وجعلوا صورة لرجل عربي، والعربي يضربه، وقد جعلوا الدماء على صورة المسيح - عليه السلام - وقالوا لهم: "هذا المسيح يضربه محمد نبي الإسلام، وقد جرحه وقتله؛ فعظم ذلك على الفرنج فحَشَرُوا وحشدوا حتى النساء.. ومن لم يستطع الخروج استأجر من يخرج عوضه أو يعطيهم مالاً على قدر حالهم، فاجتمع لهم من الرجال والأموال ما لا يتطرق إليه الإحصاء". وقال ابن الأثير: "وحدَّثني بعض الأسرى منهم أنَّ له والدةً ليس لها ولد سواه، ولا يملكون من الدنيا غير بيت باعتْهُ وجهَّزَتْهُ بثمنه، وسيَّرته لاستنقاذ البيت المقدس؛ فأُخِذَ أسيرًا. وكان عند الفرنج من الباعث الديني والنفساني ما هذا حدُّه، فخرجوا على الصعب والذلول برًّا وبحرًا من كل فجٍّ عميق"[9] ا هـ.(/5)
سارت طلائع الصليبيين يتقدَّمُها بطرسُ الناسكُ، ثم أُردفت بأربعة جيوش ضخمة لا يعلم عَدَدَهَا إلا الله تعالى، وصفها بعضهم فقال: "كانت الجيوش الصليبية عبارة عن شعب كامل يسير"[10]، فلمَّا دخلوا القسطنطينية للعبور إلى الشرق فزع أهل القسطنطينية من كثرتهم حتى قالت ابنة إمبراطورها آنذاك: "يخيل لي أن أوربا اقتلعت من أصولها"[11].
وأعجزت كثرتهم أي جيش أن يقف أمامهم، وما توقَّفوا إلا في بيت المقدس، وأعملوا القتل في أهله، واستولَوْا عليه، وذلك في ضُحَى الجُمُعَةِ لِسَبْعَةِ أيام بقيت على رمضان من سنة ثنتين وتسعين وأربعمئة للهجرة[12]، واهتزَّ المسلمون لهذه الفاجعة العظيمة، وبكوْا بكاءً مرًّا، وخطب الخطباء، وَتَرَاسَلَ الأُمَراء، واجتمع العلماء؛ لكن الضعف والفرقة قد عمِلَتْ عَمَلَهَا في المسلمين فما استطاعوا عمل شيء. ورفعت الصلبان في الأرض المباركة، واستباحها همج أوروبا، ومنعوا المسلمين من إقامة شعائرهم فيها، أوِ الصلاة في المسجد الأقصى، وكان ذلك أمرًا عسيرًا على أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - وكانت تلك نتيجة تضييع أوامر الله – تعالى - إذ سلَّط الله عليهم عدوّهم، ووكلهم إلى أنفسهم، ومن وكل إلى نفسه عجز، ومن وكل إلى الخلق ضيعوه، ومن توكل على الله كفاه..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى: 30].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..(/6)
أما بعد: فاتقوا الله – تعالى - واستجْلِبُوا النصر باتباع أمره، واجتناب نهيه، وتعظيم شعائره، ونصرة إخوانكم المستضعفين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
أيها المسلمون: لقد كانت الدوافع الدينية عند قادة الحملاتِ الصليبية ومسعريها قوية جدًّا، وهي التي أججوا بها مشاعر العامَّة في مختلف أرجاء أوروبا حتى خرجوا بقضهم وقضيضهم، واصطحبوا نساءهم وأولادهم للاستيطان في الشرق الإسلامي. ولا أدل على هذه الحماسة الدينية من المقولة التي أطلقها البابا أوربان أمام ملوك أوروبا حينما قال: "إنَّ تعريض حياتي للخَطَرِ في سبيل تخليص الأماكن المقدسة، لأفضلُ عندي من حكم العالم كله"[13].
ومن أجل هذا الهدف توحَّدت أوروبا المتفرقة، وتحالف ملوكها المتخالفون؛ لأن هدف الحملة كان مقدسًا عند جميعهم.
لقد كانت الحملاتُ الصليبية التي تتباعت على الشرق الإسلامي قرنين من الزمان، وصمة عار عيّر بها المنصفون من كُتَّاب أوربة بني جنسهم ومِلَّتهم، فما عرفت الرحمةُ إلى قلوبهم سبيلاً في المدن التي استولوا عليها؛ فهذا قس من قساوستهم كان حاضرًا معهم، كتب في مذكراته ما شاهده من أفعالهم فقال: "وشاهدنا أشياء عجيبة؛ إذ قُطِعَتْ رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرُهم رميًا بالسهام، أو أرغموا على أن يُلْقُوا أنفسهم من فوق الأبراج، وظَلَّ بعضُهُمُ الآخر يعذبون عدة أيام، ثم أحرقوا بالنار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس والأيدي والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل"[14].(/7)
ويروي كاتب نصراني آخر ما شاهده فيقول: "إن النساء كن يقتلن طعنًا بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار، أو تهشم رؤوسهم بدقها بالعمد، وذبح السبعون ألفًا الذين بقوا في المدينة، أمَّا اليهود الذي بقُوا أحياءً فَقَدْ سِيقُوا إلى كنيسٍ لهم، وأشعلت فيهم النار وهم أحياء"[15].
وظلَّ المسلمون طيلة إحدى وتسعين سنة يعدون العدة لإخراج الصليبيين من بيت المقدس؛ فأصلحوا أنفسهم، ونشروا الصلاح بينهم، ودخل كثير منهم تحت رايات الجهاد؛ حتى حقَّق الله لهُمُ النَّصر في حِطِّين وما تلاها من معارك. فأعادوا بيت المقدس إلى حظيرة الإسلام، وما عمل صلاح الدين وجيشُه مِثْلَ الَّذِي عَمِلَ الصليبيون بالمسلمين؛ بل آثَرَ العَفْوَ عنهم، وافتدى كثيرًا منهم بماله الخاص.
وظلَّ - رحمه الله تعالى - يُجَاهِدُ الصليبيين حتَّى حرَّر بلادًا كثيرة منهم، ثم واصل المسيرة من كانوا بعده من السلاطين حتَّى تمَّ تحرير الشرق الإسلامي كله من الإمارات الصليبية، وفَشِلَتْ ثمان حملات صليبية كبرى في تحقيق هدف الأوربيين بعد مائتي سنة من الصراع الدَّامي المرير.
وما أشبه الليلة بالبارحة، والتاريخ يعيد نفسه بعدما يقارب ألف سنة، وما الحملات الإعلامية المسعورة على الإسلام والمسلمين في هذه الأيام من الإعلام الغربي النصراني واليهودي، إلا امتداد لحملة بطرس الناسك وأكاذيبه، وما المجمعات الأممية لاتهام كل المسلمين بالإرهاب والتطرُّف - ما داموا يدينون بالإسلام - إلا امتداد للمجامع التي دعا إليها البابا أوربان الثاني قبل ألف عام، والمستهدف منها هم المسلمون في عقيدتهم ودينهم وأخلاقهم.(/8)
إن علاقتنا مع أهل الكتاب لا نحتاج في معرفة حقيقتها إلى محلل سياسي، أو كاتب صحفي، أو مذيع إخباري، يتلاعبون بالأخبار، ويَطْمِسُونَ الحقائق؛ وإنما نأخذها من كتاب الله - تعالى - الذي بين الله - تعالى - فيه أنَّ أهل الكتاب لن يَرْضَوْا عنَّا حتَّى نتَّبِعَ مِلَّتهم، سواء كانت ملتهم الديانة المحرفة، أم الأيدلوجية المخترعة، أم العلمانية اللادينية، ومشروع العولمة برمته لا يخرج عن خبر هذه الآية الكريمة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، وإن نزول عيسى - عليه السلام - في آخر الزمان، وكسره للصليب، وقتله للخنزير لمن أكبر الدلائل على أنَّ الصراع الدينيَّ سيظل موجودًا إلى آخر الزمان. وما كَسْرُه لِلصليب، وقتله للخنزير إلا إلغاء لشعائر دين النصارى، ولو لم يستمروا على الاستمساك بها لما كان إلغاؤها من مُهِمَّات عيسى عليه السلام.
إن العلمانيين العرب الذين تَخَلَّوْا عن دينهم، وطالبونا باطِّراحه، وبتبديل ثقافتنا، وتغيير نصوصنا، ولازالوا يساوموننا على ديننا لم يرض عنهم عباد العجل وعباد الصليب، ولن يرضوا عنهم أبدًا؛ فلا لدينهم أبقوا، ولا نالوا رضى أعدائهم، وهم في خسران دائم!! وواجب على كل مسلم في مثل هذه الفتن أن يزيد استمساكُه بدينه، وأن يكثر من عبادة ربه، وأن يسأل الله الثبات على الحق إلى الممات؛ فإن الزائغين عن الطريق يكثرون في مثل تلك الفتن، والمتخلّون عن دينهم تزداد أعدادهم كلما عظم البلاء، واشتدت الفتن، وإذا خسر المرء دينه فَقَدْ خسر آخرته، عوذًا بالله من ذلك.
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] "الحروب الصليبية" لسيد علي حريري (23)، و"الحروب الصليبية في المشرق والمغرب" للعروسي المطوي (45)
[2] الحروب الصليبية في المشرق والمغرب (45 ـ 46).
[3] "الحروب الصليبية" للحريري (24 ـ 25).(/9)
[4] "قصة الحضارة" لديورانت (15/15).
[5] "الحروب الصليبية" للحريري (24 ـ 25).
[6] قصة الحضارة (15/15).
[7] المصدر السابق (15/16).
[8] المصدر السابق (15/17).
[9] "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (9/201).
[10] "الحروب الصليبية" للحريري (44).
[11] المصدر السابق (45)، والحروب الصليبية في المشرق والمغرب (35).
[12] انظر خبر استيلائهم على بيت المقدس في: "المنتظم" لابن الجوزي (17/47)، و"الكامل" (8/189)، و"البداية والنهاية" (12/138)، و"تاريخ الإسلام" للذهبي (34/15)، و"تاريخ ابن خلدون" (5/25).
[13] قصة الحضارة (15/14).
[14] المصدر السابق (15/25).
[15] المصدر السابق (15/25).(/10)
العنوان: بداية الخلق والتكليف
رقم المقالة: 1406
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نَحْمَدُه ونَسْتَعِينُه ونَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِالله من شُرورِ أَنْفُسِنا، ومن سيئات أعمالِنا، مَن يَهْدِهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 07-17].
أما بعدُ: فإن أحسن الحديث كلام الله – تعالى- وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأُمور محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بِدعةٌ، وكُلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها الناس: لكل بداية نهاية، ولِكُلِّ أجَلٍ كتاب، وسَنَتُنا هذه كان لها بداية، وها هي الآن تنتهي ليخلفها سَنَةٌ أخرى، تبتدئُ ثم تنتهي، وكما كان للدنيا بداية قبل مئات السنين فإن لها أجلاً تنتهي عنده، لا يعلم حينَهُ إلا الله تعالى.(/1)
وهذه الأرض وما يدبُّ عليها من ملايين البشر والحيوان والوحش والطير، وما فيها من بحارٍ وجبالٍ وعمران، وحركة دائبة لا تتوقف؛ مضى أزمان لم تكن موجودة قبل خلق الله – تعالى - لها، ومضى عليها زمنٌ بَعْدَ خَلْقِها خالية من الأحياء التي تعمرها، وسيأتي على عُمْرانِها يومٌ يعودُ خرابًا كأنْ لم يَكُنْ من قبل؛ وذلك حينما يأذن الله – تعالى - بانتهاء أجَلِها، فتُسَجَّرُ بِحارُها، وتُسيَّرُ جِبالُها، وتتناثَرُ كواكِبُها، وتُكوَّرُ شمسُها، ويَخسف قمرها، وتنشقُّ سماؤها، ويُبعث أحياؤها من بطنِها لِلحشر والحساب والجزاء؛ لتكون نهاية المكلفين من الجن والإنس: الخلود في الجنة أو في النار.
إنها بدايات عجيبة، ونهايات أعجب، علمها العليم الحكيم، وقدرها اللطيف الخبير، في نظام بديع دقيق، ووَفْقَ حكمة بالغة.
إنَّ مِمَّا يناسب الحديث عنه في نهاية عام وبداية آخر أن ننظر في بداية هذا الأمر كله: في بداية الخلق، وبداية الإنسان، وبداية التكليف، ثم انتهاء ذلك كله على وَفْق ما جاء في النصوص المعصومة من الكتاب والسنة، ومعرفة ذلك تَعْنِي معرفة أسباب وجودنا، وماذا يريد منا مَن أوجدنا من العدم، وربَّانا بالنعم؟ ثم ما هو مصيرُنا ونِهايَتُنا؟! والعاقِلُ مَن يسعَى في صلاحِ ما يَبْقى، والأَحْمَقُ مَن يُقدم ما يفنى على ما يَبقَى؛ فلا ما يفنى بقي له، ولا هو أصلَحَ ما يبقى.(/2)
إن علم بدايات الخلق والإنسان والتكليف، ومعرفة المرجع والمصير ليست عندنا - معاشر المسلمين - أوهامًا نتوهمها، أو تخيلاتٍ طرأت على عقولنا، أو توقعاتٍ أنتجتها أفكارنا، أو استجلبناها من بشر مثلنا. إنها حقائق من رب العالمين، ويقين مسطور في الكتاب والسنة، جاء فيهما تفصيل البدايات والنهايات بما لا مجال فيه لمتوهم أو خراص أو كاهن أن يقولوا فيه قولاً؛ فالله – تعالى - هو الخالق، خلق خلقه لحكمة يريدها، ابتدأهم وهو القادر على إعادتهم وبعثهم بعد موتهم: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [الرُّوم:27]، وما من موجود علا قَدْرُه أوِ انْخَفَضَ إلا وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله – تعالى - وعبدٌ مِنْ عَبيدِه، شاء أَمْ أَبَى.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بدايةِ الخَلْقِ لمَّا جاءه أهل اليمن فَسأَلُوهُ وقالوا: "جِئناكَ لنَتَفَقَّهَ في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان"؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((كان اللهُ ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كُلَّ شيء))؛ رواه البخاري[1].
وفي رواية له: ((كان الله ولم يكن شيءٌ غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض))[2].(/3)
وأول شيء خلقه الله – تعالى - عرشه؛ كما جاء في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعًا قال: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء))[3]، فلما أراد - سبحانه وتعالى - تقدير كل شيء خلق القلم، وأمره بالكتابة؛ كما جاء في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أول ما خلق الله – تعالى - القلم، فقال له: اكتب، قال: ربّ وماذا أكتب؟ قال: اكْتُبْ مقاديرَ كُلِّ شيء حتى تقوم الساعة))؛ رواه أبو داود والترمذي، ولفظه: ((اكتب القدر، ما كانَ وما هو كائِنٌ إلى الأبد))[4].
وجميع ما خلقه الله – تعالى - في السموات والأرض مما ينتفع به المكلفون فإنما خلقه الله - سبحانه - لأجلهم؛ كما قال - عزَّ من قائل -: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، وفي الآية الأخرى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29].(/4)
وأما بداية البشرية فإنَّ الله – تعالى - لما أرادَ خَلْقَ أصْلِهم أَخْبَرَ ملائِكَتَهُ بذلك {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، خلق آدم من طين كما جاء في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن، وهذا الطين كان قبضة قبضها الجبار - جل وعلا - من جميع الأرض كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدَمَ على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحَزْنُ، والخبيث والطيب))؛ رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - وقال الترمذي: حسن صحيح[5].
وأكرم الله – تعالى - أصل البشر بأن نفخ فيه من روحه، وأمر ملائكته بالسجود له {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 71-76].(/5)
لقد استكبر إبليسُ على أمر ربه، واستحقر شأن آدم، وحسده على ما أكرمه الله – تعالى - به من الخلق، ونفخه الروح فيه؛ فأبى أن يسجد له، فحقت عليه لعنة الله - تعالى - فأعلن عداوته لهذا المخلوق الجديد، الذي طرد من الرحمة بسببه، وأقسم بعزة الله – تعالى - ليغوينه وذريته {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} [الحجر: 39-40]، {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16-17]. إنه ابتلاء ابتلي به آدم - عليه السَّلام - وابتليت به ذريته من بعده؛ لحكمةٍ يريدها الله – تعالى - وهو العليم الحكيم.
وبعد خلق آدم - عليه السلام - خلقت زوجه من ضِلَعِه؛ كما جاء في الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((استوصوا بالنساء فإن المرأة خُلِقَتْ من ضِلَعٍ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه))[6].(/6)
أسكن الله – تعالى - آدم وزوجَهُ جنته، وأباح لهما الأكل منها حيث شاءا إلا شجرة واحدة حرَّمَهَا عليْهِما امتحانًا لهما، وكان إبليس ماضيًا فيما عزم عليه من إغواء آدم وذريته، وكان يعلم أن لوساوسه مدخلاً عليهم؛ لما رآه من طبيعة خلق أبيهم، وما فيه من مركب الشهوة؛ كما جاء في حديث أنس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما صوَّر اللهُ آدَمَ في الجَنَّةِ تَرَكَهُ ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يُطيفُ به، ينظر ما هو، فلما رآه أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمَالَكُ)) رواه مسلم[7]، والأجوف صاحب الجوف، وقوله: لا يتمالك: أي لا يملِكُ نَفْسَهُ ويَحْبِسُها عن الشهوات، وقيل: لا يملك دفع الوساوس عنه، والمراد جنسُ بني آدم[8].
ولأجل ذلك فإن الله – تعالى - حذَّر آدم وحواء - عليهما السلام - أشد التحذير من عداوة إبليس ووسوسته، وجعل ثمن طاعتهما لأمر ربهما بعدم الأكل من الشجرة المنهي عنها: البقاء في الجنة، والتمتع بما فيها من خيرات، وبدأ إبليس ينفذ ما وعد من الوسوسة، وكانت تلك هي بداية تكليف آدمَ وحواء وامتحانهما {يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]، {فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى* إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 117-119].(/7)
ولما كانت هذه النعم مُشْتَهاةً عِنْدَ آدَمَ وزَوْجِه - عليهما السلام - ويجدان فيها من اللَّذَّة ما كَمُلَ به نعيمهما؛ فإنهما خشِيا من زَوالِها، وتلك الشَّهْوَةُ كانت هي نقطةَ الضعف، التي تسلَّل الشيطان من خلالها إلى قلبيهما {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 120-121].
إنه وزوجه قد زلاَّ الزلة التي نهاهما عنها ربهما، ولكن من رحمة الله – تعالى - بآدم وحواء وذريتهما من بعدهما، أنهما لم يُصِّرَا على الخطيئة كما فعل إبليس، ولم يجادلا كما جادل؛ بل بادرا بالتوبة والاستغفار فَوْرَ سؤال الرب – تعالى - لهما {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الأعراف: 22-23]. فقَبِلَ أَرْحَمَ الراحمين توبتهما، وعفا عنهما، وأهبطهما إلى الأرض كما أهبط إبليس، وجعل الأرض مقرًّا للبلاء والامتحان مدَّةً من الزمان معدودةً هي الحياة الدنيا، {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف: 24]. وجرى قلم التكليف على ذرية آدم من بعده، وظل إبليس ينفذ وعده، ولا يزال يفعل، وسيظل إلى ما شاء الله تعالى.(/8)
وانقسم بنو آدم إلى قسمين، وسلكوا طريقين لا ثالث لهما؛ فقسم منهم - وهم الأقل - سلكوا طريق أبيهم آدم - عليه السلام - طريق الإيمان بالله – تعالى - والتوبة من الذنوب، والاعتراف بالخطأ. وهؤلاء يلحقون بأبيهم آدم في جنة الخلد برحمة الله – تعالى - لهم.
وأما القسم الآخر فاتبع طريق إبليس، وخضع لوساوسه، وأطاعه فيما أراد من الكفر والجحود والاستكبار عن عبادة الله تعالى؛ فمآلهم مآل إبليس اللعين، نعوذ بالله من حالهم ومآلهم، ونسأل الله – تعالى - أن يُجَنِّبَنا طريقَهُمْ، وأن يَسْلُكَ بنا طريقَ المرسلين، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله – تعالى - وأطيعوه، واحذروا الذنوب؛ فإن أهل المعاصي جديرون بالعقوبة، وإن أهل الطاعة والاستغفار لحقيقون بالرحمة {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] .
أيها المسلمون: تنطوي قصة بداية الخلق، وبداية الإنسان، وبداية التكليف على دروس وعبر حقيق بالمسلم أن يتأملها، ويُنْعِمَ النظر فيها، ويتدبر النصوص التي عرضتها. ويتأكد ذلك في وقت التبس فيه الحقُّ بالباطل عند كثير من الناس، وقوي فيه أنصار الشر، وكثرت أحزاب الشيطان؛ لِصَرْفِ النَّاسِ عن دِينِهِمُ الذي ارتضاه الله – تعالى - لهم.(/9)
وكما ابتلي أبونا آدم - عليه السَّلام - بوساوِسِ الشيطان؛ فإننا لا ننفك عن الابتلاء بها، مع ما يقوم به شياطينُ الإنس من ضغوط ومضايقات لصرفنا عن الحق، ولا معصوم من الزلة والانحراف إلا من عَصَمَهُ الله تعالى. وإذا اعتصم المؤمن بِرَبِّهِ، واستعاذ به من الشيطان الرجيم، وسأل الله – تعالى - الثبات على الحقِّ بقلب موقِنٍ مخلِص؛ فإنَّ الله – تعالى - لا يُخَيِّبُه، وسيكون الثبات والتوفيق حليفًا له.
وإذا ما زلَّ في حال غفلة وجهل، تذكَّرَ زلَّة أبيه آدم - عليه السَّلام - من قبل، وعمل مثل ما عمل، فبادر بالتوبة والاستغفار، وهُرِع إلى الله – تعالى - طالبًا الرحمة والمغفرة، وخاف من الإصرار على الذنب، والاستكبار عن التوبة؛ لئلا يكون مصيره مصيرَ إبليس اللعين.
وقد يستهين العبد بذنب استصغره؛ فأصر عليه؛ فأورده المهالك، وختم له بالسوء على أثره، وما أُهبط آدم من الجنة إلا بسبب معصيةٍ واحدةٍ كان في غنًى عنها، وكانت هذه المعصية سببًا لابتلائه وابتلاء ذريته من بعده على وَفْق حكمةٍ أرادها الله تعالى، قال إبراهيم ابن أدهم - رحمه الله تعالى -: "لقد أورثتنا تلك الأكلةُ حزنًا طويلاً"[9].
إن قصة بداية الخلق لتدل على قدرة الخالق وعظمته، واستحقاقه أن يفرد بالعبادة دون ما سواه. فهذه الأحياء المتكاثرة على الأرض، في البر والبحر والجو، وهذا العمران العريض في الأرض، وما في السماء من عجائب الأفلاك والأنجم؛ كل ذلك مضى عليه أزمانٌ لم يكن موجودًا، فأوجد الخالق – سبحانه - كل ذلك، ودبره أحسن تدبير، وسيره في نظام دقيق عجيب، وجعل له أجلاً ونهاية.(/10)
وهكذا البشرية التي تزخر الأرض بهم، ويتكاثر عددهم حتى بلغوا المليارات كانوا من نسل رجلٍ واحد، فتكاثروا بأمر الله تعالى وتقديره حتى بلغوا ما ترون، ويخلف الأمواتَ منهم أحياءٌ يعمرون الأرض إلى أن يأذن الله تعالى بانتهاء ذلك. وقد مضى حينٌ من الزمن لم يكن هناك أي بشر {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. [الإنسان: 1-3].
إنه يجب علينا - أيها الأخوة - أن نفطن لأمر مهم جدًا في قصة بداية الخلق، وهو ما منَّ الله تعالى به على آدم لما وقع في الخطأ، وأكل من الشجرة؛ إذ بادر بالتوبة، ولم يسلك مسلك إبليس الذي استكبر وجادل وخاصم، فكانت هذه التوبة من آدم نعمة من الله تعالى وفضلًا عليه أخرجه بها من غضبه إلى رحمته، وكانت لولده من بعده إذا استزلتهم الشياطين؛ فأبواب التوبة أمامهم مفتوحة· فهل نحن أهلٌ لشكر المنعم سبحانه وتعالى على هذه النعمة العظيمة بلزوم التوبة، وكثرة الاستغفار؟!
وثمة نعمة عظيمة أخرى اختص الله تعالى بها هذه الأمة التي تدين بدين محمد صلى الله عليه وسلم، تلك هي نعمةُ معرفة قصة بداية الخلق، وبداية الإنسان، وبداية التكليف، ونهايات ذلك كله؛ فأمم الأرض من غير المسلمين تتخبط في ذلك كله بين أقوال أهل الكتاب التي داخلها من التحريف ما أفسدها، وبين أوهام الفلاسفة والمنظرين والكهان والعرافين والمنجمين.(/11)
ولقد كانت هذه القضية - أعني معرفة البداية والنهاية - سببًا في انتحار كثير من غير المسلمين، وشقاء الباقين منهم، وحيرتهم في أمرهم ومصيرهم، وقد هدى الله تعالى المسلمين إلى معرفة ذلك عن طريق الوحي الذي تكفل الله تعالى بحفظه؛ فتجد الشيخ المسلم الكبير العامي الأمي يعرف ذلك تمام المعرفة على وجه الإجمال، كما تجد الطفل الصغير في مجتمعات المسلمين يفهم ذلك ويتصوره، وقد عجز عن معرفته كبار النُظَّار والفلاسفة من غير المسلمين، فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام، وعلى نعمة القرآن، ونسألك اللهم الثبات على الحق إلى الممات.
وكما كان عامنا هذا بالأمس يبتدئ ها هو ينتهي، وكما كان للدنيا بداية فإن لها نهاية، وكما يولد الإنسان فإنه يموت، وإذا مات الميت قامت قيامته؛ فاعتبروا - يا عباد الله - واتعظوا، وأحسنوا أعمالكم تحسن خواتمكم، اللهم اختم عامنا هذا بخير، واخلفه علينا بخير، واجعلنا فيه من المقبولين، واحفظ علينا ديننا وأمننا إنك سميع مجيب.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
---
[1] أخرجه من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - البخاري في مواضع من صحيحه، وهذا اللفظ في التوحيد باب: وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم (7418)، وأحمد (4/431)، والطبراني في الكبير (18/203 ـ 204) بأرقام: (497 ـ 489 ـ 499 ـ 500)، والدارمي في "الرد على الجهمية" (14)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/2)، وفي "الأسماء والصفات" (489 ـ 800).
[2] هذه الرواية للبخاري في بدء الخلق باب ما جاء في قول الله – تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّوم: 27] (3191).(/12)
[3] أخرجه مسلم في القدر باب حجاج آدم وموسى - عليهما السلام - (2653)، والترمذي في القدر باب إعظام أمر الإيمان بالقدر (2156).
[4] أخرجه أبو داود في السنة باب القدر (4700)، والترمذي في القدر باب إعظام أمر الإيمان بالقدر (2155)، وأحمد (5/317).
وقدِ اختلف العلماء في أول المخلوقات على أقوال:
الأول: أن العرش هو أولها، ويدل عليه حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - المخرج في هامش (3)، وهو قول الجمهور فيما نقله عنهم أبو العلاء الهمداني كما في "العقيدة الطحاوية" (295)، و"البداية والنهاية" (1/9) واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وانتصر له بالأدلة والحجج في "مجموع الفتاوى" (18/213 ـ 216)، وابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (99).
الثاني: أن أول المخلوقات القلم، ودليل هذا القول حديث عبادة بن الصامت المخرج آنفًا، ورجح هذا القول الطبري في تاريخه (1/28 ـ 29)، وهو ظاهر كلام ابن الجوزي في "المنتظم" (1/121)، ورجحه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/207 ـ 208) في تعليقه على الحديث رقم: (133).
قال الطبري - رحمه الله تعالى - في تاريخه (1/30): "وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي رويناه عنه أولى قول في ذلك بالصواب؛ لأنه كان أعلم قائل في ذلك قولاً بحقيقته وصحته، وقد روينا عنه - عليه السلام - أنه قال: ((أول شيء خلقه الله - عزَّ وجلَّ - القلم» من غير استثناء منه شيئًا من الأشياء أنه تقدم خلق الله إياه خلق القلم، بل عم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول شيء خلقه الله القلم)) كل شيء، وأن القلم مخلوق قبله من غير استثنائه من ذلك عرشًا ولا ماءً ولا شيئًا غير ذلك". ا هـ.(/13)
وقال الألبانيّ مؤيّدًا لما قرَّره الطبري، ورادًّا على من قال بخلق العرش قبل القلم: "وفيه رد على من يقول بأنَّ العرش هو أول مخلوق، ولا نَصَّ في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يقول به مَنْ قال - كابن تيمية وغيره - استنباطًا واجتهادًا، فالأخذ بهذا الحديث ـ وفي معناه أحاديث أخرى ـ أولى؛ لأنه نص في المسألة، ولا اجتهاد في مورد النص كما هو معلوم، وتأويله بأن القلم مخلوق بعد العرش باطل؛ لأنه يصح مثل هذا التأويل لو كان هناك نَصٌّ قاطع على أن العرش أول المخلوقات كلها ومنها القلم، أما ومثل هذا النص مفقود، فلا يجوز هذا التأويل". ا هـ من السلسلة الصحيحة (1/208).
الثالث: أنَّ أوَّل شيء خلقه الله – تعالى - النور والظلمة، وهذا القول منسوب لابن إسحاق كما ذكر ذلك الطبريُّ في تاريخه (1/29)، وابن الجوزي في "المنتظم" (1/121)، وقدْ ردَّهُ الطَّبريُّ بِقوله: "وأما ابن إسحاق فإنَّهُ لم يسند قوله الذي قاله في ذلك إلى أحدٍ؛ وذلك من الأمور التي لا يُدْرَكُ عِلْمُها إلا بِخَبَرٍ من الله - عزَّ وجلَّ - أو خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم". ا هـ.
وقال ابن الجوزي: "ولا يقبل هذا مع الحديث المرفوع".(/14)
والذي يَظْهَرُ رُجحانُه بجمع الأدلة، وتأمل ألفاظها القول الأول، القاضي بأن العرش خلق قبل القلم؛ لظاهر حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - مع ظاهر حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ففي حديث عبدالله بن عمرو بيَّن أن التقدير كان قبل خلق السموات والأرض، وذكر فيه ((وكان عرشه على الماء))، وفي حديث عبادة ما يدل على أن التقدير كان فور خلق القلم؛ لأنه خلق للكتابة، فكان العرش بهذا الاعتبار سابقًا في الخلق على القلم، ويدل على ذلك أيضًا ظاهر حديث عمران بن حصين: ((كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشُه على الماء)) فلا ذكر للقلم في ذلك، قال ابن القيم معلقًا عليه: "ولا يناقض هذا الحديث ((أول ما خلق الله القلم))؛ لوجهين:
أحدهما: لأن الأولية راجعة إلى كتابته لا إلى خلقه، فإن الحديث: ((أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)).
والثاني: أن المراد أول ما خلقه الله من هذا العالم بعد خلق العرش، ويدل على سبق خلق العرش قوله في الحديث الثابت: ((قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء)). وقد أخبر أنه حين خلق القلم قدر به المقادير كما في اللفظ الآخر قال: ((اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر)). فهذا التقدير المؤقت قبل خلق العالم بخمسين ألف سنة، فثبت أن العرش سابق على القلم، والعرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض". ا هـ. من "اجتماع الجيوش الإسلامية" (99 ـ100).
[5] أخرجه أحمد (4/400)، وأبو داود في السنة باب في القدر (4693)، والترمذي في التفسير باب ومن سورة البقرة (2955) وقال: حسن صحيح، وعبد بن حميد في المنتخب من مسنده (845)، وصححه ابن حبان (6160)، والحاكم ووافقه الذهبي (2/216).(/15)
[6] أخرجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - البخاري في الأنبياء باب خلق آدم وذريته (3331)، ومسلم في الرضاع باب الوصية بالنساء (1468).
[7] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب باب خلق الإنسان خلقًا لا يتمالك (1162)، وأحمد (3/152 - 229).
[8] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (16/248)، و"جامع الأصول" (4/31)، وقال القرطبي في "المفهم" (6/596): "يعني: أن الله – تعالى - لما صور طينة آدم وشكلها بشكله على ما سبق في علمه، فلما رآها إبليس أطاف بها، أي: دار حولها، وجعل ينظر في كيفيتها وأمْرِها، فلما رآها ذات جوف وقع له أنها مفتقرة إلى ما يسد جوفها، وأنها لا تتمالك عن تحصيل ما تحتاج إليه من أغراضها وشهواتها، فكان الأمر على ما وقع".
[9] "معالم التنزيل" للبغوي (1/84).(/16)
العنوان: بدعة إعادة القراءة
رقم المقالة: 1542
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
أصبحتْ بِدعَةُ "إعادة قراءة النَّصّ"، أوْ "إعادة إنتاجه"؛ كما يحلو لبَعْضِهِمْ أنْ يُسَمِّيَهَا لعبة مُسْتمرأَة لدى بعض الباحثينَ، ومُورِس على النصوص - من خلال هذه القراءات الجديدة المُدَّعَاة - من التحريف والتزوير، وتشويه الحقائق والدلالات ما لا حَصْر له.
ذلك أنَّ النَّصَّ في هذه البدعة تتمُّ قراءته بعيدًا عن ملابسات إنتاجه، أو حياة مؤلفه، أو ظروف تكوينه، إنه يُقْطَعُ قطعًا تامًّا عن سياقه التاريخي والمعرفي، ويُفصَل عن ظرفه الزماني والمكاني، حتى يبدوَ كأنه قد نَشَأَ مِنَ الفَراغ.
يُصرف النص عن دلالاته الحقيقية، ويُؤَوَّلُ تأويلاً قد ينقُلُه من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين، ومن الإيمان إلى الكفر أو العكس، ذلك أنَّ معانيَ النص اللُّغوية، وتعبيره عن عصره وقائله، يُعَدُّ أمرًا لا قيمةَ له؛ بل أمرًا مُعَرْقِلاً؛ بل أمرًا مرفوضًا إذا لم يخدم تأويل الناقد.
وهكذا - بحجة موت المؤلف حينًا، ولا نهائية القراءات حينًا آخر - ضاعت حقيقة النص، ومُورستْ لعبة التأويل إلى أبعد مدى، وغدت النصوص - مقدسة، وغير مقدسة - أُلْعُوبة بيد القارئينَ، ورهينة اتجاهاتهم الفكرية والأيديولوجية.
يقول الدكتور حسن حنفي في كتابه عن جمال الدين الأفغاني معبِّرًا عن هذا التوجه في القراءة: "إن دراسته تعتمد على منهج إعادة القراءة، وإعادة إنتاج النص، ونقله من ظروف القرن الماضي إلى ظروف هذا القرن، تمثلاً للأفغاني وروح عمله...".
وأنا لا أدري كيف يكون قلع النص من تربته التي نما فيها، وعصرِه الذي وجد فيه، ثم زرعه بعد ذلك في تربة أخرى، وعصر جديد تمثلاً للأفغاني وروحه؟! بل إن العكس هو الصحيح.(/1)
إنَّ منطقَ العَقْلِ يَقُولُ: إنَّ إِغْفالَ التُّربة الَّتي نَبَتَ فيها النص، وإهمال الزمان والمكان اللذين أوجداه، كل ذلك يُبْعِدُه عن أن يُتَمثَّل بشكل صحيح، أو يفهم الفَهْم الدقيق؛ بل لا بد أن يدخل عليه الحَيْف والتزوير.
إن ما يسمى "القراءة الجديدة"؛ يعني - بصريح العبارة - إلغاء دلالة النص لتحل محلها دلالة القراءة التي يسقطها القارئ عليه، ويشير علي حَرْب - وهو من أكثر المتحمسينَ لهذه البدعة الجديدة - إلى ذلك بقوله في كتابه "نقد النص":
"أن يكون النص منطقة للتفكير، أو حقلاً للبحث معناه أنه يحتاج إلى قراءة تحوله من مجرد إمكان إلى فعل معرفي مُنْتَج، ولهذا فإن شرط القراءة وعلة وجودها أن تختلف عن النَّصّ الذي نقرؤه، وأن نكشف فيه ما لا يَكْشِفه بذاته، أو ما لم يُكْشَف فيه من قبل...".
إنَّ هذا الكلام محشو بالمُغالطة، إذ كيف نكشف من النص ما لا يكشفه هو، إلاَّ أن نلغي دلالاته اللُّغوية، وأن نُقوِّله ما لا يقول؟ أليس في هذا افتئاتٌ على الحقيقة، وتزوير لآراء الآخرين وإنطاقهم بما لم يفكروا فيه، أو يخطر لهم على بال؟ أليس في هذا كله إسقاطٌ لأفكار القارئ على المؤلف، وتحكيمها فيه تحت مسمى هذه العبارة البراقة (إعادة القراءة)؟ بلى، إن في "منهج القراءة الجديدة" هذا كله، ودعاته لا يتنصلون، ولا يُوارُون.
يقول علي حرب في أعقاب الكلام السابق: "وأما القراءة التي تقول ما يريد المؤلف قوله فلا مبرر لها أصلاً؛ لأنَّ الأصل هو أولى منها، وما يُغْنِي عنها إلاَّ إذا كانت القراءة تَدَّعِي أساسًا أنها تقول ما لم يحسن المؤلف قوله، وفي هذه الحالة تغني القراءة عن النص، وتصبح أولى منه...".
وهكذا - بهذه البساطة - يصادر القارئ رأي المؤلف، ويُمْتَهَن هذا المؤلف امْتِهَانًا لا مثيلَ له في التاريخ، إذ يُحكم عليه بالموت، أو يقول القارئ - باسمه - ما يريد، ويُنْطِقه بما يشاء، إنه دميةٌ في يد القارئ الجديد.(/2)
وهكذا - في عرف أصحاب هذا الاتجاه - تصبح القراءة مشروعة، و"حداثية" إذا قالتْ ما لم يَقُلْهُ المؤلف، أو خرجت على المألوف فقدمت "قراءة جديدة".
ومن هذا المنطلق وَصَفَ واحدٌ مثلُ الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه "النص - السلطة - الحقيقة" بعض القراءات التي لم توافق مِزاجَهُ لخطاب عصر النهضة: "بِأَنَّها مِمَّا فرضَتْهُ آلات القَهْر السياسي والاجتماعي بوصفه "الحقيقة المُطْلَقة" التي يُعَدّ الاقتراب منها بالنقد أو التحليل كُفْرًا، وإلحادًا، وهَرْطَقَة...".
وهكذا تُسْتَبَاح النصوص - مقدسة وغير مقدسة - وتتحول إلى شيء لا عَلاقة له بالأصل، ولا علاقة له بمنتجه، أو ظروفه ويُصَفَّى من التراث ما لا يُعْجِب القارئ أو يتفق مع إيديولوجيته بحجة إعادة قراءته، أو إعادة تفسيره وتأويله....(/3)
العنوان: بر الوالدين.. سبلٌ للعمل
رقم المقالة: 434
صاحب المقالة: نهى الفخراني
-----------------------------------------
أولى الإسلام الأسرة اهتماماً كبيراً، وأحاطها بسياج آمن من الطمأنينة، والسعادة في كل أطوارها، من الطفولة.. إلى الزوجية.. إلى الأمومة والأبوة، فالأسرة التي تتكون من الزوج والزوجة والأولاد هي قوام البناء الإنساني، وعماد أية أمة، وقد تدخلت الشريعة الإسلامية في بناء الأسرة على قواعد ثابتة من الدين والخلق، فإذا قامت هذه الأسرة على الضوابط الدينية واسترشدت بما حددته الشريعة لها، واستنارت بإرشادات القرآن الكريم، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد بدأت البداية السليمة، وسلكت الطريقة الصحيحة.
بناء الأسرة المسلمة:
وأساس السعادة في بناء الأسرة المسلمة لا يقوم على الجمال أو الجاه أو الثروة فحسب، بل لابد من الدين والخلق الطيب، ومن هنا رغَّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند تكوين العائلة في اختيار صاحبة الدين: ((لا تزوجوا النساء لحسنهن؛ فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن؛ فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين))، وإذا حدث الزواج فأساسه – أيضاً - حسن الخلق - سواء بالنسبة للزوج أو الزوجة - قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوْفِ} [النساء:19] وقال - صلى الله عليه وسلم –: ((خيركم خيركم لأهله)).
وقد وردت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية في فضل وعظمة نعمة الأولاد؛ ولذلك وصانا الله بهم: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، وقال - صلى الله عليه وسلم –: ((من نعم الله على الرجل أن يشبهه ولده)).(/1)
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل الأولاد زينة لنا في الحياة الدنيا، فإنه سبحانه جعلهم أيضاً فتنةً وابتلاءً؛ قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، وليس في هذا أي تناقض أو اختلاف، بل هما طريقان، ولكلٍ اتجاه وعلامات.
وإذا أراد الواحد منا أن يجعل ولده زينة وبهجة للناظرين وخليفة له، فليحسن تربيته، وليكن قدوة حسنة له في كل شيء يرعى نشأته، ويوجِّه سلوكه، ولا ينصرف عن ذلك إلى تجارته وأمواله، بل يحنو عليه، ويتعاطف معه، سواء كان الابن ولداً أو بنتاً.
وإذا نشأ الولد وتربى التربية الإسلامية الحقة فإنه يكون وفيَّاً لوالديه، فالعلاقة بين الوالد والولد، علاقة تبادلية، بمعنى :أن الوالد يربى ابنه وهو صغير ليرعاه الولد حين يكبر.
برُّ الوالدين فريضة شرعية:
رعاية الوالدين والوفاء لهما من أسمى وأعمق العواطف النبيلة التي دعا إليها القرآن الكريم وفى هذا المقام يقول العلماء: أن القرآن الكريم على كثرة ما أوصى الولد ببر والديه؛ فإنه لم يوص الوالد بابنه كثيراً؛ لأن عاطفة حب الوالد لابنه عاطفة أصيلة فيه، والشذوذ فيها خارج عن طبيعة البشر، وبر الوالدين فريضة لازمة وعقوقهما حرام، وللأم في هذا المجال منزلة خاصة. ولا ينكر فضل الوالدين إلا كل نذل لئيم، ومهما فعل الأبناء فلن يستطيعوا أن يكافئوا الوالدين بما قاموا به نحوهم من عطف ورعاية، وتربية وعناية، وقد فصَّل الله سبحانه وتعالى ما يجب من الإحسان إلى الوالدين بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23].(/2)
وقد أكد الله سبحانه وتعالى على الوفاء للوالدين ورعايتهما عند الكبر، حتى إنه - جلت قدرته - شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ووردت الأحاديث النبوية حاثة على بر الوالدين، فعن ابن مسعود –رضي الله عنه – قال: ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله ورسوله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سرّه أن يُمد في عمره ويُزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه)) وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل جاء يستأذنه في الجهاد معه: ((أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد)).
ورعاية الأم والاهتمام بها وبرها مقدم في بر الوالدين؛ لأنها تتحمل في رعاية الطفولة وتربيتها أكثر مما يتحمل الأب؛ تتحمل مشقة الحمل، وصعوبة الوضع، وقسوة الرضاع، ثم الخدمة والتربية: ((جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)).
عقوق الوالدين من الكبائر:
وإذا كان بر الوالدين مروءة وعبادة وفريضة فإن عقوقهما جريمة وكبيرة، وإن من أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وعقوق الوالدين، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء)).
وقد حرم الله علينا عقوق الوالدين..فقال - صلى الله عليه وسلم - :((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)).(/3)
ومن أقبح مظاهر العقوق التي نشاهدها في مجتمعاتنا المعاصرة اليوم: أن يتبرأ الولد من والديه، حين يرتفع مستواه الاجتماعي، وتلك صفات وضيعة، وضعف ديني، وخلق دنيء. والكثير من الفقهاء يرون تحريم تبرؤ الابن من أبويه لما رواه معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: ((من العباد عباد لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولا يطهرهم. قيل: ومن أولئك يا رسول الله؟ فقال النبي: المتبرئ من والديه)).
وقد قرن القرآن الأمر بعبادة الله وعدم الشرك به بالإحسان للوالدين حيث يقول سبحانه:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] وقوله أيضاً: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] وتكتمل الصورة المشرقة في أمر الله بقول النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين)).
حيث تفضل عليه الصلاة والسلام فجعل عدم بر الوالدين قرين الإشراك بالله، وبذلك أفاض أمر الله ورسوله هالة من القداسة والإجلال على علاقة الأبناء والبنات بالآباء، وبسط على الوالدين جناحاً من الرحمة؛ كما في قول الباري سبحانه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]، ومن هذا وغيره نجد أن إكرام الوالدين وإبراز حقوقهما في دين الله الكريم يبلغ أقصى درجة يتصورها الفكر الواعي، والضمير الحي، ويدين بها الوجدان الصادق، والنفس المؤمنة.
ويؤكد ذلك أيضاً ما يراه جمهور الفقهاء من أنه يحرم على الإنسان المسلم أن يخرج للجهاد في سبيل الله-في غير الحالات المتعينة عليه- بغير موافقة والديه ورضاهما؛ حتى لا يتضررا بفقد رعايته لهما، ولا يشق عليهما غيابه عنهما.(/4)
فعن أبي سعيد الخدري أن رجلاً من اليمن جاء يستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخروج للجهاد معه فقال - صلى الله عليه وسلم - له: ((هل لك أحد باليمن؟ فقال الرجل: أبواي يا رسول الله. فقال النبي: أبواك أذنا لك؟ فقال: لا. قال عليه السلام: ارجع واستأذنهما فإن أَذِنَا لك فجاهد وإلا فبرهما بطاعتك)).
من سبل بر الوالدين:
ومما أشار إليه بعض الفقهاء في صراحة وحزم أنه ينبغي على الإنسان المسلم إذا اضطر أن يحنث في يمين يتعلق بوالديه ويتضرران منه أن يفعل ما فيه رضا الوالدين وعليه الكفارة، ما لم يقع بذلك في معصية، ودون أن يكون في رضاهما شيء يتصل بالشرك بالله؛ قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
ويبلغ تكريم الدين للوالدين وتقديره لهما ما يراه المالكية والشافعية من أنه ينبغي للشخص المسلم أن يجيب نداء أبويه دون تراخ ولو كان في صلاة النافلة، وعقب على ذلك إمام الحرمين فقال: على الابن أن يجيب أبويه دون تراخ منه، حتى لو كان يصلي الفريضة، بشرط أن يكون في الوقت متسع لإعادة الصلاة.(/5)
ومن الحقائق الثابتة أنه لا ينتفع إنسان بعبادة غيره؛ لقول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، ولكن عدداً من الفقهاء استثنى من هذه القاعدة جواز انتفاع الأبوين بعد موتهما بالعبادة التي يؤديها أولادهما عنهما من صوم أو حج أو صدقة، يروى أن امرأة جاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت له: إن أمي ماتت وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أرأيت لو كان عليها دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ فقالت: نعم. قال: فصومي عن أمك)). كما أفتى كثير من الفقهاء بأن الدعاء للوالدين واجب بالأمر المفهوم صراحة في قول الله الكريم {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيْراً} وفى قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} فقرن شكر العبد لربه بشكر الابن لأبويه، وقد سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ فقال: نرجو أن يجزيهما بالدعاء بعض حقهما إذا دعا لهما في آخر كل تشهد عند كل صلاة.
كما أوجب العلماء النفقة عليهما؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الجهاد أن يضرب الرجل بسيفه في سبيل الله؛ إنما الجهاد من عال والديه)).
وقال: من عال والده فهو في جهاد، ومن عال نفسه فكفاها عن الناس فهو في جهاد. واعتمد الفقهاء على قول الله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} فقالوا بأنه لا يحد أحد الوالدين في قذف ولده، ولا يحبس أحدهما في دين عليه لأحد أولاده أولهم جميعاً.
صور ومواقف في بر الوالدين:
من جميل ما يروى عن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قال له: يا رسول الله، إن لي أما عجوزاً أحملها على عاتقي كل يوم وأطوف بها حول البيت، أفأكون بذلك قد وفيتها حقها؟ فيقول النبي لا. ولا بزفرة واحدة؛ إنها حملتك وهى ترجو حياتك، وأنت حملتها وتنتظر رحيلها.(/6)
ومن طريف ما يروى في مجال تكريم الوالدين أن أبا الأسود الدؤلى خاصمته زوجته في ولدها منه إلى القاضي زياد كل منهما يريد أن يحتضنه، فقال أبو الأسود: أنا أحق بالولد منها وحملته قبل أن تحمله ووضعته قبل أن تضعه. فقالت الأم: وضعته شهوة ووضعته كرهاً، وحملته خفاً وحملته ثقلاً؛ فقال القاضي زياد: صدقتِ أنتِ أحق به منه.
وكان علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبر الناس بأمه، ومع ذلك كان لا يأكل معها في وعاء واحد، ولما سئل عن ذلك قال: "أخاف أن تسبق يدي إلى شيء تكون قد سبقت إليه عيناها؛ فأكون قد عققتها".
والمواقف الدالة على حرص أسلافنا على برهم بآبائهم وأمهاتهم كثيرة جداً، لا تحصرها هذه السطور، ولا تتسع لها هذه المساحة، لكنها في جملتها تعكس صورة ذلك المجتمع البار، وحقيقة أولئك الأخيار، الذين زكت نفوسهم، واهتدت قلوبهم، فكانوا لنا مثلاً في برهم، ونبراساً في طاعتهم.
فهيا لنتفقد حالنا مع آبائنا وأمهاتنا، وننظر بعين الملاحظة هل نحن في برهم وطاعتهم على الحال الذي يجب، والطريقة التي تنبغي، أو أننا غير ذلك ؟
ألا هيا فلنبادر إلى برِّهما وطاعتهما قبل أن يرحلا، ويفوت الوقت فينتقلا.. هيا قبل أن نحزن على فقدهما، ونذرف الدموع ندماً على التقصير في حقهما..(/7)
العنوان: بر الوالدين... ففيهما فجاهد
رقم المقالة: 1202
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
بر الوالدين... ففيهما فجاهد...
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8].
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
ماذا قال الحبيب
1 - عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: جَاءَ رجل إلى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: يا رَسُول اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قال: ((أُمُّكَ)) قال: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ((أُمُّكَ)) قال: ثم مَنْ؟ قال: ((أُمُّكَ)) قال: ثم مَنْ؟ قال: ((أَبُوكَ)) مُتَّفَق عَلَيْهِ.
2 - وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: ((رَغِمَ أَنْف، ثُمَّ رَغِمَ أنف، ثم رَغِمَ أنف مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ - أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا - فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ)) رواه مُسْلِمٌ.(/1)
3 - وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال أقبل رجل إلى نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: أُبَايعك على الهِجْرَة والجهاد؛ أبتغي الأجر من اللَّه تعالى. فقال: ((فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قال: نَعَم؛ بَلْ كلاهما. قال: ((فتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؟)) قال: نَعَم. قال: ((فَارْجِعْ إِلى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا)) متفق عَلَيْهِ. وهذا لفظ مسلم. وفي رِوَاية لهما: جاء رجل فاستأذنه في الجهاد فقال: ((أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)) قال: نعم. قال: ((فَفِيهما فَجَاهِدْ)).
4- وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -، فاسْتَفْتَيْت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قلت: قدمت علي أمي، وهي راغبة؛ أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قال: ((نَعَمْ؛ صِلِي أُمَّكِ)) متفق عَلَيْهِ.
أحلى ما قال السلف
مكحول:
"بر الوالدين كَفَّارة للكبائر، ولا يزال الرجل قادرًا على البر مادام في فصيلته من هو أكبر منه"
سعيد بن المسيب:
عن ابن الهداج قال: "قلت لسعيد بن المسيب : "كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته، إلا قوله: {وقل لهما قولاً كريمًا} [الإسراء : 23]، ما هذا القول الكريم؟ فقال ابن المسيب: "قول العبد المذنب للسيد الفَظّ الغليظ".
ابن عباس:
"يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، لا يحد النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما".
درس اليوم
بر الوالدين...... وجدي غنيم
http://media.islamway.com/lessons/wagdy//bir_parents.rm
بر الوالدين..... باب الخير في الدنيا
أحبائي في الله...(/2)
إن بر الوالدين مَرْضاة للرب...كما أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك؛ وقد قرن الله بِرَّهما بالتوحيد!!
وها نحن نسمع بين الحين والآخر، وللأسف من أبناء الإسلام من يَزْجر أمه وأباه، أو يضربهما أو يقتل أمه أو أباه.... فلا حول ولا قُوة إلا بالله العلي العظيم...
وحق الوالدين باقٍ، ومصاحبتهما بالمعروف واجِبَة، حتى وإنْ كانا كافرين... ولم يقف حق الوالدين عند هذا الحد، بل تبرهما وتحسن إليهما حتى ولو أمراك بالكفر بالله، وألزماك بالشرك بالله....
فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين الوالدين بالمعروف؛ مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به، وهو الإشراك بالله، فما الظن بالوالدين المسلمين سِيَّما إنْ كانا صالحين، تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وأكدها، وإن القيام به على وجهه أصعب الأمور وأعظمها، فالموفق من هُدِي إليه، والمحروم كل المحروم من صُرف عنه....
وبر الوالدين من أعظم القربات وأجَلّ الطاعات، وببرهما تتنزل الرحمات، وتُكْشَف الكربات.
وما قصة الثلاثة الذين أُطْبِق عليهم الغار فلم يستطيعوا الخروج منه، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها فقال أحدهم: "اللَّهُم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت إليهم، فحلبت، بدأت بوالدي اسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي الشجر (أي بعد علي المرعى) فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَون عند قدمي (أي يبكون)، فلم يزل ذلك دَأْبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك؛ ابتغاء وجهك فافرج لنا، ففرّج الله لهم حتى يرون السماء"(/3)
وهل أتاك نبأ أُوَيْس بن عامر القرني؟ ذاك رجل أنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بظهوره، وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله، وأمر البررة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته، وابتغاء القُرْبى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه، وذلك الحديث الذي أخرجه مسلم: " كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم، أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ اليَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثم مِنْ قَرَنٍ، كان به أَثَرُ بَرَصٍ فَبَرِأَ مِنْه إلاَّ مَوْضِع دِرْهَم، له والدةٌ هو بارٌ بها، لو أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، فإنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)). فَاسْتَغْفِرْ لِي، فاسْتَغْفَرَ له، فقال له عمر: أَيْنَ تُريدُ؟ قال: الكُوفة، قال: أَلا أَكْتُبُ لَكَ إلى عَامِلِها؟ قال: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيّ.
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين، قاموا به حق قيام.
فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يَتَضَرَّع. وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد أيشتكي شيئًا؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.(/4)
وكان الإمام أبو حنيفة بارًّا بوالديه، وكان يدعو لهما ويستغفر لهما، ويتصدَّق كل شهر بعشرين دينار عن والديه، يقول عن نفسه : "ربما ذهبتُ بها إلى مجلس عمر بن ذر، وربما أمرتني أن أذهب إليه؛ وأسأله عن مسألة فآتيه وأذكرها له، وأقول له : إن أمي أمرتني أن أسألك عن كذا وكذا، فيقول : أو مثلك يسألني عن هذا ؟!، فأقول : هي أمرتني، فيقول: كيف هو الجواب حتى أخبرك؟، فأخبره الجواب، ثم يخبرني به، فأتيها وأخبرها بالجواب، وفي مرة استفتتني أمي عن شيء، فأفتيتها فلم تقبله، وقالت: لا أقبل إلا بقول زُرْعَة الواعظ، فجئت بها إلى زرعة وقلت له: إن أمي تستفتيك في كذا وكذا، فقال: أنت أعلم وأفقه، فأفتها. فقلت: أفتيتها بكذا، فقال زرعة: القول ما قال أبو حنيفة. فرضيت وانصرفت".
ذكر علماء التراجم أن ظبيان بن علي كان من أَبَرِّ الناس بأمه، وفي ليلة باتت أمه، وفي صدرها عليه شيء، فقام على رجليه قائمًا حتى أصبحت، يكره أن يوقظها، ويكره أن يقعد.
كان حيوة بن شُرَيْح يقعد في حلقته يُعلِّم الناس، فتقول له أمه: "قم يا حيوة، فألق الشعير للدجاج"، فيترك حلقته، ويذهب لفعل ما أمرته أمه به.
وكان زين العابدين كثير البر بأمه، حتى قيل له: "إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة ؟"، فرد عليهم: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها؛ فأكون قد عققتها".
وسئل أبو عمر عن ولده ذر فقيل له: "كيف كانت عِشْرته معك ؟"، فقال: "ما مشى معي قط في ليل إلا كان أمامي، ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى سقفا كنتُ تحته".
وقد بلغ من بر الفضل بن يحي بأبيه أنهما كانا في السجن، وكان يحي لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فمنعهما السجّان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فلما نام يحي قام الفضل إلى وعاء وملأه ما، ثم أدناه من المصباح، ولم يزل قائما والوعاء في يده حتى أصبح.(/5)
وقال جعفر الخلدي: "كان الإمام الأبار من أزهد الناس، استأذن أمه في الرحلة إلى قتيبة، فلم تأذن له، ثم ماتت فخرج إلى خراسان، ثم وصل إلى "بلخ" وقد مات قتيبة، فكانوا يعزونه على هذا، فقال: هذا ثمرة العلم؛ إني اخترت رِضَى الوالدة. فعوّضه الله علمًا غزيرًا".
فإذا كان هذا هو حال السلف مع والديهم.... فكيف نحن بحالنا مع بر الوالدين... أعتقد أن برنا بحاجة إلى بر!!!
التطبيق العملي
رفقا ياشباب وفتيات المسلمين بالأباء والأمهات....... توصية اليوم..... الرفق بهم...
1 - قَبِّلوا يد والديكم في الصباح والمساء..... وعاملوهم بإحسان
2 - تمالك نفسك عند الغضب، وتذكر حقهم عليك.... فلا تجعل الصياح هو عِلاج لأي موضوع بينكم.... ومهما حدث لا ترفع صوتك عندهم
هيا معا نحيي سنة الحبيب - صلى الله عليه وسلم -
سُنَن القيام من المجلس !...
سُنَّة القيام من المجلس هو أن تقول دعاء كَفَّارة المجلس: (( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ.. أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ))
وكم من المجالس التي يجلسها المسلم في يومه وليلته.... فمثلا: عند تناول الوجبات الثلاث، وتبادل الحديث على مائدة الطعام.... وعندما ترى شخصًا من أصحابك أو جيرانك وتتحدث معه ولو واقفا.... وعند جلوسك في دائرة العمل أو على مقاعد الدراسة... عند جلوسك مع زوجتك وأولادك وأنت تتحدث إليهم... في طريقك وأنت في السيارة لمن كان معك في الطريق... وهكذا.(/6)
فانظر - أخي في الله - كم مرة قلت هذا الذكر في يومك، وليلتك فتكون دائم الصِّلَة بالله... فأنت بهذا الذكر تُثْنِي على ربك، وتنزهه عما لا يليق به وتعظمه عندما تقول: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ))..... وتجدد التوبة والاستغفار من ربك عندما تقول: ((أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ))...... وتقر بالوحدانية في الربوبية، والوحدانية في الألوهية، والوحدانية في أسمائه وصفاته عندما تقول: ((أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ)).
فتكون طيلة يومك بين توحيد لله وتنزيهه، وبين الاستغفار والتوبة إليه مما حصل منك!!
الدعاء
اللهم أعنا على بر والدينا، اللهم وَفِّق الأحياء منهما، واعمر قلوبهما بطاعتك، ولسانهما بذكرك، واجْعلهم رَاضين عنا، اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم، فنور قبره، واغفر خَطَأه ومعصيته، اللهم اجزهما عنا خيرًا، اللهم اجزهما عنا خيرًا، اللهم اجمعنا وإياهم في جنتك ودار كرامتك، اللهم اجعلنا وإياهم على سرر متقابلين، يسقون فيها من رحيق مختوم ختامه مِسْك.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين، وصلى اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(/7)
العنوان: برامج عملية رمضانية
رقم المقالة: 1203
صاحب المقالة: علي بن محمد بن إبراهيم الزِّباني
-----------------------------------------
وقفه - قبل البدء –
ما أحلى أن يجد الإنسان في صحيفته حسنات لم يتعب فيها، وأن يُمْلأ ميزانه بطاعات عملها غيره، وأن يرتقي درجات الجنة بعد أن يواريه التراب؛ وذلك بأن يعمل أجيرًا عند الله بدل إخوانه المسلمين؛ ليتسلم أجرته في الآخرة: سكنى الفردوس في جوار نبي، أو صديق، أو شهيد لِمَ لا؟: والدال على الخير؛ كفاعله.
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد، إن من رحمة الله، وفضله علينا أن جعل لنا في هذه الحياة الدنيا محطات، نتزود فيها بالإيمان والتقوى، ونمحوا ما علق بقلوبنا من آثار الذنوب والغفلات نلتقط فيها أنفاسنا، ونعيد ترتيب أوراقنا، فنخرج منها بروح جديدة، وهِمَّة عالية.
ومن أهم المحطات التي تمر على المسلمين مرة واحدة كل عام: شهر رمضان، فها هي الأيام تمضى، ويَهِلّ علينا الشهر الكريم بخيره وبركته شعاره: يا باغي الخير أقبل، الشياطين فيه مُصَفَّدَة، وأبواب النيران مُغَلَّقة، والأجواء مُهَيَّئة لنيل المغفرة والرحمة، والعتق من النار، تزينت فيه الجنة، ونادت خطابها أن هَلُمُّوا وأسرعوا، فالسوق مفتوح والبضاعة حاضرة، والمالك جَوَاد كريم.
والموفق جد موفق من أحسن الاستعداد لهذا الشهر واستغلَّ كل لحظة وثانية، والناس في الحياة صِنْفَان: مُوَفَّق ومَخْذُول.
وكثيرة هي الأعمال التي توصل الإنسان إلى مرضاة ربه، ويفوز بها في جناته وقربه، ولذا كانت هذه المادة بين يديك، والمسماة: برامج عملية رمضانية، وهي عبارة عن فصول في مدرسة الدعوة والتنافس في الخير، تلك المدرسة التي تُعَدُّ من أنجح المدارس في تقويم النفس، ودرء عيوبها وحثِّها على بذل الطاقة، واستفراغ الوسع في طلب الجنة، وحرث الآخرة.(/1)
فإليك - أخي الكريم - هذه البرامج العملية في شهر الصوم، فبسماعها وتطبيقها يفتح للخير أبواب، وتغلق للشر أمثالها، وبتمثلها في الحياة يَنْقَشِع ظلام، ويبزغ فجر جديد، ويرتفع صوت المؤذن مُعْلنًا عهدًا جديدًا، أهم ملامحه:
إمساك عن الحرام، وصيام عن الآثام، واستغفار في الأسحار، وانتظار للأذان بالأشواق، وتهافت على تكبيرة الإحرام، وَوَلَهٌ بالصف الأول وملازمة للكتاب، ومُعانَقَة للسنة، وتلمس لمجالس الصالحين، وتنافس في الخيرات.
هذه الكلمات صيحة تنادي فيك الصلاة خير من النوم، والتَّجَلُّد خير من التَّبَلُّد، والعالي يرجو المعالي، ومن جَدَّ وَجَدَ، وَمَنْ زَرَعَ حَصَدَ، جنة الفردوس تبغي ثمنًا، ومهور الحور العين ما كانت يومًا رخيصة.
هذه البرامج العملية نوع جديد قديم.
جديد في زمن تنافس فيه الناس في جمع الدينار والدرهم، وتكالبوا على دنيا زائلة، ومُتَع فانية فثقل على هؤلاء أن يفهموا لغتنا؛ لأن نافخ الكير تزكمه رائحة المسك.
وقديم: لأنه الأمر الذي أرق مضاجع الصالحين، وجعل مُصْعَبًا يفارق فراشه الوثير، وعطره المثير حتى ما وجد له كفن في آخر المطاف، ويهجر الشخص من أجله الأحباب والخلان؛ لأنهم علموا أن العاقبة: "اليَوْمَ أحل عليكم رِضَاي، فلا أسخط عليكم أبدًا"
وقبل أن تعيش مع هذه البرامج دعنا نستجلب سويًّا - رحمات الله - ونستمطر بركاته ونَلْهَج سويًّا بهذا الدعاء:
اللهم استعمل أبداننا في طاعتك، وأقدامنا في خدمتك، وألسنتنا في ذكرك، اللهم داوِ بكتابك قلوبًا أعيتها كثرة الذنوب، ونفوسًا أفسدها طول الركود، وانتشلنا به من آبار غفلاتنا، ومهاوي شهواتنا، ومصارع أهوائنا، وقوِّي به بواعث الإيمان في أعماقنا، واجعله حُجَّة لنا بين يديك، يشهد بصدق العُبودية لك وإخلاص التوجه إليك، وبذل الأوقات فيك.
وأضع أخي الكريم جُمْلة من البرامج بين يديك؛ سائلاً المولى الكريم أن ينفعنا جميعًا بها، وأن يبارك لنا فيها.(/2)
1- إقامة دورة مكثفة قبل دخول الشهر عن أحكام هذا الشهر وآدابه، وما ينبغي للمسلم قضائه فيه.
2- تصميم لوحات بمقاسات كبيرة تتضمن آداب الأكل والشرب، وبعض الآداب المتعلقة بالصوم، إضافة إلى لوحة أخرى تتضمن أحاديث في فضائل هذا الشهر، توضع في أماكن الإفطار العامة والمنازل وغيرها.
3- ترتيب إفطارات عائلية للجميع، ثم ترتيب إفطارات لشرائح مُحَدَّدة؛ كإفطار للشباب مثلاً، وآخر للأطفال، وهكذا مع حسن استغلال هذا اللقاء قبل الإفطار وبعده بما لايثقل على الحضور.
4- تصميم وإعداد هدايا خاصة للعوائل التي تلتقي في أيام الإفطار العائلي، ويحرص أن تكون هدايا تربويَّة مناسبة لجميع الشرائح.
5 - حث الشباب على العمل التطوعي من خلال المشاركة في تفطير الصائمين، وتوزيع وجبات الإفطار عند الإشارات، وفي أماكن تجمع العِمَالة وغيرها.
6- برنامج يوم التصفية: وهو عبارة عن جمع ما زاد عن احتياج الناس، سواء الأقارب أو أهل الحي أو غيرهم، ومن ثَمَّ توزيعه على الأُسْرَة الفقيرة أو إيصاله لمؤسَّسَات النفع العام، ويمكن إعلان ذلك بمُدَّة مُناسِبة؛ حتى يتيسر جمع أكبر قدر ممكن منها.
7- برنامج الخيمة الرمضانية، وهي خيمة دَعَوية، تُقَام من أجل شغل أوقات الفراغ للشباب ومَلْئها بالنافع، مع إضفاء شيء من اللهو البريء، والترفيه الرائع، والنُّكْتَة النظيفة، ويمكن الاستفادة منها أيضًا في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، خاصة خارج بلاد المسلمين، مع الاهتمام بتجهيزها بوسائل العرض المختلفة، والهدايا المنتقاة بعناية.(/3)
8- حملة الإقلاع من التدخين، وهي حملة تهدف إلى تذكير الناس بأن هذه عادة سيئة وضارة بالدين والخلق، وأنه بالإمكان التخلص منه، والصبر على تركه؛ كما حصل في أكثر من نصف اليوم، ويمكن جمع هواتف جمعيات مكافحة التدخين، وتصويرها بشكل مُكَبر، مع التحدث عن هذا الموضوع بأسلوب علمي راقي، وحجج عقلية قوية، ومن المناسب جلب صور مخيفة لآثر التدخين على الإنسان، مع البعد عن ذوات الأرواح.
9- رمضان شهر القرآن، فينبغي العناية بالقرآن فيه من خلال برامج كثيرة، منها:
- التنوع في الحلقات القرآنية للكبار، والصغار، والذكور، والإناث، والموظفين، وغيرهم.
- عمل مُسابقات في القرآن الكريم، إمَّا بحفظ سورة مُعينة، أو آيات لها فضائل، أو وضع أسئلة على أجزاء القرآن.
- إلقاء كلمات منطلقة من آيات قرآنية، وربط الكلمة بتلك الآيات.
- الاهتمام بإعجاز القرآن، سواء العلمي أو اللغوي أو البلاغي، وتنبيه الناس على عظمة القرآن في هذا المجال.
10- عمل دَوْرِيَّة لبضعة أيام عن كيفية إخراج الزكاة وأحكام ذلك، خاصة في الأمور المالية المعاصرة، ويمكن استضافة العلماء والاقتصاديين للقيام بهذا الدورة، مع دعوة التُّجَّار والمحسنين للاستفادة من هذا اللِّقاء.
11- العناية بمُصَلَّى النساء وتخصيصهن بحديث خاص بهن، واستضافة داعيات وطالبات علم؛ لتذكير النساء بما يهمهن من أمور دينهن، مع الاعتناء بقضايا تربية الأبناء، وحقوق الزوج، والمسائل الاجتماعية الأخرى.
12- إعداد مُفَكِّرة رمضانية تحتوي على مواعيد الأذان في هذا الشهر، وأرقام الجمعيات الخيرية، وجدول متابعة قراءة القرآن خلال الشهر، وجدول آخر لتنظيم الوقت كل يوم؛ وآخر لمواعيد الزيارات العائلية مع إلحاق برنامج الإذاعة في شهر رمضان.(/4)
13- إحياء مشروع استبدال الشريط الغنائي بشريط نافع، وذلك بالإعلان عليه وتوفير البديل المتميز، ويمكن أيضًا جمع الأشرطة النافعة المُسْتَغْنَى عنها وتوزيعها على من يحتاج إليها.
14- الاعتناء بأماكن إفطار الصائمين، وتهيئتها بما تحتاجه؛ كمصاحف بلُغَات مختلفة مع مراعاة الجالية ذي العدد الكبير، وتوفير كُتَيبات منوعة وأشرطة كذلك، خاصة ما يتعلق بالعقيدة وبقية أركان الإسلام والأخلاق، وطباعة آداب الأكل والشرب، وآداب الأخوة في بنرات كبيرة، وتعليقها في مكان بارز، وكذلك استضافة دعاة بلغات مختلفة؛ لوعظهم وحثهم على أمور الخير.
15- طباعة ورقة متابعة قراءة القرآن الكريم، وحبذا لو كانت باسم المسجد، أو المركز وتخرج بإخراج جيد.
16- تفعيل الطلاب المتميزين، واقتراح برامج جادة عليهم؛ كحفظ أحاديث الصيام من العمدة، أو البُلوغ مع شرح مُخْتَصَر لها.
17- الترتيب المُسْبَق ليوم العيد، حيث يلتقى أهل الحي جميعًا في لقاء رائع تشع منه المحبة والألفة، ولكي ينجح لابد من الحرص على الأمور التالية-:
- تجهيز المكان الخاص باللقاء - تحديد الموعد بدقة، بحيث يكون مثلا: بعد صلاة العيد بساعة، مع التنبيه على أن وَجْبَة الإفطار تجهز في المنازل بدون إسراف.
- ترتيب برنامج للعيد تكون منه الطرفة والقِصَّة والسؤال واللقاء مع أحد أهل الحي، مما يضفي على اللقاء رَوْنقًا خاصًّا به.
- إعداد هدايا لجميع أبناء الحي ذكورًا وإناثًا، وخاصة الصغار منهم.
- طباعة بطاقة دعوة لأهل الحي؛ لدعوتهم للقاء.
- توزيع هدية لكل منزل؛ كإطار جميل فيه عبارة معايدة، أو تقبل الله منا ومنكم مشفوعة باسم المسجد، والعام الذي وُزِّعت فيه.
وثمة قضايا تذكر بها الأسر المسلمة في هذا الشهر الكريم، يحسن الاستفادة منها، والعناية بهاء ومن ذلك:
1- حث الصغار على الصيام، وتربيتهم عليه.(/5)
فقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوذ أنها قالت:كنا نُصَوِّم صبياننا الصغار، ونذهب إلى المسجد، ونجعل لهم اللعبة من العِهْن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون الإفطار.
2- استغلال هذا الموسم في تعليمهم الآداب المتكررة فيه؛ كآداب الأكل؛ والشرب؛ وآداب الضيافة؛ والسلام؛ والزيارة؛ نظرًا لكثرة الزيارات، ودعوات الإفطار في شهر رمضان فيحسن تعليم الأبناء تلك الآداب، فلم يعد مجديًا ولا نافعًا قول الوالدين للولد: كن مؤدبًا، ما لم يجعله في قالب تعليمي تطبيقي.
3- حث الأبناء على التنافس في النوافل، وتطبيق السنة؛ كالسواك؛ السنن الرواتب؛ وقيام الليل؛ وتفطير الصائمين.
4- اصطحاب الأبناء لشراء أغراض رمضان، وتعليمهم أصول الاقتصاد الشرائي من اصطحاب ورقة عند التسوق، وعدم تناول ما كان مقابلاً للوجه من البضائع لغلائه في الغالب.
5- دع أولادك يكتبوا ملصقات رمضانية والتي تعلن مجيء الشهر، واتركهم يختارون كلماتها ويكتبونها بخطهم؛ كـ(تَسَحَّروا فإنَّ في السحور بركة)، (ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِهِ)، وغيرها.
6- ما أجمل أن يصطحب الوالد أولاده إلى أماكن مرتفعة - إن تيسر ذلك - أو إلى الصحراء، أو من خلال مراكز علمي للفلك؛ لرؤية هلال رمضان.
7- تهيئة أماكن للعبادة وقراءة القرآن.
لقد أثبتت الدراسات أن تخصيص مكان محدد لفعل شيء محدد يأتي بنتائج مُذْهِلَة، وقد ثبت أيضًا عن سلفنا الصالح اتخاذ مصليات داخل بيوتهم للعِبادة، فما رأيك بتحضير مكان للأسرة تلتقي فيه؛ لقراءة القرآن، تكون الجلسات فيه مريحة، ومُجَهَّزَة بعدد من حَوامِل المصحف بعدد أفراد الأسرة، ويمكن أن تجمل الغُرْفة ببعض المزروعات؛ لتضفي جَوًّا أكثر رَوْعة وجمالاً.(/6)
وقفة: أيها الوالدان الكريمان لا تجعلا اليوم الأول من الشهر يومًا عاديًّا، فقُوما بتهنئة أقاربكم، ودعوا الأولاد يشاركوكم الاتصال، وأشيعوا التعاون بينكم جميعًا.
8- تكريم الصائم الجديد.
هل في أسرتكم صائم جديد؟ كرموه وادفعوه إلى الخير، وجَهِّزوا له هَدية جميلة تشعره بأهمية العمل الذي يقوم به.
9- دع أبناءك يفكرون في مشروع خَيْرِيّ، وينفذوه بأنفسهم؛ كمساعدة أسرة فقيرة؛ أو إعداد إفطار للصائمين؛ أو المساهمة في إفطار المسجد؛ وغيرها من المشاريع.
10- وضع جدول للتعاون الأسري، تُوَزَّع فيه المهام على الأبناء على مدار الشهر، بشرط أن تتغير المهام كل أسبوع؛ فأحدهم عليه وضع سفرة الطعام، والآخر إيقاظ إخوانه وهكذا، ويعلق هذا الجدول في مكان بارز؛ ليعرف كل شخص مهامه؛ وليتربى على المسؤولية.
11- هل تعلم مدى اعتناء أبنائك بقضايا المسلمين وهمومهم ؟ إذن دعهم يعدون معرضًا في إحدى غرف المنزل بعنوان (الأقصى في قلوبنا)؛ ليذكروا المسجد، ومعاناة إخوانهم هناك.
12- عمل مُفَكِّرة خاصَّة بالأولاد؛ تضبط لهم أوقاتهم؛ وتعينهم على ختم القرآن من خلال ورقة المتابعة، مع كتابة بعض الوصايا لهم في أول المُفَكِّرة.
13- طبق الخير.
وهي فكرة منتشرة تقوم عليها الجمعيات الخيرية، والاقتراح أن تقوم بها الأسرة متعاونة مع جيرانها في الحي، فتُعِدّ كل أسرة عددًا من الأطباق، ويخصص مكان لتناول الصائمين هذا الطعام.
14- إجراء مسابقات على مستوى العائلة والأصدقاء؛ تهتم بالقضايا التربوية؛ والأسئلة المتنوعة التي تستهدف جميع شرائح الأسرة.
15- تفعيل فكرة: لوحة الإعلانات المنزلية لوضع الإعلانات المهمة للأسرة؛ كموعد الأذان، وبرنامج زيارة الأقارب، والتذكير بمحاضرة أو لقاء عائلي أو حكمة وغيرها.
16- العُمْرة في رمضان لها أجرٌ عظيم، فلتحرص الأسرة عليها، والاستفادة من مدة السفر البري في الحوار مع الأبناء، وشرح ما يهمهم؛كالعمرة مثلاً.(/7)
17- المكتبة الرمضانيَّة.
كم هو جميل ورائع أن توفر جملة من الكتب والأشرطة المتعلقة برمضان، تستفيد فيها الأسرة في أوقات فراغها، أو في اللقاء العائلي الخاص بها، ويمكن أن يُضَاف للمكتبة مجموعة من المجلات الإسلامية النافعة المشوِّقة للأبناء.
18- شهر السنة.
إنها محاولة جادة من الأسرة ليكون الشخص الأول في حياتها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فتحرص على كل سنة نقلت عنه في هذا الشهر؛ لتطبيقها من قبل الجميع؛ كالإفطار على التمر وتعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ونحوها من السنن.
19- رمضان فرصة للصلح بين الناس، وغسيل قلوبهم من الأحقاد والضغائن، فكن مُبادِرًا للإصلاح بين مُتخاصمَيْن، أو لتصالح أخًا بينك وبينه خصومة، فالدنيا أهون من أن يتحاسد فيها ويتهاجر ((ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاث))، بل الهَجْر سبب في دخول النار، ومنع مغفرة الله تعالى للعبد، فلا تتأخر يا مسلم، يا مَنْ تخاف الله!!
20- ستمر بكم تَجَارِب رائعة في تربيتكم لأسركم، فلنكتب هذه التجارب، ولننشرها في المجلات الإسلامية ومواقع الإنترنت، وحَبَّذا لو فتحت المواقع صفحات متعلقة بتَجَارِب الناس في حياتهم.
أخي الكريم..أختي الفاضلة:
هذه جملة من المقترحات العملية التي تصلح لهذا الشهر، أردت بذكرها التنبيه على غيرها من البرامج التي لا تخفى عليكم، وليس المهم كثرة الأعمال بقدر القيام بها مع الإخلاص لله - عز وجل - في عملها.
ولا يفوتني في آخر هذه الأسطر أن أذكر أخي المسلم في كل بقاع الأرض ممن شرفت بقراءته لهذه البرامج، والمقترحات بأمور هي غير خافية عليه، ولكن من باب التناصح والقيام بحقوق الأخوة بيننا، فإليك هذه الوصايا أهديكها من قلب مُحِبّ لك، يتمنى أن يراك أفضل مُسْلِم في هذا الكون.(/8)
1- النية الصادقة، والعزيمة القوية في اغتنام لحظات هذا الشهر، وعد هذا الشهر آخر شهر في حياتك؛ لكي تنشط في العبادة، وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه، فيقول: ((صَلُّوا صَلاةَ مُوَدِّع)).
2- التقليل من الخلطة إلا لخير راجح، وتعليم الناس، والحرص على الجلوس إلى النفس كثيرًا، ومحاسبة النفس على ما مضى من العمر.
3- إذا بلغك شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعمل به ولو مرة، تكن من أهله؛ فشمر عن ساعد الجد في الاقتداء به - عليه الصلاة والسلام - بالحرص على سنته وتطبيقها، وتعويد النفس عليها؛ فصلاة الضحى؛ والجلوس في المسجد إلى الشروق؛ والسواك؛ وكثرة الذكر؛ والصدقة؛ والإحسان أمور لا بد من أن تصطبغ حياة المسلم بها.
4- لازم إخوانك الصالحين، واستفد منهم، واملأ قلبك بحبهم والدعاء لهم، وإصلاح ما بينك وبينهم؛ لتشعر بلذة الطاعة وأنس القرب، وإلا كان للشيطان في قلبك نصيب فتحرم رقة القلب، ودمع العين، وسلامة الصدر، وروح الأخوة.
5- للإحسان للناس طعمٌ خاص في هذا الشهر، فتحسس الفقراء، وابحث عن الأرامل، والمساكين، واليتامى، وسد حاجتهم، وأعنهم في هذا الشهر من مالك أولا؛ ثم بمساعدة من أراد من إخوانك.
6- رسائل الجَوَّال والبريد الإلكتروني لا تكلف إلا بضع هللات، فكن أول المبادرين بتهنئة إخوانك وأقاربك يكن لك شرف السَّبْق.(/9)
7- وأخيرًا: العناية بالدعاء، وصدق اللجوء إلى الله تعالى، والتذلل بين يديه سبحانه ((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ)) وفي آخر آيات الصيام جاء قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} فكان هذا درسًا للصوام بأن يعتنوا بهذه العبادة العظيمة، فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أَفْضَلُ العِبَادَةِ الدُّعَاءُ)). وسئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كم بين الأرض والسماء؟ فقال: دَعْوَة مُسْتَجَابَة.
ولكي تكون دعواتنا مستجابة:
أظهر عجزك بين يدي ربك، وأحضر قلبك معك: ((فمن جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرده))، وقدم عملا صالحًا، فالدعاء بلا عمل؛ كالقوس بلا وتر.
فجرِّب أن تدعو عقيب دمعة من خشية الله ذرفتها، أو صدقة في ظلمة الليل بَذَلْتَها، أو جُرعة غيظ تحملتها وما أنفذتها، أو حاجة مسلم سعيت فيها فقضيتها.
وكن أخي على يقين بالإجابة، فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجَابَةِ)).
وتخير أوقات الطلب؛ كوقت السحر، وبين الأذان والإقامة، ودُبُر الصلوات المكتوبات، وأثناء السجود، وآخر ساعة من الجمعة.
ثم الْهَج معي بهذا الدعاء لعلَّ الله يقبلنا:
اللهم ارحم ذلنا بين يديك، واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من عُتقائِكَ مِنَ النار.
اللهم آمين
ولا تنسني أخي – في كل مكان – من صالح دعائك.(/10)
العنوان: برمجة التفاؤل
رقم المقالة: 1907
صاحب المقالة: م. غانية شوكت داغستاني
-----------------------------------------
هل نحن بحاجة لبرمجة التفاؤل؟
سؤال سألته إحدى الصديقات لي، فهل نحن بحاجة بالفعل لبرمجة التفاؤل؟
نعم بحاجة لذلك؛ لأن الباحثين أثبتوا أن معظم الناس يعانون (برمجة الإخفاق والإحباط)، أي أن هناك كمًّا هائلاً من الرسائل السلبية التي تلقوها منذ طفولتهم والتي تصدر عن الآباء والأمهات والأساتذة أو المعلمات؛ مثل:
- أنت أحمق!
- أنت فاشل!
- أنت لن تفهم بعمرك الرياضيات!
- أنت مُتعِب!
- أنت لست مثل أخيك!
وعندما نصل إلى سن الرشد ونبدأ في حياتنا العملية نتعرض للكثير من الانتقادات السلبية أي نتلقى مزيداً من الرسائل السلبية التي تؤثر في معنوياتنا وتشل تفكيرنا الإيجابي، وتشحننا بطاقة سلبية... أمثلة:
- إنك تزعجني بمشاكلك الدائمة...
- لم لا تعرض نفسك على إخصائي نفسي...
- أنت المخطئ وتستحق ما أصابك...
والسؤال المطروح:
هل نستطيع مسح الرسائل السلبية واستبدال رسائل إيجابية بها؟
الجواب: نعم، نستطيع ذلك إذا أردنا ذلك (أي نؤمن إيمانا يقينيا أننا نريد التفاؤل، وبأن في قدرتنا أن نتفاءل، وبقدرتنا أن نكون متفائلين، حتى أننا سنكون مثالا يحتذى بنا للتفاؤل).
لنبدأ بتعريف التفاؤل؟
التفاؤل هو ركيزة أساسية للنجاح والتقدم، ونهج يتسم بالثقة والإيجابية.
التفاؤل هو القدرة على السعي وراء الأهداف التي من شأنها أن تؤدي بك لتحقيق أحلامك وأهدافك وتبعث في نفسك الشعور بالرضا والسعادة والنجاح.
التفاؤل من الله، أما التشاؤم فيولد في دماغ الإنسان.
وتذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لم تكن شدةٌ إلا جعل الله بعدها فرجا, ولن يغلب عسر يسرين).
أما تعريف المتفائل: فهو من يجعل الصعاب فرصا تغتنم.
وسائل مقترحة وخطوات تطبق لتصبح متفائلاً:
الخطوة الأولى: (معرفة أفكارك السلبية، أو مشاعرك السلبية)
وذلك بالطريقة التالية:(/1)
1- اكتب جميع ما يخطر ويعلق بذهنك من مشاعر وأفكار سلبية مثل (كسول، أحمق،...) أو مشاعر سلبية مررت بها مثل (قلق، ضجر، حزن...)، مررت بها بمرحلة الطفولة ثم بمرحلة الشباب ثم بمكان العمل.
2- اكتب خلال الثماني والأربعين ساعة الماضية جميع ما يحيط بك من أفكار سلبية أو مشاعر سلبية.
3- اكتب بجانب كل فكرة سلبية ومشاعر سلبية جواب السؤالين التالين:
- كيف أؤذي نفسي بتملك هذه المشاعر السلبية؟
- ماذا سيحصل لي لو استمررت لعامين آخرين بنفس المشاعر السلبية والأفكار السلبية؟
4- صارح نفسك: هل تريد التخلص من جميع هذه الأفكار السلبية والمشاعر السلبية؟ (إذا أجبت لا: فلا تكمل القراءة واستمتع بسلبيتك، وإذا قلت نعم فأهنئك لأنك اخترت طريق الناجحين، فأكمل ما بدأت به).
الخطوة الثانية: (التخلص من الرسائل والمشاعر السلبية التي تملكها)
وذلك بالطريقة التالية:
1- أغمض عينيك واسترخِ
2- خذ نفساً عميقاً، وعندما تزفره ستبدأ في الشعوب باسترخاء جسدك، وكرر هذا الفعل سبعَ مرات أو عشرًا... حتى تشعر بأن جسمك مسترخ تماماً.
3- تخيل صندوق قمامة، أو مكنسة كهربائية تلتقط بها جميع أفكارك ومشاعرك السلبية.
4- لاحظ عقلك وهو يسترخي، وهو يتخلص من سلبيته، واستمتع بهذا الشعور.
الخطوة الثالثة: (رؤية الجانب الإيجابي في الأشياء)
والحقيقة أن كل شيء له جانب إيجابي؛ فمثلا:
شخص يريد امتلاك فيلا، المتشائم والسلبي يقول: هذا مستحيل... أنا لا أستأهل... إلى ما هنالك من كلمات أو مشاعر سلبية.
أما الشخص المتفائل يقول: سأشعر بأمان، ستفرح أسرتي، سيرسم في ذهنه صورة المنزل، سيرسم في ذهنه صورة أولاده وزوجته كم هم سعداء... إلى ما هنالك من مشاعر وأفكار متفائلة.
هل تريد أن ترسم وترى صورة الجانب الإيجابي، فقم بتنفيذ الخطوات التالية:
1- أغمض عينيك واسترخِ(/2)
2- خذ نفساً عميقاً، وعندما تزفره ستبدأ في الشعوب باسترخاء، وكرر هذا الفعل سبعَ مرات أو عشرًا... حتى تشعر بأن جسمك مسترخٍ تماماً.
3- تخيل بالفعل أن لديك ما تريد، أو بأنك تقوم بما تريد تحقيقه، وضع مشاعر إيجابية لما تتخيله، وكذلك إن أحببت يمكنك إضافة مؤثرات صوتية مثل (ضحك، فرح، تصفيق...).
4- استمتع بهذه الصورة وتفاعل معها.
الخطوة الرابعة: (حدث نفسك دوما بإيجابية)
فالحديث الإيجابي للنفس مهم جداً، واعلم أن الخطأ وارد من البشر، وبأنك تستطيع النهوض والتفاؤل دوماً.
فإذا أخفقت في شيء فحدث نفسك حديثاً إيجابياً:
مثال1:
عوضاً عن تقول (لقد فشلت) قل (الآن لدي فرصة لفعل هذا الأمر بصورة أفضل).
مثال2:
عوضا عن كلمة (خائف) استخدم كلمة (مهتم).
عوضا عن كلمة (مشكلة) استخدم كلمة (فرصة).
عوضا عن كلمة (مجهد) استخدم كلمة (أشحذ همتي ونشاطي) وهكذا....
أي استبدل بمصطلحات أفكارك السلبية أفكارًا ومشاعرَ متفائلة.
وبانتظار تجاربكم في التفاؤل ومشاركاتكم المتفائلة.
ودمتم بحفظ الله ورعايته.(/3)
العنوان: برنامج المرأة الرمضاني بين التنازع والتوازن
رقم المقالة: 1452
صاحب المقالة: وسمية سليمان
-----------------------------------------
هاهو ذا شهرُ الخير قد أقبل، والأعمالُ المنوطة بالمرأة المسلمة بين تنازع وتوازن، فكيف يمكن المرأةَ ترتيبُ وقتها؟
كثيرةٌ هي البرامجُ التي تحث المرأة على التقيد بها للمحافظة على وقتها الثمين من أن يهدر أو يضيع سبهللاً.
فهناك من البرامج ما يبدأ من قبل صلاة الفجر، ومنها مع بداية الضحى وغيرها من البرامج المذكورة جملة وتفصيلا، ولكن السؤال الجدير بالطرح هو: هل للمرأة جدول رمضاني محدد؟ وإن كانت الإجابة بنعم فما البرنامجُ؟ وعلامَ يحتوي؟
طرحنا السؤال على مجموعة من الأخوات؟ بماذا أجبن؟
أم ناصر تقول:
لا يوجد لدي في رمضان برنامج عام وخطوات محددة، لكن أحاول بقدر المستطاع تقسيم وقتي ما بين الفرائض الدينية والعملية والشؤون الزوجية والأسرية.
أما أحلام فتقول:
أنوي في هذه السنة عمل ساعة ذكر، وأدعو الصديقات والجارات نتذاكرُ فيها معلوماتٍ دينيةً قد يجهلها كثيرٌ من الناس، إضافة إلى وضع مسجل بالمطبخ لاستغلال الوقت في سماع محاضرات أو إذاعة القرآن الكريم؛ ففيها برامج جد مفيدة.
وقالت أميرة:
ليس لدي برنامج محدد؛ فمن العمل إلى المنزل لمساعدة والدتي لإعداد الطعام.
واتفقت معها مريم في برنامجها بقولها: إنه لا يحوي إلا الطبخ وأعمال المنزل والسهر على الواجبات.
وتضيف أسماء:
لم أستعد بوضع برنامج معين، ولكن لدي قاعدة إن تم تطبيقها سنسلم من ضياع أوقاتنا؛ ألا وهي: استغلال كل دقيقة وثانية في الخير، مثلاً: قراءة أو حفظ جزء من القرآن، سماع شيء مفيد، أو إنجاز عمل خيري نزيد به ميزان حسناتنا يوم القيامة.
وتروي فدوى تفاصيل برنامجها فتقول:
لدي برنامج ذهني في رمضان، وسأحاول تطبيقه بإذن الله في هذا العام، وسأحاول تقسيمه إلى 3 أقسام زمنية:(/1)
المدة الأولى: تبدأ من الساعة 10 ص إلى 3 عصرًا؛ وهي مدة وجودي في الجامعة؛ فبالإضافة إلى تلقي المحاضرات يمكنُ استقطاعُ جزء من الوقت للصلاة وقراءة القرآن مع بعض الأذكار.
المدة الثانية: تبدأ من صلاة العصر، ومن المؤكد أنها ستكون لإعداد الإفطار مع والدتي وأخواتي لحين أداء صلوات المغرب والعشاء والتراويح.
وبعدها تبدأ المدة الثالثة: وتقسم ساعاتها ما بين دراستي والالتزامات الأسرية لحين وقت النوم الساعة الواحدة إلى السحور وبإذن الله بعد صلاة الفجر إلى وقت الإشراق أراجع ما حفظته من القرآن؛ فأنا حالياً أحفظ ما يقارب 6 أجزاء، فقد قررت هذا العام أن أراجع حفظها خشية النسيان، فما ذكرته يعد برنامجًا ميسرًا أحاول تطبيقه، وإن كان للظروف دور في تعديله يوميا.
أما ز-ح فتقول:
عندي جدول مبرمج ذهنيًا، وأحاول أن أكتب الأمور اللازمَ إنجازُها في رمضان مثل (حفظ جزء – ختم قرآن أكثر من مرة) وهكذا.
وتقول أم عبد الله:
رمضان شهر عبادة وصلاة وصيام؛ فللعبادة نصيب، ولخدمة الأهل نصيب، ولرعاية الأطفال نصيب؛ محتسبين الأجر عند الله.
و-خ تقول:
سيقوم برنامجي على احتساب النية في كل عمل أقوم به؛ في الوظيفة مثلاً: أحتسب الأجر في مساعدتي لزميلاتي في العمل، في خدمة والدي، في المطبخ، وفي كل شي؛ لأن الأعمال بالنيات كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكذلك الاستغفار في أوقات الانتظار وركوب السيارة، ووفقنا الله وإياكم للصيام والقيام.
أما جواب سؤالنا عن المعوقات التي تعوق المرأة من تطبيقها للبرنامج الرمضاني والالتزام به؟
فتقول أم ناصر:
من وجهة نظري الخاصة -زوجةً مسؤولةً عن زوجها وشؤونه، وأمًّا مطلوبًا منها متابعةُ الأبناء وتدريسهم، وموظفةً ومطلوبًا مني متابعةُ واجبات الطالبات- يكون من الصعب عملُ برنامج لي في رمضان.
أما فدوى فتقول:(/2)
الإرهاق والامتحانات والمذاكرة والدوام كلها أمورٌ تدعو للكسل عن أداء العبادات والطاعات وهي تمثل المعوقات.
وتضيف أم عبدالله:
أكبر معوق بالنسبة لي هو الدوام المدرسي الذي يدعوني بعد الإفطار للكسل عن العبادة والصلاة.
وتروي أم عبد العزيز تجربتها عن برنامجها السابق فتقول:
أما المعوقات فأهمها طول المدة التي أقضيها في المطبخ، وتبدأ من الظهر إلى أذان المغرب. إضافة إلى وجود أطفال والقيام على شؤونهم ورعايتهم؛ فهذا يفوت عليّ الكثير من الفضائل والكثير من عمل الخير.
وأخيراً تقول وفاء:
طبيعة عملي دوام متغير، وهذا معوق لأداء أي برنامج.
وكان لنا لقاء مع المختصين من الجانب الشرعي بسؤالهم عن النصيحة التي يقدمونها للمرأة لإعداد برنامج رمضاني؟
يقول الشيخ سليمان الماجد:
لا بد للمرأة أن تحرص في هذا الشهر الكريم على ضبط الوقت وعدم إهداره في المطبخ بقدر المستطاع.
وأن ترتب لها جدولاً لقراءة القرآن وصلاة القيام ولو أديت أول الليل.
وكذلك تكثر من محاسبة النفس.
وأما عن سؤاله بأن المرأة تقضي الوقت الكثير في المطبخ لإعداد الإفطار مما يفوت عليها كثيرًا من الخير فما نصيحتكم لها؟
فقال: إن كان إعداد الإفطار يأخذ من وقتها الكثير فعليها أن تسدد وتقارب بين طاعتها لزوجها وبين الطبخ وتستعد من قبل رمضان بوضع الأطباق وتجميدها، وهناك الكثير من الأكلات الجاهزة حتى يعوضها عن تضييع الوقت في المطبخ في هذا الشهر الكريم.
أما الأستاذة نورة العواد المشرفة على الوحدة الإسلامية في مركز التوجيه بالرياض:
فتشير إلى أن هناك الكثير من المعوقات التي تعوق المرأة عن تطبيقها لبرنامج رمضاني محدد وهي كما يلي:
1- المرأة العاملة عائقها الأكبر هو الوظيفة؛ لأنها تقضي نصف النهار في العمل ونصفه الآخر في مطالب الأسرة والأبناء.(/3)
2- عدم تعاون الزوج؛ إذ يشترط بعض الأزواج التكلف في إعداد الطعام ووجود أصناف الطعام دفعة واحدة في زمن الإفطار مما يكون عبئا على الزوجة.
3- وجود اجتماعات أسرية شبه دائمة؛ وذلك يتطلب من المرأة الانشغال فيها والإعداد لها.
4- وجود القنوات الفضائية بطريقة غير مقننة؛ بحيث تستهلك جزءًا لا يستهان به من الوقت.
5- عدم قدرة بعض النساء على مهارة تنظيم الوقت، وإنجاز العمل الكثير في وقت قياسي.
6- عدم استشعار الأهمية الدينية والروحية لشهر رمضان من قبل أفراد الأسرة باعتباره شهر المغفرة والقربة إلى الله والنظر إليه على أنه شهر له طابع اجتماعي وغذائي خاص؛ فرمضان ما شرع للاجتماعات العائلية، وما شرع لإظهار قدرات النساء في الفن المطبخي.
وبسؤالها عن: البيئة الاجتماعية والدينية ودورها في تثقيف المرأة لإدارة وقتها بإعداد برنامج رمضاني محدد؟ قالت:
حتمًا للبيئة الاجتماعية والدينية دور في تثقيف المرأة، ولهما دور في تنظيم وقتها الرمضاني؛ فإن كانت المرأةُ قد نشأت في بيئة تحمل التصور الصحيح عن رمضان فإنها تنقل هذا التصور داخل بيتها، ويساعدها هذا على تنظيم وقتها الرمضاني، وإذا كان الزوج منسجما فكريًا واجتماعياً ودينياً مع الزوجة فإن هذا أيضاً له دور في تنظيم المرأة لوقتها الرمضاني.
ونقول بأن البرامج كثيرة، ولكن البرنامج الفعال هو الذي يحتوي على كتابة رسالة تحتوي الهدف الأساسي، ومن ثم تحديد مجالات للهدف يكون مخططًا لها كما يلي:
خطة عمل لجدولك الرمضاني:
• أنا والقرآن: كم جزء أريد أن أختم القرآن.
• أنا والصلاة: كيف خشوعي في الصلاة وحرصي على صلاة التراويح.
• أنا وصلة الأرحام: كتابة أسماء الذين سأزورهم أو اتصل بهم.
• أنا والدعاء : اختيار أدعية معينة والإلحاح بالدعاء عليها. (ولا تنس المسلمين).(/4)
• أنا والصدقة: تبرع، توزيع الملابس، إفطار صائم،كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان فهو كالريح المرسلة.
الرسالة:
غفران الذنوب، نيل رضا الله (تجدد النية في الرسالة وتكون موجهه لكل ما فيه رضا الله والدار الآخرة)
تحديد مجالات الهدف:
1-هدف إيماني.
2-هدف اجتماعي.
3-هدف صحي.
التخطيط: بوضع جدول زمني يوضح كيف يمكن تحقيق الهدف.
هدف إيماني:
- البعدُ عن فحش الكلام والأفعال من غيبة ونميمة خلال الصيام.
- الحرص على أداء الصلوات المفروضة في وقتها.
- أداء السنن الرواتب والنوافل (الضحى – التراويح – القيام).
- قراءة صفحتين من القرآن قبل كل صلاة وصفحتين بعدها لتكمل جزءًا كل يوم مع ملاحظة تدبر القرآن وفهمه ومعرفة معانيه (حفظ ومراجعة).
الصدقة:
- بوضع صندوق والتصدق يوميًا حتى يحسب لك في ميزان حسناتك كل يوم صدقة مع الصيام.
- الصدقة في العشر الأواخر.
- تخصيص مال للصدقة على ذوي القربى واليتامى ليحسب في ميزان حسناتك صدقة وصلة.
نصائح من أجل برنامج ناجح:
• استحضار النية في كل شي واستغلال الوقت في الغنيمة الباردة (الذكر).
• وضع جهاز تسجيل في المطبخ لسماع القرآن والمحاضرات.
• شراء ملابس العيد قبل رمضان أو في الأيام الأولى منه.
• الحرص على صلاة التراويح.
• استغلال وقت الحيض والنفاس في الذكر والاستغفار.
• ورد للقرآن.
• تحري ليلة القدر.
• عدم السهر فيما لا يبيح ولا ينفع.
• الإقلاع عن المسلسلات.
• عمل مسابقات وبرامج هادفة .تأجيل الجلوس على الإنترنت والانضمام للدورات لما بعد رمضان.
• كن حازما مع من يضيع وقتك.
الذكر:
- أذكار الصباح والمساء قبل الشروق والغروب.
- ذكر واستغفار ودعاء خلال اليوم (أوقات الانتظار – في المطبخ – قبيل المغرب وعلى كل حال).
- قراءة كتاب أو شريط في فقه الصيام.
هدف اجتماعي:
- زيارة أسبوعية للأقارب أو دعوتهم للفطر حتى تكسب أجور الصائمين.
- عيادة المرضى.(/5)
- المشاركة مع الأهل في إعداد الإفطار.
- عمل مسابقات خفيفة أو على سورة أو كتاب أو شريط.
- عمل بطاقات دعوية للإسلام أو فوائد للصائم.
- توزيع كتيبات أو أشرطة عن فقه الصيام.
هدف صحي:
- إعداد أطباق وتجميدها حفاظاً على الوقت، أو شراء أطباق خفيفة جاهزة.
- البعد عن الأكل غير الصحي؛ مثل: المقليات أو السكريات، والنشويات والتي تسبب التخمة ومن ثم الكسل عن أداء العبادات.
- وضع جدول للأكلات المراد طبخها كل يوم، وبذلك يكون التنويع وعدم التكرار.
- الحرص على تناول الخضراوات والفواكه.
- الحرص على تقديم غذاء صحي ومتوازن للمرضى، أو كبار السن، أو الأطفال الصغار.
وختاما نقول:
هذه مجموعة من المقترحات لعمل برنامج رمضاني ناجح للمرأة المسلمة، وحتى يكون متوازناً مع الصراعات التي تنازعها على كثير من المهام الموكلة إليها. وليس المهم كثرة الأعمال بقدر القيام بها مع الإخلاص لله -عز وجل- في عملها.
اللهم بارك لنا في أعمالنا وأوقاتنا وارزقنا التوفيق والسداد.
واجعل أعمالنا كلها صالحة ولوجهك خالصة ولا تجعل لأحد فيها شيئاً.
ولا تجعل أنسنا إلا بك، ولا حاجتنا إلا إليك، ولا رغبتنا إلا في ثوابك والجنة
اللهم آمين.(/6)
العنوان: برنامج دعوي مقترح في رمضان
رقم المقالة: 1204
صاحب المقالة: ابن الإسلام
-----------------------------------------
1- التجديد في أسلوب الحديث واختيار المواضيع المناسبة، ودعوة بعض طلبة العلم للحديث، وذلك بعد صلاة العصر وقبل صلاة العشاء.
2- تفعيل لوحة الإعلانات في المساجد والتجديد فيها.
3- وضع مسابقة على المطويات التي يتم توزيعها في مسجد الحي.
4- توزيع المطويات والأشرطة في المساجد، وأماكن العمل، والقرى، وإيصالها إلى المراكز الإسلامية في الخارج.
5- تكثيف الزيارات الأخوية الدعوية للأقارب والجيران.
6- استغلال أماكن تفطير الصائمين في الدعوة إلى الله بالتعاون مع مكاتب توعية الجاليات.
7- تفقد فقراء الحي، ومساعدتهم المالية والاجتماعية.
8- عمل إفطار جماعي لجماعة المسجد بين الفينة والأخرى.
9- إقامة رحلة عمرة للمحافظين على الصلوات، والطلاب المتفوقين في الحلقة، والمسلمين الجُدُد.
10- وضع صندوق للرجال والنساء يتم فيه وضع أسئلة، ويتم الإجابة عنها من قبل طلاب العلم.
11- تفعيل دور رب الأسرة في توعية أهل بيته، وإعداد برنامج دعوي لهم.
12- تفعيل دور الشباب الصغار في الأعمال الخيرية المناسبة لأعمارهم.
13- توجيه رسائل للمرأة تعالج المخالفات، وذلك بواسطة المحلات النسائية، والمصليات النسائية.
14- استغلال وسائل الإعلام بالدعوة إلى الله.
15- إقامة المراكز الرمضانية للشباب بالأحياء والمدارس.
16- إقامة صلاة التراويح في القرى؛ خاصة من قبل حفظة القرآن الكريم الذين أعطاهم الله الأصوات الحسنة، ويجب على جمعيات تحفيظ القرآن المشاركة في ذلك.
17- حث الناس ومساعدتهم على جمع التبرعات العينية والمادية، وذلك بالتنسيق مع المستودعات الخيرية.(/1)
العنوان: بطاقة أدبية (القلم المتين واللسان البليغ)
رقم المقالة: 2029
صاحب المقالة: الشيخ علي الطنطاوي
-----------------------------------------
Alukah Card 1(/1)
العنوان: بطل جنين محمود شيت خطاب
رقم المقالة: 561
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
من خضم المعاناة ينبثق الفجر، ومن آهات الثكلى وصرخات الأطفال يشرق الصباح، وفي عصر الظلمة لابُدَّ لليل أن ينجلي، ولن يغلب عسرٌ يُسرَين، وفي معاناتنا هذه، وإلى أن يأتينا فرجٌ من الله، ما لنا إلا أن نقف مع التاريخ قليلاً، لا هروباً من الواقع المؤلم؛ ولكن لنأخذَ استراحةً نلممُ بها أنفاسَنا، ونداوي بها جراحَنا النازفةَ بقدر مِساحة الوطن، فعسى الكربُ الذي نحن فيه أن يزول قريباً، وعسى أن تعيد هذه الوقفة القصيرة التوازن الذي فقدناه في عصر السنوات الخدَّاعات، ولعلها تطمئن الذين أوشكوا أن ينسلخوا عن وطنيتهم وأمتهم وقومهم؛ بسبب الجرائم التي تُقترَف بأسماء متعددةٍ، يجمعُ بينَها الحقدُ والثأرُ على أناسٍ لا حولَ لهم ولا قوة، وأخيرًا؛ علَّها تكونُ تعزيةً وسلوى في الدماء الفلسطينية النازفة على أرض فلسطين والعراق.
في هذه الاستراحة نتحدث عن سيرة رجل عراقيٍّ شهير من خيرة الرجال، وعن بطل مجاهد بسيفه وقلمه،لم يتوانَ عن الجهاد يوماً بكليهما، إنَّه اللواء الركن محمود شيت خطاب - رحمه الله - القائد الشهير، والوزير المعتذر عن منصبه في سبيل التأليف والتصنيف، واللغوي في أكثر من دارة ومجمع، والعضو في أكثر من مؤتمر ومنتدى، والمحاضِر في أكثر من جامعة وكلية.
ولندع كلَّ الأوسمة التي توشَّح بها، ولنسلط الضوء على وسامه الفلسطيني.
وما علاقة عراقيٍّ مثل هذا الرجل المقدام بفلسطينَ التي قد تجلب المتاعب لمن يبحث عن منصب أو حظوة في هذا العالم الظالم؟
كان يرابطُ قبل ستين عاماً في فلسطين - بالتحديد في مدينة جنين - يرابط في حقولها الواسعة، وفي أزقَّتها الضيقة، وفي مساجدها العتيقة، ويحضر مجالسها العامرة، لقد عقد روابط صداقة متينة مع أهلها، حتَّى صار واحداً منهم، وصاروا لهم إخوة.(/1)
ولكن من هُوَ؟ وما الذي أوصله إلى جنين؟
أما كيف وصل إلى فلسطين؛ فهاكم كُتُبَ مَن كتبَ عنهُ، فاقرؤوها.
نقلوا عنه قوله: كنتُ طالباً في كلية الأركان، فلمَّا تخرَّجت عام 1948م، قدَّمت طلباً إلى وزارة الدفاع العراقية أن أتطوعَ في فلسطينَ، فأُرسلت إليها ضابط ركن، للواء الرابع في مدينة جنين الفلسطينية، وبقيتُ هناك قدر عامٍ، حتى عدت مع الجيش العراقي[1].
فالمتخرج الجديد من كلية الأركان والقيادة العراقية - والحاصل على شهادة الماجستير منها بتقدير جيد جدّاً - لم يصطبر على ما حلَّ بفلسطين من احتلال وانتهاك، فها هو يقدم طلبه عن طيب خاطر؛ للالتحاق بأرض المعركة، ليشهدَ الحرب هناك، ويكون بعدها عليها شهيدًا، وسرعان ما نال سؤله؛ فتحققت أمنيته في جهاد من لا يرعون إلاًّ ولا ذمةً..
ولم تكن تلك بداية علاقته بالفلسطينيين في ذلك التاريخ؛ بل بدأت علاقته بهم قبل أن يكمل عامه العشرين؛ يقول: "وكنتُ أعرف قسماً من الفلسطينيين قبل عام 1948، فقد كنت على اتصال وثيق بالمجاهدين الفلسطينيين منذ عام 1938، حين كان الشهيدان البطلان: العقيد الركن صلاح الدين الصباغ، والعقيد الركن محمد فهمي سعيد، يمدَّان الثورة الفلسطينية بالسلاح والعتاد سرًّا، وكنت يومها أسلمُ السِّلاح والعتادَ لهؤلاء المجاهدين الفلسطينيين في منطقة "أبي غريب" من ضواحي بغداد[2].
حيِّيت يا محمود من شابٍّ نشأ في طاعة الله، جعلتَ قادة الفتح الإسلامي نبراسًا لك منذ صغرك، فها أنت تخاطر بنفسك وتنقل السلاح للمجاهدين الفلسطينيين وأنت ابن تسعة عشر عامًا، لقد اكتشفتُ سرًّا في حياتك الحافلة بالعطاء!!(/2)
الآن عرفت أنَّ وَلَعَكَ بقادة الأمة كتابةً قد سبقه ولعٌ بمحاكاتهم في سلوكهم وجهادهم، لقد عرفتُ لمَ كان اهتمامك بقادة فتح العراق والجزيرة، وقادة فتح الأندلس وبلاد الشام ومصر والمغرب، وبالفاروق، وبسيف الله المسلول، وقبلهم بالرسول القائد - عليه الصلاة والسلام - وكأن لسانك يقول منذ نعومة أظفارك:
فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَم تَكُونُوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالكِرَامِ فَلاحُ
وهذا ما ترجمتَه على أرض الواقع في حياتك كلها، ولا يسعنا في هذه العجالة إلا أن نسلط الضوء على سَنَةٍ - فقط - من حياتك، قضيتَها بين أهلك وأحبائك في فلسطين، وبالتحديد في جنين.
جهاده في جنين:
اشتُهر عند الشعب الفلسطيني أنَّ الجيشَ العراقيَّ لم يدافع عن فلسطينَ كما يجب، بل خابَ ظنُّه فيه، وأنه كلما راجع الوجهاءُ وأهلُ الحلِّ والعقد قيادةَ الجيش من أجل قتال اليهود، أو صدِّ هجومهم، كانت العبارة المشهورة: "ماكو أوامر"، التي ما زالت تتردَّد إلى يومنا هذا، إذ أصبحت جزءًا من ثقافتنا الشعبية، وتعني أن أوامر الدفاع عن فلسطين لم تصل بعد من قيادة الجيش في بغداد، ولكن يبدو أن اللواء محمود شيت خطاب لم تكن تعنيه أوامر قيادته في بغداد؛ فهو يتصرف من حسِّه الديني والوطني، يقول:
"وكان أهل جنين منسجمين إلى أبعد الحدود مع الجيش العراقي؛ لأن هذا الجيش أعاد جنين إلى العرب في ذلك الوقت، وانتصر فوجٌ واحدٌ، بلغ تعداده (822) ضابطاً وجندياً على عشرة آلاف صهيوني، كانت خسائرهم في تلك المعركة أكثر من تعداد الجنود العراقيين، بينما خسائر العراقيين 30 شهيداً، مع أن المعركة (تصادفية)، ولم يكن أيٌّ من المنتسبين إلى الجيش العراقي قد سمع بـ (جنين)، أو يعرف حتى مكانها! ولا توجد لديهم خرائط؛ بل إن الهجوم كان ليلاً، ومع ذلك انتصر العراقيون"[3].
ويكمل المرحوم محمود شيت خطاب حديثه:(/3)
"ومن الذكريات التي ما زالت عالقة، أن قتلى الصهاينة كان بينهم ابنة "ابن جوريون"، فكان يأتي مع الضباط الصهاينة، برفقة ممثلي الهدنة، ويتوسل بإلحاح شديدٍ؛ ليأخذ جثة ابنته"[4].
ومن خلال حديث الأستاذ المرحوم؛ نجد إصرار "ابن جوريون" - رئيس وزراء ما سمِّي بإسرائيل - على تسلُّم جثة ابنته، مع قبول الشروط المهينة التي فرضها الجيشُ العراقيُّ والمقاتلون الفلسطينيون بحقهم، فقد وافق المذكور أن ينسحب إلى منطقة بعمق 12كم، تمتد من جنين إلى أم الفحم من أجل استعادة جثة ابنته فقط، في حين لم يطالب بجثث الصهاينة الآخرين!!
هذه هي الأخلاق اليهودية التي أوصلته إلى قمة هرم السلطة في دولة الكيان الصهيوني.
ونستشفُّ من حديثه أن الوطني والمخلص يستطيع أن يتحايل ويلتف على القرارات السياسية من أجل وطنه، أو من أجل المبادئ التي يؤمن بها؛ فليس هناك أبيض وأسود في السياسة إلا عند ضعاف النفوس، يقول:
"وكانت هناك تعليماتٌ بعدم التعرُّض للعدو الصهيوني، إلا بأوامر صريحة، ولكنني استطعتُ أن أتَّفق مع اثني عشر فلسطينياً، منهم المرحوم فوزي الجرَّار، نتواعد تحت القنطرة ليلاً؛ لنهاجم إحدى القرى .. وحدثَ أن هاجمْنا قرية "فقوعة" بعد منتصف الليل؛ فوجدنا الصهاينة نائمين، وما كادوا يحسُّون بالحركة ووقع الأقدام؛ حتى هربوا تاركينَ سيارةَ الجيب وأسلحتهم، وتجهيزاتهم في تلكَ القرية، وبعد ذلك عدنا بالسيارة والتجهيزات قبل شروق الشَّمس بساعتين، وأوينا إلى فُرُشنا، كأنَّ شيئاً لم يحدث!! وهذا مثالٌ واحدٌ تكرَّر مرارًا"[5].
أيُّ جبنٍ هذا من قِبَل اليهود؟! وأيُّ خوفٍ ذاقوه تلك الليلة، من أبطال لو تُركت لهم الحرية في المقاومة؛ لما حلَّ بنا ما نحن فيه اليوم؟!.
علاقته بأهل جنين:(/4)
لا شكَّ أنَّ أيَّ مسؤول عسكري – أو غير عسكري - يتمتع بالصفات التي ذكرناها؛ لابُدَّ أن تكون علاقته مع أهل البلد التي يعمل بها من أفضل العلاقات، لاسيما إذا كان البلد ينتمي للدين والثقافة التي ينتمي إليها المسؤول؛ فعلاقة محمود شيت خطاب بأهل جنين كانت من أقوى العلاقات، فبعد سنة قضاها هناك؛ صار كأنه من أهل البلد، يستشيرونه في أمورهم، ويدعونه إلى حفلاتهم، ويحضر أفراحهم، وقبلها أتراحهم، يتناول الطعام معهم، وما إلى ذلك من أواصر المحبة والصداقة، يقول في تقديمه لكتاب صالح مسعود أبو بصير "جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن":
"لم أكن غريباً عن أهل فلسطين عندما قدمتها مع الجيش العراقي الذي استقر في المثلث العربي: (نابلس – طولكرم – جنين)؛ ولكنني بعد مكوثي فيها سنةً كاملةً؛ ازددت علماً بها، فربطتني بأهلها – خاصةً أهل جنين الكرام – روابط من الصداقة، والثقة المتبادلة، والحب الصادق، تلك الروابط التي لا تزداد مع الأيام إلا قوةً ومتانةً، فكنتُ أتَّصلُ بهم بالرسائل، وأرعى أولادهم من التلاميذ والطلاب، الذين يدرسون في مدارس العراق ومعاهده وجامعاته.
كانت رسائلهم تردني تباعاً - كل يوم تقريباً - قبل نكبة 5 حزيران (يونيو) 1967، وكان أكثرهم يحلُّ ضيفاً بداري ببغداد كلما زاروا العراق، وكان أولادهم ولا يزالون أولادي، يزوروني وأزورهم، ويعرضون عليَّ مشاكلهم كلما حزبهم أمرٌ من الأمور، فإذا غابوا عني مدة من الزمن، فتَّشت عنهم في مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم؛ أسائلهم عن دروسهم، وأتسقَّط أخبار أهلهم، فأفرح لفرحهم، وأحزن لحزنهم، وما أكثر أحزانهم وأقل أفراحهم اليوم!
ذكرتُ ذلك لأني أريد أن أنبه على ما طوَّقني به وطوَّق به أهلُ جنين الأكارم كلَّ العراقيين، من فضلٍ لا يُنسى أبداً.(/5)
كان أهل جنين يرعون العراقيين رعايةً لا توصف: بيوتهم مفتوحة للجميع، يتلقونهم بالأحضان، ويغدقون عليهم من كرمهم وأريحيتهم، فكانوا بحقٍّ أهلهم بعد أهلهم، وقد أنسوهم - بما بذلوه من كرم ولطف - أنهم بعيدون عن وطنهم، وأشعروهم بأنهم بين ذويهم الأقربين.
أذكرُ أنني كنت أتناول الطعام في منازلهم أكثر مما كنت أتناوله في مطعم الضباط، وقد تدخلوا حتى في أيسر شؤوني الإدارية، وكنت إذا مرضتُ عادوني، وإذا غبتُ عنهم سألوا عني. لقد كانوا أهلي، وكانت جنين بلدي، ولا أزال حتى اليوم أتحسَّر على تلك الأيام التي قضيتها بين أهلي - أهل جنين - وفي بلدي جنين. وما يُقال عني، يُقال عن العراقيين الآخرين.
تلك هي لمحاتٌ من إنسانية أهل فلسطين، ممثَّلة بأهل جنين؛ فماذا عن جهادهم الذي لمسته فيهم يوم كنتُ مع الجيش العراقي في الأرض المقدسة؟
منذ حللتُ أرضَ فلسطين، كانت أفواج الفلسطينيين تتقاطر على المقرَّات العسكرية؛ تطالب بالسلاح وبالتدريب العسكري، وبإلقاء مهمَّات عسكرية على عاتقها للنهوض بها. وكانت إسرائيل قد احتلَّت جنين في شهر حزيران (يونيو) 1948، فاستطاع الجيش العراقي طرد الصهاينة من جنين بمعاونة المتطوعين الفلسطينيين.
وقد جرت معاركُ طاحنةٌ بين جيش إسرائيل والجيش العراقي؛ لاستعادة قرية عارة، وقرية عرعرة، وقرية صندلة من قرى جنين، وكان للمتطوعين الفلسطينيين أثرٌ أيّ أثر في انتصار الجيش العراقي على القوات الإسرائيلية، وإعاده هذه القرى وغيرها إلى العرب.
وكان للمتطوعين الفلسطينيين جهادٌ مشكورٌ في منطقة طولكرم، وفي المناطق الفلسطينية الأخرى، وكان لجماعة (الجهاد المقدس) جهادٌ عظيمٌ في منطقة القدس، إذا نسيه الناس؛ فلن ينساه ربُّ الناس، وكان للشهيد عبد القادر الحسيني - رضوان الله عليه - جهادٌ عظيمٌ في منطقة القدس، حتى قدَّم حياته الغالية في معركة القسطل ..."[6].(/6)
ويقول في موضعٍ آخر: "بلغت علاقتي بهم حدًّا أنَّ الذي كان يريد أن يتزوج فتاة من فتيات آل جنين؛ يسألني أن أذهب لأبيها، ولم يحدث أن أحدًا من الآباء ردَّني خائبًا، والسرُّ في ذلك أن علاقتي بهؤلاء المقربين نشأت في المسجد، فصداقة المسجد لها نكهةٌ خاصةٌ، ووفاءٌ خاصٌّ، وثقةٌ بغير حدود، وما زلتُ إلى اليوم تصلني رسائلُ من أولاد جنين المقيمين في فرنسا وأسبانيا، يطلبون العون، فلا أتأخر عنهم أبدًا"[7].
شيت خطاب شاعراً:
غريبٌ أمر هذا الضابط؛ فمع مهماته العسكرية والقتالية، كان كاتباً ومؤلِّفاً، كما عُرف بقَرْض الشعر، وقد بلغت مؤلفاته نحو 126 كتاب، وله نحو 320 بحث، كما قرض العديد من القصائد الشعرية، وكيف لا يكون على درجة من الثقافة وهو الذي يقول:
"كنتُ أحمل وأصحب معي - طَوال أيام عملي في العسكرية - أربعةَ كتبٍ ترافقني في حلِّي وترحالي، وهي: القرآن الكريم، والمنتقى في أخبار المصطفى لابن تيمية، ووحي القلم للرافعي، والقاموس المحيط للفيروزآبادي"[8].
فإذا كانت هذه عُدَّة الضابط مع سلاحه؛ فحريٌّ به أن يكون أديباً وشاعراً، في عصر عزَّ فيه الشعر والأدب في ضباطنا الأجلاء، أصحاب الأوسمة المفتخرة، وهي ذخيرة القادة المخلصين من قادة الفتح الإسلامي الأماجد، أمثال: خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجرَّاح، ومحمد بن القاسم، وصلاح الدين، ونور الدين الشهيد، ومحمد الفاتح، وعمر المختار، وغيرهم ممَّن غيروا خريطة العالم نحو الحضارة والرقيِّ.
يقول: "رأيتُ من واجبي أن أودِّع أهل جنين بشيء من القول يستحقونه؛ فعكفت في غرفتي وأنا في غاية التأثر من جرَّاء العودة للعراق، لفراق من أحبُّ من أهل جنين، وخوفاً عليهم من العدو الصهيوني، الذي كان يُرى بالعين المجرَّدة.
في ذلك الجو من الانفراد والتأثر، انطلق قلمي في شعرٍ، أتذكر منه اليوم أبياتٍ فيها:(/7)
هَذِي قُبُورُ الْخَالِدِينَ وَقَدْ قَضَوا شُهَداءَ حَتَّى يُنْقِذُوا الأَوْطَانَا
قَدْ صَاوَلُوا الْعُدْوَانَ حَتَّى اسْتُشْهِدُوا مَاتُوا بِسَاحَاتِ الْوَغَى شُجْعَانَا
أَجِنِينُ يَا بَلَدَ الْكِرَامِ تَجَلَّدِي مَا ضَاعَ حَقٌّ ضَرَّجَتْهُ دِمَانَا
إِنِّي لأَشْهَدُ أَنَّ أَهْلَكِ قَاوَمُوا غَزْوَ الْيَهُودِ وَصَاوَلُوا الْعُدْوانَا
المُخْلِصُونَ تَسَرْبَلُوا بِقُبُورِهِم وَالْخَائِنُونَ تَسَنَّمُوا الْبُنْيَانَا
لاَ تَعْذِلُوا جَيْشَ الْعِرَاقِ وَأَهْلَهُ بَلْوَاكُمُ لَيْسَتْ سِوىَ بَلْوَانَا
إِنَّ السِّنَانَ يَكُونُ عِنْدَ مُكَبَّلٍ بِالْقَيْدِ فِي رِجْلَيْهِ لَيْسَ سِنَانَا
فَإِذَا نُكِبْتَ فَلَسْتَ أَوَّلَ صَارِمٍ بَهَظَتْهُ أَعْبَاءُ الْجِهَادِ فَلانَا
مَرْجُ ابْنِ عَامِرَ خَضَّبَتْهُ دِمَاؤنَا أَيَصِيرُ مِلْكاً لِلْيَهُودِ مُهَانَا؟
وَهُوَ الْخُلُودُ لِمَنْ يَمُوتُ مُجَاهِداً لَيْسَ الْخُلُودُ لِمَنْ يَعِيشُ جَبَانَا "[9]
خطاب يتوقع حرب 1976م:
وكان من فراسته ودقة دراسته للعدو الصهيوني؛ أنه حدد اليوم الذي تعتزم فيه إسرائيل شن حربها يوم 5/6/1967، ونشر توقُّعه في جريدة "العرب"، الصادرة في بغداد يوم 1/6/1967، تحت عنوان: (حربٌ أو لا حرب)، قال فيه: "إن نفير إسرائيل سيكتمل يوم الخامس من يونيو/ حزيران سنة 1967م؛ فتكون إسرائيل جاهزة للحرب في هذا اليوم، وستهاجم إسرائيل العرب في هذا اليوم حتماً"، ولكن لا مجيب!!
ثم قال بعد أن حدثت المأساة: "وقد صدَّقت الأحداثُ ما توقعته، ولستُ نبيّاً، ولكنَّ الفنَّ العسكري أصبح علماً له قواعد وأسس، إليها استندتُ في كل ما كتبته من مقالات".
حتى إن المؤلف الإسرائيلي صاحب كتاب "الحرب بين العرب وإسرائيل" أثنى على عبقرية محمود شيت خطاب، ووصفه بأنه أكبر عقل إستراتيجي في العالم العربي، لكن لا يوجد من يستفيد منه.(/8)
هذه لمحةٌ خاطفةٌ عن سيرة الرجل في فلسطين، بيد أن حياته مملوءة بالجدِّ والعطاء في فلسطين وغيرها، واكتفينا بتسليط الضوء على فلسطين؛ علَّ هذه السيرة العطرة تعيد الثقة بين الشعبَيْن الكريمَيْن إلى ما كانت عليه.
ـــــــــــــــــــــ
[1] مقابلة مع مجلة الحرس الوطني، العدد 92، شوال 1410هـ.
[2] جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن، دار الفتح للطباعة والنشر بيروت ط5، 1988م.
[3] مجلة الحرس الوطني عدد 92 شوال 1410هـ.
[4] المصدر السابق.
[5] المصدر السابق.
[6] جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن، دار الفتح للطباعة والنشر بيروت ط5، 1988م.
[7] يوسف بن إبراهيم السلوم، اللواء الركن محمود شيت خطاب، مكتبة العبيكان ط1، 1993م.
[8] السلوم: المصدر سابق.
[9] السلوم: المصدر سابق.(/9)
العنوان: بطل مُقْعَدٌ !
رقم المقالة: 143
صاحب المقالة: أحمد صوان
-----------------------------------------
رتّب الطفل حقيبته المدرسية بعد أن أنهى واجباته واستذكر دروسه ، ثم جاء إلى والده فرحًا :
- أبي .. أُبَشِّرُكَ بأنني أنهيت واجباتي . وقد وعدتني – إذا أنهيتها - أن تحدثني عن بطل مريض لم يهزمه أعداؤه !
قال الأب : صحيح صحيح . ناولني ذاك الكتاب يا ولدي .
قرأ الأب في الكتاب :
- بطلٌ ليس كالأبطال ، كله عزيمة وشجاعة ، قلوب أعدائه ترتجف منه ..
بادر الابن متعجباً :
- أبي .. ذكرتَ لي سابقاً أنه مريض ! كيف يخافه أعداؤه وهو مريض ؟
الأب : نعم ، إنه مشلول ! ولا يغادر كرسيَّه !
الابن متعجباً : كيف ؟ عجيب يا أبي ! مشلول ؟ أنا أهزم المشلول .
الأب : يا ولدي ، لو رأيته لأحببته ، إنه يحبُّ الأطفال ويدافع عنهم ، ويدافع عن النساء و عن دِينه وعن بلاده .
الابن : حسناً يا أبي ، أرجوك قل لي كيف يقاتل الأعداء وكيف يدافع عن الأطفال ؟
الأب : هذا المشلول يا ولدي دار القرى والمدن على كرسيِّه ، يبين للناس خطر اليهود ، ويحثهم على الاتحاد والتعاون في سبيل القضاء عليهم ، وقد سجنه الأعداء أكثر من مرة وعذبوه ، ولكنه لم ييئس وظل يتابع جهاده حتى …
الابن : حتى ماذا يا أبي ؟ لماذا الدموع يا أبي ؟!
مسح الأب دموعه وتابع :
حتى قذفه الصهاينة بصاروخ من طائرة عموديَّة، وهو راجع من صلاة الفجر . أتعرف لماذا أطلقوه من طائرة ؟
الابن : لأنهم يخافونه .
الأب : نعم ، أصبت ، لأنهم يخافونه . قاتل الله هؤلاء الأوغاد .
قال الابن حزيناً : هذه ليست معركة مُتَكافئة يا أبي ، رجل أعزل : أطرافه الأربعة مشلولة ، مقابل طائرة وصواريخ ؟!
الأب : هذا شأن اليهود الغادرين دائماً يا ولدي ، يخافون من المواجهة ، ويقاتلون من بعيد بأحدث الأسلحة .
الابن : أكمل قصة هذا البطل يا أبي .(/1)
الأب : يا ولدي ، كنت أقرأ لك القصة فيما مضى ؛ لأنك لا تعرف القراءة . أما الآن فقد كَبِرتَ - و الحمد لله - وصرت تقرأ . خذ الكتاب بقوة واقرأ ، وأنا أصغي إليك .
تناول الطفل الكتاب من والده بهمة ؛ لأنَّه يريد أن يعرف الكثير عن هذا البطل ؛ عن طفولته وشبابه وحياته كلها ، ، و سيُحدِّث زملاءه عنه في إذاعة صباح الغد .
الأب : ما بك يا ولدي ؟ ابدأ .
الابن : سمعاً وطاعة .
وقرأ من البداية : الشيخ أحمد ياسين ، ولد عام 1938م في قرية الجورة في قطاع غزة ، ثم نشأ في غزة ...
توقف الطفل قائلاً : أبي .. جزاك الله خيراً .. سأكمل قراءة سيرة الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله - في غرفتي .
مضى الطفل إلى غرفته ضامََّا الكتاب إلى صدره ، وكأنه يحمل بيده جوهرة ثمينة …(/2)
العنوان: بطولات البراء بن مالك رضيَ الله عنه
رقم المقالة: 1397
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم واستنَّ بسنَّتهم إلى يوم الدِّين.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذرو نِقْمَتَهُ فلا تعصوه؛ فإنَّ الله تعالى يُنْذِرُ ويُعْذِر، ويرسل بالآيات تخويفًا، ثم يأخذ بغتةً، والناس في غفلة: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
أيها الإخوة المؤمنون:
حينما يتربَّى الإنسان في بيئة صالحة؛ فإنه يكون للصلاح أقرب، وعن الفساد أبعد؛ فحيثما يحتفُّ به الطُّهر والنَّقاء؛ فإن مسالك الشيطان تضعف، ومجاري الشهوات تضيق. وإذا نفذ من خلالها شيءٌ في حالة غفله، سرعان ما تنبِّهه نفسه اللوَّامة، فتُظْهِر أمامه هدايات الوحي الربَّاني؛ فيؤوب إلى ربِّه تائبًا مُنيبًا.
بخلاف من تَجُرُّه نفسه إلى الفساد، وليس عنده من الوحي ما يُصلِح حاله، وتحيط به بيئة تعجُّ بالشَّهوات وتطفح بالمنكرات؛ فإن هذا يوشك أن يغرق في المستنقعات الآسِنة، وحظوظه في الخلاص والنجاة أقلُّ وأضعف؛ إلاَّ أن يتغمَّده الله برحمة من عنده؛ توقظه من رقدته، وتنبِّهه من غفلته؛ فيُسارع إلى طريق السعادة والفلاح.
نعم، البيئة لها أثرها، والأشخاص المحيطون بالإنسان يؤثِّرون فيه؛ فالوالدان يؤثِّران في أولادهم، والإخوان والأخوات يؤثِّر بعضهم في بعض، والمعلِّم يتأثَّر به طلابه. وكما أن الطيور على أشكالها تقع؛ فكذلك الأقران على أشكالهم يجتمعون.(/1)
وهذا مَثَلٌ مضروبٌ في سيرة رجلٍ أخذ من الشجاعة أعلاها، وبلغ من الإقدام منتهاه؛ دفاعًا عن دين الله تعالى، وجهادًا في سبيله، وذلك حينما خالط الإيمان بشاشة قلبه.
تربَّى في بيتٍ صالحٍ، ترعاه أمٌّ صالحةٌ، تقدَّم إسلامها؛ فكانت منَ السَّابقين، وكان صداقها إسلام زوجها، فما أغلاه وأعزَّه من صَدَاقٍ، فلا غرو أن يخرج هذا الفتى بشجاعةٍ منقطعة النظير، وقد تربَّى على يَدَي تلك المرأة العظيمة.
أمُّ هذا الفتى هي: أمُّ سُلَيْمٍ بنتُ مِلْحان الأنصاريَّة. كانت في الجاهلية تحت مالك بن النَّضْر، فلما أسلمت غضب عليها وخرج إلى الشام، ومات هناك[1]، فخطبها أبو طلحة؛ فقالت له: "أما إنِّي فيك لراغبةٌ، وما مِثْلُكَ يُرَدُّ؛ ولكنك كافرٌ، وأنا امرأةٌ مسلمةٌ؛ فإن تُسْلِمْ فلكَ مَهْرِي، ولا أسألك غيره. فأسْلَم وتزوَّجها، وحَسُنَ إسلامه"[2].
روى ابنها أنس، أن أبا طلحة خطبها قبل أن يُسْلِم، فقالت: "يا أبا طلحة: ألستَ تعلم أن إلهكَ الذي تعبد نَبَتَ منَ الأرض؟ قال: بلى، قالت: أفلا تستحيي تعبد شجرة؟! إن أسلمتَ فإني لا أريد منك صَدَاقًا غيره. قال: حتى أنظر في أمري. فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقالت: يا أنس، زوِّج أبا طلحة. فزوَّجها"[3].
تُعدُّ - رضيَ الله عنها - من عقلاء النساء[4]، أتت بابنها أنس وجعلته خادمًا للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فخدمه عشر سنوات[5]، وكانت امرأةً شجاعةً، لا تهاب القتال، تغزو مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -[6] ولها قصص مشهورة في ذلك؛ منها:(/2)
ما أخرجه ابن سعدٍ بسندٍ صحيحٍ: "أنَّ أم سُلَيْمٍ اتخذتْ خنجرًا يوم حُنَيْن؛ فقال أبو طلحة: يا رسول الله، هذه أمُّ سُلَيْمٍ معها خنجرٌ؛ فقالت: اتَّخَذْتُهُ، إذا دنا منِّي أحدٌ منَ المشركين؛بَقَرْتُ به بطنَه"[7]. فلا عجب حينئذٍ أن يتأثَّر بها ابنها البَرَاءُ بنُ مالكٍ، حتى يكون من أشجع الناس؛ لأنه تربَّى في بيت الإيمان والشجاعة.
شهد - رضيَ الله عنه - أُحُدًا وما بعدها، وبايع تحت الشَّجرة[8]، وله مواقف مشهودة، وبطولات مشهورة، وقد بلغ من إقدامه وشجاعته أنَّ عمر - رضيَ الله عنه - كتب إلى أمراء الجيش: "لا تستعملوا البَرَاء على جيشٍ من جيوش المسلمين؛ فإنه مَهْلَكَةٌ من المهالك يُقَدَّمُ بهم"[9].
ومن الصور الرائعة في إقدامه وشجاعته: أنه لما استعصى على المسلمين الدخول على مُسَيْلِمَةَ الكذَّاب، وقد تحصَّن بحديقته؛ أمر البَرَاءُ أصحابه أن يحتملوه على تُرْسٍ على أَسِنَّة رماحهم، ويُلقوه في الحديقة؛ فاقتحم إليهم، وشدَّ عليهم، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة؛ فدخلها المسلمون. فجُرِحَ يومئذٍ بضعةً وثمانين جُرْحًا، أقام خالد بن الوليد عليه شهرًا يداوي جراحه[10].
وروى ابن سيرين، عن أنس، أن خالد بن الوليد قال للبَرَاء يوم اليمامة: "قُمْ يا بَرَاء. قال: فركب فرسه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل المدينة، لا مدينة لكم اليوم، وإنما هو الله وحده والجنَّة، ثم حمل وحمل الناس معه؛ فانهزم أهل اليمامة، فلقيَ البَرَاء محكِّم اليمامة؛ فضربه البَرَاء وصرعه، فأخذ سيف مُحكِّم اليمامة، فضرب به حتى انقطع"[11].
وفي رواية البَغَوِيِّ قال البَرَاء: "لقيتُ يوم مُسَيْلِمَة رجلاً يقال له: حمار اليمامة، رجلاً جسيمًا، بيده السيف أبيض، فضربتُ رجليه، فكأنما أخطأته، وانعقر فوَقَع على قفاه، فأخذت سيفه وأغمدتُ سيفي، فما ضربتُ به ضربةً حتى انقطع"[12].
ما هذه الشجاعة؟! وما هذه القوة؟! وما هذا الإقدام؟!(/3)
ويَضرب مثلاً أعظم، حينما أنقذ أخاه أنسًا من شراك العدوِّ بعدما عَلِقَتْ به، فقد روى عبدالله بن أبي طلحة قال: "بينما أنس بن مالك وأخوه البَرَاء بن مالك عند حصنٍ من حصون العدو، والعدو يلقون كلاليبَ في سلاسل محمَّاة، فَتَعْلَقُ بالإنسان، فيرفعونه إليهم، فَعَلِقَ بعض تلك الكلاليب بأنس بن مالك، فرفعوه حتى أقلُّوه منَ الأرض، فأتى أخوه البَرَاء، فقيل له: أدركْ أخاك - وهو يقاتل الناس - فأقبل يسعى حتى نزا في الجدار، ثم قبض بيده على السِّلسلة وهي تُدار، فما برح يجرُّهم ويداه تَدْخنان حتى قطع الحبل، ثم نظر إلى يديه، فإذا عظامه تلوحُ، قد ذهب ما عليها من اللحم، وأنجى الله - عزَّ وجلَّ - أنس بن مالك - رضيَ الله عنه – بذاك"؛ أخرجه الطَّبراني، وحسَّنه الهيثمي[13].
لقد كان - رضيَ الله عنه وأرضاه - حسن الصوت، يحبُّ الترنُّم والحُدَاء؛ قال أخوه أنس: "دخلتُ على البَرَاء وهو يتغنَّى بالشِّعْر، فقلتُ له: يا أخي، تتغنَّى بالشِّعْر، وقد أبدلك الله به ما هو خيرٌ منه: القرآن؟ قال: أتخافُ عليَّ أن أموت على فراشي، وقد تفرَّدتُ بقتل مائة من المشركين، سوى مَنْ شاركت فيه!! إني لأرجو ألا يفعل الله ذلك بي"؛ أخرجه الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذَّهبيُّ[14].
وقد استجاب الله له؛ فلم يَمُتْ على فراشه؛ بل قُتل في ساحات الوغى. وكيف لا يُستجاب له، وقد عدَّه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مُجابي الدَّعوة، ووصفه بأنه منَ الضعفاء الذين لا يؤبه لهم؟! وسبحان الله! كيف يكون بهذه الشجاعة والقوة والإقدام، ومع ذلك يذكره النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضمن الضعفاء ومَنْ لا يؤبه له؟!(/4)
لولا أن البراء كان متواضعًا، زاهدًا في الدنيا، متقلِّلاً منها، طيِّب القلب، حَسَنَ الخُلُق، جعل نفسه من عامَّة الناس وفقرائهم، ولم يَخَفِ الناس شجاعته وقوته؛ لأنه لم يجعلها لإرهاب المسلمين؛ بل لإرهاب أعدائهم. لذلك كان مُتَضعِّفًا عند إخوانه، قويًّا في مواجهة أعدائه.
وهذا هو الوصف المذكور في التنزيل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29].
فيالجمال تلك الصفة في البَرَاء وإخوانه؛ حيث لم يَسْتَعْلِ بقوته على الناس، أو يتسلَّط بشجاعته؛ بل شدَّد على نفسه في إخفائها عند إخوانه؛ حتى أصبح لا يُؤبَه به، فلله دَرُّه، ما أملكه لنفسه!! وما أقواه على أعداء الله تعالى!!
وكان - رضيَ الله عنه - مُجاب الدعوة؛ روى أنس بن مالك - رضيَ الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كم من ضعيفٍ مستضعفٍ، ذي طِمْرَيْن، لايؤبه له، لو أقسم على الله لأبرَّه؛ منهم البَرَاء بن مالك)).
وإن البَرَاء لقيَ زحفًا منَ المشركين، وقد أوجع المشركون في المسلمين؛ فقالوا له: يا بَرَاء، إن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: لو أقسمتَ على الله لأبرَّك؛ فأقْسِم على ربِّكَ. قال: أقسمتُ عليك ربِّ لمَا منحتنا أكتافهم. فمُنحوا أكتافهم. ثم التقوا على قنطرة السُّوس، فأوجعوا في المسلمين؛ فقالوا له: يا بَرَاء، أَقْسِمْ على ربِّكَ، فقال: أقسمتُ عليك يا ربِّ لمَا منحتنا أكتافهم، وألحقني بنبيِّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم. فمُنحوا أكتافهم، وقُتل البَرَاء شهيدًا[15].
وكان ذلك يوم فتح تُسْتَر في خلافة عمر - رضيَ الله عنه - سنة عشرين من الهجرة النبوية[16].(/5)
فرضيَ الله عن هذا البطل الكرَّار، ورضيَ الله عن أمِّه أمّ سُلَيْم، التي ربَّتْ فأحسنت التربية، فكانت هي وابنُها أنسٌ وابنها البراءُ من عظماء الإسلام، ومن مشاهير التاريخ في الإيمان والخير، ورضيَ الله عنِ الصحابة أجمعين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، وأخلصوا له أعمالكم، واصدقوا في أقوالكم وأفعالكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
أيها الإخوة المؤمنون:
لقد كان البَرَاء - رضيَ الله عنه - بعيدًا عن الأضواء وبريق الشهرة، حتى إنه كان رثَّ الهيئة متواضعًا، مَنْ رآه لا يأبه به؛ لكنَّه كان في دين الله تعالى والجهاد في سبيله من أقوى الأبطال المشاهير.
كم نحتاج إلى تأمُّل هذه السيرة والاعتبار بها؟! في ظلِّ اللُّهاث وراء الأضواء والشهرة!! حتى ولو كانت شهرة في الرَّديء من الخِلال، والمنحطِّ منَ الأخلاق والصِّفات. وكم نحتاج إلى إبراز ودراسة أحوال ذلك البيت الصالح الذي خرَّج أنسًا والبَرَاء، على يَدَيْ مربِّيةٍ عظيمةٍ كأمِّ سُلَيْم؟! ونحتاج إلى ذلك أكثر، والتزوير الإعلامي العالمي على أَشُدِّه في صناعة المنحطِّين رموزًا، وجَعْل شِذاذ الآفاق عظماء.(/6)
وينخدع كثيرٌ منَ المسلمين بتلك الرموز المزوَّرة، مع ذلك الزَّخَم الإعلاميِّ، الذي حوَّل بَغِيًّا من بغايا بني الأصفر إلى عظيمةٍ من العظماء!![17]
وبعد هدوء الضجيج الإعلامي، وسكون العاصفة، وانجلاء الغبار، الذي غطَّى على العيون السَّادرة؛ فأصبحت ترى التزوير حقيقةً، هل يصدِّق المسلم - بل العاقل - أنَّ الرَّذيلة تتحوَّل إلى فضيلة؟! وأنَّ ارتماء المرأة في أحضان مَنْ تشاء منَ الرجال أضحى مدعاةً للإعجاب والتصفيق؟!
مساكينٌ أولئك المخدوعون!! خدعتهم كلماتٌ جميلةٌ عن معاناة المساكين والمضطهدين!! وصُوَرٌ مُنتقاة من هنا وهناك!! انخدعوا؛ فظنُّوا أنَّ الكفر ليس ذنبًا، وربما ظنوا أن عبادة الصليب ليست كفرًا، وظنوا أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في أنَّ عمل الكافر يحبَط، مهما عمل من خيرٍ، ما دام كافرًا - ظنوا أنها لا تنطبق على تلك الكافرة الفاجرة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
ويقول النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسٌ محمَّدٍ بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلْتُ به، إلاَّ كان من أصحاب النار))؛ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة - رضيَ الله عنه[18].(/7)
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 103-106].
أقلامٌ تتسمَّى بالإسلام، سجَّلت إعجابها بتلك الشخصية المرذولة، ناسيةً أو متناسيةً الوحيَ الرباني، والهَدْي النبوي. ويزيد من سوء تلك الأقلام: أنها ما كتبت يومًا عن عظماء الإسلام!! وأعلام الأنام!! ألا كُسِرتْ تلك الأقلام؟!
وإذا كان عُذْرُ أهل الكتاب أنهم ليس لهم في التاريخ، ولا عندهم من العظماء إلا بغايا ومحقورون! فما عُذْرُ أقلام أهل الإسلام وتاريخهم مليءٌ بالعظماء منَ الرِّجال والنساء؟!
إن هذا يجسِّد حجم المأساة، ويُظْهِرُ عُمْقَ الهُوَّة التي تتردَّى فيها أمَّة الإسلام في جوانب الأصول والمعتقدات، والأدبيَّات والأخلاقيَّات؛ حيث اهتزاز ركن الولاء والبراء، وانقلابُ الرَّذيلة والسُّفور والخيانات الزَّوجية إلى فضيلةٍ ورقيٍّ وتقدُّمٍ، فياللعار، وياللتَّبعية البغيضة والانهزامية المقيتة!! ما أفدح تلك الهزيمة النفسيَّة؟! وما أشدَّ وقعها على قلوب العقلاء والمتبصرين؟!
هل زالت مآسي المسلمين، حتى لم يَبْقَ مايتباكون عليه إلا مصرعُ سافرةٍ عاهرةٍ من الإفرنج، أين الحديث عن مآسي النساء المسلمات في فلسطين وكشمير، والمسلمات في البوسنة، اللائي ترمَّلْنَ وتيتَّم أطفالهنَّ على أيدي أبناء دين تلك الهالكة، ذلك الدين المحرَّف المتطرِّف.(/8)
ما أقبح أهل التَّبعية والتَّقليد الأعمى، وهم يتقمصون ثياب العدو الغالب ماديًّا، ويردِّدون أفكاره؛ حتى أصبحوا بمثابة الصَّدى لأقواله، والمحابر لأقلامه!! أين هم عن كلام الله؛ فليسمعوه: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]، أين هم من هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51].
ألا يخافون أن يحشروا معهم؟! والمرء مع مَنْ أحبَّ، ومَنْ تشبَّه بقومٍ فهو منهم.
أسأل الله تعالى أن يحفظ قلوبنا من الزِّيغ والضَّلال، وأن يصلح أحوال المسلمين، ويردَّهم إليه ردًّا جميلاً.
---
[1] الإصابة لابن حجر (13/226).
[2] انظر: سنن النسائي (6/114) وأسد الغابة (7/333).
[3] أخرجه ابن أبي شيبة (17645) والنسائي في السنن الكبرى في النكاح باب إنكاح الابن أمه (5395) والحاكم وصححه وقال: على شرط مسلم، وله شاهد صحيح على شرط الشيخين وقال الذهبي: على شرط مسلم (2/195-196) ونسبه الحافظ إلى الإمام أحمد في المسند - ولم أعثر عليه فيه - وذكر أن له طرقًا عدة، انظر: الإصابة (13/227). وأخرج النسائي نحوه بسند صحيح في النكاح باب التزويج على النساء (6/114).
[4] أسد الغابة (7/334).
[5] انظر في ذلك: صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أنس بن مالك (2480) و (2481) ومسند أحمد (3/110).
[6] أسد الغابة (7/334) والإصابة (13/227).
[7] أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/312) وصححه الحافظ في الإصابة (13/227).
[8] انظر: حلية الأولياء (1/350).
[9] أخرجه الحاكم (3/291) وانظره في: أسد الغابة (1/364) والاستيعاب (1/285) وسير أعلام النبلاء (1/196).(/9)
[10] أخرجه خليفة في تاريخه (109) وانظره في: الإصابة (1/236) والاستيعاب (1/287) وسير أعلام النبلاء (1/196).
[11] نسبه الحافظ إلى السّراج في تاريخه، انظره في الإصابة (1/236).
[12] نسبه الحافظ إلى البغوي من طريق أيوب عن ابن سيرين عن أنس عن البراء كما في الإصابة (1/237).
[13] أخرجه الطبراني في الكبير (2/27) رقم (1182) وقال الهيثمي: وإسناده حسن (9/325).
[14] أخرجه أبونعيم (1/350) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (3/291) وذكره الحافظ في الإصابة عن البغوي وصححه (1/236) وذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب (1/285) وعزاه الهيثمي للطبراني وقال: ورجاله رجال الصحيح (9/324).
[15] أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (3/330) والترمذي في المناقب من دون ذكر القصة، وقال: هذا حديث حسن صحيح من هذا الوجه (3853) وانظر: الاستيعاب (1/286) والحليه (1/350) وأسد الغابة (1/364) والإصابة (/237).
[16] سير أعلام النبلاء (1/196).
[17] هذا إشارة إلى مصرع البريطانية (ديانا) حيث أرعد الإعلام وأزبد بفضائياته وإذاعاته وصحفه ومجلاته معزيًا البشرية، ومستعرضًا سيرة تلك الفاجرة بالتفصيل الممل، والتكرار الثقيل؛ وأصبح الأمر كأنه مصيبة حلت على جميع البشر وانساق العامه وراء هذا الزخم الإعلامي، فصارت أحاديث الناس عنها، وولغ في هذا المستنقع الآسن أناس يظن بهم الخير وأصحاب أقلام منتسبون للدعوة إشادة بهذه العاهرة الفاجرة حتى إن بعض الكتاب قال: كادت تسلم، وبعضهم قال: رحلت خيرة العالم...إلخ، ونعوذ بالله من زيغ القلوب.
[18] أخرجه مسلم في الإيمان باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (153).(/10)
العنوان: بطولات معاصرة
رقم المقالة: 567
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
إنَّ نشرة الأخبار في عالمنا اليوم عرضٌ لمآسٍ تحلُّ بالمسلمين، سواء سمعتَها من إذاعة أو تلفاز أو قناة فضائية، أو قرأتَها في صحيفة أو مجلة.
إنك لتشعر من خلال وقوفك عليها أنَّ دم المسلم – وا أسفاه – رخيصٌ رخيص، وأنَّ كرامة المسلم رخيصةٌ رخيصة..
وقد أضحى بعض الناس يفرُّون من سماع الأخبار وقراءة الصحف؛ لكيلا يصابوا بالاكتئاب والحزن والإحباط.. ولكنَّ هذا لا يغيِّر من الواقع شيئاً.. وإنِّي لأرى أنَّ على المسلم أن يعرفَ واقعه على حقيقته، وأن يعيَ الهجوم الذي تتعرَّض له أمَّته، وأن يدرك المؤامرات التي تُحاك ضدَّها، وأن يعمل على الإصلاح والتغيير ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وألا ييأس أبداً مهما تكاثفت أمامه أسبابُ اليأس.
نعم.. هذا واقعٌ مؤلم قائم.. ولكنْ إلى جانب ذلك تبرُز صفحة مضيئة أريد أن أتحدَّث عنها:
ألم يأتكم – يا أيها الإخوة والأخوات – نبأُ البطولات الفذَّة التي أذهلت العدوَّ؟
ألم تسمعوا بهذه المقاومة العظيمة التي يعملُ أعداد الله على تشويهها وتصويرها إرهاباً، وما هي بالإرهاب، بل الإرهابُ هو صنيعهم وعدوانهم.. وإلاّ فما الذي جاء بهم من وراء البحار إلى بلادنا، يقتِّلون أهلنا ويشرِّدونهم ويعذِّبونهم ويحتلُّون أراضيَهم بالحديد والنار؟
إنَّ في هذه المقاومة الباسلة لليهود في فلسطين، وللأمريكان في أفغانستان والعراق، وللروس في الشيشان بطولاتٍ رائعة.
مَنْ كان يظنُّ أنّ المقاومة الإسلاميَّة الشريفة في أفغانستان والعراق تستطيع أن تقفَ في وجه أمريكا الدولة التي تمثِّل الطاغوتَ الأكبر المعاديَ للمسلمين.. الدولة التي تزعُم أنها تحكم العالم.. الدولة التي تملك من أسلحة الدمار ما لا يُحصى من طائرات ودبَّابات وأسلحة فتَّاكة...(/1)
مَنْ كان يظنُّ أنّ هذه المقاومة تستطيع أن تقفَ في وجه أمريكا سنوات عدة؟
إنَّ هذه المقاومة لدليلٌ على أنَّ المسلمين لا ينامون على ضيم، ولا يستسلمون لقوة طاغية.. إنَّهم على قلَّة ما بأيديهم من السلاح والعتاد، وعلى فقرهم وضعفهم ماضون في تقديم التضحيات والشهداء، لا يتراجعون ولا ينهزمون.
إنّ الكفرة وعملاءهم ممّن يأتمرون بأمرهم ويعملون لتحقيق مصالحهم، ويحرصون على بقاء هؤلاء الأعداء في بلاد المسلمين أصيبوا بالدهشة لاستمرار هذه المقاومة وصلابتها.
شعبٌ أعزل لا يملك طائرات ولا دبَّابات ولا شيئاً من آلة الحرب المتقدِّمة التي يواجهه بها أعداؤه.
تُشَنُّ عليه حروب متعددة:
* حروبٌ مادية يستخدم هؤلاء الأعداء فيها الأسلحة الفتَّاكة، والدبَّابات والمصفَّحات والجرَّافات، يُغيرون عليه بالطائرات التي تقذف القنابل القاتلة للناس والمدمِّرة للأبنية.
* وحروبٌ اقتصاديَّة، تتمثل بحصار ظالم لا يسمح بدخول أغذية ولا أدوية ولا بضائع، ولا يسمح بتصدير بضاعة ومنتوجات. وتتمثل أيضاً بتجريف الأراضي الزراعية، وتهديم البيوت والعقارات، وبمصادرة الأموال العامَّة للبلد، وحرمان الموظفين من رواتبهم وغير ذلك من الإجراءات الجائرة المتعسِّفة.
* وحروبٌ سياسيَّة يجنِّدون المؤسَّسات الدوليَّة لمحاربة هذا الشعب والتضييق عليه، ويصوِّرونه شعباً متخلِّفاً مجرماً يتبنَّى الإرهاب ويعشق القتل، ويعتقلون الرجال والنساء ويهجِّرون كثيراً من الناس.
يحسبون أنهم بذلك يجعلون هذا الشعبَ يخضع ويذل ويلين ويستسلم، ولكنهم خابوا وأخفقوا في مسعاهم، وكانت خططهم حسرة عليهم، فلم يَستكن هذا الشعب المسلم ولم يَلن، بل قاوم وما زال يقاوم، وقدَّم لأمَّة الإسلام المكلومة بطولاتٍ رائعة، وضحَّى بأبنائه ورجاله ونسائه..(/2)
لقد أعاد هؤلاء الأبطال من رجال ونساء إلى ذاكرة الأمَّة واقع الاستشهاد الذي كان في أمتنا المجيدة، إذ كانوا يحرصون على الموت في سبيل الله أكثرَ من حرص الآخرين على الحياة.
ومن الجدير بالكتاب والشعراء أن يشيدوا بهذه البطولات ويسجِّلوها شعراً ونثراً ورواية وقصَّة، ففي ذلك إذكاء لروح المقاومة ووفاء لهؤلاء الأبطال.
ويطيب لي في هذه الكلمة أن أوردَ بعض ما جادت به قرائحُ الشعراء في تخليد هذه البطولات.
لقد شاركت المرأة المسلمة في هذه البطولات، وتقدَّمت لنيل الشهادة في سبيل الله، فتياتٌ في عمر الزهور، وكان منهنَّ: وفاء إدريس، ودارين أبو عيشة، وآيات الأخرس، وإلهام الدسوقي، وعندليب طقاطقة وغيرهن. رحمهنَّ الله.
* قال الشاعر غازي القصيبي يثني عليهنَّ في قصيدة هَمْزية رائعة نشرها في جريدة الحياة بتاريخ 30/المحرَّم/1423هـ (13/4/2002م):
مُتُّمُ كي تَعِزَّ كِلْمَةُ ربِّي في رُبوعٍ أَعَزَّها الإسراءُ
إنتَحَرتُمْ؟ نحنُ الَّذينَ انتَحَرنا بحياةٍ أمواتُها الأَحياءُ
* * *
أيُّها القَومُ نحن مُتْنا.. فهَيَّا نَستَمِعْ ما يقولُ فينا الرِّثاءُ
قد عَجَزنا حتَّى شَكا العَجزُ مِنَّا وبَكَينا.. حتَّى ازدَرانا البُكاءُ
ورَكَعنا حتَّى اشمَأَزَّ رُكوعٌ ورَجَونا.. حتَّى استَغاثَ الرَّجاءُ
وشَكَونا إلى طَواغِيتِ بَيتٍ أَبيَضٍ.. مِلءُ قَلبِهِ الظَّلماءُ
ولَثَمنا حِذاءَ شارونَ[1] حتَّى صاحَ: -مَهلاً قَطَّعتُموني- الحِذاءُ
أيُّها القَومُ نحنُ مُتنا ولكِنْ أَنِفَتْ أن تَضُمَّنا الغَبراءُ
* * *
قُل (لآيات)[2]: يا عَروسَ العَوالي كُلُّ حُسْنٍ لمقلَتَيكِ الفِداءُ
حينَ يُخصى الفُحولُ.. صَفوَةُ قَومي تَتصدَّى للمُجرِمِ الحَسناءُ
تَلثُمُ الموتَ وهي تَضحَكُ بِشْراً ومِنَ الموتِ يَهرُبُ الزُّعَماءُ
فَتحَت بابَها الجِنانُ وحَيَّتْ وتَلقَّتكِ فاطمُ الزَّهراءُ
* * *(/3)
* وقال الشاعر كمال رشيد من قصيدة عنوانها (سوف نبقى) نشرها في جريدة السبيل بتاريخ 22/جمادى الآخرة/1427هـ (18/7/2006م):
أُقتُلونا
واسحَلونا في ثَرانا، بدِمانا غَيِّبونا
سوف نَبقى
عَبقاً في الأرضِ، جَذراً، وتُراباً، وحَصادا
وشُهوداً وعُهودا
سوف نَبقى
لنُعيدَ الحقَّ حقّاً، نسبقُ الأحداثَ سبقا
نزرعُ الأرضَ لتَبقى، نركَبُ الصَّعبَ ونَرقى
سوف نَبقى
* * *
حقَّق الياسينُ[3] ما كان ابتَغى
بعدَه عبدُالعزيز[4] انضَمَّ للمَوكبِ في ساحِ الوَغى
إنْ يمُتْ ألفٌ فألفٌ جاهِزونْ
مِنْ فِجاجِ الأَرضِ، مِنْ تحتِ الرُّكامِ يَخرُجونْ
في دَياجي الليل، في الظُّلمَةِ، في وَضَحِ النهارِ يَطلُعُونْ
ويَنالونَ الذي هُم يَنشُدونْ
إنْ قتَلتُم شَيخَنا الملتَفَّ[5] في ثَوب الجَلالْ
ثم أتبعتُم بأُسْدٍ.. برجالٍ كالجبالْ
فاعلَموا أنَّكمُ قدَّمتُمُ خدمةً للأرضِ وللعُشَّاقِ أذكَيتُم أفانينَ القِتالْ
وكذا الأيَّامُ تَمضي، وكذا الحَربُ سِجال
* * *(/4)
وفي يوم الجمعة 12/شوال/1426هـ الموافق 3/11/2006م قامت المرأة الفلسطينية بعمل شجاع جريء في فكِّ الحصار عن زُهاء 70 مقاوماً كانوا محاصَرين في مسجد النصر ببلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، فوجَّهت حركة المقاومة دعوة للنساء للخروج في مسيرات لفكِّ الحصار عن مسجد النصر، فخرج بعد صلاة الفجر المئاتُ من النساء من جميع أنحاء مدينة غزة، وتوجَّهن نحو بلدة بيت حانون، وكان نساء البلدة بانتظارهنَّ، وتوجَّهنَ في مسيرة حاشدة تجاه المسجد، وتابع ملايينُ المشاهدين على شاشات الفضائيات كيف أنَّ النساء الفلسطينيات واجهنَ الجنود بصدورهنَّ، فأطلقوا النار عليهنَّ.. فلم يصدَّهنَّ ذلك عن التقدم.. فواصلنَ سيرهنَّ وهنَّ يقارعنَ جنود الاحتلال، فاستُشهدت اثنتان وجُرح أكثر من عشرين امرأةً واستطعن دخول المسجد وإشغال جنود اليهود ليتمكَّن المحاصَرون من الخروج. وقالت السيدة جميلة الشنطي التي كانت على رأس المسيرة: إننا لم نتردَّد لحظة واحدة في فكِّ الحصار عن إخواننا، وسنظلُّ رهن إشارة هؤلاء المقاومين الذين يقدِّمون أرواحَهم وسنكون سنداً لهم.
فقال الشاعر محمد أمين أبو بكر يُشيد بهذه البَسالة:
مَنْ للبطولةِ يُحيي نفحَ ذِكراها في قلعةٍ بالدَّمِ الغالي بَنيناها
مَنْ للذِّئابِ إذا ما الغَدرُ قادَهُمُ إلى بُروجٍ تَليدُ المَجدِ أعلاها
مَنْ للدَّواهي إذا عزَّ الرِّجالُ بها والشَّرقُ والغَربُ في الأصقاعِ عاداها
وفَجأةً شعَّ نورُ الفَجرِ مُبتَسِماً فأَدهَشَ الأرضَ في شتَّى زَواياها
مِن بيت حانونَ جاء النُّورُ مُنبثِقاً يُحيي قُلوباً جَحيمُ البُؤسِ مَأواها
نَزفُ الجِراحِ بها أَحيا لنا قِيَماً ما كان يُدركُ هذا العصرُ مَعناها
على رُباها رأيتُ النصرَ مدَّ لنا من الحَرائرِ أسباباً نَسيناها
فرَّ اليهودُ دَجاجاً عندما اقتَحَمَت تلكَ الحشودُ وعَينُ الله تَرعاها(/5)
خَولاتُنا الشُّمُّ أدهَشنَ الأنامَ بها في حَومَةٍ كَشَفَت في السَّاحِ ساقاها
هي الرُّجولةُ والأنباءُ شاهِدةٌ هل هزَّ عرشَ الطُّغاةِ السُّودِ إلَّاها
ها قد أعادَت لَيالي الحُزن باسِمةً بينَ الأنامِ فما أَندى سَجاياها
لكنَّما سقَطَت كالأُسدِ صامِدَةً أُختٌ يُضيءُ شُموسَ الكَون تَقواها
إذ خلَّفَت بعدها الأطفالَ في كُرَبٍ يَبكونَ أُمّاً لهُم ما كان أحناها
تِلكَ الشَّهيدةُ والأحداثُ تُخبرنا أن الجِنانَ بإذن اللهِ مَأواها
ما كان غَيرُكِ يا أُختاهُ من أَمَلٍ أَحيا لأُمَّتِنا الثَّكلاء قَتلاها
لن تَعقُمَ الأُمَّةُ المِعطاءُ في زَمَنٍ فيهِ الطَّواغِيتُ كلُّ الكَونِ يَخشاها
يَبقى ضِياءُ الهُدى في الكَونِ يَحمِلُها للمَجدِ إن عَثَرَت يَوماً مَطاياها
ـــــــــــــــــــــــ
[1] شارون: المجرم اليهودي السفاك القاتل، رئيس وزراء اليهود عليه لعنة الله.
[2] آيات: هي آيات الأخرس الفتاة الباسلة التي فجَّرت نفسَها بين اليهود فأوقعت فيهم مَقتَلة رحمها الله رحمة واسعة.
[3] هو الشيخ أحمد ياسين رحمه الله.
[4] هو الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي رحمه الله.
[5] هو الشيخ أحمد ياسين رحمه الله.(/6)
العنوان: بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجرته ووفاته
رقم المقالة: 641
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً مزيدا.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحمدوا ربكم على ما أنعم به عليكم من بعثة هذا النبي الكريم الذي أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور وهداكم به من الضلالة وبصركم به من العمى وأرشدكم به من الغي فلله الحمد رب العالمين.(/1)
لقد بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل على رأس الأربعين من عمره فجاءه الوحي وهو يتعبد في غار حراء وهو الغار الذي في أعلى الجبل المسمى جبل النور شرقي شمال مكة على يمين الداخل إليها فأول ما نزل عليه قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ثم ذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل وكان ورقة قد دخل في دين النصارى وعرف الكتاب فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بما حصل له من الوحي فقال ورقة يا ليتني فيها جذعاً يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أومخرجي هم. استبعد - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجه قومه من بلاده فقال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثم أنزل الله تعالى على رسوله بعد أن فتر الوحي مدة: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1-5]فقام - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه فبشر وأنذر وكان أول من أجابه من غير أهل بيته أبو بكر رضي الله عنه وكان صديقاً له قبل النبوة فلما دعاه - صلى الله عليه وسلم - بادر إلى التصديق به وقال بأبي وأمي أهل الصدق أنت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصار من دعاة الإسلام حينئذ فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم ومكث - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس سراً حتى نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، فصدع بأمر الله تعالى وجهر بدعوته فجعلت قريش تسخر به وتستهزئ به ويؤذونه بالقول وبالفعل وكان من أشد الناس إيذاء له وسخرية به(/2)
عمه أبو لهب الذي قال الله فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخر السورة حتى بلغ من إيذائهم له أن ألقوا عليه فرث الناقة وسلاها وهو ساجد فلم يقدر أحد على رفعه عنه فلم يزل ساجداً حتى جاءت ابنته فاطمة فألقته فلما رأى - صلى الله عليه وسلم - استهانة قريش به وشدة إيذائهم له ولأصحابه خرج إلى أهل الطائف يدعوهم فقابل رؤساءهم وعرض عليهم فردوا عليه رداً قبيحاً وأرسلوا غلمانهم وسفهاءهم يقفون في وجهه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه صلى الله عليه وسلم فرجع عنهم ومد يد الافتقار إلى ربه فدعا بدعاء الطائف المشهور: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)) ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على عبادة الله وحده لا شريك له وأن يمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فأذن الله لرسوله بالهجرة إليهم فهاجر في شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه وكان بصحبته أبو بكر فاختفيا في غار ثور ثلاثة أيام والمشركون يطلبونهم من كل وجه حتى كانوا يقفون على الغار الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فيقول أبو بكر يا رسول الله والله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحزن إن الله معنا ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) فلما سمع بذلك الأنصار جعلوا يخرجون كل يوم إلى حرة المدينة يستقبلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يردهم حر الظهيرة فكان اليوم الذي قدم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم هو أنور يوم وأشرفه فاجتمعوا إلى رسول(/3)
الله - صلى الله عليه وسلم - محيطين به متقلدين سيوفهم وخرج النساء والصبيان وكل واحد يأخذ بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يكون نزوله عنده وهو يقول دعوها فإنها مأمورة حتى إذا أتت محل مسجده اليوم بركت فيذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل فقامت فسارت غير بعيد ثم رجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحللت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسكن دار أبي أيوب الأنصاري حتى بنى مسجده ومساكنه ثم بعد ذلك أذن الله له بقتال أعدائه الذين كانوا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون فأظهره الله عليهم وأيده بنصره وبالمؤمنين ولما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين اختاره الله لجواره واللحاق بالرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فابتدأ به المرض في آخر شهر صفر وأول شهر ربيع الأول فخرج إلى الناس عاصباً رأسه فصعد المنبر فتشهد وكان أول ما تكلم به بعد ذلك أن استغفر للشهداء الذين قتلوا في أحد ثم قال: ((إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله)) ففهمها أبو بكر رضي الله عنه فبكى وقال: بأبي وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وأنفسنا وأموالنا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((على رسلك يا أبا بكر ثم قال: إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن خلة الإسلام ومودته وأمر أبا بكر أن يصلي بالناس)) ولما كان يوم الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة اختاره الله تعالى لجواره فلما نزل به جعل يدخل يده في ماء عنده ويمسح به وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم شخص بصره نحو السماء وقال: اللهم في الرفيق الأعلى فتوفي يوم الاثنين فاضطرب الناس عند ذلك وحق لهم أن يضطربوا حتى جاء أبو بكر(/4)
رضي الله عنه فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ((أما بعد فإن من كان يعبد محمداًً فإن محمداًً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}))؛ فاشتد بكاء الناس وعرفوا أنه قد مات فغسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثيابه تكريماً له ثم كفن وصلى الناس عليه أرسالاً بدون إمام ثم دفن ليلة الأربعاء صلوات الله وسلامه عليه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144،145].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(/5)
العنوان: بعد عام من الحصار...
كيف يعيش الفلسطينيون بدون رواتب؟!
رقم المقالة: 780
صاحب المقالة: نورا الشريف
-----------------------------------------
أثمر فوز حركة المقاومة الإسلامية حماس في الانتخابات التشريعية المنعقدة في السادس والعشرين من يناير 2006م، وما ترتب عليه من تأليف الحركة للحكومة؛ حالة من المقاطعة الاقتصادية من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي، والولايات المتحدة الأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي؛ أثرت - إلى حد كبير - على الاقتصاد الفلسطيني، خاصة أن الجهات التي أعلنت مقاطعتها من المصادر الأساسية لتمويل ميزانية الحكومة.
ولعل أهم مصادر تمويل حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية تتمثل في مستحقات الضرائب، التي تقوم إسرائيل بجبايتها من الاستيراد الفلسطيني، والتي تتجاوز 60%، ومن ثمَّ إعادتها إلى وزارة المالية الفلسطينية، وفقاً لـ (بروتوكول) باريس الموقع في إبريل عام 1994م، ناهيك عن الضرائب المباشرة، وكذلك مساعدات الدول المانحة البالغة نصف مليار سنوياً، التي تقدمها لتمويل مشاريع الإعمار، وإعادة تأهيل وبناء البنى التحتية؛ التي تجاهلتها إسرائيل سنوات طويلة.(/1)
الأوضاع الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية، منذ توقيع (بروتوكول) باريس 1994م، وحتى قيام انتفاضة الأقصى عام 2000م؛ كانت تسير على وتيرة جيدة، وشهد الاقتصاد الفلسطيني تطوراً ملموساً، ولكن ما إن اندلعت انتفاضة الأقصى حتى امتنعت إسرائيل عن دفع مستحقات جباية الضرائب للسلطة، وتراجع النشاط الاقتصادي بسبب التدمير والتخريب، وأضحت السلطة الفلسطينية غير قادرة على تمويل مصاريفها الحكومية من مواردها الذاتية "الضرائب المباشرة والضرائب التي تجمع عن طريق إسرائيل"، واتجهت إلى تمويلها من مساعدات الدول المانحة، التي تضاعفت لتصل إلى مليار دولار في السنة، فأثمر حالة من الانتعاش النسبي في الاقتصاد الفلسطيني؛ زاد في العامين 2004م، و2005م؛ بعد أن شهدت الساحة الفلسطينية شيئاً من الهدوء، واستأنفت إسرائيل من جديد دفع مستحقات السلطة من الضرائب.
ولكن مع فوز حركة حماس بالانتخابات وتأليفها الحكومة؛ تدهور القطاع الاقتصادي، ودخل في أزمات لم يستطع حتى الآن الخروج منها، فإسرائيل - التي أعلنت مقاطعتها للحكومة - توقفت من جديد عن دفع مستحقات السلطة من الضرائب، وتوقفت معها الدول المانحة عن تقديم مساعداتها، فانقطعت رواتب الموظفين ما يزيد عن أحد عشر شهراً، وتقلص حجم الخدمات العامة.
تفاقم التدهور الاقتصادي..
تسببت المقاطعة الاقتصادية لحكومة حماس المنتخبة في خسارة كبيرة جداً تجاوزت الـ 40% مقارنة بما كانت عليه المساعدات في العام 2005م، إذ بلغت المساعدات التي تلقتها الحكومة من الولايات المتحدة وكندا - وقتها - قريباً من ربع مليار دولار، في حين لم تتجاوز عام 2006م الـ90 مليون دولار فقط، كما انخفض حجم المساعدات التي تلقتها الحكومة من الاتحاد الأوربي من 46% عام 2005م إلى 33% عام 2006م.(/2)
كما ازداد تأثير المقاطعة الدولية على الاقتصاد الفلسطيني في العام 2006م؛ حيث كابد خسائر جمة بلغت أكثر من مليار دولار، متمثلة في: 470 مليوناً من المساعدات، و600 مليون من مستحقات الضرائب عند إسرائيل، وهي تعدل ربع الناتج المحلي الإجمالي لعام 2005م؛ وفقاً لتقديرات معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)؛ الذي أكد تراجع النشاط الاقتصادي الفلسطيني في كافة المجالات، خاصة الناتج المحلي الإجمالي، إذ غدا أقل مما كان عليه عام 2005م بـ 5% تقريباً، فتسببت في انخفاض في متوسط دخل الفرد بلغت نسبته 8.5%، وأدى إلى ارتفاع معدلات البطالة بين أبناء الشعب الفلسطيني فزادت عن 60%، إضافة إلى حالة الفقر المدقع التي رزحت تحتها الأسرة الفلسطينية تعاني عجزها عن تأمين حاجاتها الأساسية، خاصة مع انقطاع الرواتب مدة تزيد عن أحد عشر شهراً؛ تم تخفيف وطأتها ببعض السلف والاستقطاعات من الرواتب، لكنها لم تنه الأزمة بعد قط.
موظفون بلا رواتب!!
يقدر عدد موظفي الحكومة بما يزيد عن 160 ألف موظف؛ كانت عملية تأمين رواتبهم العقبة الأساسية أمام الحكومة السابقة - ولا تزال - إذ إنها قفزت من 70 مليون دولار في يونيو 2005م إلى 120 مليون دولار حتى مارس 2006م.
ويشكو موظفو القطاع الحكومي انقطاع الرواتب، وعجزهم عن تأمين متطلبات أسرهم الأساسية؛ فهذا المواطن أبو أحمد - موظف في أحد الأجهزة الأمنية - أثقلت الديون كاهله بفعل انقطاع الرواتب، يقول الرجل: إنه بات غير قادر على توفير حاجات أسرته، ولم يعد يجرؤ على طلب الإعانة بالدين من قريب أو صديق؛ فالجميع يعانون معاناته ذاتها، مشيراً إلى أن ما يتلقونه من سلف واستقطاعات من رواتبهم لا تعينهم على تأمين سبل العيش الكريم، مطالباً بضرورة توجه حكومة الوحدة الوطنية إلى العالم الخارجي لفك الحصار والخناق المطبق على الفلسطينيين.
وضع مالي صعب..(/3)
في حوار خاص مع موقع الألوكة؛ وصف الناطق باسم الحكومة الفلسطينية د. غازي حمد؛ الوضع المالي لحكومة الوحدة الفلسطينية بأنه لا يزال صعباً قاسياً، ويتمثل في عجزٍ تجاوز ملياري دولار، موزعة على الديون وتراكم الرواتب واستحقاقات القطاع الخاص.
وأردف قائلاً: "أعتقد أن وزير المالية يعي جيداً المشكلة في ذلك، خاصة أن الحصار لا يزال قائماً لم يخفف حتى الآن على النحو الذي أراده وتمناه الشعب الفلسطيني، غير أن تحركات جدية انطلقت في هذا الاتجاه، سواء من قبل مؤسسة الرئاسة ممثلة بالرئيس الفلسطيني أبي مازن، أو رئيس الوزراء إسماعيل هنية، أو وزير المالية سلام فياض، أو وزير الخارجية زياد أبو عمرو".
وأضاف: "نعمل بجهد كبير لفك الحصار، ومن ثَم استئناف المساعدات الأوروبية والدعم المالي العربي، إضافة إلى محاولتنا إعادة ترتيب الوضع الاقتصادي الفلسطيني؛ ليحقق الأمن الاقتصادي للفلسطينيين جميعاً".
وعلق: "إن الأمر ليس سهلاً، وتحيط به الكثير من المشاكل والعقبات، غير أن وزير المالية بإمكانه التصرف؛ إذ بدأ يتعامل مع الكثير من الدول الأوروبية والإدارة الأمريكية، وفي هذا الصدد نحاول الآن أن نضع تصور كيفية حل تدريجي للموضوع المالي، وعلى رأسه موضوع الرواتب المستحقة للموظفين على الحكومة الفلسطينية"، مؤكداً أن الخطوة الأولى لحل الأزمة الاقتصادية هي العمل الجاد الحثيث لتنظيم دفع رواتب الموظفين، حتى تمتص حالة الاحتقان والإحباط الداخلي التي تسببت في ضعف الدخول، ومن ثم الاتجاه نحو القضايا الأكثر تعقيداً كالمستحقات والنفقات للوزارات.
مليار يورو..(/4)
من جانبه ألمح د. سلام فياض - لدى لقائه مفوضة العلاقات الخارجية (بينيتا فيريرو فالدنر) - أن "حكومة الوحدة الوطنية تحتاج إلى مساعدة دولية تتجاوز 1300 مليون دولار، أي ما يعدل مليار يورو؛ لتخطي أزمة إنسانية مدمرة"، على حد تعبيره، مؤكداً أن وزارته لا تملك "سوى ربع الموارد المالية اللازمة للتغلب على الأزمة المالية الخطيرة" التي يعانيها الفلسطينيون، مطالباً - للضرورة - بمساهمة الدول العربية في العمل لتجاوز الفلسطينيين أزمتهم.
كما أكد فياض أنه يتوقع أن تتجه الإدارة الأمريكية إلى رفع قيودها المصرفية على المساعدات المقررة لوزارة المالية الفلسطينية، التي كانت فرضتها العام الفائت مع وصول حماس إلى السلطة، واعتبر وزير المالية الفلسطيني أن الاجتماعات مع الجانب الأمريكي "تعطي أملاً بأن واشنطن ستفك هذه القيود"، وهو ما سيسمح للمصارف الأوروبية والعربية بتحويل المساعدات، دون الخضوع للضغوط الدولية، أو عقوبات السوق المالية.(/5)
العنوان: بعدما فازت حماس!
رقم المقالة: 1560
صاحب المقالة: زياد بن عابد المشوخي
-----------------------------------------
منذُ الفوز الكبير الذي حققته حركةُ المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات التشريعية، لم تتوقف التحليلاتُ والآراء؛ بين مؤيد لتلك المشاركة، أو معارض لها، أو متوجسٍ خيفةً من نتائجها وتداعياتها، وسواء أكانت تلك الآراءُ قد صدرت من مؤيد للحركة ومتعاطف معها أم غير ذلك، وسواء أكان الدافع لها تبني رأي فقهيٍ ما، أم استصحاب نتائج وتجارب سابقة وقياسها على واقع التجربة الفلسطينية.
وهنا ينبغي التأكيد أن مشاركة الحركة لم تكن مجرد قرار غير مدروس، بل جاءت بعد فتوى الجهة الشرعية المختصة، ودراسة كل التوقعات على أرض الواقع، ولم تكن المشاركة الأولى للحركة في الانتخابات بشكل عام، فقد شاركت في ظل السلطة، بل وفي ظل الاحتلال بالانتخابات النقابية والجامعية وغيرها، وتفوقت فيها، ولكن الظروف التي كانت قائمة أبرزت الجانب الجهادي للحركة، وساعدت على إخفاء تلك النتائج والتقليل من تأثيرها، مع كونها هي الأرضية الراسخة التي تمد المقاومة وتزيدها قوة واستمراراً.
وجاءت مشاركة الحركة في الانتخابات التشريعية بعد فوزها في الانتخابات البلدية ومطالبات كثيرة لها من قبل فصائل منظمة التحرير، بل حتى من داخل حركة (فتح) للمشاركة، ووعود لها بقبول النتائج مهما كانت.
كانت حركةُ (حماس) في نظرهم كالجريح الذي يسبح في دمائه، بعد أن قُتل قادتُها، واعتقل من تبقى منهم، أو أصبح -بفعل الإجراءات الأمنية- في تَعداد المبعدين، بالإضافة إلى حملة التهديدات الصهيونية أو الدولية المصاحبة للانتخابات لمنع التصويت لها، أما الخصم فهو حركة (فتح)، أي: السلطة والمال والأجهزة الأمنية، بل وغالبية الموظفين الذين أنفقت عليهم مدة تزيد عن عشر سنوات، وكل إجراءات الانتخابات ونظامها بيدها.(/1)
وسرعان ما تلاشت كلُّ التوقعات التي أصدرتها جهاتٌ بحثية واستخبارتية متخصصة بمراقبة الوضع الفلسطيني، وقد كانت حددت نسبةَ فوز الحركة بأنها لن تزيد عن 25%، إذ حققت الحركةُ فوزاً مزلزِلاً لا تزال تأثيراتُه تتصاعد، بعد أن أصبح لديها 74 نائباً في المجلس التشريعي من أصل 132، ولدى حركة (فتح) 45 فقط.
ولكن ما الذي جرى بعد الفوز؟ وما الذي ترتب على ذلك من نتائج؟
لقد تحققت الكثير من النتائج، ومنها:
أن الشعب الفلسطيني المسلم.. أعلن بذلك موقفَه من المقاومة وتمسُّكَه بما تدعو له الحركةُ من حق للعودة، وعودة للقدس وللأراضي المحتلة، وكذلك وقوفه معها في برنامجها الإصلاحي للقضاء على الفساد ورموزه، وبعدما فازت (حماس) تعلم الجميعُ كيف يمكن الجمعُ بين المقاومة السياسية والمقاومة العسكرية، فنُفِّذت أقوى وأجرأ وأطول عملية أَسْر لجندي يهودي في تاريخ الصراع مع اليهود، لتكون حكومتها الحكومة الأولى التي تقوم بخطوات عملية للإفراج عن الأسرى والأسيرات.
وبعدما فازت حماس.. فتحت ملفات الفساد السوداء، وقطعت الطريق على أولئك الذين كانوا يقتاتون من جراح الشعب الفلسطيني، ويسرقون أمواله، ويتلاعبون بمصيره وبقضاياه، ويتاجرون بها في المحافل الدولية.(/2)
وبعدما فازت حماس.. ظهرت حقيقة الديمقراطية الغربية والأمريكية، التي لخصها (دينيس روس) -الذي كان مبعوثًا خاصًا للسلام بالشرق الأوسط- بقوله: "من حق الناخبين (في الشرق الأوسط) أن يختاروا من يشاءون، ومن حقنا أن نتعامل مع من نشاء، فالانتخابات لا تصنع ديمقراطية، وليس علينا أن ندعم من يرفضون معتقداتنا"، ومنذ تلك اللحظة صرح بالمؤامرة القادمة على الشعب الفلسطيني فقال: "إن الإدارة الأمريكية لديها الكثير من أدوات الضغط؛ لأن حركة حماس سيكون عليها الوفاء بالكثير من الاحتياجات اليومية للفلسطينيين، وستحتاج لمن يدعمها ويقدم لها المساعدات بعد تسلمها السلطة"، وأما ما حذر منه روس من: "أن عدم الضغط على الحركة لكي تعدل مواقفَها سيعني أن العالم بمرور الوقت هو الذي سيعدل مواقفَه ليصبح خطابُ حماس (المتشدد) مقبولاً"، هو ما وقع بفضل الله، وما تلك العريضةُ التي وقعها مفكرون وأكاديميون في الكيان الصهيوني -خلال الأسبوع المنصرم- للمطالبة بالتفاوض المباشر مع (حماس) إلا مؤشرٌ على أنها أصبحت واقعاً في نظر الصهاينة أنفسهم، فضلا عن حلفائهم.
وبعدما فازت حماس.. ظهر للجميع براعتُها السياسية الفائقة في تجاوز الأزمات والتقليل من أضرار الحصار، فاستطاعت أن تقوي علاقاتها واتصالاتها مع الأطراف العربية وغير العربية وتفتح المزيد منها، التي ترسخت قناعاتها بخيارات الحركة وطريقة إدارتها للصراع مع الكيان الصهيوني، وإن كانت بعض الأطراف لا تزال غير قادرة على أن تتبنى خيارات الحركة جهاراً بسبب الضغوط التي تمارسها الإدارةُ الأمريكية ومقايضتها لها وربطها مصالحَ تلك الأنظمة معها بتعاملها ومواقفها من هذا الكيان.(/3)
وقد جاءت تصريحاتُ أحد المسئولين العرب لتذكّر الغرب بمبادئهم التي طالما دعوا لها، وأعرب عن ثقته بأن حركة (حماس) سوف تتصرف بمسؤولية... وأضاف: "لقد أصر الاتحادُ الأوربي على إقامة انتخابات في فلسطين، وهذه نتيجة ما طالبوا به. أما أن يعودوا ويقولون: إنهم لا يقبلون مشيئة الشعب التي عبروا عنها بالوسائل الديمقراطية، فهذا موقف غير عقلاني".
وحوصر الشعبُ كله لعله ينقلب على حركته، إلا أنه ازداد قوة ووقوفاً مع خيارات الحركة ومنهاجها الإسلامي المعتدل، متناسين أن الحركة فازت في أكثر المناطق تضرراً من قضية الصواريخ، مما يدل على أن العدوان الصهيوني لن يزيد المستضعفين إلا تمسكاً بالحقوق ودعماً للمقاومة.
وبعدما فازت حماس.. اضطُرّ العلمانيون في فلسطين إلى عقد الاتفاقيات في مكة لا في واشنطن ولو مؤقتاً، ليظهر لاحقاً حقيقةُ مَنْ سرقوا حركة (فتح) داخلياً وخارجياً، وتخرج تصرفاتهم عن السيطرة ويكشفوا عن وجههم البشع، ويفضحوا أنفسهم، ويمهدوا الطريق لتحرر غزة منهم، وليقطع دابر القوم الذين ظلموا بعد غدرهم ونقضهم للاتفاق، ولتنتهي بلا رجعة –بإذن الله– سنوات الخيانة المغلفة بغلاف التنسيق الأمني، وفي أحيان أخرى بلا غلاف أصلاً، وحتى بعد التحرير والحسم العسكري فقد تعلم الناس معنى العفو عند المقدرة عندما أصدرت حماس العفو العام عن قادة الانقلاب السابقين، لتشل بعد ذلك حركة العملاء في غزة، ولتشل معها يدَ الاحتلال التي كانت تعتمد عليهم، لتخرج بعد ذلك الوثائق والمستندات، ليظهر للقاصي والداني حقيقةُ المتآمرين وفضائحهم، وتَبَيَّنَ مَن بكى مِمَّن تباكى على القضية والشعب والقدس والحقوق واللاجئين، وأمسى المرابطون والمقاومون يتنقلون في كل مكان من غير خوف من الطعنات من الخلف، فقد أضحت السلطة مظلة للمقاومة وحامية لهم.(/4)
وبعدما فازت حماس.. أدرك الأعداء والأصدقاء أن الإسلام الذي تتبناه الحركة هو خيار الشعب الفلسطيني، بل هو خيار الشعوب الإسلامية في كل أنحاء العالم الإسلامي، التي تفاعلت مع فوز الحركة بالقدر الذي سُمح لها به، واستطاعت الحركة أن تطرح نماذج عملية وواقعية لكيفية الحكم والعدل والتعايش مع هموم الناس، وقد كان ذلك صدمة للإدارة الأمريكية والغرب، وأذنابهم من العلمانيين في العالم العربي، في حين ابتهجت القلوب المؤمنة وفرحت بمشاهد لرئيس الوزارء إسماعيل هنية وهو يعتلي المنبر في خطبة الجمعة، أو يعقد المؤتمر الصحفي لرئاسة الوزراء بعد صلاة الجمعة، أو مؤتمر وزارة الداخلية في المسجد، أو مشهده وهو يصلي إماماً بالناس في صلاة التراويح، وهو ما زال يسكن في مخيم الشاطئ للاجئين، وغيرها من المشاهد التي كانت قائمة في السابق ولم تغيرها السياسة.
وعندما حكمت حماس.. أنشئ المجلسُ الأعلى للعدل، وعادت الأموال والأملاك المغتصبة إلى أهلها، و انتشرت النشاطات الدعوية وحلقات تحفيظ القرآن الكريم انتشارًا كبير جداً وغير مسبوق.(/5)
ألا يكفي الحركةَ فخراً أن حكومتها هي الحكومةُ الوحيدة التي تمسكت بكل الحقوق والثوابت، وبالهوية الفلسطينية لكامل الأرض المحتلة، وبإسلامية القدس، وبحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، ورفضت كل المساومات الداعية لإسقاط حقوق الشعب الفلسطيني، لقد أظهرت بجلاء أنه لا شرعية لأي رمز أو قيادةٍ تقدِّم تنازلا عن أي حق من حقوق الشعب الفلسطيني وثوابته، وأن كل الداعين لإسقاط تلك الحقوق لا يمثلون الشعب الفلسطيني، ولا شرعية لهم، فأفسدت المؤامرة السياسية التي كانت تدور عليها، حتى إن أسمى ما كان يتمنى حصولَه المتآمرون لم يحصلوا عليه، جيمي كارتر -الرئيس الأمريكي الأسبق- علق بعد فوز حماس قائلاً: "إذا أقرت حكومة حماس الجديدة بأحقية إسرائيل في الوجود، والعيش في حدود 67م فسيُعد ذلك خطوة محورية في الاتجاه الصحيح، وهذا أقصى ما نستطيع انتزاعه منها".
ماذا بعد؟ وها هو ذا الكيان الصهيوني يهدد غزة بالاجتياح، في حين تقبع القدس والضفة في أسرهم، وتستمر سياسة الحصار والتجويع والاغتيالات والاعتقالات.
ولكي نكون أكثر واقعية وإنصافاً فإن الحصار والاغتيالات والاعتقالات لم تتوقف ضد أهلنا في فلسطين، ولم ترتبط بفوز الحركة، إلا أن وتيرتها تزداد أو تقل، وما زال أهلنا يستذكرون المجازر ومنع التَّجْوال، أو إغلاق المعابر وغيرها من الممارسات الوحشية في الانتفاضة الأولى والثانية، إلا أن الذي تغير هو أن المقاومة اليوم أصبحت قادرة على توجيه الضربات الموجعة للاحتلال، وأن تجعله يدفع ثمن جرائمه، وأن ينحسر مشروعه بانسحابه من قطاع غزة، والمزيد من الأراضي، وأصبح الاحتلال يتعلق بمؤتمر قادم محكوم عليه بالإخفاق منذ أعلن عنه، أو يبني الآمال على ما تبقى من أذنابه الذين لا يملكون شيئاً خارج مقارّهم ومقاطعاتهم.(/6)
ولنا أن نتصور -بعدما وجد في المقارّ الأمنية من أسلحة ووثائق ومستندات، وما وجد خارجها من أوكار للفساد والمخدرات- ما كانت الأمور ستؤول إليه لو لم تقم حماس بهذه الخطوة الجريئة والحاسمة والضرورية.
لكن الذي أخشاه حقيقية هو أن يفوتنا شرف المشاركة ونصرة إخواننا المستضعفين، وهنا لابد أن أذكر نفسي وإخواني بأننا لا ينبغي لنا أن نخذل إخواننا، وعلينا أن نتذكر قول نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَا مِن امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِن امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَه)) أخرجه أبو داود، والإمام أحمد في مسنده.(/7)
العنوان: بعض شروط البيع
رقم المقالة: 747
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أباح لنا من التعامل كل معاملة مبنية على العدل والصدق والبيان وحرم علينا كل معاملة مبنية على الظلم والكذب والكتمان، ونظم لنا طرق التعامل أحسن نظام وأكمله حتى كان ذلك النظام كفيلاً للتعايش بين الناس بالمحبة والألفة والرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أحسن كل شيء خلقه وأحكم كل نظام شرعه وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل النبيين وإمام المتقين وحجة الله على الخلق أجمعين المبعوث رحمة للعالمين وقدوة للعاملين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن هذا الدين دينكم الذي تفتخرون به، وحق لكم أن تفتخروا به فإنه الدين الذي نظم للعباد سبل معاملتهم مع الله ومعاملتهم مع عباد الله، فكما أن الله شرع لكم عبادات تتعبدون الله بها على حسب ما أمركم به وأرشدكم إليه، وأنكم لا يمكنكم أن تعبدوا الله إلا بما رضيه وشرعه لا يمكنكم أن تعبدوه بما تهواه أنفسكم، فكذلك أذن لكم في معاملات تتعاملون بها فيما بينكم على حسب ما أباحه وأذن به لا على حسب ما تريدون وتشتهون. فالبيع له شروط شرعية، والإجارة لها شروط شرعية، والهبة والرهن والوقف وغيرها كل ذلك له شروط يجب اعتبارها والتعامل على وفق حدودها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون.(/1)
أيها الناس إن أكثر المعاملات وقوعاً هو البيع والشراء، وإن للبيع والشراء شروطاً لا بد منها إذا فقدت أو فقد بعضها لم يصح البيع، فمن تلك الشروط أن لا يشتمل العقد على غرر فإن كان في العقد غرر فهو باطل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر. فمن الغرر أن يكون الثمن مجهولاً أو السلعة مجهولة. وقد سمعنا أن بعض الناس يجمع أنواعاً من السلع مجهولة العدد مختلفة القيمة فيبيعها جميعاً بسعر واحد، وهذا جهالة واضحة، فإن السلع الرخيصة قد تكثر فيكون المشتري مغبوناً، وقد يكون الأمر بالعكس فيكون البائع مغبونا، وقد يكون البائع عالماً بالأمر ولكن يريد تغرير المشتري وخداعه، كما سمعنا أن بعض الناس يبيع جميع ما في دكانه بسعر واحد والمشتري لا يدري ما قدر كل سلعة فيه، وهذه جهالة وغرر حرام باطل لا يجوز الإقدام عليه، سمعنا أنه باع دكانه كل حبة منه بريال، فلما أحصوه ظهر كيس السكر بريال وصندوق الكبريت بريال وبقية الأنواع على ريال، وهم حين العقد لا يعلمون كم عدد السكر مثلاً وكم عدد الكبريت وكم عدد الأنواع الأخرى، فيا سبحان الله كيف يشكل على هؤلاء أن هذا غرر ومخاطرة؟ فقد يربح المشتري ربحاً كثيراً وقد يخسر خسارة كبيرة، يا سبحان الله كيف يقع هذا علنا؟ إن كان وقع علناً ولا ينكره أحد، إن هذا لشيء عجيب! ألم تعلموا أيها المسلمون أن هذا نوع من الميسر وقد قرن الله الميسر بالخمر وعبادة الأصنام فقال {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90،91] أيها المسلمون إن هذا العمل لموقع للعداوة(/2)
والبغضاء، فإن الخاسر من البائع أو المشتري في هذه الصورة يقع في قلبه من الهم والغم والحزن والنظر إلى أخيه بعين السخط ما لا حاجة إليه، وإن الواجب على من وقع منه ذلك أن يتوب إلى الله وأن يفسخ العقد ويرد السلعة إلى صاحبها ويأخذ الثمن إن كان قد سلمه.
ومن شروط العقود أن تكون برضى من الطرفين، فمن أخذ ماله بغير رضا منه ببيع أو إجارة أو غيرهما فالعقد حرام باطل إلا أن يكون ذلك بطريق شرعي.
فاتقوا الله أيها المسلمون وتمشوا في معاملتكم على الوجه الذي أذن لكم فيه ربكم، ولا تتعدوا حدوده فتهلكوا، واعلموا أن كل مال كسبه الإنسان أو أخذه بغير طريق حلال فلا خير فيه ولا بركة، بل هو شر ووبال على صاحبه إن أنفقه لم يبارك له فيه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن خلفه بعده كان زاداً له إلى النار، وإن تغذى به فدعا الله فلن يستجاب له، وباب التوبة للتائبين مفتوح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/3)
العنوان: بعض من الآداب الإسلامية
رقم المقالة: 676
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي بين لنا أفضل المسالك وأحسن الآداب ووفق من شاء من عباده لسلوكها وهو الحكيم الوهاب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وإليه المرجع والمآب، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي قام بالأخلاق الفاضلة، وأتمها، وحذر أمته من سفاسفها وأرذلها صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بآدابه، وانتهجوا مناهجها، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أن ما يتصف به الناس من الأخلاق على وجهين: فأخلاق فاضلة شريفة حث الدين عليها، وأمر بها، وأخلاق رذيلة سافلة حذر عنها، وزهد بها ألا وإن من الأخلاق الفاضلة بر الوالدين بالإحسان إليهما قولا وفعلا في الحياة، وبعد الممات ألا وإن من برهما بعد الموت الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ وصيتهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهماً، ومن الأخلاق الفاضلة صلة الأرحام، وذلك بتعاهدهم بالبر والإنفاق ولطف الكلام، فإن من وصل رحمه وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، ومن الأخلاق الفاضلة حسن الجوار، وذلك بإكرام الجار، والتودد إليه بلطف القول له، والهدية إن كان غنياً، وبالصدقة إن كان فقيراً، فما زال جبريل يوصي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجار حتى ظن أنه سيورثه، وحتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر رضي الله عنه: ((إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك))، ومن الآداب الإسلامية الفاضلة: إفشاء السلام، وإظهاره بأن تقول لأخيك المسلم: السلام عليكم، وتشير مع ذلك للبعيد، ولمن لا يسمع، ومن يسلم مرة، فليعدها ثلاثاً، ومن رد السلام، فليقل: وعليكم السلام، ولا يقتصر على قول: أهلاً وسهلاً، ويسلم الصغير على الكبير، والراكب على الماشي، والماضي على القاعد، والقليل على الكثير، وأولى الناس بالله من يبدؤهم السلام، ومن الآداب العالية: ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من حقوق بعضهم على بعض، فقد أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بسبع؛ بعيادة المريض واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار المقسم يعني: أن من حلف عليك أن تفعل شيئاً، فمن حقه عليك أن تبر بيمينه، ولا تحنثه، ومعنى تشميت العاطس أن تقول لمن عطس، وحمد الله: يرحمك الله، ويجيبك بقوله: يهديكم الله، ويصلح بالكم. ألا وإن من الآداب الفاضلة لين الجانب،(/2)
وبشاشة الوجه، وسماحة الخلق، وأن لا يضمر لإخوانه المسلمين بغضاً، ولا حسداً، ولا غلاً، لينال بذلك حباً منهم، وإجلالاً، وقرباً، ومن حسن الأخلاق حسن السلوك في المعاملات بأن يكون المرء سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى ما عليه، سمحاً إذا اقتضى، وان يكون وافياً بما شرط عليه من الشروط الصحيحة، ولا يتحيل على إسقاطها بأنواع الحيل الباطلة الخسيسة.
ألا وإن من الأخلاق الفاضلة: التأديب بالآداب عند الأكل والشرب، فليسم الله عند الأكل والشرب، وليحمد الله تعالى إذا فرغ، وليأكل باليمين، ويشرب باليمين، فإن الأكل بالشمال، والشرب بالشمال من التشبه بالشياطين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}. وفقني الله وإياكم لأحسن الأخلاق وأقومها، ورزقنا بمنه القيام بعبادته فرائضها وسننها، وتوفانا على التوحيد والإيمان، وأعاذنا من الشرك والطغيان والعصيان إنه جواد كريم رؤوف رحيم.(/3)
العنوان: بُكائيّات..
رقم المقالة: 1876
صاحب المقالة: مصطفى قاسم عباس
-----------------------------------------
• لا تسأل اللهَ أن يُحزنك حتى تملك قلباً رقيقاً، وعيناً دامِعة، فرُبما يؤدّي تراكمُ الأحزان إلى قسوة في القلب، وبَلادةٍ في الشعور...
ولكنْ سَلِ اللهَ أنْ يجعل لك قلبًا معتبراً عندما يرى الأحزان، وعيناً دامعة عندما ترى مصيبة عظيمة تحل بأخيك الإنسان.
• ما ألطفك أيها البكاء!!
فلولاك لانفجرت قلوبُ كثير من الناس، ولولاك لحُبست دموع الأنهار في مجاريها، ولولاك لما رأينا دموعا تقرّح الجفون، وتنطلق من المآقي كمن أصبح حرًّا بعد أن كان في غياهب السجون.
• ما وجدتُ شيئًا يريح النفس كالبكاء، وما وجدت شيئًا يَقضي على الكبرياء كالبكاء!
• يُعذر الإنسان عندما يبكي لسبب ما، ولكنْ؛ عندما يبكي بلا سبب، فلن يَعذُره إلا إنسان واحد: هو الذي اختلى يوما بنفسه، فسالتِ العبَرات، وانهمرت سحائبُ الجفون، وأخذ يبكي حتى ملّهُ البكاء، ورحِمه النحيب، يبحث عن سبب لبكائه فلا يجد، ويحاول أن يعلّلَ نفسه بعُذر مقْنع فلا يجد.
ثم يتذكر قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} سورة النجم، الآية 43, فيعلم أن البكاء والضحك آيتان من آيات الرحمن.
• لا يستطيع الإنسان أن يبكي بعين، ويَضحك بالأخرى، أما القلب فربما يبكي ويضحك في وقت واحد!
• أحياناً يحاولَ الإنسان أنْ يبكي فلا يستطيع، وأحيانًا لا يريد أن يبكي فلا يستطيع أن يوقف تدفق سيل الدموع!!
ـــــــــــــــــــــ
يسرّنا أن نشكر الأستاذ مصطفى عباس، وأن نرحب به في طليعة كتّاب الألوكة في قسمنا الجديد (حضارة الكلمة)..
وننتظر منه المزيد من إنتاجه الثرّ المتميز في الشعر والنثر.
- نبذة عن الكاتب:(/1)
الأستاذ/ مصطفى قاسم عباس، داعية وخطيب ومعلِّم، وشاعرٌ إسلامي، من مدينة حماة. يحمل إجازة من كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق. له من المطبوع: ديوان (صور من مأساتنا) طـ: مطبعة اليمامة في حمص، وديوان (بدر الدُّجى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم) طـ: 2007.(/2)
العنوان: بل الله فاعبد وكن من الشاكرين
رقم المقالة: 865
صاحب المقالة: رامي بن أحمد ذوالغنى
-----------------------------------------
{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66]
خطابٌ من الله جل جلاله إلى حبيبه وصفيِّه محمد -صلى الله عليه وسلم- يأمره أن يعبدَه وحدَه لا شريك له، وأن يجعلَ محور عبوديَّته لربه شُكرَه على نعمه الدينية والدنيوية.
قال السعدي رحمه الله: ((أخلص له العبادةَ وحدَه لا شريك له، وكن من الشاكرين على توفيق الله - تعالى- فكما أنه يُشكر على النِّعَم الدنيوية كصحَّة الجسم وعافيته وحصول الرزق وغير ذلك، كذلك يُشكر ويُثنى عليه بالنِّعَم الدينية كالتوفيق للإخلاص والتقوى، بل نِعَمُ الدين هي النِّعَمُ على الحقيقة، وفي تدبُّر أنها من الله – تعالى- والشكر لله عليها سلامةٌ من آفة العُجْب التي تَعرض لكثير من العاملين بسبب جهلهم)).
فهذا الخطاب من الله لنبيِّ الأمة، خطابٌ لكلِّ فرد من أفرادها، قال ابن كثير: ((أي أخلص العبادةَ لله وحدَه لا شريك له، أنت ومن اتَّبعك وصدَّقك))، فكان لزاماً على كلِّ مسلم أن يكونَ شكره ملازماً لعبوديته لربِّه، فمَن شكر الله كان عابداً له، ومن لم يشكره فليس من أهل عبادته، قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].(/1)
والخلقُ منقسمون إلى شاكر وكافر، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7]، وقال: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
ولما كان مقامُ الشكر من أجلِّ مقامات العبوديَّة لله عز وجل، كانت غايةُ إبليس الكبرى في إغوائه بني آدم أن يُخرجَهم من دائرة الشكر، قال - تعالى- مبيِّناً كيد الشيطان ومكرَه ودأبه في الإغواء وغايته؛ ليتَّخذه الناس عدوّاً ويحذروه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].
فما الشكرُ، وكيف يكون العبدُ شاكراً؟
قال الراغب الأصفهانيُّ رحمه الله: ((الشكر: تصوُّر النعمة وإظهارُها، ويُضادُّه الكفرُ، وهو: نسيانُ النعمة وسَترُها، ودابَّةٌ شكورٌ: مُظهرةٌ بسِمَنِها إسداءَ صاحبها إليها، وقيل: أصلُه من عَينٍ شَكرى، أي: مُمتلئة، فالشكرُ على هذا هو الامتلاءُ من ذِكر المنعَم عليه. والشكرُ ثلاثة أضرُب: شكرُ القلب، وهو تصوُّر النعمة، وشكرُ اللسان، وهو الثناء على المنعِم، وشكرُ الجوارح، وهو مكافأة النعمة بقَدر استِحقاقِه)).
وقال ابن القيِّم رحمه الله: ((الشكر مبنيٌّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبُّه له، واعترافه بنعمه، وثناؤه عليه بها، وألا يستعملَها فيما يكره)).(/2)
وقال الغزاليُّ رحمه الله: ((اعلم أن الشكرَ ينتظم من علم وحال وعمل، فالعلمُ معرفة النعمة من المنعم، والحالُ هو الفرح الحاصلُ بإنعامه، والعملُ هو القيامُ بما هو مقصود المنعم ومحبوبه)).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليتَّخِذ أحدُكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجةً صالحةً تُعينُه على أَمرِ الآخِرَة))، وقال: ((قلبٌ شاكر، ولسانٌ ذاكر، وزوجةٌ صالحة تُعينك على أمر دُنياكَ ودينك خيرُ ما أكنز الناس)).
وقد أمر الله نبيَّه بالشكر فقال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} [الضحى: 11]، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((التحدُّثُ بنعمة الله شكر وتَركُها كفر، ومَن لا يَشكرُ القليل لا يَشكرُ الكثير))، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ((اللهمَّ اجعَلني لكَ شَكَّاراً)).
وأما حالُه وهو سيِّد الشاكرين فقد وصفته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقالت: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلَّى قام حتى تَفطَّرَ رجلاه، قالت عائشة: يا رسولَ الله، أتصنع هذا وقد غفر الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! فقال: ((يا عائشةُ، أفلا أكونُ عبداً شكوراً)).
ومن وصاياه - عليه الصلاة والسلام- لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: ((لا تَدَعَنَّ في دُبُر كلِّ صلاةٍ أن تقولَ: أَعِنِّي على ذِكركَ وشكركَ وحُسن عبادتك))، والشكرُ كما قال بعض العلماء نصف الإيمان، ورُويَ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: ((الإيمانُ نصفُ صَبرٍ ونصفُ شكرٍ)).(/3)
قال ابن القيم رحمه الله: ((الإيمانُ اسمٌ لمجموع القول والعمل والنيَّة، وهي ترجعُ إلى شَطرين فعلٍ وتركٍ، فالفعلُ هو العمل بطاعة الله وهو حقيقةُ الشكر، والتَّركُ هو الصبر عن المعصية، والدِّين كلُّه في هذين الشيئين: فعلُ المأمور وتركُ المحظور))، وقال أيضاً: "وكلٌّ من الصبر والشكر داخلٌ في حقيقة الآخَر لا يمكن وجودُه إلا به، وإنما يعبَّر عن أحدهما باسمه الخاصِّ به باعتبار الأغلَب عليه والأظهَر منه، وإلا فحقيقةُ الشكر إنما يلتئم من الصبر والإرادة والفعل، فإن الشكرَ هو العملُ بطاعة الله وترك معصيته، والصبرُ أصل ذلك، فالصبرُ على الطاعة وعن المعصية عينُ الشكر، وإذا كان الصبرُ مأموراً به فأداؤه هو الشكر".
ومَن تأمَّل قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، علم أن غايةَ الخلق والأمر شكرُ الله عز وجل.
قال الغزاليُّ رحمه الله: ((اعلم أن العبدَ لا يكون شاكراً لمولاه إلا إذا استعملَ نعمته في محبته، أي فيما أحبَّه لعبده، وأما إذا استعمل نعمتَه فيما كرهه فقد كفر نعمته كما إذا أهملها وعطَّلها .. وفعلُ الشكر وتركُ الكفر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبُّه الله مما يكرهه))، وقال أيضاً: ((لم يقصِّر بالخلق عن شكر النعمة إلا الجهلُ والغفلةُ عن معرفة النعم، ولا يُتصوَّر شكر النعمة إلا بعد معرفتها، ثم إنهم إن عرفوا نعمةً ظنوا أن الشكرَ عليها أن يقول بلسانه: الحمد لله، والشكر لله، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن يستعملَ النعمة في إتمام الحكمة التي أُريدت بها وهي طاعةُ الله عز وجل، فلا يمنع من الشكر بعد حصول هاتين المعرفتين إلا غلبةُ الشهوة واستيلاءُ الشيطان".(/4)
ولا يزال العبدُ بخير ما تعرَّف نعمَ ربه واعترف بفضله عليه، وأقرَّ بافتقاره إليه، وكان على مراده جلَّ شأنُه في استعمالها فيما يُرضيه، وسواء في ذلك النعمُ الدينية والدنيوية، قال الحسن البصريُّ رحمه الله: ((مَن لا يرى لله عليه نعمة إلا في مَطعم أو مَشرب فقد قصر علمه وحضر عذابه)).
وحريٌّ بالعبد إن وفَّقه الله إلى الشكر، أن يشكرَه على ذلك، فالإعانةُ على الشكر نعمةٌ تستوجبُ الشكر، ولا يزال العبدُ بمزيد من ربِّه ما كان شاكراً لأنعُمه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
فاللهم أعنَّا على الشكر وأكرمنا بالمزيد حتى نلقاكَ وأنت راضٍ عنا في يوم المزيد، والحمد لله رب العالمين.(/5)
العنوان: (بلاك ووتر) والوجهُ الحقيقي لِلُّعبة الأمنية في العراق
رقم المقالة: 1472
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
أعلنت الحكومةُ العراقيةُ يومَ الاثنين أنها ألغت ترخيصَ إحدى أبرزِ شركاتِ الأمن الخاصة الأمريكية العاملة في العراق، وهو القرارُ الذي توقعت الكثيرُ من المصادر الغربية أن يتسبب في حدوث حساسية سياسية بين الحكومة العراقية وقوات الاحتلال الأمريكية، خاصة وأن قواتِ الاحتلال يتزايد اعتمادُها يوماً بعد يوم على قوات المرتزِقة من القطاع الخاص، الذين يؤمّنون العملياتِ الأمنية لكبار الشخصيات الأمريكية والعراقية في بلد لا تزالُ المقاومةُ المسلحةُ مستمرةً فيه، دون هوادة.
معظمُ المحلّلين السياسيين ذهبوا إلى أنَّ قرارَ إلغاءِ ترخيصِ شركة (بلاك ووتر) الأمريكية، سوف يؤدي إلى مزيد من التعقيد في العلاقات بين البيت الأبيض المستاء من حكومة المالكي، وبين الحكومة العراقية التي أعلن أعضاؤها يوم الثلاثاء وقوفَهم إلى جانب وزير الداخلية، في مطالبه بإغلاقِ وطردِ الشركة من العراق، ومحاكمةِ المسؤولين عن الحادث الأمني الذي وقع يوم الأحد 16 من سبتمبر الحالي.
ومع أن الحادث الذي أدى إلى مقتل 8 عراقيين من المدنيين، وجرح 13 آخرين، أحدَثَ تبعاتٍ كبيرةً على صعيد الحكومة العراقية، والعلاقات مع الولايات المتحدة، إلا أنه ليس إلا رقماً ضئيلاً في عدد الوفيات العراقية.
مئات الآلاف من القتلى:
على أقل تقدير، وحسبَ الإحصاء الهزيل الذي أعلنه الرئيسُ الأمريكي (جورج بوش) أواخر عام 2006، فإن عدد القتلى المدنيين في العراق بلغ نحو 30 ألفا، فقط.. بنسبة 24 قتيلاً يومياً, وذلك يجعل عدد القتلى في الحادث الأخير يمثلُ نسبة 33% فقط من عدد الوَفَيات اليومية في العراق، و2 بالألف من عدد القتلى الكلي.(/1)
أما حسَبَ تقديراتِ مجلة (لانست) الطبية العلمية، الذي أصدر إحصائيتَه عن عدد القتلى في العراق منذ بداية الحرب حتى يوليو 2006، فإن عدد القتلى بلغ 655 ألف عراقي، بعدد يومي من القتلى يصل إلى 534 قتيل. وذلك يجعل نسبة القتلى لا تمثلُ إلا 1.5% من عدد القتلى اليومي، وأربعة بالألف فقط من عدد القتلى الشهري!
هذا الرقم على قلته، ساعد في تصعيد الأزمة بين البيت الأبيض والحكومة العراقية، بعد سلسلة من التوبيخات التي أطلقها بوش وأعضاءُ حكومته لحكومة المالكي، التي تقفُ على قدم واحدة فقط، في وضع مهدد بالسقوط. لذلك فإن الرد العراقي المبالغ فيه على مقتل المدنيين الثمانية، قد يكون رد فعل غاضب من قبل حكومة المالكي للأمريكيين، جعل بعض الصحف الغربية تعد الرد الحكومي بمثابة "صفعة كبيرة للخارجية الأمريكية"، حسبما وصف مراسل شبكة الـ(BBC ) في العراق (جستن ويب).
ولم يقتصر الردُّ الحكومي على إعلان طرد الشركة الأمنية الأمريكية، بل تعهدت حكومةُ المالكي بأكثر من ذلك، ربما بشيء لا تستطيعُ أن تفعلَه في يوم من الأيام أبداً، وهو محاكمةُ المسؤولين عن الحادثة، وتقديمهم للقضاء العراقي!
ومع أن الكثير من الصحف الغربية أشارت إلى أن هذه المحاكمة ستكون مصدراً كبيراً للتوتر بين الطرفين، إلا أن القانون العراقي والأمريكي يجنبان الطرفين أي نزاعات! إذ إن المحاكم العراقية لا تملك سلطاتِ محاكمةِ أي عنصر من عناصر القوات الأمنية الأجنبية العاملة في البلاد، وَفق تقرير أصدره مركزُ أبحاث الكونغرس في يوليو الماضي. أما أمريكياً، فإن الولايات المتحدة كانت قد فرضت على الكثير من الدول الغربية والعربية، توقيعَ معاهدة تمنع تلك الدولَ من محاكمة أي أمريكي فيها!(/2)
وحسب القانون الذي أشرف على وضعه الاحتلالُ الأمريكي، فإن الموظفين في القطاع الأمني الخاص، لا يخضعون لأي محاكمة عسكرية، وحسب مرسوم 2004 الذي وضع من قبل سلطة الائتلاف المؤقتة، لا يمكن محاكمتُهم من قبل القضاء العراقي.
الخط الأحمر:
الحكومة العراقية التي تعرف أن ليس بيدها أن تحاكمَ القواتِ الأمريكية الخاصة، ولا تستطيع أن ترسل قواتها لتعتقل الأفراد الذين أطلقوا النار على العراقيين المدنيين، حاولت أن تثير أكبر زوبعة من الغبار، معلنةً أن الحادثة لن تمر من غير دفع ثمن. لذلك أطلق عبد الكريم خلف (المتحدث باسم وزارة الداخلية العراقية) تصريحاتٍ نارية، أثبت التهمة فيها على العناصر الأمنية في شركة (بلاك ووتر)، مؤكداً أن الحكومة العراقية قامت بسحب ترخيص الشركة، ومنعتها من العمل في جميع أنحاء العراق. وأضاف واثقاً بالقول: "سنقوم أيضاً بإحالة المتورطين إلى السلطات القضائية العراقية"!.
من جهتهم، حاول الأمريكيون كعادتهم، اللجوءَ إلى المسوّغ المنطقي في استخدامهم العنفَ، مدعين أن القافلة التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، التي كانت تقل دبلوماسيين أمريكيين، تعرضت لإطلاق نار من قبل جماعة مسلحة، فبادرت عناصرُ القوة الأمنية المرافقة بإطلاق النار باتجاه مصادر النيران، وذلك تسبب بمقتل وجرح 21 عراقيًا. إلا أن التحقيقات الأولية أكدت أن القافلة لم تتعرض لإطلاق نيران، بل تعرضت لانفجار قنبلة صغيرة، على جانب الطريق. حسبما نقلت وكالة (الأسوشيتدبرس) عن مصادر في وزارة الداخلية العراقية.
ويضيف الناطق باسم شركة (بلاك ووتر)، في بيان صدر في وقت متأخر من يوم الاثنين، قائلاً: "إن المتعاقدين الأمنيين في الشركة، لديهم صلاحيات قانونية في الرد على الهجوم المعادي الذي وقع يوم الأحد"، مشيراً إلى أن الشركة "تأسف لأي خسائر في الأرواح"!!(/3)
وبعد الأنباء الأولية التي تحدثت عن "طرد" الحكومة العراقية للشركة، أكد المتحدثُ باسمها، أن شركته لم تتلق أي بلاغ بالطرد، ملمحاً إلى أن مثل هذا الأمر لا يمكن أن يحدث.
ويحق للشركة هنا أن تقف هذا الموقف الواثق، وربما المستهزئ بالإعلان الحكومي، إذ إن الأمريكيين، بمن فيهم السفير الأمريكي (رايان كروكير)، يعتمدون بصورة متزايدة على هذه الشركة في توفير الأمن لهم، خلال تنقلاتهم في العراق، كما أن توظيف الشركة جاء من قبل الأمريكيين، بعقد بلغت قيمته أكثر من 800 مليون دولار، ولا يمكن الحكومةَ العراقية أن تقيلها، أو تلغي وظيفتها.
وربما كان التعليق الذي ذكره أحدُ المسؤولين الأمريكيين في حديثه مع صحيفة أمريكية، حقيقياً، عندما قال: "إن الترخيص قد يسحب من المالكي نفسه، وأما الشركة فستبقى في العراق"، حسبما نقلت وكالة الأنباء القطرية في تقرير لها يوم الأربعاء 19 سبتمبر الحالي.
من الواضح، حسب الأحداث التي رافقت أزمة (بلاك ووتر)، أن البيت الأبيض يقف إلى جانب الشركة الأمنية، ويحاولُ الحصولَ على مخرج من أي مواجهة مع الحكومة العراقية.. ليس خوفاً من موقف متشدد لها، ولكن –ربما- كي لا تبدو الأمور على حقيقتها العارية، بأن الأمريكيين يقومون بكل شيء هناك، وأن الحكومة ليست إلا حصاناً من ورق.
لذلك لم تجد كونداليزا رايس (وزيرة الخارجية الأمريكية)، حرجاً في تقديم اعتذار شخصي للمالكي، عبر اتصال هاتفي معه يوم الاثنين الماضي. وتقول وكالة (الأسوشيتدبرس): "إن الطرفين اتفقا على إجراء تحقيق نزيه وشفاف، حول ظروف وملابسات الحادثة". وهو –أي التحقيق- مخرج زمني ومنطقي لأي التزام حكومي بالوعود التي أطلقتها للشعب.(/4)
فالتحقيقُ عادة ما يأخذ مدة زمنية طويلة نسبياً، تجعل القضية تلتئم جروحها، وينسى الناسُ والإعلام أحداثها، قبل أن تخرج نتائجُها للعلن. كما أن إطلاق النار، أو انفجار قنبلة في طريق الموكب الدبلوماسي الأمريكي، سيكون سبباً كافياً في إطلاق النار على الملأ هناك.. فقط قد تصدر توصيةٌ بمنع استخدام القوة المفرطة في الرد على الهجمات المسلحة!
(بلاك ووتر).. أهمية قصوى:
وفقًا للأرقام الصادرة في يوليو الماضي من قبل وزارة الدفاع الأمريكية، فإنَّ العراقَ يضم أكثر من 180 ألفاً من العناصر المسلحة التابعة لشركات الأمن الخاصة الأمريكية والبريطانية، من مختلف الجنسيات، من بينهم 20 ألفاً من الأمريكيين. وهذا الرقم يشير إلى أن العناصر المسلحة التابعة لهذه الشركات، تزيد عن عدد القوات الأمريكية المحتلة الموجودة في العراق، والبالغ عددُها اليوم 160 ألفاً تقريباً. وأبرز مشكلة في عمل هذه الشركات أنها مسؤولة أساسيًا عن أمن جميع الشخصيات السياسية والدبلوماسية، العراقية والأجنبية، كما أنها مسؤولة عن أمن القوافل والمواقع الاستراتيجية، وأمن التمديدات النفطية، والكثير من المصالح الخاصة بالمواطنين العراقيين أنفسهم، من منشآت كهربائية ونفطية ونقل وغيرها.
وبرغم أن هذه الشركات الأمنية الخاصة ممنوعة من المشاركة في العمليات الهجومية، إلا أن مسؤولياتها يمكن أن تماثل مسؤوليات الجيوش، في حال تعرضها للهجوم.
وتعد شركة (بلاك ووتر) التي يعمل فيها أكثر من ألف عنصر أمني، من أهم الشركات الأمنية العاملة هناك، إذ تتولى حمايةَ الطاقم الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، بعقود تصل إلى أكثر من 300 مليون دولار، تدفعها وزارة الخارجية، فضلاً عن عقود بقيمة 500 مليون دولار مع جهات أخرى في العراق، من بينها الحكومة العراقية.(/5)
ومن بين العناصر التي كانت تقوم بتأمين الحماية لها، بول بريمر (الحاكم الأمريكي السابق للعراق)، وكذلك كروكير، الذي يقوم حاليا بدور متزايد كمبعوث دبلوماسي أمريكي في العراق.
ويذكر تاريخ العراق أهم حادثة للشركة، عندما تمكن مجاهدون في مدينة الفلوجة الباسلة، خلال شهر إبريل 2004، من قتل أربعة أمريكيين من موظفي الشركة، وسحبهم في الشوارع، وذلك أثار حنق الاحتلال، وعرّض المدينة آنذاك لمحاولة غير ناجحة لاحتلالها.
وحسب ما ذكرته وكالة (فرانس برس)، فإن الشركة لم تواجه مشكلةً فقط في العراق، بتصوير جثث موظفيها وهم يُسحبون في شوارع الفلوجة، بل تعدتها إلى مشكلة في أمريكا، حيث قاضى أفرادُ أسرة العناصر الأربعة الشركةَ؛ بحجة أنها لم تقدم لهم ما يلزمهم من معدات وقوات بشرية، قد تمكنهم من النجاة بأرواحهم!
الشركة الأمنية الخاصة التي يقع مقرُّها الأساسي في ولاية نورث كارولينا، كانت قد واجهت عدة انتقادات سابقة، بسبب استخدامها القوة المفرطة العدوانية، في تكتيكات المواجهة في شوارع العراق، وهو انتقاد وجهه لها الكولونيل المتقاعد في مشاة البحرية الأميركية (توماس هيمز)، الذي قال: "إن الشركة تنتهج نهجاً عدوانياً لحماية عملائها، بطريقة تنتقص من الجهود الشاملة في مكافحة المقاومة لاستمالة السكان المحليين". في إشارة إلى أنَّ الإجراءاتِ العنيفة للشركة تنشرُ بين العراقيين موالاةً أكبر للمقاومة، على حساب القوات الأمريكية.
وأضاف هيمز قائلاً في تصريحات نقلتها شبكة (آسيا تايمز): "المشكلة الرئيسة في حماية الشركة أنها قد تكون عدوانية جداً، وهو ما يزيد من الإساءة للسكان المحليين، ويرغمهم على اللجوء إلى المقاومة بسبب القهر والترهيب".
فقاعة الصابون:(/6)
لا يعد حادثُ إطلاق النار على المدنيين يوم الأحد في بغداد، إلا حلقةً ضمن سلسلة الأحداث المشابهة لها في العراق، ففي 24 من ديسمبر 2006، قَتَلَ عنصرٌ مسلح من شركة (بلاك ووتر) وهو خارج وقت عمله الرسمي، حارسَ نائبِ الرئيس العراقي آنذاك (عادل عبد المهدي)، ولم تحاسبه الشركة، واكتفت بإعادته للولايات المتحدة، دون أن تتمكن الحكومةُ العراقية من فعل أي شيء. وفي مايو الماضي، قتَلَ أحدُ عناصر الشركة، سائقًا عراقيًا قرب وزارة الداخلية في بغداد، فأشعل مواجهة مسلحة بين عناصر الشركة، وقواتٍ تابعة لوزارة الداخلية العراقية!
إلا أن هذه الحلقة فتحت الطريقَ أمام مراجعة وضعهم القانوني والأمني هناك، من قِبَل الحكومة العراقية، والكونغرس الأمريكي التشريعي؛ فحسب تصريحات لاحقة للحكومة العراقية، كشفت النقاب عن أن الداخلية بصدد مراجعة جميع التراخيص الممنوحة لشركات التعهدات الأمنية العاملة هناك. وهذا مطابق لما صرح به الكونغرس الأمريكي، الذي أشارت شبكة الـ(CNN) الأمريكية، أنه سيراجع ميزانية شركات الأمن الخاص، مؤكدة أن "لجنة الإصلاح الحكومي والمراقبة" في مجلس الشيوخ الأمريكي قدَّرَتْ في فبراير الماضي، أن الإنفاقَ الأمريكي على شركات التعهدات الأمنية الخاصة، بلغ قرابة 4 مليارات من الدولارات، بسبب تزايد المقاومة المسلحة ضد الاحتلال في العراق، منذ بداية الغزو في مارس 2003.
وتقول الشبكة الإعلامية الأمريكية: "إن التكلفة الباهظة جاءت على حساب مشاريع إعادة الإعمار التي أُجِّل أو ألغي أو خفض العمل في بعض منها"!(/7)
ربما كانت أكثرُ الاحتمالات المنطقية المتعلقة بالشركة الأمريكية -التي تأسست عام 1997، ويعمل فيها أكثر من 2300 عنصر في مختلف أنحاء العالم- هو أن تواجه موجةً إعلامية تتضاءل يوماً بعد يوم، لا تنتهي بطردها من العراق، أو سحب ترخيصها، أو حتى محاكمة أي من عناصرها المتورطة بالحادثة، ومن ثم فلن تكون إلا فقاعة من الصابون، تتلاشى في أي لحظة، تاركة خلفها شعباً يرزح تحت الاحتلال، وحكومة عميلة للأمريكيين، واحتلالاً لا يكترث بأرواح أحد.(/8)
العنوان: بلوغ العشرين.. نظرة في صفحات الماضي
رقم المقالة: 1181
صاحب المقالة: أبو مالك وائل العوضي
-----------------------------------------
بينا أنا أقلب أوراقي، وأتأمل في مدوناتي، إذ وقفتُ على هذه الكلمات التي كنتُ كتبتُها منذ أربع عشرة سنة، فأعدتُ تأملَها، وحمدتُ الله عز وجل على الاحتفاظ بها، وصرتُ كأني في حلم أستعيد هذه الأيام وكأنها رأي عين.
وهذا ما كتبتُ:
تمت لي عشرون سنة ...
ولست أدري بِمَ أكملُ العبارة السابقة ...
أأقول: فقط! ... أم أقول: عشرون؟!! .... أم أقول: أخيرًا!
أحسست بإحساس غريب لما تذكرت أن ذلك اليوم الذي مر بي قريبا كان متمما لعشرين عاما لي، ولم أدرِ أأضحك وأبتهج وأستبشر ببقية الحياة، أم أبكي وأحزن لما فرط وفات من عمري؟!
وقلَّبتُ الأمور في ذهني فلم يرجح لدي شيء؛ فتلك العشرون كانت مليئة بالخير والشر، فإذا ما تذكرتُ أيام الهناءة والسعادة وراحة البال كنت كالحالم الذي لا يشعر بما حوله، وإذا ما تذكرتُ الشرور والآثام والجرائم والمبكيات والمهمات والملمات والصعاب والمقلقات والمزعجات ... إلخ انقبضتُ، واحتويت على أمر جسيم، وأكننت في نفسي ما تشيب له الولدان، وأتذكر أيام اللعب فأفرح وأحزن؛ الفرح للسعادة والحزن للضياع .. أوليس ذلك محسوبا من عمري؟ أولست مسئولا عنه؟
وأتذكر أيام الضنى والتعب والطلب والجوع والسهر والسفر والجهد والكد فأفرح وأحزن؛ الفرح لشعوري بأنني استفدت من أيامي ولم أضعها هدرا، وأنفقت أوقاتي فيما يجب وينفع ويبقى على الدوام أثرُه وهو بعدُ غير ناقصٍ لي من عمري شيئا، ولا من رزقي شيئا.
والحزن لخوفي أن يكون ما أجهدتُ نفسي فيه لم يكن بإخلاص، وخشيةً ألا يأتي التعب بجدواه فأفقد المسروق وأعاقب بالقطع!
انتابتني رغبة عارمة في البكاء ... البكاء ... البكاااء
نِعْمَ المريحُ للنفس .. البكاء
نعم المذهب للهموم ... البكاء
نعم المفرج للآلام .. البكاء(/1)
وينتهي البكاء ... ينتهي بالفرح ... لأنه قد استنفد المجهود وأخرج مكنون المكدود.
وما أشبِّهه إلا بحمام الماء البارد الذي يصيبك بالرجفة وتخرج منه نشيطا كأنما قد ولدت من جديد.
ثم أشعر في وقت أن تلكم العشرين مرت كأن لم تكن وكأن لم أستفد منها شيئا.
وتارة أشعر أنني شيخ كبير أفادتني التجارب والعناء وكأن هذه العشرين قد استطالت لثلاثين أو أربعين أو ...
أشياء كثيرة جدا مرت بي وأشياء كثيرة أذكرها، والذي لا أتذكره أكثر جدا.
وعندما أراجع بعض ما كتبت منذ زمن أدهش وأُشْدَهُ لأنني لا أكاد أذكر منه شيئا، ففي أي مطاوي الذاكرة ذهب ذلك؟ وفي أي معاطف الحافظة استخفى؟ وتحت أي ظلة من ظلل الأيام المنسية توارى؟
أجدني تارة شديد النشاط والعزيمة مُجِدا في الطلب وكأنني استيقظت من رقدة فوجدت القطار قد فاتني فأنهكت عَظْم الرجل في العدْوِ لبلوغه.
وأجدني تارة فلا تظنني السابق من كسلي وفتوري – ولا أضر من الفتور! – عن العمل، وإضاعتي وقتي في التفاهات.
أيتها العشرون الماضية!
لا تظني أنك بانقضائك لن تستمعي لي، فإني عازم على مخاطبتك.
سأخاطبك ... سأخاطبك سواء أسمعتِ أم لم تسمعي ... سأخاطبك ... وإنني أعلم أنما أخاطب نفسي.
أخاطبك فأقول:
أيتها العشرون الماضية!
عليك بالرفق والرحمة، وعليك بأن توصي العشرين الآتية – إن قدرها الله – بي خيرا فإنني أرجو أن يكون لي فيها من الخير أكثر مما كان لي فيك.
أيتها العشرون الماضية!
ما كان أقساك على طفل أو يقاربه قلبتيه ظهرا لبطن، وحولتيه أماما وخلفا؛ حتى صار حُوَّلا قُلَّبا فلا يدري أيشكرك أم يكفر مسعاك!
أيتها العشرون الماضية!
إياك أن تظني أن في انقضائك ما يجعلني يائسا، لا!، بل إن الخطأ هو الحامل على الصواب، وهو الدافع للحق، وهو المبصر بالمهاوي، والمبين للمهالك، وهو الذي يجعل المرء يترك الشر عن علم وتجربة وخبرة؛ فيعرف الضرر كيف يضر والنفع كيف ينفع.
أيتها العشرون الماضية!(/2)
عليكِ مني السلام؛ فأظنك قد أديتِ واجبك فاذهبي فلستُ حاقدا عليكِ، ويكفيك أنك قد جعلتيني مستعدا للمقبل – إن كان – بخير إن شاء الله عز وجل.(/3)
العنوان: بناء الكعبة
رقم المقالة: 1653
صاحب المقالة: الشيخ حمزة بن فايع الفتحي
-----------------------------------------
ملخص الخطبة
الكعبة مثابة للناس.
قصة بناء البيت.
حسد الكفار للمسلمين على حبهم للبيت الحرام.
دروس وعبر من القصة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
السادة الكرام، لقد جعل ربنا - تبارك وتعالى - بيته المعظم مثابةً للناس، يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرًا، كلما رجعوا إلى أهليهم رجعوا إليه حبًّا وشوقًا وابتهاجًا، إليه تشتاق الأرواح، وفيه تتعاظم المسرات والأفراح، {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]. هو أمان الناس وسلامتهم، وروحهم وراحتهم، أمن فيه مجاوره وساكنوه، وتلذذوا بعيشه وبركته، في حين تخطف الناس من حولهم، وحصول البلايا والأذيات لغيرهم.
وهو أول بيت وضع في الأرض لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم، يطوفون به، ويصلون ويعتكفون عنده.
وقد أمر الله نبيه الخليل إبراهيم - عليه السلام - ببناء البيت، وأن يؤذن في الناس بالحج إليه، وقصده للطواف والعبادة، في قصة مفيدة عجيبة أخرجها البخاري في صحيحه، امتلأت بالإيمان الصادق، والتوكل على الله، والثقة بوعده واللجوء إليه، ومنها البشارة بنبوة محمد.
وسوف أتلو عليكم هذه القصة التي هي خبرُ أولِ بيت:(/1)
نزل مكة المكرمة، الوادي المُجدِب القفر، الذي قد خلا من الأنيس والزرع، نزله سيد الحنفاء إبراهيم - عليه السلام - بأسرته المؤمنة الصغيرة، المكونة من زوجته هاجر - رحمها الله - وابنه الرضيع إسماعيل عليه السلام. ومن هذا البيت الصغير أشرقت الحياة من جديد، وآذنت بميلاد نبينا محمد الرحمة المهداة، التي شع لها الوجود، وانبلج لها فجر الزمان.
فَأَقْبَلَ الْفَجْرُ مِنْ خَلْفِ التِّلالِ وَفِي عَيْنَيْهِ أَسْرَارُ عُشَّاقٍ وَسُمَّارِ
تَدَافَعَ الْفَجْرُ فِي الدُّنْيَا يَزِفُّ إِلَى تَارِيخِهَا فَجْرَ أَجْيَالٍ وَأَدْهَارِ
كَأَنَّ فَيْضَ السَّنَا فِي كُلِّ رَابِيَةٍ مَوْجٌ وَفِي كُلِّ سَفْحٍ جَدْوَلٌ جَارِي
ونص القصة كما في الصحيح عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - قال: "جاء إبراهيم - عليه السلام - بأم إسماعيل وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دَوحةٍ فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، قالت له: آالله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم - عليه السلام - حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات، فرفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} حتى بلغ {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].(/2)
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نَفِد ماء السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال النبي : ((فذلك سعي الناس بينهما))، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، فقالت: صه - تريد نفسها - ثم تسمَّعتْ، فسمعت أيضًا فقال: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال: بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، وفي رواية: بقدر ما تغرف.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال النبي : ((رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم))، أو قال: ((لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا))، قال: فشربت، وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضَيْعة؛ فإن ها هنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعًا من الأرض؛ كالرابية تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رُفقة من جُرْهُم - أو أهل بيت من جرهم - مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرِيًّا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم. ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم.(/3)
قال ابن عباس: قال النبي : ((فألفى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنس))، فنزلوا، فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات، وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شبَّ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا - وفي رواية: يصيد لنا - ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيق وشدة، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السلام، وقولي له: يُغيِّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أَنِسَ شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جَهدٍ وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيِّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلَّقَها، وتزوج منهم أخرى.(/4)
فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته، فسأل عنه، قالت: خرج يبتغى لنا، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسَعة، وأثنت على الله تعالى، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي : ((ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه))، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. وفى رواية: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت امرأته: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟! قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، قال: فقال أبو القاسم : ((بركة دعوة إبراهيم عليه السلام)). قال: فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، ومُرِيه يُثبِّت عتبة بابه، فلماء جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنتْ عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن ثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنتِ العتبة، أمرني أن أمسكك.
ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نَبْلاً له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتًا ها هنا، وأشار إلى أكمَة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [البقرة: 127]".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية(/5)
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فها هي - يا مسلمون - قصة بناء الكعبة كما رواها البخاري في صحيحه، تُبيِّن لنا مبدأ هذا البيت، الذي أضحى مثابة للناس وأمنًا لهم، وسعادة يأوون إليها، وموردًا خصيبًا يستحلون هداه، ويعيشون بركته، ويؤثرون سكناه وعمارته.
هذا البيت الذي يحسدكم عليه العالم أجمع، ويعجبون من ازدحامكم عليه، ويعجبون من إيثاركم له على محابِّكم ولذائذكم، ويحتارون من سفركم إليه وطوافكم به. لقد ذهل العالم الكافر من اجتماع أكثر من مليونين من المسلمين حول هذا البيت، وتعجَّبوا من حنين هذه الأمة إليه متغافلة عن دنياها وشهواتها، وأدركوا أن وراءهم خطرًا زاحفًا من هذا الجمع الغفير؛ لأن هذا التجمع الكبير في الحج طريقٌ لعودة الأمة إلى ربها واعتصامها بدينه، وهذا ما يخيف المجرمين الكفرة، نسأل الله أن يجعل كيدهم في نحورهم.(/6)
أيها الإخوة الكرام، لقد تجلت في هذه القصة العجيبة عظات ودروس مفيدة، منها عبودية إبراهيم - عليه السلام - لربه وامتثاله لأمره، حيث نزل منزلاً ليس فيه أنيس ولا شيء، وأنزل أسرته طاعةً لربه وتنفيذًا لأمره. ومنها الإيمان الصادق الذي حملته هاجر - رضي الله عنها - حيث قالت: "آالله أمرك؟ إذًا لا يضيعنا". ومنها حفظ الله – تعالى - لأوليائه وعباده الصالحين إذا آمنوا به، وتوكلوا عليه حق التوكل، فالله لا يضيع أهله. ومنها بركة دعاء إبراهيم - عليه السلام - لأهل مكة. ومنها استجابة الله دعاءَ إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بأن يبعث لهذه الأمة رسولاً يعلمهم ويزكيهم، فإن إسماعيل تزوج من قبيلة جرهم العربية، واكتسب منهم اللسان العربي، وكانت من نسله العرب المستعربة، ومنهم عدنان الذي هو جدُّ النبي الذي اصطفاه الله على العالمين وجعله خاتم النبيين، حيث دعا الناس إلى عبادة الله وحده، واتبع ملة إبراهيم حنيفًا، وأحيا مناسك الحج، وجعل الله أمته خير الأمم، شرفها برسوله وكتابه وبطاعته واتباعه، وسماهم المسلمين، وكتب لهم أسباب النصر والبقاء والتمكين.
بُشْرَى لَنَا مَعْشَرَ الْإِسْلامِ إِنَّ لَنَا مِنَ الْعِنَايَةِ رُكْنًا غَيْرَ مُنْهَدِمِ
لَمَّا دَعَا اللهُ دَاعِينَا لِطَاعَتِهِ بِأَكْرَمِ الرُّسْلِ كُنَّا أَكْرَمَ الْأُمَمِ
ومن فوائد القصة تجديد الله – تعالى - ذكرى هذه المرأة الصالحة هاجر أم إسماعيل، التي آمنت بالله - تعالى - حق الإيمان، وأسلمت لأمره وابتلائه، وسكنت مكة حيث لا أنيس، فرفعها إيمانها وصبرها حيث قالت: "لا يضيعنا"، وأصبح في هذه الشريعة من مناسك الحج ركنيةُ السعي بين الصفا والمروة.
ومن فوائدها امتنان الله على الأمة المسلمة بأن أجرى لها بئر زمزم، الماء المبارك الذي لا يزال يتدفق طيبًا مباركًا، ينتفع منه سائر الناس، ((يرحم الله أم إسماعيل؛ لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا)).(/7)
ومن فوائدها أن الشدائد لأهل الإيمان غالبًا ما تنفرج عن نِعَم ورخاء وبركات، وأن الله يجعل المنن في طيات المحن؛ رحمةً منه وتوفيقًا وتيسيرًا، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.(/8)
العنوان: بناء الكعبة
رقم المقالة: 1746
صاحب المقالة: حمزة بن فايع الفتحي
-----------------------------------------
بناء الكعبة
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ،
القصص, فضائل الأزمنة والأمكنة.
محايل،
22/11/1421
جامع الملك فهد.
محامد وأدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الكعبة مثابة للناس.
2- قصة بناء البيت.
3- حسد الكفار للمسلمين على حبهم للبيت الحرام.
4- دروس وعبر من القصة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
السادة الكرام، لقد جعل ربنا - تبارك وتعالى - بيته المعظم مثابةً للناس، يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرًا، كلما رجعوا إلى أهليهم رجعوا إليه حبًّا وشوقًا وابتهاجًا، إليه تشتاق الأرواح، وفيه تتعاظم المسرات والأفراح، {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]. هو أمان الناس وسلامتهم، وروحهم وراحتهم، أمن فيه مجاوره وساكنوه، وتلذذوا بعيشه وبركته، في حين تخطف الناس من حولهم، وحصول البلايا والأذيات لغيرهم.
وهو أول بيت وضع في الأرض لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم، يطوفون به، ويصلون ويعتكفون عنده.
وقد أمر الله نبيه الخليل إبراهيم - عليه السلام - ببناء البيت، وأن يؤذن في الناس بالحج إليه، وقصده للطواف والعبادة، في قصة مفيدة عجيبة أخرجها البخاري في صحيحه، امتلأت بالإيمان الصادق، والتوكل على الله، والثقة بوعده واللجوء إليه، ومنها البشارة بنبوة محمد.
وسوف أتلو عليكم هذه القصة التي هي خبرُ أولِ بيت:(/1)
نزل مكة المكرمة، الوادي المُجدِب القفر، الذي قد خلا من الأنيس والزرع، نزله سيد الحنفاء إبراهيم - عليه السلام - بأسرته المؤمنة الصغيرة، المكونة من زوجته هاجر - رحمها الله - وابنه الرضيع إسماعيل عليه السلام. ومن هذا البيت الصغير أشرقت الحياة من جديد، وآذنت بميلاد نبينا محمد الرحمة المهداة، التي شع لها الوجود، وانبلج لها فجر الزمان.
فَأَقْبَلَ الْفَجْرُ مِنْ خَلْفِ التِّلالِ وَفِي عَيْنَيْهِ أَسْرَارُ عُشَّاقٍ وَسُمَّارِ
تَدَافَعَ الْفَجْرُ فِي الدُّنْيَا يَزِفُّ إِلَى تَارِيخِهَا فَجْرَ أَجْيَالٍ وَأَدْهَارِ
كَأَنَّ فَيْضَ السَّنَا فِي كُلِّ رَابِيَةٍ مَوْجٌ وَفِي كُلِّ سَفْحٍ جَدْوَلٌ جَارِي(/2)
ونص القصة كما في الصحيح عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - قال: "جاء إبراهيم - عليه السلام - بأم إسماعيل وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دَوحةٍ فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، قالت له: آالله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم - عليه السلام - حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات، فرفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} حتى بلغ {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نَفِد ماء السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال النبي : ((فذلك سعي الناس بينهما))، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، فقالت: صه - تريد نفسها - ثم تسمَّعتْ، فسمعت أيضًا فقال: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال: بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، - وفي رواية: بقدر ما تغرف - قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال(/3)
النبي : ((رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم))، أو قال: ((لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا))، قال: فشربت، وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضَيْعة؛ فإن ها هنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعًا من الأرض؛ كالرابية تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رُفقة من جُرْهُم - أو أهل بيت من جرهم - مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرِيًّا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم؛ ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم، قال ابن عباس: قال النبي : ((فألفى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنس))، فنزلوا، فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات، وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شبَّ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا - وفي رواية: يصيد لنا - ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيق وشدة، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السلام، وقولي له: يُغيِّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أَنِسَ شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخٌ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جَهدٍ وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيِّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلَّقَها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته، فسأل عنه، قالت: خرج يبتغى(/4)
لنا، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسَعة، وأثنت على الله تعالى، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي : ((ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه))، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. وفى رواية: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت امرأته: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟! قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، قال: فقال أبو القاسم : ((بركة دعوة إبراهيم عليه السلام)). قال: فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، ومُرِيه يُثبِّت عتبة بابه، فلماء جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنتْ عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن ثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنتِ العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نَبْلاً له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتًا ها هنا، وأشار إلى أكمَة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [البقرة: 127]".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية(/5)
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فها هي - يا مسلمون - قصة بناء الكعبة كما رواها البخاري في صحيحه، تُبيِّن لنا مبدأ هذا البيت، الذي أضحى مثابة للناس وأمنًا لهم، وسعادة يأوون إليها، وموردًا خصيبًا يستحلون هداه، ويعيشون بركته، ويؤثرون سكناه وعمارته.
هذا البيت الذي يحسدكم عليه العالم أجمع، ويعجبون من ازدحامكم عليه، ويعجبون من إيثاركم له على محابِّكم ولذائذكم، ويحتارون من سفركم إليه وطوافكم به. لقد ذهل العالم الكافر من اجتماع أكثر من مليونين من المسلمين حول هذا البيت، وتعجَّبوا من حنين هذه الأمة إليه متغافلة عن دنياها وشهواتها، وأدركوا أن وراءهم خطرًا زاحفًا من هذا الجمع الغفير؛ لأن هذا التجمع الكبير في الحج طريقٌ لعودة الأمة إلى ربها واعتصامها بدينه، وهذا ما يخيف المجرمين الكفرة، نسأل الله أن يجعل كيدهم في نحورهم.(/6)
أيها الإخوة الكرام، لقد تجلت في هذه القصة العجيبة عظات ودروس مفيدة، منها عبودية إبراهيم - عليه السلام - لربه وامتثاله لأمره، حيث نزل منزلاً ليس فيه أنيس ولا شيء، وأنزل أسرته طاعةً لربه وتنفيذًا لأمره. ومنها الإيمان الصادق الذي حملته هاجر - رضي الله عنها - حيث قالت: "آالله أمرك؟ إذًا لا يضيعنا". ومنها حفظ الله – تعالى - لأوليائه وعباده الصالحين إذا آمنوا به، وتوكلوا عليه حق التوكل، فالله لا يضيع أهله. ومنها بركة دعاء إبراهيم - عليه السلام - لأهل مكة. ومنها استجابة الله دعاءَ إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بأن يبعث لهذه الأمة رسولاً يعلمهم ويزكيهم، فإن إسماعيل تزوج من قبيلة جرهم العربية، واكتسب منهم اللسان العربي، وكانت من نسله العرب المستعربة، ومنهم عدنان الذي هو جدُّ النبي الذي اصطفاه الله على العالمين وجعله خاتم النبيين، حيث دعا الناس إلى عبادة الله وحده، واتبع ملة إبراهيم حنيفًا، وأحيا مناسك الحج، وجعل الله أمته خير الأمم، شرفها برسوله وكتابه وبطاعته واتباعه، وسماهم المسلمين، وكتب لهم أسباب النصر والبقاء والتمكين.
بُشْرَى لَنَا مَعْشَرَ الْإِسْلامِ إِنَّ لَنَا مِنَ الْعِنَايَةِ رُكْنًا غَيْرَ مُنْهَدِمِ
لَمَّا دَعَا اللهُ دَاعِينَا لِطَاعَتِهِ بِأَكْرَمِ الرُّسْلِ كُنَّا أَكْرَمَ الْأُمَمِ
ومن فوائد القصة تجديد الله – تعالى - ذكرى هذه المرأة الصالحة هاجر أم إسماعيل، التي آمنت بالله - تعالى - حق الإيمان، وأسلمت لأمره وابتلائه، وسكنت مكة حيث لا أنيس، فرفعها إيمانها وصبرها حيث قالت: "لا يضيعنا"، وأصبح في هذه الشريعة من مناسك الحج ركنيةُ السعي بين الصفا والمروة.
ومن فوائدها امتنان الله على الأمة المسلمة بأن أجرى لها بئر زمزم، الماء المبارك الذي لا يزال يتدفق طيبًا مباركًا، ينتفع منه سائر الناس، ((يرحم الله أم إسماعيل؛ لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا)).(/7)
ومن فوائدها أن الشدائد لأهل الإيمان غالبًا ما تنفرج عن نِعَم ورخاء وبركات، وأن الله يجعل المنن في طيات المحن؛ رحمةً منه وتوفيقًا وتيسيرًا، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.(/8)
العنوان: بِنْتُ الخُسِّ الإِياديَّةُ
رقم المقالة: 408
صاحب المقالة: مجلة العرب
-----------------------------------------
الباحث فيما للعرب من مأثور القول القديم تستوقفه ومضات فكرية، تنم عن فهم للحياة، وعن إدراك لطبائع الناس، وما يحيط بهم من ملابسات وظروف، يعبر عنها آونة بالحكم وأخرى بالأمثال، وتأتي غالباً مسجوعة – وهذا مما يسهل حفظها وبقاءها مدى العصور متناقلة بين الأجيال.
والاتجاه نحو دراسة هذا النوع من القول يفتح الباب أمامنا لندرك أن للعرب في عصورهم الأولى في مجال الحكمة وفهم الحياة ما يدفع عنهم وصمة السطحية في التفكير، وعدم التوغل في أغوار الفهم والإدراك.
ثم هي جانب من جوانب حياتنا الفكرية جديرة بأن نوليها نصيبها من العناية دراسة وتمحيصاً، لنستفيد مما يصلح منها للاستفادة.
ومن أشهر من عرفوا الحكمة من قدماء العرب، بنت الخُس، فشهرتها لم تقف عند حد ما تناقلتها الكتب القديمة عنها بل تجاوزت ذلك إلى عصرنا الحاضر بحيث أصبح إسمها مضرباً للمثل بيننا.
أننا كثيراً ما نسمع المتحدث منا عندما يريد أن يصف إنساناً بالمكر والدهاء يقول: ابن الخس أو بنت الخس!
فما معنى هذا؟ وماذا عرف عن بنت الخس هذه؟؟
ذلك ما نحاول أن نعرض طرفاً منه في هذا البحث حيث حصره وجمعه كله يحتاج إلى تتبع واسع لأمهات كتب الأدب واللغة وإلى سعة من الوقت.
ولقد اتجه بعض المتقدمين لدراسة ما أثر عن بنت الخس هذه من قول، فقام أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب. (200/291هـ) على ما ذكر صاحب ((الفهرست)) بتأليف كتاب دعاه ((تفسير كلام ابنة الخس)).
وقد دونت أخبارها إما عن العرب أنفسهم كالأصمعي[1]، أو بواسطة الأعراب الذين يفدون على المدن إبان عهد التدوين مثل: أبي مجيب الربعي[2].
ونجد أخبارها مفرقة في مؤلفات الجاحظ وابن قتيبة والقالي وغيرهم من قدماء علماء الأدب، وفي كتب الأمثال للميداني والزمخشري وغيرهما، وفي كتب اللغة.(/1)
من هي بنت الخس؟
يعرفها المتقدمون بأنها هند بنت الخس بن حابس بن قريط الإيادي[3] وقد يعدها بعضهم من العماليق، والأول أشهر ومعروف أن قبيلة إياد كانت شهرتها وانتشارها في جزيرة العرب متقدمة على غيرها من القبائل العدنانية، فابن الكلبي يروي في كتاب ((الافتراق)) أن مضر وربيعة تضافرت على إياد فاخرجتهم من بلادهم[4].
ولعل هذا من الأسباب التي دعت إلى اندراس كثير من أخبار قبيلة إياد في الجزيرة.
وليس من المستطاع تحديد الزمن الذي عاشت فيه بنت الخس هذه، وإذا صح أنها كانت اجتمعت في عكاظ بالقلمَّس الكناني، جاز القول بأنها كانت قبل الاسلام بما يقارب ثلاثة قرون من الزمن إذا اعتبرنا لكل قرن ثلاثة أجيال.
واعتبرنا القلمس الذي اجتمعت به، هو أول من اطلق عليه هذا اللقب وهو سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك ابن كنانة، ذلك أن القلمّس لقب يطلق على كل من قام بِنَسْءِ الشهور في الجاهلية[5].
وكما اختلف المتقدمون في القبيلة التي تنسب إليها فإنهم اختلفوا في صيغة اسمها نفسه فابن الاعرابي يقول: هي بنت الخس وبنت الخص وبنت الخسف، وغيره يقول: هي بنت الاخس ولعل أصوب الأقوال قول ابي محمد الأسود: لا يجوز إلا الخس بالسين، ولعل ما عدا هذا تحريف أو تصحيف، إذ هو المعروف حتى عصرنا الحاضر.
وتصور بعض كتب الأدب بنت الخس هذه صوراً مختلفة فَتُوَصمُ آونة بأنها ارتكبت الاثم مع مولاها. وأنه قيل لها ما حملك على ما فعلت؟ قالت: قرب الوساد، وطول السِّواد. السواد: المساراة[6].
ويضيفون إلى هذا أن أباها قال لها: اخبريني أي شيء في بطنك، وإلا ضربت رأسك؟!. فقالت له: ارأيتك إن أخبرتك بما في بطني، ايكفُّ ذلك عذابك اليوم عني؟ قال: نعم. قالت: اسفله طعام، وأعلاه غلام.
ويوردون محاورات بينها وبين أبيها، وبينها وبين القلَمَّس الكناني. وبينها وبين رجال آخرين.
فمما يوردون قالوا: أراد رجل أن يمتحن عقلها وجوابها.
فقال: إني أريد أن أسألك. قالت: هات.(/2)
قال: كاد...
فقالت:... المنتعل يكون راكباً.
قال: كاد...
فقال:... النعامة تكون طائراً.
قال: كاد...
قالت:... السِّرار يكون سحراً.
ثم قالت للرجل: عجبت...
قال:... للسباخ لا ينبت كلاها، ولا يجف ثراها.
قالت: عجبت...
قال:... للحجارة لا يكبر صغيرها ولا يهرم كبيرها.
قالت: عجبت...
ويظهر أنها أفحمته فلجأ إلى ما يظن أنه يغيظها.
فقال:... (...) لا يدرك قعره ولا يُملأ حفره.
ومن المعروف أن من اشتهر بأمر من الأمور فكثيراً ما يضاف إليه من الأخبار والحكايات ما له صلة بما اشتهر به. والظاهر أن بنت الخُسِّ قد أضيف إليها أشياء كثيرة من هذا القبيل. فالاصمعي يروي أنها كانت قاعدة في جوارٍ فمرَّ بها قطاً وارد في مضيق من الجبل فقالت:
يَا لَيْتَ ذا القَطا لِيَهْ ومِثْل نُصْفٍ مَعِيَهْ
إلى قَطاةِ أهْلِيَهْ إذنْ لنا قَطاً، مِيَهْ
واتْبع، فَعْدَّ على الماءِ، فإذا هو سِت وسِتُّون[7].
ومثل هذا يُرْوى عن زرقاء اليمامة وينسب إليها.
لَيْتَ الحمامُ لِيَهْ ونِصْفُهُ قَدِيَهْ
إلى حَمامَتِيَهْ ثمَّ الحمامُ مِيَهْ
وينسبون إليها اشعاراً لا تتفق في أسلوبها مع أساليب العصر الذي عاشت فيه ابنة الخس، ومما نسبوا إليها من الشعر.
لقد ايقنت نفس الفتى غير باطل وإن عاش حينا أنه سوف يهلكُ
ويشرب بالكأس الزعاف شرابها ويركب حَدَّ الموت، كرهاً ويسلك
وكم من اختي دنيا يثمِّرُ ماله سيورث ذاك المال رغْماً ويترك
عليك بأفعال الكرام ولينهم ولا تك مشكاساً تلجّ وتمحك
ولا تك مَزَّاحاً لدى القوم لُعْبَةً تظل أخا هُزْءٍ بنفسِك تَضْحكُ
تخوض بجهل سادراً في فكاهة وتدخل في غيّ الغواة وتشرك
إلا رُبَّ ذي حظٍّ يبصرّ فعله وآخر مصروف وفي الحَظِّ يؤخك[8]
وبينما نرى أنها عاشت في العهد الجاهلي الذي كان ينظر فيه إلى المرأة نظرة غير كريمة، فإننا نجدها تعد المرأة المثناث خير النساء، وهذا كما هو معروف لا يتفق مع ما أثر عن بعض العرب في هذه الناحية.(/3)
وعندما نتدبر أقوالها ندرك أنها عميقة النظرة في حياة الصحراء وفي طبيعة أهلها، ولعل هذا من الأسباب التي جعلت لأقوالها في أنفس العرب مكانة حملتهم على تناقلها، وحفظها وعدها من حكيمات العرب، بل تعتبر حكميتهم الأولى بكثرة ما أثر عنها من محكم القول وجيده.
قال الجاحظ[9]: ومن أهل صنعاء والنَّكْرَاء، من أهل اللَّسَنِ واللَّقَن والجواب العجيب، والكلام الفَصيح، والأمثال السائرة، والمخارج العجيبة هند بنت الخُسّ، وهي الزَّرقاء، وجمعة بنت حابس، ويقال إن حابساً من إيادٍ.
ويضيف الجاحظ نقلاً عن أبي عمرو ابن العلاء[10]: داهيتا نساء العرب: هند الزرقاء وعنز الزرقاء، والاخيرة زرقاء اليمامة.
وعندما يعد الجاحظ الخطباء[11]، يعدها من بينهم. وينقل الميداني[12] عن الاعرابي في ذكر حكيمات العرب: صخر بنت لقمان، وهند بنت الخس، وجمعه بنت حابس وابنة عامر بن الضرب العدواني.
إلا أننا نجد لهؤلاء مثلما نجد لهند بنت الخس من الكلام المأثور.
من الأقوال المنسوبة إليها
أحسن المناظر:
أحْسَنُ المناظِرِ ماءٌ يجري إلى عِمَارة[13].
ألذُّ الأشياء:
ألذُّ الأشياء: قُبْلةُ فتاةٍ فَتَى[14].
وأضافت: وَعيْشِك ما ذُقتُها!!
أطيب الروائح:
أطيَبُ الروائح بَدَنٌ تُحِبُّه، وَوَلدٌ تَرْبُّهُ[15].
أحَدُ الأشياء:
أحَدُّ شَيْء ضِرْسٌ جائع، في مِعىً مضائع[16].
وعلق البكري في ((التنبيه))[17]: الصواب: قاطع في مِعىً جائع.
الرجال:
أيُّ الرجال أحبّ إليك؟!:
قالت: القريبُ الأمد، الواسع البلد، الذي يوفد إليه ولا يَفِد[18].
خَيْرُ الرِّجال المرَهَّقُون كما خَيرُ تلاع الأرْضِ اوْطَؤُها
قِيل: أيُّهُم؟
قالت: الذي يُسْئِل ولا يَسْأل، ويُضِيف ولا يُضاف، ويُصْلِح ولا يُصْلحُ.
وَشرُهم: الثُّطيْطُ، النُّطيْطُ، الذي مَعهُ سُوَيط، الذي يقول:
أَدْركوني من عَبْدِ فلان، فإني قاتِلهُ، أو هُوَ قاتِلي[19].(/4)
الثُّطيْطُ: الذي لا لحية له. النُّطيْطُ: الكثير الكلام، الذي يأتي بالخطأ والصواب عن غير معرفة.
* قيل لها: أيُّ الرجال أحبُّ إليك؟
قالت: السَّهْلُ النجيب، السمْح الحسيب، الندب الأريب، السيّد المهيب.
قيل: فهل بقي أحد أفضل من هذا؟
قالت: الأهيف الهَفهاف، الأنُفُ العَيَّافُ، المُفِيدُ المتْلافُ، الذي يُخِيف ولا يخاف.
قيل: فأيُّ الرجال أبغض إليك؟
قالت: الاوْرَةُ النَّؤُوم، الوَكل السَّؤُوم، الضعيف الجَزُوم، اللئِيمُ المَلوم.
قيل: فهل بقي شرٌ من هذا؟!
قالت: نَعَمْ: الأحمقُ النزاع، الضائع المضاع، الذي لا يُهاب ولا يُطاع[20].
أشدُّ الرجال:
* أشدّ الرِّجال الأعْجف[21].
الزَّوْج:
* لا أريده أخا فلان، ولا ابن فُلان، ولا الظريف المتظرف، ولا السمين الألحم، ولكن أريده كسوباً إذا غدا، ضحوكاً إذا أتى[22].
النِّساء:
* خير النساء التي في بَطنِها غُلامْ، تَحْمل على وركها غُلامْ، يمشي وراءها غُلامْ[23].
واستشارها رجل في امرأة يتزوجها، فقالت:
انظُرْ رمْكاءَ جسيمة، أو بيضَاء وَسيمة، في بيت جِدٍّ، أوْ بيت حَدٍّ، أو بيت عِزِّ.
قال: ما تركت من النساء شيئاً، قالت: بلى.
تركتُ السُّوَيداء المِمْراض، والحُمَيراء المِحْياض، الكثيرة المِظاظ[24].
المظاظُ: المُشاقّةُ، والمُشَارَّةُ.
* أسوأ النساء التي تقعد بالفِنَاء، وتمْلأُ الاناء، وتمْذُقُ ما في السّقَاء.
وأطيب النساء التي إذا مَشَتْ اغْبَرتْ، وإذا نطقَتْ صَرْصرتْ، مُتَوَرِّكةٌ جارية، في بطنها جارية، يتبعها جَارية[25].
أي هي مِئْنَاثٌ.
* أجمل النِساءِ الفَخْمَةُ الأسِيلة، وأقبح النساء الجهمة القَفِرَة[26].
* قيل: أي النساء أحب إليك؟!
قالت: البيضاءُ العَطِرةُ، كأنَّها لَيْلةُ قَمِرَةٌ.
قيل: فأيهن ابغض إليك؟!
قالت: العُنْفُصُ القَصِيرة، التي إن استنطقْتَها سكتَتْ، وإنْ سكَتَّ عنها نطقَتْ[27].
الغِلمانُ:(/5)
* أفضَلُ الغِلمانِ الأسْوَقُ الاعْنَقُ، الذي إنْ شبَّ كأنَّه أحمق.
وأفْسَلُ الغِلمان: الأويقِصُ، القَصِيرُ العَضُد، العظيمُ الحاوِية، الأُغيْبِر الغِشاء، الذي يُطِيع أمَّهُ، ويَعْصِيْ عمَّهُ[28].
الاوَيْقِصُ – تصغير الاوْقص: الذي يدنو رأسه من صدره.
الحاوية: ما تَحوَّى من البطن –.
أحسن الأشياء:
أحْسَنُ شيء: غادية، في إثر ساريةٍ، في نَبخاءَ قاوِية[29] – أو: في رَوْضة أنُفٍ.
الغادية: السحابة في الغُدُوِّ.
النَّبْخاء الارض المشرفة المرتفعة – القالي.
ونبت الرابية أحسن من نبت الأودية، لأن السيل يصرع الشجر، فيقذفه في الأودية ويلقي عليه الدَّمن – ثعلب –.
أشد البرد:
أشد البرْدِ رِيحٌ جِرْبياء، في ظلّ عَمَاء، غِبَّ سماء.
أطيبُ المياه نُطفَة زرقاءُ، من سَحابَةٍ غَرَّاء، في صفاةٍ زلاَّء – ويروي: بَلاّء[30].
الشتاءُ والصيف:
* سُئلت: أيُّما أشدُّ، الشتاءُ أم الصَّيف؟
قالت: ومَنْ يَجْعَلُ الأذى كالزَّمانةِ.
أو قالت: مَنْ جَعَل بؤساً كأذَى[31].
النَّارُ الموقدة:
* كُنْتُ – والله في أيام شبابي أَحْسن من النار المُوقدَةِ[32].
أغلظ المواطئ:
* أَغلظُ المواطِئ: الحصا على الصَّفا[33].
أطيب اللحم:
* أطيب اللَّحْمِ عُوّذُه[34].
أَيْ ما لَصِق بالعَظْم –.
أطيب الطعام:
* أطيبُ مُضغَةٍ: صَبْحانِيَّةَ مصْلِيَّة.
أي تمرة صَيْحانِيَّة قد صُلِيتْ في الشمس[35] والصيحاني: نوع من النخل.
المال:
شرُّ المال ما لا يُزَكَّى، ولا يُذَكَّى. وخير المال مُهْرَة مأسورة، أو سُكَّة مأبورة[36].
* خَيْرُ المالِ: النَّخْلُ، الراسخات في الوَحْل، المُطْعِماتُ في المحل.
وأيُّ شيءٍ؟
قالت: الضّأنُ قَرْية لا وَباء بِهَا، تُنْتِجُها رُخالاً، وَتحْلِبُها عُلالاً وتَجُزُّ لها جُفالاً، ولا أرى مِثْلهَا مالاً.
فالابلُ مَالكِ تُؤخِّرينَها؟
قالت: هي اذكار الرجال، وارقاء الدماء، ومهور النِّساء[37].
* مَا مائة من المَعْز؟(/6)
قالت: مُوَيْل يشفُّ الفقْرُ من ورائه، مالُ الضعيف، وحرفة العاجز.
قيل: فما مائةٌ من الضأن؟
قالت: قَرْية لا حمّى بها.
قيل: فما مائة من الابل؟
قالت: بَخٍ جَمال ومال، ومنى الرجال.
قيل: فما مائة من الخيل؟
قالت: طغْيٌ عند من كانتْ، ولا تُوجَدُ.
قيل: فما مائة من الحْمُرِ؟!
قالت: عازِبةُ الليْل، وخِزْي المجالس، لاَ لبَن فَيُحْلبُ، ولا صوف فَيُجَزُّ، إن رُبطَ عَيْرُها دَلىَّ، وإن أرسل وَلَّى[38].
الابل والغنم:
* مائة من المعْز قِنىً، ومائة من الضأن غِنىً، ومائة من الابل مُنىً[39].
الجِمَالُ:
* خَيرُ الجِمال: السِّبَحْلُ، الرَّبحلُ، الراحلة، الفَحْلُ[40].
وسُئِلتْ عن الجذَع، فقالت:
لا يُضْرِبُ ولا يَدَعُ.
وعن الثّنىٍّ: قالت: يُضْرِبُ وضِرَابُهُ وَنِيُّ.
وعن السَّدَس: قالت: ذاك العَرَسُ.
ونَيّ: صوابه: أَنِيّ أي بَطِيّ – القالي –.
في الحيوان:
* آكَلُ الدَّوابِّ بِرْذوْنة رَغُوث[41] أي مُرْضع.
* أخبت الذئاب ذئبُ الغَضا، وأخبث الأفاعي أفعى الجَدْب، وأسْرَع الظباء ظَبْيُ الحُلَّبِ[42].
الحُلب: شجرة حلوة، فلذلك ظباؤها أسرع، وابطأ الظباء ظباء الحمض، لأن الحمض مالح – الميداني –.
في الحكم:
* كنْ حَذِراً كالقِرَلىَّ، إن رآى خَيْراً تَدلّى، وإن رآى شرّاً تَوَلَّى.
القِرَلَّى: طائر من بنات الماء، صغير الجسم، سريع الخطف، يرفرف على وجه الماء ويهوي بإحدى عينيه إلى الماء، والأخرى إلى الجو، فَرَقاً من جارح، فإذا أبصر في الماء سمكة يستطيع الاستقلال بها انقض كالسهم المرسل فاختطفها من قعر الماء، وإن أبصر جارِحاً مَرَّ في الأرض[43] – الزمخشري –.
أفضل البلاد مَرْعى:
أفضل البلاد مَرْعى: خياشِيمُ الحَزْن وجِواء الصّمان.
قيل: ثم ماذا؟!
فقالت: أرها أَجَلى أنَّى شِئْتَ[44].
أي متى شِئتَ بعد هذا – ياقوت –.
أَرِها: أي أَرِ الابل. ويروي: أزْها أَجَلى.
الازهاء: نبات الزهو أي النَّوْر – الزمخشري.(/7)
الحَزْنُ: يُسمَّى الآن الصُّلْب، وهو حَزْنُ بني يَرْبوع هُنا، المجاورُ لجِوَاء الصَّمّان – جَمْع جَوٍّ: ما اتسع من الاودية والتلاع الكبيرة – والصَّمانُ: الارض المعروفة المتاخمة للدهناء من شرقيها.
وأجَلى: أكمات في عالية نجد في وسط أَرْضٍ عذيّة، طيبة النبات، وماؤها الثُّعْلُ لا تزال معروفة.
ــــــــــــــــــــــ
[1] في الاغاني (9/168) قال الاصمعي سمعت أناساً من أهل البادية يتحدثون عن ابنة الخس.
[2] معجم البكري 114 – طبعة مصر –.
[3] تاج العروس.
[4] مقدمة معجم ما استعجم للبكري.
[5] جمهرة انساب العرب لابن حزم (189 ط: الثانية).
[6] الحيوان للجاحظ 1/169 ومجالس ثعلب 369.
[7] ((الاغاني)) 9/168.
[8] ((أعلام النساء 5/233)).
[9] ((البيان الجاحظ 1/312)).
[10] البيان والتبيين 1/313.
[11] المصدر نفسه 1/52.
[12] مجمع الأمثال 1/41.
[13] ((اللسان)) و((التاج)).
[14] ((أمالي القالي 1/199)).
[15] ((اللسان)) و((التاج)).
[16] ((الأمالي القالي 1/199)).
[17] ص62.
[18] البيان للجاحظ 1/312.
[19] ((ذيل أمالي القالي 3/108)).
[20] ((ذيل الأمالي للقالي 3/119)).
[21] ((مجمع الأمثال 1/238)).
[22] ((أعلام النساء 5/231)).
[23] ((ذيل أمالي القالي 3/108)).
[24] ((أمالي القالي 2/257)).
[25] ((أمالي القالي 2/257)).
[26] ((مجمع الأمثال 1/269)).
[27] ((ذيل أمالي القالي 3/119)).
[28] ((أمالي القالي 2/257)).
[29] ((الأمالي للقالي/ 8352)) مجالس ثعلب 343.
[30] اللسان، والتاج.
[31] ((البيان للجاحظ 1/205)).
[32] ((الحيوان للجاحظ 5/94)).
[33] ((مجمع الأمثال 1/269)).
[34] ((مجمع الأمثال 1/269)).
[35] ((المستقصى 1/229)).
[36] ((مجمع الأمثال 1/269)).
[37] ((ذيل أمالي القالي 3/108)).
[38] ((أمالي المرتضى 1/220)) و((العقد الفريد 7/227)).
[39] ((الحيوان للجاحظ 5/459)).
[40] ((أمالي القالي 2/218 و 3/108)).(/8)
[41] ((مجمع الأمثال 1/260)) و ((المستقصى)).
[42] ((المستقصى 1/93)) و((مجمع الأمثال 1/269)).
[43] ((المستقصى 1/62)) و((مجمع الأمثال 1/238)).
[44] ((بلاد العرب – مخطوط – عن أبي مجيب 48 و 127)) و((معجم البلدان – أجلى)) و – حزن يربوع – عن ابن الاعرابي.(/9)
العنوان: بوش يوقف التعذيب خلال الاستجواب.. هل حقاً؟!
رقم المقالة: 1109
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
بعد أكثرَ من خمس سنوات على وصول أولِ دفعة من المعتقلين المسلمين في أنحاءٍ كثيرة من العالم إلى المعتقَل الأمريكي الإرهابي (غوانتانامو)، وبعد سنوات من التعذيب المرير، والمعاملات غير الإنسانية، والإهانات المتكررة للمسلمين ومقدساتهم، قرر الرئيسُ الأمريكي جورج بوش الابنُ إصدارَ قرار يمنع بموجبه تعذيب المعتقلين على خلفية ما أطلق عليه اسم "الحرب على الإرهاب" عالمياً.
القرار الذي صدر يوم الجمعة 20 من يوليو 2007 بات يثير السخريةَ بعد التجاوزات التي قام بها الجنودُ الأمريكيون في أماكنَ كثيرةٍ في العالم، ولا يمكنه أن يقوم بدور "الملمّع" الذي يمكن من خلاله تلميع صورة الولايات المتحدة، والأمريكيين، بعد سنوات من التعذيب والإهانات المتكررة غير المسبوقة.
الرئيس الأمريكي أعلن قبل أيام، أنه أصدر قراراً يمنع بموجبه التعذيب والمعاملة السيئة والإهانة أو السخرية من العقائد الدينية خلال استجواب المتهمين في قضايا الإرهاب. وهو ما يعني بالدرجة الأولى المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) التي قال مديرها (مايكل هايدن) فور إعلان بوش الجديد: "إن هذا القرار جعل الأمور أكثر وضوحاً من الناحية القانونية بالنسبة للوكالة".
وبطبيعة الحال، لم ينس هايدن أن ينمّق هو أيضا صورة الاستخبارات الأمريكية -التي لم تكن في يوم من الأيام بصورة أسوأ من صورتها اليوم- قائلاً: "إن القرار الذي أصدره بوش منح عناصر الوكالة التأكيد لقيامهم بمهامهم الضرورية وَفق القوانين الأمريكية"!! في وقت كان الأولى به أن يطأطئ رأسه خجلاً من دور وكالته في الفضائح المتلاحقة والمتكررة حول التعذيب في المعتقلات الأمريكية في عدة أماكن عالمية.
من أفغانستان إلى غوانتانامو:(/1)
منذ اليوم الأول على هجَمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، انتهجت الولايات المتحدة أسلوباً قاسياً في الاعتقال والتعذيب والإساءة، جعل الكثير من الأمريكيين العسكريين والأمنيين، يقومون بالتعذيب كنوع من أنواع الانتقام السلبي، ضد أي مسلم يقبض عليه داخل الولايات المتحدة أو خارجها.
فخلال الساعات القليلة التي تلت سقوط مبنيي التجارة العالميين في نيويورك، أطلقت أجهزة الأمن الأمريكية حملة أمنية كبيرة، استهدفت اعتقالَ الآلاف، في محاولة منها للحصول على أي دليل لتورط أحد في التفجيرات. بحسب ما جاء في الوثيقة الدولية التي نشرتها منظمة العفو الدولية، بتاريخ 15 إبريل 2002.
وجاءت هذه الاعتقالات العشوائية والانتقامية، بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي جورج بوش، والذي قال فيه: "لقد وجهت كامل طاقات أجهزة المخابرات وتنفيذ القانون لدينا للعثور على المسؤولين عن ذلك وتقديمهم إلى العدالة".
وقد جرى الكثير من عمليات الاعتقال عقب أحداث 11 من سبتمبر، بموجب تعليمات طوارئ أصدرها النائب العام الأمريكي في 19 من سبتمبر. ومدَّدت هذه التعليمات المدة التي يُسمح خلالها باحتجاز غير المواطنين لدى مصلحة الهجرة والجنسية دون توجيه تهمة إليهم من 24 ساعة إلى 48 ساعة "أو لمدة إضافية أخرى، عند الضرورة، في ظل حالة الطوارئ أو في ظروف استثنائية أخرى". وصلت إلى ستة أشهر، قبل أن يصبح معتقل (غوانتانامو) جاهزاً لاستقبال أعداء أمريكا المفترضين!! حسبما تؤكد المنظمة الدولية في الوثيقة ذاتها.
وتزامنت موجة الاعتقالات التي حدثت في الولايات المتحدة، بموجة أخرى مماثلة وقعت في عشرات من الدول العالمية، والتي جاءت على خلفية مطالبة الولايات المتحدة لهذه الدول، باعتقال المشتبه بهم (بالإرهاب)!.(/2)
وبتاريخ 22 من نوفمبر 2001، كتبت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية تقول: "إنه وبناء على إلحاح وكالة الاستخبارات المركزية، قامت أجهزة الاستخبارات ودوائر الشرطة في 50 دولة عالمية؛ باعتقال نحو 300 ممن يشتبه بوجود صلات مزعومة لهم بشبكة القاعدة".
وبعد تلك الاعتقالات الأمريكية والعالمية، أنشأت الولايات المتحدة عشرات المعتقلات السرية حول العالم، إلا أنها لم تكن لتهنأ بذلك، إذ بدأت تتكشف للناس هذه المعتقلات وينفضح أمرها، وذلك أوقع الإدارة الأمريكية ووكالة استخباراتها واستخبارات العديد من دول العالم في حرج كبير. وكان أول تسريب لتلك المعلومات قد وقع بتاريخ 2 نوفمبر 2005، عبر صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية.
وبدأت وسائل الإعلام أو المنظمات العالمية أو المعتقلون أنفسهم، يكشفون عن التعذيب الذي حصل في تلك المعتقلات. من بينها شهادة المحامي الأمريكي (كلايف ستافورد سميث)، الذي قال خلال مؤتمر صحفي عقده خلال شهر يونيو 2005: "نعتقد أن هناك 520 معتقل مسلم في غوانتانامو، ولكن هناك حوالي 12 ألف معتقل مسلم حول العالم تعتقلهم أميركا حاليا، وهذه السجون هي معتقلات سرية حول العالم وأخطر بكثير من غوانتانامو".
التعذيب الممنهج:
قصة التعذيب على يد الأمريكيين، قصة طويلة بالفعل، لا يمكن أن ينهيها بوش بإعلانه المنمق الأخير، فالتعذيب شكل من أشكال "الديمقراطية" الأمريكية، أنشأت لها مدارس، وأطرتها في كتب، وجربتها في سجون عديدة.
وخلال السنوات الأخيرة فقط، نشأ الكثير من المدارس والفلسفات التعذيبية في أمريكا، منها على سبيل المثال، المدرسة العسكرية في باناما، والتي تأسست عام 1946، وهدفت إلى تدريب رجال الشرطة والضباط فى أمريكا اللاتينية ضد الأنظمة الشيوعية وحركات التحرير، وقد أصدرت هذه المدرسة كتباً منسقة توصي باستخدام التعذيب والإعدامات بغير محاكمة واستخدام كل أساليب العنف بغية الحصول على المعلومات من المعارضين.(/3)
وخلال عام 1963، طبعت أشهر كتب التعذيب تحت اسم (Kubark) لتعليم فنون التعذيب، ويبدأ الكتاب الشهير بتعليم أفضل الطرق وأنجعها للتحقيق، ويبدأ بعبارة "حتى تكون محققاً جيداً"!!
وفي عام 1983، طوّرت المخابرات الأمريكية منهج التعذيب إلى الأسوأ، إذ أصدرت كتاباً آخر بعنوان "التدريب لاستغلال القدرات البشرية" ويتفق المنهج الذي طبّق في سجن أبي غريب في العراق إلى حد كبير مع منهج هذا الكتاب.
وقد شهدت مدرسة التعذيب الأمريكية خلال عام 1984 تطوراً بانتقالها إلى نورث بينييج.
وخلال الأعوام التالية، شهد التاريخ الكثير من النماذج السلبية للتعذيب الأمريكي، كان من آخرها التعذيب في أفغانستان، والعراق، وغوانتانامو.
التعذيب الجديد:
إحدى أكثر حالات العذيب الأكثر فظاظة وقساوة هي تلك الحالات التي تعرض ويتعرض لها السجناء العرب والمسلمون في أفغانستان والعراق وغوانتانامو وغيرها من السجون الخاضعة للإدارة الأمريكية هنا وهناك.
وقد نشر الكثير من وسائل الإعلام أخباراً تفصيلية عن التعذيب الدائر داخل تلك المعتقلات، من بينها تقرير الجنرال الأمريكي (أنطونيو ثاغوبا) عن طرق التعذيب في العراق وأفغانستان، والخبر الذي نقلته وكالة رويترز عن ضباط أمريكيين في إبريل 2004، والذين كشفوا تعرّض أحد المعتقلين التونسيين (35 عاماً) للتعذيب في أثناء اعتقاله في أفغانستان". كذلك الخبر الذي نشرته صحيفة (الغارديان) اللندنية في شهر يونيو 2004، عن حالات منتظمة من التعذيب في سجون أفغانستان تمت مع محتجزين وأسفرت عن مقتل خمسة منهم، وذلك بعد تعرضهم للضرب ونزع الملابس وتغطية رؤوسهم وحرمانهم من النوم والاعتداءات الأخلاقية. فضلاً عن الشهادة التي كشفها المعتقل السابق في غوانتانامو (عادل كامل)، والذي روى مشاهداته الحية عن التعذيب في أفغانستان، بدءًا من ترحيلهم من معتقلات باكستانية إلى قندهار، وصولاً إلى غوانتانامو.(/4)
وفي باكستان أيضاً، لم يسلم المعتقلون العرب والمسلمون من التعذيب، على يد القوات الأمنية الباكستانية والقوات الأمريكية. وهو ما تزخر به وسائل إعلام عديدة، ويرويها شهود عيان، كعادل كامل وغيره.
أما في غوانتانامو، فلا شيء أسوأ من التعذيب هناك، إذ تصبح معايير الحياة والموت مختلفة، خاصة مع عدم الأمل في الحرية أو الخلاص من ظلمة مستبدين، لا يملكون في قلبهم رحمة ولا رأفة.
وقد تنوّعت شهادات المعتقلين هناك، أو حتى غير المعتقلين، حول ظروف الحياة والتعذيب، والقساوة التي يعانونها، إلا أنها كانت برغم ذلك متطابقةً في الوصف العام للحالة التي يكابدها المعتقلون. والتي جاءت على لسان معتقلين سابقين، أو ضباط أمريكيين عملوا هناك، أو أطباء قاموا بمداواة الجرحى، على الطريقة التي يرويها سامي الحاج (مصور الجزيرة الذي لا يزال معتقلاً هناك) إذ يقول: "الجراحون يشهد لهم بالإخلاص والتفاني ولا يتأخرون في بتر أيدي وأرجل الأسرى العليلة والسليمة على حد سواء، ويشاطرهم في هذا الجهد الصيادلة الذين يصرفون بسخاء حبوب المخدرات الغالية الثمن لمن يعلم ولمن لا يعلم". ويضيف في رسالة لمحاميه بالقول: "حبيب التعزي (معتقل يمني في غوانتانامو) ضرب الرقم القياسي في التعاون في التحقيق ولا سيما أنه قد خلع له أربعة أضراس سليمة وتركت له الأضراس الأخرى"!(/5)
هناك المئات من الاعترافات والشهادات للتعذيب في غوانتانامو وغيره، على يد القوات الأمريكية، التي لم تجد أذناً صاغية في أمريكا، خاصة الدول الأوروبية التي تم فضح وجود معتقلات أمريكية على أراضيها للتعذيب، ومنظمات حقوق الإنسان، والمنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، وقد تجاهلت مع كل ما حدث من ردود أفعال على خلفية فضح طرق التعذيب المشينة في العراق، وفي أفغانستان حيث وصل الأمر إلى إحراق الجثث والتمثيل بها، وتصوير كل ذلك، وفي غوانتانامو، لدرجة وصل فيها الأمر إلى وفاة عدد من المعتقلين، وشلل عدد آخر، وإصابة الغالبية منهم بأمراض كالسرطان، والسل، مع بتر الأطراف، وغيرها.
كل ذلك لم يستَرْعِ من الأمريكيين أي اهتمام، اليوم فقط قرر بوش أن يقول لرجال استخباراته إن عليهم الالتزام بعدم تعذيب المعتقلين على خلفية الإرهاب، بعد 5 سنوات من بدء التعذيب في غوانتانامو..
ترى هل احتاج بوش لهذه السنوات الخمس بالفعل لإيقاف التعذيب على يد رجال استخباراته، أو احتاج لـ3 سنوات منذ فضيحة أبي غريب في العراق، ليقول لرجاله إن عليهم الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان؟!
سؤال لا يرقى للبحث عن جواب له، ما دام الرئيس بوش نفسه رفض جميع "التهم!" بوجود تعذيب أمريكي ضد المعتقلين، كان آخرها في سبتمبر الماضي، عندما أعلن أن "برامج الاستجواب التي تتبعها وكالة الاستخبارات المركزية حالت دون تنفيذ عدة عمليات إرهابية، وانقذت أرواحاً"، مؤكداً أنها كانت طرق استجواب شرعية ولا تخالف القانون!!(/6)
العنوان: بيان أسباب الهزيمة وما قد تؤدي إليه من نتائج
رقم المقالة: 730
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الواسع العليم العلي العظيم المتصرف في خلقه بما تقتضيه حكمته ورحمته فهو الحكيم الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم والخير العميم، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المبعوث بالهدى والرحمة والصبر واليقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله وآمنوا بقضائه وقدره، واعلموا أن ما يقضيه الله في خلقه فإنه صادر عن مقتضى حكمته ورحمته لا يخلق شيئاً سدى ولا يقدر شيئاً إلا رحمة بالعباد، فإن رحمته سبقت غضبه، ولا يقضي لعباده المؤمنين إلا ما هو خير لهم، فإن المؤمن إما أن يصاب بسراء ونعمة فيقوم بالشكر لله تعالى فيكون ذلك خيراً له، وإما أن يصاب بضراء ونقمة فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر من الله ويعلم أن لله في ذلك من الحكمة ما لا تدركه العقول ويكون بالصبر على المصائب خير له، وقد يقدر الله الأمر يكرهه الناس فينتج عن ذلك من المصالح ما تتبين به حكمة الله تعالى ورحمته قال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فالمقاتل مثلاً يحب الانتصار على عدوه والظهور عليه، ولكن قد تأبى ذلك حكمة الله فيغلب ويهزم وينتصر عليه عدوه فيكره ذلك ويمتعض منه، ولكن قد يكون في هذه الهزيمة خير كثير تظهر نتائجه إما عاجلاً وإما آجلاً، وذلك أن الهزيمة تمحيص وابتلاء فقد يكون المهزوم مسرفاً على نفسه مقصرا في حق ربه فتكون الهزيمة تأديباً له وتكفيراً لسيئاته، وقد يكون المهزوم مفتخرا بنفسه معجبا بقوته الداخلية والخارجية فيهزمه الله ليعرف بذلك قدر نفسه وأنه ضعيف لا حول له ولا قوة إلا بالله الذي بيده أزمة الأمور ونواصي الخلق، وقد يهزم الجنود بسبب تفرقهم واختلاف كلمتهم فتكون الهزيمة سبباً لمعرفة الداء الذي أصيبوا منه، فيسعون في إزالة هذا الداء ويجمعون كلمتهم ويوحدون صفوفهم. وقد بين الله تعالى في كتابه هذه الأسباب الثلاثة للهزيمة ليحذر الناس منها، ففي غزوة أحد حصل من بعض المسلمين مخالفة فيما أمروا أن يكونوا فيه فحصلت الهزيمة عليهم قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ(/2)
اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166] وذكر لذلك حكماً عظيمة، وفي حنين أعجب المسلمون بكثرتهم وكانوا اثنى عشر ألفاً فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فقال تعالى مخبرا عن ذلك: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شيئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:25،26]. والحكمة في ذلك أن يعلم العباد أن النصر من عند الله تعالى وأن الأسباب ليست وحدها هي الكافية في الانتصار ودحر الأعداء، خصوصاً إذا افتخر العبد بها ونسي أن الأمور كلها بإذن الله، وإن العبد إذا وكل إلى قوته وكل إلى ضعف وعجز وعورة، أما التنازع والتفرق فهو أيضاًً من أسباب الهزيمة قال الله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] فإذا كانت هذه الأمور الثلاثة من أسباب الهزيمة فإن الجنود المخلصين لا بد أن يتأملوا الأسباب، ومن أين حصلت هزيمتهم ثم ليسعوا في القضاء على الداء فتكون النتيجة خيراً ويكون المهزوم أوعى وأبعد نظراً مما كان قبل هزيمته، ويكون في الهزيمة من المصالح أضعاف أضعاف النصر يقول الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.[البقرة:216] والإنسان قد يحب أن ينال شيئاً من المال ويطمع في ذلك ثم يصرف عنه ولا يحصل له فيندم على ذلك، ولكن عندما يراجع نفسه يقول لعل الله صرفه عني لخير أراده لي فيزول ندمه ويطمئن قلبه. ففوات(/3)
المحبوب أيها المسلم قد يكون خيراً لك كما أن حصول المكروه قد تكون عاقبته خيراً، والله تعالى يقدر هذا وهذا، فمن وفق للرضا بقضاء الله وقدره نال الخير والطمأنينة وراحة البدن، ومن فكر وقدر واعترض على القضاء ولم يرض فذلك القلق الهالك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. إلخ.(/4)
العنوان: بيان الأموال الزكوية
رقم المقالة: 702
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي فرض الزكاة تزكية للنفوس، وتنمية للأموال، ورتب على الإنفاق في سبيله خلفا عاجلاً وثواباً جزيلاً في المآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الكبير المتعال، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي حاز أكمل صفات المخلوقين، وأجل الخصال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأدوا زكاة أموالكم، فإن الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله من جحد وجوبها كفر، ومن منعها بخلاً وتهاوناً فسق، ومن أداها معتقداً وجوبها راجياً ثوابها، فليبشر بالخير الكثير والخلف العاجل والبركة، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مئة حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].(/1)
أيها المسلمون: أدوا الزكاة قبل أن تفقدوا المال مرتحلين عنه، أو مرتحلاً عنكم، فإنما أنتم في الدنيا غرباء مسافرون، والمال وديعة بين أيديكم لا تدرون متى تعدمون، أدوا زكاة أموالكم قبل أن يأتي اليوم الذي يحمي عليه في نار جهنم، فتكوى به الجباه والجنوب والظهور قبل أن يمثل لصاحبه شجاعاً أقرع، فيأخذ بشدقيه، ويقول: أنا مالك أنا كنزك. أيها المسلمون: لقد جاءت النصوص عامة مطلقة في وجوب الزكاة في الذهب والفضة في الذهب إذا بلغ عشرين ديناراً، وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم، وهذا هو نصاب الذهب والفضة، فما كان أقل منه، فلا زكاة فيه، وما كان منه فأكثر، ففيه ربع العشر، ففي عشرين ديناراً نصف دينار، وفي مائتي درهم خمسة دراهم، وهذه الأوراق النقدية التي تتعاملون بها بدلاً عن الذهب والفضة لها حكم الذهب والفضة. أيها المسلمون: لقد اختلف العلماء رحمهم الله في الحلي حلي المرأة من الذهب والفضة إذا كانت تلبسه، أو تعيره هل تجب فيه الزكاة أو لا؟ وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]. وإذا رددنا ذلك النزاع إلى الكتاب والسنة وجدنا الصواب مع العلماء الذين قالوا بوجوب الزكاة فيه: - أولا: - لعموم الأدلة الموجبة للزكاة في الذهب والفضة من غير استثناء. ثانيا: - للأدلة الخاصة الصريحة في وجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة، ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها بنت لها وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتؤدين زكاة هذا، قالت، لا قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار، فخلعتهما، فألقتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: هما لله ورسوله)). هذا حديث إسناده قوي، وله شواهد.(/2)
ثالثا: - عدم المعارض الصحيح لهذه الأدلة، وإذا ثبت الدليل، وانتفى المعارض وجب القول بما قام الدليل عليه. أيها المسلمون: إن القول بوجوب الزكاة في حلي النساء من الذهب والفضة ليس ببدع من الأقوال، فقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة والتابعين، وذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، واختاره من المتأخرين شيخنا السلفي الأثري أبو عبد الله عبد العزيز بن باز، وعلى كل حال، فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، إذا جاءت به الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا قول لأحد بعدها. فأدوا زكاة الحلي، إذا بلغ نصاباً ربع عشر ما يساوي عند تمام الحول.(/3)
أيها المسلمون: وإن مما تجب به الزكاة عروض التجارة، وهي ما أعده الإنسان للبيع والاتجار به من حيوان وعقار وأثاث ومتاع وأوان، وغير ذلك كل شيء عندك للتجارة، فهو عروض تجارة، إذا حال الحول، فقومه كم يساوي، ثم أخرج ربع عشر قيمته، ومن عروض التجارة أيضاًً ما يكون عند الفلاحين من الإبل والبقر والغنم التي يربونها للبيع، فأما العقارات التي أعدها الإنسان له، ولا يريد بيعها، وإنما يريد أن يسكنها، أو يؤجرها، فهذه ليس فيها زكاة، ولا زكاة فيما أعده الإنسان لبيته من الأواني والفرش ونحوها، ولا فيما أعده الفلاح لحاجة الفلاحة من المكائن وآلات الحرث ونحوها، وخلاصة ذلك أن كل شيء تعده لحاجتك أو للاستغلال سوى الذهب والفضة، فلا زكاة فيه، وما أعددته للاتجار، والتكسب ففيه الزكاة. أما الديون التي عند الناس، فلا يجب عليك إخراج زكاتها حتى تقبضها، فإذا قبضتها، فإن كان الدين على مليء وجب أن تخرج عنه زكاة كل السنوات الماضية، وإن كان على فقير لم يجب أن تخرج إلا عن سنة واحدة، فقط، وإن أخرجت زكاة الدين قبل قبضه، فلا بأس. إخواني: لا تنفع الزكاة، ولا تبرأ بها الذمة حتى يخرجها على الوجه المشروع بأن يصرفها في مصارفها في مصارفها الشرعية في الأصناف الثمانية التي ذكر الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. فالفقراء والمساكين هم الذين لا يجدون كفايتهم، وكفاية عائلتهم، فمن كان له كفاية من صنعة، أو حرفة، أو تجارة، أو راتب، أو عطاء من بيت المال، أو نفقة ممن تجب عليه نفقته، أو غير ذلك، فإنه لا يجوز إعطاؤه من الزكاة، إلا أن يكون عليه طلب لا يستطيع وفاءه، فلا بأس أن تعطيه لوفاء دينه، وكما يجوز لك أن تعطي المطلوب لقضاء(/4)
الطلب، فيجوز لك أن تذهب أنت بنفسك إلى من له الطلب، وتقول هذا عن فلان، فأسقطه من دينه، ولو لم تخبر المطلوب بذلك.
وها هنا مسألتان يقع السؤال عنهما كثيراً حداهما أن بعض الفقراء يكون أخرق إذا أعطيته أفسده، فهل يجوز أن أشتري له بالزكاة حاجة، وأعطيها إياه، والجواب على هذا أن ذلك لا يجوز لكن لك أن تقول له اشتر حاجة من السوق، فإذا اشترى جاز لك أن توفي عنه من الزكاة. المسألة الثانية أن بعض الناس يكون له عادة بأخذ الزكاة، ثم يغنيه الله، فإذا أعطي الزكاة أخذها، وأعطاها الفقراء، وهذا حرام لا يجوز، بل إذا أغناه الله، وجب عليه ردها، وصاحبها إن شاء أخذها، وإن شاء وكله في دفعها إلى أحد. وفقني الله وإياكم لمعرفة الحق، وإتباعه ومعرفة الباطل واجتنابه وهدانا، وإياكم الصراط المستقيم إنه جواد كريم.(/5)
العنوان: بيان الحكمة في تفاوت الناس في الرزق
رقم المقالة: 773
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الواحد القهار الحكيم في خلقه وشرعه ففي خلقه وفي شرعه غاية الحكم والأسرار قسم الرزق بين عباده ما بين غنى واقتار لتقوم مصالح العباد في المعاش والمعاد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغني الكريم الجواد وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله سيد المرسل وخلاصة العباد وأبلغ الناس في الزهد والورع والشكر والصبر على أحكام الملك الجبار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان آناء الليل والنهار وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله له الحكمة البالغة في الخلق والتقدير والتضييق على عباده والتيسير وله الحكمة البالغة في الحكم والتشريع فأحكام شريعته كلها عدل ورحمة وحكمة مصلحة للعباد في دنياهم وأخراهم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فله الحمد في منعه وعطائه وعلى العباد إذا وسع عليهم أرزاقهم أن يشكروه ويقوموا بما يجب عليهم في هذه الأرزاق وعلى العباد إذا قدرت عليهم أرزاقهم أن يصبروا على تقدير الواحد الخلاق فهم أعلم بمصالحهم وهو أرحم بهم من أمهاتهم لقد قسم العليم الحكيم الرزق على عباده فمنهم من بسط له في رزقه ومنهم من قدر عليه رزقه وذلك لحكم عظيمة باهرة قسم الله الرزق على عباده ليعرفوا بذلك أنه المدبر لجميع الأمور وأن بيده مقاليد السماوات والأرض فهذا يوسع عليه والآخر يضيق عليه ولا راد لقضائه وقدره: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:12] بسط العليم الحكيم الرزق لبعض العباد وضيقه على بعضهم ليعتبروا بهذا التفاوت في الدنيا تفاوت ما بينهم في درجات الآخرة فكما أن الناس في هذه الدنيا متفاوتون فمنهم من يسكن القصور المشيدة العالية ويركب المراكب الفخمة الغالية ويتقلب في ماله وأهله وبنيه في سرور وحبور ومنهم من لا مأوى له ولا أهل ولا مال ولا بنون ومنهم ما بين ذلك على درجات مختلفة فإن التفاوت في درجات الآخرة أعظم وأكبر وأجل وأبقى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} فإذا كانت الآخرة أكبر الدرجات وأكبر تفضيلاً فإنه ينبغي أن نتسابق إلى درجاتها العالية وحياتها الباقية ذلك خير وأحسن تأويلاً قسم الله الرزق بين عباده.(/2)
ليعرف الغني قدر نعمة الله عليه بالإيسار فيشكره عليها ويلتحق بالشاكرين ويعرف الفقير ما ابتلاه الله به من الفقر فيصبر عليه وينال درجة الصابرين {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وهو مع ذلك لا يزال يسأل ربه الميسرة وينتظر الفرج من رب العالمين قسم الله الرزق بين عباده لتقوم مصالحهم الدينية والدنيوية فلو بسط الرزق لجميع العباد لبغوا في الأرض بالكفر والطغيان والفساد ولو ضيق الرزق على جميعهم لاختل نظامهم وتهاوت من معيشتهم الأركان لو كان الناس في الرزق على درجة واحدة لم يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً لم يعمل أحدهم للآخر صنعة ولم يحترف له بحرفة لأن الكل في درجة واحدة فليس أحدهم أولى بهذا من الآخر أين الرحمة والعطف من الغني للفقير إذا قدرنا أن الناس كلهم في درجة واحدة أين الموقع العظيم الذي يحصل بصلة الأقارب بالمال إذا كان الكل في درجة واحدة إن هذا وأضعافه من المصالح يفقد لو تساوى الناس في الأرزاق ولكن الحكيم العليم قسم بينهم أرزاقهم وأمر الأغنياء بالشكر والإنفاق وأمر الفقراء بالصبر وانتظار الفرج من الكريم الرزاق فعلينا معشر المسلمين أن نرضى به ربا فنرضى بقسمه واقداره وأن نرضى به حكماً فنؤمن بحكمه وأسراره أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/3)
العنوان: بيان أن السماوات أجرام محسوسة
رقم المقالة: 627
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي رفع السماوات بغير عماد ووضع الأرض وهيأها للعباد وجعلها مقرهم أحياء وأمواتاً فمنها خلقهم وفيها يعيدهم ومنها يخرجهم تارة أخرى يوم الحشر والتناد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العزة والقوة والاقتدار وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأطيعوه وصدقوا بما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب واعتقدوه وارفضوا ما خالف الكتاب والسنة من أقوال الناس واطرحوه فإن كل ما خالفهما فهو باطل كذب ليس له حقيقة وكل ما وافق الكتاب والسنة فهو حق لقيام الدليل عليه والحجة الوثيقة فإن كلام الله وكلام رسوله هما أصدق الكلام وأبينه وأظهره للأنام واعلموا أن الله تعالى خلق فوقكم سبع سموات طباقاً شداداً وهذه السماوات أجرام محسوسة ظاهرة لا تقبل شكا ولا جدالاً ولا عنادا قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً}، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ}، {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} أي قوية: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}{رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}، {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً}، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}، أي شقوق: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2]، {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ * إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ * وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَ بِإِذْنِهِ} [الزمر:67]، فهذه الآيات وأمثالها تدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك على أن السماوات أجرام محسوسة حقيقية تدل على ذلك دلالة قاطعة لا تقبل الشك فالطرائق والطباق والرفع والسمك والسقف والطي (يعني الطوي) كل ذلك نص صريح قاطع في أن السماوات ذات أجرام محسوسة ثم إن إثبات الأبواب(/2)
لها ونفي الفروج والفطور عنها وهي الشقوق ونفي وقوعها على الأرض كل ذلك دليل على أن السماوات ذات أجرام محسوسة ظاهرة والنبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرج به كان يصعد إلى السماوات سماء سماء وفي كل سماء يسلم على نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقد تواتر ذلك بين المسلمين وأجمعوا عليه. فمن أنكر شيئاً منها أو شك فيه فهو كافر لأنه مكذب لله ولرسوله وإجماع المؤمنين: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] وإنما قررنا هذا ونبهنا عليه لأنه يوجد من زنادقة الفلكيين وملحديهم من ينكر أن تكون السماوات أجراماً محسوسة فيخشى أن يروج هذا الباطل على من لا علم له بالكتاب والسنة وجميع الأقاويل التي يتكلم به الفلكيون في هذه الأمور لا تعتقد حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله فإن وجد فيها ما يدل عليها فهي حق مقبولة وإن وجد في الكتاب والسنة ما يكذبها فهي باطل مردودة وإن كان الكتاب والسنة ليس فيهما ما يدل على تلك الأقاويل لا نفياً ولا إثباتاً وجب التوقف فيها حتى يقوم دليل علمي أو عقلي على صحتها وإنما قلنا بوجوب التوقف فيها حتى يقوم الدليل عليها لأننا لا يمكن أن نأخذ أقوالهم مسلمة مع أنهم يختلفون فيما بينهم أحياناً لأنها قد تكون خطأ وقد تكون صوابا وهذه السماوات لا يمكن لأحد أن يخترقها أو يجاوزها لا بقوة صناعة ولا غيرها إلا بإذن الله فلقد عرج بأشرف الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - بصحبة جبريل - صلى الله عليه وسلم - الذي وصفه الله تعالى بالقوة العظيمة والمكانة الجليلة فكانا لا يأتيان سماء من السماوات إلا كانا يستفتحان حتى يفتح لهما.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(/3)
العنوان: بيان بدعة عيد المولد
رقم المقالة: 640
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي من على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين الذي أسبغ على عباده نعمه ووسعهم برحمته وهو أرحم الراحمين وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي أرسله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويكمل لهم به الدين فلم يترك شيئاً يقرب إلى الله وينفع الخلق إلا بينه وأمر به ولا شيئاً يبعدهم عن ربهم أو يضرهم إلا حذر عنه حتى ترك أمته على ملة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن أعظم منة وأكبر نعمة من الله على عباده أن بعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وكان من أعظمهم قدراً وأبلغهم أثراً وأعمهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه الله تعالى لهداية الخلق أجمعين وختم به النبيين بعثه الله على حين فترة من الرسل والناس أشد ما يكونون حاجة إلى نور الرسالة فهدى الله به من الضلالة وألف به بعد الفرقة وأغنى به بعد العيلة فأصبح الناس بنعمة الله إخواناً وفي دين الله أعواناً فدانت الأمم لهذا الدين وكان المتمسكون به غرة بيضاء في جبين التاريخ فلما كانت الأمة الإسلامية حريصة على تنفيذ شرع الله متمشية في عباداتها ومعاملاتها وسياستها الداخلية والخارجية على ما كان عليه قائدها وهاديها محمد - صلى الله عليه وسلم - لما كانت الأمة الإسلامية على هذا الوصف كانت هي الأمة الظاهرة الظافرة المنصورة ولما حصل فيها ما حصل من الانحراف عن هذا السبيل تغير الوضع فجعل بأسهم بينهم وسلط عليهم الأعداء وكانوا غثاء كغثاء السيل فتداعت عليهم الأمم وفرقتهم الأهواء ولن يعود لهذه الأمة مجدها الثابت وعزها المستقر حتى تعود أفراداً وشعوباً إلى دينها الذي به عزتها وتطبق هذا الدين قولا وعملاً وعقيدة وهدفاً على ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام وإن من تمام تطبيقه أن لا يشرع شيء من العبادات والمواسم الدينية إلا ما كان ثابتاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الناس إنما أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء فمن تعبد لله بما لم يشرعه الله فعمله مردود عليه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) وهو في نظر الشارع بدعة وكل بدعة ضلالة.(/2)
وإن من جملة البدع ما ابتدعه بعض الناس في شهر ربيع الأول من بدعة عيد المولد النبوي، يجتمعون في الليلة الثانية عشرة منه في المساجد أو في البيوت فيصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلوات مبتدعة ويقرؤون مدائح للنبي - صلى الله عليه وسلم - تخرج بهم إلى حد الغلو الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وربما صنعوا مع ذلك طعاماً يسهرون عليه فأضاعوا المال والزمان وأتعبوا الأبدان فيما لم يشرعه الله ولا رسوله ولا عمله الخلفاء الراشدون ولا الصحابة ولا المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة ولا التابعون بإحسان ولو كان خيراً لسبقونا إليه ولو كان خيراً ما حرمه الله تعالى سلف هذه الأمة وفيهم الخلفاء الراشدون والأئمة وما كان الله تعالى ليحرم سلف هذه الأمة ذلك الخير لو كان خيراً ثم يأتي أناس من القرن الرابع الهجري فيحدثون تلك البدعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم): ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع ولو كان خيراً محضاً أو راجحاً كان السلف أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منا وهم على الخير أحرص وإنما كانت محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته ظاهراً وباطناً ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حرصاء على هذه البدع تجدهم فاترين في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما أمروا بالنشاط فيه وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه أو يقرأ فيه ولا يتبعه اهـ كلامه رحمه الله تعالى. أيها المسلمون إن بدعة عيد المولد التي تقام في شهر ربيع الأول في الليلة(/3)
الثانية عشرة منه ليس لها أساس من التاريخ لأنه لم يثبت أن ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تلك الليلة وقد اضطربت أقوال المؤرخين في ذلك فبعضهم زعم أن ولادته في اليوم الثاني من الشهر وبعضهم في الثامن وبعضهم في التاسع وبعضهم في العاشر وبعضهم في الثاني عشر وبعضهم في السابع عشر وبعضهم في الثاني والعشرين فهذه أقوال سبعة ليس لبعضها ما يدل على رجحانه على الآخر فيبقى تعيين مولده - صلى الله عليه وسلم - من الشهر مجهولاً إلا أن بعض المعاصرين حقق أنه كان في اليوم التاسع. وإذا لم يكن لبدعة عيد مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - أساس من التاريخ فليس لها أساس من الدين أيضاًً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها ولم يأمر بها ولم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)). وكان يقول في خطبة الجمعة: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)). والأعياد والمواسم الدينية التي يقصد بها التقرب إلى الله تعالى بتعظيمه وتعظيم نبيه - صلى الله عليه وسلم - هي من العبادات فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى ورسوله ولا يتعبد أحد بشيء منها إلا ما جاء عن الله ورسوله. وفيما شرعه الله تعالى من تعظيم رسوله - صلى الله عليه وسلم - ووسائل محبته ما يغني عن كل وسيلة تبتدع وتحدث. فاتقوا الله عباد الله واستغنوا بما شرعه عما لم يشرعه وبما سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما لم يسنه.(/4)
أيها المسلمون إننا لم نتكلم عن هذه البدعة لأنها موجودة في بلادنا فإنها ولله الحمد لم تعرفها ولا تعمل بها اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ولكن لما كان الكثير قد يسمع عنها في الإذاعات أردنا أن نبين أصلها وحكمها حتى يكون المسلمون على بصيرة منها وأن يأخذوا من دينهم باللب دون القشور التي لا أصل لها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(/5)
العنوان: بيان خيانة اليهود
رقم المقالة: 731
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله والحمد لله على ما قدره بحكمته من دقيق الأمر وجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك كله وله الحمد كله بيده الخير كله، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين، كونوا مع الصادقين الذين عاملوا ربهم بصدق فصدقوا في النية وصدقوا في القول وصدقوا في العمل، حققوا هذا الصدق بالقيام بما أوجب عليكم من نصرة دينه وإعلائه وتقديمه على هوى النفس وشهواتها، فالجهاد جهادان جهاد النفس وجهاد العدو ومرتبة الجهاد الأول قبل الثاني.(/1)
أيها المسلمون يا أمة محمد يا أمة دين الإسلام، الدين الذي جمع بين العزيمة والقوة والشهامة والكرامة جمع بين خيري الدنيا والآخرة، إن دينكم هذا له أعداء يتربصون به الدوائر ويتحينون الفرص ويغزونه من كل وجه، يغزونه من ناحية العقيدة والفكر فيغيرون العقيدة الصحيحة والأفكار القويمة إلى عقائد فاسدة وأفكار عوجاء، إن أعداء الإسلام يغزونه من ناحية الأخلاق فيفتحون لأبنائه كل باب يغير الأخلاق الفاضلة والمثل العليا. إن أعداء الإسلام يغزون الإسلام أيضاًً من الناحية العسكرية ليوهنوا أبناءه ويشردوهم كل مشرد ويمزقوهم كل ممزق، وفي هذه الأيام اعتدى اليهود على البلاد العربية الإسلامية، أولئك اليهود الذين ما زالوا في عداوة شديدة للإسلام: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}.[المائدة:82] أولئك اليهود الذين وصفوا الله سبحانه بالنقص فقالوا لعنهم الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي بخيل لا ينفق فقال الله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} فغل الله أيديهم غلا معنوياً بحيث كانوا أبخل الناس لا يبذلون الأموال إلا إذا كانوا يرجون من ورائها أكثر مما بذلوا، أولئك اليهود الذين نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قليلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]. أولئك اليهود الذين قتلوا أنبياء الله بغير حق وسعوا في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين. أولئك اليهود الذين غدروا بخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - ونقضوا عهده، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة قدمها وفيها ثلاث قبائل من اليهود فعقد معهم أن لا يخونوا ولا يؤذوا، ولكن أبى طبعهم اللئيم وسجيتهم(/2)
السافلة إلا أن ينقضوا ويغدروا، فأظهر بنو قينقاع الغدر بعد أن نصر الله نبيه في بدر، فأجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة على أن لهم النساء والذرية ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أموالهم، وأظهر بنو النضير الغدر بعد غزوة أحد، فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم على أن لهم ما تحمله إبلهم من أموالهم إلا آلة حرب، فأجابهم إلى ذلك فنزل بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام. وأما قريظة فنقضوا العهد يوم الأحزاب، فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلوا على حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فحكم فيهم - رضي الله عنه - بقتل رجالهم وقسم أموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم، فقتل رجالهم وكانوا ما بين الست مئة إلى سبع مئة. هذا لون من ألوان غدرهم بخاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - ومن غدرهم وخيانتهم أنه لما فتح خيبر أهدوا له شاة مسمومة فأكل منها ولم يحصل مرادهم ولله الحمد، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في مرض الموت: ((ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، وهذا أوان انقطاع أبهري)).
أيها المسلمون: إن اليهود أهل غدر ومكر وخيانة، إنهم أهل غضب ولعنة من الله، استحلوا محارم الله بأدنى الحيل فلعنهم وجعل منهم القردة والخنازير، لقد ضرب الله عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس.
أيها المسلمون إن علينا أن نعد القوة لهؤلاء الأعداء ولكل عدو للإسلام وأبنائه مهما كان وأيا كان، علينا أن نعد ما استطعنا من قوة بمحاربته بنوع السلاح الذي فتح الثغرة به على الإسلام. وإن علينا في مثل هذا الموقف أن نأخذ بأسباب النصر وهي: - إخلاص النية لله، بأن ننوي بجهادنا إعلاء كلمة الله وتثبيت شريعته وتحكيم كتابه وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(/3)
ثانيا: أن نلتزم بالصبر والتقوى، فإن الله مع الصابرين وإن الله مع المتقين، علينا أن نصبر على الجهاد وأن نتقي الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإن مخالفة أمر الله ورسوله من أسباب الخذلان، فهؤلاء صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالف بعضهم في أمر واحد من أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد فكانت الهزيمة عليهم بعد أن كان النصر لهم في أول الأمر، ولكن بعد ذلك تداركهم عفو الله فعفا الله عنهم.
ثالثا: أن نعرف قدر أنفسنا وأن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله، فلا يأخذنا العجب بقوتنا وكثرتنا فإن الإعجاب بالنفس والاعتزاز بها من دون الله سبب للخذلان، ولقد أعجب الصحابة بكثرتهم في يوم حنين فلم تغن عنهم شيئاً ثم ولوا مدبرين، ولكن الله أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً من الملائكة فكانت العاقبة للمؤمنين. رابعا: أن نعد العدة للأعداء مستعملين في كل وقت وحال ما يناسب من الأسلحة والقوة لنرد على سلاح العدو بالمثل، فإذا تحققت هذه الأمور الأربعة فإن الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].(/4)
أيها المواطنون: لقد ألهم الله حكومتنا في هذه الأيام - وفقها الله تعالى - أن تفتح مكاتب للدفاع الوطني في كل بلد، وهذه أيها المواطنون فرصة أتيحت لكم وستكون بحول الله تعالى فاتحة خير لما بعدها، فهيا أيها الشباب انتهزوا الفرصة انفعوا أنفسكم انفعوا مواطنيكم، فأنتم رجال المستقبل أنتم أهل العزيمة أنتم أهل الإقدام، مرنوا أنفسكم ما دمتم في طور التعلم والتمرن ولا تكونوا جاهلين بأبسط أنواع الدفاع، أترضون لأنفسكم بالتأخر وأنتم الشباب الذين خلقكم الله في هذا العصر وجعلكم نشأ هذا العصر لتقوموا بما تتطلبه أمور هذا العصر من أساليب الدفاع عن دينكم وعن أمتكم، وإني لآرجو الله تعالى أن ترى أمتكم منكم ما تقر به عينها وينشرح له صدرها، وأن يجعلنا جميعاً من المجاهدين في سبيله الناصرين لدينه إنه جواد كريم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40،41].
أقول قولي هذا... إلخ.(/5)
العنوان: بيان زكاة النخيل
رقم المقالة: 704
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الرؤوف الرحيم البر الجواد الكريم أنعم على العباد بما أخرج لهم من الزروع والثمرات، وما أدر عليهم من الأرزاق المجلوبة من جميع الجهات، ثم أمرهم بإنفاق ذلك في مرضاته لتكمل لهم نعمة الدنيا والدين، ووعدهم على الإنفاق في مرضاته خلفاً عاجلاً، وهو خير الرازقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل النبيين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى: واشكروه أن أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون، فهذه ثمرات النخيل تتفكهون بها رطباً وبسراً، وتدخرونها قوتاً وتمراً، فهو الذي خلقها، وأوجدها، وهو الذي نماها، وأصلحها وهو الذي أبقاها لكم، وحفظها، وأبقاكم حتى أدركتم جناها وثمرها، فاشكروا ربكم على هذه النعمة، وأدوا ما أوجب الله فيها من الزكاة تدفعوا عن أنفسكم وأموالكم النقمة، وحاسبوا أنفسكم في ذلك محاسبة تامة، فإن أهل الزكاة شركاء لكم فيها لهم العشر إن كانت تشرب سيحاً، ونصف العشر إن كانت تشرب بالمكائن، هكذا فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإياكم وبخسها وإخراج ما ينقص عن ذلك.(/1)
أيها الناس: لقد أنعم الله علينا في هذه الأوقات الأخيرة بنعم كثيرة منها كثرة أنواع المأكولات، واختلاف عادات الناس بسبب ذلك حتى صار أكثر الناس لا يأكلون من التمر إلا أطيب الأنواع، فارتفع بذلك سعره، ونقص سعر الأنواع الأخرى بسبب قلة رغبة الناس فيها، فلقد كان الشقر في الزمن السابق هو الغذاء الرئيسي من التمر، وكان الناس لا يهتمون بالأنواع الأخرى، فكان الفرق بينه وبينها يسيراً، أما الأن فكانت الحال بالعكس وأصبح الفرق كبيراً بينه وبين الأصناف التي بدأت تنتشر، وترغب، انظر إلى قيمه متوسطة الشقر تجد الكيلو منه يساوي ربع ريال، وانظر إلى متوسط البرحى مثلاً نجد الكيلو منه يساوي ريالين، فالكيلو من البرحى يساوي ثمان كيلو من الشقر، وهذا فرق كبير، فإذا وجدنا بستاناً أكثره من البرحى والسكري ونحوهما من الأنواع الطيبة، فكيف يسوغ لنا أن نخرج زكاته كلها من الشقر مع هذا الفرق العظيم؟ كيف يمكن أن نقول إن هذا الرجل أخرج نصف عشر بستانه. أيها المسلم المؤمن بالله: لقد أوجب الله عليك على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - نصف العشر بما يسقى بمؤونة، والعشر كاملا فيما يسقى بلا مؤونة، فهل ترضى لو كان لك نصف العشر أن تأخذ من الأنواع التي دونه بكثير؟ لا أعتقد أنك ترضى بذلك، فإذا كنت لا ترضى بأخذه لنفسك، فكيف ترضى ذلك لربك؟ ولقد نبه الله تعالى على هذا المعنى بقوله: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]. يعني لا تنفقوا من الرديء الذي لو كان لكم من هذا المال لم تأخذوه إلا على أغماص وكراهية، فتنبهوا
أيها المسلمون لما نبهكم الله إليه، وابرؤا أنفسكم من الواجب ما دمتم في زمن الإمهال.(/2)
أيها المسلمون: إنني إذا قلت: إنه لا يجزي إخراج الشقر عن بستان أكثره من الأنواع الطيبة الآخرى التي تفرق عنه فرقاً كبيراً، فلست أقول ذلك لمجرد رأي رأيته، ولكن أقوله؛ استناداً إلى ما يأتي: أولا قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]. والخبيث هو الرديء، والرداءة أمر نسبي، فقد يكون التمر رديئاً إذا نسب لما هو أجود منه، وجيداً بالنسبة لما هو أردأ منه بدليل أنه لو كان البستان كله رديئاً أخرجت منه، ولم تلزم بشيء أطيب منه.
ثانيا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب العشر، أو نصف العشر، ومع هذا الفرق العظيم، فإن الشقر عن البرحى والسكري لا يقارب هذا المقدار.
ثالثا: أن الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم بل أكثر العلماء يقولون: إنه يجب عليه أن يخرج الزكاة من كل نوع بحصته كما ذكره في المغنى، وقد نص فقهاؤنا في كتبهم المختصرة والمطولة على أنه يجب إخراج زكاة كل نوع منه، ولكن ربما تقولون: ألم يكن الناس من عهد قديم يخرجون الشقر عن البستان كله مع أن فيه أنواعاً أخرى، فأقول: نعم كان ذلك، ولكن كان الشقر يخرج من جميع البستان حينما كان هو الغذاء الرئيسي من التمر، وحينما كانت الأنواع الأخرى قليلة، ولم يكن الفرق بينها وبين الشقر إلى هذا الحد الكبير، فكان الشقر في ذلك الوقت هو النوع المتوسط، وقد قال بعض العلماء: إنه يجوز الإخراج من النوع المتوسط بقدر القيمة. أما اليوم فقد اختلف الحال كثيراً كما ترون.
فاتقوا الله تعالى أيها الناس، وحاسبوا أنفسكم، وراعوا العدل، ولا تظنوا الزكاة غرامة وخسارة، فإنها والله هي الغنيمة والربح، فهي أحد أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله، فالقيام بها قيام بركن عظيم من أركان الإسلام، وتطهير للمزكي من الإثم والعصيان، وتزكية لنفسه وأعماله، وبركة، ونمو، وزيادة في ماله.(/3)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:267،268].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(/4)