وعَلَى هَذَا الأساس يُمكِن اختيار قَنَاة التأثِير الثقافي المناسِب للنوعِية المناسِبَة من السكان، وتمتاز عملية استيعاب المُشاهِد للبرنامج التلفازي بِخُصُوصِياتٍ؛ منهَا سُهُولَة نَقل البَرَامِج التلفازية ونَوعُها داخل كُل منزِلٍ، والوُضُوح وسُهُولَة فَهمِهَا، وتَأثِيرُها في وقتٍ واحدٍ على أعدادٍ هائلةٍ من الجَمَاهيرِ، وإمكانِية نَقل الأحداث في وقت وقوعِها، وإظهار الإنسان في نفس اللحظة الفَرِيدَة التي تَتَوَلد فيها أفكارُهُ، وتتوالى خَواطِرُهُ، وهكذا يَعمِد خُبَرَاء الدعَايَة الإِلحادِية إلى استخدام هذه الإمكانات الهائلة للتأثير على عددٍ من المُشَاهِدِين بمختلِف طَبَقَاتِهم ومُستَوَيَاتِهم.
والخَبَر هو أيسَر صُور النشَاط الإعلامي التلفازي، ولذلك يَستخدِم التلفاز السوفيتي النشرات الإخبارية التي تتكرر في أَوقاتٍ مختلِفةٍ من فَترَة البَث اليومي؛ لتقديم أخبارٍ ذات مضمونٍ إلحادي، ومن ذلك يَتَبَين أنهُم لا يفهمون مُصطَلَحَ: "برنَامِج إلحادي" في أضيق معانيه، إن مجال الموضوعات الدينية لديهم واسع بحيث يشمل سائر أخبار النشاط التلفازي بما في ذلك الخبر في نشرات الأخبار والتحقيقات الإخباريةِ، ويَمتَد ذلك إلى طريقة اختِيَار الخَبَر وطَرِيقَة تَقدِيمه وما يتضمنه من تحقيقاتٍ تِلفازِيةٍ.
هذه أمثلة أوردناها تُوَضح طَرَائِق استخدام البَرنامِج والتحقِيق والخبر لتوصيل المَضمُون الإلحادي إلى الجمهور من خلال شاشة التلفاز تدُلنا على ما يتمتع به التلفاز من مكانة خاصة بين قنوات التأثير الأَيدُيُولُوجِي.(/15)
غير أن خبراء الدعاية الإلحادية قد أدركوا في التلفاز مِيزةً أخرى لا تقل أهميةً عما ذكرنا، ونَعني بها قابليته لنقل الأفلام السينمائية والمسرحيات إلى مشاهديه، وهنا نجده يقوم لفترة من الوقت مقام وسائل فنية إعلامية أُخرَى لها تأثيرها مِثل السينما والمسرح، وهو يُتِيح للمُشاهِد في المنزِل فرصة المُشاهَدَة دون تَجَشم مَشَقة الانتقال إلى دُور السينما والمسرح، وخاصةً في فصل الشتاء حيث تكون الأحوال الجوية غير ملائمةٍ، وفي فترة العام الدراسي؛ حيث يرتبط الآباء بالبقاء في منازلهم إلى جوار الأبناء.
وقد أتاح ذلك لهم استخدام الأفلام السينمائية والمسرحيات ذات المَضمُون الإلحادي أو التي تُمَجد الوطن السوفيتي وتَعرِض منظورًا تاريخيًا يَتفِق وفلسفة الحُكم الماركِسي، وهكذا تتعاون وسائل التأثير المختلِفَة لخدمَة الاستِراتِيجِية الإِعلانِية التي يَرسِمُهَا الحِزب والدولَةُ.
وإذا جاز لنا من خلال ما عَرَضنا له أن نُقَدم تَصَورًا لِلخُطُوط العامة التي تكون مَلامِح التلفاز الإسلامي فَعَلَينَا أولًا أن نُحَدد فَرق ما بين الاستِرَاتِيجِية الشيُوعِية والإِسلامية في مَجَال الإِعلاِمِ.
إِن الإِعلام التلفازي الإسلامي يَعمل في دِيَار الإِسلام وفي ظُرُوفٍ مُواتِية، إذ هو يُخَاطِب جُمهُورًا يَفتَرِض في مُعظَمِه الاعتقاد بالإسلامِ، والوَلاء لهُ، والإيمان بِرسولِهِ، وإن كان هذا الجمهور يَتَعَرض لأَعَاصِير الغَزو الثقَافِي التي تَهدِف إِلى:
1- ترسيخ النظرَة العَلمَانِية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفن، وعزل الدين عزلًا تامًّا عن دورِه في سِيَاسَة الحَيَاة وَتَرشِيدِها.
فى- الدعوة إلى تَبَني أنماط الحياة المادية بنوعيها: الصليبي والشيُوعي، واستبدالِها بأنماط الحياة الإسلامية.
ومن هذا المنطَلَق يَتَحَدد للإعلام التلفازي الإسلامي المُوَجه إلى ديار الإسلام استِرَاتِيجِية ثابتة تَتَمَثل فيما يلي:(/16)
أولاً: تحرير المفهوم الصحيح للإسلام ومحاربة أية محاولةٍ لعزل الدين عن الحياةِ.
ثانيًا: تَنشِئة جيلٍ مُسلِمٍ قويٍّ صحيح الإسلام.
ثالثًا: مواجهة الغزو الفكري على جميع الجَبَهَات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ويمكن أن تتحقق هذه الأهداف بالاستخدام المدروس والواعي للوسائل الآتية:
أولاً: الالتزام التام بالشعور الإسلامي في مجال السياسة الإعلامية التلفازية، والصدور عنه في كل ما يُقَدم على الشاشة الصغيرة من برنامج أو تحقيقٍ أو خبرٍ أو أفلامٍ أو مسرحياتٍ، ومنع تقديم أيةّ مادة لا تَتسِق في مضمونِهَا ومُشاهِدِها وأهدافِها مع آداب الإسلام ومفاهيمِهِ، وإلا فستصبح المادة الإعلامية الإسلامية بين غيرِهَا من طُوفَان البَرَامِج الجاهلية صورةً حيةً متجسدةً للعُزلة التي يُراد ترسيخُهَا بين الدين والحياة.
ثانيًا: الدرَاسَة المستفيضة لنَوعِيات المشاهِدِين ومُستَوَاهُم التعليمي والثقافي والاقتصادي ووسائل إزجائِهم للفراغِ، وإعداد نوعيات البرامج الصالِحَة لمخاطبة هذه النوعيات من المشاهِدِين والتأثير فيهم وتوجيههم.
ثالثًا: الاهتمام بالمَضمُون الجيد للبرامج، وتطويع الشكل للمضمون.
رابعًا: الاهتمام بالمَضمُون الإسلامي ببرامج الأطفال والشباب والمرأة على وجه الخصوص.
خامسًا: الاستعانة بالمتخصصِين لرفع المُستوى الأَيدُيولُوجِي والعلمي، للبرامج التي تَعرِض مكتشفات العلم الحديث وأسرار الكَون في إطار المفهوم الإسلامي للعلاقة بين العلم والإيمان، الذي يُقَرر أن الرسوخ في العلم يَعنِي رسوخ الإيمانِ.(/17)
سادسًا: إعادة النظر في جميع الأعمال الفنية الدينية التي تؤكد بوضعها الراهن غُربة الإسلام عن العصر وذلك بما يستخدم فيها من حوار ومناظر وموضوعات، وتوسيع مفهوم الفن الإسلامي بحيث لا يُقصَر على موضوعات التاريخ الإسلامي القَديم فحَسبُ؛ بل تَمتَد المعالَجَة الفنية إلى جميع المشكلات الحَية التي يُواجِهها المُسلِم المُعاصِر في حياتِه اليومية.
سابعًا: تَوجيه برامج خاصةٍ إلى الدعاة المسلمِين وخُطباء المساجد لتثقيفِهم ثقافةً دينيةً متنوعة وتدريبهم على فَن مُخاطَبَة الجماهِير، وعلى عَرض القضايا الإسلامية بمنطقٍ عصريٍّ مُقنِعٍ بَعيدٍ عن التناوُل المُباشِر والأُسلوب الوعظِي المُمِل.
هذا؛ ولنا عودة - إن شاء الله - لنستوفي الحديث عن دَور الكلمة المطبوعة في المُعتَرَك الأَيدُيولُوجِي بين الدين والإلحادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] L.D.Gluk hovskaya, "Telivision – Prospective Form of A theist Propaganda" Problems of Scientific Atheism, 9, 41970, p. 318
[2] تكاد المراجع التي تؤكد هذه الفكرة لا تقع تحت حصر وأنظر على سبيل المثال (بالروسية): ب.ك. أرسينكين: "القضايا المُلِحة للإلحاد العلمي" من منشورات جمعية "المعرفة" بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد لينين، موسكو 1969، ص3.
[3] تصدر دورية في موسكو بعنوان "العلم والدين" تهدِف إلى إثبات وجود هذا التناقض بين العلم والدين، وتَتخذ من مادة "الكتاب المُقَدسِ" مصدرًا أساسيًا للتعبير عن وجهة نظر الدين في قضايا العلوم الطبيعية. ونود أن نشير إلى أنهم - بهذه الطريقة - يضعون كل الأديان السماوية والوضعية على اختلافها في مرتبة واحدة، ويفيدون من سلبيات بعضها في طعن بعضها الآخَر. ومعلوم أن الإسلام – على هذا النحو – سيتحمل من الأعباء والعيوب ما هو منه بريء.
[4] بعض برامج التلفازات العربية لا تتورع عن ذلك. فَتَأَمل.(/18)
[5] نشر المقال بعنوان: "حول التفسيرات الماركسية لظهور الإسلام))، العدد السابع، يوليو 1976.
[6] نعتقد أن الأمر على خلاف ما يظن أهل الإلحاد تمامًا فقد أدى التقدم العلمي الهائل الذي تشهده البشرية في حاضرها إلى أمرين أصبحا من البَدَاهة بحيث لا يحتاجان إلى إثبات:
أولهما: إحساس العقل البشري بزيادة مساحة المجهول كُلمَا انكشف أمامه سر من أسرار الكون.
وثانيهما: نفي العشوائية والمصادفة عن الخلق وإثبات (حكمة الخلق) واطراد السنة الكونية وانتظامها. وكلا هذين الأمرين دافع إلى الإيمان لا إلى الإلحاد؛ ولذا كان علينا أن نَتَنَبه إلى أهمية هذا الجانب في تقوية الإيمان وترسيخه في النفوس؛ فأهل الإيمان أولى باستخدام هذا السلاح الفَعال من أهل الشرك.(/19)
العنوان: المُطَارَد
رقم المقالة: 474
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
أين المَفَرّْ
يا أيُّها الفَرْدُ المُطَارَدُ
لم يَعُدْ يُؤْويك صَدرْ
الأرضُ واسعةٌ
وضاقتْ
مالها برٌّ وبحرْ
حيثُ انطلقتَ
هُمُ وراءك
قلبُهُمْ طوفانُ شرّْ
أحقادُهم
تذكو مع الأعوامِ
لا يعروها فترْ
كلَظَى جهنمَ ترتمي
ولَجَذْوَةٌ منها كقصرْ
يترصَّدونك كالقضاء
كأنهم قطعانُ ذَرّْ
* * *
أينَ المَفَرّْ؟
الكلُّ يرتعُ في الخساسةِ
لا ترى رأساً لحُرّْ
الكلُّ حولك خائنٌ
أو تاجرٌ
أغراه أجرْ
ما غيرُ وجهك شامخٌ
ما غيرُه وجهٌ أغَرّْ
وبنو أبيك يُسلِّمونك
ذلك الوجعُ الأمَرّْ
باعوك للفُجَّارِ
لا وُدٌّ
ولا قلبٌ أبَرّْ
* * *
أين المَفَرّْ؟
قد يقتلونكَ
يَحسبون البدرَ
تَخسِفُهُ القيودُ
والشمسَ ظَنُّوها
إذا غَرَبَتْ مساءً
لا تعودُ
والأُسْدُ إنْ صُفِدَتْ
وإن حُبِسَتْ
فَهِيْ أبداً أسودُ
* * *
يا أيُّها الفردُ المُطَارَدُ
يا فتى
أنتَ الخلودُ
أنت الأصالةُ
والنَّجابةُ
والجَسارةُ
والجدودُ
يا صاحبَ القدِّ النحيلِ
وإنه جبلٌ عتيدُ
ذلَّتْ جسومٌ كالبِغالِ
تطامَنَتْ تلك القدودُ
وبَقيتَ كالقَيثارِ
يُنْشِدُ لحنَك
الحرُّ الطريدُ
أنت النشيدُ
على امتدادِ رُبوعِنا
أنتَ النشيدُ..(/1)
العنوان: المعاجم العربية
رقم المقالة: 417
صاحب المقالة: د. محمد جابر فياض العلواني
-----------------------------------------
المقدمة:
المعاجم اللغوية في العربية وغيرها، هي الملجأ الذي يهرع إليه الدارس والمدرس، والعالم والمتعلم، إذا ما أشكل عليه معنى مما يقرؤه، أو يسمعه من ألفاظ اللغة. وما أكثر ما يشكل عليه منها، وبخاصة إذا كانت لغة كالعربية ظلت حية نامية عبر قرون وقرون، ومن هنا فنحن أحوج ما نكون إلى معرفة معاجم لغتنا والسبل التي انتهجت في تأليفها، وترتيب موادها كيما نستطيع العثور على ما ننشده فيها بسهولة ويسر. ولهذا فقد اقتصر البحث – أو كاد – على مدارس المعاجم العربية، ومنهج كل منها، وما ينتمي إليها من معاجم وأعرض عن نقدها والوقوف على حياة مؤلفيها وما إلى ذلك مما ليست له صلة مباشرة بتيسير الإنتفاع بها. غير أن الحروف هي الأساس الذي قامت عليه المعاجم العربية فكان لابد من الإلمام بها والكشف عن العلاقة بينها وبين المؤلفات التي صارت هذه الحروف عليها، والوقوف على ترتيبها وتصوره، وما أهمل واستخدم من أنواعه.
ومن يلزم نفسه بدراسة المعاجم العربية لا ينبغي له أن يجهل معنى المعجم وما يتصل به من جمعه ومرادفه ومصدر تسميته. وإذا كنا قد أطلنا في الحديث عن مصدر التسمية فما ذلك إلا لكثرة ما قيل فيه وتباينه. ولحرصنا على أن يختار المتدرب لا أن نتولى الاختيار نيابة عنه.
كلمة لابد منها:(/1)
المعاجم العربية ميدان واسع لا يفي به بحث كهذا. وقد سبق أن كتب فيه الأستاذ الدكتور حسين نصار رسالته للدكتوراه في مجلدين كبيرين. وكتب فيه بعد ذلك بحثين لمعهد التربية في بيروت (الأنروا)، اختص الثاني منهما بالمعاجم التي راعت الترتيب الالفبائي. وأردف المعهد هذين البحثين بورقة عمل. غير أننا آثرنا أن نتناوله ببحث واحد، رغم تعدد محتوياته، وتفاوتها كيلا نضطر إلى معالجته أكثر من مرة، ومع أننا اقتصرنا على جوانب منه فقد جاء على شيء من الاتساع وكان لابد له من هذا لسعة الموضوع. فالمعاجم العربية كثيرة، منها المخطوط والمطبوع، وما اتبع هذا الترتيب أو ذاك، فالتحق بهذه المدرسة أو تلك، وغير خافٍ أن هذه المدارس ليست سواء في الصعوبة، والأهمية، ومقدار حاجة المتدرب إليها. غير أن مثل هذه البحوث تتقيد بعناوينها. وهي بعد هذا صورة لما تتناوله من موضوعات. فالموضوعات العسيرة المعقدة لا ينتظر أن تأتي بحوثها سهلة يستطيع كل قارئ أن يفهما بمجرد قراءتها قراءته للصحف والمجلات. ولكن للقارئ من حرية التصرف فيها والاختيار منها ما ليس للباحث. فله أن يأخذ ما يستسهله ويروق له ويحتاج إليه أكثر من غيره. وهذا الذي يأخذه ليس بقصيدة يراد حفظها واستظهارها أو نظرية علمية تكلفه ما تكلفه من جهد التفهّم والتثبّت والتدقيق في كل جزء من أجزائها. فلكل موضوع طبيعته. ونحن هنا لا نطمح إلى أكثر من أن يعرف المتدرب معاجم لغته، كيلا تقتصر معرفته على ما شاع منها. ويدرك ما يقتضيه البحث عن الألفاظ فيها من إرجاع تلك الألفاظ إلى أصولها، ويدرس بإمعان منهج المدرسة التي يرى في نفسه في حاجة إلى معاجمها. فلا تفوته معرفة المعاجم العربية وكيفية الإفادة منها. وما سواها من تفضيلات إنما هي معلومات هامة مفيدة يمكن أن يستفيد منها عاجلاً أو آجلاً فالمتدرب هو المتحكم بها وليس لها أن تتحكم فيه ولا نريد لها ذلك والله الموفق لما فيه الخير.
المعجم
تعريفه:(/2)
أطلق لفظ المعجم على الكتاب الذي أورد الألفاظ اللغوية ومعانيها مرتبه بحسب حروفها.
مصدر التسمية:
أخذت هذه من حروف المعجم لإطلاقهم اللفظ – (المعجم) – على الكتب التي راعت – أي نوع من المراعاة – الحروف في ترتيبها كمعاجم اللغة، والأدباء، والشعراء، والمؤلفين، والبلدان، وغيرها[1].
تعليل تسمية حروف العربية بحروف المعجم:
تباينت أراء العلماء في تعليل تسمية الحروف العربية بحروف المعجم فذهب الخليل بن أحمد الفراهيدي إلى أنها سميت بهذا الإسم لكونها أعجمية[2] من غير أن يوضح ما أراده بأعجميتها. ولهذا قال ابن فارس (وأظن الخليل أراد بالأعجمية أنها ما دامت مقطعة، غير مؤلفة تأليف الكلام المفهوم، فهي أعجمية، لأنها لا تدل على شيء فإن كان أراد هذا فله وجه، وإلا فما أدرى أي شيء أراد بالأعجمية)[3].
وذهب الفارابي مذهب الخليل في أعجميتها المتأنية من تقطيعها فقال (حروف المعجم: الحروف المقطعة)[4]. وسئل أبو العباس ثعلب عن تسميتها بحروف المعجم فقال ((أما أبو عمرو الشيباني فيقول: أعجمت: أبهمت وقال الفراء: أنها أخذت من أعجمت الحروف، ويقال قفل معجم، وأمر معجم إذا اعتاص. وقال أبو الهيثم: معجم الخط: هو الذي أعجمه كاتبه بالنقط)[5].
وقال الجوهري: "والمعجم: النقط بالسواد مثل التاء عليه نقطتان، يقال أعجمت الحرف، والتعجيم مثله... ومنه حروف المعجم: وهي الحروف المقطعة التي يختص أكثرها بالنقط من بين سائر حروف الإسم. ومعناه: حروف الخط المعجم كما تقول: مسجد الجامع، وصلاة الأولى: أي مسجد اليوم الجامع وصلاة الساعة الأولى"[6].(/3)
وذهب المبرد إلى أن المعجم بمعنى الإعجام، وأيده فيما ذهب إليه ابن جني (أبو الفتح عثمان بن جني ت342) فقال: "والصواب في ذلك عندنا ما ذهب إليه أبو العباس محمد بن يزيد (المبرد) رحمه الله تعالى من أن المعجم مصدر بمنزلة الإعجام. كما تقول: أدخلته مدخلاً، وأخرجته مخرجاً: أي إدخالاً وإخراجاً.. فكأنّهم قالوا هذه حروف الإعجام. فهذه أسد وأصوب من أن يذهب إلى أن قولهم: حروف المعجم بمنزلة قولهم صلاة الأولى، ومسجد الجامع فالأولى غير الصلاة في المعنى، والجامع غير المسجد في المعنى أيضاً"[7].
وناقش عبارة حروف المعجم مناقشة نحوية تناول فيها أيما توسع فنفى أن يكون المعجم وصفاً للحروف، إذْ لا توصف النكرة بمعرفة. وأكد أن حروف المعجم لا تعني حروف الكلام المعجم، وإنما تعني أن الحروف هي المعجمة[8]، وفاته أن الكلام أو الخط الذي تعجم حروفه: كلام معجم وخط معجم. وليس هناك – على الإطلاق – ما يمنع من وصفها بالإعجام ما دامت حروفهما معجمة. وأنهما كأعضاء الجسد، وأفراد المجتمع. وسلامة الجسد من سلامة أعضائه، وصلاح المجتمع من صلاح أفراده وبالعكس. وما لنا وهذا ونحن ننعت الأفعال بالصحة والعلة لا لشيء إلا لصحة حروفها واعتلالها وكذلك الشأن في المهموز منها والواوي. فلا أدري – بعد هذا – ما الذي يمنع أن يوصف الكلام بالإعجام لإعجام حروفه؟؟
أما إضافة الحروف إلى المعجم فهي إضافة صحيحة لا غبار عليها. وإذا تهيأ لابن جني أن الحروف هي الكلام أو الخط، وأن الشيء – كما ذهب النحاة – لا يضاف إلى نفسه فقد أبعد. لأن الكلام أو الخط غير الحروف وإن كانت الحروف ركناً هاماً فيهما لا قوام لهما بدونه. فهما مكونان من حروف معينة موصولة متحركة (منطوقة) مرتبة على نسق أراده المتكلم أو الكاتب للتعبير عن معنى ما. أما الحروف فهي مقطعة غير موصولة، صامتة غير منطوقة لخلوها من الحركات، وهي بعد هذا لا تؤدي أي معنى من المعاني.(/4)
ومهما يكن من شيء فأن ما أنكره ابن جني على غيره من القائلين. بأن حروف المعجم تعني حروف الكلام أو الخط المعجم إنما تعني حروف الكلام أو الخط العربي ما دام الإعجام خاصاً بهما كما أعتقد علماء العربية القدامى. وقد صرح ابن فارس باعتقادهم هذا فقال: "والذي عندنا في ذلك أنه أريد بحروف المعجم حروف الخط المعجم وهو الخط العربي لأنا لا نعلم خطاً من الخطوط يعجم هذا الإعجام حتى يدل على المعاني الكثيرة"[9].
ولهذا استغنوا عن حروف الخط العربي بحروف الخط المعجم، ثم استطالوا هذه العبارة فحذفوا الكلام أو الخط منها، إستغناء عنهما بذكر أبرز خصائصهما فكانت حروف المعجم بمعنى حروف الخط المعجم أو حروف العربية. ولهذا رأينا حروف المعجم هذه تدخل في عناوين الكتب التي راعت الحروف العربية – كما أسلفنا – أي نوع من المراعاة في ترتيب موادها، فقيل (كتاب هذا على حروف المعجم)[10] وهو في الحقيقة على حروف العربية ويبدو أنهم استطالوا هذه العبارة أيضاً فاكتفوا بالقول (كتاب كذا على الحروف)[11] بحذف لفظ المعجم أو (معجم كذا) بحذف لفظ الحروف وإضافة المعجم إلى مضمون الكتاب. وراجت هذه العبارة أكثر من الأولى لاختصارها من غير ما إخلال بالمعنى، وصارت علماً للكتب المتحدث عنها كمعجم الأدباء ومعجم الشعراء، ومعجم البلدان ومعجم ألفاظ القرآن ومعجم ألفاظ الحديث وغيرها.
تاريخ استخدام اللفظ وشيوعه:
ألحق أننا لا ندري – على وجه اليقين – متى استخدم لفظ المعجم في عناوين الكتب، ومن ذا الذي استخدمه وفي أي مؤلف من مؤلفاته لضياع كثير من مؤلفات علمائنا الأقدمين[12]. ولقد قيل أن الإمام البخاري (أبو عبدالله محمد بن إسماعيل المولولد 194هـ) كان أول من أطلقه على واحد من مؤلفاته المرتبة على الحروف[13].
وعد من أوائل مستخدميه ألبغوي أبو القاسم عبدالله بن محمد المولود 214هـ) في كتابه (معجم الحديث) والمعجم الكبير والصغير والأوسط في قراءات القرآن[14].(/5)
وفي القرن الرابع الهجري كثر إطلاقه على كثير من المؤلفات في القراءات والحديث والتراجم. ويبدو أن اللفظ انتقل من هذه الكتب إلى كتب اللغة لما بينها من مشابهة في الجمع والاستقصاء والترتيب وإلا فإن أصحاب المعاجم اللغوية كانوا قد سموا معاجمهم بأسماء مختلفة كالعين، والجيم، والجمهرة، والصحاح، والتهذيب، والمقاييس، واللسان، والتاج، وغيرها.
جمع اللفظ والخلاف فيه:
ذهب أستاذنا الدكتور مصطفى جواد رحمه الله إلى أن القياس يوجب أن يجمع المعجم على معاجم مثل مرسل – مراسيل، ومسند – مسانيد.... أو معجمات[15] مثل مفرد – مفردات ولكن الجمع الذي شاع (معاجم) وقد صوبه الدكتور ناصر الدين الأسد قياساً على جمع القدماء لما مثله كمسند – مساند، ومذهب – مذاهب، ومطرف – مطارف، ومصعب – مصاعب، ومصحف – مصاحف[16]. وقد خصص الفارابي (إسحاق بن إبراهيم متوفي 350هـ) في كتابه (ديوان الأدب) باباً لما جاء من الألفاظ على وزن مفعل بضم الميم وفتح العين ضمته الألفاظ التي ذكرها الدكتور ناصر الدين الأسد وكثيراً غيرها منها: مغزل – مغازل، ومُنْخَل – لغة في مُنْخُل – مناخل[17] ولهذا فلا ضير في جمع المعجم على معاجم قياساً على جمع هذه الألفاظ وللمعاجم بعد هذا مزية الشيوع والإختصار.
مرادفه (القاموس):
عرفت المعاجم اللغوية بالقواميس، مفردها قاموس ومعناه: البحر أو أبعد موضع فيه غوراً وقيل وسطه ومعظمه[18]. وقد أطلقه الفيروزأبادي على معجمه فسماه (القاموس المحيط): أي البحر الأعظم كما ذكر ذلك المؤلف نفسه[19]. ولما كثر تداوله اكتفى من اسمه بالقاموس، ثم انتقل منه إلى ما ماثله فشمل المعاجم اللغوية السابقة واللاحقة وصار القاموس مرادفاً للمعجم[20].
الحروف العربية من الأبجدية إلى الهجائية إلى المخارج[21]
سرى ترتيب الحروف الأبجدي الفنيقي إلى سائر اللغات السامية ومنها العربية. وقد سمي هذا الترتيب بالأبجدي نسبة إلى الكلمة الأولى من الكلمات الست وهي:(/6)
أبجد – هوز – حطي – كلمن – سعفص – قرشت – أ ي ب جـ د – هـ و ز – ح ط ى – ك ل م ن – س ع ف ص – ق ر ش ت. ولقد أردفت (ألحقت) العربية بالحروف الفينيقية هذه ستة أحرف هي (ث، خ، ذ، ض، ظ، غ) جمعتها كلمتا (ثخذ، ضظغ) سميت بالروادف (اللواحق). ولخلو الحروف من النقط وتماثل كثير منها في الرسم برزت الحاجة إلى التمييز بين ما تماثل منها لا من اللبس وضبط الأداء، فعهد الحجاج بن يوسف الثقفي إلى نصر بن عاصم الليثي المتوفي سنة 90هـ القيام بمهمة التمييز هذه، فعمد عاصم إلى الحروف الأبجدية تاركاً الألف المهموزة على حالها لتفردها وانتقل إلى الباء فوضع بعدها ما ماثلها (التاء والثاء) فوضع تحت الباء نقطة وفوق التاء نقطتين وفوق الثاء ثلاث نقاط.
وانتقل إلى الجيم من كلمة أبجد وقام مثل ما قام به مع الباء، وكذلك فعل مع بقية الحروف الأبجدية. وجمع أحرف العلة في النهاية. وهكذا تم له ترتيب الحروف ترتيباً جديداً والتمييز بين ما تماثل منها في وقت واحد، فانتهى بها إلى ما نعهدها عليه الآن (أ، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، ذ – الخ).
وقد عرف ترتيبه هذا بالترتيب الهجائي لأن حروفه – كما يبدو لي – تظل فيه مقطعة مفصولة، ولا تُقرأ إلا كذلك، فلا تتصل ببعضها لتؤلف ما ألفته حروف الترتيب الأول من كلمات أبجد هوز.. الخ. والتهجي: قراءة أحرف الكلمة أو قراءة الكلمة مقطعة الحروف إذ الهجاء: القراءة والتقطيع ففي القاموس المحيط (الهجاء ككساء: تقطيع اللفظة بحروفها) وقال أبو زيد (الهجاء: القراءة)[22] وعندي أن المعنيين (القراءة والتقطيع) قد اجتمعا في حروف الهجاء.(/7)
ولقد ذهب غير واحد من المحدثين إلى تسمية هذا الترتيب بالترتيب (الألفبائي) منتزعين هذه التسمية من الحرفين الأولين له وهما الألف والباء[23] ولقد رتبت الحروف الهجائية العربية ترتيباً آخر يختلف عن الترتيبين السابقين (الأبجدي والهجائي) ألا وهو الترتيب المخرجي الذي ابتدعه الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفي 170 أو175 أو177 مراعياً فيه مخارج الحروف مبتدئاً بأبعدها والأقرب فالأقرب حتى انتهى إلى أدناها مخرجاً ثم اختتمها بأحرف اللين (العلة) – والهمزة فجاءت الحروف الهجائية العربية في ترتيبه هذا على النحو التالي (ع، ح، هـ، خ، ق، ج، ش، ض، ص، س، ز، ط، د، ت، ظ، ث، ذ، ر، ل، ن، ف، ب، م، و، أ، ى، هـ، ء (الهمزة)[24].
ومع أن الترتيب الأبجدي أقدم ترتيب عرفته العربية للحروف فما من أحد من اللغويين العرب ألف معجماً للألفاظ على نسقه لأنه لم يكن يعتمد على دلالة واضحة في منطق العربية ولا يتسم بالأصالة ولا يراعي تعاقب الحروف المتشابهات رسماً أو المتقاربات نطقاً[25]. فليس له من مزية على الترتيبين الهجائي والمخرجي غير إمكانية تجميع حروفه في كلمات تيسر الإحاطة بتلك الحروف وترتيبها وإن لم يكن للكلمات المؤلفة منها أي معنى واضح.
ولم يكتب للترتيب الهجائي الذيوع أول مرة مع ما تميز به من جودة لوضعه الأخرى المتماثلات شكلاً ونطقاً في نسق مقبول ومعقول. فضاع ترتيب المخارج أول الأمر ثم ما لبث أن شاع الترتيب الهجائي (الألفبائي) لسهولته ويسره.
نشوء المعاجم اللغوية
الحديث عن نشوء المعاجم اللغوية إن هو إلا حديث عن جمع اللغة إذ ليست المعاجم إلا مجامع لها. ومن الطبيعي ألا تتم عملية الجمع هذه وتصل إلى ما وصلت إليه من السعة والشمول في المعاجم اللغوية الشاملة دفعة واحدة. ولهذا فقد أصاب الأستاذ أحمد أمين فيما ذهب إليه من أن عملية الجمع كانت قد مرت بثلاث مراحل:(/8)
(الأولى: جمع الكلمات حيثما اتفق، فالعالم يرحل إلى البادية يسمع كلمة في المطر، وكلمة في اسم السيف، وأخرى في الزرع والنبات وغيرها... إلى غير ذلك. فيدون كل ما سمع من غير ترتيب. إلا ترتيب السماع.
المرحلة الثانية: جمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد... وتوجت هذه المرحلة بكتب تؤلف في الموضوع الواحد. فألف أبو زيد كتاباً في المطر، وكتاباً في اللبن وألف الأصمعي كتباً كثيرة، كل كتاب في موضوع.
والمرحلة الثالثة: وضع معجم يشمل كل الكلمات العربية على نمط خاص يرجع إليه من أراد البحث عن معنى كلمة... هذه هي المراحل الطبيعية لجمع اللغة. وكانت كل مرحلة من هذه المراحل تسلم إلى ما بعدها[26].
غير أن الذي ينبغي أن نتنبه إليه – وإن لم يكن ليقدم في فكرة المراحل الطبيعية هذه – أن الرواية أو المرحلة الأولى لجمع اللغة ما كانت خالصة للغة خاصة بها. إذ لم تكن العلوم الدينية قد استقلت عن العربية ذلك العهد ولم تكن اللغة الباعث الوحيد أو الرئيس للرواية، بل كانت الدراسات القرآنية أهم بواعثها.(/9)
وعلى أي حال فلقد رويت الألفاظ العربية مفردات وعبارات منشورة أو منظومة عن طرف أولئك الرواة أياً كان ما حفزهم إلى الرواية. والأهم من هذا أنه ليست هناك فواصل زمنية فصلت بين مرحلة وأخرى كما قد يوهم ما ذكره الأستاذ أحمد أمين فهذه المراحل متصلة تمام الاتصال، بل نستطيع أن نقول: أنها متداخلة ببعضها فلقد ألفت كثير من الرسائل الخاصة بالموضوعات – وهي المرحلة الثانية – بعد المرحلة الثالثة، مرحلة ابتكار المعجم الشامل. بل أن الرواية ذاتها – المرحلة الأولى – قد امتدت إلى ما بعد ابتكار المعجم. ويكفي في هذا أن ننظر في أشهر رواة اللغة وما أنتجوه لنتبيّن مثل هذا التداخل[27] غير أن هذا لا يعني – بالطبع – أن المعجم أو ابتكاره قد سبق الرواية وتأليف الرسائل الخاصة بالموضوعات، لأن امتداد المرحلتين أو أحداهما إلى ما بعد المرحلة الثالثة لا يتعارض مع تقدمهما فضلاً عن أن ينفيه.
ومهما يكن من شيء، فلقد تم ابتكار المعجم اللغوي العربي في النصف الثاني من القرن الثاني على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي كما أجمع المتحدثون من القدماء والمحدثين عن هذا النشاط من تراثنا العربي واقتصر شك طائفة منهم على مقدار ما عمله الخليل من كتاب العين لا أكثر[28].
البحث عن الألفاظ في المعاجم العربية
يتطلب البحث عن الألفاظ في المعاجم العربية إلماماً بجوانب من خصائص العربية وطريقة المعجم الذي تحاول الكشف فيه عنها.(/10)
ولعل من أبرز الخصائص التي ينبغي الإلمام بها لهذا الغرض أنها لغة متصرفة أو اشتقاقية. أي أنها تتألف من أسر لغوية، أو مواد أولية تعد أصولاً لكل ما يشتق منها من مفردات. فمادة (الضاد والراء والياء) مثلاً أصل لكل من (ضرب – يضرب – أضرب – ضرباً – ضربة – ضارب – مضروب – مضرب – الخ) ولكون هذه الأحرف الثلاثة – (ض – ر – ب) قد كونت المادة – الأولية التي اشتقت منها كل هذه المفردات، وحددت لها دلالتها العامة ودخلت في تركيب مفرداتها على إختلاف صيغها فقد سميت أحرفاً أصلية. وسميت الأخرى التي جاءت بها الصيغ المختلفة للدلالة على ما تختص به كل صيغة منها أحرفاً زائدة[29] لزيادتها على الأصل الذي اشتقت منه تلك الصيغ واستغنائه عنها.
وقد استقرء الصوفيون أحرف الزيادة فانتهوا إلى أنها عشرة حروف جمعتها العبارة (سألتمونيها) أو (اليوم ننساه) أو (هويت السمان) وغيرها[30] كما انتهوا إلى أن الزيادة قد تكون بتكرار حرف من أحرف اللفظ الأصلية[31] وعدوا اللفظ مجرداً، إذا تجرد من أحرف الزيادة بنوعيها واقتصر على أحرفه الأصلية، ومزيداً إِن تضمَّنَ أية زيادة عليها.
ولقد ذهب علماء العربية إلى أن الأصل في الحروف أن تتألف من حرف أو حرفين[32] وما جاوزهما فقد خرج عن الأصل فيها وأشبه الأفعال والأسماء[33] إذ الأصل في هذه أن تتألف من أحرف لا تقل عن ثلاثة، ولا تزيد الأفعال على أربعة أصلية، والأسماء على خمسة منها[34].
وما جاء من الأسماء على أقل من ثلاثة أحرف فإما أن يكون كذلك حقيقة مثل بعض الضمائر[35] وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة[36] وأسماء الشرط والإستفهام[37] وأسماء الأفعال المرتجلة[38] وغيرها – فيكون خارجاً عن الأصل في الأسماء مشبهاً الحروف في هيئتها وبنائها فأصله ما جاء عليه، إذ ليس له أصل غيره يلجأ إليه.(/11)
وإما أن يكون الإسم أو الفعل كذلك ظاهراً لا حقيقة – مثل يد ودم من الأسماء[39] وما سقطت همزته من الأفعال[40]، أو سقط حرف أو أكثر من أحرفه الأصلية المعتلة لسبب صرفي أو نحوي[41] ومثل هذه الألفاظ ينبغي أن تعاد إليها الأحرف الساقطة منها لتعرف أصولها ومن ثم يبحث عنها في المعاجم لأن هذه المعاجم كانت قد اعتمدت في ترتيبها الأحرف الأصلية ما وجد منها في اللفظ وما سقط منه. يمكن معرفة ما سقط من الأسماء بأن – ننسب إليها، أو أن تقف على أفعالها وتصريفها إن كانت لها أفعال.
أما ما حذف من الأفعال فتصريفها كفيل بإعادتها إليها. وإذا عاد الباحث بالألفاظ إلى أصولها لا يكون أمامه غير معرفة السبيل التي انتهجها المعجم في ترتيب مواده اللغوية وسنين هذه السبل في مدارس المعاجم اللغوية.
مدارس المعاجم العربية
1 – مدرسة العين:
(أ) كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (100 – 175 أو 177هـ) مبتدع العروض أو بحور الشعر العربي[42] ومبتكر ترتيب حروف الهجاء العربية بحسب مخارجها[43] لجمع الألفاظ العربية المستعمل منها والمهمل وبكتابه هذا عرفت مدرسة العين وقد اعتمد في ترتيبه على ثلاثة أسس هي[44]:
1 – المخارج:
إذا قسم معجمه إلى تسعة وعشرين كتاباً سمى كلاً منها بحرف من أحرف الهجاء. غير أنه عمد إلى ترتيبها وفقاً للترتيب المخرجي الذي ابتدعه. فابتدأ بالعين وانتهى بالهمزة ولهذا سمى معجمه (كتاب العين) من باب تسمية الكل باسم الجزء وضمن كلاً من هذه الكتب جميع الألفاظ التي تضمنت الحرف الذي عنون به الكتاب إلا ما قد تقدم ذكره في كتاب سبقه فكلمة (رعب) مثلاً أوردها في كتاب العين لكون العين أول الحروف في ترتيبه المخرجي ولا يتكرر ورودها في كتاب الراء أو الباء.
ويمكننا أن نسمي كل كتاب من هذه الكتب باباً كيلا تتعدد الأسماء لمسمى واحد لأن الجوهري ومن تلاه من أصحاب المعاجم أو أكثرهم كانوا قد سموا ما يقابل هذه الكتب أبواباً.
2 – الأبنية:(/12)
أو عدد أحرف الألفاظ: إذ قسم كل كتاب أو باب إلى ستة أقسام أو فصول.
أ – الثنائي الصحيح المضاعف: فمنه الألفاظ المؤلفة من حرفين صحيحين كرر أحدهما مثل (مدَّ) أو كلاهما مثل (زلزل).
ب – الثلاثي الصحيح: المؤلف من ثلاثة أحرف صحيحة متنوعة مثل (ذهب).
جـ – الثلاثي المعتل: المؤلف من ثلاثة أحرف منها واحد معتل أو مهموز مثل (رمى، قرأ).
د – الثلاثي اللفيف: المؤلف من ثلاثة أعتل حرفان منه مثل (وعى).
هـ – الرباعي: المؤلف من أربعة أحرف أصلية مختلفة مثل (بعثر، دحرج).
و – الخماسي: المؤلف من خمسة أحرف أصلية مختلفة مثل (سفرجل).
3 – التقاليب:
تغيير مواقع أحرف اللفظ أو ترتيبها حتى يأخذ كل منها مواقع الأحرف المشتركة معه في تكوين اللفظ.
وقد عمد الخليل إلى التقاليب ليقف على كل ما يمكن أن يتكون من حروف الهجاء من ألفاظ مستعملة أو مهملة. وقد انتهى – فعلاً إلى أن للثنائي أو المضعف صورتين فالدال والراء مثلاً لا يتكون منهما غير (در، رد). أما الثلاثي فله ست صور فالدال والهاء والباء مثلاً لا يتكون منها غير (ذهب، ذبه، هبذ، هذب، بذه، بهذ) وترتفع هذه التقاليب في الرباعي فتصل إلى أربع وعشرين صورة وفي الخماسي إلى مائة وعشرين صورة، وقد جمع الخليل تقاليب اللفظ كلها في أسبق حرف منها في ترتيبه المخرجي ولهذا فالبحث عن لفظ من الألفاظ في معجم العين يتطلب.
أ – ترتيب أحرفه بحسب ترتيب الخليل للحروف – بعد إرجاع اللفظ بالطبع إلى أصله كما في كل المعاجم – لكي تقف على الكتاب أو الباب الذي يرد اللفظ فيه.
ب – النظر في بنيته إن ثنائياً أو ثلاثياً أو غير ذلك لمعرفة الفصل الذي يورده فيه.(/13)
جـ – الصورة التي ورد بها اللفظ المبحوث عنه لمعرفة القسم الخاص به فالفعل (لعب) مثلاً يرتب بحسب ترتيب الخليل للحروف فيكون (علب) إذ العين قبل اللام، واللام قبل الباء ولهذا يبحث عنه في كتاب أو باب العين. ولما كان الفعل ثلاثياً صحيحاً فالبحث عنه في باب العين ينحصر في الفصل الخاص منه بالثلاثي الصحيح الذي اتصلت فيه العين باللام مع الباء. ولكن اللفظ المبحوث عنه (لعب) وليس (علب) لذا يبحث عنه في الصورة أو التقليب الذي يطابقه وهكذا.
ب – كتاب البارع في اللغة[45] لأبي علي القالي (إسماعيل بن القاسم 288 – 356هـ) اتبع مؤلفه منهج الخليل في اعتماده على المخارج والأبنية والتقاليب غير أن ترتيبه للحروف أقرب إلى ترتيب سيبويه لها[46] منه إلى الخليل[47] فقد جاء ترتيبه على النحو التالي.
هـ – ح – ع – خ – غ – ق – ك – ض – ج – ر – ش – ل – و – ن – ط – د – ت – ص – ز – س – ظ – ذ – ث – ف – ب – م – أ – ى – د[48].
كما أنه خالف الخليل في بعض أبنيته – وإن قسمها مثله إلى ستة – فقد جمع في الثلاثي ما اعتل بحرف أو حرفين فجاء هذا القسم مقابلاً لقسمي الثلاثي في كتاب العين وهما الثلاثي المعتل واللفيف[49] وأخلص قسماً لما سماه بالحواشي والأوشاب جمع فيه الثنائي الخفيف الصحيح مثل قق (حكاية صوت الضحك) والمعتل مثل (هو).
وعلى أية حال فطريقة استعماله طريقة العين ذاتها مع مراعاة الاختلافات اليسيرة التي أشرنا إليها.
جـ – تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري (محمد بن أحمد – 282هـ – 370هـ) فقد اتبع فيه الأزهري منهج الخليل بحذافيره حتى جاء التهذيب صورة مكبرة للعين.(/14)
د – المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (علي بن إسماعيل 398هـ – 458هـ) وقد اتبع فيه ابن سيده الخليل في ترتيبه للحروف مخرجياً كما اتبعه في أبنيته ولكن على النحو الذي انتهى بها إليه أبو بكر الزبيدي (محمد بن الحسن المتوفي 379 للهجرة) في كتابه تلخيص مختصر العين إذ فضل الزبيدي بين الثنائي المضعف الصحيح والثنائي المضعف المعتل فصارت أبنية الخليل الستة عنده سبعة أبنية وأضاف ابن سيده إليها بناء آخر تفرَّد به ألا وهو بناء السداسي، وضع فيه بعض الألفاظ الأعجمية الأصل مثل الشاهفوم (نوع من الزهر) وبعض الأصوات. كما اتبع الخليل في تقاليب الألفاظ[50].
ومهما يكن من شيء فإن هذه الكتب كلها كانت قد اعتمدت الأسس التي اعتمدها الخليل في كتاب العين من المخارج والأبنية والتقاليب.
2 – مدرسة الجمهرة:
نسبة إلى كتاب الجمهرة لأبي بكر بن دريد الأزدي (محمد بن الحسن 223هـ – 321هـ) ولقد اختار ابن دريد لمؤلفه هذا الاسم لأنه – كما صرح في مقدمته اقتصر فيه على جمهور كلام العرب معرضاً عن وحشية ومستنكرة واستقل بمعجمة عن مدرسة العين باتخاذها الأبنية أساساً رئيساً لتقسيم كتابه، إذ قسمه إلى أربعة أقسام رئيسية جعل كل قسم منها بناء خاص وهي:
1 - الثنائي الصحيح المدغم: يريد به الثلاثي المضعَّف.
2 - الثلاثي الصحيح.
3 - الرباعي.
4 - الخماسي.
وأردف كلاً من هذه الأقسام بملحقات. فألحق بالثنائي المضعف الرباعي (الثنائي الذي تكرر حرفاه) والثنائي المعتل.
وألحق بالثلاثي الصحيح الثلاثي الذي اجتمع فيه حرفان متماثلان. وما كان عين فعله حرف لين وما لحق بالثلاثي بأحد حروف العلة والنوادر في الهمز.(/15)
وألحق بالرباعي والخماسي أبواباً بحسب الأوزان والصيغ من غير ترتيب وختم معجمه بأبواب لغوية أخرى كثيرة لا نظام لها، عدّها من النوادر في موضوعاتها وصيغها فكثرت أبواب معجمة بهذه الملاحق كثرة ملحوظة ولم يعدل ابن دريد إلى الأبنية فحسب وإنما عدل إلى الترتيب الهجائي معرضاً عن الترتيب الصوتي للحروف الذي سارت عليه مدرسة العين.
فرتب أقسام تلك الأبواب أو فصولها بسبب حروف الهجاء (أ – ب – ت – ث. الخ) فبدأ بالهمزة مع بقية الحروف التي تليها وانتقل إلى الباء مع ما تلاها وهكذا حتى انتهى منها جميعاً. غير أنه حين تناول الثلاثي لم يبدأ بالهمزة وإنما أخرها إلى نهاية ما ألحقه بالثلاثي وهو النوادر في الهمز.
ولقد التزم في مواد الفصول بنظام التقاليب الذي أجبره على أخذ الحرف مع ما يليه دائماً كما سبق في مدرسة العين.
ومهما يكن من شيء فالبحث عن لفظ في الجمهرة يتطلب – أول ما يتطلبه النظر في عدد أحرفه الأصلية لمعرفة إن كان ثنائياً مضعفاً أو ثلاثياً أو رباعياً أو خماسياً أو مما يتصل بأي من هذه الأبواب لمعرفة الكتاب أو الباب الذي تضمنه. ثم النظر في موقع أسبق حرف من أحرفه الأصلية في الترتيب الهجائي (الألفبائي) المعروف للوصول إلى الفصل الذي يتناول ذلك اللفظ، وعندها نصل إلى المادة اللغوية المطلوبة وتقاليبها فيه بملاحظة تتابع أحرفها الأصلية في الترتيب الهجائي. فلفظ مثل ((كتب)) ثلاثي صحيح فهو في باب الثلاثي الصحيح. ولما كانت أحرفه في الترتيب الهجائي الباء ثم التاء ثم الكاف فالبحث عنه ينبغي أن يكون في باب الثلاثي الصحيح فصل الباء مقلوب مادة الباء والتاء والكاف ويوسع الباحث عن لفظ فيه أن ينظر في فهرس الألفاظ الذي عمله ناشروا الكتاب إذ رتبت فيه الألفاظ بحسب الترتيب الهجائي المعروف وتوالي الحروف في تلك الألفاظ ابتداء من الحرف الأول كما في المعاجم الحديثة[51].
3 – مدرسة المقاييس:(/16)
(أ) مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس المتوفي 395هـ وإليه نسبت المدرسة وقد سمى معجمه هذا بالمقاييس لعنايته بمقاييس اللغة وربطه فروع موادها بأصولها وقياسها عليها لفظاً ومعنى[52].
ولقد استقل ابن فارس في تنظيم معجمه بمنهج خاص عمد فيه إلى الترتيب الهجائي (الألفبائي) للحروف. فخص كل حرف منها بكتاب فبدأ بكتاب الهمزة وأعقبه بكتاب الباء ثم التاء ثم الثاء إلى أن انتهي منها جميعاً. فخالف بهذا مدرسة العين التي اعتمدت الترتيب الصوتي للحروف. كما خالف مدرسة الجمهرة (لاعتمادها على الأبنية في التقسيم الرئيسي للكتاب. وخالفهما معاً في أخذهما بنظام التقاليب وإعراضه عنه إعراضاً تاماً. ولهذا فليس بالإمكان ربطه بأي من المدرستين السابقتين لاختلافه عنهما اختلافاً منهجياً ظاهراً.
وبعد أن قسم كتابه بحسب حروف الهجاء عدداً وترتيباً قسم كلاً من تلك الكتب إلى ثلاثة أقسام أولها للثنائي المضعف وثانيها للثلاثي وثالثها لما زاد على الثلاثي. غير أنه ألزم نفسه بأخذ الحرف مع ما تلاه من مواد تلك الأبنية حتى إذا فرغ من كل ما تلاه أخذه مع ما سبقه فصار السابق – عنده – لاحقاً واللاحق سابقاً لعدوله عن نظام التقاليب والتزامه بالحرف مع ما تلاه أولاً. ففي الثنائي المضعف من كتاب الراء – مثلاً سيبدأ بالراء والزاء (رزّ) ثم الراء والسين (رسّ) ثم الراء والشين (رشّ) حتى إذا انتهى من كل ما تلاها عاد فأخذها مع ما سبقها فأخذها مع الهمزة (رأ) ومع الباء (ربّ) ومع التاء (رتّ) ومع الثاء (رث) إلى أن وصل إلى الراء والذال (رذ) وهو آخر ما كان تركه من الحروف السابقة إذ لم يجدها متصلة بالراء المضعف فانهى بهذا الثنائي المضعف من كتاب الراء. وهذا شأنه مع الحروف الأخرى.(/17)
وفي الثلاثي من كتاب القاف بدأ بالقاف واللام – إذ لم تتصل القاف بالكاف في لفظ عربي – فأخذهما مع الميم (قلم) ومع الهاء (قله) ومع الواو (قلو) ثم عاد فأخذهما مع ما سبقهما – أو في الأصح مع ما سبق الثاني منهما – مبتدئاً من الهمزة فلما لم يجدها متصلين بها أخذهما مع الباء (قلب) ومع التاء (قلت) إلى أو وصل بهما إلى (قلق) آخر ما وجده سابقاً اللازم من ألفاظ اللغة إذ لم تتصل القاف واللام بالكاف.
وبعد أن أنهى القاف واللام وما يثلثهما من أحرف لاحقة وسابقة انتقل إلى القاف والميم وما يثلثهما سالكاً السبيل ذاتها.
حتى إذا انتهى من القاف مع ما تلاها من حروف أخذها مع ما سبقها مبتدئاً بالقاف والهمزة وما يثلثهما ثم القاف والباء وما يثلثهما حتى انتهى عند القاف مع كل الحروف اللاحقة والسابقة. وهذا شأنه مع الحروف كلها.
أما ما زاد على الثلاثي فلم يلتزم فيه بغير الحرف الأول منه. فعلى من يبحث عن لفظ كهذا في المقاييس أن يعمد إلى الكتاب الخاص بحرفه الأول وإلى الباب الخاص منه بما زاد على الثلاثي فيبحث فيه عنه حتى يجده.
فلفظ مثل (بعثر) يبحث عنه في كتاب الباء باب ما زاد على الثلاثي ومما ييسر العثور على مثل هذه الألفاظ في أبوابها قلة مواد هذه الأبواب[53].
ب – المجمل: ويلحق بالمقاييس (مجمل اللغة) لابن فارس نفسه وقد يقصد فيه إلى الاختصار والإيجاز[54] متبعاً منهج المقاييس بحذافيره، فطريقة استخدامه هي طريق استخدام المقاييس ذاتها.
4 – مدرسة الصحاح:
نسبة إلى كتاب (تاج اللغة وصحاح العربية) لأبي نصر الجوهري (اسماعيل بن حماد المتوفي سنة 399هـ).
وقد ضمّت هذه المدرسة عدداً من المعاجم أشهرها.
أ – تاج اللغة وصحاح العربية المشهور بالصحاح وبه سمْيت المدرسة هذه.
1 – مختار الصحاح.
2 – التكملة.
ب – العباب.
جـ – القاموس المحيط.
هـ – تاج العروس.(/18)
أ – الصحاح: انتخب له الجوهري هذا الاسم لاقتصاره فيه على ما صح عنده من ألفاظ اللغة. واختط لمعجمه هذا منهجاً خاصاً أعرض فيه عن الترتيب الصوتي (المخرجي) للحروف كما أعرض عن نظام التقاليب والأبنية. وعمد إلى الترتيب الهجائي (الألفبائي) للحروف، واتخذه الأساس الأول والأخير في تنظيم معجمه أبواباً وفصولاً وما تضمنه من مواد لغوية، مخالفاً بهذا المدارس السابقة متخلصاً مما شاب مناهجها من صعوبات. ولقد طبق الترتيب الهجائي – أول ما طبقه – على أواخر الألفاظ ومن ثم على أوائلها وعلى ما تلا الحروف الأولى حتى أتى على حروفها كافة. فقسم معجمه إلى ثمانية وعشرين باباً، جعل لكل حرف من حروف الهجاء باباً منها، إلا أنه جمع الواو والياء في باب واحد.
وأودع في كل باب جميع الألفاظ المنتهية بحرفه. فالباب – عنده – يشير إلى الحرف الأخير من اللفظ ولهذا سمي نظامه بنطام القافية. ففي باب الهمزة – مثلاً – جمع كل ما انتهى بها من ألفاظ وهكذا.
وقسم كل باب منها إلى فصول بعدد وترتيب حروف الهجاء (الألفباء) مشيراً بهذه الفصول إلى أوائل حروف الألفاظ. فابتدأ باب الهمزة بفصل الهمزة وأعقبه بفصل الباء ثم التاء إلى آخر الحروف.
وهذا هو شأنه في الأبواب كلها فباب الباء فصل الهمزة ضم جميع الألفاظ المنتهية بالباء والمبدؤة بالهمزة أياً كانت أبنية هذه الألفاظ.
كما أنه رتب مواد كل فصل من هذه الفصول بحسب أسبقية ما بين الحرفين الأول والأخير منها في الترتيب الهجائي أيضاً.
ففي باب الدال فصل الواو يتقدم الفعل (وأد) على الفعل (وجد) لا لشيء إلا لأن الهمزة تسبق الجيم في الترتيب الهجائي. والفعل (حرجم) يسبق الفعل (حرم) مع أن كلاً منهما في باب الميم فصل الحاء وأن الحرف الثاني فيهما راء غير أن الحرف الثالث في ((حرجم)) جيم وهو في (حرم) ميم والجيم متسابقة الميم في الترتيب الهجائي.(/19)
ولهذا فالبحث عن لفظ في الصحاح وما ماثله في معاجم يتطلب معرفة الحرف الأخير منه لمعرفة بابه كما يتطلب معرفة حرفه الأول للوقوف على الفصل الذي تضمنه من ذلك الباب، وتنظر بعد وذاك بقية أحرفه – بحسب تواليها – لتحديد موضعه من الفصل.
ولقد أعجب بالكتاب ومنهجه أكثر اللغويين وقامت حوله دراسات أثمرت كتباً متعددة متنوعة سلكت سبيل الصحاح في تنظيمها يضيق هذا البحث بالتحدث عنها. لذا نكتفي بذكر مثالين لنوعين من أنواع تلك الدراسات وهما مختار الصحاح والتكملة والذيل والصلة.
1 – مختار الصحاح:
ألفه الرازي (محمد بن أبي بكر بن عبدالقادي ت666هـ) واقتصر فيه – كما في مقدمته – على ما لابد منه مما كثر استعماله وجريانه على الألسنة[55] ضم إليه ألفاظاً كثيرة أخذها من تهذيب اللغة للأزهري وغيره من الأصول اللغوية المعتمدة. واتبع فيه منهج الصحاح ذاته. غير أن وزارة المعارف المصرية كانت قد كلفت الأستاذ محمود خاطر بأن يتولى ترتيبه بحسب الحروف الأولى وما يليها من أحرف الألفاظ على نحو ما نعهده في المعاجم الحديثة. وطبع الكتاب طبعات عديدة.
2 – التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية.
ألفه الصفاني (الحسن بن محمد بن الحسن 577هـ – 651) وقال مؤلفه في مقدمته: "هذا كتاب جمعت فيه ما أهمله أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري رحمه الله في كتابه وذيلت عليه وسميته كتاب التكملة والذيل والصلة غير مدع استيفاء ما أهمله"[56].
وقد اتبع فيه سبيل الجوهري في صحاحه فطريقة استخدامهما واحدة.
ب – العباب: ألفه الصفاني صاحب التكملة المتقدم ذكره وقد جاء في مقدمته ما يفسر سبب تسميته حيث قال مؤلفه: "أُؤلف كتاباً في لغة العرب يكون – إن شاء الله – جامعاً شتاتها وشواردها حاوياً مشاهير لغاتها وأوابدها، يشتمل على أداني التراكيب وأقاصيها ولا يغادر منها – سوى المهملة – صغير ولا كبير إلا وهو يحصيها"[57].(/20)
وقد وصفه السيوطي بقوله: "وأعظم كتاب ألف في اللغة بعد عصر الصحاح كتاب المحكم والمحيط الأعظم لأبي الحسن على بن سيده الأندلسي الضرير. ثم كتاب العباب للرضي الصفاني"[58].
وقال فيه محمد صديق (العباب الزاخر واللباب الفاخر في عشرين مجلداً)[59].
وذكر الدكتور حسين نصار أن دار الكتب المصرية لا تمتلك منه غير مجلد واحد من أول الكتاب إلى مادة (عجرد)[60]. وكان مؤلفه قد أشرف به على نهايته مادة (بكم)[61] ووافاه أجله قبل أن يتمه.
جـ – لسان العرب:
ألفه ابن منظور (محمد بن مكرم بن علي الخزرجي الأفريقي 630هـ – 711). ولقد أراد ابن منظور أن يجمع فيه بين الاستقصاء وجودة الترتيب فعمد لتحقيق الغرض الأول إلى إبراز المعاجم السابقة – كما رآها هو – فأفرغها في موسوعته وذكرها مصرحاً بذكرها في مقدمته وهي:
تهذيب اللغة للأزهري، والمحكم لابن سيده، والصحاح للجوهري، وحواشي ابن بري على الصحاح، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير. وقال بكل تواضع: "وليس لي من هذا الكتاب فضيلة أمت بها، ولا وسيلة أتمسك بسببها سوى أني جمعت ما تفرق في تلك الكتب من العلوم وبسطت القول فيه"[62].
وأضاف قائلاً: "فليعتد من ينقل عن كتابي هذا أنه ينقل عن هذه الأصول الخمسة"[63].
وأما الغرض الثاني (جودة الترتيب) فرأى أن انتهاجه منهج الجوهري في صحاحه كفيل بتحقيقه. فلقد أعرب عن إعجابه به وتفضيله إياه على ما سواه قائلاً: "ورأيت أبا نظر إسماعيل بن حماد الجوهري قد احسن ترتيب مختصره، وشهره بسهولة وضعة فخف على الناس أمره فتناولوه. وقرب عليهم ما أخذه فتداولوه وتناقلوه"[64].
إلى أن قال: "ورتبته ترتيب الصحاح في الأبواب والفصول"[65].
ولقد ذاع صيت اللسان وطبقت شهرته الآفاق.
د – القاموس المحيط: ألفه الفيروزأبادي (محمد بن يعقوب بن محمد بن يعقوب بن إبراهيم 729هـ – 817).(/21)
ولقد أراد له مؤلفه أن يكون جامعاً موجزاً في الوقت ذاته. فحقق الشمول والاستيعاب بتعويله على العباب للصفاني والمحكم لابن سيده[66] فأودع في كتابه – عن طريقهما – خلاصة ما في العين والجمهرة والتهذيب والصحاح والتكملة وذكر في مقدمته أنه أضاف من زياداته إلى ما تضمنه العباب والمحيط. وقد سبقت الإشارة إلى أنه سماه القاموس المحيط لكونه – كما رآه – البحر الأعظم[67] وكما عمد إلى الشمول، فقد عمد إلى الإيجاز وصرح به قائلاً وسئلت تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام وعمل مفرغ في قالب الإيجاز والإحكام، مع إتمام المعاني، وإبرام المباني فصرفت صوب هذا القصد عناني وألفت هذا الكتاب محذوف الشواهد، مطروح الزوائد، معرباً عن الفصح والشوارد.
ولم يكتف بحذف الشواهد دون طرح الزوائد بل عمد إلى استخدام الرموز مكتفياً بكتابة (ع، د، ة، ج، م) عن موضع وبلد وقرية والجمع معروف[68].
وقد اتبع الجوهري في منهجه لأنه لم يؤلف كتابة إلا ليتتبعه فيذكر ما أغفله وينبه إلى ما توهمه لاشتهار مؤلفه وتعويل المدرسين عليه فقال.
(وخصصت الجوهري من بين الكتب اللغوية مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة لتداوله واشتهاره بخصوصه، واعتماد المدرسين على نصوصه)[69].
هـ – تاج العروس من جواهر القاموس:
قال الزبيدي: (محمد مرتضى الحسيني 1145هـ – 1205).(/22)
وقد ألفه صاحبه شرحاً لقاموس الفيروزأبادي، والتزم فيه بإيراد جميع مواد القاموس وتحقيقها والتنبيه إلى مراجعها وتفسير ما يحوج منها إلى تفسير والإتيان بالشواهد التي استغنى القاموس عنها فاضطره هذا كله أن يرجع إلى مائة وعشرين كتاباً ذكرها في مقدمته وبإيراده ما في القاموس وما استدركه عليه من كل هذه الكتب صار التاج – بحق – أجمع معجم عربي بلا نزاع. وقد طبعته المطبعة الأميرية ببولاق في القاهرة طبعة كاملة في عشرة أجزاء. وقامت وزارة الإرشاد والأنباء الكويتية بطبع أجزاء منه طباعة حديثة أنيقة ولا تزال مستمرة في طبع ما بقي منه.
5 – مدرسة الأساس:
عرفت هذه المدرسة بمدرسة الأساس نسبة إلى أساس البلاغة لجار الله الزمخشري (محمود بن عمر بن محمد 467هـ – 538).
أ – الأساس: سماه الزمخشري أساس البلاغة لمخالفته أصحاب المعاجم اللغوية، إذ لم يكن همه فيه استقصاء الألفاظ العربية ومعانيها اللغوية وإنما انحصر همه أو كاد في اقتناص العبارات الأدبية البليغة من آيات وأحاديث وأمثال وأشعار والوقوف من خلالها على معاني الألفاظ واستعمالاتها مبتدئاً بالحقيقة ثم الدلالات المجازية فاصلاً – في الأعم الأغلب – بين هذه وتلك منبهاً إليها.
وقد خالف في تنظيم معجمه النظم التي اتبعت في المعاجم الأخرى. إذ أخذ بالترتيب الهجائي (الألفبائي) للحروف وطبقه على أحرف الألفاظ. مبتدئاً من أوائلها والتي تليها بحسب تسلسلها فيها حتى انتهى بأواخرها. فقسم معجمه إلى كتب بعدد وترتيب حروف الهجاء – فالألفاظ المبدوءة بالهمزة – مثلاً – جمعها كتاب الهمزة في أول المعجم والمبدوءة بالباء ضمها كتاب الباء التالي لكتاب الهمزة والسابق لكتاب التاء وهكذا.(/23)
ورتبت مواد كل كتاب بحسب تسلسل حروفها الثواني ففي كتاب الدال تتقدم الألفاظ المبدوءة بالدال والهمزة على المبدوءة بالدال والراء. فلفظ (دأب) قبل لفظ (درب) وإذا درج اللفظان في الحرفين الأول والثاني ينظر إلى الحرف الثالث فلفظ (درج) يسبق لفظ (درس) لتأخر السين عن الجيم في الترتيب الهجائي وهكذا.
وطريقته هذه – بالطبع – أيسر طرائق البحث عن الألفاظ في المعاجم وهي المتبعة الآن في المعاجم الحديثة.
وقد طبع أكثر من مرة في مجلدين كما طبع أخيراً في مجلد واحد بأحرف أصغر من غير ما إخلال بمواد المعجم.
ولقد آثر اللغويون المحدثون طريقة الزمخشري في ترتيب الألفاظ اللغوية لسهولتها على العالم والمتعلم فاتبعوها في تأليف معاجمهم الحديثة.
ب – محيط المحيط: لبطرس بن بولس بن عبدالله البستاني اللبناني (1819م – 1883). وقد اتخذ من القاموس المحيط للفيروزآبادي أساساً لمادة معجمة. وحذف أسماء الأماكن والأشخاص والقبائل والمشتقات القياسية وبعض اللغات. وصاغ التفسيرات صياغة تلائم روح العصر الحديث وأضاف غير قليل من المعاني المولدة والمسيحية والعامية والمصطلحات العلمية والفلسفية[70].
جـ – قطر المحيط: لبطرس البستاني أيضاً وقد قال فيه مؤلفه أنه سماه بهذا الاسم لأن نسبته إلى محيط المحيط نسبة قطر دائرة إلى محيطها وقد أتى فيه على مواد المحيط غير أنه حذف جزءاً كبيراً من كل مادة منها واتبع فيه منهج المحيط.
د – أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد:
ألفه سعيد بن عبدالله الخوري الشرتوني (1849م – 1912). وعنوانه يشير إلى ما قصد إليه مؤلفه من التيسير ودقة التنظيم. فقسم معجمه إلى قسمين استقل الأول منهما بالمفردات والثاني بالمصطلحات العلمية والكلم المولد والإعلام وأردفهما بذيل لما استدركه على نفسه وعلى غيره.(/24)
وقد أصدر القسم الأول والذي وأرجأ القسم الثاني غير أن الموت لم يمهله لإصداره وكان قد عول في القسم الأول من معجمه على مواد القاموس للفيروزأبادي بعد أن غير ترتيبها بحسب ترتيب الأساس. وقام بمثل ما قام به البستاني في محيطه من حذف وإضافة وصياغة غير أنه خالف البستاني أيضاً فحذف كثيراً من الألفاظ العامية والمسيحية وأسماء الكتب، واستعمل الرموز مشيراً بها إلى أبواب الأفعال والتزم نظاماً صارماً لتقديم الأفعال على الأسماء، وراعى ترتيباً معيناً في تناول الأفعال ذاتها. فمعجمه أكثر انتظاماً من محيط البستاني تيسيراً للبحث مع كونه أغزر منه مادة. وقد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا أنه أشمل المعاجم التي أصدرها اللبنانيون للمفردات.
هـ – المنجد: للأب لويس المعلوف أخرجه سنة 1908م اختصر فيه محيط المحيط البستاني وسار على نظامه. ورجع إلى التاج كثيراً في تفسير مواده. واستعان بالرموز على غرار المعاجم الأجنبية فرمز للصيغ وتكرار اللفظ المشروح. وأكثر من الصور الموضحة. فلقي رواجاً منقطع النظير لما انطوى عليه من مميزات فهو مبّرأ من فصول القول والاستطرادات وتعدد الأوجه مكثف المادة غزيرها رائق في حجمه ومظهره. غير أنه مع هذا كله لا يصلح مرجعاً موثوقاً للباحثين المختصين لوقوعه في بعض الأخطاء ولأنه مشوب في عدد من مواده بأمور تتصل بالدين الإسلامي والتراث العربي مما درج على ترديده عدد من المستشرقين المغرضين. وعلى الرغم من تعدد طبعاته فإن القائمين على طبعه لم يتلافوا المآخذ التي دأب الباحثون على كشفها فيه طوال هذه السنين العديدة.(/25)
ولقد أدخلت عليه تحسينات كثيرة فحفل بالصور والجداول والخرائط وكتبت المواد في أول السطر باللون الأحمر وألحق به معجم للآداب والعلوم حوى تراجم لأعلام الشرق والغرب صنعه الأب فرديناند توتل سنة 1956م فصار المنجد في طليعة المعاجم العربية الحديثة تنظيماً وأيسرها تناولاً وأكثرها انتشاراً مع ما فيه من مآخذ.
و – البستان – لعضو المجمع العربي بدمشق في حينه، عبدالله بن ميخائيل البستاني (1854م – 1930) استقى مادته من محيط المحيط لبطرس البستاني وتصرف فيها حذفاً وإضافة وأفاد كثيراً مما أدخل في المعاجم الحديثة من تحسينات.
ولقد أكثر من الألفاظ الداخلية والمولدة وبخاصة المخترعات والمصطلحات الحديثة وآثر في تفسيره للألفاظ عبارات التاج على عبارات القاموس المحيط فتضخم معجمه فاستنفذ مجلدين كبيرين أصدرهما سنة 1930م.
ز – فاكهة البستان: – لعبدالله البستاني أيضاً اختصر فيه البستان ليتيسر اقتناؤه ويعم الانتفاع به فطبعة في مجلد واحد 1935م أيضاً.
ح – معجم متن اللغة: للشيخ أحمد رضا العاملي عضو المجمع العربي في دمشق سابقاً. صنعه بتكليف من مجمعه. ويبدو أنه أخذ بتوجيهات مجمعه عند تأليف معجمه فجاءت محتويات كل مادة من مواده مرتبة ترتيباً دقيقاً. إذ قدم الأفعال على الأسماء وبدأ بالمجرد من الأفعال فرتبها بحسب تسلسل أبوابها الستة المعروفة ورتب المزيد منها ترتيباً خاصاً وكذلك الأسماء. معولاً في تفسيرها على معاجم الأقدمين معرضاً عن المعاجم الحديثة كيلا تتسرب أخطاؤها إلى صنيعة غير أنه أفاد كثيراً مما فيها من مظاهر التنظيم.
ولقد تجنب تعدد الأوجه وكثرة الاستطرادات والتعليلات في المعاجم القديمة.(/26)
وحرص على ذكر المجاز إلى جانب الحقيقة. وأدخل الألفاظ المصرية والمستحدثة والصيغ التي أقرها كل من المجمعين اللغويين في القاهرة – ودمشق. وأفرد الألفاظ العامية في هوامش مواده كيلا تختلط بالفصيح ولا يفتقر إليها معجمه. ولم يكثر من المصطلحات العلمية والفنية لكونها خارجة عن متن اللغة. وإذا أورد مصطلحاً دخيلاً وضع إلى جواره اسمه الأجنبي بأحرفه اللاتينية.
وقد صدر معجمه هذا في سبعة مجلدات عن دار الحياة في بيروت سنة 1958م بعد وفاة مؤلفه.
ط – المعجم الوسيط: ألفته لجنة من أعضاء مجمع اللغة العربية في القاهرة بتكليف منه. وقد أفادت اللجنة من آخر ما وصلت إليه المعاجم العربية الحديثة من تطور في المادة والمنهج. فضمت إلى المعاجم كثيراً من المصطلحات. وما استحدث في حياتنا العامة من ألفاظ مولدة ومعربة حديثاً واستغنت عن الحوشي والمهجور من ألفاظ اللغة وبعسر المتراصات واستعانت بالرموز للاختصار والتزمت بمنهج خاص في ترتيب ما أوردته في كل مادة، كتقديم الأفعال على الأسماء، ومجردها على مزيدها ولازمها على متعديها، واتخذت – بالطبع – نظام الأساس نظاماً لها في ترتيب معجمها. فجاء معجمها أكثر المعاجم العربية الصغيرة مادة وأرحبها صدراً للمصطلحات والمستحدث من الألفاظ والدلالات وأضبطها وأوثقها وأحكمها منهجاً. وهو بعد هذا كله أول معجم عربي حديث صدر عن مجمع له حق التشريع في اللغة. غير أنه مع هذا كله لم يسلم من سقطات وهفوات. وقد تتبعها الدكتور عدنان الخطيب ونشرها تباعاً في سلسلة مقالات نشرها في مجلة اللغة العربية في دمشق من سنة 1963م – 1967 ثم تولى جمعها في كتاب خاص به نشره سنة 1967م.
ي – المعجم الكبير: شرع مجمع اللغة العربية في القاهرة منذ فترة في عمل معجم كبير للغة العربية يغني عن غيره من المعاجم وقد استطاع أن ينتهي من جزئه الأول الخاص بحرف الهمزة فنشره سنة 1970م في سبعمائة صفحة.(/27)
ويتضح من مقدمة هذا الجزء أن المجمع كان قد رمى إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية.
أ – دقة الترتيب: إذ اختار ترتيب الأساس أي الترتيب الهجائي (الألفبائي) ابتداء من الحرف الأصلي الأول من أحرف الألفاظ إلى آخر حرف فيها. أما الألفاظ الدخيلة (غير العربية) التي لم يشتق العرب منها فقد اعتبرت جميع أحرفها أصيلة فلفظ مثل استبرق وضع في الهمزة وما تلاها من أحرف اللفظ بحسب ترتيبها. ولقد رتبت كل مادة ترتيباً دقيقاً شاملاً فقسمت إلى ستة أقسام هي:
1 - نظائرها في اللغات السامية.
2 - معانيها الكلية أو العامة.
3 - أفعالها.
4 - مصادرها.
5 - مشتقاتها.
6 - الأسماء.
ولم يهمل من هذه الأقسام إلا ما ليس له وجود في اللغة، والتزم في ترتيب المعاني والأفعال والأسماء بما التزم به في المعجم الوسيط من تقديم المعاني الأصلية على الفرعية والحسية على المعنوية وتقديم المجرد من الأفعال على المزيد واللازم على المتعدى.
ورتبت الأسماء بحسب أسبقية أوائلها في الترتيب الهجائي. كما رتبت الشواهد بحسب قدمها.
واستخدم الرموز الدالة بغية الإيجاز وفسّر المواد بعبارات واضحة موجزة دقيقة.
ب – الإحاطة اللغوية: – تلك الإحاطة القائمة على الإستيعاب وتصوير المادة تصويراً كاملاً في جميع الأزمنة والأمكنة التي عاشت فيها. فبحث عن المواد في المعاجم القديمة وتجاوزها إلى كتب الأدب والعلوم ولم يشر إلى غير ما انفرد منها بشيء مما أخذه. وأكمل اشتقاقات بعض المواد التي سمعت طائفة من اشتقاقاتها ولم تسمع بقيتها. وأقر تعريب المحدثين: فجاء المعجم شاملاً لما يريده الباحث من ألفاظ القدماء والمحدثين ودلالاتها إلى عصرنا الحاضر.(/28)
جـ – موسوعية التأليف المعجمي: وقد تمثلت في تقديم ألوان من المعارف والعلوم تحت أسماء المصطلحات والأعلام جميع المصطلحات القديمة وما أقره المجمع من مصطلحات حديثة وما كان وثيق الصلة بالإستعمال الأدبي واللغوي وأورد الأعلام العربية وكل ما له من أهمية تأريخية أو أدبية وفسر هذه الألوان من المعارف والعلوم بدقة ووضوح وإيجاز.
والحق أن المجمع في عمله كان قد طبق منهج المستشرق الألماني فيشر في معجمه (المعجم اللغوي التاريخي) الذي تولى مجمع اللغة العربية في القاهرة نشر مقدمته وقسم من باب الهمزة (ينتهي بمادة (أبد).) ويظهر – كما ذهب الدكتور إبراهيم مدكور – أن فيشر كان قد احتذى منهج معجم أكسفورد وأراد أن يطبقه على العربية.
المصادر والمراجع
1 - أساس البلاغة – للزمخشري (محمود بن عمر ت358هـ) الطبعة الأولى بطريقة الأوفست – مطبعة اولا أورنايد – القاهرة 1372هـ 1952م.
2 - أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد – الشرنوبي (سعيد بن عبدالله الخوري 1849م – 1912م).
3 - البحث اللغوي عند العرب مع دراسة لقضية التأثير والتأثر – الدكتور أحمد مختار عمر – دار المعارف بمصر – 1971م.
4 - البستان – البستاني (عبدالله بن ميخائيل 1854م – 1930 المطبعة الأميركية – بيروت – 1927م.
5 - التاج (تاج العروس من جواهر القاموس) – الزبيدي (محمد مرتضى الحسيني – المطبعة الخيرية بمصر 1306هـ – 1307هـ).
6 - التكملة (التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية) الصغاني (الحسن بن محمد ابن الحسن ت650هـ).
7- التهذيب (تهذيب اللغة) – الأزهري (أبو منصور محمد بن أحمد – 282هـ 370) مطبعة الدار القومية للطباعة – القاهرة 1384هـ 1964م.
8 - الجمهرة (جمهرة اللغة) – ابن دريد (أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت321هـ) – الطبعة الأولى مطبعة دائرة المعارف في حيدر آباد الدكن – 1344هـ.(/29)
9 - الخليل بن أحمد الفراهيدي أعماله ومنهجه – الدكتور مهدي المخزومي مطبعة الزهراء – بغداد – 1960م.
10 - ديوان الأدب – الفارابي (أبو نصر إسحاق بن إبراهيم ت350هـ) مخطوط – مكتبة الأوقاف ببغداد رقم 1106.
11 - رواية اللغة – الدكتور عبدالحميد الشلفاني – دار المعارف بمصر 1971م.
12 - سر صناعة الأعراب – ابن جني (أبو الفتح عثمان) الجزء الأول منه فقط تحقيق مصطفى السقا وآخرين – الطبعة الأولى مطبعة مصطفى البابي احلبي وأولاده بمصر 1374هـ – 1954م).
13 - شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك – ابن عقيل (عبدالله بن عقيل العقيلي 698هـ – 769) تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد الطبعة الرابعة عشرة – مطبعة السعادة بمصر 1384هـ 1964م).
14 - شرح الشافية (شرح شافية ابن الحاجب) – الراضي الاسترابادي (محمد رضي الدين بن الحسن ت1093هـ) تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد وآخرين – الطبعة الأولى مطبعة حجازي في القاهرة – 1358هـ – 1929م.
15 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) – الجوهري (اسماعيل بن حماد 332هـ – 369) تحقيق أحمد عبدالغفور عطار – مطبعة دار الكتب العربي – القاهرة – 1376هـ – 1956م).
16 - ضحى الإسلام – أحمد أمين – الطبعة السابعة مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة – 1964م.
17 - العين – الخليل (الخليل ابن أحمد الفراهيدي 100هـ – 175) تحقيق الدكتور عبدالله درويش – مطبعة العاني – بغداد 1386هـ 1967م (الجزء الأول منه فقط).
18 - فاكهة البستان – البستاني (عبدالله بن ميخائيل 1854م – 1930م). المطبعة الأميركية – بيروت 1930م).
19 - الفهرست – ابن النديم (أبو الفرج محمد بن اسحق ت438 مطبعة الاستقامة في القاهرة.
20 - القاموس المحيط – الفيروزأبادي (محمد بن يعقوب بن محمد 729هـ 817) الطبعة الرابعة – مطبعة دار المأمون – القاهرة 1357هـ 1938م).
21 - قطر المحيط – البستاني (بطرس بن بولس بن عبدالله 1819 – 1883). بيروت – 1870م.(/30)
22 - الكتاب – سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر 148هـ – 180) نسخة مصورة بالأوفست عن الطبعة الأولى – المطبعة الأميرية ببولاق القاهرة – 1316هـ.
23 - اللسان (لسان العرب) – ابن منظور (محمد بن مكرم بن منظور 630هـ – 711) – دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر – بيروت 1388هـ – 1968م).
24 - المباحث اللغوية في العراق ومشكلة العربية العصرية الدكتور مصطفى جواد الطبعة الثانية – مطبعة العاني بغداد – 1385هـ – 1965م).
25 - المجمل (مجمل اللغة) – ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس ت395هـ) تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد – الطبعة الأولى – مطبعة السعادة – القاهرة 2366هـ – 1947م (الجزء الأول منه فقط).
26 - محيط المحيط – البستاني – بطرس البستاني – نسخة مصورة بالأوفسيت عن الطبعة الأولى 1870م.
27 - المحكم والمحيط الأعظم في اللغة – ابن سيده (علي بن إسماعيل ت458هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1958م الأجزاء الثلاثة الأولى حققت لمعهد الدراسات العربية العليا في القاهرة.
28 - مختار الصحاح – الرازي (محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر ت666هـ) القاهرة.
29 - مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو – الدكتور مهدي المخزومي مطبعة الزهراء – بغداد – 1960م.
30 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها – السيوطي (عبدالرحمن بن أبي بكر ت911هـ) مطبعة عيسى الحلبي وشركاه – القاهرة.
31 - مصادر التراث العربي في اللغة والمعاجم والأدب والتراجم – الدكتور عمر الدقاق – الطبعة الثالثة – دار الشرق – بيروت.
32 - المعاجم العربية – الدكتور حسين نصار – معهد التربية الأنروا – اليونسكو بيروت. القسم الأول Trepa/A/8 القسم الثاني Prepa/A/9
33 - المعاجم العربية مع اعتناء خاص بمعجم العين للخليل بن أحمد – الدكتور عبدالله درويش – مطبعة الرسالة – القاهرة 1375هـ 1956م.(/31)
34 - معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) – ياقوت الحموي (ياقوت بن عبدالله 574هـ – 626). نسخة مصورة بالأوفست عن الطبعة الثانية مطبعة هندية – القاهرة 923م.
35 - المعجم العربي بين الماضي والحاضر – الدكتور عدنان الخطيب مطبعة النهضة الجديدة – القاهرة – 1967م.
36 - المعجم العربي نشأته وتطوره – الدكتور حسين نصار الطبعة الثانية – دار مصر للطباعة – القاهرة – 1968م.
37 - المعجم الكبير – معجم اللغة العربية في القاهرة – مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة 1970م (الجزء الأول منه فقط).
38- المعجم اللغوي التأريخي – المستعرب الألماني أ. فيشر – الطبعة الأولى المطابع الأميرية – القاهرة – 1387هـ 1967م (القسم الأول منه فقط).
39 - معجم متن اللغة – الشيخ أحمد رضا العاملي – دار مكتبة الحياة – بيروت 1958م.
40 - المعجم الوسيط – معجم اللغة العربية (إبراهيم مصطفى وآخرون) مطبعة مصر – 1380هـ – 1960م.
41 - المفردات (المفردات في غريب القرآن) الراغب الأصفهاني (أبو القاسم حسين بن محمد ت502هـ) تحقيق محمد سيد كيلاني مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده في القاهرة 1389هـ – 1969م.
42 - مقاييس اللغة – ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس ت395هـ) تحقيق عبدالسلام محمد هارون – الطبعة الثانية – مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده في القاهرة 1389هـ – 1970م.
43 - المكتبة العربية (دراسة لأمهات الكتب في الثقافة العربية) الدكتور عزة حسن دمشق – 1390هـ – 1970م (الجزء الأول منه فقط).
44 - المنجد في اللغة والأدب والعلوم – لويس المعلوف الطبعة الخامسة عشرة – مطبعة الآباء اليسوعين – بيروت – 1956م.
ــــــــــــــــــــ
[1] وانظر المعاجم العربية الدكتور حسين نصار 1/1 والمعجم العربي له 1/12 – 13.
[2] المقاييس – ابن فارس (عجم) 1/240، المفردات – الراغب الأصفهاني (عجم) 323 – 324.
[3] المقاييس: الموضع السابق.(/32)
[4] ديوان الأدب – الفارابي – مخطوط – باب ((مفعل)) يضم الميم وفتح العين ص69.
[5] التهذيب – الأزهري (عجم) 1/391، اللسان – ابن منظور – (عجم) 12/388.
[6] الصحاح – الجوهري – (عجم) 5/1980 – 1981.
[7] سر صناعة الأعراب – ابن جني – 1/39 – 40.
[8] نفس المرجع والموضع وتابعه فيه ابن سيدة (علي بن أحمد ت458).
انظر المحكم والمحيط الأعظم له 1/ واللسان مادة (عجم) كما تابعه فيه ابن بري (عبدالله بن بري بن عبدالجبار ت582) انظر اللسان مادة (عجم).
[9] المقاييس – ابن فارس – (عجم) 1/240.
[10] مثل (كتاب الأغاني على حروف المعجم) لحبيب بن موسى الضبي كما في معجم الأدباء 7/220 – 221، الفهرست – لابن النديم 214 وقد سماه حسن بن موسى، والمعجم العربي الدكتور حسين نصار 1/13، والمعاجم العربية له 1/2.
[11] مثل كتاب (صناعة الغناء وأخبار المغنين) لقريض المغنى كما في الفهرست لابن النديم 228 والمعجم العربي 1/13، والمعاجم العربية – له – 1/2.
[12] المعجم العربي الدكتور حسين نصار 1/14، المعاجم العربية له – والمعجم العربي بين الماضي والحاضر الدكتور عدنان الخطيب 31.
[13] مصادر التراث العربي – الدكتور عمر الدقاق: 170، البحث اللغوي عند العرب.
[14] المعجم العربي الدكتور حسين نصار 1/13، المعجم العربي بين الماضي والحاضر الدكتور عدنان الخطيب 31.
[15] المباحث اللغوية في العراق – الدكتور مصطفى جواد 64، 74 والمعاجم العربية 1/2.
[16] المعاجم العربية الدكتور حسين نصار 1/2 – 3.
[17] ديوان الأدب – الفارابي – مخطوط ص96.
[18] اللسان – مادة (قس) 6/183.
[19] القاموس المحيط – المقدمة: 1/3.
[20] انظر المعجم العربي بين الماضي والحاضر – الدكتور عدنان الخطيب 29 والمعاجم العربية الدكتور حسين نصار 1/3.(/33)
[21] انظره في مصادر التراث العربي الدكتور عمر الدقاق 167 – 170 والمعجم العربية بين الماضي والحاضر – الدكتور عدنان الخطيب 14 – 15/22 – 29 والخليل بن أحمد – الدكتور المخزومي 96 – 97 وما بعدها.
[22] التهذيب – الأزهري 6/347 باب الهاء والجيم.
[23] واصطلاح الألف باء – كما ذكر الدكتور عدنان الخطيب – عجم جميع اللغات التي تتصل حروف كتابتها بنسب إلى الأبجدية الفنيقية – وكثر من كتاب العصر يكتبون هذا المصطلح موصولاً فيقولون (الألفباء) وكان ابن خلدون السابق إلى هذا الاستعمال انظر المعجم العربي – له – 29.
[24] العين: 1/65.
[25] مصادر التراث العربي: الدكتور عمر الدقاق: 168.
[26] ضحى الإسلام – أحمد أمين 2/263 – 266.
[27] الخليل بن أحمد متوفى 177، يونس بن حبيب 182 ويلي طبقتهما اليزيدي 202 والنصير بن شميل 204، وقطرب 206، وأبو عبيدة 210، وأبو زيد والأصمعي 21 ويلي طبقتهم الجرمي 225، والتوزي 238، والمازني 249، والسجستاني 225، والرياشي 257، وانظر رواية اللغة الدكتور عبدالحميد الشلقاني 103.
[28] انظر في هذا المزهر للسيوطي 1/89 – 92، مقدمة تهذيب اللغة للأزهري، ومقدمة الجمهرة لابن دريد، والمعجم العربي للدكتور حسين نصار 1/279، والعين للخليل بن أحمد بتحقيق الدكتور عبدالله درويش المقدمة 1/6 – 27.
[29] كزيادة الألف – مثلاً – في ضارب للدلالة على اسم الفاعل والميم والواو في مضروب للدلالة على اسم المفعول وهكذا.
[30] شرح شافية ابن الحاجب للاستراباذي 2/330 – 331.
[31] شرح شافية ابن الحاجب للاستراباذي 2/331 – 332.
[32] مثل الباء، واللام، من، عن وانظر تقرير هذا الأصل في شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك 1/30 – 31.
[33] ولذلك قبل الحروف المشبهة بالفعل لعملها وبنيتها.
[34] العين – للخليل 55.
[35] مثل الضمائر المتصلة وهو، وهي، وهم، وغيرها من المنفصلة.(/34)
[36] مثل ذا للإشارة ومن ما من الأسماء الموصولة بل ذهب الكوفيون إلى أنّ الدال و: ها اسم الإشارة والمحمولية في ذا والذي وليس الدال والألف والذال في الموصولة كما ذهب البصريون. وانظر تفاصيل الخلاف بينهما في هذا الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري المسألة 95 – مدرسة الكوفة الدكتور المخزومي 197.
[37] مثل من، وما في كل من الأسلوبين.
[38] مثل صه، بخ.
[39] إذا الأصل فيهما يدي ودمو لقولهم (يديت الرجل) أي أصبت يده وقولهم النسبة إلى الدم دموي.
[40] كسقوطها من الفعل رأى عند المضارعة (يرى) وسقوطها من الأفعال المهموزة عند الأمر (أكل، يأكل، كل)، (وسأل – يسأل – سل).
[41] مثل (وقى – بقي – ق).
[42] الخليل بن أحمد – المخزومي 187 – 190، مصادر التراث – الدكتور عمر الدقاق 171.
[43] العين – الخليل – 1/53، والخليل بن أحمد – المخزومي – 96 – 97، مصادر التراث – الدقاق – 171، المكتبة العربية – عزة حسن 148.
[44] انظر هذا كله في العين – الخليل 1/45، والمعجم العربي – نصار 1/219 والمعاجم العربية له 1/8 – 15، والمعاجم العربية – درويش 17 – 18، ومصادر التراث الدقاق 173 – 175.
[45] لا وجود لأي قسم من هذا الكتاب نشره المستشرق فلوتن (A. S. Fulto ) في (148) صفحة عن مخطوطة المتحف البريطاني. وقد حققه هاشم الطعان ونال بتحقيقه شهادة الماجستير من آداب جامعة بغداد.
[46] وهي عند سيبويه (د. أ. هـ. ع. ح. غ. خ. ك. ف. ص. ج. ش. ى. ل. ر. ن. ط. د. ت. ص. ز. س. ظ. ذ. ث. ف. ب. م. و) انظر في الكتاب له 2/404.
[47] انظر ترتيب الخليل للحروف في العين 1/65 وص11 من هذا البحث.
[48] المعاجم العربية – درويش – 32، المعاجم العربية – نصار 1/20 والمعجم العربي له 314 – 315.
[49] قارن هذا بأبنية الخليل من 17 – 18 في هذا البحث. وانظر المعاجم العربية – درويش 33، والمعجم العربي – نصار – 1/221 وما بعدها.(/35)
[50] انظر المعجم العربي – نصار 1/373 – 392 والمعاجم العربية له أيضاً 1/34 – 35 والمكتبة العربية – عزة حسن 1/162 – 166. وانظر الأجزاء الثلاثة المطبوعة منه فقد أوضح فيها جميع مزايا معجمة بإسهاب واختمها بقوله (هذا جميع ما اشتمل عليه كتابنا (المحكم) وهو في هذه القناعة (المحيط الأعظم) – غير أنه لم يتحدث عن التنظيم العام الذي اتبعه في كل هذه المقدمة الطويلة.
[51] انظر في هذا الجمهرة.
والمعجم العربي للدكتور حسين نصار 2/404 – 421، والمعاجم العربية له – 2/1 – 4، البحث اللغوي للدكتور أحمد مختار 152 – 156، المكتبة العربية للدكتور عزة حسن 1/167 – 171، مصادر التراث الدكتور عمر الدقاق 186 – 191، رواية اللغة – الدكتور عبدالحميد السلقاني 254 – 256.
[52] انظر مقدمة المؤلف 1/3 ومقدمة محققة 1/39.
[53] انظر فيه مقدمة محققه 1/42 – 44 والمعجم العربي – الدكتور حسين نصار 2/434 – 439 والمعاجم العربية له 2/6 – 10 المعاجم العربية – الدكتور عبدالله درويش 122 – 125 مصارد التراث العربي الدكتور عمر الدقاق 191 – 197.
البحث اللغوي – 156 – 159، المكتبة العربية الدكتور عزة حسن 1/172 – 177.
[54] جاء في مقدمة مؤلفه قوله (وسميته مجمل اللغة لأني أجملت الكلام فيه إجمالاً).
[55] ولهذا انتخب له هذا الاسم لاختياره من الصحاح ما اختاره.
[56] 1/5 من المطبوع. وقد وصل إلينا منه ثلاثة أجزاء.
[57] المعجم العربي – الدكتور حسين نصار 2/530.
[58] المعجم العربي – الدكتور حسين نصار 2/533 والمزهر للسيوطي 1/100.
[59] نفس المرجع والموضع من كتاب الدكتور حسين نصار.
[60] نفس المرجع والموضع.
[61] نفس المرجع 2/530 والمزهر للسيوطي 1/100.
[62] مقدمة المؤلف 1/7 – 9.
[63] مقدمة المؤلف 1/7 – 9.
[64] مقدمة المؤلف 1/7 – 9.
[65] مقدمة المؤلف 1/7 – 9.
[66] مقدمة المؤلف من 1/3 – 4.
[67] مقدمة المؤلف من 1/3 – 4.
[68] مقدمة المؤلف من 1/3 – 4.(/36)
[69] جاء في مقدمة مؤلفه قوله في سبب تسميته (وسميته تاج العروس من جواهر القاموس، وكأني بالعالم المتبحر قد اطلع عليه فارتضاه، وأجال فيه نظره ذي علق فاجتباه).
[70] انظر محيط المحيط.(/37)
العنوان: المعصوم يضحك
رقم المقالة: 1166
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها المؤمنون:
عنوان هذه الخطبة (المعصوم يضحك)، محمد - صلى الله عليه وسلم - يضحك، نعيش معه هذا اليوم ضاحكاً، كما عشنا معه أياماً، وهو باكٍ متأثر خاشع لله - عزَّ وجلَّ.
من الذي أضحكه - صلى الله عليه وسلم - إنه الله الواحد الأحد.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43].
وما له لا يضحك - صلى الله عليه وسلم - ودينه رحمة، ومنهجه سعادة، ودستوره فلاح.(/1)
لقد عشنا معه - صلى الله عليه وسلم - في مواطن التأثر باكياً، تدمع عيناه، وينجرح فؤاده ونعيش معه اليوم وهو يهش للدعابة، ويضحك للطرفة، ويتفاعل مع أصحابه في مجريات أمورهم وأحاديثهم.
إن مدرسة التصوف تملي على منسوبيها ألا يضحكوا، يقول أحدهم: ما ضحكت منذ أربعين سنة. لكن الإمام الأعظم، والقائد الأكمل يضحك في مواطن من حياته.
وضحكه - صلى الله عليه وسلم - له مقاصد، ضحك نافع، يربي بالبسمة، ويدرس بالضحك، ويعلم بالمزحة. فتعالوا نستمع إلى أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك:
ضَحِكَتْ لَكَ الأَيَّامُ يَا عَلَمَ الْهُدَى وَاسْتَبْشَرَتْ بِقُدُومِكَ الأَعْوَامُ
وَتَوَقَّفَ التَّارِيخُ عِنْدَكَ مُذْعِناً تُمْلِي عَلَيْهِ وَصَحْبُك الأَقْلامُ
اضْحَكْ لأَنَّكَ جِئْتَ بُشْرَى لِلْوَرَى فِي رَاحَتَيْكَ السِّلْمُ وَالإِسْلامُ
اضْحَكْ فَبَعْثتُكَ الصُّعُودُ وَفَجْرُهَا مِيلادُ جِيلٍ مَا عَلَيْهِ ظَلامُ
روى أحمد في "المسند" بسند صحيح، والبيهقي: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ركب حماراً له يدعى يعفور، رسنه من ليف، ثم قال: ((اركب يا معاذ))؛ فقلت: سر يا رسول الله؛ فقال: ((اركب))؛ فردفته.
وعليكم أن تستحضروا هذه الصورة؛ من هو الراكب؟ إنه محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أخرج البشرية من ظلمات الشرك، إلى نور التوحيد، يركب الحمار، ويردف خلفه تلميذاً نجيباً من تلامذته.
قال معاذ: فردفته، فصرع الحمار بنا!
سقط الحمار، وسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - وسقط معاذ - رضي الله عنه - فماذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال معاذ: فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً.
قام يضحك، رسالته مليئة بالبسمة، والبشرى، والرحمة لكل إنسان، يفيض على محبيه بشاشة، ويقربهم من السعادة بكل صورها، يقول جرير بن عبد الله: والله ما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تبسم في وجهي.(/2)
قال معاذ: فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً، ثم فعل ذلك الثانية، والثالثة، فركب، وسار بنا الحمار، فأخلف يده، فضرب ظهري بسوط معه أو عصا ثم قال: ((يا معاذ، هل تدري ما حق الله على العباد؟)) فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق الله على العباد؛ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)). قال: ثم سار ما شاء الله، ثم أخلف يده، فضرب ظهري، فقال: ((يا معاذ، يا ابن أم معاذ، هل تدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة))[1].
أيها الناس:
إن هذا الإنسان، الذي حرم على نفسه وأطفاله وأهله البسمة والضحكة، معتذراً بمشاغل الحياة وآلام الدهر، نقول له: إن من كان يحمل هموم البشرية كلها، ويحمل رسالة أبت السماوات والأرض والجبال حملها، محمد - عليه الصلاة والسلام - ومع ذلك كان يضحك.
كان في يوم أحد، والجيوش ملتحمة، والسيوف تتنزل بالرؤوس والجماجم، والرماح تسيل بالدماء، والموت في كل مكان، كان يضحك.
تَمُرُّ بِكَ الأَبْطَالُ كَلْمَى هَزِيمَةً وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
نَثَرْتَهُمُ فَوْقَ الأُحَيْدَبِ نَثْرَةً كَمَا نَثَرْتَ فَوْقَ الْعَرُوسِ الدَّرَاهِمُ(/3)
ويضحك - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى؛ روى الترمذي، وأبو داود، بأسانيد صحيحة، عن علي بن ربيعة قال: شهدت عليّاً، وأتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 13-14]. ثم قال الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل يا أمير المؤمنين، من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت:
يا رسول الله، من أي شيء ضحكت؟ قال: ((إن ربك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري))[2].
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يضحك، لأن هذه الأمة تعرف ربها، وتتوجه إليه بالدعاء ليغفر ذنوبها، فيضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة لهذه الأمة، وفرحاً لأن الله - عزَّ وجلَّ - يغفر الذنوب لكل من استغفر وتاب.
ويضحك - صلى الله عليه وسلم - أيضاً كما في صحيح مسلم، فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل مقبل بوجهه إلى النار[3] فيقول: أي رب، اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها[4]، وأحرقني ذكاؤها[5]، فيدعو الله ما شاء الله أن يدعوه، ثم يقول: الله - تبارك وتعالى -: هل عسيت إن فعلت ذلك أن تسأل غيره، فيقول: لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك، لا تسألني غير الذي أعطيتك، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك!(/4)
فيقول: أي رب، ويدعو الله حتى يقول له: فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك، فيعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة، انفهقت[6] له الجنة، فرأى ما فيها من الخير والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، أدخلني الجنة فيقول الله - تبارك وتعالى - له: ((أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت، ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فيقول: أي رب، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو الله، حتى يضحك الله - تبارك وتعالى - منه، فإذا ضحك الله منه، قال: ادخل الجنة، فإذا دخلها، قال الله له: تمنه، فيسأل ربه ويتمنى حتى أن الله ليذكره من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله - تعالى -: ذلك لك ومثله معه.
قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: ذلك لك وعشرة أمثاله.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه[7]!!
أيها الناس:
هذه عقيدة ربانية ينبغي الإيمان بها، يضحك الرب - تبارك وتعالى - وإذا ضحك، أذن لهذا العبد في دخول الجنة، وأعطاه مثل أعظم ملك من ملوك الدنيا، وعشرة أمثاله، وهذا أدنى أهل الجنة منزلة، كما قال الناظم.
أَقَلهُم من ملكا من الدنيا ملك وعشرة أمثالها بِدون شَكٍّ
لكنما موطنُ سوطٍ فيها خيرٌ من الدنْيَا وَمَا عَلَيهَا
وإنما ضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - من طمع العبد، ومن نقضه لميثاقه مع ربه، ومن رحمة أرحم الراحمين.(/5)
ويضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، يأتيه حَبْر من أحبار يهود فيقول له: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعجباً مما قال الحبر، تصديقاً له، ثم قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[8] [الزمر: 67].
وإنما ضحك عليه الصلاة والسلام لأمور:
منها: أن القرآن صدق ما قاله هذا الحبر من أمور القيامة.
ومنها: أن اليهود يعلمون صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدق ما أخبر به، ثم يكذبون على الله، ويكذبون رسوله - صلى الله عليه وسلم.
ومنها: التعجب من قدرة الباري - تبارك وتعالى.
ومنها: أن العبد مهما بلغت عبوديته لله - تعالى - فإنه لا يستطيع أن يوفي الله - عزَّ وجلَّ - حقه، وغير ذلك من المعاني.
هذه وقفات، رأينا فيها رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ضاحكاً، والضحك في حياته - صلى الله عليه وسلم - كان له مغزى وهدف، لا كضحك السفهاء الفارغين، الذين يعيشون على هامش الحياة، ولكنه ضحك المعلم الحكيم، الذي يرشد الناس إلى الخير، ولو عن طريق الضحكة والبسمة.
يذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل على أم حرام بنت ملحان[9]، فتطعمه، فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي، عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج[10] البحر، ملوكاً على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة – يشك الراوي.(/6)
يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، لأنه رأى البشرى، رأى تلامذته وأتباعه وكتيبته، سيركبون البحار والمحيطات؛ غزاة في سبيل الله، ينشرون لا إله إلا الله في الآفاق، ويعبرون بها حدود الزمان والمكان.
يضحك - صلى الله عليه وسلم - لأن الإسلام سوف ينتشر ويظهر، وينفذ إلى القفار والصحاري، ويصل إلى عبَّاد البقر والشجر والنار والطوطم والصنم.
فقالت المرأة: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، كما قال في الأولى، قالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين.
فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية[11]، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت[12].
كُنَّا جِبَالاً فِي الْجِبَالِ وَرُبَّمَا صِرْنَا عَلَى مَوْجِ الْبِحَارِ بِحَارا
فِي مَعَبَدِ الإِفْرِنْجِ كَانَ أَذَانُنَا قَبْلَ الْكَتَائِبِ يَفْتَحُ الأَمْصَارا
لَنْ تَنْسَ إِفْرِيقْيَا وَلا صَحرَاؤهَا سَجَدَاتِنَا وَالأَرْضَ تَقْذِفُ نَارَا
ماتت هذه المرأة الصالحة، وهي تجاهد في سبيل الله، فكانت شهيدة ودفنت هناك في أرض غريبة.
عباد الله:
هذه مواطن نعيشها مع إمامنا - صلى الله عليه وسلم - حتى يعرف الناس، أن من صفحاته عليه الصلاة والسلام صفحة؛ فيها الضحك، وفيها الدعابة، وفيها المزاح، ومسامرة الأهل وملاطفة الناس.
وهذه الصفحة لا بد أن يعرفها الناس، وأن يتكلم عنها العلماء والدعاة، حتى تعرف البشرية، أن في ديننا فسحة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(/7)
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على المعلم المعصوم، والهادي الكريم، والرسول العظيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي هذا السياق، وفي هذا الباب، معنا حديث صحيح متصل، أخرجه الإمام البخاري،في باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، من كتاب الرقاق، ذكر مجاهد أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر - رضي الله عنه - فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل.
ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل. ثم مر بي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي.
عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يحمل سرّاً من الأسرار، عرف أن له حاجة، فتهلل في وجهه متبسماً.
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الذَّيِ أَنْتَ سَائِلُهُ(/8)
فقال: ((يا أبا هر))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، ومضى، فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: ((من أين هذا اللبن؟)) قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الحق أهل الصفة فادعهم لي)). قال: - أي أبو هريرة – وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل، ولا مال، ولا على أحدٍ، إذا أتته صدقة، بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذ أتته هدية، أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أن أصيب من هذه اللبن شربة، أتقوى بها، ولم يكن من طاعة الله، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطهم))، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القدح، فأعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القدح، فأعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القدح حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روى القوم كلم، فأخذ القدح، فوضعه على يده، فنظر إليَّ فتبسم، فقال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب))، فشربت، فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا الذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني فأعطيته القدح، فحمد الله، وسمى، وشرب الفضلة[13].(/9)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتبسم، لأنه يعلم ما يدور في نفس أبي هريرة، لقد تعرض لأبي بكر وعمر من أجل أن يشبع فما شبع، ثم تعرض للرسول - صلى الله عليه وسلم - فأدخله البيت، ورأى اللبن وقلته، ثم هو يأمره بأن ينادي أهل الصفة، فتتداعى كل هذه المعاني، أمام عينه - صلى الله عليه وسلم - فيتبسم، ولكنه يريد أن يعلم أبا هريرة، ويعلم الأمة من ورائه مبدأ الإيثار، وتفقد الآخرين، والسؤال عن المساكين، فكان ضحكه ومداعبته، سلوى للمحرومين، وتسلية للمظلومين، وتصبيراً للمعدمين.
فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُم فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ
إن قوماً عاشوا معه، رأوا ابتسامته، وتحيته، ويسره، وسهولته، فتمنوا أن يفقدوا الآباء والأمهات والأبناء والأنفس، ولا يشاك هو - صلى الله عليه وسلم - بشوكة.
إن جيلاً رباه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على هذه المعالم، وهذه التعاليم، لجدير بأن يفتح المعمورة، وتدين له الدنيا كلها.
وإذا قارنا بين هذه الصور المشرقة، وبين صور طغاة الأرض، فترى الواحد منهم عليه من الكبر والجبروت والظلمة، ما يجعله بغيضاً إلى النفوس، حتى أن الأجنة في البطون لتلعنهم.
ترى أحدهم ودماء الأجيال تتقاطر من يديه، لا يتكلم معه أحد إلا رمزاً، الجماجم تتناثر عن يمينه وشماله، البشر عنده في مسلخ العبيد، يتعامل مع الأجيال، كما يتعامل مع البهائم، قوائم من طغاة البشر، يقتلون ويذبحون على مر التاريخ.
لقد رأينا ورأيتم كثيرا من هؤلاء الطغاة الفجرة، وقد قيل عنهم: إنه ما رئي أحدهم متبسماً قط، فهؤلاء نحاكمهم إلى المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، ونأتي بهم ونوقفهم أمام التاريخ، تاريخ محمد - صلى الله عليه وسلم - ونسألهم أن يتقوا الله - عزَّ وجلَّ - في أنفسهم، وفي رعاياهم، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - يضحك.
أيها الناس:(/10)
صلوا وسلموا – رحمكم الله - على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك عليه، ما تغاير الليل والنهار، وما فاحت الأزهار وما تدفقت الأنهار، وما لعلعت على الغصون الأطيار، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.
---
[1] أخرجه أحمد في المسند (5/238) وقوله: أتدري ما حق الله على العباد.. إلخ، متفق عليه، أخرجه البخاري (8/164)، ومسلم (1/58)، حديث رقم (30).
[2] أخرجه أبو داود (3/34)، حديث رقم (2602)، والترمذي (5/467)، حديث رقم (3446) وقال: حديث حسن صحيح.
[3] هذا الرجل من أهل التوحيد، إلا أن له ذنوباً استوجبت تعذيبه ما شاء الله، ثم يدخل الجنة.
[4] قشبني ريحها: أي أهلكني وأذاني.
[5] ذكاؤها: لهبها وشدة اشتعالها.
[6] انفهقت: انفتحت واتسعت.
[7] أخرجه البخاري (8/179-181)، ومسلم (1/163-167)، حديث رقم (182)، (1/173)، حديث رقم (186).
[8] أخرجه البخاري (8/202)، ومسلم (4/2147، 2148)، حديث رقم (2786).
[9] اتفق العلماء على أنها كانت محرماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[10] ثبخ البحر: ظهره ووسطه.
[11] قال القاضي: قال أكثر أهل السير والأخبار: إن ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وفيها ركبت أم حرام وزوجها إلى قبرص، فصرعت عن دابتها هناك، فتوفيت ودفنت هناك، وعلى هذا يكون قوله: في زمن معاوية، في زمن غزوة البحر، لا في زمن خلافته.
[12] أخرجه البخاري (7/140، 141)، ومسلم (3/1518، 1519)، حديث رقم (1912).
[13] أخرجه البخاري (7/179، 180).(/11)
العنوان: المفتاح
رقم المقالة: 213
صاحب المقالة: مروة شيخ مصطفى
-----------------------------------------
استيقظ عثمانُ باكرًا هذا الصباح، إنه يوم الإثنين، عليه أن يجهِّز نفسه للذهاب إلى الكعبة ليقومَ بتنظيفها وتطييبها لاستقبال الناس، كانت زوجته قد عهدت هذا الأمر فرتَّبت له ملابسه وحضَّرت له طعامه ليكون أكثر نشاطًا هذا اليوم.
خرج عثمانُ من بيته مزهوًّا مفتخرًا، قاصدًا الكعبة، ولما وصل إليها طاف بها على عادة قومه، ثم أخرج من جيبه ذاك المفتاحَ المذهَّب، إنه مفتاح باب الكعبة، ذلك الذي ورثه عن أبيه طلحة وجدِّه قُصَي، وخوَّله نيل شرف سِدانَة الكعبة من بيوت قريش أشرف قبائل العرب، فمسَحَه ونظر إلى بريق لمعانه في شمس الضُّحى وخاطبه: إنك مصدرُ حسَبِنا وستبقى، لا يشاركنا بك أحدٌ من الناس..
أدار عثمانُ المفتاح مؤذنًا بفتح باب الكعبة، وجدَّ في تنظيفها، جدرانها والصُّور والتماثيل التي حوتها، ثم شرع بتطييبها وتبخيرها.
وتجمَّع سادات قريش -ومن ورائهم الناس- أمام الباب يستأذنون عثمان بالدخول، وبينما كانت أفواج الناس تدخل تحيِّي أصنامها وتقدِّم لها القرابين وتتوسل بها وتسألها حوائجها، قبل أن تخرج لتفسح المجال لناس آخرين، إذ أقبل محمدُ بن عبدالله بن عبدالمطَّلب الهاشمي القرشي (صلى الله عليه وسلم) يريد دخولَ بيت الله بعد أن طافَ به، فما إن رآه عثمان حتى صاح به غاضبًا: ما جاء بك أيها الصابئ؟ فأجابه محمد (صلى الله عليه وسلم): ((أريد أن أدخل الكعبة مع الناس)). فردَّ عثمانُ وقد بدت على وجهه علاماتُ الحنق الشديد: تتنكَّب ديننا وتسفِّه آلهتنا وتزعم أنك مرسل من عند الله بدين جديد لا عهد لنا ولا لآبائنا به، تؤمن بإله واحد وتكفُر بما وراءه من آلهة، تكفر باللات والعُزَّى وبكل هذه الآلهة التي تحفِل بها الكعبة، ثم تأتي تريد الدخول، هيا ابتعد وافسح المجال لسادات قريش فقد أتى بعضُهم يريد البيت.(/1)
فكان أن سمع عثمانُ من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك الجواب الذي لم يكن ليتوقَّعه أبدًا: ((يا عثمانُ، لعلَّك سترى هذا المفتاحَ يومًا بيدي أضعُه حيث شئت)). ونزل الجوابُ على قلب عثمانَ كالصاعقة، ودارت عيونه في محاجرها وهو يلمس الثقة والإيمان تقطر من هذه الكلمات.
وأخذته حميَّة قومه فأجاب وقد احمرَّ وجهُه وانتفخت أوداجه يتلعثم تكاد حروف كلماته يقتل بعضُها بعضًا: لقد هلكت قريش يومئذ وذلَّت إذ تضع مفتاح الكعبة بيدك!
فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم بثقة وسكينة: ((بل عمرت وعزَّت يومئذ)).
واقترب محمد (صلى الله عليه وسلم) أكثر ودخل الكعبة، وترك عثمان مذهولاً بالجواب الصادق، يتغلغل إلى وعيه شيئًا فشيئًا..
وما إن انفضَّ الناس حتى أغلق عثمانُ الباب وقفل عائدًا إلى بيته، لا تبرح صور الحوار مع محمد –صلى الله عليه وسلم– مخيِّلته ولا تزال كلماته تتردَّد في رُوْعِه.
أحقًّا سيؤول الأمر إلى ما قال محمد، أتعجِز قريش أن تصدَّ هذا الصابئَ ومن تابعَه، وما هم إلا رهطٌ قليل جلُّهم من الفقراء والضعفاء؟ بل إنها قادرة على أن تستأصل شأفتهم!.
لكن واقع الحال غير ذلك، إن أتباع محمد في ازدياد برغم ما تكيلهم قريش من أصناف العذاب، حتى إن إحدهم ليوشك على الهلاك من شدة ما يصيبه من تعذيب، وهو صابر ثابت يأبى أن يُثني على آلهتنا ببنت شفة أو أن يذمَّ محمدًا بكُليمة.
ما هذا السحر الذي جاء به هذا الرجل؟ ثم إن محمدًا يعرضُ نفسه على قبائل العرب في موسم الحجِّ كل عام، ماذا لو صدَّق به أحدٌ منهم؟ ماذا لو اتبعته إحدى القبائل؟ لا.. لا.. إن ذلك لن يحصل، وها هي ذي ثقيفُ قد صدَّته حين أقبل إليها يدعوها؟ لكن ثقيف ذات مصالح مع قريش وهذا ما دعاها لصدِّه، فماذا لو كانت غيرها أكانت صبأت؟؟ آه يا مناة!! إن هذا الأمر يُدير الرأس...(/2)
ما بك يا عثمان لا تأكل؟ ما الخطب؟ نظر إلى زوجه وقد بدت علامات الحَيرة في وجهه: لا.. لاشيء. وتلمَّس جيبه ليطمئن على المفتاح فلم يجده، فقد صوابه وانتفض قائمًا كمَن لدغته أفعى، أين المفتاح؟ وعاودَه كلام محمد: ((يا عثمانُ، لعلَّك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعُه حيث شئت)). هل تحقَّق ما قال محمد؟!
وتحسَّس كل موقع من ثوبه في ذعر وارتباك باديَين، حتى لمس المفتاح فأخرجَه من جيبٍ غير الذي اعتاد أن يضعَه فيه، وأطلق تنهيدةً طويلة: الحمد لله ما زال معي. ونظر إلى زوجته التي بدا على وجهها علاماتُ الدهشة والاستغراب: سنحفظُ هذا المفتاح كأشدَّ ما نحفظ غاليًا! بلا شكٍّ سنحفظه! لكن هل استجدَّ من أمر؟ ألن تخبريني؟. لا.. إنه كان نقاشاً فحسب، لا طائل من ذكره الآن.
وسمع عثمانُ بهجرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه سرًّا إلى المدينة، فانقَبض صدرُه وضاقت عليه نفسُه، ها قد فرَّ محمد (صلى الله عليه وسلم) بدينه برغم أنف قريش، ولاشك أن له في المدينة موطئَ قدم، فماذا لو أصبح له عُصبةٌ منهم وقويت شوكتُهم؟ حتى لو فعلوا فماذا سيضير قريشًا؟ إنها ما زالت تستطيع اجتثاثهم حتى إن بعدوا، بل ربما يكون الأمر أهونَ، وستثبت لك الأيام ذلك يا عثمان.
لكن ما أثبتته الأيام كان خلافَ ذلك، فهاهم صناديدُ قريش وفرسانها قد خرُّوا صرعى في بدر بسيوف أتباع محمد (صلى الله عليه وسلم) وحماة الدِّين الجديد في المدينة.
حتى ما حدَّثه به صاحبُه خالد بن الوليد من أخبار المعركة التي قادها وانتصاره على جيش محمد في أُحُد لم يكن ليسكِّن نفسه، فإنما هي جولة، والحرب سجالٌ، ومحمد لا يزال بين ظهرانَي أصحابه في المدينة، وأتباعُه في ازدياد في شتى أرجاء جزيرة العرب.(/3)
ونادى المنادي لغزو محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في عُقر دارهم وتحزَّبت لذلك قبائل من العرب مع قريش، وبقي عثمانُ في مكة يخدم الكعبة ويجمِّل ما فيها من صور وأصنام، تلك التي استعانت بها قريش في حربها، ويتساءل: إن كانت هذه تضرُّ وتنفع حقًّا فلابد أن تفعلَ فعلها في هذه المعركة الحاسمة!
وتأتي الأخبارُ بهزيمة الأحزاب ونكوصهم على أعقابهم خائبين لم ينالوا خيرًا.. ويعود القومُ إلى مكة يجرُّون أذيال الخيبة والذل، ويبدأ بعضهم الطوافَ على عادتهم بالبيت ثم بأصنامهم حول الكعبة التي ما فتئ عثمانُ يعتني بها منذ خروجهم، ويرقبهم عثمان في حين يسري في نفسه الريبُ بحقيقة هذه الآلهة، إنها لم تغن عنهم شيئًا، ويَطرق سمعه كلامُ النبي (صلى الله عليه وسلم) حين أراد أن يدخلَ الكعبة.. ويتحسَّس المفتاح في جيبه، حسنًا! إن كان سيصير المفتاح إلى محمد، فكيف بقريش تعزُّ وتعمر ذلك اليوم؟!
ويدخل عليه صديقُه خالد يومًا: يا عثمانُ إني مُسِرٌّ إليك بحديث على أن تعدَني أن تكتمَه. عثمان: إني فاعل فقل يا أبا سليمان.
خالد: إننا على ما ترى من عدائنا لمحمد مذ صدع بهذه الدَّعوة، وإنه على ما رأيت من ثبات وصبر لا يُطيقه إلا من أيَّده الله وكان على هدى منه، حتى آل أمرُه إلى ما آل إليه، وإني لأجدُ في صدري انشراحًا لهذا الدِّين، وقد عزمت أن أغادرَ إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) في المدينة.
انشرح صدرُ عثمان، وافترَّت عن ثغره ابتسامةُ رضا، وقال: وإني والله قد وجدتُّ في نفسي ما وجدتَّ، فهيا بنا نيمِّم شطر يثرب.
وتذكر عثمانُ مفتاح الكعبة: والمفتاح، ما أفعل به؟ لقد تنبَّأ محمد يومًا أنه صائر إليه، ولابدَّ أن هذا كائن، وأنه سيضعُه حيث يشاء، لابد أنه لن يكونَ معي بعد ذلك اليوم، ولن يكونَ بعدها لنا حِجابَة!
خالد: فما أنت فاعلٌ به؟
عثمان: سأعلِّقه على هذا الجدار، فلابد أن قريشًا ستسأل عنه، وليَؤُل بعدها إلى من يشاء الله..(/4)
ويخرج الرجلان دون علم أحد من قريش، وفي بعض الطريق يلمحان طيفَ رجل من بعيد..
عثمان: من تظنُّ الرجل؟
خالد: دعنا ندنُ منه قليلاً لعلَّنا نعرفه.. ها! أظن أنه عمرُو بن العاص.
عثمان: أجل إنه هو، ولكن ما الذي أخرجَه في هذه الساعة، وأين يقصد؟
خالد: دعنا نبادرهُ بالسؤال.
وحين يدنوان منه يبادرهما بالسؤال -وهو من أدهى العرب-: ما الذي أخرجكما؟
فيجيبانه: أخرجنا الذي أخرجك!
وينطلق الثلاثة تعدو بهم خيولهم نحو المدينة، تهفو أفئدتهم إلى رؤية النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإعلان إسلامهم بين يديه.
وببزوغ فجر اليوم التالي كان الفرسانُ الثلاثة قد أصبحوا على مشارف المدينة، ويراهم بعض المسلمين وقد خرجوا لأعمالهم بعد أن أدَّوا صلاة الفجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجده، فيرتابون في أمرهم فيبادرونهم سائلين: ما الذي جاء بكم؟ فيجيب الثلاثة: جئنا لنشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، دلُّونا على مكان رسول الله لنعلنَها أمامه.
وذهب بهم جمع من المسلمين إلى حيثُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حذرٍ من ألا تكونَ هذه غايتهم، وحين يبصرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشرق وجهُه الشريف ويقول مبشِّرًا أصحابه: ((رمتكم قريش بفلذات أكبادها)).
ويفرح بذلك المؤمنون ويُقبلون عليهم يهنِّئونهم بإسلامهم..
ويعيش عثمانُ وصاحباه في المدينة بين إخوانهم من المهاجرين والأنصار، يتعلَّمون دينهم ويعبدون ربهم على بصيرة، آلين أن ينصروا الإسلام كما صدُّوا عنه من قبل.
وماهي إلا أشهرٌ معدودات حتى يأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتجهيز للسَّير إلى مكة..
فيتهيَّأ عثمانُ من بين عشرة آلاف مقاتل يسيرون لتخليص مكة وأهلها من دنس الشِّرك وتطهير الكعبة من الأوثان..
ويدبُّ الرُّعب في قلوب قريش، فأنى لها بنصرٍ على جيش لم تعهد له نظيرًا؟(/5)
وتقرِّر الاستسلام وتسليم مكة طائعة إلى الرجل الذي كذَّبت وآذت وأخرجت.. فليس لها غير ذلك حيلة!
ويدخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكة فاتحًا خاشعًا مطأطئ الرأس؛ إجلالاً لله -عز وجل- الذي بشَّره بالفتح قبل أن يخرجَ من المدينة: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا).
ويتوجَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى البيت الحرام وقد جعلت حوله الأصنام فيشرع يطعنها ويحطمها وهو يردِّد: ((جاء الحقُّ وزهق الباطل، إن الباطلَ كان زهوقاً))، ثم يدخلُ الكعبة ويأمر بإزالة ما فيها من أوثان ومسح ما فيها من صور، مطهِّرًا لها من أوضار الشِّرك إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها..
ويرى عثمان قريشًا تتجمَّع خائفة وَجِلَة تنظر ما يأمر بها النبيُّ الفاتح -صلى الله عليه وسلم- فينادي بهم : ((ما تظنُّون أني فاعلٌ بكم؟)).
فتجيب الجموعُ وقد ملأ الأملُ قلوبَها برحمة هذا النبيِّ كريم الخلق: ((أخٌ كريم، وابنُ أخٍ كريم!)).
فيأتيهم الجواب خيرًا مما أمَّلوا وتمنَّوا، فضلاً منه ومنَّة صلى الله عليه وسلم: ((اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء))..
ويعود الزمنُ بعثمان إلى ذلك اليوم الذي جاء به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يريد دخولَ الكعبة، وكيف صدَّه هو، ويتذكَّر كلمات النبي صلى الله عليه وسلم له وهو يعده بهذا اليوم، يوم يضع مفتاح الكعبة حيثُ يشاء، فما أيقظَه إلا صوتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل عن المفتاح..
ويلمحُ عثمانُ المفتاح.. ها هو مع ابن عمِّ الرسول وصهره عليِّ ابن أبي طالب رضي الله عنه يرفعه، فيخفق قلبُه بين جوانحه، ويزداد فَرَقًا حين يسمع عليًّا يرجو النبيَّ صلى الله عليه وسلم: ((اجمع لنا الحِجابَة مع السِّقاية يا رسول الله!)).
فيأخذ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المفتاح من عليٍّ وينادي: ((أين عثمانُ بن طلحة؟)).(/6)
ويخيَّل إلى عثمانَ أنه سمع داعيَهُ.. لا إنه ليس خيالاً.. إن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل عنِّي وهو ممسكٌ بالمفتاح: ((ها أنذا يا رسول الله!))..
ويجتهد عثمان للوصول إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بين الجموع، وحين يدنو منه يُناوله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المفتاح، فيمدُّ يده ليتسَلَّمَهُ وقد غمر الفرح فؤاده حتى فاض البِشر على وجهه..
يعطيه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إياه قائلاً: ((هاك مفتاحَكَ يا عثمان، اليوم يوم بِرٍّ ووفاء، خذوها خالدةً تالدةً لا ينزعها منكم إلا ظالم. يا عثمانُ، إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف))..
ويمضي عثمانُ يتلمَّس المفتاح ويقلِّبه بين يديه، يلهَج لسانه بالثناء على الله؛ أن ردَّ إليهم هذا الشرف، شرف حِجابة الكعبة..
ويناديه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فيعود إليه سامعًا طائعًا: ((لبَّيك يا رسول الله!)).
فيقول له مبتسمًا: ((ألم يكن الذي قلتُ لك؟)).
ويجيب عثمانُ بقلب غمرهُ الإيمان: ((بلى! أشهد إنك لرسول الله))..(/7)
العنوان: المفطرات المعاصرة
رقم المقالة: 1148
صاحب المقالة: د. خالد بن علي المشيقح
-----------------------------------------
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده...
أما بعد:
فلمَّا فرغ الشيخ خالد بن علي المشيقِح - حَفِظَهُ الله - مِنْ شَرْحِ كتاب الصيام من زاد المستقنع، شرع في بيان بَعْضِ المفطرات المعاصرة التي استجدت في هذا الوقت، فبيّنها وبيّن الراجح من أقوال العلماء... فشكر الله لِلشيخ ونفع به الإسلام والمسلمين وغفر له...
وأسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصًا لِوجهه الكريم.. إنه جواد كريم.
ملاحظة: عُرضت هذه المذكرة على الشيخ فصحَّحها ووافق عليها.
كتبه: عيسى بن عبد الرحمن العتيبي
المفطرات المعاصرة:
المفطِّرات جمع مُفَطِّر: وهي مُفْسِدات الصيام، وأجمع العلماء على أربعة أشياء من المفسدات:
1-الأكل.
2-الشرب.
3-الجماع.
4-الحيض والنفاس.
والأكل والشرب والجماع بيّنها الله - تعالى -في قوله - تعالى -: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} الآية.
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - عند البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أليست إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ" فيه بيانٌ للمفطر الرابع.
والمعاصرة هذه مأخوذة من العصر وهو في اللغة يطلق على معانٍِ: الدهر والزمن، وعلى الملجأ يُقال: اعتصرت بالمكان إذا التجأ به.
وأيضًا: ضغط الشيء حتى يحتلب.
والمراد بـ "المفطرات المعاصرة": مفسدات الصيام التي استجدت وهي كثيرة:
المفطر الأول: بخاخ الربو:
وهو عبارة عن علبة فيها دواء سائل، وهذا الدواء يحتوي على ثلاث عناصر: الماء، والأكسجين، وبعض المستحضرات الطبية.
وهذا البخاخ هل يُفطِّر أو لا؟
اختلف فيه المعاصرون:(/1)
1-أنه لا يفطر ولا يفسد الصوم، وهو قول الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، والشيخ محمد العثيمين - رحمه الله -، والشيخ عبد الله بن جبرين - حفظه الله -، واللجنة الدائمة للإفتاء.
واستدلوا:
أ - بأنَّ الصائم له أن يتمضمض ويستنشق، وهذا بالإجماع، وإذا تمضمض سيبقى شيء من أثر الماء مع بَلْعِ الريق سيدخل المعدة؛ والداخل من بخاخ الربو إلى المريء ثم إلى المعدة هذا قليل جدًّا، فيقاس على الماء المتبقي بعد المضمضة.
ووجه ذلك أن العبوة الصغيرة تشتمل 10 مليلتر من الدواء السائل؛ وهذه الكمية وُضعت لمائتي بخة، فالبخة الواحدة تستغرق نصف عشر مليلتر، وهذا يسير جدًا.
ب -وأيضًا: أن دخول شيء على المعدة من بخاخ الربو ليس أمرًا قطعيًا بل مشكوك فيه؛ الأصل بقاء الصوم وصحته، واليقين لا يزول بالشك.
جـ -أن هذا لا يشبه الأكل والشرب فيشبه سحب الدم للتحليل والإبر غير المغذية.
د- أنَّ الأطباء ذكروا أنَّ السواك يحتوي على ثمان موادّ كيميائية وهو جائز للصائم مطلقًا على الراجح ولا شكَّ أنه سينزل شَيْءٌ من هذا السواك إلى المَعِدة، فنزول السائل الدوائي كنزول أثر السواك.
الرَّأي الثاني: أنَّه لا يجوز للصائم أن يتناوله، وإن احتاج إلى ذلك فإنه يتناوله ويقضي.
واستدلوا: أنَّ محتوى البخاخ يصل إلى المعدة عن طريق الفم، وحينئذ يكون مفطرًا.
والجواب: أنه إذا سُلِّم بنزوله فإنَّ النازل شيء قليل جدًّا يُلحق بما ذكرنا من أثر المضمضة، فالراجح الأول.
المفطر الثاني: الأقراص التي توضع تحت اللسان:
والمراد بها: أقراص توضع تحت اللسان لعلاج بعض الأزمات القلبية، وهي تُمتص مباشرة ويحملها الدم إلى القلب فتتوقف الأزمة المفاجئة التي أصابت القلب.
حكمها: هي جائزة لأنه لا يدخل منها شيء إلى الجوف بل تُمتص في الفم، وعلى هذا فليست مُفَطِّرَة.
المفطر الثالث: منظار المعدة:(/2)
وهو عبارة عن جهاز طبي يدخل عن طريق الفم إلى البلعوم ثم إلى المريء ثم إلى المعدة.
والفائدة منه: أنه يصوِّر ما في المعدة من قرحة أو استئصال بعض أجزاء المعدة لفحصها أو غير ذلك من الأمور الطبية.
والعلماء السابقون تكلَّموا على مثل هذا:
في مسألة: ما إذا دخل شيئًا إلى جوفه غير مغذ كحصاة أو قطعة حديدة ونحو ذلك، والمنظار مثل هذا؛ فهل يُفَطِّر؟
جمهور أهل العلم: أنَّ هذا يفطر، فكلُّ ما يصل إلى الجوف يفطر؛ إلا أن الحنفية: اشترطوا أن يستقر هذا الذي يدخل الجوف حتى يفطر، والبقية لم يشترطوا.
واستدلوا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإتقاء الكحل.
وعلى هذا يكون المنظار رأي الجمهور أنه يفطر، وعلى رأي الحنفية لا يفطر لأنه لا يستقر.
الرأي الثاني: أنه لا يفطر بإدخال هذه الأشياء التي لا تغذي كما لو أدخل حديدة أو حصاة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابْنِ تيمية - رحمه الله - وقال به بعض المالكية والحسن بن صالح؛ لأن ذلك دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة على أن المفطر ما كان مُغَذِّيًا، وأما حديث الكحل الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتقائه فهو ضعيف، وعليه فالظاهر أنه لا يفطر، ولكن يستثنى من ذلك ما إذا وضع الطبيب على هذا المنظار مادة دهنية مغذية لكي يُسهِّل دخول المنظار إلى المعدة فإنه يفطر.
المفطر الرابع: القطرة:
التي تستخدم عن طريق الأنف هل هي مفطرة؟ للعلماء المتأخرين قولان:
القول الأول: أنها تفطر، قال به ابْنُ باز وابْنُ عثيمين - رحمهما الله -.
واستدلّوا: بحديث لقيط بن صبرة مرفوعًا: "وبالغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا"، فهذا دليل على أنَّ الأنف منفذ إلى المعدة، وإذا كان كذلك فاستخدام هذه القطرة نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -.(/3)
وأيضًا نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المبالغة في الاستنشاق يتضمن النهي عن إدخال أي شيء عن طريق الأنف ولو كان يسيرًا؛ لأنَّ الداخل عن طريق المبالغة شيء يسير.
القول الثاني: أنها لا تفطر، واستدلوا: بما تقدم من القياس على ما تبقى من المضمضة، والقطرة يصل منها شيء يسير إلى المعدة.
فالقطرة الواحدة = 0.06لسنتيمتر الواحد المكعب.
ثم ستدخل هذه القطرة إلى الأنف ولن يصل إلى المعدة إلا شيء يسير فيكون معفوًا عنه.
وكذلك أن الأصل صحة الصيام وكونه يفطر بهذا فهذا أمر مشكوك فيه؛ والأصل بقاء الصيام واليقين لا يزول بالشك.
وكلا هذين الرأيين لهما قوة.
المفطر الخامس: بخاخ الأنف:
البحث فيه كالبحث في بخاخ الربو: فيكون بخاخ الأنف لا يفطر.
المفطر السادس: التخدير:
وتحتَهُ أنواع:
الأول: التَّخدير الجزئيّ عن طريق الأنف:
وذلك بأنْ يَشَمّ المريض مادَّة غازيَّة تُؤَثِّرُ على أعصابه فيحدث التخدير: فهذا لا يفطر، لأن المادة الغازية التي تدْخُلُ الأَنْفَ ليستْ جِرمًا ولا تَحْمِلُ موادَّ مغذية.
الثاني: التخدير الجزئي الصيني:
نسبة إلى بلاد الصين:
يتم بإدخال إبر جافة إلى مراكز الإحساس تحت الجلد فتستحث نوعًا من الغدد على إفراز المورفين الطبيعي الذي يحتوي عليه الجسم؛ وبذلك يفقد المريض القدرة على الإحساس.
وهذا لا يؤثر على الصيام ما دام أنه موضعي وليس كليًا؛ ولعدم دخول المادة إلى الجوف.
الثالث: التخدير الجزئي بالحقن:
وذلك بحقن الوريد بعقار سريع المفعول؛ بحيث يغطي على عقل المريض بثوانٍِ معدودة.
فما دام أنه موضعي وليس كليًا فلا يفطر؛ ولأنه لا يدخل إلى الجوف.
الرابع: التخدير الكلي:
اختلف فيه العلماء: وقد تكلَّم فيه العلماء السابقون في مسألة المغمى عليه؛ هل يصح صومه؟
وهذا لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يغمى عليه جميع النهار؛ بحيث لا يُفيق جزءًا من النهار: فهذا لا يصحُّ صومه عند جمهور العلماء.(/4)
ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي: "يَدَعُ طعامَهُ وشهْوَتَهُ من أجلي"؛ فأضاف الإمساك إلى الصائم؛ والمُغْمَى عليه لا يصدق عليه ذلك.
الثاني: أن لا يغمى عليه جميع النهار: فهذا مَوْضِعُ خلاف.
والصواب أنه إذا أفاق جزءًا من النهار أنَّ صيامه صحيح، وهذا قول أحمد والشافعي.
وعند مالك: أنَّ صيامه غير صحيح مطلقًا.
وعند أبي حنيفة: إذا أفاق قبل الزوال يجدِّد النِّيَّة وَيَصِحُّ الصومُ، والصواب قول أحمد والشافعي؛ لأَنَّ نِيَّة الإمساك حصلت بجزءٍِ من النهار، ويُقال في التخدير مثل ذلك.
المفطر السابع: قطرة الأذن:
والمُرَادُ بها: عبارة عن دهن" مستحضرات طبية " يُصب في الأذن؛ فهل يفطر أو لا؟
تكلَّم عليه العلماء في السابق في مسألة " إذا داوى نفسه بماء صبه في أذنه ".
الجمهور: أنه يفطر.
الحنابلة: يفطر إذا وصل إلى الدماغ.
الرأي الثاني: لابن حزم: أنه لا يفطر، وعلَّته: أنَّ ما يقطَّر في الأذن لا يصل إلى الدماغ وإنما يصل بالمسام.
والطب الحديث: بيّن أنه ليس بين الأذن والدماغ قناة يَصِلُ بها المائع إلا في حالة واحدة؛ وهي ما إذا حَصَلَ خرق في طبلة الأذن، وعلى هذا الصواب: أنها لا تفطر.
مسألة: إذا كان في طبلة الأذن خرق: فإنه حينئذ تكون المداواة من طريق الأذن؛ حكمها حكم المداواة عن طريق الأنف، وهذا تقدم.
المفطر الثامن: غسول الأذن:
وهذا حكمه حكم قطرة الأذن: إلا أن العلماء قالوا: إذا خرقت طبلة الأذن فإنه ستكون الكمية الداخلة إلى الأذن كثيرة فتكون مفطرة.
فإذًا غسول الأذن ينقسم إلى قسمين:
1-إذا كانت الطبلة موجودة: فلا يفطر.
2-إذا كانت الطبلة فيها خرق: فإنه يفطر، لأن السائل الداخل كثير.
المفطر التاسع: قطرة العين:
فيه خلاف للمتأخرين وهو مبني على خلاف سابق، وهو ما يتعلق بالكحل هل هو مفطر أو ليس مفطرًا؟(/5)
الرأي الأول: أنه لا يفطر، وهو مذهب الحنفية والشافعية، ويستدلون بأنه لا منفذ بين العين والجوف، وإذا كان كذلك فإنه لا يفطر.
الرأي الثاني: للمالكية والحنابلة: أن الكحل يفطر، وهذا بناءًَ على أن هناك منفذًا بين العين والجوف.
وعليه اختلف المتأخرون في قطرة العين:
الرأي الأول: أن قطرة العين ليست مفطرة، قال به ابن باز وابن عثيمين - رحمهما الله -، وغيرهما.
واستدلوا بأن قطرة العين الواحدة = 0.06السنتيمتر المكعب.
وهذا المقدار لن يصل إلى المعدة، فإن هذه القطرة أثناء مرورها بالقناة الدمعية فإنها تمتص جميعا ولا تصل إلى البلعوم، إذا قلنا أنه سيصل إلى المعدة شيء فهو يسير، والشيء اليسير يعفى عنه، كما يعفى عن الماء المتبقي بعد المضمضة، وكذلك أن هذه القطرة ليس منصوصا عليها ولا في معنى المنصوص.
الرأي الثاني: أنها تفطر قياسًا على الكحل.
والصواب: أنها لا تفطر، وإن كان الطب أثبت أن هناك اتصالاًَ بين العين والجوف عن طريق الأنف، لكن نقول أن هذه القطرة تمتص خلال مرورها بالقناة الدمعية، فلا يصل إلى البلعوم منها شيء وحينئذ لا يصل إلى المعدة منها، وإن وصل فإنه شيء يسير يعفى عنه كما يعفى عن الماء المتبقي بعد المضمضة.
وأما القياس على الكحل لا يصح:
1-لأنه لم يثبت أنه يفطر والحديث الوارد ضعيف.
2-أنه قياس في محل خلاف.
3-ما تقدم من أدلة للرأي الأول.
المفطر العاشر: الحقن العلاجية:
وهذه تنقسم إلى:
1- حقن جلديه.
2- حقن عضلية.
3- حقن وريدية.
فأما الحقن الجلدية والعضلية غير المغذية: فلا تفطر عند المعاصرين، وقد نص على ذلك ابن باز وابن عثيمين - رحمهما الله -، والدليل: أن الأصل صحة الصوم حتى يقوم دليل على فساده، وكذلك هي ليست أكلاً ولا شربًا ولا في معناهما.
أما الحقن الوريدية المغذية: فهي موضع خلاف:(/6)
الرأي الأول: أنها مفطرة: وهو قول الشيخ السعدي وابن باز وابن عثيمين - رحمهم الله -، ومجمع الفقه الإسلامي، والدليل: أنها في معنى الأكل والشرب، فالذي يتناولها يستغني عن الأكل والشرب.
الرأي الثاني: أنها لا تُفَطِّرُ؛ لأَنَّهُ لا يَصِلُ مِنْهَا شَيْءٌ إلى الجوف مِنَ المنافذ المعتادة، وعلى فرض أنها تصل، فإنها تصل عن طريق المسام، وهذا ليس جوفًا ولا في حكم الجوف.
والأقرب: أنها مفطرة: لأن العلة ليست الوصول إلى الجوف بل العلة حصول ما يغذي البدن، وهذا حاصل بهذه الإبر.
مسألة: الإبر التي يتعاطاها مريض السكر ليست مفطرة.
المفطر الحادي عشر: الدهانات والمراهم واللاصقات العلاجية:
الجلد في داخله أوعية دموية تقوم بامتصاص ما يوضع عليه عن طريق الشعيرات الدموية، وهذا امتصاص بطيء جدًا.
وعليه هل ما يوضع على الجلد يكون مفطرًا؟
تكلم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقال: أنها لا تفطر، وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي.
بل حكى بعضهم إجماع المعاصرين على ذلك.
المفطر الثاني عشر: قسطرة الشرايين:
وهي عبارة عن أنبوب دقيق يدخل في الشرايين لأجل العلاج أو التصوير.
ذهب مجمع الفقه الإسلامي أنها لا تفطر: لأنها ليست أكلاً ولا شربًا ولا في معناهما ولا يدخل المعدة.
المفطر الثالث عشر: الغسيل الكلوي:
وله طريقتان:
الأولى: الغسيل بواسطة آلة تسمى "الكلية الصناعية" حَيْثُ يَتِمُّ سحب الدم إلى هذا الجهاز، ويقوم الجهاز بتَصْفِيَةِ الدَّمِ مِنَ المَوَادّ الضَّارَّة ثم يعود إلى الجسم عن طريق الوريد.
وفي أثناء هذه الحركة قد يحتاج إلى سوائِلَ مغذية تعطى عن طريق الوريد.
الثانية: عن طريق الغشاء البريتواني في البطن:(/7)
وبذلك بأن يدخل أنبوب صغير في جدار البطن فوق السرة، ثم يدخل عادة لتران من السوائل تحتوي على نسبة عالية من السكر الجلوكوز إلى داخل البطن، وتبقى في الجوف لفترة ثم تسحب مرة أخرى ويكرر هذا العمل عدة مرات في اليوم.
واختلف المعاصرون فيه هل هو مفطر أم لا؟
الرأي الأول: أنه مفطر، قال به ابن باز - رحمه الله -، وفتوى اللجنة الدائمة.
وأدلتهم: أن غسيل الكلى يزود الدم بالدم النقي، وقد يزود بمادة غذائية أخرى، فاجتمع مفطران.
الرأي الثاني: أنه لا يفطر.
واستدلوا: بٍأن هذا ليس منصوصًا ولا في معنى المنصوص.
والأقرب أنه يفطر.
مسألة: لو حصل مجرد التنقية للدم فقط، فإنه لا يفطر لكن هذا الحاصل في غسيل الكلى إضافة بعض المواد الغذائية والأملاح، وغير ذلك.
المفطر الرابع عشر: التحاميل التي تستخدم عن طريق فرج المرأة:
ومثله: الغسول المهبلي.
فهل تفطر هذه الأشياء أو لا؟
تكلَّمَ عليْها العلماء قديمًا وحديثًا:
عند المالكية والحنابلة: أن المرأة إذا قطَّرت في قبلها مائعًا فإنها لا تفطر.
وعلَّلوا: بأنه لَيْسَ هناك اتصالٌ بين فرج المرأة والجوف.
القول الثاني للحنفيَّة والشافعيَّة: أنَّ المرأةَ تُفْطِرُ بِذَلِكَ.
وعِلَّتُهُم وجود اتصال بين المثانة والفرج.
والطبُّ الحديثُ يقولُ: بِأَنَّهُ لا منفذ بين الجهاز التناسلي للمرأة وبين جوف المرأة، وعلى هذا لا تفطر بتلك الأشياء.
المفطر الخامس عشر: التحاميل التي تُؤْخَذُ عن طريق الدبر:
وتستخدم لِعِدَّةِ أغراضٍ طِبِّيَّة: لتخفيف الحرارة وتخفيف آلام البواسير.
ومثله: الحقن الشرجية.
أولاً: الحقن الشرجية: تكلم عليها العلماء في السابق:
الأئمة الأربعة: يرون أنها مفطرة لأنها تصل إلى الجوف.
الرأي الثاني: للظاهرية واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنها لا تفطر، لأن هذه الحقنة لا تغذي بأي وجه من الوجوه بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شمَّ شيئًا من المسهلات.
ولأن هذا المائع لا يصل إلى المعدة.(/8)
وأما العلماء المتأخرون فَبَنَوْا خِلافهم على الخلاف السابق.
وهل هناك اتِّصال بين فتحة الشرج والمعدة؟!
من قال إنها تفطر يقول: هناك اتصال، ففتحة الدبر متصلة بالمستقيم، والمستقيم متصل بالقولون "الأمعاء الغليظة" وامتصاص الغذاء يتم عن طريق الأمعاء الدقيقة، وقد يكون عن طريق الأمعاء الغليظة امتصاص بعض الأملاح والسكريات.
أمَّا إذا امتصَّت أشياء غير مغذية كالأدوية العلاجية فإنها لا تفطر، وذلك بأنه لا تحتوي على غذاء أو ماء.
وهذا التفصيل هو الأقرب.
ثانيًا: التحاميل عن طريق الدبر، فيها رأيان:
أنها لا تفطر، وهو قول ابنِ عُثَيْمِينَ رحمه الله، لأنها تحتوي مواد علاجية دوائية، وليس منها سوائل غذائية، فليست أكلاً ولا شربًا ولا في معناهما.
وهذا هو الصواب.
المفطر السادس عشر: المنظار الشرجي:
الطبيب قد يدخل المنظار في فتحة الدبر ليكشف على الأمعاء، والتفصيل فيه نفس التفصيل في منظار المعدة.
المفطر السابع عشر: ما يدخل في الجسم عبر مجرى الذكر من منظار أو محلول أو دواء:
فهل هذا مفطر؟!
تكلم عنها العلماء في الزمن السابق:
الرأي الأول: مذهب الحنفيَّة والمالكيَّة والحنابلة:
أنَّ التقطير في الإحليل لا يُفَطِّرُ، وَلَوْ وَصَلَ إلى المثانة.
واستدلوا: بأنه ليس هناك مَنْفَذٌ بين باطن الذكر و الجوف.
الرأي الثاني: وهو المصحَّح عند الشافعية: أنه يفطر، لأنَّ هناك منفذًا بين المثانة والجوف.
وفي الطب الحديث:
لا علاقة بين المسالك البولية والجهاز الهضمي: وعلية لا يفطر.
المفطر الثامن عشر: التبرع بالدم:
وهذا مبني على مسألة الحجامة.
المشهور من المذهب: أنها مُفَطّرة، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله.
والجمهور: لا تفطر.
والراجح: أنها مفطرة.
وعلى هذا لا يجوز للإنسان أن يتبرع بدمه إلا للضرورة.
المفطر التاسع عشر: ما يتعلق بأخذ شيء من الدم للتحليل:
هذا لا يفطر لأنه ليس في معنى الحجامة، فالحجامة تضعف البدن.(/9)
المفطر العشرون: معجون الأسنان:
لا يفطر؛ لأنَّ الفَمَ في حُكْمِ الظاهر، لكن الأولى للصائم أن لا يستخدمه إلا بعد الإفطار، إذ نفوذه قوي، ويستغنى عن ذلك بالسواك، أو بالفرشة بلا معجون، والله أعلم.(/10)
العنوان: المقاتلون بالوكالة عن إسرائيل!!
رقم المقالة: 898
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
ليس خافياً على ذي بصيرة ما تقومُ به قوى الاستكبار في العالم من جهود مضنية للحيلولة دون وصول أي حركة إسلامية إلى سُدَّة الحكم، فممارسات الإرهاب والتنكيل والاعتقالات والبلطجة والتزوير والاتهامات هدفُها واحد، حتى إنها تحدث أمام أعين العالم المتمدن بكل فجاجة وبجاحة ولكن لا مجيب، فلو أن مثل هذه الممارسات اتخذت في حق أي حزب أو جماعة أو تيار غير إسلامي لقامت الدنيا ولم تقعد ولعجت الفضائيات بأخبار الممارسات الديكتاتورية وغير الإنسانية التي يقوم فيها الدكتاتوريون بقمعِهم الأحرارَ وأنصار البيئة وأعضاء الجمعيات الماسونية والنوادي الروتارية وحتى أصحاب الفكر العهري بما فيهم أنصار الزواج المثلي!! أما أنْ يقمع الإسلاميون بعد حصولهم على ثقة الناس في صناديق الانتخابات وغيرها فالأمر مختلف، فالأخبار والتحاليل المبرمجة والمباركة من قوى الاستكبار العالمي تصب في اتجاه واحد مُفاده أن هؤلاء الإسلاميين لا يستحقون أن يحكموا فلا برامج عندهم، وإن حكموا فسيبطشون بالقوى العلمانية وسينصِبون لها أعوادَ المشانق بعد محاكم التفتيش وما إلى ذلك من عبارات وتراكيب أصبحت مكررة وممجوجة.
وما يحصل الآن في تركية بالرغم من اندماج حزب العدالة والتنمية في المجتمع المدني، ومن تكتيكاته الواضحة في مغازلة كل ما يمت للفكر العلماني بصلة، ومن تحالفه مع قوى علمانية كبيرة ومن نهضته بالبلاد إلى مستوى أذهل الجميع إلا أنه غير مرضي عنه!!
وربما يرجع السبب في هذا العِداء إلى خوف قوى الاستكبار من بعث النهضة الإسلامية من كَبْوتِها وفرض قوتها كرقْم صعب على الأجندة الدولية. ولكن ما الذي يجعل الحقائقَ مقلوبة؟ ومن الذين يحرِّضون العالم أجمع بما فيه العالم الإسلامي على التيار الإسلامي؟(/1)
ولا شك أنَّ الإجابة عن هذا التساؤل المشروع يكشف أن المحرضين هم اليهود والكِيان الصهيوني ففي قراءة تاريخية ومعاصرة نجد أنهم هم العدو الأول للمسلمين وهم وراء أي دمار أو تخريب أو تشويه لقوى العالم الإسلامي من إندنوسيا وحتى طنجة.
وليس خفياً على أحد التدخلات الصهيونية السافرة في العالم الإسلامي بشكل مباشر أو غير مباشر للحيلولة دون وصول الحركات الإسلامية لسدة الحكم وليس في أيامنا هذه فقط بل منذ أمد بعيد أي منذ بداية الحركة الصهيونية وقيام ما يسمى بإسرائيل ،وقبلها لا يخفى على منصف دورهم في تمزيق العالم الإسلامي وفي سقوط دولة الخلافة الإسلامية لتمكينهم من مشروع إقامة كيانهم الغاصب، ولكن بقيت مثل تلك المعلومات والأفكار حبيسةَ بعض الكتب والمجلات التي لم يطلع عليها الكثيرون بسبب المراقبة الإعلامية الشديدة من قِبَل القوى العلمانية والاشتراكية والقومية واليسارية للحيلولة دون انتشار مثل تلك الأفكار الرجعية!!.(/2)
ولكن يبدو أن الأمور تغيرت في عصر (الإنترنت) والفضاء الإعلامي الواسع والمتاح للجميع وقناة الجزيرة التي لم تَرُقْ للكثيرين، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي إذ كانت الحركاتُ الإسلامية تُتَّهم بالخيانة لحساب أمريكا والغرب ظلما وعدوانا وقد انطلت تلك الحيلة عقودا من الزمن، فالحقيقة المخفيِّة أضحت علنية وبشكل فاضح، فتم قراءة التاريخ الحديث والمعاصر بأثر رجعي وعلى عجل فظهرت بعضُ الحقائق التي كانت بلا شك لصالح الاتجاه الإسلامي، وظهر بلا شك دورُ إسرائيل في محاربة الحركات الإسلامية بأشكالها كافة سواء منها المعتدلة والمتطرفة في العالم أجمع ،فعلى سبيل المثال لا الحصر وبعد إعلان فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات الجزائرية مباشرة عام 1992 دهش متتبعو الأخبار عندما جاء أول اعتراض لفوز الجبهة من قبل إسرائيل!! وحصل بعدها ما حصل، وما زالت البلاد تعاني من ضريبة التحذير الإسرائيلي إلى يومنا هذا وربما إلى عشر سنوات قادمة. والأمثلة كثيرة من تخوف إسرائيل من وصول الإسلاميين للحكم في أرجاء العالم الإسلامي في الصومال والسودان والعراق وجنوب الفلبين والشيشان وغيرها، وليس هذا بحثا، وإنما الذي يهمنا هنا موقف إسرائيل من حركة حماس وطرق إقصائها.
فإذا كان الصهاينة قد حشروا أنفسهم وأظهروا العداء للحركات الإسلامية البعيدة عن دائرة الصراع العربي الإسرائيلي فما موقفُهم من الحركات الإسلامية القريبة منها؟(/3)
لا شك أنَّ أكثرَ ما يقلقُ إسرائيلَ في وقتنا الحاضر الحركاتُ المناهضة للاحتلال، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، وأيضا كل حركة اتخذت المقاومة شعارا لها فعلا لا قولا، فمنذ أن ظهرت مثل هذه الحركات على الساحة الفلسطينية والعربية، والصهاينةُ يناصبونها العداء بأشكاله كافة، وليس خفياً على أحد فنونُ القتال الذي مورس ضد خيار الشعب الفلسطيني فمِن تُهم الإرهاب إلى الاغتيالات إلى التشويه إلى المراهنة على إسقاط الحكومة عن طريق الحصار والضغط على دول العالم كله من أجل حصارها؛ إلى عدم الاعتراف حتى بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية إلى رفض استقبال مسؤولي الحكومة بحجة انتمائهم لحركة حماس، علما بأن مثل هذه الأعراف الدبلوماسية تطبق لأول مرة في العالم!! إلى اعتقال الوزراء والنواب وقصف البنى التحتية الحركة أينما وجدت والتهديد باغتيال قادتها الكبار في أقرب فرصة سانحة وغير ذلك من الممارسات اليومية التي غدت موادَّ إثارة في وسائل الإعلام المختلفة.
كل ما ذكر سابقاً معروف ويشهد به للقاصي والداني، أما الذي يُدمي القلوب ويَكْلُِم العقول أن يتولى مهمةَ الانقضاض على الحركات الجهادية من قِبَل وكلاء إسرائيل على خلفيات ثورية ونضالية تاريخية، فالمراقبُ لأحداث فلسطين الدامية يجد العجب العجاب!! إسرائيل تقصف من الجو والبر والبحر أهدافاً لا تروق لها ونجد على الأرض (الميلشيات) ممن ينتمون للأبوات الذين بلا شك يأتمرون على فلسطين مقابل ثمن بخس أو منصب مأمول "أي الأبوات" أما الأبناء وعناصر (الميليشيا) المغفلون الذين ينفذون الأوامر فلا شك أنهم جاهلون أو لا يرون فلسطين إلا من خلال أبي فلان وأبي علان وكأنَّ هذا "الأب" فوق فلسطين والقدس والأقصى، أو أنهم حاقدون من وصول حماس للسلطة وكأنها - أي حماس - استولت على الحكم من خلال دبابة أمريكية الصنع أو سوفياتية المنشأ.(/4)
فتش عن المستفيد!! قاعدة أمنية جنائية لا يختلف عليها عاقلان فإذا طرحنا هذه القاعدة في يومنا هذا فلا شك أننا نجد أنَّ المستفيدين هم الصهاينة لا غيرُ، فالحرب الضروس التي باتت مشاهدَ اعتيادية يومية لا تصب إلا في مصلحة إسرائيل، ولا شك أنَّ أمنيات إسرائيل أن يُخرق اتفاق مكة فقد أبدت امتعاضَها من هذا الاتفاق قبل أن يجف حبر التوقيع، كما أنه لا يروق لها أنَّ يتوصل (الفرقاء) إلى أي تهدئة، فعملت جاهدة بالاتفاق مع بعض الأطراف على تفشيل الاتفاق والشروع في الحرب الأهلية، فهم يخططون ويراقبون وينفذون خططهم بأيديهم أو أيدي غيرهم وكان يكونُ سرورُهم عظيماً وقت يرون الفلسطينيين يذبحون أنفسهم، وكما قيل في المثل الفلسطيني "يلي عنده طباخ ما يزفر إيده"
الغريب أن الشعب الفلسطيني يعد من أكثر الشعوب تعلما وذكاء فكيف تنطلي مثل هذه الحيل على أبنائه؟! أيعقل أن تقوم إسرائيل بعربدتها اليومية على قطاع غزة وفي الضفة الغربية وهناك من يقول: إنَّ حركة حماس الشيعية تريد أن تفرض التشيع على الناس، إنهم مجرمون، جوعوا الشعب الفلسطيني، اغتصبوا السلطة، قتلوا المناضلين، عملاء للخارج!! إلى غير ذلك من اتهامات لا أساس لها من الصحة أو أنها لا ترتقي إلى مستوى العقل الصحيح.
هب أن الأمر مختلف، الطائرات الإسرائيلية تقصف مقرات فتح وتتتبع مناضليها، وتحاصر قيادتها وتمنعهم من السفر أو الاتصال مع الخارج، وعناصر حماس أيضا يلاحقون المجاهدين من فتح وغيرها، فلا شك أن حركة حماس ستوصف بأبشع الأوصاف التي أقلها الخيانة العظمى.(/5)
همسة حارة ودافئة إلى كل من لا يعجبُه فكرُ حماس أو أدائها أو أنه غير راضٍ عن ممارسات الحركة أو أنه لا يحب بعضَ أعضائها من نواب أو وزراء أو قيادات، فإن كانت هناك اعتراضات حول أداء الحكومة باستطاعتكم إسقاطُها ديمقراطيا وسحب البساط من تحتها كما سحب من تحت فتح وغيرها، أحسنوا إلى شعبكم واقتربوا منه واصدُقوا معه فلا شك أن شعبكم الذكي يعرف من يختار وإن غدا لناظره قريب!!
لا تجعلوا الصهاينة والشياطين يجرون في دمائكم، فكروا ثم فكروا وفكروا عن المستفيد الأول والأخير من هذه الحرب الضروس ولا تُخْرِبوا بيوتكم بأيديكم وأيديهم.(/6)
العنوان: المقاصد الحقيقيَّة لِلمصطلحات الأمريكية
رقم المقالة: 1929
صاحب المقالة: د. أحمد الريسوني
-----------------------------------------
كثيرٌ منَ النَّاس عَبْرَ العالم أصبحوا - وبشكلٍ متزايِدٍ - يَتَّهِمون المسؤولين الأمريكيين بالكذب على العالم؛ فقد كَذَبوا على مجلس الأمن الدوليِّ، وكذَبوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذبوا في الوكالة الدَّوليَّة للطاقة الذَّرِّيَّة، وكذبوا في خُطَبِهِم وبياناتهم، واتهاماتهم ووعودهم ومواعيدهم.
وقد كنتُ أيضًا أَعْتَقِدُ أنَّ الأمريكيِّينَ كذَّابون، إلى أن بدأتُ أَكتشف شيئًا فشيئًا حقيقة الأمر، وأنه ليس هناك أيُّ كَذِبٍ أوِ اختلاقٍ، وإنما هناك سُوءُ تَفَاهُمٍ، وسُوءُ فَهْم.
لقد ساعدني تخصُّصي في المقاصد أن أعرف مقاصدَ الخطاب الأمريكي، ومقاصد بعض المصطلحات الأمريكية، وما دام الأمريكيُّونَ يريدون تغيير الأوضاع وقَلْبَها في كثير من بقاع العالم، وفي كثير من شؤون العالم، فقد عمَدُوا أوَّلاً إلى تغيير المفاهيم وقَلْبِها، فاقْلِبِ الكلماتِ تجدِ الجوابَ الصحيحَ والمعنى المقصودَ، وإليك بعضَ الأمثلة:
- حينما يُعْلِنون أنَّهم يَشُنُّونَ الحرب على العراق ويحتلونه؛ لإزالة ما فيه من أسلحة الدمار الشامل، فهم لا يكذبون، وإنَّما يقصِدون إغراق العراق في أسلحة الدمار الشامل، وتحويله إلى دمار شامل، وصدَقُوا، فلا تُكَذِّبُوهم، لكن افهموهم.
- وإذا حدَّثوكم عن "إعادة تعمير العراق"، فلا تُكَذِّبوهم؛ فلَقَدْ عَمَّروه فِعْلاً، لكن بمئات الآلاف من الجنود والجواسيس والأعوان والمُرْتَزَقَة، جاؤوا بهم من القارات الخمس، جاؤوا بهم من أجل "تحرير العراق"، و"تعمير العراق"؛ بمعنى "تدمير العراق"، وإذا ظهر المقصود على الأرض فلا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح، والعِبرة بالأفعال لا بالأقوال؛ كما يقولون لنا دائمًا.(/1)
- وإذا قالوا: إنهم يواجهون مقاتلين أجانب، ويبحثون عن المقاتلين الأجانب في العراق، فهم صادقون في ما يقصدون، فلا تُكَذِّبُوهُم إذا لم يقدموا لنا ولا أجنبيًّا واحدًا، لا حيًّا ولا ميتًا، فهم يقصِدون بالأجانب سُكَّانَ العراق الذين لم يَنْخَرِطوا بعدُ في "العراق الأمريكي الجديد"، "العراقِ الحرِّ الديمقراطيِّ"؛ فالعراقيون القدماء الذين لم يندمجوا في التجنيس الأمريكي، والتجنيد الأمريكي مِثْلَمَا فعل "البشمركة"، والبعثيُّون التائبون هم بكل تأكيد قد أصبحوا أجانبَ في العراق الجديد، أما إذا كانوا يقاومون أو يؤيِّدُونَ المقاومة؛ فهم أجانب ومطلوبون للعدالة، وبِما أنَّ الأجنَبِيَّ "أبو مصعب الزرقاوي" وأصحابه، لم يعثر لهم على أثر ولا خبر، فلابُدَّ أنَّ الأجانب هم أهالي الفَلُّوجة، وبغداد، والرَّمَادِي، والنَّجَف، وكَرْبلاء، والمَوْصِل، وسائر مَن يؤيِّدُهم من العراقيين القدامى.
- وإذا حدَّثوكم عن "تسليم السيادة" بعد تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، فهم صادقون كالعادة، لأنَّهم حينما احتلُّوا العراق لم تكن هناك أيُّ جهة عراقية، أو غير عراقية قد وقَّعَتْ لهم على الإذن باحتلال العراق، وامتلاك العراق، وبما أنهم ناس يتمسكون بالقانون وبالشرعية، فسُينْشِئون لهذا الغرض حكومةً عراقيةً قادرةً على "تسليم السيادة" والتوقيع عليها.
هذا كل ما في الأمر، فلا داعي للتشكيك في النوايا والوعود، ولا في موعد الثلاثين من حُزَيْرَانَ "يونيو".
وإذا سَمِعْتموهم يتحدثون عن مشروعِهمُ الطَّمُوحِ والكبير، الذي يُسَمِّيهِ بعض الناس "مشروع الشرق الأوسط الكبير" فلا تُعَوِّلوا في فهمه على المترجمين والشرَّاح والمعلقين، وإنما المعنى الأصليُّ المقصود، هو "مشروع الشرق الأوسخ الحقير" فهذا هو المشروع الحقيقي الذي يسعى إلى تحقيقه الأمريكيُّون الليكوديُّون التَّلْمُودِيُّون، وهو عندهم مشروع العمر، بل مشروع العصر.(/2)
العنوان: المكتبات في جزيرة العرب
رقم المقالة: 407
صاحب المقالة: عبدالله الماجد
-----------------------------------------
وطن العرب الأول جزيرة العرب. انبثق نور الإسلام من بطاح مكة. وغار حراء.. واستوطن في طيبة وبدأ يرسل أشعته إلى بقاع العالم. الذي اهتدى بنوره.. ومنها شع الفكر العربي الأصيل ومعين الحضارة العربية الأصيلة في كل بلاد العالم. وسنبحث في نشوء المكتبات؛ خزائن الكتب التي خلفها الفكر بأنواعه. مع ما يعترضنا من الصعاب في ذلك لقلة المراجع التي تعوزنا في هذا الموضوع.
تمهيد:
لم تكن في جزيرة العرب مكتبات بالمعنى المعروف في مختلف بلاد العالم. وذلك لأسباب منها:
1 - انتقال مركز الحكم من قلب الجزيرة إلى أطرافها في الشام والعراق في صدر الإسلام، ثم في مصر.
2 - تأسيس الأمارات والخلافات الإسلامية في مصر والأندلس وتركيا. ثم انتقال مركز الخلافة الأموية في دمشق. ومركز الخلافة العباسية في بغداد.
3 - عدم إيمان الأمراء والحكام في الدولة الإسلامية. بمدى ما تسديه هذه الصحراء المجدبة. خاصة بعد أن تزينت دمشق بحليها. ولمع مجد بغداد في العالم آنذاك وكان هذا الرأي سائداً حتى في زمن الدولة العثمانية التي اكتفت بالإهتمام بالحرمين الشريفين. وأهملت جزيرة العرب من كل نهضة أو إصلاح.
غير أن الصلة الروحية التي ظلت تربط العالم الإسلامي بالحرمين الشريفين دفعت العلماء والمصلحين والملوك والسلاطين إلى إنشاء مكتبات صغيرة موقوفه. وإلى وقف بعض العقارات عليها.(/1)
وبعض هذه المكتبات كبرت وازدهرت وازدادت مقتنياتها مع الزمن. علاوة على المكتبات الخاصة التي اهتم أصحابها. بجمع الكتب النادرة فيها. وبعض المكتبات عبثت بها الأيدي، فضاعت محتوياتها من الكتب وكان بعض هذه المكتبات موضع عناية رجال العلم والفكر والأدب وخاصة في العصور المتأخرة حتى صار يشار إلى المدينة بالبنان، وأضحى ذكر مكتباتها ومخطوطاتها جارياً على اللسان.. ولما تغيرت الأحوال والرجال، وانعدمت الرقابة، على المكتبات الموقوفة وفتح باب التلاعب بمقتنياتها على مصراعيه تسرب كثير من مخطوطاتها النادرة إلى الخارج، فأصبحت مكتبة المتحف البريطاني بلندن ومكتبة ليدن في هولندة، ومكتبة نظام حيدر أباد في الهند وغيرها من المكتبات العالمية تزخر بالكثير من تراثنا.
المكتبات في مكة المكرمة...
ربما لا نعرف للمكتبات اسماً في مكتبة قبل القرن الخامس الهجري. وإن كان ذلك فلا يعدو أن يكون بعض الرجال يحتفظ في منزله بمجموعة من الكتب وهذه كانت بداية للمكتبات الخاصة. وقد أنشأ في المقام المالكي الشيخ محمد بن عبدالله بن فتوح المكناسي خزانة للكتب المالكية. وذلك بأن وقف كتاب المقرب المكون من ست مجلدات.. وذلك في سنة 488هـ. إلى جانب عدد من خزانات الكتب أقيمت هناك. وفي سنة 594هـ أمر ملك اليمن نور الدين بن صلاح الدين الرسولي بإنشاء رباط في مكة وأوقف فيه نفائس من الكتب كالمجمل لابن فارس والاستيعاب لابن عبدالبر. وغدا هذا الرباط من أحفل الأربطة الأخرى بمكة بالكتب ويعرف هذا الرباط فيما بعد برباط الحضارمة.
وفي سنة 641هـ كان للأمير شرف الدين إقبال الشرابي مدرسة مجاورة للحرم، أوقف فيها كتباً في مختلف الفنون.
وفي القرن الثامن أمر ملك بلاد فارس السلطان شاه شجاع بإنشاء رباط قرب الحرم وأوقف فيه في سنة 827هـ كتباً. وأرسل إلى الحرم بالمدينة خزانة كتب جليلة. وكان قد أنشأ رباطاً آخر هو رباط الخوزي بمكة.(/2)
وكان لمؤرخ مكة تقي الدين الفاسي مكتبة عامرة بالكتب.
ولمؤرخ مكة القطبي مكتبة عامرة بالكتب جمع فيها ابن أخيه الشيخ عبدالكريم المتوفي (1014هـ) أربعة عشر ألف كتاب.
في عام 882هـ أوقف الملك قايتباي مكتبة جعل مقرها مدرسته بجوار الحرم المكي وعين لها خازناً براتب مقرر. ونظم لها بيان لسجل كتبها وسطت عليها أيدي المستعيرين. وضيعوا منها جانباً كبيراً لم يبق إلا ثلاثمائة مجلد. ولعل هذه أول مكتبة عامة نظمت بمكة المكرمة.
وبمرور الزمن تكونت في مكة مكتبات غدت مع الزمن حافلة بالكتب ولكنها ذهبت ضحية السيول المتوالية منها ما وقع في 19/8/1039هـ الذي هدم الكعبة. وذلك في زمن السلطان مراد.
وفي القرن الثالث عشر الهجري أنشئ بمكة مكتبات منها:
1 - المكتبة السليمانية: أنشأها السلطان عبدالمجيد. جمع فيها كتباً أحضرت من الأستانة. حتى صار ما بها (3653) كتاباً. وقد غرق كثير من الكتب بها في 8/5/1278هـ حيث دخل السيل من نوافذها القريبة من الأرض.
2 - مكتبة الشرواني: أسسها شرواني محمد رشدي باشا. والي الحجاز سابقاً.
3 - مكتبة الحرم: كان السلطان عبدالمجيد قد أمر ببناء مدرسة ومكتبة. فتوفي قبل إتمام ذلك. وقد جمعت كتب السلطان. مع بعض الكتب التي أوقفها العلماء والأعيان. وأضيفت مكتبة الحرم التي أصبحت معروفة بهذا الإسم منذ سنة 1357هـ وبها (9338) كتاباً منها (1500) مخطوط تقريباً.
ومن المكتبات الخاصة المهمة. مكتبة الشيخ حسن عبدالشكور وبها نوادر من المخطوطات. والمكتبة الماجدية جمعها الشيخ محمد بن ماجد الكردي وتضم بعض من المخطوطات. ومكتبة الشيخ محمد سرور الصبان والشيخ سليمان الصنيع، والشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي وغيرهم.
ولا ننسى أن نذكر من مكتبات مكة. مكتبة (رابطة العالم الإسلامي) في عهدنا الحاضر التي لا نعلم بقدر محتوياتها..
المكتبات في جدة
1 – في جدة أنشئت مكتبة عامة هي مكتبة تابعة لوزارة الإعلام.(/3)
2 – ومكتبة الشيخ محمد نصيف وهي من أنفس مكاتب الحجاز وأحفلها بنوادر المخطوطات والكتب وبها حوالي (4000) كتاب تقريباً. وهي بمثابة المكتبة العامة فتحها صاحبها لمن يريد الإطلاع الداخلي... وهناك عدد من المكتبات الخاصة..
المكتبات في الطائف
من أقدم من عني بجمع الكتب في الطائف الميورقي الأندلسي الطائفي، الذي جمع منها قدراً كبيراً أوقفه في الطائف.
ومن المتأخرين الشيخ محمد حلمي الداغستاني والشيخ عثمان راضي ألقاضي، وكانت كتب الآخيرين نواة للمكتبة العامة التي كانت في الطائف قديماً. بحيث أصبحت مكتبة عامة تقع في القبة الواقعة قرب مسجد ابن عباس وكانت تحوي كثيراً من الكتب النفيسة. ولم يبق فيها الآن سوى القليل وكان فيها (2500) كتاب منها (500) مخطوط.
المكتبات في المدينة المنورة..
المدينة المنورة غنية بالمكتبات العامرة في أغلب عصور تاريخها المجيد. حتى صارت بالنسبة لغيرها من بلاد العالم الإسلامي. فهذا ملك فارس أهدى إلى الحرم النبوي مكتبة جليلة في سنة 587هـ. وقد ذكر ابن جبير في رحلته أنه شاهد في الحرم النبوي خزانتين كبيرتين تحتويان على كتب ومصاحف. ولما احترق المسجد سنة 886هـ احترقت كلها واحترق لمؤرخ المدينة السمهودي نحو ثلاثمائة كتاب. وبعد هذا أرسل قايتباي كثيراً من الكتب والمصاحف عوضاً عنها. وقد بلغ عدد مكتبات المدينة ما يقرب من ثمانين مكتبة. وقد عد صاحب مرآة الحرمين في المدينة ثماني عشرة مكتبة تحتوي على (20774) منها 5404 في مكتبة شيخ الإسلام و4596 في المكتبة المحمودية، و2063 في مكتبة بشير أغا و1659 في مكتبة السلطان عبدالمجيد الأول.(/4)
1 - مكتبة عارف حكمت بك شيخ الإسلام في زمن السلطان عبدالمجيد ولد الحاج حكمت عارف في سنة 1200هـ وتقلب في عدة مناصب منها القضاء بين القدس ومصر والمدينة وآخر هذه المناصب مشيخة الإسلام ثم اعتزل المناصب في سنة 1270هـ وتوفي سنة 1275هـ باستنبول. له مؤلفات منها ديوان بالعربية والتركية والفارسية وتذكرة الشعراء (تركي) ومجموع التراجم لعلماء القرن الـ13 لم يكمل وذيل كشف الظنون إلى حرف الجيم[1] وأنشأ في المدينة المنورة مكتبته هذه في سنة 1260هـ. ولا يزال تاريخ ذلك منقوشاً في سقف قاعتها. وقد جمع فيها ما حصل من الكتب. حتى بلغ ما بها من الكتب 4500 مخطوط. وأكثر من ألفي كتاب مطبوع وجميعها من الكتب النادرة. وقد رتبت ترتيباً جميلاً. وفرشت أرضها بالسجاد الثمين، وتعلوها قبة آية في الزخرفة العربية. وخزانتها تعتبر تحفة في فن التجارة العربي وفي فنائها بركة من الرخام يتدفق الماء منها. وقد بلغ مجموع محتوياتها حسب آخر إحصاء في عام 1384هـ (7000) مجلد منها (2000) مجلد مخطوط ونجد أنها في عام 1375هـ كانت تضم (3000) مخطوط. وكان لها سجل مخطوط في خمسة أجزاء وضع فيه بجانب الكتب المفقودة علامة (X ) كتب على الفهرس: (أصدق على ما ذكر بالمشاهدة بعد التفتيش بأن الكتب النفيسة المقيدة في هذا الدفتر موجودة بالمكتبة 29 جمادى الأولى عام 1334هـ. قاضي المنورة – الختم الرسمي – محمود الدين حفظى).(/5)
كانت هذه المكتبة من أحفل المكتبات في العالم الإسلامي. وقد تعرضت للعبث فقد نقل أمين بن حسن الحلواني آلاف الكتب إلى أوروبا. هي مكتبة ليدن في هولنده، والمكتبة الملكية ببرلين ومكتبة جامعة برنستون. ويشير الأستاذ عبدالله عبدالجبار أن شيخ الإسلام عارف حكمت الله الحسيني جمع ما يقرب من عشرة آلاف كتاب. ولعل من نفائس محتوياتها نسخة من القرآن الكريم مكتوبة على رق نعام بخط أندلسي مذهبة في آخرها. وقد كتبت بخط عبدالرحمن بن علي بن مرزوق بن محمد بن مكانس البطليوسي سنة 488. مما فقد منها، وكان فيها نسخة ناقصة من تفسير القرآن الكريم. لعبدالله ابن عباس على رق غزال كتبت سنة 310هـ. وكتاب المحاضرات للسيوطي بخط المؤلف. وكتاب أسماء الجبال والبقاع المذكورة في أشعار العرب. لم يذكر اسم مؤلفه كتب سنة 1243هـ. وكتاب ذكر المسافات وصور الأقاليم لأبي زيد البلخي. كتب في القرن الخامس الهجري. ويوجد بها نسخه كاملة من كتاب طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي. ويذكر جرجي زيدان أن نسخة الشنقيطي في دار الكتب المصرية مأخوذة عنها من كتاب ابن سلام.
2 - مكتبة السلطان محمود (المحمودية). أنشأها السلطان محمود، وكان فيها من الكتب ما يقارب خمسة آلاف وخمسمائة كتاب منها 3500 من المخطوطات ويبلغ ما بها أخيراً (5886) كتاباً جمعت من مصر والأستانة. وقد ضمت إلى مكتبة الحرم.
3 - مكتبة الحرم النبوي. يبلغ عدد كتبها (5153) كتاباً منها (500) مخطوط وكان عدد مخطوطاتها عام 1375هـ (500) مخطوط تقريباً. وقد ضم إليها عدد من المكتبات الصغيرة الأخرى.
4 - المكتبة الحميدية. هذه المكتبة منسوبة إلى السلطان عبدالحميد الأول. وتعداد كتبها (1659) كتاباً. وقد ضمت إلى محتويات مكتبة الحرم المدني.(/6)
5 - مكتبة بشير أغا. وعدد كتبها (2063) كتاباً. ضمت إلى مكتبة الحرم. ويوجد عدة مكتبات صغيرة أدمجت في مكتبة الحرم. وبعضها عفى الزمن عليها وضاعت محتوياتها مع ضياع الزمن. وهي مكتبات خاصة أكثر منها عامة:
6 - مكتبة الكشميري.
7 - مكتبة الشفاء.
8 - مكتبة رباط سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه.
9 - مكتبة مدرسة ثروت باشا.
10 - مكتبة حسين آغا.
11 - المكتبة القازانية.
12 - المكتبة الأحسانية.
13 - المكتبة المؤقتيه وغيرها من المكتبات. وجميع المكتبات الموجودة بالمدينة تابعة لوزارة الحج والأوقاف في الوقت الحاضر.
المكتبات في نجد:
ونجدُ ماذا فيها من مكتبات؟ نجد التي نشأت فيها اللغة التي تتكلم بها والأدب الذي نتغنى به. وفيها جرى معظم تاريخنا قبل الإسلام. نجد التي انساحت وتموجت فيها الموجات التي عمرت العراق والشام ثم انتقل بعضها إلى مصر وما وراءها. نجد التي خرجت منها معظم جيوش الفتح بعد الإسلام. نجد التي انبثقت من أرضها دعوة إلى التوحيد بعد دعوة الرسول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فأرشدت الناس إلى حياة كريمة وعيشة هانئة بنور الإسلام، هذه الدعوة التي قام بها مصلح من أهلها. ونجد التي ضاق بوصفها خيال الشعراء، ما هي مكتباتها؟ وكيف نشأت؟ وما هي اليوم؟
للإجابة على ذلك يجب أن نختزل من التاريخ بعضه، خاصة إذا كان هذا التاريخ خلواً مما نحن نبحث فيه. لنبدأ من تاريخنا الحديث في نجد، من بداية الدعوة الإصلاحية التي قام الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمه الله، من قيام الدولة السعودية الأولى (1158هـ)، سنبدأ وستكون بدايتنا قصيرة.(/7)
كانت دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب حافزاً لجمع الكتب، والاستزادة من كتابة الكثير منها، ونسخ العديد من الرسائل التي يعدها الإمام ويتداولها رجال الدعوة ليقرأها الناس، وتكونت منها مجاميع من الكتب بخط اليد، غير مطبوعة بل يندر أن يوجد لدى واحد كتاب مطبوع للظروف العامة في عالمنا العربي كله، وقد جمع الإمام محمد بن عبدالوهاب عدداً من رسائله وكتبه التي ألفها، كان مناصره ومؤازر دعوته الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود محباً للعلماء وعالماً، يجمع الكتب لديه، وكان أبناء الإمام محمد، وكان العلماء الذين وفدوا إلى الدرعية كالشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ حسين بن غنام، ثم من بعدهم الشيخ حمد بن عتيق والشيخ أحمد بن عيسى، والشيخ عثمان بن عبدالله بن بشر، والشيخ إبراهيم ابن صالح بن عيسى، والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري. كانت مكتباتهم الخاصة تضم نفائس من المخطوطات.
المكتبات في الرياض:
في الرياض كانت العادة تفرض جلب كتب من يتوفى من العلماء إلى الرياض ليطلع عليها العلماء، والرياض التي يوجد بها طلبة العلم هم الذين يدركون مدى قيمة الكتاب وفائدتها، لذلك جرت العادة. ولهذا اجتمع لدى العلماء عدد كبير من الكتب، فأصبح لدى الشيخ عبدالله بن عبداللطيف مكتبة غنية بنوادر المخطوطات آل كثير منها لمكتبة الأمير عبدالله بن عبدالرحمن، ومكتبة الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ، ومكتبة الشيخ حمد بن فارس، ومكتبة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ[2].
1 - وفي عام 1363هـ أنشأ الأمير مساعد بن عبدالرحمن الفيصل مكتبة عامة منظمة في الرياض جمع فيها أشهر الكتب المطبوعة، وخصص لها جانباً من بيته.
2 - المكتبة السعودية، وهي مكتبة عامة، بها حوالي (15000) كتاباً و(117) مخطوطاً.(/8)
3 - دار الكتب الوطنية: في ربيع الثاني من عام 1378هـ قامت أمانة مدينة الرياض بإنشاء مكتبة في الرياض، ضمت قدراً طيباً من الكتب التي اختارتها جامعة الرياض وزودت بها المكتبة، وقد ضمت أخيراً إلى وزارة المعارف وخصص لها مبنى حديث، ويبلغ عدد محتوياتها (7500) كتاب تقريباً مع بعض الكتب الافرنجية، ولا تزال المكتبة في دور الاعداد تمهيداً لافتتاحها، وقد نظمت تنظيماً حديثاً.
4 - مكتبة وزارة المعارف: وهي مكتبة خاصة بالوزارة ضمت أخيراً إلى دار الكتب الوطنية وكان عدد محتوياتها (12000) كتاب وما يقارب الألف كتاب افرنجي.
5 - مكتبة جامعة الرياض: وبها حوالي (60000) كتاب تقريباً.
وعدد من المكتبات الأخرى، كمكتبة معهد الإدارة وهي مكتبة جيدة، ومكتبة مجلس الوزراء، ومكتبة وزارة البترول، ومكتبة المجلس الأعلى للتخطيط.
ومن المكتبات الخاصة: مكتبة الأمير عبدالله بن عبدالرحمن وبها حوالي (2000) كتاب.
ومكتبة الأستاذ حمد الجاسر وهي تضم إلى جانب بعض الكتب المطبوعة، بعض نفائس من المخطوطات ونوادر المصورات وغيرها.
وفي عنيرة:
عنيزة بلدة حافلة بالعلماء والفقهاء قديماً وحديثاً. وما وصلنا من أخبارهم إلا القليل الذي لا يسد أغراض البحث وأنواعه. ومن المكتبات فيها:
1 – مكتبة عنيزة: وهي أول مكتبة انشئت في عنيزة في سنة 1359هـ تقريباً. وتضم طائفة من الكتب المختلفة. وأشرف على انشائها الشيخ عبدالرحمن السعدي من خيرة علماء نجد وأوسعهم إطلاعاً. توفي سنة 1377هـ وله مؤلفات في العلوم الدينية.
2 – المكتبة العامة في عنيزة: أنشأت هذه المكتبة وزارة المعارف وتحوي حوالي (4000) كتاب و(150) مخطوطاً تقريباً[3].
وفي بريدة:
ما يقال عن عنيزة يقال عن بريدة نفسها فالبلدان متجاوران مما يجعل الحياة فيهما متشابهة.(/9)
1 – المكتبة العامة: أنشئت عام 1375هـ بإشراف الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد. وقد زودت بكثير من الكتب وأهدى إليها المرحوم الشيخ فوزان السابق كتباً كثيرة. وقد ضمت إلى وزارة المعارف فزودتها بالكتب حتى بلغ ما فيها (4000) كتاب وبها حوالي (200) مخطوط.
وفي شقراء:
وفي شقراء مكتبة عامة أنشأتها وزارة المعارف وبها (3000) كتاباً و(163) مخطوط.
وفي الحوطة:
وفي حوطة سدير مكتبة عامة أنشأتها وزارة المعارف وبها ما يقارب (3000) كتاباً مطبوعاً.
وفي الاحساء والدمام:
الأحساء مركز ثقافي من مراكز جزيرة العرب الثقافية. ولذلك كانت مركزاً لجمع الكتب التي تكونت منها مكتبات حافلة بجلائل المخطوطات النفيسة. كمكتبة آل عبدالقادر، ومنهم الشيخ محمد بن عبدالقادر مؤلف تاريخ الأحساء، ومكتبة أبو بكر الملا وغيرهم.
1 – وقد أنشأت وزارة المعارف مكتبة بالهفوف. وفيها من الكتب (6000) كتاب.
2 – وفي الدمام أنشأت وزارة المعارف مكتبة عامة. فيها (6000) كتاب تقريباً.
وفي الكويت:
أسست أول مكتبة عامة في الكويت عام 1923م بفضل جماعة من أبناء الكويت. وفي عام 1937م ألحقت هذه المكتبة بوزارة التربية والتعليم. وفي عام 1953م أنشئ فرع لها. وفي عام 1957م جهز مبنى جديد انتقلت إليه المكتبة الرئيسية. وبقي مقرها الأول مكتبة فرعية ثانية. وفي عام 1960م افتتحت مكتبة فرعية ثالثة في الأحمدي تضم هذه المكتبات الثلاث (45،592) كتاباً منها (60) مخطوطاً.
وفي قطر:
وأنشئ في قطر مكتبتان: مكتبة المعارف العامة وأنشئت عام 1374هـ. والمكتبة العامة في الدوحة وانشئت عام 1376هـ.
1 – وفي عام 1382هـ أنشئت دار الكتب القطرية من هاتين المكتبتين. بلغ مجموع محتوياتها (20،484) كتاباً. و(1000) مخطوط. يرجع تاريخ بعضها إلى القرن السابع الهجري و(300) كتاب مصور على شريط (ميكروفلم).
ودار الكتب القطرية أعدت اعداداً حديثاً كمثيلاتها في العالم العربي من دور الكتب.(/10)
2 – مكتبة ساحل عمان: ويبلغ عدد محتوياتها (890) كتاباً.
بالإضافة إلى أربع مكتبات يجري انشاؤها في: أم حلال، والشمال، ودخان، والخور.
وفي اليمن:
اليمن مهد الحضارة العريقة. ذلك القطر الذي لم تفقد أرضه إنسانها الذي عاش على مسرح حياتها مكوناً حضارة العرب القديمة، في جزء مكين من بلاد العرب. هناك في أرض سبأ وحمْير وسد مأرب. ما هي مكتباته؟ وما نصيبها من الحضارة التي عمت بلاد اليمن في فجرها الأول؟! لقد أنجبت اليمن علماء في كل مجال من فنون الأدب. كالهمداني والعلامة نشوان بن سعيد الحميري وغيرهم. ممن ألفوا كتباً عديدة في تاريخ اليمن وملوكها. وتاريخ ذلك القطر وغيره. فتكونت بذلك مكتبات عديدة... تضم ذخائر نفيسة من الكتب إلى جانب ما جلبه الملوك والأمراء من الكتب القيمة الأخرى. وكان لهم عناية فائقة بجمع الكتب وتأسيس المكتبات ولقد تسرب الكثير من مخطوطاتها إلى الأقطار المختلفة خارج اليمن. فكان ما في مكتبة (الأمبروزيانا) بميلانو في ايطاليا من المخطوطات جله مما حصله العلماء المستشرقون الايطاليون من اليمن وهي تبلغ الألفي مخطوط تقريباً. والباقي الآن في هذه البلاد يعتبر ثروة ضخمة لا تقدر بثمن صعب حصول المستشرقين عليها. وأكثرها موزع بين المكتبات التي أنشئت حديثاً في صنعاء، والروضة، وزبيد وبيت الفقه وغيرها. وبين ما تقتنيه الأسر الكبيرة والعلماء من مخطوطات توارتها السلف عن الخلف وزادوا عليها ما حصلوه بطريق الاستنساخ والشراء. ومن المكتبات التي قامت في اليمن:
1 – مكتبة الجامع الكبير بصنعاء.(/11)
وهي المكتبة العامة للدولة. وتعرف باسم (الخزانة المتوكلية) نسبة إلى مؤسسها الإمام يحيى بن محمد حميد الدين – نقل إليها مجموعة من كتبه النفيسة التي جمعها وحبسها على هذا الجامع وضم إليها ما كان في خزائن الكتب الموقوفة من قبل فاجتمع فيها ما يبلغ الخمسة آلاف مجلد تقريباً. أكثرها في مصنفات الزيدية وعلوم أصول الدين وغيرها من العلوم العربية والأدبية والتاريخية. وأهم وأنفس ما فيها مجموعة قيمة نادرة كلها من مخطوطات ما قبل القرن السادس الهجري. ولهذه المكتبة فهرس حسن مرتب على الفنون. قام بوضعه وتنسيقه العلامة القاضي محمد الحَجْري – رحمه الله – وقد طبع بمطبعة وزارة المعارف المتوكلية بصنعاء في 342 صفحة.
2 – مكتبة الإمام يحيى بصنعاء:
هذه المكتبة كانت ملكاً خاصاً للإمام يحيى إمام اليمن السابق وقد نسقت تنسيقاً حسناً. ولها سجل مخطوط بمحتوياتها، من وضع القاضي محمد الحجري وبها من المخطوطات ما يزيد على ألفي مجلد أكثرها نسخ مكررة لما هو موجود في مكتبة الجامع الكبير. والبقية تتضمن مجموعة نادرة من المخطوطات. منها سبعة مجلدات من كتاب ((سير أعلام النبلاء، للحافظ الذهبي بخط قديم)) و((شرح القصيدة الدامغة للهمداني)) مخطوطة سنة 623هـ في 184 ورقة[4].
3 – مكتبة جامع الروضة:
وهذه المكتبة في ضواحي صنعاء معدة لانتفاع الطلبة والعلماء وتحوي مجموعة قيمة من المخطوطات القديمة تبلغ (400) مجلد تقريباً من أهم ما فيها نسخة جيدة من كتاب ((شمس العلوم)) لنشوان بن سعيد الحميري.
4 – مكتبات تعز:
في تعز عدد من المساجد القديمة أكثرها من عهد الدولة الرسولية التي كانت (تعز) قاعدة حكمها. وفي هذه المساجد مكتبات ملحقة بها. وخاصة مكتبة مسجد الملك المظفر فإن فيها مخطوطات وأكثرها يعود إلى عهد تلك الدولة.
5 – مكتبات زبيد:(/12)
في زبيد مكتبات، وبعضها خاصة كمكتبة العالم السيد محمد الأهدل وفيها (5000) مجلد تقريباً، وفي إحدى ضواحي زبيد مكتبة موقوفة على المتعلمين بها. تضم نحو ألف مجلد.
6 – مكتبات أخرى:
مكتبة مدرسة جبلة وهي مدرسة من أوقاف الملكة أرْوَى بنت أحمد الصليحية المتوفاة سنة 532هـ. وبها مجموعة من المخطوطات القديمة.
ومكتبة جامع إب: وبها عدد من المخطوطات المهمة.
ومكتبة قبة طلحة: وهو مسجد قديم بصنعاء، فيه مكتبة كانت للإمام المهدي عبدالله بن الإمام المتوكل أحمد المتوفي سنة 1251هـ وورثها عن والده الذي كان في خزانته آلاف الكتب وفيها مجموعة قيمة من المصاحف المذهبة بعضها بخط ياقوت المستعصمي، ومجموعة من المخطوطات تبلغ خمسمائة مخطوط.
ومكتبة جامعُ حوثْ:
(حُوث) هذه هي مسقط رأس العلامة نشوان بن سعيد الحِمْيري صاحب ((شمس العلوم)).
وهناك عدد من المكتبات الخاصة الهامة كمكتبة السيد علي بن محمد بن إبراهيم وبها أكثر من ألف مخطوط. وصاحبها ممن يعنون بالكتب القديمة.
ومكتبة القاضي يحيى بن محمد الأرياني. بها أكثر من (2000) مجلد.
مراجع البحث:
1 - ضحى الإسلام. ج2. أحمد أمين.
2 - آداب اللغة العربية ج4. جرجي زيدان.
3 - الرياض عبر أطوار التاريخ. حمد الجاسر.
4 - مجلة معهد المخطوطات ج1 (1375هـ).
5 - المكتبات في قلب الجزيرة العربية (بحث) عبدالله الجبار [وقد استقاه من بحث مخطوط كتبه حمد الجاسر].
6 - دليل الكويت – غرفة تجارة وصناعة الكويت. 1965م.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] ألف أبو الثناء السيد محمود الألوسي الكبير في ترجمته كتاباً دعاه ((شهي النغم، في ترجمة ولي النعم)).
[2] مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، حمد الجاسر، ص ص130 – 131.
[3] زارها صاحب ((العرب)) في شهر صفر سنة 1388 فلم يجد
[4] لدى صاحب ((العرب)) نسخة مصورة منها.(/13)
العنوان: المكتبات في مدينة القدس
رقم المقالة: 524
صاحب المقالة: ربحي مصطفى عليان
-----------------------------------------
مقدمة:
يشكل تاريخ المكتبات وتطورها في أي حضارة أو دولة أو مدينة، جانباً مهماً من تاريخها العام. وقد أعطت الحضارة العربية الإسلامية عبر عصورها المختلفة اهتماماً خاصاً بالكتب والمكتبات، ولهذا انتشرت خزائن الكتب ودورها في بغداد ودمشق والقاهرة وفارس وقرطبة والقدس، وغيرها من مراكز الحضارة العربية الإسلامية.
بالنسبة للمكتبات العربية الإسلامية، فقد كانت النتاج الطبيعي للحضارة العربية الإسلامية وانعكاساً لها. وقد ساهمت هذه المكتبات في توسيع نطاق هذه الحضارة ونقلها إلى العالم وإلى الأجيال المسلمة. وعندما اتسع أفق المسلمين وازدهرت حضارتهم وتنوعت اهتماماتهم الفكرية والعلمية، تطورت المكتبات وظهرت الأنواع التالية منها في الحضارة العربية الإسلامية:
1 – مكتبات المساجد والجوامع.
2 – المكتبات الخاصة بالخلفاء والأمراء والحكام.
3 – المكتبات الخاصة بالعلماء والأدباء ورجال الدين.
4 – المكتبات العامة.
5 – المكتبات المدرسية.
6 – مكتبات أخرى مثل مكتبات المشافي والمارستانات[1].
تهدف هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على التطور التاريخي للمكتبات المختلفة في مدينة القدس منذ الفتح الإسلامي للمدينة وحتى هذه الأيام. كما تقدم الدراسة معلومات عن الانتهاكات الإسرائيلية للكتب والمكتبات في فلسطين بشكل عام وفي مدينة القدس بشكل خاص، والمشكلات التي تواجه المكتبات في مدينة القدس.
مكتبات مدينة القدس عبر العصور:
نظراً للتاريخ الطويل لمدينة القدس ولتاريخ المكتبات فيها كذلك، يمكن تقسيم هذا التاريخ للمكتبات على النحو التالي:
أ – الفترة الأولى: وتمتد من الفتح العربي الإسلامي لمدينة القدس وحتى بداية الحروب الصليبية (637-1099م).(/1)
ب – الفترة الثانية: وتمتد من العصر الأيوبي والعصر المملوكي وحتى بداية العصر العثماني 1187م حتى أواسط القرن التاسع عشر الميلادي).
جـ - الفترة الثالثة: وتمتد من أواسط القرن التاسع عشر الميلادي حتى اليوم.
مكتبات مدينة القدس (637م – 1099م):
يقول العسلي[2]: إن أي حديث عن وجود مكتبات في فلسطين قبل القرن الثالث للهجرة غير ممكن[3]. ونستثني من ذلك وجود عدد من نسخ القرآن الكريم في المساجد القديمة منذ القرن الأول للهجرة. وفي هذا الشأن يشير ابن القلانسي إلى المصاحف العثمانية التي أرسلها الخليفة عثمان بن عفان إلى البلاد الإسلامية سنة 30هـ (651م)، ومنها مصحف أرسل إلى طبرية في فلسطين، ولا شك أن نسخاً كثيرة من هذا المصحف قد نسخت ووضعت في مساجد فلسطين والقدس.
واستناداً إلى ما سبق فإن مكتبات المساجد والجوامع هي أولى المكتبات العربية التي عرفتها فلسطين ومدينة القدس. وقد أضيفت إلى هذه المكتبات في القرن الثالث للهجرة مجموعات من الكتب التي بدأت تنتشر في بلاد الشام في تلك الفترة مثل كتب الزهري والأوزاعي والوليد ابن مسلم، وكذلك الكتب التي ألفها المحدثون الفلسطينيون والمحدثون الذي أموا فلسطين في القرنين الثالث والرابع بشكل خاص. ومن كتب تلك الفترة كتب المسند والجامع والطبقات وغيرها.
وهناك نصوص تتعلق بخزائن المسجد الأقصى يتضح منها أن أهم ما كانت تضمه هذه الخزائن نسخ القرآن الكريم التي كانت توضع في المسجد أو توقف عليه أو تهدى إليه. فقد ذكر ابن الفقيه[4] في كتاب "البلدان" الذي ألّفه سنة 290هـ/902م أنه كان في المسجد الأقصى في زمنه (ستة عشر صندوقاً للمصاحف). وقال ابن عبد ربه[5] المتوفى سنة 328هـ/939م في العقد الفريد وفيه (أي المسجد الأقصى) سبعون مصحفاً.(/2)
وهناك نص ثالث عن خزائن المسجد الأقصى كتب بعد هذه الفترة التي نتحدث عنها، وقد أورده محمد بن علي بن ميسر[6] سنة 677هـ في تاريخه إذ يقول: "إن الإفرنج حاصروا بيت المقدس في رجب سنة 429هـ/1099م... فهدموا المساجد... وأحرقوا المصاحف.
ويعتقد العسلي[7] أن بقية من المصاحف القديمة ما تزال موجودة حتى اليوم في مكتبة المتحف الإسلامي بالقدس التي تضم أكثر من 650 مصحفاً تاريخياً كتب معظمها بين القرن الثالث والقرن الثاني عشر للهجرة من بينها نصف مصحف قديم مكتوب على رق بخط كوفي كتب عليه: "كتبه محمد بن الحسن بن الحسين بن بنت رسول الله".
وللأسف الشديد لم تصلنا المخطوطات الأصلية لما ألف قبل القرن السابع للهجرة، وذلك أن الحروب الكثيرة، والفتن الأهلية، والحرائق والزلازل، وعوامل الطبيعة الأخرى، إضافة إلى غارات السلاجقة والحروب الصليبية قد أتلفت هذه المخطوطات.
مكتبات العصر الأيوبي والمملوكي والعثماني في القدس:
يمكن القول أنه ابتداءً من أواخر القرن السادس الهجري (القرن الثاني عشر الميلادي) بدأت تتضح ملامح جديدة لحركة الكتب والمكتبات في فلسطين بشكل عام وفي مدينة القدس بشكل خاص. ذلك أن العصر الأيوبي والعصر المملوكي وبدايات العصر العثماني كانت عصور نهضة علمية وبالتالي نهضة مكتبية تمثلت في مظاهر حضارية متعددة أهمها:
- بناء المساجد والجوامع.
- إنشاء المدارس المختلفة.
- انتشار بيوت الصوفية من خوانق ورباطات وزوايا.
- ازدهار معاهد العلم.
- كثرة التأليف ورواج الكتب.
- إنشاء المكتبات المختلفة والتي من أهمها:
أ – مكتبات المدارس والزوايا:(/3)
لقد وصل عدد المدارس وبيوت الصوفية في مختلف أنحاء فلسطين عدة مئات، وكان منها في القدس وحدها أكثر من سبعين مدرسة، بالإضافة إلى عشرات الزوايا والرباطات والخوانق[8] وكان في هذه المدارس والزوايا مكتبات. وهناك عدد من النصوص تؤكد ذلك. ومن أشهر مكتبات المدارس والزوايا في مدينة القدس في هذه الفترة:
- مكتبة المدرسة (الزاوية) النصرية في ساحة الحرم الشريف، أنشأها الشيخ نصر إبراهيم المقدسي في أواسط القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي.
- مكتبة المدرسة (الخانقاه) الفخرية التي وقفها القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله المتوفى سنة (1331م). وكانت هذه المكتبة غنية بمخطوطاتها الدينية والفلكية التي وصل عددها عشرة آلاف مجلد.
- وكان في المدرسة الأمينية برواق الحرم المقدسي الشمالي غرفة مخصصة للكتب تدعى (الكتبية).
- مكتبة المدرسة البلدية وهي مكتبة الشيخ محمد بن محمد الخليلي مفتي السادات الشافعية، وهي مكتبة هامة.
- خزائن كتب المدرسة الأشرفية السلطانية.
- خزائن كتب المدرسة الغادرية.
- ومن الزوايا التي لا تزال بها مكتبة حتى اليوم الزاوية البخارية (النقشبندية).
ب – مكتبات المساجد والجوامع:
على الرغم من انتشار خزائن الكتب في مساجد القدس وجوامعها في العصر الأيوبي والمملوكي والعصر العثماني، إلا أنه يمكن القول إن أهم تلك الخزائن كانت خزائن المسجد الأقصى فقد كان المسجد الأقصى كغيره من المساجد الإسلامية الكبيرة ولا يمكن للمسجد أن يكون مركزاً علمياً دون وجود المخطوطات والكتب والمكتبات.
وقد بدأت خزائن المسجد الأقصى تضم بوجه خاص أمهات الكتب وخاصة القرآن الكريم وكتب الحديث الشريف والتفاسير والفقه وغيرها من الكتب الدينية، ثم تطورت هذه الخزائن مع مرور الزمن لتضم آلاف المخطوطات والكتب في العلوم الأخرى مثل علوم العربية والحساب والمنطق والتاريخ إضافة إلى مؤلفات الذين عملوا في المسجد الأقصى عبر العصور المختلفة.(/4)
وعندما حرر صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس أعاد حال الصخرة المشرفة كما كانت عليه قبل الحروب الصليبية وعين لها إماماً حسن القراءة، ووقف عليها الأوقاف، وحمل إليها مصاحف وختمات وربعات شريفة[9]، وبشكل عام، كانت المصاحف الشريفة أهم الكتب التي كان يقفها السلاطين والأمراء على مكتبات المساجد في القدس. كذلك كان الكثير من العلماء يحرصون على إرسال نسخة من مؤلفاتهم إلى خزائن المسجد الأقصى.
ويقول العسلي[10]: إن خزائن الكتب في الحرم المقدسي الشريف كانت موزعة بين المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وأنه كان في كل منهما خزائن خاصة للكتب، ويدلنا على ذلك أنه كان لكل من المسجد الأقصى وقبة الصخرة خزنة للكتب أو أمناء خاصون. ويذكر السخاوي من هؤلاء شمس الدين محمد بن أحمد بن حبيب الغانمي المقدسي الذي كان خازن الكتب في المسجد الأقصى في أواسط القرن التاسع الهجري. وممن تولى أمانة الكتب في الصخرة المشرفة في القرن الحادي عشر الهجري الشيخ بشير الخليل.
الجدير بالذكر أنه كان هناك مكتبات كثيرة في مساجد فلسطين وجوامعها بشكل عام ومدينة القدس بشكل خاص، ولكن الوثائق والمعلومات الخاصة بهذه المكتبات قليلة ونادرة.
جـ - المكتبات الخاصة:
تشير المصادر المختلفة وخاصة سجلات المحاكم الشرعية في القدس، أنه كان هناك الكثير من المكتبات الخاصة في المدينة المقدسة خلال الفترة المملوكية والعثمانية. ويبدو أن وجود الكتب والمخطوطات في بيوت العلماء ورجال الدين وحتى العامة من الناس كان أمراً شائعاً في تلك الفترة. وقد أشارت المصادر المختلفة إلى أسماء عدد كبير من علماء القدس الذين كانت لهم مكتبات خاصة ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر:
* مكتبة الشيخ برهان الدين بن جماعة خطيب المسجد الأقصى ومدرس المدرسة الصلاحية (1324-1388م)، وكانت مكتبة نفيسة.(/5)
* مكتبة الشيخ أحمد بن بدير القدسي المتوفى سنة 1805م، وكان من علماء القدس الكبار، وقف مكتبته المعروفة باسم مكتبة البديري وكانت تضم ألف مخطوط.
* مكتبة الشيخ أحمد بن محمد الشهير بالموقت، وكان مفتي الحنفية ومدرساً في المسجد الأقصى، توفي سنة 1767م.
* مكتبة حسن بن عبداللطيف الحسيني، مفتي القدس في القرن الثالث عشر الهجري (توفي سنة 1811م)، وكانت مكتبة حافلة حوت كتباً في موضوعات مختلفة من بينها الطب والبيطرة فضلاً عن الموضوعات الدينية والأدبية.
* مكتبة محمد صنع الله الخالدي الذي كان رئيس كتاب المحكمة الشرعية بالقدس، وتوفي سنة 1727م وقد وقفها على أولاده الذكور وأحفاده.
* مكتبة الشيخ إمت خليفة بن إبراهيم، من علماء القرن العاشر، وقد وقف مكتبته على نفسه ثم على أولاده، فإذا انقرضوا آلت الكتب إلى مكتبة المدرسة الأرغونية في القدس.
* مكتبة الشيخ محب الدين محمد بن الدويك قاضي القدس.
* مكتبة الشيخ عبدالله بن النقرزان من علماء القرن العاشر الهجري.
* مكتبة الشيخ محمد أفندي زادة مفتي القدس في القرن الثالث عشر الهجري.
* مكتبة الشيخ عبدالمعطي الخليلي، مفتي الشافعية في القدس، ومن علماء المسجد الأقصى، توفي عام 1741م.
* مكتبة الشيخ محمد بن محمد الخليلي مفتي الشافعية بالقدس ومن شيوخ الطريقة الصوفية القادرية في القدس، وكان مقرها المدرسة البلدية.
* مكتبة الشيخ يحيى شرف الدين بن محمد الشهير بابن قاضي الصلت، إمام المسجد الأقصى المبارك (توفي عام 1630م). وكانت غنية بكتب الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو.
ملاحظات حول مكتبات القدس في الفترة المملوكية والعثمانية:
1 – كان يطلق على مكتبات القدس، كما هو الحال في البلاد العربية والإسلامية، اسم (خزائن)، ذلك أن الكتب الموضوعة في الخزائن كانت تشكل المكتبة. ولم يكن هناك قاعات للقراءة والمطالعة والبحث.(/6)
2 – كانت الخزائن تصنع من الخشب غالباً وكانت لها اقفال ومفاتيح تحفظ بيد خازن الكتب.
3 – كانت الكتب ترتب على رفوف الخزائن فوق بعضها البعض (الصغير فوق الكبير)، بشكل أفقي وليس عمودياً كما هو شائع حالياً بحيث إذا أراد أحدهم استخراج كتاب ما، اضطر إلى تنزيل ما فوقه من الكتب، ويستثنى من ذلك صناديق الربعة الشريفة التي كانت توضع فيها أجزاء القرآن الكريم.
4 – وكانت الكتب ترتب حسب الموضوعات، وكانت المصاحف توضع على رأس هذه الموضوعات، تليها كتب التفاسير، ثم الحديث الشريف والسيرة النبوية، ثم كتب الفقه، ثم كتب الأصول والتوحيد والتصوف والقراءات والفرائض، أي الموضوعات الدينية أولاً، وتليها كتب اللغة والأدب، ثم كتب العلوم والحساب والمنطق والطب، ثم الموضوعات الأخرى. وهكذا كان ترتيب المكتبة[11].
5 – كانت فهارس المكتبات ترتب في مجلد واحد أو أكثر حسب موضوعات المكتبة.
6 – بالنسبة للاستعارة؛ فإن الأصل فيها أن تتم حسب شروط الواقف، وفي أغلب الأحيان كان يسمح بالاستعارة الداخلية للكتب، ولا يسمح بالاستعارة الخارجية وذلك لحفظ الكتب وصيانتها.
7 – كان يعمل في المكتبة أمين المكتبة (أمين الكتب) أو الخازن (خازن الكتب) أو ناظر الوقف أو المتولي، وإلى جانبهم المناولون والمساعدون والنساخ.
8 – كانت صناعة النسخ رائجة وأجورها جيدة، ولذلك كانت الكتب غالية الثمن.
9 – لقد ضاع قسم كبير من كتب هذه الفترة ومخطوطاتها، وتلف قسم آخر، وسرق قسم ثالث أو بيع بأبخس الأثمان، كما تضافرت النكبات والزلازل والجهل والحروب فضاع قسم آخر، يضاف إلى كله ما أخذه الغربيون من كتب ومخطوطات إلى مكتباتهم في أوربا وأمريكا بطرق مختلفة.
مكتبات القدس منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى اليوم:
لقد توالت على مدينة القدس منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى اليوم أربعة عهود مختلفة هي:
1 – القسم الأخير من العهد العثماني الذي انتهى عام 1917م:(/7)
وقد شهدت هذه الفترة ظروفاً متغيرة، فقد تعاظم التغلغل الاستعماري، واتخذ اشكالاً مختلفة (سياسية واقتصادية وثقافية). ومن جهة أخرى قامت في الدولة العثمانية محاولات إصلاح في مختلف المجالات ومنها مجال الثقافة والتعليم. تؤسس في القدس مدارس تابعة للدول لتحل محل المدارس الدينية القديمة.
وفي هذه الفترة من تاريخ القدس أخذت الإرساليات الأجنبية البريطانية والفرنسية والألمانية والروسية وغيرها من الإرساليات تنشئ المدارس في مدينة القدس، كما أخذ علماء الآثار يدرسون آثار فلسطين والقدس وينشئون معاهد أثرية ومكتبات تابعة لهذه المعاهد. وقد دخلت المطابع الحديثة فلسطين لأول مرة في هذه الفترة، فقد أسس الأباء الفرنسيون (الفرنسيسكان) مطبعتهم عام 1847م، وأسس الروم الأرثوذكس مطبعتهم سنة 1851م. كما بدأت الصحف تظهر في مدينة القدس وخاصة بعد الانقلاب العثماني عام 1908م.
وفي هذه المرحلة من تاريخ القدس ازدادت الاتصالات الثقافية بين فلسطين وأوروبا، وظهر أوائل المقدسيين الذين تلقوا العلم في المعاهد الأوروبية ومنهم يوسف ضيا باشا الخالدي، وروحي الخالدي وغيرهم.
وقد كان لمجمل هذه المتغيرات الثقافية في مدينة القدس الأثر الكبير في مجال الكتب والمكتبات. فقد تم فتح مكتبات جديدة من جهة، كما تم إعادة تنظيم المكتبات القديمة من جهة ثانية. ومن أشهر مكتبات هذه الفترة.
- المكتبة الخالدية (1900م).
- مكتبة الجمعية الروسية الأرثوذكسية.
- مكتبة المعهد الإنجيلي الألماني لدراسة آثار فلسطين (1902م).
- مكتبة المعهد الكتابي والآثاري الدومينيكاني (1900م).
- مكتبة المدرسة الأمريكية للأبحاث الشرقية (1901م).
- مكتبة المعهد الكتابي الفرانسيسكاني (1901م).
ومن المكتبات التي أعيد تنظيمها ووضعت فهارس لبعض محتوياتها في هذه الفترة من تاريخ القدس مكتبة البطريركية الأرثوذكسية (دير الروم) التي تأسست عام 1865م، ومكتبة المخلص التي تأسست عام 1558م.(/8)
2 – الحكم البريطاني لمدينة القدس (1917م-1948م):
لقد عمل الحكم البريطاني على قيام الوطن القومي لليهود في فلسطين، ولهذا أعطى الإنجليز شؤون تعليم اليهود إلى الوكالة اليهودية، بينما أبقوا شؤون تعليم الفلسطينيين في أيديهم. وقد قصر الإنجليز تقصيراً شديداً في فتح المدارس في فلسطين وخاصة في القرى والريف، حتى أنه لم يكن في فلسطين قبل نهاية الانتداب البريطاني سوى 3 مدارس ثانوية كاملة هي: دار للمعلمين (الكلية العربية)، ودار للمعلمات، والمدرسة الرشيدية، وجميعها في مدينة القدس.
وقد ظهر التقصير واضحاً في مجال المكتبات المدرسية كما ظهر في سائر مجالات الخدمة المكتبية وخاصة المكتبات العامة. ولم تعط إدارة المعارف أي اهتمام واضح للمكتبات المدرسية. ففي العشرينات ظلت معظم المدارس بدون مكتبات وكانت عملية إنشاء المكتبات المدرسية تسير بشكل بطيء لعدم رصد ميزانية لهذا الغرض. وكانت الكتب تشترى من تبرعات التلاميذ أو من الهدايا التي تقدم من المحسنين. ولم يكن هناك غرف مخصصة للمكتبة في المدرسة؛ بل كانت هناك خزائن لحفظ الكتب، يشرف عليها معلمون حيث لم يكن هناك مكتبيون مدربون، ولهذا غابت الفهرسة والتصنيف عن هذه الكتب.
يقول العسلي: حتى نهاية فترة الانتداب البريطاني كانت المكتبات المدرسية في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية فقيرة، فقد كان متوسط عدد الكتب في المدرسة الابتدائية الكاملة 600 كتاب، وفي المدرسة الثانوية 1200 كتاب وكانت أكبر المكتبات الأكاديمية الرسمية مكتبة الكلية العربية في القدس التي ضمت 7122 كتاباً عام 1946م.
أما المكتبات العامة سواء الحكومية منها أو التابعة لأية جهة أخرى فلم تفتح منها مكتبة واحدة في القدس زمن الانتداب البريطاني، وذلك لحرص سلطات الانتداب البريطاني المتعمد على تجهيل الشعب الفلسطيني.(/9)
ونتيجة لهذا الواقع الصعب للمكتبات في مدينة القدس، فقد حاولت مؤسسات غير رسمية أن تسد جزءاً من الفراغ في هذا المجال وقد نشطت النوادي والجمعيات وكان لبعضها نشاطات ثقافية ومكتبات خاصة ومن أهمها في القدس:
- مكتبة المركز الثقافي الفرنسي (1937م).
- مكتبة المجلس الثقافي البريطاني (1944م).
- مكتبة جمعية الشبان المسيحية (1933م).
وقد أنشئت خلال الانتداب البريطاني على فلسطين مكتبات متخصصة تابعة للدوائر الحكومية مثل:
- مكتبة دائرة الزراعة (1920م).
- مكتبة دائرة المعارف (1920م).
- مكتبة متحف الآثار الفلسطيني (1935م).
- مكتبة دائرة الإحصاءات (1936م).
- مكتبة دار الإذاعة (1936م).
- مكتبة دائرة المطبوعات (1944م).
أما أهم هذه المكتبات الرسمية المتخصصة فقد كانت مكتبة متحف الآثار الفلسطيني في القدس التي تأسست عام 1935م، في العام نفسه الذي تم فيه بناء المتحف الذي أنشئ بتبرع من الثري الأمريكي (جون روكفلر). وتشغل المكتبة جانباً مهماً من المتحف وتتألف من طابقين. يضم الطابق السفلي الكتب المرتبة على رفوف معدنية حديثة، أما الطابق العلوي فيحتوي غرفة للمطالعة ويضم المراجع والدوريات والفهارس. وكانت المكتبة تضم أيام الانتداب البريطاني أكثر من 17 ألف كتاب بلغات مختلفة غالبيتها في مجال التاريخ والآثار، ومن بينها كتب ومخطوطات نادرة أهمها مخطوطات البحر الميت. وكانت المكتبة مصنفة ولها فهارس للمؤلفين والموضوعات. وقد استولت السلطات الإسرائيلية على المكتبة عام 1967م.(/10)
ومن المكتبات المتخصصة التي أنشئت أيام الانتداب البريطاني في القدس: مكتبة غولنبكيان في دير الأرمن (1929م)، ومكتبة الآثار البريطانية (1920م)، ومكتبة الآباء اليسوعيين (1928م). ومن أشهر المكتبات الخاصة في القدس في زمن الانتداب البريطاني: مكتبة حسن صدقي الدجاني (1938م)، مكتبة خليل الخالدي (1941م)، ومكتبة عبدالله مخلص (1947م)، ومكتبة إسعاف النشاشيبي (1948م)، ومكتبة خليل السكاكيني، ومكتبة أحمد سامح الخالدي، ومكتبة إسحق الحسيني، ومكتبة عارف العارف. ومن مكتبات العائلات: مكتبة الخالدية والبديرية وآل الخطيب وآل جار الله وقطينة وأبي السعود والفتياني وغيرها.
3 – مكتبات القدس خلال الحكم الأردني (1948-1967م).
بعد حرب 1948م أصبحت مدينة القدس (الشرقية) والضفة الغربية بشكل عام تحت إشراف الأردن. وقد كانت الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بالمنطقة صعبة للغاية ومع ذلك فقد فتحت المدارس والمؤسسات العامة، وتم تطوير المكتبات ولكن في نطاق ضيق.
وقد ساهم تأسيس قسم المكتبات المدرسية في وزارة التربية والتعليم الأردنية عام 1958م في إدخال بعض التحسينات على مكتبات المدارس من خلال:
أ – تزويدها بالكتب وغيرها من المواد المكتبية.
ب – تنظيم دورات تدريبية للعاملين فيها.
ج – إدخال نظام المكتبات المتنقلة.
وقد كان وضع المكتبات المدرسية الثانوية خلال هذه الفترة أفضل بكثير من وضع المكتبات في المدارس الإعدادية والابتدائية التي كان معظمها بدون غرف خاصة وبدون أمناء مكتبات متفرغين. كما كان الكثير من المدارس الابتدائية في تلك الفترة بدون مكتبات مدرسية.(/11)
أما التطور الجديد في مجال المكتبات والذي حدث خلال هذه الفترة في مدينة القدس فهو تأسيس المكتبة العامة عام 1964م. وتسمى حالياً مكتبة القدس المركزية وتشرف عليها بلدية القدس وفيها أكثر من 50 ألف كتاب، وهي مفهرسة ومصنفة وتقدم الخدمات التقليدية للمكتبات العامة ويعمل بها 4 موظفين.
وفي عام 1963م تم تأسيس جمعية المكتبات الأردنية والتي لعبت دوراً مهماً في تطوير المكتبات والمكتبيين في الضفة الشرقية والغربية من خلال فتح فروع لها في الضفتين ونشر الأدب المكتبي وعقد الدورات التدريبية للعاملين في المكتبات المختلفة[12].
والجدير بالذكر أن في مدينة القدس عدداً كبيراً من المكتبات الخاصة بالأسر والعائلات والتي من أشهرها: المكتبة الفخرية، مكتبة الشيخ خليل الخالدي، مكتبة آل البديري (أسسها محمد أفندي البديري)، مكتبة آل قطيفة، مكتبة آل المؤقت، ومكتبة عبدالله مخلص.
مكتبات الكنائس والأديرة في مدينة القدس:
لقد نشأت أوائل المكتبات المسيحية من خلال جمع مجموعة من الكتابات المسيحية في الكنائس منذ العهد الذي تلا عهد الحواريين، ذلك أن رغبة أوائل المسيحيين في جمع أقوال السيد المسيح وأقوال الحواريين، ورسائل الرسل وأوائل الأناجيل وحفظها في مكان أمين وتعليمها للأجيال اللاحقة، كل ذلك أدى إلى تأسيس مكتبات ألحقت بالكنائس فقد أسس الأسقف إسكندر مكتبة مهمة في القدس قبل سنة 250م. وفي الوقت نفسه أسس زوريجين وبامفيلوس مكتبة مهمة في قيسارية في فلسطين[13].
وتنتشر المكتبات في كنائس مدينة القدس وأديرتها بشكل واسع هذه الأيام وقد قامت كوسا وزميلتها روك[14] برصد مكتبات الكنائس والأديرة التي يزيد عدد مجموعتها عن 3 آلاف مجلد على النحو التالي:
1 – مكتبة جولبينكيان في دير الأرمن (دير مار يعقوب) (1929م).
2 – مكتبة المجمع العلمي الأثري البروتستانتي (1890م).
3 – مكتبة معهد الطنطور للدراسات اللاهوتية (1971م).(/12)
4 – مكتبة الفرنسيسكان في دير اللاتين (1561م).
5 – مكتبة كنيسة القدسية آن (1882م).
6 – مكتبة البعثة البابوية (1960م).
7 – مكتبة بطريركية اللاتين (1848م).
8 – مكتبة Studium Biblicum Fransiscanum (1927م).
9 – مكتبة بطريركية الروم الأرثوذكس (1800م).
10 – مكتبة بطريركية الروم الكاثوليك (1890م).
11 – مكتبة القديس المخلص في دير اللاتين (دير الإفرنج) (1558م).
الانتهاكات الإسرائيلية للكتب والمكتبات في مدينة القدس (1967م – حتى الآن):
عندما احتلت القوات الإسرائيلية مدينة القدس عام 1967م، كان فيها 50 مكتبة مختلفة تضم أكثر من 100 ألف كتاب، وأكثر من 500 ألف وثيقة ومخطوط وسجل[15]، ومنذ ذلك العام (1967م) والقدس تتعرض إلى إجراءات وانتهاكات إسرائيلية بالغة الخطورة هدفها الرئيسي تهويد القدس. ومن مظاهر الانتهاكات الإسرائيلية في مجال الكتب والمكتبات كما رصدها البديري[16]:
1 – مصادرة مكتبة القدس العامة، حيث قامت السلطات الإسرائيلية مباشرة بعد الاحتلال بمصادرة هذه المكتبة بكل محتوياتها من الكتب والدوريات، ونقلت ملكيتها وإداراتها من بلدية القدس العربية إلى ما يسمى ببلدية القدس الموحدة. كما قامت في الوقت نفسه بمصادرة عدد من الكتب والدوريات الموجودة في المكتبة واعتبرتها ممنوعة ونقلتها إلى مكان مجهول. كما حددت نوعية الكتب والدوريات المسموح بإدخالها إلى هذه المكتبة.
2 – حظرت سلطات الاحتلال استيراد العديد من الكتب وتوزيعها ومنعت تداولها في أسواق ومكتبات القدس، ولم يقتصر الحظر على الكتب السياسية والكتب الخاصة بفلسطين والقضية الفلسطينية، بل امتد ليشمل بعض كتب التاريخ والتراجم والأدب وخاصة الشعر.(/13)
3 – فرضت سلطات الاحتلال رقابة صارمة على طباعة الكتب العربية ونشرها في القدس حيث أصدرت أوامر عسكرية بضرورة مرور أي مطبوع على دائرة الرقيب العسكري الإسرائيلي للاطلاع واتخاذ قرار بشأن السماح بالنشر، وقد أدى ذلك إلى انخفاض كبير وملموس في حركة التأليف والنشر في مدينة القدس التي تراجعت إلى الوراء.
4 – منع المكتبات في القدس الشرقية (العربية) من اقتناء كل ما تقتنيه المكتبات في القدس الغربية وتداوله. على سبيل المثال كانت الكتب الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومركز الأبحاث الفلسطيني موجودة في مكتبات الجامعات والمعاهد الإسرائيلية، ولكنها منعت في مكتبات القدس العربية.
5 – قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإغلاق العديد من المؤسسات الثقافية في القدس العربية. فقد قامت بإغلاق جمعية الدراسات العربية لمدة 4 سنوات ومصادرة العديد من الكتب والوثائق، مما أدى إلى إلحاق أضرار بالغة في مكتبة الجمعية وأرشيفها. كما تم إغلاق اتحاد الكتاب وغيره من المؤسسات الثقافية.
6 – فرض الرقابة الصارمة على الصحف والدوريات الصادرة في القدس بدعوى الحفاظ على أمن الدولة، حيث ألزمت سلطات الاحتلال جميع الصحف والمجلات بضرورة إرسال كافة موادها إلى الرقيب العسكري. وقد عانت صحف القدس من هذه الإجراءات كثيراً، فقد كانت عملية الشطب والحذف تصل أحياناً إلى نصف حجم الصحيفة.(/14)
7 – سحب تراخيص وإغلاق مؤقت ومنع توزيع العديد من الصحف والمجلات الصادرة في القدس وإغلاقها مؤقتاً ومنع توزيعها بدعوى أنها تشكل خطراً على الأمن الإسرائيلي. فقد سحبت سلطات الاحتلال تراخيص سبع صحف عربية منها على سبيل المثال: الشراع، والعهد، والوحدة، والدرب، والميثاق. كما قامت سلطات الاحتلال أحياناً كثيرة بمصادرة أعداد كاملة من الصحف والمجلات المطبوعة والمعدة للتوزيع إما من داخل المطابع ومراكز التوزيع، أو عند مداخل مدينة القدس. كما منعت سلطات الاحتلال في أحيان كثيرة خروج الصحف والمجلات من مدينة القدس إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
8 – الاستيلاء على وثائق وأوراق ومستندات وسجلات المحكمة الشرعية بالقدس وأوراقها ومستنداتها وسجلاتها، وتحتوي هذه المحكمة على وثائق ومعلومات على جانب كبير من الأهمية لأنها تخص حياة المسلمين في القدس منذ عام 1517م.
9 – اتباع سياسة الاعتقال والإبعاد وفرض الإقامة الجبرية ومنع السفر بحق العشرات من الكتاب والصحفيين والباحثين والأدباء والفنانين والمثقفين من أبناء القدس وخاصة الذين نشطوا في الدفاع عن عروبة المدينة المقدسة.
10 – إغلاق القدس ومنع الدخول إليها وعزلها عن الضفة الغربية وقطاع غزة، مما أدى إلى حرمان أساتذة الجامعات والباحثين والدارسين والطلبة من الوصول إلى مراكز الأبحاث والمكتبات في المدينة للاستفادة من الكتب والمراجع الموجودة فيها.
ويقول العسلي[17] في مجال الانتهاكات الإسرائيلية للكتب والمكتبات في مدينة القدس:
* هناك مكتبات دمرت جزئياً أو كلياً من جراء العمليات العسكرية، ومن تلك المكتبات مكتبة عبدالله مخلص التي خبأها في دير القربان في القدس، فدمرت عندما نسف الإسرائيليون الدير، وضاعت تحت الأنقاض (ويقال إن الإسرائيليين نهبوها قبل النسف).(/15)
* منع استيراد الكتب ومنع تداولها في المكتبات ونشرها. وقد شمل هذا الإجراء (5410) كتاب منع تداولها منذ عام 1967م وحتى مطلع 1985م وتأتي في مقدمة هذه الكتب تلك التي تتحدث عن الإسلام والقضايا العربية والقضية الفلسطينية. وتهدف سلطات الاحتلال من وراء ذلك إلى محاربة الوعي القومي وقطع الصلة بين المواطن العربي الفلسطيني وتراثه وتاريخه.
* إحراق محتويات مخازن شركة التوزيع الأردنية في القدس عام 1983م.
* بسبب القيود الشديدة المفروضة على النشر فقد تقلص عدد دور النشر في الضفة الغربية من 23 داراً إلى 4 دور، ثلاث منها في مدينة القدس.
* لم تسمح سلطات الاحتلال بإنشاء مكتبات عامة في القدس.
وفي بحث حول الانتهاكات الإسرائيلية للكتاب والمكتبات في فلسطين من واقع الأوامر العسكرية الإسرائيلية يقول طوقان[18] مدير مكتبة بلدية نابلس العامة ورئيس جمعية المكتبات والمعلومات الفلسطينية: دأبت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967م على فرض قيود صارمة على الحياة الثقافية والفكرية في فلسطين... حيث عمدت إلى مراقبة حاجات القادمين والمغادرين الشخصية وخاصة الكتب التي كانوا يحملونها، حيث كانت تصادر العديد من هذه الكتب بذريعة الأمن.(/16)
وقد لعبت هذه القيود دوراً مركزياً في إعاقة نمو المكتبات العامة والمدرسية التي ألزمت بالقوة على سحب الكتب الممنوعة من على رفوفها وتسليمها إلى الإدارة العسكرية. كل ذلك أوجد فراغاً كبيراً في الحياة الثقافية وأسهم في عزلها عن العالم الخارجي. وقد بلغ عدد الكتب التي تمت مصادرها من المواطنين بين عامي 1967-1990م وتعود ملكيتها إلى مكتبة بلدية نابلس العامة (6500) كتاباً. وقد حاول الباحث استعراض بعض النماذج من الكتب الممنوعة ليجد أن الأسباب واهية مثل استخدام كلمة فلسطين على الخارطة بدل إسرائيل، أو ورود كلمة الكيان الصهيوني في الكتاب، أو عبارة في ديوان شعر أو رواية تشير إلى ممارسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، أو منع كتب مؤلف معين مثل محمود درويش وغيره.
الجدير بالذكر أنه مع كل هذه الممارسات الإسرائيلية ضد المكتبات في المدينة المقدسة، فقد تم إنشاء العديد منها في مرحلة الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين في مدينة القدس أو ضواحيها ومن أشهر هذه المكتبات[19]:
- مكتبة جمعية الدراسات العربية (1980م).
- مكتبة قسم إحياء التراث الإسلامي (1983م).
- مكتبة جامعة القدس (1984م) وتضم:
1 – مكتبة كلية الدعوة وأصول الدين.
2 – مكتبة كلية العلوم والتكنولوجيا.
3 – مكتبة كلية الآداب المختلطة.
- مكتبة مركز مصادر الطفولة المبكرة (1985م).
- مكتبة المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف (1985م).
- مكتبة مركز الأبحاث الإسلامية (1986م).
- مكتبة الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية (1987م).
- مكتبة مركز الدراسات النسوية (1989م).
- مكتبة مركز العمل التنموي (معاً) (1989م).
- مكتبة المركز الفلسطيني لتعميم المعلومات البديلة بانوراما (1992م).
- مكتبة مركز الأرشيف الفلسطيني (1999م).(/17)
وبشكل عام تواجه المكتبات في مدينة القدس مجموعة من المشكلات التقليدية التي تواجه المكتبات في معظم المدن العربية والإسلامية والتي تتلخص في النقاط التالية:
1 – الفقر في المقتنيات والمصادر في شكلها التقليدي (المواد المطبوعة) بشكل عام وفي شكلها غير التقليدي (المواد السمعية والبصرية والمصغرات الفيلمية والمصادر الإلكترونية) بشكل خاص.
2 – الغياب الواضح للكادر البشري المتخصص والمدرب والمؤهل في علوم المكتبات والتوثيق والمعلومات.
3 – فقر الميزانية والمخصصات المالية وغياب الدعم المادي المناسب.
4 – غياب التنسيق والتعاون والقواعد والنظم والتشريعات والمعايير المكتبية.
5 – ضيق المباني المخصصة للمكتبات والنقص الواضح في الأثاث والأجهزة اللازمة.
6 – غياب تكنولوجيا المعلومات المتطورة عن معظم هذه المكتبات.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: ربحي مصطفى عليان. المكتبات في الحضارة الإسلامية. عمان: دار صفاء، 1999م.
[2] كامل العسلي: المكتبات في فلسطين. الموسوعة الفلسطينية: القسم الثاني: بيروت: الموسوعة، 1990م – مجلد3، ص284.
[3] يعتقد الباحث أن هذا التعميم ينطبق على المكتبات العربية الإسلامية فقط، حيث ظهرت المكتبات في كنائس القدس وأديرتها منذ بداية العصر الروماني.
[4] ابن الفقيه، أحمد بن إسحق بن إبراهيم الهمذاني. كتاب البلدان، ص100.
[5] ابن عبد ربه. العقد الفريد. – ج3، ص61.
[6] فيليب دي طرازي. خزائن الكتب العربية في الخافقين. مجلد3، ص103.
[7] كامل العسلي. مصدر سابق، ص285.
[8] المصدر نفسه، ص286.
[9] مجير الدين الحنبلي. الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل. – ج1، ص339.
[10] كامل العسلي. مصدر سابق، ص288.
[11] المصدر نفسه. ص291.
[12] انظر: الأعداد المختلفة لمجلة (رسالة المكتبة) التي تصدرها فصلياً عن جمعية المكتبات الأردنية منذ عام 1965م.(/18)
[13] محمد ماهر حمادة. المكتبات في العالم: تاريخها وتطورها. الرياض: دار العلوم، 1981م، ص91.
[14] فيراكوسا وفاليزي روك. مكتبات الأديرة في منطقتي القدس وبيت لحم. – رسالة المكتبة. – مج29، ع3 (أيلول 1994م). – ص65 – 93.
[15] إسحق البديري. القدس بين التاريخ والسياسة والثقافة. ورقة بحث قدمت في المؤتمر الحادي عشر للاتحاد العربي للمكتبات والمعلومات. – القاهرة: 12-16/8/2000م، ص8.
[16] السابق، ص17-20.
[17] كامل العسلي. مصدر سابق، ص196-297.
[18] علي محمد واصف طوقان. الانتهاكات الإسرائيلية للكتاب والمكتبات في فلسطين من واقع الأوامر العسكرية. اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة مؤتمر إفلا، 2000م.
[19] دليل مراكز البحث الفلسطينية. – القدس: جمعية الدراسات العربية، 1994م.(/19)
العنوان: المنازعات في القطعيات؛ الحجاب، مثالاً
رقم المقالة: 850
صاحب المقالة: د. أسامة عثمان
-----------------------------------------
ليس بدعاً في الناس أن لا يجمعوا على شيء، حتى على الحق الأبلج؛ دين البشرية كافة، وخاتمة الرسالات؛ فالاختيار أخْلَقُ بالثواب والعقاب. ومن جهة أخرى، لا يستغرب اختلاف أهل العلم في الأحكام الظنية؛ لأسباب ليس هذا مقام ذكرها، ولكن المستنكر شرعاً، وعند العقلاء؛ أن يجترئ على أحكام الإسلام القطعية غيرُ المؤهلين؛ فيصادروا... ويفتئتوا...؛ لينزعوا عن تلك المحكمات قطعيّتها، وليجعلوها في مهب الريح، تختلف فيها وجهات النظر، ولا يُلزَم بها المسلمُ؛ فإن شاء اختارها، وإن شاء ردّها!
ذكر المفسرون في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَْلْبَابِ} [آل عمران:7] أنّ المحكمات هي الآيات الواضحةُ الدلالةِ البعيدةُ عن الاحتمال، وأما المتشابه، فهي عكس المحكم. وأن الهداية تكون بحمل المتشابه على المحكم، وردّها إليه، وأما من في قلوبهم مرض فيردون المحكم إلى المتشابه، ويفسرونه على حسب أهوائهم؛ لفتنة الناس في دينهم، وإيهاماً للأتْباع بأنهم يبتغون تفسير كلام الله.
وأجد هذا المعنى منطبقاً - إلى حد بعيد - على ظاهرة تنامت منذ فترة، تتمثل بمحاولات متكررة، تستهدف اختلاق التنازع حول قطعيات الدين، ومحاولة نقلها إلى دائرة الاختلاف والظن؛ لتوهينها، وبلبلة الأذهان فيها؛ ليفضي ذلك إلى عدم التمسك بها، أو الدفاع عنها.(/1)
ولعل أخطر ما في هذا الأمر أن ينزلق المسلمون، أو يُستدرجوا إلى نقاش فقهي؛ يحاولون فيه إثبات الثابت! وهو الذي لم يتطرق إليه خلافٌ فقهي على تتابع القرون، وتعاقب الفقهاء والعلماء بالنظر في النصوص والتنقيب فيها!
وإنما يجب أن تُبحَث هذه المسائلُ على صعيدها الصحيح، وهو: السياسي، وفي أحسن الأحوال: الفكري؛ لأن المثيرين لها ليسوا علماء أو فقهاء - حتى يصحَّ لهم النظرُ، أو يُقبل منهم القول، أو يُتوجه إليهم بالرد - إنما هم مفكرون مصابون بالانبهار بالثقافة الغربية، وهم بذلك - أرادوا، أم لم يريدوا - صدى لثقافةٍ غير ثقافتنا.
ونحن الآن في هذه الزاوية، لا نطمح إلى ردهم عن تلك التصورات الخاطئة، ولكن نرجو منهم خطاباً صريحاً منسجماً وموحَّدَ المنطلقات؛ حتى يتسنى لنا حسن التعامل معه، فإما أن يكون علمانياً، لا يقيم لغيرها وزناً، وهذا شأن، أو يكون إسلامياً يقبل منطلقات الإسلام مرجعيةً بيننا وحَكَماً، وهذا التحديد مهم لمصلحة النقاش المثمر، ولمصلحة الحقيقة. أقول هذا؛ لأنهم في إصدارهم للأحكام والمواقف يبدون مذبذبين؛ بين اعتماد الإسلام مرجعيةً، والزعم بأن المسلمين لا يحسنون فهمه، وبين إقصاء الإسلام بحصره في زوايا تسمح لهم بأن يتفردوا بالحياة بأهوائهم ومرجعياتهم الخاصة.(/2)
والعجيب أنك لو سألت القائلين بظنية تلك القطعيات: هل ترون في الإسلام أية قطعيات؟ لأجابوك بكلام غائم؛ من مثل: أن الأمور نسبيةٌ، وأنه لا يوجد حق مطلق، وأن الأحكام عرضةٌ للتطور! وأحياناً يفصحون فيقولون: إن هذا أمرٌ شخصيٌ يعود للإنسان نفسه، وبعضهم يرى أ ن هذه الأمور الدينية لا ينبغي أن يسمح لها بالظهور في الحياة العامة؛ حتى لا تؤثر على هُوية المجتمع العلمانية. والسؤال: إذا كان الأمرُ علمانية، ولا قيمة فيه للأحكام الدينية؛ فما جدوى التفريق بين القطعي منها والظني ؟ّ! أم أنهم - وهم يرون انحسار الفكر العلماني لصالح الإسلامي، ولله الحمد والمنة - يُضطَرون لمخاطبة المسلمين؛ لمحاولة التلبيس عليهم، بأن هذا الحكم أو ذاك ليس قطعياً، ولا ثابتاً، بل هي مجرد تفسيرات لبعض المأثورات، ولا يجوز أن تلزم...
وأتناول مثالاً على هذا، مسألة (الحجاب) التي ما زالت، ومنذ فترة، تتفاعل، على مستويات ثقافية وسياسية..
ولا بد في البدء من ملحوظة، وهي: أن المقصود من هذه الهجمة والضجة ليس الحجاب فحسب - حتى لا ينزعج البعض ممن يقول بأن الحجاب ليس أهم قضايانا - أقول: إن المقصود ليس الحجاب - على أهميته، بحد ذاته - وإنما هو بوصفه حكماً ثابتاً، وموضع اعتزاز لتمسك الفتاة والمرأة المسلمة بدينها، إنه بهذه الصفة يمثل حصناً قوياً جرى استهدافه للنفاذ إلى ما وراءه من قيم أخرى ثابتة.
وليتبين القارئ الكريم الفكرة الجوهرية في هذا المقال - وهي التلاعب بالقطعي والبلبلة المقصودة فيه، مع عدم الاكتراث بالدين أصلاً؛ قطعيّه وظنيّه - أضرب لذلك، مثالاً، مقالاً، نشر على "الحياة اللندنية"، بعنوان: (حجابٌ على الرأس؟ أم حجاب على العقل؟!) وهو يحمل مضامين فكرية، وليس مجرد موقف عابر.. مقالٌ، يجانب كاتبُه الموضوعيةَ، وينحاز لآرائه الجاهزة المبيتة، فيخلص في نهاية كلامه إلى أن الحجاب "حجابٌ على العقل"!(/3)
1- يقررالكاتب - منذ البداية - أن الحجاب ليس مقطوعاً بفرضيته:
"مهما تعددت الآراء التي تَتّصل بظاهرة فرض الحجاب على المرأة المسلمة، فمن الممكن أن يقال عنها: إنّها جميعاً مجرّدُ تأويلاتٍ! وهي، بوصفها كذلك، لا تُلْزِمُ أحداً غيرَ أصحابها. فليس هناك نَصٌّ قاطعٌ يفرض الحجابَ وفقاً لما يُريد الأصوليون الدينيون. هناك تفسيرٌ لبعض المأثورات. لكن، هل يصحّ، دينيّاً، أن يرتفعَ تَفسيرُ المأثور إلى مرتبة التشريع أو القانون؟ في كلّ حالٍ، تبقى مسألةُ الحجابِ خِلافيّةً . "
وفرضيةُ الحجاب لا تحتاج إلى استفاضة عند أي قارىء للنصوص الشرعية، وليس من المناسب أن يتصدى له الكاتبُ وأمثالُه، ممن لا يدّعون علماً بالفقه وأصوله، ولا يدرجون أنفسهم في أهل الاختصاص، وهذا الافتئات على الفقه والفقهاء ، قديمِهم ومعاصرِهم، غيرُ مناسب في حق كاتب مثقف يدرك حدوده، ولا يتعداها .
2- والكاتب يبدو غيرَ جادٍ، ولا واقفاً عند رأيه السابق، وما يؤكد عدم حاجته لنقاش فكرته السابقة رؤيتُه التالية؛ إذ يرى أن الهوية العامة لمجتمعات المسلمين هي العلمانية التي يجب المحافظة عليها:
"الجامع هو – وحده - المكان الذي يتميّز فيه المسلم، مفصحاً عن (هويته) الدينية، في الغرب، (وهذا ما ينبغي أن يكون في البلدان العربية كذلك).
هو المكان الوحيد الذي يمارس فيه حقوقه الدينية كاملة. كل ممارسة خارجه، اجتماعية أو عامة، إنما هي عدوانٌ على القيم المشتركة. المؤسَّسة، وبخاصة التربوية، المدرسة والجامعة، مكانٌ مدنيٌّ عامٌّ ومشترك".
وهو بذلك يصرح برأيه الحقيقي: أن الحجاب، حتى لو ثبتت فرضيتُه بالقطع؛ فلا يجوز أن يظهر في الحياة العامة، فأين تلبس المرأةُ الحجابَ إذن؟! إذا لم يسمح لها بارتدائه في الحياة العامة؟!
3- وهو يدعو إلى وضع الحجاب تحت التصويت والخيار الديموقراطي:
"ولو وضع الحجابُ موضع اختيارٍ ديموقراطيّ لسقَطَ سقوطاً كاملاً" .(/4)
وهذا يعني تحكيم الديموقراطية في أحكام الإسلام، فما أقرته الديموقراطية يقبل، وما لم ترتضيه يرفض! وهذا إذا صحَّ أن ينطبق على دين غير الإسلام؛ فإنه لا ينطبق على الإسلام بحال؛ لأنه غير قابل للاحتواء والهيمنة، بل هو المهيمنُ - بالحق - على كل الأديان والمبادىء.
وهذا يتناقض وأصل مهم من أصول الدين، وهو توحيد الألوهية، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[يوسف:40].
وهو حين يزعم أنه لو وُضع الحجابُ تحت الخيار الديموقراطي لسقط سقوطا كاملاً؛ إنما يعبر عن أحلامه، وأمنياته التي تنفع فيها "ليت"، ولا تصلح لها "لعل"؛ لأن المسلِماتِ اللاتي يخترْنَ الحجابَ ويُصررْنَ عليه؛ لا يفعلن ذلك في مجتمعات محكومة بالإسلام وقوانينه، حتى نقول باحتمال الجبر والإكراه، بل يفعلنه في كل البلاد، حتى تلك الموغلة في علمانيتها، وهو ما يعرضهن للاضطهاد والتمييز في الحصول على العمل وغيره، وبالرغم من ذلك لا يردهن شىء عن قناعاتهن بالحجاب.
4 - وأخيراً، يُعوِز الكاتبَ الصبرُ، ويدفعه الاندفاعُ برأيه الجاهز إلى القول بأن الحجاب هو حجاب للعقل! وإني لأعجبُ، كما يعجب كلُ باحث منصف، بل كل عاقل مبصر؛ كيف يستخف الكاتب بوعي الناس، ويلقي إليهم الأحكام جزافا؟! ثم لا يأتي بأي شاهد من الواقع - الذي يصادمه - على شططه في الحكم؛ فلمْ يفسر لنا الكاتبُ كيف يمكن أن يكون حجاب الرأس حاجبا للعقل؟ وما العلاقة المنطقية بينهما؟ ولا سيما أنهم يعممون هذا الحكم المجحف حتى على المتحجبات بمحض الرغبة والإيمان، وكيف يفسِّر تقدمَ المرأة المتحجبة - حينما تعطى الفرصة – وإيجابيتَها، ومشاركاتِها الملموسة، في المجتمعات الغربية والعربية على السواء؟!(/5)
5 - وفي دوافع هذه الحملة على الحجاب - ولا سيما في الغرب، وفي فرنسا – أقول: إن للأمر أسباباً تتعلق برغبة تلك المجتمعات بدمج المسلمين، وتذويب ملامحهم الخاصة؛ ولو كانت من ثوابت دينهم، وفروضه التي لا تقبل المساومة، ولا تتأثر بالمكان، أو تتبدل بالزمان. ففرنسا مثلاً، تعاني انخفاضاً في نسبة النمو السكاني؛ لا يعانيه المسلمون هناك، والساسة الذين كانوا وراء ذاك القانون المجحف لا يريدون لمجتمعاتهم أن يشوبها ملمح آخر، ولو على المستوى الفردي الذي تكفله الحريات الشخصية، وقد لمّح الكاتب إلى هذا الخطر:
"إن عليهم أن يدركوا أن مثل هذا التمسك يتخطّى الانتهاكَ، إلى نوعٍ من السلوك يُتيح لكثيرٍ من الغربيين أن يروا فيه شَكْلاً آخرَ مِن أشكالِ (الغزو)".
وهم بهذا التقنين الخانق يأملون أحد أمرين؛ إما التنازل عن الحجاب، تحت طائلة القانون والتلويح بالحرمان من الحقوق، بما يعنيه ذلك من انهزام نفسي للمسلم، يمهد بدوره لانهزامات وانهيارات في ثوابت أخرى، حتى لا يبقى من دينهم إلا الانتساب إليه، وهو غير مضمون، بعد..
والخيار الآخر هو الرحيل عن تلك البلدان التي استوطنوها - والمفترض أنه متساوون وغيرهم من مواطنيها - بما يعنيه ذلك من صعوبات واقعية، وإشكالات للأسرة والأبناء.(/6)
وبعد؛ فهذا نمط من التناول الموجّه لقضايا مهمة في الدين؛ يغيّي - بكل الوسائل - محوَ شخصيةِ الأمة، وهويتَها، ومنظومتها الفكرية، بهزّ الثوابت والمسلَّمات، وتعريضها للزعزعة؛ بِطَرَقات وموجات متتابعة، ومدروسة، فمرة الحجاب، ومرة تولّي المرأة الولاية العامة، ومرة جواز زواج المرأة المسلمة من غير المسلم.. وغير ذلك من مسائل قد تبدو للبعض أنها سهلة، أو آراء متفرقة، لكنها تبدو خطيرة؛ حين توضع في سياقها، وتقرن بتصريحات الساسة والمفكرين الغربيين: بضرورة تغيير المناهج، وعدم تحكيم الشريعة، وإقصاء الجهاد! حتى وصل بهم الأمر إلى وضع كتاب بديل عن القرآن الكريم، أسموه (الفرقان الحق)!!!(/7)
العنوان: المناطق الفلسطينية قتل وتشريد وتسميم
رقم المقالة: 592
صاحب المقالة: د. يوسف كامل إبراهيم
-----------------------------------------
الأرض هي الهدف
لم يكتف الكيان الصهيوني بممارسة القتل والتشريد والتهجير لأبناء الشعب الفلسطيني، وذلك لدفعهم لترك أراضيهم، وترك فلسطين، والهجرة إلى خارجها، وتنطبق هذه السياسة على كافة القرى، والمدن الفلسطينية، على كل ربوع فلسطين المحتلة، ولم يكتف العدو الصهيوني بهذه الممارسات عندما وجد الفلسطينيين يتمسكون بأرضهم، ويتجذرون بها، ويموتون دفاعا عنها، فاتجه الكيان الصهيوني إلى تسميم هذه الأرض وتعريض حياة السكان وثرواتهم الحيوانية ومزروعاتهم للخطورة الشديدة من خلال دفنه للنفايات النووية والمواد المشعة والمواد الكيميائية داخل الأراضي الفلسطينية وتحويل الكثير من مجاري المياه العادمة (صرف الصناعات) التي تخرجها المستوطنات إلى الأراضي الفلسطينية مما ساهم وساعد على انتشار الأمراض والأوبئة وحالات السرطان بين السكان الفلسطينيين، ومن أهم أشكال الممارسات الصهيونية تجاه الأرض الفلسطينية:-
• الاستمرار في بناء جدار الفصل العنصري بما له من تأثيرات بيئية ضارة متعددة ومتنوعة ومصادرة الأراضي الفلسطينية.
• إقامة أكثر من 600 حاجز على طول الطرق الرئيسة في الضفة الغربية وذلك لتقييد حركة الفلسطينيين، وعدم التواصل بين المدن والقرى الفلسطينية، وتقييد حركة المواطنين، وإجبارهم على سلوك طرق ومسالك بديلة ترابية ووعرة وغير مؤهلة.
• الهيمنة والسيطرة على المصادر الطبيعية واستنزافها وخاصة مصادر المياه منها.
• تجريف الأراضي الزراعية واقتلاع الأشجار واجتثاث الغابات والمناطق الحرجية.
• تدمير البنية التحتية؛ من شبكات المياه، الاتصال، والكهرباء، وقنوات الصرف الصحي، والطرق العامة.
• بناء وتوسيع المستوطنات وشق الطرق الالتفافية والاستيطانية.(/1)
• توجيه المياه العادمة (صرف الصناعات) المتدفقة من المستعمرات باتجاه القرى الفلسطينية
• تدمير وهدم البيوت والمنشآت الاقتصادية
الانتفاضة والأسلحة السامة:
فقد أكد تقرير خاص أصدرته وزارة البيئة الفلسطينية ((أن أكثر من 1500 جريح فلسطيني عولجوا في مستشفيات الدول العربية والأجنبية كانت إصاباتهم بتهشم وتمزق في مختلف أنحاء الجسم برصاص ذو قدرة عالية على الاختراق والتفجير نتيجة احتواء الرصاص الدمدم والقذائف الإسرائيلية على مادة اليورانيوم المنضب)).
وأوضح التقرير أن ((مادة اليورانيوم المنضب المستخدمة في القذائف تسبب تلوثا خطيرا أثناء التنفس وتؤثر على الماء والهواء والطعام والأراضي الزراعية في المناطق الفلسطينية إضافة إلى التشوهات الجينية والأمراض السرطانية مثل التي ظهرت في العراق إبان حرب الخليج)).
ولهذه الأسلحة تأثير فتاك حيث أدى استخدام مثل هذه الأسلحة إلى تحطيم عظام المصابين الفلسطينيين الذين أصيبوا بها، حيث تعمل على تفتيت العظام بشكل كامل وبدرجة يصعب معها معالجتها، ويضطر الطبيب المعالج إلى بتر أطراف معظم الذين تعرضوا لهذه الذخائر.
كما أن الحروق التي أصيب بها الجرحى تعطي دلائل على استخدام اليورانيوم المنضب في عمليات القمع التي مارسها جيش الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين كما أن لها مقدرة على تفجير الدماغ بشكل كامل وبشكل لم يسبق له مثيل.
ولم يظهر مثل هذا النوع من الإصابات في الانتفاضة السابقة بل إن الإصابات التي تنتج عن اليورانيوم المنضب ظهرت فقط في انتفاضة الأقصى.
وناشدت وزارة البيئة المجتمع الدولي ((تشكيل لجنة تحقيق دولية للتحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية للبيئة الفلسطينية بالأسلحة النووية)) مشيرا إلى امتلاك إسرائيل العديد من المفاعلات والأسلحة النووية المختلفة التي ترفض فرض رقابة عليها.(/2)
ودعت إلى ((إدانة إسرائيل وتحميلها مسؤولية تلويث المناطق الفلسطينية بالمواد الإشعاعية وشنها حرب إبادة جماعية باستخدام أسلحة محرمة دوليا ومطالبتها بوقف استعمال هذه الأسلحة الفتاكة)).
وطالبت الوزارة بتحميل إسرائيل ((مسؤولية هذه الجرائم وإلزامها بتعويض عائلات جميع الشهداء والجرحى وما قد يلحق الجرحى من أضرار مستقبلية من تلك الإشعاعات)).
كما طالبت ((بضرورة توفير معدات وتجهيزات رصد الإشعاعات النووية المختلفة، حتى تستطيع السلطة الفلسطينية فضح أي شكل من أشكال التعدي الإسرائيلي على البيئة الفلسطينية؛ كاستعمال أسلحة نووية، أو دفن النفايات النووية في الأراضي الفلسطينية، أو تسويق منتجات ملوثة إشعاعيا)).
المستعمرات الإسرائيلية ودفن السموم في الأراضي الفلسطينية:
بالرغم من التعتيم على نوعية الصناعات الإسرائيلية، ونشاطاتها، وكميات إنتاجها، ومخلفاتها، في المناطق الفلسطينية، فإن التقديرات تشير إلى وجود نحو 250 مصنع إسرائيلي في الضفة الغربية وحدها، معظمها صناعات شديدة التلويث للبيئة وللصحة العامة، مثل الألمنيوم، الأسمنت، المعلبات الغذائية، الفيبرجلاس، المطاط، الكحول، السيراميك، الرخام، مواد تنظيف كيماوية، الدهان، تشكيل المعادن، طلي المعادن، صناعة البطاريات، صناعات المبيدات والأسمدة الكيماوية، الغازات، الصناعات البلاستيكية، دباغة الجلود، صباغة النسيج، مصانع ذات طابع عسكري سري وغيرها. وتحوي النفايات الناتجة عن هذه الصناعات عناصر سامة كالألومينيوم والكروم والرصاص والخارصين والنيكل. وغاليا ما يتم إلقاء ودفن النفايات الصناعية الصلبة الناتجة عن تلك المجمعات الصناعية في المناطق المجاورة والمحيطة بالقرى الفلسطينية. وبشكل عام، هناك شح في المعلومات المتعلقة بكميات إنتاج تلك الصناعات وحجم القوة العاملة فيها والنفايات التي تخلفها.
مخازن للسلاح النووي في محيط قرى فلسطينية:(/3)
كشفت منظمة حماية البيئة، "السلام الأخضر"، وهي منظمة عالمية مستقلة تعنى بشؤون البيئة، النقاب عن وجود منشأة صهيونية للأسلحة النووية بالقرب من قرية "عيلبون" الفلسطينية، شمال فلسطين المحتلة سنة 1948.
وقالت المنظمة، في مؤتمر صحفي لممثلين عنها، إنه بالإضافة إلى المنشأتين والقاعدتين النوويتين الموجودتين في كل من ديمونا وسوريك، يمتلك الكيان الصهيوني عدة قواعد ومنشآت ومخازن للسلاح النووي في عدة مواقع داخل فلسطين المحتلة سنة 1948، أبرزها مخزن للسلاح النووي بالقرب من قرية عيلبون وقاعدة بالقرب من مدينة حيفا، والعديد من المخازن الموجودة بالقرب من تجمعات سكنية عربية، بحيث لا يمكن معرفة مضمون هذه المخازن وأنواع الأسلحة التي داخلها.
وحذرت المنظمة، التي تم إنشاؤها في سنة 1971 في كندا، من مغبة وقوع انفجارات في هذه المواقع، وتحديداً في الفرن الذري في ديمونا (الذي انتهى عمره الافتراضي)، الأمر الذي من شأنه أن يحل بكارثة على المنطقة بأسرها، مما يؤدي إلى وصول آثار الانفجار إلى المناطق الفلسطينية المحتلة والأردن وقبرص.
وأضافت المنظمة أن مخزنا للسلاح النووي التكتيكي يوجد في قرية عيلبون في الجليل، كما يوجد في بلدة يودفات مصنع لتركيب السلاح النووي، وفي حيفا توجد قاعدة بحرية تحتوي على 20 صاروخا ذات رؤوس نووية. وأوضحت أن الهدف من نشر هذه المعلومات والجولات التي تقوم بها المنظمة في الكيان الصهيوني ومنطقة الشرق الأوسط "تعميق الوعي لدى السكان للحفاظ على صحتهم واتخاذ سبل الحيطة والحذر، وكذلك الضغط الدولي على الدول التي تقوم بامتلاك الأسلحة النووية، للحد من انتشار الأسلحة والحفاظ على البيئة وصحة المواطنين".
الطيور الفلسطينية والأطفال الفلسطينيون ضحايا السموم الصهيونية:(/4)
وعن أخطار مفاعل ديمونا والنفايات النووية تحدث الدكتور سفيان التل - المستشار الدولي في شؤون البيئة - في محاضرة في مجمع النقابات المهنية بالأردن – قائلا: إن هناك تقرير بثته القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي بتاريخ 1/7/2003، وقد أكد ذلك التقرير وفاة عشرات العمال بالسرطان، وأن الحرائق تقع داخل المفاعل بشكل يومي، وأن غيوم صفراء سامة تنبعث من داخل المفاعل، ويستنشقها العمال. وأن المياه الثقيلة المشبعة بالإشعاعات والنفايات النووية قد تسربت إلى جرف جغرافي طبيعي متصل بامتداده مع المفاعل.
كما أن هناك بحث علمي أجرته كل من جامعة بن جوريون ومصلحة المياه الإسرائيلية ومركز البحوث النووية في وادي سوريك، ويؤكد البحث أن المواد المشعة تسربت إلى المياه الجوفية في النقب ووادي عربة يسبب نشاط ديمونا وفي هذا السياق عرض صورة لمجموعة من طيور اللقلق التي شربت من بركة مياه قرب ديمونا حيث نفق 26 طيرا منها وبقي 5 فقط على قيد الحياة تنتظر نفس المصير. كما عرض صورة لأطفال فلسطينيين يضخون الماء من بئر جوفي علما أن إسرائيل ترفض السماح للسلطة الفلسطينية بفحص تلك المياه.
الضفة الغربية وزراعة الموت:(/5)
الوضع الذي يعيشه فلسطينيو الضفة لا يقل خطورة عن أي مكان في فلسطين، من حيث خطورة الممارسات الصهيونية تجاه البيئة الفلسطينية والقرى والمدن الفلسطينية، بسبب قرب المنطقة من المفاعل النووي من جهة، ونقل مصانع ملوثة إلى مناطق فلسطينية في الضفة، مثل طولكرم والخليل أديا إلى تدهور خطير في الأوضاع الصحية. ولم تقتصر الممارسات الإسرائيلية على هذا الحال بل منعت الفلسطينيين من استخدام مكب النفايات الخاص الذي أقيم بتمويل من الاتحاد الأوروبي وبلغت تكاليفه 10 ملايين دولار. فمواصلة الحصار ووضع الحواجز ومنع الشاحنات من التنقل اضطرت الفلسطينيين إلى وضع النفايات في مناطق قريبة من السكن، ما يؤثر في صحتهم. في هذه الأثناء خصصت وزارة البيئة موازنة 14 مليون دولار لإقامة مكب خاص للنفايات في منطقة جنين لاستدراك المخاطر الناجمة عن عدم وجود هذه المكبات وخطر تحللها في المياه الجوفية.
إلا أن إقامة هذا المكب لا تعني إنقاذ الضفة من آثار جريمة تلويث الجو والمياه والبيئة ليكون الإنسان الفلسطيني هو الضحية. فإلى جانب أقامة المكب الجديد في منطقة نابلس، فإن المنطقة الصناعية الإسرائيلية التي أقيمت في مدينة طولكرم على أرض تابعة للوقف الإسلامي أصبحت أكبر مصادر الخطر على صحة الفلسطينيين، إذ أنها تضم عدداً من المصانع الخطرة التي يطلق عليها الفلسطينيون اسم ((مصانع الموت))، ومنها مصنع للمبيدات الحشرية ومصنع زجاج ومصنع للغاز، وفلاتر المياه وأنابيب السماد الكيماوي الزراعي وجميعها تقع على الحدود الغربية لمدينة طولكرم.
ويدرك الإسرائيليون مدى خطورة وجود هذه المصانع، إذ أن هذه المنطقة الصناعية نقلت من كفار سابا بعد حملة احتجاج واسعة قام بها يهود المنطقة ضد وجود هذه المصانع قرب منطقة سكناهم وقد تم إغلاقها بناء على قرار المحكمة الإسرائيلية بسبب خطورتها على البيئة والسكان.(/6)
ومنذ فترة طويلة تعمل السلطة الفلسطينية لنقل هذه المصانع من منطقة طولكرم وقد أجرت دراسة خاصة حول أضرارها. وتحتفظ سلطة جودة البيئة في السلطة الفلسطينية بوثائق ومراسلات بين مجلس مستوطنة سنعوز القريبة من هذه المصانع وأصحابها، تفيد بأن هذه المصانع لن تؤثر في سكان هذه المستعمرة كون الرياح تهب باتجاه الشرق، وإذا تحول اتجاه الرياح، فإن أصحاب المصانع يلتزمون وقف العمل طوال الوقت.
وأثبتت الدراسات والأبحاث مخاطر المنطقة على صحة الفلسطينيين إذ طرأ ارتفاع كبير في نسبة مرضى السرطان خصوصاً بين الأطفال، وأمراض الجهاز التنفسي والجلد والعيون والأمراض الصدرية. ويشير خالد الزغل، رئيس لجنة السلامة العامة والبيئة في محافظة طولكرم، إلى خطورة أحد المصانع الذي يقوم بإنتاج الغاز المعقم للتربة والمحرم دولياً حيث تنتج منه سموم ودخان أسود، مما يؤثر في صحة الفلسطينيين إلى جانب الأضرار البيئية الكبيرة التي يحدثها. ويقول الزغل ((إن الارتفاع الكبير في نسبة الأمراض الصدرية والسرطان يعود إلى تلوث الجو المشبع بالغازات السامة والدخان الناتج من المصانع والتي تنتقل إلى مسافة عشرات الكيلومترات، بسبب اتجاه الريح والذي يكون عادة باتجاه الشرق، ويصل إلى معظم مناطق الضفة الغربية شرقي المصانع الكيماوية)).
وفي منطقة الخليل، جنوب الضفة الغربية، باتت الأضرار الناجمة عن الإشعاعات النووية تهدد حياة نسبة كبيرة من الفلسطينيين. وكشف الطبيب محمود سعادة عن ارتفاع عدد الفلسطينيين المصابين بأمراض السرطان والتشوهات.
وبموجب المعطيات المتوافرة لدى الفلسطينيين، فإن نسبة اليورانيوم المنضب على طريق الرماضين الظاهرية بلغت أكثر من 100 ضعف الحد الطبيعي، إضافة إلى ارتفاع معدل غاز الردون إلى 265 ضعف المعدل الطبيعي. وألمح سعادة إلى وجود تعتيم على هذه القضية في شكل كبير، وممارسة ضغوط سياسية على السلطة الفلسطينية بخصوصها.(/7)
منظمة الصحة العالمية تندد بدفن إسرائيل للنفايات النووية في الأراضي الفلسطينية:
نددت منظمة الصحة العالمية بدفن إسرائيل للنفايات النووية في الأراضي الفلسطينية وطالبتها بالامتناع عن ذلك، وعدم استخدام الأراضي الفلسطينية كمكبات للنفايات السامة. وصادقت المنظمة التي تعقد جمعيتها الثامنة والخمسين في جنيف حالياً على مشروع قرار تقدمت به فلسطين بدعم من المجموعة العربية.
وقد أشار موقع الأمم المتحدة على الانترنت (http://www.un.org) أنه قد صوتت لصالح المشروع 95 دولة وعارضته 8 دول بينها إسرائيل والولايات المتحدة فيما امتنعت 11 دولة عن التصويت. ويطلب القرار من إسرائيل أن تمتنع عن دفن النفايات النووية في الأراضي الفلسطينية وعدم استخدام الأراضي الفلسطينية كمكبات للنفايات السامة.
وطلبت المنظمة من مديرها العام إرسال لجنة تقصي حقائق لدراسة الكشف الإشعاعي الذي تقوم به السلطات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين عند المعابر بالإضافة إلى التحقق من المكبات الإسرائيلية للنفايات في الأراضي الفلسطينية والجولان. كما تضمن القرار الطلب من إسرائيل ضمان حرية تنقل الفرق الطبية وسيارات الإسعاف والمرضى والإمدادات الطبية في الأراضي الفلسطينية وإبقاء جميع الحدود مفتوحة بعد الانسحاب من غزة لضمان حرية الحركة الاقتصادية والتجارية في فلسطين.
المصادر والمراجع:-
• منظمة الصحة العالمية.
• الأمم المتحدة.
• سلطة البيئة الفلسطينية.
• بنك المعلومات الوطني.
• هيئة الاستعلامات الفلسطينية.
• مجمع النقابات المهنية بالأردن.
• منظمة حماية البيئة، "السلام الأخضر.(/8)
العنوان: المناورات الأمريكية قرب إيران.. أي رسالة تحمل؟
رقم المقالة: 901
صاحب المقالة: فايز السيد علي
-----------------------------------------
على بعد أميال قليلة من الحدود المائية الإيرانية في الخليج العربي؛ تجمّعت السفن وحاملات الطائرات الأمريكية - فجأة - لتجري أكبر مناورات عسكرية مائية في المنطقة، تزامناً مع عدة أحداث وقعت وتقع في المنطقة، دون أن يتمكن أحد من تحديد النية الأمريكية بذلك.
فبين متكهن بقرب توجيه ضربة عسكرية قاصمة للمنشآت النووية الإيرانية، ومدافع عن حق أمريكا في تدريبات دورية بالقرب من معركتها، التي لم تحسم بعد في العراق؛ تبدو الولايات المتحدة ماضية في توجيه رسائل متلاحقة لإيران، مفادها: أن الخيار العسكري لا يزال موجوداً، وأن القوات الأمريكية قادرة على بناء جبهة (بحرية) في الخليج، حتى ولو لم تتح دول الخليج العربية أراضيها للأمريكيين لشن حرب ضدها.
حشود.. بالآلاف!!
مع وصول حاملتي الطائرات (يو إس إس جون سي ستينيس) و(يو إس إس نيميتس)، مع لواحقهما البحرية، فضلاً عن وجود سفينة الهجوم البرمائي (يو إس إس بونهوم ريتشارد) ومجموعتها الضاربة؛ تصبح القوة الأمريكية في منطقة الخليج العربي هي الأضخم منذ حرب احتلال العراق في (مارس) 2003.
ولا ينحصر ذلك في عدد القطع البحرية التي تتجاوز 12 الاثنتي عشرة، بل تشمل أيضاً عدد الأفراد العسكريين، الذين يبلغ عددهم أكثر من 17000 سبعة عشر ألف جندي.
كما تضم القطع الحربية نحو 140 مئة وأربعين طائرةً على متنها، قادرةً على التحليق، وتنفيذ مهمات قتالية، في وقت قصير نسبياً.(/1)
وقد كشفت مصادر أمريكية عسكرية، أن حاملتي الطائرات (ستينيس) و(نيميتس) ستعملان للمرة الأولى في مهمة مشتركة، مع قطع عسكرية ضمن الأسطول الخامس، وعلى الأخص مع السفينة (ريتشارد) ومجموعتها المؤلفة من سفينتي هبوط تحملان نحو 2100 ألفين ومئة جندي يتبعون وحدة استطلاع (المارينز) الثالثة عشرة.
وتنفذ القطع الحربية الأمريكية مناورات عسكرية، تشمل التصدي لهجمات محتملة، ومهاجمة سفن وقطع بحرية معادية، ومواجهة الألغام البحرية، والغواصات المعادية، فضلاً عن الطلعات الجوية، وغيرها، تنتهي بهبوط برمائي في الكويت، حسبما نقل مراسل وكالة (الاسوشيتدبرس) للشؤون العسكرية.
وقد اجتازت القطع الحربية الأمريكية يوم الأربعاء الماضي مضيقَ (هرمز) الحيوي، الذي يمر فيه نحو 40% من إيرادات النفط العالمية، قادمةً من دول الخليج النفطية. ولا تخفي القيادة الأمريكية حرصها على هذا المضيق، الذي قد يؤدي تعطيله، أو السيطرة عليه من قبل إيران في حال حدثت مواجهة مسلحة بينهما؛ إلى تعطيل حركة توريد النفط لأمريكا والعالم، لذلك فقد صرح قائد المجموعة (الأميرال كيفن كوين) أن السفن ستُجري تدريبات "في إطار خطط أعدت منذ مدة، لطمأنة الحلفاء الإقليميين بالالتزام الأميركي حيال أمن الخليج"، حسب قوله.
وأضاف قائلاً: "ثمة تهديد دائم بأن تشن دولةٌ ما، أو تتخذ أي جهة أخرى، قراراً بإغلاق أحد المضائق الدولية، التي أكبرها مضيق (هرمز). والمختلِف في هذا الحدث هو وجود مجموعتين ضاربتين. الكل سيشاهدنا لأن (المناورات) تُنفَّذ في النهار"؛ في رسالة واضحة إلى إيران.
ولدى مرور القطع الأمريكية عبر مضيق (هرمز)؛ تقدمت طهران إلى واشنطن بتسعة طلبات استيضاح، عن سبب دخول هذه السفن البحرية إلى الخليج العربي، وعتادها؛ تأخرت واشنطن في تبيانه لطهران. خاصة أن المناورات العسكرية لم يكشف عنها من قبل، وبقيت سرية إلى حين دخول حاملتي الطائرات إلى الخليج!(/2)
وتحتفظ الولايات المتحدة بنحو 20000 عشرين ألف جندي أمريكي في الخليج العربي والمياه القريبة منها، خاصة أن مقر الأسطول الخامس يقع على بعد مسافة قصيرة، في دولة البحرين؛ التي تعتبر إحدى حلفاء الولايات المتحدة خارج دول (الناتو)، وترتبط معها باتفاقيات عسكرية وتجارية.
وهذه المناورات تُجرى بعد شهرين فقط من مناورات سابقة، أجرتها القوات الأمريكية في (مارس) الماضي، عندما أمضت مجموعتان من حاملات الطائرات الأمريكية يومين من المناورات الجوية والبحرية قبالةَ الساحل الإيراني.
الأهمية.. والتوقيت:
تُجرى المناوراتُ الجديدة بتوقيت حساس، يتعلق بالملف الإيراني النووي، وبالمحادثات الأمريكية الإيرانية عن العراق.
فعلى الصعيد الأول؛ تزامنت المناورات مع تحرك أمريكي غربي؛ لتذكير دول مجلس الأمن بالتزامهم - في قرار المجلس الأخير - باتخاذ عقوبات أكثر قسوة ضد إيران؛ إذا رفضت الأخيرة تعليق تخصيب (اليورانيوم).
وقد نقلت مصادر إعلامية عن (دبلوماسيين) أمريكيين قولهم: "لدينا أفكار معينة عما يجب أن يتضمنه القرار المقبل". وأضاف الأمريكيون: "إن المفاوضات على عناصر مشروع القرار ستُجرى في العواصم المعنية، كما في الأمم المتحدة، لكن الأعمال الثقيلة - في إطار المفاوضات - ستكون في قمة الدول الثماني، في 6 (يونيو) في ألمانيا".
ويأتي التوجه الجديد للولايات المتحدة بعد تقرير لمحمد البرادعي (مدير الوكالة العالمية للطاقة الذرية)، الذي أكد فيه أن المهلة - التي حددها مجلس الأمن لإيران من أجل إيقاف نشاطاتها النووية الحساسة - قد انتهت، دون أن تلتزم طهران بالمهلة. وأنها بدلاً من ذلك واصلت تغذية أجهزة الطرد المركزي بغاز (سداسي فلوريد اليورانيوم)، متجاهلة قرار مجلس الأمن 1747، كما أنها كثّفت نشاطاتها في مصنع (ناتانز) النووي.(/3)
وشمل التقرير التطورات منذ صدور تقرير سابق في 22 (فبراير) الماضي، بخصوص تنفيذ اتفاق الضمانات، المعقودِ بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالملف النووي الإيراني.
ومع توجه روسيا لإفشال أي مشروع قرار يتعلق بتصعيد العقوبات ضد إيران؛ ترسل واشنطن رسائل إلى طهران، مفادها: أن الحل العسكري - القاضي بتوجيه ضربات عسكرية مباغتة للمفاعلات الإيرانية النووية - لا يزال قائماً، ليس ذلك فقط، بل إنه ممكن جداً، بواسطة القطع الحربية الأمريكية المتواجدة هناك.
المحلل السياسي في مركز (الخليج للدراسات الإستراتيجية) مصطفى العاني يقول: "إن الهدف من هذه الخطوة، المتزامنة تماماً مع انتهاء مهلة مجلس الأمن، هو إرسال رسالة واضحة إلى إيران مفادها: أن الخيار العسكري واقعي مطروح بالنسبة لواشنطن".
ولا تخفى تلك التهديدات على طهران، التي علّق وزير دفاعها (الجنرال مصطفى النجار) على تحركات البحرية الأميركية في مياه الخليج، قائلاً: "إن بلاده سترد الصاع صاعين للأعداء والمعتدين"، وأنها "صامدة أمام أي تهديد"، مضيفاً القول: "إن بلاده، مدعومةً بقواتها المسلحة، في الجيش، والحرس الثوري، وقوى الأمن الداخلي، بقيادة القائد العام للقوات المسلحة؛ صمدت وقاومت بكل قوة"، حسب قوله.
ومن جهة أخرى، تجرى المناورات قبل أيام من إجراء محادثات مشتركة بين الولايات المتحدة وإيران، في العاصمة العراقية بغداد، ستتمحور حول العمل المشترك؛ لإخراج الأمريكيين من مأزق المستنقع العراقي! خاصة، في ظل تقارير تؤكد دعم طهران (لميليشيات) شيعية؛ تؤجج النزاعات الطائفية هناك، وتدعم المقاومة الشيعية ضد الأمريكيين في بعض المناطق.(/4)
وحسب تصريحات أمريكية وإيرانية؛ فإن المحادثات المشتركة سوف تُجرى يوم الاثنين المقبل، في بغداد، في وقت يأمل فيه الأمريكيون أن يضغطوا تماماً على طهران؛ كي تقبل بتسوية أمنية تضمن للأمريكيين دعماً إيرانياً إضافياً في مواجهة المقاومة السنية، وتضمن انصياعاً كاملاً للشيعة العراقيين - الموالين لطهران - للتوجهات الأمريكية.
الولايات المتحدة اتهمت طهران - سابقاً - بأنها تزوّد (الميليشيات) الشيعية بالقنابل، التي تزرع على جانبي الطريق، والتي أدت إلى مقتل العديد من الجنود الأمريكيين؛ إلا أن طهران تنفي ذلك. لذلك فإن المحادثات المقبلة تعتبر هامة بالنسبة للإدارة الأمريكية، التي تحاول إثبات نجاحها المزعوم في العراق بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب إبادة السنة هناك!
المنطقة.. التي تتأجج نزاعاً!!
المناورات الأمريكية الجديدة هي الأخيرة ضمن سلسلة من المناورات العسكرية، الأمريكية تارة، الإيرانية تارة أخرى، إذ تتناوب كل من طهران وواشنطن في إجراء مناورات عسكرية في المنطقة، استعراضاً للقوة، وإرهاباً للجانب الآخر.
فمن جهتها؛ أجرت إيران مناورتين خلال عام 2006، كانت إحداهما في (إبريل)، أما الأخيرة فكانت في (نوفمبر) الماضي، كما أجرت أمريكا مناورتين قبل أشهر، إحداهما في (أكتوبر) 2006، والأخرى في (مارس) 2007.
ومنذ آخر مناورة بحرية لها؛ حافظت القوات الأمريكية على وجودٍ عسكريٍّ كبيرٍ في مياه الشرق الأوسط، عندما وصلت سفينة (ستيننيس) إلى المنطقة، التي تضم 80 ثمانين طائرة حربية، وسط توقعات أن تبقى حتى الصيف القادم.
المنطقة، التي تشهد تصاعداً في عمليات (استعراض القوة)، وزيادةً في التهديد والوعيد؛ تعيش قلقاً متزايداً من وقوع حرب محتملة؛ تبدأ بشن القوات الأمريكية ضربة استباقية - فيها - لإيران.(/5)
فدول الخليج العربي - التي لا تخفي موالاتها لأمريكا - قد يعني دخولُها في حرب ضد إيران بدايةً لعملية انتقام إيرانية؛ تشن فيها ضرباتٍ عسكريةٍ لدول الخليج، خاصة وأن جميع دول الخليج تقع في مدى الصواريخ الإيرانية.
ولا تخفي دول مجلس التعاون الخليجي - أيضاً - موقفها الرافض لتوجيه ضربة أمريكية لإيران؛ حيث طالبت تلك الدول في اجتماعها الأخير، بألا تساند أية دولة عضو في المجلس التوجهات الأمريكية المحتملة. أما قطر والإمارات العربية فقد ذهبتا أبعد من ذلك؛ إلى حظر توجيه ضربات عسكرية لإيران من القواعد الأمريكية الموجودة على أراضيها.
المناورات الأخيرة ليست أخيرة على ما يبدو! وانفراج الأزمة - الذي يبدو بطيئاً - يراه البعض في حرب تشعل المنطقة برمتها، وآخرون يرون (تمثيليةً)؛ تتقن كل من واشنطن وطهران فنونها؛ لإغراق المنطقة في مزيد من الفوضى، لصالح كل من أمريكا وإيران!(/6)
العنوان: المنصّرون.. ذئابٌ في جلود نعاج
رقم المقالة: 1124
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
مُجرمون مُخرّبون يعيثون في الأرض فسادًا باسم المسيح
المنصّرون.. ذئابٌ في جلود نعاج
• يستغلّون آلامَ البشر أبشعَ استغلال، ويتخذون من التطبيب والعلاج وسيلةً لنشر سمومهم، وحملاتُهم تستهدفُ الأقلياتِ والأكثريات المسلمةَ على السواء.
• يطوّرون أنفسهم ويستخدمون كل الوسائل لمواجهة الإسلام وإبعاد المسلمين عنه.
• 17 مليون منصر يعملون ضد الإسلام في أنحاء العالم، و50 إذاعة تنصيرية في إفريقيا تبث برامجها بمختلف اللغات واللهجات.
• 1300 منصر في الشرق الأوسط معظمُهم يديرون مراكز طبية.
• المنصّرون يدخلون البلاد والمناطق الإسلامية في صورة أطباء ومعلمين ومهندسين وخبراء، ويستغلون الظروف الاجتماعية للمسلمين من فقر وجهل وكوارث طبيعية.
• يبنون المدارس والمستشفيات والملاجئ ودور الرعاية، ويقدمون الإعانات المادية من غذاء وكساء ودواء، والمقابل لكل هذا هو التنصّر!
• يعملون على إخراج المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله، ولا بالأخلاق التي تعتمد عليها الأممُ في حياتها.
• هدفهم أجيالٌ مسلمة لا تهتم للعظائم، تحب الراحة والكسل، ولا تصرف همها في الدنيا إلا للشهوات.
• • • •
من يسمع عن التنصير وإرسالياته التي تجوب العالم شرقًا وغربًا، ومؤسساته وهيئاته المنتشرة في كل مكان، ويقرأ الأرقام التي ترد عنه، يدرك لأول وهلة أنه خطر داهم، وأن أخطاره قد وصلت إلى ديار الإسلام ذاتها، سعيًا لضرب الهوية الإسلامية، وتشويه عقيدة الإسلام وإخراج المسلمين من دينهم الحق.(/1)
ففي العالم الإسلامي اليوم جيوش جرارة مرئية وخفية من أولئك الذين يدعون بلا خجل أنهم (مبشرون)، وهم في الحقيقة ضالون مضلون، والحملات التنصيرية الشرسة على التجمعات الإسلامية -سواء الأقليات منها أو الأكثريات- تزداد يوما بعد يوم، وتطور نفسها، وتزيد من أعداد العاملين فيها، وتستخدم من الوسائل والأساليب التي تمكنها من نشر سمومها، ما لا يستخدمه دعاةُ الإسلام في نشر الحق الذي يدعون إليه، فالمنصرون اليوم يسخّرون -لتحقيق أهدافهم- وسائلَ الإعلام كافة، من نشراتٍ وكتبٍ وصحف وإذاعة وتلفزيون وفيديو وأقمار صناعية وشبكة إنترنت، ويملكون وسائل الانتقال السريعة من سيارات وطائرات و(لنشات) وأساطيل بحرية ومطارات، في كثير من الدول، هذا بالإضافة إلى الدعم المالي الكبير الذي يصلهم من مجلس الكنائس العالمي ودول المسيحية وأغنيائها.
• لغة الأرقام:
ويكفي أن نعرض بعض الأرقام التي وقعت تحت أيدينا عن التنصير خلال السنوات الماضية، لكي يدرك القارئُ المسلم فداحةَ هذا النشاط التخريبي المدمر، الذي يسعى لمحو الهوية الإسلامية وتنصير المسلمين، أو إخراجهم من الإسلام وتركهم بلا دين.
فالأرقام تبين أن 17 مليونَ منصرٍ يعملون ليل نهار لإطفاء نور الله في الأرض وَفق استراتيجيات بعيدة المدى، ولديهم ميزانياتٌ فلكية ينفقون منها بلا حساب. وأنهم يستهدفون جميع المسلمين في شتى أنحاء المعمورة، ولا يُستثنى من ذلك العرب.
وأن جيشا من المنصرين قوامه 112 ألف منصر يستهدف تحويل إفريقيا كلها إلى قارة صليبية.
وأن 50 إذاعة تنصيرية في إفريقيا تبث برامجها بمختلف اللغات واللهجات.
وأن في إفريقيا 500 مدرسة لاهوتية و20 ألف معهد كنسي، لتخريج المنصرين والقسيسين.
وأن هناك 500 منظمة تنصيرية تعمل في ليبيريا، ومثلها في ماليزيا، و1500 منظمة تعمل في بنجلاديش، تحت شعار هيئات الإغاثة الدولية وجمعيات حقوق الإنسان.(/2)
وأن بالشرق الأوسط 1300 منصر متفرغ معظمهم يُديرون مراكزَ طبية.
وأن دائرة تنصير الشعوب في الفاتيكان تشرف على 58 ألف مدرسة و26 ألف معهد وجامعة في أنحاء العالم.
وأن الدعم المالي للتنصير وصل إلى 151 مليار دولار أمريكي عام 1989م، وهذا المبلغ لعله قد تضاعف خلال السنوات الأخيرة.
وأن المنصرين يشرفون على تعليم 5 مليون طالب وطالبة في أنحاء إفريقيا.
وأن عدد أجهزة الكمبيوتر التي تستغلها المنظماتُ المسيحية في خدمة أعمال التنصير تبلغ 45 مليون جهاز.
وأن محطات الإذاعة والتلفزيون المسيحية في العالم تبلغ 1900 محطة.
فهذه الأرقام هي ما ظهر لنا وما عرفناه، أما ما خفي منها فهو أعظم، وهي تدق ناقوس الخطر، وتبين فداحة هذا المخطط الرهيب، الذي يتوغل في كل بقاع الأرض بإرسالياته ومنصريه، وهدفه الأوحد ليس اليهودية ولا الهندوسية ولا البوذية، ولكن الإسلام سعيا لضربه والوقوف في وجه دعوته وتشويه صورته.
فالمنصرون اليوم لا يدخلون البلاد والمناطق الإسلامية في صورة قساوسة يحملون الأناجيل في أيديهم ويدعون الناس إليها، فهذه صورة تقليدية ثبت إخفاقها، ولكنهم يدخلون في صورة أطباء ومعلمين ومهندسين وخبراء، ويستغلون الظروف الاجتماعية للمسلمين من فقر وجهل وكوارث طبيعية، ويدخلون بإمكانيات ضخمة، فيبنون المدارس والمستشفيات والملاجئ ودور الرعاية ويقدمون الإعانات المادية من غذاء وكساء ودواء، والمقابل لكل هذا هو التنصير أو على الأقل التخلي عن عقيدة الإسلام.
إنهم يدخلون كذئاب في جلود نعاج.. ظاهرهم فيه الرحمة والعطف والشفقة، وباطنهم من قبله العذاب.. وأي عذاب أشد مما يخرج المرء من دينه الحق ليدخله في دين باطل ومحرف؟!(/3)
إن هؤلاء الذئاب يستغلون آلام الإنسانية أبشعَ استغلال، حين يتخذون من التطبيب والعلاج وسيلةً لنشر سمومهم، عملا بالقاعدة التي وضعها زعماؤهم: "حينما يوجد بشر يوجد مرضى، وحينما يوجد مرضى تكون الحاجة إلى الطبيب ماسة، وهي الفرصة الذهبية لإدخال الخرفان إلى الحظيرة المقدسة".
ولقد بلغت الخسة والدناءة في بعض المستشفيات التنصيرية، أنهم لا يعالجون المريض إلا بعد أن يركع للصليب! أو يعترف على الأقل بأن شفائه في يد المسيح!
• قطع صلة المسلمين بالله:
وإذا بحثنا عن أهدافهم التي يعملون من أجلها منذ عشرات السنين، نجد أنهم يسعون إلى هدف أساسي في حربهم للإسلام، وهو قطع صلة المسلمين بالله، ففي مؤتمر القدس التنصيري، الذي عقد عام 1928م إبان الاحتلال البريطاني لفلسطين، ألقى القس زويمر، كبير المنصرين في هذا الوقت –الذي رأس المؤتمر ودعا إليه– خطبة مشهورة، حدد فيها أغراضَ التنصير، وظهر منها كيف أن الكنيسة تتعاون مع الاستعمار لمحاربة الإسلام، ومما قاله في هذه الخطبة:
"أيها الأبطال والزملاء، الذين كتب لهم الجهاد في سبيل المسيحية واستعمارها لبلاد الإسلام، فأحاطتهم عناية الرب بالتوفيق الجليل المقدس، لقد أديتم الرسالة التي نيطت بكم أحسن أداء، ووفقتم لها أسمى التوفيق، وإن كان يخيل إليّ أنه مع إتمامكم العمل على أكمل الوجوه لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية فيه.
إنني أقركم على أن الذين دخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين لقد كانوا أحد ثلاثة:
1- إما صغير لم يكن له من أهله ما يعرفه ما الإسلام.
2- أو رجل مستخف بالأديان، لا يبغي غير الحصول على قوت يومه، وقد اشتد به الفقر وعزت عليه لقمة العيش.
3- وآخر يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية.(/4)
ولكن مهمة التبشير، التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريما، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله، ومن ثم فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خلال هذه الأعوام المئة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه وتهنئكم عليه المسيحية والمسيحيون جميعا".
ثم يقول: "لقد سيطرنا منذ ثلث القرن التاسع عشر على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا فيها مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية الكثيرة التي تهيمن عليها الدول الأوروبية والأمريكية.
ولقد أعددتم في ديار الإسلام شبابا لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، ومن ثم جاء النشء طبقا لما أراده الاستعمار: لا يهتم للعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا للشهوات. إن مهمتكم قد تمت على أكمل الوجوه، وانتهيتم إلى خير النتائج وباركتكم المسيحية، ورضي عنكم الاستعمار، فاستمروا فقد أصبحتم بفضل جهادكم موضع بركات الرب".
• نشر الفساد باسم المسيح:
وهذا الخطاب الذي ألقاه زويمر يكشف العديد من أسرار التنصير وخباياه وأهدافه الخبيثة في العالم الإسلامي، وهي أهداف تجعل المرء يصب اللعنات على هؤلاء المجرمين المخربين، الذين يعيثون في الأرض فسادا باسم المسيحية والسيد المسيح، وهو بريء من كل ما يفعلوه.
إن زويمر يوضح لمن يخطب فيهم من المنصرين، أن ما يقومون به في البلاد الإسلامية سعيا لاستعمارها باسم المسيحية، إنما هو جهاد تحيطه عناية الرب.(/5)
ويعود ليؤكد لهم عدم فطنتهم للغاية الأساسية للتنصير، فليست الغاية إدخال المسلمين في المسيحية؛ لأن في ذلك هداية لهم وتكريما، وإنما الغاية هي: إخراج المسلم من الإسلام وتركه بلا دين، ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله، ومن ثم فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها.
وفي مؤتمر آخر يقول زويمر موجها خطابه إلى جموع المنصرين: "لتكن لكم نعومة الأفعى في الزحف إلى قلوب المسلمين، إن المسلم لا يغير دينه بسهولة؛ لذلك كان لا بد من تخديره قبل فتح بطنه كما يفعل الجراحون..أنا لا أهتم بالمسلم كإنسان، إنه لا يستحق شرف الانتساب إلى المسيح، فلنغرقه بالشهوات، ولنطلق لغرائزه العنان حتى يصبح مسخا لا يصلح لأي شيء".
فهل هناك هدف إجرامي أكبر من هذا.. أن يتم تشكيك المسلم في عقيدته حتى يتخلى عنها ويصبح بلا دين؟!
ويؤكد زويمر في خطابه أن الذين دخلوا حظيرة المسيحية من المسلمين لم يكونوا مسلمين حقيقيين فهم: إما صغير لم يجد من أهله من يعرّفه حقيقة الإسلام، أو رجل مستخف بالأديان، لا يبغي غير الحصول على قوت يومه، وقد اشتد به الفقر وعزت عليه لقمة العيش فخضع للمنصرين وانساق وراء دعوتهم، بعد أن قدموا له الطعام والشراب والكساء والدواء وأغروه بالمال، أو رجل يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية ولا يجد هذه الغاية إلا في ترك دينه والاستجابة لغيره من الدعوات الهدامة.
• استغلال آلام البشر:
والحق أن المنصرين قد نجحوا نجاحا كبيرا مع هذه العناصر الثلاثة في العديد من المناطق الإسلامية، وخاصة تلك التي تعاني الفقر والجهل والمرض والمجاعات والكوارث، حيث يغزوها المنصرون بإمكانيات ضخمة فيقدمون كل متطلبات الحياة، ويبنون المستشفيات والملاجئ والمدارس ودور الرعاية.(/6)
فالأرقام تذكر: أنه تم تنصير ربع مليون مسلم في إندونيسيا خلال عشرين عاما فقط، وأن 300 ألف مسلم قد تقبلوا المسيحية في عدد من البلاد الإفريقية، وأن عدد المسلمين في ملاوي قد انخفض من 70% إلى 30% فقط، بسبب نشاط التنصير، وأن المنصرين قاموا عام 1985م بتنصير 8 آلاف شخص في إقليم السند بالهند.
فأين الحق ورجاله؟.. أين الدعوة الإسلامية ودعاتها ومؤسساتها مما يحدث للمسلمين في هذه الدول وغيرها؟
وأين هيئات الإغاثة الإسلامية؟ أين هؤلاء جميعا كي يقفوا في وجه هذا التخريب المسمى بالتنصير والذي يسعى لمحاربة الإسلام؟
إن الدعوة الإسلامية اليوم في حاجة ماسة إلى الدعاة المخلصين وإلى الأموال الطائلة لتحقيق هذا الغرض.
• السيطرة على التعليم:
وينتقل زويمر إلى نقطة أخرى في خطابه، وهي سعي المنصرين للسيطرة على التعليم في البلدان الإسلامية، باعتبار أن التعليم وسيلة من أخطر الوسائل التي يمكن عن طريقها زعزعة العقائد وتنصير المسلمين. فقد حرَص المنصرون كل الحرص على اختراق مجال التعليم في البلدان التي يعملون فيها، وإنشاء المدارس الخاصة بهم، وركزوا نشاطهم على الشباب وعلى الأجيال الجديدة بهدف احتوائها، ولذلك يقول زويمر في خطابه: "لقد أعددتم في ديار الإسلام شبابا لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية ومن ثم جاء النشء طبقا لما أراده الاستعمار، لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا للشهوات".
والمنصرون في سبيل ذلك، يستخدمون الشيوعية والعلمانية وأكاذيب فرويد وضلالات سارتر وغيرها من الدعوات، لتدمير القيم الأخلاقية في نفوس الشباب، وجعله لقمة سائغة للقوى التي تعمل على احتواء العالم الإسلامي، ولقد ركزت هذه الإرساليات التخريبية –كما جاء في أخطر وثيقة لها عن التعليم– على عدة أمور هي:(/7)
1- أن تحتضن الفتاة المسلمة، لذلك كانت أولى الإرساليات هي مدارس البنات لتعليم المرأة المسلمة في ظل مفاهيم مسيحية وعلمانية، وقد قالت المنصرة (آنا ميلجان): "ليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدارس".
2- أن يكون التعليم وسيلة لعقد الولاء مع الأمة صاحبة المدرسة أو الجامعة، ولقد تردد طويلا أن الجامعات الأمريكية كانت وسيلة لتمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية، وكانت منطلقَ العملِ لتأييد الصهيونية في العالم الإسلامي ودعمها، كما كانت الجامعات الفرنسية وسيلة لتثبيت النفوذ الفرنسي، وكذلك الجامعات الإنجليزية.
3- أن يكون التعليم في الإرساليات وسيلة لهدم مفهوم العقيدة، وذلك بالدعوة إلى وحدة الأديان والعقائد والنحل والمذاهب، وحرية الجمع والمساواة بين الأديان المنزلة وبين الأديان الوثنية، وفتح الطريق أمام نقد الدين والسخرية به.
4- تقوية العنصريات، والدعوة إلى الإقليميات والعصبيات والقوميات كالبربرية والتركية والفارسية، وإحياء الحضارات القديمة لخلق ثقافات وتاريخ سابق للإسلام وضرب الحضارة الإسلامية.
5- الدعوة إلى العاميات واللغة المحلية، والقضاء على اللغة العربية الفصحى، والحيلولة بين النشء وبين تعلم لغته، التي هي المفتاح للإسلام وللقرآن، والتركيز على تعليم اللغات الأجنبية التي هي المدخل إلى مفاهيم الفكر الوافد، والادعاء بأن اللغة العربية لم تعد صالحة لاستيعاب كل الأغراض مع تفريغها من الروح الإسلامي، عن طريق كتابات الصحف والمسرحيات والإذاعة والأغاني التي تقدم مضامين غربية منقولة باللغة العربية، وإقامة ثقافة خفيفة مستمدة من التفاهات مقام الثقافة الأصيلة ذات البيان العربي الرصين.
6- الاعتماد على الترجمات من اللغات الأجنبية، وخاصة ترجمة قصص الجنس والإباحية وكتابات (سارتر) و(كافكا) و(نيتشه) وغيرها، مما يثير في نفوس الشباب شبهات الشكوك والإلحاد.(/8)
7- طرح الأيديولوجيات المختلفة والنظريات الفلسفية المتعددة في علم الاجتماع والنفس والأخلاق وكلها ترمي إلى تحطيم مفاهيم الدين الحق وخلق روح حرية الشباب والجنس والفساد الأخلاقي.
8- محاولة التشكيك في تاريخ الإسلام وسيرة رسوله –صلى الله عليه وسلم– وذلك بالادعاء بأن القرآن مستمد من التوراة والإنجيل، واستغلال الآيات التي مجد القرآن فيها السيد المسيح والسيدة مريم للتبشير بالمسيحية، والادعاء بأن الفكر الإسلامي مستمد من الفلسفة اليونانية.
9- تقديم مفاهيم فاسدة عن الموسيقى والمسرح والفن والحضارة والتقدم والمعاصرة، تختلف عن مفهوم الإسلام الأصيل.
10- إغراء الشباب المسلم بالبعثات الخارجية، وهي التي تستهدف تغيير شخصيته بعد صهره في معاهد خاصة، ووضع الفتيات الأجنبيات في طريقه لعقد صلة اجتماعية تستمر مدى الحياة، وتكون عاملا من عوامل خدمة أهداف التغريب، وحصار رجال البعثات بعد عودتهم ليكونوا خادمين للثقافات الأجنبية.
وقد وصل استغلال المنصرين للتعليم في تحقيق أغراضهم إلى حد إنشاء آلاف المدارس المسيحية في العديد من البلاد الإسلامية، ودعم هذه المدارس بكل الإمكانيات، كي تجذب إليها أطفال المسلمين وشبابهم، فما من بلد إسلامي إلا وتنتشر فيه هذه المدارس، التي تعمل في الخفاء دون إعلان عن أغراضها الحقيقية.(/9)
فباكستان –وهي دولة إسلامية كبرى– توجد بها مدارس تنصيرية كثيرة، تنتشر في عموم البلاد، وقد أقيمت في عهد سابق، علاوة على مدارس تعليم الإنجيل بالمراسلة، والحقيقة أن نسبة المسلمين في هذه المدارس تفوق 85%، فمدرسة القديس باتريك في كراتشي يوجد بها 2500 طالب، منهم 2100 مسلم، ومدرسة القديس يوسف 2200 طالب، منهم 2100 مسلم، ومدرسة القديس لورانس بها 1200 طالب، منهم 1050 مسلم، وفي مدرسة القديس جوز 1000 طالب، كلهم مسلمون، ومدرسة المسيح الملك بها 1000 طالب، منهم 700 مسلم، ومدرسة القديس جون بها 900 طالب، منهم 700 مسلم، ومدرسة القديس يونايونتشر في حيدر أباد بها 1600 طالب، منهم 1560 مسلم، ومدرسة القديسة ماري في حيدر أباد أيضا بها 1697 طالب، منهم 1558 مسلم.
ولقد نشرت مجلة "لافيد الإيطالية" تقريرا نسب إلى دائرة تنصير الشعوب في عاصمة النصرانية (الفاتيكان)، يذكر التقرير أن عدد المدارس والمعاهد التي تشرف عليها هذه الدائرة قد بلغ 58 ألف مدرسة و26 ألف معهد وجامعة، وقد بلغ عدد المدرسين العاملين في المدارس التابعة لهذه المؤسسة 417 ألف مدرس ومدرسة.
كما يذكر التقرير أن الفاتيكان تقوم بتدبير الأموال اللازمة لتشغيل هذه المدارس والمعاهد.
وفي أكتوبر 1967م، عقد مؤتمر تنصيري بإحدى الجزر الإندونيسية، وخرج هذا المؤتمر بمشروع يستهدف إتمام تنصير جزيرة جاوه وحدها في عشرين عاما، وإندونيسيا كلها في خمسين عاما، وكان من أهم توصيات هذا المؤتمر: التوسع في نشر المدارس المسيحية في ديار المسلمين.
ولقد أكدت الأرقام والإحصائيات قيام المنصرين في أنحاء إفريقيا المختلفة بالإشراف على تعليم 5 ملايين طالب وطالبة، معظمهم من المسلمين.(/10)
• إننا هنا ندق ناقوس الخطر تجاه هذا المخطط التخريبي الرهيب، ونكشف عن أهدافه الخبيثة وأساليبه ونشاطاته في العديد من مناطق العالم، حتى لا ينخدع أحد بتلك النشاطات، التي قد تأتي في صورة إعانات وخدمات طبية واجتماعية ونشاطات ثقافية وإعلامية، ولكي ينتبه المسلمون ويصحوا من غفلتهم للدفاع عن دينهم الحق، الذي صار هدفا لقوى شريرة تسعى لضربه وتشويه صورته ومنع انتشاره.
فالإسلام أمانه في أعناق المسلمين، وإن لم يهبوا لنصرته والدفاع عنه في وجه الباطل الذي يعترض طريقه، لن تقوم لهم قائمة، ولن تتحقق لهم عزة، وعقابهم عند الله شديد على تفريطهم في حق هذا الدين الذي هو مصدر قوتهم وعزتهم ونصرهم.
وما زال حديثنا مفتوحا عن هذا المخطط الرهيب وخططه وأساليبه في العالم الإسلامي، وسوف نتواصل مع القارئ في مقالات أخرى قادمة بإذن الله.
• المراجع:
1. حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر – أحمد عبد الوهاب – مكتبة وهبة – الطبعة الأولى – القاهرة 1981م.
2. التبشير الغربي – أنور الجندي – دار الاعتصام – القاهرة.
3. الزحف إلى مكة – الدكتور عبد الودود شلبي – دار الزهراء للإعلام العربي – الطبعة الأولى – القاهرة 1989م.
4. الاستعمار والتنصير في إفريقيا السوداء – عبد العزيز الكحلوت – منشورات جمعية الدعوة الإسلامية – الطبعة الأولى – ليبيا 1991م.(/11)
العنوان: المنهاج في يوميات الحاج
رقم المقالة: 1697
صاحب المقالة: خالد بن عبدالله بن ناصر
-----------------------------------------
المنهاج في يوميات الحاج
جمع وإعداد/ خالد بن عبدالله بن ناصر
مراجعة/ فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
وفضيلة الشيخ عبدالمحسن بن ناصر العبيكان
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
في هذه الأيام المباركة يأتي الناس من كل مكان إلى بيت الله الحرام لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام, قال الله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}
دعاء السفر
((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر)) {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون} ((اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطوِ عنّا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب: في المال، والأهل..)).
وإذا رجع من سفره قالهن وزاد عليهن: ((آيبون، تائبون عابدون، لربنا حامدون))[1].
أخي الحاج...
هذه بعض الكتب والأشرطة المفيدة والمهمة فاحرص على أن تكون في حوزتك لأهميتها ولتستفيد منها عند أداء مناسك الحج والعمرة.
? فمن الكتب:
بعد كتاب الله عز وجل مع ((التفسير الميسر)) طبعة مجمع الملك فهد:
كتاب سماحة العلاّمة الشيخ عبدالعزيز بن باز –رحمه الله -: ((التحقيق والإيضاح)).
كتاب المحدّث الشيخ محمد ناصر الدِّين الألباني – رحمه الله - ((حجة النبيصلى الله عليه وسلم )).
كتاب الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - ((الشرح الممتع)) المجلد السابع.
كتاب الشيخ صالح الفوزان: ((الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد)).
كتاب ((فتاوى الحج والعمرة والزيارة)) جمع وترتيب محمد المسند.
كتاب ((السُّنن في المناسك)) و((مناسك المرأة)) للشيخ صالح الحسن.(/1)
كتاب ((10 دروس في تدبر معاني أقوال الصلاة)) د/ قاسم الفهد.
كتاب الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد ((تصحيح الدعاء)).
كتاب ((حصول الأجر)) للشيخ سعود بن يوسف الخماس.
.....................................................
ومن الأشرطة:
((مناسك الحج والعمرة والزيارة)) للشيخ/ إبراهيم عبدالله الغيث.
((سورة الحج)) تلاوة الشيخ/ عبدالله خياط – رحمه الله-.
((عرفات عبر وعبرات)) للشيخ/ إبراهيم الدويش.
((الحج عبادة وميدان دعوة)) للشيخ/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ.
مقدمة
الحمد لله حمدا كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وعلى من بسنته اهتدى، أما بعد:
فانطلاقاً من قول الله عز وجل: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} وقوله صلى الله عليه وسلم ((خذوا عني مناسككم)) وقوله صلى الله عليه وسلم : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)). وحرصاً على نشر العلم، ورغبةً في تحصيل الثواب لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، أهدي إليك أخي الحاج الكريم هذه الكلمات العطرة من جهد متواضع أملاه عليَّ حق الأخوة في الله، مبيناً فيه ما يشرع للحاج فعله من نُسك في أيام الحج مقتبساً ذلك من كلام الله تعالى ونور مشكاة هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومستنيراً بكلام علمائنا الأعلام.
علماً أن ما خطَّه مدادُ هذا القلم قد طبع سلفاً على هيئة ((نشرة مطوية)) في عام 1410هـ مقتصراً فيها على ذكر صفة الحج ابتداءً من اليوم الثامن من ذي الحجة حتى نهاية اليوم الثالث عشر على شكل يوميات.(/2)
وقدَّر الله عز وجل أن تقع نسخة من هذه المطوية بيد فضيلة الشيخ عبدالله الجارالله – يرحمه الله – الذي سعى وأوصى بطباعتها على هيئة كتاب سماه : ((المنهاج في يوميات الحاج)) جعل الله ذلك في موازين حسناتنا وحسناته، ولقد حرصت كل الحرص على ألا أذكر إلا الثابت من هديه عليه الصلاة والسلام وبشيء من الاختصار.
ثم لا يفوتني في هذه العجالة إلا أن أشكر فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين، وفضيلة الشيخ عبدالمحسن بن ناصر العبيكان على ما تفضلا به من إبداء ملاحظاتهما وتصحيحاتهما حول هذه الرسالة، وكذلك أخي في الله سامي بن عبدالله الخلف، وكل من أفادني بتوجيه أو ملاحظة. هذا وأسأل الله العلي القدير أن يجزيهم خير الجزاء، كما أسأله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به من كتبه أو قرأه أو سمعه أو راجعه أو نشره أو أعان على نشره.
{رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين}.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أخوكم في الله أبو عبدالله
ص.ب 7807 – الرياض: 11472
البريد الإلكتروني: khalid@hamlah.com
في البداية
أخي المسلم اعلم أنَّ العمل لا يُقبل إلاَّ بشرطين هما: الإخلاص لله تبارك وتعالى، والاتباع لرسوله r.
قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [سورة الكهف].
وقال رسول الله r: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».. الحديث، رواه البخاري ومسلم.
وقال رسولنا r: ((من عمِلَ عملاً ليسَ عليه أمرُنا فهو رد)). رواه مسلم ((أي مردود عليه)).
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((تركتُ فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)). حديث حسن أخرجه الحاكم، والبيهقي.(/3)
وبعدُ، فاحمد الله تعالى أخي الحاج أن أعانك ووفقك ويسر لك الأسباب للوصول إلى الأماكن المقدسة، التي هي أحب البقاع إلى الله عز وجل- فاستشعر ذلك -.
{ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} ولقد اجتمع لك شرف الزمان وشرف المكان.
الحج المبرور
قال رسول الله r: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). [متفق عليه].
أخي الحاج: وفقك الله إلى كل خير.
هل تريد أن يكون حجك مبروراً؟!
إذن ضع نصب عينيك هذين السؤالين عازماً على أن يكون الجواب منك جواباً عملياً!
أولاً: كيف يكون حجك موافقاً لهدي النبي ؟
ثانياً: كيف تحافظ عليه حتى يقبل منك ولا يحبط؟
ربما تعجبت من هذه المقدمة!!
أقول: لأننا رأينا كثيرا من الحجاج إذا أحرموا بالحج لا يستشعرون أنهم تلبسوا بعبادة تفرض عليهم اجتناب ما حرّم الله، والحرص على معرفة هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحج بالأدلة الصحيحة الثابتة، فتجد أن أكثرهم (لم يتغير من سلوكهم المنحرف قبل الحج شيء، وذلك دليل عملي منهم على أن حجهم ليس كاملاً، إن لم يكن غير مقبول) [2]. والعياذ بالله .
ولذا فإن هناك أموراً لا بد لك من معرفتها والعمل بها، وهي كما يلي:
التوحيد أولاً[3]
((لبيك لا شريك لك لبيك)).
جئت أخي الحاج ملبياً بالتوحيد.
لذا فاعلم وفقك الله أنه لا بد من تحقيق معنى هذه التلبية في أقوالك وأعمالك، قلبية كانت أو بدنية، حيث إنه يستلزم عليك تعظيم الخالق بجميع التعظيمات اللائقة به وتعلق القلب به، وصرف جميع أنواع العبادات إليه سواء كانت:
قلبيبة: كالمحبة، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة ونحوها.
أو قولية: كالذكر والدعاء والاستعانة والاستغاثة.
أو بدنية: كالركوع والسجود والطواف ونحوه.
أو مالية: كالذبح والنذر والصدقة ... وغير ذلك.
لقوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [ [سورة الأنعام: 162-163].(/4)
وقال الله تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت} [سورة قريش].
انظر إلى أمر الله في هذه الآية حيث قال: {فليعبدوا رب هذا البيت} ولم يقل: (فليعبدوا هذا البيت).
وقال الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين} [سورة النمل: 91].
{وأمرت أن أكون من المسلمين} أي الموحدين المخلصين الممتثلين لأمره والمجتنبين لنهيه.
فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الذل والانكسار والافتقار إليه سبحانه وتعالى.
قال ابن القيم رحمه الله : (وأقرب باب يدخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالاً، ولا مقاماً، ولا سبباً يتعلق به، ولا وسيلة منه يمن بها، بل يدخل على الله – تعالى – من باب الافتقار الصرف، والإفلاس المحض، دخول من قد كسر الفقرُ والمسكنةً قُلبه ..) [4] .
واعلم أن من تعظيم الله تعالى وإجلاله تعظيم أمره ونهيه، والله تعالى يقول في سياق آيات الحج: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب}.
إن الله عز وجل نهاك عن أشياء ثلاثة: الرفث[5]، والفسوق[6]، والجدال[7]، ثم أمرك بالتقوى؛ فاحرص يا أخي المسلم على اجتناب ما نهيت عنه، وفعل ما أمرتُ به فإن فعلت فأنت الموفق.
واعلم – وفقك الله لطاعته – أنه ينبغي عليك أن تقوم بأداء شعائر الحج على سبيل التعظيم والإجلال والمحبة والافتقار والخضوع لله رب العالمين.
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: من أبى أن يعبد الله فهو مستكبر، ومن عَبَدَ الله وعَبَدَ معه غيره فهو مشركٌ، ومن عَبَدَ الله وحده بغير ما شَرَعَ فهو مبتدعٌ، ومن عَبَدَ الله وحده بما شرع فهو المؤمن الموحِّد.
فإنه لا ينفع حج من يدعو ويستغيث بغير الله، لعدم تحقيق التوحيد.
ثانياً: إقامة الصلاة(/5)
قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [سورة البينة].
وقال الله تعالى: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} [سورة إبراهيم: 31].
فالصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين.
وهي أشهر معالم التوحيد، كما أنها فرقانٌ بين الإسلام والكفر وهي عمود الدين وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة فلا يقبل من العبد زكاة ولا صوم ولا حج ولا بر ولا صدقة حتى يحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها مستوفياً لشروطها وأركانها وواجباتها.
قال الله تعالى:}وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [سورة التوبة: 54 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة))[8].
فالواجب على كل مسلم ومسلمة المحافظة على الصلوات الخمس وتعلم كيفية صلاة النبي عليه الصلاة والسلام لأمره عليه الصلاة والسلام بذلك في قوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))[9].
ويجتهد على نفسه فيها بتحقيق الخشوع وحضور القلب.
لقول الله تعالى: {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون} [سورة المؤمنون].
وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: ((يا بلالُ! أرحنا بالصلاة))[10].
وقوله : ((وجُعلَتْ قرّة عيني في الصلاة))[11].
وقول النبي: ((إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها))[12].
(وكان العلماء السابقون من السلف الصالح يجعلون معيار من يؤخذ عنه العلم تمسكه بالسنة وخاصة في صلاته.
قال إبراهيم النخعي – رحمه الله-: ((كانوا إذا أتوا الرجل يأخذون عنه العلم: نظروا إلى صلاته، وإلى سنته، وإلى هيئته ثم يأخذون عنه)).(/6)
وقال أبو العالية : ((كنا نأتي الرجل لنأخذ عنه فننظر إذا صلى: فإن أحسنها جلسنا إليه وقلنا: هو لغيرها أحسن، وإن أساءها قمنا عنه، وقلنا: هو لغيرها أسوأ))[13].
ثالثاً: الطيبات من الرزق
فأفضل ما أنفقت فيه الأموال، إنفاقها في الوصول إلى المحبوب وإلى ما يحبه المحبوب، فكيف وهو سبحانه الغني الحميد قد وعدنا بإخلاف النفقة والبركة في الرزق.
قال الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39
وإنفاقها في زيارة المسجد الحرام الذي هو أول بيت وضع للناس والصلاة فيه التي تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد والتشرف بالطواف فيه امتثالاً لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [سورة الحج: 39]. هو من خير ما أنفقت فيه الأموال وفرغت من أجله الأوقات، ولكن تعلم أن ذلك مشروط بالنفقة والكسب الحلال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} [سورة المؤمنون: 51].
وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} [سورة البقرة: 172].
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له))[14].
ومعنى الحديث أن الله تعالى سبحانه جل جلاله مقدس منزه عن النقائص والعيوب فهو لا يقبل إلا الطيب من الأعمال وهو ما كان خالياً من المفسدات، كالرياء، والسمعة، والعجب، وسائر أنواع الشرك.
ولا يقبل من الصدقات إلا ما كان من مال طيب حلال، ولا يقبل من الأقوال إلا ما كان طيباً.
وجاء في حديث التشهد: ((التحيات لله، والصلوات، والطيبات)).(/7)
ومعنى ((الطيبات)) أن الله طيب في ذاته وصفاته وأفعاله وأقواله، وأنه لا يليق به إلا الطيب من الأقوال والأفعال الصادرة من الخلق.
فتنبه لذلك وتدبر وأنت تقول التحيات كل يوم تسع مرات أو أكثر.
رابعاً: حسن الخلق
أخي المسلم: اعلم أن لك في حسن الأخلاق، والإحسان إلى الحجاج، وسقايتهم، وعدم مضايقتهم، والتواضع لهم الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى.
حيث قال جل جلاله: {واخفض جناحك للمؤمنين}. [سورة الحجر: 88].
وفي الحديث المتفق عليه: ((إنّ من خياركم أحسنكم أخلاقاً))[15].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب ألي من أن أعتكف في هذا المسجد – مسجد المدينة – شهراً، ومن كف غضبه سترالله عورته، ومن كظم غيظاً، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخُلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل))[16].
خامساً: الصبر والاحتساب
أخي الحاج الكريم: تذكر قوله عليه الصلاة والسلام عن الحج والعمرة بأنهما: ((جهاد لا قتال فيه))[17] وأن الحج مدرسة للأخلاق، وتهذيب للنفوس، وسمو بها إلى أعلى المقامات، وهو اختبار عملي للصبر والأخلاق، فلربما مرضت أو تعبت[18] أثناء تنقلك بين المشاعر، أو ربما فقدت شيئا عزيزاً عليك، أو سمعت خبرا مزعجاً، أو ربما أحسنت فأسيء إليك، أو أصابك الهم والحزن لأي من الأسباب، أو ربما ضاع مالك أو سرق – بإهمال منك أو من غير إهمال – لذا عليك أن تعلم بأن هذا كله ابتلاء من الله تعالى ليمتحن صبرك وثباتك وصدقك أو لحكمة أخرى أرادها الله سبحانه؛ لذا أوصيك هنا بوصايا:(/8)
أولاً: الصبر! الصبر! الصبر! وأكثر من قول: ((قدّر الله وما شاء فعل)) واحذر من أن تقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا[19] ولكن أكثر من الاسترجاع وتذكر قول الله عز وجل:}ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [سورة البقرة: 155-156].
ثانياً: اعلم: ((إن لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه))[20].
بل من عقيدتنا الإيمان بقضاء الله وقدره خيره وشره، وأن الله عز وجل لا يكلف نفسا إلا وسعها.
ثالثاً: أحسن الظن بالله عز وجل، وأنه سيعوضك خيرا كثيراً؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث القدسي فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال: ((أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء))[21] الحديث. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((عجباً لأمر المؤمن أن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له))[22].
وإليك الآن بيان صفة الحج خطوة خطوة:
مواقيت الحج والعمرة
قال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات}
المواقيت: جمع ميقات وهو ما حدد وُوقتَ للعبادة من زمان ومكان، فالميقات الزماني للحج هو في الثلاثة الأشهر (شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة)، وأما الميقات الزماني للعمرة فهو طوال العام في أي وقت شاء اعتمر.
أما المواقيت المكانية فهي الأماكن التي حددها رسول الله} لمن أراد الحج والعمرة بأن يحرم منها ولا يجوز أن يتجاوزها بغير إحرام إذا نوى الحج أو العمرة، ومن يتجاوزها فإنه يجب عليه أن يعود إليها ويحرم منها وإلا فعليه دم يذبحه ويوزعه على فقراء الحرم.(/9)
فعن عبدالله ابن عباس – رضي الله عنهما - ((أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها))[23].
وعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم ((وقّت لأهل العراق ذات عرق)).
فإذا وصل من نوى الحج أو العمرة إلى ميقاته وجب عليه أن يحرم منه، وذلك بأن يخلع ثيابه التي يلبسها، ويرتدي ثياب الإحرام من رداء وإزار ونعلين ثم يعلن التلبية.
وأما المرأة فتحرم بلباسها، وتعلن التلبية بالحج والعمرة، ويستحب عند الميقات: 1- الاغتسال. 2- التطيب في البدن ولا يمس الطيب الإحرام. 3- أن يكون الرداء والإزار أبيضين نظيفين للرجل[24]. أما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب المباحة غير ثياب الزينة ولا يحل لها أن تتطيب بما ظهر ريحه لأن الطيب الذي يجوز للمرأة ما ظهر لونه وخفي ريحه.
أنواع الأنساك الثلاثة
أخي الحاج: كيف تكون متمتعاً أو مفرداً أو قارناً؟
إذا كنت تريد الحج، ووصلت في أشهر الحج وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة إلى الميقات فإنك مخير بين ثلاثة أنساك: التمتع، أو الإفراد، أو القران.
فعليك أخي المسلم أن تنوي أحد هذه الأنساك الثلاثة:
التمتع، وهو أفضلها[25] (إذا لم تسق معك هدي ولم يضق عليك الوقت فتخشى فوات الحج) حيث تقول من عند الميقات: ((لبيك عمرة)) فتأخذ عمرة، ثم تحل الإحرام، وتلبس ثيابك ويحل لك كل شيء من الجماع وغيره من محظورات الإحرام[26]. وفي اليوم الثامن تنوى الحج، وتفعل كما هو موضح لك في هذه الرسالة – واعلم أنه يجب عليك هديٌ – أي تذبح في الحرم ما يتسر لك من سُبُع بدنه، أو سُبُع بقرة، أو واحدة من الغنم.(/10)
الإفراد، وهو أن تحرم بالحج وحده حيث تقول من عند الميقات: ((لبيك حجاً))، ويستحب لك عند وصولك إلى مكة أن تطوف طواف القدوم، ويلزمك أن تبقى على إحرامك حتى يوم النحر، وتفعل في اليوم الثامن[27] كما هو موضح لك في هذه الرسالة ((واعلم أنه لا يجب عليك هدي)).
القران[28], وهو أن تحرم بالحج والعمرة معاً من عند الميقات، فتقول: ((لبيك حجاً وعمرة))، ويستحب لك عند وصولك إلى مكة أن تطوف طواف القدوم وتسعى، ويلزمك أن تبقي عليك الإحرام إلى يوم النحر، وتفعل في اليوم الثامن كما هو موضح لك في هذه الرسالة: ((واعلم أنه يجب عليك هدي)). أما أهل مكة فلا يجب عليهم الهدي. لقوله تعالى: {... لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}. ومن لم يقدر على دفع ثمن الهدي يصوم عشرة أيام متتابعة أو متفرقة، ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، ابتداءً من اليوم السابع من ذي الحجة.
فضل التلبية ورفع الصوت بها[29]
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في تلبيته:
((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)).
وكان من تلبيته صلى الله عليه وسلم: ((لبيك إله الحق)).
جـ- وكان الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم يزيدون: ((لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل)).
د- وكان ابن عمر يزيد فيها: ((لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل)). ومعنى ((لبيك اللهم لبيك)): أنا مجيب لك مقيم على طاعتك مستسلماً لحكمتك مطيعاً لأمرك مرة بعد مرة.
ويؤمر الملبي بأن يرفع صوته بالتلبية لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية))[30].
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((أفضل الحج العجُّ والثج))[31].
و((العج)) رفع الصوت بالتلبية حيث كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته يصرخون بها صراخاً حتى تبح أصواتهم. و((الثج)) سيلان دم الهدي والأضاحي.(/11)
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما من ملب يلب إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا – يعني – عن يمينه وشماله))[32].
فالتلبية شعار الحج، ومن السنة إكثارها ويتأكد قولها عند تغير الحال كركوب سيارة أو مقابلة حاج أو عند التنقل من مكان إلى مكان، فمثلاً عند سيره:
من الميقات إلى الكعبة.
من المكان الذي نزل فيه إلى منى.
من منى إلى عرفات.
من عرفات إلى مزدلفة.
من مزدلفة إلى جمرة العقبة.
أفضل الحجاج والمعتمرين
يقول ابن القيم رحمه الله : ((في الفائدة السادسة والخمسين في ذكر الله عز وجل)).
إن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرا لله – عز وجل-، فأفضل الصُّوَّام أكثرهم ذكرا لله – عز وجل – في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكراً لله – عز وجل، وأفضل الحجاج أكثرهم ذكراً لله عز وجل، وهكذا سائر الأحوال[33].
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الطواف بالبيت، وفي الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله))[34].
قال ابن رجب رحمه الله: وقد تكاثرت النصوص بتفضيل الذكر على الصدقة بالمال وغيره من الأعمال))[35].
محظورات الإحرام على ثلاثة أقسام[36]
القسم الأول: يحرم على الرجال والنساء وهو:
إزالة الشعر من الرأس وسائر الجسد بحلق أو غيره.
تقليم الأظافر من اليدين أو الرجلين.
استعمال الطيب بعد الإحرام في الثوب أو البدن.
الجماع ودواعيه كعقد النكاح أو النظر بشهوة أو التقبيل أو غيره.
قتل الصيد.
لبس القفازين وهما شراب اليدين.
القسم الثاني:ما يحرم على الرجال دون النساء وهما:
لبس المخيط كالفنيلة والسراويل وغيرهما.
تغطية الرأس بملاصق.
القسم الثالث:ما يحرم على النساء دون الرجال وهو:
لبس النقاب ((وهو البرقع)).
(لذلك يحرم على النساء بعد تجاوز الميقات لبس القفازين والبرقع).(/12)
(ولا بأس أن تغطي يديها بثوبها أو غيره. ويجب عليها تغطية وجهها وكفيها إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب لأنها عورة) [37].
أحكام تخص المرأة
أولاً: لابد من وجود محرم مع المرأة إذا أرادت السفر إلى الحج أو غيره، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم ليلة ليس معها محرم))[38]. وكذلك هناك شرط ثاني هو أن لا تكون معتدة من طلاق أو وفاة.
ثانياً: إذا حاضت المرأة أو ولدت وهي في طريقها إلى الحج، فإنها تواصل طريقها إلى الحج ولا تنتظر حتى تطهر، فإن وصلت الميقات وهي حائض أو نفساء فإنها تحرم كغيرها من النساء الطاهرات ويستحب لها أن تتنظف وتغتسل كغيرها من الحاجات، لأن عقد الإحرام لا يشترط فيه الطهارة[39]، ولما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت عميس لما ولدت بذي الحليفة عندما سألته: كيف أصنع؟ قال: ((اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي)) ونستفيد مما سبق أنها:
تحرم من الميقات كغيرها من النساء، وتتجنب محظورات الإحرام[40] وتذهب إلى مكة وإن لم تطهر.
تخلع القفازين والنقاب (وهو البرقع).
(جـ) كما أن لها أن تلبس ما شاءت من اللباس غير الزينة، وليس هناك لون مخصص كما سيأتي[41].
فالمحظور هو أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر وتغتسل من الحيض أو النفاس.
ثالثاً: إذا جاء يوم عرفة ولم تطوف بسبب أنها لم تطهر بعد، وكانت قد أحرمت بالعمرة متمتعة بها إلى الحج فإن عليها أن تحرم بالحج. وتدخله على العمرة وتصبح قارنة، كما تفعل جميع أعمال الحج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر وتغتسل لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت: ((افْعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري))[42]. فإذا طهرت طافت بالبيت وبين الصفا والمروة طوافاً واحداً وسعياً واحداً، فجزأها ذلك عن حجها، وعمرتها جميعاً.
حكم حج الصبي والجارية(/13)
يصح حج الصبي والجارية الصغيرين ولكن لا يجزئهما هذا الحج عن حجة الإسلام ووليهما يفعل عنهما ما عجزا عنه من رمي وغيره وإذا كانا دون سن التمييز يلبي عنهما، ويفعلان جميع ما يفعله الحاج، وإذا قطعا أعمال الحج فلا شيء عليهما.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: رفعت امرأة صبياً لها فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ فقال: ((نعم، ولك أجر))[43].
وفي صحيح البخاري، عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: (حُجَّ بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين) [44].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يحج صبيانه وهم صغار، فمن استطاع منهم أن يرمي رمى ومن لم يستطع أن يرمي، رمى عنه.
فكل ما أمكنه فعله بنفسه لزمه فعله، كالوقوف بعرفة والمبيت في مزدلفة ونحو ذلك، وما عجز عنه، عمله وليه.
من خصائص الحرم[45] وأحكامه[46]
أولاً:فضله، وأن العبادة فيه أفضل من العبادة في الحل، وهذا باتفاق العلماء.
ثانياً:مضاعفة الأعمال الصالحة فيه، كمضاعفتها بالمسجد الحرام، وهذا قول طائفة من أهل العلم، وهو الراجح.
ثالثاً:عظم السيئات وغلظها وشدتها فيه، قال الله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [سورة الحج: 25].
رابعاً:تحريم صيده على المحرم وغير المحرم، وهذا بإجماع العلماء.
خامساً:تحريم قطع شجره وحشيشه الأخضرين البريين إلا الاذخر، واستثنى العلماء ما له شوك، فلا يحرم، فيقاس على الحيوان المؤذي، ويستثني ما أنبته الآدمي، فلا يحرم.
سادساً:يحرم أن يدخله الكفار لقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام} [التوبة: 28].
سابعاً:لقطة مكة لا يحل لأحد أن يلتقطها إلا من أراد أن ينشدها دائماً أو يسلمها إلى ولي الأمر لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((ولا تحلُّ لقطتها إلا لمنشد...)) [47].
صفة دخول مكة
من قدم يريد الحج والعمرة فعليه قبل الطواف أمران:
الاحرام من المكان الذي يجب عليه الإحرام منه.(/14)
الطهارة الكاملة من الحدث الأصغر والأكبر.
لقول عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت))[48] وأما ما يسن لدخول مكة:
الاغتسال : ودليل ذلك ما رواه نافع قال: ((كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية؛ ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح، ويغتسل ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك))[49].
الدخول من باب بني شيبة، إذا أمكنه ذلك أو من أي باب.
وعند دخول المسجد الحرام يقدم رجله اليمنى ويقول: بسم الله، اللهم صلي على محمد، اللهم افتح لي أبواب رحمتك أو ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم)).
عند رؤية البيت يدعو بما شاء وليس هناك دعاء مخصوص.
وإن شاء دعا بدعاء عمر رضي الله عنه: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام))، فحسنٌ، لثبوته[50].
صفة العمرة
صفة العمرة
الطواف:
إذا دخل المعتمر المسجد الحرام يتجه إلى الكعبة مباشرةً قاصداً الابتداء من الحجر الأسود ويسن له في طواف القدوم أمران:
أن يضطبع وهو أن يخرج منكبه الأيمن ويغطي الأيسر.
يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخطى.
ويبدأ من الحجر الأسود[51] يستلمه بيمينه ويقبله إن أمكن من غير مزاحمة شديدة، وإن لم يتمكن من استلامه يشير بيده قائلاً في بداية الشوط الأول:(/15)
((بسم الله والله أكبر)) وباقي الأشواط يقول: في بدايتها ((الله أكبر))، ثم يجعل البيت عن يساره، فيطوف حول البيت من وراء الحجر سبعة أشواط، وليس هناك دعاء مخصوص لكل شوط، بل يدعو بما شاء من الأدعية ويسال الله من خيري الدنيا والآخرة. وكلما مر بالحجر الأسود استلمه وقبله إن استطاع فإن شق عليه ذلك فإنه يستلمه بيده ويقبلها أو يستلمه بعصا ويقبلها وإن شق ذلك كله أشار إليه وكبر، وإذا أشار إليه فإنه لا يقبل يده. كل هذه الصفات وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي مرتبة حسب ما يتيسر. أما الركن اليماني فإنه يستلمه فقط ولا يقبله عند استلامه فإن لم يتمكن من استلامه لا يشير إليه كما يفعله بعض الناس، وكان صلى الله عليه وسلم لا يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني، فإذا أكمل سبعة أشواط كاملة تم طوافه وإن شك في عدد الأشواط بنى على الأقل وأكمل النقص.
الأدعية في الطواف
عند محاذاة الحجر الأسود يستقبله ببدنه ويستلمه قائلاً: ((بسم الله والله أكبر))[52] لثبوت ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، فهذه كلمات عظيمة لابد من استشعارها وفي استلام الحجر الأسود فضلٌ كبير لقوله صلى الله عليه وسلم في الحجر: ((ليبعثن الله الحجر يوم القيامة، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، ويشهد على من استلمه بحق))[53]، وقال: ((مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطا))[54].
ويقبله تعظيماً لله عز وجل واتباعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولذا قبّل عمر بن الخطاب الحجر الأسود وقال: ((إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك))[55].
ثم يقول: ((اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم)).
كما كان علي رضي الله عنه يقول ذلك في بداية الطواف[56].(/16)
ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار))[57]. وله أن يذكر الله ويقرأ القرآن ويدعو بما شاء. قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: ((كان عبد الرحمن بن عوف – أو سعد بن أبي وقاص – يطوف بالبيت وليس له دأب إلا هذه الدعوة: رب قني شح نفسي، رب قني شح نفسي)).
فقيل له: أما تدعو بغير هذه الدعوة؟
فقال: إذا وقيت شُحَّ نفسي، فقد أفلحت[58]، وقد قال الله تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9، والتغابن: 16].
وقد ذكر ابن تيمية أن القائل هو عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه.
وورد في فضل الطواف والركن الأسود واليماني حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن مسحهما كفارة للخطايا، وسمعته يقول: من طاف بهذا البيت أسبوعاً فأحصاه – أي طاف سبعة أشواط-: كان كعتق رقبة، وسمعته يقول: لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة))[59].
الصلاة خلف مقام إبراهيم
والشرب من ماء زمزم
وإذا انتهى من الشوط السابع غطّى كتفه الأيمن وانطلق إلى مقام إبراهيم وقرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [سورة البقرة: 125].
ثم يصلي ركعتين خلف المقام إن تيسر ذلك (وهي سنة) ويجعل المقام بينه وبين البيت ولو صلى بعيدا عن المقام، ولا يسبب المضايقة على الطائفين.
وإن لم يتيسر له ذلك لزحام أو غيره صلاهما في أي موضع من المسجد ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة: {قل يا أيها الكافرون} وفي الأخرى بعد الفاتحة: {قل هو الله أحد} ولا يطيل فيهما ويضايق المسلمين.
وبعد ذلك يستحب له أن يذهب إلى زمزم ويشرب منها ويصب على رأسه لفعله صلى الله عليه وسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم عن ماء زمزم ((إنه طعام طُعْم))[60].(/17)
ثم يرجع إلى الحجر الأسود فيكبر ويستلمه إن استطاع لفعله صلى الله عليه وسلم ذلك بعد انتهائه من ماء زمزم، فإن لم يتيسر له ذلك ذهب للسعي مباشرة.
السعي بين الصفا والمروة
بعد ذلك يذهب إلى الصفا، فإذا دنا من الصفا قرأ هذه الآية: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم}158 [سورة البقرة]. وفي رواية مسلم إلى قوله: {من شعائر الله}. ولا يقرأها إلا عند البداية فقط ويقول: ((أبدأ بما بدأ الله به))[61].
ثم يبدأ بالصفا فيرتقي عليه حتى يرى الكعبة.
فيستقبل الكعبة، ويرفع يديه كصفة الداعي ويوحِّد الله ويكبره، فيقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير.
لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، هزم الأحزاب وحده، يقول ذلك ثلاث مرات، ويدعو بين ذلك.
وعلى هذا يكون المجموع في بداية كل سعي.
التكبير تسعاٌ والتهليل ستاً والدعاء مرتين . (ذكر ذلك ابن تيمية في شرحه للعمدة 2/455).
ثم ينزل ليسعى بين الصفا والمروة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي))[62].
ويشتغل أثناء سعيه بالدعاء والتضرع إلى الله سبحانه.
فيمشي إلى العلَم (الأنوار الخضراء) عن اليمين والشمال، وهو المعروف بالميل الأخضر، ثم يسعى منه سعياً شديداً إلى العلم الآخر الذي بعده، والشدة بالجري خاصة بالرجال دون النساء.
ودليل ذلك ((فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يسعى حتى تدور به إزاره من شدة السعي))[63].
ثم يمشي حتى يأتي المروة فيرتقي عليها، ويصنع فيها كما صنع على الصفا من استقبال القبلة، والتكبير والتوحيد، والدعاء، ويعتبر هذا شوطاً واحداً.
ثم يعود حتى يصل إلى الصفا، يمشي موضع مشيه، ويسعى موضع سعيه، وهذا شوط ثان[64].(/18)
وإن دعا في السعي بقوله: ((رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم)) فلا بأس لثبوته عن ابن عمر وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم.
ثم يعود إلى المروة، وهكذا حتى يتم له سبعة أشواط نهاية آخرها على المروة.
فإذا انتهى من الشوط السابع على المروة قص شعر رأسه إذا كانت عمرته قريبة من الحج ويشترط تعميم الرأس كله والمرأة قدر أنملة.
وبذلك تنتهي العمرة، وحل له ما حرم عليه بالإحرام، ويمكث هكذا حلالاً إلى يوم التروية.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ارحم المحلّقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلّقين، قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين)). رواه البخاري ومسلم.
أركان العمرة:
الإحرام. 2- الطواف. 3- السعي.
واجبات العمرة:
1- الإحرام من الحل. 2- الحلق أو التقصير.
أركان الحج
الأول: الإحرام الثاني: طواف الإفاضة.
الثالث: الوقوف بعرفة. الرابع: السعي بين الصفا والمروة.
واجبات الحج
الأول: الإحرام من الميقات.
الثاني: الوقوف بعرفة إلى الغروب لمن وقف نهاراً.
الثالث: المبيت بمزدلفة إلى الفجر حتى يسفرّ الصبح جداً إلا الضعفاء، والنساء فإلى غيبوبة القمر..
الرابع: المبيت بمنى ليالي أيام التشريق.
الخامس: رمي جمرة العقبة والجمار أيام التشريق.
السادس: الحلق أو التقصير. السابع: طواف الوداع.
ملحوظة مهمة جداً:
سيمر معك أخي القارئ علامات وضعتها في بعض الأماكن في يوميات الحاج تُميِّزُ الركن من الواجب من السنة، وإليك إيضاح ذلك: قمت بوضع علامة (***) إشارة إلى الركن، وعلامة (**) إشارة إلى الواجب، وعلامة (*) إشارة إلى السنة، فتأمل ذلك جيداً.
ثم اعلم رحمك الله بأن من ترك ركنا لم يصح حجه ولا يتم إلا به، ومن ترك شيئاً من واجبات الحج فعليه دم لفقراء الحرم. ومن ترك سنة فلا شيء عليه.
يوميات الحاج
يوميات الحاج
بيان ما يفعله الحاج ابتداءً من اليوم الثامن
أخي الحاج:(/19)
(*) يسمى اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ((يوم التروية)).
(*) قبل نية الدخول في النسك ولبس الإحرام يستحب للمتمتع أن يغتسل ويتنظف ويقص أظافره ويحف شاربه ويلبس الإزار والرداء الأبيضين وأما المرأة فتلبس ما شاءت غير القفازين والنقاب وهو البرقع وأما القارن والمفرد فيكون عليهما الإحرام من قبل. فلا يفعلان كما يفعل المتمتع من قص وغيره.
(*) وفي وقت الضحى من هذا اليوم، تُحْرِمُ من المكان الذي أنت نازل فيه حيث تنوي أداء مناسك الحج، و تقول: لبيك حجاً وهو ما يسمى بـ (الإهلال بالحج).
(*) إن كنت خائفاً من عائق يمنعك من إتمام الحج فاشترط وقل بعد الإهلال بالحج : ((فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني)) وإن لم تكن خائفاً فلا تشترط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط.
(**) بعدما تنوي الحج يجب عليك أن تتجنب محظورات الإحرام جميعها[65].
(*) ثم تكثر من التلبية وهي: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)) ولا تقطعها حتى ترمي جمرة العقبة في اليوم العاشر من ذي الحجة.
(*) ثم تنطلق إلى منى وأنت تلبي حيث تصلي فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر كل صلاة في وقتها حيث تصلي الرباعية منها ركعتين قصراً بلا جمع، ولا فرق بين الحجاج من أهل مكة وغيرهم فالجميع يقصر الصلاة.
(*) لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ على شيء من السنن الرواتب في السفر إلا سنة الفجر بالإضافة إلى الوتر.
(*) وينبغي أن تحافظ على الأذكار الثابتة[66] التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة وأذكار الصباح والمساء والنوم وغيرها.
(*) ثم تبيت في منى هذه الليلة كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
من مخالفات اليوم الثامن من ذي الحجة(/20)
عدم سؤال أهل العلم عما خفي من أحكام الحج، فترى كثيراً من الحجاج يقومون بأداء الحج بناء على ما يرونه من فعل العامة من الناس ولسان حالهم يقول: رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلت، وهذا عين الجهل ولا يعذر من أخطأ في ذلك، لأن الله تعالى يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [سورة الأنبياء: 7].
كثير من الحجاج ((يضطبع))[67] من هذا اليوم إلى نهاية الحج، وهذا خطأ، فالاضطباع لا يشرع إلا أثناء طواف القدوم فقط.
اعتقاد بعض النساء أن لثياب الإحرام لوناً خاصاً كالأخضر أو الأبيض مثلاً وهذا من الجهل والخطأ، فالمرأة تحرم بثيابها العادية الشرعية إلا ثياب الزينة، كما أنها لا تلبس النقاب ولا القفازين.
من الحجاج من يستعد للإحرام بأمور محرمة كتقصير أو حلق اللحية أو إسبال الإزار ونحو ذلك مما ينقص أجر الحج.
يُرى من بعض الحجاج تركه المبيت بمنى اليوم الثامن بل إن بعضهم ينطلقون في هذا اليوم إلى عرفات وهذا خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يدعو كثير من الحجاج الله تعالى بأدعية لا يفقهون لها معنى وذلك بناء على ما يقع في أيديهم من كتب الأدعية والأذكار الغير صحيحة.
والمشروع أن يدعو الله تعالى بدعاء ثابت يعرف معناه ويرجو من الله إجابته[68].
لا يشرع للمسلم التلفظ بما نوى لأن النية محلها القلب، ولكن الذي يشرع ذكر النسك الذي يريده من حج أو عمرة بعد لبس ثياب الإحرام مثل أن يقول: لبيك عمرة، أو اللهم لبيك عمرة. وإن كانت نيته الحج قال: لبيك حجاً، أو اللهم لبيك حجاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. أما في الصلاة والطواف وغيرهما فلا يتلفظ في شيء منها بالنية فلا يقول: نويت أن أصلي كذا وكذا، ولا نويت أن أطوف كذا، بل التلفظ بذلك من البدع المحدثة والجهر بذلك أقبح وأشد إثماً[69].
ثاني أيام الحج
أعمال اليوم التاسع من ذي الحجة
(الحج عرفة )(/21)
(*) إذا صليت الفجر.. وطلعت عليك الشمس فانطلق إلى عرفة وأنت تلبي قائلاً ((لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)) وتكبر قائلاً: ((الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)) ترفع بذلك صوتك.
(*) يكره لك صيام هذا اليوم حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم مفطراً إذ أرسل إليه بقدح لبن فشربه.
(*) من السنة أن تنزل في نمرة إلى الزوال[70] إن أمكن.
(*) ثم تكون هناك خطبة وبعدها تصلي الظهر والعصر جمع تقديم بركعتين لا يجهر فيهما بقراءة القرآن وتكون بأذان وإقامتين. ولا تصلي بينهما ولا قبلهما شيئاً من النوافل.
(***) ثم تدخل عرفة وتتأكد أنك داخل حدودها[71] لأن وادي عرنة ليس من عرفة.
(*) وتتفرغ للذكر والتضرع إلى الله عز وجل والدعاءء بخشوع وحضور قلب[72].
(*) عرفة كلها موقف .. وإن تيسر لك أن تقف عند الصخرات أسفل الجبل – الذي يسمى جبل الرحمة وتجعله بينك وبين القبلة فهو أفضل.
(*) وليس من السنة صعود الجبل، كما يفعله بعض الجهلة.
(*) أثناء الدعاء تستقبل القبلة رافعاً يديك تدعو بخشوع وحضور قلب حتى الغروب. ولا تنشغل بالضحك والمزاح أو النوم عن الدعاء كما هو حال الغافلين . نسأل الله السلامة.
(*) وتكثر من قول (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، كذلك تقول التلبية وتزيد عليها ((إنما الخير خير الآخرة)) وتكثر أيضاً من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
(**) لا تخرج من عرفة إلا بعد غروب الشمس[73].
(*) قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما ُرئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما أُريَ يوم بدر ...)) الموطأ.(/22)
(*) وفي مثل هذا اليوم وهذا المكان أنزل الله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3].
(**) بعد الغروب تنطلق إلى مزدلفة بهدوء وسكينة، وإذا وجدت متسعاً فأسرع قليلاً لأنها السنة، وتستغفر الله وتذكره.
(*) قال الله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}[سورة البقرة: 199].
(**) حين تصل إلى مزدلفة تصلي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، والسنة أن تجعل المغرب ثلاث ركعات، والعشاء ركعتين، ولا تصل بعدهما شيئاً إلا أن توتر، فإن كنت تخشى أن لا تصل إلى مزدلفة إلا بعد منتصف الليل بسبب الزحام أو غيره فإنه يجب عليك أن تصلي ولو في الطريق، والمهم في ذلك أن تصلي الصلاة قبل أن يخرج عليك وقتها.
(**) ثم تنام حتى الفجر.. أما الضعفاء والنساء فيجوز لهم الذهاب إلى منى بعد منتصف الليل والأحوط بعد غيبوبة القمر.
(**) وجوب المبيت في مزدلفة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني مناسككم)) ولقوله تعالى:
{فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام}. فهذا الأمر القرآني الصريح يدل على أنه لابد من ذكر الله عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات ومزدلفة كلها موقف، تدخل في مسمى المشعر الحرام، أما المعذور فله أن يذكر الله ليلاً.
من مخالفات اليوم التاسع
بعض الحجاج يقف خارج حدود عرفة، ومن حصل منه هذا ولم يستدرك نفسه بالوقوف ولو قبل طلوع فجر يوم النحر بلحظات فقد فسد حجه ولزمه إتمامه أولاً وكذا إعادته إن كان فرضاً السنة القادمة.
صيام هذا اليوم من بعض الحجاج، ومن صام يخشى عليه الإثم.
التكلف بالذهاب إلى ما يسمى بـ((جبل الرحمة)) وصعوده.
الانشغال يوم عرفة بالضحك والمزاح وفضول الكلام، وإضاعة الوقت بالنوم عن الدعاء والذكر.
يلاحظ أن بعض الحجاج – هداهم الله – يلتقطون لهم صوراً ((فوتوغرافية)) ويسمونها صوراً تذكارية وهذا منكر.(/23)
يرى من كثير من الحجاج الإسراع والمسابقة بالسيارات حين الإفاضة، علماً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في هذا الموضع: ((السكينة السكينة)).
ولا يقتصر الأمر على سائق السيارة بل كل من في السيارة ينشغل معه ويترك التلبية.
عدم تحري جهة القبلة عند الصلاة في مزدلفة.
لا ينبغي لأحد أن يدع المبيت في مزدلفة لأنه واجب من واجبات الحج، ومن ترك المبيت وهو ليس من أهل الأعذار الشرعية فعليه دم.
ثالث أيام الحج
أعمال اليوم العاشر وهو يوم النحر «العيد »
(**) لابد من صلاة الفجر لجميع الحجاج في مزدلفة إلا الضعفاء والنساء؛ يجوز لهم الذهاب بعد غيبوبة القمر.
(*) بعد صلاة الفجر والانتهاء من الأذكار عقب الصلاة تستقبل القبلة: فتحمد الله، وتكبره، وتهلله، وتدعوه حتى يسفر الصبح جداً.
(*) ثم تنطلق قبل طلوع الشمس إلى منى ملبياً، وعليك السكينة.
(*) إذا مررت بوادي مُحسِّر[74] تسرع السير إن أمكن.
(*) تلتقط سبع حصيات من أي مكان من طريقك من مزدلفة إلى منى، أو من منى، وتستمر في التكبير والتلبية ولا تقطع التلبية إلا مع بداية الرمي.
ثم عليك ما يلي:
(**) ترمي جمرة العقبة[75] بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى وتكبر مع كل حصاة.
(**) تذبح الهدي وتأكل منه وتوزع على الفقراء قال الله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} [سورة الحج: 28]، والذبح واجب على المتمتع والقارن فقط. وتقول عند الذبح والنحر: ((بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبل مني)).(/24)
(**) ثم تحلق أو تقصر مع تعميم الرأس كله، والحلق أفضل مبتدئاً باليمين، وهذا الحلق فيه كمال الخضوع والذل والإنقياد لله عز وجل، أما المرأة فتقصر بقدر أنملة، وهي طرف الأصبع؛ وبذلك تتحلل التحلل الأول، فتلبس ثيابك وتتطيب، ويحل لك جميع محظورات الإحرام إلا النساء، ولا يحل لك الجماع إلا بعد طواف الإفاضة والسعي إن كان عليك سعي. أما إذا جامع الرجل زوجته بعد رمي جمرة العقبة, فحجه صحيح، وعليه دم شاة توزع على فقراء الحرم.
(***) بعد ذلك تذهب إلى مكة وتطوف طواف الإفاضة بدون رمل وهو: الإسراع في المشي مع تقارب الخطى أثناء الطواف ثم تصلي ركعتي الطواف ولقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم متطيباً لابسا الملابس المعتادة.
(***) ثم تسعى. والسعي على المتمتع، وكذا على القارن والمفرد اللذين لم يسعيا مع طواف القدوم؛ وبذلك تتحلل التحلل الكامل.
(*) إن قدّمت بعض هذه الأمور على بعض فلا حرج.
(*) وتشرب من ماء زمزم. وتصلي الظهر[76] في مكة إن أمكن.
(**) ثم عليك المبيت بمنى باقي الليالي.
من مخالفات اليوم العاشر
بعض الحجاج يصلون الفجر ليلة مزدلفة قبل دخول الوقت، وهذا خطأ عظيم وتعدٍ على حدود الله عز وجل والصلاة قبل دخول الوقت محرمة، وغير مقبولة.
يتساهل كثير من الحجاج فيرمي جمرة العقبة من خلفها؛ مما يحول بينه وبين إيقاع الحصى داخل الحوض لأن الحوض نصف دائري.
من الحجاج من يعتقد أثناء رميه جمرة العقبة أنه يرمي (الشيطان)، وهذا من الجهل والخطأ؛ حيث إن الرمي وضع اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وإقامة لذكر الله عز وجل كما بيِّن ذلك معلم البشرية عليه الصلاة والسلام، واقتداءً بأبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
يعمد كثير من الحجاج بعد رمي الجمرة إلى حلق لحيته، وهذه معصية في وقت ومكان فاضلين.(/25)
عدم تعظيم هذا اليوم بذكر الله تعالى وعمل القربات من النوافل كالصدقة وإفشاء السلام على المسلمين وطلاقة الوجه لهم وإدخال السرور عليهم؛ حيث إن هذا اليوم يوم عيد.
قال صلى الله عليه وسلم: (( إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر ثم يوم القرِّ)). [رواه أبو داود]. ويوم القر هو اليوم الأول من أيام التشريق، وهو اليوم الذي يلي يوم النحر، وهو أفضل أيام التشريق، وسمي يوم القر لأن أهل منى يستقرون فيها.
بعض الحجاج يذبح ولا يتحرى ما يشترط في الهدي، حيث جاء في فتاوى اللجنة الدائمة ما نصه: ((يشترط في الهدي ما يشترط في الأضحية، فلا تجزئ العوراء البيِّن عورها، ولا المريضة البين مرضها، ولا العرجاء البين عرجها، ولا الهزيلة التي لا تنقي[77]، وأدنى سن في الشاة ستة شهور، وفي المعز سنة، وفي البقر سنتان، وفي الإبل خمس سنين، فما كان أقل من ذلك لا يجزئ هديا ولا أضحية))[78]. وقال الله تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هدأكم وبشر المحسنين} [الحج: 37].
يقوم بذبح الهدي من لا يصلي، وهذا لا تقبل منه وتعتبر ذبيحته خبيثة[79].
ومن السنة أن تذبح ذبيحتك بيدك؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولقد قال الله تعالى: {فصل لربك وانحر} [سورة الكوثر].
الذبح خارج حدود الحرم كعرفات وجدة، وغيرهما، وهذا لا يجزئ ولو وزع لحمه في الحرم، فمن فعل ذلك يجب عليه هدي آخر يذبحه داخل حدود الحرم المعروفة ويوزعه (سواء فعل ذلك جاهلاً أو عالماً) [80].
للذبح أيام محددة وهي يوم العيد وثلاثة أيام بعده فلا تتجاوزها.
على كل شاب أعطاه الله القوة أن يسارع في تطبيق أعمال الحج في أول وقتها لحصول الأجر العظيم، وتشجبع الناس ليقتدوا به، ولا يُسَوَّف ويجعل نفسه من أهل الأعذار.
رابع أيام الحج
أعمال اليوم الحادي عشر من ذي الحجة
«أيام التشريق »(/26)
(*) اعلم أن هذه الأيام تسمى أيام التشريق. وهذا هو اليوم الأول منها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله)). [رواه مسلم].
(*) رمي الجمار شرع لإقامة ذكر الله.
(*) من ذكر الله المحافظة على الصلوات الخمس مع الجماعة[81].
(*) ويسن كثرة التكبير بعد الصلاة، وأن تكبر الله في كل حال وزمان في الأسواق والطرقات وغيرها، لفعل ابن عمر رضي الله عنهما.
(*) ويبدأ رمي الجمرات الثلاث بعد الظهر أي بعد الزوال حيث تجمع إحدى وعشرين حصاة من أي مكان من منى.
(**) فتبدأ برمي الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى التي تسمى ((العقبة)).
(**) ترمي كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى وتكبر مع كل حصاة.
(*) والأفضل في رمي الجمرة الصغرى والوسطى أن ترميها وأنت مستقبل القبلة والجمرة بين يديك. ثم تتقدم على الجمرة أمامها بعيداً عن الزحام فتستقبل القبلة وتدعو طويلاً، تجعل الجمرة الصغرى عن يسارك، والوسطى عن يمينك أثناء الدعاء لفعله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة[82].
فليحرص المسلم على الوقوف للدعاء ولو قلّ. لأن السنة كلما ضيعت كان فعلها أوكد، وليجمع العامل بها بين فضيلة العمل وإحياء السنة.
(*) وترمي جمرة العقبة مستقبلها جاعلا الكعبة عن يسارك ومنى عن يمينك ثم تذهب ولا تقف للدعاء لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقف بعدها.
(*) لا يجوز أن يوكل في الرمي إذا كان صحيحاً بل يجب عليه أن يرمي بنفسه ما دام قادراً على الرمي. لكن لو فرض أنه عاجز ولا يمكنه الرمي بنفسه لا في النهار ولا في الليل فهنا يجوز له التوكيل، ولا يشترط للموكل أن يلتقط الحصى بنفسه ويعطيها من وكله، ولأن رمي الجمار عبادة أفردت لها سبع مسائل في الصفحات القادمة نظراً للأهمية.
(**) ثم عليك المبيت بمنى.
سبع مسائل في رمي الجمرات[83](/27)
المسألة الأولى: حكم الرمي: الرمي واجب من واجبات الحج وهو أطول زمن يقضيه الحاج في منى أيام حجه حيث يستغرق من وقته ثلاثة أيام أو أربعة.
وهل يجبر الواجب؟ نعم يجبر بدم.
المسألة الثانية: حجم الحصى: يكون مثل حصى (الخذف) [84] وقد حددها بعض الفقهاء بأنها: أكبر من الحمص وأصغر من البندق. وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته ألقط لي حصى فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: ((أمثال هؤلاء فارموا)) ثم قال: ((يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)).
المسألة الثالثة: عدد الحصى ومكان لقطه: تَرمى الجمرة الواحدة بسبع حصيات، ومجموع الحصى الذي يرمي به الحاج الجمرات طوال أيام الحج سبعون حصاة. أو تسع وأربعون حصاةً لمن تعجل.
حيث يجب على كل حاج أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات، يسن له أن يلتقط الحصى من مزدلفة أو من طريقه إلى منى.
أما أيام التشريق يجب عليه أن يرمي الجمرات الثلاث كل جمرة بسبع حصيات، يجوز له أن يلتقط الحصى من أي مكان من منى.
المسألة الرابعة: شروط الرمي:
أن يكون المرمي به حصى فلا يصح أن يرمي بأسمنت أو طين أو حجر كبير أو غيره، لأنه لا يطلق عليه اسم الحصى.
أن تقع الحصاة في الحوض الدائري على الجمرتين الصغرى والوسطى، أما جمرة العقبة فالحوض نصف دائرة فينتبه لذلك لأن الكثير يرميها من الخلف ولا تقع في الحوض وهذا الرمي غير صحيح, إلا إذا رماها من فوق الجسر جاز له ذلك.
ج- تفريق الرميات أي يرمي واحدة بعد واحدة، ولا يصح أن يرمي السبع جميعاً بكف واحد، وإذا رمى السبع بكف واحد تعتبر له رمية واحدة.
د- ترتيب رمي الجمرات: يرمي الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة ولا يصح العكس.(/28)
المسألة الخامسة: وقت رمي جمرة العقبة يبتدئ من طلوع الشمس إلى الزوال من يوم النحر فمن رماها في هذا الوقت فقد أصاب سنتها ووقتها المختار، وإنه لا يرمي يوم النحر غيرها، أما الضعفاء والمرضى وكبار السن ونحوهم ممن يشق عليهم مزاحمة الناس ومن يرافقهم كالسائق أو المحرم أو المساعد فإنهم ينصرفون من مزدلفة إلى منى بعد مغيب قمر ليلة النحر، فمتى ما وصلوا إلى جمرة العقبة جاز لهم رميها وآخر وقت لرمي جمرة العقبة ينتهي بغروب شمس ذلك اليوم.
أما وقت رمي الجمرات أيام التشريق: فيبدأ الرمي من زوال الشمس وهو وقت دخول صلاة الظهر وينتهي بغروب الشمس لمن ليس له عذر.
والأفضل فعل العبادة في أول وقتها لمن قدر على ذلك ولفعله صلى الله عليه وسلم وقوله: ((خذوا عني مناسككم)).
المسألة السادسة: جواز الرمي ليلاً أيام التشريق، فمن كان له عذر جاز له مثل الرعاة والسقاة وكبار السن وكل ضعيف والنساء عموماً لمنع اختلاطهن بالرجال وخوف التكشف.
ولا يجوز التوكيل إلا لمن لا يستطيع الرمي ليلاً أو نهاراً مثل الحامل التي تخشى على ولدها أو المريضة أو لعذر نحوهما، ولا يجوز أن يتولى الرمي إلا من كان حاجاً.
المسألة السابعة: سنن الرمي:
من السنّة للحاج عند دخوله منى أن يبتدئ برمي جمرة العقبة وهي تحية منى.
يستقبل جمرة العقبة حيث يجعل منى عن يمينه والكعبة عن يساره ثم يرمي ويقطع التلبية.
جـ- يكبر مع كل حصاة (الله أكبر).
د- يسن أيام التشريق أن يذهب إلى الجمرات الثلاث ماشياً.
هـ- يسن أن يقف للدعاء مستقبل القبلة بعد رمي الجمرة الأولى والتي تسمى الصغرى يجعلها على يساره بعيداً عن الزحام ويرفع يديه يدعو وكذلك بعد رمي الجمرة الوسطى يجعلها عن يمينه بعيداً عن الزحام ويطيل في دعائه، وليس هناك دعاء بعد رمي جمرة العقبة[85].
من مخالفات اليوم الحادي عشر
الرمي قبل الزوال ومن رمى قبل الزوال فعليه دم إلا أن يعيده بعد الزوال فلا شيء عليه.(/29)
من الخطأ رمي الجمار بالعكس حيث يبدأ برمي الكبرى ثم الوسطى، ثم الصغرى, فمن فعل ذلك فيجب عليه إعادة رمي الوسطى ثم الكبرى.
من ترك الرمي في اليوم الثاني عشر ظنّاً منه أن هذا هو التعجل وغادر ولم يطف للوداع فما حكم حجه؟
فالجواب:(حجه صحيح؛ لأنه لم يترك فيه ركناً من أركان الحج، ولكن ترك فيه ثلاث واجبات إن كان لم يبت ليلة الثاني عشر بمنى.
الواجب الأول: المبيت بمنى ليلة الثاني عشر.
والواجب الثاني: رمي الجمار في اليوم الثاني عشر.
والواجب الثالث: طواف الوداع.
ويجب عليه لكل واحد منها دم يذبحه في مكة ويوزعه على الفقراء، لأن الواجب في الحج عند أهل العلم إذا تركه الإنسان وجب عليه دم يذبحه في مكة ويفرقه على الفقراء) من كتاب (فتاوى أركان الإسلام، لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله تعالى-).
خامس أيام الحج
أعمال اليوم الثاني عشر من ذي الحجة
ثاني أيام التشريق
(**) يلزمك المبيت بمنى هذه الليلة.
(*) عليك أن تستغل وقتك بفعل الخيرات وذكر الله والإحسان إلى الخلق.
(**) وبعد الظهر ترمي الجمرات الثلاث وتفعل كما فعلت في اليوم الحادي عشر فترمي بعد الظهر الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى.
(*) وتقف للدعاء بعد الصغرى والوسطى.
(*) وبعد أن تنتهي من الرمي إن أردت أن تتعجّل في السفر جاز لك.
(**) إن نويت التعجل فيلزمك الانصراف من منى قبل غروب الشمس وتطوف طواف الوداع. ولا شيء عليك إذا تأخرت بسبب الزحام.
(*) لكن التأخُّر للحاج أفضل لقول الله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى}[البقرة]. ولفعل رسول الله e ولنيل فضيلة الرمي.
(*) إذا أمكنك أن تصلي أثناء بقائك في منى أيام التشريق في مسجد الخيف كان أفضل؛ لأنه ((صلى في مسجد الخيف سبعون نيباً))[86].
سادس أيام الحج
أعمال اليوم الثالث عشر من ذي الحجة
ثالث أيام التشريق
(**) بعد المبيت بمنى ليلة الثالث عشر.(/30)
(**) ترمي الجمرات الثلاث بعد الزوال وقت دخول صلاة الظهر وتفعل كما فعلت في اليومين السابقين.
(**) فإذا عزمت الرجوع إلى بلدك فطف طواف الوداع، أما الحائض والنفساء فليس عليهما طواف وداع، إلا إذا طهرتا قبل السفر فوجب عليهما.
قال الله تعالى:{وأتموا الحج والعمرة لله}[87].
وبذلك تمت مناسك الحج ولله الحمد والمنة[88].
من مخالفات يومي الثاني عشر والثالث عشر
عدم المحافظة على نظافة المكان وتركه متسخاً دون أي مبالاة وهذا ليس من أدب الإسلام في شيء.
كثير من الناس يغفل عن حسن الخلق وإنما الأعمال بالخواتيم.
قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُقٍ حسن)) [رواه الترمذي].
الالتزام بزيارة المسجد النبوي؛ حيث يعتقد بعض الحجاج أن لها علاقة بالحج، أو أنها من مكملاته وهذا خطأ، والصحيح أن زيارة المسجد النبوي سنة قبل الحج أو بعده، وليست من مكملاته. والصلاة فيه بألف صلاة، فيكون مقصد السفر للصلاة فيه لا لزيارة القبر، وبعد الصلاة يستحب زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – والسلام عليهم ثم زيارة مسجد قباء للصلاة فيه، ثم زيارة بقيع الغرقد حيث قبور الصحابة رضي الله عنهم، والسلام عليهم، والدعاء لهم، ثم قبور الشهداء في أحد والدعاء لهم.
وأحذر من دعاء الأموات أو الاستغاثة بهم، لكونه شركاً أكبر ومحبطاً للعمل.
أثر الحج
وتحقيق العبودية بترك أمور الجاهلية
وقف النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً عظيماً وأعلن إعلاناً أشهد عليه صحابته خير هذه الأمة، وذلك تقرباً إلى الله عز وجل فتدبر أيها الحاج ملياً هذه الخطبة:
حيث قال صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.
ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع.(/31)
ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل.
وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا. ربا عباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله.
فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرّح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعد إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك وأديت، ونصحت لأمتك، وقضيت الذي عليك، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)). رواه مسلم.
............................................................................
طرق كسب الثواب
قال الله تعالى: {والذين ءامنوا أشد حبا لله} [البقرة، الآية: 165].
إظهار البراءة من المشركين وتعمد مخالفتهم.
احرص على تطبيق جميع السنن الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إفشاء السلام على من عرفت ومن لم تعرف وطلاقة الوجه.
سقاية الحجاج وإطعامهم والإحسان إليهم.
الصبر على إخوانك الحجاج وما تجده منهم من مضايقة أو إزعاج.
مساعدة الضعيف وتعليم الجاهل بالحكمة والموعظة الحسنة.
نشر الكتب القيمة والأشرطة العلمية المفيدة.
الدعاء لإخوانك المسلمين في كل مكان.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصحية.
سلامة الصدر والابتعاد عن الغيبة وتجريح الناس وخصوصاً الدعاة ولمن لهم عليك ولاية، والدعاء لهم بالخير والصلاح والتوفيق في الدنيا والآخرة.
تنال رحمة الله إذا كنت سمحاً. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى))[89].
حاجتنا إلى دعاء الله عز وجل(/32)
قال الله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [سورة غافر: 60].
وقال جل شأنه:}وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [سورة البقرة: 186].
وقال سبحانه وتعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} [سورة النمل: 62].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده، إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً))[90].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه))[91].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء هو العبادة))[92].
وقال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لابن عباس رضي الله عنهما: ((يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))[93].
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إني لا أحمل همّ الإجابة، ولكن أحمل هم الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء فإن الإجابة معه).
لذلك نحن بحاجة مع ما سأذكره من بعض آداب الدعاء إلى الجزم والثقة واليقين على الله بالإجابة.
حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاه))[94].
من آداب الدعاء:
أن تسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، لقول تعالى:}ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها { .
البدء بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله e .
الصدق والإخلاص لله في الطلب.
الإلحاح وعدم الاستعجال.
تكرار الدعاء ثلاثاً.
كون المطعم والمشرب والملبس من الحلال.
رفع الأيدي في الدعاء واستقبال القبلة.
الوضوء قبل الدعاء إن تيسر.(/33)
خفض الصوت بالدعاء (بين المخافتة والجهر) قال الله تعالى: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً}[سورة الأنبياء، الآية: 90].
عدم تكلف السجع في الدعاء.
عدم الاعتداء في الدعاء أو الدعاء بالإثم أو قطيعة الرحم.
لا يسأل إلا الله وحده.
أخي الحاج: إن من الناس من يشهد أن لا إلا الله، وأن محمداً رسول الله باللسان فقط!! وحسبوا أنهم على شيء وأنى لهم ذلك!! إذ أن أقوالهم وأعمالهم شاهدة بفساد دعواهم، ودليل ذلك أنهم دعوا غير الله تعالى، فأشركوا بالله في عبادته ما لم ينزل به سلطاناً، فلم يزدهم شركهم عند ربهم إلا مقتاً وبعداً، فدعا فريق منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا آخرون عليًّا والحسن والحسين رضي الله عنهم، ودعا آخرون البدوي والجيلاني وأبا طير وغير هؤلاء من المخلوقين؛ فزلت أقدام هؤلاء الداعين[95]. وأشركوا بالله رب العالمين وضلوا عن صراطه المستقيم: {ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف 6].
فلا تسأل ولا تدع إلا الله وحده واحذر أن تشرك بالله شيئاً، والحمد لله القائل:
{ادعوني أستجب لكم}.
الدعاء بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وتضمن اسم الله الأعظم.
ومن أهم الآداب الدعاء بجوامع الأدعية
وإليك بعض الأذكار والأدعية
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل ما قلت أنا والنبيون عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))[96].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر))[97].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم))[98].(/34)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم))[99].
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري،وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر))[100].
وكان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى))[101].
((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك))[102].
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تدعو بهذا الدعاء: ((اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك من خير ما سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشداً))[103].(/35)
وعليك أن تكثر من الاستغفار وتتوب إلى الله توبة صادقة، وتسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، وتكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أكثر دعاء النبي[104] صلى الله عليه وسلم: ((اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)). متفق عليه. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة، فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة[105].
الدعاء الذي جمعه سماحة الشيخ
عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – في منسكه[106]
ويختار جوامع الذكر والدعاء ومن ذلك:
((سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)).
((لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)).
((لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)).
((لا حول ولا قوة إلا بالله)).
{ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}.
((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر)).
((أعوذ بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء)).
((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن المأثم والمغرم، ومن غلبة الدين وقهر الرجال)).
((أعوذ بك اللهم من البرص والجنون والجذام، ومن سيء الأسقام)).
((اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة)).(/36)
((اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)).
((اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)).
((اللهم اغفر جدِّي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي)).
((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير)).
((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك علام الغيوب)).
((اللهم ربِّ النبي محمد عليه الصلاة والسلام اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأعذني من مضلات الفتن ما أبقيتني)).
((اللهم ربِّ السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين واغنني من الفقر)).
((اللهم أعط نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)).
((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر)).
((اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت أعوذ بعزتك أن تضلني لا إله إلا أنت. أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون)).
((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها)).
((اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء)).
((اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي)).
((اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، واغنني بفضلك عمن سواك)).(/37)
((اللهم إنِّي أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)).
((اللهم إني أسألك الهدى والسداد)).
((اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم)).
((اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً)).
((لا إله الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير)).
((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)).
((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)).
ويستحب في هذا الموقف العظيم أن يكرر الحاج ما تقدم من الأذكار والأدعية وما كان في معناها من الذكر والدعاء والصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، ويلح في الدعاء، ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذا دعا كرر الدعاء ثلاثاً فينبغي التأسي به
في ذلك عليه الصلاة والسلام.(/38)
ويكون المسلم في هذا الموقف مخبتاً لربه –سبحانه – متواضعاً له، خاضعاً لجنابه منكسراً بين يديه، يرجو رحمته ومغفرته، ويخاف عذابه ومقته، ويحاسب نفسه ويجدد توبة نصوحاً، لأن هذا يوم عظيم ومجمع كبير، يجود الله فيه على عباده ويباهي بهم ملائكته ويكثر فيه العتق من النار، وما يرى الشيطان في يوم هو فيه أدحر ولا أصغر ولا أحقر منه في يوم عرفة إلا ما رؤي يوم بدر، وذلك لما يرى من جود الله على عباده وإحسانه إليهم وكثرة إعتاقه ومغفرته، وفي صحيح مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟.)).
فينبغي للمسلمين أن يروا الله من أنفسهم خيراً، وأن يهينوا عدوهم الشيطان ويحزنوه بكثرة الذكر والدعاء وملازمة التوبة والاستغفار من جميع الذنوب والخطايا، ولا يزال الحجاج في هذا الموقف مشتغلين بالذكر والدعاء والتضرع إلى أن تغرب الشمس.
فإذا غربت الشمس انصرفوا إلى مزدلفة بسكينة ووقار وأكثروا من التلبية. انتهى كلام سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله.
الدعاء الذي جمعه[107]
الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –
في منسكه[108]
حيث قال: فالسُّنة للحاج أن يتفرغ في آخر يوم عرفة للدعاء والذكر والقراءة ويحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها فيقول:
((اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك رب مآبي ولك رب تراثي)).
((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر)).
((اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح)).(/39)
((اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوِجل المشفق المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل. وأدعوك دعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عيناه، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه)).
((اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤولين ويا خير المعطين)).
((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً)).
((اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشرما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر)).
((اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)).
((اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم)).
((اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ومن دَرْك الشقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء)).
((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال، وأعوذ بك من أن أُرَدَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا)).
((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، ومن شر فتنة الغنى وأعوذ بك من فتنة القبر)).
((اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)).
فالدعاء يوم عرفة خير الدعاء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))[109].(/40)
وإذا لم يحط بالأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا بما يَعرفُ من الأدعية المباحة. فإذا حصل له ملل، وأراد أن يستجم بالتحدث مع رفقته بالأحاديث النافعة، أو مدارسة القرآن، أو قراءة ما تيسر من الكتب المفيدة، خصوصاً ما يتعلق بكرم الله تعالى وجزيل هباته، ليقوى جانب الرجاء في هذا اليوم، كان حسناً ثم يعود إلى الدعاء والتضرع إلى الله، ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء.
وينبغي أن يكون حال الدعاء مستقبلا القبلة، وإن كان الجبل خلفه أو يمينه أو شماله، لأن السنة استقبال القبلة، ويرفع يديه، فإن كان في إحداهما مانع رفع السليمة، لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: ((كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع الأخرى))[110].
ويظهر الافقتار والحاجة إلى الله عز وجل، ويلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة.
ولا يعتدي في دعائه بأن يسأل ما لا يجوز شرعاً، أو ما لا يمكن قدراً، فقد قال الله تعالى: صلى الله عليه وسلم ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لايحب المعتدين صلى الله عليه وسلم. وليتجنب أكل الحرام فإنه من أكبر موانع الإجابة.
فقه الذكر والدعاء في الحج
«من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»
من فقه الذكر والدعاء في الحج :-
أولاً: المواضع التي رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه الشريفتين ودعا فيها هي:
على الصفا.
على المروة.
في عرفة.
في مزدلفة.
عند الجمرة الأولى.
عند الجمرة الثانية.
قال ابن القيم – رحمه الله – في زاد المعاد: تضمنت حجته صلى الله عليه وسلم ست وقفات للدعاء.
ثانياً: اعلم أن الدعاء عبادة. فأنت في قيامك بدعاء الله تتعبده بذلك.
ثالثاً: يوم عرفة يوم من الأيام الفاضلة في عشر ذي الحجة.(/41)
وللدعاء فيه مزية على غيره فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)).
قال ابن عبدالبر – رحمه الله – في التمهيد: (6/41).
((وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره ... وفي الحديث أيضاً دليل أن دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب، وفيه أيضاً أن أفضل الذكر لا إله إلا الله...)).
رابعاً: للدعاء مراتب:
أفضلها[111]: ذكر الله والثناء عليه ولهذا كانت سورة الفاتحة نصفين – نصفا ثناء، ونصفاً دعاءً – ونصف الثناء هو المقدّم، وهو الذي لله عز وجل. وكذلك حديث الشفاعة الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((.. فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع وسل تعطه...)) فبدأ بالحمد لله حتى أذن له في السؤال، فيسأل ... كما قيل:
إذا أثنى عليك المرء يوماً = كفاه من تعرّضه الثناء
خامساً: تفكر في الأدعية التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله وصحابته الذين كانوا حريصين على طلب دخول الجنة والنجاة من النار، وهي التي حولها ندندن[112]، ونذكر ثلاثة منها على سبيل المثال:
فهذي زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها قال: قولي: ((اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني)) رواه الترمذي وابن ماجه.
وهذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: ((قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)) رواه البخاري.(/42)
ج- وهذا معاذ ابن جبل رضي الله عنه: قال أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني لأحبك يا معاذ)) فقلت: وأنا أحبك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلا تدع أن تقول في كل صلاة رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) رواه النسائي وأبو داود.
قال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه: تصحيح الدعاء ص 34و35:
وأنفع الدعاء: طلب العون من الله – تعالى- على مرضاته.
وذكر كلام ابن القيم وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك.
ثم قال: وإذا تفضل الله – سبحانه – عليك بالإجابة، ولا بد أن تدرك خيراً، فاشكر الله واحمده على ما تفضل به عليك، ويُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما يمنع أحدكم إذا عرف الإجابة من نفسه، فشفي من مرض، أو قدم من سفر أن يقول: ((الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات)).
سادساً: الذكر المطلوب بعد قضاء المناسك:
{فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} [من الآية 200 من سورة البقرة].
المناسك تقضى يوم النحر وهو اليوم العاشر من ذي الحجة بعد التحلل وذلك يكون غالباً في ضحى يوم النحر، وتكون أول صلاة بعد ذلك هي صلاة الظهر من يوم النحر.
قال القرطبي – رحمه الله – في تفسيره: قال مجاهد: المناسك الذبائح وراقة الدماء وقيل: هي شعائر الحج: لقوله صلى الله عليه وسلم : ((خذوا عني مناسككم)) والمعنى: فإذا فعلتم منسكاً من مناسك الحج فاذكروا الله واثنوا عليه بآلائه عندكم.
وقال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره : ((يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها وقوله: ((كذكركم آباءكم)) اختلفوا في معناه فقال ابن جريج عن عطاء: هو كقول الصبي أبه أمه – يعني كما يلهج الصبي يذكر أبيه وأمه – فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك..(/43)
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات. ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم. فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً}... والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل ولهذا كان انتصاب قوله أو أشد ذكرا على التمييز تقديره كذكركم آباءكم أو اشد ذكرا. ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة.
سابعاً: طلب الآخرة:
لقد نبه الله عز وجل لطلب الآخرة مع الدنيا فقال الله تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا ءاتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق. ومنهم من يقول ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب}.
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره : ((وذم الله من لا يسأله إلا في أمر الدنيا وهو معرض عن أخراه)).
وقال ابن جرير الطبري – رحمه الله – في تفسيره : ((حدثنا أبو كريب قال: سمعت أبا بكر بن عياش في قوله: {... فمن الناس من يقول ربنا ءاتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق} قال: كانوا – يعني أهل الجاهلية – يقفون يعني بعد قضاء مناسكهم فيقولون: اللهم ارزقنا إبلاً، اللهم ارزقنا غنماً، فأنزل الله هذه الآية)). اهـ. ومعنى الخلاق: الحظ والنصيب.
ثامناً: الذكر أيام التشريق:
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكرلله)) وأيام التشريق هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة قال تعالى:
{واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى} [البقرة: 203].(/44)
قال البخاري رحمه الله تعالى : قال ابن عباس رضي الله عنهما: { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} [سورة الحج: 28] هي أيام عشر ذي الحجة ، والأيام المعدودات التي في الآية {واذكروا الله في أيام معدودات} هي: أيام التشريق. قال ابن رجب: هذا قول ابن عمر وأكثر العلماء.
وقد دلت النصوص المتقدمة على أمرين[113]:
الأول: أن أيام التشريق أيام أكل وشرب وإظهار للفرح والسرور ولا مانع في التوسع في الأكل والشرب، بشرط أن لا يصل ذلك إلى حد الإسراف والتبذير أو التهاون بنعم الله تعالى.
الثاني: أن هذه الأيام أيام ذكر لله تعالى، وذكر الله تعالى المأمور به في هذه الأيام أنواع متعددة منها:
أ: ذكر الله تعالى بالتسمية والتكبير عند ذبح الهدايا والأضاحي.
ذكر الله عز وجل عقب الصلوات المكتوبة بالتكبير في أدبارها وهو المشروع إلى آخر أيام التشريق وهذا هو التكبير المقيد.
جـ- ومنها ذكر الله عز وجل عند الأكل والشرب.
د: ومنها الدعوة إلى الله أيام التشريق في منى بتبيين التوحيد وفضله، والتحذير من نواقضه.
هـ- ومنها ذكر فضل الله علينا، كم كرر الله ذلك وبينه في كتابه العظيم، فلولا فضل الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا، ولا صلينا.
و: ومنها رمي الجمار والتكبير مع كل رمية.
يقول ابن رجب – رحمه الله تعالى – في كتابه: [لطائف المعارف ص 332]: ((وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)). إشارة إلا أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على ذكر الله تعالى وطاعته)).(/45)
ز: ومنها أنه يشرع هذه الأيام التكبير المطلق في أي وقت، إذ التكبير شعار هذه الأيام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ((التكبير مشروع في المواضع الكبار، لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال،أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة: ليبين أن الله أكبر وتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار، فيكون الدين كله لله، ويكون العباد له مكبرون فيحصل لهم مقصودان، مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله، ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه، ولهذا شرع التكبير على الهداية، والرزق، والنصر، لأن هذه الثلاث أكبر ما يطلبه العبد، وهي جماع مصالحه والهدى أعظم من الرزق والنصر، لأن الرزق والنصر قد لا ينتفع بهما إلا في الدنيا، وأما الهدى فمنفعته في الآخرة قطعاً، وهو المقصود بالرزق والنصر فخص بصريح التكبير، لأنه أكبر نعمة الحق، وذانك دونه فوسع الأمر فيهما بعموم ذكر اسم الله، فجماع هذا أن التكبير مشروع عند كل أمر كبير من مكان وزمان وحال ورجال، فتبين أن الله أكبر لتستولى كبرياؤه في القلوب على كبرياء ما سواه ويكون له الشرف على كل شرف))[114].
((الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
***
وختاماً
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنك صالح الأعمال وندعوه عز وجل بدعوة أبينا إبراهيم وابنه إسماعيل : {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } [البقرة: 127].
هذا وإني أذكرك أخي الحبيب بقول رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : (( إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) رواه مسلم
لا تنس الهدية لمن تحب
ماء زمزم - السواك
بعض الكتب النافعة: مثل:
((الوابل الصيب)) للإمام ابن القيم الجوزية.
((فتاوى أركان الإسلام)) للشيخ محمد بن صالح العثيمين.(/46)
(جـ) ((صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم )) للعلامة محمد ناصر الدين الألباني.
(د) ((أذكار طرفي النهار)) للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد.
(هـ) ((كتاب التوحيد)) للشيخ صالح بن فوزان الفوزان.
الفهرس
الموضوع الصفحة
دعاء السفر............................................................ 2
كتب وأشرطة ننصح بها............................................... 2
مقدمة................................................................. 3
الحج المبرور........................................................... 4
أمور لا بد منها....................................................... 5-10
الحج خطوة خطوة..................................................... 10
محظورات الإحرام..................................................... 14
أحكام تخص المرأة..................................................... 14
من خصائص الحرم.................................................... 16
صفة دخول مكة...................................................... 17
صفة العمرة........................................................... 19
يوميات الحاج......................................................... 25-65
سبع مسائل في رمي الجمرات ......................................... 35
أثر الحج وطرق كسب الثواب......................................... 40
حاجتنا إلى دعاء الله عز وجل.......................................... 41
بعض الأدعية والأذكار................................................ 43-49
فقه الذكر والدعاء..................................................... 50
الخاتمة................................................................. 52
---
[1] رواه مسلم 2/989.(/47)
[2] ما بين الأقواس من كلام المحدّث محمد ناصر الدين الألباني– رحمه الله– في كتابه"حجة النبي صلى الله عليه وسلم"، ص5
[3] سُئل الشيخ عبد العزيز ابن باز – رحمه الله – ما هي الكتب التي ينصح بها سماحته أن تقرأ في مجال العقيدة؟ فأجاب: "أحسن كتاب وأعظم كتاب وأصدق كتاب يجب أن يقرأ في تعليم العقيدة والأحكام والأخلاق، هو كتاب الله – عز وجل -..". (انظر: كتاب [تحفة الأخوان] السؤال الثامن)
[4] "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم رحمه الله، ص17.
[5] الرفث: يطلق على الجماع، وعلى الفحش من القول والفعل.
[6] الفسوق: المعاصي بأنواعها مثل أكل الرباء، والغيبة والنميمة وغير ذلك.
[7] الجدال: المخاصمة والملاحاة حتى تغضب صاحبك.
[8] أخرجه مسلم (116).
[9] أخرجه البخاري (595) ومسلم (1080)، ولتتعلّم كيفية الصلاة انظر كتاب الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني [صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم] من التكبير إلى التسليم كأنك تراها، وكتاب [تعظيم قدر الصلاة] للإمام محمد بن نصر المروزي رحمهما الله.
[10] أخرجه أبو داود (4985) وأحمد (5/364).
[11] أخرجه النسائي (7/61) وأحمد (3/128) وغيرهما.
[12] صحيح رواه ابن المبارك في الزهد وأبو داود والنسائي بسند جيد. انظر كتاب (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني، ص36).
[13] سنن الدارمي 1/39-94 باب في الحديث عن الثقات.
[14] رواه مسلم رقم (1015).
[15] أخرجه البخاري. (10/378) ومسلم (2321).
[16] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير وابن عساكر وابن أبي الدنيا، انظر: صحيح الجامع (176)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (906) للألباني.
[17] جزء من حديث عائشة الذي رواه أحمد (6/165) وهو صحيح.
[18] أوصيك أخي الحاج أن تحمل معك خريطة لموقع المخيم ورقم الهاتف أو شريطاً يوضع في معصمك تبين فيها المعلومات الواضحة والكاملة عنك.
[19] ورد في جزء من حديث لأبي هريرة في صحيح مسلم (2664).(/48)
[20] حديث أخرجه أحمد (6/441، 442) وابن أبي عاصم في السُّنَّة (246) وإسناده حسن.
[21] أخرجه البخاري (13/325-328) ومسلم (2675).
[22] أخرجه مسلم (2999).
[23] رواه البخاري جـ1 ص 471، ومسلم جـ8 ص 83 واللفظ له.
[24] ويغطي كتفيه ولا يكشف منها شيء.
[25] هل الأفضل التمتع أو الإفراد أو القران؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في منسكه ص22 (فالتحقيق في ذلك: أنه يتنوع باختلاف حال الحاج).
[26] انظر: محظورات الإحرام، ص 14.
[27] انظر أعمال اليوم الثامن: ص 25.
[28] ملاحظة: القارن والمفرد ليس بينهما فرق في الأعمال إلا في وجوب الهدي على القارن وعليهما سعي واحد فقط، فإما أن يقدماه مع طواف القدوم، أو يؤخراه مع طواف الإفاضة، فإذا قدماه فلا يحلقا عند نهاية السعي ويبقيا على إحرامهما حتى رمي جمرة العقبة في اليوم العاشر.
[29] من كتاب الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله (باختصار وإضافة). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في "حاشية على سنن أبي داود" قواعد عظيمة وفوائد جليلة اشتملت عليها التلبية وصلت إحدى وعشرين فائدة.
[30] أخرجه ابن ماجه (2/579).
[31] أخرجه الترمذي (3/189) وابن ماجه (2/975).
[32] حديث حسن رواه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة.
[33] الوابل الصيب، ص141.
[34] أخرجه أبوداود (1888) والترمذي بنحوه (902) وقال: حسن صحيح.
[35] جامع العلوم والحكم (ص: 225).
[36] انظر: كتاب الحج د. عبدالله الطيار، ص72.
[37] الشيخ عبد العزيز بن باز في كتابه: "التحقيق والإيضاح"، ص32.
[38] رواه البخاري (1026).
[39] بالمناسبة هناك قصة حدثت وهي: أن أحد الزملاء سافر ومعه أخته للعمرة وعندما وصلا إلى الميقات حاضت أخته. وجهلاً منه استأجر سكناً حول الميقات ينتظر حتى تطهر أخته ظناً منه أنه لا يجوز لها الإحرام من الميقات إلا وهي طاهرة وهذا خطأ؛ والصحيح أنها تحرم وتواصل طريقها إلى مكة.
[40] انظر: محظورات الإحرام، ص14.(/49)
[41] انظر ص: 26 "مخالفات".
[42] أخرجه البخاري (3/504) ومسلم (2/888).
[43] رواه مسلم (2378)
[44] رواه البخاري (1725).
[45] ويقصد بالحرم هنا ما يقابل الحل.
[46] من كتاب نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب للشيخ عبدالله آل بسام (بتصرف).
[47] رواه مسلم، وفي البخاري "المعرف" بدلاً من "لمنشد".
[48] رواه البخاري (1641) ومسلم (1235).
[49] متفق عليه.
[50] أخرجه البيهقي (5/73).
[51] وقد وضعت له علامة في الأرض على شكل خط بني اللون (ولا يشترط الوقوف عليه عند البداية أو كلما حاذاه وهو علامة يجوز أن يبتدئ قبلها أو بعدها فالمهم هو محاذاة الحجر الأسود بكل بدنه).
[52] رواه البيهقي (5/79) وقوله: "الله أكبر" وردت في البخاري (3/475).
[53] أخرجه الإمام أحمد وحسنه الترمذي.
[54] حسنه الترمذي وصححه ابن حبان.
[55] أخرجه البخاري ومسلم.
[56] أخرجه البيهقي، وورد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أيضاً.
[57] أخرجه أحمد وابن خزيمة.
[58] الوابل الصيب ص86.
[59] رواه الترمذي وقال حديث حسن.
[60] رواه مسلم، وزاد أبو داود "وشفاء سقم".
[61] أخرجه مسلم في كتاب الحج – صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم (8/170).
[62] أخرجه أحمد (6/421)، والدار قطني في كتاب الحج.
[63] مسند الإمام أحمد (26101). وذكر بعض العلماء أنه في طواف الإفاضة يسعى بشدة ويركض بين العلمين بقاء على الأصل.
[64] كثير ما يخطي الناس في السعي حيث يسعى من ليس لديه علم أربعة عشر شوط؛ والواجب عليه سبعة أشواط يحسب بالذهاب شوطاً واحداً وبالرجوع شوطاً ثانياً، يفتتح بالصفاء ويختتم بالمروة.
[65] محظورات الإحرام: ص14.
[66] قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا ذكر العبدُ الله في أدبار الصلوات، وغُدُوَّا وعَشِيّاً، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا وراح من منزله، فهو من الذاكرين الله كثيراً.
انظر: مقدمة كتاب [الأذكار] للإمام النووي رحمه الله.(/50)
[67] الاضطباع: هو أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر.
[68] انظر: للفائدة ص (45) من هذا الكتاب.
[69] انظر: التحقيق والإيضاح، ص (15) لسماحة الشيخ ابن باز.
[70] الزوال: أي وقت دخول صلاة الظهر.
[71] علماً أن جزءاً كبيراً من مقدمة مسجد نمرة ليس من عرفة.
[72] انظر: ص 43 بعض الأذكار والأدعية.
[73] يحرم الخروج من عرفة قبل غروب الشمس؛ لأنه خلاف السنة وهو من أعمال الجاهلية. ومن انصرف من عرفة قبل الغروب فعليه فدية عند أكثر أهل العلم توزع على مساكين الحرم.
[74] هو الوادي الذي يفصل بين مزدلفة ومنى.
[75] الرمي الصحيح لجمرة العقبة له ثلاث شروط هي:
أولاً: أن بداية رمي جمرة العقبة في القول الراجح هو: بعد منتصف الليل لأهل الأعذار، وطلوع الشمس لغيرهم.
ثانياً: مكان وقوف الرامي: الأفضل أن يرميها مستقبلاً لها جاعلاً منى عن يمينه والكعبة عن يساره. ولا يرميها من خلفها لأن الحوض نصف دائري فلا يقع فيه الحصى. ولو رمى رامي واصطدمت بالعمود ثم سقطت بعيد عن الحوض فلا تجزئ لأن الشرط إصابة المرمى يعني وقوع الحصى في الحوض.
الثالث: لا يجوز الرمي بحصى كبير أو بالحذاء أو بالأخشاب وغير ذلك، ويستحب أن يكبر مع كل حصاة، ويقول: "اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً".
لثبوت هذا الدعاء عن ابن مسعود رضي الله عنه عند رميه جمرة العقبة.
[76] لا تنس التكبير المقيد في هذا اليوم وهو أن تقول بعد الصلاة مباشرة: "الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد". ومن السنة أن تكررها. علماً أنه قد ورد لها عدة صيغ، إذا التكبير شعار هذه الأيام قال الله عز وجل: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله}.
[77] أي: التي ما بقي لها مخ من ضعفها وهزالها.
[78] فتاوى اللجنة الدائمة (رقم: 2897 في 12/3/1400هـ).(/51)
[79] للذكاة الشرعية "الذبح والنحر" شروط لابد من توفرها؛ انظر: كتاب الشيخ صالح الفوزان "الذكاة الشرعية وأحكامها".
[80] من فتاوى سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله -.
[81] احرص على الصف الأول وسماع محاضرات العلماء التي تلقى بعد الصلاة في هذه الأيام، فإنها فرصة عظيمة لك في هذا الموسم الذي يلتقي فيه العلماء وطلاب العلم من كل بلد.
[82] (فتح الباري 3/1753).
[83] الرمي: هو القذف والدفع. والجمرات : هي الحصيات التي يرمي بها في مكة، واحدتها جمرة وتطلق أيضاً على مجمّع الحصى.
[84] الخذف: هي الحصاة التي توضع بين السبابتين ويرمى بها.
[85] ولمزيد من الفائدة انظر كتاب (رمي الجمرات وما يتعلق بها من أحكام) للدكتور شرف بن علي الشريف. وعقد الإمام البخاري رحمه الله عشرة أبواب في رمي الجمار في جامعه الصحيح.
[86] ذكر ذلك الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه مناسك الحج والعمرة (41/127). وقال: أخرجه الطبراني والضياء المقدسي في "المختارة" وحسن إسناده المنذري وهو كما قال: "باعتبار له طرقاً أخرى...".
[87] قد أجمع العلماء على أنه يجب على من أحرم بحج أو عمرة أن يكمل ذلك بفعل جميع الأركان والواجبات المتعلقة بهما. انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله – في الحج والعمرة (7/314).
[88] ملحوظة هامة: انظر بعدها "من مخالفات اليوم الثاني عشر والثالث عشر"، وتجدر الإشارة إلى أنه من أكثر الأخطاء بعد الحج التشكي من متاعب الحج والمنة على الله بما عمل وذلك لضعف الإيمان وقلة الاحتساب – نسأل الله السلامة.
[89] رواه البخاري (4/206).
[90] أخرجه أبو داود (1488) والترمذي (3556) وهو في صحيح سنن أبي داود، وإسناده حسن.
[91] رواه الترمذي عن أبي هريرة، انظر: صحيح الجامع 2418.
[92] رواه أحمد وابن أبي شيبة عن النعمان بن بشير، انظر: (صحيح الجامع 3407).
[93] أخرجه أحمد (1/293) والترمذي (2516) واللفظ له وإسناده حسن.(/52)
[94] رواه الترمذي والحاكم، وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة (594).
[95] من كتاب "فقه الدعاء" للشيخ مصطفى العدوي.
[96] حديث حسن، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (1503).
[97] رواه مسلم (2137).
[98] رواه البخاري (11/175) ومسلم (2694).
[99] رواه البخاري (11/123) ومسلم (2730).
[100] رواه مسلم (2720).
[101] رواه مسلم (4992).
[102] رواه مسلم (2739).
[103] أخرجه ابن ماجه (3846) وابن حبان (2413)، وأحمد (6/134) وإسناده حسن، وهو من أجمع الأدعية.
[104] للاستزادة من الأدعية انظر: الصفحات القادمة.
[105] تفسير ابن كثير (1/244،243).
[106] "التحقيق والإيضاح" (ص47-51)، يدعو رافعاً يديه مستقبلاً القبلة.
[107] حرصاً لفائدة إخواني الحجاج بحثت في كتب العلماء الإجلاء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والنووي وابن كثير وابن حجر العسقلاني رحمهم الله جميعاً فيما جمعوا من أدعية فوجدت ما جمعه الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله شاملاً لجميع ما تفرق في كتب العلماء المذكورين.
[108] "مناسك الحج والعمرة والمشروع في الزيارة" (ص 57-58).
[109] رواه مالك في "الموطأ" (1/422) مرسلا بسند صحيح، ووصله الترمذي (3585) بسند ضعيف. وله شواهد أخرى، فهو حسن إن شاء الله.
[110] رواه النسائي (5/254). رواه أحمد (5/209). وابن خزيمة (2824) بسند صحيح.
[111] كتاب [قاعدة في أنواع الاستفتاح لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (2-10)
[112] قال النبي صلى الله عليه وسلم لرَجُل: ((كيف تقول في الصلاة)) قال: أتشهّد ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حولها ندندن)). رواه أحمد وأبو داود.
[113] انظر: [مجالس عشر ذي الحجة وأيام التشريق] للشيخ عبدالله بن صالح الفوزان.
[114] [مجموع الفتاوى] (24/229-230).(/53)
العنوان: المنهج النبوي في بناء الأخلاق
رقم المقالة: 588
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
إنَّ وضوح الغايات والأهداف من أقوى عوامل النجاح؛ بل كل مشروع - من أيِّ ضرب كان - لابد له من أهداف ومرام، ولا يُتصور مشروع بغير ذلك، وبقدر وضوح الأهداف تتضح الوسائل، التي تفضي بمن أحسن استعمالها إلى النجاح.
وقد اتسم منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضوح الغايات وشرف الوسائل؛ كما أخبر الله - تعالى - عن ذلك بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
قال الطبري - رحمه الله -: "فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين بتنوير الحق في قلبه، فهو لذلك لأمر الله متبع، وعما نهاه عنه منته"[1].
وقال ابن كثير: " أي على بصيرة فيما أدعو إليه"[2].
وقد حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - غاية دعوته بوضوح تام وبيان موجز؛ فقال: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق))[3]. قال ابن عبدالبر معلقاً على هذا الحديث: "ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله، والدين، والفضل، والمروءة، والإحسان، والعدل. فبذلك بُعث ليتممه - صلى الله عليه وسلم"[4] .
وقوم النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا على جانب من الأخلاق الفاضلة؛ من نجدة، وشجاعة، وكرم، وإباء ضيم .. وغير ذلك؛ ولكنَّ هذه الأخلاق كانت ناقصةً، أو مشوبةً بما يكدرها ويذهب رونقها من الأخلاق الذميمة، فبُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ليُتم ما نقص منها، ويقوم ما اعوجَّ؛ كما نقل السيوطي عن الباجي قوله: "كانت العرب أحسن الناس أخلاقاً بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، وكانوا ضلُّوا بالكفر عن كثير منها، فبُعث - صلى الله عليه وسلم - ليتمِّم محاسن الأخلاق؛ ببيان ما ضلُّوا عنه، وبما خُصَّ به في شريعته"[5].(/1)
وقد كان المنهج النبوي في تحقيق هذه الغاية منهجاً متكاملاً، جديراً بالوقوف معه، والتأمل فيه؛ ليستفيد الدعاة من الهدي النبوي في تربيتهم الناسَ على مكارم الأخلاق، وفاضل السلوك، وسامي القيم؛ فإن التربية من أشقِّ الأمور؛ لاحتياجها المتابعة والملازمة، وقبل ذلك المنهج الواضح السليم الذي سلكه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخرج لنا جيلاً متفرِّداً بسموِّ أخلاقه، وعلوِّ همَّته، ونجاحه في كل الميادين.
الإيمان أساس الأخلاق:
كان العرب أهل شرك بالله – تعالى - فأوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الأخلاق التي كان يفتقدها ذلك المجتمع، وهو الإيمان، فإن الإيمان هو أساس الأخلاق، وقد بين للعرب أن الكرم وغيره من الأخلاق التي بها يفاخرون، ما هي إلا بناء لا أساس له مع انتفاء الإيمان، وأن من أتى بالإيمان الصادق أوْلى بالأخلاق ممن أطعم الجائع أو كسى العريان وقلبه غارقٌ في الشرك ورجسه؛ قال الله - تعالى -: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19].
وكما أن الأخلاق الحسنة - التي تواطأت الفِطَر السليمة على قبولها - تظل ناقصةً مشوهةً هشَّة البناء إذا فقدت خُلُق الإيمان؛ فإنها كذلك لا تنفع صاحبها في الآخرة، ولا يُثاب عليها؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قلتُ: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين؛ فهل ذاك نافِعُهُ؟ قال: ((لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين))[6].
وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأخلاق تتناسب طرديّاً مع الإيمان؛ فكلما زاد معدل الإيمان في القلب؛ سمت الأخلاق، والعكس بالعكس.(/2)
وفي هذا يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً))[7].
وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[8].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم))[9].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))!! قيل: وَمَنْ يا رسول الله؟! قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه))[10].
وبالمقابل: كان الربط بين الكفر وسوء الخلق؛ فقد أخبر الله - تعالى - عن الكافرين وهم في النار فقال: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 42-46].
وقال الله - تعالى - مخبراً عنهم كذلك: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} [الحاقة: 33-35]، وقال الله – تعالى -: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين} [الماعون: 1-3].
فغياب الأخلاق عند الكافرين كان تبعاً لغياب الإيمان عن قلوبهم، كما يتضح جلياً من الآيات السابقة.
الأخلاق ثوابت، غير قابلة للتلاعب:(/3)
ومن مشاكل الأخلاق في المجتمع الذي بُعث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها كانت قابلة للتلاعب والتحايل من أولئك المتنفذين فيه، ومن أوضح الأمثلة على هذا: أنهم كانوا يحرِّمون القتال في الأشهر الحُرُم، ولكنهم كثيراً ما يحتالون على هذا القرار النبيل، فيتركونه لحاجتهم إلى الحرب، أو إذا راق لهم تركه، ثم يعوضون هذه الأشهر الحُرُم التي تخلوا فيها عن التمسك بعدم القتال بأشهر أخرى من السنة، يحرمون القتال فيها؛ كما أخبر الله - تعالى - عنهم بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37]؛ فعدَّ القرآن من الزيادة في الكفر تلاعبهم بهذا الخُلُق النبيل، كما في الآية السابقة، وقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريم الأشهر المعظَّمة الأربعة، كما كانت تفعل قريش، ولكنه حرَّم ما شوَّه نبلها من هذا التلاعب؛ فقال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حُرُم، ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان))[11].
التخلية والتحلية:(/4)
ولقد عمد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أسلوب بديع في إصلاح أخلاق قومه، وهو ما يصح أن يطلق عليه (التخلية والتحلية)؛ حيث كان يخلِّي ويفرِّغ الأمثال والعبارات التي تدور على ألسنة الناس من مضامينها الفاسدة؛ ثم يقوم بتحليتها بالأخلاق الإسلامية الحسنة، ومن أمثلة ذلك: تغييره مضمون العبارة "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"؛ فقد كانت العرب تعني بها الوقوف إلى جانب القريب، ولو كان على الباطل؛ فأفرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا اللفظ من معناه الفاسد، وحلاَّه بمعنى صحيح حسن، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))؛ فقال رجل: يا رسول الله، أنصُرُه إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً؛ كيف أنصره؟! قال: ((تحجزه – أو: تمنعه - من الظلم، فإن ذلك نُصْرَة))[12].
وبهذا غيَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - القالَب وأبقى عل القالِب، وكذا في قوله: ((ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))[13].
بهذه العبارات الموجزة غيَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - مفاهيماً طالما كانت له آثارها المدمرة في ذلك المجتمع، من الحروب وغيرها، فالرغبة في الاتِّصاف بالقوة وشدة البأس كانت طاغية عند العرب، وشِعْرهم وأيامهم أكبر دليل على ذلك، فيحوِّل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنظارهم إلى معنى آخر للشدَّة، هو العكس تماماً للمفهوم الأول، الذي يدعو للبطش بالآخرين؛ إظهاراً للقوة، وتفاخراً بسرعة الغضب.
فهذه بعض الوقفات مع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في تربيته المجتمع على الأخلاق الإسلامية الفاضلة، وهو منهجٌ لا يمكن سَبْرُه في مثل هذا المقال، ولأهمية هذا الموضوع يجدر بالباحثين أن يعطوه ما يستحق من الاهتمام،، والله الموفق.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] (جامع البيان: 10/627).
[2] (تفسير القران العظيم: 2/599)(/5)
[3] "المستدرك": (4221، 2/670). قال الذهبي في "التلخيص": "على شرط مسلم". وصحَّحه الألباني في "السلسلة" (45، 1/112).
[4] التمهيد، 24/334.
[5] تنوير الحوالك، 1/211.
[6] رواه مسلم، (214)، 1/196.
[7] رواه أبو داود، (4682)، 2/632، والترمذي، (1162)، 3/466، صححه الألباني في صحيح الجامع، (1230).
[8] رواه البخاري، (13)،1/14، ومسلم (45)، 1/67.
[9] رواه الترمذي، (2627)، 5/17، والنسائي، (4995)، 8/104، وابن ماجة (3934)، 2/1298 والألباني في صحيح الجامع، (6658)، 1/116.
[10] رواه البخاري، (5670)، 5/2240، ومسلم، (46)، 1/68.
[11] رواه البخاري: (5230)، 5/2110، ومسلم: (1679)، 3/1305.
[12] رواه البخاري،(6552)، 6/2550، ومسلم،(2584)، 4/1998.
[13] رواه البخاري، (6552)، 6/2550، ومسلم، (2584)، 4/1998.(/6)
العنوان: الموقفُ من الاستطالة بالشتم على المخالف
رقم المقالة: 1438
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
الأصلُ أنَّ أعراض المسلمين مصونة، وحرمتهم ثابتة؛ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحشر: 11]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمُ من سلِم المسلمون من لسانه ويده"[1]، وفي الأدب المفرد بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس المؤمن بالطعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء"[2]، فدل ذلك على أن ترك الطعن واللعن والفحش والبذاء واجبٌ، وأن مقارفتها حرام؛ فإن تقريرَ امتناعِ اسمِ مسمَّى أمرٍ أمرَ الله به ورسولُه، كنفيه، وهذا لا يكون إلاّ إذا ترك ما يجب[3]، بل قال صلى الله عليه وسلم صريحاً: "بحسْب امرئ من الشر أن يحقِر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه"[4]، وهذه الحرمة مغلّظة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهدُ الغائب"[5]، فقرَنَ بين هذه الثلاثة، وجميعُها من الضروريات التي جاء الشرع بحفظها، وجميلٌ بأناس تعظيمُ حرمة الدم، وحرمة المال، وقبيحٌ بهم إهدارُ قرينتهما الثالثة.(/1)
ولما كانت الاستطالةُ في عرض المسلم بهذه المثابة، بيَّن عليه الصلاة والسلام حكم المتجرئ عليها؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق"[6]، وقد دل هذا والآثار قبله على أن بعض الطعن من كبائر الذنوب؛ قال الهيثمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: الكبيرة التاسعة والثمانون، والتسعون، والحادية والتسعون بعد المائتين: سبُّ المسلم والاستطالة في عرضه، وتسبب الإنسان في لعن أو شتم والديه وإن لم يسبهما، ولعنه مسلماً[7].
وقد صرّح كثير من أهل العلم بأن سب المسلم كبيرة... وإذا سب المسلم ففيه التعزير، وحكى بعضهم الاتفاق عليه. قال الشافعية والحنابلة: والتعريض كالسب[8].
قال بعض أهل العلم: "سب المسلم بشتمه والتكلم في عرضه بما يعيبه بغير حق حرامٌ بإجماع الأمة وفاعله فاسق"[9].
ولعظم شأن الاستطالة باللسان في عرض المسلم قالوا: إن الإساءة لمسلم بالسب والشتم الفاحش لا تجوز ولو للإمام على وجه التعزير، قال بعض الفقهاء: " لا يجوز للإمام أو غيرِه التأديب باللعن والسب الفاحش وسب الآباء والأمهات ونحو ذلك. ويجوز التأديب بقوله: يا ظالم يا معتدي ونحوه"[10].
بل لاينبغي للمالك أن يعاقب مملوكه بالشتم؛ قال الإمام أحمد: ولا يشتم أبويه الكافرين، ولا يعود لسانه الخنا والردى، ولا يدخل الجنةَ سيءُ المَلَكَة؛ وهو الذي يسيء إلى مماليكه.
فـ"من ارتكب شيئاً من التحقير مما هو ممنوع، كان قد ارتكب محرماً يعزَّر عليه شرعاً تأديباً له. وهذا التعزير مفوض إلى رأي الإمام، وَفق ما يراه في حدود المصلحة وطبقاً للشرع، .. وأحوال الناس فيه مختلفة، فلكل ما يناسبه منه"[11].
"وما قدح في الأعراض من الكلام نوعان:
أحدهما: ما قدح في عرض صاحبه ولم يتجاوزْه إلى غيره، وذلك شيئان: الكذب، وفحش القول.
والثاني: ما تجاوزه إلى غيره، وذلك أربعة أشياء: الغِيبة، والنميمة، والسعاية، والسب بقذف أو شتم.(/2)
وربما كان السب أنكاها للقلوب وأبلغها أثراً في النفوس. ولذلك زجر الله عنه بالحد تغليظاً وبالتفسيق تشديداً وتصعيباً"[12].
والشتم –كما ذكر ابن وهبان- لا يخلو إما أن يكون بما فيه، أو بما ليس فيه. في وجهه، أو في غيبته.
فإن كان بما ليس فيه، فهو كذب وافتراء، فيفسق به، سواء كان في وجهه، أو في غيبته.
وإن كان بما فيه في غيبته فهو غيبة، وإنها توجب الفسق.
وإن كان في وجهه ففيه إساءة أدب، وإنه من صنيع رعاع الناس وسوقتهم الذين لا مروءة لهم ولا حياء فيهم، وإن ذلك مما يسقط العدالة.
وكذا إذا كان السب باللعنة والإبعاد مما يفعله من لا خلاق لهم من السوقة وغيرهم، ومما يؤيد ذلك ما ورد في الحديث: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"...[13].
وإذا تقرَّر هذا الأصلُ عُلِم أن كل كلام قبيح كالقذف فما دونه من الاستخفاف وإلحاق نقص بالمخالف سب لا يجوز، بل ينبغي أن يعزر فاعله.
وقد روى ابن حزم: عن بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلد رجلاً أن دعا آخر يا ابن المجنون[14].
ولما سبق تحدث الفقهاء في تقدير هذه التعزيرات ومن ذلك ما نقله في المسائل الملقوطة[15] قال:
- لو قال رجل لرجل: ... يا خائن، أو يا ثور، أو يا حمار، أو يا ابن الحمار... فإنه يعزر قاله ابن رشد [ص78].
- من قال لرجل: يا مجرم، ضُرِب خمسة وعشرين، وكذلك إن قال له: يا ظالم، ولم يكن كذلك ضرب أربعين، ولو قال له: يا سارق ضرب خمسة وعشرين [ص81].
- ومن تكلم في عالم بما لا يجب فيه حد، ضرب أربعين سوطاً [ص82].
- ومن قال لرجل يا فاسق، ضرب ثمانين سوطاً [ص83].
- وكل من آذى مسلماً بلسانه بلفظ يضره ويقصد أذاه فعليه في ذلك الأدب البالغ الرادع له ولمثله، يقمع رأسه بالسوط، أو يضرب رأسه بالدِّرَّة، أو ظهره بالدرة، وذلك على قدر القائل وسفاهته، وعلى قدر المقول فيه [ص83].(/3)
- وإذا قال الرجل لصاحبه: الله أكبر عليك! فإنه يعزّر، إلاّ أن يعفو عنه خصمه [ص84].
- ويؤدب في سائر الشتم نحو: يا كلب، يا خنزير، يا حمار، وما أشبه ذلك [ص84].
فعلى الحاكم أن يعزر المعتدي، وذلك من جملة إقامة شرع الله، وإصلاح ذات البين. وهذه دعوة لتطبيق الشريعة درءاً للفتنة عن أهل السنة، وفرضاً لصيانة اللسان بوازع السلطان، بيد أن المنتصف للسنة ينبغي أن يتجرد حال دعواه من الانتصار للنفس فذلك أكمل، {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41].
ولا يعارض هذا أمر الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وهذا الأمر محكم على الصحيح من قولي أهل العلم، قال ابن القيم رحمه الله: "(وأعرض عن الجاهلين) يعني: إذا سفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه، كقوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} [الفرقان: 63]، وعلى هذا فليست بمنسوخة، بل يعرض عنه مع إقامة حق الله عليه، ولا ينتقم لنفسه"[16]، فندبت الآيتان إلى ترك المقابلة بالسيئة، ولم تندبا إلى ترك إقامة حكم الله بالحد أو التعزير، وقيدت الأولى الندب إلى العفو إذا اقترن به الإصلاح قال الله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]، مع ترخيص التي تليها في المقابلة بالمثل.
غير أنه ينبغي أن يُفرق بين من كانت البذاءة ديدنه، والفجور في الخصومة شأنه، وبين من ندت منه كلمة، فمثل هذا ينبغي أن تقال عثرتُه، وتغتفر زلته، فمثل هذا يعظه الإحسان، وغالباً ما يفيء إلى الاعتذار سريعاً، ما دام حي الضمير، يقظ الإحساس، وإن لم يكن من طلاب العلم الشريف، وأما إن كان ديدنه الإساءة فرفعه إلى القضاء من جملة ردع الجاني وإقامة الشرع.(/4)
ومن المواطن التي قد تجوز فيها الإساءة، الإساءة للمرء وتنقصه على سبيل المعاقبة بالمثل ما خلت عن محظور كالقذف، والتكفير، ولعن والديه؛ فقد قال الله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى 40-41]، فجوز الاقتصاص بالعدل، وندب إلى الفضل، وقال صلى الله عليه وسلم: "المُستَبَّان ما قالا فعلى البادئ، ما لم يعتدِ المظلوم"[17].
ومن المواطن التي يجوز فيها بعض الانتقاص الداخل حيز السب، الوصف بالظلم والفسق ونحوهما من الأسماء الشرعية، فهذه يجوز إنزال حكمها على المعين الذي قارف ظلماً أو فسقاً، بشرطين:
الأول: أن يكون ذلك لمصلحة، لا على سبيل التفكه بعرضه والتندر به، قال القرافي: "سألتُ جماعة من المحدثين والعلماء الراسخين في العلم، عمن يروي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا غيبة في فاسق)، فقالوا لي: لم يصح، ولا يجوز التفكه بعرض الفاسق، فاعلم ذلك فهذا هو تلخيص الفرق بين ما يحرم من الغيبة وما لا يحرم"[18].
الثاني: أن تتوافر فيه شروط إنزال ذلك الاسم، وتنتفي عنه موانعه، أما إذا لم تتوافر الشروط وترتفع الموانع فلا؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله: "هذا مع أنى دائماً، ومن جالسني يعلم ذلك مني؛ إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقا أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية"[19].(/5)
ولا يعني تسويغ الإساءة في نحو هذه المواطن أن الحبل متروك على الغارب، فإنها إن صدرت ممن ليس أهلاً لها، ولم تكن له على الناس ولايةٌ تخوله أن يقول ما قال على سبيل صحيح، فللمعتَدَى عليه بالسب أن ينتصف قضاءً، فليست المجازاة بالمثل دعوى مقبولة إن لم تشهد لها الأدلة، وتحفها قرائن الأحوال، وتقدير ذلك يرجع إلى القاضي. وأما الدعوة إلى التورع في مثل هذا، ومراقبة الله فيما يقوله المرء، فليست راجعة إلى أن أمر الانتصاف من المتنقص موكول إلى ورعه، بل ليصلح المرء شأنه مع ربه، وإن استحق العقوبة الدنيوية بتعديه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو 1/13 (10)، ومسلم من حديث جابر 1/65 (41).
[2] الأدب المفرد 1/116 (312).
[3] ينظر الإيمان الكبير ص10 وما بعدها، وهو في المجموع 7/14 وما بعدها.
[4] صحيح مسلم 4/1986 (2564).
[5] متفق عليه من حديث أبي بكرة، ينظر البخاري 1/37 (67)، وغير موضع، ومسلم 3/1305 (1679).
[6] متفق عليه رواه البخاري في الصحيح 1/27 (48)، وفي غير موضع، ومسلم 1/81 (64).
[7] 2/92 وما بعدها.
[8] الموسوعة الفقهية 24/141.
[9] الموسوعة الفقهية 21/272.
[10] تنظر الموسوعة الفقهية 16/328.
[11] الموسوعة الفقهية، 10/230.
[12] أدب الدنيا والدين ص323-324.
[13] نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق 7/89-90.(/6)
[14] ينظر المحلى 12/222-223، وقد ضعفه ابن حزم رحمه، لثلاثة: لأنه مرسل، ولأنه من طريق سالم بن غيلان التجيبي قال: "وهو مجهول لم يعدل"، ولأن يونس بن عبد الأعلى أحفظ من سحنون وقد رواه موقوفاً. والأظهر أنه حديث حسن، أما دعوى الإرسال فلا تسلم فالسند صحيح متصل وجهالة الصحابي لا تضر، والأصل في مثل هذا الاتصال عند الجمهور، وأما كون يونس بن عبد الأعلى أحفظ من سحنون فحق، بيد أن سحنون لم يتفرد به فقد رواه حماد بن يحيى عن ابن وهب كما رواه سحنون مرفوعاً؛ جاء ذلك في معرفة الصحابة لأبي نعيم، وأما دعوى جهالة سالم بن غيلان فقد جرت على رمزه رحمه الله في نعت من لم يعرف بها، ولينظر تعليق ابن حجر في لسان الميزان 1/180 ترجمة إسماعيل بن محمد الصفار، وقد عدل سالمَ بن غيلان الإمامُ أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم، قال الذهبي: صدوق، وقال ابن حجر ليس به بأس.
[15] المسائل الملقوطة من الكتب المبسوطة، لإبراهيم بن فرحون الابن.
[16] مدارج السالكين، 2/305.
[17] مسلم 4/2000 (2587).
[18] أنوار البروق في أنواع الفروق 4/208.
[19] ينظر المجموع 3/229.(/7)
العنوان: "الموهبة" من دعائم صناعة الأدب
رقم المقالة: 1669
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
عُشرها إلهام، وتسعة أعشارها جهدٌ وتعب!
هكذا وصف الكاتب المسرحي برنارد شو المَوهبةَ الأدبية
.. عُرفت الموهبة في تراثنا بـ"الطبْع"، وعنها قال ابن الأثير: صناعة تأليف الكلام من المنظور والمأثور تفتقر إلى آلات كثيرة. وملاكُ هذا كله الطبع، فإنه إذا لم يكن ثم طبع فإنه لا تُغني تلك الآلات شيئاً. ومثال ذلك كمثل النار الكامنة في الزناد، والحديدة التي يُقدحُ بها، ألا ترى أنه إذا لم يكن في الزناد نار لا تُفيد تلك الحديدة شيئاً!
وفي هذا الصدد، وبأسلوب أدبي جميل، يخاطب الدكتور إبراهيم الكيلاني صديقه -في كتابه "الأوراق"- قائلاً:
واعلم يا صديقي أنَّ صناعة الأدب تقوم على ثلاثِ دعائم: الموهبة، والاكتساب، والأُسلوب، فما هي هذه الموهبة التي يتحدث عنها الناس، فيُنْزِلونها منزلة الأصل من الفرع؛ بل الرُّوح من البدن؟!(/1)
إنها الشمس التي يشع ضياؤها في ديجور نفسك، هي ذلك النسيم الذي يحمل إليك الحنين والتَّطَلُّع إلى المجهول، هي الهزَّة التي تعتريك إزاء منظَرٍ جميل، أو لوحة فنية رائعة، هي الثورة الجامحة التي تغلفك أمام مآسي الظلم والاستبداد، هي الدفعة الصاعدة من أعماق كِيانك، تسوق في طريقها الدمع إلى عينيك، والقُشَعْريرةَ إلى جِلْدك عند سماع خُطبةٍ صادقةٍ، أو قصيدةٍ مؤثّرةٍ، أو نغمٍ حزينٍ، هي تلك القُوَّة الخفيَّة التي تحول دون انغلاق أبواب نفسك وذهنك، فتدعها مفتوحة على مصاريعها لكل فكرة خيِّرة أو مَثَل أعلى، أو عمل نبيل، هي تلك النفحة العلوية التي ترفعك فوق صخب الدنيا، وصراع البقاء الدامي، وحقارات البشر لتعيش هنيهات في أجْواء المحبَّة والتَّسامُح والعطاء، هي ذلك الصوت الخافت، الذي يهمس بإلحاح في أُذُنَيْكَ كلَّما استَفَاضَتْ نَفْسُك بما رأت وسمعت وشعرت، قائلاً: اكتب، اكتب، اكتب.
ولا تتوهَّمن أن هذه الحماسة المنشودة عند المشتغلين بصناعة الأدب تفرض عليك تصيُّد الخواطر العابرة، والأحاسيس الآبقة، والمشاعر المُنْسَابة عَبْرَ الحياة النفسية؛ فإنَّ في هذا إرهافًا للأديب، وتوزُّعًا لقلبه، وتبديدًا لطاقته المبدِعة؛ بلْ يَنْبَغِي لَكَ أنْ تكُون في بعض ساعات وَحدتك، في ليلك ونهارك واعيًا، تَجمَع إلى الحماسة الرَّويَّةَ، وإلى الثورة التَّأمُّلَ، وإلى الفَيْضِ التَّدَبُّرَ، وإلى الخيالِ الجَامِحِ العقلَ النفَّاذ من خلال الحُجُب والظواهر الخادعة، إلى حقائق الأشياء وبواطن الأمور.(/2)
واعلم يا صديقي أن لعالمنا الذي نعيش فيه وجهين: وجهًا جميلاً، مشرقًا، ضاحكًا يحمل على التفاؤل والإقبال والعطاء، ووجهًا قاتمًا، دميمًا، مليئًا بالأخاديد التي حفرتها الآفات النفسية، والعاهات الخُلُقية؛ من حِقْدٍ ولُؤْم وحسد ونذالة، فلا تدع هذه البشاعات والحقارات، وأنت في مُستَهَلّ حياتِكَ الأدبِيَّة، تَحْمِلُ إلى قَلْبِكَ اليَأْس مِنَ الإِنْسان، وغير ذلك من المثبطات، التي تحبب إليك القعود والانهزام، وتَحُول دون سيرك قُدُمًا نحو تكامل الذات، وتفتُّح الأصالة.
واعلم أنكَ منذ رضيتَ أن تكون أديبًا، قد ألزمت نفسك بحَمْل أعباء الرسالة، التي قد تنوء تحتها، أو يثقل عِبؤها منكبَيكَ، فأنت ينبوع نميرٌ للعطاش، وخبز شهيٌّ للجياع، وجمرةٌ متقدة للمقرورين، وألقٌ ساطعٌ للضالّين على طريق الوجود...(/3)
العنوان: الميْدَاني وكتَابه ((الأمثَال))
رقم المقالة: 409
صاحب المقالة: د. أحمد محمد الضبيب
-----------------------------------------
أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني معروف لدى قراء العربية بكتابه الشهير ((مجمع الأمثال)) أضخم مجموعة للأمثال العربية القديمة تملكها المكتبة العربية في الوقت الحاضر وقد أصبح الكتاب ومؤلفه مترادفين فما يذكر أحدهما إلا ويذكر الآخر، ومع ذلك فإن الدراسات عن الميداني وكتابه قليلة نسبياً بين علمائنا المحدثين، ويكفي أن ندلل على ذلك بأن كتاب ((مجمع الأمثال)) لم يحظ حتى الآن بطبعة محققة تحقيقاً علمياً يشفي الغليل أو يبل الصدى بالرغم من ضخامة هذا الكتاب وغزارة مادته وأهميتها.
والميداني نسبة غلبت على كثير من العلماء عدا صاحب ((مجمع الأمثال)) نذكر منهم على سبيل المثال: محمد بن أحمد بن معقل الميداني[1]، وعباس بن سهل الميداني[2] وعلي بن محمد بن أحمد بن عبدالمؤمن الميداني[3]، ومحمد بن محمد بن عبدالرحمن بن عبدالوهاب الميداني[4] وعبدالرحمن بن جامع بن غنيمة الميداني[5].
وهي نسبة إلى الميدان: اسم يطلق على عدة مواضع في البلاد الاسلامية أشار السمعاني إلى موضعين منها هما: ميدان زياد بنيسابور ومحلة الميدان في أصبهان[6].
وذكر ياقوت أنه اسم يطلق على أربعة مواضع ثم سرد سبعة مواضع بهذا الاسم هي:
1 - ميدان زياد محلة بنيسابور.
2 - الميدان محلة بأصبهان.
3 - ميدان اسفريس محلة بأصبهان.
4 - شارع الميدان محلة ببغداد.
5 - الميدان محلة بشرقي بغداد بباب الأزج.
6 - الميدان محلة بخوارزم.
7 - ميدان: مدينة بما وراء النهر في أقصاه قرب اسبيجاب[7].
وذكر ياقوت هذا الاسم مرة أخرى في كتابه ((المشترك وضعاً والمفترق صقعاً)) وقال إنه اسم لستة مواضع هي التي ذكرها في ((معجم البلدان)) مع اسقاط الموضع الأخير (رقم 7)[8].(/1)
وهناك غير هذه الأماكن المذكورة محلة ((الميدان)) في دمشق وينسب إليها عالم آخر هو شمس الدين محمد بن يوسف الميداني (توفي 1033هـ)[9].
وصاحبنا منسوب إلى ميدان زياد بن عبدالرحمن محلة من محال نيسابور، والقدماء غالباً ما يتبعون هذه النسبة بقولهم ((النيسابوري)) تمييزاً له عن المنسوبين إلى المواضع الأخرى وقد غلبت النسبة إلى الميدان عليه واشتهر بها حتى لا تكاد تنصرف إلى غيره في الوقت الحاضر.
عاش الميداني حياته تحت ظلال الحكم السلجوقي في مدينة من أهم المدن الاسلامية ((نيسابور)) عين خراسان كما وصفها بذلك المأمون[10] وسرة خراسان وغرتها كما يقول الثعالبي[11] وهي مدينة اشتهرت بكثرة العلماء من مفسرين ومحدثين ولغويين، وما أكثر من نسب إليها منهم في كتب الطبقات والتراجم. وقد كانت مزدهرة إبان الحكم السلجوقي وقبله فقد كانت تقود الحركة العلمية في بلاد فارس جميعها، ويكفي أنها أول مدينة في الاسلام فتحت فيها مدرسة نظامية[12] ثم عجت بالمدارس[13] بل كانت في القرن الرابع الهجري أكبر مدن الشرق[14].
وليس لدينا ما يفيد عن تاريخ ولادة الميداني ولذا فمن الصعب الجزم بجميع عهود الملوك السلاجقة الذين أظله حكمهم، غير أننا نظن أنه أدرك طرفاً من عهد عضد الدين أبي شجاع ألب أرسلان (حكم من سنة 455- 465هـ/ 1063- 1072م) ومن المؤكد أنه عاصر عهد ملكشاه الأول (من سنة 465- 487هـ/ 1072- 1092م) ومن أتى بعده من الملوك السلاجقة حتى عهد معز الدين أبي الحارث سنجر (من 511- 552/ 1117- 1157م) الذي أدرك من عهده ما يقارب السبع سنوات (توفي الميداني سنة 518هـ) فيكون بهذا قد عاصر معظم ملوك السلاجقة الكبار[15].(/2)
ومن الممكن الافتراض أن الميداني قد أدرك طرفاً من عهد طغرل بك فيكون بذلك قد عاصر كل السلاجقة الكبار ونحن نبني هذا على واقعة ذكرها القفطي في إنباه الرواة (ط دار الكتب المصرية 1/121) عند ترجمته للميداني فهو يقول أنه – أي الميداني – قد كتب عن الإمام أبي الحسن علي بن فضّال المجاشعي النحوي القادم على نيسابور عند منصرفه من غزنة سنة سبعين وأربعمائة، فإذا افترضنا أن متوسط سن الميداني في ذلك الوقت الذي طلب فيه العلم على الإمام أبي الحسن هو عشرون سنة يكون قد ولد في حدود سنة 450هـ، ويكون قد أدرك ما يقارب خمس سنوات من أواخر عهد طغرل بك، أما إذا كانت سنه أكبر من ذلك فيكون قد أدرك سنوات أكثر من عهد طغرل بك. فإذا قرنا هذه الحادثة بما هو معروف من تخصص الميداني بصحبة الإمام الواحدي (وقد توفي الأخير في سنة ثمان وستين وأربعمائة) تؤيد ما ذكر من اشتغاله بطلب العلم في ذلك الوقت.
كانت الفترة التي عاشها الميداني من التاريخ فترة ضعف سياسي في الدولة الاسلامية ولكنها مع ذلك كانت فترة خصب فكري لا تقتصر على نيسابور أو خراسان وإنما تمتد إلى أرجاء الأقطار الإسلامية الأخرى ويكفي أن نعلم أن معاصري أبي الفضل الميداني كانوا من أجلة العلماء والأدباء والشعراء فمنهم جار الله الزمخشري العالم اللغوي الأديب النحوي المفسر (ت538/ 1144م) والزوزني شارح المعلقات (ت486هـ/ 1093م) والتبريزي شارح الحماسة والمعلقات (ت502هـ/ 1109م) والطغرائي صاحب لامية العجم (ت515هـ/ 1120م) والحريري صاحب المقامات واللغوي النحوي المعروف (ت522هـ/ 1138م) والشهرستاني صاحب الملل والنحل (ت548هـ/ 1153م) والجواليقي صاحب المعرب (ت539هـ/ 1145م) وغيرهم كثير.(/3)
طلب الميداني العلم فيما يظهر في مدينة نيسابور ولا تذكر المصادر له رحلات في طلب العلم خارجها. ويبدو أن المدينة كانت مكتفية بما فيها من مشاهير العلماء، بل كان العلماء يفدون إليها من كل حدب وصوب. فتتلمذ على الإمام علي بن أحمد الواحدي (ت468هـ)[16] وكان إمام عصره في اللغة والتفسير وكان مختصاً بنظام الملك ملكشاه الأول[17]. وقد سمع الميداني منه التفسير وقرأ عليه النحو[18] واختص بملازمته. وكتب الميداني أيضاً عن الإمام أبي الحسن علي بن فضّال المجاشعي أثناء إقامته بنيسابور وهو من أشهر لغويي عصره وقد وصف بأنه من أوعية العلم، وقد انخرط أيضاً في سلك جماعة نظام الملك في أواخر أيامه[19].
وممن تلقى الميداني العلم عليهم يعقوب بن أحمد النيسابوري[20] كما أخذ عن علماء آخرين لا تذكر المصادر عنهم شيئاً وإنما تشير إليهم بإبهام كقول ابن خلكان: ((ثم قرأ على غيره))[21]. أي غير الواحدي، وكذلك يفعل القفطي في ((إنباه الرواة))[22].
تصدر الميداني بعد ذلك للتدريس في نيسابور وتتلمذ عليه كثيرون، وأجاز في مسموعاته وتخرج به خلق ومنهم من كان من العلماء المشاهير كالإمام أحمد بن علي بن أبي صالح البيهقي المعروف بأبي جعفرك[23] وقد كان إماماً في القراءات والتفسير والنحو واللغة[24] وقد قرأ على الميداني كتاب ((الصحاح)) للجوهري وحفظه عن ظهر قلب[25] وله مؤلفات منها ((تاج المصادر)) والمحيط ((بلغات القرآن)) و ((ينابيع اللغة)). وله تلاميذ كثيرون وتوفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة.(/4)
ومن تلاميذ الميداني ابنه ((سعيد بن أحمد الميداني)) وكان عالماً فاضلاً وسار على منوال أبيه في التعلم والتعليم حتى قال عنه البيهقي في ((وشاح الدمية)): وهذا الإمام تأدب بآداب أبيه اللائحة، واجتهد في سلوك سبيله الواضحة، حتى تحقق فيه قول القائل: ما أشبه الليلة بالبارحة))[26] – غير أن السمعاني – وكان قد سمع منه – يشير إلى أن سعيداً لا يبلغ في درجته العلمية منزلة أبيه إذ يقول: ((كان فاضلاً ولا كأبيه، مرعى ولا كالسعدان))[27]. وقد صنف كتاب ((الأسمى في الأسما)) على غرار كتاب أبيه ((السامي في الأسامي))، وكتاب ((غرائب اللغة))، و ((نحو الفقهاء))[28].
اشتهر الميداني في عصره وبعد عصره بالعلم والأدب وكانت له منزلة عظيمة عند العلماء، نأخذ هذا مما تكتبه عنه كتب التراجم من صفات الإكبار والإجلال مما يدل على منزلته العلمية العالية، فقد وصفه القفطي بأنه ((إمام أهل الأدب في عصره، وقد اشتهر بأدبه وعرف في البلدان بتصانيفه الحسان))[29].
وقال عنه البيهقي في ((وشاح الدمية)): ((الإمام صدر الأفاضل أحمد بن محمد الميداني، صدر الفضلاء وقدوة الأدباء، قد صاحب الفضل في أيام نفد زاده، وفنى عتاده، وضاعت عدته، وبطلت أهبته، فقوّم سناء العلوم بعدما غيّرتها الأيام بصروفها، ووضع أنامل الأفاضل على خطوطها وحروفها، ولم يخلق الله فاضلاً في عصره إلا وهو في مأدبة آدابه ضيف، وله من بابه شتاء وصيف))[30].(/5)
ووصفه الذهبي في ((تذكرة الحفاظ)) بالنحوي الأصولي صاحب التصانيف[31]، وقال عنه الخوانساري في ((روضات الجنات)): ((كان من أرباب الفضل والأدب المشاهير، فاضلاً عارفاً باللغة صاحب التصانيف المفيدة فيها وفي غيرها))، وقال عنه السمعاني: ((كان أديباً فاضلاً عارفاً بأصول اللغة))[32]. وكذلك وصفه ابن خلكان[33]، وابن الأنباري[34]، والسيوطي[35]. وأكثر الكتب التي ترجمت له وصفته بالأديب اللغوي النحوي فتشير بذلك إلى مجال اختصاصه وفيه أكثر مؤلفاته. غير أن بعض المصادر تذكر أنه سمع الحديث ورواه فهو أيضاً من المحدثين. وبما أنه تتلمذ على الواحدي الإمام المفسر وأخذ عنه التفسير كما روى ذلك القفطي (إنباه: 1/121) فلعله قد اشتغل بتفسير القرآن في حلقات درسه.
وقد أثرت له بعض المقطوعات الشعرية في بعض المصادر وهي في مجموعها لا تتعدى أربع مقطوعات يتفق في إيرادها كل من ياقوت في معجمه والقفطي في إنباه الرواة. ويبدو أن السبب في ذلك أن كلاً منهما قد استقى معلوماته من أبي الحسن البيهقي في كتابه ((وشاح الدمية))، ومن عبدالغافر بن إسماعيل في كتابه ((السياق)). وأول هذه المقطعات بيتان كان يرددهما الميداني كما يقول ابن خلكان[36]، ويظن أنهما له، بينما يجزم عبدالغافر بن إسماعيل وكذلك البيهقي بنسبتهما له[37] وهما:
تنفس صبح الشيب في ليل عارض فقلت: عساه يكتفي بعذارى[38]
فلما فشا عاتبته فأجابني: ألا هل ترى صبحاً بغير نهار ؟
ومن المقطعات التي تروى له قوله:
حننت إليهم والديار قريبة فكيف إذا سار المطي مراحلا
وقد كنت قبل البين – لا كان بينهم – أعاين للهجران فيهم دلائلا
وتحت سجوف الرقم أغيد ناعم يميس كخوط الخيزرانة مائلا[39]
وينضو علينا السيف من جفن مقلة يريق دم الابطال في الحب باطلا
وتروي له المصادر أيضاً هذين البيتين:
شفة لماها زاد في آلامي في رشف ريقتها شفاء سقامي
قد ضمّنا جنح الدجى، وللثمنا صوت كقطك أرؤس الأقلام[40](/6)
ورابع هذه المقطعات التي يرويها مترجموه هي قوله في وصف كاذب:
يا كاذباً أصبح في كذبه أعجوبة أية أعجوبه
وناطق ينطق في لفظة واحدة سبعين أكذوبه
شبّهك الناس بعرقوبهم لما رأوا أخذك أسلوبه
فقلت: كلا إنه كاذب عرقوب لا يبلغ عرقوبه[41]
ولم اطلع على شعر له أكثر من هذا في كتب التراجم التي بين يدي، ولاشك أن ما ذكرناه لا يمثل إلا النزر القليل من شعره، فقد ذكر القفطي أن له شعراً كثيراً[42]. ولسنا نعلم إذا كان شعره قد جمع في ديوان أم لا، وإذا كان قد جمع فلعله فقد مع ما فقد من كتبنا القديمة.
وشعره كما يبدو من هذه النماذج من النوع السهل الذي يعتمد على المحسنات البديعية وهو لا يشذ عن الطريقة التي سار عليها الشعراء في عصره ولكنه مع ذلك قليل التكلف وظاهر المرح.
وقد روى القفطي لابنه سعيد قطعة جيدة من الشعر، مما يدل على أن ابنه قد سار على منواله حتى في قرض الشعر[43].
عاش الميداني حياته في نيسابور وتدل مقدمات كتبه على أنه كان على اتصال ببعض وجهاء عصره ولعل منهم من تتلمذ عليه كعلي بن مسعود بن إسماعيل الذي أهدى إليه كتابه ((السامي في الأسامي)) وقد وصفه بـ((الشيخ العميد الأجل الأعز ثقة الملك، شمس الكتاب أبي البركات)) ثم عقب مع ذلك بعد الدعاء له بقوله ((وهو أدام الله حراسته صدر جريدة المختلفة إلى، وفارس مضمار الواردة على، بل هو الحسام جلاه صِقل طبعيُّ فاخلصه، والغمام انشأه نوء فضلي فانشصه فهو اليوم قرة عيني، وفلذة كبدي وأعز عليّ من نفسي وولدي))[44].
من هؤلاء الوجهاء محمد بن أرسلان الذي أشار عليه بتأليف ((مجمع الأمثال))[45] وأبو الحسن علي بن محمد الفنجكردي وقد حضَّه على إتمام كتاب ((السامي في الأسامي))[46].
ومما يجدر ذكره أن الميداني قد وصف بأنه عاش حياته من كسب يده[47] ولا ندري إذا كان يمارس مهنة غير التعليم إذ تصمت المصادر عن ذكر أيِّ مهنة له غير التعليم.(/7)
وتجمع المصادر على أنه توفي رحمه الله في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان عشرة وخمسمائة[48]، في يوم أربعاء[49].
ولا يشذ عن هذا الاجماع إلا صاحب كتاب ((الفلاكة والمفلوكين)) فإنه يؤرخ لوفاته بسنة تسع وثلاثين وخمسمائة[50] وواضح أنه خلط بين وفاته وبين وفاة ابنه أبي سعد سعيد الذي تؤرخ أكثر المصادر لوفاته بهذه السنة[51].
آثاره:
تقبل الوسط العلمي الاسلامي مؤلفات الميداني بقبول حسن، وأثنى عليها العلماء. ووصفوه بأنه صاحب التصانيف الحسنة[52]، والمفيدة[53] وأطرى القفطي طريقته في التأليف فقال: ثم أخذ في التصنيف فأحسن كل الإحسان فيما جمعه وصنفه وأربى على من تقدم بالترتيب والتحقيق، واستدرك على بعض من زلَّ قبله من المصنفين وأصلح مواضع الغلط))[54].
وقد عالجت معظم مؤلفات الميداني – إن لم يكن كلها – اللغة، وقد كان بعضها تعليمياً صرفاً مثل كتاب ((الهادي للشادي)) الذي يؤخذ من اسمه أنه دليل للمبتدئ في النحو، ويذكر ابن الأنباري أن الزمخشري قد اعترض على هذه التسمية وقال للميداني: ((كيف سميت هذا الكتاب مع نفاسته وغموض معانيه ودقتها بهذا الإسم ؟، فإن الشادي من أخذ طرفاً من العلم، وهذا الكتاب لا يليق إلا بمن كان منتهياً، لا مبتدئاً))[55]. وقد وصف الخوانساري هذا الكتاب بأنه ((كتاب في مداليل الأدوات وطرق استعمالها، وفيه أيضاً أبواب متفرقة من العربية وفوائد نادرة جمة على صغر حجمه))[56].
وذكر أن هذا الكتاب قد شرحه عبدالوهاب الزنجاني صاحب ((متن التصريف)) المعروف بتصريف العزي[57].
ولا يزال هذا الكتاب مخطوطاً ومحفوظاً – طبقاً لما أورده بروكلمان – في مكتبتي ليدن وباريس[58].(/8)
ومن تلك الكتب التعليمة كتاب ((نزهة الطرف في علم الصرف)) وهو رسالة صغيرة طبعت في استانبول[59]، ومنها كتاب ((النحو الميداني)) وقد أورده حاجي خليفة باسم كتاب ((الأنموذج)) في النحو[60] وكذلك فعل الخوانساري[61]، أما ياقوت فيجعلهما كتابين مستقلين وتبعه – فيما يبدو – كاترمير Quatremere ولعلهما كذلك[62]. وتوجد من هذا الكتاب نسختان في مكتبتي ليدن وباريس[63].
ومن تلك الكتب أيضاً كتاب ((المصادر)) ذكره الخوانساري وحاجي خليفه[64].
ومنها كتاب ((شرح المفضليات)) وهو كتاب اختلف في موضوعه فرأى كاترمير أنه شرح لمجموعة المفضليات الشعرية المشهورة المنسوبة للمفضل الضبي[65] غير أن حاجي خليفة يشير إلى أن المقصود بذلك إنما هو أسماء التفضيل[66]. ويظهر أنه كتاب يدور حول باب التفضيل في النحو وليس له علاقة بمجموعة المفضليات الشعرية. إذ إن الميداني كان مهتماً بالنحو كثيراً وفي أغلب مؤلفاته.
ومن كتب الميداني التي استهدفت اللغة أيضاً كتاب ((قيد الأوابد من الفوائد)) وهو كتاب رد فيه على الجوهري في صحاحه ودل على بعض مواضع سهوه، وقد اشتهر الميداني بالتحقيق والتدقيق يدل على ذلك قول القفطي الذي ذكرناه آنفاً من أنه – أي الميداني – ((قد أربى على من تقدم بالترتيب والتحقيق واستدرك على بعض من زل قبله من المصنفين وأصلح مواضع الغلط))[67].
وأشار إلى ذلك البيهقي في ((الوشاح)) إذ قال: ((فقوم سناد العلوم بعدما غيرتها الأيام))[68].(/9)
ويبدو أن الميداني قد اشتهر أيضاً بتدريس كتاب ((الصحاح)) للجوهري وأصبح مرجعاً فيه فكان التلاميذ يأتون إليه لدراسة هذا الكتاب. ففي ترجمة تلميذه أبي جعفرك يقول ياقوت: ((حفظ كتاب الصحاح في اللغة عن ظهر قلب بعدما قرأه على أبي الفضل أحمد بن محمد الميداني))[69]. ويقول علي بن زيد البيهقي في ترجمته لنفسه: ((ثم حضرت درس الإمام الفاضل أحمد بن محمد الميداني في محرم سنة عشرة وخمسمائة وصححت عليه كتاب السامي في الأسامي من تصنيفه وكتاب المصادر للقاضي الزوزني.... ومجمع الأمثال من تصنيفه وكتاب صحاح اللغة للجوهري))[70] وقد استفاد الميداني في نقده لكتاب الجوهري من كتاب ((تهذيب اللغة)) للأزهري[71]. ولا زال هذا الكتاب مخطوطاً في مكتبة برلين تحت رقم 6942[72].
ومن كتب الميداني أيضاً كتاب ((مأوى الغريب ومرعى الأديب)) ذكره حاجي خليفة[73]. وكتاب ((منية الراضي برسائل القاضي))[74] وهو مجموعة من رسائل قاضي هراة المنصور بن الأزدي الهروي[75].
ومن كتب الميداني التي اشتهرت كتاب ((السامي في الأسامي)) وهو معجم عربي – فارسي وقد جعله أربعة أقسام تندرج تحتها فصول. وهذه الأقسام هي:
- القسم الأول: في الشرعيات وما يناسبها.
- القسم الثاني: في الحيوانات وما ينضاف إليها.
- القسم الثالث: في العلويات.
- القسم الرابع: في السفليات.
وقد أقبل العلماء على هذا الكتاب أيما إقبال، وقدروه حق قدره وقرظوه شعراً ونثراً ويلخص لنا هذا الاقبال الخوانساري عندما تحدث عن هذا الكتاب إذ قال: ((بديع النسق والأعمال، جيد في بابه قلما يوجد من غير مصادر الدقة العربية اسم عربي لم يعرف فيه بالفارسية القديمة على أحسن وأمتن تبيان..(/10)
... وقد بالغ في وصف هذا الكتاب كثير من أصحابنا في إجازاتهم واعتنوا في النقل عنه في مواضع الحاجة كثيراً، وناهيك به مبيناً لأرباب الكتابة والشعر ونقاد الكلام من النظم والنثر، وقد كتب بعضهم في كشف رموز هذا الكتاب ووصف غموضه كتاباً سماه بالإبانة عندنا نسخة منه. وهو من أهم اللوازم لمن أراد الانتفاع بالسامي في الحقيقة))[76].
وممن قرظه شعراً أسعد بن محمد المرساني (؟) إذ قال:
هذا الكتاب الذي سماه بالسامي دَرْج من الدر، بل كنز من السام
ما صنفت مثله في فنه أبداً خواطر الناس من حام إلى سام
فيه قلائد ياقوت مفصلة لكل أروع ماضي العزم بسام
فكعب أحمد مولاي الامام سما فوق السماكين من تصنيفه ((السامي))[77]
أنهى الميداني هذا الكتاب في 14 رمضان سنة سبعة وتسعين وأربعمائة (11 يونيه 1104م) ويوجد في عدة مخطوطات في مكتبات عديدة[78]. وقد طبع لأول مرة على الحجر في إيران سنة 1273 مع مجموعة تشمل ((سر الأدب في مجاري لغة العرب)) للثعالبي، و ((فروق اللغات)) للجزائري، وشرح قصيدة كعب بن زهير ((بانت سعاد)) للتبريزي، وحقق الكتاب أخيراً الدكتور محمد هنداوي، ولم أستطع الحصول على نسخة من هذه الطبعة.
كتاب مجمع الأمثال:(/11)
مجمع الأمثال هو أهم كتب الميداني وعليه تنبني شهرته، ويرتبط به اسمه كثيراً حتى إذا ما ذكره مترجموه قالوا: صاحب ((الأمثال))[79]، أو صاحب كتاب الأمثال[80]. تمييزاً له عن غيره وتعريفاً له بكتابه الشهير، وفي مجمع الأمثال أودع الميداني معرفته وعلمه الغزير في اللغة العربية والأدب، وأظهر شخصيته العلمية المتميزة. وتذكر المصادر أن شيئاً من التنافس قد حدث بينه وبين معاصره جار الله الزمخشري بسبب تأليف هذا الكتاب، فقد قيل إن الزمخشري عندما رأى كتاب الميداني ((مجمع الأمثال)) وجده أحسن ترتيباً من كتابه ((المستقصى في أمثال العرب))، فندم على تأليف المستقصى ولم يكتف بذلك بل أنه عمد إلى اسم الميداني فزاد به قبل الميم نوناً فصار ((النميداني)) ومعناه في الفارسية: ((الذي لا يعرف شيئاً)). ويقال إن الميداني، ردّاً على هذا العمل، قام بتغيير اسم الزمخشري وذلك باسقاط الميم منه وإبدالها نوناً حتى صار ((الزنخشري)) ومعناه – في زعمهم – ((بائع زوجته))[81]. وإذا صح أن يكون معنى النميداني في الفارسية هو ((الذي لا يعرف شيئاً)) فإن معنى كلمة ((الزنخشري)) لا تعني ((بائع زوجته)). وقد علل كاترمير هذا الخطأ بأن العلماء الذين أوردوا هذه اللفظة كانوا متضلعين بالعربية أكثر من تضلعهم بالفارسية، فخلطوا بين ((زن)) بمعنى امرأة في الفارسية، وبين كلمة ((شرى)) بمعنى باع في العربية[82].
وفي قصة أخرى يشير حاجي خليفة إلى أن الزمخشري قد أعجب بكتاب ((مجمع الأمثال)) للميداني، وندم على تأليف كتابه المستقصى[83]. وقد مرَّ بنا إعجاب الزمخشري بكتاب الميداني الآخر المسمى بـ((الهادي للشادي)) ولعل قصة تغيير الاسم تندرج تحت الفكاهة والمزاح أكثر من أي شيء آخر ونجد لذلك دليلاً في رد الميداني على الزمخشري برسالة له بعد تلك الحادثة إذ قال: ((... إذا رجعت وقبلنا عذرك وهذه فكاهة لا تليق بالمشايخ))[84].(/12)
كانت الفترة التي عاش فيها الميداني من حيث حركة تدوين الأمثال فترة جمع للتراث العظيم الذي ألفه الاخباريون واللغويون القدماء في هذا الحقل. كما كانت فترة غلب عليها التأليف في الموسوعات.
وكان كتاب الميداني أحد هذه الكتب الموسوعية الضخمة، ومن هنا تأتي أهميته لدارس الأمثال العربية القديمة. فقد استوعب جل – إن لم يكن كل – المؤلفات العربية التي سبقته في جمع الأمثال وأكثر هذه المؤلفات التي استوعبها، ضاعت مع ما ضاع من مصادرنا القديمة فلم نعد نعرف عنها غير أسمائها. وقد ذكر الميداني – في مقدمة مجمع الأمثال – أنه رجع إلى أكثر من خمسين كتاباً في الأمثال وذكر لنا أهم هذه المجموعات التي اعتمد عليها وهي – حسب الترتيب الزمني – كالآتي:
1- مجموعة أبي عمرو بن العلاء (ت145هـ/ 770م)[85].
2 - مجموعة المفضل ابن يعلى الضبي (ت170هـ/ 786م)[86].
3 - مجموعة أبي فيد مؤرج السدوسي (ت195هـ/ 809م)[87].
4- مجموعة أبي عبيدة معمر بن المثنى (ت210هـ/ 825م)[88].
5 - مجموعة أبي زيد الأنصاري (ت215هـ/ 830م)[89].
6 - مجموعة الأصمعي (عبدالملك بن قريب) (ت حوالي 216هـ/ 831م)[90].
7 - مجموعة أبي عبيد القاسم بن سلام (ت حوالي 223هـ/ 837م)[91].
8 - مجموعة المفضل بن سلمة الضبي (كتاب الفاخر) (ت290هـ/ 903م)[92].
9 - مجموعة حمزة بن الحسن الأصفهاني (ت360هـ/ 970م)[93].
وهو يشير إلى أنه اعتمد – فيما يختص بقصص الأمثال – على أعمال كل من عبيد بن شرية وعطاء بن مصعب والشرقي بن القطامي، ومع ذلك فإن ما ذكره الميداني – في مقدمة كتابه – من أسماء ومراجع لا تُكوِّن إلا النزر القليل من عشرات اللغويين والنحويين والرواة الذين يشير إليهم في تضاعيف مجمع الأمثال[94]. وقد لاحظ زلهايم Sellheim أن الميداني لم يذكر أبا هلال العسكري صاحب كتاب الأمثال ولا أبا عبيد البكري صاحب كتاب فصل المقال في شرح كتاب الأمثال كمصدرين من مصادره[95].(/13)
منهج الميداني في مجمع الأمثال:
قسم الميداني كتابه إلى ثمانية وعشرين باباً حسب الأبجدية العربية ثم ألحق بهذه الأبواب بابين أحدهما يحوي قائمة بأيام العرب في الجاهلية والاسلام والثاني يضم حكماً ووصايا منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وبعض الصحابة والتابعين والسلف. والكتاب في هيكله العام يضم مجموعتين من الأمثال:
الأولى: الأمثال القديمة.
الثانية: الأمثال المولّدة.
ويدخل تحت المجموعة الأولى أمثال جاءت على وزن أفعل التفضيل مثل قولهم: أجرأ من أسد وما إلى ذلك يفردها الميداني في أبواب ((داخلية)) يقدم لها بقوله: ((ما جاء على أفعل من هذا الباب)).
وعلى الرغم من شعور الميداني بأن الأمثال القديمة يجب أن تفرد عن الأمثال المولدة إلا أنه لم يلتزم ذلك بدقة. فقد تخللت الأمثال القديمة بعض الأمثال المولدة وخاصة في القسم الذي خصص للأمثال على وزن افعل فإن من تلك الأمثال مالا يعود إلى عصور العرب القديمة وإنما هو نتاج عصور تالية. يدل على ذلك أن تلك الأمثال إما أن تكون منسوبة إلى شخصيات عباسية أو تتحدث عن حوادث تمت في العصر العباسي[96]، ومع ذلك فإننا يمكن أن نعزو كثيراً من الاختلاط الذي حدث بين الأمثال القديمة والمولدة إلى النساخ.
وطريقة الميداني في عرض مادته تتلخص في أن يذكر المثل ثم يتبعه بشرح وفي بعض الأحيان بذكر الحادثة التي أدت إلى ضرب هذا المثل، وكثير من هذا القصص المرتبط بالأمثال خيالي يقصد منه تفسير المثل واثبات أصله[97]، ولكنه مع ذلك يعطي صورة واضحة لحياة وأفكار وعادات وتقاليد المجتمع الذي ظهر منه وشاع فيه.(/14)
وكثير من أمثال الميداني منسوب إلى قائلين معينين، ونسبة الأمثال إلى قائلين معينين كانت – ولا زالت – موضع شك بين الباحثين الذين يرون أن هذه الأمثال قد وضعت وضعاً في أفواه قائليها كما حدث لكثير من أمثال الأمم الأخرى ولعل من أوضحها كتاب الأمثال المنسوب إلى سليمان الحكيم في العهد القديم[98]. ويبدو لي أن هذا الحكم ربما احتاج بعض التعديل بالنسبة للأمثال العربية لعدة أسباب:
1 - إن ما حدث لكتاب الأمثال الموجود في العهد القديم لا يعني بالضرورة أن يحدث للأمثال العربية.
2 - إن دراستنا قد أظهرت أن معظم الأمثال التي اقترضها العرب من الأمم الأخرى قد ظلت بدون نسبة إلى قائلين معينين، ولو كان من عادة الرواة والمؤلفين العرب إيجاد قائلين للأمثال لما عجزوا عن الصاق هذه الأمثال بشخصيات معينة. وما وجدناه من الأمثال العربية القديمة منسوباً للقمان ثم وجد عند أمم أخرى مضافاً إلى شخصيات أخرى فإن هذا يعني أن لقمان وخاصة بعد الاسلام قد أصبح شخصية حكيمة أضيفت إليها جميع الحكم التي وردت إلى العرب من أمم أخرى وذلك بعد أن أكد القرآن الكريم حكمته في سورة من سوره. ولعل أكثر هذه الحكم قد دخل إلى العرب في فترة متأخرة حينما اتصلوا بالحضارات الأجنبية واستفادوا من التراجم المختلفة.
3 - إن ما نسب من أمثال الأمم الأخرى إلى شخصيات عربية إنما أضيف إلى قوم لا يستبعد أن يكون لهم اتصال بالأمم والثقافات الأخرى. مثال ذلك التي وجدت عند احيقار الحكيم الأشوري ثم وجدناها مضافة إلى ابجر بن جابر العجلي أو هند بنت النعمان بن المنذر. وكلا الشخصيتين كانتا على اتصال وثيق بالحضارة الآرامية لأن كلاً منهما كان مسيحياً. فلا يبعد أن يتلفظ أحدهما بمثل آرامي يلتقطه منه الناس على أنه من صنعه ثم ينسبونه إليه فيما بعد. وهذا يعني أن جامعي الأمثال العربية لم يكونوا مخطئين دائماً عندما ينسبون أمثالاً إلى أشخاص معينين.(/15)
وكثيراً ما يشرح الميداني الألفاظ الصعبة في الأمثال. وفي هذه الحال نجده يمتح من ينابيع اللغويين الذين سبقوه في التأليف وكثيراً ما يؤيد ذلك بآرائه الشخصية، فإن المقدرة العظيمة التي كان الميداني عليها في معرفة اللغة العربية لا تعود إلى معلوماته الواسعة بآراء من سبقوه من اللغويين وحسب، وإنما تعود إلى حكمه الشخصي واجتهاده ونقده واقتراحاته فيما يخص بعض الألفاظ أو التراكيب، وهو كثيراً ما يلجأ إلى دراسة تركيب الكلمة وما يدل عليه اشتقاقها الأصلي حتى يصل إلى شيء يرجحه ويرتاح له. مثال ذلك تفسيره الشخصي لكلمتي أبدح ودبيدح في المثل: ((أخذه بأبدح ودبيدح)) إذ يقول: ((قلت: تركيب هذه الكلمة يدل على الرخاوة والسهولة والسعة مثل: البداح للمتسع من الأرض ومثله: تبدحت المرأة إذا مشت مشية فيها استرخاء فكأن معنى المثل: ((أكل ماله بسهولة من غير أن يناله نصب))[99].
ومن تلك التفسيرات التي تعتمد على ملاحظة ((تركيب)) الكلمة تفسيره للمثل: ((جاء بأم الربيق على أُريق)) إذ يقول: ((قلت: هذا التركيب يدل على شيء يحيط بالشيء ويدور به كالربقة، وربقت فلاناً في هذا الأمر أي أوقعته فيه حتى ارتبق وارتبك، فكأن أم الربيق داهية تحيط وتدور بالناس حتى يرتبقوا ويرتبكوا بها))[100].
أما عن نقده لمن سبقوه من العلماء فإننا نجده يوجهه – في الغالب – إلى شخصيتين من المؤلفين أحدهما: حمزة بن الحسن الأصفهاني صاحب كتاب ((الأمثال على أفعل)) الذي استوعبه الميداني في كتابه. والشخصية الثانية هي شخصية الإمام إسماعيل بن حماد الجوهري مؤلف كتاب ((الصحاح)). وقد مرَّ بنا أن الميداني قد ألف نقداً لهذا الكتاب أسماه: ((قيد الأوابد من الفوائد)).(/16)
ونقد الميداني هادئ رزين موضوعي لا يجرح ولا يعنف وكثيراً ما يتبع اسم الشخص المنتقد بالدعاء له. وكمثال على هذا النقد نأخذ تعقيبه على حمزة عند شرحه لمثل: أَحَنُّ مِن شارِفْ.: ((الشارف: الناقة المسنة وهي أشد حنيناً على ولدها من غيرها، قلت: كذا أورده حمزة رحمه الله: حنيناً على. والصواب حنيناً إلي أو حناناً على إن أراد العطف والرأفة[101].
وزيادة على ما يورده من قصص وشروح لأمثاله كثيراً ما يتبع الشرح بجمل قصيرة يريد منها تبيين مغزى المثل ومضربه مثل قوله بعد شرح المثل: عند جهينة الخبر اليقين: ((يضرب في معرفة الشيء حقيقة))[102]. وفي بعض الأحيان تَقْصُر هذه الجمل عن المغزى الحقيقي للمثل. أو تتناول جانباً جزئياً منه مثال ذلك تعليقه على المثال: ((عصبه عصب السلمة)) إذ قال: ((يضرب للبخيل يستخرج منه الشيء على كره))[103]. وواضح أن قصر مغزى المثل على حالة البخيل ليس له ما يبرره. وإنما هو يضرب في المعاملة الشديدة الصارمة تجاه الآخرين سواء كانوا بخلاء أو غير ذلك.
الدراسات العلمية حول مجمع الأمثال:
تركزت معظم أعمال الدارسين – منذ القرن السابع عشر الميلادي – حول كتاب الميداني في محاولات متكررة لتحقيقه ونشره. ففي أوروبا أصبح من المتفق عليه بين الباحثين أن أول من فكر في نشر نص الميداني بأكمله هو المستشرق الإنجليزي ((إدوارد بوكوك Edward pocock (1604م- 1691)). وقد أعد بوكوك نسخة مزودة ببعض الشروح باللاتينية غير أن محاولته توقفت بموته فذهبت مخطوطته إلى مكتبة بودليان Bodlian في اكسفورد[104].(/17)
وقد قامت بعد بوكوك عدة محاولات لنشر الكتاب منها محاولة جون جاكوب رايسكه J. jakob Reiske (1716- 1774م) الذي كان من أكثر محبي الميداني تحمساً. ولكنه اضطر لضغط بعض الظروف المادية إلى تأجيل مشروعه الكبير لنشر مجمع الأمثال مكتفياً بنشر مجموعة مأخوذة من الميداني تضم أمثالاً تتعلق بالعصا. وذلك في سنة 1758م في مدينة ليبزج[105].
ومن الأوربيين الذين فكروا في نشر كتاب الميداني المستشرق شيديوس E. Sheidius الذي حاول نشر كل الكتاب ولكن مشروعه ما لبث أن فشل وبدلاً منه أصدر مجموعة صغيرة من أربع وعشرين صفحة مأخوذة من الميداني[106].
وفي سلسلة المحاولات المتكررة لنشر مجمع الأمثال، انتسخ هـ. أ. شلتنز H. A. Schultens (1749- 1793م) ترجمة بوكوك وشرحه للكتاب عندما سافر إلى اكسفورد عام 1772م. ثم نشر في السنة التالية مقتطفات منه ولكن أمله في نشر الكتاب كاملاً لم يتحقق.
وقد اجتذب مجمع الأمثال مجموعة أخرى من الدارسين من المستشرقين أمثال: ن. ج. شرودر N. G. Schroeder تلميذ شلتنز[107]، وروزنملر Rosenmuller[108] وشيد Scheid[109] وس. د. ساسي[110]S. de Sacy وكنكل Kunkel[111] وكاترمير الذي نشر أجزاء من ترجمته لمجمع الأمثال في المجلة الآسيوية Nouveau Journal asiatique, (1828) I- 177 ff (Janvier 1838, p. 21I وهابشيت Habicht[112] ولكن جهود هؤلاء جميعاً لم تكلل بالنجاح.
غير أن أول من استطاع أن يفوز بنشر مجمع الأمثال كاملاً هو العالم الألماني ج. و. فريتاج G. W. Freytag الذي نشر النص العربي للأمثال متبوعاً بترجمة لاتينية لشرح الميداني في ثلاث مجلدات ظهر أولها في بون سنة 1838م تحت عنوان: Arabum Proverbia وثانيها سنة 1839م وثالثها سنة 1843.(/18)
لقد أسقط فريتاج نص شرح الميداني العربي، واكتفى بترجمة هذا الشرح إلى اللاتينية بتصرف كبير، وقد أخل ذلك بقيمة الكتاب بعض الشيء ولكنه مع ذلك عمل جليل جعل كتاب الميداني يصل إلى أيدي الدارسين في أوروبا بسهولة ويسر. وقد أصبح كتاب فريتاج الآن أحد المصادر ((الكلاسيكية)) التي ينظر إليها الناس بتقدير كبير، ولا زال العلماء والمستشرقون يعتمدون على هذا الكتاب في أبحاثهم ودراساتهم، ولا يكادون يعولون على غيره من طبعات مجمع الأمثال، لفرط ثقتهم به واعتمادهم عليه.
أما في الشرق فإن مجموعة الميداني – بالرغم من اعتراف الناس بها كأكبر مرجع للأمثال العربية القديمة – فإنها لم تر النور إلا في سنة 1248هـ/ 1867م عندما نشر النص العربي في بولاق تحت إشراف الشيخ محمد قطة العدوي[113] والشيخ محمد الصباغ. ثم طبع الكتاب في طهران سنة 1290هـ/ 1873م وفي القاهرة مرة أخرى 1310هـ/ 1892م، ثم توالت بعد ذلك طبعات أخرى ليس فيها النسخة المحققة تحقيقاً جيداً. ومن هذه الطبعات طبعة المكتبة التجارية بتحقيق الشيخ محمد محي الدين عبدالحميد سنة 1959م وهي طبعة تجارية تحتاج إلى كثير من التحقيق والنقد، إذ لا يشير ((المحقق)) إلى نسخ خطية اعتمد عليها ولا يسميها، ولعله اعتمد إحدى الطبعات المصرية القديمة، ولا يوجد إلى الآن في البلاد العربية طبعة معتمدة على المقارنة بين المخطوطات المختلفة ومحققة تحقيقاً علمياً صحيحاً على الرغم من أن نسخ مجمع الأمثال موجودة في مخطوطات كثيرة تنوف على الثلاثمائة كما ذكر ذلك بروكلمان[114].
اختصر مجمع الأمثال الشيخ يوسف الجنوبي (؟) ومخطوطة هذا المختصر موجودة في مكتبة عارف حكمت في المدينة المنورة تحت رقم 182 مجاميع. وتقع في اثنتين وسبعين ورقة كل ورقة تسعة عشر سطراً.(/19)
كما قام الشيخ إبراهيم الأحدب اللبناني[115] بنظم أمثال مجمع الأمثال وشرحها وذلك في كتابه ((فرائد اللآل في مجمع الأمثال))، وطبع الكتاب في بيروت سنة 1312هـ/ 1895م.
ولعل من المفيد – في معرض الكلام عن الدراسات العلمية عن مجمع الأمثال – أن نذكر أن لكاتب هذا البحث دراسة نقدية مقارنة لأمثال الميداني القديمة، نال بها كاتبها درجة الدكتوراه من جامعة ليدز Leeds في بريطانيا بعنوان ((دراسة نقدية مقارنة للأمثال العربية القديمة الموجودة في مجموعة الميداني)) وذلك سنة 1966م. ولا يزال ((مجمع الأمثال)) كنزاً مطموراً يحتاج إلى تكاتف العلماء والدارسين لاستخراج نفائسه والاستفادة منها.
ـــــــــــــــــــــ
[1] السمعاني: كتاب الأنساب: طبعة مصورة لمخطوطة المتحف البريطاني بتقويم مارجوليوث، - لندن 1912 ورقة 538أ.
[2] نفس المصدر.
[3] معجم البلدان، طبعة بيروت 1957م 5/241.
[4] نفس المصدر.
[5] نفس المصدر.
[6] الأنساب للسمعاني 548أ.
[7] معجم البلدان 5/241 وانظر أيضاً ((مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع)) لصفي الدين عبدالمؤمن البغدادي تحقيق علي محمد البجاوي (مصر 1955) 3/1343. وتاج العروس: (ماد).
[8] ياقوت الحموي: ((المشترك وضعاً والمفترق صقعاً)) تحقيق وستنفلد، جوتنجن 1846 – ص412.
[9] انظر ترجمته في الاعلام للزركلي 7/291.
[10] الثعالبي: لطائف المعارف، تحقيق إبراهيم الأبياري ص191.
[11] نفس المصدر والصفحة.
[12] آدم متز: الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبدالهادي أبي ريده (ط3) 1/318.
[13] لطائف المعارف ص5.
[14] آدم متز، نفس المصدر 2/271.
[15] استعرنا تعبير السلاجقة الكبار من:
Stanley Lane Poole, the Mohammadan Dynasties 1925, p. 135.
[16] انظر ترجمته في انباه الرواة 2/225 وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي (القاهرة 1326) ص327.
[17] بغية الوعاة: نفس الصفحة.(/20)
[18] إنباه 1/121.
[19] نفس المصدر 2/299.
[20] ياقوت: معجم الأدباء (طبعة أحمد رفاعي) 5/45.
[21] ابن خلكان: وفيات الأعيان (ط محمد محي الدين عبدالحميد) القاهرة 1948، 1/130.
[22] إنباه 1/121.
[23] الكاف الملحقة بجعفر للتصغير في اللغة الفارسية، وانظر ياقوت: معجم الأدباء 4/49 وبغية الوعاة ص150.
[24] إنباه 1/89، والبغية 150، ومعجم الأدباء 1/414.
[25] البغية: نفس الصفحة.
[26] إنباه: 2/51.
[27] السمعاني: الأنساب: 548أ.
[28] البغية: 254، وابن خلكان: 1/130، والخوانساري: روضات الجنات: ط إيران سنة 1347هـ ص80.
[29] إنباه: 1/121.
[30] إنباه: 1/122، ياقوت: معجم الأدباء 5/48.
[31] الذهبي: تذكرة الحفاظ: ط. حيدراباد 1334هـ 4/63.
[32] الأنساب: 548أ.
[33] وفيات الأعيان: 1/130.
[34] نزهة الألباء ص469.
[35] بغية الوعاة: 155.
[36] ابن خلكان: وفيات الأعيان: 1/130.
[37] انظر الإنباه 1/123، وياقوت: معجم الأدباء 5/48.
[38] العذار: جانب اللحية.
[39] إنباه: 1/122، وياقوت: معجم الأدباء 5/49.
[40] إنباه: 1/123، وياقوت: معجم الأدباء: 5/50.
[41] إنباه: 1/123، وياقوت: معجم الأدباء 5/50.
[42] إنباه: 1/122.
[43] إنباه: 2/52.
[44] السامي في الأسامي: ط إيران 1273هـ ص2.
[45] السامي: ص5.
[46] مجمع الأمثال ط محي الدين عبدالحميد 1/3.
[47] ياقوت: معجم الأدباء 5/49.
[48] ياقوت: معجم الأدباء / ، والبغية 155، والإنباه 1/122، وابن خلكان 1/130 وتذكرة الحفاظ للذهبي، 4/63 والخوانساري: روضات 80.
[49] الإنباه: نفس الصفحة، والبغية: نفس الصفحة.
[50] الفلاكة والمفلوكون: محمد بن علي الدلجي، ط مطبعة الآداب، النجف 1385هـ ص130.
[51] انظر على سبيل المثال: البغية 254.
[52] نزهة الألباء 466.
[53] ابن خلكان 1/130، والخوانساري، روضات الجنات 79.
[54] إنباه: 1/121.
[55] نزهة الألباء ص446- 447.
[56] روضات ص79.
[57] نفس المصدر.
[58] أنظر:(/21)
Brockelmann, G. Geschichte der Arabischen Litteratur, Leiden, 1943- 49, I, 344, & S. 507 I..
وسنرمز إليه بـ GAL في هذا البحث.
Encyclopedie de l'Islam, III, 151.
وسنرمز لهذا المصدر بـ EIF في هذا البحث.
[59] بروكلمان في: EIF, III/151 .
[60] حاجي خليفة: كشف الظنون. ط. فلوجل، ليبزج 1835- 1853 – 1/468 رقم: 1391.
[61] روضات ص80.
[62] انظر:
Quatremère, M. ((Mémoire sur la Vie et les Ouvrages de Maidani)), Nouveau Journal Asiatique, Tom I, (Mars 1829) p.
وسنرمز له بـ NJA فيما بعد.
[63] بروكلمان نفس المصدر.
[64] الخوانساري: روضات: ص80 وحاجي خليفة 5/574 رقم 12138 وانظر أيضاً NJA في نفس الموضع.
[65] NJ نفس المصدر.
[66] حاجي خليفة 4/61 رقم 7537.
[67] إنباه: 1/121.
[68] نفس المصدر.
[69] ياقوت: معجم الأدباء 4/50.
[70] ياقوت: معجم الأدباء 13/221.
[71] بروكلمان في EIF نفس الموضع السابق وانظر أيضاً: Gal, S.I. p: 507 .
[72] انظر المصدرين السابقين.
[73] كشف الظنون: 5/574 رقم 11283.
[74] انظر كاترمير: نفس المصدر. و Gal, S, I. p. 507 .
[75] انظر: Gal, S, I. p. 154 .
[76] الخوانساري: روضات الجنات ص80.
[77] ياقوت: معجم الأدباء 5/46.
[78] بروكلمان: EIF نفس الموضع.
[79] انظر مثلاً: بغية الوعاة: 254 والفلاكة والمفلوكون 130.
[80] انظر مثلاً: 2/51.
[81] انظر في هذه القصة: ياقوت: ارشاد (ط أوروبا) 2/108 وحاجي خليفة 5/393 وقد أورد تفسيراً للحنائي مخالفاً لما ذكرناه، وانظر أيضاً: ابن الأنباري: نزهة الألباء ص467 حيث تجد معنى آخر لكلمة (الزنخشري).
[82] كاترمير: NJA, p. 181 .
[83] حاجي خليفة: نفس الموضع.
[84] ابن الأنباري: نزهة الألباء ص467.
[85] مفقوده.
[86] مخطوطتها موجودة في مكتبة Trinity College في كيمبردج تحت رقم I/916 وقد طبعت في استنبول سنة 300هـ وفي القاهرة سنة 1327هـ.(/22)
[87] مخطوطتها في الاسكوريال تحت رقم 2/1705.
[88] مفقودة.
[89] مفقودة.
[90] مفقودة.
[91] موجودة في عدة مخطوطات بروايتين إحداهما رواية ابن خالويه والثانية رواية تلميذ المؤلف أبي الحسن علي بن عبدالعزيز. انظر لمعرفة أماكن مخطوطاتها:
GAL, I p. 106.
[92] مخطوطاته موجودة في عدة مكتبات، طبع مرتين، مرة في ليدن بتحقيق س. أ. ستوري سنة 1915، والثانية في القاهرة بتحقيق عبدالعليم الطحاوي سنة 1960.
[93] مخطوطاته موجودة في عدة مكتبات انظر ((العرب)) م2 ج11 ص1052 و ج12 ص1122 وملحق الجزء السادس من السنة الثالثة ص44.
[94] انظر القائمة التي أوردها G.W. Freytag لمصادر الميداني في كتابه:
Arabum Proverbia, Vol. III, Pt. 2, p. 199- 216.
وقد أشار زلهايم إلى أنها غير كاملة: انظر كتابه:
Die Klassisch – arabischen Sprichw?rtersammlungen, The Hague, 1954-, P. 148.
وسنشير إلى هذا الكتاب بـ((زلهايم)) في بقية هذا البحث.
[95] زلهايم ص: 148.
[96] انظر – على سبيل المثال – الأمثال ذات الأرقام الآتية من مجمع الأمثال – ط محمد محي الدين عبدالحميد 1959م: 2278، 627، 1419، 2913، 1836 (المثل الأخير منسوب إلى أبي العتاهية انظر الحيوان للجاحظ 3/479) وانظر في موضوع اختلاط الأمثال القديمة بالمولدة: عبدالمجيد عابدين ؛ الأمثال في النثر العربي القديم ص182.
[97] انظر على سبيل المثال: الأمثال: 635، 640، 1061، 4082، 4208.
[98] انظر زلهايم: ص26 وعابدين: الأمثال في النثر العربي القديم ص134 وبلاشير في مقاله.
((Contribution à l'étude de la literature proverbiale des Arabes A l'époque archaique)) Arbica, I (1954), pp. 64 ff.
[99] مجمع الأمثال: ط محمد محي الدين عبدالحميد 1/63 رقم 20308.
[100] مجمع الأمثال 1/169 رقم 888 وانظر تفسيرات مماثلة للأمثال ذات الأرقام: 1044، 1648، 1793، 4358.
[101] مجمع الأمثال: 1/228 رقم 1218.(/23)
[102] مجمع الأمثال: 2/5.
[103] مجمع الأمثال: 2/17 رقم 2437.
[104] كاترمير NJA ص191، وانظر أيضاً زلهايم ص3.
[105] كاترمير: نفس المصدر، وزلهايم ص4.
[106] كاترمير: ص193.
[107] زلهايم: نفس الموضع السابق.
[108] نفس المصدر.
[109] نفس المصدر.
[110] انظر شوفان V. Chauvin في كتابه:
((Bibliographie des ouvrages arabes ou relatifs aux arabes, liege, 1892, 1- 13.
[111] نفس المصدر، ص12.
[112] نفس المصدر، ص13.
[113] انظر ترجمته في الأعلام للزركلي، ط2 ج1/48.
[114] EIF .
[115] انظر ترجمته في الأعلام للزركلي ط2 ج1/48.(/24)
العنوان: الميزان والحكمة
رقم المقالة: 669
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ووهب الآدميين عقولاً يميزون بها بين الحق والباطل والصدق والبهتان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المؤيد بالبرهان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحمدوه على ما وهبكم من العقول التي بها تعقلون الأمور وتدركون وبها تميزون بين الحق والباطل وتحكمون فالعقل من أكبر نعم الله على العبد إذا استعمله فيما هو له من التعقل والنظر والتفكير والتروي في الأمور وعدم التسرع في التصرف والتدبير ولقد جاءت الكتب السماوية مؤيدة لذلك فأتت بالموازنة بين الأشياء والحكم عليها بالعدل والمساواة بالأدلة والبينات قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
أيها المسلمون: إذا أراد أحدكم أن يقول شيئاً فليزن كلامه ولينظر ماذا يترتب عليه فإن ترتب عليه خير أقدم ولم يتردد وإن ترتب عليه شر أمسك عنه وأبعد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) إذا أراد أحدكم أن يفعل شيئاً فلينظر هل في فعله خير أم الخير في تركه فإن كان الخير في تركه تركه وإذا كان في فعله خير فلينظر هل يشغله عما هو أهم وأفضل أو لا فإن كان يشغله عما هو أهم منه وأفضل تركه لأن العاقل لا يمكنه عقله أن يشتغل بالمفضول عن الفاضل لأن ذلك إضاعة لفضل الفاضل.(/1)
وإذا رأيت من أخيك خطيئة فاقرنها بصوابه وحسناته واحكم عليه بالعدل وإن كثيراً من الناس في هذه النقطة بالذات يجورون جوراً كبيراً في حكمهم إذا رأوا من صاحبهم سيئة واحدة حكموا عليه بمقتضاها وعموا عن الحسنات الكثيرة سواها وهذا نقص في العقل وجور في الحكم وهو من صفات المرأة لو أحسنت إليها الدهر كله ثم رأت منك سوءاً قالت ما رأيت خيراً قط. وإذا سمعت من يتبجح بالدين ونصرته وأنه سند له فانظر إلى أفعاله فإن كانت في نصرة الإسلام والمسلمين والدفاع عنهم وجمع كلمتهم وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فدعواه حق وكلامه صدق وإن كانت أفعاله بخلاف ذلك يصادم الدين ويسعى في التفريق بين المسلمين ويحكم القوانين الوضعية المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أن دعواه باطلة وأن قوله كذب مهما بهرج ومهما زخرف فإن العاقل لا ينخدع بزخارف القول وبهرجة الكلام فقد حكى الله تعالى عن المنافقين أنهم إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون فقال الله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
وحكى الله عن فرعون أنه قال لقومه ما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقد قال الله تعالى فيه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}. فالعاقل أيها الناس لا ينخدع بالأقوال ولا يحكم على القائل بمقتضاها إذا كان الفعل يخالف القول.(/2)
أيها الناس وإن من العدل والميزان ما جاءت به الشرائع من المساواة عند تساوي الأسباب والحقوق في الحكم بين الناس فإن الحكم بينهم يجب عليه العدل في حكمه وقوله وفعله فلا يحابي قريباً ولا صديقاً ولا شريفاً ولا يفضلهم على من سواهم فيما هو مساو لهم فيه ومن ذلك العدل بين الأولاد فلا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض في العطايا والهبات لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) وإذا كان بعض الأولاد يبره أكثر من الآخر فلا يبره والده بالعطية ويفضله على غيره بل بره لوالده أجره على الله وأما الوالد فعليه التسوية بين أولاده لأنه إذا فضل من يبره كان ذلك إغراء للآخر بالتمادي في عقوقه وأيضاًً فإنه لا يدري فقد تنقلب الحال فيكون البار عاقاً والعاق بارًا.
ومن ذلك العدل بين الزوجات إذا كان للرجل زوجتان فأكثر فإن من كان له زوجتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل والعياذ بالله.
أيها الناس إن العدل في الأمور والموازنة بينها والحكم للراجح فيها وتسويتها في الحكم عند التساوي لقاعدة كبيرة يجب على العاقل أن يتمشى عليها في سيره إلى الله وفي سيره مع عباد الله ليكون قائماً بالقسط والله يحب المقسطين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.(/3)
العنوان: الناجح ربما لا يفوز!
رقم المقالة: 2037
صاحب المقالة: نوفل عبدالهادي المصارع
-----------------------------------------
يتحدث البعضُ عن النجاح وأهميته في حياة الإنسان، وأصبح وأضحى وأمسى وبات البعضُ منا يسعى لتحقيق نجاحات معينة في هذه الدنيا دون معرفة حقيقية لهذه الكلمة ومواجهتها، الكلمة التي أراني لا أراها، وأفضّل أن لا تراني هي، وأن تذهب في طريقها إلى غير طريقي.
ولكن، لِمَ هذا الجفاء بيني وهذه الكلمة وما سره؟
لقد شد انتباهي أن كلمة (نجاح) لها من المعاني الكثيرة عدد من خلقهم الله، وهذا يفيد أن هذه الكلمة يضع تعريفَها من يتحدث عنها، وهنا تكمن المشكلة، وحتى أكون أكثر إنصافاً يُعرفها قاموس كمبردج على أنها تحقيق لأمر معين كنتَ قد جعلته هدفاً، ووصلتَ بعد ذلك للنتيجة المرغوبة.
برأيي أن النجاح صناعة دنيوية، فمهما قوي أساسُها فلا شك بأنها هالكة لا محالة، فهي قد تستند على ما تهواه النفس وتفضله وتسير على طرق كثيرة دون دليل قاطع أو نتيجة واضحة.
أما أنا فأقول من منطلق أخذ الحيطة والحرص لا أكثر بأن هناك كلمة أخرى يجب أن نستخدمها ونضع كلمة (النجاح) جانباً: من يفوز بالآخرة بالتأكيد نجح في الدنيا، ولكن من ينجح في الدنيا ليس بالضرورة يفوز بالآخرة، وهنا الفارق ويا له من فارق!
فالنجاح كلمة لم أجدها في القرآن، وبصراحة لا تهمني، فالفوز أسمى وأرقى وأكبر وأعظم، وتعريفه لا يختلف عليه اثنان، وهو أن يجار الإنسان من نار الجحيم ويصير إلى النعيم المقيم.
مقارنة
النجاح ... الفوز
• الثقة تكمن في النفس معظم الوقت. ... • الثقة تكون بالله ويُكرم الإنسان ذاته.
• العمل للدنيا في غالب الأحيان. ... • العمل للدنيا والآخرة.
• ترجع غالب الأمور للنفس والعقل والمنطق. ... • تُرجع كل الأمور لله ورسوله.
الآن عزيزي القارئ، هل تود أن تفوز أو أن تنجح؟ فالخيار لك، ولك وحدك، وأنت مسؤول عنه.(/1)
العنوان: النَّحلَة
رقم المقالة: 725
صاحب المقالة: صهيب بن محمد خير يوسف
-----------------------------------------
قضيتُ اليومَ مسروراً .. أراقبُ هذه النَّحلَهْ
أُكلِّمُها، تُكلِّمُني، وأُدنيها منَ الفُلَّهْ
فماذا قالتِ النَّحلَهْ؟
((أنا شَغَّالةُ النحلِ
أَعيشُ هُناكَ في التلِّ
أُربِّي النحلَ، أُطعِمُهُ، وأَرعاهُ
وقد أَبني خَلاياهُ ..
خَلايانا لها مَلِكَهْ،
وحُرَّاسٌ، ونَحلٌ دائِمُ الحَرَكَهْ
إذا جاءَ الرَّبيعُ فسوفَ نَصعَدُ ذلكَ الجَبَلا
ونَبحَثُ عن رَحيقِ الوَردِ؛ حتَّى نَصنعَ العَسَلا ..
هَلا - فصلَ الرَّبيعِ - هَلا ..
تَعالَوا واصنَعُوا العَسَلا
ففيهِ للجُسُومِ غِذاءْ
وفيهِ للمَريضِ شِفاءْ
.. تَعالَوا واصنَعُوا العَسَلا ..))(/1)
العنوان: النساء والهاتف ترويح وتسلية.. أم غيبة ونميمة
رقم المقالة: 819
صاحب المقالة: تحقيق: إيمان الحلواني
-----------------------------------------
• د.عادل مدني: ساعد زوجتك على شغل وقتها باحتوائها والترويح عنها.
• د.أحمد المجدوب: آفة خطيرة تنمو أكثر مع المرأة غير العاملة.
• د.نبيل السمالوطي: الثرثرة ليست حكراً على النساء ولكنها أنواع.
• د.سعاد صالح: عقابها الشرعي غائب عن تفكير مرتكبيها.
* * *
كم من الوقت تقضينه مع صديقاتك في الحديث عبر الهاتف؟ وما هي الموضوعات المفضلة في الحوارات الهاتفية؟ وهل تشعرين بالملل من قضاء وقت طويل في الحديث عن الآخرين؟ وهل حواراتك الهاتفية تضايق زوجك أو تشغلك عن بعض واجباتك تجاه بيتك وأولادك؟ وهل يمكن أن يمر يوم أو يومان من دون حوار مع إحدى صديقاتك ولا يسبب ذلك ضيقاً لك؟
هذه التساؤلات طرحتها إحدى الباحثات على 2000 سيدة في محاولة لمعرفة مدى حرص المرأة العربية على الغيبة الهاتفية.
كشفت إجابات السيدات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 20 و45 سنة عن إدمان السيدات للأحاديث الهاتفية، وأوضحت أن موضوع هذه المكالمات غالباً ما يكون بهدف التسلية وشغل وقت الفراغ؛ نتيجة الشعور بالكبت والإحباط من زيادة حدة المشكلات الأسرية اليومية.
طرحنا نتائج هذه الدراسة على عدد من العلماء والخبراء لتوضيح أبعاد الغيبة والنميمة الهاتفية وتأثيرها في العلاقات الزوجية والاجتماعية.
السيدات أنواع:
** ضحى السيد- مدرسة بالمرحلة الثانوية- تقول: في الحقيقة أنا لا أجد وقتاً طويلاً للحديث مع صديقاتي عبر الهاتف، لأنني لا أملك وقت فراغ، وأعتقد أن كل امرأة تدمن الأحاديث التليفونية هي بالأساس تشعر بالوحدة والفراغ, وغالباً ما تكون غير عاملة؛ فالمرأة العاملة لا تشعر بفراغ مطلقاً لأنها تقضي معظم الوقت في إنهاء واجباتها الوظيفية والأسرية.(/1)
** نادية خليفة تخالف ضحى وترفض وصف المحادثات الهاتفية مع الصديقات بالغيبة والنميمة، وتقول: الغيبة والنميمة أكثر في أماكن العمل، حيث يقضي العاملون وخاصة الجالسين على المكاتب وقتاً طويلاً في الحديث عن الآخرين والأخريات. أما المحادثات الهاتفية، فليس من الضروري أن تكون بهدف الغيبة والنميمة، بل قد تكون في أحوال الأسرة وشؤون المطبخ والأولاد، وقد تكون في أمور تهم الأسرة وقضاء الواجبات الاجتماعية كالتهنئة في المناسبات السعيدة والمشاطرة في الأحزان لذلك أرى أنه لا يجوز توجيه اتهامات عشوائية للمرأة التي تتفرغ لرعاية أولادها وزوجها ووصفها بأوصاف لا تليق لأنها تضحِّي من أجل سعادة أسرتها.
** ولاء مجدي ترى أن من حقها أن تقضي بعض الوقت في الحديث مع صديقاتها للترويح عن النفس أو للتشاور في بعض الأمور وإلا أصيبت باكتئاب، ومن الطبيعي أيضاً أن يتطرق الحديث عن بعض الصديقات أو الأقارب، وما دمنا لا نتحدث عنهم بسوء، ولا نشوِّه صورتهم فلا حرج في ذلك.
الفراغ السبب الأول:
الدكتور أحمد المجدوب - أستاذ علم الاجتماع - يؤكد أن النميمة جزء من شخصية المرأة لأنها تميل إلى الكلام في شؤون الآخرين حتى تظهر بأنها مطلعة وعندها علم بكل شيء، ويقول: للأسف هذه النميمة لا تتصف بها المرأة التي لا تعمل فقط، وإنما توصف بها المرأة العاملة أيضاً، لأنها تهمل في عملها ولا تجد ما تفعله فتجلس مع زميلاتها يخضن في سيرة الجميع، ويروجن الشائعات ويختلقن الحكايات، والنميمة لاشك هي وليدة الفراغ القاتل وعدم البحث عن عمل مفيد.(/2)
ويضيف: هذا فضلاً عن زيادة الأعباء النفسية التي تدفع الإنسان إلى لهروب من حياته ومشكلاته إلى الخوض في سير الناس، ويؤكد د. المجدوب: النميمة من الأمراض الاجتماعية الفتاكة، التي ترتبط بمجموعة أخرى من الخصال السيئة، مثل الحقد والحسد والجبن والنذالة، لأن الشجاعة تجعلنا نواجه الآخر ولا نتحدث عنه من وراء ظهره، ولكن المؤسف حقاً أننا أصبحنا ننظر إلى النميمة على أنها تسلية، فلا نستنكر الشخص النمَّام ولا نرفض سلوكه، وهذا يعتبر انحداراً أخلاقياً رهيباً، لأننا نقبل الصفات السيئة ونعتبرها نوعاً من أنواع التسلية، وهذا ما يجعلها تستشري في المجتمع، وتؤدي إلى تدمير قيمه وأخلاقياته.
إن استنكار شخصية النمَّام وسلوكه، قد يجعله يتوب عن هذه العادة الذميمة، ويعطي تنبيهاً وتحذيراً للآخرين من محاكاته حتى لا يُنبَذوا مثله، فنحمي المجتمع من انتشار مثل هذه العادات الاجتماعية الخبيثة.
صفة خبيثة:(/3)
الدكتور نبيل السمالوطي يتفق مع د. المجدوب في أن النميمة صفة خبيثة ينبغي ألاَّ نصمت عليها، ويشير إلى بعض الناس الذين يمزجون النميمة والغيبة بالفكاهة والنكتة، ليضفوا جواً من المرح على أحاديثهم، ويقول: الشخص النمام يحسن أساليبه مع الوقت حيث يبدأ الحديث في أمور تافهة، ثم يبدأ الحديث في أمور مهمة، ليجذب الناس إلى أحاديثه، فيخوض في سيرة الشخص الخاصة وعلاقاته الأسرية وكفاءته العلمية والعملية،ويحذر د. السمالوطي المجتمعات الإسلامية من التهاون مع هذه الأخلاق السيئة التي تؤدي إلى تضييع الوقت، وإثارة الضغائن والفتن، وترويج الشائعات، وإفساد العلاقات بين الناس، وإشاعة عدم الثقة، ويرى أن المرأة النمامة التي تستمتع بالحديث في أمور الآخرين مسؤولية إصلاحها وردها عن هذه العادة الذميمة تقع على عاتق زوجها ومن تتعامل معهم من الناس، فلابد ألاَّ يشجعوها على هذا السلوك الشائن، بل يجب على الزوج أن يظهرَ لها سخطَه منها ورفضه أن تكون زوجته نمامة، هذا ليس فقط حفاظاً على زوجته، لكن أيضاً حتى لا يكتسب أبناؤه هذه الصفة السيئة.
مسؤولية الزوج:
الدكتور عادل مدني – أستاذ ورئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر – يؤكد أن النميمة والغيبة والثرثرة من العادات التي تتوارث من الآباء والأمهات باعتبارها من الأمور السلوكية التي يحاكي فيها الأولاد آباءهم وأمهاتهم، ويقول: هذه العادات توجد بنسب أعلى لدى النساء، لأن المرأة بطبيعتها حساسة مرهفة الشعور وعاطفية أكثر من الرجل، وسريعة الانفعال إلى درجة البوح بأسرار حياتها في لحظة ضيق، إلى من تحتك بهم، والنساء عامة لديهن وقت فراغ وقدرة على إجراء محادثات تمتد لساعات، ومما يساعد المرأة على ذلك أنها بطبيعتها تهتم بالتفاصيل، وتستمتع بمعرفة أبسط وأتفه المعلومات عن قصص وحكايات الناس حتى إن كانت لا تعرفهم.(/4)
ويضيف: لكن ينبغي أن نعرف أن النميمة والثرثرة عادة سلوكية غير مرتبطة بجنس معين، ولكن ترتبط بالفراغ الذهني والنفسي، فلا يجب أن يترك الإنسان نفسه نهباً للفراغ.
على الرغم من أن الرجل يفترض فيه أن يكون عملياً وإيجابياً ويستفيد جيداً من وقته، إلا أن كمَّاً من الرجال يتسمون بالثرثرة والنميمة التي تدل على الحقد والبغضاء لرجال آخرين.
النميمة مشكلة خطيرة، وعيب كبير في شخصية الإنسان، تجعله أجوف فارغ المحتوى، لا يجد ما يشغله، فيحاول صنع هالة حول نفسه، وفي الوقت نفسه يتلصص على الآخرين ويتصيد هفواتهم ومشكلاتهم للتقليل منهم، أما عن الزوجة التي تدمن النميمة والثرثرة فينصح د. عادل مدني زوجها بمواجهة هذه العادة والعمل جاهداً لمساعدتها على التخلص منها، ويقول: بدلاً من أن تكلف الزوجة النمَّامة زوجها الكثير من الفواتير الملتهبة خلافاً للمشكلات التي تحدث بينهما، يجب على الزوج احتواؤها وشغل وقت فراغها وإشعارها باهتمامه، فكل الثرثرة وراءها البحث عن الاهتمام واجتذاب عطف الناس، فلو أشعر الزوج زوجته بأنها ليست شخصية نكرة، بل إنها مهمة في حياته لأشبع فراغها وشغل يومها، وكفت عن هذه العادة السيئة.
غياب الوازع الديني:(/5)
الدكتورة سعاد صالح - أستاذة الفقه - ترى: أن الفراغ هو السبب الأول في هذه الظاهرة لدى النساء، ثم إن انعدام الوازع الديني لديهن جعل النميمة والثرثرة ليست بالخلق البغيض في نظر بعضهن وتقول "الغيبة أن يذكر المرء أخاه بما يكره سواءٌ كان في دينه أم بدنه أم دنياه، وهذا بالطبع سلوك غير مقبول في الإسلام، لقول الله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].
وترى د. سعاد صالح أن المرأة غير العاملة هي غالباً ما تكون الثرثارة ومكالماتها الهاتفية طويلة، وذلك لأنه يصبح عندها مسؤوليات قد تفوق الرجل، لأنها تتحمل مثله تماماً عبء العمل وتتحمل أعباء منزلية وأسرية أكبر؛ فازدواجية عمل المرأة داخل البيت وخارجه استنفذت لديها جزءًا كبيراً من وقتها وطاقتها.(/6)
والمسلم إذا كان مطالباً بحماية نفسه من رذيلة النميمة، فهو مطالب أيضاً بمحاربتها وبتضييق الخناق على النمَّامِين وذلك بعدم تصديق النمام، فهو فاسق كما حكم الله عليه، حتى لو كان كلامه صادقاً، فإن إرادة الإفساد والسوء سلبت عن الكلام صفة المدح والقبول قال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات:6] وتصديق الشخص النمام يعتبر تشجيعاً له على الثرثرة، والمشجع له شريك في الذنب، وتصديقه يفصح عن الرضا عن عمله، وهذا الرضا يظهر دخيلة النفس من حبها للشر والفتنة، كما يحب النمام تماماً، وشبيه الشيء منجذب إليه، ولولا أنه يعلم هذا المعنى فيه ما سعى إليه بالنميمة، والمؤمن الكامل يجب أن يتبرأ من هذا العبث.(/7)
العنوان: النظام الاجتماعي الإسلامي ودوره في التنمية
رقم المقالة: 2043
صاحب المقالة: د. محسن عبدالحميد
-----------------------------------------
النظام الاجتماعي الإسلامي ودوره في التنمية
من المسلمات المعروفة في علم الاجتماع الإنساني أن المجتمع البشري لا بد أن يستند في تنظيمه وتسييره على نظرية حضارية، أو قاعدة حضارية مستخلصة من تاريخ الأمة وتطورها، نابعة من حاجاتها، متفقة مع أعرافها وخصائصها، مستفيدة من تجارب الإنسانية كلها، كي توحد بين أبنائها، وتدفعهم إلى التفاهم المشترك والتعاون في بناء الحياة والعمران.
ولم يكن الإسلام بدعًا عندما فرض أن يقوم مجتمعه على أساس المذهبية الإسلامية في الوجود، أو القاعدة الإيمانية المتمثلة بعقيدة التوحيد التي تجمع بين المسلمين جميعًا دون الالتفات إلى العوارض البشرية والبيئية المتنوعة، ويتفرع من ذلك أن المجتمع الإسلامي لا بد أن تحكمه شريعة الإسلام التي توجه المجتمع نحو الوحدة العقيدية والاجتماعية، وترسم له الخصائص الأخلاقية التي تحافظ على المجتمع الإنساني من أن يتحوَّل إلى مجتمع التمزق والصراع، والإلحاد والإباحية، أو ينتهي به التطور غير الموجه إلى مجتمع الغاب، الذي يفقد فيه الإنسان الأمن والحفاظ على حقوقه، وسمات آدميته المكرمة عند الله تعالى.
وفي سبيل بناء المجتمع القوي الموحد، دعا الإسلام إلى تحقيق العدالة المطلقة، بوجوهها كلها، مهما كلف الأمر في ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[1]، وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[2]، وقال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[3].(/1)
وفرض الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر للمحافظة على توازن المجتمع، وإبعاده عن الانحراف والسقوط، قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}[4].
واعتنى أعظم العناية بتقوية الأسرة، وشرع لها نظامًا دقيقًا يبين فيه حقوق وواجبات أفرادها، وتنظيم معاملات النفقة، والزواج، والميراث، وتربية الأولاد فيها، وبذر بذور المحبة والإيثار والرحمة بينهم، لأن في تقوية الأسرة وضبط سلوك أطرافها تقوية للمجتمع وضبطًا لحركته، ونشرًا للقيم الإنسانية والاجتماعية الرفيعة بين أبنائه، حتى يبتعد عن الفوضى والتصادم، والتحلل الخُلُقي.
إن الدراسة الواعية للنظام الاجتماعي الإسلامي تجعلنا أمام حقيقة ساطعة وهي: أن المجتمع الإسلامي ليس مجتمعًا مغلقًا؛ بل هو مجتمع مفتوح، لا يقيم الإسلام فيه العلاقات الاجتماعية العامة على أساس التعصُّب العنصري، أو الطائفي أو الديني المغلق، وينطلق المجتمع الإسلامي في ذلك من أن الناس كلهم عيال الله، وأنهم سواء أمام الله، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، وأن المسلمين وغيرهم متساوون في حقوقهم وواجباتهم أمام الشريعة الإسلامية، وأن الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة}[5]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[6]، وقال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}[7] .(/2)
وبناءً على ذلك فإنَّ الإسلام يدعو إلى تكافؤ الفرص للجميع، ولا يعيق أي إنسان في مجتمعه من أن يقوم باستعمال طاقاته، وتوجيه قابلياته، ووضعها في خدمة مجتمعه؛ لأنه يدعو إلى العمل الصالح في ذاته، والعمل الصالح هذا يتولَّد من تفجير الطاقات الإنسانية، ولن تكون لهذه الميزة قيمة في الإنسان إذا لم تعط الفرصة الكاملة المتساوية للجميع؛ كي يتنافسوا تنافسًا شريفًا، وفي ذلك يقول تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ}[8]، ويقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}[9].
ومن المعلوم أن الإسلام لا يجعل هذا التنافس أو السعي قاصرًا على المسلمين؛ وإنما يدعو الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمعه، مسلمين وغير مسلمين، إلى الاشتراك في التنمية الاجتماعية، وبناء الحضارة الإنسانية، طالما أن الخليفة هو الإنسان، وليس للمسلم فحسب، قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}[10] .
قال الإمام الرازي: "أي جعلنا لكم فيها مكانًا وقرارًا، ومكناكم فيها، وأقدرناكم على التصرف فيها، وجعلنا لكم معايش"[11].
وعلى ذلك فالخطاب موجه لبني الإنسان جميعًا، حيث إنهم مكنوا جميعًا دون تفريق، والحقائق التاريخية شاهدة على أن سمات المجتمع الإسلامي عبر التاريخ كانت سمات إنسانية، فلو راجعنا التاريخ الحضاري لأمتنا لوجدنا أن العناصر الإسلامية وغير الإسلامية اشتركت في عملية البناء الاجتماعي، وكانت الفرص متكافئة أمامها جميعًا لإثبات وجودها وإظهار مهاراتها في مجالات الحياة كلها.
يقول آدم متز: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكان قدمهم راسخًا في الصناعات التي تدر أرباحًا وافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا، وأصحاب ضياع وأطباء.(/3)
إن أهل الذمة نظموا أنفسهم بحيث كان معظم الصيارفة والجهابذة في بلاد الشام يهودًا، على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى"[12].
وهنالك قضية اجتماعية مهمة لا بد أن نبحثها في هذا المجال، ونبين موقف الإسلام منها ألا وهي قضية المرأة ودورها في التنمية الاجتماعية؛ لأن هذا الدور ثابت وواقعي باعتبار أن المرأة تمثل نصف المجتمع، ومن المؤسف أن أقول هنا: إن الحقائق الإسلامية حول المرأة قد تعرضت إلى تفسيرات خاطئة، وتشويهات مقصودة من حيث إن كثيرًا من الناس يحكمون على هذه القضية من خلال التيار القديم الفاسد الجاهل المريض، الذي يعود إلى عصور من الضعف الإيماني، والتأخر الحضاري، والتفكير العامي الوليد من العادات القبيلية، والتقاليد الاجتماعية الناتجة من تطور أعمى غير موجه.
لقد وضع الإسلام أساسًا متينًا لتكوين الأسرة القوية، وشرع لها الضمانات التي تؤدي إلى إنجاح عملية الزواج والإنجاب والتربية، حتى تكون الأسرة قادرة على مواجهة عملية التنمية والتغيير.
إن الإسلام وضع مقدمات سليمة للزواج، وعد رضا الطرفين أساسًا لإبرامه، وفرض التساهل في المهور وأمور الزواج المادية، وحدد الحقوق والواجبات الزوجية، ووضع قانونًا أخلاقيًّا سليمًا؛ لكي يكون أساس للتعامل الأسري؛ حتى لا تنهار الأسرة فيؤثر انهيارها في نمو المجتمع وانحرافه، وعدَّ الطلاق أكره الحلال إلى الله، ووضع دون إيقاعه عقبات شتى، والنصوص الواردة، في الكتاب والسنة، عن تعدد الزوجات توحي بأن الإسلام لا يعده قاعدة عامة، بل رخصة لا تستعمل إلا للضرورات، والقاعدة الشرعية أن الضرورات تقدر بقدرها.(/4)
ومن أهم المبادئ التي جاء بها الإسلام رفعًا لشأن المرأة اعترافه بإنسانيتها واستقلال شخصيتها، وعدها أهلاً للتدين والعبادة، وإقرار حق المبايعة لها كالرجل، ودعوتها إلى المشاركة في النشاط الاجتماعي، وقد سمح لها بالأعمال التي تتفق مع طبيعتها، وشرع لها نصيبها في الميراث، وأشركها في إدارة شؤون الأسرة وتربية الأولاد، وأوجب معاملتها بالمعروف واحترام آدميتها؛ كما أنه ساوى بينها وبين الرجال في الولاية على المال والعقود، وأقر لها شخصيتها القضائية المستقلة[13].
وإذا كان وضع المرأة اليوم في كثير من جوانب حياتها المتخلفة البلاد الإسلامية يعيق عملية التقدم والتنمية، فإن ذلك ناتج عن أن الحياة الاجتماعية الإسلامية مشت في خط معاكس في كثير من جوانبه لمبادئ الإسلام وأحكامه وتشريعاته، وأن العادات القديمة والتقاليد الاجتماعية الفاسدة هي التي تتحكم في علاقات الناس العامة والخاصة، وإن دراسة سريعة لوضع المرأة في العصور الإسلامية الزاهرة لدليل واضح على ما نقول.
---
[1] النساء: 134.
[2] النساء: 58.
[3] المائدة: 8.
[4] آل عمران: 104.
[5] النساء: 1.
[6] الحجرات: 13.
[7] البقرة: 256.
[8] المطففين: 26.
[9] النجم:39.
[10] الأعراف: 10.
[11] "التفسير الكبير" 14/ 28.
[12] "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" 1/ 86.
[13] راجع "حقوق المرأة في الإسلام" للسيد محمد رشيد رضا، و"حقوق المرأة في الإسلام" للدكتور علي عبدالواحد وافي، و"المرأة بين الفقه والقانون" للدكتور مصطفى السباعي، و"الإسلام والمرأة المعاصرة" للأستاذ البهي الخولي(/5)
العنوان: النظام النحوي ولغة الإبداع
رقم المقالة: 1903
صاحب المقالة: د. أحمد كشك
-----------------------------------------
النّظامُ النَّحْوِيّ ولغة الإبداع أو النحو والشعر
إذا كان النحوُ - كما أُحِسُّهُ - مَرْكَبًا صعبًا عَسِيرَ المنال سطحًا وعمقًا فإن الشعر أيضا:
.... صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ
إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لا يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ
في طريق هذينِ المَرْكَبَيْنِ أُفْصِحُ عن مَكْنُونِ نفسي بهذا الخيط الاحتماليِّ العابرِ، الذي يضع نقاطًا أريد إبرازها في سبيل حُبِّ اللغة والشِّعر والنحو.
وفي البادرة الأولى أسأل: هل نحن بحاجة إلى تقنينٍ للعاميَّة أوِ الفُصحى؟ لمن وَلاَءُ الدرس؟
وهنا يدور السؤال مرة أخرى: لماذا يُقَنِّنُ المجتمَعُ لعامِّيَّتِهِ؟ أهي نافرة في لسان ناطقيها وأهليها، أو أنها جر قدرة طبيعية فِطْرِيَّة؟
وهنا أقول: العامِّيَّة لا تَنْفِرُ ولا تَفِرُّ ولا تغرب – في حدود بيئتها – لأن مستخدمها يَهْمِسُ بها، يضحك، يبكي، يأكل ويشرب ويسامر، تدخل معه طعامَهُ، في إدامِهِ، يُسِرُّ بها معه تحت دفء الدِّثار والغطاء، أي: إنها في مجال المستور المحدود.
فَهَلْ مِن المُمْكِن عَمَلِيًّا أن يطلب مجتمَعُها أَمْرَ ناموسها، وناموسها يتغير ليلَ نهار؟
هل هناك من خوف عليها؟
لا مطلب لاستمرارها، ولا مطلب لوجودها في حُسبانِي بِاعتبارها دليلاً بارزًا ناهضًا لعطاء شامل لحضارة أُمَّة.
التوجّه إذًا إلى الفصحى:
التي ثَبَتَ وادي النحو فيها، وثَبَتَ القالب، فالذي قال في العصر الجاهلي:
وَأُحِبُّهَا وَتُحِبُّنِي وَيُحِبُّ نَاقَتَهَا بَعِيرِي
هل يدرك وَقْتَها أنه يصوغ هيكلاً لإهابٍ يجري معنا اليومَ وبعدَ اليوم حيث نقول مثل ما قال:
وأضربها وتضربني
وأكلمها وتكلمني
وأخاصمها وتخاصمني
وأغازلها وتغازلني(/1)
إلى ما شاء الكلام، ما دام الإهاب ثابتًا، يُعرَف فيه موقعُ الرأس منَ القَدَم، والأصابعِ من الكفِّ، والكفِّ من الذِّراع.
إن النظام بثابِتِهِ ومتغَيِّرِهِ جارٍ وراء اللغة، فهو الصوت وهو الصدى.
هذا النظامُ المرتَكِزُ على لُغَةٍ ثَرَّةِ التعبيرِ نريد أن نؤكد عَلاقَتَهُ بمنطِقَةِ الإبداع الأولى لدى العرب وهي الشِّعر؛ مع التسليم بتَلازُم اللغة مع القرآن والحديث الشريف، فالحِوار مع القرآن يُدرِك مريدوه أنه حوارٌ ضارب في اللسان والفؤاد والدنيا والآخرة والثواب والعقاب.
نحن نريد بيان العلاقة الحميمة بين صانع النظام النحويِّ، ولغة الشِّعر وبخاصَّة أن هناك اتهامًا للنحو بإفساد منطقة الإبداع.
في البدء اتَّجَهَ النحاةُ صَوْبَ لغة الشِّعر؛ ولعل علاقة الطرف الآخر بالنحو لم تكُ في البداية علاقة وِفاق.
ولقد بدا في المحيط السياقيِّ الثقافيِّ بعضُ سخرية من النّظامِ النَّحْوِيِّ والنحاة؛ يقول شاعر:
تَرْنُو بِطَرْفٍ فَاتِرٍ فَاتِنٍ أَضْعَفُ مِنْ حُجَّةِ نَحْوِيِّ
ويقولُ أعرابِيّ لأبِي زيْد ظنه يسأل سؤالاً في النحو:
لَسْتُ لِلنَّحْوِ جِئْتُكُمْ لا وَلا فِيهِ أَرْغَبُ
أَنَا مَا لِي وَلامْرِئٍ أَبَدَ الدَّهْرِ يُضْرَبُ
خَلِّ زَيْدًا لِشَأْنِهِ حَيْثُ مَا شَاءَ يَذْهَبُ
وَاسْتَمِعْ قَوْلَ عَاشِقٍ قَدْ شَجَاهُ التَّطَرُّبُ
ولم تَفُت السخرية لُغويًّا هو عيسى بنُ عمر واصفًا خلاف النحاة:
إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى أَلِفٍ وَوَاوٍ وَيَاءٍ هَاجَ بَيْنَهُمُ جِدَالُ
فكلُّ مَن ضاق إبداعًا وَجَّهَ ضِيقَهُ صَوْبَ النحو حتى المُحدثينَ الذين يقول أحدهم:
أَقَاسَ النُّحَاةُ حُدُودَ الزَّمَا نِ وَمَرْمَى خَيَالِي وَعَقْلِيَّتِي
لَقَدْ حَدَّدُوهَا لأَفْكَارِهِمْ فَضَاقَتْ وَزَمَّتْ عَلَى فِكْرَتِي
فَقُلْتُمْ يَقُولُ الْكِسَائِيْ فَقُلْتُ وَجُبْرَانُ قَالَ عَلَى صِحَّةِ(/2)
في البدء كان الصِّدام، كانت المنافرة حين بدأ النحو يَتَحَسَّسُ بعضَ خيوطٍ من نظام كان الصدام بينه وبين الشعراء قائمًا، نلمح ذلك في ثورة عَمَّارٍ الكلبيِّ وبِشْرِ بن أبي خازم.
ونقف وَقْفَةً عند نَحْوِيٍّ في بدء النظام قيل عنه بأنَّه أوَّل من بَعَجَ النحو ومدَّ القياس؛ أي: إنه في المرحلة الهائِمَة التي كانت تبحث للنحو عن طريق، في مُقابل شاعرٍ كبيرٍ هو الفَرَزْدَقُ الذي كان نموذجًا لكبرياء الشاعر، وكبرياء لغة الشعر.
يَقُولُ الفرزدق بعد تتبُّعٍ طويلٍ منِ ابْنِ أبي إسحاق:
وعَضُّ زمانٍ يَابْنَ مَرْوانَ لَمْ يَدَعْ منَ المالِ إلاَّ مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ
يقول له عبدالله بنُ أبي إسحاق: "علامَ رفعتَ كلمة "مُجَلَّف"؟"
فيرد الفَرَزْدَقُ: على ما يَسُوؤُك ويَنُوؤُك، علينا أن نقول وعليكم أن تَتَأَوَّلُوا.
والعبارة المركزية هي تلك اللغة الآمِرة: علينا أن نقول وعليكم أن تَتَأَوَّلُوا.
فعلينا أن نقول تُساوِي: نحن الصوت، وعليكم أن تتأولوا تساوي: وأنتمُ الصَّدَى.
إننا أمام رجلينِ: نَحْوِيٍّ يصنع بعض خيوطٍ مُبْهَمة خائف على ضياعها، وشاعرٍ يرى أنَّ شِعرَهُ فوق النظام اللُّغوِيِّ، قبله، يصنع ما يريد، كما سُئل فقال: فعلتُ ذلك لِيَشْقَى به النَّحْوِيُّون.
وكما رام خَطْوَهُ فيما بعدُ مَنْ قال معبِّرًا عن حركة إبداعه المثيرة:
أنَامُ مِلْءَ جُفُونِي عَنْ شَوَارِدِهَا وَيَسْهَرُ الْقَوْمُ جَرَّاهَا وَيخْتَصِمُ
فلِمَنْ كان الانتصار؟ من الواضح أنه صار للمبدِع الذي أضحت كلمته أمرًا لِنَهْجِ نَحْوِيٍّ؛ ومن هنا تم التأويل؛ لإحداث المصالحة بين النحو والشِّعر.
المصالحة بين النص والقاعدة:
يبدو أنه حين استقرَّ أمر النظام، وأصبح واضحَ الملامح محدَّدَ الأركان -: بدت نَظَرِيَّتُهُ غيرَ مرتعِشَة ولا هيَّابَة من لغة الشِّعر، فقد صالحها وجرى لها؛ أي: جرى معها.(/3)
هكذا نجد التأويل في أبرز مظاهره سبيلاً لإحداث الموائمة بين سُلوك الشاعر ونظام النحو، فالزَّجَّاجِي بعيدًا عن زمان عبدالله بن أبي إسحاق في حواره عن جواز الابتداء بالنكرة دون مُسَوِّغ، أجاز في قول الفَرَزْدَقِ؛ أن تُعْرَبَ "مُجَلَّف": مبتدأً لخَبَر محذوفٍ، والتقدير: أو مُجَلَّفٌ كذلك، ("الجُمَل" ص 204).
واسْتَحْسن ابن عُصفور أن يكون: "مُجَلَّفُ" فاعلاً لفعل محذوف، والتقدير: أو بقي مُجَلَّفُ.
وفي واقع الأمر أنَّ الفَرَزْدَقَ خَطَّ الطريق الذي انصاع فيه النحاة لأمر الشعر؛ فقد أَوَّلُوا واختلفوا في إعراب مُجَلَّف على هذه الرواية (أي التي نصبت مُسْحَتًا) على ستة أقوال؛ حيث قالوا إنها:
1 – مبتدأ خَبَره محذوف: مجلف كذلك، من هؤلاء (الفَرَّاءُ / الزَّجَّاجِيُّ / ابن خَرُوف).
2 – فاعل لفعل محذوف: أو بقى مجلف، (ابن جِنِّي "الخصائص" 1 / 99).
3 – خبر لمبتدأ محذوف: الباقي مجلف/ هو مجلف، (ثَعْلَب).
4 – معطوف على الضمير في مُسْحَتًا: الكِسَائِيُّ، حكاه هشام عن معاوية، ("إصلاح الخلل" ص 262).
5 – مجلف مصدر ميمي على وزن مُفَعَّل عطف على المصدر: "عَضُّ": أي: وَعَضّ أو تجليف، وإليه ذهب الفارسي "خِزانه الأدب" 5/174.
6 – معطوف على مُسْحَت حَمْلاً على المعنَى، لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف؛ الفَارِقِيّ في شرح أبيات مشكلة الإعراب ص 295.
هكذا ضاعتْ مجابَهةُ عبدالله بن أبي إسحاق في ظِلِّ سَطْوَةِ الفَرَزْدَقِ، الذي أمر فاستجاب له النُّحَاةُ حُبًّا في لغة الشِّعر؛ فقول الشاعر هو الصواب، وعلى النظام أن يرعى ذلك مستخدِمًا أهمَّ آلاته في المصالحة والاتِّساق وهي التأويل.
حين استقر النظام - تُرِكَ للغة الشعر أن تَمْرَحَ وتُبْدِعَ وتتألق معتمِدَةً على فَرْضِيَّاتِهِ وأُسُسِهِ.(/4)
وماذا بعد التأويل الذي أحدث المُصالحة بين القاعدة والشِّعر؟ كيف كان خط النحو لحركة الشعر؟ أنا أظن أن منطقة الجواز في النحو من هَمِّهَا تَرْك السبيل حُرًّا للغة الشِّعر.
منطقة الجواز في النحو (بِنْيَةً وتَرْكِيبًا):
لم يَعُدِ النظام النَّحْوِيُّ جَبْرِيًّا؛ ففيه من الأحكام الجائزة ما يفوق حكم الوجوب، ومعنى الجواز أن الشاعر بين أمرين أحدهما يفارق الآخر؛ ومن ثَم يكون مجال الاختيار والانتقاء حَسَبَ السِّياق ورؤية الشاعر هو الأساس.
فالفرع في ثوابت التركيب يتحرك في لُغة الشِّعر أكثرَ من الأصل، والقاعدة تَهِيمُ بالفرع كما هامت بالأصل.
إن من شَرَف العربية الحذفَ حين يكون الأصل الذِّكْرَ، ومن شَرَفها التقديم حين يكون التأخير، وتَتْرُكُ سبيلاً واسعًا للتصرُّف في البِنْيَة من أجل لغة الشِّعر، ورغم أن هامتها وعِشْقها في الإعراب فإنها تتحاور مُجَوِّزَةً الجر والنصب، والرفع والنصب في الموقع النَّصِّيِّ الواحد.
وعلى مَن يريد استنطاق إبداع النحو وكونه نظامًا يتألق بلغة الشِّعر، أن يقرأ ما يَجري لدى ابن جِنِّي فيما كتبه تحت عنوان باب في شجاعة العربية "الخصائص" ج3/360.
حيث يقول:
اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف والزيادة، والتقديم والتأخير، والحمل على المعنى والتحريف.
ففي حديث نَحْوِيٍّ له عن الحذف يقول جـ 3/ 367:
فأما قوله:
مَا لَكَ عِنْدِي غَيْرُ سَهْمٍ وَحَجَرْ
وَغَيْرُ كَبْدَاءَ شَدِيدَةِ الْوَتَرْ
جَادَتْ بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرْمَى الْبَشَرْ
أي بكفي رجل أو إنسان كان مِن أرْمَى البشر، فقد رُوِيَ غير هذه الرواية "بكفي كان مَن أرْمَى البشر" بفتح ميم مَن؛ أي بكفي من هو أرمى البشر، وكان على هذا زائدة.(/5)
النص باقٍ كما هو على حاله لا مساس به، والحوار في حُبِّه نَحْوِيّ، فالحرية الممنوحة لحركة الشعر في النحو كبيرة، حذفٌ يُقابله ذِكْرٌ، تقديم يَرُومُهُ تأخير، بِنية يتصرف في رِكابها الشاعر فيجعل الأَرَانب أرانِي، والثعالب ثعالِي، والصيارف الصياريف، وابن سالم ابن سلام، وعَزَةُ تصبح عَزُّ، وحارث يُضحِي حارِ؛ حتى الإعراب مِلاك النحو يجري التأويل فيه؛ إرضاء للشاعر مع المُحَافظة عليه.
إن القانون النَّحْوِيَّ يَروم الاتساع، ولديه قدرة على الاستمرار؛ ففي جواز الابتداء بالنكرة يربط أمره بالإفادة وهي مطلب اللغة، واتساع أمر الصَّوْغِ قياسًا وارتباطًا بهذه الفائدة لا حدَّ له؛ فابن مالك وهو يتحدث بشأن هذا الجواز، يُصْدِرُ هذا القانون النَّحْوِيَّ الدَّلاليَّ السِّيَاقِيَّ والقياسيَّ قائلاً:
وَلا يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ مَا لَمْ تُفِدْ كَعِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ
ثُمّ يَخْتِم بعد التمثيل ببعض النماذج قائلاً:
وَلْيُقَسْ مَا لَمْ يُقَلْ
وفي مفهوم الصيرورة تنطلق المفردات في إطار النسخ مع كل دالٍّ يَحْوي معنى الصيرورة، وُجِدَ أم يُنتَظَر وجوده؛ فمناط النظام الفائدةُ والقياس.
التأويل.. ومنطقة الجواز مِنَّة منَ النُّحاة للمُصالحة مع لغة الشِّعر، والنفاذ إليها.(/6)
والدارس العربي يعلم أنَّ النُّحاة همُ الذين أصدروا وحافظوا على خصوصية الإبداع حين نصُّوا على ثُنائِيَّة لغة الاختيار ولغة الاضطرار، فالضرورة الشعرية تُدْرَسُ في نطاق النظام النَّحْوِيِّ، ومع ما في كلمة الضرورة من دَلالة تَنُوءُ عن قصد النحاة؛ لأنَّهم حين تحدثوا عن لغة الاضطرار كانوا يقصِدون لغة الشعر بمَذاقها وحركتها، ومجازها، فابن عُصفور يقول: "والشعر كله ضرورة"، فلا يَظنَّنَّ ظانٌّ دَلالة العيب في الكلمة؛ فالمقصود أن لغة الشعر حركة متوفِّزَة، متحركة، تهدأ وتثور، تُرَتِّب وتَكْسِرُ الترتيب، تُظْهِرُ وتُخْفِي، يتحول فيها الواقع إلى مجاز، والمجاز إلى واقع.
أنا أَظُنّ أنَّ أوَّل مَنْ تَكَلَّم في لغة الشِّعر، وأَفْصَحَ عَنْهَا هُمُ النُّحاة؛ لا النُّقَّاد، وكتب الضَّرَائِرِ نَحْوِيَّة قبل أن تكون نَقْدِيَّةً أَدَبِيَّة.
وتَرِدُ أمامي ملاحظةٌ مؤداها أنه مع عدم إهمال لغة النثر، التي وردت في مؤلفات النحويين نادرًا، فإنَّ النّحاة رَأَوْا أنَّ ما في لغة الشِّعر يغطي مراد النَّثْر ويَزيد، ففي الشِّعر مَوْرِدٌ اللَّهَجَات، يتَّضِح هذا المورد من خلال لُغَة مَن يُلْزِم المثنى الأَلِفَ قائلاً:
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا
ومن خلال لغة "أَكَلُونِي البَرَاغِيثُ" التي ورد مُرادها واضحًا في لغة الشِّعر، حيث نجد:
رَأَيْنَ الْغَوَانِي الشَّيْبَ لاحَ بِعَارِضِي فَأَعْرَضْنَ عَنِّي بِالْخُدُودِ النَّوَاضِرِ
و:
نَصَرُوكَ قَوْمِي فَاعْتَزَزْتَ بِنَصْرِهِمْ وَلَوَ انَّهُمْ خَذَلُوكَ كُنْتَ ذَلِيلاَ
ومن خلال كَسْر حرف المُضَارَعَةِ؛ كما في حركة الشاعر اللغوية التي جاءت في قوله:
لَوْ قُلْتَ مَا فِي قَوْمِهَا لَمْ تِيثَمِ يَفْضُلُهَا فِي حَسَبٍ وَمِيسَمِ
ومن خلال مَوْرد النون في موقع العَيْن، كما يقول المَعَرِّيُّ:(/7)
لِمَنْ جِيرَةٌ سِيمُوا النَّوَالَ فَلَمْ يُنْطُوا
الشعر يحوي في إهابه النثر، وهذا واضح من عفوية القول بالشعر:
فقد كادت منظومة الشِّعر في سهولتها تُواكِب حق النثر حين الخطاب؛ فالعربي الذي هجر زوجه؛ لأنها لم تَلِد له الغلام، وجدَها تُرقِّص ابنتها في الخِباء قائلة:
مَا لأَبِي حَمْزَةَ لا يَأْتِينَا يَظَلُّ فِي الْبَيْتِ الَّذِي يَلِينَا
غَضْبَانَ أَلاَّ نَلِدَ الْبَنِينَا تَاللَّهِ مَا ذَلِكَ فِي أَيْدِينَا
وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَا أُعْطِينَا وَنَحْنُ كَالزَّرْعِ لِزَارِعِينَا
نُنْبِتُ مَا قَدْ زَرَعُوهُ فِينَا
يسمع هذه الأبياتِ العاديَّةَ في ألفاظها ومعانيها، فيقبل على زوجه وابنته قائلاً:
ظَلَمْتُكُمَا وَرَبِّ الكَعْبَة
فلننْظُرْ إلى جُملة النثر التي لم تبتعد عن قول الشِّعر: ظَلَمْتُكما / ورب الكعْ / بتى / مفاعلتن. فبَيْنَ الشِّعر وإيقاع اللُّغة مقاربةٌ وتَلاقٍ، فالذي يحتضن الشِّعر يحتضن معه كل شيء.
النحاة والإيقاع
لم تقف مَلَكة النَّحْوِ عند نَسْج رؤاها من خلال جُمْلة الشعر، ولم تقف عند وَصْف لغة الشعر والتأويل لِصِحَّة هذه اللغة، فقد بان أن الدَّرْس الإيقاعيَّ وهو من خصوص لغة الشعر، قام بأمره اللغويون النُّحاة من مثل:
الخليل / الأَخْفَش / الجَوْهَرِيّ / ابن جِنِّي / الزَّمَخْشَرِيّ / التَّبْرِيزِيّ / الدَّمَامِينِيّ...
فالشِّعر بكل أركانه: الوزن، واللفظ، والمعنى، والقافية، يعيش في حِمى منظومة النحو، وأنا لم أستغربْ إطلاقًا تمسُّك الدرس النَّحْوِيِّ بقضية الإيقاع، وجعلها من مَلَكَتِهِ وزنًا وقافية.
العلاقة بين النحو والإبداع
هُناك عَلاقة تآزُر بين الصواب والجمال، وقد يكون النظام النَّحْوِيُّ باحثًا في أمره الظاهر عن الصواب، وإن كان الخَفِيُّ هو الصوابَ المسلِّمَ إلى إبهارٍ وجمال.(/8)
وفي ظِلِّ هذه العلاقة بين النحو والإبداع، على المبدِع أن يَستَقِرَّ على ما استقر عليه النحو منَ الثابت فيه، وأن يصنع في المُتغير وهو كثير ما يحلو له ويريد.
إنَّ أوضحَ أدوات الشاعر مع أمر الإيقاع أمر المجاز، وليس المجاز أمرًا متفَلِّتًا بعيدًا عن حقِّ الصواب؛ فالصواب اللُّغَوِيُّ الذي يعرض جملة: "أنا مسافر إلى المنيا" بإمكان الشاعر أن يقول فيه: المنيا مسافِرَة إليَّ، حيث الفارقُ بين الحقيقة والمجاز هنا لم يُحْدِث مُفارَقَة مع الصَّواب؛ ومِن هنا فإن الَّذِي يريد أن يُحدِث المجاز في أمر جملة حقيقية مثل:
"ضَرب محمَّدٌ عليًّا"
ليس بإمكانه أن يستبدل بالفعل ضرب حرف الجر (في) قائلاً: "في محمَّد عليًّا"، لأن الأفعال في قِسْمَةِ اللغة شيءٌ، والحروف شيءٌ آخَرُ، فالمَقُولُ هنا ساقط نحويًّا وإبداعيًّا.
وليس بإمكانه أن يَسْتَبْدِلَ بالفعل ضرب الفعلَ جَلَسَ قائلاً: جَلَسَ محمَّدٌ عليًّا؛ لأنَّ مَنْطِقَ الصواب يقول: إن الفعل اللازم لا يوضع في خانة المُتعدِّي؛ ومن ثَمَّ يكون المعروض ساقطًا نحويًّا وإبداعيًّا.
لكن بإمكانه أن يستبدل بالفعل "ضَرَبَ" الفعل "أَكَلَ" قائلاً: أَكَلَ محمَّد عليًّا، فتصبح هذه الجملة التي استخدمت حقَّ المجاز جملةً شِعْرِيَّةً إبدَاعِيَّةً، لأنَّه لو سأل سائلٌ قائلاً: كيف يأكل محمَّد عليًّا، يكون الجواب وقتها: ألم تسمع قول المولى - عز وجل -: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12]، فالمبدِع عليه أن يجري مع النحو في ثوابته فإذا ما حقَّقَها بانت له نقطة فضاء يفعل فيها ما يشاء.
حركة النحو حركة للإبداع(/9)
نحن نريد أن يكون النحو جزءًا من إبداع، أن نُرَسِّخَ مَلَكَتَهُ من خلال لُغة الإبداع، فيتحقق للمتعلم هذا الثراء المُرَكَّبُ الجامع بين الصواب والجمال، فالصواب أمره نَفْعِيٌّ، والجمال أمره إمْتَاعِيّ، ولن تتألق عربيتُنا إلا بجماع الأمرين معًا.
ولنلْحَظ بعض تعانُق بين النحو والإبداع:
1 – إِنَّنا حينَ نَقْرَأُ بَيْتَ الْفَرَزْدَق:
وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكًا أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ
حيث يقول عنه أبو على الفارِسِيُّ: تقديرُهُ: "وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه"؛ ففَصَلَ بين المبتدأ والخبر اللَّذَيْنِ هما: "أبو أُمِّهِ أَبُوهُ" بكلمة (حَيّ)، وهو أجنبي منهما، وفصل بين الصفة والموصوف اللَّذَيْنِ هما: "حي يقاربه" بقوله: "أبوه"، وهو أجنبيٌّ منهما من خلال حركة عَبَثِيَّة تابعها النحو؛ لكن العَبَث النَّحْوِيَّ في النهاية قد أسلم إلى حِسٍّ شِعْرِيٍّ فَنِّيٍّ أراد به الفَرَزْدَقُ أن يُثبت غموض علاقات القرابة واختلاطها؛ فأنا بهذا البيت لا أُدْرِكُ الأبَ من الأخ، ولا الأخَ من الأم، وهو ما رامه الفَرَزْدَقُ الذي حرَّك جُملته لغايته، وفي عقله مَقُولَة: "علينا أن نقول وعليكم أن تَتَأَوَّلُوا".
2 – إنني حين أقرأ للأَحْوَص:
سَلاَمُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلاَمُ
فَإِنْ يَكُنِ الزَّوَاجُ أَحَلَّ أَمْرًا فَإِنَّ زَوَاجَهَا مَطَرًا حَرَامُ
فَطَلِّقْهَا فَلَسْتَ لَهَا بِكُفْءٍ وَإِلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحُسَامُ(/10)
يعجِبُنِي هذا السلوكُ الاختياريُّ الذي نَوَّنَ مَطَرًا في الشطر الأول؛ والتنوين تَنْكِيرٌ، والشطر الأول يبدو السلام فيه مُوَجَّهًا إلى الحبيبة؛ ومن ثَمَّ فَمَطَرٌ في مَنْطِقَةِ التَّجْهِيلِ والتنكير؛ لكنه حين تَوَجَّهَ إليه بِعَدَمِ السلام في الشطر الثاني كان البناء على الضمِّ؛ لأن التوجُّهَ هنا إلى معروف مقصود؛ فالنحو هنا يتحرك لصالح مراد لغة الشِّعر.
3 – إن شاعرًا معاصرًا يقول في ذكرى وفاة زوجه:
يَا لَيْلَةً شَبَّتِ الذِّكْرَى بِعَوْدَتِهَا فِي دَوْرَةِ الْعَامِ مَاذَا هِجْتِ لِيَ الآنَا
يتحدث عن ليلة يعرفها؛ لأنَّ فيها ذكرى وفاة زوجه، يخاطبها بالتنكير قائلاً:
(يا ليلةً) بمراد النَّكِرَة غيرِ المقصودة مع أنَّه يعلمها ويعيش هَمَّها أيامَهُ وليالِيَهُ، لقد أتاح له النحو أن يُنَكِّرَ؛ لأن الليلة في مَرَامِ الشاعر أن تكون في طَيِّ النِّسيان حتى يزول عنه الهمُّ والأحزان.
4 – إنني حين أَستخْلِص قانون الحذف من لغة الإبداع، في قول الشاعر وهو المُرَقّشُ:
وَرُبَّ أَسِيلَةِ الْخَدَّيْنِ بِكْرٍ مُهَفْهَفَةٍ لَهَا فَرْعٌ وَجِيدُ
أجد أن مَنْطِقَ النحو في حَذْف الصفة هنا إبداعي، فالوصف بمطلق الجِيدِ لا معنى له؛ لأن كل نساء الدنيا لهن جِيد، فليكن بمذاق الشعر الجِيدَ الطويل، والوصف بمطلق الفرع؛ أي: الشَّعْر لا معنى له؛ لأن كل نساء الدنيا لهن شَعْر؛ لكن النحو يستأنس بظل الجمال في بيئته ليقول: إن المراد بالفرع كما تحب العرب الشَّعْر الفاحمَ الأسودَ، وإذا كان المُتَيَّمُ أَنْدَلُسِيًّا لكان المراد بالشَّعر الشَّعر الأصفر.
هكذا أُحِبُّ أن يكون النحوُ جزءًا من إبداع.
في الختام أنا أحدس من خلال أفكاري المُتناثرة بأشياء:
1 – بأن النظرية النحوية إبداعية.
2 – أن ما هوجمت به كان من أجل لغة الشِّعر؛ لغةِ الجمال.(/11)
3 – يبدو أنَّ التعبير عن العربية بأنها لغةٌ موسيقية مَرَدُّهُ أن الشِّعر هو الأصل والأساس.
4 – في ربط النظام النَّحْويِّ بالشِّعر إظهار للحق البَيْنِيِّ في الدرس اللُّغَوِيِّ؛ حيث يتعانق النحو مع الصَّرْفِ مع الدَّلالة مع الإيقاع.
5 – التصوُّر الحضاري للغة: لا يتم إلا من خلال رؤيتها في حركة الإبداع.
6 – المرجو أن يُثْرِيَ التعليمُ بالنصِّ المبدِعَ إذا أردنا أن نَمْلِكَ أمر النظام النَّحْوِيِّ ونستمتِعَ به.
فلْنَتْرُكِ اللُّغَةَ النفعِيَّة التي تُغْنِي عنها لغة الإشارات، باحِثِينَ عنِ النحو في ظل الإبداع، فأنا أرى العلاقة بين النظام النَّحْوِيِّ ولغة الشِّعر واردةً في قول العاشقِ عُرْوَةَ بنِ أُذَيْنَةَ:
إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّهَا خُلِقَتْ هَوَاكَ كَمَا خُلِقْتَ هَوىً لَها
فقد صِيغَ النحو للشِّعر، وجرى الشِّعر وتألَّقَ في دائرة النحو، فهواهما مَزْجٌ من العطاء فريد.(/12)
العنوان: النفحات الإلهية في العشر الأواخر
رقم المقالة: 1197
صاحب المقالة: محمد بن موسى الشريف
-----------------------------------------
نحن في شهر كثيرٌ خيره، عظيم بره، جزيلة بركته، تعددت مدائحه في كتاب الله تعالى، وفي أحاديث رسوله الكريم -عليه أفضل الصلوات والتسليم-، والشهر شهر القرآن والخير، وشهر عودة الناس إلى ربهم في مظهر إيماني فريد، لا نظير له ولا مثيل.
وقد خُصَّ هذا الشهر العظيم بميزة ليست لغيره من الشهور، وهي أيام عشرة مباركة هن العشر الأواخر، التي يمنُّ الله تعالى بها على عباده بالعتق من النار، وها نحن الآن في هذه الأيام المباركات؛ فحق لنا أن نستغلها أحسن استغلال، وهذا عن طريق مايلي:
• الاعتكاف في أحد الحرمين أو في أي مسجد من المساجد، إن لم يتيسر الاعتكاف في الحرمين، فالاعتكاف له أهمية كبرى في انجماع المرء على ربه، والكف عن كثير من المشاغل التي لا تكاد تنتهي، فمتى اعتكف المرء انكفَّ عن كثير من مشاغله، وهذا مشاهد معروف، فإن لم يتيسر للمرء الاعتكاف الكامل، فالمجاورة في أحد الحرمين، أو المكث ساعات طويلة فيهما، أو في أحد المساجد.
• إحياء الليل كله أو أكثره بالصلاة والذكر، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل العشر أيقظ أهله، وأحيا ليله، وشد المئزر، كناية عن عدم قربانه النساء - صلى الله عليه وسلم -، وإحياء الليل فرصة كبيرة لمن كان مشغولاً في شئون حياته - وأكثر الناس كذلك - ولا يتمكن من قيام الليل، ولا يستطيعه، فلا أقل من أن يكثر الناس في العشر الأواخر القيام وإحياء الليل.(/1)
والعجيب أن بعض الصالحين يكون في أحد الحرمين، ثم لا يصلي مع الناس إلا ثماني ركعات، مستندًا على بعض الأدلة، وقد نسي أن الصحابة والسلف صلوا صلاة طويلة كثيرٌ عدد ركعاتها، وهم الصدر الأول الذين عَرَفوا الإسلام، وطبقوا تعاليمه أحسن التطبيق؛ فما كان ليخفى عليهم حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تأويل أحاديثه الشريفة، وحملها على أقرب المحامل وأحسن التأويلات.
• الإكثار من قراءة القرآن وتدبره وتفهُّمه، والإكثار من ذكر الله تبارك وتعالى؛ فهذه الأيام محل ذلك ولا شك.
• والعجب أنه مع هذا الفضل العظيم والأجر الكريم يعمد الناس إلى قضاء إجازتهم - التي توافق العشر الأواخر - في الخارج؛ فيُحرمون من خير كثير.
وليت شعري ما الذي سيصنعونه في الخارج إلا قضاء الأوقات في التنزه، والترويح في وقت ليس للترويح فيه نصيب، بل هو خالص للعبادة والنسك. فلله كم يفوتهم بسبب سوء تصرفهم، وضعف رأيهم في صنيعهم!! فالعاقل من وجَّه قدراته وأوقاته للاستفادة القصوى من أيام السعد هذه.
• ولا ينبغي أن ننسى في هذه العشر أن لنا إخوانًا في خنادق الجهاد، والعدو قد أحاط بهم وتربص، ونزلت بهم نوازل عظيمة، فينبغي أن لا ننساهم، ولو بدعاء خالص صادر من قلب مقبل على الله تعالى، وصدقة نكون نحن أول مَن يغنم أجرها، ولا ننسى كذلك الفقراء والمساكين، خاصة وأن العيد مقبل عليهم.
أسأل الله تعالى التوفيق في هذه العشر، وحسن استغلال الأوقات، والتجاوز عن السيئات، وإقالة العثرات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلِّ اللهم وسلِّم على سيدنا محمد.(/2)
العنوان: النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير
رقم المقالة: 414
صاحب المقالة: د. عبدالله بن عبدالمحسن الطريقي
-----------------------------------------
الحمدلله الذي بنعمته تتم الطيبات ويحصل بفضله رعاية الحقوق والواجبات والصلاة والسلام على الكريم الجواد هادي الأنام إلى كل خصلة من خصال الفضائل والأعمال. وبعد:
فإن المرء مثل ما له حق على الآخرين فعليه لهم مثله.
وقد بين الإسلام ذلك من خلال ما شرعه من النفقات وغيرها وجعل الإنفاق حقاً للمحتاج من زوج أو قريب أو لِمُلْك.
وبما أن أصل الإنفاق لازم على الرجل تجاه الآخرين ممن يلزمه الإنفاق عليهم – من رجال ونساء وغيرهم إلا أن هذا الأصل لا يكون قاعدة ثابتة فقد تلزم المرأة بالإنفاق على الآخرين لأسباب سنذكرها بين ثنايا هذا البحث – الذي أسميته النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير – وفق ضوابط معينة اقتضتها لوازم الإنفاق ولا يعني ذكري وجوب الإنفاق على الرجل خروجي عن موضوع البحث وإنما ذكرته للتلازم في الإنفاق بين الرجل والمرأة من خلال مشاركتهما فيه أو لبيان أن وجوبها على أحدهما فقط سقوط عن الآخر.
وقد شجعني على الكتابة فيه أنني لم أعلم فيما اطلعت عليه أن أحداً أفرده ببحث مستقل فآثرت جمعه وترتيبه وإبرازه خدمة للعلم وطالبيه.
وهذا البحث يتضمن عرضاً لآراء المذاهب الأربعة وقد أذكر غيرهم وعملت على ترجيح ما ظهر لي ترجيحه وحسبي أنني أقصد الحق وأسعى إليه ومن الله أرجو أن أنال الجزاء وحسن الثواب والحمدلله رب العالمين.
معنى النفقة:
– النفقة لغة تأتي بمعنى راح وبمعنى نقص[1].
– وفي الإصطلاح: كفاية من يمونه خبزاً أو أدماً وكسوة وسكن وتوابعها[2].
أنواع النفقة الواجبة على المرأة لحق لغير:
– النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير تتكون من أربعة موضوعات:
الموضوع الأول: نفقة الأقارب.
الموضوع الثاني: نفقة خادم المرأة.
الموضوع الثالث: نفقة الرقيق.(/1)
الموضوع الرابع: نفقة البهائم والجمادات[3].
الأسباب الموجبة لبعض تلك النفقات
نفقة الأقارب:
سبب وجوب هذه النفقة هي القرابة[4] المحرمة للقطع لأنه إذا حرم قطعها حرم كل سبب مفض إليه، وترك الإنفاق من ذي الرحم المحرم[5] مع قدرته وحاجته تفضي إلى قطع الرحم، فيحرم الترك وإذا حرم الترك وجب الفعل ضرورة[6].
نفقة الرقيق:
سبب وجوب هذه النفقة الملك[7] الموجب للإختصاص بالمملوك إنتفاعاً وتصرفاً ليكون به صلاحه ودوامه ومن ملك منفعة شيء لزمته مؤنته إذ الخراج بالضمان، ولأن الرقيق لا مال له وما في يده لمولاه فلا يجوز للرقيق أن ينفق على نفسه من مال غيره مما يجعل الإنفاق واجباً على سيده[8].
نفقة البهائم والجمادات:
سبب وجوب هذه النفقة هو أن في تركها تجويعاً للحيوان والتجويع تعذيب له وهو محرم لما له من حرمة في نفسه ولعدم جواز الإضرار به[9] ولأن البهائم والجمادات المملوكة مال والمال يلزم استصلاحه واستبقاؤه ومن أراد ضياعه وجب الحجر عليه[10].
وفيما يلي نتحدث عن تلك الموضوعات بشيء من البيان فنقول وبالله التوفيق:
الموضوع الأول: نفقة الأقارب.
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: نفقة الفروع وهم الأولاد.
الفصل الثاني: نفقة الأصول وهم الآباء والأمهات.
الفصل الثالث: نفقة القرابة من غير الأصول والفروع وهم الأخوة والأخوات ومن في حكمهم.
الفصل الأول: نفقة الفروع من الأولاد.
وسبب وجوب هذه النفقة هو الولادة لأن به تثبت الجزئية والبعضية والإنفاق على المحتاج إحياء له ويجب على الإنسان إحياء كله وجزئه.
ولأنها قرابة يحرم قطعها وإذا حرم القطع حرم كل سبب مفضٍ إليه وترك الإنفاق من ذي الرحم المحرم مع قدرته وحاجة المنفق عليه تفضي إلى قطع الرحم فيحرم الترك وإذا حرم الترك وجب الفعل[11] مما يدل على وجوب الإنفاق على الأولاد.
وحال الأولاد تكون على نوعين:
النوع الأول: الأولاد الصغار.
النوع الثاني: الأولاد الكبار.(/2)
ولكل منهم حكمه المستنبط من الأدلة الشرعية كما سيأتي:
النوع الأول: نفقة الأولاد الصغار.
وفيه عدة مباحث:
المبحث الأول: وجوب نفقة الولد الصغير على أبيه.
الأصل في نفقة الطفل[12] الحر الفقير على أبيه[13] للإجماع على ذلك[14] ويؤيده قوله تعالى[15]: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}[16]. وهو أمر للأزواج يقضي بوجوب إعطاء المرأة أجرة الرضاع المستلزمة وجوب المؤنة عموماً من رضاع وغيره[17].
وقوله تعالى[18]: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[19] فلفظ المولود له يعم الوالد وسيد العبد ويبين أن الولد لأبيه لا لأمه والآية توجب رزق الرضيع على أبيه دون غيره[20].
ولما روى أبو هريرة[21] رضي الله عنه[22] (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: عندي دينار؟ فقال: ((أنفقه على نفسك)) قال: عندي آخر؟ فقال: ((أنفقه على ولدك))، قال: عندي آخر؟ قال: ((أنفقه على أهلك)) قال: عندي آخر قال: ((أنفقه على خادمك)) قال: عندي آخر قال: ((أنت أعلم به)) )[23] ففي هذا الحديث أمر صلى الله عليه وسلم بالإنفاق على الولد بما فضل عن كفاية النفس والأمر للوجوب مما يدل على وجوب إنفاق الأب على أولاده.
وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال[24] لهند[25] ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف))[26] وهذا يقتضي لزوم نفقة الولد على أبيه وإلا لما كان لها الأخذ بالمعروف.
ولأن للأب ولاية على ابنه مما يدل على استحقاقه النفقة من أبيه[27] ولأن ولد الإنسان بعضه فكما يجب على الإنسان أن ينفق على نفسه فيجب عليه أن ينفق على ولده[28].
المبحث الثاني: نفقة الأب على ابنه مع اليسار والإعسار.(/3)
أوجب الحنفية إنفاق الأب على ابنه يساراً وإعساراً ويرجع على الأب إذا أيسر[29] وهو قول عند الشافعية[30] خلافاً للمالكية الذين يرون سقوطها مع الإعسار[31] واليسار شرط النفقة عند الشافعية في قولهم الآخر لأنها مواساة فاعتبر يسار المنفق معها[32] وهو شرط عند الحنابلة في وجوب النفقة[33] أما إذا عجز الأب عن الإنفاق فيرى الحنفية في قول لهم أنه يتكفف[34] وينفق على ابنه وفي قول آخر لهم ينفق عليه من بيت المال[35].
وقالوا في قول ثالث إن عجز الأب فالأولى أن لا يتكفف مع وجود قريب ينفق عليهما كالزوجة الموسرة والتي تعد أولى من غيرها بالإنفاق على زوجها وابنه من سائر الأقارب بما فيهم الجد لأب وترجع على الأب إذا أيسر[36].
ويرى الحنابلة أن الأم إذا أنفقت على ابنها، وهو في حضانتها وهي تنوي الرجوع على الأب فلها أن ترجع عليه بالنفقة، وهذا ظاهر مذهب أحمد[37] الذي عليه قدماء أصحابه، فإن من أصلهما إنْ أدى عن غيره واجباً رجع عليه، وإن فعله بغير إذنه مثل أن يقضي دينه، أو ينفق على عبده، وقد قال الله تعالى[38]: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ولم يشترط عقداً ولا إذناً من الأب بذلك.
أما إذا تبرعت الأم بالنفقة بدون نية الرجوع فليس لها أن ترجع على الأب بالنفقة[39].
وفي قول آخر أن الأب إذا أعسر بالنفقة وجبت على الأم دون أن ترجع بها عليه إن أيسر لأن من وجب عليه الإنفاق بالقرابة لم يرجع على أحد[40].(/4)
والقول في الرجوع بالنفقة على الأب إذا أيسر عند الحنفية باعتبار أن النفقة الواجبة على الأب وحده في ظاهر الرواية عندهم وأنه لا يشاركه أحد في النفقة على الطفل لا أمه ولا غيرها لقوله تعالى[41]: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فهذه الآية صريحة في إيجاب نفقة النساء لأجل الأولاد، مما يدل على أن نفقة الأولاد واجبة على الأب من باب أولى حيث النسب له[42].
وفي رواية لأبي حنيفة[43] أن النفقة على الأب والأم أثلاثاً بحسب ميراثهما من الولد[44] والحنابلة في قولهم بالرجوع على الأب باعتبار المذهب عندهم أن النفقة على الأب وحده[45] لقوله تعالى[46]: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فهذه الآية أوجبت نفقة الولد حملاً ورضيعاً بواسطة الإنفاق على الحامل والمرضع فإنه لا يمكن رزقه بدون رزق حامله ومرضعته. أما نفقة الولد على أبيه بعد فطامه فقد دل عليه النص تنبيهاً فإنه إذا كانت النفقة واجبة على الأب – حال اختفاء الطفل أثناء الحمل – بالإنفاق على أمه فالإنفاق عليه بعد فصاله مباشرة من باب أولى.
وقد تضمن الخطاب بأن الحكم المسكوت أولى منه في المنطوق مما يدل على وجوب النفقة على الأب دون الأم وأنها ترجع عليه بالنفقة[47].
المبحث الثالث: إرضاع الأم لولدها.
يرى الحنفية: أن القاضي لا يحق له إجبار أم الطفل على إرضاعه حكماً. لأنها غير ملزمة إلا بتسليم نفسها لزوجها لغرض الإستمتاع فقط[48] غير أنها تؤمر بذلك ديانة، لأنه من باب الإستخدام ككنس البيت والطبخ وغسل الثياب والخبز ونحو ذلك، مما يجب عليها ديانة[49].(/5)
والمشهور عند المالكية: أنه يجب على الأم أن ترضع ولدها إلا أن يكون مثلها لا يرضع لسقم وقلة لبن، أو لكون مثلها لا يرضع باعتبار العرف والعادة، فعلى الزوج أن يستأجر له من يرضعه[50] وفي قول آخر لهم: لا يلزمها إرضاعه وهو من فقراء المسلمين[51] لأنها ليست عصبة لولدها[52].
وعند الشافعية: لا يلزم الأم التبرع بإرضاع ولدها[53] غير أنه يجب عليها إرضاعه اللبن[54] لأن الولد لا يعيش بدونه غالباً وغيرها لا يغني عنها فيه. خاصة وأن اللبن يشد بنيته ويقوي جسمه وتسقيه حتى يروى منه[55].
ويرى الحنابلة: أن رضاع الولد على الأب وحده، وليس له إجبار أمه على رضاعه سواء أكانت ممن يرضع عادة أم ليس ممن يرضع عادة وسواء أكانت في حبال الزوج أم مطلقة لقوله تعالى[56]: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} وإذا اختلفا فقد تعاسرا، والرضاع ليس من حق الزوج، لأنه لا يملك إجبار زوجته لإرضاع ولده من غيرها ولا من حق الولد لأنه لو كان من حقه للزمها بعد الفرقة، فصار الإرضاع مما يلزم الأب خاصة[57].
والفقهاء في إزاء عدم إجبار الأم على إرضاع ولدها لم يتركوا الطفل دون رعاية وحفظ فجعلوا رعايته على أبيه ولم يجردوا أمه من مسؤوليتها إذا تعين عليها الأمر وأصبح الإرضاع عليها لازماً.
فيرى الحنفية إجبار الأم على إرضاع ولدها إذا تعين عليها الإرضاع بأن لا يجد الأب من يرضعه، أو كان الإبن لا يأخذ ثدي غيرها، أو لم يكن له مال والأب معسر فحينئذ تجبر الأم على إرضاعه صيانة له عن الضياع. وهذا عليه المذهب عندهم وبه تكون الفتوى[58].
وهو مذهب المالكية[59] والشافعية الذين جعلوا لها إزاء ذلك أخذ الأجرة من ماله أو ممن تلزمه نفقته[60] والقول بالإجبار إذا تعين على الأم هو المذهب عند الحنابلة[61].(/6)
وذلك لقوله تعالى[62]: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} والإمتناع عن إرضاعه وهو لا يجد غيرها مضارة له، وهو لا يجوز مما يدل على وجوب إرضاعها له إذا تعين عليها.
ولأنه إذا وجبت على الأب نفقته وولادته له من جهة الظاهر فوجوب نفقته على الأم إذا تعين عليها أولى. لأن ولادتها له من جهة القطع[63] وهذا هو الأوْلى خلافاً لظاهر رواية الحنفية أن الأم لا تجبر على إرضاعه لإمكانية تغذيته بغير لبنها والقول بالوجوب هو الراجح عندهم[64].
وقالوا: إذا لم يكن للأب ولا للولد مال فتجبر الأم على إرضاعه عند الكل. وقيل: تجعل الأجرة ديناً على الأب[65] وقال بهذا المالكية[66].
وذهب الحنفية أنه إذا لم يكن للولد أب أو جد فتجبر الأم بالإتفاق على الإنفاق على ولدها دون أن ترجع بالنفقة على أحد[67].
وإلى هذا ذهب الحنابلة، لأنها أحد الوالدين فأشبهت الأب ولأن بينهما قرابة توجب رد الشهادة ووجوب العتق فأشبهت الأب[68] وإيجاب الإرضاع على المرأة إنما هو باعتبار أن المرأة الموسرة تجبر على ما يجبر عليه الرجل من نفقة الأقارب، لأن هذا الإستحقاق إنما يكتسب بطريق الصلة فيستوي فيه الرجال والنساء كالعتق عند الدخول في الملك[69].
والمالكية لا يجب عندهم على الأم نفقة لولدها – في غير الرضاع مع وجود الأب ولا مع عدمه فقيرة كانت أم غنية[70] وشذ عنهم ابن المواز[71] فأوجب النفقة على الأم في الرضاع وغيره[72].
أما في الرضاع فقالوا: إن لم يكن لها لبن فإنها تستأجر من يرضعه. وكذا لو كان لها ولا يكفي الطفل، أو مرضت وانقطع لبنها أو حملت لأنه لما كان عليها الإرضاع مجاناً فعليها خلفه فإن لم يكن لها مال في تلك الحالة فمن مال الأب فإن لم يكن له مال فمن مال الإبن[73].
كما تلزم الأم النفقة عند الحنفية إذا كان معها غير وارث للولد كالجد لأم مثلاً فتلزمها النفقة وحدها لترجحها بالأرث ولقربها[74].
المبحث الرابع: بذل الأجرة للمرضع ولدها بعصمة زوجها.(/7)
الرضاع حق على الزوج وهو من مسؤولياته تجاه طفله إذا تخلت المرأة التي يلزمه الإنفاق عليها عن إرضاعه وسبق أن تقرر أن الزوج لا يحق له إجبار زوجته على إرضاع طفله وأنها غير ملزمة برضاعه إلا إذا تعين عليها.
فهل إذا تعين عليها وهي بعصمة زوجها لها أن تأخذ الأجرة؟ وهل لها أن تأخذها ولو لم يتعين عليها؟ للجواب على هذا أقول: للعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن المرأة التي بعصمة زوجها ولم تكن معتدة بطلاق بائن لا يجوز للزوج استئجارها لترضع ولدها، ولو استأجرها فلا تستحق لذلك أجرة. لأن الإرضاع مستحق عليها ديانة لقوله تعالى[75]: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وهو أمر بصيغة الخبر وهو آكد، واستئجار الشخص لأمر مستحق عليه لا يجوز، ولهذا لا يجوز أن تأخذ الأجرة على خدمة البيت من الكنس وغيره وإنما لا تجبر على الرضاعة لاحتمال عجزها فعذرت فإذا أقدمت عليه ظهر قدرتها فلا تعذر[76].
وبهذا قال المالكية[77] لأن عرف المسلمين على توالي الأعصار في سائر الأمصار جارٍ على أن الأمهات يرضعن أولادهن من غير طلب أجرة على ذلك[78] وهذا القول قال به الشافعية لاستحقاق الزوج الإستمتاع بها ولا يجوز أن يعقد عليها عقداً آخر يمنعه استيفاء حقه[79].
وإلى هذا القول ذهب بعض الحنابلة لاستحقاق الزوج منافعها للخدمة[80] فلا يجوز أن يستأجر منها ما هو أو بعضه حق له[81].
والقول الثاني: أن الأم إذا طلبت إرضاعه بأجر مثلها فهي أحق به سواء أكانت في حبال الزوجية أو بعدها وسواء وجد الأب مرضعة متبرعة أم لم يجد، لأن الإرضاع عقد إجارة فكما يجوز من غير الزوج إذا أذن فيه فيجوز معه كإجارة نفسها للخياطة أو الخدمة وهذا هو ما عليه المذهب عند الحنابلة وعليه جماهيرهم[82].(/8)
واختار هذا القول الحنفية في رواية لهم[83] وهو قول عند المالكية إن كان مثلها لا يرضع[84] وقول عند الشافعية لقوله تعالى[85]: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} والأم أحق بالرضاعة من غيرها مما يدل على أن استئجار الزوج لها جائز[86] إذ أن الرضاعة لو كانت متحتمة على الأم لم يكن على الأب أجرة ولهذا قال الله تعالى[87]: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[88] ومن المعروف بذل الأجرة للأم إذا رغبت في إرضاعه بأجر ولو كانت في عصمة الزوج.
وأجاب أصحاب هذا القول عن استدلال أصحاب القول الأول بأن عقد الرضاعة يمنع الزوج من استيفاء حقه من الإستمتاع: بأن الإستئجار رضى بترك حقه في الإستمتاع خاصة إذا كان الرضاع لا يمنعه من الإستمتاع ولا ينقصه حقه[89] ثم إنه إذا استأجرها فقد أذن لها في إجارة نفسها فصح كما يصح من الأجنبي[90].
وأجابوا عن استدلال أصحاب القول الأول بكون المنافع مملوكة للزوج غير صحيح لأن الزوج لو ملك منفعة الحضانة لملك إجبارها عليها، ولم تجز إجارة نفسها لغيره بإذنه ولكانت الأجرة له[91].
قلت وهذا يختلف عن الإرضاع إذ أنه يتعين على المرأة في بعض الحالات كما سبق[92] بخلاف تأجير نفسها للغير فلا يتعين عليها البتة لانشغالها بخدمة زوجها والرضاع جزء من هذه الخدمة.
والزوج كيف له أن يؤجرها لإرضاع ولدها في الوقت الذي يقوم بالإنفاق عليها وقوله تعالى[93]: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فهذه الآية خاصة بالمطلقات إذ أن الزوج لا ينفق عليها مما يوجب لها الأجرة أثناء الرضاع أما الزوجات اللاتي بعصمة الزوج فأوجب القرآن لهن الرزق والكسوة بالمعروف ولا زيادة على ذلك وتدخل نفقة الطفل ضمن نفقة أمه لكونه يتغذى بغذائها سواء كانت حاملاً أم مرضعاً[94] وهذا يؤكد أن المرأة بعصمة زوجها لا تستحق أجرة لرضاع ولدها وأن القول الأول أرجح.(/9)
المبحث الخامس: بذل الأجرة للمطلقة البائن.
بذل الأجرة للمطلقة البائن لا يخلو إما أن يكون البذل لها في العدة أو بعدها ففي جواز استئجار المعتدة البائن لإرضاع طفلها روايتان عند الحنفية.
فظاهر الرواية أنه يجوز لأن النكاح قد زال فهي كالأجنبية[95] وقد حكى ابن تيمية[96] إتفاق العلماء على استحقاق المعتدة البائن أجر الرضاع كما قال تعالى[97]: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}[98].
غير أن هذا الإتفاق ينظر فيه بما صحح في الجوهرة وفي رواية الحسن أنه لا يجوز عند الحنفية استئجار المرأة المعتدة من طلاق بائن لإرضاع طفلها لأن حكم النكاح باق في حق بعض الأحكام[99].
أما بعد العدة فيجوز استئجارها بالإتفاق لزوال النكاح بالكلية[100] لإجماع العلماء الذي دل عليه قوله تعالى[101]: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}[102].
المبحث السادس: نفقة المرأة الأمة على أولادها.
المرأة إذا كانت أمة مكاتبة ولها أولاد دخلوا معها الكتابة فيرى الحنفية أن نفقتهم واجبة عليها لتبعيتهم لها في الكتابة[103] ولأن كسبه وإرش الجناية عليه وإرثه لها[104] وإلى هذا ذهب المالكية[105] والحنابلة[106].
مسألة:
يرى الحنفية إجبار المرأة الحرة إذا كانت موسرة بالإنفاق على أولادها إذا كان أبوهم عبداً[107].
المبحث السابع: مشاركة الأب والأم أو غيرهما في نفقة الطفل.
الطفل كائن حي اعتني فيه وروعيت حاجاته ومتطلباته من خلال الإلزام بنفقته سواء على أسرته أو بيت مال المسلمين.(/10)
والأسرة قد تكون أماً أو أباً وقد يكون غيرهما، لذا نرى الحنفية يقررون وجوب نفقة الطفل على أصوله الوارثين له كالأم والجد لأب أو الأم والعم أو الأم والأخ فعلى ظاهر الرواية عندهم تلزمهما النفقة على قدر ميراثهما أثلاثاً[108] لقوله تعالى[109]: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فقد اعتبر صفة الوراثة في حق غير الأب فدل على أن النفقة تجب على الورثة حسب الميراث.
ولقد لاحظ الفقهاء منهم حالة اليسر والعسر فبعضهم لم يوجب على العم مع الأم نفقة أثناء فترة الرضاع باعتبار أن الأم موسرة باللبن والعم معسر به في هذه الفترة لكن ظاهر الرواية أن قدرة العم على تحصيل اللبن بما له يجعله موسراً به ولهذا كان عليهما أثلاثاً.
أما إذا كان العم فقيراً والأم غنية فالرضاع والنفقة على الأم لأن النفقة مستحقة على العم في ماله لا في كسبه والمعسر ليس له مال فلا يلزمه شيء من النفقة وتكون بهذا لازمة على الأم[110].
وحيث ما قالوا بالوجوب قالوا يرجعا على الأب إذا أيسر[111].
وقال في البحر إن الوجوب على الأب المعسر إنما هو إذا أنفقت الأم الموسرة وإلا فالأب كالميت والوجوب على غيره لو كان ميتاً ولا رجوع عليه في الصحيح[112] والجد لأب لا يطالب عند الحنفية بالنفقة مع وجود الأب إلا إذا كانت الأم معسرة. كما تلزم الجد النفقة إذا مات والد الطفل أو كان والده زمناً[113] فهنا تلزم الجد النفقة بالإتفاق لأن نفقة الأب واجبة على الجد بالإتفاق فكذا نفقة صغاره[114]. والأم لا تشارك الجد النفقة لو كان معها أخ عاصب أو ابن أخ أو عم لأن الجد يحجب هؤلاء عن الإرث لتنزيله معهم منزلة الأب حيث لا يرثون بوجوده فكذا الجد هنا تلزمه النفقة وحده دون مشاركة الأم له.
أما إذا لم يكن معها أحد من هؤلاء بل صار للولد الفقير أم وجد لأب فقط فإن الجد لم ينزل منزلة الأب. لذا تجب النفقة عليهما أثلاثاً في ظاهر الرواية[115] كما سبق آنفاً.(/11)
وهم يقولون بسقوط النفقة عن المحجوب عن الميراث فإن كان للطفل أم وأخ لأب عم وهم أغنياء فالرضاع على الأم والأخ لأب أثلاثاً بحسب الميراث ولا شيء من ذلك على العم لأنه ليس بوارث مع الأخ، والغرم مقابل الغنم والنفقة تجب على من يكون الغنم له إذا مات الولد.
وهم يوجبون النفقة بعد الأب على ذي الرحم المحرم الغني حسب الميراث وتسقط عن الفقير فإن كانت الأم فقيرة وللولد عمة وخالة غنيتان فالنفقة عليهما أثلاثاً على العمة الثلثان وعلى الخالة الثلث لأن الأم الفقيرة كالمعدومة والميراث بين العمة والخالة أثلاثاً فكذا النفقة عليهما أثلاثاً ولا تلزم النفقة الوارث من غير ذي الرحم المحرم فلو كان للطفل ابن عم يرثه فإنه ليس بذي رحم فلا شيء عليه من النفقة ويلزم بها العمة والخالة أثلاثاً وإن كان الميراث لابن العم[116]. ولو كان مع الأم وارث من الحواشي كأخ عاصب أو ابن أخ أو عم فعلى الأم ثلث النفقة وعلى العصبة الثلثان[117].
والمالكية لا يوجبون النفقة على جد ولا على جدة من قبل الأب أو الأم ولا على أحد من الأخوة وسائر ذوي المحارم[118] وذلك باعتبار أن الجد ليس بأب حقيقي[119] وغيره لا يقوم مقامه في وجوب النفقة.
أما الشافعية:
فيرون أن الطفل إذا كان له أم وجد لأب موسران فالنفقة على الجد لأن له ولادة وتعصيباً فقدم على الأم كالأب[120].
ولأن الأحفاد ملحقون بالأولاد لقوله تعالى[121]: {يَابَنِي آدَمَ} فولد الولد يقع عليه مسمى ابن مما يدل على وجوب النفقة على الأجداد[122] لهذا نرى الشافعية يجعلون الجد لأب مع الأم كالأب في وجوب النفقة على الأصح عندهم[123].
والأجداد والجدات إن أولى بعضهم ببعض فالأقرب منهم فالأقرب تلزمه النفقة لكون القرب أدلى بالاعتبار.
وإن لم يدل بعضهم ببعض فبالقرب يعتبر لزوم النفقة.
وقيل يعتبر بالإرث. وقيل بولاية المال لأنها تشعر بتفويض التربية إليه باعتبار أنها الجهة التي لها حق الولاية[124].(/12)
وهم يرون أن النفقة لا تجب على من عدا المولودين فلا تلزم النفقة الأخوة ولا الأعمام ولا غيرهم[125].
والحنابلة: يوجبون النفقة على الأجداد والجدات وإن علوا لقوله تعالى[126]: {وَعَلَى الْوَارِثِ} ولأن الطفل يدخل في مطلق اسم الولد في قوله تعالى[127]: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ}.
ولأن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأشبه الولد والوالد القريبين[128]. والحنابلة يشترطون في المنفق أن يكون وارثاً لأن بين المتوارثين صلة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم، فإن لم يكن وارثاً لعدم القرابة لم تجب عليه النفقة لذلك[129].
ويرى الحنابلة سقوط النفقة عن المحجوب عن الميراث إلا إذا كان الحاجب له معسراً فقيل تجب عليه النفقة لعسر حاجبه ففي أب معسر وجد موسر النفقة على الجد وفي أم معسرة وجدة موسرة النفقة على الجدة وهذا بشرط أن يكون المحجوب من عمودي النسب أما إذا كان من غير عمودي النسب فلا تجب النفقة عليه[130] والرواية الثانية سقوط النفقة عن المحجوب ولو كان من عمودي النسب وهي المذهب عندهم[131].
أما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فلا نفقة عليهم إن كانوا من غير عمودي النسب فالخالة والعمة لا نفقة عليهما رواية واحدة وهي المذهب وذلك لأن قرابتهما ضعيفة حيث يأخذون المال عند عدم الوارث فهم كسائر المسلمين. وقيل تلزمهم النفقة عند عدم العصبات وذوي الفروض لأنهم وارثون في تلك الحال.
أما عمودا النسب فذكر القاضي[132] ما يدل على أنه يجب الإنفاق عليهم سواء أكانوا من ذوي الأرحام كابن البنت أو كانوا محجوبين أو وارثين وذلك لأن قرابتهم قرابة جزئية وبعضية تقتضي رد الشهادة وتمنع جريان القصاص على الوالد بقتل الولد وإن سفل فأوجبت النفقة على كل حال كقرابة الأب الأدنى[133].(/13)
وحاصله أن الصبي الفقير في ظاهر المذهب إن لم يكن له أب أجبر وارثه الموسر على نفقته على قدر ميراثه منه.
فإذا كان للولد أم وجد فعلى الأم ثلث النفقة وعلى الجد ثلثاها وحكي عن أحمد في الصبي المرضع لا أب له ولا جد نفقته وأجرة رضاعه على الرجال دون النساء وقيل إن النفقة على العصبات[134].
النوع الثاني: نفقة الأولاد الكبار.
يرى الحنفية أن نفقة البنت البالغة التي لم تتزوج وليس لها مال والابن البالغ الزمن الفقير على الأب خاصة في ظاهر الرواية وعليه الفتوى[135]. وهو مذهب المالكية في البنت البالغة والابن البالغ المجنون أو العاجز لمرض ونحوه على المشهور عندهم[136].
وهو قول للشافعية استصحاباً لوجوبها عليه في الصغر[137].
وهو قول عند الحنابلة وعليه المذهب سواء كان الولد زمناً أو صحيحاً مكلفاً وهو لا حرفة له فنفقته واجبة لعجزه عن الكسب[138].
وقال بعض الحنفية[139] على الأب ثلثاها وعلى الأم الثلث باعتبار الإرث ولأنه ليس للأب ولاية على الكبير فتشاركه الأم في النفقة[140].
وهم يرون أن من تجب عليه نفقة الكبار وأعسر في نفقتهم ولزمت غيره وأنفق فلا يرجع على من كانت النفقة واجبة عليه، لأنها لا تجب مع الإعسار[141] وبهذا الرأي قال المالكية[142].
ويرى الشافعية في قول لهم أن نفقة الكبار على الأب والأم لاستوائهما في القرب ولأن ولاية الأب قد زالت بكبر الولد[143] وهل يسوى بين الأب والأم في وجوبها؟ أم يجعل بينهما أثلاثاً بحسب الإرث؟ وجهان أرجحهما الثاني[144].
والولد الكبير البالغ لا تجب نفقته على أحد إذا كان غنياً مكتسباً صحيح الجسم[145] سوى من لا يستأجره الناس لمنزلته الرفيعه بينهم أو لكونه لا يحسن العمل.
ومن يشتغل في طلب العلم ويمنعه عن الكسب فيعد في حكم العاجز ويجبر من تلزمه نفقته بالإنفاق عليه كأبيه[146].
ويرى المالكية في قول لهم أن نفقة الصغير تنتهي ببلوغه كالصحيح[147].
الفصل الثاني: نفقة الأصول.(/14)
وفيه عدة مباحث:
المبحث الأول: في وجوب نفقة الآباء والأمهات.
نفقة الآباء والأمهات واجبة على أولادهم من الذكور والإناث[148] لقوله تعالى[149]: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وليس من المعروف أن يعيش الولد في نعم الله ويتركهما يموتان جوعاً ومن المعروف القيام بكفايتهما عند حاجتهما[150].
ولقوله تعالى[151]: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ومن الإحسان أن ينفق عليهما عند حاجتهما للإنفاق[152].
وقوله تعالى[153]: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ففي هذه الآية نهي عن التأفيف لمعنى الأذى ومنع النفقة عند حاجتهما يكون به معنى الأذى وأكثر ولهذا يلزمه نفقتهما وإن كانا قادرين على الكسب لأن معنى الأذى في الكد والتعب أكثر منه في التأفيف[154]. ولما روي عن عائشة[155] رضي الله عنها[156] قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا مما كسب أولادكم))[157].
ففي هذا الحديث بيان وأمر بالأكل من مال الولد مما يدل على أن نفقة الآباء واجبة في مال الولد.
وعن عائشة رضي الله عنها[158] قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إن أولادكم هبة لكم يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور وأموالهم لكم إذا احتجتم إليهم))[159].
ففي هذا الحديث جعل الرسول صلى الله عليه وسلم مال الولد هبة للوالد إذا احتاج إليه مما يدل على وجوب نفقة الوالد على ولده.
وقال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد[160].
المبحث الثاني: في وجوب نفقة الأجداد والجدات.
نفقة الأجداد والجدات وإن علوا واجبة على أبنائهم عند جمهور العلماء[161] خلافاً للمالكية الذين لا يرون وجوب نفقة الجد على ابن الابن[162] لوجوب نفقته على ابنه فلا تنتقل إلى بنيه[163].(/15)
واستدل الجمهور بقوله تعالى[164]: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}[165] وولد الولد يرث الجد جملة فوجبت عليه نفقته.
ولأن الجد يدخل في مطلق اسم الوالد في قوله تعالى[166]: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} وفي قوله تعالى[167]: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[168] ولأن الأجداد والجدات من الآباء والأمهات[169] وملحقون بهم وإن لم يدخلوا في عموم ذلك كما ألحقوا بهم في العتق والملك وعدم القود ورد الشهادة وغير ذلك فأشبهوا الوالد القريب[170] ثم إنهم قد تسببوا في إحيائه فاستوجبوا عليه الإحياء كالأبوين[171] مما يوجب نفقتهم على أولادهم وإن نزلوا.
ووجوب نفقة الأجداد والجدات على أولادهم وإن نزلوا هو الأولى لتأكد عجزهم في الغالب عن العمل لكبر سنهم ولاحتمال عجز أبنائهم لكبر أو عدم مقدرة على الكسب ولأن الإسلام يحث على التكافل بين المسلمين عموماً والأجداد أولى بذلك.
المبحث الثالث: شرط وجوب نفقة الأصول.
والنفقة الواجبة هذه إنما تكون بالشروط التالية:
(1) يسار المنفق يساراً يحرم الصدقة عليه عند الحنفية[172] واكتفى الشافعية بيسار المنفق[173] لأنها مواساة فاعتبر فيها اليسار[174].
والمالكية جعلوا اليسار بما زاد عن حاجة النفس ولا يلزم المنفق الكسب لأجل الإنفاق على أصوله[175].
والحنابلة جعلوا يسار المنفق بما زاد عن حاجة نفسه[176].
ويرى الخصاف[177] من الحنفية عدم اليسار في نفقة الأصول بل يكفي القدرة على الكسب والمعتمد عندهم خلافه[178].(/16)
(2) أن يكون المُنْفَق عليه فقيراً سواء كان قادراً على الكسب أم غير قادر عليه في ظاهر الرواية عند الحنفية[179] ويرى المالكية أن النفقة هذه تكون للفقير[180] ولا يشترط عجزه عن الكسب[181] وبذلك قال الشافعية[182] لأنه يقبح على الإنسان أن يكلف قريبه الكسب مع اتساع ماله[183]. ولتأكيد حرمة الأصل[184]. ولأن الفرع مأمور بمعاشرة أصله بالمعروف وليس منها تكليفه الكسب مع كبر سنه[185].
وأوجب الحنابلة النفقة على فقير لا مال له ولا كسب يستغني به عن إنفاق غيره عليه[186].
ويرى الحلواني[187] من الحنفية أن الابن الكاسب لا يجبر على نفقة الأب الكاسب لأنه كان غنياً باعتبار الكسب فلا ضرورة من إيجاب النفقة على الفقير[188] واشترط اللخمي[189] من المالكية عجز الوالدين عن الكسب في وجوبها على الولد[190].
(3) أن لا يكون المُنْفَق عليه مرتداً أو حربياً[191] إذ لا حرمة لهما لأنه مأمور بقتلهما[192] ولأن النفقة تستحق بالصلة وقد انقطعت معهما[193].
وزاد الحنابلة على ذلك بعدم وجوب النفقة مع اختلاف الدين[194] وبه قال المالكية في قول لهم[195].
المبحث الرابع: كيفية وجوب نفقة الأصول بين الأولاد.
ذهب الحنابلة إلى أن النفقة تجب حسب الميراث فلو اجتمع ابن وبنت فالنفقة بينهما أثلاثاً كالميراث[196] وإن كانت بنت وابن ابن فالنفقة بينهما نصفين وإن كانت له بنت وابن بنت فالنفقة على البنت باعتبار الإرث لقوله تعالى[197]: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ولأن إيجابها على ابن البنت خلاف النص لكونه ليس بوارث ولا عاصب فلا معنى لإيجابها عليه دون البنت الوارثة[198] غير أنهم يرون أن نفقة الجد تجب مع الحجب إن كان الحاجب معسراً[199] وهو الصحيح من المذهب[200].
وهذا القول في وجوب النفقة حسب الميراث قول عند الحنفية عند تساويهما في اليسار[201] والشافعية إذا تساويا في القرب[202] وعند المالكية إذا تساويا في اليسار في نفقة الأب والأم[203].(/17)
وذهب الحنفية على ظاهر الرواية والصحيح عندهم إلى أن النفقة تجب بين البنت والابن بالسوية ولو أحدهما فائق في اليسار لتعلق الوجوب بالولادة وهو يشملهما بالسوية بخلاف غير الولادة فإن الوجوب منه علق بالإرث حيث المعتبر في نفقة الأصول القرب والجزئية لا الإرث فلو كان له بنت وابن ابن فالنفقة كلها على البنت لأنها أقرب مع أن إرثه لهما نصفان، ولو كان له بنت بنت وأخ فنفقته كلها على بنت البنت لأنها جزء جزئه مع استوائهما في القرب مع أن كل إرثه للأخ لأنها محجوبة حجب حرمان عن الإرث بالأخ[204] وهو قول المالكية إذا كان الأولاد موسرين[205].
وهذا القول هو الصحيح عند الشافعية لأن القرب أولى بالاعتبار[206] وذهب المالكية[207] في الراجح من أقوالهم[208] والحنفية في قول لهم[209] إلى أن النفقة تجب على الموسرين على قدر يسارهم.
وللمالكية قول آخر بوجوب النفقة على الموسر من الأولاد دون غيرهم[210].
مع ملاحظة أنهم لا يوجبون نفقة المرأة على أحد سوى أبويها الفقراء[211].
الفصل الثالث: نفقة القرابة من غير الفروع والأصول.
نفقة القرابة من غير الفروع والأصول اختلف العلماء في وجوبها على قولين:
القول الأول:
وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم[212] صغيراً كان، أو أنثى ولو كانت بالغة صحيحة، أو كان الذكر بالغاً مع عجزه عن الكسب بنحو زمانه أو مرض[213] أو لأي سبب مشروع يمنعه عن الكسب[214] وإلى هذا ذهب الحنفية والحنابلة. غير أن الحنابلة جعلوا النفقة على الأقارب غير عمودي النسب حسب الإرث لا الرحم[215] وألزموا بالنفقة من يرث بالفرض أو التعصيب سواء ورثة الآخر أولاً كعمته وعتيقه[216] وهذا هو المذهب[217].
وهل يشترط عند الحنابلة الإرث بالحال قيل يشترط وهو الصحيح فلا نفقة على بعيد موسر ((يحجبه)) قريب معسر[218].(/18)
وقيل يشترط ذلك جملة لكن إن كان يرثه بالحال ألزم بها مع اليسار دون الأبعد[219] وإن كان فقيراً جعل كالمعدوم ولزمت الأبعد الموسر[220].
والحنفية يرون أن الوارث المعسر لا يحجب غيره عن النفقة فيصير كما لو كان ميتاً[221].
واشترطوا فيمن تجب له النفقة أن يكون فقيراً عاجزاً عن الكسب يستغني به عن إنفاق غيره فإن كان موسراً بمال أو كسب يستغني به فلا نفقة له لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة[222].
كما اشترط الحنفية اليسار فيمن تجب عليه النفقة[223] وإن كان قادراً على الكسب لأن وجوب هذه النفقة عن طريق الصلة، والصلات تجب على الأغنياء لا الفقراء[224]. وحد اليسار الذي يتعلق به وجوب هذه النفقة توفر نصاب الزكاة. وقيل ما فضل عن نفقة شهر له ولعياله. وقيل حد اليسار من كان له كسب دائم وهو غير محتاج إلى جميعه فما زاد عن كفايته وجب صرفه إلى أقاربه[225] واكتفى الحنابلة في وجوب النفقة بوجود ما يفضل عن نفقة نفسه إما من ماله وإما من كسبه فأما من لا يفضل عنه شيء فليس عليه شيء[226]. واشترط الحنفية[227] والحنابلة[228] لوجوب نفقة القرابة من غير الفروع والأصول اتفاق الدين.
القول الثاني:
أن نفقة القرابة من غير الفروع والأصول غير واجبة ولا يلزم الإنسان أن ينفق على أحد من الإخوة أو الأخوات ولا سائر ذوي المحارم وإلى هذا ذهب المالكية[229] والشافعية[230].
واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه[231] في الرجل الذي معه دينار آخر حتى قال صلى الله عليه وسلم ((وأنت أعلم به)) ولم يأمره أن ينفق على أقاربه فدل على عدم وجوب نفقة الأقارب.
واعترض على ذلك بعدم ذكر نفقة الوالد مع وجوبها.
وأجيب عن ذلك بأن النص على نفقة الولد يكفي لوجوب نفقة الوالد لأنه آكد حرمة من الولد[232].
ويرد على ذلك بأن ترك ذكر النفقة لا يعني عدم شرعيتها لاحتمال تقرير ذلك في موضع آخر كما هو في نفقة الوالد.(/19)
ولاحتمال معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل لا أقارب له وبالتالي أخبره بحاله فقط دون الإشارة إلى بيان إنفاقه على أقاربه.
واستدلوا أيضاً بأن الشرع أورد إيجاب نفقة الوالدين والمولودين، ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكامها فلم يلحق بهم في وجوب النفقة[233].
ويجاب عن ذلك بأن هذا قياس مع الفارق لأن النفقة صلة والإنسان مأمور بصلة أقاربه ومنع الموسر نفقته على أقاربه وهم محتاجون إليه فيه توريث للقطيعة والشحناء في النفوس المنهي عنها فدل ذلك على أن شرعية النفقة لا تثبت بأحكام الولادة وإنما تثبت بالقرابة الموجبة للصلة وعدم القطيعة.
والنفقة من المنفق كالإرث من المورث فيها غرم ونقل للمال من شخص لآخر فكذا النفقة فيها غنم للمنفق عليه كغنم الوارث للمال من مورثه فوجبت على القريب الوارث نفقة قريبه.
ولهذا استدل الحنفية والحنابلة بوجوب هذه النفقة بقوله تعالى[234] {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فكما هو يغنم هو يغرم أيضاً وتلزمه بذلك نفقة أقاربه الذين يحق لهم إرثهم.
وأجاب المانع لهذه النفقة بأن المراد من هذه الآية نفي المضارة كما أوضح ذلك ابن عباس وهو أعلم بكتاب الله[235].
ويجاب عن ذلك بأن هذا معطوف على قوله تعالى[236]: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو وارث الصبي أن لو مات[237] قلت: والوارث قد لا يكون من الفروع أو الأصول مما يوجب نفقة مثل هؤلاء على أقاربهم الوارثين لهم.
ونفقة الأقارب عموماً هي جزء من الصلات المشروعة بين الأقرباء وإذا انقطعت نفقة الأغنياء الموسرين عن أقربائهم المحتاجين فأي صلات تبقى وأي رحم يوصل.(/20)
إن في مثل هذه النفقات لتمييزاً بارزاً للمسلمين عن غيرهم من الأمم الأخرى التي لا تعنى بأوجه الصلات المحمودة ولذا أوجبها بعض العلماء مع اختلاف الدين ومنعها آخرون فإذا كانت تجب لغير المسلمين وفق ضوابطها لكونها صلة فوجوبها مع اتحاد الدين أولى لتقرير تلك الصلة المشروعة.
مقدار النفقة الواجبة للقريب من غير الفروع والأصول:
هذه النفقة تجب بقدر الإرث لأن الله تعالى رتب النفقة على قدر الإرث في قوله تعالى[238]: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فوجب أن يرتب مقدار النفقة على قدر الإرث.
فمن يرث المال كله يجب عليه جميع النفقة. وأما من يرث جزءاً منه فعليه النفقة بمقدار الجزء الموروث وهكذا[239].
الموضوع الثاني: نفقة خادم المرأة.
يرى الحنفية أنه يجب على الزوج الموسر نفقة خادم المرأة المتفرغ لخدمتها إذا لم يكن للخادم عمل غير ذلك خلافاً لمحمد[240] الذي يوجب النفقة للخادم مع اعتبار الزوج والأول أصح[241].
واختلفوا في هذا الخادم فقيل هي جارية مملوكة لها وإن كانت غير مملوكة لا تستحق النفقة في ظاهر الرواية عندهم[242] ذلك أن استحقاق النفقة بسبب الملك له فإذا لم يملك لم تجب نفقته.
والقول الثاني عندهم على الزوج نفقة الخادم ولو حراً إذا كانت الزوجة حرة[243].
وإلى وجوب نفقة الخادم ذهب المالكية إذا كان الزوج ذا سعة وهي ذات قدر ليس شأنها الخدمة أو هو ذا قدر تزرى خدمة زوجته به فتستحق الإخدام بهذا المعنى سواء أكان بأجرة أم بشراء[244].
وبالوجوب في إخدام الزوجة ذهب الشافعية فأوجبوا على الزوج إخدام زوجته الحرة إذا كانت لا يليق بها إخدام نفسها بأن كانت تخدم في بيت أبيها أو لا يخدم مثلها إلا أنها تحتاج للخدمة لمرض أو زمانة ونحو ذلك[245].(/21)
وقرر الحنابلة ذلك إذا احتاجت المرأة إلى من يخدمها لكون مثلها لا تخدم نفسها بلا خلاف عندهم في هذا أو لمرض فيها على الصحيح من المذهب واشترطوا لذلك قدرة الزوج على تلك النفقة[246].
واستدلوا على مشروعية الإخدام والإنفاق عليه بقوله تعالى[247]: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} والإتيان بخادم يخدمها والإنفاق عليه من المعاشرة بالمعروف[248] ولأنه لابد لها من خادم يقوم بخدمتها ويهيئ لها أمر بيتها حتى تتفرغ لحوائجه وقياساً على وجوب نفقتها عليه فتجب نفقة خادمها بجامع أن نفقة كل واحد منهما لمنفعة تعود إليه[249].
ولأن الزوج محتاج إلى القيام بحوائجها وأقرب ذلك إصلاح الطعام لها وخادمها ينوب عنها في ذلك[250].
فمما سبق نرى أن ظاهر الرواية عند الحنفية تلزم المرأة بالإنفاق على خادمها إن كانت غير مملوكة لها أو كان الزوج غير موسر.
والمالكية جعلوا نفقة خادم المرأة عليها إن لم يكن الزوج ذا سعة ورغبت المرأة في إخدام نفسها.
والحنفية لم يلزموا الزوج بإخدام زوجته إذا كانت لا تستحق الإخدام لكون مثلها لا يخدم[251] أو أنها لا تخدم زوجها في المطبخ والخبز وأعمال البيت فإذا امتنعت عن مثل ذلك فلا نفقة لمن يخدمها عندهم[252] وإذا رغبت في الإخدام فيلزمها هي دون غيرها.
وبهذا قال المالكية إذا لم تكن المرأة أهلاً للخدمة أو كان الزوج غير ذي قدر أو كانت أهلاً والزوج فقير[253].
وإلى هذا القول ذهب الحنابلة[254]. والشافعية لم يوجبوا الخدمة على الزوج إذا كانت زوجته تخدم نفسها ولا علة أو حاجة لها في الإخدام[255].
والحنفية يرون أنه لا يفرض لها أكثر من خادم واحد عند أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف[256] في المشهور عنه.
وقال أبو يوسف في غير المشهور عنه يفرض لها خادمين أحدهما لمصالح داخل البيت والآخر لمصالح خارجه[257]. والقول بالخادم الواحد هو المذهب عند الحنفية[258].(/22)
وعن أبي يوسف أن المرأة إذا كانت فائقة في الغنى وزفت إلى الزوج بخدم كثر استحقت نفقة الجميع[259].
ويرى المالكية أنه إذا لم يكف خادمة واحدة لزم الزوج أكثر من خادمة وفي قول لهم أن الزوج لا يلزمه أكثر من خادم واحد[260].
والقول بالخادم الواحد ذهب إليه الشافعية[261] إلا إذا كانت الزوجة مريضة وتحتاج لأكثر من واحد فيجب بقدر الحاجة[262] والقول بالخادم الواحد ذهب إليه الحنابلة[263]. واستدل من يقول بوجوب خادم واحد فقط بأن الواحد يقوم بالأمرين فلا حاجة للآخر لكفاية الأول عنه، ولأن الثاني للزينة ووجوب النفقة باعتبار الكفاية لا باعتبار الزينة والتجمل ولذا لو قام بخدمتها بنفسه كان يكفي ولم يلزمه نفقة الخادم[264] ولو فرض لها خادمين لفرض لها أكثر من ذلك فيؤدي إلى ما لا يتباهى[265] حيث أن اعتبار الخادمين ليس أولى من الثلاثة أو الأربعة لذا يُقدَّر بالأقل وهو الواحد[266] لأن المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد[267] فعلى قول من يقول بوجوب خادم واحد فقط يتعين على المرأة إذا رغبت في أكثر من خادم أن تقوم بالإنفاق عليه دون أن يلزم الزوج بذلك.
الموضوع الثالث: نفقة الرقيق.
يجب على المُلاَّكِ ذكوراً أو إناثاً النفقة على مملوكيهم بالمعروف[268] سواء أكان المملوك صحيحاً أم سقيماً أو أعمى أو زمناً أو مدبراً أو مستولداً أو مستأجراً أو معاراً أو قناً أو مشتركاً أو مبعضاً أو صغيراً أو كبيراً[269] بخلاف المكاتب فنفقته لا تجب على سيده لاستقلاله بالكسب[270].
ووجوب نفقة الرقيق بسبب الملك الذي يوجب الإختصاص بالمملوك انتفاعاً وتصرفاً هو نفس الملك فإذا كانت منفعته للمالك كانت مؤنته عليه إذ الخراج بالضمان[271].(/23)
وقد دل الكتاب والسنة والإجماع والمعقول على وجوب تلك النفقة أما الكتاب فقوله تعالى[272]: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا}[273].
ففي هذه الآية أمر بالإحسان على المماليك ومطلق الأمر يحمل على الوجوب لأن الإنفاق عليهم من الإحسان بهم فكان واجباً. غير أنه قد يرد أن الأمر ليس للوجوب حيث يكون للندب.
ويجاب عن ذلك بأنه لو سلم بذلك لكان الأمر بالإحسان إليهم على وجه الندب لغرض توسيع النفقة بعد وجوب أصلها لأن المرء لا يترك أصل النفقة على مملوكه إشفاقاً ومحافظة على بقاء ملكه وقد أمر بالإنفاق عليه حتى لا يقتر النفقة عليه لكونه مملوكاً في يده فأمر الله عزوجل السادات بتوسيع النفقة على مماليكهم شكراً لما أنعم عليهم من جهل من هو في جوهرهم وأمثالهم في الخلقة يقومون بخدمتهم[274].
أما السنة:
فما روي عن أبي ذر[275] رضي الله عنه[276] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم))[277].
ففي هذا الحديث أمر بالإنفاق على الرقيق والأمر للوجوب مما يدل على وجوب نفقة الرقيق على مالكه.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه[278] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق))[279].
ففي هذا الحديث أمر بإعطاء المملوك حقه من النفقة والأمر للوجوب مما يدل على وجوب نفقته على مالكه ذكراً كان أو أنثى.(/24)
ولما روى علي[280] رضي الله عنه[281] قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الصلاة الصلاة. اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم))[282].
وفي رواية لأنس[283] رضي الله عنه[284] قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه ((الصلاة وما ملكت أيمانكم))[285].
ففي هذا الحديث قرن الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة بالإنفاق على المماليك ليعلم أن القيام بالإنفاق عليهم واجب على من ملكهم وجوب الصلاة التي لاسعة في تركها[286].
وعن ابن عمرو[287] رضي الله عنه[288] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت))[289] وفي رواية[290] ((كفى بالمرء أن يحبس عمن يملك قوته))[291].
ففي هذا الحديث بيان أن التقصير بالنفقة على من تلزمه موجب للإثم ونفقة الرقيق واجبة على مالكه ومنعه منها موجب للإثم عليه.
أما الإجماع:
فلقد أجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده[292].
غير أنه قد يرد على الإجماع مخالفة الشعبي[293] ويجاب عن ذلك بأن الأولى حمل مخالفة الشعبي على ما إذا كان المملوك قادراً على الكسب فنفقته على نفسه أو ينفق عليه سيده من كسبه[294].
أما المعقول:
فالعبد مملوك لا يقدر على شيء فلو لم تجعل نفقته على مولاه لهلك[295] لأنه لابد له من نفقة وهي تلزم من يستفيد من منافعه وهو أخص الناس به[296]. وإن أبى المولى الإنفاق عليه لعجز أو غيره أنفق عليه من كسبه إن كان له كسب وإن لم يكن له كسب بأن كان زمناً أو أعمى أو صغيراً أو جارية لا يؤجر مثلها لحسنها ويخشى عليها من الفتنة، أمر ببيعه لأن المملوك صاحب حق وفي البيع إيفاء لحقه وليس فيه إبطال لحق المولى لأن الثمن يقوم مقامه ولأن بقاء ملكه عليه مع الإخلال بسد حاجته إضرار به وإزالة الضرر واجبة فوجبت إزالته ببيعه[297].(/25)
فإن امتنع عن بيعه أو هبته أو إعتاقه أو إجارته باعه القاضي أو أجَّره عليه فإن تعذر فكفايته في بيت المال ثم على المسملين[298].
الموضوع الرابع: النفقة على البهائم والجمادات.
وهذا فيه فصلان:
الفصل الأول: في النفقة على البهائم.
وفيه عدة مباحث:
المبحث الأول: في وجوب الإنفاق عليها.
الحيوان المحترم كائن حي له روح ترغب للحياة وتتشوف إليها وتلك الروح لها حرمة يجب مراعاة حقها بإشفاق وعطف خاصة إذا كانت عاجزة عن الوصول إلى غذائها بحبس أو جدب ونحو ذلك.
ولتأكيد هذا الحق نال الحيوان تقريراً شرعياً بالحفاظ على حقه وإلزام المالك ذكراً كان أو أنثى بالإنفاق عليه.
ولهذا ذهب علماء الحنفية إلى أن من ملك بهيمة لزمه علفها وسقيها[299].
وأوجب المالكية على صاحب الدواب علفها أو رعيها فإن أجدبت الأرض تعين علفها[300].
وقال الشافعية يجب على صاحب الدواب المحترمة من دواب البر والبحر علفها وسقيها أو تخليتها للرعي وورود الماء إن اكتفت به فإن لم تكتف به كجدب الأرض ونحوه أضاف إليها ما يكفيها[301].
وذهب الحنابلة إلى أن من ملك بهيمة لزمه وجوب القيام بها والإنفاق عليها[302] بلا نزاع[303].
واستدلوا لذلك بما روى ابن عمر[304] رضي الله عنه[305] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فلا هي أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض))[306].
ففي هذا الحديث بيان لتعذيب المرأة جزاء حبسها هرة والعذاب لا يكون إلا في مقابلة إثم والإثم نتيجة مخالفة الواجب أو فعل الحرام فدل هذا على وجوب الإنفاق على الحيوانات المحترمة.
ولحديث ابن عمرو رضي الله عنه[307] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كفى بالمرء أن يحبس عمن يملك قوته))[308].
والحيوان المملوك تلزم المالك نفقته ومنعها عنه موجب للإثم لأن الإثم لا يكون إلا على ترك واجب مما يدل على وجوب نفقة الحيوانات على مالكيها.(/26)
ولما روي من حديث أبي ذر رضي الله عنه[309] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تعذبوا خلق الله عزوجل))[310].
ومنع النفقة عن الحيوان المملوك تعذيب له والتعذيب منهي عنه والنهي يقتضي التحريم مما يدل على وجوب النفقة على الحيوان.
وعن المغيرة بن شعبة[311] رضي الله عنه[312] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله كره لكم ثلاثاً قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال))[313].
ففي هذا الحديث بيان كره الله تعالى إضاعة المال والحيوانات المملوكة من الأموال التي يلزم حفظها ورعايتها، وعدم الإنفاق عليها ضياع لها مما يدل على وجوب الإنفاق عليها.
ولأن الحيوان كائن حي له روح تسري في جسده ولهذه الروح حرمة[314] ثبتت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه[315] قال: ((بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش. فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي. فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له)). قالوا يارسول الله وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: ((في كل كبد رطبة أجر)) قال ابن حجر[316] في معنى ((في كل كبد رطبة أجر)): ((أي كل كبد حية والمراد رطوبة الحياة)).
وقال الداودي: المعنى في كل كبد حي أجر وهو عام في جميع الحيوان[317]. قلت وهذا يدل على أنه يجب على مالك الحيوان ذكراً كان أو أنثى النفقة على ما يملكه من الحيوانات لحرمتها ولحقها في الحياة ولأن في عدم الإنفاق عليها كما مضى إيذاء وتعذيباً لها وهو في الوقت نفسه إضاعة للمال وإضاعته سفه غير محمود.
المبحث الثاني: امتناع مالك البهائم من النفقة عليها.
إذا امتنع مالك البهيمة من النفقة عليها فللعلماء في ذلك رأيان:
الرأي الأول:(/27)
يجبر مالكها على الإنفاق عليها بعلف أو رعي إن كان فيه ما يقوم بحاجتها فإن امتنع من ذلك وله مال أجبر في الحيوان المأكول على أحد أمرين:
أ) بيع أو إجاره له أو تصدق به أو هبته ونحو ذلك مما يزول به الضرر عنه.
ب) ذبحه.
وإن كان مما لا يؤكل لحمه أجبر على بيعه أو إجارته أو التصدق به أو هبته ونحو ذلك.
وإلى هذا ذهب الشافعية[318] والحنابلة[319] وجمهور المالكية[320] في الصواب عندهم[321] ورواية لأبي يوسف من الحنفية[322].
غير أن الحنابلة يرون في الحيوان الذي لا يؤكل لحمه إجبار مالكه على الإنفاق عليه كالعبد الزمن[323].
الرأي الثاني:
عدم الإجبار على الإنفاق عليها أو بيعها إلا أنه يؤمر بذلك ديانة فيما بينه وبين الله تعالى عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى هذا ذهب الحنفية في ظاهر الرواية عندهم[324] وهو الصحيح في قولهم[325] وابن رشد من المالكية[326].
واستدلوا على أمره بذلك ديانة أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان من حديث أبي ذر رضي الله عنه[327] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تعذبوا خلق الله عزوجل)).
ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه[328] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كره لكم ثلاثاً قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال))[329].
قلت وهذا الدليل لم يرد فيه ما يمنع من إلزامه بذلك قضاء بل إن من مقتضى النهي منع المنهي عن فعل ما نهي عنه.
واستدلوا على عدم الإجبار بما يلي:
أولاً: أن في الإجبار نوعَ قضاءٍ والقضاء يكون عند الطلب والخصومة من صاحب الحق ولا خصم[330] مما يدل على عدم الإجبار في النفقة على الحيوان.
ويجاب عن ذلك بأن القضاء في هذه المسألة جاء لرفع مظلمة لا يقدر المظلوم على رفعها فيجوز القضاء وإن لم يكن هناك طلب وخصومة من صاحب الحق لاستحالة فعله لذلك.(/28)
ولهذا شاهد مماثل حيث قالوا إن لوالي القضاء أو المظالم الحق في نظر بعض القضايا دون الحاجة إلى متظلم أو رافع لدعوى فيها وذلك مثل نظره في تعدي الولاة على الرعية أو جور العمال فيما يجبون من أموال الناس بغير حق أو يبذلونه للناس بزيادة أو نقصان. وهذا يقتضيه حق إنصاف الغير من إنسان أو حيوان[331].
ثانياً: أن الدابة لا يقضي عليها ومن لا يقضى عليه لا يقضى له ويجاب عن ذلك بأن تعذر الشكوى من الدابة يوجب القضاء لها[332].
واستدل أصحاب الرأي الأول بما يلي:
أولاً: ما روي عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه[333] بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)) وفي رواية[334] ((كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته))[335][336].
ففي هذا الحديث بيان لاستحقاق الإثم، والإثم لا يكون إلا في إرتكاب محرم أو ترك واجب مما يدل على وجوب الإنفاق، وتنفيذ الواجب لا يكون إلا عن طريق القضاء، للإلزام بحكمه مما يدل على وجوب القضاء في إجبار مالك البهيمة بالإنفاق عليها[337].
ثانياً: أن ترك الحيوان يموت جوعاً تعذيب له بلا فائدة وتضييع للمال ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك[338] كما سبق آنفاً.
ثالثاً: أن في الإنفاق على الحيوان صوناً له عن الهلاك[339] الذي تستحقه نفسه الرطبة لما لها من حرمة شرعية.
رابعاً: أن ترك الإنفاق عليه يعد من السفه لخلوه عن العاقبة الحميدة والسفه حرام عقلاً[340].
خامساً: أن بقاءها في يده مع ترك الإنفاق عليها ظلم والظلم تجب إزالته[341] والقول بإجبار المالك على بيعها أو ذبحها أو إجارتها ونحو ذلك إن لم ينفق عليها هو الحق لقوة استدلاله في مقابلة دليل معارضه ولأن القضاء بهذا النوع مما يجب العمل به ولو عن طريق السياسة الشرعية التي شرعت لدفع الضرورات وتنبيهاً على مكارم الأخلاق ومنع النفقة ضرورة نزلت ونقيصة حلت على بهيمة خرساء لا منصف لها إلا القضاء.(/29)
والقول بالأمر ديانة دون الإجبار قد لا يحقق الغرض من الإنفاق على البهيمة وإن حققه فلا حاجة للقضاء إذن إنما يحتاج إليه إذا تعرضت البهيمة للهلاك جوعاً وحبست عنها النفقة فالرجوع إليه واجب والإجبار حق لمتضرر.
المبحث الثالث: امتناع المالك من الإجبار.
فإذا امتنع المالك من الإجبار ناب عنه الحاكم على ما يراه وتقتضيه الحال من النفقة من ماله أو بيعها أو إجارتها ونحو ذلك وإلى هذا ذهب الشافعية[342] والحنابلة[343].
ويرى بعض الشافعية أن الإجارة إن أمكنت أولى من البيع.
ويرون أنه إن تعذر ذلك فنفقة الحيوان من بيت المال فإن تعذر فعلى المسلمين[344].
الفصل الثاني: في النفقة على الجمادات.
الجمادات مما لا روح لها كالدور والعقار والزروع والثمار والأواني ونحو ذلك لا يجبر مالكها بالإنفاق عليها غير أنه يكره له إهمالها وترك عمارتها بل يندب له عمارتها والقيام بشؤونها وما تحتاجه. والإجبار لا يكون لإنتفاء حرمة الروح كما في الحيوان ولأن الضرر لا يلحقها بنفسها إنما يلحق مالكها فلذا يكره له تركها حتى لا تخرب لما في الخراب من إضاعة للمال وإلى هذا ذهب الحنفية[345] والشافعية[346] والحنابلة الذين صرحوا بعدم وجوب النفقة عليها[347].
غير أن الشافعية في قول لهم يرون أن ترك النفقة على الجماد الذي له نفع يحرم إذا كان يؤدي إلى ضياع المال كإلقاء المتاع في البحر.
وأرى أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأولى خاصة وأن المتضرر في هذا التصرف المالك نفسه والإنسان في الغالب يحرص على المحافظة على ما يعنيه ويهمه. والحجر وسيلة رادعة في منع من انحرفت به تصرفاته عن الطريق المشروع وأدت أفعاله إلى السفه وبه تحفظ الأموال من الضياع المقصود.
ــــــــــــــــــــ
[1] انظر لسان العرب مادة نفق ج10، ص357 طبعة دار صادر.
[2] انظر كشاف القناع عن متن الإقناع ح5، ص459 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.(/30)
[3] انظر مغني المحتاج ج3، ص425 طبع دار إحياء التراث العربي. وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص142، مطبعة الحلبي.
وانظر بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك ج1، ص517 الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ وانظر الشرح الصغير للدردير مع بلغة السالك ج1، ص523 الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ وانظر بدائع الصنائع ج4، ص15 الطبعة الثانية سنة 1402هـ بتصرف.
[4] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص484 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص572 الطبعة الثاني سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص50 طبع دار المعرفة وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص180 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص193 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر مغني المحتاج ج3، ص425 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب ج2، ص345 طبع دار المعرفة وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص143 مطبعة الحلبي وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص69 وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص584 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج5، ص460 الناشر مكتبة النصر الحديثة وانظر بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك ج1، ص525 الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ.
[5] الرحم المحرم هو من لا يحل مناكحته على التأييد مثل الأخوة والأخوات وأولادهما. مجمع الأنهر ج1، ص500.
[6] انظر بدائع الصنائع ج4، ص16، 31 الطبعة الثانية 1402هـ.
[7] انظر رقم (4).
[8] انظر بدائع الصنائع ج4، ص39 الطبعة الثانية سنة 1402هـ وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص585.
[9] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص635 وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص231 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص40 وانظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص630 الطبعة الأولى سنة 1398هـ وانظر مغني المحتاج ج2، ص462 وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص199.(/31)
[10] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص66 وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص231 وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص348 طبع دار المعرفة وانظر كشاف القناع ج5، ص495.
[11] انظر بدائع الصنائع ج4، ص31 الطبعة الثانية سنة 1407هـ.
[12] الطفل هو الولد حين يسقط من بطن أمه إلى أن يحتلم. انظر بدر المتقى في شرح الملتقى مع مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص496 طبع دار إحياء التراث العربي. وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص612 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[13] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص496 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ح3، ص612، ج6، ص751 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص62، 64 طبع سنة 1313هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص222 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217، 220 طبع دار إحياء التراث العربي.
وانظر القوانين الفقهية لابن جرى، ص148 الناشر عباس الباز بمكة المكرمة وانظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص628 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض. وانظر بلغة السالك ج1، ص526 الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ. وانظر شرح الرسالة حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص524 مطبعة الحلبي، وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص99، 100 وانظر حاشية العدوي ج2، ص123 مطبعة الحلبي.
وانظر مغني المحتاج ج3 ص448، 451 طبع دار إحياء التراث العربي. وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص140 مطبعة الحلبي، وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172، 178، 180. الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.(/32)
وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص582، 584، 627. الناشر مكتبة الرياض الحديثة، وانظر الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ج9، ص392، 396، وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص238. الناشر مكتبة الرياض الحديثة. وانظر الكافي في فقه أحمد ج3، ص373، 374، 376. الناشر المكتب الإسلامي، وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج5، ص485 الناشر مكتبة النصر الحديثة.
[14] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص496 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص32 الطبعة الثانية سنة 1402هـ وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[15] من آية 6 من سورة الطلاق.
[16] انظر المجموع شرح المهذب ج7، ص180 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص582 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
[17] انظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي.
[18] من آية 233 من سورة البقرة.
[19] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص582 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر الكافي في فقه أحمد ج3، ص373 الناشر المكتب الإسلامي، وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج5، ص485 الناشر مكتبة النصر الحديثة.
[20] انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34، ص105 تصوير الطبعة الأولى سنة 1398هـ.
[21] أبو هريرة: عبدالرحمن الدوسي صاحب رسول الله r اختلف في اسمه كثيراً وهو أكثر الصحابة حديثاً عن رسول الله r وكان من أصحاب الصفة وأسلم عام خيبر وشهدها مع رسول الله r ثم لزمه وواظب عليه وتوفي في سنة سبع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة. انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج5، ص315 طبع بالمطبعة الوهبية سنة 1286هـ.
[22] أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب في صلة الرحم وقد سكت عنه، عون المعبود شرح سنن أبي داود ج5، ص110 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.(/33)
وأخرجه النسائي عن جابر في كتاب الزكاة باب أي الصدقة أفضل/ سنن النسائي ج5، ص70 طبع دار إحياء التراث العربي.
وأخرجه أحمد في مسنده ج2، ص251 الناشر المكتب الإسلامي.
قال أحمد البناء في سنده عند أحمد ((وأقره الذهبي)) الفتح الرباني ج9، ص191 وأخرجه الحاكم في كتاب الزكاة باب الإعطاء للأقرباء أعظم الأجر وقال هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه/ المستدرك ج1، ص415 طبعة دار الفكر.
[23] انظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
[24] أخرجه البخاري في كتاب النفقات باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف/ فتح الباري شرح صحيح البخاري ج9، ص507 المطبعة السلفية.
وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية باب قضية هند/ انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج12، ص7 طبع بالمطبعة المصرية.
وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده/ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج9، ص447 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات باب ما للمرأة من مال زوجها/ سنن ابن ماجه ج2، ص769 طبعة دار إحياء التراث العربي.
وأخرجه الدارمي في كتاب النكاح باب في وجوب نفقة الرجل على أهله/ سنن الدارمي ج2، ص159 توزيع دار الباز للنشر والتوزيع.
وأخرجه أحمد في مسنده ج6، ص39، الناشر المكتب الإسلامي.
[25] هند: بنت عتبة بن ربيعة والدة معاوية بن أبي سفيان شهدت أحداً وفعلت ما فعلت بحمزة ثم كانت تؤلب على المسلمين إلى أن جاء الله بالفتح فأسلم زوجها ثم أسلمت هي يوم الفتح وماتت في خلافة عمر وقيل ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنهما/ الإصابة في تمييز الصحابة ج4، ص426 طبع دار إحياء التراث العربي.
[26] انظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الكافي في فقه أحمد ج3، ص373 الناشر المكتب الإسلامي.
[27] انظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.(/34)
[28] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
[29] انظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص223 طبع دار المعرفة وانظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص496، 499 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص612 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[30] انظر مغني المحتاج ج3، ص447 دار إحياء التراث العربي.
[31] انظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 الناشر مكتبة الرياض الحديثة. وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص522، 524 مطبعة الحلبي وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص100 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر.
[32] انظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص178 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص84 مطبعة الحلبي.
[33] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص584 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34، ص75، 103 تصوير الطبعة الأولى سنة 1398هـ.
[34] أي يسأل الناس.
[35] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص496 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص612 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص64 طبع سنة 1313هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217 طبع دار إحياء التراث العربي.
[36] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص613، 615 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص55 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص562 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص223 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217 طبع دار إحياء التراث العربي، وانظر بدائع الصنائع ج4، ص33 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.(/35)
[37] أحمد بن حنبل بن هلال الشيباني أيد الله الإسلام به في موقفه من محنة القول بخلق القرآن. وهو أحد فقهاء الإسلام الأربعة الذين يقتدى بهم ومن كبار الحفاظ، له من الكتب المسند والزهد وغير ذلك، ولد ببغداد في ربيع الأول سنة 164هـ وتوفي بها سنة 241هـ انظر طبقات الحنابلة لأبي يعلى اختصار النابلسي ص3 وانظر طبقات الحفاظ للسيوطي ص186.
[38] من آية 6 من سورة الطلاق.
[39] انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34، ص134 تصوير الطبعة الأولى.
[40] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
[41] من آية 223 من سورة البقرة.
[42] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص624 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص497 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج1 ص62، 64 طبع سنة 1313هـ، وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص560 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ، وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص208 طبع دار المعرفة، وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص218 طبع دار إحياء التراث العربي، وانظر بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج4، ص32 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[43] أبو حنيفة النعمان بن ثابت برع في الفقه وألف وصنف ولد عام 80هـ على قول ولقي من الصحابة أنس بن مالك وعامر بن الطفيل وهو صاحب المذهب المشهور وتوفى عام 150هـ انظر طبقات الفقهاء لزاده، ص11 الطبعة الثانية بمطبعة الزهراء سنة 1961م.
[44] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص222 طبع دار المعرفة.
[45] انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34، ص105 تصوير الطبعة الأولى وانظر الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ج9، ص396، 397 وانظر الكافي في فقه أحمد، ج3، ص376 الناشر المكتب الإسلامي.
[46] من آية 6 من سورة الطلاق.
[47] انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34، ص106.(/36)
[48] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص497 طبع دار إحياء التراث العربي. وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3 ص62 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص560 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص209 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص218 طبع دار إحياء التراث العربي.
[49] انظر المراجع السابقة عدا الفتاوى الهندية.
[50] انظر القوانين الفقهية لابن جزي ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة وانظر بداية المجتهد ج2، ص56 الطبعة الرابعة سنة 1395هـ وانظر بلغة السالك ج1، ص527 الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص95، 96 طبع سنة 1372هـ بالمطبعة الجمالية بمصر وانظر كفاية الطالب الرباني ج3، ص20 مطبعة صبيح بمصر.
[51] انظر شرح الرسالة لابن زيد القيرواني ج2، ص96 طبع سنة 1332هـ.
[52] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
[53] انظر مغني المحتاج ج3، ص449 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7، ص222 مطبعة الحلبي.
[54] اللبأ هو اللبن النازل أول الولادة.
[55] انظر مغني المحتاج ج3، ص449 وانظر نهاية المحتاج ج7، ص221.
[56] من آية ((6)) من سورة الطلاق.
[57] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص627 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الروض المربع ج3، ص239 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الكافي في فقه أحمد ج3، ص379 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع ج5، ص487 الناشر مكتبة النصر الحديثة.
[58] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص497 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص618 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص62 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص560 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص218 طبع دار إحياء التراث العربي.(/37)
[59] انظر القوانين الفقهية لابن جزي ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة وانظر بداية المجتهد ج2، ص56 الطبعة الرابعة سنة 1395هـ وانظر بلغة السالك ج1، ص527 الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص525 مطبعة الحلبي.
[60] انظر مغني المحتاج ج3، ص449 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7، ص222 مطبعة الحلبي.
[61] انظر الانصاف ج9، ص407، 408 وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص324 المطبعة السلفية وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص239 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر الكافي في فقه أحمد ج3، ص379، 380 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع ج5، ص488 الناشر مكتبة النصر الحديثة.
[62] من آية 233 من سورة البقرة.
[63] انظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
[64] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص497 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص618 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص62 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص560 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص218 طبع دار إحياء التراث العربي.
[65] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص618 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[66] انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص525 مطبعة الحلبي وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص96 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر.
[67] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص613 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217 طبع دار إحياء التراث العربي.
[68] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
[69] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص224 طبع دار المعرفة.
وانظر مغني المحتاج ج3، ص446 طبع دار إحياء التراث العربي.(/38)
وانظر الكافي في فقه أحمد ج3، ص376 الناشر المكتب الإسلامي وانظر الانصاف ج9، ص398.
[70] انظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
وانظر بلغة السالك ج1، ص526 الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ.
وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص524، 525 مطبعة الحلبي وانظر حاشية العدوي ج2، ص124 مطبعة الحلبي.
[71] ابن المواز: محمد بن سعيد الموثق يعرف بابن المواز أبو عبدالله قرطبي فقيه في مذهب مالك حافظ له. الديباج المذهب ص265 الطبعة الأولى سنة 1351هـ.
[72] انظر حاشية العدوي ج2، ص124 مطبعة الحلبي.
[73] انظر حاشية العدوي ج2، ص117 مطبعة الحلبي، وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص96 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر.
[74] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص613 – 615، 625 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[75] من آية 233 من سورة البقرة.
[76] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص497 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص619 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص62، 63 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص561 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص208، 209 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص219 طبع دار إحياء التراث العربي.
[77] انظر حاشية العدوى ج2، ص117 مطبعة الحلبي وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص525، 526 مطبعة الحلبي.
[78] انظر حاشية العدوى ج2، ص117 مطبعة الحلبي.
[79] انظر مغني المحتاج ج3، ص450 دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7، ص222 مطبعة الحلبي وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص628 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[80] انظر الانصاف ج9، ص406 وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34، ص65 تصوير الطبعة الأولى.(/39)
[81] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص628 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
[82] انظر الانصاف ج9، ص406 وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص323. الناشر المطبعة السلفية وانظر كشاف القناع ج5، ص487 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص627، 628 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34، ص64 تصوير الطبعة الأولى.
[83] انظر بدر المتقى في شرح الملتقى مع مجمع الأنهر ج1، ص497 طبع دار إحياء التراث العربي.
وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص619 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص498.
[84] انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2، ص525 مطبعة الحلبي.
[85] من آية 6 من سورة الطلاق.
[86] انظر مغني المحتاج ج3، ص449، 450 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7، ص222 مطبعة الحلبي.
[87] من آية 233 من سورة البقرة.
[88] انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34، ص66 تصوير الطبعة الأولى.
[89] انظر مغني المحتاج ج3، ص450 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7، ص222 مطبعة الحلبي.
[90] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص628 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[91] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص628 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
[92] ص12.
[93] من آية 6 من سورة الطلاق.
[94] انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34، ص64، 65 تصوير الطبعة الأولى.
[95] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص498 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص619 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص63 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص561 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص219 طبع دار إحياء التراث العربي.(/40)
[96] ابن تيمية هو تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية نزيل دمشق ولد بحران يوم الإثنين 10/3/661هـ قدم مع والده إلى دمشق سنة 667هـ بسبب سيطرة التتار وهو من مجتهدي الحنابلة ومن مؤلفاته الحموية والواسطية والاستقامة والفتاوى ورد تعارض العقل مع النقل ومنهاج السنة وغير ذلك كثير وسجن في مصر ودرس هناك وألف وسجن في دمشق سنة 726هـ وتوفي بسجنه في ذي القعدة سنة 728هـ انظر مختصر طبقات الحنابلة ص54 طبع بمطبعة الاعتدال بدمشق عام 1350هـ.
[97] من آية 6 من سورة الطلاق.
[98] انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34 ص75 تصوير الطبعة الأولى.
[99] انظر رقم (1).
[100] انظر رقم (1) وانظر بداية المجتهد ج2، ص56 الطبعة الرابعة سنة 1395هـ وانظر بلغة السالك 1، ص527 الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ وانظر حاشية العدوي ج2، ص18 مطبعة الحلبي وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34، ص65 تصوير الطبعة الأولى.
[101] من آية 6 من سورة الطلاق.
[102] انظر بداية المجتهد ج2، ص56 الطبعة الرابعة سنة 1395هـ.
[103] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص614 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص555 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص199 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص206 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص22 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[104] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص199، 209 طبع دار المعرفة.
[105] انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص525 مطبعة الحلبي.
[106] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص599 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.(/41)
[107] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص614 الطبعة الثانية سنة 1386هـ. وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص555 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص222 طبع دار المعرفة، وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص22 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[108] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص209، 226 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217، 218 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص33 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[109] من آية 233 من سورة البقرة.
[110] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص209 طبع دار المعرفة.
[111] انظر رقم (1).
[112] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص615 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[113] الزمن هو من به مرض يمنعه عن الكسب. حاشية ابن عابدين ج3، ص614 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[114] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص613، 615، 625 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص562 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص218 طبع دار إحياء التراث العربي، وانظر بدائع الصنائع ج4، ص32، 33 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[115] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص625 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[116] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص209 طبع دار المعرفة وانظر بدائع الصنائع ج4، ص33 الطبعة الثناةي سنة 1402هـ.
[117] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص625 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[118] انظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر حاشية العدوي ج2، ص123، 124 مطبعة الحلبي.
[119] انظر المغني لابن قدامة ج7 ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
[120] انظر المجموع شرح المهذب ج17، ص181 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
[121] من آية 31 من سورة الأعراف.
[122] انظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.(/42)
[123] انظر مغني المحتاج ج3، ص451 طبع دار إحياء التراث العربي.
[124] انظر مغني المحتاج ج3، ص451 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة، وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص139، 140 مطبعة الحلبي.
[125] انظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
[126] من آية 233 من سورة البقرة.
[127] من آية 11 من سورة النساء.
[128] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص583، 584 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر الانصاف ج9، ص392 وانظر منتهى الإرادات ج2، ص379 الناشر عالم الكتب وانظر الكافي في فقه أحمد ج3، ص373 الناشر المكتب الإسلامي.
[129] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص584 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر الانصاف ج9، ص392 وانظر الكافي في فقه أحمد ج3، ص374 الناشر المكتب الإسلامي.
[130] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص585 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر الانصاف ج9، ص398 وانظر منتهى الإرادات ج2، ص380 الناشر عالم الكتب.
[131] انظر الانصاف ج9، ص398.
[132] القاضي: هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد الفراء أبو يعلى عالم جليل ومتفقه في مذهب أحمد بن حنبل له مصنفات كثيرة منها أحكام القرآن ومسائل الإيمان ومختصر المعتمد والأحكام السلطانية ولد سنة 380هـ وتوفي سنة 458هـ. انظر طبقات الحنابلة لابن المترجم له اختصار النابلسي، ص377 طبع سنة 1350هـ.
[133] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص586 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر الانصاف ج9، ص395 وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص236 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.(/43)
[134] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص589، 591 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر منتهى الإرادات ج2، ص379 الناشر عالم الكتب وانظر الكافي في فقه أحمد ج3، ص376 الناشر المكتب الإسلامي وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص238 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الانصاف ج9، ص396.
[135] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص498 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص64 طبع سنة 1313هـ وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص614، 615 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص563 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج3، ص223، 224 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص33 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[136] انظر القوانين الفقهية لابن جزي، ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة وانظر بلغة السالك ج1، ص526 مطبعة الحلبي وانظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص99، 100 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر. وانظر حاشية العدوي ج2، ص123 مطبعة الحلبي، وانظر كفاية الطالب الرباني ج3، ص23 مطبعة صبيح بمصر.
[137] انظر مغني المحتاج ج3، ص448، 451 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص140 مطبعة الحلبي.
[138] انظر المغني لابن قدامة ج7، 586، 587 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر الكافي في فقد أحمد ج3، ص375، 376 وانظر الإنصاف ج9، ص393، 398 وانظر منتهى الإرادات ج2، ص379 طبع عالم الكتب.
[139] الحسن والخصاف.
[140] انظر رقم (1).
[141] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص55، 64 طبع سنة 1313هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج3، ص224 طبع دار المعرفة.(/44)
[142] انظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
[143] انظر مغني المحتاج ج3، ص451 طبع دار إحياء التراث العربي.
[144] انظر المرجع السابق.
[145] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص62 طبع سنة 1313هـ.
[146] انظر الفتاوى الهندية ج1، ص563 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص33 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[147] انظر رقم 136.
[148] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص499 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص621، 622 الطبعة الثانية سنة 1386هـ. وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص63 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص564، 565 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص222 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص32 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
وانظر القوانين الفقهية لابن جزي، ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة. وانظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 وانظر بلغة السالك 1، ص525، الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص522 مطبعة الحلبي وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص98، 99 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر وانظر حاشية العدوي ج2، ص123 مطبعة الحلبي وانظر كفاية الطالب الرباني ج3، ص23 مطبعة صبيح بمصر.
وانظر مغني المحتاج ج3، ص446، 447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص349 طبع دار المعرفة وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص139 مطبعة الحلبي وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص84 طبع دار إحياء الكتب العربية وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة وانظر نهاية المحتاج ج7، ص218 مطبعة الحلبي.(/45)
وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص582 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الانصاف ج1، ص117 وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص117، الناشر مكتبة المعارف بالرياض وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص319 المطبعة السلفية وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص236 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر كشاف القناع ج5 ص480 الناشر مكتبة النصر الحديثة.
[149] من آية 15 من سورة لقمان.
[150] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص499 دار إحياء التراث العربي وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص63 طبع سنة 1313هـ وانظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الاقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص139 مطبعة الحلبي وانظر نهاية المحتاج ج7، ص218 مطبعة الحلبي وانظر كشاف القناع ج5، ص480 الناشر مكتبة النصر الحديثة وانظر كفاية الطالب الرباني ج3، ص23 مطبعة صبيح بمصر.
[151] من آية 23 من سورة الإسراء.
[152] انظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص582، 583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص236 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج5، ص480 الناشر مكتبة النصر الحديثة.
[153] من آية 23 من سورة الإسراء.
[154] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص212 طبع دار المعرفة.
[155] عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أم المؤمنين زوج رسول الله r تزوجها في شوال سنة عشر من النبوة قبل الهجرة بثلاث سنين وهي ابنة ست سنين ودخل بها في شوال وهي ابنة تسع سنين وهي من أفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالدين ومن أكثر نساء النبي r رواية للحديث توفيت سنة 57هـ/ انظر طبقات ابن سعد ج8، ص57 وطبقات الحفاظ، ص8.(/46)
[156] أخرجه أبو داود في كتاب الإجارة باب الرجل يأكل من مال ولده وقد سكت عنه وقال المنذري وهو حديث حسن/ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج9، ص445 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
وأخرجه النسائي في كتاب البيوع باب الحث على الكسب/ سنن النسائي ج7، ص241 طبع دار إحياء التراث العربي.
وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام باب ما جاء في أن الوالد يأخذ من مال ولده/ قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح/ السنن الترمذي ج3، ص639 طبع دار إحياء التراث العربي.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات باب الحث على المكاسب/ سنن ابن ماجه ج2، ص723 طبع دار إحياء التراث العربي.
وأخرجه الدارمي في كتاب البيوع باب في الكسب وعمل الرجل بيده/ سنن الدارمي ج2، ص247 توزيع دار الباز للنشر والتوزيع.
وأخرجه أحمد في مسنده ج6، ص173 الناشر المكتب الإسلامي.
وأخرجه الحاكم في كتاب البيوع – ولد الرجل من كسبه/ قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأخرجه من طريق آخر عن عائشة وصححه الذهبي/ المستدرك على الصحيحين ج2، ص46 طبع دار الفكر ببيروت.
[157] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص222 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص223 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص139 مطبعة الحلبي وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة وانظر نهاية المحتاج ج7، ص318 مطبعة الحلبي وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص583، الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج5، ص480 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[158] أخرجه الحاكم في كتاب التفسير – أولادكم هبة الله وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه/ المستدرك على الصحيحين ج2، ص284 طبعة دار الفكر سنة 1398هـ.
وأخرجه البيهقي في كتاب النفقات باب نفقة الأبوين.(/47)
قال البيهقي وهو بهذا الإسناد غير محفوظ.
وذلك لزيادة إذا احتجتم إليهم وقال سفيان هذا وهم من حماد وقال عبدالله بن المبارك سألت أصحاب سفيان عن هذا الحديث فلم يحفظوا. السنن الكبرى للبيهقي ج7، ص480 الطبعة الأولى قال أبو داود: حماد بن أبي سليمان زاد فيه إذا احتجتم إليهم وهو منكر/ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج9، ص445 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
[159] انظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص223 طبع دار إحياء التراث العربي.
[160] انظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص139 مطبعة الحلبي.
وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج5، ص480 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[161] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص499 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص621، 622 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص63 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص564، 565 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص222 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع، ج4، ص32 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
وانظر مغني المحتاج ج3، ص446، 447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص349 طبع دار المعرفة وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص129 مطبعة الحلبي وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص84 طبع دار إحياء الكتب العربية وانظر المجموع في شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة المعارف بالرياض وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص319 المطبعة السلفية وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص236 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر كشاف القناع ج5، ص480 مكتبة النصر الحديثة بالرياض.(/48)
[162] انظر القوانين الفقهية لابن جزي، ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة وانظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 الطبعة الأولى سنة 1398هـ وانظر بلغة السالك ج1، ص526 الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص523 مطبعة الحلبي وانظر حاشية العدوي ج2، ص123 مطبعة الحلبي.
وانظر كفاية الطالب الرباني ج3، ص24 مطبعة صبيح بمصر.
[163] انظر حاشية العدوى ج2، ص124 مطبعة الحلبي.
[164] من آية 233 من سورة البقرة.
[165] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[166] من آية 11 من سورة النساء.
[167] من آية 78 من سورة الحج.
[168] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[169] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص499 طبع دار إحياء التراث العربي. وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص63 طبع سنة 1313هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص222 طبع دار المعرفة.
[170] انظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص139 مطبعة الحلبي وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص584 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[171] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص63 طبع سنة 1313هـ.
[172] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص499 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص621، 622 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص63 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص564، 565 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص222 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص217 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص32 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.(/49)
[173] انظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص84 طبع دار إحياء الكتب العربية وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص178 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة وانظر نهاية المحتاج ج7، ص218 مطبعة الحلبي.
[174] انظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7، ص218 مطبعة الحلبي.
[175] انظر القوانين الفقهية لابن جزي، ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة وانظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 الطبعة الأولى سنة 1398هـ وانظر بلغة السالك ج1، ص525 مطبعة الحلبي وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص522 مطبعة الحلبي.
وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص99 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر.
[176] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص584 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص117 الناشر مكتبة المعارف بالرياض وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص319 الناشر المكتبة السلفية وانظر الروض المربع بحاشية العنقري ج3، ص237 وانظر كشاف القناع ج5، ص481، 482 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[177] الخصاف أحمد بن عمر بن مهير الشيباني أبو بكر المعروف بالخصاف فرضي حاسب فقيه كان مقدماً عند الخليفة المهتدي بالله فلما قتل المهتدي نهب فذهب بعض كتبه وكان ورعاً يأكل من كسب يده. توفي ببغداد سنة 261هـ وله تصانيف منها أحكام الأوقاف والحيل والوصايا وأدب القاضي والنفقات على الأقارب انظر الطبقات السنية في تراجم الحنفية ج1، ص418 الطبعة الأولى سنة 1403هـ وانظر الأعلام للزركلي ج1، ص185 طبعة دار العلم للملايين.
[178] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص622 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.(/50)
[179] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص499 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص623 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج2، ص63 طبع سنة 1313هـ.
[180] انظر القوانين الفقهية لابن جزي، ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة.
وانظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 الطبعة الأولى سنة 1398هـ وانظر بلغة السالك ج1، ص525 مطبعة الحلبي وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص522 مطبعة الحلبي وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص98، 99 وانظر حاشية العدوي ج2، ص123 مطبعة الحلبي.
[181] انظر القوانين الفقهية لابن جزي، ص148 وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص98، 99 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر وانظر حاشية العدوي ج2، ص123 مطبعة الحلبي.
[182] انظر مغني المحتاج ج3، ص448 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص349 طبع دار المعرفة وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص140 مطبعة الحلبي، وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص84 طبع دار إحياء الكتب العربية، وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص178 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة، وانظر نهاية المحتاج ج7، ص220.
[183] انظر مغني المحتاج ج3، ص448 وانظر نهاية المحتاج ج7، ص220 مطبعة الحلبي.
[184] انظر مغني المحتاج ج3، ص448 وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص349.
[185] انظر مغني المحتاج ج3، ص448 وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص140 وانظر نهاية المحتاج ج7، ص220.
[186] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص584 وانظر المحرر في فقه أحمد ج2، ص117 وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص319 وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص237 وانظر كشاف القناع ج5، ص481، 482.(/51)
[187] الحلواني: عبدالعزيز بن أحمد بن نصر بن صالح الحلواني الملقب بشمس الأئمة فقيه حنفي من أئمة أهل الرأي في وقته ببخارى توفي سنة 448هـ في كش ودفن في بخارى وله من المصنفات المبسوط في الفقه والنوادر في الفروع وشرح أدب القاضي لأبي يوسف وغير ذلك.
انظر الأعلام للزركلي ج4، ص13 طبعة دار العلم للملايين.
[188] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص499.
[189] اللخمي: علي أبو الحسن بن محمد الربعي المعروف باللخمي قيرواني نزل صفاقس. فقيه مالكي ومن مصنفاته تعليق على المدونة سماه التبصرة تميز فيه بذكر آرائه التي خرج بها عن مذهبه. توفي سنة 498هـ/ انظر الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب ص203 الطبعة الأولى بالهند وانظر شجرة النور الزكية ج1، ص117 طبع سنة 1349هـ بالقاهرة.
[190] انظر شرح الرسالة لابن ابي زيد القيرواني ج2، ص98، 99.
[191] انظر الفتاوى الهندية ج1، ص564 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص502 دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص614، 631 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص222 طبع دار إحياء التراث العربي.
وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص205، 228 طبع دار المعرفة وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص63 طبع دار المعرفة.
وانظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبى شجاع ج2، ص140 مطبعة الحلبي وانظر قليوبي وعميره ج4، ص84 طبع دار إحياء الكتب العربية وانظر نهاية المحتاج ج7، ص218 مطبعة الحلبي.
[192] وانظر مغني المحتاج ج3، ص447 وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبى شجاع ج2، ص140 وانظر قليوبي وعميره ج4، ص84.
[193] انظر المبسوط للسرخسي ج3، ص228 طبع دار المعرفة وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص63 طبع دار المعرفة.(/52)
[194] انظر منتهى الإرادات ج2، ص180 طبع عالم الكتب وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص239 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر كشاف القناع ج5، ص484 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص322 المطبعة السلفية وانظر الكافي لابن قدامة ج3، ص375 الناشر المكتب الإسلامي، وانظر الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ج9، ص402.
[195] انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ح2، ص98 طبع سنة 1333هـ.
[196] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص591 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج5، ص482 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[197] من آية 233 من سورة البقرة.
[198] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص591 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[199] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص585 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص117 الناشر مكتبة المعارف بالرياض. وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص236 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض. وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج5، ص481، 482 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[200] انظر الإنصاف ج9، ص392 وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج7، ص117 الناشر مكتبة المعارف بالرياض.
[201] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص499 دار إحياء التراث العربي وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص222 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص223 طبع دار إحياء التراث العربي.
[202] انظر مغني المحتاج ج3، ص450 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص87 طبع دار إحياء الكتب العربية وانظر نهاية المحتاج ج7، ص223 مطبعة الحلبي.(/53)
[203] انظر بلغة السالك ج1، ص526 مطبعة الحلبي وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص524 مطبعة الحلبي وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص98، 100 طبع سنة 1332هـ المطبعة الجمالية بمصر.
[204] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص499، 5000 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص623 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص64 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص564، 566 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص222 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص223 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص32 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[205] انظر القوانين الفقهية لابن جزي ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة وانظر بلغة السالك ج1، ص526 مطبعة الحلبي وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص523 مطبعة الحلبي وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص98، 100 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر.
[206] انظر مغني المحتاج ج3، ص450 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر قليوبي وعميره ج4، ص87 طبع دار إحياء الكتب العربية وانظر نهاية المحتاج ج7، ص223 مطبعة الحلبي.
[207] انظر القوانين الفقهية لابن جزي ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة وانظر بلغة السالك ج1، ص526 مطبعة الحلبي وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص524 مطبعة الحلبي وانظر شرح الرسالة ج2، ص98، 100.
[208] انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص524 مطبعة الحلبي.
[209] انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص500 وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص623 وانظر الفتاوى الهندية ج1، 565.
[210] انظر القوانين الفقهية لابن جزي ص148 وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص523 مطبعة الحلبي.(/54)
[211] انظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 وانظر بلغة السالك ج1، ص525 وانظر حاشية العدوي ج2، ص124. وانظر حاشية الدسوقي ج2، ص522.
[212] الرحم غير المحرم نحو ابن العم والمحرم غير الرحم كالأخ من الرضاع والأخت من الرضاعة وكذا الرحم المحرم من غير القرابة كابن عم وأخ من الرضاعة فهؤلاء لا تجب لهم النفقة عند الحنفية/ انظر الفتاوى الهندية ج1، ص566 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ.
[213] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص627 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص64 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص565 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج1، ص224 طبع دار إحياء التراث العربي.
[214] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص628 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[215] انظر الإنصاف ج9، ص395 وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص586 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص118، الناشر مكتبة المعارف بالرياض. وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص321 الناشر المكتبة السلفية. وانظر منتهى الإرادات ج2، ص379 طبع عالم الكتب. وانظر الكافي لابن قدامة ج3، ص374 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع ج5، ص481 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[216] انظر الإنصاف ج9، ص393 وانظر المغنى لابن قدامة ج7، ص584 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص117 الناشر مكتبة المعارف بالرياض وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص319 الناشر المكتبة السلفية، وانظر منتهى الإرادات ج2، ص379 طبع عالم الكتب وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص236 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض. وانظر الكافي في الفقه لابن قدامة ج3، ص373 الناشر المكتب الإسلامي، وانظر كشاف القناع ج5، ص481 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[217] انظر الإنصاف ج9، ص393.(/55)
[218] انظر الإنصاف ج9، ص394 وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص117 الناشر مكتبة المعارف بالرياض، وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص593 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[219] انظر الإنصاف ج9، ص394 وانظر المحرر من الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص117 الناشر مكتبة المعارف بالرياض.
[220] انظر الإنصاف ج9، ص394.
[221] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص629 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص566 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ.
[222] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص628 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص64 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص565 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر بدائع الصنائع ج4، ص34 الطبعة الثانية سنة 1402هـ، وانظر الإنصاف ج9، ص396 وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص584 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر منتهى الإرادات ج2، ص379 طبع عالم الكتب وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص237 وانظر الكافي لابن قدامة ج3، ص374 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع ج5، ص482 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[223] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص627، 629 المطبعة الثانية سنة 1386هـ. وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص64 طبع سنة 1313هـ وانظر بدائع الصنائع ج4، ص35 الطبعة الثانية سنة 1407هـ.
[224] انظر بدائع الصنائع ج4، ص35 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[225] انظر المرجع السابق.
[226] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص584 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر منتهى الإرادات ج2، ص379 طبع عالم الكتب وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص237 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الكافي لابن قدامة ج3، ص375 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع ج5، ص482 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[227] انظر ص36 رقم 1 من كتب المذهب الحنفي.(/56)
[228] انظر ص36 رقم (4).
[229] انظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص628، 629 الطبعة الأولى سنة 1398هـ وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص99، 100 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر. وانظر حاشية العدوي ج2، ص122، 123 مطبعة الحلبي وانظر كفاية الطالب الرباني ج3، ص23، 23 صبيح بمصر.
[230] انظر مغني المحتاج ج3، ص447 دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2 ص345 طبع دار المعرفة وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص140 مطبعة الحلبي.
وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
[231] أخرجه مسلم عن جابر في كتاب الزكاة باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم الأهل ثم الأقارب/ صحيح مسلم شرح النووي ج7، ص83 المطبعة المصرية وأخرجه النسائي عن أبي هريرة في كتاب الزكاة باب الصدقة عن ظهر غنى/ سنن النسائي ج5، ص62 طبع دار إحياء التراث العربي.
[232] انظر المجموع شرح المهذب ج17، 177 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
[233] انظر المرجع السابق ج17، ص172، 177.
[234] من آية 233 من سورة البقرة.
[235] انظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص345 طبع دار المعرفة.
[236] من آية 233 من سورة البقرة.
[237] انظر الجامع لأحكام القرآن ج3، ص168 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر زاد المسير في علم التفسير ج1، ص272، 273 الناشر المكتب الإسلامي.
[238] من آية 233 من سورة البقرة.
[239] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص629 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص64 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص66 الطبعة الثالث سنة 1400هـ وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص218 الناشر مكتبة الرياض الحديثة – بالرياض.(/57)
[240] محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني ولد بواسط وصحب أبا حنيفة وعنه أخذ الفقه ثم عن أبي يوسف وله كتب عديدة وهو الذي نشر علم أبي حنيفة فيمن نشره وسمع الحديث من مالك والشافعي ومن مؤلفاته كتاب الأصل أملاه على أصحابه والجامع الكبير والجامع الصغير والسير الكبير وتوفي بالري سنة 189هـ وعمره 58 سنة انظر تاج التراجم في طبقات الحنفية ص54 طبع سنة 1962م.
[241] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص53، 54 طبع سنة 1313هـ وانظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص487 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص588، 589 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص547 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص181 طبع دار المعرفة وانظر بدائع الصنائع ج4، ص24 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[242] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص54 طبع سنة 1313هـ وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص588 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص190 طبع دار المعرفة.
[243] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص54 طبع سنة 1313هـ وانظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص487 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص588 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[244] انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص510 مطبعة الحلبي وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص100 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر وانظر حاشية العدوي ج2، ص124 مطبعة الحلبي وانظر كفاية الطالب الرباني ج3، ص24 مطبعة الصبيح بمصر.
[245] انظر مغني المحتاج ج3، ص432، 434 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج3، ص432 مطبعة الحلبي وانظر نهاية المحتاج ج7، ص197 مطبعة الحلبي.(/58)
[246] انظر الإنصاف ج9، ص357 وانظر كشاف القناع ج5، ص463 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض وانظر الكافي لابن قدامة ج3، ص364 الناشر المكتب الإسلامي.
[247] من آية 19 من سورة النساء.
[248] انظر كشاف القناع ج5، ص463 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض. وانظر مغني المحتاج ج3، ص432 وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص146 وانظر نهاية المحتاج ج7، ص197.
[249] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص53 طبع سنة 1313هـ.
[250] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص181 طبع دار المعرفة.
[251] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص54 طبع سنة 1313هـ.
[252] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص589 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[253] انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص511 مطبعة الحلبي وانظر حاشية العدوي ج2، ص124 مطبعة الحلبي.
[254] انظر الإنصاف ج9، ص357 وانظر كشاف القناع ج5، ص463 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض وانظر الكافي لابن قدامة ج3، ص364 الناشر المكتب الإسلامي.
[255] انظر مغني المحتاج ص432، 434 وانظر الإقناع ج2، ص146 وانظر نهاية المحتاج ج7، ص197.
[256] أبو يوسف: هو يعقوب بن إبراهيم أخذ الفقه من أبي حنيفة وتولى القضاء وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض وله مصنفات في الفقه وفي أصوله توفي ببغداد سنة 182هـ انظر طبقات الفقهاء لزاده ص15 طبع سنة 1961م وانظر الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية ج2، ص220 الطبعة الأولى.
[257] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص54 طبع سنة 1313هـ وانظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1، ص487 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص589 الطبعة الثانية سنة 1386هـ وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص547 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص181 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص201 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص24 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.(/59)
[258] انظر حاشية ابن عابدين ج3، ص590 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
[259] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص54 وانظر مجمع الأنهر ج1، ص487 وانظر حاشية ابن عابدين ج3، ص590.
[260] انظر حاشية الدسوقي ج2، ص510 وانظر شرح الرسالة ج2، ص100.
[261] انظر مغني المحتاج ج3، ص432 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7، ص197 مطبعة الحلبي.
[262] انظر نهاية المحتاج ج7، ص197 مطبعة الحلبي.
[263] انظر الكافي لابن قدامة ج3، ص364 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع ج5، ص463 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[264] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص54 طبع سنة 1313هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص181 طبع دار المعرفة.
[265] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص181 طبع دار المعرفة.
[266] انظر بدائع الصنائع ج4، ص24 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[267] انظر الكافي لابن قدامة ج3، ص364 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع ج5، ص463 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[268] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص65 طبع سنة 1313هـ وانظر الفتاوى الهندية ج3، ص568 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص229 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص38 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
وانظر القوانين الفقهية لابن جزي ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة وانظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص629 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر بلغة السالك ج1، ص525 مطبعة الحلبي وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص522 مطبعة الحلبي وانظر حاشية العدوي ج2، ص124 مطبعة الحلبي وانظر كفاية الطالب الرباني ج3، ص24 مطبعة صبيح بمصر.(/60)
وانظر مغني المحتاج ج3، ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص347 طبع دار المعرفة وانظر المعرفة وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص141 مطبعة الحلبي وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص92 طبع دار إحياء الكتب العربية وانظر المجموع في شرح المهذب ج17، ص195 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة وانظر نهاية المحتاج ج7، ص235 مطبعة الحلبي.
وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص629 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص121 الناشر مكتبة المعارف بالرياض وانظر الإنصاف ج9، ص408 وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص325 المطبعة السلفية وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص241 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر منتهى الإرادات ج2، ص382 طبع عالم الكتب وانظر الكافي لابن قدامة ج3، ص388 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع ج5، ص488.
[269] انظر الفتاوى الهندية ج3، ص568 وانظر بدائع الصنائع ج4، ص39 وانظر بلغة السالك ج1، ص525 وانظر حاشية الدسوقي ج2، ص522 وانظر حاشية العدوي ج2، ص124 وانظر مغني المحتاج ج2، ص460 وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص347 وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص141 وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص92 وانظر نهاية المحتاج ج7، ص235.
وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص631 وانظر كشاف القناع ج5، ص488.
[270] انظر المبسوط ج5، ص199 وانظر بلغة السالك ج1، ص525 وانظر حاشية الدسوقي ج2، ص522 وانظر حاشية العدوي ج2، ص124 وانظر مغني المحتاج ج3، ص460 وانظر نهاية المحتاج ج7، ص236 وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص92 وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص141.
[271] انظر بدائع الصنائع ج4، ص39 الطبعة الثانية سنة 1402هـ، وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص347 طبع دار المعرفة. وانظر نهاية المحتاج ج7، ص235 مطبعة الحلبي، وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص631 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.(/61)
[272] آية 36 من سورة النساء.
[273] انظر بدائع الصنائع ج4، ص39 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[274] انظر المرجع السابق.
[275] أبو ذر جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حزم الغفاري الصحابي من كبار الصحابة وفضلائهم قديم الإسلام يضرب به المثل في الصدق ذهب إلى الشام بعد وفاة الرسول r ورجع إلى المدينة أيام عثمان وتوفي سنة 32هـ انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج2، ص186 طبعة سنة 1280هـ.
[276] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب المعاصي من أمر الجاهلية/ فتح الباري شرح صحيح البخاري ج1، ص84 المطبعة السلفية.
وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب صحبة المماليك/ صحيح مسلم بشرح النووي ج11، ص133، 134 المطبعة المصرية.
وأخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في حق المملوك/ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج14، ص67 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
[277] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص65 طبع سنة 1313هـ.
وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص629 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[278] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب صحبة المماليك صحيح مسلم بشرح النووي ج11، ص134 المطبعة المصرية.
وأخرجه مالك في كتاب الاستيذان في باب الأمر بالرفق بالمملوك/ موطأ الإمام مالك ص695 الناشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض وأخرجه أحمد في مسنده ج2، ص247 الناشر المكتب الإسلامي.(/62)
[279] انظر مغني المحتاج ج3، ص460 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص141 مطبعة الحلبي وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص195 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة وانظر نهاية المحتاج ج7، ص235 مطبعة الحلبي وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص629 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص241 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الكافي لابن قدامة ج3، ص388 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع ج5، ص488 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض وانظر كفاية الطالب الرباني ج4، ص170 مطبعة صبيح بمصر.
[280] علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم القرشي ابن عم الرسول r وهو أول الفتيان إسلاماُ وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً وجميع المشاهد مع رسول الله r إلا تبوكاً حيث خلفه الرسول على أهله وتزوج ابنة الرسول فاطمة وهو أحد علماء الصحابة وتولى الخلافة بعد وفاة عثمان رضي الله عنهما وحدثت في عهده بعض الفتن وقتله عبدالرحمن بن ملجم سنة 40 من الهجرة. أنظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج4، ص16 طبع سنة 1286هـ.
[281] أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في حق المملوك/ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج14، ص64 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الوصايا باب هل أوصى رسول الله r/ سنن ابن ماجه ج2، ص901 طبع دار إحياء التراث العربي.
وأخرجه أحمد في مسنده ج1، ص78 الناشر المكتب الإسلامي.
[282] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص65 طبع سنة 1313هـ.(/63)
[283] أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاري الخزرجي البخاري خادم رسول الله r وكان عمره لما قدم r مهاجراً عشر سنين وقيل تسع سنين وتوفي r وهو ابن عشرين سنة ودعا له رسول الله r بكثرة المال والولد فولد له من صلبه ثمانون ذكراً وابنتان ومات وله من ولده وولد ولده 121 ولداً. وتوفي سنة 93 سنة على قول وهو آخر من توفي من الصحابة بالبصرة ودفن هناك انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج1، ص127 طبع سنة 1286هـ.
[284] أخرجها ابن ماجه في كتاب الوصايا باب هل أوصى رسول الله r وفي الزوائد إسناده حسن لقصور أحمد بن المقدام عن درجة أهل الضبط وباقي رجاله على شرط الشيخين/ سنن ابن ماجه ج2، ص901 طبع دار إحياء التراث العربي.
[285] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص65 طبع سنة 1313هـ وانظر بدائع الصنائع ج4، ص39 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[286] انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود ج14، ص64 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
[287] ابن عمرو: عبدالله بن عمرو بن العاص كان أصغر من أبيه بعشرين سنة أسلم قبل أبيه وكان فاضلاً عالماً حافظاً لحديث رسول الله r وتوفي سنة 55هـ وقيل غير ذلك وعمره 72 سنة.
انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3، ص233 طبع سنة 1286هـ.
[288] أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب في صلة الرحم وقد سكت عنه قال المنذري وأخرجه النسائي/ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج5، ص111 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
وأخرجه أحمد في مسنده ج2، ص160 الناشر المكتب الإسلامي.
وأخرجه الحاكم في كتاب الزكاة باب كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت وصحح إسناده الحاكم وصححه الذهبي أيضاً/ المستدرك ج1، ص415.
[289] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص65 طبع سنة 1313هـ.
[290] لمسلم عن عبدالله بن عمرو في كتاب الزكاة باب فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم/ صحيح مسلم بشرح النووي ج7، ص82 المطبعة المصرية.(/64)
[291] انظر مغني المحتاج ج3، ص460 طبع دار إحياء التراث العربي.
[292] انظر مغني لابن قدامة ج7، ص630 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص229 طبع دار إحياء التراث العربي.
وانظر بدائع الصنائع ج4، ص39 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[293] الشعبي عامر بن شراحيل أبو عمرو الكوفي. ولد لست سنين مضت من خلافة عمر على المشهور وأدرك خمسمائة من الصحابة ومات سنة 103 من الهجرة انظر طبقات الحفاظ للسيوطي ص32 المطبعة الأولى سنة 1393هـ.
[294] انظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص229 طبع دار إحياء التراث العربي.
[295] انظر بدائع الصنائع ج4، ص39 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[296] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص630 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[297] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص65 طبع سنة 1313هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5، ص191، 192 طبع دار المعرفة وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص230 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الفتاوى الهندية ج3، ص568 وانظر بلغة السالك ج1، ص525 مطبعة الحلبي وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص522 مطبعة الحلبي وانظر المغني لابن قدامة ج7، ص632 وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص121 وانظر الإنصاف ج9، ص412 وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص326 وانظر كشاف القناع ج5، ص489.
[298] انظر حاشية الشرقاوي ج2، ص347 طبع دار المعرفة. وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص142 مطبعة الحلبي، وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص93 طبع دار إحياء التراث العربي، وانظر نهاية المحتاج ج7، ص573، 238 مطبعة الحلبي.
[299] انظر الفتاوى الهندية ج1، ص573، الطبعة الثالثة سنة 1400هـ.
[300] انظر القوانين الفقهية لابن جزي ص148 الناشر عباس الباز مكة المكرمة.
وانظر بلغة السالك ج1، ص525 مطبعة الحلبي وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص522 مطبعة الحلبي.(/65)
[301] انظر مغني المحتاج ج3، ص463 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص347 طبع دار المعرفة وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص141 مطبعة الحلبي.
وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص94 طبع دار إحياء الكتب العربية، وانظر نهاية المحتاج ج7، ص241 مطبعة الحلبي وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص198 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
[302] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص634 الناشر مكتبة الرياض الحديثة وانظر الإنصاف ج9، ص414 وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص121 الناشر مكتبة المعارف بالرياض وانظر منتهى الإرادات ج2، ص385 طبع عالم الكتب وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص244 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الكافي لابن قدامة ج3، ص390 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف الإقناع عن متن الإقناع ج5، ص493 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[303] انظر الإنصاف ج9، ص414.
[304] ابن عمر: عبدالله بن عمر بن الخطاب القرشي ولد قبل البعثة بسنة أسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم وهاجر إلى المدينة قبل هجرة أبيه ولم يشهد بدراً لصغر سنه وكان كثير الإتباع لآثار الرسول r وتوفي وعمره ستة وثمانون سنة. انظر أسد الغابة ج3، ص227 طبع سنة 1286هـ.
[305] أخرجه البخاري في كتاب المساقاة باب فضل سقي الماء/ فتح الباري شرح صحيح البخاري ج5، ص41 المطبعة السلفية.
وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم تعذيب العرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي/ صحيح مسلم بشرح النووي ج16، ص172 المطبعة المصرية.
وأخرج نحوه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في صلاة الكسوف/ سنن ابن ماجه ج1، ص402 طبع دار إحياء التراث العربي سنة 1395هـ وأخرجه أحمد عن أبي هريرة انظر مسند الإمام أحمد ج2، ص424 الناشر المكتب الإسلامي.(/66)
[306] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص634 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص244 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الكافي في الفقه لابن قدامة ج3، ص390 الناشر المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج5، ص493 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص221 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر مغني المحتاج ج3، ص463 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص142 مطبعة الحلبي وانظر المجموع شرح المهذب ج17، 198 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة وانظر نهاية المحتاج ج7، ص241 مطبعة الحلبي.
[307] سبق تخريجه.
[308] انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص101 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر.
[309] أخرجه أبو داود من حديث لأبي ذر رضي الله عنه في كتاب الأدب باب في حق المملوك وقد سكت عنه/ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج14، ص66 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
وأخرجه أحمد في مسنده ح5، ص168، 172 الناشر المكتب الإسلامي.
[310] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص66 طبع سنة 1312هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص221 طبع دار إحياء التراث العربي.
[311] المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي أسلم عام الخندق وشهد الحديبية وكان موصوفاً بالدهاء ولاه عمر بن الخطاب البصرة ثم ولاه الكوفة، وشهد اليمامة وفتوح الشام وذهبت عينه باليرموك وشهد القادسية وفتح نهاوند وفتح همدان.
واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان وتوفي بالكوفة سنة 50 للهجرة انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج4، ص406 طبع سنة 1286هـ.(/67)
[312] أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب قول الله تعالى ولا يسألون الناس إلحافاً/ فتح الباري شرح صحيح البخاري ج3، ص340 المطبعة السلفية. وأخرجه مسلم من كتاب الأقضية باب النهي عن كثرة المسائل صحيح مسلم بشرح النووي ج12، ص12 المطبعة المصرية وأخرجه الدارمي في كتاب الرقائق باب إن الله كره قيل وقال/ سنن الدارمي ج2، ص20 الناشر دار الباز بمكة، وأخرجه أحمد في مسنده ج2، ص250، 251، 255 الناشر المكتب الإسلامي.
[313] انظر المرجع السابق.
[314] انظر مغني المحتاج ج2، ص463 وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص347 وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص142 وانظر نهاية المحتاج ج7، ص241.
[315] أخرجه البخاري في كتاب المساقاة باب فضل سقي الماء/ فتح الباري شرح صحيح البخاري 5 ص40 المطبعة السلفية.
وأخرجه مسلم في كتاب قتل الحيات وغيرها باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها صحيح مسلم بشرح النووي ج15، ص241 المطبعة المصرية.
وأخرجه أبو داود في كتاب الجهاد باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم/ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج7، ص222 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ وأخرجه مالك في كتاب الجامع فيما جاء في صفة النبي r باب جامع ما جاء في الطعام والشراب/ موطأ الإمام مالك ص665 الطبعة السابعة سنة 1404هـ.
وأخرجه أحمد في مسنده ج2، ص517 الناشر المكتب الإسلامي.
[316] ابن حجر: أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي الكناني العسقلاني ولد سنة 773هـ طلب أولاً الأدب والشعر فبلغ فيه الغاية ثم طلب الحديث سنة 794هـ وترحل وبرع في الحديث وصنف فتح الباري شرح صحيح البخاري وتعليق التعليق وتهذيب التهذيب والإصابة في تمييز الصحابة وأسباب النزول وغيرها تزيد على المائة وتولى القضاء والتدريس وتوفي سنة 852هـ.
انظر طبقات الحفاظ للسيوطي ص548 طبع سنة 1313هـ.
[317] انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج5، ص42 المطبعة السلفية.(/68)
[318] انظر مغني المحتاج ج3، ص464 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص142 مطبعة الحلبي وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص94 طبع دار إحياء الكتب العربية وانظر المجموع شرح المهذب ج17، ص198 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة وانظر نهاية المحتاج ج7، ص242 مطبعة الحلبي.
[319] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص634 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الإنصاف ج9، ص415 وانظر المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد ج2، ص121 الناشر مكتبة المعارف بالرياض وانظر المقنع لابن قدامة ج3، ص326 المطبعة السلفية وانظر منتهى الإرادات ج2، ص385 طبع عالم الكتب وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص245 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر الكافي لابن قدامة ج3، ص390 المكتب الإسلامي وانظر كشاف القناع ج5، ص494.
[320] انظر القوانين الفقهية لابن جزي ص148 الناشر عباس الباز بمكة وانظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2، ص630 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر بلغة السالك ج1، ص525 مطبعة الحلبي وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص101 طبع سنة 1332هـ المطبعة الجمالية بمصر.
[321] انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص101.
[322] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص66 طبع سنة 1313هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص231 طبع دار إحياء التراث العربي.
[323] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص635 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
[324] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص66 طبع سنة 1313هـ.
وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص230، 231 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر الفتاوى الهندية ج1، ص573 الطبعة الثالثة سنة 1400هـ.
وانظر بدائع الصنائع ج4، ص40 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[325] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص66 طبع سنة 1313هـ.
وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص231 طبع دار إحياء التراث العربي.(/69)
[326] انظر بلغة السالك ج1، ص525 مطبعة الحلبي وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2، ص522 مطبعة الحلبي وانظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص101 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر.
[327] سبق تخريجه.
[328] سبق تخريجه.
[329] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص66 طبع سنة 1313هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص231 طبع دار إحياء التراث العربي.
[330] انظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص230 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص40 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[331] انظر الأحكام السلطانية للماوردي ص80، 81 طبع دار الكتب العلمية.
[332] انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص101 طبع سنة 1322هـ بالمطبعة الجمالية بمصر.
[333] سبق تخريجه.
[334] سبق تخريجها.
[335] انظر المرجع السابق.
[336] انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2، ص101 طبع سنة 1332هـ بالمطبعة الجمالية بمصر.
[337] انظر بدائع الصنائع ج4، ص40 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[338] انظر مغني المحتاج ج3، ص464 طبع دار إحياء التراث العربي.
[339] انظر بدائع الصنائع ج4، ص40 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[340] انظر كشاف الإقناع عن متن الإقناع ج5، ص494 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[341] انظر مغني المحتاج ج3، ص64 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص347 طبع دار المعرفة وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص142 مطبعة الحلبي وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص94 طبع دار إحياء الكتب العربية وانظر نهاية المحتاج ج7، ص242 مطبعة الحلبي.
[342] انظر الإنصاف ج9، ص415 وانظر المقنع لابن قدامة ج2، ص385 المطبعة السلفية وانظر الروض المربع مع حاشية العنقري ج3، ص245 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر كشاف القناع ج5، ص494 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.(/70)
[343] انظر مغني المحتاج ج3، ص493 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص347.
[344] انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3، ص66 طبع سنة 1313هـ وانظر فتح القدير لابن الهمام ج4، ص231 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر بدائع الصنائع ج4، ص40 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
[345] انظر مغني المحتاج ج3، ص464 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2، ص347 طبع دار المعرفة وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص142، مطبعة الحلبي وانظر قليوبي وعميرة ج4، ص95 طبع دار إحياء الكتب العربية وانظر نهاية المحتاج ج7، ص143 مطبعة الحلبي.
[346] انظر المغني لابن قدامة ج7، ص635 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج5، ص495 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
[347] انظر حاشية الشرقاوي ح2، ص348 طبع دار المعرفة.(/71)
العنوان: النقطة المضيئة
رقم المقالة: 457
صاحب المقالة: ملك الحافظ
-----------------------------------------
في إهاب كل إنسان – مهما صَغُر شأنُه – نقطة مضيئة، هي بحاجة إلى عين خبيرة لتبحثَ عنها وتدقِّقَ النَّظَر فيها، وتدرك من خلالها عظمة الخالق – جل وعلا – الذي أضفى على مخلوقاته أسرارًا لا يعرفها إلا من نَظَر بنور الله!!
جاءتا إليَّ كمجيء الربيع بعد شتاء طويل، تصافحت أيدينا، وتعانقت قلوبنا، وضمَّتنا جلسة علمية أدبية تأرّج في أجوائها عبير المودة الخالصة.
تحدثنا طويلاً في شؤون العلم والمدرسة والمعلمات والطالبات، وفجأة قطعت إحداهما حبل الحديث قائلة: أريد – يا معلمتي – أن أسألك سؤالاً، وأريدك أن تجيبي عنه بصراحة وصدق وبلا مجاملة.
قلت: اسألي ما بدا لك.
قالت: أنا أستغرب كيف تضيّعين وقتك الثمين معنا! فنحن بالنسبة لك لا شيء، فأنت أكبر سنًا، وأنضج عقلاً، وأوسع علمًا، وأعلى قدرًا، وما نحن إلا طالبتان في بداية المرحلة الثانوية، فكيف تجلسين معنا وتحاوريننا؟؟
أحسست بنوبة من الخجل تنتابني،
قلتُ وقد افترَّ ثغري عن ابتسامة صافية: ومَنْ قال لكِ إني أضيِّعُ وقتي معكما، فأنا أتعلّم منكما بقدر ما تتعلّمان مني؟؟!!
شهقت محدثتي باستغراب شديد، وقالت بلهجة فيها الكثير من الاستنكار والتواضع: تتعلّمين منا؟ وماذا تتعلّمين؟ ومَن نحن حتى تتعلّمي منا؟؟!
أجبتُها بلهجة هادئة واثقة محاولة تهدئة عواطفها المشبوبة وثورتها الجموح: إن جلستي معكما إنْ لم تكسبني معلومات جديدة فإنها تساعدني على استرجاع معلوماتي المختزنة في ذاكرتي منذ وقت ليس بالقصير، والآن خرجت من مَكْمَنِها ورأت النور، وتوالدت من خلال حواري معكما، فالعلم يزكو بالإنفاق، مثله مثل مال الزكاة تمامًا.(/1)
ولقد قيل: رُبَّ أستاذ حارَ في سؤال تلميذ. ومعنى ذلك أن المعلومات ليست وقفًا على الدارسين، فالعقل البشري يعمل دائماً، وقد يفيد من موقف عابر فيَصوغ مثلاً، وقد يأخذ العبرة من حَدَثٍ غريب فيعطي حكمة، وكل إنسان – مهما ضعف شأنه – لابدَّ أن يملك رصيدًا فكريًا ولو يسيراً يفيد به الآخرين، وقد تُومض فكرة في رأس إنسان يكون لها أثر كبير في تغيير مسار إنسان آخر.
إنني أجلس معكما، ولكني أرى المستقبل من خلالكما، فالعاقل ينبغي ألا ينظر إلى الحاضر فحسب بل يتخطاه إلى المستقبل، وألا ينظر إلى الحدث منفصلاً عن غيره، بل متصلاً بما قبله وبما بعده، أي ينظر إلى الأمور جملة نظرة شاملة عميقة، وهذا هو سر جلوسي معكما والتحدث إليكما.
قالت مستفسرة: كيف؟! أنا لا أفهم؟
قلت موضّحة: لا بأس، أنتِ الآن طالبة في بداية المرحلة الثانوية، ومتفوِّقة، فإذا حافظت على مستواك فستتخرجين في المستقبل بإذن الله طبيبة أو مهندسة، وهذا مما يدفعني ويشجعني على الجلوس معكِ، فأنا أقرأ فيك المستقبل المشرق بإذن الله. أما أنا فأمثّل الماضي، وقد يكون للماضي جلاله وجماله، وقد تكون له قدسيته، لكنه ينبغي ألا يشغلنا عن الحاضر والمستقبل، وأنت وزميلتك وغيركما مفاتيح المستقبل الآتي.
نظرت محدّثتي إليَّ دهشة لكنها مقتنعة، ثم تمتمت: أيّ سرٍّ فيكِ!!!
قلت مصحِّحةً لها نظرتها السريعة: كل مخلوق هو سرٌّ من أسرار الله، ومهما صغر شأن الإنسان لابد أن يحمل في طيَّات ذاته ميزة خاصة، وعلامة مميّزة، وأنا أحترم الإنسان لتلك العلامة التي يحملها والتي مَهَرَتْها يد الخالق بتوقيعها.(/2)
انظري إلى إنسان قبيح قميء تتحاشاه العيون، ودقّقي النظر فيه وتعاملي معه عن قرب، تجدي فيه صفة جميلة ترفعه في نظرك، وهذه هي النقطة المضيئة في تكوين كل إنسان، ولكنّ هذه النقطة المضيئة المشعّة لا تتجلى لسائر العيون بل للعين المتفتّحة، والبصيرة النفّاذة، ولذلك قال الفلاسفة: (الحقيقة لا تتجلى إلا للإنسان المنتبه).
فإذا اكتشفنا هذه المنطقة واستطعنا أن نمرر التيار من خلالها توهّجت وأضاءت حياةَ صاحبِها كلَّها.
إن الإنسان الذي أعطي الحكمة ليس في حقيقة الأمر إلا ذلك الذي أعطي العين التي ترى الأشياء في جُملتها لا في جزء منها، وفي تعاقبها لا في وقوفها، وفي عُمقها لا في قشورها، وليس هذا بالأمر السهل، إنه للبشر من أصعب الأمور، ومن أجل هذا كانت الحكمة في الأرض نادرة، لأن الحكمة وحدها هي التي ترى الحقيقة الكاملة.
ولأضرب لك مثالاً على ذلك. يقول الفيلسوف الصيني (لي هتز):(/3)
((فوق تلٍّ من تلال غابة نائية كان يعيش رجل شيخ مع ابن له وجواد، ذات صباح هرب الجواد واختفى؛ فأقبل الجيران على الشيخ يعزّونه بنكبته، فقال لهم الشيخ: ومن أدراكم أنها نكبة؟ فصمتوا وانصرفوا واجمين! ولم تمض أيام حتى عاد الجواد إلى صاحبه مصطحبًا معه العديد من الخيول البرّية؛ فعاد الجيران إلى الشيخ فرحين مهنئين بهذا الغُنم الموفور، وهذا الحظ السعيد، فنظر إليهم الشيخ بهدوء وقال: ومن أدراكم أنه حظٌ سعيد؟ فسكتوا مذهولين، وانصرفوا متحيّرين!! ومرَّت الأيام، أخذ ابن الشيخ يروّض الخيول، فامتطى منها جوادًا عنيدًا، فسقط من فوق صهوته إلى الأرض فكُسِرتْ ساقُه، فرجع الجيران مرّةً أخرى إلى الشيخ محزونين، يبثّونه ألمهم لما وقع لولده، ويعزّونه في هذا الحظ العاثر، فقال لهم الشيخ: ومن أدراكم أنه حظٌّ عاثر؟ فانصرفوا صامتين!! ومضى عام، وإذا الحرب العالمية تقوم، وجُنِّد الشباب وأرسلوا إلى الميدان، فلاقى أكثرهم حتفه إلا ابن الشيخ، فإنَّ العرج الذي بقدمه أعفاه من الذهاب إلى الحرب؛ وأنقذه من ملاقاة الموت!!)).
انصرفت محدّثتي مع زميلتها، وتركتاني وحدي أتحاور مع الورقة والقلم لأكتب حصيلة هذه الجلسة التي تعلّمت منها أن التّواضع سرُّ التواصل مع الآخرين، وأن عمق النظرة هو الذي يرينا الحقيقة الكاملة، وأن الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها التقطها!!(/4)
العنوان: النكت الظريفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة
رقم المقالة: 900
صاحب المقالة: د. بلة الحسن عمر مساعد
-----------------------------------------
ترجيح المذهب المسمى: النكت الظريفة في ترجيح
مذهب أبي حنيفة لأكمل الدين البابرتي
ملخص البحث:
هذا البحث تحقيق لكتاب في الفقه اسمه" ترجيح المذهب أو النكت الظريفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة".
مؤلف هذا الكتاب أكمل الدين محمد بن محمد بن أحمد البابرتي المصرى الحنفي، المتوفى سنة 786هـ.
الغرض من تأليف هذا الكتاب كما بين مؤلفه بقوله: أشار إلى بعض الإخوان أن أكتب رسالة تقوي اعتقاد ضعفة المذهب في مذهب إمامهم وتعرف ما الناس عليه... من الاحتياج إلى هذا المذهب فكتبتها مشتملة على مقدمة ومقصد وخاتمة.
وتظهر أهمية هذا الكتاب من المسائل التي اختارها المؤلف، ليعرض فيها الخلاف الفقهي والمعايير التي أشار إلهيا لترجيح مذهبه على غيره، مما يجعل القاري أمام فقه الخلاف يختار ما يراه راجحاً.
وقد أشار المؤلف في المقدمة إلى مصادر المذهب الحنفي من اعتماده أولاً على الكتاب والسنة ثم القياس، والإجماع. وقد بينت في المقدمة أن هذا النوع من التأليف يعد أنموذجا من مناصرة الأتباع لمذاهبهم. وكان ذلك معهوداً لدى العلماء على مر العصور، ولا يعاب هذا المسلك إلا إذا شابه التعصب المذهبي.
وعلقت على المسائل التي تحتاج إلى تعليق، وذكرت أرقام الآيات وأسماء سورها وخرجت الأحاديث وعزوت الأقوال إلى أصحابها، وعرفت بالأعلام وجعلت خاتمة للتحقيق، جمعت فيها المعايير التي ذكرها المؤلف لترجيح مذهبه وعلقت عليها،وختمت بالفهارس.
مقدمة التحقيق:
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله ومن والاه، وصحبه الهداة المهديين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(/1)
أما بعد: فمنذ أن تأسست المذاهب الفقهية على يد الأئمة الذين بلغوا درجة الاجتهاد المطلق، وأصلوا قواعد مذاهبهم وخططوا مناهج استدلالهم، كان لكل مذهب أتباعه من المجتهدين المقيدين المنتسبين، ومن المقلدين الذين لم يصلوا إلى درجة الاجتهاد.
وكثيراً ما يقف الأتباع مواقف لمناصرة مذهبهم ودعمه، فيكون لتلك المواقف أثر في ترجيح المذهب أو نشره في بيئته أو أي بلد ما. وأحياناً تكون المناصرة من الحكام أو الأمراء الذين يختارون مذهبا ما.
وتمثلت مناصرة العلماء للمذهب الذي ينتمون إليه في عدة وجوه منها: قيامهم بتدريس فروع المذهب وأصوله ونشر أحكامه، أو حرص بعضهم على إفتاء الناس بفروعه وعلى القضاء بين المتنازعين بأحكامه.وتارة عن طريق المناظرة، أو التأليف في فروع المذهب مقارنة بفروع مذهب آخر.
وهذا العلامة أكمل الدين البابرتي أحد أئمة المذهب الحنفي في عصره – القرن الثامن الهجري – يكتب ضمن تصانيفه العديدة رسالة في ترجيح مذهب الإمام أبي حنيفة، سميت من بعده (بالنكت الظريفة)[1] في ترجيح مذهب أبي حنيفة.
وقد اطلعت على نسخ مخطوطة لهذه الرسالة، فرأيتها جديرة بالتحقيق والتعليق لما تضمنته من مسائل وقضايا هامة مع صغر حجمها.
وقد ذكر المؤلف أسباب تأليفه لها، منها تقوية اعتقاد أتباع المذهب في مذهبهم، وذلك لما شاع من ادعاء – كما يقول المؤلف – بأن أبا حنيفة لم يعلم أحاديث البخاري، وخالف أحاديث سيد المرسلين.
هذا وقد جعل المؤلف رسالته مشتملة على مقدمة ومقصد وخاتمة.
أما المقدمة ففي أسباب ترجيح تقليد الإمام أبي حنيفة على غيره، وذلك في ثلاثة مباحث.
وأما المقصد فذكر فيه مسائل يرى أنها توجب تقديم مذهب الإمام أبي حنيفة على غيره وخاصة على المذهب الشافعي الذي عقد المقارنة معه. فأورد ست عشرة مسألة، بدأها بمسألة الإيمان وهل يشمل التصديق والإقرار فقط أو أن الأعمال داخلة في مسماه.(/2)
أما بقية المسائل فقسمها على أبواب الفقه، عرض في كل مسألة رأي الإمام أبي حنيفة ورأي الإمام الشافعي مرجحاً مذهب الإمام أبي حنيفة في كل واحدة منها.
وأما الخاتمة وجهها – كرسالة إلى ملك مصر – أنذاك - عرض فهيا بالغرض من هذا المؤلف، ملتمساً منه النظر في هذا المذهب الحنفي، ليكون المذهب المقتدي به في أصول الشرائع وفروعها.
وقد تناول أبن أبي العز الحنفي، ت: 792هـ - رسالة البابرتي ضمن رسالته التي سماها "الاتباع"، ونبه على مواضع فيها رأها مشكلة. وقد جرى تحقيق رسالة. الاتباع"[2]، دون أن يتوافر لها عناصر التحقيق المعهودة. ويتضح ذلك من الأمور الآتية.
1- لم يقابل النص المحقق بأي نسخ للمخطوطة.
2- أورد المحقق – في الطبعة الثانية للاتباع – صفحة (18) صورة لبعض صفحات مخطوطة "النكت الظريفة" إلا أنه ذكر بهامش صفحة (12) أنه أوقف على جزء من النكت الظريفة أثناء الإعداد للطبعة الثانية.
3- نص في مقدمة التحقيق أن المخطوطة كانت سقيمة جداً[3].
(1) جاء نص رسالة البابرتي "النكت الظريفة" المضمنة برسالة الاتباع لابن آبي العز حافلاً بالتحريفات والأخطاء المخلفة بالمعنى المقصود من المؤلف البابرتي يرحمه الله.
وإليك فيما يلي بعضاً من تلك العبارات والكلمات المحرفة من نص رسالة البابرتي، الواردة ضمن رسالة الاتباع لابن العز، على سبيل المثال لا الحصر.
نص العبارة بعد المقابلة على جميع النسخ المخطوطة ... نص العبارة كما في الاتباع ... 1
وأخذهم في التنقير عما يتوقف عليه القياس.
(انظر هامش (2) ص 27 من الرسالة بعد التحقيق) ... وجدهم في الشعر عما توقف عليه القياس (انظر الاتباع. ص33) ... 2
متبعاً النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر به وسنه (انظر هامش 10 ص 27). ... متبعاً النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر وسنة (انظر الاتباع (ص33). ... 3
وكفى استناسا وتنبيهاً (انظر هامش 6 ص31). ... وكفى استياسا وتنبيها (انظر الاتباع ص33). ... 4(/3)
فلولا مذهب أبي حنيفة لم يتطهر أحد ممن دخل حمامات هذه البلاد كلها أبدا (انظر هامش 4ص 45). ... فلولا مذهب أبي حنيفة لم يتطهر أحد ممن دخل [فما مات] هذه البلاد أبداً (انظر الاتباع ص 60) ... 5
هذا المذهب الذي هو المقتدي في أصول الشرائع وفروعها (انظر هامش 4 ص67) ... هذا المذهب هو [بالمفند] في أصول الشرائع وفروعه (انظر الاتباع ص77) ... 6
وهناك أخطاء أخرى منها مثل ما وقع في الصفحات: 33، 36، 38، 44، 53، 55، 64، 66، 72.
وبناء على ما تقدم تكون نسخة النكت الظريفة التي وردت بالاتباع غير محققة تحقيقاً علمياً يمكن الاعتماد عليه.
كما تجدر الإشارة إلى أن هذه الرسالة، - رسالة البابرتي – قد نشرت في مجلة الفكر الإسلامي[4]، بتحقيق الشيخ خليل الميس، وهي مجلة غير محكمة. وقد افتقر ذلك التحقيق إلى كثير من عناصر التحقيق المعهودة للآتي:
1- لم يورد المحقق آي ذكر أو وصف للنسخ التي اعتمد عليها.
2- لم يبين منهجه في إخراج النص.
3 - اعتمد التحقيق على نسخة واحدة وردت الإشارة إليها في أربعة مواضع فقط هي:
أ ) صفحة (57) من مجلة الفكر الإسلامي – لبنان، العدد 7/1982م رقم (4) و (5).
ب) صفحة (58) من مجلة الفكر الإسلامي، لبنان، العدد 7/1982م، هامش رقم (11).
ج) صفحة 67) من مجلة الفكر الإسلامي، لبنان، العدد الأول لعام 1983م، هامش (10).
4 - حفل التحقيق ببعض الأخطاء المنهجية، مثل تحريف ترجمة شيخ المؤلف – البابرتي – المشهور الأصفهاني، فترجم له بالأصبهاني المتوفى قبل مولد البابرتي بنحو ربع قرن، أي عام 688هـ[5].
5- كثرة الأخطاء والتحريفات الفاحشة. نورد منها على سبيل المثال ما يلي:
1- بالعدد: 7 لعام 1982م صفحة: 55 عبارة: وخالف أحاديث المرسلين.
والصواب: وخالف أحاديث سيد المرسلين
2- وفي ذات العدد: 7 صفحة 56 ورد: فقال: مالك وامريء وانراء سلم إليه العلماء ثلاثة أرباع العلم وهؤلاء لا يلم لهم ربعه.(/4)
والصواب: فقال: مالك وامرء سلم له العلماء ثلاثة أرباع العلم وهو لا يسلم لهم ربعه.
3- بالعدد 11 لعام 1982م، صفحة 36 ورد: فأين خصاف من يتفيهق؟
والصواب: فأين إنصاف من يتفيهق؟
وبعد فقد ظهر لنا من خلال العرض السابق افتقار سائر ما نشر من طبعات الكتاب إلى عناصر التحقيق العلمي، ولما كان ذلك كذلك وكنت قد وفقت بفضل الله تعالى للعثور على مزيد من النسخ المخطوطة، بلغت أربع نسخ، سيأتي وصفها قريبا. لذا رأيت الشروع في إعادة تحقيق هذا المؤلف مرة أخرى للآتي:
1 - محاولة إخراج النص بوجه أقرب إلى نص المؤلف بعد توافر هذه النسخ.
2 - عزو الأقوال إلى مصادرها، وبيان مواضع الآيات من سورها، وتخريج الأحاديث.
3 - الرد على المؤلف في تفضيله المذهب الحنفي، في ضوء المعايير التي ساقها لترجيح مذهب الإمام أبي حنيفة على غيره.
توثيق نسبة الكتاب للمؤلف:
1- ورد عنوان الكتاب الصفحة الأولى من نسخة مخطوطة جامعة الملك سعود رقم 6695[6] كالآتي: كتاب ترجيح المذهب، أي مذهب أبي حنيفة للإمام العالم العلامة المحقق المدقق النحرير المرحوم شيخ الشيوخ أكمل الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد البابوني الرومي تغمده الله برحمته، كما ورد في أخر صفحة من هذه المخطوطة العبارة التالية: (وقد انتهى ترجيح المذهب) ويلاحظ الخطأ هنا في نسبته إلى (بابوني) بدلاً من (بابرتي) والصواب: بابرتي، كما أثبتنا ذلك من مصادر ترجمته في مبحث التعريف بالمؤلف.
وورد هذا العنوان في الصفحة الأولى لمخطوطة (برنستون – نيوجوريسي) بأمريكا رقم 3174، وبها حُرِّفَ (البابرتي) إلى (البابولي)[7].
2- الكتب التي ترجمت للبابرتي:
1- هدية العارفين، للبغدادي، وفيه ذكر كتاب النكت الظريفة ضمن مصنفاته بالمجلد الثاني صفحة 171.
2- كشف الظنون، لحاجي خليفة، حيث أورد اسم النكت الظريفة ضمن مؤلفاته. وقال: أوله: الحمد لله الذي هدانا إلى اتباع الملة الحنيفة... إلخ.(/5)
ووصفه بأنه مشتمل على مقدمة ومقصد وخاتمة[8].
3- من نقل عن الكتاب:
نقل من النكت الظريفة وعلق عليه ابن أبي العز الحنفي – معاصر للبابرتي – في كتابه الاتباع، مطبوع، فقد ذكر في صفحة 87 عند آخر ما نقله عن النكت: "وكتب في آخره – يعني النكت الظريفة – ألفه الفقير إلى الله الخفي محمد بن محمود بن أحمد الحنفي... سنة ست وسبعين وسبعمائة".
قلت: يتضح لنا مما تقدم صحة ثبوت نسبة هذا المؤلف: ترجيح المذهب، المسمى: النكت الظريفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة للإمام محمد بن محمود بن أحمد أكمل الدين البابرتي، بل زاد الأمر تأكيداً إفادة ابن أبي العز بالسنة التي ألف فيها، وهي قبل تاريخ وفاة المؤلف بعشر سنوات.
النسخ المعتمد عليها في التحقيق:
لقد يسر الله لي الحصول على ثلاث نسخ مخطوطة إضافة إلى النسخة المطبوعة ضمن رسالة الاتباع لابن أبي العز.
وقد رمزت لكل نسخة بحرف يميزها عن غيرها
1- نسخة كتبت سنة خمس وتسعين وتسعمائة هجرية، بقلم نسخي حسن، كتبها: عبد القادر بن أحمد شنتني، وتقع في سبع ورقات ونصف (أي 15 صفحة) مسطرتها 19 سطرًا ومتوسط كلمات السطر 9. وهي نسخة جيدة وعليها تصحيح وعنوانها: كتاب ترجيح المذهب أي مذهب أبي حنيفة. وهي محفوظة بمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض برقم 6695، وهي التي أشير إليها بحرف (أ).
2- نسخة مصورة على ميكروفيلم بجامعة الملك سعود بالرياض برقم 2501/3 خطها نسخي مجود، وهي نسخة جيدة وعليها تصحيح وعدد أوراقها سبع وأربعة أسطر، وعدد الأسطر فيها متفاوت من 22 إلى 25 في بعض الصفحات، وعدد كلمات السطر 14 كلمة.
النَّاسخ وتاريخ النسخ غير معروفين".
وأصل المخطوطة بأمريكا – برنستون (نيوجرسي) برقم 3330 وأشرت إليها بحرف (ب).
3- نسخة مصورة على ميكروفيلم بمركز الملك فيصل بالرياض، برقم 0888 – 1 - فقه حنفي.(/6)
خطها نسخي مجود، وعدد أوراقها سبع ونصف (أي 15 صفحة) وعدد الأسطر خمسة عشر، ومتوسط كلمات السطر عشر، وتاريخ النسخ واسم الناسخ غير معروفين.
وأصل المخطوطة بأمريكا – برنستون (نيوجرسي) برقم 3174 وأشرت إليها بحرف (جـ)[9].
4- النسخة المطبوعة ضمن رسالة الاتباع لابن أبي العز، وقد رمزت إلهيا بحرف (د).
منهجي في التحقيق:
مهدت لتحقيق النص بترجمة للمؤلف، اشتملت على اسمه وكنيته ونسبته ومولده ونشأته واشتغاله بالعلم، وشيوخه وتلاميذه، وثناء العلماء عليه ومصنفاته ووفاته.
بذلت جهدي المستطاع في تحقيق نص المؤلف معتمداً على النسخ الخطية الثلاث ونسخة (الاتباع) ولم أعتمد نسخة معينة كأصل، وإن كانت نسخة (أ) أقدم النسخ[10]، لكن غيرها – كنسخة (ب) – أجود منها، حيث عليها بعض التصحيحات. لهذا التزمت اختيار أصح العبارات أو الكلمات – في تقديري – وأضعها في صلب نص الكتاب، من أي نسخة كانت، ثم أثبت في الهامش ما يخالفها.
فإذا قلت بالهامش مثلاً:
(...) في نسخة (ب): ثعالبة.
فهذا يعني أن المثبت بالنص في صلب الكتاب – كما في هذا المثال – من بقية النسخ أي نسخة (أ)، (ج)، (د). وهو المختار عندي. وإذا قلت مثلاً بالهامش:
(...) سقطت من (أ)، (ب)، (ج).
فهذا يعني أن المثبت من نسخة (د).
هذا وقد وضعت كل كلمة أو جملة مختارة في صلب النص بين قوسين معكوفين [ ].
وأثبت في التعليق بالهوامش:
الفروق الناتجة عن المقابلة بين النسخ.
عزو الآيات إلى سورها بأرقامها.
تخريج الأحاديث:
إرجاع الأقوال والنقول إلى أصولها ما أمكن ذلك.
توضيح العبارات اللغوية
التعريف بالأعلام الواردة في النص بالترجمة الموجزة لكل علم.
هذا ورتبت في نهاية البحث المصادر حسب حروف المعجم وذيلت التحقيق بفهارس الآيات والأحاديث والموضوعات.(/7)
وختاماً أسأل الله أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به وأن يقبله منا ويثيبنا عليه وأن يلهمنا الصواب والسداد، إنه جواد كريم وهو ذو الفضل العظيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أولاً: ترجمة المؤلف[11]
اسمه: محمد بن محمد بن أحمد، ويقال محمد بن محمود.
كنيته: أبو عبد الله..
نسبته: البابرتي[12]، الرومي،المصري
مولده: ولد أكمل الدين سنة 712هـ، جاء ذلك في هدية العارفين، واكتفت معظم المصادر بأنه ولد سنة بضع عشرة وسبعمائة هجرية.
اشتغاله بالعلم ورحلاته:
اشتغل بالعلم منذ صغره وحصل مباني العلوم في بلاده، ثم رحل إلى حلب وأخذ عن علمائها، فأنزله القاضي ناصر الدين بن العديم بمدرسة السادحية، فأقام بها مدة ثم قدم القاهرة بعد سنة 740هـ واستقر بها باقي عمره حتى مات ودفن بها.
شيوخه:
أخذ عن قوام الدين محمد بن محمد الكاكي، وعنه روى متن الهداية شرح بداية المبتدئ للمرغيناني، وأخذ عن شمس الدين الأصفهاني وأخذ عن أبي حيان صاحب البحر المحيط في التفسير.
وقد اعترض اللكنوي في الفوائد البهية على إيراد ابن حجر اسم الأصفهاني ضمن شيوخ أكمل الدين البابرتي بقوله: "قول ابن حجر: أخذ عن الأصفهاني مدخول فيه، فإن الأصفهاني شارح المحصول مات سنة ثمان وثمانين وستمائة...." انتهى.
قلت: والصحيح أن الأصفهاني المذكور ضمن شيوخ البابرتي ليس الأصفهاني صاحب المصحول كما ظنه اللكنوي، بل هو الأصفهاني أبو الثناء شارح مختصر ابن الحاجب المتوفى سنة 749هـ وقد استدرك ذلك الخطأ على اللكنوي صاحب التعليق على الفوائد البهية السيد محمد بدر الدين أبو فراس النعساني[13].
وقد أورد أكمل الدين اسم شيخه الأصفهاني في رسالته (ترجيح المذهب) [14] بقوله: قال شيخي الأصفهاني[15].(/8)
هذا وقد سار محقق: "شرح العقيدة الطحاوية للبابرتي" الدكتور عارف آيتكن مؤيداً قول اللكنوي، نافياً أن يكون (اسم الأصفهاني) ضمن شيوخ البابرتي، ولم يفرق بين الأصفهاني صاحب المحصول والأصفهاني أبو الثناء شارح مختصر ابن الحاجب وهذا خطأ واضح كما تقدم[16].
هذا وقد سمع البابرتي من الدلاص، وابن عبد الهادي، قال ابن حجر: وما علمته حدث بشيء من مسموعاته[17].
تلاميذه:
أخذ عن البابرتي جماعة منهم: أبو الحسن السيد الشريف علي الجرجاني وشمس الدين محمد بن حمزة النفاري وبدر الدين محمود ابن إسرائيل وغيره[18].
ثناء العلماء عليه:
وصف الحافظ ابن حجر البابرتي بأنه كان فاضلاً صاحب فنون وافر العقل[19].
وقال عن ابن قطلوبغا السودني: علامة المتأخرين وخاتمة المحققين، برع وساد وأفتى ودرس وأفاد وصنف وأجاد[20].
ووصفه ابن تغري بردي بقوله[21]: علامة، إمام عصره ووحيد دهره وأعجوبة زمانه، شيخ خانقاه شيخون[22].
مصفناته:
عنيت كتب التراجم بذكر مصنفاته منها:
1- التقرير في شرح أصول البزدوي: (انظر كشف الظنون: ص 112، شذرات الذهب: 6/293، هدية العار فين: 2/171، معجم المؤلفين: 11/271، الفوائد البهية: 195، تاج التراجم: 277، إبناء الغمر: 1/180، بغية الوعاة: 1/239).
2- شرح ألفية ابن معطي: (انظر: كشف الظنون: 115، هدية العارفين: 2/171.معجم المؤلفين: 11/ 271، الفوائد البهية: 195، تاج التراجم: 277، بغية الوعاة: 391).
3- شرح تجريد الكلام للطوسي: (انظر: كشف الظنون: 315، هدية العارفين: 2/171، الفوائد البهية: 195، تاج التراجم: 277، الدرر الكامنة: 5/18).
4- تفسير القرآن الكريم: (انظر: كشف الظنون: 443، شذرات الذهب: 6/293، هدية العارفين: 2/171، بغية الوعاة: 1/239).
5- شرح تلخيص الجامع الكبير: (انظر: كشف الظنون 472، هدية العارفين 2/171، شذرات الذهب، 6/293، معجم المؤلفين 11/271، الفوائد البهية 195، تاج التراجم 277، إنباء الغمر 1/180).(/9)
6- شرح تلخيص المفتاح: (انظر:كشف الظنون، 477، هدية العارفين 2/171، معجم المؤلفين، 11/271، تاج التراجم 277 بغية الوعاة 1/239).
7- الدرر المنيفة في الرد على ابن أبي سبيعة: (انظر: كشف الظنون 750).
8- عقيدة الطوسي: (انظر: كشف الظنون 1158، بغية الوعاة 1/239).
9- شرح الفرائض السراجي: (انظر: كشف الظنون 1247، 1478، هدية العارفين 2/171، الإعلام 7/298، الفوائد البهية 195، تاج التراجم 277.
10- تحفة الأبرار: (انظر: كشف الظنون 1688، شذرات الذهب: 6/293، هدية العارفين 2/171، معجم المؤلفين 11/271، الإعلام 7/298، تاج التراجم 277، إنباء الغمر 1/180، الدرر الكامنة 5/18، بغية الوعاة 1/239).
11- المقصد في الكلام: (انظر: كشف الظنون، 1806، هدية العارفين 171).
12- النقود والردود شرح مختصر ابن الحاجب: (انظر: كشف الظنون، 185، شذرات الذهب 6/293 هدية العرافين 2/171، معجم المؤلفين 11/271، إنباء الغمر 1/180، الدرر الكامنة 5/18، بغية الوعاة 1/239).
13- الأنوار في شرح المنار للنسفي في الأصول (انظر: كشف الظنون 1824، شذرات الذهب 2/293، هدية العارفين 2/171، معجم المؤلفين 11/271.. الفوائد البهية 195، تاج التراجم 277، إنباء الغمر 1/180، بغية الوعاة 1/239).
14- شرح مسألة النظر في علة الخلاف: (انظر: كشف الظنون 1861).
15- النكت الظريفة في ترجيح مذهب أي حنيفة: (انظر: كشف الظنون 1977، هدية العارفين 2/171).
شرح وصية أبي حنيفة: (انظر: كشف الظنون 2015، هدية 16- العارفين 2/، معجم المؤلفين 11/271، تاريخ الأداب 3/242).
16- حاشية علي الكشاف: (انظر: هدية العارفين 2/171، معجم المؤلفين 11/271، الإعلام 7/298، الفوائد البهية 195، تاج التراجم 277).(/10)
17- العناية شرح الهداية: (انظر: كشف الظنون 2035، شذرات الذهب 6/293، هدية العارفين 2/171، معجم المؤلفين 11/271، الإعلام 7/298، الفوائد البهية 195، تاج التراجم 277، إنباء الغمر 1/180، بغية الوعاة 1/239).
18- الإرشاد في شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة: (انظر: هدية العارفين 2/171، معجم المؤلفين 11/271، الإعلام 297).
19- شرح العقيدة الطحاوية: (انظر: معجم المؤلفين 11/271).
وفاته:
توفي بمصر ليلة الجمعة تاسع عشر من شهر رمضان سنة ست وثمانين وسبعمائة، وقد جاوز السبعين[23].
وبالرغم من أن مصادر ترجمته تكاد تتفق على تحديد تاريخ وفاته بسنة 786هـ إلا أن صاحب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة أورد خبر وفاته مرتين: مرة ضمن أحداث سنة 784هـ ومرة أخرى ضمن سنة 786هـ[24]، ولعل ذكر وفاته ضمن أحداث سنة 784هـ كان عن طريق الخطأ، والله أعلم.
ثانياً: نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم [وبه الاستعانة][25]
الحمد لله الذي هدانا إلى اتباع الملة [الحنيفية][26] وأرشدنا إلى سلوك [طريقة][27] العلماء الحنفية وجعلني ممن عرف مراتب أدلة الشرع[28]، وكيفية دلالتها. وجبلني على [التعصب][29] لمجتهد كان من قرون شهد النبي صلى الله عليه وسلم بخيريتها[30] وعدالتها[31].
والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي المبعوث إلى الناس كافة بشيراً ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجاً منيرًا، وعلى آله وأصحابه وعترته[32] الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.(/11)
أما بعد فإن الزمان لما انتهى إلى وقت تضعضع[33] فيه أركان رباع[34] [المعلوم][35] وتقعقع[36] [فيه][37] بنيان بقاع [العلوم][38]. وخلت [غاباتها][39] عن أسامة أبي الشبلين حتى [ضج][40] فيها [ثعالة][41] أبو الحصين. وشاع الحديث [في][42] الطعن على مذهب الأقدمين [المتقدمين][43]، وذاع ادعاء[44] أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى الذي هو أقدم المجتهدين لم [يعلم][45] [أحاديث][46] البخاري وخالف [أحاديث][47] سيد المرسلين، وكان ذلك [موهما][48] لوهن مذهبه عند ضعفاء اليقين، أشار إلى بعض الأخوان الذين هم بمنزلة الإنسان[49] لعين والعين للإنسان أن أكتب رسالة تُقوى [اعتقاد][50] ضعفة الحنفية في مذهب إمامهم وتعريف [ما الناس] [51] عليه في غالب البلدان من الاحتياج إلى مذهبه من خلفهم وأمامهم، فكتبتها مشتملة على مقدمة ومقصد وخاتمة.
المقدمة
في بيان سبب ترجيح تقليده على [غيره وفيها مباحث] [52]
المبحث الأول
في بيان فضله نقلاً وعقلاً
أما النقل فهو ما اشتهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خير القرون الذين أنا فهيم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب)) [53]. فإن فيه [الدلالة] [54] على خيرية التابعين[55].
ولم يكن ذلك إلا لعلمهم بأحوال الدين، واتباع ما ورثوه عن[56] سيد المرسلين علم الكتاب والسنة وأثار الصحابة الطاهرين. [وأخذهم في التنقير] [57] عما [يتوقف] [58] عليه القياس [وشدة] [59] تحفظهم[60] عما يوجب [الحرج] [61] و[الالتباس] [62]، وفرط [تحرزهم] [63] عن تغيير ما وجدوه من الحق. وعن إلحاق غير الحق بالحق.(/12)
وكان أبو حنيفة رحمه الله إماماً صادقاً وفقيهاً فائقاً، عالماً بالكتاب والسنة سالكاً محجة أهل السنة، متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر [به] [64] وسَنَّه[65]. ذا أصحاب اتقياء، لا من أهل البدع والأهواء[66]، مجتهدين[67] بذلوا[68] وسعهم في تحقيق الحق فيما [عنَّ] [69] لهم من [المسائل][70] جل ودق. ومن شهد النبي صلى الله عليه وسلم بخيره [أولى بالتقليد من مجتهد غيره] [71]،[72].
وأما العقل فلتقدمه واختصاصه بتدوين علم الفقه وإشخاصه[73]، فإنه صور المسائل وأجاب عنها وأوضح الأسباب والعلل وبنى عليها. ولقد حكي عن[74] بعض الشافعية في زمن [الإمام] [75] المزني[76] [أنه] [77] كان يغض[78] من أبي حنيفة رحمه الله – فبلغ ذلك الزمني فقال له: مالك و [امرؤ] [79] سلم [له] [80] العلماء ثلاثة أرباع العلم وهو لا يسلم لهم ربعه.
فقال الرجل كيف ذلك يا إمام؟ فقال: العلم نصفه سؤال ونصفه جواب. فأما النصف الأول فقد اختص[81] به أبو حنيفة رحمه الله لم يشاركه فيه أحد، وأما النصف [الآخر] [82] [فإنه] [83] يقول [كله] [84] له، لأنه أصاب في اجتهاده، وغيره يقول المجتهد يخطئ ويصيب، أصاب في بعض وأخطأ [في بعض][85]. فقد سلموا له ثلاثة أرباع العلم كما ترى، وهو لا يسلم لهم[86] ربعه. فتاب الرجل عما كان عليه[87]، ولعل هذا معنى قول الإمام الشافعي رحمه الله: "الناس عيال على أبي حنيفة رحمه الله في الفقه"[88]. وتقليد [الأقدم] [89] في الاستنباط أولى[90]، لأنه هو الذي أخذ ما أخذ من [المآخذ] [91] و[عض] [92] عليها بالأضراس والنواجذ[93] وغيره التقط ما من أقلامه سقط وحاز ما أفرط فيه إن [أفرط] [94]. وهذا أمر يعرفه [ذوو] [95] التحصيل فلا يحتاج إلى دليل ولا تعليل. وكفى استئناسًا[96] وتنبيهاً. بما أنشده الحريري في مقاماته الذي حاز بها قصبات السبق في مقالاته [حيث قال][97]:(/13)
فَلَوْ قَبْلَ مَبْكَاهَا بَكَيْتُ صَبَابَةً ب سُعْدَى شَفَيْتُ النَّفْسَ قَبْلَ التَّنَدُّمِ
ولكِنْ بَكَتْ قَبْلِي فَهَاج لِيَ البُكَا بُكَاهَا فَقُلْتُ: الْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ[98]
المبحث الثاني
في فضل اجتهاده
اعلم أن الأمة إذا اختلفوا في مسألة على قولين واستقر خلافهم على ذلك لا يجوز لأحد بعد ذلك أن يحدث قولاً ثالثًا عند عامة العلماء[99] [وأما قبل الاستقرار فهو جائز بلا خلاف][100].
[وأبو حنيفة رحمه الله اجتهد قبل استقرار المذاهب وصادف اجتهاده محله، فكان] جائزًا بلا خلاف[101]. ثم من اجتهد بعد ذلك [فإنما هو][102] اجتهاد بعد استقرار المذاهب، وذلك لا يجوز عند أكثر العلماء[103]. وما كان جائزاً بلا خلاف فهو أفضل مما كان مختلفًا فيه، والمنازع مكابر[104].
وقد صرح أبوبكر الرازي[105] في شرح آثار الطحاوي بأن [الاجتهاد][106] من بعد أبي حنيفة غير معتد به. وتقليد الفضل أفضل [إن][107] لم يكن واجباً، فإن بعض العلماء ذهب إلى أن تقليد الأفضل متعين[108]،[109].
المبحث الثالث
في قوة اجتهاده
لم يستدل أبو حنيفة رحمه الله على حكم مسألة بغير الكتاب ما دام الاستدلال بالكتاب ممكناً[110]. [ولا يخفى دلالة ذلك على قوته في معرفة الكتاب وميله إلى القاطع الذي انتفى عنه][111] التناقض والاختلاف[112]. قال الله تعالى {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}[113].
ولم يستدل بالحديث [إلا بما ثبت][114] عنده صحته بمتنه ومعناه. وكان إماما حاويا لما[115] يتعلق بالأحكام من الحديث[116].
وقد روي عن يحيى بن نصير[117] قال: "سمعت أبا حنيفة قال: عندي صناديق من الحديث ما [أخرجت][118] منها إلا اليسير". أراد ما سلم من النسخ والمعارضة.
وروي عن أبي يوسف[119] أنه قال: أحفظ عشرين ألف حديث منسوخ ولابد لها من ناسخ[120].(/14)
فأين إنصاف من يتفيهق ويقول: إن أبا حنيفة[121] وأصحابه لم يبلغهم ما أورده البخاري في صحيحه، هل ذلك إلا زيغ وتعصب باطل؟ نعوذ بالله من ذلك.
والذي يقضي منه العجب [حال][122] هؤلاء في قلة إنصافهم وفرط جورهم واعتسافهم، [ذلك أن][123] البخاري نشأ ببخارى، وحصل ما حصل من الحديث بها، وأهلها حنفيون كلهم ثم إنهم ينفون الحديث عنهم. وذلك دليل واضح على أن الأحاديث التي جمعها [البخاري كانت][124] عند الحنفية موجودة، [ولكنهم][125] كانوا علماء راسخين، وكانوا يسمون البخاري محمد بن إسماعيل القصاص، ذكره صاحب المحيط[126]. وعلموا الناسخ والمنسوخ، فلم يعملوا بما ثبت عندهم نسخه.
وكان[127] كثير الاعتناء [بالأخذ][128] بالحديث حتى جوز نسخ الكتاب بالحديث[129] لقوة منزلة الحديث [عنده][130] وعمل بالمراسيل[131] وقدمها على الرأي[132].
وقدم رواية المجهول[133] على القياس[134]، وقدم قول الصحابي [على القياس][135]،[136] قال نصر بن محمد[137]:" ما رأيت رجلا أكثر أخذا للأثر من أبي حنيفة".
أما الإجماع فإن أبا حنيفة رحمه الله [لشدة رعايته له][138] لم يجعل الاختلاف السابق مانعاً من الإجماع اللاحق[139].
واعتبر الإجماع السكوتي[140].
وأما القياس فقد سلم[141] العلماء له كلهم حتى سموا أصحابه أصحاب[142] الرأي[143].
[قال مالك][144] رحمه الله حين سئل عن أبي حنيفة: "رأيت [145] رجلا لو ادعى أن هذه السارية ذهبا ً لأقام بحجته"[146].
[ولا خفاء في قوة [دلالة][147] ما ذكرنا على قوة اجتهاده عند من نظر إلى الحق][148] [وقد][149] هدي إلى صراط مستقيم.
أما المقصد:
ففي ذكر مسائل توجب تقليده[150].
المسألة الأولى
في الإيمان
ذهب أبو حنيفة إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان[151]، فمن صدق محمداً صلى الله عليه وسلم بقلبه فيما جاء به من عند ربه وأقر بلسانه فهو مؤمن، والأعمال أي الصلاة والصوم والزكاة والحج[152] غير داخلة فيه[153].(/15)
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنها داخلة فيه[154] ويلزم من ذلك أن من ترك الصلاة أو الصوم أو منع[155] الزكاة أو ترك الحج لا يكون مؤمناً. لأن الكل ينتفي بانتفاء جزئه [بالاتفاق، فيكون في النار خالدًا مخلداً، ولا يخفى ضرره][156]،[157] وبطلانه بالأحاديث الواردة على أن من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة[158].
فلولا مذهب أبي حنيفة لكان كل من ترك الصلاة أو فعلاً من الأفعال المذكورة آنفا كان كافراً تطلق امرأته، وبوطئها يكون زانياً ويبطل حجه وجهاده[159].
المسألة الثانية
في الطهارة
قال أبو حنيفة رحمه الله: "يجوز الاغتسال والوضوء بماء سخن بالروث والأخثاء[160] [ونحوهما][161].
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز[162].
فلولا مذهب أبي حنيفة لم يتطهر أحد [ممن دخل حمامات][163] هذه البلاد كلها أبداً.
فإذا لم يتطهر لم تصح صلاته [ولا يجوز له مس المصحف بيده][164]، ولا يجوز دخوله المسجد، ولا يجوز له قراءة القرآن. وإذا زال صلاته زال إيمانه، ولزمه ما ذكرنا في [المسألة الأولى][165].
المسألة الثالثة
في الصلاة
قال [أبو حنيفة][166] رحمه الله: من نوى بقلبه [أي][167] صلاة يصليها [جازت صلاته][168] [و][169] إن لم يذكرها باللسان[170].
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز ما لم يكن الذكر اللساني مقارناً للقلبي[171].
وأكثر الناس عاجزون عن ذلك باعترافهم. والذي يدعي المقارنة يدعي ما يرده صريح العقل. وذلك لأن[172] اللسان ترجمان [ما يخطر][173] بالقلب. و[المترجم عنه سابق قطعاً عليه – إذا الحروف الملفوظ بها في النية منطبقة على أجزاء الزمان][174] وهي منقضية منصرفة[175]. ولا يتصور المقارنة بين [أنفها][176] فكيف تتصور المقارنة لما يكون قبلها.
فإذا لم[177] تجز الصلاة انتفى جزء الإيمان والكل ينتفي بانتفاء [جزئه][178] كما مر.
المسألة الرابعة
أيضا في الصلاة(/16)
قال الشافعي رحمه الله: قراءة الفاتحة في الصلاة ركن، وكذلك [كل][179] [شدة من الشدات][180] الأربعة عشر. فإن تركت واحدة منها بطلت الصلاة[181]. خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله[182].
فلولا مذهب أبي حنيفة [لكانت صلاة][183] أكثر العالمين باطلة. وإذا بطلت صلاتهم على الدوام انتفى جزء الإيمان. والكل ينتفي بانتفاء جزئه كما تقدم.
المسألة الخامسة
في الصوم
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كانت نية الصوم مقارنة لأكثر النهار جاز[184].
وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز ما لم تكن النية من الليل[185].
والحرج فيه مكشوف لا يقنع، فإن من أقام من سفره بعد الصبح أو أفاق من الإغماء ونوى الصوم لا يجوز [عنده][186].
وفي يوم الشك الحرج أعم وألزم؛ لأن النية [بالليل][187] عن الفرض حرام. ونية النفل عنده لغو، [فعم][188] الحرج بالنسبة لكل الناس.
وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[189]،[190].
المسألة السادسة
في الزكاة
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا دفع الزكاة لواحد من الأصناف المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}[191] [جاز][192]،[193].
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز إلا إذا دفع إلى ثلاثة أنفس من كل واحد من الأصناف المذكورة[194].
وقد لا يوجد ذلك في بلد المزكي، فيدركه الموت والذمة مشغولة بالواجب، وقد لا [يوفق][195] للأداء [أحد][196] بعده، فينتفي جزء الإيمان والكل ينتفي بانتفائه. فإن نوزع في ذلك لم ينازع في لزوم الحرج البين المدفوع بالنص كما تقدم[197].
المسألة السابعة
في الحج
قال الشافعي رحمه الله: الطهارة شرط لصحة الطواف، ومس المرأة ينقضها[198]. خلافاً لأبي حنيفة فيهما[199].(/17)
وعموم البلوى في الطواف [بمس النساء ظاهر][200] لا ينكره كل من حج[201].
قال شيخي العلامة شمس الدين الأصفهاني[202] رحمه الله:
توضأت في الطواف زهاء عشر مرات لأطوف على مذهب الشافعي سبعة أشواط فلم أقدر على ذلك فقلدت أبا حنيفة.
فلولا مذهب أبي حنيفة لعاد كل من حضر من المشرق والمغرب [والجنوب][203] والشمال بلا حج، وفي ذلك من الحرج في هذه الملة الحنيفية السمحة البيضاء ما لا يجوزه أحد أصلاً[204]. وإذا انتفى الحج انتفى جزء الإيمان والكل ينتفي بانتفاء جزئه.
المسألة الثامنة
في المأكول
قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز أكل خبز في فرن أوقد فيه الروث ونحوه[205].
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز[206].
ولولا مذهب أبي حنفية لما حل أكل خبز الديار المصرية إلا في حال المخمصة والله أعلم[207].
المسألة التاسعة
في الملبوس
قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز لبس سائر الجلود سوى الخنزير، كالسمور[208]، [والفنك][209] والسنجاب ونحوها[210].
وقال الشافعي لا يحوز[211].
فعلى هذا الاختلاف [لا تجوز][212] الصلاة فيها. وإذا لم تجز الصلاة فهيا انتفى جزء الإيمان والكل ينتفي بانتفاء جزئه كما مر غير مرة وكذلك الركوب على سرج مذهب أو مفضض، والجلوس على مقعد حرير، وهو مناف لقوله عليه الصلاة والسلام (أتيتكم بالحنيفية السمحة البيضاء)[213].
المسألة العاشرة
في الحمل
قال أبو حنيفة رحمه الله: من حمل سلاحاً غلافه بلغاري أو علق من [حسامته][214] كيساً [بلغارياً][215] جازت صلاته[216].
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز. وإذا لم يجز انتفى جزء الإيمان على ما مر وتقدم والله أعلم.
المسألة الحادية عشرة
في النكاح
قال أبو حنيفة رحمه الله: ينعقد نكاح [المسلمين][217] بحضور شاهدين فاسقين[218].
وقال الشافعي رحمه الله: لا ينعقد إلا بحضور شاهدين عدلين أو مستورين في رواية[219].(/18)
فلولا مذهب أبي حنيفة لم ينعقد نكاح المسلمين بالشهود الجالسين في الدكاكين، لأنهم [يشتركون][220] شركة الصنائع[221].
ويتناولون الأجرة بها، وذلك [حرام][222]، والإصرار على أكل الحرام كبيرة،وتعاطي الكبيرة فسق ظاهراً وباطناً.
[فإن قيل بطلان شركة الصنائع مجتهد فهي فيتناول الأجرة بها لا تسقط العدالة كما في شرب المثلث، وأكل متروك التسمية عمداً قلنا مرجع ذلك أيضاً مذهب أبي حنيفة][223]. وحالهم[224] في ذلك واضح لا يحتاج إلى [تنبيه][225] فضلاً عن الدليل. ولما مر من انتفاء اقتران الذكر اللساني بالقلبي. وذلك [يفضي][226] إلى انتفاء الصلاة التي هي جزء الإيمان كما تقدم.
المسألة الثانية عشرة
في النكاح أيضًا
قال أبو حنيفة رحمه الله: الحامل لا تحيض[227] وأكثر مدة الحمل سنتان[228]. وقال الشافعي يرحمه الله: تحيض.وأكثر مدة الحمل أربع سنين[229].
ويلزم من ذلك [أن][230] ذات الأقراء إذا طلقت لا تنقضي عدتها [إلا][231] إلى أربع سنين لجواز أن تكون حاملاً. فلا يكون الحيض إلا على براءة الرحم حتى تنقضي أربع سنين. على أنه مخالف لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}[232]، [وفي][233] ذلك من الفساد ما لا يخفي.
المسألة الثالثة عشرة
في المعاملات
تثبت المعاملات بشهادة مستور عند أبي حنيفة[234]. خلافًا للشافعي.
فلولا مذهب أبي حنيفة لضاعت أموال الناس وحقوقهم[235].
المسألة الرابعة عشر
في [البيع][236]
قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز بيع [المعاطاة][237] [في الخسيس والنفيس][238]،[239].
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز[240].
وعامة الناس في عامة البلدان يبيعون ويشترون [بالمعاطاة][241] بلا إيجاب ولا قبول في النفيس والخسيس. فلا يثبت لهم ملك في المشترى، [ولا يجوز][242] الانتفاع به. والانتفاع به مصراً عليه فسق لا محالة. وفيه السعي لإزالة العدالة من بين أظهر المسلمين في الأغلب.(/19)
المسألة الخامسة عشرة
في القضاء
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حكم بالشاهد المستور [الحال][243] نفذ[244].
وقال الشافعي رحمه الله لا ينفذ[245].
فلولا مذهب أبي حنيفة رحمه الله لبطلت المحاكمات في عصرنا.
المسألة السادسة عشرة
في الإمامة
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا وقع من السلطان كبيرة أو أصر على صغيرة لم ينعزل[246].
قال الشافعي رحمه الله ينعزل[247].
وفساد ذلك لا يخفي والتنبيه على يورث [نقمة الإسلام][248].
وأمثال ذلك في المسائل [كثيرة][249] يطول ذكرها فلنقتصر على هذا.
فمن لم يستضئ بمصباح لم يستضئ بإصباح فانظر أيها الرفيق الشفيق هل كان حال هذا الإمام مصدقاً لقول الإمام الشافعي رحمه الله: الناس عيال أبي حنيفة في الفقه أو لا ؟ لا أخالك إلا [أن][250] تصدق إن لم تكن ممن قيل فيه:
إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ فَلاَ غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ
ولعل الذين يفضون من أبي حنيفة رحمه الله [الذي هو أول الأئمة في التقديم والتدوين][251] [ويضعون][252] من مقداره، ويريدون أن يخفضوا ما رفع الله من مناره، منابذة للحق الأبلج، وزيغاً[253] عن سواء[254] المنهج. ولا يبعدون[255] عن جزاء سنمار حين بني الخورنق[256] للنعمان. حيث وضع الصور ,أوثق البنيان وأوضح طرق الأسباب والمعاني. فأخذوا بمذهبه في الإيمان والطاعات والطهارات والأركان والعبادات وفي المأكول والملبوس والمعاملات، وفى الأنكحة والقضاء والخلافة والشهادات فلم ينفكوا عن مذهبه في ذلك أينما وجهوا ولم يفارقوا قوله حيث سيروا. ثم إنهم بعد ذلك يجحدون فضله ويدفعون خصلة ويذهبون عن توقيره وإكرامه ويتركون ما يجب عليه من تعظيمه واحترامه. فهو معهم في ذلك على المثل السائر: (الشعير يؤكل ويذم).(/20)
ولعمري إن ذلك سبب للثواب بعد مماته مضافاً إلى ماله من الأجر في حال حياته أدخل الله في رضوانه واسكنه بحبوحة جنانه إنه أعز مأمول وأكرم مسؤول وعلى ذلك قدير وبالإجابة جدير.
الخاتمة:
وأما الخاتمة ففي: [التعريض][257] بالغرض من وضع هذه الرسالة. [فهو][258] أيها الملك أيدك الله تعالى وخلد ملكك وأبد[259] دولتك، ونصر أنصارك، وخذل أعداءك، ونور بصيرتك أن تنظر بفكرك الصائب وذهنك الثاقب وخاطرك اليقظان، وانتباهك العجيب الشأن، أن مثل هذا المذهب الذي هو المقتدى[260] في أصول الشرائع وفروعها على ما مر [ذكرها][261] وتقريرها، [وسردنا على الاختصار][262]: المسائل المذكورة، و[هي مع نظائرها مشهورة مسطورة][263] وعليه عامة علماء العالم وسلاطينه بالهند والسند وعلماء ما وراء النهر وإقليم خرسان ودشت قبجاق، وتركستان والترك والعراق وبلاد اليونان وإقليم الري وما يجاور ذلك وأذربيجان وعساكرهم والجند وأمراؤهم وغالب أمراء الديار المصرية، في الحال و[المال][264]، مدة دولة [الترك][265]، الذي هم بين أمراء العالم في المواكب كالقمر والشمس السائرين بين الكواكب. هل يجب تقليده أم لا؟ فإن لم تر ذلك واجباً لم أتخيل من العقل الرجيح والفكر الصحيح أن لا يعتقد أنه أفضل من غيره. والله الموفق والمعين والاعتصام بحبله المتين[266].
خاتمة التحقيق:
لا شك أن المؤلف يرحمه الله قصد من هذا المؤلف ترجيح مذهب أبي حنيفة يرحمه الله؛ وذلك ظاهر من العنوان، وما تضمنه البحث من موضوعات. وقد اعتمد في ذلك على معايير نص عليها، مما قد يساعد القارئ – الذي لا يستطيع الترجيح بالنظر في الأدلة – على الترجيح وفقاً لهذه المعايير.
وسنورد فيما يلي هذه المعايير، مع الإشارة إلى مواضعها من البحث مع التعليق:
1- الأفضلية:(/21)
ذكر المؤلف يرحمه الله في المقدمة[267] أسباباً لترجيح تقليد الإمام أبي حنيفة على غيره، منها: فضله. وذلك باعتبار أنه من التابعين، واستشهد لذلك بما أورده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير القرون الذين أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.... الحديث).
قلت: والحديث في الصحيحين، لكنه يبدأ بقوله صلى الله عليه وسلم: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،.. الحديث) وفي رواية: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم... الحديث)[268]. قال ابن حجر في الفتح: "واقتضى هذا الحديث أن يكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع والأفراد؟ محل بحث[269].
ولما كان المؤلف يعد الإمام أبا حنيفة من التابعين لهذا استشهد بهذا الحديث. لكن هذه المسألة مختلف فيها بناء على الاختلاف في تعريف التابعين[270].
2- الأقدمية:
واستدل المؤلف في المقدمة[271] – أيضاً – لترجيح مذهبه، بتقدم الإمام أبي حنيفة على غيره في تدوين علم الفقه، وقال: وتقليد الأقدم في الاستنباط أولى.
قلت: وهذا الكلام فيه نظر، فكم من تلميذ بز شيخه، والعبرة في ذلك لقوة الدليل لا الأقدمية المستنبط.
3- التيسير على الناس:
وهذا مستنبط من المسألة الثانية، في الطهارة[272] حيث أورد فيها القول للإمام أبي حنيفة بجواز الاغتسال والوضوء بماء سخن بالروث والأخثاء ونحوهما.
ونسب للإمام الشافعي القول بعدم الجواز في ذلك. ثم قال: ولولا مذهب أبي حنيفة لم يتطهر أحد ممن دخل حمامات هذه البلاد كلها.
قلت: فإن كان المؤلف يريد القول بأن الشافعية لا يجوزون استعمال الماء المسخن بنجس كالروث والأخثاء ونحوهم، فذلك مخالف لما ذكره النووي عزاه لابن الصباغ في الفتاوى، ونصه: لا يكره الوضوء بماء سخن بالنجس[273].
فلا يسلم للمؤلف ما أورده في ذلك.
4- رفع الحرج:(/22)
ذكر المؤلف في المسألة الخامسة في الصوم[274]: أن نية الصوم إذا كانت مقارنة لأكثر النهار جاز الصوم، أي لذلك اليوم، عند أبي حنيفة.
وعزى القول للشافعي بعدم الجواز ما لم تكن النية من الليل. حيث قال: والحرج فيه مكشوف لا يقع فإن من أقام من سفره بعد الصبح، أو أفاق من الأغماء ونوى الصوم لا يجوز عنده. وفي يوم الشك الحرج أعم وألزم.. قال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[275].
قلت: لكن ورد في مغني المحتاج القول بلزوم الإمساك في يوم الشك – نهاراً – إن تبين كونه من رمضان، ويجب قضاؤه على الفور على المعتمد[276].
5- عموم البلوى:
في المسألة السابعة: في الحج قال المؤلف: قال الشافعي يرحمه الله: الطهارة شرط لصحة الطواف، مس المرأة ينقضها. خلافاً لأبي حنيفة فيهما.
وعموم البلوى في الطواف بمس النساء ظاهر، لا ينكره كل من حج. قلت: لقد نص الشافعية على ما تعم به البلوى في هذه المسألة. فقد قال الإمام النووي: "ومما تعم به البلوى في الطواف ملامسة النساء للزحمة"[277]. فلا وجه للترجيح بذلك.
6- سماحة الإسلام:
ذكر المؤلف في المسألة التاسعة في الملبوس[278]: أن أبا حنيفة يرحمه الله يجوز لبس سائر الجلود سوى الخنزير، وكذلك يجوز الركوب على سرج مذهب أو مفضض، ويجوز الجلوس على مقعد حرير. ونسب للشافعي عدم جواز ذلك.
وقال في آخر المسألة: وهو مناف – يعني عدم الجواز – لقوله عليه الصلاة والسلام: ((أتيتكم بالحنيفية السمحة البيضاء)).
قلت: ورد في مشهور مذهب الشافعي: إن الدباغ يطهر كل نجس بالموت، ما عدا الكلب والخنزير وما تولد منهما.
وفى الختام أرى أن المؤلف يرحمه الله قد سلك في هذا المؤلف مسلك الترجيح الجملي، وذلك بما أبرزه من معايير قصد بها ترجيح مذهب الإمام أبي حنيفة يرحمه الله.(/23)
ويظهر لي مما قدمت أنه لم يصل بذلك إلى تحقيق مقصده، وبقي لنا القول بأن كل ما قدمنا من ملاحظات – من وجهة نظرنا – في هذا التحقيق على ما أورده المؤلف، لا ينقض من مكانة مذهب الإمام أبي حنيفة ولا من مكانة العلامة أكمل الدين البابرتي، بل جاء بمقتضي مسلك البحث العلمي، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
الباحث
فهرس مصادر و مراجع التحقيق
1-أبو حنيفة وأصحابه:
للكيرانوي، حبيب أحمد، دار الفكر العربي، بيروت، ط(1) 1989م.
2-الأحكام في أصول الأحكام:
للآمدي، علي بن أبي علي بن محمد، تعليق الشيخ عبد الرازق عفيفي، الرياض، مؤسسة النور، ط (1)، 1387هـ.
3-الإحكام في أصول الأحكام:
لابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد، بيروت، دار الجبيل، ط (1) 1407هـ.
4-إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول:
للشوكاني، محمد بن علي بن محمد، دار الفكر، بيروت، (د. ت).
5-أسني المطالب:
للنووي، محي الدين زكريا يحيى بن شرف، المكتبة الإسلامية (د. ت).
6-أصول السرخسي:
للسرخسي، محمد بن أحمد بن سهيل أبوبكر، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني، بيروت، دار المعارفة، 1393هـ.
7-الإعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين.
للزركلي، خير الدين الزركلي، ط (2) مطبعة كوستاسوماس، القاهرة، 1954/1959م.
8-الأم:
للشافعي، محمد بن إدريس (إمام المذهب)، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1973م.
9-إنباء الغمر بأبناء العمر:
لابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1986م.
10-الإنتفاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء:
لابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، (د. ت).
11-الباعث الحثيث:
لشاكر، أحمد محمد شاكر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط (3)، 1408هـ.
12-بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع:
للكاساني، علاء الدين أبوبكر بن مسعود بن أحمد الحنفي، دار الكتب، بيروت، لبنان، 1982م.(/24)
13-بداية المجتهد ونهاية المقتصد:
لابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (الحفيد) تحقيق صبحي حسن خلاف، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط (1) 1415هـ.
14-بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة:
للسيوطي، عبد الرحمن بن عثمان الحضيري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة المصرية، بيروت، (د. ت).
15-بيان المختصر، شرح مختصر ابن الحاجب:
للأصفهاني، محمد بن عبد الرحمن بن أحمد، تحقيق محمد بغا، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، ط (1)، 1406هـ.
16-تاج التراجم:
لابن قطلوبغا، قاسم قطلوبغا بن عبد الله السودني، تحقيق: محمد خير رمضان، دار القلم، دمشق، 1992م.
17-تاج العروس:
للزبيدي، السيد مرتضى الحسيني الزبيدي، دار ليبيا للنشر والتوزيع، بنغازي، 1386هـ/ 1966م.
18-تاريخ الأدب العربي:
لبروكلمان، كارل بروكلمان، دار المعارف بمصر، ط(3)، 1974م.
19-تاريخ بغداد:
للخطيب البغدادي، أبوبكر أحمد بن علي: دار الكتاب العربي، بيروت، (د. ت).
20-تذكرة الحفاظ:
للذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان، دار إحياء التراث العربي (د.ت).
21-التعريفات الفقهية وأصول الكرخي (ضمن كتاب قواعد الفقه):
للبركتي، محمد عميم الإحسان المجدوي، كراتشي، لجنة النقابة والنظر والتأليف، ط(1)، 1407هـ.
22-التمهيد في أصول الفقه:
للكوذاني، محفوظ بن محمد الحسن، تحقيق: د. مفيد أبو عمشة ود. محمد علي إبراهيم، مكتبة مكة المكرمة، جامعة أم القرى، ط(1)، 1406هـ.
23-تهذيب التهذيب:
لابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1996م.
24-تهذيب اللغة:
للأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد، تحقيق: د. عبد الله درويش، الدار المصرية للتأليف والترجمة (د. ت).
25-تيسير التحرير شرح التحرير لابن الهمام:
لأمير باد شاه، محمد أمين بن محمود البخاري، بيروت، دار الكتب العلمية، ط(2) 1403هـ.
26-الجرح والتعديل:(/25)
لابن أبي حاتم، أبو محمد عبد الرحمن بن محمد إدريس، دائرة المعارف، حيدر اباد 1360/1373هـ.
27-حاشية رد المحتار على الدر المختار:
لابن عابدين، السيد محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز، الشهير بابن عابدين، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1386هـ.
28-حاشية الروض المربع على زاد المستنقع:
للنجدي، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، ط (3) 1405هـ/ 1985م.
29-حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة:
للسيوطي، عبد الرحمن بن عثمان الحضيري، دار إحياء التراث العربي، مصطفى البابي الحلبي (د. ت).
30-الاختيار لتعليل المختار:
لابن مودود، عبد الله بن محمود، مطبعة مصطفى عيسى البابي الحلبي، ط(1) 1355هـ.
31-الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة:
لابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: الشيخ محمد سيد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1966م – 1967م.
32-روضة الطالبين:
للنووي محي الدين أبو زكريا يحي بن شرف، المكتب الإسلامي، بيروت، 1985م.
33-شذرات الذهب في أخبار من ذهب:
لابن العماد، أبو الفرج عبد الحي بن العماد الحنبلي، دار المسيرة، بيروت، ط(2) 1979م.
34-شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول:
للقرافي، أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط(1) 1393هـ.0
35-الشرح الصغير:
للدردير، أبوبكر أحمد، دار المعارف، القاهرة، 1972م.
36-شرح العقيدة الطحاوية:
للبابرتي، أكمل الدين محمد بن محمد بن أحمد، تحقيق: د. عارف آيتكن، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط (1) 1409هـ/ 1989م.
37-شرح العقيدة الطحاوية:
لابن أبي العز، علي بن علي بن محمد، حققها وراجعها جماعة من العلماء، خرج أحاديثها: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب سلامي، ط(4) 1391هـ.
38-شرح العناية على الهداية:
للباربرتي، أكمل الدين محمد بن محمد بن أحمد، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، ط(1) 1315هـ.
39-شرح الكوكب المنير:(/26)
لابن النجار، محمد بن أحمد عبد العزيز الفتوحي، تحقيق: د. محمد الزحيلي ود. نزيه حماد، مكة جامعة أم القرى، 1402هـ.
40-شرح مقامات الحريري:
للشريشي، أحمد بن عبد المؤمن القيسي، المؤسسة العربية الحديثة، مطبقة التمدن، القاهرة، 1969م.
41-طبقات الشافعية الكبرى:
للسكبي،عبد الوهاب بن علي بن عبد الباقي، عيسى البابي الحلبي، ط(1) 1324هـ.
42-طبقات الشافعية:
لأبي بكر بن هداية الله، مطبعة بغداد، 1356هـ.
43-طبقات الفقهاء:
للشيرازي، أبو إسحاق الشيرازي، مطبعة بغداد، 1356هـ.
44-الطبقات الكبرى:
لابن سعد محمد بن سعد بن منيع البصري، دار صادر، بيروت 1388هـ/ 1968م.
45-العدة في أصول الفقه:
للفراء، أبو يعلى محمد بن الحسين البغدادي، تحقيق: د. أحمد سير المباركي، الرياض، ط(2) 1410هـ.
46-علوم الحديث:
لابن الصلاح، أبو عمر عثمان بن عبد الرحمن الشهرزودي، تحقيق: د. نور الدين عتر، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، للنمنكاني، ط(2) 1972م.
47-الفتاوى الهندية:
لنظام الدين وجماعة من علماء الهند، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1980م.
48-فتح الباري، شرح صحيح البخاري:
لابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية، (د.ت).
49-الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام الشيباني:
دار الشهاب، القاهرة، (د. ت).
50-الفوائد في تراجم الحنفية:
للكنوي، محمد بن عبد الحي، مطبعة السعادة بمصر، ط(1) 1324هـ.
51-فيض الباري على صحيح البخاري:
للكشميري، محمد أنوار، مطبعة حجازي، القاهرة، 1357هـ/ 1938م.
52-الكامل في ضعفاء الرجال:
لابن عدي، أبو أحمد عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد، مطبعة سليمان الأعظمي، بغداد، 1977م.
53-كتاب الضعفاء الكبير:
للعقيلي، جعفر بن محمد بن عمرو بن موسى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1984م.
54-كتاب الوصية:
لأبي حنيفة، النعمان بن ثابت بن زوطي، نسخة حجرية، نادرة بمكتب بمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض برقم 4 ر 217 ح ح و.(/27)
55-كشف الأسرار عن أصول البزدوي:
للبخاري، عبد العزيز بن أحمد بن محمد، بيروت، دار الكتاب العربي، 1974م.
56-كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون:
لحاجي خليفة،مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1978م.
57-لسان العرب:
لابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم، دار صادر، بيروت، 1374هـ/ 1955م.
58-لسان الميزان:
لابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1987 – 1988م.
59-المبسوط:
للسرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل أبوبكر، دار المعارف، بيروت، ط(2)، (د. ت).
60-المجموع شرح المهذب:
للنووي، محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف، مطبعة العاصمة، القاهرة، (د.ت).
61-مجموعة رسائل ابن عابدين:
لابن عابدين، السيد محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز الشهير بابن عابدين، عالم الكتب، (د.ت).
62-مجموع الفتاوي:
لابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد قاسم العاصمي النجدي، الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين، مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة، 1404هـ.
63-المحصول في علم الأصول:
للرازي، محمد بن عمرو بن الحسين، تحقيق: د.طه جابر العلواني، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط(1)، 1401هـ.
64-مختار الصحاح:
للرازي، محمد بن أبي بكر عبد القادر، دار القلم، بيروت (د.ت).
65-مختصر صحيح مسلم:
للمنزري الدمشقي. زكي الدين عبد العظيم، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط(4)، 1402هـ/ 1982م.
66-المستصفى من علم الأصول:
للغزالي، محمد بن محمد بن محمد الطوسي، المطبعة الأميرية، القاهرة، 1322هـ.
67-المسند:
للإمام أحمد بن حنبل، شرحه ووضع فهارسه الشيخ أحمد شاكر، دار المعارف، مصر، 1374هـ/ 1955م.
68-معجم المؤلفين:
لكحالة، عمر رضا، مطبعة الترقي، بدمشق، 1380هـ/ 1960م.
69-المغني:(/28)
لابن قدامة المقدسي، عبد الله بن أحمد بن محمد،مكتبة الرياض الحديثة، 1401هـ.
70-مغني المحتاج:
للشربيني، شمس الدين محمد بن أحمد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (د.ت).
71-ميزان الاعتدال في نقد الرجال:
للذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان، تحقيق محمد علي البجاوي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر (د.ت).
72-النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة:
للأتابكي، يوسف بن تغري بردي، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب، المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، 1963م.
73-نهاية المحتاج:
للرملي، شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة، دار إحياء التراث العربي (د.ت).
74-الهداية:
للميرغيناني، علي بن أبي بكر، المطبعة الكبرى الأميرية، 1315هـ.
75-هدية العارفين:
للبغدادي، إسماعيل باشا، وكالة المعارف، استنابول، 1955م.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] كشف الظنون: 2/1977 وهدية العرفين: 2: 271.
[2] حققها وعلق عليها أولاً فضيلة الشيخ محمد عطا الله حنيف في طبعتها الحجرية ثم شاركه في الطبعة – العادية – الأولى والثانية د. عاصم بن عبد الله القريوتي.
[3] انظر الاتباع ص: 11 (الطبعة الثانية).
[4] مجلة الفكر الإسلامي، بيروت، لبنان: الأعداد 5، 6، 11، لعام، 1982م، ثم العدد الأول لعام 1983م.
[5] مجلة الفكر الإسلامي: العدد الأول لعام 1983م، صفحة 62 وهامش (1) صفحة66.
[6] انظر الصفحات المصورة من تلك المخطوطة ضمن صفحات التحقيق برقم: 10 إلى 18.
[7] انظر صفحة (15) من التحقيق.
[8] كشف الظنون، لمصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة، المجلد الثاني، ص: 1977.
[9] ظهر لي من خلال المقارنة بين النسخ، أن نسختي (أ) و (ج) بينهما توافق في مواضع كثيرة، مما يدل على أن أصلهما واحد، علماً بأن نسخة (أ) هي أصل وهي بمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، بينما نسخة (ج) مصورة من أصل بأمريكا، جامعة برنستون (نيوجرسي).
[10] انظر وصف المخطوطات المتقدم ص: 8.(/29)
[11] انظر ترجمته في: إنباء القمر 2/179 –181، بغية الوعاة 1/339، شذرات الذهب 6/293، الدرر الكامنة 5/18، النجوم الزاهرة 11/302.2، الفوائد البهية 195 – 196. معجم المؤلفين 11/271، الأعلام: 7/298.
[12] نسبة إلى (بابرت) وهي قرية تابعة لأرزن الروم – أرضروم – بتركيا، وهي منطقة تقع شرق تركيا حالياً، معجم المؤلفين 11/ 271).
[13] الفوائد البهية: 198.
[14] وهي الرسالة التي نقوم بتحقيقها.
[15] انظر جزء التحقيق: المسألة السابعة.
[16] شرح العقيدة الطحاوية للبابرتي تحقيق د. عارف آيتكن. ص13.
[17] الدرر الكامنة 5/18.
[18] بغية الوعاة 1/293.
[19] الدرر الكامنة: 5/18.
[20] تاج التراجم: 276 – 277.
[21] النجوم الزاهرة: 11/302.
[22] خانقاه شيخون: بناها شيخون العمري سنة 757هـ ورتب فيها أربعة دروس على المذاهب الأربعة، درس حديث، ودرس قراءات، ومشيخة اسماع الصحيحين، والشفاء. وشرط في شيخها الأكبر أن يكون عارفاً بالتفسير والأصول وأن يكون قاضياً، وأول من تولى مشيختها أكمل الدين البارتي وتولى تدريس الشافعية بها الشيخ بهاء الدين بن الشيخ تقي الدين السبكي، وتولى تدريس المالكية بها الشيخ خليل صاحب المختصر، وتولى تدريس الحنابلة قاضي القضاة موفق الدين الحنبلي. (حسن المحاضرة للسيوطي 2/266).
[23] إنباء الغمر بأبناء العمر: 1811 والأعلام: 7/298، والنجوم الزاهرة: 11/239، وتاج التراجم: ص277، وبغية الوعاة: 1/240.
[24] النجوم الزاهرة: 11/239، 302.
[25] ما بين القوسين مثبت من نسخة (أ).
[26] في (ب) و (ج) الحنيفة وهو خطأ من الناسخ.
[27] في (أ) و (ج) طريق.
[28] الأدلة الشرعية من حيث الاحتجاج بها وعدمه أنواع:
نوع محل اتفاق بين أئمة المسلمين وهو القرآن الكريم والسنة المطهرة.(/30)
ونوع محل تفاق بين الأئمة الأربعة وهو الإجماع والقياس. ونوع محل اختلاف بين الأئمة الأربعة وهو الاستحسان، والمصالح المرسلة، ومذهب الصحابي، والعرف، وشرع من قبلنا، والاستصحاب. (الإحكام للآمدي 1/200، 4/127 – 160). الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ص 929).
[29] في (ج): العصبة.
[30] يشير إلى القرون الثلاثة الأولى الفاضلة وهي قرن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الذي يليله ثم الذي يليه، وسيورد المصنف نص الحديث بالمبحث الأول من المقدمة.
[31] كون المصنف يصرح بأنه جبل على التعصب للإمام أبي حنيفة فهذا يفسد مقصده من هذه الرسالة وهو الإثبات للغير أن تقليد الإمام أبي حنيفة يرحمه الله أولى من غيره.
[32] ذكر الأزهري في تهذيب اللغة عدة أقوال في المراد بعترة النبي صلى الله عليه وسلم
(أ) عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد فاطمة البتول عليهم السلام.
(ب) عترة الرسول صلى الله عليه وسلم عبد المطلب وولده.
(جـ) وقيل عترة النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته الذين حرمت عليهم الصدقة وهم ذوو القربى الذين لهم خمس الخمس المذكور في سورة الأنفال. قال الأزهري: وهذا القول عندي أقربها، والله أعلم. (تهذيب اللغة: 2/264 – 265).
[33] ضعضعه: هدمه حتى الأرض. (مختار الصحاح للرازي ص 381).
[34] الرباع والربوع والأرباع جمع، واحدها ربع، المنزل والدار (لسان العرب 1/1110).
[35] في (ب) و (د):العلوم.
[36] تقعقع: صار إلى القاع، وهو المستوى من الأرض. (مختار الصحاح: 556).
[37] سقطت من: (ب).
[38] في (ب) و (د): العلوم.
[39] في (ب) و (د): غايتها. وفي (ج) غاياتها.0
[40] في (ب) جنح، وفي (ج) صح.
[41] في (ب): (ثعالبة أبو الحصين)، قلت: والثعالة هي أنثى الثعلب.
[42] في (د): والطعن.
[43] سقطت من: (ب) و (د).
[44] في (أ) و (ج): وداع ادعي.
[45] سقطت من (ج).
[46] في (ب): حديث.
[47] سقطت من (د).
[48] في (أ) و (ج): وهماً.(/31)
[49] إنسان العين: الجزء الذي تبصر به العين. قال الأزهري: وأصل الإنس والأنس والإنسان من الإيناس وهو الإبصار. يقال أنَسته وأنِسته أي أبصرته. وإنسان العين جمعه إناس. والإنسان الأنملة، قال الشاعر:
أَشَارَتْ لإِنْسَانٍ بِإِنْسَانِ كَفِّهِمَا لِتَقْتُلَ إِنْسَاناً بِإِنْسَانِ عَيْنِهْا
(تهذيب اللغة للأزهري: 13/86).
[50] سقطت من (أ) و (ج).
[51] في (د): ما للناس.
[52] ما بين القوسين سقطت من: (د).
[53] أخرج البخاري عن طريق عمران بن الحصين وعبد الله بن مسعود ونصه عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهاداته))؛ البخاري، فتح الباري 7/3 حديث 3651. أما الحديث باللفظ المذكور للمؤلف فلم أقف عليه.
[54] في: (د) دلالة.
[55] يعد المؤلف أبا حنيفة من التابعين، وهذه مسألة مختلف فيها بناء على الاختلاف في تعريف التابعي: فمنهم من عد التابعي بالسماع من الصحابي أو اللقيا. قال ابن الصلاح: (وكلام الحاكم وغيره يشعر بأنه يكفي أن يسمع من الصحابي أو يلقاه. وإن لم توجد الصحبة العرفية) علوم الحديث 271/272.
وعلى هذا الرأي يكون الإمام أبو حنيفة من التابعين، لأنه لا خلاف في أنه رأى بعض الصحابة كأنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى. (تبييض الصحيفة للسيوطي ص6).
ولا يكون من التباعين على القول باشتراط الصحبة للصحابي، كما نص على ذلك الحافظ البغدادي. (علوم الحديث 271/ 272).
وقال الحافظ ابن كثير في تعريف التابعي: ولم يكتفوا بمجرد رؤيته الصحابي كما اكتفوا في إطلاق اسم الصحابي على من رآه عليه السلام. (الباعث الحثيث ص 142).
[56] في (د): من.
[57] مابين القوسين في نسخة (د) ورد كالآتي: وجدهم في الشعر [شك].
[58] في (د): يترتب.
[59] سقطت من (د).
[60] في (د) لحفظهم.
[61] في (د) الجرح.
[62] في (ج) الالتباس.
[63] في (أ) تصيير.(/32)
[64] سقطت من (د).
[65] في (د) ضبطت كالآتي (وسَنَّة) وهذا خطأ بين، لأن العبارة معه لا تستقيم.
[66] في (ب) و (د): (ولا من أهل الأهواء). وذكر محقق (د) بالهامش أن في الأصل (الهواء).
[67] أي مجتهدين في المذهب،خلافاً لأبي حنيفة فإنه مجتهد مطلق عندهم. وهذا ما قرره ابن عابدين في رسالته رسم المفتي. فقد قسم الفقهاء إلى سبع طبقات نذكر منها:
الأولى: طبقة المجتهدين في الشرع. كالأئمة الأربعة ومن سلم مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط الشرع عن الأدلة الأربعة من غير تقليد لأحد في فرع ولا في أصل.
الثانية: طبقة المجتهدين في المذهب، كأبي يوسف وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على حسب القواعد التي قررها أستاذهم وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع يقلدونه في قواعد الأصول (رسائل ابن عابدين، الرسالة 11 ص 12).
[68] في (ب): باذلين.
[69] في (د): عزَّ.
[70] في (د): المسالك.
[71] كذا في (د): وفي (أ) و (ب): أولى بتقليد مجتهده من غيره). وفي (ج): (أولى بالتقليد مجتهده من غير).
[72] قلت: يبدو لي – والله أعلم – أن لا وجه لأولوية تقليد مجتهد من الأئمة الأربعة على غيره بهذا الحديث: لأن الخير في حديث (خير القرون قرني) عام يشمل القرون الثلاثة الفاضلة. والأئمة الأربعة داخلون في وصف هذه الخيرية وإن كانت هذه القرون الثلاثة يفضل بعضها بعضاً لكن ذلك لا ينفي الخيرية بالكلية عن واحد منها لأنها ثابتة بنص هذا الحديث.
[73] إشخاصه: إظهاره. قال ابن الأثير:الشخص كل جسم له ارتفاع وظهور، وشخص من بلد إلى بلد شخص شخوصاً: ذهب وقيل سار وارتفع. وشخص النجم طلع. قال الأعشى يهجو علقمة بن علاقة:
تَبِيْتُونَ فِي الْمَشْتَى مِلاَءً بُطُونِكُم وَجَارَاتِكُم غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصاً
يُرَاقِبْنَ مِنْ جونٍ خِلاَلَ مَخَافَةٍ نُجُومَ الثُرَيَّا الطَّالِعَاتِ الشَّوَاخِصَا(/33)
(تاج العروس: فصل السين من باب الصاد).
[74] في (د): وقد حكى أن بعض...
[75] سقطت من (د).
[76] الإمام المزني: هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري كان معظماً بين أصحاب الإمام الشافعي. وكان ورعاً زاهداً وعالماً مجتهداً محجاجًا، إمام الشافعية في زمانه وأعرفهم بأقوال مذهب إمامهم. صنف في مذهب الشافعي، المبسوط والمختصر والمنثور وكتاب الجامع الكبير والجامع الصغير وكتابه العقارب. ولد سنة 175هـ، وتوفى سنة 264هـ. انظر ترجمته في طبقات الشافعية لأبي بكر بن هداية الله ص5. وطبقت الشافعية للأسنوي جـ 1 ص 34. وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي جـ 2 ص93.
[77] سقطت من (د).
[78] غض منه: أي وضع ونقص من قدره (مختار الصحاح، ص476).
[79] في (أ) و (ج): وامراء.
[80] في (أ) و (ب) و (جـ): إليه.
[81] في (ب): فمختص.
[82] في (ج): الثاني.
[83] في (ج): فهو.
[84] في (أ) و (ج): كلمة.
[85] ما بين القوسين سقطت من (أ) و (ج).
[86] في (أ): له.
[87] ذكر هذه الحكاية الإمام السرخسي عن ابن سريج أحد أشهر أصحاب الإمام الشافعي. (المبسوط: ج1، ص3).
قال: قال صاحب مجامع المسانيد: اشتهر وافتاض عن الإمام الكامل المنصف ابن سريح يرحمه الله (وهو أذكى أصحاب الشافعي رحمه الله) أنه سمع رجلاً جاهلاً يقع في أبي حنيفة فقال له: يا هذا ! تقع في أبي حنيفة وثلاثة أرباع العلم مسلمة له، وهو لا يسلم لهم الربع، فقال الرجل: وكيف ذلك؟ قال: لأن العلم سؤال وجواب، وهو أول من وضع الأسئلة فله نصل العلم، وأجاب عنها فقال مخالفه، في البعض أصاب وفى البعض أخطأ، فإذا قابلنا صوابه بخطئه فله النص أيضا، فسلم له ثلاثة أرباع العلم بقي الربع فهو يدعيه، ومخالفوه يدعونه، وهو لا يسلمه لهم" ص28.(/34)
[88] انظر طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي ص 67 وفيه (من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة وجاء في تهذيب التهذيب لابن حجر (جـ 10 ص 450): قال الربيع وحرملة: (سمعنا الشافعي يقول: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة).
[89] في (ب): الإمام وهو خطأ من الناسخ.
[90] هذا الكلام فيه نظر، فكم من تلميذ بز شيخه، والعبرة في ذلك لقوة الدليل لا لأقدمية المستنبط، يقول ابن أبي العز في الاتباع في تعليقه على هذه العبارة: ويلزم القائل بترجيح المجتهد الأقدم أن يرجح قول زيد وعمر وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أو قول سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد أو غيرهما من التابعين.. وأيضاً يعارضه من يقلد الإمام المتأخر بأني قول: الإمام المتأخر اطلع على أقوال الأئمة المتقدمين ونظر في أدلتهم واختار الصحيح... فيكون تقليده أولى لجمعه ما كان متفرقاً عند الأئمة الذين كانوا قبله. (الاتباع، ص 31 – 32).
[91] في (د): المأخذ، وهو خطا من الناسخ.
[92] في (أ) و (ج): (عض) بدون واو ولعله سقط فيهما سهوا من الناسخ.
[93] الناجذ آخر الأضراس وللإنسان أربعة نواجذ في أقصى الأسنان يقال: ضحك حتى بدت نواجذه (مختار الصحاح ص646).
[94] في (أ) و (ب) و (جـ) فرط ولعله خطأ من الناسخ.
[95] في (أ) و (ب) و (جـ) وردت (ذو التحصيل) (بالإفراد، والأولى ما أثبتناه من (د) بالجمع.
[96] في (د) استياساً وهو خطأ من الناسخ.
[97] ما بين القوسين سقط من (ب) و (د).
[98] البيتان لعدي بن الرقاع: وله قبلهما:
وَمِمَّا شَجَانِي أَنَّنِي كُنْتُ نَائِماً أُعَلِّلُ مِنْ فَرْطِ الْكَرَى بِالتَّنَسُّمِ
إلَى أَنْ دَعَتْ وَرْقَاءُ في غُصْنِ أَيْكَةٍ تُرَدِّدُ مَبْكَاهَا بِحُسْنِ التَّرَنُّمِ
فَلَوْ قَبْلَ مَبْكَاهَا بَكَيْتُ صَبَابَةً ........................
(شرح مقامات الحريري1 /33،34)، لأبي العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشربشي.(/35)
[99] هذا القول فيه نظر، فإن الخلاف واقع بين العلماء في هذه المسألة حتى عند بعض علماء الحنفية كالكرخي وأبي زيد الدبوسي وغيرهما. (تيسير التحرير 3/246).
[100] ما بين القوسين سقط من (ب).
[101] ما بين القوسين سقط من (أ) و (ج).
[102] في (ب) فإنما اجتهد.
[103] في (ب) زاد: (كما مر).
[104] هذه النتيجة بناها المؤلف على المقدمة السابقة المبتدأة بقوله: (اعلم أن الأمة..... عند عامة العلماء) ولا يخفى أن هذه النتيجة محل نظر لأنها بنيت على مقدمة محل نظر واختلاف على النحو الآتي:
فبعض الحنفية خص ذلك باختلاف الصحابة فقط. (تيسير التحرير لأمير شاه 3/250). وبعضهم أجاز إحداث رأي ثالث (تيسير التحرير 3/51). وأجاز الآمدي وابن الحاجب إحداث رأي ثالث إذا لم يرفع ذلك الرأي ما اختلف فيه (بيان المختصر/ شرح ابن الحاجب للأصفهاني 1/590).
[105] أحمد بن على أبوبكر الرازي الجصاص: كان إمام الحنفية في عصره، وكان مشهوراً بالزهد والورع. أخذ عن أبي سهل الزجاج وعن أبي الحسن الكرخي. له تصانيف كثيرة منها: أحكام القرآن وشرح مختصر الكرخي وشرح مختصر الطحاوي وشرح جامع محمد. ولد سنة 305هـ وتوفي ببغداد سنة 370هـ (تاريخ بغداد 4/314) و (الفوائد البهية في تراجم الحنفية ص 27 – 28).
[106] في (د): (اجتهاد) بدون أل.
[107] في (د): (وإن) بزيادة واو العطف.
[108] في (د): (أفضل).(/36)
[109] مسألة" تقليد الأفضل أفضل" محل خلاف بين العلماء. والراجح جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل. وهذا مذهب أبي بكر الباقلاني وجماعة من الأصوليين والفقهاء كما قال الآمدي واختاره، وهو اختيار ابن الحاجب أيضًا وحكى الشوكاني إجماع الصحابة على ذلك وهو ظاهر كلام الإمام أحمد. (المحصول للرازي جـ2/ق3 ص (112 – 114). والإحكام للآمدي جـ4 ص(237 – 238) و (المختصر مع شرحه لابن الحاجب جـ3 ص367) و (تيسير التحرير لأمير شاه جـ4 ص 251 – 252) و (المستصفي للغزاي جـ 2 ص 392 – 393) و(العدة لأبي يعلى جـ4 ص 1226) و (التمهيد لابن الخطاب جـ4 ص 403، 404) و (شرح الكوكب المنير لابن النجار جـ 4 ص 580) وإرشاد الفحول للشكوكاني ص 240).
[110] يؤيد هذا ما ذكره الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد جـ13 ص 268. وأيضاً الحافظ ابن عبد البر حيث يروي بسنده عن الإمام أبي حنيفة الآتي:
آخذ بكتاب الله فما لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بقول أصحابه، أخذ بقول من شئت منهم وأدع من شئت منهم ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم. (الانتقاء ص 142).
[111] ما بين القوسين سقط من (د).
[112] لما كان هذا السقط بالنسخة التي علق عليها ابن أبي العز، لذا جاء تعليقه عليها بقوله (انظر إلى ركاكة هذه العبارة خلطها وفسادها) انظر الاتباع ص 44.
قلت: يحتمل أن يكون هذا السقط حاصلاً بنسخة رسالة البابرتي عندما علق عليها القاضي ابن أبي العز، يكون وصفه العبارة بالركاكة والخلط والفساد في محله، إذا السقط جعل العبارة ركيكة ولا معنى لها.(/37)
أما على فرض أن السقط لم يكن بالمتن الذي اعتمد عليه ابن أبي العز بل حدث لاحقًا بالنسخة التي اعتمد عليها محققا الاتباع فلا وجه إذن لقبول وصف العبارة من قبل العلامة ابن أبي العز بالركاكة والخلط والفساد فالعبارة كما هي أمامنا الآن بعد إكمال ما سقط منها مفهومة ولها دلالتها التي قصدها المؤلف "البابرتي" من أن أبا حنيفة كان يقدم الكتاب ما أمكن الاستدلال به على السنة مما يدل على قوة معرفة الإمام أبي حنيفة بالكتاب وأنه اعتمده في مقدمة الأدلة لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو خال من التناقض والاختلاف، ثم استشهد بالآية {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} والله أعلم.
[113] النساء: آية (82).
[114] ما بين القوسين سقط من (ب).
[115] في (ب): بما.
[116] في (د): (وكان إماماً حاويًا لما يتعلق بالأركان من الحديث).
[117] لم أقف على ترجمة: (يحيى بن نصير) بل المذكور في تراجم من روي عن أبي حنيفة (يحى بن نصر) فلعل إيراده باسم يحيى بن نصير خطأ.
أما يحيى بن نصر فالذي يترجح عندي أنه المعنى بهذه الرواية عن أبي حنيفة فاسمه كاملاً يحيى بن نصر بن حاجب القرشي. مات ببغداد سنة خمس عشرة ومائتين.
أما أقوال العلماء فيه:
أبو حاتم: بليته عندي قدم رجاله.
أبو زرعة: ليس بشيء.
العقيلي: منكر الحديث.
أحمد: كان جهمياً مرجئًا.
ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
ابن حيان: ذكره في الثقات.
انظر ترجمته في كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 9/139 والضعفاء الكبير للعقيلي 4/433 والكامل لابن عدي 4/2701 وتاريخ بغداد للخطيب 14/159 وميزان الاعتدال للذهبي 4/411 ولسان الميزان لابن حجر 6/278.
[118] كذا في (د) وفي بقية النسخ: (ما خرجت).(/38)
[119] أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي صاحب أبي حنيفة وتلميذه وأول من نشر مذهبه. وكان فقيهاً من حفاظ الحديث ولد بالكوفة وتفقه بالحديث والرواية، ثم لزم أبا حنيفة فغلب عليه الرأي وولي القضاء ببغداد أيام المهدي وكان واسع العلم بالتفسير والمغازي ,أيام العرب، ألف كتاب الخراج وغيره، ولد بالكوفة سنة 113هـ وتوفي ببغداد سنة 182هـ (انظر ترجمته: في تاريخ بغداد 14/242) والفوائد البهية في تراجم الحنفية: 225 والطبقات لابن سعد 7/330 وتذكرة الحفاظ للذهبي 1:292 – 293.
[120] لم أجد مصدرا لهذه الرواية غير أنه مشهود له بمعرفته الحديث. فقد نقل الذهبي في تذكرة الحافظ: 1/292 عن ابن معين قوله: "ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثاً ولا أثبت من أبي يوسف"، وقوله: "أبو يوسف صاحب حديث وصاحب سنة".
قلت وقد بلغت ترجمته في تاريخ بغداد عشرين صفحة ليس فيها هذه الرواية: أنه يحفظ عشرين ألف حديث. وقال ابن أبي العز في الاتباع: (لا يصح نسبة هذا الكلام لأبي يوسف... وهو يؤدي إلى الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي دينه لأن لازمه أنه كان يأمر بأشياء متعارضة ويشرع كل وقت شيئاً ثم بنسخه) انظر الاتباع ص45 – 51.
[121] إن أبا حنفية قد سبق البخاري بنحو مائة سنة فكيف يبلغه ما رواه البخاري في صحيحه.
[122] في (أ) و (جـ): أن حال.
[123] ما بين القوسين مثبت من (ب). وفي (د) سقط اسم الإشارة، وفي (أ) و (جـ) استبدلت عبارة (ذلك أن ) بـ: إذ.
[124] ما بين القوسين سقط من (أ) و (ب) و (ج).
[125] سقطت من (ب) و (د).(/39)
[126] لم أقف على المصدر وإيراد المؤلف لهذه المقالة فهي تجاوز في حق الإمام البخاري الذي لا يخفي علمه وفضله وما قدمه من خدمة للسنة، إذ كيف يوصف الإمام البخاري بالقصاص وهو صاحب الجامع الصحيح، أصح كتاب بعد كتاب الله العزيز (انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص14). والقصاص هم الذين يضعون الأحاديث في قصصهم، قصدًا للتكسب والارتزاق وتقرباً للعامة بغرائب الروايات. ومن غرائبهم ما روي ابن الجوزي بإسناده إلى أبي جعفر بن محمد الطيالسي قال: "صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قاص، فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة طيراً له منقار من ذهب وريشة من مرجان! وأخذ في قصة نحواً من عشرين ورقة فجعل أحمد بن حنبل ينظر إلى يحيى بن معين وجعل يحيى بن معين ينظر إلى أحمد فقال: حدثته بهذا!! فيقول والله ما سمعت هذا إلا الساعة فلما فرغ من قصصه وأخذ العطيات ثم قعد ينتظر بقيتها قال له يحيى بن معين بيده: تعالى. فجاءه متوهماً لنوال فقال له يحيى: من حدثك بهذا؟! فقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين!! فقال: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا هذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق، ما تحققت هذا إلا الساعة؟! كأن ليس فهيا يحيى ابن معين وأحمد بن حنبل غيركما، وقد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين!! فوضع أحمد بن حنبل كمه على وجهه وقال دعه يقوم. فقام كالمستهزئ بهما!! (انظر الباعث الحثيث أحمد محمد شاكر، ص 65، 66).
[127] في (د): وكان أبو حنيفة رحمه الله كثير....
[128] سقطت من (أ) و (ب) و (جـ).
[129] وهذا مذهب المالكية أيضاً وابن حزم الظاهري.(/40)
ويشترط الحنفية والمالكية أن يكون الحديث متواتراً. وألحق الحنفية المشهور المتواتر.
واكتفى ابن حزم أن يكون الحديث صحيحاً ولم يتشرط التواتر، (أصول السرخسي 2/67، كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري 3/175، شرح تنقيح الفصول للقرافي، الإحكام لابن حزم 4/107).
[130] سقطت من (أ) و (جـ).
[131] والمرسل عند الأصوليين أعم من المرسل عند المحدثين، فهو عند الأصوليين يشمل إرسال الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وإرسال التابعي وإرسال تابع التابعي (أصول السرخسي 1/360).
أما المرسل عند المحدثين فهو حديث التابعي الكبير الذي لقي جماعة من الصحابة وجالسهم إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (علوم الحديث لابن الصلاح: 47).
[132] أصول السرخسي 1/360.
[133] قال ابن الصلاح: في رواية المجهول أقسام.
أحدها: المجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جمعياً وروايته غير مقبولة عند الجماهير.
الثاني: المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة وهو عدل في الظاهر وهو المستور.. فهذا المجهول يحتج بروايته بعض من رد رواية الأول.
الثالث: المجهول العين قد يقبل رواية المجهول العدالة من لا يقبل رواية المجهول العين.
ومن روي عنه عدلان وعيناه فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة... والمجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم تعرفه العلماء ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد (علوم الحديث ص 102).
قلت: والمجهول عند الحنفية يختلف عن المجهول عند المحدثين: فالمجهول عند الحنفية الذي لم يعرف إلا بحديث أو حديثين (كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري2/384، 385).
[134] صرح عبد العزيز البخاري بأن حديث المجهول عندهم مقدم على القياس، فقال: (..وشهدوا له بصحة الحديث.... صار حديثه مثل حديث المعروف بشهادة أهل المعروف بالفقه والعدالة والضبط فيقبل ويقدم على القياس (كشف الأسرار 2/385).
[135] ما بين القوسين سقط من (أ) و (ج).(/41)
[136] انظر تيسير لتحرير، لأمير شاه 3/173، 3/132، 133.
[137] نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم أبو الليث الفقيه السمرقندي، أخذ عن أبي جعفر الهندواني عن أبي القاسم الصفار عن نصير بن يحيى عن محمد بن سماعة عن أبي يوسف.
صنف تفسير القرآن، والنوازل، والفتاوى،وخزانة الفقه وبستان العرافين، وشرح الجامع الصغير وتنبيه الغافلين.
توفي سنة 373هـ وقيل سنة 393هـ (الفوائد البهية في تراجم الحنفية. 220).
[138] في (د): (..... كان أشد رعاية له لم يجعل......).
[139] كذا مذهب أكثر الحنفية والمحققين من الشافعية. (تيسير التحرير 3/232).
[140] هذا قبل استقرار المذاهب، فإذا أفتى بعض المجتهدين بمسألة اجتهادية أو قضى بعضهم قضاء واشتهر بني أهل عصره وعرفه بقية المجتهدين ولم يخالف في ذلك أصلا، وكان ذلك قبل استقرار المذاهب كما ذكرت، ثم مضت مدة يمكن لمن بلغته الفتوى أو القضاء إظهار اعتراضه – على خلاف في هذه المدة بين الحنفية – كانت تلك الفتوى أو القضاء إجماعاً. (تيسير التحرير 3/246).
[141] في (د): سلم له العلماء كلهم.
[142] سقطت من (أ) و (جـ).
[143] أصحاب الراي هم أصحاب القياس من أهل العراق لأنهم يقولون بآرائهم وقياسهم فيما لا يجدون فيه حديثا أو أثراً، مستنبطين من الكتاب والسنة والإجماع. (التعريفات الفقهية للبركتي: 180، 181).
[144] في (أ) و (جـ): (قال محمد. وهو خطأ من الناسخ فيهما.
[145] في (د): (رأيته رجلاً).
[146] أخبار أبي حنفية للصيرفي: 74.وجاء في تبييض الصحفية للسيوطي ص 6 وقال الشافعي: قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة؟ قالك نعم رأيت رجلاً لو كلمت في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لأقام بحجته).
[147] سقطت كلمة (دلالة ) من (أ) و (جـ).
[148] ما بين القوسين سقطت من (د).
[149] سقطت من (ب).
[150] في (أ) و (ب) و (ج): وردت كلمة (فيها) بعد تقليده ولا داعي لها.
[151] قال الإمام أبو حنيفة في كتابه الوصية:(/42)
ثم العمل غير الإيمان. والإيمان غير العمل بدليل أن كثيراً من الأوقات يرتفع العمل عن المؤمن، ولا يجوز أن يقال يرفع عنه الإيمان، فإن الحائض ترفع عنها الصلاة. ولا يجوز أن يقال يرتفع عنها الإيمان. وقد قال لها الشارع دعي الصوم ثم أقضيه، ولا يصح أن يقال دعي الإيمان ثم أقضيه، ويجوز أن يقال ليس على الفقير زكاة، ولا يجوز أن يقال ليس على الفقير إيمان. (كتاب الوصية لأبي حنيفة ص 4).
[152] سقطت من (أ) و (ب) و (ج).
[153] مثبتة من (د) فقط.
[154] ليس ذلك مذهب الشافعي وحده بل مذهب الإمام مالك والإمام أحمد وغيرهم من الفقهاء والمحدثين، جميعهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل. أي أن الأعمال داخلة في الإيمان خلافاً لمذهب الإمام أبي حنيفة.
وهذه المسألة معروفة مبحوثة في كتب العقيدة. وقد بسطها الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان وكذلك شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في الفتاوى (كتاب الإيمان)، وغيرهم من الأئمة بما يغني عن الإعادة هنا.
[155] سقطت من (أ) و (ج).
[156] ما بين القوسين سقط من (ج).
[157] قول المؤلف: يرحمه الله: ويلزم من ذلك أن من ترك الصلاة أو الصوم أو منع الزكاة أو ترك الحج لا يكون مؤمناً. ليس مسلماً له، إذ الترك لشيء من هذه الأركان الموجب للخلود في النار ليس مطلق الترك. لأن ترك المقر باطناً وظاهراً غير ترك المنكر الجاحد. قال: شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: (فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقريين باطناً وظاهرًا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما تواتر من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها ولا يخلد منهم فهيا أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار). (كتاب الإيمان، المجلد السابع ص 297).(/43)
[158] رتب المؤلف على قول القائلين بأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان انتفاء إيمان كل من ترك أو بطل له عمل من صلاة ونحوها.
وبانتفاء إيمان المرء يصبح كافراً فيكون في النار خالداً مخلداً، هذا ما نص عليه المؤلف في الفقرة السابقة، ثم أورد في هذه الفقرة ما يمكن الاستدلال به على بطلان ذلك. لكن انتفاء العمل أمر لا يسلم به القائلون بأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان. قال الكشميرى في فيض الباري على صحيح البخاري: مذهب أهل السنة أن تارك الأعمال. مفسق لا مكفر. وقال أيضاً.. فأكثر المحدثين – يقولون – إن الإيمان مركب من الأعمال. وإمامنا الأعظم – يقول – إن الأعمال غير داخل في الإيمان مع اتفاقهم جميعاً أن فاقد التصديق كافر وفاقد العمل فاسق (1/53 – 54).
[159] هذه النتيجة التي انتهى إليها المؤلف بناء على قوله المتقدم: (إن من ترك الصلاة.. لا يكون مؤمناً لأن الكل ينتفي بانتفاء جزئه). مجرد دعوى منازع فيها – كما أسلفنا – إذ لا يسلم القائلون بأن العمل جزء من الإيمان: إن الإيمان يزول بزوال أي عمل من الأعمال. لأن الإيمان أصل له شعب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وستون شعبة وفي رواية بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (مختصر صحيح مسلم: للحافظ المنذري: تحقيق الألباني، ص15)..
ولو طبقنا مبدأ المؤلف في هذه المسألة القائل: بأن الكل ينتفي بانتفاء جزئه للزمه القول بكفر من ترك إماطة الأذى عن الطريق لأن إماطة الأذى عن الطريق بنص الحديث المتقدم شعبة من شعب الإيمان والشعبة المراد بها الجزء – كما قال ابن حجر في الفتح 1/25) وهذا لا بقول به البابرتي – قطعاً، فدل ذلك على بطلان قوله: إن الكل ينتفي بانتفاء جزئه.(/44)
قلت: المسألة في نظرنا لا تستحق هذا التكلف الذي سلكه المصنف في هذه الرسالة. فالخلاف ثابت وقديم في مسألة الإيمان والعمل خاصة بين الإمام أبي حنيفة من جهة وبين بقية الأئمة من أهل السنة والجماعة من جهة. ونراه خلافاً لفظيا كما نص على ذلك المحققون، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول، من الفقهاء – كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال بذلك ومن تبعه من أهل الكوفة وغيرهم – متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد... فهم يقولون إن الإيمان بدون العمل المفروض، ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب كما تقوله الجماعة. (الفتاوى 7/297).
ويقول ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية – وهو من معاصري المؤلف -: "والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه – نزاع لفظي – لا يترتب عليه فساد اعتقاد" (شرح العقيدة الطحاوية ص 374).
[160] حاشية ابن عابدين 5/126.
[161] كذا في (د)، وفي بقية النسخ: (ونحوها) بدون تثنية.
[162] بالرجوع إلى ما تيسر لي من مصادر المذهب الشافعي لم أقف على ما عزاه المؤلف للمذهب الشافعي من القول بعدم جواز الاغتسال والوضوء بماء سخن بالروث، بل عزى الإمام النووي لابن الصباغ في الفتاوى ما نصه: ولا يكره الوضوء بماء سخن بالنجاسة (المجموع 9/28).(/45)
قلت: يبدو أن المؤلف لم يتحر الدقة في العزو للمذهب الشافعي , وعلى فرض أن المؤلف رحمه الله لسعة اطلاعه وقف على ذلك القول للشافعية، فإن ما نقلناه هنا عن النووي يدل على أن في المذهب قولين في المسألة فلماذا يختار المؤلف أحدهما ويغفل الإشارة إلى الآخر. واتباع هذا الأسلوب لا يحقق للمؤلف مقصده عند أهل العلم في ترجيح مذهب أبي حنيفة. والله أعلم.
[163] في (د): [فما مات] هذا تصحيف جعل العبارة لا معنى لها
فائدة: الروث: لغة. رجيع (فضلة) ذي الحافر، واحدة روثة والجمع أرواث (القاموس المحيط مادة: روث).
وغالبا ما يطلق الفقهاء الروث على فضلة الحيوان الخارج من الدبر دون تخصيص ذلك بذي الحافر، كما جاء في القاموس المحيط. وإن خص بعضهم الخارج من كل حيوان بمسمى خاص: فالروث للفرس والبغل والحمار. والخثي (بكسر فسكون) للبقر والفيل، والبعر للإبل والغنم. والخرو للطير، والبخو للكلب، والعذرة للإنسان (حاشية ابن عابدين 1/147).
حكم الروث عند الفقهاء من حيث الطهارة والنجاسة:
يرى المالكية والحنابلة الشافعية في وجه: أن روث ما يؤكل لحمه طاهر. أما روث غير مأكول اللحم فنجس عندهم. وقد صرح المالكية بنجاسة روث مكروه اللحم كمحرمه، وإن لم يستعمل نجاسة.
وقال الحنفية والشافعية (على المذهب) بنجاسة الروث من جميع الحيوانات المأكول اللحم وغيره. أما حكم اقتنائه واستعماله:(/46)
فالحنفية يجوزون اقتناءه واستعماله في تنمية الزرع وانضاج الخبز ونحوهما. وجوز الشافعية اقتناءه واستعماله للزراعة لكنه يكره عندهم. والأصل عند المالكية أنه إذا كان الروث طاهراً جاز اقناؤه، واستعماله. أما النجس فالأصل عندهم أنه لا يجوز الانتفاع به، لكنهم أجازوا: أن الخبز المخبوز على نار الروث النجس طاهر، وإن تعلق به الرماد. وأجاز الحنابلة بيع الروث الطاهر كروث الحمام وكل ما يؤكل لحمه (الشرح الصغير للدردير 1/53 – 54)، (المغني لابن قدامة 4/251 – 255)، (روضة الطالبين 1/16، وأسنى المطالب 1/60 – 61) و(الفتاوى الهندية 2/133. والهداية 8/122، وحاشية ابن عابدين 5/246).
[164] مابين القوسين سقط من (أ) و (ج).
[165] ما بين القوسين سقطت من (ب).
[166] سقطت من (أ) و (جـ).
[167] سقطت من (د).
[168] سقطت من (ب).
[169] سقط (الواو) من (د) وبدونه لا يستقيم المعنى.
[170] المبسوط للسرخسي 1/10، 11.
[171] جاء في المجموع للنووي: (3/242). قال المصنف: (والنية فرض من فروض الصلاة... ومحل النية القلب، فإن نوى بقلبه دون لسانه أجزأه. ومن أصحابنا من قال ينوي بقلبه وتلفظ باللسان، وليست بشيء، لأن النية هي القصد بالقلب) قال النووي: فإن نوى بقلبه ولم يتلفظ بلسانه أجزأه على المذهب وبه قطع الجمهور) انتهى.
قلت: وما نسبه المؤلف هنا للإمام الشافعي رحمه الله ليس إلا قولاً لبعض الشافعية وليس هو المذهب كما نص على ذلك قول الإمام في العبارة المنقولة من المجموع، ويشهد لذلك أيضاً ما في مغني المحتاج ونصه: (ويندب النطق بالمنوي) مغني المحتاج 1/150. إذن فلا حُجة هنا في هذه المسألة للمصنف، ويبطل بذلك كل ما رتبه عليها كقوله في آخر المسألة.... فإذا لم تجز الصلاة انتفى جزء الإيمان.. إلخ) فإن المنصوص عليه في المذهب الشافعي أن الصلاة تجوز بالنية فقط دون الذكر اللساني.
[172] في (د) (أن) بدون اللام.(/47)
[173] في (أ) و (ج): ( ما يحصل) وفي (د) ما يحضر.
[174] ما بين القوسين جاءت عبارته في (د) كالآتي: (والمترجم عنه سابق قطعاً على أن الحروف الملفوظ بها في النية منطقبة إلى آخر الزمان) وهذا كلام محرف والصحيح ما أثبتناه.
[175] في (د) منصرمة.
[176] في جميع النسخ (أنفسها) ولعله خطأ لأن (أنفسها) لا معنى له. والصحيح ما أثبتناه بين المعكوفتين لمناسبة السياق.
[177] في (د) (تجريء).
[178] في (د) (الجزء) وبعدها فراغ مما يشعر بوجود سقط قبل كلمة (كما مر) ولا يوجد سقط.
[179] سقطت من (أ) و (ج).
[180] في (ب): سجدة من السجدات الأربعة عشر.
[181] انظر: الأم للشافعي، والمجموع للنووي (3/285)، ونهاية المحتاج (1/452، 460، 461 وفيه... وتشديداتها يجب رعايتها فلا يخل بشيء منها حيث كان قدراً، لأنها هيئات لحروفها، وهي أربع عشرة شدة... فلو خفف منها تشديدة لم تصح قراءة تلك الكلمة. وإن كان ناسياً أو جاهلاً سجد للسهو. ولو شدد مخففاً أساء وأجزأه. ومتى ركع عمداً قبل إعادة القراءة على الصواب بطلت صلاته كما هو ظاهر) انتهى.
قلت: قراءة الفاتحة في الصلاة وفي كل ركعة ركن عند الشافعية والمالكية والحنابلة (انظر الأم: (1/103)، وبداية المجتهد: (1/310)، والروض المربع مع الحاشية: (2/26) واستدلوا لذلك بأحاديث منها: حديث عبادة بن الصامت: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))، أخرجه البخاري (فتح الباري 2/236 رقم الحديث 756) ومسلم في صحيحه 1/295 رقم لحديث 34، 394). وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم في صحيحه (1/297 برقم 41، 395 ونصه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج).(/48)
[182] مذهب الحنفية أن قراءة الفاتحة في الصلاة ليست ركناً، قال السرخسي في المبسوط (1/19): قراءة الفاتحة لا تتعين ركناً في الصلاة عندنا". واستدل لذلك بقوله: ولنا قوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فتعيين الفاتحة يكون زيادة على هذا النص وهو يعدل النسخ عندنا فلا يثبت بخبر الواحد.ثم المقصود التعظيم باللسان وذلك لا يختلف بقراءة الفاتحة وغيرها. (المبسوط 1/19).
[183] مابين القوسين سقط من (ج) وفي (أ) و (د) سقط اللام قبل (كانت...
[184] قال الإمام السرخسي: (فأما النية بعد طلوع الفجر لصوم رمضان تجوز في قول علمائنا رحمهم الله تعالى.. والشرط عندنا وجود النية في أكثر وقت الأداء (المبسوط (3/62).
[185] في الأم: لا يجزئ صوم رمضان إلا بنية كما لا تجزئ الصلاة إلا بنية. قال الشافعي: فكان هذا والله أعلم على شهر رمضان خاصة وعلى ما أوجب المرء على نفسه من نذر... فأما لتطوع فلا بأس أن ينوي الصوم قبل الزوال ما لم يأكل أو يشرب (2/95).
وقال الإمام النووي: تبيت النية شرط في صوم رمضان وغيره من الصوم الواجب، فلا يصح صوم رمضان بنية من النهار بلا خلاف. (المجموع 6/22).
[186] سقطت من (د).
[187] في (د) (من الليل).
[188] في (د) (يعم) بالياء بدون فاء.
[189] ورد جزء الآية ناقصاً موضع الشاهد من نسخة (د) حيث سقطت من الآية كلمة (حرج).
[190] الحج: 78.
[191] التوبة: آية 60.
[192] سقطت من (ب).
[193] المبسوط (3/8). وهذا مذهب المالكية والحنابلة (بداية المجتهد 2/118) (الروض المربع مع الشرح: 3/324، 325).(/49)
[194] في المجموع قال الشافعي والأصحاب: إن كان مفرق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل ووجب صرفها إلى الأصناف السبعة الباقين إن وجدوا وإلا فالموجود منهم، ولا يجوز ترك صنف منهم مع وجوده فإن تركه ضمن نصيبه، وهذا لا خلاف فيه، وبمذهبنا في استيعاب الأصناف قال عكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وداود. (6/192، 194).
[195] في (أ) و (ج): (يوافق) وهو خطأ من الناسخ.
[196] سقطت من (أ) و (ج) و (د).
[197] أي في المسألة الخامسة وهو قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} الحج: 78.
قلت: مذهب الجمهور ومنهم أبو حنيفة أقوى دليلاً في هذه المسألة حيث يرون أن الآية في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.. الآية} تعني عدم جواز صرفها لغير هذه الأصناف، فإن صرفت لواحد منها جازت وأيدوا ذلك بحديث معاذ رضي الله عنه حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: ((أعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)). متفق عليه فلم يذكر فيه إلا صنفًا واحداً.
[198] مغني المحتاج: 1/485 – 487. وإلى القول باشتراط الطهارة لصحة الطواف ذهب كل من المالكية والحنابلة: (بداية المجتهد 2/265) (المغني 3/440).
[199] المبسوط للسرخسي 4/38.
[200] في (ب) (بمشي طاهر) ولعله تصحيف من الناسخ.
[201] لقد نص الشافعية على ما تعم به البلوى في هذه المسألة مما يعد رداً على كلام المصنف فيما أورده عن المذهب الشافعي هنا. فقد قال الإمام النووي: ومما عمت به البلوى غلبة النجاسة في موضع الطواف من جهة الطير وغيره. وقد اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين المطلعين العفو عنه من ذلك.. ومما تعم به البلوى في الطواف ملامسة النساء للزحمة. (المجموع 8/17).(/50)
قلت: بعد هذا النقل عن كتب الشافعية يظهر لنا – والله أعلم – أن إيراد المصنف هذه المسألة في معرض التنصيص من مذهب الشافعية لم يقم على التحرير.
[202] الأصفهاني: محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن علي، العلامة شمس الدين الأصفهاني أبو الثناء. ولد بأصفهان سنة 694هـ واشتغل بتبريز ثم قدم دمشق سنة 725هـ. ودرس بها ثم قدم الديار المصرية سنة 732هـ، كان عارفاً بالأصليين، فقيهاً صحيح الاعتقاد ولي مشيخة خانقاه، له تصانيف عديدة منها شرح مختصر ابن الحاجب، وشرح منهاج البيضاوي، وشرح البديع لأبي الساعاتي،وشرع في تفسير القرآن ولم يكمله توفي بمصر سنة 749هـ (انظر هامش الفوائد البهية في تراجم الحنفية 198).
[203] سقطت من (أ) و (ج).
[204] كيف يكون في اشتراط الطهارة للطواف حرج وقد استدل القائلون بذلك بحديث عائشة المتفق عليه وفيه (أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت) وقوله صلى الله عليه وسلم للحائض وهي أسماء بنت عميس ((اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)).
قلت: وكان يمكن للمصنف أن يورد دليل المخالفين للحنفية وهم الجمهور ويرجح مذهب أبي حنيفة بما بدا له من وجوه الترجيح بدلاً من مقولته: يلزم من قوله هذا القول بانتفاء الإيمان دون دليل، كما أشرنا بذلك في المسألة الأولى.
أما بخصوص لمس النساء فالمشهور من مذهب أحمد – رحمه الله – أن لمس النساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوة، وهذا قول علقمة، وأبي عبيدة والنخعي، والحكم، وحماد، ومالك، والثوري، وإسحاق، والشعبي. (انظر المغني لابن قدامة جـ 1 ص 255، 256). فكيف إذن يصح قوله: فلولا مذهب أبي حنيفة... إلخ مما يشعر أنه تفرد بهذا الرأي!!.
[205] حاشية ابن عابدين (5/246). وفتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 2/133.
[206] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 1/87.(/51)
[207] انظر هامش المسألة الثانية في الطهارة. وفيه بينا حكم الروث عد الفقهاء من حيث الطهارة والنجاسة. ونقلنا عن المالكية قولهم بأن الخبز المخبوز على نار الروث النجس طاهر، وهذا يتعارض مع قول المصنف هنا (ولولا مذهب أبي حنيفة لما حل أكل خبز الديار المصرية إلا في حال المخمصة).
وقد يقال: إن المصنف اختص في مسائله هذه المذهب الشافعي فقط، لكن التعميم في مثل هذه العبارات يخرج بالمسألة عن دائرة المقارنة بين المذهبي إلى بقية المذاهب.
[208] السمور: حيوان ثديي ليلي من الفصيلة السمورية من آكلات اللحوم يتخذ من جلده فرو ثمين، ويقطن شمال آسيا. مج المعجم الوسيط 1/448).
[209] في (د) (الفتك) بالتاء وصوبه المحقق إلى الفنك اجتهاداً منه وهو كذلك في (أ) و (ب) و (ج) وليس الفتك. و(الفنك) بالفاء والنون مفتوحتين: دابة فروتها أطيب أنواع الفراء وأشرفها. صالح لجميع الأمزجة المعتدلة. القاموس مادة (ف ن ك).
[210] الفتاوى الهندية 3/115 وحاشية ابن عابدين 5/224.
[211] في مذهب الشافعية إن الدباغ يطهر كل جلد نجس بالموت ظاهره، وكذا باطنه على المشهور ما عدا جلد الكلب والخنزير وما تولد منهما. ولا يطهر عندهم بالدبغ ما على جلد الميتة من شعر ونحوه (المجموع للنووي 1/ 289 – 314) ومغني المحتاج للشربيني الخطيب 1/82).
[212] ما بين القوسين مثبت من (ب) وفي (أ) و (ج) جاءت العبارة كالآتي (وعلى هذا الاختلاف في الصلاة فيها).(/52)
[213] لم أقف على نص الحديث كما أورده المؤلف فيما تيسر لي الرجوع إليه من المراجع. غير أن البخاري أورد في صحيحه في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، تعليقاً، قول النبي صلى الله عليه وسلم: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" (فتح الباري: 1/93)، وأخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: "قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة" قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. (المسند: جـ3 ص 355 رقم الحديث 2107). وأورده الساعاتي في الفتح الرباني: (1/89).
وأخرجه الخطيب البغدادي من حديث جابر رضي الله عنه بقوله: "بعثت بالحنيفية السمحة – أو السهلة – ومن خالف سنتي فليس مني". (تاريخ بغداد 7/209).
[214] في (د): (خاصيته) وهو خطأ من الناسخ.
[215] ما بين القوسين سقط من (أ) و (جـ) وزاد في نسخة (ب): (أو لبس بلغارياً)، قبل (أو علق...).
[216] لم أقف على مراجع في كتب الشافعية أو الحنفية التي اطلعت عليها على هذه المسألة المتعلقة بلبس سلاح غلافه بلغاري. غير أن العلامة ابن أبي العز في الاتباع ذكر أنها متعلقة بمسألة جلود الميتة ولا يرى معنى لاستثناء الجلود (المستوردة) من البلغار. (الاتباع ص 69).
[217] في (ج): (مسلمين).
[218] المبسوط للسرخسي: (5/31).
[219] المجموع للنووي (15/354 – 357) ومغني المحتاج للشربيني الخطيب (3/145).
[220] في (د) يشركون.
[221] شركة الصنائع: هي شركة الأعمال. وتسمى شركة الأبدان وشركة التقبل. وهي جائزة عند الحنفية وغير جائزة عند الشافعية. (بدائع الصنائع: 6/56 – 57) (المجموع للنووي 13/515).
[222] سقطت من (د).
[223] ما بين القوسين سقط من (أ) و (جـ) و (د).
[224] في (ب) (وأحوالهم).
[225] في (د) (بينة).
[226] في (د) (مفضي).
[227] الهداية للمرغيناني (1/33).
[228] الهداية للمرغبناني (2/36).(/53)
[229] قال الإمام النووي: إذا رأت الحامل دماً يصلح أن يكون حيضاً فقولان مشهوران، قال صاحب الحاوي والمتولي والبغوي وغيرهم في الجديد أنه حيض. وقال في القديم ليس بحيض. واتفق الأصحاب على أن الصحيح أنه حيض فإن قلنا ليس بحيض فهو دم فساد. وقال أيضاً: إذا قلنا دم الحامل حيض فإنه لا تنقضى به العدة كذا قاله أصحابنا في هذا الباب. وإذا قيل: إذا جعلتم دم الحامل حيضا لم يبق وثوق بانقضاء العدة والاستبراء بالحيض لاحتمال الحيض على الحمل: فالجواب: أن الغالب أنها لا تحيض فإذا حاضت حصل ظن براءة الرحم وذلك كاف في العدة والاستبراء. فإن بان خلافه على الندور عملنا بما بان. والله أعلم. (المجموع 2/395 – 398).
[230] سقطت من (أ) و (ب)و (جـ).
[231] سقطت من (د)، وبدونها يختل المعنى.
[232] البقرة: آية (228).
[233] في (د): (إلى غير) بدلاً من: (وفي) والصحيح ما أثبتناه من النسخ الثلاث.
[234] الهداية 3/118.
[235] لم أقف فيما اطلعت عليه – في كتب الشافعية على القول بعدم ثبوت المعاملات عندهم بشهادة مستور الحال. غير أنه ورد في نهاية المحتاج قوله: (ولا يحتاج إلى وصف الشاهدين بالعدالة لانعقاده بالمستورين)، كما جاء في المجموع: (إن عقد – أي عقد النكاح – بمجهول الحال ففيه وجهان: أحدها: أنه لا يصح والثاني: أنه يصح، وهو المذهب. وفي نهاية المحتاج أيضاً: وينعقد ظاهراً بمستوري العدالة، وهما من لا يعرف لها مفسق (نهاية المحتاج 8/322، 6/215) والمجموع (15/354).
قلت: إذا كان مجهول الحال يصح بشهادته النكاح عند الشافعية، وهو المذهب – كما في المجموع، وأيضا إذا كان ينعقد عندهم النكاح بمستوري العدالة، فهل يمكن أن يقال بعد ذلك أن المستور لا تثبت به عند الشافعية المعاملات؟ أظن أن هذا يحتاج إلى مزيد دراسة.
[236] في (أ) و (ج) البياعات.
[237] في (أ) و (ج) التعاطي.
[238] ما بين القوسين سقط من (ب) و (د).(/54)
[239] الاختيار لتعليل المختار (2/5).
[240] قال الإمام النووي: المشهور من مذهبنا أنه لا يصح البيع إلا بالإيجاب والقبول. ولا يصح المعاطاة في قليل ولا كثير، وبهذا قطع المصنف، وفيه وجه مشهور عن ابن سريج أنه يصح البيع بالمعاطاة.
والغزالي والمتولي وصاحب العدة والرافعي والجمهور نقلوا عن ابن سريج أنه تجوز المعاطاة في المحقرات. (المجموع 9/171 – 174).
[241] سقطت من (د).
[242] في (أ) و (د): فلا يجوز.
[243] سقطت من (أ) و (ج) و (د).
[244] مذهب أبي حنيفة أن يُكتفى بظاهر العدالة في المسلم. ولا يسأل عن الشهود حتى يطعن الخصم بهم إلا في الحدود والقصاص فإنه يسأل عن الشهود، وإن لم يطعن فيهم الخصم. وعند الصاحبين – والفتوى على قولهما – لابد أن يسأل القاضي عن الشهود في السر والعلانية في سائر الحقوق، لأن القضاء قائم على الحجة، وهي شهادة العدول فلا بد من التعرف على العدالة. وفي ذلك صيانة للحكم القضائي عن النقض والإبطال بسبب الطعن في العدالة (المبسوط 6/112، بدائع الصنائع 6/268).
[245] مذهب الجمهور ومنهم الشافعية اشتراط القاضي العدالة في الشهود وهي عندهم صفة زائدة عن الإسلام تعني أن يكون المرء ملتزماً بواجبات الشرع ومستحباته مجتنباً المحرمات والمكروهات. (بداية المجتهد 4/434). (ومغني المحتاج 4/446).
قلت: وما نقلناه في الهامش (2) عن صاحبي أبي حنيفة من قولهما لابد أن يسأل القاضي عن الشهود. وهو مذهب الجمهور كما بينا في هامش (3) فذلك كله يدل على أن ما أورده المؤلف في هذه المسألة لا يصب في خانة ترجيح المذهب الحنفي كما قصد له بالرسالة بل العكس هو الصحيح والله أعلم.
[246] حاشية ابن عابدين (5/368).
[247] عند الشافعية لا ينعزل الإمام بالفسق على الصحيح.(/55)
قال الإمام النووي ولا تبطل ولاية الإمام الأعظم بالفسق لتعلق المصالح الكلية بولايته، بل يجوز ولاية الفاسق ابتداء إذا دعت إليه ضرورة، لكن لو أمكن الاستبدال به إذا فسق من غير فتنة استبدل.
وفيه وجه أنها تبطل، وبه قطع الماوردي في الأحكام السلطانية والصحيح الأول. (روضة الطالبين (6/32) و (10/48).
[248] في (ب) (تهمة أشلاء) وفي (د): (تهمة الإسلام).
[249] سقطت من (ب).
[250] سقطت من (أ) و (ب) و (جـ).
[251] سقط من (ب) و (د).
[252] في (د) (ويغضون).
[253] في (أ) و (جـ) (ويزيفون).
[254] في (د) (سؤال المنهج) وهو خطأ من الناسخ.
[255] في (د) (ولا يتعدون) وهو خطأ من الناسخ
[256] في (د) (الخوانق) وهو خطأ من الناسخ والصواب (الخورنق) وهو اسم قصر النعمان.
[257] في (أ) و (ج) (جاءت العبارة كالآتي: (التعريض والتلويح والتصريح بذكر الغرض من وضع الرسالة).
[258] سقطت من (د).
[259] في (د) و (أيد).
[260] في (د) (المفند) وهو خطأ من الناسخ.
[261] سقطت من (د).
[262] سقطت من (د).
[263] سقطت من (د).
[264] في (د) و(الماضي) وهو خطأ من الناسخ.
[265] في (أ) و (جـ) (الأتراك).
[266] نسخة (ب) خُتمت كالآتي (والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب).
[267] انظر ص: 30 من التحقيق.
[268] انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، 7/3 رقم الحديث: 3650/3651، وصحيح مسلم المجدل الرابع، ج7 ص 185.
[269] انظر: فتح الباري: 7/3.
[270] انظر: ص 34 من التحقيق هامش رقم: 3.
[271] ص: 18 – 30 من التحقيق.
[272] انظر: ص48 من التحقيق.
[273] المجموع للنووي: 9/28.
[274] ص: 54 من التحقيق.
[275] سورة الحج: 78.
[276] انظر مغني المحتاج للخطيب الشربيني: 1: 438.
[277] المجموع: 8/17.
[278] ص: 60 بالتحقيق.(/56)
العنوان: النكد الزوجي الباب الذي يأتيك منه الريح
رقم المقالة: 862
صاحب المقالة: سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
النكد هو العدو الأول للحياة الزوجية السعيدة، وبرغم أنه ما من زوج أو زوجة إلا ويفر من النكد فرار السليم من الأجرب، إلا أن النكد الزوجي واقع تئن من وطأته كثير من الأسر ربما لأنه كالنار يبدأ من مستصغر الشرر، فكيف تتجنبين النكد ابتداءً؟ وكيف تتخلصين منه إذا أصبح زائراً ثقيلاً لبيتك؟ هذا ما سنتعرف عليه في السطور التالية:
• حرب نفسية:
في كتابها (النكد الزوجي) تصف الدكتورة. "هيرفون" مسألة "النكد" بأنه: "التعكير الدائم لصفو الآخر، وهو تماماً كالحرب النفسية، وتُرجِع سببَه إلى الفراغ أو سطحية التفكير عند من يختلقه أو إلى تربية خاطئة خضع لها منذ الصغر، أو محاولة لجذب انتباه الآخر كانتقام منه على تجاهله لشريكه في الحياة مثلا".
وعلى الرغم من أن البعض يتهم الزوجات بأنهن "نكديات" بطبيعتهن، إلا أننا لا نستطيع غض الطرف عن الزوج لأنه أحياناً يقوم ببعض التصرفات التي تجلب النكد للزوجة ولأهل البيت أيضاً كأن يصر على عدم ذهاب زوجته لأهلها أو يضيق بأمها وأسرتها وقد ينتقد زوجته وشكلها وتصرفاتها، وقد يفضل السهر بعيداً عن المنزل ولا يهتم بشؤون أسرته. وغير ذلك من السلوكيات التي ترفضها الزوجة وتضطرها لمقابلة النكد بنكد مثله وهو ما يزيد الأمور اشتعالاً.(/1)
وفي المقابل يؤكد الأستاذ أكرم رضا.- الباحث في العلاقات الزوجية والأسرية- أن نكد الزوجات أبقى وأقوى وأشد ضراوة، فمن الزوجات من يختلقن النكد وتحول حياة زوجها إلى جحيم بسبب الشكوى المستمرة من كل شيء، فمن سوء الأحوال المادية إلى مشكلات الأولاد إلى إهمال الزوج لشؤون بيته إلى أمه التي تحشر أنفها في شؤونهم، وبدلاً من أن يَفتح الزوج الباب ويجد ابتسامة مشرقة ويداً حانية وصوتاً رقيقاً؛ يجد وابلاً من الأخبار السيئة ومشكلات الأولاد والجيران والأقارب!
• تعددت الأسباب والنكد واحد:
يرى الخبراء أن المشاحنات اليومية الصغيرة التي تحدث بين أي زوجين تؤدي دوراً واضحاً في ترسيب المشاعر السلبية بينهما، وهي إن كانت لا تحوي قدراً كبيراً من العنف إلا أنها تعتبر الشرارة الأولى لتفجر المشكلات الكبيرة وربما العنف المؤدي إلى الطلاق من منطلق أن معظم النار من مستصغر الشرر.
ويؤكد المختصون أن أغلب تلك المشاحنات لا تعبر عن عيوب في أحد الزوجين بل في طريقة التواصل بينهما. وهي عبارة عن شحنة زائدة ناتجة عن إحباطات ومشكلات طارئة تفرغ ضد الطرف الآخر وقد تكون لسبب تافه لا علاقة للطرف الآخر به، فالقاعدة في الزواج ليست حدوث المشاحنات والمشكلات، لكن القاعدة هي وجود اختلاف لا يؤثر في العلاقة الزوجية حيث تبقى سوية وطبيعية.
• عواقب النكد:
تقول د. نادية مرعي- أستاذة الأمراض الباطنة والقلب بطب الأزهر- : إن الحياة الزوجية المليئة بالنكد تؤثر بشدة في هرمونات المرأة والرجل، حيث يرتفع هرمون ( الكورتيزول ) نتيجة التوتر المستمر، وتصبح معدلات ارتفاع هذا الهرمون أسرع عند المرأة وهذا يؤثر في قدرتها على احتمال هذه الحياة النفسية، فضلاً عن أن النكد الزوجي يتسبب في الكثير من الأمراض لكلا الزوجين نتيجة الحياة التعسة.(/2)
وتمتد آثار النكد لتصل إلى الأبناء فيشعرون بالخطر والقلق والتوتر، ويقل إحساسهم بالاطمئنان. فضلاً عن إمكانية إصابتهم ببعض الأمراض؛ فقد عزت بعض الآراء العلمية الحديثة أحد أسباب الربو في سنوات الطفولة الأولى إلى الخلاف بين الأبوين الذي يستشعره الطفل حتى إن كان خافياً.
• حلول لفض الاشتباك:
يرى الخبراء والمختصون أن منع الخلافات مناف للطبيعة البشرية وطبيعة الاجتماع البشري وما يحمله من احتكاكات يومية لا تخلو من اختلافات في وجهات النظر، تجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل منعها فسبيل الحل هو إيجاد أسلوب للتفاهم.
وفض المشاحنات بين الزوجين يتطلب اعتماد الأسلوب الذي يؤدي إلى حل الخلافات وليس تصعيدها وأُولى الخطوات هي ضبط النفس والتفكير في أسباب المشكلة ومناقشة الطرف الآخر والاستماع لرأيه بهدف فهم وجهة نظره وليس للرد عليه ومن ثم يأتي دور تقييم المشكلة بموضوعية وهذا يتطلب قدراً من المرونة والتسامح في العلاقة للوصول إلى قناعة مشتركة وليس فرض رأي والإصرار عليه.
وفي حال عدم التوصل إلى قناعة مشتركة فلا بأس من تأجيل الموضوع لفترة، وقد يجدي الصمت في حال كون أحد الطرفين في مزاج عصبي أو عندما لا يمتلك رؤية واضحة للموضوع المختلَف عليه.
نصائح الخبراء للزوجات:
* لا تجعلي الابتسامة تفارق وجهك فهي رسالة غير مباشرة لحالة الحب والرضا وعدم الاستعداد للنكد.
* اطلبي معونة زوجك وأفراد أسرتك. فمثلاً اطلبي منهم أن يتقاضوك غرامة في كل مرة يضبطونك فيها متلبسة باحتداد المزاج أو خشونة اللفظ أو التحقيق في أمر تافه.
* عوِّدي نفسك أن تطلبي الشيء أو تقولي ملاحظاتك مرة واحدة. فالإلحاح أمر مزعج بالنسبة إلى الزوج إلا إذا كانت الضرورة ملحة.
* نمِّى في نفسك روحَ الدعابة، فالأحمق هو الذي يجعل من التوافه مآسياً.(/3)
* حاولي السيطرة على انفعالاتك في مواقف الغضب وتحدثي بهدوء عما يسبب لك الضيق، وتخيري وقتاً مناسباً عندما يكون زوجك هادئاً متفرغاً.
* اجعلي مقدرتك على الحصول على النتائج المنشودة بغير الالتجاء إلى الشجار أو الصوت العالي.
* راعي ظروف زوجك المادية والنفسية وشاركيه في حل همومه ومشكلاته بدلاً من أن تضيفي إليه هموماً وأعباءً جديدة وتَعَاونَا على تخطي العقبات.
* لا تقارني بين زوجك وأقرانه من أصحاب الدخل الأعلى أو المزايا المعيشية الرحبة فتلك المقارنة مجلبة للنكد.
* لا تستفزي زوجك ولا تذكِّريه بمشكلات سابقة؛ فهذا يجعله أكثر عصبية واستعداداً للنكد.
* تجنبي إيذاء مشاعر شريكك أو كرامته باللفظ أو القول أو الحركة؛ فتلك الإهانات تصيب الحالة العاطفية للطرف المهان بنوع من الشروخ يصعب إصلاحها.
* وأخيراً، تقول الباحثة. "لورا دويل" في كتابها "الزوجة المطيعة": عليك باحترام الرجل الذي اقترنت به، وابتعدي عن إهانته أو الاستخفاف والاستهزاء به، ولا تسفهي آراءه حتى إذا كنت لا توافقين عليها، وإذا فعلت أو قلت شيئاً بدون احترام يجب عليك الاعتذار، واقبلي إجاباته دون تقديم أيّ انتقادات، ويجب عليك ضبط نفسك بعدم نقده أو تقديم ملاحظات سلبية، إلاّ في إطار الحوار البنّاء.(/4)
العنوان: الهجرة النبويَّة
رقم المقالة: 1909
صاحب المقالة: الشيخ عكرمة بن سعيد صبري
-----------------------------------------
الهجرة النبويَّة
1- بداية التأريخ الهجري.
2- العناية بالتأريخ الهجري.
3- أهداف الهجرة النبويَّة.
4- وصف الصَّحابة الكرام في القرآن العظيم.
5- أهداف الهجمة الشَّرسة على رسول الإسلام.
6- التَّحذير من حملات هدفها تهويد القدس.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمَّا بعد:
فيقول الله - عزَّ وجلَّ - في سورة التوبة: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
أيُّها المسلمون:
يا أحباب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يستظلُّ المسلمون في أرجاء المعمورة في هذه الأيام بظلال ذكرى الهجرة النبويَّة الشريفة، تلك الهجرة التي لم تغيِّر حياةَ العرب فحسب؛ بل غيَّرت مجرى التَّاريخ البشري.
إنها الهجرة التي انفردت عن سائر الهجرات، فلم تكن هجرته عليه الصَّلاة والسَّلام من مكَّة المكرَّمة إلى المدينة المنوَّرة كأيِّ هجرةٍ حدثت من قبل أو ستحدث من بعد، إنَّها هجرةٌ فريدةٌ من نوعها، وهذا ما حدا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يتَّخِذَ من حادثة الهجرة النبويَّة منطلَقًا للتَّاريخ العربيِّ الهجريِّ، وحصل إجماعٌ من الصَّحابة الكرام على ذلك.(/1)
وعليه؛ فإنَّنا نطالب المسلمين - حكوماتٍ وشعوبًا - بالاهتمام بالتَّاريخ الهجري وعدم إهماله؛ باعتبار أنَّ حادثة الهجرة النبويَّة هي أهم وأبرز حَدَث في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة. فحريٌّ بالمسلمين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ أن يحيوا هذه الذِّكرى، وأن يتدارسوا تفاصيلَ حادثة الهجرة، وأن يستلهموا العِبَر والعِظات منها؛ فإنَّ في هجرة المختار موعظةً لنا، وفي هجرة المختار تنبيهًا.
أيُّها المسلمون، يا أحباب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، لقد قال بعض المؤرِّخين المسلمين: "إن الهجرة من مكة كانت إيذانًا بفتح مكة"؛ لماذا؟
لأنَّ الهجرة النبويَّة لم تكن هروبًا من معركة أو فرارًا من مواجهة؛ بل كانت تجسيدًا للجهاد وترسيخًا لقواعد الإيمان. ما كانت الهجرة طلبًا للرَّاحة والاستجمام، ولا حرصًا على الحياة؛ بل كانت استجابةً لأمرٍ ربَّانيٍّ لاستئناف الحياة الإسلاميَّة. لم تكن بحثًا عن الخيام والأكل والشُّرب وتوزيع المؤن الغذائية؛ بل كانت ارتفاعًا وتنزُّهًا عن العروض الدُّنيوية. ما كانت الهجرة النبويَّة طمعًا في الاستيلاء على أرضٍ، أو قهرًا لشعبٍ ولا استغلالاً لثرواته، وإنما هدفها السَّامي: إعلاءُ كلمة الله - سبحانه وتعالى - وتطبيق حكم الله في الأرض، وتحقيق العدالة بين النَّاس، وإيصال الحقوق للمظلومين وكفُّ أيدي الظالمين.
أيها المسلمون:(/2)
يا أحباب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، لم تَمْضِ ثماني سنوات من العمل الدؤوب والتَّخطيط الدَّقيق والجهاد المستمر - حتَّى تحقَّق ذلك الفتح؛ فتحُ مكَّة، والذي عُرِفَ بالفتح الأعظم؛ لارتباطه بأقدس الأماكن، ولاستعادته بأقلِّ الخسائر، وتمكَّن الصَّحابة - رضوان الله عليهم - من المهاجرين والأنصار من تنفيذ الالتزام الذي قطعوه على أنفسهم، وذلك بإدخال مكَّة إلى رِبْقَة الإسلام وحظيرته ودولته، بعد أن تحقَّقت الأخوَّة الإيمانيَّة الصَّادقة بين المهاجرين والأنصار، فكانت المؤاخاة بينهم أكبرَ وأعظمَ إنجازٍ ونصرٍ للإسلام والمسلمين.
فأين نحن من هذه المؤاخاة يا مسلمون؟! أين المسلم الذي يقسم أمواله بينه وبين أخيه المسلم المحتاج أو المهاجر؟! كيف كان وضع المهاجرين والنَّازحين من الشعب الفِلَسْطِينيّ؟!
نعم، لقد أخذ شعبُنا الفلسطينيُّ درسًا قاسيًا من المحن التي مرَّ بها بسبب الهجرة في عام 1948م، وبسبب النُّزوح عام 1967م؛ فرابط في أرضه المبارَكة المقدَّسة، وألقى خلفه خيامَ الذُّلِّ والهوان؛ ليعيش عَيْشَ الكرامة، وليكسب ثواب المُرابَطَة في أرض فِلَسْطِين.
أيها المسلمون:(/3)
يا أحباب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، لقد أثنى القرآن الكريم ومدح المهاجرين والأنصار على مواقفهم الإيمانيَّة بقوله - عزَّ وجلَّ - في سورة الأنفال: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]، كما وصف القرآن الكريم المهاجرينَ بالصَّادقين في قوله - تعالى - في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، ووصف القرآن الكريم الأنصارَ بالمفُلحين في قوله - عزَّ وجلَّ - في السورة نفسها: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
أيها المسلمون:
يا أحباب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إنَّ الهجرة قد توقَّفت بفتح مكة في السنة الثَّامنة للهجرة؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّةٌ، وإذا استُنْفِرْتُم فانفروا)).
هذا وقد توصَّل الفقهاء إلى حكمٍ شرعيٍّ يتعلَّق بالهجرة، ومُفادُه بأنه: لا يجوز مفارقة الأوطان إلاَّ إذا كانت الهجرة من أجل الجهاد في سبيل الله، أو بنيَّةٍ خالصةٍ لله - عزَّ وجلَّ - كطَلَب العلم، أو السَّعْي للرِّزْق، أو الفرار بالدِّين، وبقَصْد العَوْدَة إلى الأوطان.
أيها المسلمون:(/4)
في هذا المقام؛ فإنَّنا من على منبر المسجد الأقصى المبارَك نقدِّم تحيةَ إكبارٍ وتقديرٍ وثناءٍ إلى إخواننا في مناطق 48، الذين ثَبَتُوا على أرض فلسطين ولم يهاجروا إثْرَ النَّكبة التي وقعت عام 1948م، وإلى إخواننا في مدينة القدس والضفَّة الغربيَّة وقطاع غزة، الذين ثبتوا على أرض فلسطين أيضًا، لم ينزحوا إِثْرَ نكسة حزيران عام 1967م.
أيها المسلمون:
يا أحباب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يتوجَّبُ على المسلمين خلال إحيائهم لذكرى الهجرة النبويَّة الشريفة إبرازُ الدُّروس والعظات من هذه الذكرى المجيدة، والتي من أبرزها: المرابَطَة في الدِّيار الإسلاميَّة التي تتعرَّض للأخطار، والدَّعوة إلى عدم الهجرة منها.
نعم أيها المسلمون، إنَّ التنقُّل والسَّفَر بين قُطْرٍ وآخَر من أقطار العالم الإسلامي أمرٌ مباحٌ ومشروعٌ؛ لأنَّ الإسلام لا يعترف أصلاً بالحدود القائمة بين الأقطار الإسلاميَّة؛ فهي حدودٌ مُصْطَنَعَة وغير مشروعة، ولكن هذا لا يعني أن يتهرَّب المسلمون من المسؤولية، وأن يهاجروا من القُطْر الذي يتعرَّض إلى الأخطار والاعتداء، فالنُّصوص الشرعيَّة والأحكام الفقهيَّة أوجبت الثَّبات في البلاد وعدم الهجرة منها وعدم هجرانها؛ جاء في الحديث الشريف: ((عينان لا تمسّهما النَّار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله)).
الخطبة الثانية
أتناول في الخطبة أمرَيْن مهمَّيْن خطيرَيْن:(/5)
أوَّلاً: محاولات الإساءة إلى خير البريَّة محمد: سبق أن تعرَّضنا لهذا الموضوع حينما نشرت إحدى الصحف في الدنمارك رسومات ساخرة مهينة بحقِّ نبيِّنا الأكرم، وتشكَّلَتْ في أوروبا لجنة باسم: (اللجنة الأوروبيَّة لنصرة خير البريَّة) لمتابعة هذا الموضوع، ولا تزال هذه الهجمة الشَّرسة الحاقدة، ولمَّا كانت ردود الفعل من قِبَل الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي والعربي - مع الأسف والألم - فاترةً وضعيفةً؛ تجرَّأتْ صحفٌ أخرى في النرويج لنشر نفس الرُّسومات قبل أيام، والتي سبق أن نُشرت في الدنمارك، وهذا يؤكِّد أنَّ الحملة المسعورة الظالمة هي حملة صليبية جديدة حاقدة ومبرمَجَة، وأنَّها أخذت تستشري في أوروبا وأمريكا متسترةً تحت شعار "حرية الرَّأي والتَّعبير" كما يدَّعون ويزعمون، والله - سبحانه وتعالى - يقول: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
وهل التعرُّض للأديان وللأنبياء والمرسلين يدخل ضمن هذا الشِّعار المزيَّف؟! هل يجوز لأيِّ شخص أن يتعرَّض للسيِّد المسيح ولسيدنا موسى - عليهما السَّلام - تحت شعار حرية الرَّأي والتَّعبير، والله تعالى يقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ} [الكافرون: 6]؟! وهل يتجرَّأ أحدٌ أن يتعرَّض إلى الذين يعبدون البقر والحيوانات الأخرى؟!
إنها حملةٌ ضدَّ الإسلام والمسلمين، لماذا؟
لأنَّ الإسلام أخذ ينتشر ويُشعُّ نوره في أوروبا وأمريكا، والله - سبحانه - يقول: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون}َ [التوبة:32].(/6)
سيدي يا رسول الله، إن لم يدافع عنك المسلمون فإنَّ الله ربَّ العالمين قد تولَّى الدِّفاع عنكَ بقوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]، ومدحكَ ربُّ العزَّة بقوله في سورة القلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وسيبقى نور الإسلام مشعًّا في أوروبا وأمريكا وفي الكون كلِّه؛ لينير قلوبَ المؤمنين، وليَطْمِس على قلوب الكافرين الحاقدين.
أيُّها المسلمون، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج:
ثانيًا: المسجد الأقصى المبارك (للمرَّة تِلْوَ المرَّة)، نشرت الصحف العبرية بحثًا صادرًا عن مركز القدس للدِّراسات الإسرائيلية، يُقتَرح فيه نقل صلاحية إدارة الأماكن المقدَّسة في الحوْض التَّاريخي للقدس إلى الأسرة الدُّوَلِيَّة، ويقصدون بالحوْض التَّاريخي للقدس: منطقة المسجد الأقصى المبارَك وبلدة سُلْوَان، وهذا البحث هو قديمٌ جديدٌ، وقد سبق أن طُرِحَ عام 2000م في مفاوضات (كامب ديفيد) الفاشلة، والآن يُعاد طرحه من جديد في المؤتمر الذي عُقِدَ في (هِرْتِسِلْيَا) هذا الأسبوع. وفي البحث تبريرٌ غيرُ منطقيٍّ، بأن تتولَّى جهةٌ ثالثةٌ الإشرافَ على الأماكن المقدَّسة؛ بحجة انعدام الثِّقة بين الفِلَسْطِينيين واليهود!.
أمَّا الطَّرْح الإسرائيلي لتدويل الأماكن المقدَّسة فهو مقبولٌ لديهم؛ لأنَّهم لا يملكون أصلاً أماكنَ مقدَّسة، وبالتَّالي فإنَّ الطَّرَف الخاسر هم المسلمون، وعليه فإنَّ الهدف البعيد من هذا الطَّرْح الخطير الخبيث هو كفُّ يد المسلمين عن المسجد الأقصى المبارَك، أو على الأقل: انتزاع اعترافٍ من المسلمين بأنَّ لهم شركاء في المسجد الأقصى المبارَك لتهويد المدينة.(/7)
ونؤكِّد أن موضوع الأقصى غير قابلٍ للنِّقاش، وهو إسلاميٌّ، وسيبقى المسلمون حماةً للقرار الربَّانيِّ بإسلاميَّة هذه الدِّيار، وسيبقى الأقصى أرضًا وبناءً وسماءً وباطنًا هو الأقصى، لا تغيير لواقِعه الدِّيني: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
ملخَّص الخطبة:(/8)
العنوان: الهدوء.. لماذا تبحث عنه المرأة؟
رقم المقالة: 636
صاحب المقالة: فاطمة غنيم
-----------------------------------------
نعيش اليوم في زمن السرعة داخل عالم مشحون، وتنتج لنا التكنولوجيا ثقافة ومجتمعاً يتوقعان وجود كل شيء في الحال، وتخضع المرأة الحديثة لقدر هائل من الضغوط، حيث يُنتَظر منها أن تفعل كل شيء، والكثيرات منا يعملن دوام كامل، وفي نهاية اليوم، نعود إلى منزل مزدحم بالأشخاص الذين يحتاجون إلينا لعمل شيء أو آخر، ومن واجبنا تنظيم البيت وكل من يعيش فيه، ومن مهامنا أن نخلق مكاناً يجعل الأسرة تشعر بالراحة وصفاء النفس، أين نذهب لنعثر على الهدوء؟ ثمة مقولة مفادها: "مكان المرأة بيتها"، وأخرى تشير إلى أن "المرأة تحتاج إلى ركنها الخاص داخل بيتها".
وتشتمل بيوتنا على مساحات يمكن الاستفادة منها في كل الأغراض، فهناك أماكن تصلح لتسلية الضيوف، وإطعام الزائرين، وأخرى لتناول الطعام، والطبخ، ومشاهدة التلفاز، واللعب، والنوم، والاستحمام، ولكن هل من الممكن أن نجد مكاناً نلجأ إليه في بيوتنا بحيث يتميز بالهدوء والسكينة؟ مكاناً ساكناً ولطيفاً يمنحنا الإحساس بالراحة والسلام؟ في مكان كهذا ستكون لدينا الفرصة للوصول إلى الرغبات المكنونة في أعماق قلوبنا، وللتواصل مع جمال الكون، ورؤية الحب والتناغم في كل الأشياء من حولنا، وعلى قدر حبنا لأسرنا، فإن هناك أوقاتاً نحتاج فيها للخلود إلى الراحة واسترداد عافيتنا وقوتنا الداخلية، ويجب علينا أن نعترف بالحاجات الضرورية بالنسبة لنا بوصفنا نساء ونبذل أقصى ما في وسعنا لتنظيم الوقت لصالحنا، فخلق مساحة للصلاة، أو القراءة، أو الدراسة، أو الراحة والتجديد النفسي، أو حتى للجلوس والدخول في عالم الأحلام الرحب فحسب يدفعنا إلى الإسراع في إنجاز ذلك.
اختيار الغرفة:(/1)
بالرغم من عدم وجود ضرورة لهذه الخطوة، فمن اللطيف أن تختاري غرفة لا يستخدمها بقية أفراد الأسرة إلا نادراً، واختيار الغرفة يسمح لك بالقدرة على الذهاب إليها في أي وقت تريديه، وتحتوي معظم البيوت في الشرق الأوسط على صالون إضافي أو غرفة نوم إضافية غير مخصصة لغرض محدد، وهذه فرصة عظيمة لتفعلي ما تريدينه على أكمل وجه دون الاضطرار إلى الدخول في حسابات تتعلق باحتياجات الآخرين، وإذا لم تكن هناك غرفة زائدة في البيت، فإن غرفة نومك قد تكون أفضل خيار أمامك، عليك أن تقرري بحيث تأخذين وضع وتحركات الأسرة في الحسبان.
تنظيم المكان:(/2)
بمجرد اختيارك للغرفة التي تريدين استخدامها، فإن الخطوة الأولى هي إجراء عملية تنظيف، وربما يمثل هذا الإجراء أهم خطوة ستقومين بها في إطار خطتك لخلق مكان هادئ، وبعد إنجاز هذه العملية، ربما- حين ترين الفرق الذي صنعته النظافة وحصولك على مكان خال من الفوضى- تقررين استكمال المهمة فتقومين بتنظيف البيت بأكمله، قومي ببذل أقصى جهد ممكن وكأنك تبدئين بقطعة قماش رسم فارغة، انزعي كل شيء ليس له فائدة، تخلصي من كل الفوضى (الأشياء التي يجب أن تكون في مكان آخر أو تلك التي يجب أن تعطيها للآخرين أو تلقي بها بعيدا)، تفحصي بدقة قطع الأثاث المحيطة، وكل الإكسسوارات الموجودة في الغرفة، ما الشعور الذي تثيره فيك؟ إن لم تكوني تحبين هذه الأشياء، ولم تكن لها القدرة على أن تجعل قلبك يغني، فأخرجيها على الفور من الغرفة، وإذا أصاب أي منها الكسر، فقومي بإصلاح ما انكسر أو تخلصي منه، والأهم من ذلك أن لا تتشبثين بها حتى لو كانت ذات شكل جميل، فإذا كانت بعض الأشياء لا تمثل شخصيتك الآن، فدعيها وتخلصي منها، على الأقل انقليها إلى غرفة أخرى، وتذكري أن هذه الغرفة ملكك، وبمجرد أن تمرين على كل الأغراض الموجودة في المكان الذي اخترتيه، وقد تخلصت من كل الأشياء التي لا ترغبين في وجودها، فأنت الآن على استعداد تام للمضي قدما والمطالبة بركنك الخاص في البيت.
اختيار الألوان:
إن اللون الذي تختارينه سيكون بمثابة الخلفية التي تنسدل عليها أفكارك وعواطفك، والتأثير السيكولوجي للألوان أمر مقبول ومعترَف به على نطاق واسع، فيُعرَف اللون بقدرته على تغيير الأمزجة والعواطف والاستجابات الجسدية، وقد عُرِف عن الناس أنهم يشعرون بشيء مختلف في وجود الألوان المتغيرة، ويُعد اللون أهم عنصر في التصميم، فهو الذي يضبط نغمة المكان، ويُبرِز السمة العامة له،، وغالبا ما يرتبط القرار الخاص باختيار اللون بالوعي الباطن، سواء أدركنا ذلك أم لا.(/3)
إن الغرض الأساسي من خلق مكان خاص هو الحصول على السكينة والتجدد النفسي، وهو ما يتطلب لوحة ألوان قادرة على توصيل هذه الأحاسيس، فاستخدام مزيج من الأخضر أو الأزرق أو الأرجواني ودرجة من درجات الألوان الدافئة يمنحك شعوراً بالسكينة، وتأكد من عدم امتزاج الأزرق والأخضر بدرجات رمادية ثقيلة، وعليك باستشارة مختص الألوان، تجنبي استخدام اللون الأحمر ودرجاته، وكذلك البرتقالي والأصفر والذهبي؛ فهذه الألوان مثيرة بطريقة فاضحة، ولن نحصل منها على الغرض الذي نبحث عنه، كما أن الأبيض الصِّرْف يؤدي إلى التوتر وإرهاق العينين، وعندما تريدين إضافة ألوان محايدة، عليك باختيار الدرجات الناعمة مثل البيج والكريمي.
الإضاءة السليمة:
إن فهم التأثير الذي تحدثه الإضاءة في النفس سيساعدنا في التأكد من أن الجو الذي نأمل في تحقيقه يتمثل في النتائج التي سنصل إليها، وبالرغم من أننا نعيش تحت دائرة كبيرة من ضوء الشمس في هذه البقعة من العالم، نجد أن القليل جداً من بيوتنا يستفيد جيداً من الإضاءة الطبيعية المتاحة، وتقوم معظم البيوت بإسدال الستائر لحجب الأنظار المتطفلة وطلباً للخصوصية، وهي بذلك تسد واحدة من أهم العناصر الجوهرية في الحياة؛ فالضوء عنصر مهم جداً لصحتنا وسلامتنا.(/4)
إن الأنشطة الضوئية الخارجية المحيطة بالمنزل تعد جزءاً حيوياً من الحياة الطبيعية، ولها نفس أهمية الطعام والشراب والهواء، فالضوء جانب أساسي من جوانب الحياة، ويُعرَف الناس الذين يعيشون في المناطق الشمالية بأنهم يعانون مرض الاضطراب الموسمي، والاحتمال كبير أن يمثل هذا المرض مشكلة لبعض الناس الذين يعيشون في المناطق الحارة أيضا، نظراً لأنهم يتجنبون الحرارة والشمس باستمرار، وتلعب ثقافة المنطقة دورها في هذه الحالة، على سبيل المثال، يتم زجر النساء عند الخروج ومن هنا تعرض أجسامهم لضوء الشمس، والبعض منا لا يخرج مطلقا، وقد تم إجراء العديد من الدراسات عن هذا الموضوع، وجاءت النتائج كلها لصالح الاستفادة القصوى من الإضاءة الكاملة التي تحاكي ضوء الشمس.
ونعني بالإضاءة الكاملة تلك الإضاءة التي تحتوي على جميع ألوان الطيف؛ ونتيجة لهذا، فإنها لا تؤثر على قيمة أو لون أو كثافة لون دافئ أو بارد، ويؤدي نقص التعرض لضوء الشمس الطبيعي إلى اضطراب في المزاج والاكتئاب ونقص حاد في الطاقة، إضافة إلى نقص الحافز الجنسي، والنوم المتقطع، وزيادة تناول السكريات، وعند إنشاء مساحة خاصة للراحة وتجديد الذهن، فينبغي على المرء أن يضع في اعتباره الإضاءة الطبيعية الكاملة.
اختيار الأثاث:
ينبغي أن يكون الأثاث الذي سيقع عليه اختيارك ذو خطوط رقيقة وناعمة، فالتفاصيل الكثيرة ترهق الذهن، ومن هنا تحرمك من تجربة الهدوء التي نريدها، وتجنبي الأشغال اليدوية الكثيرة في التصميم والأنماط، وحاولي الالتزام بدرجات الألوان الدافئة والقماش الطبيعي، وليس من الضروري أن يمتلئ المكان "بالأغراض"، بل على العكس من الأفضل أن تقللي من عددها.
القماش والنسيج:(/5)
ينبغي أن يكون هناك ارتباط وانسيابية بين الأثاث وستائر النافذة والسجاد والوسائد، فمن السهل خلق بيئة تثير في النفس الاضطراب والتحدي عبر القماش والنسيج الذي تضيفيه للمكان الخاص بك، قد تروق لك الأشياء كل على حدة، ولكن احرصي دوماً على وجود وحدة تجمع بين هذه الأشياء.
ومن المفيد، من وجهة نظري، أن تلتزمي بدرجة لونية واحدة عند اختيار الأثاث والإكسسوارات لكي تسمحي لخلفية لون الحائط والإضاءة أن تقوما بإضفاء طابعهما على المكان.
الطبيعة داخل المنزل:
إن استلهام البيئة المحيطة بالمنزل ودمج عناصر منها يعد طريقة بديعة لإضافة ملمَس متميز إلى بيئتك الخاصة، فهذا يساعدنا على تذكر التناغم والجمال الطبيعي للعالم الذي نعيش فيه، وهو ما يتيح لنا فرصة للتواصل مع الطبيعة، حتى لو حاولت أحوال الطقس خارج المنزل أن تثنينا عن قضاء بعض الوقت في الخارج، يمكنك إضافة نباتات، وأغصان، وشموع، ومجاري مائية، وسلال خشبية حتى لإضافة روح الخارج إلى المكان الخاص بك، وعليك مرة أخرى أن تتذكري أن القليل يكفي.
تذكار:
إن كل شيء ننظر إليه يمثل شيئا لنا، ربما ترغبين في إضافة قطعة فنية أو شيء أهداه لك شخص عزيز عليك، فعندما نحيط أنفسنا بالأشياء العاطفية، فإن ذلك يساعدنا على الشعور بالراحة والحب، ولكن لا تقومي بوضع الكثير من الأشياء الخاصة، عليك باختيار تذكار واحد فقط بحيث يعني لك الكثير.
تناغم:(/6)
إن المتطلبات التي تضعها الحياة فوق أكتافنا تتشابه في كثير من النواحي، كما أن الحاجات والرغبات تتشابه في الغالب أيضاً، وعندما أفكر في إمكانات وفوائد (التصميم الداخلي) التي تمت على نحو جيد، فأول شيء يطرق ذهني هو التناغم، فعندما يسري التناغم في الأشياء التي تحيط بنا، فإنه قادر على تغيير كل جوانب الحياة حولنا، وينبغي على النساء أن يدركن الأهمية التي نملكها في البيت، وفي حياة أفراد أسرنا، ناهيك عن دورنا في المجتمع، وكيف نستطيع التأثير بإيجابية في العالم من حولنا عندما نتمكن من التوصل إلى سلامنا الداخلي، إن خلق مكان هادئ خاص بنا واستخدامه يُعد خطوة عظيمة نحو بناء بيت سعيد وعائلة منتجة.(/7)
العنوان: الهدية
رقم المقالة: 723
صاحب المقالة: ملك الحافظ
-----------------------------------------
إن الرابطة بين المعلم والمتعلِّم لا يعرف قدْرها إلا مَنْ ذاق حلاوتَها وعايش فُصولَها، ومارس طُقوسَها، إنها لَعلاقةٌ أغلى بكثيرٍ من علاقة النَّسَب، وأسمى بكثير من رابطة القَرابة!!
لو توَّجوني ملكةً أو نصَّبوني أميرةً، فلن أرضى إلا أن أكونَ معلِّمةً!
منذ ثلاثين سنة وأنا أكتب، ما تسرَّب المللُ إلى قلبي، ولا الوَهن إلى قلمي، كتبتُ على أوراق الدفاتر، وعلى صفحات القلب، على جبين القمر، وضفائر الشمس، عن أعظم مخلوقين عاشا على سطح هذا الكوكب: إنهما المعلِّم والأم!!
في شهر آذارَ تتزاحم المناسبات، وقد جرت العادةُ أن أكتبَ في كلِّ مناسبة كلمةً أُلقيها على الطالبات في الحفل الذي نقيمُه في المدرسة، وحدث أن كتبتُ كلمةً عن الأم، ولم يُتَح لي أن ألقيَها في الحفل العام، وحين دخلتُ الصفَّ، طلبت مني طالباتي أن أقرأَ لهنَّ ما كتبتُ، وهذا ما حدث، وما إن انتهيتُ من قراءة هذه الكلمة حتى طلبت مني إحداهُنَّ أن تأخذَها لتقرأَها على أُسرتها في البيت، استجبتُ لطلبها، وفي اليوم التالي، دخلتُ إلى الصفِّ، فابتدرَتني قائلةً، وهنا أحبُّ أن أنوِّه أن هذه الطالبةَ كانت من أحبِّ الطالبات إليَّ، كانت ذكيةً، قوية الشخصية، حاضرةَ البديهة، تتمتَّع بالشجاعة الأدبيَّة التي تُعجبني، والتي أُشجِّع طالباتي عليها.
قالت لي: (يا معلِّمتي! أنت يجبُ ألا تكوني معلِّمة!!)
فوجئتُ بقولها أيَّما مفاجأة، وخُيِّل لي -للحظة- أنها تَهجوني، وأنها رأت فيَّ شيئًا لم أره في نفسي، ولكن من عادَتي ألا أتسرَّعَ، وأن أقبلَ النقد الموجَّه إليَّ حتى ولو كان من طالبةٍ صغيرة ما تزال في الصفِّ السابع.
صمتُّ، ونظرتُ إليها نظرةَ استغراب مَشوبة بالدَّهشة، وحاولتُ جاهدةً أن أُلملمَ ذاتي المبعثرة، ولم ألبَث أن سألتُها: ومَن قال لكِ هذا؟؟(/1)
أجابت بثقة أقلقَتْني: أُسرتي.
قلتُ: وماذا أصلح أن أكونَ إذًا؟
قالت وعيناها تفيضان بحبٍّ كبير: يجب أن تكوني ملكةً أو أميرةً، وأخذت تخلعُ عليَّ من المناصب والرُّتَب ما لم أحلُم به في يومٍ من الأيام.
انقشع الهمُّ عن صَدري، وأحسست أنَّ اعتباري قد رُدَّ إليَّ، فافترَّ ثغري عن ابتسامة..
قلتُ لها، وكان حوارنا ديمقراطيّاً هادئًا، وأمام الطالبات جميعًا: ثقي – يا عائدةُ – لو توَّجوني ملكةً، أو نصَّبوني أميرةً فلن أرضى أن أكونَ إلا معلِّمة!.
كانت لهجَتي مَشوبةً بالصدق والإصرار والإيمان، على الرُّغم من الرِّعشة التي سَرَتْ في صوتي، فهدأ كلُّ شيء حولي، كانت عشراتُ العيون ترنو إليَّ، ولكلِّ عين لغتُها..
وبعد دقيقةٍ من الصمت قالت: أإلى هذا الحد تحبين عملك؟
قلتُ: بل أكثر، إن مهنةَ المعلِّم أشرف المهن؛ فالناس جميعاً يتعاملون مع الجمادات والماديات، من المهندس، إلى الحدَّاد والنجَّار... إلا المعلمَ فإنه يتعامل مع الأرواح والعُقول، وهذا أثمنُ شيء يملكُه الإنسان، ألم تسمَعي قولَ الشاعر:
أرأيتَ أشرفَ أو أجلَّ منَ الَّذي يَبني ويُنشِئ أنفُساً وعُقولا؟
أخلدت محدِّثتي إلى الصمت، ولكني قرأتُ في عينَيها وعيون زميلاتها إيماناً لا حدودَ له بقدسيَّة التعليم وقداسة المعلِّم، وكانت ثمرةُ هذا الإيمان أنها قدَّمت لي هديةً أعتزُّ بها كثيراً، لم تكن من نوع الماديات، كانت كتاباً؛ هو الرسالة الجامعيَّة التي نال أخوها بوساطتها شهادةَ التخرُّج في قسم الصيدلة وقد صدَّرتْهُ بالإهداء التالي:
"إلى الآنسة المحترمة: يُسعدني أن أُشركَك فرحتي بتخرُّج أخي بإهدائك رسالته حُبّاً وعرفاناً بالجميل، ووفاءً لكلِّ حرف علَّمتِني إياه، مع أطيبِ أُمنياتي لك بالصحَّة والسعادة والهناء. طالبتُك المحبَّة لكِ: عائدة".(/2)
وداخلَ صفحات الكتاب طالعَتني وردةٌ حمراءُ ضمَّخ عطرُها أوراقَ الكتاب، وما زالت حتى اليوم كما هي تضمُّها أوراقُ الكتاب إلى صَدرها بحُنُوٍّ بالغ، لقد جفَّتْ تُوَيجاتُها، ويَبست أوراقُها، ولكنَّ عطرَها ما زال يتضوَّعُ ويردُّني إلى تلك الذكرى العطِرَة التي أعدُّها نقطةً مضيئةً في حياتي.
انتهى العامُ الدراسيُّ، وكانت عائدةُ الأولى في صفِّها، وبدأت العطلةُ الصيفية وانتهت، ورجعنا إلى المدرسة، دخلتُ الصفَّ وأجَلْتُ نظري بين الطالبات فلم أرَ وجه عائدة، سألتُ عنها، فقيل لي: إنها أقامَت مع أُسرتها في الأردُنِّ الشقيقة..
افتقدتُها، وتمنيتُ لو تابعتْ رحلتَها معنا، ولكني دعوتُ لها بالخير والتوفيق.
ومرَّت الأيام، وانقضى شَهران وربما أكثر على افتتاح المدرسة، وبينما أنا صاعدةٌ السُلَّم إلى صفِّي وفي المنعطف طالعني وجهٌ صبوح، إنه وجه عائدة..
اندفعتْ نحوي تسلِّم عليَّ وتسأل عن أخباري، كان لقاء حارّاً، سألتُها عن أخبارها فقالت: لقد أقمنا في الأردُنِّ، وهذه هي الزيارة الأولى لدمشقَ بعد أن سافرنا، وأول مَن فكَّرتُ أن أراه هو أنتِ، وبعد أن اطمأنَّت كلٌّ منا بأخبار الأُخرى ودَّعَتني وذهبت، ومنذ ذلك اليوم لم أرَها.
والآنَ بعد مرور اثني عشر عاماً على الحادثة الأولى، وكلَّما جاء عيدُ المعلم، أُخرجُ هديةَ عائدة وأفتحها وأقرأ إهداءها لي، وأشمُّ رائحة الوردة، وأرى من خلال ذلك كلِّه وجهَ عائدة. إني أُحسُّ أنَّ رابطةً قوية تشدُّني إليها، إنها أسمى من القَرابة، وأعظم من الذِّكرى!!....(/3)
العنوان: الهم الجسدي في الأدب النسائي الحداثي
رقم المقالة: 1819
صاحب المقالة: د. صالحة رحوتي
-----------------------------------------
مقدمة
الإسلام حرر الإنسان كله، وما عمل على تكريس الفصل المقيت بين مكوناته، إذ اعتبره مزيجا من حفنة من طين ومن نفخة علوية، فإن اعتنى ذلك المخلوق بالجزء الطيني فقط واحتفى به وبمتطلباته ارتكس وانغمس في الطين، وإن زاوج معه الاهتمام بالجزء الروحي أيضا، اعتلى وسما وانجذب من وهدة التردي والاندحار.
وإيثار الجسد بالاهتمام كله في أي مجال كان، سواء الأدبي أو غيره، مفسدة وتضييع لحق الإنسان في التمتع بإنسانية تكرمه وترفعه، فالحيوانات إن استجابت لنداء الجسد المجرد وانساقت مع دعواته فإنها المسيرة في ذلك، وهذا مكمن الفرق مع الإنسان، ذلك المميز بالعقل المُقَيِِّد للغرائز المُسيِّرِ لها وَفق ما يخدم حاجات روحه ونفسه ومجتمعه ووطنه، وكذا العالم كله الذي هو مكلف بحسن الاستخلاف فيه.
ونظرا لتغييب مثل هذه القناعات الداعية إلى عدم إفراد الجسد بالاهتمام - وكذا اعتباره، فقط، رافداً يجب التعامل معه بما يجب مما ورد في مبادئ الدين - نرى أن انحرافاتٍ شتى بدت واضحة المعالم في كل الميادين والمجالات..
ولم يُغمط المجال الإبداعي الأدبي حقه من هذه الظاهرة، إذ اجتاح الحديث عن الأجساد جُلَّ مضامين الإبداعات الأدبية بصفة عامة، وخاصة منها تلك التي نسجت خيوطها المبدعات من النساء.
فالجسد حاضر في كل منعطف، ومُحتفى به في كل ركن...ومُطالَب بتمتيعه بأقصى درجات الحريات في جل الأنساق من الكلمات...
إنها المعادلات التي أضحت ثابتة ومن قبيل المتفق عليها لديهن هن "المثقفات" الحداثيات النسوانيات، وهي كذلك المفاهيم الراسخة والتي أصبحت غير قابلة للتجاوز عندهن إلا تحت طائلة الوسم بالرجعية وبتكريس استحسان استعباد النساء...
• - البيت = السجن.
• - الزوج = تبلد الحس والبرود العاطفي.(/1)
• - الحياة الزوجية = القيود اللامرئيّة الموغِلة بالمرأة في الإحباط والضياع.
• - الجسد = الجوع الجنسي المتواتر غير المشبع بفعل الضغوط النفسية الناتجة عن التقاليد والدين والزواج...
• - الدين = الأغلال والحيف...وأيضا شتى صنوف القهر المبيحة لكبح حرية الجسد، والداعية لعدم تمتيعه والإمتاع به، والمانعة من حرية التعامل به ومعه.
وهكذا...هلم جراً
ثم وهنّ دائما على المنوال نفسه ينسجن... إذ:
• - إنه الحرمان الجسدي ذلك المتغنى به... المصور بعناية، والمشوب برثائيات للجسد الوَلِهِ إلى الإشباع وإلى الارتواء...
• - وإنها المعاناة النفسية الناتجة عن ذلك لدى المرأة في كل الطبقات وكل الفئات...
• - وإنها الدعوة إلى تخطي الحدود المرسومة، وإلى تحدي المتفق عليه... وإلى تجاهل الأحكام المسبقة والمحاكمات المجتمعية في سبيل تحقيق حقوق ذلك الجسد الظمآن المتشظي بفعل الحرمان...
• - وإنه التحفيز على الأخذ بالمباهج المتاحة لذلك الجسد الآيل إلى تردٍّ، ومن ثم زوال... وذلك قبل فوات الأوان...
• - وإنه الجهر بالدعوة إلى ممارسة ما يمارسه الرجل من "حريات" في هذا المجال وهو "مضمون" الشرف "موفور" الكرامة...غير محاكم من طرف التقاليد
والأعراف...
هذا هو المعبر عنه فقط -أو تقريباً- في كل النتاجات الإبداعية النسائية الحداثية...
ويُدبَّج ويُنمق الكل في لوحات تتكرر بشكلٍ لامتناهٍ، والنتيجة صور نمطية تتكرر للمرأة المقصاة من تحرير الجسد، ومن الاستمتاع بكل قدراته وإمكانياته ومكوناته...
وتَستخرِجُ تلك الصور المتناسلة أسئلة تفرض نفسها، بل وتلح في طلب الجواب، وذلك انطلاقا من أن تكريس الأديبات النسوانيات لجزء غير بسيط من إنتاجهن الأدبي للحديث حول كل ما يتعلق بالجسد، وبرغباته... وبما يحيط به... وما هو كائن حوله... لابدّ ونابع من وجود حيثيات وأسباب معينة لابد أن منها:
1 - تداعيات وتأثير نمط الحياة الخاصة بهن هن المبدعات.(/2)
2 - الرغبة في ممارسة حرية التصوير والتعبير في الإبداع الأدبي كما تريده المدرسة الأدبية الحداثية.
3 - ركوب صهوة التحدي والاقتداء بالأديب المبدع الرجل.
4 - الرغبة في إرضاء الغرب لنيل الحظوة لديه.
هذه على سبيل التمثيل لا الحصر بعض الأسباب، إذ لعل هنالك أخرى... وهذه أيضاً محاولة للحديث حول هذا البعض المذكور فيما يلي:
1 - تداعيات وتأثير نمط الحياة الخاصة:
إذ يبدو وكأن مؤثراتٍ ما نابعة من الوضعية الأسرية والعائلية للأديبات تتداخل
وتوجه مسار الإبداع المنتج من لدنهن...وذلك من قبيل:
أ - الحرمان من حياة زوجية مستقرة مشبعة:
والذي قد يكون تأتى من أسباب شتى منها:
• - استمرار العزوبة:
- للعزوف الذي صدر منهن عمداً عن الزواج في زمن ما.. وذلك تبعاً للقناعات الإيديولوجية التقدمية والاشتراكية التي كانت سائدة في الزمن الماضي، أو تلك الحداثية المنتشرة الآن بعد انهيار محراب المعسكر الشرقي، وذلك انطلاقا من الحمولة الثقافية المواكبة للزواج كمكبل مقيد للمرأة في تلك الإيديولوجيات.
- أو للعنوسة الطارئة عليهن لأسباب اجتماعية أو ثقافية أو حتى شكلية مظهرية...
• - فقدان الزوج:
سواء:
- بالطلاق نظرا لعدم التوفق في الاستمرار في المؤسسة الزوجية.
- أو بوفاته ذلك الزوج.
ب - الرتابة والملل في الحياة الزوجية:
هذه المظاهر التي قد تتسلل تدريجيا إلى الحياة الخاصة لأولئك المبدعات، التي تتحول بفعل الزمن إلى تباعد وتنافر بين الشريكين، وبالتالي إلى منجم للكآبة والتشاؤم، وتنحو بهن إلى تصوير الحلم بتحرير العلاقات الجسدية كحق مشروع للتخلص من أغلال الحرمان حتى دونما اعتبار للأخلاق...
ج - انعدام القناعات الدينية:(/3)
وبخاصةٍ تلك التي تدعو إلى اعتبار الحياة الزوجية مؤسسة عبادية تتمحور حول إثبات القدرة على التعايش مع الشريك، وتنبني على الصبر والتحمل وتفهم ذلك الآخر وقبول هناته وضعفه، كما تعتمد على الاستمتاع بمحاسن ذلك الآخر وبخصاله الطيبة، إذ هي تمظهرات الحياة كلها العبادة... والعبادة تمكن من الأجر، والأجر لا يكون إلا على قدر تجاهل المشقة وتخطي الصعاب.
د - انعدام القيم والمبادئ الدينية الضابطة للاستقامة الأسرية:
أي تلك المانعة من الانحراف الخلقي للأزواج، تلك الصادة لهم عن الخروج من أجل اصطياد المتعة الحرام التي تلهي وتمنع من الإحصان والإعفاف المتبادل بين الزوجين.
فعدم الابتعاد عن المسكرات، وعدم تفادي الفضاءات المفتوحة المختلطة الماجنة، تساهم في التفلت والانحلال الأُسْري، ذلك الذي يمارَس باسم التحرر والتمدن المعتقد ضرورة تواجده ضمن مبادئ التقدمية والفكر الحداثي "المتحضر"وغير الرجعي، والمتبع من طرف أولئك المنخرطين في سلك "الثقافة" و"التمدن" و"العصرنة".
هـ - اقتران نسبة من الأديبات النسوانيات بمن ينتمون إلى الفئة نفسها من الأدباء أو الـ"الفنانين" والمبدعين:
الذين يرون في التحلل الأخلاقي وعدم اعتبار الأخلاق في التعبير الأدبي كما في الحياة الشخصية أسساً وأعمدةً ضرورية مكونة الصورة النمطية للكاتب أو المبدع الموهوب، ذلك الذي تُراد وتُتطلب منه - كما يعتقد هو وأمثاله في التوجه الفكري - بوهيمية وخروجاً عن المألوف وعن العادي، وثورة على كل الالتزامات الاجتماعية حتى يستكمل شروط الانتماء إلى شريحة المتميزين.(/4)
هي صفات وسُلوْكَاتٌ معينة، وبخاصة حين تتبدى وتظهر من هذه الفئة من الأزواج... وتجد فيها حتما كل زوجة -بغض النظر عن كونها أديبة مثقفة- ما يكفي من العوامل من أجل إعانتها على عدم استمراء العيش في بيت الزوجية، وذلك لأنانية وفردانية تطبع هذا النمط من الأزواج الذين يصعب التواجد معهم في فضاء واحد، بَلْهَ الحصول على التواصل الشعوري والإشباع العاطفي ومن ثم الجسدي.
و - التشبع بمؤثرات عالم الخيال الجامح:
وكذلك قلة الجهد المبذول من طرف أولئك المبدعات من أجل المزاوجة المنطقية العقلانية داخل دواليب الفكر لديهن بين اللاواقعية في عالم الأحلام الأدبي المفعم بالحب والوله والغرام، وبين عالم الواقع المعاش الذي يتواتر فيه اليسر مع العثرات.
ز - التيه والتحليق في العوالم المتعالية الوهمية السردية والشعرية:
ذلك الذي يوحي بالازدراء لذلك الشريك المتشبث بالأرض، غير المبحلق في فضاءات الخيال، وذلك بالنسبة للمقترنات بغير المنتمين لشريحة المثقفين من المبدعات.
2 - الرغبة في ممارسة حرية التصوير والتعبير في الإبداع الأدبي كما تريده المدرسة الأدبية الحداثية.
وذلك دون خلط بين الإبداع والأخلاق، أي دونما قبول لأي نوع من الوصاية القيمية على ما تريد المبدعة الأديبة تصويره والحديث عنه وإيصاله إلى الناس...
فالحديث عن الجسد هو المحور الرئيس لذلك "المسكوت عنه"، ذلك الذي يشكل الهم الأساس الذي ينبغي أن يدور حوله الإبداع الأدبي بالنسبة لهذه الفئة من "المبدعات"!!
فالتعبير الحر عن كل ما يدور في الخَلد هو المطلوب، ونقل كل ما يوجد في الواقع دونما حدود ولا موانع ولا ضوابط هو المنهج والمنحى..ذلك الذي لا يقبل تصويبًا نابعًا من دين، ولا تسديداً ممتوحاً من قيم...
إذ يُرفع شعار الفن للفن وتُرفض وصاية الأخلاق، ويُشجب تحكيم الفضائل والمكارم، ويُتحجج بالرغبة في نقل الواقع كما هو دونما رتوش ولا تطفيف ولا تبديل للعناصر المكونة له...(/5)
إذ إنما هو التصوير الحرفي ذلك الإبداع فقط.. دونما نقد ولا إبداء رأي ولا تدخل ولا طرح حلول...
إذ تجد نفسها هي الأديبة الحداثية -انطلاقا من المفاهيم الموجهة لها والمتجذرة في حناياهاـ لا ترغب في أن تقوم بدور الواعظة، ولا الداعية إلى نبذ الانحراف، ولا المنادية بالأوبة إلى تفعيل ما يجب أن يكون!
فلا محاكمة للبطل المنحرف، ولا تجريم للسالك منحى الابتذال.. وخاصة لا نقد للمتاجرة بالجسد... ولا انتقاص ممن حرره من كل ممنوع، ذلك الجسد، بل هو ذلك المُنْتصَر له ولرغباته دون هوادة ودون توقف وفي كل الظروف والأحوال، وأيضا في جميع الأماكن والأزمنة...
إذ ترى المبدعة أن القيم تخنق الإبداع، وتحسر الجمالية، وتجعل من النص الإبداعي شذرات مواعظ، ونتف خطب توجيهية ليست إلا!
إذ عليها أن تتحرر من كل ربق من أجل إحسان التصوير وإتقان التعبير... ثم هو الواقع الذي يملي ما يجب أن يقال وأن يكتب... فما للأديبة إلا أن تنقل بأمانة من أجل تسليط الضوء، وفضح المتواطأ على السكوت عنه وعلى تجاهل آثاره وتداعياته.. ومن ثم من أجل رفع الحرج عن الحديث عنه وعن مكوناته ومظاهره، ومن بعد ذلك جعله يكتسي طابع العادي والطبيعي... وتخليصه من أحكام القيم والأخلاق والدين المناهضة له والمدينة لتواجده...
وطبعاً، هو الجسد عماد الإبداع ومحور مضامينه...الذي ترى هي المبدعة "المتنورة" أن تحرير الإبداع حوله حتما يؤدي إلى تحريره... وبالتالي إلى تحريرها هي الموسومة بالنقص من طرف الدين والتقاليد!
لكن هذا الطرح لا يمكن أن يصمد أمام "المنطق" التَّخَيُري الذي تتبناه الحداثة، والذي يُحَكَّم بعد ذلك فيما يتعلق بمواضيع أخرى خارجة عن نطاق الجسد، وعن حرية التعبير عنه، وعن احتياجاته ورغباته، وفي الميدان نفسه... أي ذلك الأدبي...(/6)
إذ ما القول في نص متفاقم الجمالية لغة وأسلوباً، ويصور ثم يبرر ضمنياً القيام بتفجير للجسد - عملية إرهابية دنيئة - أ فتحتسب آنذاك عذوبة اللغة وشاعريتها وجمالها وحدها، أم أن النص سيحمل عبء تمرير رسالة عنف مقيت مخرب؟
فكما يجب شجب النص المحمل بالعنف، يجب فعل المماثل بالنسبة للنص المحمل بالانحراف الخلقي، ذلك "العنف القيمي" المبيح للتفلت ولركوب موجات الانحلال والمجون بحجة حرية استعمال المرأة جسدَها كيفما تريد وتشاء... فكلها أدواء وتعصف بصحة وباستقرار المجتمعات.
ثم، حتى إذا كان هنالك من حيف تقاليدي منع المرأة من حق جسدي شرعي لها، فليكن التصوير هادفاً ونظيفاً، وغير موسوم بالسوقية والانحطاط، وغير مسوق لصور جنسية مشينة لا يبتغى من ورائها سوى إثارة الغرائز وإشعال نار الشهوات...
فالنص الأدبي يمكن أن يكون المتميز، وذلك حتى ولو لم يتحرر من سلطة القيم ومن الأخلاق، إذ هو قادر على تصوير الواقع بحذافيره...لكن دون ابتذال، وكذلك دون عرض لوقائع مغرضة يمكن استيعاب مرمى مجملها وملخصها دونما تفاصيل مثقلة ومغرقة في وحل السلوك، لا يمكن إلا أن تعمل على تطبيع السقوط والتردي والانحراف.
إذ - كمثال - ما هو الأفضل بالنسبة إلى نص أدبي يتحدث عن الاغتصاب، أهو تصوير اللقطة كلها وبكل التفاصيل "المثيرة"؟ أم الاكتفاء بالتلميح لبقية ما هو معلوم كينونته في فعل الاغتصاب صيانةً للمشاعر من التقزز والصدمة، وللغرائز من الاستثارة والاشتعال؟
وكمحاولة للتفكير حول قضية التحرر الكامل من كل قيد أثناء الفعل الإبداعي، والذي تتبناه هي الأديبة الحداثية وتراه الحق والصواب، ومن ثم تتوسله من أجل الإغراق في الحديث حوله هو الجسد، أدعوها، هي وكل من يؤمن بضرورة عدم احتساب المضمون عند تقييم جمالية النصوص الأدبية إلى التأمل حول الإبداع في موضوع يعتبر محرماً وغير أخلاقي عند من يؤمن نظرياً بـ"الحداثة": موضوع "المحرقة اليهودية"...(/7)
إذ أوَ يُمكن لأي كاتب - حتى الغربي - أن يبدع نصاً يفيض جمالية وشعرية، ثم ينفي المحرقة، ثم يصفق ذلك الغرب الحداثي لإبداعه دونما احتساب للمضمون؟؟
ثم أوَ يمكن له ذلك الأديب أن يشيد بالإسلام ويدافع عنه ثم يُجَوِّد القالب حتى النخاع، ثم ينال الرضا والإطناب المديح منه ذلك الغرب؟؟؟
لا شك وأن الغرب الحداثي يُحَكِّم إيديولوجيته والفكر السائد فيه من كل المضامين الواردة في كل النصوص الأدبية، وذلك قبل إبداء الرأي فيها هي الأنساق المستعملة في الأجناس الأدبية الحاملة لتلك المضامين.
وما أجاز من نصوص إبداعية للمسلمين، وكال لها المديح، بل وتوجه إليها بالجوائز، إلا من بعد ما تضمنت قدحًا في الإسلام وأهله، وتجريحا له ولهم، وإكبارا له - هو القبلة الثقافية الفكرية - ولقيمه ومبادئه!! وذلك رغم تردي القالب وهزالة الجمالية وانحسار الجودة.
هو المضمون إذاً، ذلك المعتبر حتى عندهم!!
وهي الكذبة إذاً عدم إقحام المضمون حين تقييم النص عند سدنة الحداثة الذين اقتبست منهم تلك المبدعةََََ!!
وهو الهراء أيضًا عدمُ السماح بتدخل القيم والأخلاق عند مبتكري عجل الحداثة ومؤلهيه!!
فالنص الأدبي المصور للقطات الجنس الرخيص والمعبر عن حاجيات الجسد الآبق المنحرف لا يمكن أبدا أن يتسم بالجمالية مهما جملت عباراته ونُقِّح أسلوبه، وذلك لقبح المعاني الواردة فيه، تلك الداعية إلى نشر الفوضى والعبثية، وتلك المؤدية إلى القضاء على الاستقرار الاجتماعي الرهين بتواجد القيم والمبادئ الربانية الممتوحة من تعاليم الدين.
3 - ركوب صهوة التحدي والاقتداء بالأديب المبدع الرجل:
هو الفكر الحداثي طبعاً الذي دعاها هي الأديبة - كما سلف الذكر - إلى التحرر من كل قيد أثناء الفعل الإبداعي.. وهو الذي سوغ لها أن تطرق ما تريد وترضى من مواضيع - وبخاصة موضوعها المفضل المتمحور حول الجسد - وذلك دون الاهتمام بردود الفعل من الجميع.(/8)
لكنها أيضا تلك الرغبة في اقتفاء أثر الرجل المبدع في هذا المجال الموجودة، بل
والملحة المؤثرة.
فالقضية تكمن في أن المرأة - التي حرمت لعصور بفعل التقاليد المجحفة في حق الرجل والمرأة على السواء - رامت الإقتداء بذلك الرجل الذي سبقها إلى ميدان الأدب والإبداع الأدبي، فسارت وتسير وراءه خطوة بخطوة، معتبرة أن التحدي وكسب الرهان يكمن في أن تفعل هي أيضا كل ما كان وما زال يفعله هو...
فإذا كان هو يعري المرأة في كتاباته ويعتبرها جسداً يتسلى بوصف تفاصيله ولا يجرؤ أحد على محاسبته... فلتفعل هي أيضاً لأنها ليست أقل قدرة منه على فعل ذلك!
بل لتفعل ثم ليس من حق أحد أيضًا في أن يحاكمها، تمامًا كما كان عليه الأمر مع الرجل...
وإذ كان هو ينزل فكرياً وشخصياً إلى المواخير والحانات من أجل تصوير أحوال أهل تلك المواقع والأماكن، ومن أجل تبرير سلوكاتهم بحقهم في التمتع بالعيش، أو حتى من أجل التدليل على حق النساء منهم في كسب لقمة العيش ببيع الجسد - الملكية الخاصة لهن - لظروف اقتصادية معينة، فلتسِر هي أيضا نفس المسار...
ولتُورِد الحجج على المساواة الكاملة غير المشروطة الضروري توفيرها للمرأة مع الرجل في هذا المجال!!
ثم تنسى أنها بذلك تعترف بوجود سوق النخاسة...وتكرس بيع النساء لطالبي المتع الرخيصة من الرجال المنحرفين الناشرين للمفاسد ولكل ضروب الاختلالات.
ثم هي تنسى أيضا - أو تتجاهل - أنها بذلك تكرس فكرة تشييء المرأة واحتسابها من المتاع - المسموح بحرية التعامل به ومعه - بل وتوافق عليه ذلك المنحى، وتعين حتى على نشر الوعي به...
والمشكلة أنها لا تسلم بعد ذلك من محاكمة الرجل التقاليدي الفكر، الذي يستبيح لنفسه ما لا يسمح به للمرأة، لأنه هو الذي سطر بنود القوانين التي تحاكمها، والتي عبثاً تحاول أن تتخلص منها...(/9)
إذ مما لا شك فيه أن ذلك الرجل الذي تصور هي عنفه تجاه المرأة، وكذا استخفافه بحقها الجسدي، وحرمانه لها من حسن التمتع بحرية الكيان المادي الخاص بها، أي ذلك الجسد، هو الذي سيحاكم إبداعها آخر الأمر... وسيُقيِّمه ويبدي رأيه فيه كمبدع - إذ سبقها إلى الميدان وله فيه اليد الطولى والتأثير الغالب الكاسح - لكنه سيفعل كرجل طبعاً وليس كمبدع وأديب... بل وكرجل ابن بيئته التي لا يمكن أن ينفك عنها، إذ لا بد من أن الفكر التقاليدي قد بصم عقله وحناياه...
إذ إنه مهما ابتعد عن الدين والتدين، ومهما اعتنق من إيديولوجيات "مُحرِّرَة" كالاشتراكية والحداثة والأممية... وهلم جرًّا... لا بد من أن يبقى الرجل العربي الموسوم بـ"المحافظة" التقاليدية، والتي تقتضي الحفاظ على الإناث من الأسرة والعائلة من التفلت، وكذلك من سوء نوايا الغير ومن اعتداءاتهم ومن تحرشاتهم...
ولذا، فبالرغم من أنه قد يوجد من" المبدعين" الحداثيين التقدميين في واقعنا من يصفق للإبداعات النسوية التي تتغنى بالجسد وبحرية استعماله، ويعلن تضامنه مع مُنتِجاتها من الحداثيات، إلا أنه لا بد له من أن يزدري في أغوار نفسه سلوك أولائك المبدعات اللواتي حتما يعتبرهن منحرفات ماجنات، بل قد يحاول استغلال تلك الأفكار التحررية المؤمن بها من طرفهن حتى يأخذ حقه من أجسادهن "المحررة" المبذولة المبتذلة المشاع.
إذ كثيرًا ما يوجد من يكتب فسقاً ويصور فجورًا في أعماله الأدبية، ثم هو لا يمكن أن يقبل أن تفعل زوجته المبدعة الفعل ذاته... ولا أن تكتب وفق المنحى إياه...
إذ إنه لا يضمن أنه لا يكون هنالك من سيتحدث بأنها قد عاشت تلك التجارب الجسدية، أو أنها على الأقل أنها من تتحرق لكي تتمتع بها... أو أنه هو - وذلك على الأقل - ذلك الزوج غير المقنع والمشبع جسديا ولا المرضي عنه!!(/10)
وهذا ما لا يرضاه المبدع العربي مهما تخلص من رِبق الدين... ومهما «تعصرن"... وإلى أي حد ما تضمخ ب"نور" الحداثة وتعطر بـ"أريج" الحضارة والتقدم!!!
والحل - لكي تُتَفادى هذه الانزلاقات - يكمن في:
أن تتبنى المرأة مساراً خاصا في التعبير الأدبي يعبر عن خصوصياتها، وذلك دون أن تمتح مما يفعله الرجل في هذا الميدان، ودون أن تتوسل الوسائل التي اختارها... ولتترك المسار الإبداعي ينساب بعفوية وبفطرية دونما تكلف ولا اقتداء، ولا حتى استعداء ولا شجار ولا تنافس، بل بتكامل وتعاون وتفاهم وتلاقح أفكار...
فلتكن هي هي، ولتعبر عما يعنيها ويخصها ككيان له مقوماته ومعاييره ومميزاته، وعما تريد أن تعبر عنه بحرية مع اعتبار لحيثيات الواقع المعاش، دونما تحدٍّ ولا استفزاز، بل برغبة أكيدة في التواصل وإسماع الصوت، ومع استحضار هم تصحيح مسار علاقات بينها وبين المجتمع ككل، ثم بينها وبين الشقيق في الأحكام، كانت وما زالت تلك العلاقات يشوبها الغبش، ويلطخها سوء الفهم، وتحطم وشائجها التقاليد البعيدة عن الدين...
4 - الرغبة في إرضاء الغرب لنيل الحظوة لديه:
إنه مما لا شك فيه أن كينونة المبدعة المرأة في المجتمع العربي صمام أمان له،
ووسام فخَار على صدره، إذ هي الأقدر على التعبير عن حاجيات نصف ذلك المجتمع، والأمْكَن من حسن تصوير واقع النساء اللواتي تشترك معهن في الهوية والجنس والآمال والتطلعات، وفي كل حيثيات الماضي والحاضر والمستقبل...(/11)
لكن المشكلة أن الإبداعات الأدبية منهن هن المبدعات الحداثيات، تلك التي كان من الممكن أن تكون آليات تغيير وإمتاع في نفس الوقت، تنقي الشوائب وتغرس الأصيل، وتلك الصادرة ممن يفترض أنهن يعشن الهم ويكتوين بلهبه، لا تعبر حقيقة عن واقع المجتمع، وبالخصوص عن حاجة المرأة الرئيسية في أن تتمتع بإنسانيتها أولا وأخيراً قبل كل شيء...إنسانية أصيلة تستحقها، ونابعة من كونها من جنس المكرم من طرف الباري عز وجل الذي استخلفها كما الرجل، من أجل إعمار الأرض وفق منهج الحق والصواب.
ثم والإشكالية تتفاقم وتتناسل منها الأبعاد والتداعيات حين يشتهرن أولئك المبدعات، إذ يترقين ويرقين درجات السلم الاجتماعي بفضل "ثقافتهن" وإصداراتهن، ثم وينسين هموم القاعدة الأوسع من عموم النساء، ويصبح همهن الأكبر هو إثارة انتباه السيد الغرب وتلامذته النجباء واستجداء جوائزهم، وذلك عن طريق الكتابة حول المرغوب في الحديث عنه من فضائح وشذوذ في الفكر والسلوك، كتابة تتوخى التصوير والنشر في واضحة الضوء، وكذا التطبيع، دونما محاولة لفهم الأسباب، وللبحث عن الحلول.
وحينذاك، أي حين النأي عن الفضاءات الطبيعية - التي تتفاعل وتحيا فيها المرأة بعفوية - يصطنعن الحديث عن عدم الزج بالأخلاق، وينادين بعدم احتساب ما ورد في المضمون من مفاهيم عند تقييم الإبداع كما سلف الذكر، ويتخذن هذه الحجج متاريس يتوقين بها تبعات كل مساءلة حول تأثير ما يكتبن، وحول آثار ما ينشرن من مفاهيم على التوجه القيمي والأخلاقي في المجتمع بشكل عام، تلك المفاهيم الدخيلة المستوردة والتي يجدن أنفسهن مطالبات بتسويقها في إطار السياق الثقافي والفكري المتبع من طرفهن.
الهم الجسدي لدى المرأة... مقاربة تصورية إبداعية:(/12)
وبعد محاولة جرد وتتبع الأسباب الداعية إلى احتكار الحديث عن الجسد لجل إبداعات الحداثيات، أعتقد أنه من المطلوب العمل على صياغة مقاربة ممكنة معقولة ممتوحة من القيم الربانية، وتؤدي إلى درء الغموض وإلى تسليط الضوء على هذه القضية المهمة المحور، قضية علاقة المرأة بالجسد في واقعنا التقاليدي البعيد عن الدين...
إذ الحديث عن الجسد ليس من قبيل المحرم ولا الغير مرغوب فيه كلية... فالحق الجسدي للمرأة كفله الشرع، وأيد ذلك العلم المدعو إلى اعتماد نتائجه من طرف الدين، وليس من المطلوب إلغاؤه وتجاوزه بالكلية من طرف المرأة في إبداعاتها الأدبية، إنما المستهجن هو تكرار طرح هذا الموضوع في الكتابات النسوية، حتى إن القارئ أو المتلقي ليظن أن ما لها - هي الأنثى - انشغال إلا بتضاريس الجسد تستفتيها حول كيفية سد جوعتها...
ثم، حتى لو أن المبدعة لا تعاني فعلا من الحرمان الجسدي ذلك الموضوع المستهلك، وتصوره فقط من أجل تسليط الضوء عليه ونقده، ولكي تساهم في فضح مكنوناته أمام المجتمع من أجل علاجه، فإن في هذا الأمر هدراً لطاقاتها الأدبية والفكرية، لأن للمرأة هموما أخرى أهم وأفدح تأثيراً عليها وعلى محيطها من قضية الحرمان من حق الجسد.
فأنواع متناسلة متعددة من القهر تمارس على المرأة، جور وحيف وطغيان وينزرع الكل شوكًا في دهاليز حياة النساء ليردوها أسفل سافلين... متاهة حالكة منتنة وتنتعش فيها الحيرة والضياع... ويساق النساء إلي فضاءاتها عنفًا كل آن وحين.
ثم إن الهم الجسدي لدى المرأة ليس همًّا قائماً بذاته منبثقا من نفسه، إنما هو عبارة عن تداعيات كثيرة أشياء أخرى...(/13)
فعن طريق الغوص في حميميات النساء، وبواسطة تقصى أغوار أسرارهن الزوجية، يبدو واضحاً أن الحواجز بين المرأة وبين التواصل الحميمي المشبع مع الزوج منبعه الإحساس بالظلم الممارس من طرفه تجاهها، سواء أكان ذلك الظلم متعمداً أم دون نية الإساءة لسيطرة وانحشار التقاليد.
فعدم الإشباع الحاصل لديها ليس مرجعه إلى عدم حضور جسد يقاربها، وإنما لغلالة من الأحاسيس والمشاعر تمنعها من استمراء ذلك القرب.
فبعض حقد دفين يتغلغل تدريجيًّا مع تواتر السلوكيات المهينة لها، حتى تصبح المقاربة عبئا ترزح تحت ثقله وتمقت حدوثه وكينونته، ثم وهي لا تستطيع البوح بالإحساس بالظلم لتواطؤ الكل على تقبله وعلى التعايش معه، لكن ومع مرور الزمن لا بد وأن يبدو منها ما ينبئ عن استثقالها لتلك العلاقات الحميمية، فتنشأ لدى الزوج أحاسيس تجاهها يطبعها التجاهل ويداخلها الاستعلاء، ثم من بعد ذلك:
- فإما أن يستمر في استغلال الجسد لأنه "مِلكُه"، ولو أنه يعلم بعدم رضا صاحبته، تأكيداً لقوامة يراها له، ويعتقد أنها تكفل له حق التصرف فيها كلها حتى ولو كانت كارهة له.
- وإما أن يستعيض عن ذلك الجسد غير المستمرئ للعلاقة، وغير المتجاوب، بآخرَ منقادٍ يلبي رغباتِه، سواء في "الحلال" عن طريق التعدد، أو في الحرام بارتياد المواخير وذلك حسب التوجه، وعلى قدر كَمِّ المبادئ والقيم.
ولذا فإن حل المشكلة ليس بتسليط الضوء على النتيجة وإنما على الأسباب.
إذ النتيجة ما هي إلا حصيلة تراكمات ما، هي الفاعلة الحقيقية في عملية إنتاجٍ ما مشْكلٍ.
لكن...أوَ تروم الحداثيات المكرسات أدبهن للحديث عن الأجساد البحث عن حلول أو حتى التعريف بإشكالات ما بخصوص هذا الموضوع وحوله؟؟
إذ لعله من العبثية بمكان أن يقال بأن الأدب ما هو إلا النقل والتصوير بهدف الإمتاع بالقالب الجميل المنمق لا غير...(/14)
ثم...لابد من أن هذا الطرح - على الأقل تطبيقياً - متجاوز ومرفوض من طرف المبدعات النسوانيات الحداثيات، إذ هن بالرغم من أنهن يحاولن الإقناع نظرياً باعتناقهن للمقولة الحداثية "الفن للفن" دون استهداف الفعالية والتغيير، إلا أنهن يُصَرِّحْن أيضا - وعلى الكثير من المنابر - أنهن يَرُمْنَ من وراء إنتاجاتهن الأدبية إلى إسماع صوت النساء، وإلى إظهار واقعهن المطموس والمخنوق بالمسكوت عنه عن طريق تعريته بالكتابة عنه، هو وكل ما يحيط به...
وانطلاقا إذاً من إرادة التغيير هاته الكامنة والمضمنة في خطابات هؤلاء المبدعات، فإن تكرار تصوير الهم الجسدي للمرأة بمعزل عن الحديث عن الأسباب المؤدية إلى حصول ذلك الجوع، لا يغير من الأمر شيئا، بل يكرس ويُسوِّق فقط صورة المرأة "الكائن المهووس بالجنس"، تلك التي تنضح شبقاً، وتتضوع خيانة، وتنثر الفتنة والمجون، صورة قدمتها ألف ليلة وليلة وكرستها التقاليد المجحفة البعيدة عن الدين.
لكن ربما تفضل "المرأة المثقفة" الأديبة الحداثية النسوانية عدم التغيير - عن طريق استقراء الأسباب والبحث عن حلول لها - أصلاً، ولربما تستمرئ القيام بدور الضحية حتى تستبيح القيام بما تريد وتستحب...
مازوشية وتريد أن تظهر بها سادية الرجل... وذلك من أجل استدامة البكاء على حاجيات جسدها....وأجساد بنات جنسها تلك "المتردية الصريعة بفعل الإهمال"!
مع أنه بإمكانها المطالبة بحقها الجسدي مباشرة انطلاقا من أنها أصبحت الآن "المثقفة"، وتدرك أن الدين كما العلم يسلمان لها بحق المطالبة... طبعا بوسائل أنظف وأرقى وأسمى... وليس بالابتذال وبالعنف وبالشقاق...
إذ بالإمكان - في نهاية المطاف - أن تطالب بَطلاتها في كتاباته الأدبية بالانسحاب من تلك المؤسسة الزوجية التي تعتبرها هي ذلك السجن... والتي لا تكفل لهن الحصول على ما يساهم في إرساء التوازن النفسي والشعوري لديهن من حقوق، حتى تلك الجسدية منها...(/15)
فالمبدعة المثقفة تمثل النخبة الأنثوية المعول عليها في حسن تمثيل المرأة في جميع المجالات، ومن ثم، عليها أن تستشعر ثقل العبء الملقى على عاتقها، وأن لا تتملص منه ذلك العبء اختيارا منها لأن "تحقق" ذاتها، وذلك عن طريق ركوب النشاز المثير للجدل وللنقاش، رغبة في الثورة على قمعٍ طالها مطولاً ومنعها من التعبير عن الذات...
فالتحدي و"تحقيق الذات" عن طريق سلوك هذا المسلك يجب أن ينشغل حوله فكر المبدعة طويلا قبل أن تمارسه، وعليها أن تستقرئ في ذهنها المثقف تداعيات ما ستقوم به عليها، وعلى من يرين فيها الأنموذج القائد إلى التغيير والانعتاق.
فحين تكرس الفكر الذكوري القائل بمحدودية فكر الأنثى وطغيان الجسد على انشغالاتها، فهي –ولابد- ستجهض حلم المرأة ككل في أن تغير من صورة لها متوارثة، ونحتت أبعادها أيدٍ ظالمة متسلطة استغلت قوة الجسد منها في إحقاق الغلبة.
فعلى المرأة المبدعة إذاً أن تعلم أن تحقيق الذات والتحدي الحقيقي ليس هو تحدي من يرى في كتابات الجسد شينًا وعيباً بالإصرار على الكتابة في ذات الموضوع، ولكن التحدي هو إخراج المرأة من سجن رد الفعل إلى القيام بالفعل المختار المطلوب فعله، أي بالقيام برسم صورة المرأة المتوازنة التي تعنى بتحقيق الإشباع لنفسها في كل باب ومجال.. الفكري والثقافي والاجتماعي وحتى السياسي، ولم لا طبعاً؛ الجسدي؛ لكن بصورة توحي بأنها فاعلة إيجابية مؤثرة، لا ضحية مستلبة مفعول بها مخاتلة مخادعة منتهزة لفرص الخيانة والتدليس...
وسأورد هنا نصوصا حديثية شريفة قد تُمكِّن قراءتها والاستفادة منها من إعطاء فكرة حول كيفية إعادة تشكيل عقل المرأة، وذلك حتى تتخلص من الموروث المكرس لاستبقاء صورتها في إطار معين، سطرت مقاييسه منذ زمن ولى ومضى، وما زال هو الكائن والمستدام:(/16)
1 - " حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
كنت عند رفاعة فطلقني فأبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، إنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
وأبو بكر جالس عنده ، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤْذن له، فقال: يا أبا بكر ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند النبي صلى الله عليه وسلم؟".
[الحديث رقم 2445 - باب الشهادات - صحيح البخاري. أبت طلاقي : طلقني البتة أي ثلاثاً].
2 - "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد واللفظ لعمرو قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:كنت عند رفاعة فطلقني فبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
قالت: وأبو بكر عنده وخالد بالباب ينتظر أن يؤذن له فنادى: يا أبا بكر ألا تسمع هذه ما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟".
[الحديث رقم 2587 - باب النكاح - صحيح مسلم].(/17)
هذا الحديث بروايتيه في الصحيحين يثبت كيف أن امرأة ما في ذاك الزمن علمت أن عند الرجل الذي تزوجته - بعد مفارقة زوجها الأول - عجز جنسي، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرته بالذي عرفته، وكَنَّتْ عن حالة عجزه بتشبيه ما عنده بهدبة الثوب، أي بالخيوط الجانبية المتعلقة بالثوب في انسدالها وارتخائها... فكان أن اخبرها أن عليها أن تنتظر حتى يثبت ذلك عند اللقاء الحميمي، حتى لا تكون قد تسرعت وجانبت الصواب في حكمها عليه، لأنها طلقت ثلاثا، والشرع يعاقب ذلك المُطلِّق ثلاثا بأن يحرمه من استعادة الحياة المشتركة مع تلك التي طلقها إلا بعد أن تتزوج زوجا آخر، ثم وتمارس معه العلاقة الجسدية الفعلية حتى ينال جزاءه المستهتر بقدسية العلاقة الزوجية، ويمنع من التلاعب والاستخفاف عن طريق تكرار إحداث أبغض الحلال إلى الله.
فلم يعب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم أنها اهتمت بمسألة الإشباع الجسدي، فذلك حق مكفول يضمنه كون المرء إنسانًا، سواء أ كان ذكرا أم أنثى، إذ ابتسم - في نص صحيح مسلم - واكتفى بالتوجيه لفعل ما يضمن حق الطرف الآخر أيضا.
لكن كان هنالك من تدخل الصحابي خالد بن سعيد بن العاص، وذلك انطلاقا من نظرة جاهلية للمرأة، كانت ما تزال قائمة بالنفس لكونها ما تزال حديثة عهد بتلك الفترة، فعاب على المرأة المجاهرة بالمطالبة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكترث له، ولم يجعل لرأيه صدى في توجيهه وتصويبه، إذ كان دوره عليه الصلاة والسلام وضع الناس على الجادة الربانية لا الاستجابة للأهواء البشرية.(/18)
هكذا -إذاً- يمكن أن تستفيد المبدعة المسلمة المتزنة من إعادة قراءة النص الديني، ذلك الذي يحاول الذكوريون أن يسخروه لجانبهم من أجل غمط المرأة حقوقها عن طريق قراءاتهم الذاتية الموسومة بالفكر التقاليدي، وذلك من أجل استحضار الإيجابية لدى المرأة، ومن أجل خلق الفاعلية البناءة فيها، تلك المؤدية إلى إثبات الذات وتحقيقها في هذا المجال، وذلك عوَض:
• - دفعِها إلى لعب دور الضحية.
• - وتشجيعها على القيام بالتحايل وباستحلال الوسائل المشبوهة المُدينة والمركسة لها من أجل تحقيق الإشباع.
• - وبالخصوص تحريضها على نبذ الدين، ودعوتها إلى التخلي عن القيم الدينية التي تصورها لها على أنها المهينة للمرأة، والمعتبرة لها من قبيل الأعوج الناقص المسخر لاستمتاع صاحب القوامة والسيادة، المالك لحق استبدال جسد بآخر في إطار التعدد من أجل الحفاظ على غنى وجمالية الحريم.
فيمكن للمبدعة مثلا أن تصور امرأة تعاني من إهمال الزوج، فتطالبه بالقيام بالواجب أو بإطلاق السراح، وذلك حتى تستطيع أن تحقق لنفسها استقرارًا نفسياً وجسدياً مع من تختاره مرة أخرى... عوض تصوير حالة خيانة زوجية على أنها سبيل أمثل مشروع للاقتصاص من زوج مستهتر أو عنيف أو حتى عاجز!
وقد تحاكم في هذه الحالة من طرف ذكوريين:
- لأنها جعلت المرأة تفضل الحاجة الجسدية على مصلحة أطفال وأسرة.
- ولأنها سمحت لها بأن تتساوى مع الرجل الذي يفعل الفعل ذاته مع امرأة لا تشبعه.
لكن وبالرغم من المحاكمة التي قد تتعرض لها ستتجاهل ردة فعلهم، لأنها لابد وأنها ستخدم نفسها والنساء ككل، لأنها ستقنعهم أنها تفعل ذلك لأنها تفضل الصراحة على أن يطعن الرجل من الخلف وأن يخان، لأن المرأة إنسان مكرم...
ثم هي ذات مبادئ، ولم تعد ترغب في أن توسم بالكيد وبالمخاتلة، ولم تعد تستحسن الانصياع للفكر الموروث والتقاليد، وحتى للدين المحرف الذي طالتها أغلاله المكبلة منذ زمن بعيد.(/19)
كل هذه الخطوات لا بد وستكون السُلّم الذي سيرتقي به الإبداع النسائي، إذ سيتخلص من كونه مجرد تعابير باهتة سوقية عن حالة القهر كانت...أو حتى ما زالت قائمة... تعابير تُركِس في وحل الابتذال...وتَحُط من قدر المبدعات...
إذ إن تلك النتاجات الأدبية الحداثية المهووسة بالجسد لا تعين إلا على تكريس مفهوم نقصان المرأة وقصور فكرها الذي لا يستطيع ولا يستسيغ إلا الحديث عن "الشهوات" وإلا الارتماء في أحضان الانفلاتات... وإلا انتحاء منحى التفاهات.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: تم التدقيق من قِبل محرر قِسم / حضارة الكلمة. مع خالص شكرنا للكاتبة الفاضلة على هذه الدراسة القيمة جدًّا، ونأمل أن تزودنا بكل جديد.(/20)
العنوان: الهوية الإسلامية ومتطلباتها التربوية في ضوء التحديات المعاصرة (ملخص رسالة علمية)
رقم المقالة: 1811
صاحب المقالة: د. عبدالرزاق مرزوكَ
-----------------------------------------
المنهج النقديّ لِتَصْنِيفِ السيرة النبوية للباحث عبدالرزاق مرزوك
بحث دكتوراه للباحث: عبدالرزاق مرزوك
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، والصلاة والسلام على محمد بن عبدالله إمام الفالحين والفالحات، وعلى آله وصحبه أهل الموازين الراجحات.
وبعد، فقد مَنَّ عليَّ اللهُ العليُّ الودود؛ إذ وفقني لمناقشة أطروحتي لنيل دكتوراه الدولة في الدراسات الإسلامية (تخصص السيرة النبوية).
المجال العام لموضوع الأطروحة:
لا يُتصور بوجه استغناء المسلم عن سيرة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فهو بحاجة مستمرة إلى عرض طاعته لله على هَدْيه المنيف الأجلى، وقياسها بِسَمْته الشريف الأعلى؛ كما قال – تعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فكما أن هاتين الخصلتين – رجاء الله واليوم الآخر، وذِكْر الله كثيرًا - سببٌ لحياة الإيمان وقوَّته؛ فكذلك الائْتِساءُ بِالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - واتّباع هديه، علامةٌ على قُوَّتِهما وأثرهما.(/1)
وهذا تشريفٌ لِشأْنِ السيرة النَّبويَّة، وإشادةٌ بِما يصرف إليها من العناية والرعاية، وأنَّها بِمَقامٍ لا يَعرِفُ قَدْرَه إلا المُستَمْسِكونَ بِاللَّه تعالى، الراجون لقاءه، العاكفون على ذكره، ولذلك أسرف الذين لا يرجون لقاءه في خُصومة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومُعَاداته، وَسَعَوْا في مضايقته وإغضابه؛ حتى طالبوه بأبغض شيءٍ إلى نفسه الكريمة، وأثقلِه عليها، وأشدِّها كراهية له؛ كما قال – تعالى -: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15].
ثُمَّ بيَّن الله - تعالى - مِقْدَارَ ما ساقَتْهُم إليه تلك المعاداة من الخيبة والخسران، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17].
فالضَّرورة إلى الائتساء به - صلَّى الله عليه وسلم - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعَيْنِ إِلَى نُورِها، والروح إلى حياتها، فأي ضروروة وحاجة فرضت، فَضَرُورة العبد وحاجته فوقها بكثير.
وما ظنُّك بمن إذا غاب عنك هديُه وما جاءَ به طَرْفَةَ عينٍ فسَدَ قلبُك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووُضع في المقلاة، فحالُ العبدِ عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال؛ بل أعظم..".
وليس الذي أورث أُمَّةَ الإِسلامِ من الضعف والهوان في الأزمان المتأخرة، وما ظهر فيهم وفي غيرهم من خرابِ القلوب، وخواء الأرواح، وذهاب العقول، وكثرة أمراض النفوس والأبدان وغرابتها، ليس ذلك كله إلا عَرَضًا من أعراض الجهل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، والاستهانة بهديه وحقوقه.(/2)
ولئن كان اسمه الشريف لا يزال على الألسنة مذكورًا، ورسمه على الجدر مزوقًا محفورًا، فإن روحَ التعلّق بهديه معدومةٌ، وسبلَ الإرشاد إلى معرفته والتحريض على اتباعه منتفيةٌ مهجورة، وينتظر المسلمون - كي يوقروه، ويغاروا عليه، ويُعزِّروه - أن يقلله في أعينهم باغٍ عليه من أعدائهم برسمٍ ساخر، أو تصريح جائر، أو يسبه ويشتمه من بني جلدتهم معتوه فاجر، وقد يعتذر اعتذار الماكر؛ فتزول تلك الغيرة المبتوتة، وتنطفئ تلك الجذوة الموقوتة، ونصرةٌ هذا ديدنها أشبه بعَلَم يُعلى لينكس؛ لا ترفع رأس أهل الديانة، ولا تصنع العزة ولا الكرامة.
ثم زاحم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في قلوب كثير من المسلمين وعقولهم – إن لم يحلوا محله - أئمةُ ضلال وفتنة لا يحصون من الرجال والنساء؛ تقتدي الجماهير بعُجَرِهم وبُجَرِهم غاية الاقتداء؛ يفرحون بإيابهم، ويحزنون على ذهابهم، ويقتل بعضهم أنفسهم حسرة وأسفًا إذا ماتوا.
فلا علاج لهذا الداء العضال إلا بصرف العناية إلى السيرة النبوية عامة، وضرورة التعلق بها؛ ليخرج المسلمون من عداد الجاهلين بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - ويصيروا من العارفين به وبسيرته، الداخلين في شيعته وأهل نصرته.
موضوع الأطروحة:(/3)
ولكي تجري تلك العنايَةُ على سنَنِ الرشد والبصيرة؛ الكفيل بإخلاص القصد والسريرة، وقطف الثمار المرجوة النافعة؛ طَرَقْتُ البابَ بِمَوْضُوعِ هذه الأطروحة، التي جعلت وسامها (المنهج النقدي لتصنيف السيرة النبوية)؛ أي أنَّ القضيَّة المُهَيْمِنة على كُلّ مَحَاوِرِها التأكيدُ على ضرورةِ إِخْضَاعِ منهج التصنيف في السيرة النبوية للنقد، وبيان المراد من ذلك، وما كان عليه هذا المنهج قبل إنجاز هذه الأطروحة قديمًا وحديثًا، والدواعي العلمية والموضوعية للزوم تجديده وتحديثه، وما يسمح بالاختراع والإبداع فيه، وما ترتب على إهماله من الأضرار؛ مما جعل الأمر أشبه بحالة استعجال خطيرة، لا يحتمل دفْع عِلَّتها من أجل القضاء على آثارها وأعراضها أدنى انتظار، وذكر الخطوات الأوليَّة والمنهجيَّة الضروريَّة لتحقيق ذلك، وبيان نماذج مِمَّا يُمْكِن أن يَكُونَ سبيلَ عِناية نَقْدِيَّة مُرْضِية، ومِفتاحًا كفِيلاً بِالإعانة على اسْتِئْنافِ مَشَاريعِ بَحْثٍ تمضي على نفس الطريق، ويعول عليها في استكمال سائر المراحل، وضم باقي الوسائل الموصّلة إلى الغاية.
ولا يخفى أنَّ نَقْدَ المرويات أشمَلُ مِنْ أَنْ يرتبط بالحديث النبوي، أو يرهن إعماله بمصطلحه، أو لا يكون لعِلْم الرجال، والجَرْح والتعديل أثر إلا في مصنفاته الخاصة؛ كالصِّحاح، والسنن، والمسانيد.
كلا! ولا يقولنَّ قائل: "إن السيرة النبوية من جنس علم الحديث؛ ففصلُها عنه تحصيل حاصل، ومحض تكلُّف، وما شمل مصطلحه من تلك العلوم يشمله".(/4)
فهذا قول المتحكّم، والجائر المتعسّف؛ إذ إنَّ لعلم القراءات أيضًا أسانيدَ مشتملة على حدثنا وأنبأنا كعلم الحديث؛ فهل عدَّهُما عاقل نوعين من جنس واحد؟ أم أنهما عند كل منصف مستقلان؟! لم يظلم خضوع القراءات للنقد من تميزها فتيلاً، ولا نقص من أطرافها كثيرًا ولا قليلاً؛ بل لا يزال عِلْمُها قائمًا بنفسه، وذَريعَتُها المعتبرة عند كافة أهل العلم: أن موضوعها غير موضوع علم الحديث!
وهَذَا الخَلْطُ هو الَّذِي جَرَّ على شأْنِ السّيرة النبوية التقليل، وعلى المقام النبوي الأعلى ما لا يليق، والقدح الخفي بالمجاملة والتلفيق؛ بأن أدخلها في عِداد (فضائل الأعمال)، التي يتساهل فيها بغض النظر عن ضعيف المرويات، فصار النبي - صلى الله عليه وسلم - موصوفًا بما لا يريد، ومحبوبًا بما لا يرضى.
فهذه شبهة قوية التأثير في ذهن مَن لم يفقه موضوع علم السيرة النبوية؛ الذي هو ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - الشريفة، وهيئة خَلقه الأتَمّ الأجمل، وأحوال خُلُقِه العظيم الأكمل على جهة التنويه به، وإحصاء شمائله الفريدة، وخصاله الجمة الحميدة.
فالحديثُ مُصْطَلَح، والسيرة مصطلح، والتفريق بينهما شرط الموضوعية والإنصاف، الذي يتواخاه (علم الاصْطِلاح)، وتَقْتَضِيه غاية العناية به.
وقد أصابتِ الأثرة السيرة النبوية من هذا الوجه أيضًا؛ فَلَمْ يُعتنَ بِمُصْطلحها الخطير كما اعتُني بِمُصطلحات سائر العلوم، فَسَعَى هذا البَحْثُ في ردِّ اعتبارها بما يملك، والقصد إلى إنصافها بما يستطيع.
دوافع اختيار الموضوع:
ومن ثَمَّ يمكن اختصار الدوافع التي حثتني على اختيار هذا الموضوع، وإفراده دون غيره بالعِناية في صنفين اثنين:(/5)
الأول: دافع علمي بحت؛ غايته الحرص على أن ينال عِلم السيرة حظه من التعريف والتأصيل، وأن يستخرج مصطلحه المدفون، وينفخ في جذوته المغمورة؛ كي تُبرز مضامينه، ويُمد رواق حقْلِه الدلالي الحافل بمعْجَمٍ غَضّ أصيل؛ يستحق الإبداع والتحديث؛ فضلاً عن الإخراج والتحديد.
الثَّانِي: دافِعٌ تربوي ضروري، يسعى إلى ترشيد مسلك التعلّق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وطريق محبَّتِه؛ لا سيَّما أنَّ من غايات اشْتِمال السّيرة النَّبويَّة على الدلائل والمعجزات النبوية، والفضائل والشمائل المحمدية، تعليقَ قلوب العباد بتقديره، وتوقيره، وتعزيره، وصيانة حقوقه العليا، وواجبات تعظيمه المثلى.
فالمراد أن يقوم كل ذلك على العلم، واعتبار قواعده القاضية بلزوم الاكتفاء بما صحَّ من المرويات؛ كي لا يُحَبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بما أحبَّ هو وأراد، ويُبْعَدَ المكذوب مما نُسب إليه خطأ أو عمدًا، ولا يَخْفَى أنَّ شَرْطَ الصّدْقِ في ادّعاء المحبَّة بذلُ محابّ المحبوب ومراضيه، وطرح ما يسخطه ويستجفيه.
لِذلك عرَّف العلاَّمة القاضي عِياض - رحمه الله - محبَّةَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في "شفائه" بقوله: "مواطأة القلب لمراد المحبوب؛ يُحِب ما يحب، ويَكره ما يكره". "الشفا بشرح الملا علي القاري"، ص 53.
محتويات الأطروحة:
أمَّا محتويات هذه الأطروحة فقد جعلتها في مقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة.
أمَّا المقدمة فقد بيَّنت فيها وجه الحاجة إلى موضوع الأطروحة، وأسباب اختياره من ثلاثة وجوه، وكذا المشاقّ التي تخلَّلت اشتغالي بالموضوع، وأطالت زمن إعداده.(/6)
أما الباب الأول فقد عقدته لدراسة معنى السيرة النبوية، وجعلته في أربعة فصول جامعة، فأفردت الفصل الأول، وهو في مبحثين، لبيان معنى السيرة في اللسان العربي، وضمنت المبحث الأول دلالة السِّيَر عامَّة، وضمنت المبحث الثاني دلالة السيرة، وما يشتمل عليه حقلها الدلالي من الإطلاقات الدالة على دقة معناها واتساعه.
وأفردت الفصل الثاني، وهو في ثلاثة مباحث، لذكر مفهوم السيرة النبوية في الاصطلاح، فمهَّدت له بما يجلي وجه المناسبة بين خُصوصِ المُراد بالإطلاق أنَّها سيرةُ نَبِيّ مخصوص، وبين عموم المعنى الإضافي الدال على أن المراد سيرة كل نبي من الأنبياء.
وجعلت المبحث الأول لبيان وجه انتقال السيرة من المصدرية إلى الاسمية؛ وذلك بذكر وجوه استعمال السِّيَر في القرآن الكريم، وتعيين مخرجها الدلالي من عموم المعنى اللغوي إلى خصوص المعنى الاصطلاحي.
وذكرت في المبحث الثَّاني أوائِلَ استِعْمال مصطلح السيرة، بذِكر نصوصٍ تَدُلّ على أنَّ العناية بالسيرة النبوية على النحو المعروف قديمةٌ قِدَم سائر العلوم، وأن ابن هشام - رحمه الله - هو الذي كشف ضابط المصطلح، وأبرز مراجع أفراده.
أمَّا المَبْحَثُ الثَّالِثُ فَقَدْ أَفْرَدتُه لذِكر مصنَّفاتٍ ضَمَّن أهلُها عناوينَها مصطلحَ السيرة تبعًا لابن هشام رحمه الله، وأن هذا يدل على بدايات استقرار المصطلح.
أما الفصل الثالث فقد بسطت فيه الحديث عن دلالة مصطلح السيرة عند ابن هشام، وعند المحدِّثين، وجعلته في مبحثين:
ففصَّلت في الأولِ الكلامَ عن أهمية تهذيب ابن هشام لسيرة ابن إسحاق رحمه الله، وعن دقة ما ضبط به المصطلح في مقدمة التهذيب، وحدد به أفراده، ووجه به مقصده.
وفي المبحث الثاني ذكرتُ أُصُول اسْتِعمال المحدِّثين لمصطلح السيرة النبوية من خلال خمسة نُصُوصٍ لبعضهم، حيثُ ذَيَّلْتُ كُلَّ نَصّ منها باستخلاص ما اشتمل عليه من الفوائد، الدالَّة على أمرين:(/7)
الأوَّل: أنَّ المحدّثين - لدقَّة مناهجهم في التصنيف - أولى الناس بضبط دلالة المصطلح؛ وإنما قدَّمتُ ابنَ هشام علَيْهِم؛ لكون كلامه في بيان معنى المصطلح أصرح؛ لا سيما وأنه قدَّم به لتصنيف سيرةٍ مُسْتَقِلَّة، صارتْ بَعْدَهُ مَرْجِعَ كُلّ السِّيَر.
الثاني: أنَّ الفوائِدَ الَّتِي استَخْلَصْتُها من نصوص المحدثين مبرزة لشواهد رسوخ المصطلح، وأنَّ المنزلة التي أثمرت فيها شجرته هي منزلة رسو مناهجهم النقدية، واكتمال نضجها.
أما الفصل الرابع ففي استخْراج خلاصة كل دلالات المصطلح المفصلة في الفصل الثاني، وقد قسمت مضامينه إلى ثلاثة مباحث:
عقدت الأول منها لبيان معنى مصطلح السيرة في كتب الفهارس؛ لأن غاية تصنيفها ذكر تعريفات العلوم؛ فالرجوع إليها مِفتاح استخراج تلك الخلاصة.
وَهُوَ عِبارة عن سِت فقرات، تحت كل فقرة منها تعليق أحصيت فيه ما اشتملت عليه من الفوائد، ثم ذيلتها بخلاصة لكل التعليقات.
وعقدت المبحث الثاني لبيان حد علم السيرة، وموضوعه، والغاية منه حسبما دلت عليه خلاصة تلك الدلالات، وهداني إليه البحث في هذا الباب.
وعقدت المبحث الثالث لذكر مشاهد من فقه الصحابة - رضي الله عنهم - لعلم السيرة، تؤكد استحقاقه الاستقلال عن علم الحديث.
أما الباب الثاني فقد ضمنته موجبات تطبيق منهج النقد الحديثي على مرويات السيرة النبوية، وقسمته إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول في بيان معنى النقد عند المحدثين، وغاية تعينه، وقسمته إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في ذكر المراد بمنهج النقد الحديثي، وبيان مزية الإسناد.
المبحث الثاني: في ذكر الآثار المترتبة على تعطيل العناية بالإسناد.
المبحث الثالث: في بيان خطورة ذلك على السيرة النبوية.
أما الفصل الثاني فقد تحدثت فيه عن مسلك السلف - رحمهم الله - في التثبُّت في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جعلته في ثلاثة مباحث:
الأول: في الحديث عن الغاية من هذا الفصل.(/8)
المبحث الثاني: أوردت فيه طائفة من الآثار الدالة على استعظام السلف للرواية عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث: بينت فيه عاقبة مخالفة مسلك السلف في هذا الشأن.
أما الفصل الثالث فقد مثَّلتُ فيه لموجبات الاضطلاع بهذا الشأن، وقسمته إلى ثلاثة مباحث، في كل مبحث مثال من ساقط الأحاديث المشتهرة في السيرة النبوية.
أما الباب الثالث فقد عَقَدْتُه لذكر مداخل منهجيَّة تسعف المشتغل بسَبْر مرويات "سيرة ابن إسحاق" وتمييز صحيحها من ضعيفها، وجعلته في فصلين:
الأول في عرض ثبت للرواة الذين أسندوا عن ابن إسحاق سيرته.
الفصل الثاني في عرض تراجم مَن روى عنهم ابن إسحاق في سيرته، والبخاري في جزء السيرة من تاريخه الصغير.
وأما الخاتمة فقد ضمنتها خلاصة الأطروحة، وأهم نتائجها.
الصعوبات التي تخللت إعداد الأطروحة:
لا يخلو سبيل إعداد كل بحث علمي من صعوبات ومشاق؛ لكنها تختلف بالنظر إلى طبيعته، ومدى توفر المظان المعينة على إتمام إنجازه.
وما تعلق من ذلك بهذه الأطروحة كثير متنوع، فمنه ما ارتبط بمجال (المصطلح)، لا سيما أن مصطلح السيرة لم يزل بحاجة إلى الدراسة والتبيين.
ومنها ما ارتبط بالمنهج؛ حيث لزم الجمع في التناول بين آليات كثيرة متداخلة؛ كالتحليل، والاستقراء، والاستخلاص، ونَقْد الأسانيد والمرويات، واستخراج تراجم الرواة من مظانَّ غير المظان المشهورة، والتدقيق في بيان درجات مرويات عديدة من الصحة أوالضعف.
ومنها تشعُّب الموضوع، وتنوع جوانبه، وعسر الضم بين تلك الجوانب، وترتيبها على النحو الكفيل بضمان وحدته.
نتائج البحث:
إن شرط البحث العلمي أن تكون له ثمرة؛ وإلا صار الجهد المبذول فيه عنتًا ونَصَبًا خالصًا، أما ثمرات هذا العمل، ولُباب ما وصل إليه، فبيانه بما يلي:
• استخراج دلالة السيرة النبوية في الاصطلاح على نحو مخترع.(/9)
• إبراز وجوه استحقاق علم السيرة أن يستقل عن علم الحديث من جهة الموضوع، وذلك من نفس كلام أهل السير، بتفصيلٍ علمي لما أجمل منه؛ لا سيما ابن هشام في مقدمة تهذيبه لمغازي ابن إسحاق.
• استخراج مسوغات ذلك من نفس صنيع المحدثين؛ لا سيما أمير المؤمنين في الحديث محمد ابن إسماعيل البخاري في كتاب المناقب من صحيحه.
• توجيه مصطلح السيرة في كتب الفهارس المعتنية بتعريف العلوم؛ ليأخذ مكانه الجديد على نحو أوسع مما كان.
• السيرة النبوية علم يعنى بشأن آخر وراء الإضافة والإخبار؛ وهو عَدُّ صفات النبي - صلى الله عليه وسلم – الحسنى، ومنازل تكريمه العظمى؛ تنويها بشأنه العلي، وقدره الزكي.
• وموضوعه ذات النبي - صلى الله عليه وسلم – الشريفة، وهيئة خَلْقه الأكمل، وخُلُقه الأجل، وأحواله المنيفة، التي ما قامت الشريعة، ولا سخرت علومها إلا لتعليق العباد بها.
• وغاية معرفة هذا العلم أداء حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على العبد؛ كالمحبة والتوقير، والتقديم، والتعرض بذلك لما يجلب به لنفسه أتم سعادة تكون.
• تبين أن تطبيق منهج النقد على مرويات السيرة النبوية ضرورةٌ شرعية وعلمية، وله موجبات تطبيقية على الحديث النبوي أشد خطورة؛ كتساهل بعض مصنفي الفضائل النبوية في رواية الخبر الضعيف ونحوه؛ تعلّقًا بحال التعظيم الوارد في متنه.(/10)
• وتبين أيضًا أن "سيرة ابن إسحاق" حقيقةٌ بالعناية النقدية؛ لكونها مرجعًا لكل مَن صنف بعده في السيرة النبوية، وأن ما أصاب مصنفات الحديث النبوي مِن تتبع أسانيدها، والمفاضلة بينها، والترجمة لأهلها، قد عمَّ وكثر حتى فاض، بينما لقيت تلك المغازي المنيفة المشتهرة من الأثرة، ما أظهر افتقارها إلى مثل ذلك، وقد قدَّم العلامة ابن هشام لتهذيبه سيرة الإمام ابن إسحاق بذكر المنهج النقدي الكفيل بدفع تلك الأثرة عن علم السيرة، ورد الاعتبار إليه، فأسقطَ ما لا يَدخل في حد السيرة، وما دون مخرجه من الأخبار مفاوز، تقتضي طرحها وعدم الاعتداد بها.
• وضعت ثبتًا ترجمت فيه لرجال سيرة ابن هشام على طريقة نقاد الحديث، الذين وضعوا مصنفات في كتب الرجال؛ وذلك تمهيدًا لسبيل تحقيق سيرة ابن هشام، وتمييز صحيحها من ضعيفها؛ لا سيما مَن اشتهر من رواتها بنقل السيرة على سبيل الإفراد.
وختامًا؛ فإن الحياة في ظلال سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لتغمر النفس بنعيم لا يعرفه إلا مَن ذاقه، وإن في ذلك من الخير والفضل ما يزكي الأنفاس والأزمان، ويبارك في السعي، ويرفع شأن العبد.
والله من وراء القصد؛ لا هادي سواه، والحمد لله رب العالمين.(/11)
العنوان: الواضح في التفسير الحلقة الأولى
رقم المقالة: 1517
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الواضح في التفسير
(الحلقة الأولى)
سورة الفاتحة
وسورة البقرة، الآيات (1-25)
مقدِّمة
الحمدُ للهِ مُنْزِلِ القرآن، والصلاةُ والسلامُ على مَن خُلُقهُ القرآن، وعلى آلهِ وأصحابهِ الذين علَّموا القرآن، ومَن تبِعهم بإحسانٍ مِن أُمَّةِ القرآن.
وبعدُ:
فإنَّ القرآنَ الكريمَ كتابُ هِدايةٍ وأحكام، وسُلوكٍ وعقيدة، ووَعْظٍ وقَصَص، ووصايا وعِبَر، وبشاراتٍ ونُذُر... أَنْزَلَهُ اللهُ خِتامًا للكُتبِ السماويَّة؛ ليكونَ مَرجِعًا للناسِ، ودُستورًا لهم في شؤونِ الحياة، مادامتْ هناك حياةٌ.
ومع عَظَمَةِ القرآن، وجلالَةِ قَدْرِه، وسُمُوِّ أحكامِه، فإنَّ النَّاسَ قد أَعرَضوا عنه، إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ.
وكانتِ الهجمةُ قويةً ومخطَّطًا لها من قِبَلِ أعداءِ الإسلام؛ لإبعادِ مصدرِ القوَّةِ عندَ المسلمينَ من ساحةِ الحياة، فكان ما كان، واللهُ المسؤولُ أنْ يجمَعَنا تحتَ رايةِ الحقِّ، ويُعِزَّنا بدينِه، وينصُرَنا على القومِ الكافرين؛ ليعودَ القرآنُ سيِّدَ الأحكام، وعَلَمًا يَعْلو في كلِّ مكان، لا يُعلى عليه شيء.
وهو كلامُ اللهِ المُعجِز، الَّذي لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يأتيَ بمِثْلِهِ أو جزءٍ منه، وَصَلَ إلينا بالتَوَاتُر؛ فنَقَلَهُ جَمْعٌ غفيرٌ عن جَمْعٍ كبير، تُحِيلُ العادةُ تَوَافُقَهُمْ على الكذبِ، وَصَلَنا من خلالِ الصُّدورِ وعَبْرَ السُّطور، كما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقد تكفَّلَ اللهُ بحفْظِهِ دونَ الكُتُبِ السَّابقة؛ فقال عزَّ مِنْ قائلٍ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجْر:9].(/1)
وله علومٌ كثيرة، دَرَسَها العلماءُ جَمْعًا وإفرادًا؛ كأسبابِ النُّزول، والمناسباتِ بينَ الآيات، والتفسير، والوجوهِ والنَّظائر، والمُحْكَمِ والمُتَشَابِه، والمكِّيِّ والمَدَنيِّ، والغريب، والأحكام، والقراءات، والتَّجويد، والنحوِ والإعراب، والخَطِّ، والتدوين، والفضائل، وآدابِ التلاوة، والأمثال، والقَصَص، والنَّاسِخِ والمنسوخ، والإعجازِ بأنواعِه... وغيرِها.
وتفسيرُ القرآنِ الكريمِ مرغوبٌ فيه ومندوبٌ إليه؛ يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأْلْبَابِ} [ص:29].
ويقولُ سبحانَهُ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}[النساء:82].
ولا يكونُ هناك تدبُّرٌ للآياتِ إلا مِن خلال فَهْمِها، ولا يُفْهَمُ كُلُّها إلا بعد إيضاحٍ وبيان، وهو ما نُسمِّيه (التَّفسير).
وقد ذمَّ اللهُ أهلَ الكتابِ لأنهم كتموا العلمَ ولم يُبَيِّنُوهُ للنَّاسِ؛ فقالَ جلَّ شأنه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:87]. فلا نكونُ مِثْلَهُمْ، وإلا كان مصيرُنا مصيرَهُم.
وقد سلكَ المفسِّرونَ طرائقَ شتَّى في تفسيرِ القرآنِ الكريمِ، وهم يقولون – وَصَدَقُوا - إن أحسنَ طُرُقِهِ أن يُفسَّرَ بالقرآنِ نفسِه؛ فإنه يصدِّقُ بعضُهُ بعضًا، ثم بالسُّنَّةِ التي جاءت مُبَيِّنَةً له، ثم بأقوالِ الصحابة؛ فإنَّهم تلامذةُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي نزلَ عليه القرآنُ وهو بين ظَهْرَانَيْهِمْ، ثم بأقوالِ التَّابعينَ الذين تلقَّوْا كلَّ هذا من الصحابة؛ فهم أدرى بأقوالِهِمْ، وكانوا الأفضلَ بَعْدَهم.
وقد غلبَ على تفسيرِ بعضِ المفسِّرين العلمُ الذي اشتغلوا به وبرزوا فيه، وفي كلِّها خيرٌ - إن شاء الله.(/2)
كما صدرتْ تفاسيرُ في هذا العصر، فيها اهتماماتٌ وتخصُّصاتٌ جديدةٌ حَسْبَمَا يتطلبُه، لم تكنْ في السَّابق.
وقد دعوتُ اللهَ أن يجعلَني من المشتغِلينَ بكتابِهِ الكريمِ، بما يَفتَحُهُ عليَّ ويوفِّقُني إليه، فقدَّرَ سبحانَهُ أن يكونَ ذلك تفسيرًا وَتِبْيانًا للقرآن، كما يراهُ القارئُ، فهو مِنَّةٌ من الله وفضلٌ؛ فله الحمدُ وله الشكر.
وقد اتَّجَهْتُ في كثيرٍ من كتاباتي إلى العامَّةِ مِنَ المسلمين، مِن ذَوِي الثقافاتِ العاديةِ، حتى لا يُفْقَدُوا، وهم جمهورُ الأُمَّةِ وصوتُها وقُوَّتُها وعاطِفَتُها، فلو أنَّ كلَّ ذي تخصُّصٍ كتبَ في تخصُّصِهِ بِقَلَمِهِ ومُصطلحاتِهِ وتعقِيداتِهِ لَمَا أفادهم، وَلَمَا أقبلوا على ما يَكتُب، فكان إهمالُهم لَهُمْ إهمالاً لقاعدةٍ عظيمةٍ من المجتمع، لا تُدرَكُ نتائجُهُ إلا بعد حين، وهم ـ كما نَرَى الآن ـ يَتَّجِهونَ إلى كتاباتٍ ووسائلَ إعلاميَّةٍ تُلائمُ مُستواهُم، وفيها ما فيها، فهربَ الكثير منهم وفُقِدُوا... أو كادوا.
ولذلك جاءَ هذا التفسيرُ على نَهْجِ ما قُلْتُ، فأَحْبَبْتُ أن أَضَعَهُ بينَ يَدَيِ القارِئِ العادِيِّ، ليُعْطِيَ المعنى والمفهومَ لكلِّ آيةٍ على حِدَةٍ، بحيث يستطيعُ أن يَستوعِبَهُ ويفهمَ معناه؛ كما يَقْرَأُ أيَّ موضوعٍ في وسائلِ الإعلامِ المقروءةِ المعاصِرة، دون تفصيلٍ ولا إيجاز، مع عنايةٍ بالكلمة، واهتمامٍ بالتَّركيب، تَسْمُو به لُغَةُ القارئِ وثقافتُهُ.
وقد رَكَّزْتُ على الجانبِ التعبيريِّ والإنشائيِّ، ولو تكرَّرتْ فيه ألفاظٌ وصفاتٌ؛ فهو يرسِّخُ المعنى ويَصِلُ إلى الفِكرِ والقلب، كما استخدمْتُ الأسلوبَ التربويَّ والدَّعَوِيَّ للتَّأثيرِ، وهو موجودٌ ضِمْنًا في الآيات، إضافةً إلى البيانِ وزادِ المعرفةِ الحقيقيِّ.(/3)
ولم أَتَطَرَّقْ إلى جوانبَ نحويَّةٍ وبلاغيَّةٍ وكَلاميَّةٍ، وكثيرٍ من تفاصيلِ المفسِّرين وتخصُّصاتِهِم، ولا شواهدَ كثيرةٍ ولا هوامش؛ بل أردتُ المعنى المباشِرَ المتَّصِلَ بالآيةِ الكريمة، وكفَى به عِلْمًا وفائدة، وهو ما يريدُ أن يعرِفَهُ القارئُ العادِيُّ، أو المقبِلُ على الإسلام، ليفهَمَ ما هو القرآنُ، وماذا يريد، وماذا تَعنِي آياتُهُ بدِقَّة؛ يَعْنِي: ماذا يريدُ اللهُ من عبادِهِ في كتابِهِ الكريم هذا؟ فكانَ هذا "التفسيرَ الواضحُ"، الذي أَردتُ أن أُوَسِّعَ من دائرةِ المستفيدينَ منه.
فليس المقصودُ بالمثقَّفِ العادِيِّ ما يَتَبَادَرُ إلى ذهنِ القارئِ وحْدَه؛ بل هو كلُّ مَن لم يَدْرُسِ العلومَ الشرعيَّةَ؛ فقد يكونُ في أعلى الدرجاتِ العلميَّة، وحاصلاً على أرقى الشهاداتِ المتخصِّصَة، لكنَّها في غيرِ الإسلامِ وعلومِه، وهو بهذا يحتاجُ إلى أن يَعرِفَ عِلْمًا جديدًا، أو أن يَتوسَّعَ فيه من خلالِ معرفةِ محتوى القرآنِ العظيمِ.
وهو أيضًا لِمن يريدُ أن يَعرفَ مضمونَهُ من غيرِ المسلمين، أو ممَّن اهتدى منهم إلى الإسلامِ، سواءٌ كان عارفًا بالعربية أو تُرجِمَ له.
فالأمرُ كُّلهُ يتلخَّصُ في أنه تفسيرٌ بَيِّنٌ واضح، يَفهمُهُ جميعُ فئاتِ المجتمعِ، متعلِّمُهم ومتخصِّصُهم، إذا أُريدَ المعنى دونَ التفصيل.
والذي شجَّعني على الإقدامِ على تفسيرِ كتابِ الله الكريمِ، هو وجودُ تفاسيرَ جليلةٍ كانت عَوْناً لي على هذا العملِ. وقدِ اعتمَدْتُ على كثيرٍ منها، لكنَّ أبرزَها وأهمُّها: "تفسيرُ القرآنِ العظيم" لابن كثير، وفيه أولُ نظري، ومنه أكثرُ استفادتي. و "معالمُ التنزيلِ" للبغويّ، و "إرشادُ العقلِ السليمِ إلى مَزَايا الكتابِ الكريم" لأبي السُّعود، و"روح المعاني في تفسيرِ القرآن العظيمِ والسبعِ المثاني" لمحمود الآلوسي، و"في ظلالِ القرآن" لسَيِّد قُطْب.
ثم تأتي تفاسيرُ أخرى عديدة.(/4)
وقد أَنْقُلُ عباراتٍ للمفسِّرينَ كما هي، أو ممَّا يَنقُلون هم من غيرهم، إذا وافَقَتِ الأسلوب، وكانتْ ملائمةً لنصِّ العبارة، فالمُهِمُّ هو أن يُعطَى البيانُ التامُّ باللفظِ المناسبِ والتَّركيبِ الملائمِ، وألاَّ يَقِفَ أمامَ ذلك عائقٌ.
وقد أَكْتَفِي بما تَدلُّ عليه الآيةُ أو أَزِيد، حَسْبَمَا أَراهُ مناسبًا لِمَا يتعلَّقُ بها، ومن أرادَ تفاصيلَ أكثرَ فعَلَيْهِ بالتفاسيرِ الكبيرة.
وقد أَختارُ وجهًا أو أكثرَ في التفسير، أو أَضُمُّ مَعْنَيَيْنِ متقارِبَيْنِ إليه إذا لم يتبيَّنْ ليَ الأصحُّ في ذلك.
وما فسَّرتُ آيةً إلا ورَجَعْتُ فيها إلى تفسيرٍ أو أكثرَ لأعرفَ معناها، ولم أطمَئِنَّ إلى ما كتبتُ إلا إذا عرفْتُ أن الآيةَ قد وَضُحَتْ للقارِئِ تمامًا، فإذا توقَّفَ المفسِّرون في شيءٍ ولم يُبَيِّنوه؛ فعلتُ ما فعلوا، وإذا تضاربتْ أقوالُهم في المتشابهاتِ وما إليها، أَوردتُ نصَّ القرآن أو قريبًا منه؛ خوفًا ورهبةً.
وقد جاءَ تفسيرهُ على نسقِ الضميرِ الواردِ في الآيات؛ فهو أصدقُ وأقربُ إلى القلوب، وأكثرُ رهبةً وَإِيحَاء، وهو متنوِّعٌ في القرآنِ وليس على مثالٍ واحد، مما يُثيرُ الانتباهَ في النَّفسِ، ويُبعدُ الملل؛ بل يَزيدُ منَ المتابعةِ والتشويق.
ودَعَوْتُ اللهَ أن يَهْدِيَني ويُسَدِّدَني كُلَّمَا جَلَسْتُ إلى تفسيرِ كتابِهِ الكريم، وكنتُ أتعوَّذُ بِهِ - سبحانه – من أن أفسِّرَهُ على غيرِ مراده.
فأَدعُوهُ سبحانَهُ أن يغفِرَ لي زَلَلي وتقصيري فيه، وأن يَتقبَّلَهُ خالِصًا لوجهِهِ الكريم، ويضعَ له القبول، فهو منه وإليهِ، إنَّه سميعٌ عليم.
محمد خير يوسف
• • • • • •
الجزء الأول
سورة الفاتحة
وسورة البقرة الآيات: 1-141
سورةُ الفاتحة
بسم الله الرحمن الرحيم(/5)
يَتعوَّذُ المسلمُ باللهِ من الشيطانِ عندَما يَبْدَأُ بقراءةِ القرآنِ الكريمِ؛ لدَفْعِ الوَسْواسِ الَّذِي يُسَبِّبُه. يقولُ اللهُ سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]، ومعناه: أستجيرُ باللهِ من الشيطانِ المُبْعَدِ عنِ الخيرِ كلِّه، أنْ يَضُرَّني في دِيني أو دُنيايَ، أو يَصُدَّني عن فِعْلِ خيرٍ، أو يَحُثَّني على فِعْلِ شرٍّ.
ويُستعاذُ منه باللهِ لشدَّةِ عَدَاوَتِهِ لابنِ آدم، وعَمَلِهِ على تضلِيلِهِ لإزاحتِهِ عنِ الحقِّ. وقد أَقْسَمَ على ذلك فقال:{فَبِعِزَّتِكَ لأَُْغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82، 83]. وقد نبَّهَ اللهُ ابنَ آدمَ إلى ذلك، وحذَّرهم منه؛ فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6].
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:1]
1- أَبدَأُ باسمِ اللهِ ذِي الألُوهيَّةِ والمعبودِيَّةِ على خَلْقهِ أجمعين، المتَّصِفِ بالرَّأفةِ والرَّحمةِ الكبيرة.
وفي البدءِ بالبَسْمَلَةِ تَبَرُّكٌ وتَيَمُّنٌ واستعانةٌ على الإتمامِ والتقبُّلِ.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]
2- الثناءُ على اللهِ ربِّ الخَلْقِ كلِّهِ، والشُّكرُ خالصًا له على ما تَفَضَّلَ به من النِّعَمِ الكثيرةِ على خَلْقِه، في دِينِهم ودُنياهم، فبيَّنَ لهم الحقَّ ومكَّنَهم مِنَ اتِّباعِهِ، وبَثَّ لهمُ الرِّزقَ ومكَّنَهم من طَلَبِه.
والحمدُ أوَّلُ الفاتحة، وهو آخِرُ الدَّعَوَاتِ الخاتمةِ كذلك: {وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس:10].
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]
3- هو الربُّ المتَّصِفُ بالرَّحمة، صاحبُ الخيرِ والنِّعمة، يَرحَمُ جميعَ خَلْقِه، ورَأْفَتُهُ ورحمتُهُ بالمؤمنينَ خاصَّةٌ.(/6)
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]
4- وهو المتفرِّدُ بالحُكْمِ يومَ حسابِ الخلائقِ في الآخرة، فلا مُلكَ في ذلك اليومِ لأحدٍ سِواهُ.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]
5- نَتَوَجَّهُ بعبادتِنا إليكَ، ونستعينُ بكَ في أمورِنا كلِّها، ونتوكَّلُ عليكَ؛ فلكَ كمالُ الطَّاعةِ يا ربَّنا، نَتبَرَّأ مِنَ الشِّركِ، ونَتبَرَّأ مِنَ الحَوْلِ والقوَّة، ونُفَوِّضُ أَمْرَنا إليك.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]
6- نسأَلُكَ يا رَبَّنا أن تُرشدَنا وتوفِّقَنا دائمًا إلى الطَّريقِ الواضحِ الذي لا انحرافَ فيه، وهو اتَّباعُ دِينِكَ، وأن تُثبِّتَنا عليه.
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]
7- طريقَ الذين أحسنْتَ إليهم وأنعَمْتَ عليهم بطاعتِكَ وعبادتِك، من ملائكتِكَ وأنبيائِك، ومَنْ رضيتَ عنهم من سائرِ عبادِك، أهلِ الهدايةِ والاستقامة، والطَّاعةِ والامتثال، وليس طريقَ الذين غضِبْتَ عليهم؛ ممَّن عرفوا الحقَّ ولم يتَّبِعوهُ كاليهود، ولا مَسْلَكَ الذين ضَلُّوا، فما عَرَفوا الحقَّ، وبَقُوا هائمينَ في ضَلالَتِهم، ثم لم يتَّبِعوا نَبيَّك، كالنَّصارى.
سورةُ الفاتحةِ عظيمة؛ فهي أُمُّ الكتابِ والسَّبْعُ المَثَانِي، حاويةٌ على دقائقِ الأسرار، يَقرَؤُها المسلمُ في صلاتِه؛ فلا صلاةَ إلا بها.
ولها فضائلُ كثيرة؛ منها قولهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ وَلاَ فِي الزَّبُورِ وَلاَ فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا))؛ رواهُ أحمدُ بإسنادٍ صحيحٍ.(/7)
وقدِ اشتملَتْ على تمجيدِ الله، وإرشادِ الخلْقِ إلى توحيدِه، وسؤالِه، وإخلاصِ العبادةِ له، وطلَبِ هدايتِهِ وتوفيقِهِ للثَّباتِ على المنهجِ الصحيح، وهو الدِّينُ الإسلاميُّ، الذي يُفضِي إلى العاقبةِ الحَسَنَةِ يومَ الحساب.
وفيها التحذيرُ من مسالكِ الباطل؛ كَمَنْ عَرَفَ الحقَّ ولم يتَّبِعْهُ، أو ضلَّ الطريقَ إليه.
• • • • • •
سورةُ البقرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الم} [البقرة: 1]
1- حروفٌ مُقَطَّعَةٌ لم يَرِدْ في معناها تفسيرٌ ثابتٌ صحيحٌ، وعِلْمهُ عند الله.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة: 2]
2- هذا القرآنُ لا شكَّ أنه نَزَلَ من عِنْدِ الله، وهو نورٌ وتِبْيانٌ للمتَّقين، الذين يَعملونَ بطاعةِ اللهِ ولا يُشْرِكون، الذين يَحْذَرُونَ عقوبةَ اللهِ إذا عرفوا الهُدى ولم يَتَّبِعُوه، ويَرْجونَ رحمةَ اللهِ بالتصديقِ بما جاءَ فيه.
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]
3- الذين يُؤمنونَ بالله، وملائكتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليومِ الآخرِ وما فيه، وما ذُكر في القرآن.
ويُقِيمون الصلواتِ المفروضةَ في مواقيتِها، مع إسباغِ الوضوء، وتمامِ الركوعِ والسجود...
ويُؤَدُّونَ زكاةَ أموالِهم كما افْترَضَها اللهُ عليهم.
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]
4- والذين يُصدِّقونَ بما جِئْتَ به من اللهِ أيها النبيُّ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وما جاءَ به مَن قَبْلَكَ مِنَ المرسَلين، لا يفرِّقون بينهم، ولا يجحدونَ بما جاؤوا به من ربِّهم.
ويصدِّقونَ بالبعثِ والقيامة، والجنةِ، والنار، والحساب، والميزان.
{أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5](/8)
5- هؤلاءِ الذين آمنوا بالغيبِ، وأقامُوا الصلاةَ، وأدَّوُا الزكاةَ، وآمنوا بما أُنْزِلَ إليك وما أُنزِلَ إلى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُل، وأَيْقَنُوا بيومِ القيامة، هؤلاءِ على نورٍ وبصيرةٍ مِنَ الله، وعلى استقامةٍ وسداد، وهمُ الناجحونَ الذين أدركوا ما طلبوهُ بإيمانِهم وعملِهم، وفازوا بالثوابِ والخلودِ في الجِنان، ونَجَوْا منَ العقاب.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]
6- والذين كفروا بما أُنزِلَ إليكَ وأَصرُّوا على مَوْقِفِهم، لا يُؤمِنونَ ما دامُوا كذلك، فهم أشقياءُ لا يسمعونَ منك إنذارًا ولا تحذيرًا.
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7]
7- لقد طَبَعَ اللهُ على قلوبِهم وعلى سَمْعِهم، وصارَ على أبصارهم غِشَاوَةٌ؛ نتيجةَ هذا الموقفِ الخطأِ منهم، واستهتارِهم بالإنذار، فكثُرَتْ ذنوبُهم وتَتابَعَتْ حتى أَغلقَتْ مَنَافِذَ الفَهْمِ والتَّبَصُّرِ عندَهم، فلا مَسْلَكَ للإيمانِ إليها، ولا للكفرِ عنها مخلصٌ، وجزاءُ الكُفْرِ العنيدِ، وعدمِ الاستجابةِ للنذيرِ، هو العذابُ العظيم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]
8- وهناكَ المنافقونَ، الذين يُظهرونَ الإيمانَ ويُبْطِنُون الكُفْرَ، ويُبْدُونَ الخيرَ ويُسِرُّون الشرَّ، فيقولون: إنهم يؤمنونَ باللهِ وبيومِ الجزاء، ولكنَّهم في الحقيقةِ غيرُ مؤمنين.
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9](/9)
9- ويعتقدونَ – بجهلهم - أنَّهم يَخدعونَ اللهَ بذلك، وأنَّ أُسلوبَهم هذا يَنْفَعُهُمْ عندَه، وأنه يَرُوجُ عليه كما يَرُوجُ على بعضِ المؤمنين، ولكنَّهم بِصَنِيعِهم هذا لا يَضُرُّون إلا أنفسَهم، ولا يسيئُون إلا إلى أنفسِهم في إسخاطِ ربِّهم عليها بكفرِهم، وهم غيرُ شاعرينَ ولا دارين، ولكنهم على عمًى من أمرِهم مقيمون.
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]
10- في قلوبِهم عِلَّةٌ جعلتهم يَحِيدونَ عنِ الحقِّ ويُصِرُّون عليه، فزادَهم اللهُ بذلك عِلَّةً؛ فإنَّ الانحرافَ يَكْبُر، والمرضَ يزدادُ معَ الإصرار، فَشَكُّوا ولم يحاولوا الإيمان، فزادَهمُ اللهُ شَكًّا، كما أن الذين {اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [ محمد:17].
فاستحقَّ المنافقونَ بذلك العقابَ الموجِع، وذلك لكَذِبِهم، وهو مَوْقِفُهمُ المناقضُ للحقِّ، والكَذِبُ أَحَدُ أبوابِ النفاق، وما أَسْرَعَهُ في إفسادِ القلب!
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]
11- وإذا طُلِبَ منهم عَدَمُ الكُفْرِ، وعَدَمُ العصيانِ؛ لأن ذلك يُؤَدِّي إلى الإفسادِ في الأرضِ، والطاعةَ تُؤَدِّي إلى الإصلاحِ، قالوا في سَفَهٍ وتبجُّحٍ: إِنَّهم يُريدونَ بذلك الإصلاحَ، وأمثالُ هؤلاءِ كُثرٌ، ممنِ اختَلَّتْ موازينُ الحقِّ عندَهم؛ لاختلافِ عقيدتِهم.
{أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12]
12- والحقُّ أن هذا الذي يعتمدونَهُ في منهجِهم، وَيزعُمُونَ أنه إصلاحٌ، هو عينُ الفسادِ، ولكنْ مِن جهلِهم لا يشعرونَ بكَوْنِهِ فَسَادًا.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13](/10)
13- وإذا قِيلَ للمنافقينَ آمِنُوا بأركانِ الإيمانِ كما آمَنَ الناسُ، إيمانًا كاملاً لا شكَّ فيه، وأطيعوا اللهَ وامتَثِلوا أوامرَ رسولِهِ كما يفعلون؛ أَنِفُوا منَ الاستسلامِ للحقِّ، وقالوا في غرورٍ وبَلَه: أَنُؤْمِنُ كما آمَنَ هؤلاءِ السفهاءُ- يَعْنُون الصحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم- وَنَصِيرُ وَهُمْ بمنزلةٍ واحدة؟!
لكنَّ الحقَّ أنهمُ الجهلاءُ، فهم ضعيفو الرأيِ وقليلو المعرفةِ بمواضعِ المصالحِ والمضارِّ، ومن تَمامِ جهلِهم أنهم لا يعلمونَ بحالِهم في الضلالةِ والجهل، وهذا أَرْدَى وأبلغُ في السَّفَهِ والعَمَى!
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]
14- وإذا لَقِيَ هؤلاءِ المنافقونَ المؤمنينَ أظهروا لهمُ الإيمانَ والموالاة، وأَبْدَوْا لهمُ المحاباةَ والمصافاة، نِفاقًا ومصانعة؛ ليتَّقوا بذلك الأذى، وليتَّخِذوا هذه التَّقيَّةَ وسيلةً لأذاهم، وليشاركوهم فيما يصيبونَهُ من مغنم.
وإذا انصرفوا إلى رؤسائهم وسادتِهم من أحبارِ اليهودِ ورؤوسِ المشركين وكُبَرَاءِ المنافقين، قالوا لهم: نحن معكم، إنما كنا نستهزئُ بهم!.
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]
15- وما داموا اختاروا طريقَ الخداعِ والتآمر، والتهكُّمِ والاستهزاء، فإن اللهَ لهم بالمرصادِ، وسيعلمونَ غدًا أنَّ الهُزْءَ والمَكْرَ قد حاقَ بهم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:42]، فسوفَ يسخرُ اللهُ بهم للنقمةِ منهم، ويدَعُهم يَخْبِطُون في طريقٍ لا يعرفونَ نهايتَه، ولا يجدونَ سبيلاً إلى الخروجِ منه، فقد طَبَعَ اللهُ على قلوبِهم، وأعمَى أبصارَهُم، نتيجةَ عملهم.(/11)
والمَكْرُ والخداعُ والسخريةُ على وجهِ اللعبِ مُنتفٍ عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ بالإجماع، وأما معَ وجهِ الانتقامِ والمقابَلَةِ بالعدلِ والمجازاةِ، فلا يمتنعُ ذلك، كما قال ابنُ جريرٍ الطبريُّ.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]
16- إنَّهم عَدَلُوا عنِ الهُدى إلى الضلال، وآثَرُوا الكُفْرَ على الإيمانِ الصريح، في تجارةٍ خاسرةٍ من جميعِ الوجوهِ، فما رَبِحَتْ صفقتُهم هذه، وما كانوا راشدينَ في صنيعِهم هذا.
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اُسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]
17- ومَثَلُ هؤلاءِ الذين عَدَلوا عن الهُدى إلى الضلال، وآثَرُوا العَمَى على التبصُّر، كمَثَلِ رجلٍ أوقَدَ نارًا في ليلٍ مُدْلَهِمٍّ، فَلَمَّا أضاءتِ النارُ ما حولَها، وانتفعَ بها مُوقدُها، وأبصرَ بها ما حولَهُ، واستأنسَ بها، إذا بها طُفِئَتْ، فصارَ في ظلامِ شديدٍ، لا يُبصرُ ولا يهتدي!.
والمنافقونَ كذلك، رَأَوْا نورَ الإسلامِ، فآمنوا، ثم انقلبوا على وجوههم يَخْبِطُونَ حائرين، مؤثرينَ الضلالَ على الهدى بعدَما تَبيَّنوه. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3].
فكان جزاؤُهم أن أذهبَ اللهُ عنهم ما ينفعُهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يَضرُّهم، وهو الإحراقُ والدُّخَان، وتركهم في ظُلُماتِ الشكِّ والكُفْرِ والنِّفاق، لا يهتدون إلى سبيلِ الخير.
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]
18- لقد عَطَّلوا وظائفَ آذانِهم وألسنتِهم وعيونِهم؛ فلا يسمعونَ خيرًا، ولا يتكلمونَ بما ينفعُهم، ولا يَرَوْنَ الحقَّ، فكيف يَهتدون، وأنَّى يستجيبونَ للهُدى والنور؟(/12)
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19]
19- وحالُ هؤلاءِ أيضًا في شكِّهِم وكفرِهم وتردُّدِهم، كمَثَل مَطَرٍ هاطلٍ مِنَ السماءِ في ليلٍ مظلِم، فيه رَعْدٌ قَوِيٌّ مُخِيف، وبَرْقٌ يُضِيءُ في لَمَعانٍ شديد، فصاروا يَجعلونَ أصابعَهم في آذانِهم حَذَرًا من أنْ يُصيبَهم شيءٌ من آثارِها فيموتوا، وهو لا يُجدي عنهم حذرًا، فالله محيطٌ بهم بقدرتِه، وهم تحتَ مشيئتِهِ وإرادتِه.
وتشبيهُ أوجُهِ المَثَلِ: حالُ الظُلُماتِ هي الشكوكُ، والكفرُ، والنفاقُ.
والرعْدُ هو ما يُزعجُ القلوبَ منَ الخوفِ، فإنَّ شأنَ المنافقين الخوفُ الشديدُ والفزعُ.
وَالْبَرْقُ هو ما يَلمعُ في قُلُوبِ هَذَا الْقِسْمِ مِنَ المنافقين في بعضِ الأحيانِ مِن نُورِ الإيمان.
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]
20- ويكادُ هذا البرقُ لِشِدَّتِهِ وقوَّتِهِ أنْ يَسْتَلِبَ أبصارَهم؛ فإذا أضاءَ لهم مَشَوْا فيه، وإذا أظلمَ عليهم وقفوا حائرينَ لا يَدْرونَ أين يذهبون.
والبرقُ كِنايةٌ عن شِدَّةِ ضَوْءِ الحقِّ... وأنَّهم إذا ظَهَرَ لهم مِنَ الإيمانِ شيءٌ استأنسوا به واتَّبَعوه، وتارةً تَعْرِضُ لهمُ الشُّكُوكُ فتُظْلِمُ قُلُوبُهم ويَبْقَوْنَ حائرين!
ولو شاءَ اللهُ لأخذَ سَمْعَ هؤلاءِ المنافقينَ وأبصارَهم، لِمَا تركوا منَ الحقِّ بعدَ معرفتِه، وهو إذا أرادَ بعبادِهِ نِقْمةً كان قادرًا على إنفاذِها.
وهو تحذيرٌ للمنافقين من بأسِهِ وسَطْوَتِه، وأنَّه بهم محيط.(/13)
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]
21- أيُّها الناس، اعبُدوا الربَّ الذي خلقكم ومَنْ قبلَكم، وَحِّدُوهُ بالعبادةِ ولا تُشْرِكوا به شيئًا؛ فإن الذي تفرَّد بالخلْقِ هو الذي يُفْرَدُ بالعبادة، ولعلَّكُم بهذه العبادةِ الصافيةِ تكونونَ منَ المطيعين وتؤدُّونَ حقَّ الخالق.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]
22- إنَّه الإلهُ الذي خلقَ لكمُ الأرضَ مُمَهَّدةً مُوَطّأةً بما يُناسبُكم ووسائلَ عَيْشِكُمْ، وَجَعَلَ السماءَ كالسَّقْفِ لها، تُرسلُ إليكم بحرارتِها وضوئِها لتنتفعوا بها، وأنزَلَ من سحابِها المطرَ لتَسْقِيَ الزروعَ فيخرجَ منها الثمارُ لتكونَ رزقًا لكم ولأنعامِكم، فلا تجعلوا مع اللهِ إلهًا آخَرَ، ولا تشركوا به أحدًا في عبادتِكم؛ فإنَّه وَحْدَهُ الخالقُ الرازقُ، وأنتم تعلمونَ أنه لا ربَّ لكم يرزقُكم غيرُهُ، فهو وَحْدَهُ المستحِقُّ للعبادَة.
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]
23- وإذا كُنتم في شكٍّ من نُبوَّة محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيُّها الكافرون، فهاتوا سورةً من مِثْلِ ما جاءَ به إذا زعمتم أنه من عندِ غيرِ الله، فعارِضُوه بمِثْلِ ما جاءَ به، واستعينوا بمن شِئْتُمْ من أعوانِكم.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24](/14)
24- فإذا لم تَقْدِرُوا على ذلك، ولن تَقْدِرُوا عليه، فاعلموا أنه كلامُ اللهِ المعجِزُ الحقُّ، واعلموا أن وراءَ إنكارِ الحقِّ نارًا عظيمةً محرِقَةً، تُضْرَمُ في أجسادِ الكفرةِ الظالمين، ومِنَ الحجارةِ الصُّلْبَةِ الضخمةِ الشديدةِ الاشتعال، أُرصِدتْ لمن كان على مِثْلِ ما أنتم عليه مِنَ الكفرِ بالله ورسولِه.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]
25- أما المؤمنون الذين آمنوا بالله، وبنبوَّتِكَ، وبالكتابِ الذي أُنْزِلَ عليك، وشفعوا ذلك بالعملِ الصالحِ في استقامةٍ وإخلاص، فَأَلْقِ عليهمُ الخَبَرَ السَّارَّ المُفْرِحَ، وبَشِّرْهُم بأنَّ لهم جِنانًا كبيرةً رائعة، تَجري من تحتها المياهُ العذبةُ، لتَجلبَ الأَرْيَحِيَّةَ والنشاطَ، وتُؤْنِسَ وَتَسُرُّ.
وإذا أُعطوا ثمرًا من ثمارِ الجنَّةِ استَبْشَروا وقالوا: إنه يُشبهُ الفاكهةَ التي كُنَّا نَأكلُها في الدنيا، وفَرِحُوا بذلك، فإنَّ الطبائعَ تَسْتأنسُ بالمعهودِ، وتميلُ إلى المألوفِ وتنفِرُ من غيرِ المعروفِ.
وتُؤْتَى لهم ثمارٌ مُشابهةٌ لثمارِ الدنيا، في اللونِ والمَظهَرِ، ولكنَّها تختلفُ في الطَّعْمِ والحجمِ.
ولهم في الجنةِ أزواجٌ مُطَهَّرَاتُ الأبدانِ منَ القَذَرِ والأذى، لا كما هو في الدنيا.
ولتمامِ سعادتِهم في هذا النعيمِ، فإنَّهم خالدون في الجنَّةِ، لا انقضاءَ لمُدَّتِهِ ولا آخِر.(/15)
العنوان: الواضح في التفسير الحلقة الثانية
رقم المقالة: 1527
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الواضح في التفسير
(الحلقة الثانية)
سورة البقرة
(الآيات 26 – 66 )
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26].
26- والله لا يستحيي أن يضربَ مَثلاً بشيءٍ ما، صَغُرَ أو كَبُر، من بعوضٍ فما فوقها، فإن في كلِّ شيءٍ خلقَهُ حكمةً وعظة.
فالذين آمنوا يعلمونَ أن ضربَ المَثَلِ بالبعوضِ حَقٌّ، فيؤمنونَ به وبحكمته، أما الكفرةُ فيزدادونَ به ضلالة، ويقولون: ما قيمةُ البعوض، وما موقعهُ في الكونِ حتى يُضْربَ به المَثَلُ، وهو من أحقرِ المخلوقات؟!.
والبعوضُ مخلوقٌ عجيبٌ حقاً، فهو مع صِغَره، له عينانِ ضخمتانِ تتكوَّنانِ من آلافِ العدساتِ السداسية، وفي رجلها خمسةُ مفاصلَ رئيسية، مع زوجٍ من المخالب، وعضلاتٍ قوَّيةٍ تلتصقُ بجدارِ الصدر، ودبُّوسٍ للتوازنِ في جناحيها، وتتحرَّك الأجنحةُ ما يقربُ من ألفِ مرَّةٍ في الثانية! وله جهازٌ يمنعُ تجلُّطَ الدمِ ليستطيعَ مصَّه، وقد يمتصُّ دماً أكثر من وزنهِ مرَّةً ونصفَ المرَّة! وله أكثرُ من ثلاثةِ آلافِ نوع، وتضعُ الأنثى ما بين مائةٍ وثلاثمائةِ بيضةٍ في المرَّة الواحدة، وتضعُ ثلاثةَ آلافَ بيضةٍ طوالَ حياتها. وينقلُ أسوأ الأمراض، وماتَ الملايينُ من البشرِ بسببِ ذلك، وهو موجودٌ في كلِّ أنحاءِ العالم.(/1)
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27].
27- إنَّ هؤلاءِ الكفرةَ والمنافقينَ لا عهدَ لهم ولا ميثاق، فقد تركوا الإقرارَ بالحقِّ مع صحَّةِ أدلَّته، وكذَّبوا الرسلَ والكتبَ المُنزلةَ على الأنبياء، مع علمهم أن ما أُتُوا به حقّ. وهم مع عِنَادِهِمْ وفسادِ عقيدتهم فإنهم غيرُ أوفياءَ مع أقربِ المقرَّبينَ إليهم، فهم يقطعونَ علاقاتهم مع أهليهم وقراباتهم، وقد خسروا بهذا وتعرَّضوا إلى غضبِ الله، وحالتْ أعمالهم السيِّئةُ بينهم وبين رحمةِ الله العظيمة.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28].
28- وكيف تجحدونَ وجودَ الخالقِ وقد كنتم عَدَماً فأخرجكم إلى الوجود، ثم يُميتُكم موتةَ الحقّ، ثم يُحييكم مرةً أخرى حين البعث؟
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29].
29- إنه الإلهُ الذي خلقَ الأرضَ وما فيها لكم، وخلقَ سبعَ سماواتٍ فوقكم، وعلمهُ محيطٌ بجميعِ ما خلق، لا يخفى عليه شيء.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
30- واعلمْ يا نبيَّ الله أن ربَّكَ قالَ لملائكته: سأجعلُ بني آدمَ خلفاءَ في الأرض، يخلفُ بعضُهم بعضاً، وسأسخِّرُ جميعَ ما خلقتهُ فيها من طاقاتٍ وخاماتٍ لهم.(/2)
وقد فهمتِ الملائكةُ من الطبيعةِ البشرية، أو بإلهامٍ من الله، أنَّ من البشرِ مَنْ يُفسدُ في الأرض، ويستغلُّ طاقاتها في غيرِ وجهتها الصحيحة، فقالوا استعلاماً واستكشافاً عن الحكمةِ في ذلك، لا اعتراضاً على الله سبحانه: يا ربَّنا، أتجعلُ في هذه الأرضِ من يعيثُ فساداً ويريقُ الدماءَ بغيرِ حقّ، متجاوزينَ الحكمةَ والصواب؟
وإذا كان الهدفُ من استخلافهم فيها عبادتك، فها نحن ننزِّهُكَ ونحمدُكَ ونمجِّدك، ونعبدُكَ ونصلِّي لك؟
فقالَ الله لهم: إني أعلمُ من المصلحةِ في استخلافهم فيها ما لا تعلمون، فإذا كانَ فيهم مفسدون، فإنه يكونُ منهم أنبياءُ وصدِّيقون، وأولياءُ لله مقرَّبون، وعلماءُ عاملون، وعُبّادٌ خاشعون، وشهداءُ أبرارٌ في علِّيين.
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31].
31- وعلَّمَ آدمَ -عليه السلامُ- أسماءَ الأشياءِ كلَِّها، ثم عرضها على الملائكةِ وقالَ لهم: اذكروا لي أسماءَ هذه الأشياء، إن كنتمْ صادقينَ في قولكم من أني إذا جعلتُ في الأرضِ آدمَ خليفةً عصاني ذرِّيتهُ وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإذا كنتم أنتم خلفاءَ أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيمِ والتقديس. فإذا كنتم لا تعلمونَ أسماءَ هذه الأشياءِ وأنتم تشاهدونها، فأنتم عمّا هو غيرُ موجودٍ من الأمورِ الكائنةِ التي لم توجدْ أحرى أن تكونوا غيرَ عالمينَ بها.
إن الملائكةَ لا حاجةَ لهم إلى هذه الأشياء؛ لأنها لا تناسبُ طَبِيعتهم، بل هي مختصَّةٌ بابنِ آدم، ولذلك جُعلتِ الخلافةُ له في الأرضِ لا لهم.
{قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32].(/3)
32- عند ذلك استسلمتْ ملائكةُ الرحمنِ للحقّ، فقدَّستْهُ ونزَّهتْهُ وقالت: سبحانك، لا علمَ لنا بشيءٍ إلا ما أحطتنا به من عندك، فأنت تعلمُ كلَّ شيء، ولكَ الحكمةُ في خلقِكَ وأمرك، وتعلِّمُ من تشاءُ ما تشاء، وتمنعُ من تشاءُ ممّا تشاء.
{قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33].
33- وطلبَ الله من أبينا آدم أن يذكرَ للملائكةِ أسماءَ الأشياء، من أعلامٍ وحيواناتٍ وجمادات، فأنبأهم بها، وظهرَ فضلهُ في ذلك، من علمِ ما لا يعلمونه، فقال الله لهم: ألم أقلْ لكم إني أعلمُ علمَ الغيب، فلا يخفى عليَّ شيءٌ من أمرهم وأمركم وما في الكونِ جميعاً، وأعلمُ ما تسِرُّونَ في أنفسكم وما تظهرونه، فما خفي عليَّ قولكم من يُفسدُ فيها، ولا خفيَ عليَّ أمرُ إبليسَ في خلافِ أمري والتكبُّرِ على طاعتي.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
34- وقد كرَّمَ الله آدمَ -عليه السلامُ- عندما قال لملائكته: اسجدوا لآدم، فسجدوا له طاعةً لربِّهم، فكانت السجدةُ لآدم، والطاعةُ لله، كرامةٌ من الله أكرمَ بها آدم. إلا إبليس، الذي كان بينهم، وهو من الجنّ، أبى أن يسجدَ له، تكبرُّاً واستعلاء، فكان بذلك من العاصينَ الضالِّين.
{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35].(/4)
35- بعد هذا التكريمِ لآدم، أباحَ الله له الجنَّةَ ليسكنَ فيها حيث يشاء، هو وزوجُهُ حوّاء، ويأكلا منها في رغدٍ وهناء، وسَعَةٍ وسعادة، لكنْ حذَّرهما فقال: لا تَقْرَبا هذه الشجرة، وعيَّنها لهما، فإنكما إذا أكلتُما منها عصيتُما ربَّكما وظلمتُما أنفُسَكما، ووقعتْ عليكما عاقبةُ المخالفة.
وكان ذلك امتحاناً لهما، وتوجيهاً لسلوكهما، وتعليمَهما الوفاءَ بالشرط، ولابدَّ في ذلك من إرداة.
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36].
36- لكنَّ الشيطانَ أغواهما ونحّاهما عن الجنة عندما زيَّنَ لهما الأكلَ من الشجرةِ فأكلا منها! وأخرجهما بذلك من الجنّاتِ الجميلةِ وما فيها من رزقٍ هنيءٍ وراحةٍ ومنزلٍ رحب، فقالَ الله عقبَ هذا العصيان: انزلا من الجنةِ إلى الأرض، لتتحكَّمَ العداوةُ بينكم وبين الشيطانِ الذي غرَّكم فأخرجكم من هذا النعيم، وسيكونُ لكم قرارٌ في الأرض، ورزق، ورغبةٌ وانتفاع، ولكنْ إلى زمنٍ محدود.
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].
37- وعرفَ آدمُ ذنبَهُ وندم، واستغفرَ ربَّهُ وطلبَ منه الصفحَ والمغفرة، فقبلَ توبتَه، إنه كثيرُ الغفرانِ للذنوب، لطيفٌ بخلقه، رحيمٌ بعبيده.
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].(/5)
38- تكريرٌ وتحذيرٌ من جديد، لآدمَ وذرِّيتِه، حتى لا يقعوا في الخطأ مرَّةً أخرى: انزلوا إلى الأرض، فإذا بعثتُ إليكم أنبياءَ ورسلاً، وأنزلتُ عليكم كتباً لتهتدوا بها، واتبعتم هذا الهدي، فلا تضلُّونَ في الدنيا، ولا تشقَوْنَ في الآخرة، ولا تحزنونَ على ما فاتكم من أمورِ الدنيا، ولا تخافونَ ما ينتظركم يومَ القيامة.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39].
39- أمَّا من كَفَرَ وكذَّبَ بأنبيائنَا وكُتُبِنَا، فلا شكَّ أنهم أصحابُ النار، لا مَحِيدَ لهم عنها ولا محيص، خالدينَ فيها فلا خروج.
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].
40- يا أبناءَ إسرائيلَ (يعقوبَ) النبيِّ الكريمِ المطيعِ لله، تذكَّرُوا نعمتي عليكم أن جعلتُ منكم أنبياءَ وملوكاً، وأنزلتُ عليكم الكُتب، وأنجَيتُكُمْ من عبوديةِ فرعونَ وآلِه... وأوفوا بالعهدِ الذي طلبتُ منكم الإيفاءَ به، وهو اتِّباعُ دينِ الإسلام ومتابعةُ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إذا أُرسل، فإذا وفيتمْ بالعهدِ الذي في أعناقكم، رضيتُ عنكم وأدخلتُكم الجنَّة، وإلا فاذكروا ما أنزلتُ بآبائكم من النِّقم، كالمسخِ وغيره، فإني قادرٌ أن أُنزلَ بكم ما أنزلتهُ بهم.
{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41].(/6)
41- وآمِنوا بالقرآنِ المُنزَلِ على النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المصدِّق لما معكم، ممَّا هو مكتوبٌ في التوراةِ والإنجيل، ولا تكونوا – يا يهودَ المدينة – أوَّلَ من يكفرُ بنبوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل. ولا تستبدلوا بالإيمانِ وتصديقِ رسولي محمدٍ صلى الله عليه وسلم الدنيا وشهواتِها القليلةَ الفانية، وأطيعوني رجاءَ رحمتي بكم وهدايَتِكُمْ وإنقاذِكُمْ من العذاب.
{وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42].
42- ولا تخلطوا الحقَّ بالباطلِ والصدقَ بالكذب، ولا تسكتُوا عن الحقِّ فتكتموهُ وأنتم تعلمونَ أنه الحقّ، فإنَّ عندكم معرفةً برسولي وبما جاءَ به، وهو مكتوبٌ عندكم، فلِمَ لا تُعلنونَ الإيمانَ به، بل تكذبونَ وتقولونَ إنه ليس بنبيّ؟!
{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].
43- فآمِنوا به، وصلُّوا معه، وادفعوا زكاتَكُم إليه، وكونوا مع من آمنَ به من أصحابهِ في أحسنِ أعمالهم، واركعوا للَّهِ معهم كما يركعون.
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
44- أتَطلُبونَ من الناسِ أن يعملوا الخيرَ ولا تعملونَ أنتم به، وعندكم العلم، بما تقرؤونَهُ في الكتب، وتعلمونَ جزاءَ مَنْ خالفَ أوامرَ الله في ذلك؟ ألا تتنبَّهونَ إلى خطأ ما أنتم فيه وخطرهِ عليكم؟ فهلاّ اتَّصفتم بالعقلِ وعملتمُ الخيرَ كما تأمرونَ به الناس؟
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].(/7)
45- واستعينوا- أيها المؤمنون- على طَلَبِ الخيرِ في الآخرةِ والدنيا، بالصبرِ على طاعةِ الله، والصلاة. فإنَّ الصبرَ لابدَّ منه في كلِّ أمرٍ شاقّ، والصلاةُ تُعِينُ على الثباتِ على الأمر، وهي مَشَقَّةٌ ثقيلةٌ إلا على الخاشعينَ المطيعينَ لله.
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46].
46- الذين يؤمنونَ بوعدِ الله ووعيده، وبأنهم محشورونَ إليه يومَ القيامة، ومعروضةٌ أعمالهم عليه. وهذا الإيمانُ هو الذي يدفعهم إلى طاعته، وتجنُّبِ معاصيه.
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47].
47- واذكروا يا بني إسرائيلَ نِعَمِي على آبائكم وأسلافكم، وأني فضَّلتُكم آنَذَاكَ على العالمين، بإرسالِ الرسلِ إليهم، وإنزالِ الكتبِ عليهم.
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:48].
48- واحذروا يومَ الجزاء، الذي لا يُغني فيه أحدٌ عن آخَر، ولا يُقْبَلُ من كافرٍ تقرُّبٌ ولا فداءٌ للتجاوُزِ عن كفرهِ ومعصيته، ولا أحدَ يدافعُ عنه وينْصُرهُ لينقذَهُ من العذاب، فكلُّ نفسٍ مسؤولةٌ عن نفسها.
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49].(/8)
49- واذكروا يا بني إسرائيلَ من نِعَمِي الأخرى عليكم إنقاذَكُم من ظلمِ فرعونَ وآله، عندما كانوا يُذِيقُونكم أقسى أنواعِ العذابِ وآلَمَه، فيذبحونَ كلَّ ذَكَرٍ يُولَدُ فيكم ويُبْقُونَ على بناتكم؛ خوفاً من أن يكونَ زوالُ مُلكهِ على يدي رجلٍ منكم. وفي إنقاذكم من هذا العذابِ نعمةٌ عظيمةٌ من ربَّكم عليكم، فلا تَنْسَوْها.
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة:50].
50- واذكروا عند خروجكم مع موسى استنفارَ فرعونَ جيشَهُ لمتابعتكم والقضاءِ عليكم، فانفلقَ البحرُ لكم وخلَّصكم الله منهم، فحجزَ بينكم وبينهم، وأغرقهم، وأنتم تنظرونَ إليهم.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51].
51- واذكروا أيضاً عندما غابَ موسى وذهبَ إلى ميقاتِ ربِّهِ للمناجاة، مُسْتَخْلِفاً هارونَ عليكم، وبقيَ أربعينَ يوماً وقد أُنزِلَ عليه التوراة، فاتخذتم العجلَ إلهاً وعبدتموهُ بتسويلِ السامريِّ لكم، وقد كان عملكم هذا ظلماً عظيماً، عندما تركتم عبادةَ الله واتجهتم إلى عبادةِ العِجْل.
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:52].
52- ومع هذا فقد عفا الله عنكم، لعلكم تشكرونه، وتعرفونَ نعمتَهُ عليكم.
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:53].
53- واذكروا من نِعَمِنا عليكم أن أَعْطَيْنا موسى التوراة: كتاباًَ منزَّلاً وحجةً يفرِّقُ بين الحقِّ والباطل، لعلكم تهتدونَ بالتدبُّرِ فيه والعملِ بما يتضمَّنه.(/9)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54].
54- واذكروا عندما قال موسى لبني إسرائيلَ الذين عبدوا العِجْلَ: لقد ارتكبتم جُرْماً عظيماً ومعصيةً كبيرةً عندما اتخذتمُ العجلَ ربّاً دونَ الله، ولا توبةَ لكم عند خالقكم إلا أن يَقْتُلَ بعضُكُم بعضاً، فيقتلَ البريءُ منكم المجرمَ، فإنه أنسبُ عقوبةٍ لنفوسِكم السيِّئة، وقلوبِكم القاسية، وطبيعتِكُمُ المنحرفة، وعسى أن يكونَ هذا توبةً لجرمكم الشنيع، وتذكرةً مؤلمةً لكم لئلا تعودوا إلى مثله. ثم أدركتكمْ رحمتُهُ فَتَابَ عليكم، فهو يقبلُ التوبَةَ الصادقةَ من عباده، رحمةً بهم.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 55].
55- ثم قلتم لنبيِّكم موسى: نرفضُ أن نؤمنَ حتى نرى الله عِيَاناً! وهو مما لا يُستطاعُ لكم ولا لأمثالكم، فَنَزَلَتْ عليكم صَيْحةٌ قويةٌ من السماء؛ لِفَرْطِ عِنادِكم وتعنُّتِكُمْ وطلبِ المستحيل، فمتُّم بينما ينظرُ بعضُكم إلى بعض.
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 56].
56-ثم رحِمْناكم فأحييْنَاكم لِتَسْتوفُوا بقيَّةَ آجالِكُم وأرزاقِكُم، وعسى بذلك أن تشكروا نعمةَ ربِّكم عليكم.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57].(/10)
57- ومن نِعَمهِ عليكم في التِّيهِ أن ظلَّلَ عليكم السحابَ الأبيضَ ليقيَكُم حَرَّ الشمسِ المُحرق، وأرسلَ إليكم طعاماً شهيّاً لا تتعبونَ في تحصيله، وهو المَنُّ الذي تجدونَهُ على الأشجارِ حلواً كالعسل، وطائرُ السُّمَانَى القريبُ المنال، فكُلُوا هذا الطعامَ الطيِّبَ هنيئاً مريئاً. ولكنكم ظلمتم وجحدتم، فكانتْ عاقبةُ ظلمكم على أنفسكم.
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58].
58- ولما طُلِبَ منكم دخولُ بيتِ المقدس، وقتالُ مَنْ فيها من العماليقِ الكفرة، نَكَلْتم عن قتالهم، فرماكم الله في التِّيه، حتى ينشأ جيلٌ جديدٌ على غيرِ ما أنتم عليه، الذي قادهم يوشعُ بن نون، ففتحَ المدينةَ ودخلها، لتعيشوا في القدسِ في رغدٍ وهناء. وطُلِبَ منكم أن تقولوا عند الدخول: "حِطَّةٌ": حُطَّ عنا ذنوبَنَا واغفرْ لنا، مع تواضُعٍ وخشوع. فإذا قلتم ذلك غفرنا لكم ذنوبَكم، وزدنا المحسنينَ منكم إحساناً.
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59].
59- لكنَّ فريقاً ظالماً منكم خالفوا وعصَوْا، فبدَّلوا ما أُمروا به من الخضوعِ بالقولِ والفعل، فَبَدَلَ أن يدخلوا ساجدينَ مُسْتغفرين، دخلوا على هيئةٍ أُخرَى مخالِفة، وقالوا قَولاً آخرَ غيرَ الذي أُمروا به، مخالفةً ومعاندة!
فأنزلَ الله على هؤلاءِ الظالمينَ غضبَهُ وعذابه؛ لفسقهم وعصيانهم.(/11)
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60].
60- واذكروا يا بني إسرائيلَ من نعمي عليكم، عندما استُحِببَ دعاءُ نبيِّكم موسى عليه السلام، لما طَلَبَ السُّقيا لكم، فأمرناهُ أن يضربَ حجراً بعصاه، ففجَّرنا منه الماء، منِ اثنتي عشرةَ عيناً، لكلِّ قبيلةٍ من قبائلكم عينٌ قد عرفتها. فكُلُوا المَنَّ والسَّلوى، واشربوا من هذا الماءِ المَعين، الذي جاءَكم بدونِ كدٍّ ولا تعب، واعبدوا الله الذي سخَّرَ لكم كلَّ هذا ويسَّره، ولا تقابلوهُ بالجُحُودِ والعصيانِ فتُسْلَبُوها.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61].
61- واذكروا نعمةَ الطعامِ الطيِّبِ الذي رزقكموهُ من المَنِّ والسَّلوى، ولكنكم ضجِرتُم منه ورغبتم في الأدنى، فطلبتم من موسى أن يدعوَ الله ليُخْرِجَ لكم البُقُول، من قِثَّاءٍ وثُومٍ وعَدَسٍ وبَصَل، فاسْتَنْكَرَ نبيُّكم منكم هذا، وقال: أتريدونَ الطعامَ الأقلَّ قِيمةً وذوقاً على العيشِ الرغيدِ والطعامِ الهنيءِ الطيِّبِ النافع؟(/12)
إن هذا الذي سألتموهُ ليس بعزيز، وهو هيِّنٌ زهيد، بإمكانكم أن تذهبوا إلى أيِّ مكانٍ لتجدوهُ فيه.
ووضعَ الله عليهم الذُّلَّ والصَّغار، فلا يزالونَ كذلك، يَستذلهُّم ويُهينُهم مَنْ وجدهم، واستحقُّوا السُّخْطَ والغضبَ من الله بما فعلوهُ من آثامٍ كبيرةٍ وذنوبٍ عِظام، من كفرهم بآياتِ الله وحُجَجِهِ البيِّنة، واستكْبارِهم عن اتِّباعِ الحق، وإهانتِهم وقتلِهم أفضلَ الخلقِ أجمعين: أنبياءَ الله ورُسُلَه؛ فهذا جراءُ مَنْ عصى الخالقَ واعتدى على خلقه.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
62- إنَّ كلَّ مَنْ آمنَ بحقّ، من اليهود، والنصارى والصابئة، وهم قومٌ أصحابُ ديانةٍ بالعراق، أو مَنْ لم تَبلُغْهُم رسالةٌ، آمنَ بالله وحده، وبيومِ القيامة، وأَتْبَعَ إيمانَهُ بعملٍ صالحٍ موافقٍ للحق، فإن جزاءهم الْحُسنى كما قدَّموه، فلا خوفٌ عليهم فيما يستقبلونَهُ من أحداث، ولا هم يحزنونَ على ما يتركونَهُ ويخلفونَه، فالعبرةُ بِصِحَّةِ الْعقيدةِ واتباعِ النبيِّ في وقته. وهذا كلُّهُ قبل البعثة، أمَا وقد خُتمتِ النبوَّة، فلا دينَ إلا الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63].(/13)
63- واذكروا يا بني إسرائيلَ ما أُخِذَ عليكم من العهودِ والمواثيقِ بالإيمانِ بالله واتِّباعِ رُسله، ورفعنا الجبلَ فوق رؤوسكم ليسقطَ عليكم إذا لم تقرُّوا بما عُوهِدتم عليه، ولتأخذوا هذا العهدَ بقوَّةٍ وعزم، فلا مُهَادَنَةَ ولا مُجَامَلَةَ في أمرِ العقيدة.
وتذكَّروا جيِّداً ما في هذا العهدِ أو ما أُنزلَ عليكم في التوراة، ليكونَ لكم سُلُوكاً وخُلُقاً ونظامَ حياة، لعلكم بذلك تَنْزعونَ عما أنتم عليه وتتحسَّنُون، فَعَاهَدتم على الالتزامِ بهذا الميثاق، والعملِ بما فيه.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64].
64- لكنَّكم بعد هذا الوعدِ المؤكَّدِ والميثاقِ العظيم، نَقَضْتُم قولَكُم، وأدرتم إليه ظهوركم. ومع هذا النكْثِ والخيانةِ رحِمَكم الله وتفضَّلَ عليكم، فأرسلَ إليكم النبييِّنَ والمُرْسَلين، لِيُذكِّروكم بالإيمانش والطاعة، ولولا ذلك لكنتم في خسرانٍ مُبينٍ، وَنَدَمٍ دائم، بنقْضِكُمُ الميثاق.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65].
65- وتذكروا معشرَ اليهودِ ما حلَّ من العذابِ بأهلِ القريةِ التي لم تلتزمْ بعهدِ الله، عندما طلبوا يومَ راحةٍ مُقَدَّساً لا يعملونَ فيه، فجعلَ الله ذلك يومَ السبت، فابْتَلاهمُ اللهُ بوفرةِ الحيتان في ذلك اليوم، فما صَمَدُوا أمامَ أطماعِهِمْ وشهَوَاتهم، وخافُوا إن نَقَضُوا العهد، فَتَحَايَلُوا، وما يَحْتَالُون إلا على أنفسهم، نَصَبُوا الشِّبَاكَ والحبائلَ والبِرَكَ قبلَ يومِ السبت، فإذا انقضَى أخذوا ما فيها يومَ الأحد. فلمّا فعلوا ذلك ونَكَلُوا عن عهدهم مع الله، عاقَبَهُم بالمسخ، وجعلهم في صورةِ القِرَدَة، أذلَّةً صاغرين.(/14)
{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66].
66- لقد كانتْ عقوبةُ أهلِ تلك القريةِ عِبْرةً لما حولها من القرى، وعِظةًَ لمن يَحْذَرُونَ نقمةَ الله وسُخْطَهُ، لئلا يستحلُّوا محارمَ الله بأدنى الحِيَل.(/15)
العنوان: الواضح في التفسير الحلقة الثالثة
رقم المقالة: 1540
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الواضح في التفسير
(الحلقة الثالثة)
سورة البقرة
(الآيات 67 – 110)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67].
67- واذكروا يا بني إسرائيلَ عندما قُتِلَ أحدُكُم ولم تعرفوا قاتله، وسألتمْ نبيَّكُم معرفتَه، فطلبَ منكم أن تذبحوا بقرةً -وستأتي الحكمةُ من ذلك – فَقُلْتُمْ في جفاءٍ وسوءِ أدبٍ وتكذيب: أتهزأ بنا وتسخرُ منَّا؟
فقالَ لكم، وهو مُعَلِّمُكُمْ ومُرشِدُكُمْ إلى الخير: حاشا أن أكونَ من المُسْتَهزئينَ بالمؤمنين، إنما الأمرُ بِوَحْي من الله.
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} [البقرة: 68].
68- فقال اليهود: إننا لا نعرفُ أَيَّ بَقَرَةٍ تقصد. ولو أنهم ذبحوا أيَّ بقرةٍ لكفت، ولكنَّهُمْ شَدَّدُوا فشَدَّدَ الله عليهم. قالوا: فما هِيَ وما وَصْفُهَا؟
قال لهم نبيُّهم: إن الله يقول: إنها لا كبيرةٌ هَرِمَةٌ، ولا صغيرةٌ لم يلحقْها الفحل، فهي بين الكبيرةِ والصغيرة، وهو أَقْوَى وأحسنُ ما تكونُ الدابَّة. فنفِّذُوا ما أُمِرْتُم به.
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69].
69- وَعَادوا إلى السؤالِ والتشديدِ مرَّةً أخرى، فقالوا: ما لونها؟
قال نبيُّهم: يقولُ الله: إنها بَقَرَةٌ صفراءُ صافيةُ اللون، تُعْجِبُ الناظرينَ في ذلك.(/1)
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70].
70- وعادوا ليسألوا سؤالاً آخر، فقالوا: اطلبْ من ربِّكَ أيها النبيُّ أن يُحَدِّدَ لنا وَصْفَهَا وَحِلَّهَا لنا، فإذا فعلَ ذلك فإننا بذلك إنْ شاءَ اللهُ سنهتدي إليها.
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].
71- فقالَ لهم: إن الله يقول: إنها بَقَرَةٌ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ لحَرْث الأرض، ولا هي مهيَّأةٌ للنَّضْحِ والسقي، بل هي مكرَّمَةٌ مُعْتَنًى بِها، صحيحةٌ لا عَيْبَ فيها، ولا شَيْءَ يُكَدِّرُ لَوْنَهَا الأصفر. فقالوا: الآن بَيَّنْتَ لَنَا. فَذَبَحوها، وَمَا كادوا أن يفعلوا ذلك بعد كلِّ هذا الإيضاح، وما غرضُهم إلا التعنُّت.
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72].
72- واذكروا الحكمةَ من ذبحِ البقرةِ الآنَ، فإنكم عندما قَتَلتُمْ نفساً واختلفتُمْ في ذلك وتَخاصَمتُمْ فيه، أرادَ الله أن يُظْهِرَ مَا كنتم تُغَيِّبونَ من الحقّ، فإنَّ القاتِلَ ما كان يَعْتَرِف.
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].
73- فقلنا: اضربوا القتيلَ بجزءٍ من أجزاءِ البقرةِ المذبوحة، فسيحيا المقتول، ويذكُرُ قاتِلَهُ. وهذا مثالٌ لقدرةِ الله على إحياءِ الموتَى، وَصَيْرُورةِ الرميمِ إلى ما كان، وإن لم تُدْرِكُوا كُنْهَهُ، ولكنه درسٌ واقعيٌّ شاهدتموهُ عِياناً، لتعْقِلُوا وتَتفَكَّرُوا، وتُؤْمِنُوا بقدرةِ الله.(/2)
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].
74- وبعد كلِّ هذه الآياتِ والنِّعَمِ والتحذيرات، قَسَتْ قلوبُكم فصارتْ كالحجارةِ التي لا علاجَ لِلِينها، وبعضُها أجدبُ وأَقْسَى مِنْهَا، فإنَّ من الحجارةِ ما تتفجرُ منه العيونُ الجارية، ومنها ما يَتشَقَّقُ فيخرجُ منه الماءُ وإن لم يكنْ جارياً، ومن الحجارةِ ما يهبِطُ من رأسِ الجبلِ خوفاً من الله، وقد دُكَّ الجبلُ عندما تجلَّى اللهُ له وَخَرَّ موسى صَعِقاً. وقلوبُكُمْ لا تَلِينُ، ولا تنْبِضُ بخشيةِ الله، والله ليس بِغَافِلٍ عن أعمالِكُمْ وقَساوَةِ قُلُوبِكُم، التي لا يُنْتَظَرُ منها سوى الأعمالِ السيِّئة، إنما هو تأخيرٌ إلى موعدِ محاسبتكم.
{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].
75- بعد أن تبَيَّنَتْ لكم طبيعةُ اليهود، في قساوةِ قلوبهم وتكذيبهم بآيات الله، أَفَتَطْمَعُونَ أيها المؤمنونَ أن يَنْقَادُوا لَكُمْ بالطاعة، وقد كان فريقٌ منهم، وهم أَحْبَارُهُم ورَبَّانِيُّوهُمْ، يسمعونَ التوراةَ ويعرفونَ معانِيَها، ثم يُؤَوِّلُونها تأويلاتٍ بعيدةً عَلَى غيرِ مَدْلُولها الصحيح، وَهُمْ يعرفونَ أنهم آثِمُونَ بذلك ؟!
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 76].(/3)
76- وإذا لَقِيَ اليهودُ أصحابَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالوا: آمنا بأنَّ محمداً مُرْسَل، يعني على ما بَشَّرَتْ به التوراة، فإذا كانوا وَحْدَهُمْ قالوا لبعضهم البعض: كيف تُقِرُّون عندهم بصحةِ رسالةِ محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – مِنَ التوراةِ لِيَكُونَ ذلك حُجَّةً لهم عليكم، فَيُحَاجُّوكم به عند ربكم، فَيَخْصِمُوكم، اعْقِلُوا إذًا، فَاكْتُمُوا وَاسْكُتُوا!
{أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77].
77- أَوَلا يعلمُ هؤلاءِ اليهودُ أن الله مُطَّلِعٌ عليهم، ويعلمُ ما يُبْطِنُونَ وما يُظْهِرُون، ويعلمُ أنهم يُسِرُّونَ بتكذيبِ محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الأعراف: 157].
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78].
78- وَمِنْ أهلِ الكتابِ مَنْ لا يعرفونَ الكتابةَ ولا يدرونَ ما في التوراةِ، فَهُم لا يَتَكَلَّمُونَ إلاّ بِأَوْهَامٍ وَظُنُون، إنهُمْ لا يَفْقَهُونَ شيئًا، بل يَتَخَرَّصُونَ الأباطيل، وَيَجْحَدُونَ نُبُوَّتَكَ بِالظَّنِّ.
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].(/4)
79- وفريقٌ آخَرُ منكم يدعونَ إلى الضلال، فَيُزَوِّرُونَ ما في التوراة، يكتبونَ بأيديهِمْ ما ليس مِنْهَا ويقولونَ إنه مِنْ عند الله، وذلك مُقَابِلَ هَدَفٍ حَقِيرٍ وَطَمَعٍ زَائِل، هو أن يُعْطَوْا مُقَابِلَهُ مبلغاً زهيداً من المال. فالهلاكُ والدمارُ لهؤلاءِ المُزَوِّرِين، الذين يكتبونَ بأيدِيهِمْ من الكذبِ والبُهْتَانِ والافتراء، وَوَيْلٌ لَهُمْ من كَسْبِهِم الدِنيءِ وَمَا أكلوا به من السُّحْت.
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80].
80- ومن جهلهمْ أن يقولوا إنهم لن يَبْقَوْا في العذابِ إِلا أيَّاماً معدودات، ثم يخرجونَ منها إلى النعيم. فَقُلْ لَهُمْ يا محمَّدُ – صلى الله عليه وسلم – هلِ اتَّخَذتُمْ بذلك عهداً عندَ الله؟ فإذا كان كذلك فإنه سبحانَهُ لا يُخْلِفُ عَهْدَهُ، ولكنْ متى كانَ هذا وكيف؟ إنهُ ما جرى ولا كان، بل هم يَكْذِبُونَ ويَفْتَرُون على الله.
{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81].
81- فليسَ الأمرُ كما قُلتُمْ ولا كما تَمَنَّيتُمْ، بل إنَّ من ارتكبَ ذنباً وجاءَ يومَ القيامةِ وليستْ له حسنةٌ، بل جميعُ أعمالهِ سيئاتٌ، فإنه من أهلِ النار. وهو حالُ الكافر.
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82].
82- أَمَّا الذين آمنوا بالله ورَسُولِهِ وعملوا الأعمالَ الصالحة، فكانتْ موافقةً للشريعةِ وخالصةً لله، فإنهم من أهلِ الجنة، مُخَلَّدُونَ فيها أبداً.(/5)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} [البقرة: 83].
83- واذكروا أيْضاً يا بني إسرائيلَ ما أَمَرناكمْ به وأخذْنَا ميثاقَكمْ عليه، وهو ألاّ تعبدوا إلا الله ولا تُشْرِكُوا به شيئاً، وهذا ما أُمِرَ به جميعُ الخلق، وهو حقُّهُ سبحانَهُ عليهم. ثم حَقُّ المخلوقينَ بأن يُحسِنَ كلٌّ إلَى وَالِدَيْهِ وَيُطِيعَهُمَا في غيرِ معصية، ويُحْسِنَ كذلكَ إلى أقرِبَائِهِ وَاليتَامَى، والمَسَاكِينِ الذين لا يجدونَ ما يُنْفِقُونَ على أنفُسِهِمْ وأهليهم. وأن تقولوا الكَلامَ الطيِّبَ والقولَ الحسن، في حِلْم وعَفْوٍ ولِينِ جانب، وخاصَّةً الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر. وأن تُقِيموا الصلاةَ لِرَبِّكُم، وَتُؤْتُوا الزكاةَ لأَهْلِها.. لكنكم أَعْرَضْتُمْ عن كلِّ هذه الأوامرِ وتَنَكَّرتُمْ لَهَا، إلا القليلَ منكم.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].
84- واذكروا أيضاً أنّا أخذنا منكمُ الميثاقَ بأنْ لا يَقْتُلَ بعضُكُم بعضاً، ولا يُخْرِجَهُ من دياره، ولا يُظَاهِرَ عَلَيْه، وذلك أنَّ أَهْلَ المِلَّةِ الواحدة بِمَنْزِلَةِ النفسِ الواحدة. وقدْ أَقْرَرتُمْ بِهَذا الميثاقِ وصِحَّتِه، وَشَهِدْتُمْ به.(/6)
{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].
85- وَلَكِنَّكُمْ نَقَضْتُمُ الميثاقَ في هذا كما نَقَضْتُمُوهُ في غَيْرِه، فَصِرْتُمْ تَقْتُلُونَ بعضَكم بعضًا، فَفَرِيقٌ مَعَ الأوْسِ وَفَرِيقٌ مَعَ الخَزْرَج. كما تُخْرِجُونَ بعضَكم من بيوتِ بَعْض، وَتَنْهَبُونَ ما فيها من المالِ والمتاعِ وَتَأْخُذُونَ سَبَايَاهُمْ، وَتُقَوُّونَ أَعْدَاءَكُمْ على بعضِكُمُ البعضَ وَتُسَاعِدُونَهُمْ عَلَيْهِم، وإذا انتهتِ الحربُ صِرْتُمْ تَفُكُّون الأُسَارَى من الفريقِ المغْلُوبِ وَتُفَادُونَهُمْ ولا تَقتُلُونَهُمْ عملاً بِحُكْمِ التوراة، ولكنْ لماذا تعملونَ هنا بالتوراةِ بينما تُنَاقِضُونَ أَحْكَامَهَا فِيمَا مَضَى وَيَقتُلُ بعضُكم بعضاً فِي الحَرْبِ وهو مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ؟ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ التوراةِ وَتَكْفُرُونَ بالبعضِ الآخرِ فيه؟
إنَّ جَزاءَ من يكونُ كذلكَ هو الخزيُ والعارُ في الحياةِ الدنيا، كما كان عاقبتَكم، من القتلِ والسبي، والجلاءِ والنفْي، وهو بسببِ مُخالَفَتِكُمُ الشرعَ. أمَّا يومَ القيامة، فالعذابُ الشديد، جزاءَ كتمِكُمْ ما في كتابِ الله وعصيانِكُمْ أَحْكَامَهُ، والله ليس بِغَافلٍ عن هذا كُلِّهِ، بل يُحْصِيهِ عَلَيْكُمْ لِيُحَاسِبَكُمْ يَوْمَ القيامة.(/7)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 86].
86- فَإِنَّ جزاءَ من استَحَبَّ الدنيا وفضَّلَهَا ولم يحْسَبْ حسابَ الآخرة، هو ألاّ يُخَفَّفَ عنه العذابُ، ولا يُدافَعَ عنه، ولا يُنْقَذَ منه.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].
87- واذكروا أيها اليهودُ من مواقِفِكمْ في مخالفةِ الأنبياءِ ومُعانَدَتِهِمْ واتِّباعِ أهوائكم في ذلك، أنْ آتينا موسى التوراةَ، التي حَرَّفْتُمُوها وبَدَّلْتُمُوها، وخالفتُم أوامِرَها وأوَّلتُموها. وأَتْبعناهُ برسلٍ آخرينَ كانوا يحكمونَ بما في التوراة، حتى جاءَ عيسى ختامُ أنبياءِ بني إسرائيل، فأيَّدناهُ بالمعجزاتِ الكبيرة، كالإخبارِ بما في الغيب، وإبراءِ المرضى، وإحياءِ الموتَى بإذنِ الله. وقوّْيَناهُ بجبريلَ كذلك، يكونُ معه ويُصَدِّقُ ما جاءَكم به، وأنزلنا عليهِ الإنجيلَ فيه مخالفةٌ لِبَعضِ أحكامِ التوراة، فما وافقَ ذلك أهواءَكم ونزواتِكم المتقلِّبة، مع كلِّ ما أُيِّدَ به، فعاندتموهُ وتعالَيْتُمْ على موافقته، وانصرفتمْ إلى مُجادَلَتِهِ ومُخالَفته. أَوَكُلَّمَا أرسلنا إليكمْ رسولاً استكبرتمْ عن قبولِ الحقّ، ففريقٌ منكم يكذِّبهم، وآخرُ يقتلهم؟!
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88].(/8)
88- وقال اليهود: قلوبُنَا مُغَلَّفَة لا تَنْفُذُ إليها دعوةُ الإسلامِ ولا تقبلها! بل قلوبُهُم مَلْعُونةٌ مُبْعَدَةٌ من رحمةِ الله وهُدَاه، فَطُبِعَ عليها بالكفرِ لرفضِها وخِذْلانِها عن قبولِ الحق. فإيمانُهم قليل، أو إِنَّ القليلَ منهم يؤمن.
{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
89- ولمّا جاءَ اليهودَ القرآنُ الكريم، المُنزَلُ على محمَّدٍ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – وهو مُصَدِّقٌ لما في التوراة، وكانوا قبلَ مبعثهِ – صلى الله عليه وسلم – يستنصرونَ به على أعدائهم المشركينَ إذا قاتلوهم، يقولون: إنَّ نبيًّا يُبْعَثُ نتَّبعُه، قد أظلَّ زمانُهُ، نقتلكمْ معهُ قَتْلَ عادٍ وإرَم. فَلَمَّا بُعِثَ – صلى الله عليه وسلم – من قريشٍ وهم يعرفونَ أَنَّهُ هو، بصفاته، كفروا به وجَحَدُوا ما كانوا يقولونَ فيه؛ لأنه ليس منهم، فلعنةُ الله عليهم بسبب كفرهم، وسُخْطُ اللهِ وعَذابُهُ على الجاحدينَ بمحمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم.
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 90].
90- فَبِئْسَتِ التجارةُ تجارتُهم أن شَرَوُا الحقَّ بالباطل، فكفروا بما جاءَ به محمَّدٌ – صلى الله عليه وسلم - حَسداً وبُغضاً وتكبُّراً أن لم يكنْ منهم. و{وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، فيصطفي مَن يشاءُ من عبادهِ لتَحَمُّلِ أعباءِ الرسالة، وَلَيْسُوا هم الذين يحدِّدونَ الرسول.(/9)
لقد استحقُّوا بِهَذا غَضَباً مضاعفاً: عندما ضيَّعوا التوراةَ وهي معهم، ثم كُفْرُهم بالنبيٍّ – صلى الله عليه وسلم.
وقَدْ خَسِرُوا في تجارتهم عندما لم ينضمُّوا إلى لواءِ الإسلامِ المجيد، كما سَيَنْدَمُونَ في الآخرةِ بما ينتظرهم من العذابِ جَزَاءَ كُفْرهم هذا، وسوفَ يكونُ عذاباً مَهِيناً وَمُذِلاًّ لَهُم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 91].
91- وإذا قيلَ لليهودِ أو أهلِ الكتابِ عامَّةً آمِنوا بما أُنْزِلَ على النبيِّ محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – وصَدِّقُوهُ واتَّبِعُوه، قالوا: نكتفي بما أُنْزِلَ علينا من التوراةِ والإنجيل، وفيهما الحقّ، ولا نُقِرُّ بغيرهما، فيكفرونَ بالقرآن، وهم يعلمونَ أنه مُصَدِّقٌ لِمَا فِيهِمَا، وهم كاذبونَ عَنِيدُون.
فقلْ لهم يا محمَّد: إذا كنتم تَدَّعُونَ صِدْقَ الإيمانِ فيما أُنْزِلَ عليكم، فَلِمَ قَتَلْتُمُ الأنبياءَ الذين جاؤُوكم بتصديقِ التوراةِ والحُكْمِ بها وأنتمْ تعلمونَ صِدْقَهُمْ؟ بَلْ هُوَ الْهَوَى والتشهِّي، والبغي والاستكبار، وليس هذا من صفاتِ المؤمنين.
{وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 92].
92- وقد جاءكمْ موسى عليه الصلاةُ والسلام بِدَلائِلَ قاطعة، وآياتٍ واضحة، كالطوفان، والجراد، والعصا، وفَلْقِ البحر، وغيرِها الكثير، ثم اتَّخذتُمُ العِجْلَ مَعبوداً من دونِ الله، في زَمَانِهِ وآياتِهِ، وكان في الطُّورِ يُنَاجِي رَبَّهُ!! فكنتُمْ بذلك ظالمينَ عاصين، لا مؤمنينَ كما تَدَّعُون.(/10)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 93].
93- ومن إِعْرَاضِكُم عن الحقِّ ومخالفتِكم للميثاق، عندما رَفَعْنَا فوقكم الجبل، وأخذنا عليكم العهدَ بالإيمانِ والطاعةِ بِقُوَّةٍ وَإِرادَةٍ وعزمٍ وإلا سقطَ عليكم، فاستجبتُم لذلك، ولكنكم عُدْتُم إلى عِصيانكم وَعِنَادِكُم واتِّبَاعِ هواكم.
لقد أُشْرِبَ في قلوبهمْ حبُّ العجلِ وعبادتهُ بكفرهم، وكأنَّهُ مَوقِفُهُمُ المفضَّلُ بعد كلِّ أمر! فبئسَ هذا الإيمان، إن كانَ مِنْ إيمانٍ، الذي يأمركم بالكفرِ بآياتِ الله ومخالفةِ الأنبياء، ثم الكفرِ بما أُنْزِلَ على محمَّدٍِ – صلى الله عليه وسلم – خاتمِ النبيِّين، المبعوثِ للناسِ أجمعين.
فكيف تدَّعونَ الإيمانَ بما عندكم وَقَدْ نَقَضتُمْ هذهِ المواثيق، وكفرتُمْ بآياتِ الله، وعَبَدْتُمُ العِجْل؟!
{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94].
94- يقولُ الله سبحانَهُ لرسولهِ محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – قُلْ لِلْيَهُود: إذا كنتُمْ تَزْعُمُونَ أنكمْ وَحْدَكُمُ الفَائِزُونَ يومَ القيامةِ دونَ سائرِ الأمم، فَتَعَالَوْا إلى المباهَلَة، بأنْ يقفَ فريقٌ من المسلمين، وفريقٌ من اليهود، ويدعُوَا اللهَ بِمَوْتِ الكاذبِ منهما.
{وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} [البقرة: 95].(/11)
95- وَلَنْ يَتَمَنَّوُا الموتَ أبداً، بما جَنَتْ أَيْدِيهِمْ واقترفتْ من آثام، ولمِا يعلمونَ من مآلهم السيِّئِ وعاقبتِهمُ الخاسرة. فما استجابوا لِلْمُبَاهَلَةِ، وهم يعلمونَ أنهم إن طَلَبُوا الموتَ خافُوا أنْ يَسْتَجِيبَ الله فَيَأْخُذَهُمْ، وهم يعلمونَ ما قَدَّمُوا مِنْ عَمَل، واللهُ عليمٌ بهم وبما صدرَ عنهم من أنواعِ الظلمِ والمعاصي المفضيةِ إلى العذاب.
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96].
96- وستجدهم أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى طُولِ العُمر، وَوَدُّوا لَوْ عُمِّرُوا أَلْفَ سنة؛ لمعرفتهم بمآلهمُ السيِّئ، بل يَوَدُّونَ لو تَأَخَّرُوا عن يومِ الحسابِ بما أَمْكَنَهُم، لمِا يَتَوَقَّعُونَ ما ينتظرهم. وكذا المشرك، لأنَّهُ لا يَؤْمِنُ بِيَوْمِ البعث، والدنيا جَنَّتُهُ، ولا حَظَّ له في جَنَّةِ الْخُلْد، بل ينتظرهُ العذابُ، مَهْمَا عُمِّرَ في الدنيا، فلا مَنْجى من الحسابِ والعقاب، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِمَا يعملُ الجميعُ، من خيرٍ وشرّ.
{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97].(/12)
97- لقد زعمتِ اليهودُ أن جِبْرِيلَ -عليه السلام- عَدُوٌّ لَهُمْ، لأنه وَلِيُّ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَو كانَ وَلِيَّهُ غَيْرُهُ لاتَّبَعُوهُ، كما في الحديث الصحيح! اخترعوا هذه القصَّةَ المُضحكةَ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ بِالوَحْيِ على النبيِّ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم –، وما هُوَ إِلا عبدٌ مُنَفِّذٌ، لاا يَزيدُ على ما أمرَهُ اللهُ به، وقد قالَ لهم رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّ وليِّي جبريلُ عليه السلام، ولم يَبعثِ اللهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ)) كما رواهُ أحمدُ وغيرُهُ بإسنادٍ صحيح. فَقُلْ لَهُمْ: من كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فإنَّهُ الروحُ الأمينُ الذي نَزَلَ بالقرآنِ على قلبِكَ بإذنِ اللهِ ومَشِيئَتِه، الكتابِ المصدِّقِ للكتبِ السماويةِ المُتَقَدِّمَة، هُدًى لِلْقُلُوبِ المؤمنة، وتبشيراً لهم بالجنَّة.
{مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98].
98- إنَّ مَنْ عَادَى رَسولاً فقد عَادَى جَمِيعَ الرسُل، وَمَنْ آمَنَ برسولٍ فعليهِ أن يؤمنَ بجميعِ الرسُل، كما أنَّ مَنْ كَفَرَ بِرَسُولٍ فقد كفرَ بجميعِ الرسُل. يقولُ اللهُ سُبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [النساء150، 151].
ومَنْ عادَى اللهَ وملائكَتَهُ وأنبياءَهُ ورُسُلَهُ، وبَينَهُمْ جبريلُ وميكالُ، فإنَّ اللهَ عَدُوٌّ لَهُمْ لكفرهم، ومن عاداهُ اللهُ باءَ بالخسرانِ حتماً.(/13)
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99].
99- ولقد أنزلنا إليكَ يا محمَّدُ (صلى الله عليه وسلم) دَلائِلَ وَعَلامَاتٍ واضحاتٍ على نبوَّتِكَ وصدقِ ما جئتَ به، ولا يكفرُ بها إلا الفاسقونَ المنحرفونَ عن الفطرةِ السليمة.
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100].
100- أَوَكُلَّما عَاهَدَ اليهودُ على الالتزام بأمرٍ نَكَلَ فريقٌ منهم ورفضَ العهدَ؟ وهذا دأبهم حتى خانوا العهدَ الذي أبرموهُ مع الرسولِ – صلى الله عليه وسلم – عند مَقدَمهِ إلى المدينة.. بل أكثرهم لا يؤمنونَ بالرسولِ المبعوثِ إليهم وإلى الناسِ كافَّة، الذي يجدونَ صفتَهُ في كتبهم، وقد أُمِرُوا باتِّباعهِ ومناصرته.
{وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101].
101- ولما بُعِثَ الرسولُ الذي انتظروه، وقد جاءَ مُصَدِّقاً لما معهم من الكتابِ عامَّة، طَرحتْ طائفةٌ منهمُ الكتابَ الذي بأيديهم وراءَ ظهورهم، لمِا فيه من البِشارةِ بمحمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – وكأنهم لا يعلمونَ ما فيها!
لقد تركوا الكتابَ وأقبلوا على السِّحر! تركوا ما ينفَعُهُمْ وأقبلوا على ما يَضُرُّهُمْ ويَضُرُّ غَيْرَهُمْ، كما يأتي.(/14)
{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].
102- واتَّبَعَ اليهودُ الذين أَعْرَضُوا عن التوراةِ وخالفوا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – اتَّبعوا ما ترويهِ الشياطينُ وتُخْبِرُ به في مُلْكِ سليمانَ، وتَكْذِبُ عليه وتقول: إِنَّهُ كان ساحراً، وإنَّ ما سُخِّرَ له كان بما يستخدمهُ من سحر. وكان عليه السلامُ نبيًّا كريماً قانتاً، وما كان كافراً كما قالتْ يهودُ أوِ الشياطينُ لَعَنَهُمُ اللهُ {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]، ولكنَّ الشياطينَ هم الذين كفروا، حيث يُعَلِّمُونَ السحر. وَلَمْ يَنْزِلِ السحرُ على المَلَكَيْنِ هارُوتَ وَمَارُوتَ في بابل، بَلْ كانا هناك لحكمةٍ لا نعرفها، وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبادَهُ بما شاء.(/15)
فإذا أَتَاهُمَا مَنْ يريد تَعَلُّمَ السحرِ قالا لهم: إنما نحن هنا فتنةٌ وابتلاء، فلا تعملوا بالسحر، فإنَّ من اعتقدَ بحقيقتهِ وجوازِ العملِ به كَفَر، فيتعلمونَ من علمِ السحرِ ما هو مذموم، من شرٍّ وأذًى، فَيُفَرِّقُون بين الزوجين، مع ما جعلَ اللهُ بينهما من محبَّةٍ ورحمة. على أنهم لا يتمكَّنونَ من الضررِ بأحدٍ إلا إذا قدَّرَ الله وخلَّى بين السحرةِ وما أرادوا، فإذا شاءَ سلَّطهمْ على المسحور، وإذا لم يشأ لم يسلِّطهم، فلا يستطيعونَ مضرَّةَ أحدٍ إلا بإذنِ الله.
وهكذا صاروا يتعلمونَ ما يضرُّهم في دينهم ولا ينفَعُهُمْ، لأنهم يقصدونَ به الشرّ. وقد علمَ اليهودُ الذين استبدلوا السحرَ بالإيمانِ ومتابعةِ الرسولِ – صلى الله عليه وسلم – أنهم ليس لهم نصيبٌ عند الله في الآخرة، فَبِئْسَتِ التجارةُ تجارتهم.
قال ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ في قصَّةِ هاروتَ وماروت: حاصلُها راجعٌ في تفصيلِها إلى أخبارِ بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديثٌ مَرْفُوعٌ صحيحٌ مُتَّصِلُ الإسنادِ إلى الصادقِ المصدوقِ المعصومِ الذي لا ينطقُ عن الهوى. وظاهرُ سياقِ القرآنِ إجمالُ القصَّةِ من غيرِ بسطٍ ولا إطنابٍ فيها، فنحن نؤمنُ بما وردَ في القرآنِ على ما أرادهُ اللهُ تعالى، واللهُ أعلمُ بحقيقةِ الحال.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103].
103- ولو أنهم آمَنوا واتَّقَوُا اللهََ فاجتنبوا ما حرَّمَ الله من سحرٍ وشرك، ومخالفةٍ للأنبياء، لكانَ أجرُهم عند اللهِ خيراً من هذا الذي رَضُوا به لأنفسِهم من باطلٍ وشرّ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104].(/16)
104- أيها المؤمنون، لا تتشبَّهوا باليهودِ والمشركينَ في مقالهم وفَعالهم، ولا يكنْ في كلامِكمْ توريةٌ فيها تنقيصٌ، فَلا تَقُولُوا: ((رَاعِنَا))، الذي فيه توريةٌ بالرعونة، وهو الهوَجُ والحُمْق، مثلما يقولُ اليهودُ لرسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ولو كان قصدَكم أنتم المراعاةُ والمراقبةُ والتأنِّي، ولكنْ قولوا: ((انْظُرْنا)) أي أَنْظِرْنَا وَأَمْهِلْنَا.
ولليهودِ الكافرينَ عذابٌ موجعٌ لما اجترؤوا عليه وَجَعَلُوا ما يقولونَ سبباً للتهاونِ برسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم.
{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].
105- إِنَّ الكُفَّار – سواءٌ كانوا مشركينَ أو من أهلِ الكتاب – شديدو العَدَاوَةِ لَكُم، ولا يريدونَ لكمُ الخيرَ ألبتَّة، فلا تَتَشَبَّهُوا بهم ولا تُوَادُّوهُمْ، فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ تَغْلِي بالحقدِ والحسدِ على ما خَصَّكُمُ اللهُ به من رحمتهِ الواسعةِ وفَضْلِهِ الكَبِير، فَأَنْزَلَ الوحْيَ عَلَى مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – وهو بين ظَهْرَانَيْكُمْ، فَاسْتَمْسِكُوا بهذا الذي يَحْسُدُونَكُمْ عليه، واشْكُروا فضله، لِيَحْفظَهُ فيكم ويزيدَكُمْ منه – وليس هناك أجلُّ من نعمةِ الإيمانِ والاستجابةِ لدعوةِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فاحرصوا على ذلك.
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106].(/17)
106- ما نُبَدِّلُ من آية، أو نَنْقُلُ حكماً منها إلى غيره، كتحويلِ أمرٍ إلى نهي، أو محظورٍ إلى مباح، من التشريعاتِ والتكاليفِ التي تلائمُ أحوالَ الناسِ وأمورَهم المتطوِّرة، أو نُنْسِيهِ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ونمحو ما نشاء، إلا كان الذي أُثْبِتَ خَيْراً من السابقِ أو مثلَهُ، حسبَ مُقْتضَياتِ الأحوالِ وصلاحِ البشريَّة، واللهُ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، فهو القادرُ على كلِّ شيء.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 107].
107- ألم تعلمْ أيهاالنبيُّ محمَّدُ – صلى الله عليه وسلم – أن اللهَ هو المُتَصرِّفُ في خَلقه كما يشاءُ دونَ غيره، فلهُ الأمرُ والنهيً لا لغيره، وينسخُ ويبدِّلُ، ويغيِّرُ ويقرُّ من الأحكامِ لعبادهِ ما يشاء، فهو أعلمُ بهم وبما يُصْلِحُهُمْ وَيُصْلِحُ أحوالهم، وما عليهم إلا السمعُ والطاعةُ في تنفيذِ ما أَمَر، والكفُّ عَمَّا نَهَى. وَلَيْسَ للمؤمنينَ وَلِيٌّ يُقَوِّيهِمْ ويَهديهم، ولا نصيرٌ يؤيِّدُهم وينصرُهم إلا الله، فكونوا على حذرٍ من تشكيكِ أعدائكم، واحذروا أَضَالِيلَهُمْ وَخُدَعَهُمْ.
{أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} [البقرة: 108].
108- أم تريدونَ – لبعضِ الصحابة – أن تسألوا رسولَكُم على وجهِ التَّعَنُّتِ كما سألتْ بنو إسرائيل نَبِيَّهُمْ موسى -عليه الصلاةُ والسلامُ- تكذيباً وعناداً؟(/18)
فاحذروا، واعلموا أن من يستبدلِ الكفرَ بالإيمانِ فقد خرجَ عن الطريقِ المستقيمِ إلى ظلماتِ الجهلِ ودَرَكِ الضلال، وهو حالُ من كان يقترحُ على الأنبياءِ الأسئلةَ التي لا يحتاجونَ إليها على وجه التَّعَنُّتِ والكفر، فَيَعْدِلُون عن تصديقِهم واتِّبَاعِهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم، فإيّاكم وهذا، وإيَّاكُمْ أن يَقُودَكُمُ اليهودُ إِلَى مثلِ هذا، فَإِنَّ نِهَايَتَه الضَّلالُ.
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].
109- إِنَّ كثيراً من اليهودِ والنصارَى يَتَمَنَّوْنَ لو قَدَرُوا عَلَى أَنْ يُعِيدُوكُمْ إلى الكفرِ كما كنتم، وَأَنْ يَسْلُبُوا منكم هذا الخيرَ الذي هُدِيتُمْ إليه؛ حسداً وحقداً من نفوسهم الشِّرِّيرَة، التي لا تحبُّ الخيرَ للناس، بَعْدَما تَبَيَّنَ أن محمَّداً رسول الله، كَمَا يَجِدُونَهُ مكتوباً عِنْدَهُمْ في التوراةِ والإنجيل، فَكَفَرُوا به حسداً وَبَغْياً أنْ لم يَكُنْ مِنهُمْ.
ولكنْ لا تقابلوهم أنتم بهذا الخلقِ السيِّئ، بل كونوا أَرْفَعَ من هذا وأعلى، فَلا تُؤَاخِذُوهم ولا تؤنِّبوهم، بل اعْفُوا واصفَحوا الآن، حتى يأتيَ أمرُ الله، وهو الإِذْنُ بالقتال، أو هو قتلُ بني قُرَيْظَة، وَإِجْلاءُ بني النَّضِير – وإِذْلالُهُم بضربِ الجِزْيَةِ عليهم. والله قادرٌ على كلِّ شيء، فينتقمُ منهم إذا حانَ وقته.
{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110].(/19)
110- وَصَلُّوا للهِ وداوموا على عبادته، وادفعوا زكاةَ أموالكم، واشتغلوا بما ينفعُكم وتَعُودُ عاقبتُهُ عليكم بالخيرِ يومَ القيامة، فإنكم مَهْمَا عَمِلْتُمْ من خيرٍ أو شرّ، في السرِّ أو في العَلن، فإنهُ بصيرٌ به، يَدَّخِرُهُ لكم حتى يحاسبَكم عليه، فَكُلٌّ يُجَازَى بعمله.(/20)
العنوان: الواضح في التفسير الحلقة الرابعة
رقم المقالة: 1565
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الواضح في التفسير
(الحلقة الرابعة)
سورة البقرة
(الآيات 111 – 141)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].
111- واغْتَرَّ أهلُ الكتابِ من اليهودِ والنصارى عندما ظنُّوا أنهم وحدَهم على الحقّ، فقالتْ كلُّ فرقةٍ منها: لن يدخلَ الجنةَ إلا من كانَ يهودياً أو نصرانياً. وهي أُمْنِيَّةٌ تَمَنَّوْهَا على اللهِ بغيرِ حقّ، وادِّعَاءٌ لا يستندُ إلى دليل، فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ (صلى الله عليه وسلم): ما هي حُجَّتُكُمْ في ذلك؟ اذكروها إنْ كنتم صادقينَ فيما تدَّعونه.
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].
112- إن القاعدةَ في الأمر، هي أنَّ مَنْ أسلمَ وجهَهُ للهِ بالطاعة، واتَّبَعَ هَدْيَ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم –، وأحسنَ في عملهِ بالإخلاص، فهذا أجْرهُ مضمونٌ عند الله، فلا يَخَافنَّ على ما يستقبله، ولا يحزننَّ على ما تركه.
وَعَبَّرَ بالوجه، لأنه أشرفُ الأعضاء، ومجمعُ المشاعر، وموضعُ السجود، ومظهرُ آثارِ الخضوع، الذي هو من أَخَصِّ خصائصِ الإخلاص، كما قال أبو السعودِ في تفسيره.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113].(/1)
113- ثم ادَّعَى كُلُّ طرفٍ ضَلالَ الآخَرِ وتَنَاقُضَهُ، مع بُغضهِ وعداوتهِ له، فقالتِ اليهود: إن النصارى ليستْ على حقّ، كفراً بِنُبُوَّةِ عيسى - عليه السلام – والإنجيلِ، وقالتِ النصارى: ليستِ اليهودُ على حقّ، جحداً بنبوةِ موسى -عليه السلام- وكفراً بالتوراة، كما حدثَ لوفدِ نجرانَ مع أحبارٍ لِلْيهودِ عند رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – في حديثٍ سندهُ حسن. بينما كُلٌّ يتلو في كتابهِ تَصديقَ مَنْ كفرَ به!وكَلٌّ منهما كان مشروعاً في وقته، ولكنهم تجاحدوا ذلك عِناداً وكفراً، ومقابلةً للتضليلِ بالتضليل. وأطرافُ وطوائفُ أخرى قالتْ ذلك.. فالله يجمعهم جميعاً في يومِ المعاد، ويفصلُ بينهم بقضائهِ العدل، ويَقْسِمُ لكلِّ فريقٍ ما يستحقُّهُ من العقاب .
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].
114- وليس هناك أظلمُ ممنْ منعً ذكرَ الله في المساجد، وسعَى في تعطيلها أو هدمِها وخرابها، وما كان ينبغي لهؤلاءِ إلا أن يدخلوها بِخَشْيَةٍ وخضوع، فضلاً من الاجتراءِ على تخريبِها أو تعطيلِها. وقد تجرَّأَ المشركونَ فَمَنَعُوا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم - يومَ الحُديبيةِ من دخولِ المسجدِ الحرام! فلا تُمَكِّنُوا أحداً منهم – إذا قدرتمْ على ذلك – من دخوله، إلا تحتَ الهدنةِ والجزية.(/2)
وقد مُنِعُوا حقًّا عندما نَصَر اللهُ الإسلام، كما أوصى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم- أن تُجلى اليهودُ والنصارى من جزيرةِ العرب، فكان ذلك خزياً لهم لا يوصَف، بالقتلِ والسبيِ والإذلال، ولهم عذابٌ كبيرٌ على ما انتهكوا من حرمةِ البيتِ وامتهنوه، من نَصْبِ الأصنامِ حوله، والدعاءِ إلى غيرِ اللهِ عنده، وغيرِ ذلك من أفاعيلهم المنكرة.
{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].
115- الأرضُ كلًّها لله، شرقُهَا وغربُهَا، لا يختصُّ بمُلكِها والتصرُّفِ فيها إلا هو سبحانه، وإذا مُنعتم من العبادةِ في المسجدِ الأقصى، أو المسجدِ الحرام، ففي أيِّ مكانٍ أدَّيتمُ الصلاةَ وتوجهتُمْ فيه نحوَ القبلة، فهُناك الجهةُ التي أمرَ اللهُ بها، وعلمهُ محيطٌ بجميعِ المعلومات، وهو برحمتهِ يريدُ التوسعةَ على عباده، فهو العليمُ بمصالحهم وأعمالهم في الأماكنِ كلِّها.
وفي حديثٍ قد يكونُ حسناً بشواهده، أن طائفةً من الصحابةِ كانوا في سريَّة، فاختلفوا في اتجاهِ القبلةِ ليلاً، فلما أصبحوا تبيَّنَ أنهم اتَّجهوا إلى غيرِ القبلةِ في صلاتهم، فنزلتِ الآيةُ الكريمة.
وقال ابنُ الجوزي في ((نواسخ القرآن)): هذا الحكمُ باقٍ عندنا، وإن من اشتبهتْ عليه القبلةُ فصلى بالاجتهاد، فصلاتهُ مجزيَّةٌ صحيحة.
{وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116].(/3)
116- وقالتِ النصارى ومن أشْبَهَهُمْ من اليهود، وبعضُ مشركي العرب، قالوا: اتَّخذَ اللهُ ولداً!! تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عن ذلك علوّاً كبيراً. لقد كذَبوا واقْتَرَفُوا إثماً كبيراً بهذا القول، فله تعالى ملكُ السماواتِ والأرض، وهو المتصرِّفُ في أحيائها وجماداتها، وهو خالقُهم ورازقُهم، ومقدِّرُهم ومسيِّرُهم كما يشاء، فالجميعُ عبيدٌ له وملكٌ له، فكيف يكونُ له ولدٌ منهم، والولدُ يكونُ مُتَوَلِّداً من شيئينِ متناسبين، واللهُ ليس له مثيلٌ ولا نظير، ولا صاحبةَ له، فكيف يكونُ له ولد؟ فهو الربُّ، والكلُّ مربوبٌ تحت مشيئته.
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة: 117].
117- إنه خالقُ السماواتِ والأرضِ على غيرِ مثالٍ سَبَق، في وحدةٍ وتناسقٍ كونيٍّ رائع، وهندسةٍ ونظامٍ فائق، وتوازنٍ بيئيٍّ وحيوانيِّ موافق، يشهدُ جميعُها بدلالتها على الواحدِ الأحد، فهو بارئها ومُوجِدُها من غير أصل، وعلى غيرِ مثال، فإنما أمرهُ – جَلَّتْ عَظَمَتُهُ – إذا قدَّرَ أمراً وأرادَ إيجادَهُ قال: ((كُنْ))، فيوجدُ على وفْقِ ما أراد. وكذا كان أمرُ عيسى عليه السلام.. {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118].(/4)
118- وقال المشركونَ الأُمِّيُّونَ لمحمَّدٍ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – في تَحَدٍّ وعناد: لِيُكَلِّمْنَا الله، أو لِيَنْزِلْ علينا أمرٌ خارقٌ، كذلك كان اليهودُ وغيرُهم، عندما طلبوا من أنبيائهم أموراً خارقة، في استكبارٍ وتعنُّت، كما طلبَ قومُ موسى -عليه السلام- أن يروا اللهَ جهرة، فقد تشابهتْ قلوبهم في الكفرِ والضلال. وقد وَضَّحْنَا بالأدلةِ صِدْقَ الرسلِ بما لا يحتاجُ إلى أمورٍ خارقة، وَهِيَ كَافِيَةٌ لمن أرادَ الإيمانَ والطاعة. أما المعاندُ المستكبر، فلا تفيدهُ الأدلةُ ولا الخوارق.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119].
119- أيها النبي، لقد أرسلناكَ بالصدقِ وَمَعَكَ القرآنُ، تُبَلِّغُ الدِّينَ وَتُؤَدِّي الأمانةَ، تُبَشِّرُ الطائعينَ بالجنة، وَتُنْذِرُ العاصينَ بالنارِ يومَ القيامة، ولن تُسْأَلَ عن كُفْرِ مَنْ كَفَرَ بِك، فإِنَّما تَبِعَتُهُمْ على أنفسهم.
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 120].(/5)
120- وليستِ اليهودُ ولا النصارى براضينَ عنك أبداً يا محمَّدُ (صلى الله عليه وسلم) ولو قدَّمتَ إليهمُ الأدلةَ تِلْوَ الأدلة، أو تَوَدَّدْتَ لهم ما تودَّدَت، فلا يَنْقُصُهُمُ الاقتناع بأنكَ على الحقّ، إنما هي العقيدةُ والتعصُّبُ والتقليد، فَلَنْ يَرْضَوْا عنكَ حتى تعتنقَ دينَهُم، وتَتَّبِعَ أَقْوَالَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ، وتتركَ ما معكَ من الحقّ! فَدَعْ طَلَبَ ما يُرْضِيهِمْ ويوافِقُهم، وأقبِلْ على طَلَبِ رضا الله بدعوتهم إلى الحقّ، فإن الدينَ المستقيمَ الصحيحَ الكاملَ هو ما بعثكَ الله به، وما عداهُ فليس بِهُدًى، ولا مساومةَ على الإيمانِ الحقّ، في صغيرٍ منه أو كبير، فمن شاءَ فليؤمنْ بذلك، ومن أرادَ غيرَ ذلك فهو حرّ. فإذا تابعتَهُم في آرائهم الزائفة، ومقولاتِهُم الفاسدة، وطرائقِهُم الملتوية، بعد ما نزلَ عليكَ الوحْيُ، وعلمتَ أن دينكَ هو الصحيح، فقد ملتَ عن الهدى، ولن يكونَ اللهُ والياً أمرَك، ولا ناصرَكَ ومؤيِّدَك، ولن يدفعَ عنكَ عقابه.
وهذا من بابِ التهيِيجِ والإلهاب، ولا يُتَوَهَّمُ إمكانُ اتِّباعهِ – صلى الله عليه وسلم – لهم، ولكنه تنبيهٌ لأمَّتهِ على الحذرِ من أهلِ الكتاب، الذين لا يفيدهم أيُّ تنازلٍ بالحوارِ وغيره، ولن يَرْضَوْا إلا بالانضواءِ تحت مظلَّةِ دينهم.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121].(/6)
121- إن الذين أنزلنا علَيْهِمُ الكُتُبَ من المتقدِّمين، فأقاموها حَقَّ إقامتها، وآمنوا بها حقَّ الإيمان، دون تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ ولا تَأْوِيل، وَصَدَّقُوا ما فيها مِنَ الأخبار، من ذلك مبعثُ محمَّدٍ رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وفيها صفتهُ والأمرُ باتِّباعهِ ونُصْرَتِه؛ قادَهُمْ هذا الالتزامُ إلى الحقِّ واتِّباعِ الخير، ومن لم يلتزمْ بذلك وكفرَ كان أمرهم إلى خُسْرَانٍ ظَاهِر، حيث اشْتَرَوُا الكفرَ بالإيمان.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 122].
122- يا بني إسرائيل، اذكروا النعمَ التي أنعمتُها عليكم، منها تفضيلكم على العالمينَ - في وقتِ ما - فلا تحسدوا بني عمِّكمْ من العربِ على ما رَزَقَهُمُ الله من إرسالِ الرسولِ الخاتمِ منهم ولا يَحْمِلَنَّكُمُ الحسدُ على مخالفتهِ وتكذيبه – صلى الله عليه وسلم.
{وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 123].
123- واحذروا حسابَ ذلك اليومِ، الذي لا تقضي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً من الحقوقِ والجزاء، ولا يُقْبَلُ منها فديةٌ، ولا يُفِيدها واسطةُ أحد، ولا يُنْتَصَرُ لهم فيُمْنَعُوا من العذاب.
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].(/7)
124- واذكرْ أيها النبيُّ لهؤلاءِ المشركينَ وأهلِ الكتابين، الذين يدَّعُونَ أنهم على ملَّةِ النبيِّ إبراهيمَ وليسوا عليها، اذْكُرْ لهم شأنَ هذا النبيِّ العظيم، الَّذي اخْتَبَرَهُ اللهُ بِأَوَامِرَ وَشَرَائِعَ وَنَوَاهٍ، فقامَ بها كُلَّهَا، فجزاهُ اللهُ خيراً على ما فعل، وقالَ له: سأجعلُكَ قدوةً وإماماً للناسِ يقتدونَ بكَ في التوحيد، ويحذونَ حذوك، فسألَ عليه السلامُ أنٍْ تكونَ هذه الإمامةُ في ذُرِّيَّتِهِ أيضاً، فأجيب: سيكونُ منهم من لا يفي بالأوامرِ والتكاليف، بل يظلمُ ويفسق، ولن يكونَ عهدُ الإمامةِ لأمثالِ هؤلاء، فشأنُها عظيم، بل لمن يختارُهُمُ اللهُ من أهلِ الإيمانِ والصلاح.
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
125- واذكرْ أيضاً -أيها النبيُّ- أننا جعلنا البيتَ الحرامَ مثوًى ومرجعاً للناسِ ومهوًى لهم، يأتونَ إليه من كلِّ مكانٍ بشوق، ويعودونَ إلى أهليهم وهم لا يرونَ أنهم قَضَوا منه حاجتَهم. وجعلناهُ أمناً لهم، فلا يعتدي عليهم أحدٌ وهم هناك، بل إنه حتى الحيواناتُ في أمانٍ هناكَ فلا تُصاد.
واجعلوا من مقامِ إبراهيمَ مكاناً تصلُّونَ فيه، وهو الحَجَرُ الذي كانَ يقومُ عليه لبناءِ الكعبة.
وفي حديثِ عمرَ الصحيحِ عند البُخَارِيِّ قولُهُ – رضي الله عنه-: ((وافقتُ ربِّي في ثلاث، فقلت: يا رسولَ الله، لو اتَّخذنا من مقامِ إبراهيم مُصَلًّى، فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}...(/8)
وأمرنا إبراهيمَ وإسماعيلَ -عليهما السلام- بأنْ يطهِّرا البيتَ من الأذى والنَّجَس، وإعدادهِ للحجَّاجِ والطائفينَ حوله، والمجاورينَ المقيمينَ عنده، والقائمينَ في الصلاة، الراكعينَ الساجدين.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].
126- واذكرْ أيضاً عندما دعا إبراهيمُ -عليه السلام- فقال: ربِّ اجعلْ هذا البلدَ آمناً من الخوف، لا يَرْعَبُ أهلُهُ، وارْزُقِ المؤمنينَ منهم أنواعَ الثمرات. فاستجابَ اللهُ له، وقال: وأرزقُ مَنْ كَفَرَ منهم وأَمْهِلُهُمْ، فالرزقُ شاملٌ للبَرِّ والفاجر، وهذا مِنْ مَتَاعِ الدنيا في زمانٍ قليل، ثم أدْفَعُهُ إلى عذابِ النارِ وبئسَ المكان، جَزَاءَ كُفْرِهِ وَتَضْيِيعِهِ ما مُتِّعَ به من النِّعَم.
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
127- واذكرْ لقومِكَ أيها النبيُّ بناءَ إبراهيمَ وابنهِ إسماعيلَ البيتَ، ورفعَهُما الأسسَ منه، وهما يدعوان: ربَّنا تقبَّلْ منّا القُرَبَ والطاعاتِ ومنها هذا البناءُ، فأنتَ تسمعُ الدعاءَ وتعلمُ النيَّةَ في جميعِ الأعمال.
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].(/9)
128- ربَّنا واجعلنا مُسْتَسْلِمَيْنِ لأمرِك، خَاضِعَيْنِ لطاعتك، مُخْلِصَيْنِ لَك، لا نُشْرِكُ في عبادتِنا لكَ أحداً، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا كذلك. وَبَصِّرْنَا عِبَادَاتِنَا وعَلِّمْنَا مَناسِكَنَا ومُتَعَبَّدَاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا، إنَّك كثيرُ قَبُولِ التوبةِ مِنْ عبادِك، رحيمٌ بهم.
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة: 129].
129- ربَّنَا وابعثْ لأهلِ الحَرَمِ من أنفُسِهِمْ رسولاً منهم، من ذُرِّيَّةِ إبراهيم، يقرأُ عليهم ويبلِّغهم ما يُوحَى إليه من البيِّنات، ويعلِّمهمُ القرآنَ والسنَّة، والطاعةَ والإخلاص، ويطهِّرهم من دنسِ الشرك، فأنتَ العزيزُ الذي لا يُقهَرُ ولا يُغْلَبُ على ما يريد، الحكيمُ الذي لا يفعلُ إِلا ما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحةُ، فيضعُ الأشياءَ في مكانِهَا كما يَجِبُ أن تكون.
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130].
130- ولا يبعدُ عن طريقةِ إبراهيمَ ومنهجهِ إلا الشخصُ المُذِلُّ لنفسه، المُستخفُّ بها، الذي يفضِّلُ الضلالَ على الحقّ. فَهُوَ إمامُ الحُنَفَاء، وَمَنْ خَالَفَهُ فَقَد جَانَبَ الحقَّ الصريح، والدِّيَن الصحيح، والهدايةَ والرشاد، وهو ما اصْطُفِيَ عليه إبراهيمُ في الدنيا، وهو الذي اخْتِيرَ بالنبوةِ والحكمةِ من بين سائرِ الخلق، وهو في الآخرةِ من المشهودِ لهم بالثباتِ على الاستقامة، والصلاحِ والسعادة.(/10)
وهو ردٌّ على الكفارِ فيما ابتدعوهُ وأحدثوهُ من الشركِ وعبادةِ الأصنامِ المخالفِ لِمِلَّةِ إبراهيمَ عليه السلام، فَأَيُّ ضَلالٍ أَكبرُ مِنْ هَذَا، وأيُّ سَفَهٍ أعظمُ مِنْ عَدَمِ اتِّباعِ ملَّتِهِ القائمةِ على التوحيدِ الخالصِ البيِّن؟
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131].
131- فقد أمرَهُ اللهُ بالإخلاصِ له والاستسلام، والانقيادِ لأوامره، فأجابَ إلى ذلك، وأطاعَ وأخلصَ على أحسنِ ما يكون، مُفَوِّضاً أمرَهُ كلَّهُ إلى الله.
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
132- وقد أوصى خليلُ اللهِ إبراهيمُ -عليه الصلاةُ والسلام- بَنِيه، وكذا وصَّى يعقوبُ بنيه، بهذه الملَّة، وهي الإسلامُ لله، فقالا: يا بَنِيَّ، إنَّ الدِّينَ الذي رضِيَهُ اللهُ لكم هو صفوةُ الأديان، لا دينَ غيرُهُ عند الله، فاثْبُتُوا عليه ولا تفارقوهُ أبداً، واحرِصُوا على ذلك وحافظوا عليه حتى الموت، بإحسانِكم في الحياة، ومتابعتِكم لطاعةِ اللهِ والعملِ الصالح، فإن المرءَ يموتُ غالباً على ما كانَ عليه، كما يُبْعَثُ على ما ماتَ عليه، وإِنَّ مَنْ قَصَدَ الخيرَ وُفِّقَ له ويُسِّرَ عليه – والذي نَوَى الصلاحَ وَعَزَمَ عليه ثَبَّتَهُ الله.
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133].(/11)
133- أم كنتُمْ حاضرين، أيها المشركون، ويا أهلَ الكتاب، ما قالَهُ يعقوبُ -عليه السلام- لبنيهِ حين حضرتْهُ الوفاةُ: أيَّ شيءٍ تعبدونَهُ بعد موتي؟ وهو يريدُ بذلك تقريرَ بَنيهِ على التوحيدِ والإسلام، وأخْذَ ميثاقِهِمْ على الثباتِ عليهما.
فقالوا حسبَمَا كان مُرادَ أبيهم: نعبدُ الإلهَ المتفقَ على وجودهِ وإلهيتهِ ووجوبِ عبادته، الذي عبدتَهُ أنتَ وآباؤك إبراهيمُ وإسماعيلُ وإسحاقُ، إلهاً واحداً، نوحِّدهُ ولا نشركُ به شيئاً، ونحن مطيعونَ له خاضعون.
والإسلامُ هو ملَّةُ الأنبياءِ كلهم، وإن تَنَوَّعَتْ شرائعُهُمْ واختلفتْ.
وَعَدُّ إسماعيلَ من آبائهِ من بابِ التَّغْلِيب، فهو عَمُّ يعقوب، عليهمُ الصلاةُ والسلام.
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134].
134- كانتْ تلك جماعةً مَضَتْ، لها أعمالُها التي عَمِلَتْهَا، ولكمْ أعمالُكُمُ التي كَسَبْتُمُوهَا، لا يَنْفَعُكُمُ انتِسَابُكُمْ إلى صالحيهم إذا لم تفعلوا مثلَهُمُ الأعمالَ الصالحة، كما أنكمْ لا تُؤَاخَذونَ بسيِّئاتهم التي عملوها.
{وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135].
135- وجاءَ بعضُ اليهودِ والنصارى إلى رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَ كُلٌّ أنهُ على حقّ، وَطَلَبُوا منه اتِّبَاعَهُمْ ليكونَ من المهتدين. في حديثٍ حسن، فقل لهم يا محمَّدُ (صلى الله عليه وسلم): بَلْ نَرْجِعُ جميعاً، نحن وأنتم، إلى طريقةِ إبراهيمَ ومنهجه، فهو أبونا وأبوكم، وأصلُ ملَّتهِ الإسلام المستقيمُ، وما كانَ من المشركين، بينما أنتم تشركون.(/12)
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
136- قولوا جميعاً أيها المؤمنون: آمنَّا بالله، وبما أُنْزِلَ إلى إبراهيم، وإسماعيلَ، وإسحاقَ، ويعقوبَ، والأسباطِ، وموسى، وعيسى، وسائرِ الأنبياءِ عليهمُ الصلاةُ والسلام، من الكتبِ السماوية، والآياتِ البيِّنات، والمعجزاتِ الباهرات، ولا نفرِّقُ بينهم، كَدَأْبِ اليهودِ والنصارى، الذين آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، ونسلِّمُ أمرَنَا جميعاً إلى الله، مُخلصينَ له ومُذعنين.
{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137].
137- فإنْ آمنَ أهلُ الكتابِ والمشركونَ بمثلِ ما آمنتمْ به أيها المؤمنون، من الإيمانِ بجميعِ كتبِ اللهِ ورُسله، ولم يُفَرِّقُوا بينهم، فقد أصابوا الحقّ، وكانوا من المهتدين، وإنْ أعرضوا عن الإيمانِ بالوجهِ المذكورِ فقدِ استقرُّوا في خلافٍ عظيمٍ بعيدٍ من الحقّ، ولا قرارَ لهم على أصلٍ ثابت، وسوفَ يكفيكَ اللهُ شِقَاقَهُمْ هذا عندَ النصْرِ عليهم. والله يسمعُ ما يقولونه، ويعلمُ ما يضمرونهُ في قلوبهم، وهو مُعَاقِبُهُمْ عليه.
{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [البقرة: 138].(/13)
138- إنه دين الله الواضحُ المبين، والعلامةُ التي وضعها على عباده المؤمنين المتقين، فطَهَّرَهُمْ بالإيمان من أَوْضَارِ الكفر، وَزَيَّنَ قلوبَهُمْ بآثاره الجميلة، فلا أفضل من هذه السمة الجليلة، والعلامة المباركة. وَنَحْنُ شاكرون لله عابدون له على هذه النعمة الكبيرة، وسائِرِ نِعَمِهِ.
{قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139].
139- قلْ لليهودِ والنصارى أيها النبيُّ محمَّد – صلى الله عليه وسلم – أَتُنَاظِرُونَنا في توحيدِ اللهِ والإخلاصِ له واتِّبَاع أوامِرِهِ، وهو ربُّنَا وربُّكُم، المتصرِّفُ فينا وفيكم، المستحقُّ لإخلاصِ العبادةِ له، لا شريكَ له؟ فلنا أعمالُنَا الحسنةُ في السمعِ والطاعة، وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمُ المخالفةُ في الشركِ والضلال، ونَحْنُ مَخْلِصُونَ في تلك الأعمال، لا نَبْتَغِي بها إلا وَجْهَهُ، فكَيْفَ تُنَاظِرُونَنا وَتَدَّعُونَ أنكمْ على حقٍّ وَتَطْمَعُونَ في دخولِ الجنَّةِ بسببهِ ودعوةِ الناسِ إليه؟!
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140].(/14)
140- أم تقولونَ – يا أهلَ الكتابِ – إن إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا يهوداً أو نصارى؟ أأنتم أعلمُ بذلك أم الله؟ بَلِ اللهُ أعلمُ. إنهم كانوا على مِلَّةِ التوحيدِ الخالص، وأنتم تقرؤونَ في كُتُبِكُمْ أنهم كانوا على الحنيفيةِ الأولى التي لا شركَ فيها، كما تقرؤونَ أَنَّ محمَّداً – صلى الله عليه وسلم – سيُبْعَثُ في آخرِ الزمانِ على ملَّةِ إبراهيمَ حنيفاً، والأنبياءُ المذكورونَ -عليهم الصلاةُ والسلامُ- ما كانوا يهوداً ولا نصارى، لأنهم كانوا قبل موسى وعيسى عليهما السلام، ولكنَّكم تكتُمُونَ الحقّ، وتكتُمُونَ هذه الشهادةَ الثابتةَ العظيمةَ، اخترتمُ الضلال، وعِلْمُ الله محيطٌ بعلمكم، وسوف يَجْزِيكُمْ بما تستحقونَهُ منِ افْتِرائكُمْ على الأنبياء.
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141].
141- لَقَدْ مَضَتْ تلكَ الأمَّة، فَلَها أعمالُهَا، ولكم أعمالُكُمُ التي اكتسبتُموها، ولن يُغْنِيَ عنكم انتسابُكُمْ إليهم واتّْكَالُكُمْ عَلَى أعمالهمْ من غَيْرِ مُتَابَعَةٍ لهم في أعمالهم الطيِّبَة، فلا تَغُرَّنَّكُمُ النسبةُ إليهم، حتى تكونوا مثلَهُم في الطَّاعَةِ واتِّباعِ الرسل.(/15)
العنوان: الواضح في التفسير الحلقة الخامسة
رقم المقالة: 1660
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الواضح في التفسير
الحلقة الخامسة
الجزء الثاني
سورة البقرة
( الآيات 142 – 173 )
{سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة : 142].
142- أُمِرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يستقبلَ في صلاتهِ الصخرةَ من بيتِ المقدسِ أوَّلاً، فكانَ هو والمسلمونَ على ذلك، ستةَ عشرَ أو سبعةَ عشرَ شهراً، كما في صحيحِ البخاري. وكان عليه الصلاةُ والسلامُ يبتهلُ إلى الله أن يجعلَ قِبْلَتَهُ الكعبة، قبلةَ إبراهيمَ عليه السلام، فأُجيبَ إلى ذلك، فحصلَ شكٌّ وزيغٌ عن الحقِّ من أهلِ النفاقِ والريبِ والكفرةِ من اليهود، وقالوا: ما الذي صرفهمْ عن قِبلتهم الأولى؟ وخاصَّةً أن اليهودَ كانوا يتذرَّعونَ بأن الاتجاهَ إلى بيتِ المقدسِ يعني أن دينَهمْ هو الأصل، وأنه هو الصحيح. فصاروا يُلقونَ بذورَ الشكِّ والشائعاتِ في صفوفِ المجتمعِ الإسلاميّ، حولَ مصيرِ صلواتِهم السابقة، وسببِ الانتقالِ من قِبلةٍ إلى أخرى، بأنه يدلُّ على عدمِ السدادِ، فليس بوحي...!(/1)
فسمّاهمُ اللهُ تعالى "السفهاء"، وهم الذين خفَّتْ عقولُهم، وامتهنوها بالتقليدِ والإعراضِ عن التدبُّرِ والنظر، أو أن السفيهَ هو الكذّابُ المتعمِّدُ خلافَ ما يعلم، أو الظلومُ الجَهول. فإن اللهَ تعالى له مطلقُ الحكمِ والتصرُّفِ في الأمر، فلهُ المشرقُ والمغرب، الجهاتُ كلُّها له، فأينما حدَّدَ يتوجَّهُ المؤمنونَ إليه دونَ اعتراض، ما عليهم إلا الطاعةُ وامتثالُ الأمر. والكعبةُ أشرفُ بيوتِ الله في الأرض، فهي بناءُ إبراهيمَ عليه السلام. ويهدي اللهُ من شاءَ من عبادهِ إلى نهجهِ الصحيحِ إذا رأى فيهم نيَّةً وتوجُّهاً إليه، أما السفهاءُ ففي الغيِّ والضلالِ يتخبَّطون.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة : 143].
143- وكذلكَ جعلناكمْ –يا أمَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم- خيارَ الأمم، لتكونوا بذلك شهداءَ عليهم يومَ القيامة، لأن الجميعَ يعترفونَ بفضلكم، فأنتم الذين تُبلِّغونَ الحق، لأن دينَكم هو الحقُّ من بين أديانِ الأممِ ومذاهبها؛ ولذلك وجَّهكمُ اللهُ إلى قبلةِ إبراهيمَ أبي الأنبياء، وخصَّكم بأكملِ الشرائع، وأقومِ المناهج، وأوضحِ المذاهب. ثم يكونُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- شهيداً عليكم يومَ القيامة، فيزكِّيكم ويشهدُ بعدالتكم.(/2)
وقد كانَ الأمرُ باستقبالِ المسجدِ الأقصى أولاً امتحاناً، ليتبيَّنَ من يطيعُ الله ومن يخالفه، وخاصَّةً أن العربَ كانوا متعلِّقينَ بالبيتِ كيفما كان، وكان التحوُّلُ منه صعباً عليهم، فأرادَ اللهُ أن يصرفَ قلوبَ من أسلمَ منهم إلى الطاعةِ المطلقة، والتخلُّصِ من الرواسبِ الجاهلية، مهما كانَ شأنها، حتى تأخذَ هذه التربيةُ مأخذها من النفوسِ وتتدرَّب على الطاعةِ والامتثال... وهو وإنْ كان عظيماً على النفوس، إلا أنه سهلٌ على القلوبِ المؤمنةِ المهتدية، التي أيقنتْ بتصديقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ ما جاءَ به هو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه، وأن الله يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد، فما على المسلمِ إلا الطاعةُ والامتثال.
وما كان الله ليُضِيعَ صلواتِكم التي توجَّهتم فيها إلى بيتِ المقدسِ سابقاً، فلا يَضِيعُ ثوابُها عنده، إنه رؤوفٌ رحيمٌ بعباده، يوصلُ إليهم النعمةَ الصافيةَ بفضلهِ ورحمته.
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 144].
144- كان الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ أن يُوَجَّهَ إلى الكعبة، كما في صحيحِ البخاري، فقالَ له ربُّه: لنعطينَّكَ طلبك، ولنمكننَّكَ من استقبالِ القبلةِ التي تحبُّها وتشتاقُ إليها، فحوِّلْ وجهكَ نحوَ المسجدِ الحرام، وحيثما كنتُم أيها المسلمونَ في أنحاءِ الأرضِ جميعاً اتَّجهوا إلى هذه القبلة، إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها.(/3)
وإن اليهودَ والنصارى يعلمونَ أن توجُّهَكم إلى البيتِ هو الحقّ، بما في كتبهم من صفةِ النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأمَّته، ولعلمهمْ أن الكعبةَ هي بيتُ اللهِ الأول، الذي بنى قواعدَهُ واتجهَ إليه إبراهيمُ عليه السلام، ولكنهم لا يقتنعونَ بالأدلَّة، ويكتمونَ ما في كتبهم من علمٍ ولا يُظهرونه، واللهُ ليس بغافلٍ عمّا يعملون، وسوفَ يُجازيهم في الدنيا والآخرةِ على ذلك. وهو سبحانَهُ ليس بغافلٍ عن ثوابِ المؤمنينَ وجزائهم.
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة : 145].
145- فلو أقمتَ لليهودِ والنصارى الحُجَّةَ تلوَ الحُجَّةِ على صحَّةِ ما جئتَ به، وأيَّدكَ اللهُ بالمعجزاتِ في ذلك، لما تركوا أهواءَهم واتَّجهوا إلى القبلةِ التي ولاّكها ربُّك. ولن تتَّجهَ إلى قبلتهم أيضاً، ولن تتَّبعَ أهواءهم؛ لمتابعتِكَ أمرَ الله، وطلبِكَ رضاه. ولن يتَّبعَ اليهودُ قبلةَ النصارى، ولا النصارى يتبعونَ قبلةَ اليهود، فالعداوةُ بينهما شديدة. ولو أنكَ اتَّبعتَ مرادَهم بعد الذي وجَّهكَ الله إليه ورضيَهُ لك من القبلةِ الحقّ، لكنتَ مؤثراً الباطلَ على الحقّ.
وهو على الفَرَضِ والتقدير، وتحذيرٌ للأمَّةِ من أهواءِ أهلِ الكتابِ وأضاليلهم.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة : 146].(/4)
146- إن أهلَ الكتابِ من اليهودِ والنصارى يعرفونَ محمَّداً -صلى الله عليه وسلم_ وصحَّةَ ما جاءَ به كما يعرفُ أحدُهم ابنَه! وهو مثلٌ يُضْرَبُ في صحَّةِ الشيءِ والتيقُّنِ منه تماماً، فمعرفةُ الابنِ هي قمَّةُ المعرفة؛ وذلك لوصفِ الرسولِ محمَّدٍ –صلى الله عليه وسلم- الدقيقِ في كتبهم، وصفةِ أمَّته، وما إلى ذلك، ومنها القبلةُ التي يتوجَّهونَ إليها. لكنَّ فريقاً منهم مع هذا التحقُّقِ والتاكدِِ في معرفته، يكتمونَ الناسَ ما في كتبهم من ذلك، وهم يعلمونه.
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة : 147].
147- فما جاءَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم هو الحقُّ الذي علَّمَهُ ربُّه، لا مريةَ فيه ولا شكّ، فلا تكنْ من الشاكِّينَ في ذلك أيُّها النبيّ.
وهو إيحاءٌ من ربِّ العزَّةِ إلى أمَّةِ محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- بعدمِ التأثُّرِ بأباطيلِ اليهود، وبالتنبُّهِ إلى أحابيلهم.
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 148].
148- ولكلِّ أهلِ دينٍ من الأديانِ قِبلةٌ يتوجَّهونَ إليها ويرضونَ بها، ولن يتَّبعوا قبلةَ بعضِهم البعض، فما على المسلمينَ سوى التوجُّهِ إلى عملِ الخير، والتنافسِ في رضا الله، والانصرافِ إلى ما يُفيدُ ويُثمر، والابتعادِ عن شُبَهِ الأعداءِ وأفكارِهم المنحرفة، وإن الله سبحانَهُ سيجمعُ الموافِقَ والمخالِفَ منكم، وإن تفرَّقتْ أبدانُهم، وهو قادرٌ على الإماتةِ والإحياءِ والجمع، لا يُعجزهُ شيء.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة : 149].(/5)
149- وهذا أمرٌ فيه تأكيد، فحيثُما خرجتَ وأينما كنتَ أيها الرسول. توجَّهْ في صلاتِكَ نحو المسجدِ الحرام، فإنه القبلةُ الخالصةُ التي رضيَها الله لكم، وهو الثابتُ الموافِقُ للحكمة، وليس اللهُ بغافلٍ عن امتثالكم وطاعتكم، ولسوفَ يُجازيكم بذلكَ أحسنَ جزاء.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة : 150].
150- ثم تجديدٌ وتأكيدٌ للمرَّةِ الثالثةِ لأهميته، ولقطعِ الطريقِ على الشُّبَهِ والتشكيكاتِ التي زادَ سعيرُها في المجتمعِ الإسلاميِّ الجديدِ من قِبَلِ الأعداءِ المتربِّصينَ به للقضاءِ عليه وهو ما زالَ في أوَّله، ولقطعِ النظرِ كذلكَ عن أيِّ شيءٍ ممّا عداه، فهي القبلةُ الأخيرةُ لمن أسلمَ وجهَهُ للهِ إلى أن تقومَ القيامة. فكلَّما خرجتَ وأينما كنتَ أيها النبيُّ اتجهْ نحوَ المسجدِ الحرام، وأينما كنتُمْ أيها المسلمونَ جميعاً توجَّهوا نحوه؛ حتى لا يبقى أدنى شكٍّ عند أهلِ الكتاب أنكم أمَّةُ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- الموعودة، حيث يجدونَ عندهم أن قِبلتكم ستكونُ الكعبة، ولو أنهم فقدوا ذلك منكم لاحتجُّوا بما يقولونَ من أنكم لستُم تلكَ الأمَّة.(/6)
وحتى لا يكونَ لأيِّ مشركٍ أو كافرٍ تأثيرٌ عليكم في جدالهم وعنادهم معكم وما يبثُّونَهُ من شُبَهٍ وشائعاتٍ لغرضٍ في نفوسهم، كقولِ بعضِهم لكم: ما دمتُم استقبلتُم البيتَ فسترجعونَ إلى دينِ آبائكم! فلا تحسبوا حساباً لهم ولا لأقاويلهم، فلا سلطانَ لهم عليكم ولن يضرُّوكم، بل اتَّقوا ربَّكم واخشوهُ في السرِّ والعلن، فهو الضارُّ النافع، وأهلٌ لأنْ يُخشى، وبيدهِ الأمرُ كلُّه. وحتى أُكمِلَ نعمتي عليكم فيما شرعتُ لكم من استقبالِ القِبلة. ولعلكم بهذا تهتدونَ إلى ما ضلَّتْ عنه الأمم، فهديناكم إليه وخصصناكم به، ولذلك كنتم أشرفَ الأممِ وأفضلَها.
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 151].
151- ومع نعمةِ القِبلةِ اذكروا أيها المسلمونَ بعثةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيكم، يقرأ عليكم كلامَ الله العظيم، ويطهِّرُكم من رذائلِ الأخلاق، وأفعالِ الجاهلية، ودنسِ النفوس، ويُخرجُكم من الظلماتِ إلى النور، ويعلِّمُكمُ القرآنَ والسنَّة. وبينما كنتم في الجاهليةِ على جهلٍ وعداوةٍ وشِقاق، أبدلَكمُ اللهُ بذلكَ ما لم تكونوا تعلمون، وما لم يكنْ لكمْ به سابقُ علم، فصارَ منكمُ العلماء، والصِّدِّيقون، والأولياء، والقادةُ الفاتحون، والدعاةُ المبشِّرونَ بالدِّينِ العظيم.
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة : 152].
152- فلا تنسَوا هذه النعمَ العظيمةَ التي أنعمتُ بها عليكم، اذكروني بالطاعةِ أذكُرْكم بالثواب، واشكروا لي هذه النعمَ ولا تجحدوها، يزدْكم بذلك نعمةً وفضلاً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 153].(/7)
153- وإذا كان الشكرُ من آدابِ المؤمنين، فإنه لا بدَّ لهم من الصبرِ أيضاً، فعليكم به، فإنه خيرُ صفةٍ تتحلَّون بها لتحمُّلِ البلايا والرزايا ومشاقِّ الدعوة، والعزمِ على الطاعةِ والقُربات، وتركِ المآثمِ والمحرَّمات.
وكذا الصلاةُ، التي تشدُّ العزيمة، وتجدِّدُ الطاقة، وتملأ القلبَ نوراً، ولذلك كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ –أي هجمَ عليه أو غلبَهُ- صلَّى، كما في حديثٍ حسنٍ رواهُ أحمدُ وأبو داود.
ذلك أن اللهَ مع الصابرين، يؤنسهم، ويؤيِّدهم، ويثبِّتهم، ويزيدُ من قوَّتهم الضعيفة.
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} [البقرة : 154].
154- ولا يقدرُ على الجهادِ إلا الصابرونَ وذوو العزائم، وهؤلاءِ إذا سقطوا شهداءَ في ساحةِ المعركة، فلا تظنوا أنهم قد ماتوا، بل هم أحياءٌ عند ربِّهم، يُطعمهم ويَسقيهم؛ جزاءَ تضحيِتهم بأرواحِهم، ولكنكم لا تشعرونَ بهم، فهم في حياةٍِ أخرى (برزخيَّةٍ) غيرِ التي أنتم فيها.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 155].
155- وسوفَ نختبرُكمْ ونمتحنُكمْ أيها المسلمون، لتظهرَ حقيقةُ إيمانِكم ومدى ثباتِكم على أمرِ دينكم، سيصيبكم شيءٌ من الخوفِ وأنتم تخوضونَ معاركَ ضدَّ الباطل، وشيءٌ من الجوعِ كالفقرِ ، ونقصٌ من الأموالِ، كأن يصيَبها جائحةٌ أو غرقٌ أو ضياع، ويُقْتَلُ أو يموتُ من أهلكم وأحبابكم، ويقلُّ شيءٌ من زروعِكم وثماركِم ببردٍ أو حرقٍ أو آفةٍ سماوية. فإذا صبرتُم ورضيتُم بقضاءِ الله فزتُم وحزتُم الأجر.
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة : 156].(/8)
156- إن الحائزينَ على درجةِ الصبرِ بحقٍّ هم الذين إذا ابتُلوا بمصيبةٍ آمنوا فصبروا، وتسلَّوا واسترجعوا، وقالوا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، لعلمهم بأنهم مُلْكٌ لله، يتصرَّفُ في عبيدهِ كما يشاء، وأنه لا يَضِيعُ عندهُ شيءٌ يومَ القيامة.
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة : 157].
157- فعلى هؤلاءِ الصابرينَ ثناءُ الله، ولهم مغفرتهُ وعليهم رحمته، فهم الذين اهتدَوا إلى الحقِّ والصواب، بصبرهم واسترجاعهم.
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 158].
158- إن الطوافَ بين جبلي الصفا والمروة –وهما داخلانِ في حدودِ المسجدِ الحرامِ الآن- هو ممّا شرعَهُ الله تعالى لإبراهيمَ عليه السلام في مناسكِ الحجّ، فمن نوى حجًّا أو عمرةً فليجعلْ ذلك من مناسكه، ومن زاد َفي السعي بينهما، أو زادَ من نفل، فإن الله يُثيبهُ عليه، وهو عليمٌ بما يستحقُّهُ من الجزاء، ولا ينقصُ أحداً ثوابَ عمله.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159].
159- إن أهلَ الكتاب، وخاصَّةً اليهود، يُخفونَ ما أنزلنا على الرسلِ من الدلالاتِ البيِّنةِ على حقائقَ مهمَّة، وما جاؤوا به من الهدي النافعِ للقلوب، كالإيمانِ بمبعثِ الرسولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ووجوبِ اتِّباعه، حيثُ بيَّنَهُ الله تعالى في الكتبِ التي أنزلها.(/9)
قال أبو السعود في تفسيره: "والمرادُ بكتمهِ إزالتُه ووضعُ غيرهِ في موضعه، فإنهم محَوا نعتَهُ -عليه الصلاةُ والسلامُ- وكتبوا مكانَهُ ما يُخالفه". وقد جعلَ الكتمَ بهذا من أنواعِ التحريفِ والتبديل.
فهؤلاءِ الساكتونَ عن الحقّ، الكاتمونَ ما أنزلَ الله من خيرٍ وهُدى، يطردُهم الله ويُبعدهم من رحمته، كما يلعنهم كلُّ من يتأتَّى منهم اللعنُ والدعاءُ عليهم، من الملائكةِ ومؤمني الجنِّ والإنس، فهم منبوذونَ من ِأهلِ الحقِّ كلِّهم.
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة : 160].
160- ويُستثنى من أهلِ الكتابِ المذكورين، الذين تابوا إلى الله ورجعوا عمّا كانوا فيه، وأعلنوا الحقَّ واعترفوا به، وأصلحوا ما أفسدوا وحرَّفوا، وبيَّنوا للناسِ ما كانوا كتموه، فهؤلاءِ أقبلُ توبتهم، وأنا كثيرُ قبولِ التوبةِ ونشرِ الرحمة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة : 161].
161- أما الذين كفروا وأصرُّوا على كفرهم، وكتموا الحقَّ ولم يتوبوا، فإنَّ مصيرَهم الطردُ من رحمة الله، فيلعنهم الله، وملائكته، وجميعُ الناس، لعنٌ ثابتٌ بعد لعنٍ متجدِّد، في الدنيا، مستمرًّا إلى الآخرة.
{خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة : 162].
162- وسوفَ يُخلَّدونَ في نارِ جهنَّم، لا يُنْقَصُ عمّا هم فيه من عذاب، ولا يُغَيَّرُ عنهم ساعةً واحدة، فهو متواصلٌ دائم.
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة : 163].
163- إن المعبودَ الذي يتوجَّهُ له الخلقُ في عبادتهم وطاعتهم واحدٌ لا شريكَ له، وهو رؤوفٌ رحيمٌ بالناس، ورحمتهُ كبيرةٌ واسعةٌ دائمة.(/10)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة : 164].
164- إن مشاهدَ الخلقِ في الكونِ عظيمةٌ دقيقة، ينبغي أن يُنظرَ فيها بتعمُّقٍ وتبحُّرٍ من جوانبها العلميةِ والحِكْمية، ليُستدلَّ بها على الخالقِ الأعظم.
فهذه السماواتُ بارتفاعها، وإحكامِ خَلْقها، وما فيها من شموسٍ وكواكب، وصخورٍ وذرَّات، وجاذبيةٍ ودوران، وبُعدها عن الأرض أو عن بعضها البعضِ بمسافاتٍ لا تكادُ تتخيَّل، كملايينِ السنواتِ الضوئيةِ وما يُقالُ في هذا، عدا ما لم يكتشفْ منها.
والأرضُ في جبالها ووهادها، وبحارها وأنهارها، وخصبها وصحرائها، وإنسِها وجنِّها، وحيواناتها وجمادها، ونباتاتها وأشجارها، بملايينِ أصنافها وأنواعها، الدقيقةِ والعجيبة، وأحيائها المائيةِ في سلوكِها ومعيشتها، وما فيها من منافع، من معادنَ ولآلئ، وماءٍ وهواء، وكلِّ ما سُخِّر للإنسان.
ومجيءُ النهارِ يتلوهُ الليل، ثم يتلوهُ النهارُ وهكذا، من تعاقبِ النورِ والظلمة، في استمراريةٍ ودقَّةٍ متناهية.
وهذه السفنُ والبواخرُ والأساطيلُ التي تجري في البحر، سخَّرَهُ الله للناسِ هكذا لينتفعوا به في أسفارهم، ونقلِ بضائعهم من مكانٍ إلى آخر، وليستخرجوا منه ما ينفعُهم من مؤونةٍ وميرةٍ وتجارة.
وهكذا المطرُ الذي ينزلُ من السحابِ بأمرِ الله، فتحيا به زروعٌ وثمار، وأناسيُّ وحيوانات، تُفَجَّرُ به عيون، ويُخَزَّنُ منه في الأرضِ للآبار، بعد أن كانتِ الأرضُ يابسةً لا حياةَ فيها.(/11)
وما نُشِرَ في الأرضِ من كلِّ حيّ، عاقلٍ وغيرِ عاقل، على اختلافِ أشكالها وألوانها ومنافعها، وصغرها وكبرها.
وهذه الرياحُ بأنواعها واتجاهاتها، وما هو منها للرحمةِ وما هو منها للعذاب، وما تجمعهُ أو تفرِّقهُ من السُّحب، فتقفُ بها في مكانٍ أو تسوقُها إلى حيثُ أمرها الله، أو ما تحملُ من بذورٍ فتفرِّقها في مناطقَ جديدةٍ أو تنثرُها على ثمارها لقاحاً.
وهذه الغيومُ المنتشرةُ فوق الأرض، في تشكيلها وأنواعها ودلالاتها، وحركتها وتسخيرها وانتقالها.
كلُّ هذا وغيرهُ حقائقُ عظيمةٌ ودلالاتٌ بيِّنةٌ على وجودِ الله ووحدانيته، وقدرتهِ وحكمته، هذا إذا تفكَّرَ بها الإنسان، وألقى عن عقلهِ بلادةَ الأُلفةِ وغشاوةَ الغفلة، ونظرَ في هذه المخلوقاتِ بفكرٍ متعمِّقٍ وحسٍّ متجدِّد، وقلبٍ متطلِّعٍ إلى الحق.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].
165- وعلى الرغمِ من الدلالاتِ السابقةِ على وحدانيةِ الله وتفرُّدهِ بالخلقِ والتدبير، إلا أن هناكَ صنفاً من الناسِ أشركوا بالله، وصاروا يعبدونَ معه نظراءَ وأمثالاً، على هوى أنفسهم وما تسوِّلُ لهم الشياطين، في تقليدٍ جاهلٍ أو حُمقٍ فاضح، كعبادةٍ أحجارٍ وأشجار، أو نجومٍ وكواكب، ويدافعونَ عنها ويحاربونَ عليها، ويحبُّونها كمحبَّتهم الله! وهو الواحدُ الأحد، الذي لم يتَّخذْ صاحبةً ولا ولداً، ولا مثيلَ له ولا نظير.
أما المؤمنون، فإنهم يعبدونَ الله على نورٍ من ربِّهم وبرهان، ويحبُّونَهُ حبًّا خالصاً لا شائبةَ فيه، وهم أكثرُ حبًّا له من أنفسهم وما يملكون؛ وذلك لتمامِ معرفتهم به، وتوحيدِهم وتعظيمِهم له، ولجوئهم إليه وحسنِ توكلهم عليه.(/12)
ولو عاينَ هؤلاءِ المشركونَ ومن تابعهم ما أُعِدَّ لهم من العذابِ يومَ القيامة، لعلموا أن جميعَ الأشياءِ تحت قهرهِ وسلطانه، وأن القوَّةَ والتصرُّفَ له وحده، وأن عذابَهُ شديدٌ مؤلم، وإذاً لانتهوا عمّا هم فيه من ضلال.
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166].
166- وهؤلاءِ الذين كانوا أعلاماً في الكفرِ والضلالِ والدَّعواتِ الهدَّامة، ولهم أنصارٌ وتابعون، عندما يُكشَفُ لهم الحساب، ولا يرونَ أمامهم سوى النار، التي لا مناصَ لهم منها، يتبرَّؤونَ من تابعيهم، لأن ذلك يزيدُهم عذاباً، ويقولونَ لهم: لا علاقةَ لنا بكم، ولم نجبرْكُم على متابعتنا، وكانتْ لكم عقولٌ فلمَ خُدِعتُم وشاركتمونا؟
وتنقطعُ بينهم الأواصرُ والعلاقاتُ السابقة، وتنقلبُ إلى حقدٍ وعداوةٍ وتخاصم، حيث انتهتِ الأعمال، وحانَ وقتُ الجزاء.
{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة : 167].
167- وقال التابعونَ المقلِّدون، المناصرونَ للضلالِ وأهله، بعد أن انتكستْ أعلامُ الآلهةِ الفارغة، وانكشفتِِ الخِدَع، وظهرتِ الحقائق: لو كانتْ عندنا فرصةٌ للعودةِ إلى الدنيا حتى نتبرَّأ من هؤلاءِ فلا نتَّبعهم ولا نوافقهم على أفكارهم، ولا نكونَ لهم كالعبيدِ فنهتفَ لهم ولمبادئهم المضلِّلة، بعد أن تبرّؤوا هم منّا وقالوا لا علاقةَ لنا بكم ولم نجبرْكُم على اتِّباعنا. وهم كاذبون، فلوا أنهم أُعيدوا لعادوا. وإنما يريدُ الله ببيانِ أعمالهم أمامهم ليزدادوا كمداً وندامة، فيكونَ نصيبُهم حسراتٍ وحسرات. ولسوفَ يبقونَ في النارِ يعذَّبون.(/13)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 168].
168- أيها الناس، كلوا مما خلقَ الله لكم في الأرضِ من الحلالِ الطيِّب، الذي لا يعتلُّ به جسمٌ ولا يختلُّ به عقل، ولا تقتدوا بالشياطين، ولا تتبعوا مسالكَهُ وطرائقَهُ التي ضلَّ بها أتباعه، من تحريمِ ما أحلَّ اللهُ وتحليلِ ما حرَّمَ، فإنه ظاهرُ العداوةِ لكم عند أهلِ البصيرةِ منكم، وقد حذَّركم الله منه.
{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 169].
169- إنما يأمركم الشيطانُ بالمعاصي وبالأعمالِ السيِّئةِ والفواحشِ الدنيئة، وأن تَفتَرُوا على الله الكذب، بأنْ تقولوا إنه حرَّمَ شيئاً، وهو ما لا تعلمونَ أنه حرَّمه.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة : 170].
170- وإذا طُلِبَ من المشركينَ وأهلِ الكتابِ أن يتَّبعوا كتابَ الله الذي أنزلَهُ على رسولهِ محمّدٍ -صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا نتَّبعه، بل نتَّبعُ ما وجدْنا عليه آباءَنا، لأنهم كانوا خيراً منا!
أيقتدونَ بهم ويقتفونَ أثرهم ولو كانوا لا يفهمونَ شيئاً ولا يهتدونَ إلى الصواب؟ ولو كانوا غافلينَ وجاهلينَ ضالِّين؟
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة : 171].(/14)
171- إن مَثَلَ الذين كفروا في غيِّهم وضلالِهم وجهلِهم وعدمِ تدبُّرهم فيما أُلقيَ إليهم من الآيات، كالبهائمِ التي لا تفقَهُ ما يُقالُ لها، فإذا دعاها أو هتفَ بها راعيها لا تفهمه، إنما تسمعُ لحنَهُ ودويَّ صوته.
فهم صُمٌّ عن سماعِ الحقّ، وخُرسٌ لا يتفوَّهونَ به، وعُميٌ عن رؤيةِ طريقه، ولو كانتْ لهم حواسُّ ظاهرة، ما داموا لا ينتفعونَ بها. إنهم لا يفهمونَ شيئاً لأنهم لا يتدبَّرونَ الآياتِ والحقائق، ولا يتأمَّلونَ فيما يرونَهُ من الدلائلِ الواضحةِ والأمورِ النافعة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة : 172].
172- أيها المؤمنون، كُلوا من الحلالِ الطيِّبِ الطاهرِ المستلذِّ الذي رزقكم الله، واشكروهُ على ذلك إنْ كنتُم تعبدونَهُ حقَّ العبادة، فإن الشكرَ من العبادة، وإنه من أسبابِ قبولها والجزاءِ عليها.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة : 173].
173- وخذوا أحكامَ الحلالِ والحرامِ من الله الخالقِ الرازق، فإنه لا يُحلُّ إلا طيِّباً، ولا يحرِّمُ إلا ما خبثَ وكان فيه ضرر.
وقد حرَّمَ عليكم أكلَ الميتة التي لم تُذبح، ما عدا السمكَ والجراد. وكذلك حرَّمَ الدم، ولحمَ الخنزير، سواءٌ ذُبحَ أو ماتَ حتفَ أنفه، وما ذُبحَ على غيرِ اسمِ الله، من الأصنامِ والطواغيتِ ونحوها.
ومن ألجأتْهُ الضرورةُ إلى أكلِها وفقدَ غيرَها من الأطعمة، فلا بأسَ من أكلها، من غيرِ بغيٍ ولا اعتداء: من غيرِ أن يُؤْثِرَ نفسَهُ في هذه الضرورةِ على مضطرٍّ آخرَ مثلِه، ولا أن يأكلَ زيادةً على سدٍّ جوعته.(/15)
فالله يغفرُ له عندئذٍ ما أكلَ من الحرام، وهو رحيمٌ إذْ أحلَّ له ذلك في حالِ الاضطرار.(/16)
العنوان: الواضح في التفسير الحلقة السادسة
رقم المقالة: 1686
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الواضح في التفسير
الحلقة السادسة
سورة البقرة
( الآيات 174 – 195 )
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:174].
74 – إن الذين كتموا ما أنزلَ الله في الكتبِ من صفةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وخاصَّة اليهود، حتى لا تذهبَ وجاهتُهم ورئاستُهم أمامَ العرب، وكانوا يتلقَّون منهم التحفَ والهدايا تعظيماً لشأنهم وعلمهم، كما يأكلونَ الرشاوي مقابلَ تحليلٍ أو تحريم، فخَشُوا إنْ هم أظهروا أوصافَهُ صلى الله عليه وسلم أن يتَّبعَهُ الناسُ ويتركوهم، فكتموا ذلك، إبقاءً على ما كان يحصلُ لهم من ثمنٍ قليلٍ مقابلَ أمرٍ عظيم، فباعوا دينهم مقابلَ نزْرٍ يسيرٍ من المال، فكانوا من الخاسرين.
وسوفَ يأكلونَ ناراً تتأجَّجُ في بطونهم يومَ القيامة، جزاءَ ما كانوا يأكلونَهُ مقابلَ كتمانِ الحقّ. ولا يكلِّمُهم الله غضباً عليهم. ولا يُثني عليهم خيراً، بل يعذِّبهم عذاباً مؤلماً شديداً.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالهُدَى وَالعَذَابَ بِالمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175].
175 – لقد اشترَوا الباطلَ بالحقّ، وباعوا الهُدى بالضلال، عندما كتموا البشارةَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولم يتَّبعوه، ورضوا بالكفرِ والتكذيبِ والكتمان. لقد باعوا – إذن – المغفرةَ واشتروا العذاب. فما أعجبَ حالَهم! وما أحرصَهم على التهالكِ على دخول النارِ والصبرِ عليها، عندما تعاطَوا أسبابَ ذلك، وتنافسوا فيه، قصداً واختياراً!(/1)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الكِتَابَ بِالحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176].
176 – وقد استحقُُّوا كلَّ هذا العذاب؛ لأن اللهَ لم يُنزِلْ كُتبَهُ على الأنبياءِ عبثاً، ولم يأخذِ المواثيقَ من الأممِ بدونِ حساب، بل إن كلَّ ذلك حقٌّ والتزامٌ ومسؤولية، فمن أبى وخان، وجحدَ وكتم، استحقَّ العذابَ والنَّكال.
وهؤلاءِ الذين اختلفوا في الكتاب، فآمنوا ببعضهِ وكفروا ببعضهِ الآخر، وأوَّلوا منه أشياء، ثم وصفوا القرآنَ بأوصافٍ باطلة، هم في اختلافٍ شديد وبُعدٍ عن الحقِّ والصواب، مستوجبٍ لأشدِّ العذاب.
{لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [البقرة:177].
177 – عندما أمرَ الله المسلمينَ أوَّلاً بالتوجُّه إلى بيتِ المقدس، ثم حوَّلهم إلى الكعبة، شقَّ ذلك على طائفةٍ من أهل الكتابِ وبعضِ المسلمين، فبيَّن في هذه الآيةِ العظيمة أن المهمَّ في هذا هو التسليمُ والطاعةُ والامتثالُ لأمرِ الله.(/2)
فليستِ الغايةُ من التوجُّهِ إلى المشرقِ والمغربِ هو الجهةُ بعينها، ولا القيامُ بحركاتٍ ظاهرةٍ نحوَها، فلا تكمنُ الخيريَّةُ في هذه الأمورِ مجرَّدةً عن الدافعِ من ورائها وطاعةِ الآمرِ بها، فجماعُ الخيرِ هو في العقيدةِ الصحيحة، والطاعةِ لله، والتسليمِ بأمره، الذي يعطي القيمةَ والقبولَ لتلكَ الأعمال، الإيمانُ به – عزَّ وجلَّ – أوَّلاً إيماناً عميقاً، وباليوم الآخرِ وما فيه من جزاءٍ وحساب، ونعيمٍ وعذاب، وبالملائكةِ جندهِ ورسلهِ بينه وبين عباده، وبالكتابِ الحقِّ المُنزَلِ من عند اللهِ على رسولهِ لهدايةِ عباده، آخرُها القرآن، الذي نسخَ كلَّ ما قبلَهُ من الكتب. وبأنبياءِ اللهِ كلِّهم، حتى خاتمَِهم محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، من غير تفرقةًٍ بينهم كما فعلَ أهلُ الكتاب.
والمؤمنُ الصادقُ أيضاً هو مَنْ أنفقَ من مالهِ وهو محبٌّ له راغبٌ فيه، فأعطاهُ لأهلهِ وأقربائه، واليتامى الذين فَقدوا آباءَهم وكانوا صغاراً ضعفاء، والمساكينِ الذين لا يجدونَ ما يكفيهم، وابنِ السبيلِ الذي نَفِدَتْ نفقتهُ وهو بعيدٌ عن وطنه، والسائلينَ الذين ألجأتهم الحاجةُ والضرورةُ إلى السؤال، وفي الرقاب: العبيدِ الذين يريدونَ أن يُصبحوا أحراراً ولا يجدونَ المبلغَ الكافيَ لإعطائهِ أسيادَهم من أجلِ ذلك.
ثم حافظَ على عباداته، فأقامَ الصلاةَ المفروضةَ بشروطِها وأركانها، وأدَّى زكاةَ ماله. وأن يكونَ من الأوفياءِ بعهودهم إذا عاهدوا، فلا يخونُ ولا يغدرُ كالمنافقينَ ومن حذا حذوهم.
ومن الصابرينَ إذا أصابَهُ مكروه، كفقرٍ أو مرض. وكذلك في حالِ القتالِ ولقاءِ العدوّ.(/3)
فهؤلاءِ الذين اتَّصفوا بهذه الصفاتِ، هم الذين صدَقوا ربَّهم في إيمانهم، وترجموا عقيدتَهم إلى طاعةٍ وعمل. همُ الذين اتَّبعوا الحقّ، وتحرَّوا البِرّ، وأحرزوا الخير. وهمُ الذين ابتعدوا عن المحارمِ والموبقاتِ وسائرِ الرذائل، وفعلوا الطاعاتِ المطلوبةَ منهم؛ امتثالاً لأمرِ الله وخشيةً منه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:178].
178 – أيها المؤمنون، لقد فُرِضَتْ عليكمُ المماثلةُ والمساواةُ في أمرِ القتلِ عمداً، بأنْ يُقتَلَ القاتلُ بالصفةِ التي قُتِل بها المقتول، وأن يُقتلَ الحرُّّ بالحرِّ، كما يُقْتَلُ العبدُ بالعبد، وتُقتَلُ الأنثى بالأنثى؛ إقامةً للعدلِ بين الناس.
وكانت أحياءُ في الجاهليةِ إذا قُتلتْ منهم امرأةُ لم يرضَوا إلا بقتلِ رجلٍ من طرفِ القاتل، وإذا قُتِلَ منهم عبدٌ طلبوا قتلَ حرّ، وإذا قُتلَ منهم وضيعٌ طلبوا قتلَ شريف؛ تعالياً وتمُعُّناً في الانتقام. فبيَّنتْ هذه الآيةُ الكريمةُ حكمَ النوع إذا قُتِلَ نوعُه، كالأنثى بالأنثى، ولم تتعرَّضْ لأحدِ النوعينِ إذا قُتِلَ الآخر، وهذا ما بيَّنتْهُ السنَّةُ من بعد، كأن يُقْتَلُ الذكرُ بالأنثى أيضاً؛ لاعتبارِ المماثلةِ في الدِّين، ولا يُقتلُ مسلمٌ بكافر، ولا حرٌّ بعبد.
فإذا عفا أهلُ القتيل، بأن طلبوا بدلَ الدمِ دِيَةً، وهو مقدارٌ من المالِ يؤدَّى إليهم، فليكنْ ذلكَ مطالبةً جميلةً ومعقولة، وليؤدِّ القاتلُ الدِّيَةَ بإحسانٍ وإكرام، دون بَخْسٍ ولا مماطلة.(/4)
وتشريعُ الدِّيَةِ رحمةٌ من الله، لم تَحِلَّ لأحدٍ قبل أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وإذا حدثَ أن قُتِلَ القاتلُ بعد أخذِ الدِّيَةِ أو قبولها، فلفاعلهِ عذابٌ من اللهِ مؤلمٌ شديد.
{وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
179 – والقتلُ أوفى للقتل، وأوقفُ لسفكِ الدماء، فإنه إذا قُتِلَ القاتلُ سكنتِ الفتنة، وإلا زادتْ وسقطَ أكثرُ من قتيل، مع استحكامِ العداوةِ والبغضاءِ بين الفريقين، وربما الأهلِ والأرحام.
ففي قتلِ القاتلِ حياة، ولو بدا في صورتهِ قتلاً، لأنه حكمٌ عدلٌ باستيفاءِ حقٍّ من سفكِ دمٍ بريء؛ هذا لمن تدبَّرَ وكان من العقلاء، وإنما شُرِعَ القِصاصُ لتبتعدوا من القتل، فلا تَقتُلوا حتى لا تُقتَلوا.
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ} [البقرة:180].
180 – فُرِضَ عليكم إذا اقتربَ أجلُ أحدِكم إنْ تركَ مالاً أن يوصيَ منه لوالديهِ وأقربائهِ بالعدل، حقًّا مؤكداً على المؤمنين.
وكان هذا في ابتداءِ الإسلام، حيث كانتِ الوصيَّةُ فريضةً للوالدينِ والأقربين، ثم نُسِخَتْ بآيةِ الميراث، وصارَ كلٌّ يأخذُ حقَّهُ بأمرٍ موجبٍ من اللهِ ورسوله، ولم يَعُدِ الورثةُ بحاجةٍ إلى وصيَّة، بل لا تجوزُ لهم، ومنهم الوالدان، للحديثِ الصحيح: "لا وصيَّةَ لوارث".
ويبقى حقُّ الأقربين، فإنه تُستحبُّ الوصيَّةُ لهم من الثلثِ المسموحِ به للموصي، استئناساً بآيةِ الوصيَّةِ وشمولها، وللآياتِ والأحاديثِ الواردةِ بالأمرِ ببرِّ الأقاربِ والإحسانِ إليهم.
{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:181].(/5)
181 – فمن غيَّر الوصيَّةَ وحرَّفها، بزيادةٍ أو نقص، أو كتمان، عن الأوصياء، أو الأولياء، أو الشهود، بعدما سمعَ قولَ الموصي أو وصلَ إليه وتحقَّقَ لديه، فإن إثمَ التغييرِ والتبديلِ على من فعلَ ذلك وخانَ الأمانة، ولا شيءَ على الموصي.
وإن اللهََ سميعٌ بما قال الموصي، عليمٌ بتحريفِ المبدِّل وخيانته، وينتظرهُ عقابٌ شديد.
{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:182].
182- فمن علمَ أن الموصيَ قد أخطأ ومالَ عن الحق، وخرجَ عن الحدودِ المأمورِ بها وظلم، كأنْ يوصيَ لابنِ البنتِ ليزيدَ من نصيبِها في الميراث، أو نحوِ ذلك من الوسائل، فللوصيِّ أن يُصلحَ الوصيَّةَ على الوجهِ الشرعيّ، ولا حرجَ عليه في ذلك، وليس هو من التبديلِ والتحريف، بل هو طلبٌ لوجهِ الحق، وتوفيقٌ بين مقصودِ الموصي والأمرِ الشرعيّ. ولهذا المصلحِ مغفرةٌ ورحمة، لأنه أرادَ الحقَّ والعدل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
183 – أيها المؤمنون، لقد فُرِضَ عليكم الصيامُ كما فُرِضَ على الذين من قبلكم من أهلِ الكتاب؛ ليكونَ ذلك عوناً لكم على طاعةِ الله وخشيتهِ والبعدِ عن مناهيه، فإنَّ الصومَ فيه تربيةٌ وتزكية، وتعليمٌ على الطاعةِ والامتثال.
{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184].
184 – وهو أيامٌ معدودات.(/6)
وكان ذلك في ابتداءِ الإسلام، يصومونَ من كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيام، ثم نُسِخَ بصومِ شهرِ رمضان، كما يأتي في الآيةِ التالية.
أو أن المقصودَ بالمعدوداتِ الشهر، ويكونُ التقليلُ تسهيلاً على المكلًّفين، يعني أنها قليلةٌ بالنسبةِ لأيامِ السنة.
فمن كانَ مريضاً مرضاً يضرُّهُ الصوم، أو يعسرُ معه، أو كان مسافراً سفراً تُقْصَرُ به الصلاة، فلا بأسَ عليه أن يُفطر، على أن يقضيَ ما فاتَهُ من ذلك بعدُ.
أما الذين يصومونَهُ ولكن بمشقَّةٍ بالغة، كالشيخِ الكبير، والمريضِ الذي لا يُرجى برؤه، فيُعطي بدلَ صيامِ كلِّ يومٍ طعامَ مسكين، وهو قَدْرُ ما يأكلهُ في يومه. فمن زادَ على ذلكَ فهو أفضل.
والصوم خيرٌ لمن أبيحَ له الإفطارُ إذا لم يجدْ في ذلكَ مشقَّة.
وإذا تبيَّنتمْ هذا وكنتُمْ من أهلِ العلمِ والتدبُّر، علمتم أن الصومَ خيرٌ من ذلك.
وذُكِرَ أن المسلمينَ في بدايةِ الإسلامِ كانوا مخيَّرينَ بين صيامِ عدَّةِ أيام أو إطعامِ المساكين، فبيَّنتِ الآيةُ أن الصومَ أفضلُ لهم من الإطعام.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
185 – إنه شهرُ رمضان، الذي أنزلَ اللهُ فيه القرآنَ العظيم، في ليلةِ القدرِ منه، هادياً للناسِ من الضلالةِ إلى الإيمان، وفيه آياتٌ واضحاتٌ تهدي إلى الحقِّ من الحدودِ والأحكام، لمن تدبَّرها وآمنَ بها حقَّ الإيمان. وبها يُفَرَّقُ بين الحقِّ والباطل، والحلالِ والحرام.(/7)
ولهذا اختارَهُ اللهُ ليكونَ شهرَ الصومِ للمسلمين، فمن حضَرهُ وكان مقيماً سالماً وجبَ عليه صيامُهُ كلِّه.
أما من كانَ به مرضٌ يشقُّ عليه الصيامُ معه، أو يؤذيه، أو كانَ في حالِ سفرٍ لمسافةٍ تقصرُ به الصلاة، فله أن يُفطر، لكنْ عليه أن يَقضيَ هذه الأيامَ إذا تعافى، أو أقام، في الأشهرِ التاليةِ منه.
وإنما رخَّصَ اللهُ لكم الفطرَ في حالاتٍ تيسيراً عليكم، ورحمةً ورأفةً بكم.
وإنما أمركم بقضاءِ ما فات، لتُكملوا عددَ أيامِ الشهرِ المفروضِ عليكم صومُه. ولتذكروا اللهَ وتعظِّموهُ وتكبِّروهُ عند انقضاءِ الصوم، ليلةَ الفطرِ ويومَ العيد؛ شكراً له على ما هداكمْ إلى هذه الطاعةِ العظيمة، التي تزيدُ من حسناتِكم، وتقرِّبُكم من رحمةِ الله، ويُدخلكم بها الجنة.
ولتشكروهُ على هذه النعمةِ الجليلة، وما يسَّرَهُ عليكم من الفطرِ فيه للضرورة.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
186 – وإذا سألكَ الناسُ عني أيُّها النبيُّ الكريم، فإني قريب، سميعٌ مطَّلع، أجيبُ دعوةَ من يدعوني، فليستجيبوا لندائي إذا دعوتُهم للإيمان، وليمتثلوا أوامري إذا شرعتُ لهم الأحكام، وليثبتوا على الإيمان، وليداوموا على الطاعة، لعلهم بذلك يهتدونَ ويعملونَ الأعمالَ الصالحة.(/8)
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة:187].
187 – كان أمرُ الصومِ في شهرِ رمضانَ أوَّلاً يختلفُ شيءٌ منه عمّا شُرِعَ من بعد، حيث كانَ مسموحاً للصائمِ أن يأكلَ ويشربَ وينكحَ بعد الإفطارِ ما لم ينم، فإذا نامَ حرمَ عليه ذلك. وهذا التحريمُ ينالُ الذي لم يُفطرْ أيضاً، يعني أنه لو نامَ ولم يُفطرْ لم يجزْ له الإفطارُ بعد. فشقَّ ذلك على الصحابةِ رضوانُ الله عليهم، وأُغميَ على رجلٍ منهم، كما وقعَ بعضُهم على نسائه، فنزلتِ الآيةُ الكريمة، ففرحوا فرحاً شديداً، وفيها:
لقد أحلَّ الله لكم الجِماعَ في ليلةِ الصيام، فأنتم سكنٌ وسترٌ لنسائكم، تلمسوهنَّ وتضاجعوهنَّ ولا تصبرونَ عنهنَّ مع كثرةِ ملابستكمْ لهنّ. وهنَّ كذلك.
وقد علمَ الله أنكم كنتُمْ تخونونَ أنفُسَكم وتعرِّضونها للعقابِ بمواقعتهنَّ وقد نُهيتم عن ذلك، فتابَ عليكم عندما تُبتم من ذلك وعفا عنكم، فلا بأسَ الآنَ من مباشرتهنّ، واطلبوا ما قدَّرَهُ اللهُ لكم من الذرِّية.
وكلوا واشربوا في الليل حتى يتبيَّنَ لكم بياضُ النهار من سوادِ الليل، وهو الفجر، ثم أكملوا صومَكم من هذا الوقتِ حتى يحينَ المغربُ من الليل.(/9)
ولا تجامعوا نساءَكم وأنتم مقيمونَ في المساجدِ بنيَّةِ الاعتكاف، يعني إذا خرجتُم منها إلى البيوتِ لحاجة.
وتلك الأحكامُ المذكورةُ في الصيامِ والاعتكافِ حدودٌ حدَّها اللهُ فلا تقربوها، فضلاً من أن تتجاوزوها.يعني لاتقرَبوا الحدَّ الحاجزَ بين الحلالِ والحرامِ خشيةَ أن تقعوا فيه، وهو مبالغةٌ في النهي عن تخطِّيه.
وهكذا يبيِّنُ اللهُ الأحكامَ المشروعةَ للناسِ بوضوحٍ ليهتدوا بها، ولئلاّ يخالفوا أوامرَهُ ونواهيه.
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].
188 – ولا تأكلوا أموالَ بعضِكم بعضاً بدونِ حقّ، كأنْ يكونَ على الرجلِ دَيْنٌ ولا بيِّنةَ على ذلك، فيجحده، ويخاصمُ به القضاةَ والحكام، وهو يعرفُ أن الحقَّ عليه، وأنه آكلُ حرام. أو بأيِّ شكلٍ آخرَ يوجبُ إثماً، كشهادةِ الزُّور، واليمينِ الفاجرة، والسرقة، والغَصْب، والقِمار، وأكلِ أموالِ اليتامى، وجحدِ الودائع. وإنَّ ارتكابَ المعاصي مع العلمِ بها أعظمُ جُرْماً.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189].
189 – ويسألُكَ الناسُ – أيها الرسولُ الكريمُ – عن فائدةِ الأهلَّةِ والحكمةِ منها، فقل لهم: لقد جعلها اللهُ مواقيتَ للناس، يعرفونَ بها أوقاتَ عباداتهم، من الصيام، والزكاة، والحجّ، والكفّارات، ويعرفونَ بها حلولَ أجَلِ الدَّين، وعِدَّةَ النساء، وأوقاتَ الزراعة، وما إلى ذلك.(/10)
وليس من الخيرِ أن تدخلوا البيوتَ من فُرَجٍ وأنقابٍ وتتركوا الأبوابَ إذا كنتم مُحْرِمين، ولكنَّ الخيرَ من خشيَ اللهَ وتركَ مخالفةَ أمره، فادخلوا البيوتَ من أبوابها كالعادةِ ولو كنتم مُحْرِمين، وكونوا على طاعةٍ واستقامةٍ لعلكم تفوزونَ بالبرِّ والهدى.
وكانتِ الأنصارُ وقبائلُ من العربِ تفعلُ ذلك، فنزلتِ الآيةُ الكريمة.
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
190 – وقاتلوا في سبيلِ اللهِ وإعلاءِ دينهِ الذين يقاتلونكم من الكفّار، ولا تعتدوا في ذلك، كقتلِ النساءِ والصبيانِ الشيوخِ والرهبان، وكالتمثيلِ بالقتلى، وكحرقِ الأشجارِ وقتلِ الحيواناتِ لغيرِ مصلحة، فإن الله لا يحبُّ المتجاوزينَ عن حدودِ ما شُرِعَ لهم.
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ} [البقرة:191].
191 – وتطوَّرَ أمرُ الجهادِ فقال اللهُ ما معناه: واقتلوا المشركينَ أينما وجدتموهم، دفاعاً وهجوماً، وأخرجوهم من ديارِهم كما أخرجوكم من ديارِكم، وما هم عليه من الكفرِ والشركِ أعظمُ من القتل، حيث كانوا يَفْتِنونكم عن دينكم، ويعذِّبونكم، ويصادرونَ أموالكم، ولا يسمحونَ لكم بإقامةِ شعائرِ دينِكم، ويقاتلونكم ليبيدوكم، انطلاقاً من ملَّةِ الكفرِ التي هم عليها.
ولا تبدؤوهم بالقتالِ عند المسجدِ الحرامِ حتى يبدؤوا هم به، فإذا قاتلوكم فيه فلا تبالوا بقتالهم، فإن هذا جزاءُ الكافرينَ المعتدين، يُفْعَلُ بهم مثلما فعلوا.
{فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:192].(/11)
192 – فإذا انتهوا عن القتالِ والكفر، فإن اللهََ يغفرُ لهم ما سلف، ويرحمهم، ولو أنهم قتلوا المسلمينَ في حرمِ الله، فإن الله يتوبُ على من تابَ مهما تعاظمتْ ذنوبه، ويغفرُها له.
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193].
193 – وقاتلوا الكفّارَ حتى لا يبقى هناك مشرك، ويكونَ الدينُ خالصاً لله، ظاهراً على سائرِ الأديان، لا نصيبَ للشيطانِ فيه، ولا أمرَ للكفّارِ عليه. فإذا انتهوا عن الشركِ وقتالِ المؤمنينَ فكفُّوا عنهم، ولا تعتدوا عليهم، فإنه لا عقوبةَ إلا للظالم، وهؤلاءِ تابوا من ظلمهم.
{الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ} [البقرة:194].
194 – وإذا قاتلكم المشركونَ في الأشهرِ الحرم – وهي رجبٌ وذو القعدةِ وذو الحجَّةِ والمَّحرمُ – فقاتلوهم فيها، فإنَّ كلَّ حرمةٍ أو أمرٍ معظَّمٍ يُهْتَكُ من قِبَلهم يُفْعَلُ بهم مثله، فقاتلوهم جزاءَ اعتدائهم عليكم، وأطيعوا اللهََ في أموركم واتَّقوه، فلا تبادروهم بالقتالِ في الحَرَمِ أو الأشهرِ الحرُم، ولا تعتدوا إذا انتصرتم، فإن اللهََ مع الذين يمتثلونَ أوامرَهُ بالنصرِ والتأييدِ والتمكين.
{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
195– قال بعضُ الأنصارِ لبعضهم سرّاً: إن أموالنا قد ضاعت، وإن اللهَ قد أعزَّ الإسلام، وكثرَ ناصروه، فلو أنّا أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاعَ منها. فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ فيهم.(/12)
قال أبو أيوبٍ الأنصاري -رضيَ اللهُ عنه- كما في الحديثِ الصحيح: فكانتِ التهلكةُ: الإقامةَ على الأموالِ وإصلاحِها، وتَرْكَنا الغزو.
وفي الآيةِ توجيهٌ عامٌّ وأمرٌ للمسلمينَ بما هو مطلوبٌ منهم: أنفقوا من أموالِكم في الجهادِ وسُبلِ الخير، وإنَّ تَرْكَ ذلك خسارةٌ وهلاك، فأحسِنوا أعمالَكم وأخلاقَكم، وأنفقوا على الجهادِ وأهلِ الحاجة، فإن اللهَ يريدُ الخيرَ بالمحسنين.(/13)
العنوان: الواضح في التفسير الحلقة السابعة
رقم المقالة: 1884
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الواضح في التفسير
الحلقة السابعة
سورة البقرة
(الآيات 196 – 225)
{وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [البقرة:196].
196 – وإذا بدأتمُ الحجَّ والعمرةَ فأتمُّوا مناسكهما، فإذا حُبستُمْ ومُنِعتُمْ من الوصولِ إلى البيتِ الحرامِ ولم تتمكنوا من إتمامِ المناسك، فبإمكانِكم التحلُّلُ منها بذبحِ هدْي، من إبلٍ أو بقرٍ أو شياه.
والتحلُّلُ هو الخروجُ من الإحرامِ بالطريقِ الشرعيّ.
ولا تحلقوا رؤوسكم – وهو علامةٌ على التحلُّلِ- حتى تعلموا أن الهَدْيَ المبعوثَ إلى الحرمِ قد بلغَ المكانَ الذي يحلُّ نحره، وهو النحرُ كما ذُكر.
فمن كان مريضاً مرضاً يُحوجهُ إلى الحلق، أو به أذىً من رأسه، كقملٍ وجراحة، فعليه فديةٌ إنْ حلق: وهو أن يصومَ ثلاثةَ أيام، أو يتصدَّقَ على ستَّةِ مساكين، أو يذبحَ شاةً أو غيرَها مما ذُكر، يتصدَّقُ ويذبحُ في الحرم.(/1)
فإذا تمكنتُمْ من أداءِ المناسك، فمن كان منكم متمتِّعاً بالعمرةٍ إلى الحجّ، أي اعتمرَ ثم نوى الحجّ، أو نواهما معاً، أي قرنَ بينهما، فعليه أن يذبحَ ما قَدِرَ عليه من الهَدْي، وأقلُّهُ شاة، فإنْ لم يقدرْ على ذلك فليصُمْ ثلاثةَ أيامٍ وهو مُحْرِم، وسبعةً إذا رجعَ إلى وطنه، فهي عشرةُ أيام.
وهذا التمتُّعُ للناسِ ما عدا أهلِ مكةَ والحرم، ويلحقُ بهم من كان قريباً من الحرمِ على مسافةِ قصرِ الصلاةِ عند الشافعيِّ رحمَهُ الله.
واخشَوا اللهَ ونفِّذوا ما يأمركم به وينهاكم عنه، والله يعاقبُ من خالفَهُ عقوبةً شديدة.
{الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
197 – وأشهرُ الحجِّ معروفة، وهي شوَّالٌ وذو القعدةِ وعشرٌ من ذي الحجَّة، فمن نوى فيهن الحجَّ وأوجبَهُ على نفسه، فليلتزمْ بآدابه: فلا يجوزُ فيه الجِماعُ ولا دواعيه، ولا ارتكابُ المعاصي والفواحشِ والمحظورات، ويعني التأكيدَ على ذلك في أثناءِ الحجِّ الذي قُصِدَ لطاعة الله، ولا جدالَ ولا مخاصمةَ في الحجّ، فلا يماري الحاجُّ أخاهُ حتى يُغضبه، ولا يسبُّهُ ولا ينازعه، وخاصَّةً رفقتَهُ وخدَمه.
وما تفعلونَهُ من أعمالٍ صالحةٍ يعلمُها الله، ويجزي بها خيرَ الجزاء.
واجلبوا معكم من الزادِ ما يكفُّ وجوهَكم عن السؤالِ في الحجِّ ولا تتواكلوا.
وإن خيرَ ما تزوَّدتم به هو ما ينفعُكم في الآخرةِ من التقوى والعملِ الصالحِ والطاعة.
واخشَوا عقابي إذا خالفتُمْ ما أمرتُكم به يا ذوي الأفهامِ وأهلَ العقولِ الراجحة.(/2)
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198].
198 – ولا حرجَ عليكم إذا تكسَّبتُمْ وتاجرتُمْ في الحجّ.
وإذا دُفِعتُم من عرفاتٍ بعد الوقوفِ بها، فاذكروا الله بالتلبيةِ والتهليلِ والدعاءِ عند المشعرِ الحرام. وهو جبلٌ بآخرِ المزدلفة، وقد وقفَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم هناكَ "فاستقبلَ القِبلة، فدعاهُ وكبَّرَهُ وهلَّلَهُ ووحَّده" كما في صحيحِ مسلم.
واذكروا الله كما هداكم لمعالم ِدينهِ ومناسكِ حجِّه، وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199].
199 – ثم اندفِعوا من عرفاتٍ كما كان الناسُ يندفعونَ منه من لدنْ إبراهيمَ عليه السلام، وذلك للمبيتِ بمزدلفةَ ورمي الجِمارِ وإكمالِ سائرِ المناسك.
وكانت قريشٌ وما وَلَدتْ لا تقفُ بعرفاتٍ مثلَ باقي القبائل، ومن ثم لا تَفيضُ منه، فنزلتِ الآيةُ فيهم، كما رواهُ البخاريُّ وغيره.
واستغفروا الله من جاهليتِكم في تغييرِ المناسك، فإنه يغفرُ ذنبَ المستغفرِ ويرحمه.
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة:200].
200 – فإذا أنهيتُم مناسكَ الحجِّ فاحمَدوا اللهَ واشكروهُ على توفيقهِ إياكم، وادعوهُ وزيدوا من ذكرهِ كما يلهجُ الصبيُّ بذكرِ أمِّهِ وأبيه، وكما تذكرونَ آباءَكم في مفاخرهم وأيامهم، بل أكثرَ ذكراً، فإنه ربُّكم وربُّ آبائكم والمنعمُ عليكم جميعاً.(/3)
ومن الناسِ مَنْ لم يوفَّقْ في الدعاء، حيثُ يقولُ أحدهم: ربَّنا زِدْنا من النعمِ والخيراتِ في الدنيا، واجعلْ هذا العامَ عامَ خصبٍ وغيث. فمثلُ هذا لا نصيبَ له في الآخرة، لأنه لم يسألْ لنفسهِ خيرَها.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
201 – لكنَّ هناكَ من يدعو فيُحسنُ الدعاء، ويجمعُ بين خيري الدنيا والآخرة، فيقول: ربَّنا أعطِنا جماعَ الخيرِ في الدنيا والآخرة.
وهو كأنْ يدعوَ لنفسهِ بالرزقِ الواسع، والزوجةِ الصالحة، والمركبِ الهنيء، والثناءِ الطيِّب، والعلمِ النافع.
كما يدعو لنفسهِ بحسنِ الخاتمة، والأمنِ يومَ الحشرِ والحساب، ودخولِ الجنةِ مع الأبرار، والوقايةِ من عذابِ النار.
{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} [البقرة:202].
202 – فهؤلاءِ سنعطيهم نصيبَهم الذي دَعَوا به، من قبولِ حجٍّ وغيره، والله سريعٌ في الحساب، يحاسبُ عبادَهُ بسرعةٍ فائقة، على كثرتهم وكثرةِ أعمالهم.
{وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:203].
203 – واذكروا الله وكبِّروهُ في أيامِ التشريق، وهي يومُ عيدِ الأضحى مع الأيامِ الثلاثةِ التاليةِ له، وهي أيامُ أكلٍ وشربٍ وذِكر، لا يجوزُ صومُها. فمن أرادَ أن ينفرَ من منىً ثانيَ أيامِ التشريقِ فلا حرجَ عليه، ومن أرادَ أن يبقى إلى اليومِ الثالث ويرميَ الجمارَ فلا حرجَ عليه أيضاً.
وكانوا في الجاهليةِ يعيِّرونَ المتعجِّلَ ويؤثِّمونَ المتأخِّر، فبيِّنتِ الآيةُ عدمَ القَدْحِ في ذلك. وهو اللائقُ بمن حجَّ للهِ والتزمَ بالمناسكِ كما شرعَ الإسلام.(/4)
فكونوا على تقوىً من الله وخشيةٍ منه، بامتثالِ الأوامرِ وتركِ المحظوراتِ، واحذروا الإخلالَ بما ذُكِرَ من الأحكام، وتيقَّنوا بأنكم ستعودونَ إلى الحياةِ بعد موتكم، فيجازيكم الله على أعمالكم ويحاسبُكم عليها.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ} [البقرة:204].
204 – وهناكَ من الناسِ منافقون، يقولُ لكَ أحدُهم كلاماً جميلاً في ظاهره، يُنْبِئُ عن محبَّةٍ وطاعة، ويحلفُ أنه صادقٌ في إيمانهِ وموقفه، وهو في الحقيقةِ من أشدِّ الخصماءِ لكَ وللدِّين، فهو يَكذِبُ ويَفْجُر، ولا يوافقُ باطنهُ ظاهرَه، وما كلامهُ هذا سوى تمويهٍ وسترٍ يُخفيه، خشيةَ أن ينالَهُ سيفُ الإسلام، أو أنه يتحيَّنُ الفرصةَ ليؤذيَ الإسلامَ والمسلمين.
{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة:205].
205 – وإذا مضى أحدُ هؤلاءِ المنافقينَ الكذّابين عمدَ إلى بثِّ الفسادِ وزرعِ الشرِّ والإضرارِ بكلِّ ما هو حيّ، قاصداً إهلاكَ وتخريبَ البيئةِ ونشرَ الخرابِ والدمار، فلا مبادئَ ساميةٌ عنده، ولا خوفَ لديه من الحساب، حيث لا يؤمنُ به، بل هو كتلةٌ من حقدٍ وشرٍّ وغدر، والله يبغضُ الفساد، ولا يحبُّ من اتَّصفَ به، ولا تخفَى عليه سرائرُ الناس، فلا تغرَّنكم المظاهرُ والكلماتُ المعسولة.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ} [البقرة:206].(/5)
206 – وإذا وُعِظَ أحدُ هؤلاءِ المنافقينَ وقيلَ له: احذرْ غضبَ الله، وانتهِ من فعالك السيَّئة، وارجعْ إلى الحقّ، أخذتْهُ الحميَّةُ والغضب، وتعاظمَ واستكبرَ أن يوجَّهَ له مثلُ هذا التذكيرِ والإنكار، لما امتلأ قلبهُ من الكفرِ والعصيان، فما استحيا من الله، ولا سمعَ كلامَ أحد، وهو في واجهتهمْ يتظاهرُ بالإيمانِ والمحبَّةِ والطاعة!
ويكفي أن يكونَ نصيبَهُ النارُ الفظيعةُ يومَ الدين، جزاءَ إفسادهِ وفجورهِ وكذبهِ ونفاقه، وبئسَ المكانُ الذي يكونُ فيه المرءُ معذَّباً محترقاً تأتي النارُ حتى على فؤاده، وهو يطلبُ فيه الموت، ولكن لا موتَ ولا حياة، ولكنه نارٌ مؤجَّجةٌ وعذابٌ مستمر.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ} [البقرة:207].
207 – ومما يُفرحُ القلبَ مقابلَ هؤلاءِ المنافقينَ الفجَرة، أنْ يكونَ من المؤمنينَ من يَهَبُ ما ملكَ لينفذَ بإيمانه؛ طلباً لرضى الله، كما فعلَ صهيبٌ الروميّ، عندما أسلمَ بمكةَ وأرادَ الهجرةَ إلى المدينة، فمُنع، فتجرَّدَ من مالهِ وتخلَّصَ منهم بذلك. فمثلُ هذا يرحمهُ الله.
والآيةُ في كلِّ مجاهدٍ في سبيل الله، يَهَبُ روحَهُ ليرضَى عنه الله، تاركاً الدنيا وما فيها، لينتصرَ لدينِ الله، فتنتشرُ المبادئُ العظيمة، والأحكامُ العادلة. فشتّانَ بين المنافقِ وما طلب، وبين المؤمنِ المجاهدِ وما وهب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].
208 – أيها المؤمنون، خذوا بجميعِ عُرى الإسلامِ وشرائعهِ وشُعَبِ إيمانه، والتزموا بجميعِ أوامرهِ وأحكامه، وانتهوا عن جميعِ زواجره، واجتنبوا ما يأمركمْ به الشيطان، فإنه عدوٌّ ظاهرٌ لكم، لا يأمركمْ إلا بالسوءِ والفحشاءِ لتكونوا من أصحابِ النار.(/6)
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209].
209 – فإذا مِلتمْ عن الإسلامِ وكفرتمْ بالحقِّ بعد أن عرفتموهُ وتأكدتمْ من صحَّتهِ بالحججِ والبراهين، فاعلموا أن الله غالبٌ لا يفوتهُ شيء، ولا يُعجزهُ الانتقامُ منكم، حكيمٌ صائبُ الحُكمِ دائماً، لا يتركُ ما تقتضيهِ الحكمةُ من مؤاخذةِ العُصاةِ المتكبِّرين.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210].
210 – إن هؤلاءِ المنحرفينَ عن الإسلام، لا ينتظرونَ سوى الساعةِ الحاسمةِ يومَ القيامة، ليقضيَ اللهُ القضاءَ الفصلَ بين العباد، يأتي سبحانَهُ في ظُلَلٍ من الغمام، والملائكةُ الذين ينفِّذونَ أوامره.
وانتهى الأمرُ بقضاءِ الله العدل، فلا خطأ فيه ولا مراجعةَ عليه، وتمَّ أمرُ إهلاكهم بما يستحقُّونهُ من عذابٍ مؤلم. وليُعلمَ أن الأمرَ الأخيرَ هو للهِ سبحانه، لا لغيره، يجازي كلاًّ بعمله.
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [البقرة:211].
211 – اسألْ بني إسرائيلَ كم آتيناهم من أدلةٍ بيِّنة، وبراهينَ كثيرة، على صدقِ نبيِّهم موسى عليه الصلاةُ والسلامُ فيما جاءَ به، ومع ذلك أعرضوا عنها، واستبدلوا الكفرَ بالإيمانِ بها!
ومن لم يستسلمْ لتوجيهِ الله، وبدَّلَ نعمةَ الإيمانِ التي جاءتْهُ بالشكِّ والإعراض، فإن الله ذو عقابٍ شديد، ولسوفَ يُجازيهم به.
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212].(/7)
212 – لقد زُيِّنتِ الحياةُ الدنيا في عيونِ الكافرينَ الذين رَضُوا برفاهيتها، وتهالكوا عليها، وتشبَّثوا بها، واطمأنُّوا إليها، ولم يتجاوزوها إلى ما هو أرقى وأسمى، وسَخِروا من المؤمنينَ الذين زَهِدوا فيها، وفضَّلوا حياةَ الجهادِ والدعوةِ والعبادة، وأنفقوا ما عندهم ابتغاءَ وجهِ الله، ولو كان ما عندهم قليلاً. فكانوا من المُكرَمينَ الذين حازوا الحظَّ الأوفرَ والدرجةَ العليا، والآخرونَ ذُلُّوا وأُهينوا وكانوا في الدركاتِ السفلى.
والله يدَّخرُ الخيرَ للمتَّقين، وهو الرازقُ الذي يمنحُ من يشاءُ من عبادهِ العطاءَ الجزل، بلا حصرٍ ولا تعداد، جزاءَ ما أنفقوا من مالٍ ووقتٍ في سبيلِ الله.
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
213 – كان الناسُ على شريعةٍ واحدةٍ من الحقّ، ثم اختلفوا وصاروا يعبدونَ الأصنامَ وغيرَها، فأرسلَ الله إليهمُ الأنبياءَ ليبشِّروهم بالجزاءِ الحسنِ إنْ هم أطاعوا وثَبَتوا على الحق، وليخوِّفوهم من العقابِ الشديدِ إن هم خالفوا وجانبوا الحقّ. وأنزلَ معهم الكتبَ بالحقِّ والعدلِ والقولِ الفصل، ليتدبَّرَها الناسُ ويتحاكموا إلى ما فيها من أوامرَ ونواه، فلا حقَّ في غيرها، ولا حكمَ معها، ولا قولَ بعدها.(/8)
وما اختلفَ في هذه الكتبِ إلا الذين نزلتْ فيهم بعدما قامتْ عليهم الحججُ ووضحَ لهم الأمرُ ورسخَ في عقولهم. وما حملهم على هذا الاختلافِ إلا الحسدُ والطمع، والظلمُ والهوى، والخصومةُ واللجاجة، والعنادُ والتمرُّدُ على الحقّ، والتهالكُ على الدنيا.
وقد هدى الله بلطفهِ وتيسيرهِ المؤمنينَ إلى الحقِّ فيما اختُلِفَ فيه من ذلك، لصفاءِ نفوسِهم، واستعدادِهم لقبولِ الحقّ، فأقاموا على الإخلاصِ للهِ وحده، وعبادتهِ على بيِّنةٍ واستقامة، واعتزلوا الخلاف، وتركوا الأهواءَ والنزوات، والخصومةَ والعناد.
واللهُ يهدي من يشاءُ من خلقهِ إلى الطريقِ المستقيم، ممن يعلمُ فيهم الرغبةَ في اتِّباعِ الهدى وتقبُّلِ الحق. وهو الهادي إلى سواءِ السبيل.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
214 – وهل ظننتمْ أيها المسلمونَ أنكم ستنالونَ الجنَّةَ دونَ أن تُبْتَلوا وتُمْتَحنوا، ودون أن يُصيبَكم مثلما أصابَ الذين مِنْ قبلكم، وقد نالتْ منهم الأمراضُ والآلام، والمصائبُ والكوارث، والفقرُ والجهدُ والخوف؛ ليتبيَّنَ بذلك كلِّهِ صبرُكم وإيمانُكم وثباتُكم على الحقّ، الذي ينبغي ألاّ تهزَّهُ الاختبارات، ولا تعصفَ به البلوات. وقد أُزعجوا إزعاجاً شديداًً وزُلزلوا خوفاً من الأعداء، وامتُحنوا امتحاناً عظيماً، حتى صارَ الرسولُ وأتباعهُ المؤمنونَ يدعونَ بالنصرِ وقربِ الفرجِ والمخرجِ من هذا الضِّيقِ الشديد.
وإنَّ نصرَ الله قريبٌ ممن صبرَ على مكابدةِ المشاقّ، وجاهدَ حقَّ الجهاد، فكان أهلاً للنصر، وإن مع العسرِ يُسراً وتوفيقاً، ونصراً وفرَجاً.(/9)
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215].
215 – يسألُكَ أصحابُكَ يا محمَّدُ -صلى الله عليه وسلم- ما الذي ينفقونَهْ من أموالهم وعلى من؟ فقل لهم: الأَولى صرفُها على من له حقٌّ عليكم، وهم: الوالدانِ الواجبُ برُّهما، والأهل: الأقربُ منهم فالأقرب، واليتامى من الصغارِ الذين فَقدوا آباءَهم وهم مظنَّةُ الحاجةِ لعدمِ قدرتهم على الكسب، والمساكينُ الذين لا يجدونَ ما يكفيهم، والغريبُ الذي انقطعَ عن بلدهِ ولا يجدُ ما يبلغهُ إليه.
وما تُنفقونَ من أموالٍ على هؤلاءِ المحتاجين، وما تفعلونَ من الطاعاتِ والقربات، يعلمُها الله، وسوفَ يحفظُها لكم، ويجازيكم عليها أفضلَ الجزاء.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
216 – لقد فرضَ الله عليكم الجهادَ وهو شاقٌّ عليكم، تكرههُ النفوسُ وتستثقله، ولكنْ ربما كرهتُمْ شيئاً وفيه خيرٌ لكم، فإن نتيجتَهُ إنْ شاءَ اللهُ النصرُ على الأعداءِ وفتحُ بلادِ الكفرِ ورفعُ رايةِ الإسلام، أو الشهادةُ التي يدخلُ بها المرءُ الجنة. وعسى أن تحبُّوا شيئاً وفيه شرٌّ لكم، فإن القعودَ عن الجهادِ والركونَ إلى الكسلِ والرفاهيةِ يعطي نتيجةً عكسية، فيستولي الأعداءُ على البلاد، وينهزمُ المسلمون، ويتحكَّمُ الكفّارُ في شؤونهم.
فالجهادُ سببٌ لحصول النصرِ والأمن.(/10)
والله أعلمُ منكم بمآلِ الأمور، وأخبرُ بما فيه صلاحُكم في دنياكم وأخراكم، فالتزموا جانبَ الجهادِ والقوَّة. وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيحِ مسلم: "من ماتَ ولم يغزُ ولم يحدِّثْ به نفسَهُ، ماتَ على شُعبةٍ من نفاق".
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].
217 – ويسألونكَ عن القتالِ في الأشهرِ الحُرم، وهي رجبٌ وذو القعدةِ وذو الحجةِ والمحرَّم، فقل: لا يحلُّ ذلك، بل هو أمرٌ جَلَلٌ وذنبٌ كبير.
وإنَّ منعَ الناسِ عن الدِّينِ الحق، والكفرَ باللهِ العظيم، وبالمسجدِ الحرام، عندما انتهكَ المشركونَ حرمته، وآذوا المسلمينَ من أهله، وفتنوهم في دينهم، وعذَّبوهم ليردُّوهم إلى الكفر، وأخرجوهم من حَرَمهم، هو أشدُّ وأعظمُ من القتلِ في هذه الأشهر.
وهم مقيمونَ على هذا المسلكِ الخبيث، فلا يزالونَ يقاتلونكم غيرَ تائبينَ ولا نازعينَ عن ذلك، حتى يُعيدوكم إلى ملَّةِ الكفرِ والضلال، إذا قَدِروا عليه.
ومن يرجعْ منكمْ عن دينهِ ويمتْ على الكفر، فقد فسدَ عملهُ كلُّه، وضيَّعَ ما عملَهُ من حسناتٍ في أثناءِ إسلامه، ولم يعدْ يفيدهُ إيمانهُ السابق، وسيكونُ من أهلِ النار، الباقينَ فيها أبداً.(/11)
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218].
218 – وأما الذين آمنوا وسلكوا منهجَ الحق، وهاجروا فتركوا أموالهم ومنازلهم وأهليهم، وجاهدوا في سبيلِ اللهِ وصبروا على ذلك طاعةً لله، فإمّا نصرٌ أو شهادة، فإنهم ينتظرونَ بشرى ثمرةِ إيمانهم وصبرهم، الفوزَ والرحمة، والله يغفرُ لهم ما سلف، ويرحمهم برحمتهِ الواسعة.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:219].
219 – يسألونكَ عن حكمِ الخمرِ والقمار، فقل: في تعاطيهما ذنبٌ كبيرٌ ومفسدةٌ كبيرة، مع شيءٍ من المنافع، ففيهما ذهابُ العقلِ والمالِ والدِّين، والمخاصمةُ والمشاجرةُ والمعاداة، وفيهما منافعُ جسميَّةٌ ونفسيَّةٌ مؤقَّتة، كالهضمِ والطرب، وربما ربحٍ في المقامرة، لكنَّ إثمَهما والخسارةَ فيهما أكثرُ بكثيرٍ من منافعهما.
وكان هذا أوَّلَ خطوةٍ في تحريمهما، بأسلوبٍ تربويٍّ ربانيِّ حكيم، ثم نزلَ التحريمُ الشاملُ في قولهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
كما يسألونكَ ماذا ينفقونَ من أموالهم؟ فقل لهم: ما زادَ من حاجتكم.
وهكذا يبيِّنُ الله لكم الأحكامَ ويوضِّحها في حكمةٍ وبيان، لتتفكروا وتعرفوا الحقَّ جيِّداً،(/12)
{فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220].
220 – بما يفيدكم في الدنيا، ويُيَسِّرُ لكم أمرَ الآخرة.
ويسألونكَ عن كيفية معاشرةِ اليتامى في أموالهم فقل: إن عزلتُمْ أموالهم وطعامَهم عما يخصُّكم منها حتى لا يقعَ عليهم شيءٌ من الخسارةِ فذلك حسن، وإن خلطتُموها بأموالكمْ فلا بأسَ عليكم، فهم إخوانُكم في الدين. واللهُ يعلمُ نيّاتِكم في الإصلاحِ والإفساد. فالإصلاحُ في أمرِ اليتامى أفضل، ومخالطتُهم فيما يحقِّقُ لهم الخيرَ أجدى من اعتزالهم.
ولو أرادَ الله لضيَّقَ عليكم الأمرَ وأحرجكم، ولكنه وسَّعَ عليكم وخفَّفَ عنكم، وأباحَ لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن، والله قادرٌ على ما يريد، حكيمٌ فيما يأمرُ به.
{وَلَا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221].
221 – ولا تتزوَّجوا النساءَ المشركاتِ عابداتِ الأوثان، إلا إذا أسلمن، وإنَّ امرأةً مؤمنةً من الأرقّاء، أفضلُ من مشركةٍ ولو كانت أكثرَ منها حُسناً وجمالاً.
ولا تزوِّجوا المشركينَ من النساءِ المسلماتِ حتى يؤمنوا، وإنَّ عبداً مؤمناً مهما كان شأنه، أفضلُ من المشركِ ولو كان ذا حسبٍ ومالٍ وجاه.(/13)
فإن المشركينَ ينضوونَ تحت ملَّةِ الكفرِ التي مآلُها النار، وإن معاشرتَهم ومخالطتَهم تبعثُ على حبِّ الدنيا والتعلُّقِ بها وإيثارِها على الدارِ الآخرة، وعاقبةُ ذلك وخيمة. والله سبحانَهُ يدعو إلى الجنةِ والرحمةِ والرضوانِ بما شرعَ لكم من الأحكام، لتمهِّدَ لكم طريقَ المغفرةِ والسعادة. وهذا ما بيَّنهُ لكم ربُّكم، لتتذكروا وتؤمنوا، وتعملوا وتشكروا.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
222 – ويسألونكَ عن حكمِ نكاحِ المرأةِ وهي في الحيض، فقل: هو أذىً وضررٌ وألم، فاعتزلوا النساءَ أثناءه، ولا تنكحوهنَّ حتى يَطْهُرْنَ منه، فإذا تطهَّرْنَ فجامعوهنَّ في فروجهنَّ ولا تعدوهُ إلى غيره. والله يحبُّ التوّابينَ من الذنوبِ وإن تكرَّرَ ذلك منهم، ويحبُّ المتنزِّهينَ عن الأذى والأقذار، من إتيانِ الحائض، أو مجامعتِها في غيرِ مكانِ النكاح.
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [البقرة:223].
223 – وهذه نساؤكم موضعُ زرعكم، فأتوهنَّ أثناءَ الجماعِ كيفما شئتم، مُقبلةً أو مُدبرة، على أن يكونَ الإيلاجُ في الفرجِ لا يتعدّاه.
وقدِّموا لأنفسكم قبل الجماعِ بما هو مناسب، واذكروا الله وأطيعوه، ولا تتعدَّوا حدودَ ما حرَّمَهُ عليكم في ذلك.
واعلموا أنكم ستلقونَهُ يومَ الدِّين، فيحاسبُكم على أعمالكم جميعاً. وبشِّرِ المطيعينَ للهِ بما يسرُّهم.(/14)
{وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224].
224 – وإذا حلفتُمْ باللهِ وأكَّدتموه، ثم تبيَّنَ لكم خطأَ ما ارتأيتموه، فلا يكنْ هذا الحَلِفُ سبباً وعارضاً بينكم وبين عملِ البرِّ والتقوى والإصلاحِ بين الناسِ وذوي الرَّحم. والمطلوبُ أن تكفِّروا عن يمينكمْ وتعملوا الذي هو خير.
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:225].
225 – ولا يعاقبكمُ اللهُ بما صدرَ منكم من الحَلِفِ غيرِ المقصود، عفواً ما يجري به اللسان، بل يحاسبُكمْ على ما قصدتموهُ منه ونوتْهُ قلوبكمْ وأكَّدتموه، فهو الذي يحتاجُ إلى كفّارة. والله يغفرُ لعباده، وهو حليمٌ عليهم.(/15)
العنوان: الواضح في التفسير الحلقة الثامنة
رقم المقالة: 1943
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الواضح في التفسير
الحلقة الثامنة
سورة البقرة
(الآيات 226 - 252)
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:226].
226 – الذين يحلفونَ ألاّ يجامعوا زوجاتهم: أمامهم مدّةُ أربعةِ أشهرٍ ليعودوا ويجامعوهنّ، وإلاّ فإنَّ للزوجةِ حقَّ مطالبتهِ بالطلاق، ويجبرُ الزوجُ على ذلك من قِبَلِ القاضي إنْ لم يعد، وإذا عادَ فإن عليه كفارةَ يمينٍ عند أكثرِ أهلِ العلم، ويغفرُ الله له مما قصدَ الإضرارَ بالزوجة، ويرحمُهَ بعد عودتهِ إليها، التي تعتبرُ كتوبةٍ منه.
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:2279].
227 – فإذا مضتْ أربعةُ أشهرٍ وعزمَ الزوجُ على طلاقِها فطلَّقها فقد انتهى الأمر، ولا يقعُ الطلاقُ بمجرَّدِ مضيِّ الأربعةِ أشهرٍ عند الجمهور، بل لابدَّ من أنْ يطلِّقها، وإلا أجبرَهُ القاضي على ذلك، ما دامَ أنه لم يرجعْ إليها. وإنَّ اللهَ سميعٌ بما جرَى منهم من الطلاق، وما دارَ أثناءَهُ من كلام، عليمٌ بنيّاتهم وما قصدوهُ منه.
{وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:228].(/1)
228 – والمطلَّقاتُ ينتظرْنَ ثلاثَ حيضاتٍ، أو ثلاثةَ أطهار، بعد طلاقِ أزواجهنَّ لهنّ، لينتهيَ بذلك وقتُ عدَّتهنَّ ويتزوَّجْنَ إنْ شِئنَ بعدها. ما عدا الحاملاتِ اللواتي تنتهي عِدَّتهنَّ بمجرَّدِ وضعِ ما في أرحامهنَّ. أما اللواتي طُلِّقنَ قبل الزواجِ بهنّ، والصغيراتُ اللواتي لم يحضْنَ بعد، ومن انقطعَ حيضُهنَّ لكبرهنَّ، فعدِّتُهنَّ ثلاثةُ أشهر، وهو قريبٌ من عِدَّةِ العاديَّة.
ويعني بثلاثةِ أطهار: أنهنَّ إذا دخلنَ في الدمِ من الحيضةِِ الثالثةِ فقد انتهتْ عدتُهنّ.
وبالحيضات: أنه لا ينقضي عدّتُهنَّ حتى يَطْهُرْنَ من الحيضةِ الثالثة.
ويحرمُ عليهنَّ أن يكتمنَ أمرَ حملهنَّ أو حيضهنَّ إنْ كنَّ من المؤمناتِ حقاً، وذلك لتطويلِ مدَّةِ عدَّتهنَّ أو تقصيرها. فيكتمنَ حملهنَّ لئلاّ يُنْتظَرَ بطلاقهنَّ أن يضعن، فإن عدَّةَ الحاملِ هو أن تضعَ حملها. أو ليقطعْنَ بذلك حقَّ الأزواجِ في مراجعتهنّ.
وفي شأنِ الحيض: إذا طلبَ أزواجُهنَّ مراجعتَهنَّ كذبْنَ وقُلْن: إنهنَّ حِضْنَ الثالثة، ليقطعْنَ بذلك مراجعتَهنَّ لهنَّ. أو يقلْنَ: إنهنَّ لم يحضْنَ وقد حِضْنَ، ليلزمنهم ما لا يلزمُ من النفقة.
فواجبٌ عليهنَّ أن يقلْنَ الحقَّ ولا يخدعن، لما يترتَّبُ على ذلك من أمور، كحقِّ الزوجِ في الرجعةِ والولد.
وأزواجهُنَّ الذين طلَّقوهنَّ أحقُّ بإعادتهنَّ إلى بيتِ الزوجيةِ ما دُمْنَ في عدَّتهنّ، إذا كان مرادَهم الإصلاحُ والخير، لا الإضرارُ والظلم. وهذا بالنسبةِ للمرتجعةِ التي لم يُبَتَّ في طلاقها، يعني أنها طُلِّقتْ مرّتينِ فقط، فيجوزُ إرجاعُها، كما يأتي في الآيةِ التالية.
وللنساءِ حقٌّ على الرجالِ مثلما أنَّ لهم عليهنّ، فليؤدِّ كلٌّ ما وجبَ عليه من حقّ.(/2)
وللرجالِ على النساءِ درجة، هي درجةُ القَوَامة، فالرجلُ بمنزلةِ الأميرِ في الأسرة، الذي يُطاعُ بالحقِّ والمعروف، وهو أحقُّ بذلك، لما مُنِحَ من صفاتِ الرجولةِ والقوَّة، والإنفاقِ على الزوجةِ والقيامِ بمصالحها، وغيرِ ذلك مما يُرى من فارقٍ بين الرجلِ والمرأة.
والله قادرٌ على الانتقامِ ممن عصاهُ وخالفه، حكيمٌ فيما شرَعَهُ وقدَّرَهُ من أحكامٍ ومصالح.
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
229 – للرجلِ أن يطلِّقَ زوجتَهُ تطليقتين، ثم إن أمامَهُ أمرين:
- إما أن يرجعها إلى نفسه، وهو ينوي بذلك الإصلاحَ وحُسنَ الصحبة، فتعودُ إليه.
- وإما أن يطلِّقها التطليقةَ الثالثة، فتُطلقُ منه، مع الإحسانِ إليها، وعدمِ ظلمها في حقِّها شيئاً.
ولا يحلُّ لكم أيها الأزواجُ أن تضيِّقوا عليهنَّ وتُضجروهنَّ لتضطروهنَّ إلى فداءِ أنفسهنَّ بطلبِ الطلاقِ منكم حتى يُعِدْنَ إليكم ما سبقَ أن قدَّمتُم لهنَّ من هباتٍ وصدقاتٍ وأموال، ولو كان الأمرُ نزراً يسيراً، فضلاً عن الكثير.
أما إذا تشاجرَ الزوجانِ وتشاقّا، ولم تعدِ المرأةُ تقومُ بحقِّ زوجها، ولا تقدرُ على معاشرته، فلها أنْ تفتديَ نفسَها بمالِها وتقدِّمَهُ له كي يطلِّقَها، وهو ما يسمّى بالخُلع. ولا بأسَ على الزوجِ إنْ قَبِلَه.
وهذا من الحدودِ التي شرعَها الله لكم فلا تتجاوزوها بالمخالفةِ والرفض، ومن تجاوزها ولم يعملْ بها فإنه ظالمٌ قد عرَّضَ نفسَهُ لسَخَطِ اللهِ وعقابه.(/3)
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة:230].
230 – فإذا طلَّقها الثالثةَ لم يعدْ يحلُّ له أن يراجعها ويعيدَها إلى نفسه، إلا إذا نكحتْ زوجاً غيرَهُ وطلَّقها، فإنه لا حرجَ عليهما عندئذٍ أن يعودا إلى بعضِهما البعضِ في عقدٍ جديد، إذا علما أنهما سيتعاشرانِ بالمعروف، فتحسنُ حالهُما ويصلحُ ما بينهما.
وهذه شرائعُ اللهِ وأحكامه، وأوامرهُ ونواهيه، يوضِّحها لمن يفهمُ ما أمرَهُ اللهُ به لينتفعَ به.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231].
231 – وإذا طلقتمُ النساءَ طلاقاً رجعيّاً، يعني أنه ما زالَ بالإمكانِ إعادتُهنَّ إلى الحياةِ الزوجية، فعليكم بالإحسانِ في أمرهنَّ إذا كادَ أن ينتهيَ عدَّتُهنّ، فإمّا أن تعيدوهنَّ إليكم بما هو لائقٌ من إصلاحهنَّ وحُسنِ معاشرتهنّ، وإما أن تطلِّقوهنّ، وهي كذلك تُطَلَّقُ بنفسها إذا انتهتْ عِدَّتُها، وتخرجُ من بيتِ الزوجِ بدونِ ظلمٍ ولا إيذاء.
ولا يجوزُ لكم أن تُمسكوهنَّ في البيوتِ وتطوِّلوا عدَّتهنَّ بقصدِ الإضرارِ بهنَّ وأنتم تعلمونَ أنكم ستطلِّقوهنّ، فإنَّ من يفعلْ ذلك فقد خالفَ أمرَ الله.(/4)
ولا يجوزُ لكم أن تستغلُّوا الرُّخصَ وتتَّخذوا الأحكامَ الشرعيةَ غرضاً للاستهزاءِ والإضرار، كأنْ يقولَ أحدكم: قد طلَّقت، وقد راجعت، فإنّ أمرَ الطلاقِ خطير، وهو من أبغضِ الحلالِ إلى الله، والعِدَّةُ والرجعةُ فرصةٌ حقيقيةٌ للتفكُّرِ والإصلاحِ واستعادةِ الحياةِ الزوجيَّة.
وتذكّروا ما أنعمَ الله عليكم من إرسالِ النبيِّ إليكم، ومعه القرآنُ العظيمُ والسنَُّّة النبويَّةُ الشريفة. واتَّقوا الله، وكونوا على حذرٍ فيما تأخذونَ وما تتركون. واعلموا أن اللهَ لا يخفى عليه شيءٌ مما تقصدونَهُ أو تفعلونه، وسوفَ يجازيكم على كلِّ ذلك.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:232].
232 – وإذا طلّقتمُ النّساءَ أيها الأزواج، وانقضتْ عِدَّةُ التطليقةِ الأولى، وما زالَ بالإمكانِ مراجعتهنّ، فلا يحلُّ لكم يا أولياءَ الزوجاتِ أن تُمسكوهنَّ عندكم وتمنعوهنَّ من العودةِ إلى أزواجهنَّ إذا تصالحوا وتحاببوا وأرادوا أن يُكملوا عشرتهم الزوجية. وهذا ما يُرشدكمُ اللهُ إليه إذا كنتمْ مؤمنينَ حقًّا وتخشونَ اللهََ وعقابهُ يومَ الحساب، وإنَّ اتِّباعَ شرعِ الله في هذا وغيرهِ أنفعُ لكم وأذهبُ لأوضارِ نفوسِكم وأجلى لها وأحسن.
والله يعلمُ ما يصلحُ به شأنُكم، فيشرِّعُ لكم ما فيه خيرُكم، وأنتم لا تعلمون، فذروا رأيكم وامتثلوا أمره.(/5)
{وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:233].
233 – والأمَّهاتُ -مطلّقاتٍ كنَّ أو غيرَ مطلَّقات- يُرضعنَ أولادهنَّ عامينِ كاملين، إذا أُريدَ إرضاعُهم رضاعةً كاملة. ولا اعتبارَ بالرضاعةِ بعد ذلك.
وعلى الوالدِ نفقةُ الأمَّهات المطلَّقات، من مأكلٍ وملبسٍ وما إليه، على قدرِ الحالِ والميسرة، وعلى ما تجري به العادةُ في كلِّ عصر، من غير سَرَفٍ ولا بُخل، ولا يُكلَّفُ المرءُ بما لا يُطيق.
ولا يحقُّ للأبِ أن ينزعَ الطفلَ من أمِّهِ ويعطيَهُ غيرَها وقد رضيتْ بإرضاعه؛ إضراراً بها. كما لا يحقُّ للأمِّ أن تدفَعَ بولدها إلى أبيهِ لتضرَّهُ بتربيته.
وعلى من يرثُ هذا الأمرَ من الأولياءِ مثلُ ما على الوالد، من عدمِ الضررِ بالطفل، ومن الإنفاقِ على والدته.
فإذا أرادَ الوالدانِ فطامَ الصبيِّ عن حليبِ أمِّهِ قبلَ عامين، برضائهما وتشاورٍ بينهما، وكونِ ذلك لا يضرُّ به، فلا حرجَ عليهما في ذلك، ولا يجوزُ رأيُ واحدٍ منهما في الأمر؛ رحمةً بالصبيِّ الذي لا حيلةَ له.(/6)
وإذا اتَّفقَ الوالدانِ على إرضاعِ الصبيِّ عند غيرِ الأم، أو سلَّمتْهُ هي وأبتْ إرضاعه، لعذرٍ أو لغيرِ عذر، فلا حرجَ عليهما كذلك، إذا سلَّمَ الرجلُ نفقةَ الأمِّ إليها كما اتُّفِق عليه، عن تراضٍ، دونَ ضرر.
واتَّقوا اللهَ واخشَوْهُ في أحوالِكم جميعِها، وكونوا على علمٍ أن اللهَ مطَّلِعٌ على أقوالِكم وأحوالِكم، لا يخفى عليه شيءٌ منها، وسوفَ يُجازيكم عليها.
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:234].
234 – والذين يموتونَ منكم ويخلِّفون زوجات، فإنهنَّ ينتظرنَ بعد الوفاةِ أربعةَ أشهرٍ وعشرَ ليال، هي مدَّةُ عِدَّتهنَّ وحِدادِهنّ، سواءٌ كنَّ مدخولاً بهنَّ أو لا. فإذا بلغْنَ هذا الأجلَ وانقضتْ عِدَّتُهنَّ، فلا حرجَ عليكم يا أولياءَ النساءِ أنْ يتزيَّنَّ ويتعرَّضْنَ للتزويجِ فيما لا يُنكرهُ الشرع. وإذا كانتِ المتوفَّى عنها زوجُها حاملاً فإنَّ عدَّتها أن تضعَ حملها، سواءٌ زادَ عن الأجلِ المذكورِ أو نقص. واللهُ خبيرٌ بأعمالكم، فلا تعملوا خلافَ ما أُمرتم به، فإن اللهَ مجازٍ كلاًّ بما عمل.
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:235].(/7)
235 – ولا حرجَ عليكم إذا أشرتم – دونَ تصريحٍ – إلى خِطبةِ النساءِ وهنَّ ما زلنَ في عدَّتهنَّ من وفاةِ أزواجهنّ، كأنْ يقولَ لها أحدكم: وددتُ أنه تيسَّرَ لي امرأةٌ صالحة، أو: إني أريدُ التزويج.
وقد علمَ اللهُ أنكم ستذكرونهنَّ في أنفسِكم ولا تصبرونَ على السكوتِ عنهنَّ وعن إظهارِ الرغبةِ فيهنّ، فرفعَ عنكم الحرجَ في ذلك.
ولا يجوزُ أن تتزوجوهنَّ أو أن تَعِدوهنَّ بالزواجِ سرًّا وهنَّ ما زلنَ في العِدَّة، كأنْ يقولَ لها أحدكم: لا تنكحي غيري فإني سأتزوجُك. إلا إذا تفوَّهتُم بما لا يكونُ فيه تصريحٌ واضح، ولكنْ قد تفهمُ المعتدَّةُ منه ذلك، كأنْ يقولَ لها: إنِّي راغبٌ فيك.
ولا يحلُّ عقدُ النكاحِ وهنَّ في العدَّة، بل حتى ينتهيَ أجلُها تماماً.
وتيقَّنوا أن اللهَ مطَّلعٌ على ما أسررتُم في أنفسِكم من ذلك. واحذروا عقابَهُ إذا خالفتم أمره، وإنه يغفرُ الذنوبَ لمن أخطأ وتاب، وهو حليمٌ بهم، لا يعاقبهم بمجرَّدِ أن يخطئوا، بل يُمهلهم حتى يستغفروهُ ويتوبوا إليه.
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ} [البقرة:236].
236- ولا حرجَ عليكم إذا طلَّقتمُ النساءَ ولم تجامعوهنَّ بعدُ أو لم تعيِّنوا مقدارَ صَداقهنّ، فإذا طلقتموهنَّ فأعطوهنَّ من مالكم ما يتمتَّعنَ به ويتبلَّغن؛ جبراً لخاطِرهنَّ أنْ طُلِّقن. وكلٌّ يُعطي على قدرِ حاله، فالغنيُّ يعطي بما يوافقُ وضعه، والفقيرُ يعطي ما يمكنه. وهو حقٌّ ماليٌّ يعطيهِ المطلِّقُ بالوجهِ الذي تستحسنهُ الشريعةُ والمروءة، هذا لمن أرادَ أن يُطيعَ الله ويُحسنَ إلى نفسهِ بالمسارعةِ إلى الامتثال، ويُحسنَ إلى المطلَّقةِ المتضرِّرة.(/8)
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237].
237- وإذا طلقتموهنَّ قبلَ أن تجامعوهنَّ وقد عيَّنتم لهنَّ قيمةَ الصَّداق، فأعطوهنَّ نصفَ تلكَ القيمة، إلا إذا عفونَ عنكم، أو عفا وليُّها، أو عفا الزوجُ لها عن حقِّهِ، وهو نصفُ الباقي من الصَّداق.
وإذا عفوتم – جميعاً – فإنه أقربُ إلى ما يُرضي الله.
أما إذا جامعَها ثم طلَّقها، فإن لها ما أعطاها من الصَّداقِ كلِّه.
ولا تنسَوا السماحةَ والإحسانَ فيما بينكم، بما يوافقُ الأخلاقَ العالية، بإعطاءِ الرجلِ تمامَ الصَّداقِ لها، أو تركِ المرأةِ نصيبَها له.
والله مطَّلعٌ على أعمالكم، لا يضيِّعُ تفضُّلَكم وإحسانَكم.
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
238- حافظوا على أداءِ الصلواتِ في أوقاتها، بأركانِها وشروطِها، وخاصَّةً صلاةَ العصر، أقيموها خاشعينَ ذليلينَ مستكينينَ بين يدي الله، متجرِّدينَ لذكره.
وفي الصحيحينِ أنه صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن أفضلِ الأعمالِ فقال: "الصلاةً على وقتها".
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:239].(/9)
239 – فإذا كان القتالُ والتحامُ الحرب، فصلُّوا على أيِّ حالٍ كنتم، مترجِّلين أو راكبين، مستقبلينَ القبلةَ أو غيرَ مستقبليها. فإذا انتهتِ الحربُ وكنتُم في أمان، فأدُّوا الصلاةَ كما أُمرتم، واشكروهُ شكراً يوازي تعليمَهُ إياكم ما لم تكونوا تعلمونَهُ من الشرائعِ والأحكام، ومن جملتِها كيفيةُ إقامةِ الصلاةِ في حالتي الخوفِ والأمن.
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:240].
240- والذين يموتونَ ويتركونَ زوجات، وأوصوا بالسماحِ لهنَّ بالبقاءِ في بيوتِهنَّ سنةً كاملة، فإنَّهُ يكونُ من حقِّهنَّ البقاءُ إذا أردْنَ ذلك.
فإذا أردنَ الخروجَ بعد إكمالهنَّ عدتَّهنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشرَ ليالٍ وقبل إكمالِ العامِ المسموحِ لهنَّ بقاؤهنَّ فيه، فلا حرجَ عليكم في قبولِ ذلك ولا بأسَ فيه. والله قويٌّ في حكمه، حكيمٌ فيما يفرضُ ويوجِّه إليه.
وذُكِرَ أن هذه الآيةَ منسوخةٌ بالآيةِ السابقةِ رقم (234)، لكنَّ تفسيرَها كما مرَّ لا يُحوجُ إلى هذا القول.
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ} [البقرة:241].
241 – وتُعطَى المطلَّقاتُ حقَّهنَّ من المُتعة، يعني من المال، كلٌّ بما يقدرُ عليه مما يوافقُ حالَهُ وكرمَهُ ومعاليَ أخلاقه، لتبقى الأخوَّةُ الإسلاميَّةُ قائمة، ولئلاً تنقلبَ الأمورُ إلى عداوةٍ وبغضاء. وهو ما يعرفهُ الذين يخشونَ ربَّهم فيما يأتونَ وما يذَرون.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:242].(/10)
242 – وهكذا يوضِّحُ الله الأحكامَ الشرعيَّةَ الفاصلة، لعلكم بذلك تفهمونها وتتدبَّرونها وتعرفونَ الحكمةَ منها، وما فيها من تيسيرٍ ومصلحة.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243].
243 – وهؤلاءِ قومٌ في قديمِ الزمان، كانوا بالآلاف، خرجوا من ديارِهم هروباً من الموتِ الذي كان يلاحقهم فيه، ربما نتيجةَ أوبئةٍ وأمراضٍ كانتْ تلازمهم، أو أنه وقعَ فيهم الطاعون، فأرادوا الفرارَ منها إلى غيرِها، فلمّا وصلوا إلى المكانِ الجديد، أماتهم الله جميعاً في وقتٍ واحد، ليُعلَمَ أن الحذرَ من الموتِ لا يُغني ولا يُجدي إذا أرادَهُ الله، فإذا قدَّرَ شيئاً كانَ رغمَ كلِّ الاحتياطات، فلا مفرَّ من حكمه. ثم أحياهمُ اللهُ بعد موتهم، في دليلٍ قاطعٍ على قدرةِ اللهِ على إحياءِ الموتى وبعثِ الناسِ يومَ المعاد.
وهذا من فضلِ الله على الناس، أن يريَهم الآياتِ والدلالاتِ والعِبَرَ ليؤمنوا ويعتبروا، ولكنَّ أكثرَهم، مع هذا، لا يقومونَ بشكرِ المُنعِم عليهم.
وهذا تمهيدٌ لتشجيعِ المسلمينَ على القتال، الذي يأتي في الآيةِ التالية، فإن الأجلَ واحد، في سلمٍ كان المرءُ أو في حرب.
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌْ} [البقرة:244].
244 – وجاهِدوا في سبيلِ اللهِ باذلينَ أرواحَكم وأموالَكم لإعلاءِ كلمته، ولا تخافوا من الموت، فإنه لا يقرِّبُ أجلاً ولا يباعده، والفرارُ لا يُنجي من الموتِ كذلك، فالأجلُ محتوم، والرزقُ مقسوم، والمقدَّرُ لا مردَّ له. واللهُ يسمعُ ما تقولونَ فيما تدبِّرون، إنْ جهاداً أو تخلُّفاً، عليمٌ بما نويتُم عليه في نفوسِكم من ذلك. فسارعوا إلى الامتثال، واحذروا خلافه.(/11)
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245].
245 – إن الذي يُعطي من مالهِ للجهادِ أو أيِّ عملٍ صالح، إعطاءً حلالاً مقروناً بالإخلاصِ وطيبِ النفس، فإن اللهَ سيقبلُ منه، ويضاعفُ له أجرَهُ وجزاءَهُ أضعافاً كثيرةً بما لا يتوقَّعه.
والله يُعطي ناساً ويقلِّلُ على آخرينَ في الرزق، لحكمةٍ يشاؤها ومصلحةٍ يقدِّرها. فأنفقوا ولا تبخلوا، فاللهُ هو الرزّاق، وبيدهِ الخيرُ كلُّه.
ولسوفَ ترجعونَ إليه يومَ القيامةِ ليجازيكم على ما قدَّمتم من أعمال، إنْ خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246].
246 – وانظروا إلى قومٍ من بني إسرائيلَ كانوا من بعد موسى عليه السلام، فقال أشرافُهم ووجهاؤهم لنبيٍّ لهم: أقمْ لنا ملكاً نصدُرْ عن رأيهِ في الحربِ ونقاتلْ في سبيلِ اللهِ أعداءه.
فقالَ لهم نبيُّهم: أرأيتُم لو أُجبتُم إلى ذلك وطُلِبَ منكم القتالُ حقّاً ولم تفوا بما التزمتم به؟
فقالوا:كيف لا نقاتلُ وقد أُخِذَتْ منا ديارنا، وسُبيَ أولادُنا، واغتربنا من أهلينا، فإنَّ كلَّ هذا داعٍ قويٌّ إلى الطاعةِ والقتال.
ولكنْ لمَّا عُيِّنَ لهم مَلِكٌ يقودُهم إلى الحرب، وجاءَ وقتُ القتال، وطُلِبَ منهم الخروجُ معه، لم يفوا بوعودهم، إلا القليلُ منهم، حيث تخلَّفَ أكثرهم.(/12)
واللهُ عليمٌ بتركِهمُ الجهادَ ونقضِهمْ عهدَهم، ولسوفَ يُجازيهم عليه بعقوبةٍ كبيرة.
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247].
247 – وقد قال لهم نبيُّهم لما طلبوا منه أن يعيِّنَ لهم مَلِكاً: إن اللهَ قد اختارَ لكم طالوتَ ملكاً.
فقالوا: وكيف يكونُ هو ملكاً علينا وليس من بيتِ مُلك، بل هو مجرَّدُ رجلٍ عاديّ، فنحن أحقُّ بذلك منه. ثم إنه لا يملكُ مالاً كثيراً ليقومَ بحقِّ المُلك.
فقال لهم نبيُّهم: إن اللهَ قد اختارَهُ من بينكم ليكونَ مَلِكاً عليكم، وقد آتاهُ علماً كثيراً، وقوَّةً في الجسم، وصبراً في الحرب. ومعرفةً بها أكثرَ منكم. والله يُعطي من يشاءُ ما يشاء، فهو الحاكمُ لا أنتم. وهو واسعُ الفضل، يوسِّعُ على من يشاءُ من الفقراءِ ويُغنيه، عليمٌ بمن يستحقُّ المُلكَ ممَّن لا يستحقّ.
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:248].
248 – ثم قال نبيُّهم: إن دليلَ اصطفاءِ طالوتَ مَلِكاً عليكم أن يعودَ إليكمُ التابوتُ بوقارٍ وجلالةٍ وهدوءٍ فتسكنونَ إليه، مع أشياءَ مما تركها آلُ موسى وآلُ هارون، ذُكِرَ أنها العصا، وألواحٌ من التوراة... ويحملُ هذا التابوتَ ملائكةُ اللهِ وتضعَهُ عند طالوت.
وفي ذلك آيةٌ عظيمةٌ لكم وعبرة، تدلُّ على مُلكهِ عليكم، إن كنتم مصدِّقينَ بذلك.(/13)
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
249 – ولما خرجَ طالوتُ مَلِكُ بني إسرائيلَ بجنودهِ وبمن خرجَ معه من بني إسرائيل، قال لهم: سوفَ يختبركم ربُّكم ليرى طاعتَكم، حيث تقطعونَ نهراً، ذُكر أنه كان عذباً ماؤه، فمن شربَ منه فلا يصحبني في الحرب، إلا ما كان مقدارَ كفِّ اليد، فلا بأسَ به، ومن لم يشربْ فليصحبني في هذا الوجه.
فشربَ أكثرهم، وذُكِرَ أنهم كانوا عِطاشاً، وبقيَ القليلُ الذي لم يشرب، طاعةً لله، وطاعةً لملكهم الذي اختارَهُ اللهُ لهم.
وكانتِ الحكمةُ من هذا الابتلاءِ فرزُ الضعفاءِ المتذبذبينَ من الثابتينَ الأقوياء، فإن هؤلاءِ الذين شربوا ما كانوا ذوي إرادةٍ وطاعة، فما كانوا يصلحونَ للحربِ والقتال، بل إن فعلهم هذا يُنْبِئُ عن ضعفٍٍ وعلَّة، وأنهم سيكونونَ عالةً على بقيَّةِ الجند، وأنهم لضعفِ إرادتهم قد يبثُّونَ الهلعَ وروحَ الهزيمةِ بينهم. ففصلهم مَلكهم ولم يسْمحْ لهم بالمشاركةِ في الحربِ الكبيرةِ التي تنتظرهم.(/14)
فلمَّا استقلَّ طالوتُ بالجنودِ المؤمنينَ الباقينَ معه، وقد صاروا إلى قلَّة، وقابلوا جيشَ جالوتَ الكبير، قالوا: لا قدرةَ لنا على محاربتهم؛ لكثرتهم، فقال لهم علماؤهم والخُلَّصُ منهم، المؤمنونَ بلقاءِ اللهِ وحسنِ ثوابه: إنَّ جماعةً قليلةً، مؤمنةً في عقيدتِها وعزمِها وتوكُّلِها، تستمدُّ قوَّتَها من اللهِ ووعدهِ بالنصرِ والجزاءِ، ستغلبُ فئةً كبيرةً عدوَّةً لا تعتمدُ سوى على قوَّتِها الظاهرة، بإذنِ الله وتيسيره، فلا تُغني كثرتهم مع خذلانِ اللهِ لهم، ولا تضرُّ قلَّةُ الفئةِ المؤمنةِ مع تأييدهِ ونصرهِ لهم، وإن اللهَ سيثبِّتُ الفئةَ الصابرةَ وينصرها، ويُمدُّها بالمعونةِ والتوفيق، فتقدَّموا ولا تتوانوا.
والمؤمنونَ مختلفونَ في قوَّةِ اليقينِ وقوَّةِ الإرادة.
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [البقرة:250].
250 – ولمَّا تقابلوا مع جالوتَ وجنودهِ في كثرتِهم الكاثرة، تصبَّروا وفوَّضوا أمرَهم إلى الله، ودعوهُ بالنصر، وقالوا: اللهمَّ قوِّ عزائمنا، واملأ قلوبَنا بالسكينة والرِّضا، وثبِّتنا عند اللقاء، وانصرنا على هؤلاءِ الظلمةِ الكافرين.
{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة:251].
251 – فانتصرَ المسلمون، انتصرتِ الفئةُ القليلةُ المؤمنةُ بإذنِ اللهِ وتوفيقه، وقتلَ داودُ قائدَ الكفرةِ جالوتَ، وكان داودُ في جيشِ طالوت، فآتاهُ اللهُ المُلك من بعده، وزادَهُ نعمةً وتفضُّلاً بأنْ آتاهُ النبوَّة، وخصَّهُ بعلمٍ كثيرٍ من عنده.(/15)
ولولا أنْ يدفعَ اللهُ ناساً بناسٍ آخرين، في صراعاتٍ ومعارك، وتنافسِ قوىً وطاقات، وتدافعٍ وسباقات، كما دفعَ عن بني إسرائيلَ بمقاتلةِ طالوتَ وشجاعةِ داود؛ لهلكوا.
فالفضلُ للهِ وحْدَهُ على العالمين، حيث منَّ عليهم ورحمهم، ودفعَ عنهم ببعضهم بعضاً، فله الحكمُ والحكمة، والحقُّ والقدرة.
{تِلْكَ آَيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ} [البقرة:252].
252 – إنها آياتُ الله، والقَصصُ الحقُّ الذي أنزلَهُ اللهُ عليكَ أيُّها النبيُّ الكريم، ليؤمنَ الناسُ ويعتبروا، ويستبصروا بحقائقِ الأمور، وما كانوا يعرفونَ هذه الآثارَ والأخبار، لكنكَ أخبرتَهم بذلك من وحي اللهِ وعلمه، فأنت نبيٌّ مرسَلٌ من عندهِ لا ريب.(/16)
العنوان: الواضح في التفسير الحلقة التاسعة
رقم المقالة: 1975
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الواضح في التفسير
الحلقة التاسعة
الجزء الثالث
سورة البقرة
(الآيات 253- 268)
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].
253- لقد فضَّلنا رسلاً على رسلٍ آخرين، فقد كلَّم اللهُ بعضاً منهم، كموسى عليه السلام، ورفعَ بعضَهم درجاتٍ أعلى من درجاتِ آخرين، كمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي فضَّلَهُ الله على العالمين، وهو رسولُ الله إلى الناسِ كافَّة، ونَسَختْ رسالةُ الإسلامِ التي جاءَ بها سائرَ الرسالاتِ السابقة. وآتينا نبيَّ اللهِ عيسى بنَ مريم -عليه السلامُ- دلائلَ وحُججاً قويَّة، كإحياءِ الموتى بإذنِ الله، وغيرِها، تُثبتُ صحَّة نبوَّتهِ وما جاءَ به لبني إسرائيل، وأيَّدناهُ بجبريلَ عليه السلام، يثبِّته ويقوِّيه.
وقد تقاتلَ أتباعُ الرسلِ من بعدُ نتيجةَ اختلافهم، على الرغمِ من كونِ أنبيائهم جميعاً دعاةً إلى عبادةِ اللهِ الواحدِ الأحد، وعلى الرغمِ من وضوحِ الآياتِ البيِّناتِ والحججِ الساطعاتِ لدى الفريقِ المؤمن، فكان منهم من كفر، ومنهم من آمن، ولو أرادَ اللهُ لما تقاتلوا، ولكنْ هذه إرادتهُ ومشيئته، ليدفعَ الكفرَ بالإيمان، وليثبِّتَ العقيدةَ الصحيحةَ في الأرض، لتنتشرَ ويعرفَها الناس.(/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254].
254- أيها المؤمنون، إن الدنيا فرصةٌ للعملِ الصالح، فأنفقوا مما تفضَّل اللهُ به عليكم من رزق، قبل أن تُغلقَ صفحةُ الدنيا فلا يُقبلُ من أحدٍ عمل، وإن أمامَكم يومَ القيامة، الذي لا يوجدُ فيه بيعٌ ولا شراءٌ حتى تجرِّبوا ربحاً، فلا مالَ يبذلهُ المرءُ ليفديَ به نفسه، ولا تنفعُ صداقةُ أحدٍ ولا قرابتهُ لمسامحتكم، ولا وساطاتٌ جاريةٌ لتشفعَ لكم وتعفوَ عنكم، بل الأمرُ كلُّه يومئذٍ لله.
والكافرونَ هم أكثرُ الناسِ خسارةً في ذلك اليوم، فقد أنكروا الحقّ، وظلموا أنفسَهم بعدمِ اتِّباعه، وظلموا غيرَهم عندما صدُّوهم عن الهدى، وحرموهم من خيرٍ كثير، فباؤوا بإثمهم وآثامِ الآخرين.
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} [البقرة:255].
255- إنه اللهُ الواحدُ الأحد، الذي لا يُعْبَدُ بحقٍّ إلا هو، الحيُّ الدائمُ الباقي الذي لا يعتريهِ الموتُ ولا سبيلَ للفناءِ إليه، فهو ذو حياةٍ أزليَّةٍ لا بدايةَ لها، وأبديَّةٍ لا نهايةَ لها، وهو الموجودُ القائمُ بتدبيرِ كلِّ شيءٍ وحفظه، لا يطرأ عليه فتورٌ ولا يغلبُ عليه وسَنٌ ولا نُعاس، فضلاً عن النومِ المستغرق، فهو منزَّهٌ سبحانَهُ عن هذا وذاك، لا يغفلُ عن شيءٍ لحظة.
كلُّ ما في السماواتِ والأرضِ مُلكٌ له وتحتَ سيطرتهِ وإرادته.(/2)
ولا يتجاسرُ أحدٌ على طلبِ الشفاعةِ منه إلا بإذنه، فالكلُّ له عبيد،خاضعونَ لمشيئته، يطلبونَ منه الإذن، ويشفعونَ في حدودِ المأذونِ لهم به، وله المُلْكُ والعظمةُ والجلال.
وعلمهُ مطلقٌ شاملٌ كاملٌ، محيطٌ بجميعِ الكائنات، ماضيها وحاضرِها ومستقبلِها،وما تُسِرُّهُ وما تُظهره، ولا يعرفونَ شيئاًَ من علمهِ إلا إذا أطلعَهم عليه، مما يناسبُ حالَهم وحاجتَهم مما سخَّرَ لهم في الأرضِ وفي السماء {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.[فصلت: 53].
وقد وَسِعَ كرسيُّهُ السماواتِ والأرض.
ولا يُتعبهُ حفظُ ما فيهما ولا يُثقلهُ شيءٌ من ذلك، ولا ما بينهما، بل هو سهلٌ عليه يسير، فهو الرقيبُ على جميعِ الكائنات، لا يغيبُ عنه شيءٌ من حركاتِها، والأشياءُ كلُّها صغيرةٌ ومتواضعةٌ بالنسبةِ إلى قدرتهِ وعظمته، وهي جميعاً محتاجةٌ إلى حفظهِ وتدبيره.
وهو المتفرِّدُ بالعلوِّ والعظمة، والجلالِ والجبروت، الرفيعُ فوق خلقه، المتعالي عن الأشياءِ والأمثال، الكبيرُ الذي لا شيءَ أعظمُ منه.
ومهما علا إنسانٌ فلا يتجاوزُ مقامَ العبوديةِ للهِ العظيم!
وهذه آيةُ الكرسيِّ، شأنُها عظيم، وردَ في أحاديثَ صحيحةٍ أنها أعظمُ آيةٍ في القرآنِ الكريم.
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256].(/3)
256- لا يُجْبَرُ أحدٌ على الدخولِ في الإسلام، ولا لزومَ لذلك، فإنه نهجٌ واضحٌ بيِّنٌ يُخاطِبُ عقلَ الإنسانِ وقواهُ وطاقاتهِ كلِّها. وهو دينُ الفطرةِ والبداهةِ والإقناع، وليس دينَ الغموضِ والقهرِ والإكراهِ، ولا يفيدُ الإسلامَ وأهلَهُ رجلٌ أبدى اعتناقَهُ للإسلامِ وهو غيرُ مقتنعٍ به، بل هذه صفةُ المنافقينَ الذين ذمَّهمُ اللهُ تعالى في كتابهِ ورفضَ قبولَ إسلامهم، وهم بهذا يكونونَ عالةً على المجتمعِ الإسلامي، ومرضاً ينخرُ في جسمه.
وفي كلِّ الأحوالِ لا يُقْبَلُ من المرءِ إلا إيمانٌ عن طواعية، كما لا يُقْبَلُ منه عملٌ إلا عن رضىً واقتناع.
وقد وضحَ الفرقُ بين الإيمانِ والكفر، بين طريقِ الحقِّ وطريقِ الضلال، وقد أودعَ اللهُ في الإنسانِ ما يُدرِكُ به ذلك، فمن تجنَّبَ الأصنامَ وتخلَّى عن كلِّ ما يدعو إليه الشيطانُ من عبادةِ غيرِ الله، ونبذَ كلَّ ما تجاوزَ الحدودَ التي رسمها اللهُ للعباد، وآمنَ باللهِ وحده، واستمَدَّ من كتابهِ طريقَ العبادةِ والعمل، فقد تمسَّكَ من الدينِ بأقوى سبب، وقبضَ على عُقدةٍ قويَّةٍ متمكِّنةٍ لا تنفصم، وحبلٍ متينٍ لا ينقطع، وثبتَ على الطريقِ الصحيح، واستقامَ على النهجِ المبين.
والله أعلمُ بما تلهجُ به الألسنة، عليمٌ بما تكنُّهُ القلوبُ من عزائمَ وعقائد.
{اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].
257- إن اللهَ يؤيِّدُ عبادَهُ المؤمنينَ فيقوِّي عزائمهم ويَهديهم إلى الحقّ، ويُخرجهم من ظلماتِ الكفرِ والشكِّ إلى نورِ الحقِّ المبين، وإلى ضيائهِ وإشعاعهِ الصافي، الذي يملأ القلبَ اطمئناناً ويزيدهُ ثباتاً.(/4)
أما الكافرونَ الذين ركنوا إلى الطاغوتِ ورضوا بالضلال، فإن الشيطانَ يزيِّنُ لهم ما هم فيه من الغيِّ والضلالِ حتى يثبتوا عليه، بل يزيدُهم غوايةً واعوجاجاً، وظلاماً وهوى، وشروداً وتيهاً، وشكّاً وقلقاً.
وهؤلاءِ مصيرُهم النار، فهو اللائقُ بأصحابِ الظلمات، الذين آثروها على النورِ والحقِّ المبين، ولا يستوي الحقُّ والباطل، كما لا يستوي أهلُهما، ولا يستوي – كذلك- مصيرُهما.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
258- وانظرْ إلى هذا الملكِ المتكبِّرِ المتعنِّت، الذي أعطاهُ اللهُ من المالِ ما أعطاه، ثم جاءَ يجادلُ النبيَّ إبراهيمَ -عليه السلامُ- ويخاصمهُ في ربِّه، وذلك لمّا رأى نفسَهُ مختصّاً بمالٍ ومُلكٍ ليسَ عند غيره، ويأمرُ وينهى كما يشاءُ فيُسمَعُ ويُطاع، فقال له إبراهيمُ عليه السلام، لِيُريَهُ حقيقةَ نفسهِ وضعفَ قوَّتهِ وإرادتهِ أمامَ ربِّهِ الخالق: إن اللهَ يُحيي ويُميتُ، وإن ما يُرى من ذلك في عالمِ الإنسانِ والحيوانِ دليلٌ على وجوده، وعلى تصريفهِ للكونِ وتدبيرهِ لما يجري فيه وحده، فهي لا تحدثُ بنفسها، بل لا بدَّ لها من موجدٍ ومن مدبِّر، وهو الذي يسلبُ حياةَ مَنْ شاءَ متى شاء، بأسبابٍ ظاهرةٍ أو باطنة، معروفةٍ أو غيرِ معروفة.(/5)
فالإحياءُ والإماتةُ من صفاتِ هذا الإلهِ الذي لا يكونُ أحدٌ مثلَه، ولا يستطيعُ أحدٌ أن يقومَ بما يقومُ هو به، وهو الذي أعبدهُ وأدعوكَ وأدعو الناسَ إلى الاستسلامِ له وعبادته، فهو الخالق، والمحيي والمميت، الذي بيدهِ كلُّ شيءٍ في هذا الكون، فلا إلهَ إلا هو، ولا عبادةَ إلا له.
واغترَّ هذا المَلِكُ المتجبِّرُ بما يملكُ من قُوىً بشريَّةٍ وسيطرة، فتمادى في لجاجهِ وقال لإبراهيم: أنا أيضاً أُحيي وأميت!
ذكرَ غيرُ واحدٍ أنه أوتيَ برجلينِ استحقّا القتل، فأمرَ بقتلِ أحدِهما وعفا عن الآخر، فذكرَ أنه أماتَ الأولَ وأحيا الآخر، فكان هذا مفهومَ الإحياءِ والإماتةِ عنده!
ولم يُرِدْ إبراهيمُ -عليه السلامُ- أن يُطيلَ معه الجدالَ وهو بهذه العقليةِ المتكبِّرةِ المنكرة، فأرادَ أن يُفهِمَهُ أن الإلهَ المقصودَ بعبادتهِ هو المتصرِّفُ في الكونِ كلِّه، وأن هذه القوانينَ الكونيَّةَ الموجودةَ هي من صنعهِ وتدبيره، وطلبَ منه تغييرَ قانونٍ واحدٍ من هذه القوانينِ الكثيرةِ المبثوثةِ في الكون، بما أنه يدَّعي أنه هو الآخرُ فيه صفةُ الربوبية، وقال له: إن اللهَ جعلَ الشمسَ تُشرقُ من الشرق، فَأْمُرْها أنت لتشرقَ من الغرب!
فتحيَّرَ ذلك الملكُ وسكت، وعجزَ عن الكلام، وقد صُدِمَ بهذه الحجَّةِ الدامغةِ التي لم تَدَعْ له منطقاً يدافعُ به عن نفسه. لكنه لم يسلِّمْ بالأمرِ ولم يؤمن، لأنه لم يرغبْ في الحقّ، ولم يتلمَّسْ طريقَ الهداية. واللهُ لا يَهدي هؤلاءِ الذين يظلمونَ أنفسهم، فيختارونَ طريقَ الضلالِ والعناد، على الرغمِ من وضوحِ الحجَّةِ ضدَّهم.(/6)
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259].
259- وانظرْ أيضاً إلى هذا الذي مرَّ على قريةٍ خربةٍ محطَّمةٍ على قواعدها، قد سقطتْ سقوفُها وجدرانُها، ليس فيها أحد، ولا ينطقُ فيها شيء، بل كلُّ شيءٍ فيها خواء. فوقفَ هذا الرجلُ أمامَ هذا المشهدِ المحطَّمِ الميِّتِ البالي، وقال: كيف يُحيي اللهُ هذه القريةَ بعد أن ماتَ فيها كلُّ شيء، فلا حسَّ ولا حركة؟!
فأماتَهُ اللهُ مائةَ عام، ثم أحياهُ بقدرته، وقيل له: كم بقيت؟ وهو لا يدري كم لبث، فما كان في حياةٍ ولا وعي.
فقال: بقيتُ يوماً أو أقلَّ! قيل له: بل بقيتَ مائةَ عامٍ ميتاً! فانظرْ إلى قدرتِنا على إماتتِكَ وعلى إحيائك، وانظرْ إلى طعامِكَ وشرابِكَ كيف أنَّنا حفظناه، فلم يتعفَّنْ ولم يتغيَّرْ طعمهُ كلَّ هذه المدَّةِ الطويلة، بل هو كما تركتَهُ قبل أن نُميتك.
وهذا حمارُكَ الذي كنتَ راكباً عليه، انظرْ كيف نخرتْ عظامهُ وتمزَّقتْ أوصاله!
ولنجعلكَ عبرةً ودلالةً على البعثِ بعد الموت.
وانظرْ إلى هذه العظامِ المتفرِّقةِ لحمارِكَ كيف نرفعُ بعضها إلى بعضٍ ونجمعُها في أماكنها ونلبِّسُها لحماً ونُحييها!
فلما تبيَّنَ له كلُّ ذلك، وتوضَّحَ له الأمرُ عياناً، أيقنَ بذلك تمامَ الإيقان، وقال: أعلمُ أن اللهَ قادرٌ على كلِّ شيء، لا يستعصي عليه أمر.(/7)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].
260- وقال نبيُّ اللهِ وخليلهُ إبراهيمُ عليه السلامُ داعياً ربَّه: بصِّرني كيف تُحيي الموتى ياربّ، لأرى ذلك عياناً.
فقال له ربُّه: أوَلم تؤمنْ بأني قادرٌ على الإحياءِ يا إبراهيم؟
وهو يعلمُ سبحانَهُ أنه أثبتُ الناسِ إيماناً وأقواهم يقيناً.
فقال عبدهُ ونبيُّهُ إبراهيمُ عليه السلام: بلى ياربّ، قد علمتُ وقد آمنت، ولكني أريدُ أن أرى ذلك عياناً، لينضمَّ ما أراهُ إلى ما أعتقدهُ يقيناً، فأزدادُ بالمشاهدةِ بصيرة، ويطمئنُّ بذلك قلبي، فإنه يسكنُ إذا عاينَ شيئاً وشاهدَه، وليس الخبرُ كالمعاينة.
قال صاحبُ "روح المعاني": ولا أرى رؤيةَ الكيفيةِ زادتْ من إيمانهِ المطلوبِ منه عليه السلام، وإنما أفادتْ أمراً لا يجبُ الإيمانُ به".
فاستجابَ اللهُ دعاءه، وأراهُ كيفيَّةَ الإحياءِ عياناً، وقال له: خذْ أربعةَ طيور، فاذبحها وقطِّعها ومزِّقها، وفرِّقْ أجزاءَها على جبال، ثم نادِها، فسوفَ تأتيكَ مسرعة. فاجتمعتْ أجزاؤها مرَّةً أخرى، وعادتْ إلى الحياةِ بإذنِ الله.
واعلمْ أن اللهَ عزيزٌ لا يُعجزهُ ولا يمتنعُ منه شيء. حكيمٌ فيما يقولُ ويفعل، ويشرِّعُ ويقدِّر.
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].(/8)
261- إن مَثَلَ الذين ينفقونَ أموالهم في سبيلِ الله وابتغاءَ مرضاته، من الإنفاقِ في الجهاد، أو غيرهِ من وجوهِ الخيرِ والطاعة، هو كَمثَلِ حبَّةٍ زُرِعَتْ فأعطتْ سبعَ سنابل، في كلِّ سنبلةٍ منها مائةُ حبَّة. واللهُ يضاعفُ أجرَ مَنْ أنفقَ في سبيلهِ بمثلِ هذا وزيادة، لمن شاء، بحسبِ حالِ المنفقِ وإخلاصهِ وتعبه.
واللهُ ذو فضلٍ واسعٍ كثير، يُعطي عن سَعة، ولا يضيقُ عليه مما يتفضَّلُ به على الناس، عليمٌ بمن يستحقُّ فضلَهُ ممن لا يستحقّ، وبنيَّةِ المنفقِ ومقدارِ إنفاقه.
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262].
262- إن الذين ينفقونَ أموالَهم في سبيلِ الله ومرضاته، من خيراتٍ وصدقات، ولا يُردفونَ عطاءَهم هذا بمَنٍّ ولا أذى، فلا يمتعضونَ من السائلينَ ولا يتكبَّرونَ عليهم، ولا يعيِّرونهم ولا يتطاولونَ عليهم بكلامٍ لا يحبُّونَ سماعَهُ أو نشره، بل يعطونهم بخُلقٍ طيِّبٍ ونفسٍ راضية، فهؤلاءِ لهم أجرُهم الكبيرُ الموعودُ به عند ربِّهم، ولا يلحقُهم مكروهٌ في الدارين، ولا هم يأسفونَ على ما فاتَهم من الحياةِ الدنيا وزهرتها، حيث صاروا إلى ما هو أفضلُ منها.
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263].
263- وإنَّ كلاماً حسناً لطِيفاً تقبلهُ القلوب، ومسامحةً للسائلينَ على إلحاحِهم، أفضلُ لهم من عطاءٍ يَتْبَعُهُ تطاولٌ عليهم وكلامٌ غيرُ مرغوب.
ويُقال: وعدُ الكريمِ خيرٌ من نقدِ اللئيم.
والله غنيٌّ عمّا عندكم من الصدقة، حليم، فلا يعجِّلُ بالعقوبةِ على من يمنُّ بصدقته.(/9)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} [البقرة:264].
264- أيها المؤمنون، لا تجعلوا صدقاتِكم تذهبُ هباء، وذلك عندما تُتْبِعونها بالمنِّ والأذى، فإن هذه الخطيئةَ منكم تُذهبُ ثوابَ ما تصدَّقتم به.
وهذا مَثَلُ المُنفقِ المرائي بصدقته، الذي يعطي ليراهُ الناس، وهو لا يرجو من ورائهِ ثواباً من عند الله، لأنه لا يؤمنُ باللهِ ولا بيومِ الجزاء، فهذا لا يؤجَرُ على فعلهِ مهما تصدَّق.
ومَثَلهُ في هذا كمَثَلِ صخرٍ أملسَ عليه ترابٌ خفيف، فنزلَ عليه مطرٌ شديد، فأذهبَ ما عليه من تراب، وتركَ الحجرَ أملسَ يابساً لم يُنبِتْ زرعاً، فما أفادَهُ المطر.
وكذا أعمالُ المُرائينَ لن تفيدَهم، ولا تعقبُ مثوبة، بل تذهبُ هباءً وتضمحلُّ عند الله، وإنْ ظهرَ لهم أعمالٌ فيما يرى الناس، كالتراب.
والله لا يَهدي الكفّارَ إلى الخيرِ والرشد، حيث لم يطلبوا الهدايةَ والرشادَ من الله.
وفيه تعريضٌ بأن كلاًّ من الرياءِ، والمنِّ والأذى، من خصائصِ الكفار، فلابدَّ للمؤمنينَ من أن يجتنبوها.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:265].(/10)
265- أما الذين يعطونَ أموالَهم في سبيلِ الله، وابتغاءَ رضاهِ ورجاءَ ثوابه، وهم متيقِّنونَ أن اللهَ لا يُضيعُ عملَهم هذا، بل سيَجزيهم عليها ما داموا أخلصوا نيّاتهم وآمنوا بيومِ الجزاء، فإن مثَلَهم كمَثَلِ حديقةٍ على رابيةٍ هطلَ عليها مطرٌ شديد، فأثمرتْ ضعفي أمثالِها من الحدائق. فإذا لم ينزلْ عليها مطرٌ كثيرٌ فرَذاذٌ يكفي لسقي تربتِها الخِصْبة.
وهو كعملِ المؤمنِ الذي لا ينقطعُ كذلك، بل يتقبَّلهُ اللهُ ويضاعفهُ له. ولا يخفى على اللهِ شيءٌ من أعمالِ عباده، وسوف يُجازيهم عليها.
وفيه ترغيبٌ في الإخلاصِ مع تحذيرٍ من الرياءِ ونحوه.
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:266].
266- وهل يحبُّ أحدُكم أن يكونَ له بستانٌ ظليلٌ وارف، فيه نخيلٌ وأعنابٌ تجري من بينها الأنهارُ العذبةُ والجداولُ الصافيةُ الرقراقة، وله فيه ما يريدُ ويتمنَّى من الثمارِ الطيِّبةِ اللذيذة، تدرُّ عليه خيراً وبركة، تكفيهِ وتكفي من يعوله، ولمّا كبرَ وشاخَ وعجزَ عن الغرْسِ والعمل، وله أولادٌ وأحفادٌ صغارٌ لا قدرةَ لهم على التكسُّب، جاءَهُ ريحٌ عاصفٌ فيه نارٌ شديدةٌ، فأحرقتِ البستانَ كلَّه، ولم تُبقِ فيه شيئاً من الأشجارِ والثمار؟!
إنه مَثَلٌ ضربَهُ اللهُ " لرجلٍ غنيٍّ يعملُ بطاعةِ الله، ثم بعثَ الله له الشيطانَ فعملَ بالمعاصي حتى أغرقَ أعماله"، كما فسَّرَهُ ابنُ عباسٍ -رضي اللهُ عنهما- ورواهُ له البخاريُّ في صحيحه.(/11)
فيكونُ المرءُ حسنَ العملِ في الأوَّل، كثيرَ الخيرِ والبرِّ والإحسان، ولمّا يكبرُ ويقتربُ من الموتِ والحساب، تنعكسُ حاله، فينقبضُ عن الخيرِ والعملِ الصالح، فلا يُرتجى منه إحسان، فيخونهُ عملهُ وهو أحوجُ ما يكونُ إليه، ويُحرَمُ الأجرَ وهو أفقرُ ما يكونُ إليه.
فمن يريدُ منكم أن تكونَ حالهُ مثلَ حالِ هذا، ومن ذا الذي يحبُّ أن يكونَ مصيرهُ مثلَ مصيره.
إنها أمثالٌ وآياتٌ واضحاتٌ يضربُها اللهُ لكم، لتتفكروا وتعتبروا وتعملوا بموجبها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة:267].
267- أيها المؤمنون، إذا تصدَّقتم بشيءٍ من أموالكم فليكنْ ذلك من طيِّبِ ما كسبتموهُ وأجوده، من تجارةٍ أو غيرِها، ومن طيِّبِ ما أخرجَهُ اللهُ لكم من الأرض، من تمرٍ أو غيره، ولا تلجؤوا إلى الرديءِ منه فتُعطوهُ للناس، فإن الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباً، وإنكم لو أُعطيتُمْ مثلَ هذا المالِ الدنيء لما أخذتموه، إلا إذا تغاضيتُم عنه وتسامحتُم فيه، فلا تجعلوا للهِ ما تكرهون.
واعلموا أن الله غنيٌّ عن إنفاقِكم، وإنما يأمرُكم بذلك لمنفعتِكم، وهو مستحقٌّ للحمدِ على نعمهِ العظيمةِ عليكم.
وكان البعضُ يقصدُ الرديءَ من مالهِ فيُعطيهِ زكاةً أو صدقة، فنزلتِ الآيةُ للنهي عن ذلك.
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].(/12)
268- إنما يسوِّلُ لكمُ الشيطانُ لتُخرجوا السيِّئَ من أموالِكم تخويفاً من الفقر، حتى تُمسكوا ما بأيديكم ولا تُنفقوا شيئاً في مرضاةِ الله، وهو مع ذلك يأمرُكم بالمعاصي وارتكابِ المحرَّمات، ويُغريكم على البخلِ ومنعِ الصدقات. واللهُ يَعِدُكم في مقابلِ الإنفاقِ غفراناً وتكفيراً عن سيِّئاتكم، وخيراً وبركة، وهو سبحانَهُ ذو قدرةٍ واسعةٍ وفضلٍ عميم، يعلمُ إنفاقَكم ولا يُضِيعُ أجرَكم.(/13)
العنوان: الواضح في التفسير الحلقة العاشرة
رقم المقالة: 2019
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الواضح في التفسير
الحلقة العاشرة
سورة البقرة
(الآيات 269 – 286)
{يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة:269].
269- واللهُ يؤتي من يشاءُ من عبادهِ ممَّن أرادَ بهم خيراً: العقلَ السويَّ والعلمَ النافع، والإصابةَ في القولِ والفعل، والقصدَ والاعتدال، والبصيرةَ المستنيرة، فيدركُ الأشياءَ على حقيقتها، ويفهمُ الأمورَ على واقعِها كما ينبغي، فيهتدي ويُصيب.
وإن الذي يؤتَى هذا كلَّهُ لفي خيرٍ عظيم، وهِبَةٍ جليلة، فإنه أُخرِجَ من ظلماتِ الجهلِ فكان في نورِ الهدى، ومن الانحرافِ إلى الاستقامةِ والرزانةِ والسداد.
ولا يعرفُ قدرَ هذا العطاءِ الجليلِ والنعمةِ الكبيرةِ إلا أولو الأحلامِ والنُّهى، الذين يعرفونَ النافعَ فيعملونَ به، ويعرفونَ الضارَّ فيجتنبونه.
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة:270].
270- واعلموا أنكم ما أَعطيتم من أموال، في حقٍّ أو باطل، من قليلٍ أو كثير، في سرٍّ أو علن، وما نذرتُمْ من نذور، في طاعةٍ أو معصية، فإن اللهَ عالمٌ بها، لا يخفى عليه شيءٌ من نيّاتِكم وحركاتِكم، ولسوفَ يُجازي المحسنَ منكم خيرَ الجزاء، ويعاقبُ المسيءَ سيِّءَ الجزاء، ولن تجدَ لمن ظلمَ نفسَهُ، فمنعَ الصدقات، ولم يفِ بالنذور، أو أنفقَ الخبيثَ، أو راءَى ومنَّ وآذى، لن تجدَ لهؤلاءِ أعواناً ينصرونَهم من بأسِ اللهِ وعقابه، أو ينقذونَهم من عذابِ اللهِ ونقمته.(/1)
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271].
271- وإذا أظهرتمُ الصدقاتِ أمامَ الناسِ فهو أمرٌ مرغوبٌ ولا حرجَ فيه، وخاصَّةً إذا ترتَّبَ على إظهارِها مصلحةٌ راجحة، كأن يكونَ أداءً للزكاة، فإن إظهارَها فيه معنى الطاعة، وانتشارُ هذا الأمرِ وظهورهُ خير، وإذا أخفيتمْ صدقاتِكم فهو أفضل، لأنه أبعدُ عن الرياءِ وشوائبِ النفس، وأقربُ إلى الإخلاصِ وطلبِ مرضاةِ الله. وسوف يُمحي اللهُ بها سيِّئاتِكم.
ولا يخفى على اللهِ شيءٌ مما تقدِّمونَهُ لأنفسِكم، وما تُسرُّونَهُ وما تُعلنونه، في نيّاتِكم وأفعالِكم.
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].
272- وكان الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم يكرهونَ أن يجعلوا شيئاً من النفقةِ لأنسبائهم من المشركين، خشيةَ الإثم، وطمعاً في إسلامِهم. فبيَّنتِ الآيةُ أن الأمرَ أوسع، فرُخِّصَ لهم. فهم قد لا يهتدونَ بهذا الأسلوبِ أو ذاك، لأن الأمرَ يختصُّ بالقلوب، وهي بيدِ الله، يَهدي من يشاءُ منها، وهو أعلمُ بمن يستحقُّ الهُدَى والإيمانَ منها. فليُبذَلْ لهمُ الخيرُ والعون، ولْينالوا منكمُ المساعدة.
وما تنفقونَ من مالٍ فإنَّ فائدتَهُ تعودُ عليكم، وكأنكم بذلك أنفقتُمْ على أنفسِكم، ولا يضرُّكم كفرُ من أنفقتم عليهم، فلا تمنعوا الناسَ خيرَكم، فإن ثوابَهُ محفوظٌ لكم عند الله، مادامَ إنفاقُكم ابتغاءَ مرضاته، وليس رياءً ولا هو عن هَوى.
ولن تُظلموا، فاللهُ يُعطي جزاءَ الحسنةِ أضعافاً مضاعفة.(/2)
قال البغويُّ في تفسيره: وهذا في صدقةِ التطوُّع، أباحَ اللهُ تعالى أن توضعَ في أهلِ الإسلامِ وأهلِ الذمَّة، فأمّا الصدقةُ المفروضة، فلا يجوزُ وضعُها إلا في المسلمين.
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273].
273- وهؤلاءِ المهاجرونَ الذين تركوا أموالَهم وأهليهم، وسكنوا المدينةَ المنوَّرةَ منقطعينَ إلى اللهِ ورسوله، يبتغونَ نصرةَ الإسلامِ والجهادَ في سبيلِ الله، ولا يجدونَ ما يُغنيهم، ولا يستطيعونَ سفراً للتجارةِ والتكسُّب، فهم على أهبةِ الاستعدادِ إذا نوديَ للجهاد.
ومع ما هم فيه من فقرٍ وحاجةٍ يظنُّ من لا يعرفُ حقيقةَ حالِهم أنهم أغنياءُ مكفيُّونَ في المعاش، من تعفُّفِهم في لباسِهم وحالِهم ومقالِهم، فيتجمَّلونَ ظاهراً حتى لا يُعرفوا ولا تظهرَ حاجتُهم، لكنَّ اللبيبَ ذا البصيرةِ يدركُ ما وراءَ هذه الحال، ويعرفُ أن هذا العفافَ يُخفي فقراً واستكانة.
وإذا بدا لبعضِهم أن يطلبوا شيئاً فلا يلحّونَ في المسألة، ولا يكلِّفونَ الناسَ مالا يحتاجونَ إليه. إنهم فقراءُ كرامٌ بررة، ذوو حياءٍ وتجلُّدٍ وصبر، ودينٍ قويمٍ وخُلق، فلا تنسَوا هؤلاءِ أيها المؤمنون، وإذا أعطيتموهم شيئاً فليكنْ ذلك في سرٍّ وتلطُّف، لا يخدشُ إباءَهم ولا يجرحُ كرامتَهم.
وإن ما تُنفقونَهُ من مالٍ عليهم لا يخفى على اللهِ منه شيء، ولا يضيعُ عنده الخير، ولسوفَ يجزي عليه أوفرَ الجزاءِ وأوفاه.
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274].(/3)
274- الذين يفعلونَ الخيراتِ ويتصدَّقونَ من أموالهم في سبيلِ الله في كلِّ أوقاتِهم وأحوالِهم، ليلاً ونهاراً، سرّاً وعلانية، حتى من أنفقَ على والديهِ وعيالهِ وخدمهِ الفقراءِ وأقربائهِ... فلهم عند اللهِ الثوابُ العظيم، ولا خوفٌ عليهم يومَ الحسابِ عندما يخافُ البخلاءُ الشحيحون، ولا يحزنونَ إذا تأسَّف المُفرِطونَ المُسرفون.
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].
275- إن الذين يأكلونَ الرِّبا أو يتعاطونَ به، سيكونُ مصيرُهم عندما يقومونَ من قبورهم للحشرِ والحساب، أن يقوموا كما يقومُ المصروع، الذي يؤذيهِ الشيطانُ فيصرعه، فتكونُ حركتهُ هستيريةً عشوائيةً وكأنه مجنونٌ يُخنَق، مما به من جنونٍ وفزع!(/4)
ويرى صاحبُ "الظلال" أن هذه الصورةُ واقعةٌ بذاتِها في حياةِ البشريةِ الضَّالةِ في هذا العصر، التي صارتْ تتخبَّطُ كالممسوسِ في عقابيل النظامِ الربوي، وأن هذا العالمَ هو عالمُ القلقِ والاضطرابِ والخوفِ والأمراضِ العصبيَّةِ والنفسيَّة، باعترافِ عقلاءِ أهلهِ ومفكريهِ وعلمائهِ ودارسيه، وعالمُ الحروبِ والتهديدِ الدائمِ بالحروبِ المبيدةِ، وحربِ الأعصابِ والاضطراباتِ التي لا تنقطعُ هنا وهناك، وأنها حياةُ شقاءٍ وبؤسٍ ونكد! ومن هذا البلاءِ الذي تعيشُ فيه البشريَّةُ بلاءُ الرِّبا، بلاءُ الاقتصادِ الذي ينمو نمواً مائلاً جانحاً إلى حفنةٍ من المموِّلين المُرابين، الذين لا يهدفونَ إلى سدِّ مصالحِ البشريةِ وحاجاتهم، بل إلى ما يحقِّقُ لهم الأرباح، ولو أفسدوا حياةَ الملايين، وزرعوا الشكَّ والقلقَ والخوفَ في حياةِ البشريةِ جميعاً...اهـ.
وإن سببَ ما ينزلُ بهؤلاءِ المرابينَ عندما يُبعثونَ من قبورهم، هو قولُهم إن البيعَ مثلُ الربا، وقالوا: لماذا أُحلَّ هذا وحرِّم ذاك؟ فهو اعتراضٌ على أحكامِ الله وشرعه. وشبهتُهم الواهيةُ في هذا أن كليهما يجرّانِ ربحاً! مع أن العملياتِ الربويةَ محدَّدٌ ربحُها وفائدتُها في كلِّ حالة، والبيعُ والتجارةُ يُخضَعُ فيه للربحِ والخسارة، في مهاراتٍ شخصيةٍ وظروفٍ جارية. فالربا يفسدُ الحياةَ البشرية، والبيعُ والتجارةُ تنشِّطُ الحياةَ الاقتصادية. ولهذا وغيرهِ من الاعتباراتِ التي يعرفُها الاقتصاديونَ والتجّار، أحلَّ اللهُ البيع، وحرَّمَ الرِّبا تحريماً قاطعاً.
فمن بلغَهُ نهيٌ وزجرٌ عن تعاطي الرِّبا حالَ وصولِ حكمِ الشرعِ إليه، فله ما سبقَ من مالهِ الذي وصلَهُ عن طريقِ الربا، يعني قبلَ التحريم، فلا يُسترَدُّ منه، وأمرهُ إلى الله، يعني يرجو به عفوَهُ ورحمته، فهو من العفوِ عمّا سلفَ إن شاءَ الله.(/5)
ومن عادَ إلى التعاملِ بالرِّبا بعد بلوغهِ نهيَ اللهِ عنه، فقد استحقَّ العقوبةَ والنارَ المحرقةَ الدائمة. فلا يغرَّنَّ أحداً طولُ وقتٍ عاشه، فإن الموتَ يأتي فجأة، ولا يبعدنَّ من حسابهِ تهديدَ اللهِ ووعيدَه، فإنه حقٌ وصدق، وهو واقعٌ بمن خالفَ أمره.
وقد جاءَ التحريمُ لآكلِ الربا لأنه الغالب، والمقصودُ هو ومَنْ في حكمه، وفي صحيحِ مسلمٍ قولُ جابرٍ رضيَ الله عنه: "لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الرِّبا، ومُوْكِلَهُ، وكاتِبَهُ، وشاهدَيْه، وقال: هم سواء".
{يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276].
276- إن الله يُذهبُ البركةَ من الأموالِ الربويَّة، فلا ينتفعُ بها، وستكونُ حسرةً على صاحبِها وعقاباً له في اليومِ الآخر. وما استوى خبيثٌ وطيِّب، ولو كان هذا الخبيثُ أبيضَ برّاقاً، فإن اللهَ يركمهُ ويجعلهُ في جهنَّم. وهو لا يعودُ على المجتمعِ الربويِّ إلا بالشقاءِ والنكد، على الرغمِ مما يُرى في ظاهرهِ من غنىً وموارد، فإنه يفيضُ بالقلقِ النفسيِّ والخوفِ والاضطراب، وليس فيه أمانٌ واطمئنانٌ وسعادةٌ حقيقيَّة، حيث لا بركةَ ولا تكافلَ قائمٌ على الحقِّ والتقوى.
أما المالُ الطيِّبُ والصدقات، فإن اللهَ يُنميها ويزيدُها خيراً وبركةً ووفرة، وجعلَ في مجتمعهِ المودَّةَ والاطمئنانَ وراحةَ البال، حيث التكافلُ والتعاونُ على الخير.
وإن اللهَ يبغضُ ذلك المرابيَ الكفورَ القلب، الذي يأثمُ في قولهِ وفعله، فلا يرضى بما قسمَ اللهُ له من الحلال، ولا يكتفي بما شرعَ الله له من التكسُّبِ المباح، بل يسعى إلى أكلِ أموالِ الناس بالباطل، من الرِّبا وغيره.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277].(/6)
277- إن الذين آمنوا وأتبَعوا إيمانَهم بالأعمالِ الصالحة، فأطاعوا ربَّهم، وشكروا له نعمَهُ عليهم، ورضوا بما قسمَ لهم من الحلال، وأحسنوا إلى خَلْقه، وداوموا على صلواتِهم، وأعطوا زكاةَ أموالِهم للفقراءِ والمحتاجين، لهم جميعاً الجزاءُ العظيمُ عند ربِّهم، ولا خوفٌ عليهم يومَ الحساب، في مقابلِ التخبُّطِ والهلعِ الذي يُصيبُ المرابي، ولا هم يحزنونَ على ما فاتَهم من الدنيا، فهم في مكانٍ أجلّ، ونعيمٍ أعظم، وسعادةٍ لا توصفُ ولا تقارنُ بالدنيا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278].
278- أيها المؤمنون، خافوا اللهَ واتَّقوهُ حقَّ التقوى، واتركوا ما لكم على الناسِ من الرِّبا، إذا كنتم مؤمنينَ باللهِ وبما شرعَ لكم من الحلالِ والحرام.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279].
279- فإذا لم تنتهوا عن التعاملِ بالربا، فانتظروا غضبَ الربّ، وتيقَّنوا حرباً من اللهِ ورسوله!
وهو ترهيبٌ مخيف، ووعيدٌ شديد، وغضبٌ ماحقٌ من جبّارِ السماواتِ والأرض، يهدِّدُ فيه الذين لا يكفُّونَ عن التعاملِ بالرِّبا بالعقابِ والقتل.
وهو عقابٌ دنيويٌّ وأخروي.وقد سبقَ بيانُ الأخروي، أما الدنيوي، فإن المرابيَ يُستتابُ من فعلتهِ الشنعاءِ هذه، فإذا لم يَدَعْها عوقب. وكذلك الجماعاتُ والفئاتُ كالصيارفةِ وأصحابِ البنوك ومَنْ إليهم. وهي مسؤوليةٌ كبرى يتحمَّلُها الحاكمُ خاصَّة. وقد أمرَ رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلَّم- عند فتحِ مكَّةَ بوضعِ كلِّ ربا في الجاهلية. قال أهلُ المعاني: حربُ اللهِ النارُ، وحربُ رسولِ الله السيفُ.(/7)
فإذا تبتُمْ وعدتُمْ إلى الحقّ، وانتهيتُم عن التعاملِ بالربا، فإنَّ رؤوسَ أموالِكم تُعادُ إليكم، لا يَنْقصُ منها شيءٌ ولا يُزادُ عليها شيء.
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280].
280- فإذا كان المَدينُ مُعسراً لا يستطيعُ أن يفيَ دَيْنَه، فيُتَظَرُ حتى يَيْسَرَ ويدفعَ إليكم رؤوسَ أموالكم، لا كما يفعلُ المرابي الجشعُ بوضعِ المزيدِ من الرِّبا إذا لم يدفع!
وإذا تصَدَّقتُمْ بها عليه وسامحتموهُ فإنه خيرٌ لكم وأفضل، هذا إذا علمتُمُ الثوابَ الكبيرَ الذي ينتظركم من فضلِ التيسيرِ على المُعسر.
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
281- واخشوا اللهَ حقَّ الخشية، وانتظروا ذلك اليومَ الذي تُرجعونَ فيه إليهِ وقد تركتمُ الدنيا وما فيها من أموال، وسوفَ يحاسبُكم على ما كسبتُمْ من طرقِ حلالٍ أو حرام، ويحذِّركُمْ من عقوبته، كما يرغِّبُكمْ في مثوبته، ولن يُظْلَمَ أحدٌ في ذلك اليومِ والمحاسِبُ هو الله.
ويومئذٍ يندمُ المُرابي أيَّما ندم، وكلٌّ يرجو لو كان تنازل، وأنفق، وأحسن...وهاهمُ الأحياءُ يسمعون، إنْ كانتْ لهم آذانٌ يسمعونَ بها.(/8)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282].
282- أيها المؤمنون، إذا تعاملتم فيما بينكم بمعاملاتٍ مؤجَّلةٍ فاكتبوها، فإنه أثبتُ وأحفظ، كما يأتي.
وليكنِ الكاتبُ بينكم شخصاً يكتبُ بالقسطِ والحقِّ على ما اتفقتُمْ عليه، من غيرِ زيادةٍ ولا نقصان.
ولا يرفضِ العارفُ بالكتابةِ أن يكتبَ لهم إذا طُلبَ منه ذلك، فإن عليه أن يكتبَ وفاءً للعلمِ الذي علَّمَهُ الله.
وليقلِ المَدينُ ما عليه من الدَّيْن ليُكتَب، ولْيَخْشَ اللهَ في قولهِ وليصدُقْ ما في ذمَّتهِ ولا ينقصْ منه شيئاً، وليذكرْ شرطَهُ وأَجَله.(/9)
فإنْ كان المَدينُ سفيهاً لا يُحسنُ تدبيرَ أموره، أو ضعيفاً، يعني صغيراً، أو مجنوناً، أو لا يستطيعُ أن يُمليَ هو ويبيِّنَ مقدارَ ما عليه وملابساته، لعيبٍ خَلْقي أو جهلٍ أو أيِّ سببٍ آخر، فليتحدَّثْ عنه وليُّ أمرهِ أو القيِّمُ عليه، بالحقِّ والعدل.
وأشهدوا على عقدِكم هذا اثنينِ من الشهداءِ عدلينِ يحوزانِ على رضاكِما. فإذا لم يكونا رجلينِ فليكنْ رجلاً وامرأتين، حتى إذا نسيتْ إحداهما ذكَّرتها الأخرى، فإن واجبَها الأُسريَّ واهتمامَها وانشغالَها بأعمالها الخاصَّة، وبُعدها عن أمورِ البيعِ والعقودِ يُنسيها ذلك، فتذكِّرُها الأخرى بملابساتِ الموضوعِ فتذكر.
وإذا دُعيَ الأشهادُ إلى الشهادةِ فليستجيبوا.
ولا تملُّوا من أن تكتبوا معاملاتِ الديونِ وبيانِ مدَّةِ إيفائها، سواءٌ كانتْ قليلةً أو كثيرة، فالكتابةُ أعدل، وأثبتُ للشاهدِ إذا رأى خطَّهُ أو توقيعَه، فإنه من المحتملِ أنه لو لم يكتبْهُ لم يذكره. وهو أبعدُ من شبهةِ الكذبِ والادِّعاء، الذي يُفضي إلى التنازعِ بين المتعاقدين.
وإذا كان البيعُ حاضراً في مجلسٍ واحد، فلا بأسَ من عدمِ الكتابة، لتيسيرِ العمليّاتِ التجاريةِ وعدمِ تعقيدها، مع الإشهادِ على ذلك.
والأمرُ هنا للإرشادِ والنَّدْبِ لا الوجوب، عند جمهورِ العلماء.
وكذا الأمرُ بكتابةِ الدَّيْنِ -كما جاءَ في أوَّلِ الآية- أمرُ نَدْبٍ واستحبابٍ وليس بفرض، عند أكثرِ الفقهاء، لأمورٍ وأدلَّةٍ أخرى في الموضوع. لكنَّ الكتابةَ أفضلُ وأحسنُ وأوثق، كما مرَّ في الآية. وصاحبُ الدَّيْنِ يحتاطُ لذلك، فإذا لم يكتبْهُ وحدثَ ما لا يُحمدُ فلا يلومنَّ إلا نفسَه.
ولا يضرَّ الكاتبُ فيكتبَ عقدَ الدَّينِ بخلافٍ ما يُملَى عليه.
ولا يضرَّ الشاهدُ فيُدليَ في شهادتهِ بخلافِ ما رأى أو سمع، أو يكتمَها.(/10)
كما أن الكاتبَ والشاهدَ لا يُجبَرانِ على الكتابةِ والشهادةِ إذا اعتذرا، وإذا فعلا فلا يتعرَّضانِ للضَّررِ من قبلِ العاقدينِ لأيِّ سببٍ من الأسبابِ الخلافيَّةِ بينهما.
واخشوا اللهَ في معاملاتِكم وخافوهُ وراقبوه، واتَّبعوا أمرَهُ واستقيموا عليه، فإن اللهَ يعلِّمُكم أحكامَهُ المتضمِّنةَ مصالحَكم، واللهُ عالمٌ بحقائقِ الأشياءِ ومصالِحها وعواقِبها، ولا يخفَى عليه حالُكم.
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة:283].
283- وإذا كنتُمْ مسافرينَ ولم يكنْ هناك كاتبٌ يكتبُ لكم عقدَ دَيْنِكم وبيعِكم، فليكنْ بدلَهُ رهنٌ يقبضهُ المرتهن، وهو صاحبُ الحقّ.
فإذا أَمِنَ بعضُكم بعضاً ووثقَ به ولم يرتهنِ الدائن، فليؤدِّ المَدينُ دَيْنَهُ الذي أؤتمنَ عليه، وليخْشَ اللهَ في ذلكَ فلا ينقصْ ولا يزد.
ولا تكتموا الشهادةَ عند التقاضي، فإنها أمانة، ومن كتمَها فقد فجرَ وباءَ بالإثم، واعتُبِرَ كتمانُها كتزويرها، فلا فرقَ بين إخفائها أو قولها على غيرِ حقيقتها.
والله عليمٌ بما تُكنُّهُ القلوب، خبيرٌ بما تُخفيه، ويجزي كلاًّ بما يستحقّ، إنْ خيراً، أو شرًّا.
{للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284].(/11)
284- إن كلَّ ما في السماواتِ والأرضِ مُلكٌ لله، وهو مطَّلعٌ على جميعِ ما فيها، خبيرٌ بحركاتِها وسكناتِها، مهما خفيتْ وصَغُرت، عليمٌ بما نفوسِكم أيها البشر، إن أظهرتموهُ أو كتمتموه، وسوفَ يحاسبُكم على كلِّ ذلك، ثم يغفرُ لمن شاءَ منكم، ويعذِّبُ من شاء، واللهُ لا يُعجزهُ شيء، وهو قادرٌ على ما يشاء.
وفي هذا تخويفٌ شديد، وترهيبٌ مُخيف، فإن المحاسبةَ على السيِّءِ من الأعمالِ القلبيةِ ليس في صالحِ النفسِ البشريَّةِ مهما كانتْ مؤمنةً صالحة، فلا يمكنُ الاحترازُ عن كثيرٍ من هذه الأعمال. وهذا الذي دفعَ الصحابةَ -رضي اللهُ عنهم- إلى أن يراجعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لتقواهم وشدَّةِ إيمانهم، وقالوا: "كُلِّفنا من الأعمالِ ما نُطيق، الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أُنزلتْ عليكَ هذه الآيةُ، ولا نطيقُها".
فنهاهم رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أن يكونوا مثلَ أهلِ الكتابينِ وقولهم "سمعنا وعصينا"، وأمرهم أن يقولوا: "سمعنا وأطعنا غفرانكَ ربَّنا وإليكَ المصير".
فقالوا ذلك، فنزلتِ الآيةُ التاليةُ ناسخةَ لها، وفيها قولهُ تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. فاستجابَ لهم ربُّهم، وقال: "قد فعلت". كما في صحيحِ مسلمٍ وغيره.
وفي الحديثِ الذي رواهُ البخاريُّ وغيره: "إن اللهَ تجاوزَ عن أمَّتي ما حدَّثتْ به أنفُسَها ما لم تعملْ أو تتكلَّم".
وفي الآيةِ تذكيرٌ للمؤمنينَ بما يمكنُ أن يُحاسَبوا عليه حتى يزيدوا من معالجةِ تربيةِ أنفسِهم ويحافظوا على تزكيتِها باستمرار، ويطلبوا منه العفوَ والمغفرةَ دائماً. وفي التاليةِ بيانٌ لفضلِ الله عليهم وتجاوزهِ عن ذلك.(/12)
{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} [البقرة:285].
285- إن الرسولَ محمّداً -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنونَ كلَّهم آمنوا إيماناً شاملاً كاملاً، فآمنوا باللهِ الواحدِ الأحد، وآمنوا بملائكتهِ الذينَ ذكرهم اللهُ ورسوله، وآمنوا بما أُنزلَ من كتب، وآمنوا بالرسلِ جميعاً، وليس ببعضهم كما فعلَ اليهودُ وغيرهم، وهم جميعاً عبيدُ اللهِ صادقونَ موحى إليهم.
وقالوا جميعاً مؤمنينَ مستسلمين: سمعنا قولكَ يا ربَّنا وعقلناه، وأطعنا ما فيه وامتثلناه، فاغفرْ لنا يا ربَّنا ذنوبَنا وتقصيرَنا، فإن إليكَ مآبَنا ومرجِعَنا يومَ الحساب، فلا ملجأ منكَ إلا إليك، ولا نجاةَ من عقابِكَ إلا بغفرانك.
{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [البقرة:286].
286- لا يكلِّفُ اللهُ نفساً فوق طاقتها، فلا يؤمَرُ أحدٌ بأمرٍ لا يقدرُ عليه، فلها ثوابُ ما عملتْ من خير، وعليها عقوبةُ ما اكتسبتْ من شرّ.
وقالوا: ربَّنا سامحنا واعفُ عنّا إذا تركنا أمراً أو ارتكبنا محظوراً نسياناً لا عن قصد، أو أخطأنا الصوابَ في العملِ جهلاً منا بالوجهِ الشرعيّ.
وفي الحديثِ الصحيحِ الذي مرَّ أن اللهَ استجابَ دعاءَ عبادهِ المؤمنينَ في ذلك وقال: "نعم".(/13)
وقالوا: ربَّنا ولا تكلِّفنا بالأعمالِ الشاقَّةِ كما كلَّفْتَ به أمماً ماضية، مثلَ بني إسرائيل، الذين كانوا يعصونَ المرَّةَ تلوَ الأخرى، فيعاقبُهم اللهُ بمزيدٍ من التكاليف.
ودَعَوا فقالوا: واعفُ عنّا يا ربَّنا تقصيرَنا وزَلَلنا، واغفرْ لنا ما اقترفنا من ذنوبٍ وسيِّئات، فإنه لا يغفرها إلا أنت، وارحمنا برحمتِكَ الواسعة، وتولَّنا بحفظِكَ ورعايتِك، فأنتَ وليُّنا وناصرُنا، نستعينُ بكَ ولا نتوكَّلُ إلا عليك، واكتبْ لنا التأييدَ والنصرَ على هؤلاءِ الكفّارِ الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، وكفروا برسالةِ نبيِّك، وأشركوا في عبادتك، فانصرنا وأنتَ خيرُ الناصرين.
فاستجابَ اللهُ لهم.
والآيتانِ الأخيرتانِ من هذه السورةِ العظيمةِ فيهما خيرٌ كثيرٌ لمن قرأهما، وفي فضلِهما أحاديث، منها قولهُ صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بالآيتينِ من آخرِ سورةِ البقرةِ في ليلةٍ كفتاه". رواهُ الشيخانِ وغيرُهما.
يعني كفتاهُ عن قيامِ تلك الليلة، أو كفتاهُ المكروه... وذلك لما فيهما من اعتقادٍِ شامل، ومن الثناءِ على الصحابةِ بجميلِ انقيادهم إلى الله، وابتهالِهم، ورجوعِهم إليه، وما حصلَ لهم من الإجابةِ إلى مطلوبه. كما ذكرَهُ شرّاحُ الحديث.(/14)
العنوان: الواقع السياسي الفلسطيني والأحداث الراهنة وآفاق المستقبل
رقم المقالة: 420
صاحب المقالة: خباب بن مروان الحمد
-----------------------------------------
الواقع السياسي الفلسطيني والأحداث الراهنة وآفاق المستقبل
في حوار مع الدكتور يوسف كامل إبراهيم
يعيش الشعب الفلسطيني حالة مخاضٍ ، آلامها عسيرة ، وصورتها الكاريزمية جداً مثيرة ، فمنذ الخمسينيات يرزح الفلسطينيون تحت عذابات الاحتلال الصهيوني ، وما زالوا يعانون ...
وعقب فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات التشريعية واعتلائها سدَّة الحكم؛ حصلت متغيرات غير قليلة في الوضع الفلسطيني، تحتاج إلى نظرة موضوعيَّة ومتوازنة ، ومن هنا اتجهتُ إلى الدكتور يوسف كامل إبراهيم ، ليحدثنا عن قضايا عديدة وملفَّات مهمَّة بشأن الواقع السياسي الفلسطيني وآفاق المستقبل .
والدكتور يوسف إبراهيم: حاصل على شهادة الدكتوراه في الجغرافيا السياسيَّة ، وهو عضو الجمعية الجغرافيَّة الأمريكيَّة ، والباحث في وحدة الدراسات الإستراتيجيَّة في وزارة التخطيط والتعاون الدولي ، ويمكن الاطِّلاع على سيرته من خلال هذه الصفحة على الشابكة (الإنترنت) على هذا الرابط :
http://www.arabiancreativity.com/yousif_ibrahim.htm
قد أختلف مع الدكتور في بعض نقاط النقاش المُتَداول بيني وبينه ، بيد أنِّي أجزم أنَّ لرأيه ثقلاً إستراتيجياً بين المحللين السياسيين الفلسطينيين ، سائلاً المولى ـ جلَّ وعلا ـ أن ينفع بإجاباته ، وأن يكون فيها المفيد والجديد من المعلومات الخاضعة حسب رأيه إلى دراسات إستراتيجيَّة وخبرة ميدانيَّة ...
*كيف تقيِّم الوضع السياسي الفلسطيني القادم ؟(/1)
لا شك أنَّ الواقع الفلسطيني الذي يعيشه أبناء الشعب الفلسطيني واقع صعب جداً، وما يجري الآن في الساحة الفلسطينية إنما هو مخاض لمرحلة سياسية جديدة بعد التغيير الذي حصل على الساحة الفلسطينية بعد فوز حركة المقاومة الفلسطينية حماس في الانتخابات التشريعية، وسيطرتها على المجلس التشريعي ، وقيامها بتشكيل الحكومة الحالية ، فقد حصلت محاولات حثيثة لإسقاط حكومة حماس ، ولكن يبدو أن هذه المحاولات قد فشلت بسبب الالتفاف الجماهيري منقطع النظير حول الحكومة، وقدرة الموظفين على تحمُّل الظروف المعيشية الصعبة من جراء حرمانهم من مرتباتهم واستحقاقاتهم الماليَّة، على مدى شهور كثيرة.
وهذا قد أدى إلى جعل المتربِّصين بالحكومة الجديدة يتجهون إلى محاولات لتدجين حماس وجعلها تدور في فلك السياسة الدولية التي ترسمها الولايات المتحدة الأمريكية.
فالمشهد الفلسطيني، وبعد هذا التغيير، يجسد في هذه الأيام نموذج المزاوجة بين المقاومة والسياسة. وهذا بعكس ما كانت تتوقَّعه بعض القوى على الساحة السياسية الداخلية والإقليمية والدولية، بأن حماس ستضطر إلى التعامل مع المجتمع الدولي بعد وصولها للحكم ، ويبدو أن هذا الرهان قد فشل أيضاً بعدما وجدنا أن حماس قد قادت معركة التصدي لمعركة بيت حانون وإطلاقها لعشرات الصواريخ على التجمعات الصهيونية المحاذية لقطاع غزة، وقد استطاعت هذه الحكومة الصمود حتى الآن أمام كل الضغوط السياسية والاقتصادية، وقد دفعت هذه الظروف لأن يكون المجتمع الفلسطيني أمام ضرورة أن يتوحَّد ويلملم صفوفه لمواجهة هذه الظروف، فكانت المباحثات المكثفة التي تجري في هذه الأيام لتشكيل حكومة وحدة وطنية. ومن المتوقع ولادة هذه الحكومة إذا تخلَّصت بعض الأطراف الفلسطينية من أجندتها الحزبية والإقليمية والدولية.(/2)
*هل من آمال محقَّقة في الواقع الصهيوني من خلال التعاركات فيما بينهم ، والخلافات والانقسامات ؟ وهل يؤثر ذلك سلباً في قضيتهم أو لا؟
المجتمع الصهيوني من الناحية البنيوية يتكون من مجموع المهاجرين القادمين إلى فلسطين من جميع أصقاع الأرض من الشرق والغرب ، وهناك اختلاف شديد فيما بينهم في العادات والتقاليد، وهناك اختلاف في الطبقات الاقتصادية، فالمجتمع الإسرائيلي يعيش في الوقت الراهن حالة من الانقسام على أسس اجتماعية واقتصادية, بسبب ما يعانيه من تفاعلات وصراعات داخليَّة, على أكثر من صعيد, مثل العلاقة بين الدين والدولة، وطبيعة الانتماء الحضاري ومعنى الخصوصية اليهوديَّة، وطبيعة الأولويات الاجتماعية والاقتصادية, فالمهاجرون من الدول العربية أو من الشرق من الطبقة المتوسطة ويعملون في حرفة الزراعة، في حين المهاجرون من الدول الأفريقية كإثيوبيا يعدون من الدرجة المتدنية جداً، ويبحثون عن الطعام في أكوام القمامة، لكن المهاجرين من الدول الغربية هم الذين يتقلَّدون المناصب العليا ويعملون في الأعمال والوظائف الراقية.
وهناك انقسام كبير من الناحية الفكرية، بين علمانيين ومتدينين، ولكن المجتمع الصهيوني منذ سنوات يتجه نحو التطرف والميل إلى التدين المتشدد، مما أتاح للمتدينين أن يحصلوا على ما يقرب من 19 مقعداً في الكنيست.(/3)
إذن إسرائيل على مستواها الداخلي تعاني أزمات داخلية، تشكل هذه الأزمات (التخليقات) الحية لتفكك أي مجتمع، وعلى رأسها الفقر، فازدياد معدل الفقر، ليصبح أكثر من ربع السكان فقراء، يجعل إسرائيل - كياناً ونسيجاً اجتماعياً داخلياً - في مصافِّ الدول الرأسمالية المتوحشة والموغلة في رأسماليتها، والفقر في أي مجتمع هو المقدمة الأساس لبدايات تفككه ودخوله في أتون الصراع الداخلي، والمسلك الحي للجريمة وللفساد والرشوة، ولذلك تعاني إسرائيل داخلياً ازدياد معدلات انتشار الجريمة، ولعل ما كشفت عنه الشرطة أخيراً، من ازدياد معدلات العنف بين صفوف الطلاب والشباب اليهود، يعبر جيداً عن حالة التفكك الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي من داخله، وفي ظل هذا الوضع تقوم الإدارة السياسية في إسرائيل ممثلة بالأحزاب الحاكمة بترحيل المشكلة الاجتماعية لصالح الواقع الأمني، وتخلق حالة من الهلع الأمني يدفع الإنسان العادي للقبول بواقعه المأساوي من أجل الحفاظ على نفسه ووجوده، فكلما ازدادت الانقسامات بينهم اندفعوا لترحيل هذه الأزمات على المجتمعات المحيطة بهم، فالهجوم على لبنان كان من أحد أسبابه توحيد طاقات الجيش بعدما دبَّ فيها الانقسام، وكذلك الحال في الهجوم على بيت حانون في غزة نتيجة الانقسام الشديد في قيادة الجيش نتيجة الفشل الذي مُنيت به المؤسسة الأمنية الصهيونية.
* هل تتوقع أن تقوم حكومة الوحدة الوطنية؟ وهل يعني ذلك إخفاق الحصار الاقتصادي ؟(/4)
من المتوقع ولادة حكومة وحدة وطنية بشرط تخلص بعض الأطراف الفلسطينية من الأجندة الدولية والإقليمية والحزبية، وجعل الأجندة الفلسطينية على سلَّم أولوياتهم، وفي حال تشكيل هذه الحكومة سيكون الشعب الفلسطيني هو الرابح في هذه الجولة، ولن يكون هناك خاسر إلا من راهنوا على الاقتتال الداخلي الفلسطيني. وفي حال تشكيل هذه الحكومة ستزول الحجج والمسوغات التي تذرعت بها أمريكا والاتحاد الأوروبي لحصار الشعب الفلسطيني بسبب حكومته (الحمساوية) الصرفة، ومن ثمَّ ينتهي الحصار ويخفق المراهنون على استخدام هذه الوسيلة لتركيع الشعب الفلسطيني وحكومته.
* يرى البعض أنَّ حماس ماضية في مسلسل تنازل خفي ستكتشفه فيما بعد ، من قبيل الدخول في منظمة التحرير الفلسطينية ، وقلَّة العمليات الاستشهادية ؟
منظمة التحرير مؤسسة فلسطينية تغيَّرت معالمها بتغيُّر الظروف السياسية التي مرت بها، فهناك تغيرات على الهياكل وعلى البرامج والمناهج والوسائل التي استخدمتها منظمة التحرير، فمنظمة التحرير يعبر عنها سياسياً بالبرنامج والميثاق، فإن ميثاق المنظمة مختلَف عليه حتى الآن، وما إذا كان قد عُدِّل أو لم يعدل. وأين هو الأصل، وأين هو الفرع؟ وهل عُدِّل في جلسة قانونية أم في جلسة غير قانونية؟
أما البرنامج السياسي لمنظمة التحرير فلم يبق منه شيء. وإذا كانوا يتحدثون عن المسألة التنظيمية في المنظمة، فلا أحد يعلم الآن كم عدد أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني؟ هل هم 744 عضو، أو760 عضو، أو600 عضو، أو 440عضو؟(/5)
وكذلك لا يُعرف عدد الأعضاء الذين خرجوا من المجلس، فإن مئات من أعضاء المجلس الوطني يستبدلون، سواء للوفاة، أو لعدم الرضا السياسي لمن يختارون الأسماء. لقد استُبدل أناس بآخرين دون وجه حق، إن هذه المؤسسة انتهت صلاحيتها وأصبح من الضروري إعادة بنائها من جديد بما يتناسب مع المتغيرات السياسية على الساحة الفلسطينية، حيث كانت حركة فتح دائماً تعد نفسها التنظيم الأكبر على الساحة الفلسطينية، فتأخذ النصيب الأكبر من قيادة مؤسسات منظمة التحرير. ونتيجة التغيير على الساحة الفلسطينية يجب إعادة النظر في هيكلية وقيادة منظمة التحرير بما يتناسب مع هذا التغيير،وبات من حق حماس أن تنال نصيبها في منظمة التحرير؛ لأن الجميع يعدها الممثل الشرعي والوحيد، ولا بد أن تكون حماس جزءاً من هذا التكوين وهذا النسيج وإلا لن تكون هذه المؤسسة ممثلاً شرعياً لجميع أطياف النسيج الفلسطيني.
لا أريد أن أركز على القضية القانونية التي تخص التمثيل والشرعية للشعب الفلسطيني، لألغي الشرعية، حتى لا نعيش في فراغ فلسطيني من ناحية التمثيل.
إذن علينا أن نتفهم ظروف المنظمة تفهماً صحيحاً، ونحاول جميعاً أن نعمل على إعادة صياغتها وبنائها لتكون الممثل الشرعي، والمظلة والقيادة والجامع المشترك لكل الشعب الفلسطيني، وتكون هي التي تجمع الشعب في الداخل والخارج.
* كيف تتوقع المستقبل الفلسطيني برؤية سياسية موضوعية متفائلة ؟
في حال فشلت مشاورات تشكيل حكومة وحدة وطنية نتيجة للضغوط (الصهيو أمريكية) التي تتعرض لها الساحة الفلسطينية، وفي ظل استمرار الحصار السياسي والاقتصادي ستكون الساحة الفلسطينية في المرحلة القادمة أمام سيناريو قادم من هذه (السيناريوهات):(/6)
الأول: حل السلطة الوطنية الفلسطينية، لتحميل المجتمع الدولي مسؤولياته، فهو الذي وافق على بناء السلطة وأقرَّ تشكيلها ومسؤولياتها، وهذا الخيار له تبعات خطيرة على الساحة الفلسطينية؛ منها: خلق فوضى اجتماعية شاملة، وخسارة نظام سياسي له أكثر من عشر سنوات. لكن المجتمع الدولي لم يحمه ولم يقدم له أدوات الدعم السياسي إلى جانب الدعم الاقتصادي.
الثاني: حل المجلس التشريعي والحكومة، وتشكيل حكومة طوارئ أو حكومة إنقاذ، أو حكومة مؤقتة لتسيير الأعمال الحياتية، وتحديد موعد لانتخابات تشريعية مبكرة. ولهذا الخيار أيضاً تبعاته الخطيرة، منها: احتمال نشوب اقتتال داخلي يصل إلى حرب أهليَّة؛ لأن حماس ستعد هذه الخطوة انقلاباً على نتائج الانتخابات وعلى فوزها فيها.
ثم بحلِّ البرلمان وتحديد موعد انتخابات مبكرة تشريعية ورئاسية، إما أن ينجح برنامج الرئيس عباس فيعيد تشكيل المجلس والحكومة، وإما أن يفشل برنامجه، وحينها يغادر أبو مازن الحلبة السياسية، هذه الخيارات مطروحة أمام الرئيس عباس، وأمام قيادة حماس وقيادة فتح والفصائل، وعليهم جميعاً إدراك خطورة وخبث أهداف الضغوط الأمريكية الصهيونيَّة الرامية إلى افتعال اقتتال في الساحة الفلسطينية، حتى تتفرغا للحرب الشاملة الواسعة، التي ترى بعض المصادر أنها لا يتعدى موعد اندلاعها الأشهر القليلة القادمة.
الثالث: تشكيل حكومة تكنوقراط، وهذا الخيار سوف يصطدم بموقف حركة حماس المستندة إلى فوز حققته في الانتخابات التشريعية، إضافة إلى أن بعض الأسماء التي ترددت لعضوية هذه الحكومة غير مقبولة في الشارع الفلسطيني، سواء من ناحية السلوك أو المواقف أو العلاقات السياسية المرتبطة بـ أمريكا والدولة الصهيونيَّة.(/7)
ولكن هذا الخيار قد يكون مخرجاً لحماس من حالة الحصار التي تعيشها الحكومة التي شكلتها، ويمكن أن يكون هذا الخيار مقبولاً إذا ما حصل توافق وطني بين الفصائل على تسمية الخبراء والمتخصصين وذوي الكفايات لهذه المرحلة؛ بأن يقوم كل فصيل بوضع قائمة أسماء، حسب ما يُتفق عليه من حصص لتوزيع الحقائب الوزارية؛ لكي تُشكَّل في النهاية حكومة تكنوقراط وطنية ترضى عنها جميع الفصائل، وتكون ممثلة لجميع القوى على الساحة الفلسطينية، وتبقى الفصائل الفلسطينية الضابط لتصرفات هذه الحكومة؛ إذ ستلعب جميع الفصائل دور المراقب لأداء الوزراء الجدد، وتسقط الحجج الواهية لأمريكا والدولة الصهيونيَّة بوجود حكومة تابعة لفتح أو حماس، كما لا تتيح هذه الحكومة بهذه التشكيلة للفاسدين من أي فصيل التمادي في الإفساد، وسيُخرج هذا (السيناريو) كلاً من فتح وحماس من دائرة الحرج على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وستُكَوَّن حكومة جديدة تقودها شخصيات مهنية ومستقلة تدعمها فصائل فلسطينية وتؤيدها، وستكون أكثر قدرة على إقناع المجتمع الدولي باستئناف دعمه للفلسطينيين.
وفي حال تشكلت حكومة وحدة وطنية سيكون هناك انفراج سياسي واقتصادي، ومن الممكن أن تتوجه بعض الدول العربية والأوروبية لمحاولة دفع العملية السياسية ؛ ولكنها قد تصدم بعدم قدرة الدول الأوروبية والعربية على فرض توجهاتها السياسية على أمريكا ؛ بسبب التحوُّل في الحكم السياسي من الجمهوريين إلى الديموقراطيين ، وعلى الساحة الصهيونيَّة بسبب الانقسام الداخلي داخل المؤسسة الأمنية والسياسية ، وإمكانية حصول انتخابات مبكرة على الساحة الصهيونيَّة.
* إلى أين يتجه النظام السياسي الفلسطيني أمام تراجع شعبية حركة فتح وفقدها السلطة وخلافاتها الداخلية ؟(/8)
المجتمع الفلسطيني يتجه نحو تحقيق تغيير جذري وعميق على الساحة الفلسطينية من الناحية البنوية والتركيبه السياسية، فبعد أن بقيت حركة فتح تقود المجتمع الفلسطيني طَوال السنوات الماضية جاءت حركة حماس لتقود المجتمع الفلسطيني سياسياً وعسكرياً وخدماتياً ؛ فحماس الآن تمتلك من جماهير الشارع الفسطيني أكثر من 55 % ، كما أن حماس الآن تقود العمل السياسي من خلال قيادتها في الداخل والخارج، وأصبح الكثير من القوى في العالم العربي والإسلامي والدولي يتعامل معها على هذه الصورة، ويتضح ذلك من خلال تمثيلها رسمياً في الكثير من المؤتمرات والوفود الرسمية، كما أن حماس على مستوى الداخل تقود المقاومة قيادة يشهد لها القاصي والداني، حتى القيادات العسكرية الصهيونية اعترفت بذلك ، كما تقود حماس العمل الحكومي من خلال سيطرتها على الحكومة الحالية ، وتحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تُنجح مشروعها هذا ، كما تقود حماس العمل الخدماتي من خلال مؤسساتها الخدماتية التعليمية والاجتماعية والصحية ، التي تنتشر بمئات المؤسسات على مستوى الضفة الغربية وقطاع غزة، ويشهد لها الكثير من حيث الأداء والنزاهة ، مما اضطر الكثير من المؤسسات التعامل معها ، مما يُكَوِّن ظروفاً مناسبة لنمو شعبية أكبر لحماس وتغلغلها في صفوف المجتمع الفلسطيني.
ويشهد الواقع الفلسطيني أيضاً والنظام السياسي الفلسطيني صورة جديدة من خلال ظهور فكرة العمل السياسي المشترك ؛ وذلك بطرح فكرة الحكومة الوطنية، وتجد هذه الصورة دعماً وتأييداً من شرائح المجتمع الفلسطيني جميعها؛ فرجال الأعمال وأساتذة الجامعات والمثقفون والمعلمون توجهوا جميعاً بعرائض لكلٍّ من حركتي حماس وفتح بضرورة العمل على إنجاح مشروع حكومة الوحدة الوطنية ، مما سيشكل اتجاهاً سياسياً جديداً من العمل المشترك على الساحه الفلسطينية، وإيجاد نظام سياسي تشارك فيه جميع الأطياف السياسية داخل المجتمع الفلسطيني.(/9)
* في خبر إعلامي ذاع وانتشر: أن وزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) تفضِّل وجود حماس بالحكومة ! برأيكم لم هذا التفضيل ؟ وهل له علاقة بإضعاف حماس من ناحية عسكرية وإغراقها في أتون السياسة ؟
وزيرة الخارجية الأمريكية ترغب ببقاء حماس في الحكم ليس حُبّاً لها، ولكن أصبح معلوماً للقاصي والداني أن البديل لإخراج حماس من الحكم هو بديل خطير، كما عبر عنه رئيس الوزراء إسماعيل هنية ؛ وهو حصول فوضى في المجتمع الفلسطيني قد تمتد إلى مساحات خارج الساحة الفلسطينية، بالإضافة إلى أن الإدارة الأمريكية أصبحت أمام نموذجين من الإسلام السياسي، نموذج تمثِّله حماس في مشاركتها في الحكومة الفلسطينية الحالية والتي وصلت إليه عن طريق الانتخابات الشرعية والنزيهة، ونموذج القاعدة وأسامة بن لادن ، وعلى الإدارة الأمريكية أن تختار أحدها لأنه لا ثالث لهما.
فيبدو أن الإدارة الأمريكية تفهم هذا التوازن على المستوى العالمي، ولكنها ترغب في حكومة تقودها حماس بالشروط والمقاسات التي ترغب بها (رايس) وإدارتها الأمريكية، والمؤشرات على أرض الواقع تفيد أن أمريكا و(رايس) لن تستطيع الحصول على حكومة بالمقاسات الأمريكية ، لأن حماس أثبتت أنها عصية على الخنوع والركوع بعد صمودها في الحكم لمدة عام تقريباً على الرغم من الحصار السياسي والاقتصادي الشديد.
* ألا ترون أن الأحداث التي عمَّت المناطق الفلسطينية أغفلت الكثير من القضايا الحساسة مثل: قضية اللاجئين، والقدس، والجدار ؟ ما رؤيتكم المستقبلية لإحيائها ؟(/10)
قضية اللاجئين والقدس والجدار من القضايا المعقَّدة جداً في الصراع العربي الصهيوني، وهي من القضايا التي لن تُحسَم إلاَّ من خلال العمل العسكري الذي يتطلَّب حرباً شاملة ، أو من خلال عملية تفاوضية في إطار هدنة بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني. وقد يبدو في الأفق أنه لن يكون في السنوات القادمة حسم عسكري ولا فرصة لوجود تفاوض سياسي ؛ بسبب الرفض الصهيوني لفكرة إقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967م ـ على الأقل ـ من حقوق الشعب الفلسطيني الذي فقدها نتيجة قيام الدولة الصهيونية على التراب الصهيوني.
ومن ثمَّ فإن قضية اللاجئين والقدس والجدار تحتاج إلى برامج ثقافية وسياسية حتى تبقى متوقِّدة في أذهان الأجيال الفلسطينية، كما يتطلب من جميع الأطراف الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية دعم المخيمات الفلسطينية ؛ لكي تبقى شاهدة على الجريمة الصهيونية في تشريد أبناء الشعب الفلسطيني من أرضه، وأن يُدعم سكان القدس بما يساعدهم على الصمود والثبات أمام المحاولات الصهيونية لتهويد المدينة ؛ ولكي يُحافظ على التراث الإسلامي فيها، وأن تُقدم المساعدة للمدن والقرى التي يمر الجدار فيها ؛ لمساعدتهم على الثبات والصمود على أراضيهم وعدم تعريضهم للتشريد والتهجير، كما يتطلب تسليط الأضواء على هذه القضايا في المحافل الدولية والقانونية والعربية والإسلامية ، وعقد المؤتمرات و(ورشات) العمل التي تساعد على خلق أدوات ضغط لتحقيق حلٍّ عادل لهذه القضايا.
* في ختام حوارنا يطيب لي أن أشكر الدكتور يوسف كامل إبراهيم على تجاوبه معنا في هذا الحوار، والله نسأل للشعب الفلسطيني الحفظ والرعاية والفرج القريب العاجل ، إنَّه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.(/11)
العنوان: الواقعية أو (الوضعية)
رقم المقالة: 317
صاحب المقالة: بدر محمد المعيقل
-----------------------------------------
المقدمة:
الحمد لله أتم الحمد وأعلاه، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتبع سنته واهتدى بهداه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فهذا البحث في (المدرسة الواقعية)، قمت به بناءً على تكليف من شيخنا وأستاذنا الدكتور محمود مزروعة، ضمن مادة (الفلسفة الحديثة).
وقد قسمت البحث إلى الآتي:
المبحث الأول: في التعريف بالمذهب الواقعي، وبداية ظهوره.
المبحث الثاني: أوجست كونت والمدرسة الواقعية، وينقسم إلى عدة مطالب.
المطلب الأول: نشأة أوجست كونت.
المطلب الثاني: أوجست كونت والمدرسة الواقعية، وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: نشأة أوجست كونت.
القسم الثاني: فكره من خلال محاضراته ومؤلفاته.
المطلب الثالث:علم الاجتماع وعلاقته بالوصفية (الواقعية) عند كونت.
المطلب الرابع: أوجست كونت ودين الإنسانية.
المطلب الخامس: الواقعية وحالات البشرية.
المطلب السادس: بين كونت والوصفيين الأوائل، والوضعيين المناطقة.
المبحث الثالث: الواقعية وأقسامها.
ولقد بذلت في هذا البحث ما استطعت في ظل ما هو موجود من مراجع، سائلاً الله تعالى التوفيق والتسديد إنه على كل شيء قدير.
المبحث الأول: التعريف بالمذهب الواقعي (الوضعي) وبداية ظهوره:
المذهب الوضعي:
هو الاسم الذي أطلق على:
(أ) المذهب الذي أسسه (قعد له ونظر له) في القرن التاسع عشر الفيلسوف الفرنسي "أوجست كونت" 1798 – 1857، والحركة التي قام بها، وسيأتي تفصيل ذلك.
(ب) على الاتجاه الفلسفي الذي لا تعد وضعية كونت إلا مثالاً واحداً منه.(/1)
والوضعية بالمعنى الأوسع: هي الرأي القائل بأنه ما دامت المعرفة الحقيقية كلها مؤسسة على الخبرة الحسية ولا يمكن أن تتقدم إلا بواسطة الملاحظة والتجربة، فإن المحاولات التأملية أو الميتافيزيقية لاكتساب المعرفة عن طريق العقل غير المحدود بالخبرة لابد أن يتخلى عنها لصالح مناهج العلوم الخاصة[1].
فالواقعيون يرون أن للأشياء الخارجية وجوداً عينياً مستقلاً عن الذات التي تدركها، والمعرفة صورة مطابقة لحائق الأشياء في العالم الخارجي، فالعالم الخارجي كما هو مدرك في عقولنا ليس إلا صورة للعالم الموجود في الواقع ويسلمون تسليماً أعمى بقدرة الحس وصحته[2].
فهي إعلانه للإلحاد، ووضعية وواقعية تدل على مدرسة واحدة، إلا أنه غلب استخدام (الواقعية) في الأدب وغلب استخدام (الوضعية) في الفلسفة وكلاهما وجهان لعملة واحدة.
فالواقعية : نظرية تذهب إلى أن للمعاني والكميات وجوداً مستقلاً عن الذهن، هذا هو الأساس الذي يتفق عليه الواقعيون وإن اختلفوا في تفسيره.
ومسألة الكليات وإثبات وجودها في الخارج مسألة في غاية الأهمية فهي الأساس لكثير من العقائد الباطلة كالقول باتحاد الله بمخلوقاته، والقول بأن المعدوم شيء، وغيرها[3].
ولعل بداية الواقعية كانت محاولة للرد على السوفسطائيين الذين أقاموا فلسفتهم على القول بالنسبة الذاتية والموضوعية، ورتبوا على ذلك الشك في الإدراك الحسي ومطابقته للواقع، وهذا هو الجانب الذاتي للنسبية، كما نفوا أن يكون للأشياء حقائق ثابتة، بل هي عندهم في تغير مستمر، وهذا هو الجانب الموضوعي للنسبية، وبعد ظاهرة الشك التي أصبحت أزمة فكرية ألغت كل معيار للحقيقة، حاول أفلاطون وأرسطو ومن قبلهما سقراط – وإن كان قد حصر اهتمامه بالجانب الأخلاقي- أن يبرهنوا على بطلان النسبية، وإثبات أن التغير الظاهر في الأشياء لا يقتضي انتفاء حقائقهما الثابتة كما يقول الشكاك[4].
الواقعية
المبحث الثاني
الفصل الأول(/2)
أوجست كونت والمدرسة الواقعية
المطلب الأول: نشاة أوجست كونت:
أوجست كونت: فيلسوف فرنسي، ولد في مونبليه في يناير 1798م لوالدين كاثوليكيين، حصل على مكان في مدرسة الفنون التطبيقية بباريس في عام 1813م، لكنه كان من صغر السن بحيث لم يصلح لأن يلتحق بها حتى عام 1814م، وفي عام 1816 تزعم كونت، حركة عصيان قام بها الطلاب، وكان من نتائجها أن طرد وبقية وزملائه من نفس السنة الدراسية.
وفي عام 1817م أصبح سكرتيراً لـ"سان سيمون" الكاتب الاشتراكي، وقد أثر فيه "سان سيمون" إلى حد بعيد.
لكن نظراً لأن كونت كانت يفوقه إحاطة بالمعرفة العلمية وقدرة على عرض تفكيره، اعتقد بعضهم أنه كان المؤلف الحقيقي لكثير مما نشر باسم "سان سيمون" في تلك الفترة.
وفي عام 1822هـ ظهر تحت رعاية "سان سيمون" كتاب كونت "خطة للمؤلفات العلمية اللازمة لإعادة تنظيم المجتمع" وهو يحتوي على الغالبية العظمى من أفكاره فلسفته في صورتها المكتملة.
وفي عام 1824 تخاصم كونت مع "سان سيمون" واعتزل خدمته، وفي عام 1825 تزوج من "كارولين ماسان" التي التقى بها لأول مرة كما يقول في – الملحق السري الذي أضافه إلى وصيته – حينما كان يفيد من خدماتها وهي بغي[5].
المطلب الثاني: فكره من خلال محاضراته ومؤلفاته:
بدأ كونت في عام 1826 إلقاء سلسلة من المحاضرات العامة في "فلسفته الوضعية" وكان يتابع هذه المحاضرات بعض أقطاب العلم، لكن كونت اضطر إلى الانقطاع عن إلقاء هذه المحاضرات بسبب مرضه العقلي.
وفي العام التالي حاول أن ينتحر غرقاً في نهر السين، لكنه عاد في عام 1829م فاستأنف محاضراته العامة التي نشرت في ستة أجزاء في الفترة من عام 1830 إلى عام 1842 بعنوان "محاضرات في الفلسفة الوضعية" وهذا هو مؤلفه الرئيسي، وفيه يبسط نظريته في المعرفة وفى العلوم، ويضع أسس العلم الجديد الذي أسماه في بادئ الأمر "الفيزيقيا الاجتماعية" ثم أسماه بعد ذلك علم الاجتماع.(/3)
والدعوى التي يطرحها كونت في هذا المؤلف للبحث هي أننا ينبغي أن ننصرف عن محاولتنا استكشاف علل للعامل الطبيعي فيما وراء هذا العالم، سواء حاولنا ذلك بناءً على أساس لاهوتي أم على أساس طبائع أو ماهيات ميتافيزيقية، وذلك في سبيل المنهج العلمي الذي يربط وقائع الملاحظة بعضها ببعض.
وهو يرى أن العلوم الوضعية قد تطور على نحو مطرد، بحيث كانت العلوم الأولى في سلسلة التطور أساساً يقوم عليها ما تلاه من علوم.
ومن هنا كان ترتيب العلوم الذي يضعه على نحو تصاعدي من حيث درجة التعقيد كما يلي:
الرياضة فالفلك، فالفيزيقيا والكيمياء، فعلم الحياة (الذي يضمنه علم النفس) ثم يبقى بعد ذلك علم الاجتماع، وهو العلم الذي يزعم كونت أنه مؤسسه[6].
المطلب الثالث: علم الاجتماع وعلاقته بالوضعية (الواقعية) عند كونت.
إن علم الاجتماع كما يتصوره كونت يتكون من الجانبين: السكوني والحركي للمجتمع (الاستاتيكي والديناميكي).
فأما فيما يتعلق بالنوع الأول، فقد رأى أن العناصر الاجتماعية مرتبطة فيما بينها ارتباطاً وثيقاً في وفاق اجتماعي، بحيث يستحيل أن يتغير جزء من أجزائه تغيراً جذرياً دون أن تترتب على ذلك آثار خطيرة على المجتمع بأكمله.
وأما فيما يتعلق بالنوع الثاني، فقد رأى كونت أن التطور العقلي هو العلة الرئيسية للتغير الاجتماعي، وأن المجتمع الإنساني بناء على ذلك يمر بنفس المراحل اللاهوتية والميتافيزيقية والعلمية الوضعية التي تمر بها العلوم، وعلى ذلك فقد كانت هناك بادئ ذي بدء مرحلة من الحكم الديني، وهي مرحلة تقليدية اتسقت فيها السلطة بعد ذلك بين قوة الملوك الدنيوية وقوة الكهنة الروحانية.(/4)
وفي المرحلة الميتافيزيقية حدث نوع من الفوضى تعرض فيها كل من السلطة الدنيوية والسلطة الروحانية للهجوم: على أن مرحلة الانتقال هذه تعقبها المرحلة الوضعية حينما يُكوِّن رجال العلم قوة روحية جديدة تبقى على الأيام: حينئذ يقام مجتمع منظم على أساس التعاون الذي ستؤدي إليه المعرفة الوضعية بالوقائع الاجتماعية[7].
المطلب الرابع: أوجست كونت ودين الإنسانية:
كان كونت كثير الخصومات مع إدارة المدرسة التي كان يعمل بها وهي مدرسة الفنون التطبيقية، والذي كان يأمل أن يشغل فيها منصب أستاذ، لكنه لم يحصل بها إلا على وظائف دنيا في التدريس وامتحان الطلاب، ونتيجة لتلك الخصومات، فَقَد هذه الوظائف.
وفي عام 1842م انفصل عن زوجته وإن كانت لم تنقطع عن متابعة محاضراته، وقد رتب له (ج ، س مل) معونة مالية حتى يتمكن في مواصلة أبحاثه.
وفي عام 1844م تعرف كونت بـ "كولتير دي فو" التي كان زوجها متخفيا من البوليس في بلجيكا".
وما أن عرفها حتى هام بها حباً، لكنها لم تمنحه إلا امتيازات الصداقة، ولقد زعم كونت أنه تعلم على يديها أهمية إخضاع العقل للقلب.
واتخذت كتاباته بعد موتها في عام 1846 طابعاً جديداً، فما كان المجتمع – وفقاً لاتجاه فكره الجديد – يتجدد عن طريق العلوم الطبيعية والاجتماعية وبقوة العلماء الروحية فحسب؛ ولكن عن طريق دين دنيوي هو دين الإنسانية، وهو الدين الذي كان من المفروض أن يكون "كونت" كاهنه الأكبر.
ولقد بسط "كونت" تفاصيل هذا الدين الجديد في مؤلفاته التالية: "المنظمة العلمية للوضعية" 1848، "وتعاليم الدين الوضعي" 1852، والمجلدات الأربعة التي بعنوان "نظام الحكم الوضعي"، وثمة مقالة أخرى كتبها في وقت مبكر من عمره بهذا العنوان، والتي ظهرت ما بين عام 1851 وعام 1854.
ودين الإنسانية عند "كونت" يهدف إلى عبادة الكائن الأعظم وقد رمز له كونت بصورة الأنثى ، في معابد تحتوى تماثيل نصفية لمن أحسنوا إلى الإنسانية.(/5)
وهناك التقويم الوضعي بما فيه من شهور سميت بأسماء:
موسى، وأرشميدس، وفريدريك الثاني، (وقد ضمنهم كونت – من قبيل العرفان بالجميل – أولئك الأصدقاء الذين سعوا لصالحه دون جدوى بصدد منصب الأستاذية بمدرسة الفنون التطبيقية) [8].
ولقد رفض بعض كبار النابهين مثل (لتيريه) في فرنسا، (وجورج اليوت) (وجيم ستيوارت مل) في إنجلترا أن يتبعوه في ذلك.
وبالرغم من هذا فقد أنشئت جمعيات وضعية في أجزاء مختلفة من العالم على غرار النموذج الذي أسسه كونت في 1848م، وفي هذه الجمعيات كانت الإنسانية، هي موضوع الشعار الدينية، واتخذ من علم الاجتماع سند لمثل هذه الديانة الاجتماعية، وصدرت لها مجلة باسم (الإنسانية) ولازالت هياكل العبادة للإنسانية" مقصد العابدين في (باريس) وفي (ريو) وإن يكن ذلك قليل الحدوث[9].
المطلب الخامس: الواقعية وحالات البشرية
ولأن الرب والدين والملائكة والإيمان بالغيب هي من أوهام الذات عند "كونت" وليس لها وجود في الواقع، فقد وضع ثلاث حالات تقدم عليها البشرية.
الحالة الأولى: اللاهوتية: وهذه الحالة قد مرت بأدوار ثلاثة:
(أ) الفيتيشية:
وهي اعتقاد أن الظواهر الطبيعية حياة، ومن ثم فيجب التقرب إليها وتقديمها، وهي ما يسمى "بالطوطم".
(ب) التعديد:
ويعني تعدد الآلهة: أي أن لهذه الطبيعة قوى وكائنات مفارقة لها، هي التي تتصرف وتتحكم بها (الطبيعة)، فجعل لكل ظاهرة إله مفارق لها. فهناك إله الحرب،وإله العيد، وإله الحب.. إلخ.
واستدل بما هو موجود عند الإغريق من تعدد هذه الآلهة.
(ج) التوحيد:
وأعظم مثال عنده لهذا الدور النصرانية الكاثوليكية.
الحالة الثانية: الحالة الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة)
فأخذ الإنسان يبحث في علل الأشياء فأرجعها إلى الطبيعة (المادة) ورفض المفارقات تماماً.(/6)
فانتقل من الإله المفارق إلى الإيمان بالطبيعة نفسها، فهي مجرد تعديل مترف للمرحلة الأولى، ومن أمثلتها عند كونت: "النظرية الكيميائية عند اجتذاب الشبيه بشبيهه، والنظرية البيولوجية عن الأرواح الحية".
الحالة الثالثة: الحالة العلمية أو الوضعية أو الواقعية:
وهي حالة نضوج الإنسانية واكتمال العقل والفهم عندها، فانتقل الإنسان إلى الحالة العلمية أو الواقعية أو الوضعية، والتي رفض من خلالها البحث عن العلل المطلقة (ما الهدف، ما الغاية..) وبدأ مرحلة الملاحظة التجربة وتقنين القوانين.
وكان كونت يرى أن العلوم جميعاً تمر بهذه المراحل الثلاث كما حدث لعلم الفلك مثلاً في ارتقائه من التنجيم وعبادة الشمس، ولعلم الكيمياء في ارتقائه من الكيميا القديمة[10].
المطلب السادس: بين كونت والوضعين الأوائل، والوضعيين المناطقة
لقد ذهب "كونت" والوضعيون الأوائل إلى أن حل المشكلات الميتافيزيقية فوق طاقة الإنسان، على حين ذهب الوضعيون المناطقة في وقتنا الحاضر إلى أنه عندما يتخذ إمكان التحقق معياراً للمعنى، فإن المشكلات الميتافيزقية عندئذ تبدو مجرد مشكلات زائفة ستظل بغير حل، لا لأنها مما يصعب حله بل لأنها تخلو من المعنى.
وموضوع القصور في جميع نماذج المذهب الوضعي هو الزعم بأن هناك وقائع، كل واقعة منها متميزة من سائرها وتستطيع الملاحظة والتجربة أن تكتشفها وأن تربط بينها، وعندما يحاول الوضعيون أن يبسطوا رأيهم في طبيعة هذه الوقائع فإنهم يقدمون إجابات شديدة الاختلاف.
"فالطبائع البسيطة" عند (بيكون) والانطباعات عند (هيوم) والوقائع الذرية" التي قال بها الوضعيون في القرن العشرين تثير مشكلات نظرية فيها من المراوغة ما لا يخفي[11].
المبحث الثالث
الواقعية وأقسامها
يقسم كثير من الباحثين في الفلسفة الحديثة الواقعية إلى أقسام عدة:
أولاً: الواقعية الساذجة:(/7)
وهي واقعية رجل الشارع الذي يحصر نفسه في دائرة حياته الضيقة، يدبر أمور حياته ومعاشه ، ويكرس نفسه فيها حتى يغرق إلى أذنيه، هذه هي الصورة الأولى للواقعية الساذجة، كما يعرفها (هيدجر).
فهو يثق ثقة عمياء بالمعرفة التي تأتي له عن طريق الحواس، والواقع عنده هو ما تقدمه لها الحواس.
وعلى ذلك فإن الإدراك في الواقعية الساذجة يتميز بأنه إدراك فوتوغرافي، ومعنى ذلك أنه إدراك منسوخ من الواقع، لأنه ينقل الواقع المحسوس بأمانة دون تصرف، ولأنه كذلك إدراك ممتزج بالواقع تائه ضائع فيه[12].
فالمعرفة الواقعية شبيهة بالصورة التي تلتقطها آلة التصوير[13].
ثانياً: الابتعاد عن الواقعية الساذجة:
حيث إن الرجل العادي لا يظل طويلاً تائهاً هكذا في العالم المحسوس لا يشعر بكيان مستقل لنفسه، ولا يشعر باستقلال وجوده، فلا يظل الإنسان طويلاً في هذا الاختلاط غير المتميز مع الأشياء إذ سرعان ما يتجه إلى ذاته، ويقلل من تهالكه على العالم الحسي الخارجي ويزداد شعوره بذاتيته.
حينئذ تبدأ مرحلة جديدة يفصل فيها الإنسان بين نفسه وبين وجود الأشياء الخارجية ويشعر بأنه قوة يجب أن يعمل حسابها في العالم.
ومن ناحية أخرى فإن الإنسان يكتشف أن إدراكه للأشياء الخارجية قد يختلف عن إدراك الشخص الآخر، ومعنى ذلك أن به شيئاً ما يميزه عن الأشخاص الآخرين، وأنه يتقبل الآثار الحسية على نحو يغاير تقبل الأشخاص الآخرين لها، وهذا من شأنه أن يزيد الشعور بذاتيته ويقلل من انصهاره في العالم الخارجي، ثم إنه قادر على أن يعيد إبداع العالم من جديد وإلباسه صورة غير صورته، وهذا من شأنه أن يعطيه ثقة هائلة في ذاته، ومن ثم يبعد عن الانصهار في الأشياء الخارجية، ويسعى إلى الفصل بين ذاته وبين هذه الأشياء.
وهذا إيذان بانتهاء الواقعية الساذجة وببدء الإنسان مرحلة جديدة من مراحل تطوره الفلسفي، وهي مرحلة المثالية.(/8)
وقد تسبق الحركة المثالية موجة من الشك، يضع فيها الإنسان وجود الأشياء الخارجية موضع الشك ويعصف بقيمة إدراكاته الحسية.
تبدأ الحركة خجولة محدودة شأنها في ذلك شأن كل الحركات في أول نشأتها.
حيث صور ديكارت العلاقة بين الذات والعالم الخارجي على أنها علاقة ثنائية، وهذه الثنائية مؤسسة على التوازي بين الذات والموضوع.
والمثالية لا تقع بهذه النظرة المتهيبة الخجولة إلى عالم الامتداد الحسي ولذلك نراها تحاول أن تعدل من خطتها لتدخل العالم المحسوس في حوزتها، بدلاً من أن تتركه في حالة توازٍ يوشك فيها أن يفلت من بين يديها.
ومن هنا نفهم الدور الذي لعبه (كانت) في تاريخ المثالية فقد اتخذ "كانت" نقطة بدئه من التجربة.
والتجربة كما يفهمها عبارة عن العالم المحسوس من حيث أنه خاضع للعقل ومن حيث أن العقل الباطن له مبثوث فيه.
فلم تعد المثالة "الكانتية" تلك المثالية الخجولة التي نجدها عند ديكارت[14].
ثالثاً: الواقعية الفلسفية:
ويندرج تحتها: الواقعية البراجماتية، والتي هي أرقى من الواقعية الدراجة وأكثر نضوجاً منها: فالرجل البراجماتي، يعترف مقدماً بأخطائه ولا يقف في سلوكه عند الظاهر من الأمور كما يفعل الرجل العادي لأنه يريد أن يحقق للإنسان كل ما يفيده في حياته.
ولكن البراجماتي لا يهتم بالواقع إلا بالقدر الذي يفيده ليكون متمشياً مع مصالحه الشخصية وحاجاته الفردية، فهو لا يهتم إلا بما يعنيه. وهو لا يعترف بحقيقة إلا بما يؤدي إلى تحقيق أغراضه.
ولهذا فإن الأبحاث البراجماتية كثيراً ما تنتهي إلى أنواع مختلفة من المثالية.(/9)
ويندرج تحتها كذلك: ما يسمى بالواقعية التحليلية،وهو الاسم الذي أطلقه عليها أحد مؤسسي المذهب وهو "براتراند راسل" والذي يعتقد – شأنه في ذلك شأن جميع الواقعيين – أن وجود الأشياء ليس رهناً بمعرفتها، أي أن وجود الشيء مستقل عن معرفتي له، ويتعدى أو يفوق هذه المعرفة والفلسفة عند راسل (تحليلية) هي عبارة عن تحليل للألفاظ والقضايا التي يستخدمها العلماء، والتي يقولها الناس في حياتهم اليومية، فليس من شأن الفيلسوف أن يقول للناس خبراً جديداً عن العالم، وليس من مهمته أن يحكم الأشياء، بل إن مهمته محصورة في تحليل وتوضيح المعاني والألفاظ والعبارة تحليلاً وتوضيحاً منطقيين.
ومعنى ذلك أن الوجود الحقيقي عند راسل وأصحاب الوضعية المنطقية ليس هو وجود الشيء أو وجود الموضوعات الشيئية، بل وجود الماهيات والمعاني الرياضية أو المنطقية التي يقوم الفيلسوف بتحليلها وهذا ما يمثل عند راسل الوجود الواقعي بمعنى الكلمة[15].
فالواقعية: نظرية تذهب إلى أن للمعاني والكليات وجوداً مستقلاً عن الذهن. هذا هو الأساس الذي يتفق عليه الواقعيون وإن اختلفوا في تفسيره.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على محمد البشير النذير المؤيد بالمعجزات والبينات الباهرات، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الناظر والمتأمل في حياة وفكر الفلاسفة المحدثين – والمدرسة الواقعية مثالاً على ذلك – يعلم علم اليقين مدى ما وصل إليه أولئك من إلحادٍ عقدي، وانحطاط فكري وسلوكي، واعتمادٍ على المحسوسات والمدركات، وكفرٍ بالغيبيات، ولعل ما تعيشه كثير من المجتمعات اليوم من حركات وجماعات وتيارات هو نتاج ذلك الفكر.
والحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة،
والحمد لله أولاً وآخراً
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المراجع
1) تاريخ الفلسفة لإميل برهيين والفلسفة الحديثة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة بيروت...(/10)
2) الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية، ضمن فتاوى شيخ الإسلام.
3) روح الفلسفة في العصر الوسيط، تأليف: واتن جلسون، ترجمة وتعليق: د/إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، الطبعة الثالثة.
4) الفلسفة أصولها ومبادؤها، محمد علي أبو ريان، دار المعرفة الجامعية، 1978م.
5) المرجع في الفكر الفلسفي نحو فلسفة توازن بين التفكير الميتافيزيقي والتكفير العلمي، د/نوال الصراف الصايع، دار الفكر العربي.
6) المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية.
7) المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها، د/ عبد الله القرني، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع.
8) مقدمة في الفلسفة العامة، د/ يحيى هويدي، الطبعة التاسعة، دار الثقافة للطباعة والنشر القاهرة.
9) الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية: فؤاد كامل، جلال العشري، عبد الرشد صادق، راجعها وأضاف إليها د/زكي نجيب محمود.
---
[1] الموسوعة الفلسفية المختصرة، ص430.
[2] الفلسفة أصولها ومبادؤها محمد على أبو ريان، دار المعرفة الجامعية، شارع الإسكندرية 1978، ص230.
[3] الرد على المنطقيين (4 ، 73).
[4] المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها عبد الله القرني، ص379.
[5] الموسوعة الفلسفية المختصرة: نقلها عن الإنجليزية: فؤاد كامل، جلال العشري، عبد الرشيد صادق، راجعها وأضاف إليها: د/زكي نجيب محمود، ص 356.
[6] المرجع السابق، ص 356.
[7] المرجع السابق ص 357. وانظر روح الفلسفة في العصر الوسيط تأليف واتن جلسون. ترجمة وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، الطبعة الثالثة، 1996، ص459.
[8] الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 357.
[9] نفس المرجع ، ص 432.
[10] من إملاء الدكتور محمود مزروعة. وانظر الموسوعة الفلسفية المختصرة، ص431.
[11] الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 413، وانظر الفلسفة وأصولها ومبادؤها، محمد علي أبو ريان ص234 – 235.
[12] مقدمة في الفلسفة العامة ، ص 244.(/11)
[13] نظرية المعرفة، د.زكي نجيب محمود، (الواقعية).
[14] مقدمة في الفلسفة العامة، د/ يحيى هويدي، ص 248 ، 249.
[15] مقدمة في الفلسفة العامة، د/ يحيى هويدي، ص250 – 253.
وانظر تاريخ الفلسفة لإميل برهيين– الفلسفة الحديثة ترجمة جورج طرابيشي، ص 230 – 258، دار الطليعة الطباعة ، بيروت.(/12)
العنوان: الوجودية
رقم المقالة: 318
صاحب المقالة: د. محمود مزروعة
-----------------------------------------
مذهب مادي حسي إلحادي، يركز على الوجود المادي الفردي للإنسان، رافضاً كل الضوابط التي تنظم إشباع دوافع الإنسان وشهواته.
أولاً: عوامل نشأتها
ثمة عوامل كثيرة يذكرها المؤرخون للفكر الوجودي، لكن أهم هذه العوامل ما يلي:
1- تحكم الكنيسة في شئون الناس العقدية والكونية، وفرضها آراء تصادم العقل والواقع، وتناقض البداهة والفطرة.
من أمثال: التوحيد والتثليث – الصلب والفداء... إلخ ويعبر (كبر كجورد) ممن أثرت العقائد الكنيسة في فكره الوجودي فيقول: "إن الصليب هو الصورة الوحيدة والانفعال الوحيد اللذان كانا عندي عن المنقذ ورغم طفولتي كنت كأني رجل مسن، وقدراً رافقتني هذه الصورة طول حياتي ومنذ طفولتي الأولى نفذ سهم الحزن في قلبي، وما دام فيه فسأظل ساخراً، ولو انتزعته لمت"
2- الحروب العالمية – التي أورثت الشعوب البؤس والتشرد والجوع والحرمان.. حيث شاهد فلاسفة الوجودية مشاهد الظلم الاجتماعي في روسيا القيصرية، وفي فرنسا اللويسية، ثم كانت المآسي التي صاحبت تطبيق الشيوعية في روسيا، مآسي الحرب العالمية الأولى والثانية، وما خلف هذا وذاك لدى المشاهدين له من يأس وقنوط وشك وحيرة ينتج عن كل ذلك إنكار لكل القيم والمبادئ والأخلاق مما جعل أحد زعماء الوجودية يوجه نداءه لكل الجرذان التي تعيش تحت الأنقاض وفي الخنادق: "أن هبوا من نومكم، وأفيقوا من سكرتكم، وأعيدوا أيامكم التي فقدتموها، واطرحوا وراء ظهوركم كل ما يربطكم بأمور الدين، ومبادئ الأخلاق، وقواعد الأعراف".
3- خُلُوّ المجتمعات الغربية النصرانية من الوازع الديني، نتيجة فقدها والإيمان بما يشيع لديها من دين، والثقة في رجاله، حينذاك يبدأ المجتمع كله في التردي والانحطاط في مهاوي الشك والحيرة.
وقد توفر ذلك كله للمجتمعات الغربية نتيجة لأمرين هامين:(/1)
أولاً: مبادئ وعقائد النصرانية التي تخالف الفطرة والبديهة كما بينا.
ثانياً: انحراف رجال الدين النصارى من القسيسين الذين تاجروا بالدين واستغلوه في إشباع شهواتهم الدنيئة.. ما جعل بعضهم يطلق نداءه الشهير: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس".
4- تَعْقُبُ الحروب دائماً هزات اجتماعية ونفسية، تنتج عن المآسي التي تصاحب الحروب وتعقبها، وأهم هذه المآسي، انتشار الفقر والجوع، وانتشار المشردين، والأطفال الأيتام الذي لا عائل لهم، والأولاد الذين لا يعرفون آباء لهم أو أسرة أو هوية, وعلى أيدي هؤلاء المشردين وفاقدي الهوية تنتشر الأفكار الشاذة، والآراء الضالة..لأن هؤلاء يكونون رافضين للأعراف والتقاليد والدين، متقبلين كل فكر متطرف بعيد عن الضبط والالتزام.. وعلى أيدي هؤلاء انتشرت الوجودية وذاعت أفكارها وخزاياها.
أما عن نشأة الوجودية وفلاسفتها الذين دعوا إليها.. فمعلوم أن هذه الفلسفة لا يمكن أن تنشأ في مجتمع يدين بالدين الحق، ولكنها تنشأ في الملاعن ومجتمعات الوثنية، ولذلك قيل في نشأتها. إنها بدأت بذورها الأولى في المجتمع اليوناني القديم على يد سقراط وأفلاطون وأرسطو ثم على أيدي الروقيين.
فلاسفة الوجودية:
مما يتصل بالحدث عن نشأة الوجودية، الحديث – أيضاً- عن فلاسفتها ... والحديث عن فلاسفتها سيؤدي بنا إلى معرفة المجتمعات والبيئات التي ظهرت فيها تلكم الفلسفة الهابطة المسفة.
1- يذهب البعض إلى ربط الفكر الوجودي بتاريخ قديم يرجع إلى الفيلسوف اليوناني سقراط... الذي نادى نداءه الشهير: "اعرف نسفك بنفسك" والذي يقولون عنه: إنه "أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض"... وأول من حارب الفكر السوفسطائي.
2- وقد يذهب بعضهم إلى أنها ترتبط بصلة وثيقة بالفلسفة الرواقية التي رفضت الفكر السوفسطائي وحاربته كما حاربت من قبل سقراط، ثم اعتنت بالإنسان وجعله سيد نفسه.(/2)
3- ولكنا إذا ما أردنا أن نربط الفكر الوجودي بتاريخ قديم أو بإحدى المدارس الفلسفية القديمة، فيبدو لنا أن ارتباطه يجب أن يكون بالفكر الأبيقوري أكثر، وكذلك بكل المدارس التي نتجت عن الأبيوقرية، وبالذات التي تنحو منحى اللذة الوقتية السريعة.
فإننا عاجزون عن البرهنة عجزاً لا يقوى عليها المذهب الاعتقادي ولدينا فكرة عن الحقيقة لا يقوي عليها مذهب الشك.
4- لكن الوجودية الحديثة ترجع في أصلها إلى الفيلسوف (بسكال) 1623 – 1663م الذي عاش يعبر عن فكر البؤس والتشاؤم والحيرة والشك، والذي عبرنا عن فكره بالنص الذي ذكرناه عنه.. عند الحديث عن المبدأ الأول من مبادئ الوجود .
5- ثم جاء من بعده بحوالي قرنين من الزمان الفيلسوف الذي يعتبره الغربيون أبا الوجودية الحديثة. أعني به (سورين كير جودر) الذي ولد عام 1813م، وهلك عام 1855م.
6- ثم كان أشهر دعاتها، والذين عملوا على نشرها، وذلك من خلال أفكاره، ومؤلفاته في القصة والمسرح... ولكن الذي ساعده على ذلك إنما هي الظروف التي عاشها بعد تطبيق الشيوعية في روسيا وما صاحب ذلك من إجرام وسفك دماء ودمار وتخريب، ثم الحرب العالية الثانية وما خلفت من دمار وبؤس وحرمان، ثم تطبيقه هو نفسه مبادئها الانحلالية هو وعشيقته صاحبته (سيمون دي بوقوار) وتكوينه الجماعات التي نهجت نهجه.
مبادئ الوجودية :
1- الإلحاد وإنكار وجود الله سبحانه:
ويعبرون عن ذلك بأنه لا يوجد سيد في الوجود سوى الإنسان، وأن ما لا نراه ونحسه ونتعامل معه ، ولا يحقق لنا لذة حسية مادية، أو يشبع شهواتنا الجسدية هو غير موجود، وهذا المبدأ لديهم مر بمراحل:(/3)
أولها: كان على يد فيلسوف اسمه (بسكال يلز) 1623 – 1663 كان شاكا متحيرا في وجود الله سبحانه. والذي عبر عن شكه بقوله : "كل ما أراه في الطبيعة مصدر شك وقلق؛ فلو كنت لا أرى شيئا يدل على الخالق لكنت أنكرت وج وده، ولو كنت أرى علاقات تدل على الخالق لكنت استرحت بالإيمان به؛ لكن ما أراه أكبر من أن أستطيع إنكاره، ولكنه أقل من أن يقنعني، فأنا في حالة من الشك والحيرة والقلق تستوجب الشفقة".
ثانيها: على يد كير كجورد الذي زعم أنه مؤمن بالديانة النصرانية....
ثم جاء فيلسوف وجودي آخر، هو (سورين كير كجورد) وهو الذي يراه المؤخرون أبا للوجودية ومؤسساً لها؛ فزعم أنه مؤمن بالنصرانية. ولذلك يذهب بعض المؤخرين إلى تقسيم الوجودية: إلى وجودية مؤمنة، وأخرى ملحدة.. وهذا تقسيم بالكل. والواقع أنها مذهب إلحادي حتى النخاع، كما سيتضح لنا من مبادئه الآتية: "إذا كان الله خلقنا فمن خلق الله؟".
2- الوجود مقدم على الماهية:
هذا المصطلح عندهم يقصدون به أن وجود الأفراد مقدم على النوع، وأن الوجود الحقيقي هو الأفراد، أما النوع فلا وجود له إلا في الخيال وليس له وجود في الخارج، وهم يهدفون من وراء ذلك إلى القضاء على القيم التي يمثلها النوع الإنساني. ويقصرون همهم على الفرد فقط. الذي عليه أن يحقق ذاته بإشباع شهواته وملذاته بأكبر قدر ممكن دون أن يلقي بالاً إلى مصير الإنسانية التي هي حتما إلى الفناء والعدم...
3- التفريق بين الكائن والموجود:
الأشياء كلها كائنة. الجماد والإنسان، لكن الكائن يخرج إلى خير الوجود حين يحقق ذاته بإشباع رغباته دون أي اعتبار إلا بالنداء الذي يصرخ بداخله من شهوات الجوع أو الجنس أو الرغبة في تعاطي المخدرات والمسكرات... إلخ.
ولذلك اشتهرت جماعات الوجوديين بالإغراق في إشباع شهواتهم البهيمية، إلى حد يصل بهم في النهاية إلى اليأس ثم الانتحار تفسير ذلك وفلسفته.
4- الحرية:(/4)
والحرية عند الناس جميعا تعني تحقيق أهدافنا وذواتنا ورغباتنا في إطار احترام وجود ورغبات الآخرين وذلك كمثال رجل كان يتنزه في إحدى الحدائق العامة ولما تعب من المشي جلس يستريح على إحدى الأرائك في الحديقة بجوار رجل كان يجلس قبله... وأراد الرجل أن يتمطى فمد ذارعيه وتمطى، فصدمت يده أنف الجالس بجواره.. المثل.
لكن الحرية عند الوجوديين تعني شيئاً آخر لا يخطر على بال أحد من العقلاء، إنها حرية الموتورين، حرية الحاقدين، حرية الناقمين على المجتمعات البشرية كلها، بما فيها من عادات وتقاليد وأهداف ثم الدين وبمعنى أوضح هي حرية الذين لا تربطهم بالجماعة رابطة، الذين ليس لديهم شيء يحرصون على بقائه في المجتمع، هي حرية الفقراء ضد الأغنياء، حرية الملاحدة والكفرة ضد المؤمنين بالأديان، حرية الفوضويين ضد الملتزمين المنظمين..
ولكي ينجح دعاة الوجودية في جذب العامة والدهماء والمشردين إلى مبادئهم الهدامة لجؤوا إلى أكثر الطرق والوسائل تأثيراً في هؤلاء المشردين الجوعى، وأكثر الطرق تأثيراً في هؤلاء هو التلويح لهم بإشباع غرائزهم الدنيا، إنه الجنس، والسكر والهروين والانفعالات من كل القيم عن طريق تحقيق كل الشهوات البهيمية.
من المعلوم أن كل فئة أو طبقة لها ما يشغلها ويستقطب اهتماماتها؛ فطبقة العامة والدهماء والسفلة من الذين يحتلون القاع من المجتمعات البشرية لو أننا دعوناهم لحضور ندوة ثقافية، أو المشاركة في عمل اجتماعي ما استجابوا لذلك، ومثل ذلك الطبقة المثقفة لو دعونا بعضهم إلى الهبوط إلى كهوف الوجودين التي يشغلونها بغرض الأكل والشرب والسكر والجنس، فإنه لن يقبل ذلك...
لذلك لجأ زعيم الوجودية المعاصرة (جان بول سارتر) إلى ما يثير انتباه الفئة التي يميل إليها ويسعى إلى اجتذابها ويعرف أنها هي التي تقبل أضاليله ومفاسده.(/5)
وهكذا كان كل المنتسبين إلى الوجودية في كل مكان، في الغرب أو الشرق، ومن خلال المنتسبين إليها في مصر عرفنا مستوياتهم وانتنماءاتهم ومباذلهم ومفاسدهم.
5- القلق:
يرتبط بالحرية مبدأ آخر هو القلق والقلق والهم واليأس والحزن آليات طبيعية ومشاعر عادية لدى الوجوديين.. ,أسباب القلق والهم واليأس كثيرة منها:
أولاً: فقدانهم الإيمان، والقيم العليا في الحياة التي تدفع الإنسان إلى التضحية حتى بنفسه أحياناً، فيجود بها وهو سعيد راض.. لأنهم كفروا بالله, حصروا همهم في هذه الحياة الدنيا المادية.
ثانياً: تركيزهم الشديد على المتع الحسية، واللذات الجسدية. ولذلك طبعي، لأنه ناتج عن فقدهم الإيمان بما هو فوق هذه الحياة المادية الدنيوية، ولذلك نراهم في هم وقلق حين تفوتهم إحدى الملذات الحسية حين يكونون مشغولين بإحدى الملذات الأخرى.. ولنضرب لذلك مثالا يورده كتابهم.
فلو فرض أن إنساناً عرض عليه أن يختار وسيلة من وسائل متع أربعة، عليه أن يختار واحدة منها مثلا: الذهاب إلى المسرح، أو قضاء نزهة خلوية، أو الجلوس مجلس شراب، أو البقاء بالبيت للعب الورق.
هنا تأتي مشكلة الحرية. لأن حريته هنا تساوى الربع، أي 1 : 4 أو واحد من أربعة، وهذه تسبب حيرة أكبر مما لو عرض عليه اختيارين اثنين، لأن حريته في ذلك تساوى النصف، هذه مشكلة الحرية.(/6)
وتأتي مشكلة الهم والقلق عندما يحدد رغبته ويثبت إرادته على واحدة من الأربعة فإن القلق والهم يثقلان على صدره بسبب الأسف على ضياع اللذات الأخرى التي فقدها حين اختار لذة بعينها مضحياً في ذات الوقت بلذات قد تكون أكثر إشباعاً وإمتاعاً له، وسبب ذلك أيضاً كما يعبر عنه أحد دارسي الوجودية... يقول: (إنني أحس بالهم من جراء طمعي في أن أحصل على أقصى ما يمكن أن تهبني الحياة من متع حسية، ونتيجة لشهوتي في أن أحتلب كل ثانية تمر بي وأن أعتصر كل لحظة تمضي علي وأنا حي أرزق، قبل أن تنزل لي حادثة الموت وأفارق الحياة إلى العدم حيث لا شيء.
6- الوجود بالقوة، الوجود بالفعل:
يرتبط مبدأ الحرية أيضا قضية الوجود بالقوة والوجود بالفعل، أو ما تسميه الفلسفة الأرسطية التي أخذها الفلاسفة الإسلاميون الممكن والموجود، وهذه ترتبط بقضية الكائن والموجود.
7- العبثية:
وهذه ترتبط بقضية الكائن والموجود.
ومن كلام الملحد أنيس منصور: "الحياة عبث، والموت عبث، وكل شيء عبث، أولاً: الوجود بلا هدف، ثانياً: الموت بلا هدف".
8- الآخرون هم الجحيم:
أولاً: هذه توضح وتحدد علاقاتهم الاجتماعية.
ثانياً: صورة من صور المبدأ المادي الحيواني القائل: "الحياة صراع، والبقاء للأقوى، صورة من صور الفكر النيتشوي، أو فكر نيتشة"، ومبدأهم في ذلك: أنت والآخر: "إما أن تحتلبه إلى آخر قطرة، فأنت الموجود والفائز، أو يحتلبك إلى آخره قطرة، فهو الموجود والفائز، أو تقتسمان، فتأتي مشكلة الاختيار".(/7)
العنوان: الوحدة الإسلامية.. (البعبع) المخيف
رقم المقالة: 1365
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
يحاربونها ويَحُولون دون إقامتها لتبقى سيطرتُهم على العالم الإسلامي
الوحدة الإسلامية.. (البعبع) المخيف للمنصّرين والمستعمرين
• ضَرْب الوحدة الإسلامية وتمزيقُها هدفٌ تنصيري قديم، ساعَد في تحقيقه الاستعمارُ عند احتلاله للبلاد الإسلامية.
• القس سيمون: الوحدة الإسلامية تجمع آمالَ الشعوب الإسلامية ويجب أن نحوّل بالتبشير اتجاهَ المسلمين عن الوحدة .
• المنصر (لورنس): إذا بقي المسلمون متفرقين فإنهم يظلون بلا وزن ولا تأثير.
• أرنولد توينبي: الوحدة الإسلامية نائمة.. ولكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ.
• مساندة وتشجيع المذاهب المناهضة للإسلام، كالقاديانية والبهائية والتشيع بجميع صوره وأشكاله.
• مؤتمر أوروبي في برلين عام 1878م يقرر: تمزيق البلاد الإسلامية إلي دويلات، تقام فيها حدود مصطنعة، ودعم الأقليات النصرانية الموجودة في البلاد الإسلامية واستغلالها في إثارة القلاقل والفتن.
• الأوروبيون يدركون جيدا أن المسلمين إذا اتحدوا وتجمعت كلمتُهم فسوف يصبحون سادة العالم كله، وستكون لهم السيطرة والقيادة.
• اتبع الاستعمارُ عند احتلاله للبلاد الإسلامية سياسةَ "فرِّق تَسُد"؛ لأنه يعلم أن قوةَ المسلمين في وحدتهم وضعفَهم في تفرقهم.
• الاستعمار المسيحي سعى إلى إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924م والتي كانت رمزا لوحدة المسلمين.
• • • •(/1)
نتواصل مع القارئ في تلك السلسلة من المقالات التي بدأناها حول المخطط التنصيري الرهيب وخططه وأساليبه في العالم الإسلامي، ونقف هنا مع قضية من أخطر القضايا، التي تخص العالم الإسلامي في المقام الأول، ويعمل لها المنصرون ألف حساب، بل يعُدّون الحيلولة دون إقامتها بين المسلمين هدفهم الأساسي، إذ هي (البعبع) المخيف الذي يخشاه المنصرون والمستعمرون منذ مئات السنين.
وهذه القضية هي: الوحدة الإسلامية، التي لو تحققت بين دول العالم الإسلامي بطوائفه وشعوبه وحكوماته، فسوف تقوى شوكةُ المسلمين، وتكون لهم الغلبةُ والعزة والقوة والمنعة، ولن يجرؤ منصر واحد على البقاء في العالم الإسلامي، ولن تستطيع دولة أيًا كانت، غربية أو شرقية، مهما كانت قوتُها أن تحتل أو تسيطر على جزء ولو يسير من أراضي المسلمين وأوطانهم.
أما وقد غابت هذه الوحدة الإسلامية، فحدّث ولا حرج عن ملايين المنصرين الذين يعملون في دول العالم الإسلامي، سواء بين الأقليات أو الأكثريات، وتفتح لهم أبواب هذه الدول، وتمنح لهم الامتيازات، وحدث ولا حرج عن أراضي المسلمين المنهوبة والمستعمرة هنا وهناك، وعن شعوبهم المغلوبة، التي تستباح دماؤها وأعراضها في كل مكان.
إن الوحدة الإسلامية إذن هي قضية حياة أو موت، بالنسبة للمسلمين في هذا العصر وفي كل عصر، ولا قوة ولا منعة ولا عزة للمسلمين في ظل تفرقهم واختلافهم، ولذلك كان هدف المنصرين والمستعمرين الأول هو ضرب هذه الوحدة والحيلولة دون إقامتها بين المسلمين، يقول القس (سيمون): "إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد على التخلص من السيطرة الأوروبية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية".
• الوحدة الخطر الأعظم:(/2)
وفي المركز العام للوثائق التاريخية بمدينة لندن، توجد وثيقة تحمل رقم 371/5595، كتبها "أورمسبي جو"، وهو وزير سابق للمستعمرات البريطانية في الشرق الإسلامي، تقول الوثيقة:
"إن الحرب علّمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي للإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليست إنجلترا وحدها هي التي تلتزم بذلك، بل فرنسا أيضا. ومن دواعي فرحنا أن الخلافة الإسلامية زالت، لقد ذهبت ونتمنى أن يكون ذلك إلى غير رجعة، إن سياستنا تهدف دائما وأبدا إلى منع الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي، ويجب أن تبقى هذه السياسة كذلك.
إننا في السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخري، شجّعْنا –وكنا على صواب- نموَّ القوميات المحلية، فهي أقل خطرا من الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي، إن سياستنا الموالية للعرب في الحرب العظمى -يعني العالمية الأولى- لم تكن نتيجة متطلبات "تكتيكية" ضد القوات التركية، بل كانت مخططة لغرض أهم، هو إبعاد سيطرة الخلافة على المدينتين المقدستين: مكة والمدينة، فإن العثمانيين كانوا يمدون سلطانهم إليها لمعانٍ مهمة.
ومن أسباب سعادتنا أن (كمال أتاتورك) لم يضع تركيا في مسار قومي علماني فقط، بل أدخل "إصلاحات" بعيدة الأثر أدت إلى نقض المعالم الإسلامية لتركيا.
وفي إيران أيضا وقع مثلُ ذلك؛ فإن (رضا شاه) اتبع سياسة تَحُد من إرادة ومقدرة المؤسسات الدينية، وأدخل القبعة كما فعل الأتراك، بكل ما تحمله القبعة من دلالات على رفض العادات الإسلامية والتقاليد الموقرة المتبعة من قبل. وهذه العادات والتقاليد السائدة فيما كان يسمى قديما بالعالم الإسلامي يجب مقاومتها.
ونبهت الوثيقة في ختامها على أن الوحدة العربية قد تكون حركة تمهيدية لإقامة وحدة إسلامية، ويعني الوزير بذلك ضرورة الحذر من هذا الاتحاد، حتى لا يواجه الاستعمار خطر عودة الإسلام مرة أخري".
• هدف تنصيري قديم:(/3)
والحقيقة أن ضرب الوحدة الإسلامية وتمزيقها، هدف تنصيري قديم، ساعد في تحقيقه الاستعمارُ عند احتلاله للبلاد الإسلامية، فقد انعقد مؤتمرٌ أوروبي في برلين عام 1878م، واتفق المؤتمرون على المقررات الآتية:
1- تحطيم الدولة الإسلامية "دولة العثمانيين"، التي كانت سدا منيعا في طريق محاولة فرض المسيحية على الشعوب الإسلامية، واقتسام تركتها، وقد أخذت اليهوديةُ العالمية على عاتقها في هذا المؤتمر مهمة تفجير الأوضاع الداخلية في البلاد الإسلامية، واستطاعت بواسطة طابورها الخامس من اليهود تأسيسَ أحزاب وحركات وجمعيات سرية، كان هدفها نشر البلبلة والإلحاد، والترويج للمذاهب الهدامة والأفكار المتطرفة، وإثارة النعرات الطائفية والعنصرية، وإيقاد الفتن، وإشعال الثورات، وممارسة التجسس لحساب الدول الأجنبية، ونشر أجهزة التخريب على أوسع نطاق.
2- تمزيق البلاد الإسلامية إلى دويلات، تقام فيها حدود مصطنعة.
3- دعم الأقليات النصرانية الموجودة في البلاد الإسلامية واستغلالها في إثارة القلاقل والفتن.
4- مساندة وتشجيع المذاهب المناهضة للإسلام، كالقاديانية والبهائية والتشيع بجميع صوره وأشكاله، وقد كان الجهل بحقيقة هذه المذاهب وأهداف من يحملون لواءها سببا في استفحالها وتحولها إلى سرطانات خبيثة.
5- مضاعفة الجهود التنصيرية، ومساندة النشاط الكنسي، وتركز هذا النشاط في العالم الإسلامي.
وكان من نتيجة هذه المقررات أن وقعت البلاد الإسلامية فريسة الاستعمار الأوروبي الخبيث، الذي استهدف نهب ثرواتها، وقتل مبادئها، وتفريق شملها. وكان المنصرون هم طليعة الاستعمار في الشرق العربي والاسلامي.(/4)
فالأوروبيون يدركون جيدا أن الإسلام هو الدين الوحيد الخطر على حضارتهم المادية الفاسدة وعلي بقائهم في مراكز السيطرة، ويدركون أن المسلمين إذا اتحدوا وتجمعت كلمتهم، فسوف يصبحون سادة العالم كله، وستكون لهم السيطرة والقيادة، ولن تستطيع أي قوة الوقوف في وجههم؛ فيقول (باول شمتز) مؤلف كتاب (الإسلام قوة الغد العالمية)، وهو مستشرق ألماني: "إن العالم الإسلامي إذا توفر له المال والطاقات والإمكانيات المادية، إلى جانب تكاثر السكان الذي يتميز به المسلمون، إلى جانب العقيدة ذات الجذور الإيمانية الموجودة في القرآن، إذا توفر للمسلمين ذلك فإنهم يصبحون لعنة على العالم، ولا بد من ضرب القوة قبل أن تنضج وتكتمل وتنتظم "، فهو يبصر أوروبا في وقت ما بعد الحرب العالمية الأولى بيقظة الشرق الإسلامي، وأن قوة الإسلام في ترابط المسلمين، ويدعو الأوروبيين إلى الوحدة في مواجهة هذه اليقظة الإسلامية، كي يحتفظوا بمصالحهم الاقتصادية والسياسية في بلدان الشرق، ولكي لا يصبحوا في الغد القريب أو البعيد تحت رحمة المسلمين.
• سياسة "فرّق تسُد":
وقد بحثوا عن أفضل وسيلة لضرب هذه القوة الإسلامية فلم يجدوا إلا نشر الفرقة بين أجزائها، لذلك اتبع الاستعمار عند احتلاله للبلاد الإسلامية سياسة "فرق تسد"؛ لأنه يعلم أن قوة المسلمين في وحدتهم، وضعفهم في تفرقهم.
وسعى هذا الاستعمار المسيحي إلى ضرب ما تبقى من وحدة المسلمين، بإلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا على يد (مصطفى كمال أتاتورك) عام 1924م، والتي كانت رمزا لوحدة المسلمين، ومن بعدها صار العالم الإسلامي مجموعة من الدويلات الصغيرة، التي لا تجمعها كلمة ولا يوحدها صف.(/5)
فعندما سقطت تركيا مع حليفتها ألمانيا خاسرة في الحرب العالمية الأولي، دخلت جيوش الحلفاء أراضي الدولة العثمانية، وسيطرت على معظم أراضيها، ومنها العاصمة إستانبول، وعندما بدأت مفاوضات مؤتمر (لوزان) لعقد صلح بين المتحاربين، اشترطت إنجلترا على تركيا أنها لن تنسحب من أراضيها إلا بعد تنفيذ الشروط الآتية:
1- إلغاء الخلافة الإسلامية، وطرد الخليفة من تركيا، ومصادرة أمواله.
2- أن تتعهد تركيا بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة.
3- أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام.
4- أن تختار لنفسها دستورا مدنيا بدلا من دستورها المستمد من أحكام الإسلام.
وقد نفذ كمال أتاتورك الشروط السابقة، وانسحبت الدول المحتلة من تركيا.
ولما وقف (كرزون) وزير خارجية إجلترا –آنذاك– في مجلس العموم البريطاني، يستعرض ما جرى مع تركيا، احتج بعض النواب الإنجليز بعنف على كرزون، واستغربوا كيف اعترفت إنجلترا باستقلال تركيا، التي يمكن أن تجمع حولها الدول الاستعمارية مرة أخري وتهجم على الغرب، فأجاب كرزون: لقد قضينا على تركيا، التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم؛ لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين: الإسلام والخلافة".
• المتفرقون لا وزن لهم:
ويركز المنصر "لورنس" على ضرب الوحدة الإسلامية كهدف تنصيري في قوله: "إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرا، أو أمكن أن يصبحوا أيضا نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير، ويجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين ليبقوا بلا قوة ولا تأثير".
ويقول (أرنولد توينبي) في كتابه (الإسلام والغرب والمستقبل): "إن الوحدة الإسلامية نائمة، ولكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ".(/6)
وفي عام 1900م قال رئيس إرساليات التنصير الألمانية في تقرير له عن أعمالها: "إن نار الكفاح بين الصليب والهلال لا تتأجج في البلاد النائية ولا في مستعمراتها في آسيا وإفريقيا، بل ستكون في المراكز التي يستخدم فيها الإسلام قوته وينتشر، سواء كان في إفريقيا أو في آسيا، وبما أن كل الشعوب الإسلامية تولي وجهها نحو الآستانة عاصمة الخلافة، فإن كل المجهودات التي نبذلها لا تأتي بفائدة إذا لم نتوصل إلى قضاء لبانتنا فيها، ويجب أن يكون جل ما تتوخاه جمعية إرساليات التنصير الألمانية، هو بذل مجهوداتها نحو هذه العاصمة قلب العالم الإسلامي".
فالمنصرون إذن حرب على كل تجمع إسلامي، صغر أو كبر، وهم يعدون محاربة الوحدة الإسلامية والوقوف دون تحقيقها أسلوبًا من أنجح الأساليب التي تساعدهم في نشر دعوتهم الآثمة.
• إثارة الفتن الداخلية:
وأيسر وسيلة للفرقة عندهم هي إثارة الفتن الداخلية وإشعال نار الخلاف والصراع بين الدول والجماعات.
وخير دليل على ذلك ما كتبه المؤرخ الدكتور (حسين مؤنس) في مجلة المصور المصرية الصادرة في 30/5/1973م، عن القس (صموئيل زويمر)، وسعيه لنشر الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر عام 1919م، إذ يقول:(/7)
"في يوم من أيام الحركة الوطنية في مصر عام 1919م، شارك المسلمون والمسيحيون في جبهة وطنية واحدة، وفي هذا اليوم تسلل المنصرُ الأمريكي (زويمر) إلى الأزهر، هذا الصلعوك الذي ينسب إلى الدين والعلم، وهو في حقيقته جاسوس خبيث، تنفق عليه جماعة دينية في ولاية "كوتيكتكات"، وكان يحتمي بالسفارة الأمريكية، ويكتب مقالات في مجلة تدعى "العالم الإسلامي" –ما زالت تصدر إلى اليوم في مدينة "هارفورد" بالولاية المذكورة، وتطعن في الإسلام دون حياء أو خجل– لقد اندس زويمر بين الطلاب الأزهريين، ثم دخل في حديث مع طالب، وتناول كتبه ينظر فيها، ثم أعادها إليه بعد أن دس فيها رسائل من تأليفه في الطعن في الإسلام، طبعها في مطبعة إحدي الجمعيات القبطية.
وكان غرضه من ذلك أن تقوم الفتنة بين المسلمين والأقباط، ولكن الدسيسة لم يلبث أمرها أن انكشف، ونشرت الصحف مقالات لنفر من علماء الأزهر، يستنكرون فيها عمل هذا المنصر الخبيث، ونشرت جريدة "البلاغ" مقالا عنيفا لكاتب مسيحي اسمه "كليم أبو سيف" بعنوان "المبشرون" قال في بعض فقراته: "عجيب أمر هؤلاء المبشرين، فهم –برغم أنني أستطيع أن أقسم بأنهم لا دين لهم- لا يزالون يرتكبون باسم الدين كل المنكرات والمحرمات التي نهاهم عنها الدين، وهم لا يزالون يتمادون في صفاقتهم وتحديهم لشعور المصريين بتلك الأعمال، وما أظن أناسا رزقوا شيئا من الحياء أو الأدب يستطيعون إتيانه وتحمل مسئوليته. أنتم أيها المبشرون لا أكثر من جواسيس للاستعمار، أتيتم إلى هذه البلاد لا لنشر فضيلة دين معين، بل لاتباع سياسة شريرة موصى بها من جهات معينة، ومن أهداف هذه السياسة إيجاد الخلاف بين المصريين أبناء الأسرة الواحدة.
إذن أنتم لستم مبشرين، وإنما أنتم مجرمون تتخذون الدين ذريعة لارتكاب المنكرات، وأنتم تعلمون أنكم مجرمون حقا.. ولو كنتم شرفاء لبشرتم بالفضائل في مجتمعاتكم الغربية التي لا تؤمن بدين".(/8)
ونتواصل مع القارئ إن شاء الله في مقالات أخرى قادمة حول قضايا التنصير ومخططه الرهيب وأساليبه في العالم الإسلامي، وسعيه إلى ضرب الهوية الاسلامية في كل مكان.
• المراجع:
1. ما يجب أن يعرفه المسلم من حقائق عن التبشير والنصرانية - محمد السليمان الجبهان - الرياض 1976م.
2. الإسلام قوة الغد العالمية -باول شمتز- ترجمة محمد شامة - مكتبة وهبة - القاهرة 1983م.
3. حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر - أحمد عبد الوهاب - مكتبة وهبة - الطبعة الأولى - القاهرة 1981م.
4. الزحف إلى مكة - الدكتور عبد الودود شلبي - دار الزهراء للإعلام العربي - الطبعة الأولى - القاهرة 1989م.
5. محاكمة سليمان رشدي المصري "علاء حامد" - أحمد أبو زيد - دار الفضيلة - القاهرة 1992م.(/9)
العنوان: الوضوء؛ أحكامه وفضله
رقم المقالة: 1174
صاحب المقالة: الشيخ ناصر بن محمد بن مشري الغامدي
-----------------------------------------
الحمد لله القوي المتين خَلَق فسوّى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وله الحكم وإليه الرجعى، يوم يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام الهدى، وصفوة الورى، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أولي الأحلام والنهى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله - سبحانه وتعالى - وراقبوه في السر والنجوى، وتزوَّدوا من الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا، واعملوا صالحاً، وافعلوا الخير لعلم ترحمون.
عباد الله:
الوضوء سمة من سمات الدين الإسلامي الحق الذي حرص على طهارة أتباعه طهارة حسية ومعنوية، وهو فرض من فروض الأعيان في الإسلام التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يحرص عليها، وأن يتعلمها على الوجه المشروع، وأن يحذر من التفريط أو الإفراط فيها؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ [المائدة: 6].(/1)
والغرة والتحجيل وهما من آثار الوضوء - عباد الله - من خصائص أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي خصها الله - تعالى - به عن سائر الأمم؛ تشريفاً لها وتتويجاً، وتطهيراً لها وتمييزاً؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء))؛ رواه البخاري.
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء))؛ رواه مسلم.
وإلى جانب كون الوضوء وسيلة من وسائل التطهر والطهارة في حياة المسلم الذي يتوضأ في اليوم والليلة خمس مرات فهو كذلك من أعظم مكفرات الذنوب ومذهبات الخطايا والآثام؛ فقد قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ((ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات)). قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة))؛ رواه مسلم في "صحيحه".
والمكاره: تكون بشدة برودة الماء، أو حرارته، أو تألم الجسم منه بمرض ونحوه.
عباد الله:
وإذا كان الوضوء أهم شرط لقبول الصلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم في "صحيحه" -: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)). فإن المحافظة عليه، والتنبه لنواقضه وشروطه وسننه وآدابه علامة من علامات الإيمان الصادق في العبد المسلم؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))؛ رواه أحمد وابن ماجه.
معاشر المسلمين:(/2)
صفة الوضوء المشروع الذي جاءت به السنة النبوية المطهرة، وبينته الأحاديث النبوية الشريفة: تتلخص في أن ينوي الإنسان الوضوء لما يشرع له من صلاة، وتلاوة قرآن وطواف، ونحوها، ثم يسمي، ثم يغسل كفيه ثلاثاً، ثم يتمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاث مرات مع غسل لحيته، ثم يغسل يديه مع ا لمرفقين ثلاث مرات، ثم يمسح رأسه كاملاً وأذنيه مرة واحدة بالماء، ثم يغسل رجليه ثلاث مرات مع الكعبين.
ويشترط لذلك كله: أن يكون المتوضئ مسلماً عاقلاً مميِّزاً له نية في العبادة، وأن يكون الماء طهوراً غير نجس. والماء الطهور: هو الماء الباقي على خلقته التي خلقه الله عليها لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه تغيرا فاحشاً، وأن يكون الماء مباحاً غير مغصوب، وأن يزيل المتوضئ قبل الوضوء ما يمنع وصول الماء إلى بشرته؛ من طين وعجين وشمع وأصباغ.
عباد الله:
ومن السنن التي تراعى في الوضوء: السواك؛ ومحله عند المضمضة، وغسل الكفين ثلاثاً قبل البَدء بالوضوء، والبَداءة بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه، والمبالغة فيهما لغير الصائم، وتخليل اللحية الكثيفة بالماء حتى يبلغ داخلها، وتخليل أصابع اليدين والرجلين، والتيامن في غسل الأعضاء، والزيادة على الغَسْلة الواحدة؛ فإنَّ غسل العضو الواحد مرة واحدة هو الواجب وما عدا ذلك سنة. وهذه السنن مكملات للوضوء، وفيها زيادة أجر ومثوبة، وتركها لا يمنع صحة الوضوء.(/3)
فإذا توضأ المسلم هذا الوضوء فقد جاز له أن يصلي، وأن يقرأ القرآن، وأن يطوف بالبيت، ولو طال الزمن على وضوئه ما لم يحصل منه ناقض من نواقض الوضوء؛ وهي: الخارج من السبيلين من بول وغائط ومني ومذي ودم استحاضة وريح، وزوالُ العقل وتغطيته بالنوم أو الجنون أو الإغماء، وأكل لحم الإبل قليلاً كان أو كثيراً. هذه هي النواقض المتفقٌ عليها بين الفقهاء، فمن حصل منه شيء منها انتقض وضوؤه، ووجب عليه إذا أراد الصلاة وتلاوة القرآن أن يتوضأ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - - فيما أخرجه الشيخان -: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)). وقوله – فيمن شك هل خرج منه ريح أو لا - ((فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً))؛ رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش - وكانت امرأة كثيرة الاستحاضة -: ((فتوضئي وصلي؛ فإنما هو دم عرق))؛ أي: دم فساد؛ رواه أبو داود، والدارقطني بسند صحيح.
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه أمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل.
عباد الله:
وأما الخارج من البدن من غير السبيلين؛ كالدم والرعاف، ومس المرأة بشهوة، وتغسيل الميت، وحمله، والردة عن الإسلام فموضع خلاف بين أهل العلم - رحمهم الله - هل تنقض الوضوء أم لا؟، والراجح من قولي العلماء: أنها لا تنقض، لكنَّ الوضوء منها - خروجاً من الخلاف - أحسن وأفضل؛ براءة للذمة، وحرصاً على كمال العبادة، وتحصيل الأجر.
عباد الله:
وإسباغ الوضوء واجب من واجبات الوضوء، ومعناه: إتمام الوضوء باستكمال الأعضاء وتعميم كل عضو بالماء، وألا يترك منه شيئاً لم يصبه الماء؛ فقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة كقدر الدرهم لم يصبها الماء, فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة - كما روى ذلك الإمام أحمد، وأبو داود، وإسناده صحيح.(/4)
ويستعجل بعض الناس فلا يسبغ الوضوء في جميع أعضائه، فربما ترى من يصلى وعقبه لم يصبه الماء؛ بل إن بعضهم ليصب الماء على رجليه صبا دون مسح لهما، أو تفقد لما قد يكون عالقاً بهما من وسخ وقذر، ودون اكتراث لعدد الغسلات التي أمر بها الشارع الحكيم في الوضوء، فيقعون بذلك في وعيد النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: ((ويل للأعقاب من النار))؛ متفقٌ عليه.
ويخطئ في الفهم - عباد الله - مَن يظن أن معنى إسباغ الوضوء كثرة صب الماء على الأعضاء؛ فترى أحدهم يتوضأ بما يعدل بِرْكة ماء؛ مسرفاً في الماء، مضيعاً له، وقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت عنه في "الصحيحين" -: يتوضأ بالمُدِّ، ويغتسل بالصاع. والمُدُّ: ملء كفَّي الإنسان المعتدل إذا ملأهما، ومد يده بهما.
ومعنى الإسباغ المأمور به شرعاً: تعميم العضو المغسول بجريان الماء عليه كله. أما كثرة صب الماء فهذا إسراف مذموم نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحذر منه؛ فقد مرّ - صلوات الله وسلامه عليه - بسعد - رضي الله عنه - وهو يتوضأ، فقال: ((ما هذا السرف؟)). قال: أفي الضوء إسراف؟! فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم ولو كنت على نهر جارٍ))؛ رواه أحمد وابن ماجه.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، وقال: ((هذا الوضوء. فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم))؛ رواه أحمد والنسائي، وسنده صحيح.
وكم شكا الناس من قلة المياه، وتضجروا من تكاليفها الباهظة في بعض المواسم، وهم الجناة عليها بالإسراف فيها، وعدم المحافظة عليها! حتى إن بعض البيوت والحارات لتجري منها الفيضانات المدمرة، والسيول العارمة، والسماء صحو لم تمطر بقطرة واحدة؛ من كثرة ما يستهلك فيها من المياه، ويضيع، فالله المستعان!(/5)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا جميعاً بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله - تعالى - فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أن الوضوء في الإسلام شأنه عظيم، وأمره جسيم؛ ولأجل ذلك فقد شرعه الله - سبحانه وتعالى - في مواضع عدة؛ لما له من أثر في تحقيق الطمأنينة للنفس، وإخماد ثورانها؛ فقد شرع الوضوء عند الغضب؛ لأن الغضب من الشيطان المخلوق من النار، والماء من أفضل الوسائل لإخمادها؛ قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)).
وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتوضأ وضوءه للصلاة عند نومه، وقال - صلى الله عليه وسلم - للبراء بن عازب - رضي الله عنه -: ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة))؛ رواه البخاري.
ويشرع الوضوء - كذلك - عند الأكل لمن كان جنباً من جماع ونحوه؛ قالت عائشة - رضي الله - تعالى - عنها -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة"؛ رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ؛ فإنه أنشط لِلعَوْد))؛ رواه مسلم.(/6)
والوضوء مشروع للعائن ليصبه على من عانه؛ فقد اغتسل أبو سهل بن حنيف، فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعه ينظر، وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد، فقال له عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه؟!، ألا بركت عليه، إن العين حق، توضأ له)). فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم . رواه مالك في "الموطأ".
عباد الله:
ومع شرف الوضوء في الإسلام ومكانته وثوابه ويسره وسهولته، وعناية الإسلام به في مواطن شتى إلا أن الناس فيه طرَفان ووسط؛ فطرَف فرطوا في الوضوء، لا يقيمون له وزناً، لا أحكاماً ولا سنناً ولا واجبات له يحافظون عليها أو يتعلمونها، وربما استحل بعضهم الصلاة وتلاوة القرآن وهو غير طاهر من الحدث ونحوه؛ بل لم يجزم بعضهم بعد بوجوب الوضوء للصلاة. وطرَف ثان من الناس أفرطوا في الوضوء، فترى أحدهم يتوضأ للصلاة الواحدة عشرات المرات، كلما خرج يريد الصلاة وسوس له الشيطان أن وضوءك غير تام، أو أنه انتقض، فيمكث الساعات الطوال في دورات المياه، وقد تفوته الصلاة مع الجماعة وهو معذب باستعمال الماء ووسوسة الشيطان. وطرَف ثالث وسط، يحافظون على الوضوء بصفته الشرعية التي أمر الشارع بها دون إفراط أو تفريط، وهؤلاء هم أولى الناس بالفوز بالنجاة يوم القيامة؛ إذ يبعثون غراً محجلين من آثار الوضوء.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.(/7)
العنوان: الوضوء.. فضله وأحكامه
رقم المقالة: 1352
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ -لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} الأحزاب:70- 71].
أما بعد: فإن المؤمن يوصف بالطَّهَارة، ويوصف المشرك بالنَّجَاسة، فالمؤمن طاهر من الشرك ورجسه، وكلما اقترب من كمال الإيمان كان قلبه طاهرًا من الحقد والحسد والكراهية، وكان عمله طاهرًا من الرياء والسُّمْعَة، وكانت جوارحه طاهرة من المعاصي والآثام.
وأعداءُ الله - تعالى - تَنَجَّسوا بعدائه، والاستكبار عن طاعته فهم أَوْلَى بكل نجاسة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]، ولما كانوا كذلك كانوا حربًا على المؤمنين المتطهرين، يتواصون في نواديهم النجِسة قائلين: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82].(/1)
إن طُهْر المؤمنين كان بالإيمان بالله - تعالى -، والإخلاص له، والمسارعة إليه بالأعمال الصالحات، فالوضوء طهارة للوقوف بين يدي الله - تعالى - والصلاة طهارة تغسل درن الذنوب والمعاصي، والزكاة طهارة للمال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وهكذا سائر العبادات.
والأشياء المحترمة طاهرة، والمؤمن محترم حيًّا وميتًا فهو طاهر، وما في الجنة محترم لذا كان مطهرًا: {خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله} [آل عمران: 15]، وبيوت الله مُحْتَرمة لذا وجب تطهيرها: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وكتاب الله - تعالى - محترم، طاهر مطهر: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 13 – 14]. {رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البيِّنة: 2] لذا كان واجبًا أن لا يمسه إلا طاهر {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلا المُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 – 79].
والطهارة الحسية تكمِّل الطهارة المعنويَّة، فالإسلام دين النقاء والطهارة؛ ولذا امتنَّ الله - تعالى - على عباده بإنزال الماء: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] ومن أول النداءات التي نودي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعثته: {يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدَّثر: 1 - 5].
طهارةٌ حسية بتطهير الثياب، وطهارةٌ معنوية باجتناب الأوثان، قال ابن زيد: "كان المشركون لايتطهرون فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه"[1]·(/2)
وما جاءت الطهارة في النداءات الأولى لهذه الشريعة العظيمة إلا لعظيم أهمية الطهارة في الإسلام؛ بل وجاء الخبر القرآني بمحبة الله - تعالى – للمتطهرين" {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] قال - عليه الصلاة والسلام -: ((نزلت هذه الآية في أهل قباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قال: ((كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية))؛ أخرجه أبو داود وصححه الحافظ[2]
ونصَّت السنة النبوية على أن الطهور شطر الإيمان؛ أي: نصفه[3]، والوضوء للصلاة من أعظم الطهارات التي رتب عليها الأجر العظيم، فمن أسباب محو الخطايا ورفع الدرجات: إسباغُ الوضوء على المكروهات[4]، فالوضوء يخرج خطايا الجوارح والأعضاء، روى عبدالله الصّنابحيُ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظافر رجليه، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة))؛ أخرجه النسائي وابن ماجه، ومسلم بنحوه عن أبي هريرة وفيه: ((حتى يخرج نقيًّا من الذنوب))[5].(/3)
ويعظم فضلُ الوضوء وأثره في حياة المؤمن؛ إذ هو العلامة التي يعرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمته يوم القيامة من بين سائر الأمم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا)) قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: ((أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)) فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: ((أرأيت لو أن رجلاً له خيل غُرٌ محجلةٌ، بين ظهرى خيل دُهم بُهم، ألا يعرف خيله؟)) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ((فإنهم يأْتُونَ غُرًّا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض، ألا لَيُذَادَنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلُمَّ ! فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا)) وعنه - رضي الله عنه - قال: سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء"؛ أخرجهما مسلم[6]
أما صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - فيحكيها أمير المؤمنين عُثْمَان بنُ عَفَّان - رضي الله عنه - حيث دعا بوضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسرى مثل ذلك، ثم قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه)) [7]· قال ابنُ شهاب الزهري: "وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأُ به أحد للصلاة"[8](/4)
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة[9]، ومرتين مرتين[10]، وثلاثًا ثلاثًا[11]، وثبت عنه أيضًا أنه خالف بين أعضائه في عدد الغسلات فغسل وجهه ثلاثًا ويديه مرتين ورجليه مرة[12]، وكل هذا ثابت في سنته - صلى الله عليه وسلم -، والأفضل أن يأتي العبد بهذا مرة وبهذا مرة حتى يدرك سنته كلها.
وإذا صلى العبد بوضوئه استحبَّ له أن يجدد وضوءه للصلاة الأخرى، أما إذا لم يُصلِّ بوضوئه فلا يجدده، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "وإنما تكلَّم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول هل يُسْتَحَبُّ له التجديد؟ أما من لم يُصلِّ فلا يستحب له إعادة الوضوء؛ بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما عليه المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت"[13] ا. هـ·
وإذا توضأ المؤمن فقد أدى طهارة بدنه، فيقول كلمة التوحيد تأكيدًا على طهارة قلبه من الشرك، ويسأل الله أن يديمه على هذا التطهر، ورد هذا في سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مثبتًا الأذكار بعد الوضوء، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ توضَّأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له ثمانيةُ أبواب الجنة يدخل من أيها شاء))[14] ·
وخَرَّجَ النَّسائيُّ والحاكِمُ وصحَّحَهُ من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ تَوَضَّأَ فقال بعد فراغه مِنْ وُضوئه: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وبِحَمْدِكَ أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رَقٍّ ثم جعل في طابع فلم يكسر إلى يوم القيامة)) [15]·(/5)
والديمومة على الوضوء صفةٌ من صفات الكمال للمؤمنين، لا يصبر على الاتصاف بها إلا هم، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((استقيموا، ونعمَّا إن استقمتم وخير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) [16]·
والوضوءُ بعد الحدث، ثم الصلاةُ بهذا الوضوء، من ميادين المسابقة إلى الجنة، فقد روى عبدالله بن بُرَيْدَة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع خَشْخَشةً أمامه، فقال: ((من هذا؟)) قالوا: بلال، فأخبره وقال: ((بم سبقتني إلى الجنة؟)) فقال: يا رسول الله، ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت إلا رأيت أن لله علي ركعتين أصليهما، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((بهما))؛ صححه ابن حِبَّان والحاكم[17]·
الله أكبر! عمل قليل، وخير كثير، وضوء بعد كل حدث، وصلاة بعد كل وضوء، والجزاء سبقٌ إلى الجنة، والديمومة على الطهارة تجعل العبد يلقى ربه وهو على طهارة ولو كان موته فجأة؛ ولذلك فإن المؤمن لا يرضى إلا أن يكون على طهارة دائمة حتى في نومه، كيف والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((طهِّروا هذه الأجساد طهّركم الله، فإنه ليس عبد يبيت طاهرًا إلا بات معه ملك في شعاره لا ينقلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهرًا ))؛ أخرجه الطبراني[18].
ما هذا الفضل العظيم؟! استغفار الملائكة للعبد كلما تقلب في فراشه طوال الليل، وما على العبد إلا أن يتوضأ قبل أن ينام حتى ينال هذا الفضل، فمن يا تُرَى يحرم نفسه هذا الخير؟! فينام على غير طهارة؛ فإن قبضت روحه قبضت على غير طهارة، وإن أرسلت فاته فضل استغفار الملائكة.(/6)
أيها الإخوة: هذا الوضوء وهذا فضله في الإسلام، فأيُّ دين أولى التطهر والنظافة هذه العناية العظيمة غير دين الإسلام؟! فلله الحمد بالإسلام، ونسأله الثبات عليه إلى الممات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، وأستغفره استغفار المذنبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله سيدُ البشر أجمعين - صلى الله وسلم وبارك عليه-، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله – عز وجل - فاتقوه تفلحوا فإنه: {مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179].(/7)
أيها الإخوة: مما يؤخذ على كثير من الناس في الوضوء عدم إسباغه؛ إما تهاونًا بشأنه؛ وإما جهلاً بصفته الشرعية، وإنما رتب الأجر العظيم في الوضوء على إسباغه وإتمامه وإحسانه قال - عليه الصلاة والسلام –: ((ما من مسلم يتوضأ، فيحسنُ وضوءَه، ثم يقومُ فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة))؛ أخرجه مسلم وأبو داود من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -[19]، وفي حديث آخر عن عثمان - رضي الله عنه - أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أَتَمَّ الوضوء كما أمره الله، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن))؛ أخرجه مسلم[20]، قال البخاري: "وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ"[21]·
وعدم إسباغ الوضوء فيه وعيد شديد، روى محمدُ بنُ زياد قال: سمعت أبا هريرة وكان يمر بنا والناس يتوضؤون من المطهرة قال: "أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ويلٌ للعراقيب من النار))؛ أخرجه الشيخان [22]، فليتق الله أناس لا يبالون كيف توضؤوا، ولا يهتمون بإسباغ الوضوء كما أمر الله - تعالى.
هذا فريق المقصرين، يقابله فريق المُوَسْوِسِينَ في الوضوء، المعذبين لأنفسهم، المسرفين في صب المياه، وإهدارها بغير حق، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُغسِّله الصاع من الماء من الجنابة، ويُوضِّئه المد؛ كما في صحيح مسلم[23]·
ولما قال رجل لجابر عن الغسل بالصاع: ما يكفيني، قال له جابر: "كان يكفي من هو أوفى مِنْكَ شَعرًا وخير منك"؛ متفق عليه [24]·
قال الإمام أحمد: "من فقه الرجل قلةُ ولوعه بالماء"[25]· وقال تلميذه المروزي: "وضأت أبا عبدالله فسترته من الناس؛ لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء، لقلةِ صب الماء، وكان - رحمه الله - يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى"[26].(/8)
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "ودلَّتِ السنن الصحيحة على أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَهُ لم يكونوا يكثرون صب الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان"[27].
وقال ابن القيم يذكر هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وكان من أيسر الناس صبًّا لماء الوضوء، وكان يحذر أمته من الإسراف فيه، وأخبر أنه يكون في أمته من يتعدى في الطهور" ا. هـ[28]. وإذا كان ينهى عن الإسراف، وصب المياه في العبادات ففي غيرها من باب أولى.
ومن الإسراف في المياه، والابتداع في الوضوء: الزيادة على ثلاث غسلات، قال الإمام أحمد: "لا يزيد على الثلاثِ إلا رجلٌ مبتلًى". وقال ابن المبارك: "لا آمَنُ مَنِ ازْداد على الثلاث أن يأثم"، وقال النخعي: "تشديد الوضوء من الشيطان، لو كان هذا فضلاً لأوثر به أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -" [29]، وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثًا ثم قال: ((هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم))؛ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه[30].
فاتَّقوا الله ربَّكم، وتفقَّهوا في دينكم، وأحسِنُوا الوضوء: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] ثم صلوا وسلموا على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم بذلك ربكم...
---
[1] تفسير ابن كثير (4/691) عند تفسير الآية (4) من سورة المدثر.
[2] أخرجه أبوداود في الطهارة باب الاستنجاء بالماء (44)، والترمذي في تفسير سورة التوبة (503)، وابن ماجه في الطهارة باب الاستنجاء بالماء (357)، والبيهقي (1/105)، وصححه الحافظ في "الفتح" (7/192)
[3] كما في حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - الذي أخرجه مسلم في الطهارة باب فضل الوضوء (223)، والترمذي في الدعوات (3512)، والنسائي في الزكاة؛ باب وجوب الزكاة (5/5).(/9)
[4] كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم في الطهارة باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (251) وكذلك حديث جابر - رضي الله عنه - عند البزار (449)، وابن حبان (1039).
[5] أخرجه النسائي في الطهارة؛ باب مسح الأذنين مع الرأس واللفظ له (1/74)، وابن ماجه في الطهارة وسننها باب ثواب الطهور (282)، والحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (1/129)، أما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد أخرجه مسلم في الطهارة؛ باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء (244).
[6] أما الحديث الأول: فقد أخرجه مسلم في الطهارة؛ باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء (249)؛ وأما الحديث الثاني: فقد أخرجه مسلم في الطهارة باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء (250).
[7] أخرجه البخاري في الوضوء؛ باب الوضوء ثلاثًا (159)، ومسلم في الطهارة باب صفة الوضوء وكماله (226).
[8] صحيح مسلم (1/205).
[9] كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ما عند البخاري في كتاب الوضوء؛ باب الوضوء مرة مرة (157)
[10] كما في حديث عبدالله بن زيد عند البخاري في كتاب الوضوء باب الوضوء مرتين (158).
[11] كما في حديث عثمان السابق.
[12] كما في حديث عبدالله بن زيد عند البخاري في كتاب الوضوء باب غسل الرجلين إلى الكعبين (186)، ومسلم في الطهارة باب في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - (235).
[13] مجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/376).
[14] أخرجه مسلم في الطهارة باب الذكر المستحب عقب الوضوء (234) من دون زيادة: ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين))، وإنما أخرجه بهذه الزيادة الترمذي في الطهارة باب مابعد الوضوء (55)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1/18).(/10)
[15] أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة وقال: موقوف (528)، وابن السني (11)، والحاكم وصححه (1/564)، والطبراني في الأوسط (2/271)، قال الهيثمي عن رجاله: ورجاله رجال الصحيح، انظر: "مجمع الزوائد" (1/239)، وجوّد إسناده الدمياطي في "المتجر الرابح" (82).
[16] أخرجه أحمد (5/280)، وابن ماجه في الطهارة وسننها باب المحافظة على الوضوء من حديث ثوبان (277) قال البوصيري في "مصباح الزجاجة": "هذا الحديث رجاله ثقات أثبات إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان فإنه لم يسمع منه بلا خلاف؛ لكن له طريق أخرى متصلة أخرجها أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو يعلى الموصلي، والدارمي في مسنده، وابن حبان في صحيحه من طريق حسان بن عطية أن أبا كبشة حدثه أنه سمع ثوبان، انظر: "مصباح الزجاجة" (1/122)، وانظر أيضًا: "مسند الطيالسي" (996)، و"سنن الدارمي" (1/168)، و"المعجم الكبير للطبراني" (1444)، و"الصغير" (2/88)، و"سنن البيهقي" (1/457)، و"صحيح ابن حبان" (1037)، و"مستدرك الحاكم" (10/130)، و"شرح السنة للبغوي" (1/327).
قال ابن عبدالبر: "يتصل معنى هذا الحديث ولفظه مسندًا من حديث ثوبان ومن حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي ـ عليه السلام ـ وقد ذكرتها بطرقها في التمهيد، انظر: "الاستذكار" (2/213) برقم (2105)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (953) وبحث طرقه في "الإرواء" (3/135) برقم (412).
[17] أخرجه أبو نُعَيْم (1/150)، والحاكم وصححه وقال: "على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي (1/313)، وابن حبان واللفظ له (7087)، ومثله حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري في التهجد باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة (1149)، ومسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل بلال - رضي الله عنه - (2458).(/11)
[18] أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/446 - 447) برقم (13621)، وذكره الهيثمي في "المجمع" من حديث ابن عمر، وعزاه للبزار، والطبراني في الكبير، وذكر حديث عمرو بن عبسة (1/226)، وقد حسن الألباني حديث ابن عمر؛ كما في "صحيح الجامع" (3936).
[19] أخرجه مسلم في الطهارة باب الذكر المستحب عقب الوضوء (234)، وأبوداود في الطهارة باب ما يقول الرجل إذا توضأ (170).
[20] أخرجه مسلم في الطهارة باب فضل الوضوء والصلاة عقبه (231).
[21] صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب غسل الأعقاب، قبل حديث رقم (165).
[22] ) أخرجه البخاري في العلم باب من رفع صوته بالعلم (60)، ومسلم في الطهارة باب وجوب غسل الرجلين بكاملهما واللفظ له (29).
[23] أخرجه مسلم من حديث سفينة في الحيض باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة (356).
[24] أخرجه البخاري في الغسل باب الغسل بالصاع ونحوه (252)، ومسلم في الحيض باب استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثًا (329).
[25] إغاثة اللهفان (1/128)، وانظر: "مجموع الفتاوى" (21/298).
[26] إغاثة اللهفان (1/128).
[27] نقله عنه ابن القيم في الإغاثة (1/128).
[28] زاد المعاد (1/191).
[29] الآثار عن أحمد، وابن المبارك، والنخعي في "المغني" لابن قدامة (1/194).
[30] أخرجه أبوداود في الطهارة باب الوضوء ثلاثًا (135)، والنسائى في الطهارة باب الاعتداء في الوضوء (1/75)، وابن ماجه في الطهارة باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهة التعدي فيه (422).(/12)
العنوان: الوضوح و الغموض في الأدب الإسلامي
رقم المقالة: 482
صاحب المقالة: د. محمد سليمان
-----------------------------------------
ظاهرة الوضوح والغموض ظاهرة قديمة جديدة، ترتبط بمرجعيات نقدية كثيرة، لعل أهمها الزمان والمكان، فما كان بالأمس غموضاً قد يُرى في زمان ومكان آخرين غير ذلك, أما في البُعْد الخاص للظاهرة، فهناك ثقافات متنوعة ومختلفة في آنٍ واحد، فقد يرى شخصٌ غموضاً في إبداع ما، ويراه آخر تفوقاً وسمواً.
ومن هنا دفعتني هذه الآراء لأبين شيئاً عن هذه الرُّؤَى النقدية، ولاسيما أن كثيراً من النقاد اليوم يرمون الأدب الإسلامي بالمباشرة والوضوح الممجوج، الذي يعود بالأدب إلى عصر الجمود.
وفي هذا السياق يجب أن يُنظر إلى الغموض في الأدب الإسلامي من خلال الهدف الرئيس الذي يَنشده هذا النموذج الأدبي؛ وهو نشر الفضيلة بجميع صورها، وتشجيع صاحبها، وبث كلماته في الوجود؛ لتكسب السعادة والرضا للبشرية، وبهذا؛ لا نركض خلف الوضوح الفاضح - كما يظن بعض الأدباء والنقاد المهاجمون لفكرة الأدب الإسلامي - وإنما نرنو إلى الغموض الشفّاف، الذي يحتاج إلى شيء من إعمال الفكر.
وبذلك لا نقع في أدبنا تحت مظلة من قال في أدبهم الجاحظ: "ما كان سهلاً، ومعناه مكشوفاً بيّناً؛ فهو من جملة الرديء المردود"، ولا نجلس في دروب غلوِّ أبي تمام في غموضه؛ كما قال المَرْزُبانِيُّ في "موشَّحه": "إن كان هذا شعراً؛ فإن ما قالته العرب باطل"!! وأسوق على ذلك مثلاً من قصيدة للشاعر العشماوي يقول فيها:
أَبَى الْمَجْدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِعَاقِلِ إِذَا زَمْجَرَتْ فِي الأَرْضِ رِيْحُ النَّوَازِلِ
وَأَقْسَمَتِ الْعَلْيَاءُ أَنَّ بُلُوغَهَا مُحَالٌ عَلَى أَحْلاَمِ كُلِّ مُخَاتِلِ
وَأَقْسَمَ ثَغْرُ الشَّمْسِ أَنَّ ضِيَاءَهَا يَضِيْقُ بِذِكْرِ الْوَاهِنِ الْمُتَخَاذِلِ(/1)
وَأَلْقَى عَلَيْنَا الْفَجْرُ خُطْبَةَ نَاصِحٍ يَرَى مَا يُعَانِي كَوْنُنَا مِن قَلاَقِلِ
أَلاَ أَيُّهَا الفَجْرُ الْمُحَذِّرُ، إِنَّنَا سَمِعْنَا، وَأَحْسَسْنَا بِضَرْبِ الْمَعَاوِلِ
لَكِنَّنَا فِي غَفْلَةِ الْعَصْرِ، لَمْ نَزَلْ نَعِيشُ بِحسِّ الْمُعْرِضِ الْمُتَشَاغِلِ
إن نظرةً متأملةً قصيرةً تكشف حجب هذا النص، ولا يحتاج إلى غيرها، فالشاعر نجح في إيصال رسالته، لكنه لم يَغفلْ عن الأدوات الفنية في النص؛ فالمجد يأبى، والعلياء والثغر يُقْسِمان، والفجر يخطب، إن هذا القدر من الصور الشعرية يثير المتلقي، ويبعث الحياة في النص عند كل وقفة، ولا نَغْفُل عن استعماله للفعل الماضي، الذي جاء في مطلع أبيات النص غالباً: "أَبَى، زَمْجَرتْ، أَقْسَم، أَقْسَمَت، أَلْقَى، سمعنا، أحسسنا"، والفعل المضارع الذي ورد ضمن النص: "يكون، يضيق، يرى، يعاني، لم نزل، نعيش"، وكيف أن هذه المناوبة بين الفعلين تُظهر الاضطراب المتمثل في واقع اليوم؟!
أما من حيث التوازي الشعريّ؛ فإن الشاعر كان موفَّقاً في اختيار حرف اللام لقافيته؛ لما فيه من ثقلٍ ينسجم مع النَّصَب الذي يجب أن يُبذل من أجل قطف ثمار المجد، هذا من جهة، ويتَّسق مع حالة الركود التي يعيشها أبناء الأمة من جهة أخرى؛ ولتأكيد ذلك؛ لننظر في الكلمات التي ختم بها الشاعر أبياته: "النوازل، مخاتل، المتخاذل، قلاقل، المعاول، المتشاغل". وهذه إشارات يسيرة تحتاج إلى وقوف مع النص كاملاً، لبيان القدرة الفنية على تقديم المعاني بطرق جديدة.(/2)
وبعد: فلابد أن يكون للغموض حضورٌ في الأعمال الإبداعية، على أن يكون على درجة من الوعي من قِبَل المبدع؛ يحرك به متلقِّيه، ويوجِّهه إلى التبصُّر في المعاني؛ كي لا يصرفه عنها إلى دوائر الغموض الْمُبْهِم، وإلى التحليل والتوقعات التي - في كثير من الأحيان - لا يفهمها كاتبها ولا مبدع النص نفسه؛ كما هي الحال في بعض المذاهب النقدية الحديثة؛ كالرمزية والسريالية!!.
ومن هنا: فثمة تناغم بين المعنى المقدَّم في الأدب الإسلامي، والأسلوب الذي غُلِّف به، والوضوح في هذا النمط الأدبي وضوحٌ محبَّب، ينسجم مع الرؤية العربية للأدب منذ فجره الأول؛ حيث إنه ليس وضوحاً مكشوفاً كما يدَّعي بعضهم، بل هو وضوح قريب من الروح العربية، التي تتعشَّق الشعر تعشُّقها الحياة.(/3)
العنوان: الوطنية وتعدد الثقافات في الفكر الإسلامي
رقم المقالة: 878
صاحب المقالة: د. أحمد بن عبدالعزيز الحليبي
-----------------------------------------
ملخص البحث:
هل يمكن أن تتعدَّد الثقافات مع الانتماء إلى وطن واحد؟ أو بصيغة أخرى: هل يمكن أن يوجد وطن واحد يتعايش على أرضه في وئام ذوو ثقافات متعدِّدة؟
يحاول هذا البحث أن يجيب عن هذا السؤال من وجهة نظر الفكر الإسلامي، متَّبعاً في ذلك منهج القرآن الكريم في ردِّ ما تنازع فيه المختلفون إلى الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ابتغاء الحق، ومتعاملاً مع هذا الموضوع بشمولية، وواقعية، وحكمة تنسجم مع عناية الإسلام بوحدة الأمة، وتآلف قلوب أفرادها، واجتماع كلمتهم، وتحذيره من أن يكون التنازع - ومنه التنازع الثقافي - سبباً في حصول العداوة والفُرقة بينهم.
وقد تناول البحث القضايا التالية: معنى الوطن، مفهوم الوطنية في الفكر الإسلامي، الوطنية والثقافة، وظيفة الثقافة الإسلامية في بناء هُوية الوطن الثقافية، الهوية الثقافية وتعدد الثقافات، الثقافة الإسلامية وتعدد الثقافات، تعدد الثقافات داخل الوطن الإسلامي، الثقافة الوطنية و(العولمة).
المقدمة:
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
تشهد الساحة الثقافية في البلاد الإسلامية اليوم تداخلاتٍ فكريةً وصراعاتٍ مذهبيةً، وتتعرض لتطورات سياسية واجتماعية، وفي ظل هذه التداخلات المعقَّدة، والتطورات المتلاحقة يُطرَح السؤال التالي:
هل يمكن أن تتعدَّد الثقافات مع الانتماء إلى وطن واحد؟ أو بصيغة أخرى: هل يمكن أن يوجد وطنٌ واحدٌ يتعايش على أرضه في وئام ذوو ثقافات متعدِّدة؟(/1)
لهذا السؤال أرضية يقف عليها، والإجابة عليه متأثرة باتجاهات فكرية، وعقائدية مختلفة. أما الأرضية فهي واقع المجتمعات الإسلامية الذي تجمعه ثقافة إسلامية عامة، وتفرقة ثقافات متعدِّدة ذات صفة خاصة، وأما الاتجاهات الفكرية والعقائدية فتتنازع الإجابة، وتؤثِّر عليها تأثيراً ظاهراً.
يحاول هذا البحث أن يجيب عن هذا السؤال من وجهة نظر الفكر الإسلامي متَّبعاً في ذلك منهج القرآن الكريم في ردِّ ما تنازع فيه المختلفون إلى الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ابتغاء الحق، كما قال - تعالى -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}. [النساء: 59]. ومتعاملاً مع هذا الموضوع بشمولية وواقعية، وحكمة تنسجم مع عناية الإسلام بوحدة الأمة وتآلف قلوب أفرادها واجتماع كلمتهم، وتحذيره من أن يكون التنازع - ومنه التنازع الثقافي - سبباً في حصول العداوة والفرقة بينهم.
إن موضوع (الوطنية وتعدد الثقافات) يتصف بالحيوية والإشكالية معاً؛ بحيث مهما دُرس لا يمكن أن ينتهي عند رؤية يُجمع عليها؛ نظراً لما للناحية المنهجية والعقدية والثقافية والتربوية من تأثير في قبول التعدُّدية الثقافية ورفضها؛ بل غاية ما يمكن قوله: أنه موضوعٌ جديرٌ بالاهتمام والعناية، يحتاج إلى مزيد من الدراسة توضِّح جوانبه، وتعالج إشكالياته المتشعِّبة.
معنى الوطن(/2)
الوطن في اللغة هو: المنزل الذي يقيم فيه الإنسان، ويتخذه محلاً وسكناً له [1، ج 6ص 4868]، وقد سماه القرآن الكريم الدار والديار في قوله - تعالى -: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَْ} [العنكبوت: 37]، وقوله - تعالى -: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] وسمَّته السُّنة: الوطن والدار، في حديث: ((هي وطني وداري)) [2، ج3، ص177].
والموطن: هو مكان مولدِ الإنسان، ومأهلِه ومنشئه، الذي فُطر على حب القرار فيه والحنين إليه. [3، ج3، ص1252].
والمواطنة لها معنيان:
الأول: معنى فطري غريزي، نابعٌ من حب الإنسان لوطنه وشعوره بالانتماء إليه، وحنينه إليه، نتيجة لإلف المكان وتذكُّر مرابع الصبا ومآرب الشباب، كما قال الشاعر ابن الرومي:
وَحَبَّبَ أوْطانَ الرِّجال إليهمُ مآرِبُ قَضَّاها الشَّبابُ هُنالِكا
إذا ذُكِّروا أوطانَهم ذكَّرَتْهُمُ عهود الصِّبا فيها فحنُّوا لذلِكا
وهو حبٌ وانتماءٌ غريزيان، يشترك فيهما الإنسان والحيوان والطائر على حدٍّ سواء.
المعنى الآخر: معنى فكري مذهبي؛ هو أعمق من أن تكون المواطنة مجرد نزعة شعورية، وميلاً فطرياً طبيعياً إلى المكان الذي ولد فيه الإنسان، ونشأ على أرضه؛ إذ حوَّلت المذهبية الفلسفية المواطنة إلى نزعه فكرية مذهبية، لها مبادئها العامة، وطقوسها السلوكية، تزرع في نفوس الناس، ويُنشَّأ عليها ناشئة المجتمع، وتحاكم مواقف أتباعها عليها، ويُنظر إلى الآخرين من خلالها [4، ص172].
تاريخ الوطنية في الفكر الإنساني(/3)
الوطنية من المفاهيم الحديثة التي فرضت نفسها على خريطة الفكر الإنساني، وإن كانت ذات جذور عميقة في التاريخ؛ فهي بهذه الصفة الفلسفية عُرفت في المجتمعات القديمة، ومن أشهر صورها وطنية اليونان التي كانت تُقسِّم المجتمع إلى أحرار وعبيد، وتُمايز بينهم في الحقوق والواجبات، ثم وطنية الإمبراطورية الرومانية التي كانت تنظر إلى الشعوب الأخرى المنضوية إليها بصفتهم عبيداً تابعين للوطن الأم، فلا تقبل من هؤلاء الأتباع الانصهار في بوتقته والاندماج به، وظهرت هذه النزعة من جديد مقترنةً بقوميَّات محليَّة في أوروبا بعد الثورة الفرنسية؛ لتحل محل النزعة الدينية المسيحية تدريجياً، وأصبحت من معطيات القرن التاسع عشر الميلادي الموجِّهه لكل نُظُم الدولة نحو خدمة هذه النزعة المذهبية [5، ص47].(/4)
لقد استطاعت هذه النزعة أن تقسِّم أوروبا إلى إمارات شعبية متصارعة، كل إمارة تكرس النظرة الوطنية للأشياء والآخرين، وتعمل على تحويل القيم العامة إلى قيم وطنية خاصة، مما أدى إلى تدهور العلاقات بين هذه الدول، وتأجيج الحروب بينها لسنوات طويلة، وتوريث الخراب والدمار للأجيال كما قال الفيلسوف البريطاني برتراند رسل (Bertrand Russel ) في الوطنيين الألمان: "يخيَّل إليهم أن مصالح ألمانيا هي وحدها المصالح الجديرة بالاعتبار، دون أن ينازعهم في ذلك منازع، وليس من شأنهم هم - مادام همهم هو هذه المصالح - أن يفكروا فيما يصيب الأمم الأخرى من أضرار، ولا فيما تجرُّه هذه السياسة من تخريب للمدن، ودمار للأهالي، ولا ما يلحق بالحضارة من تلف لا يمكن إصلاحه". وكلامه هنا عن ألمانيا النازية التي تبنَّت نزعة الوطنية، ومقولة: إن ألمانيا وحدها القادرة على قيادة العالم [5، ص50]، وما إن وضعت الحروب التي تأجَّجت بين دول أوروبا أوزارها إلا وظهر التنافس من جديد بينها على استعمار الأمم الأخرى، وبعد انحسار موجة الاستعمار أدركت هذه الدول الآثار الوخيمة للوطنيَّات المتعصِّبة؛ فبدأت بالانسلاخ منها، والتقارب فيما بينها، في مشاريع عرفت بمشاريع الوحدة الأوروبية [4، ص173-175].(/5)
وفي العالم الإسلامي وجد المعجبون بالثقافة الغربية في نزعة الوطنية التي راجت في أوروبا فكرةً تجمع الناس في كل قُطْر من أقطار المسلمين حول المطالبة بحقوقهم، ودعوة إلى الحرية، تخلِّصهم من الظلم الذي عانوا منه، وعملت الدول الاستعمارية على إعلاء شأن هذه الفكرة، عن طريق إثارة الخلافات البائدة بين الشعوب الإسلامية، والنَّعرات القومية، والتركيز على الملامح الطبيعية التي يختلف فيها كل قُطْر عن الآخر، وخلق روح الإقليمية المحلية [6، ص367] - بغرض تمزيق المجتمعات الإسلامية، وفصل بعضها عن بعض؛ للحيلولة دون وحدتها في كيان واحد وفكر واحد وتطلعات مشتركة، فقد جاء في تقرير وزير المستعمرات البريطاني (أورم سبي غز) لرئيس حكومته بتاريخ 9 يناير عام 1938م: "إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليس الإمبراطورية وحدها؛ بل فرنسا أيضاً، ولفرحتنا فقد ذهبت الخلافة، وأتمنى أن تكون إلى غير رجعة. إن سياستنا تهدف دائماً إلى منع الوحدة الإسلامية، والتضامن الإسلامي، وينبغي أن تكون كذلك.." [7، ص12].
ثم تطورت هذه الفكرة في البلاد الإسلامية على أيدي المتأثرين بالثقافة الأوروبية الذين حولوا الوطنية إلى قومية، وهاجموا الرابطة الدينية، واعتبروها خطراً يهدد وحدة الأقطار الإسلامية، ويفرق كلمتها، ويهدم تعاطفها، ويضعف تكتلها. [8، ج1، ص78]
وعلى الرغم من غتامة تاريخ الوطنية بمعناها المذهبي، وما أدت إليه من صراع اكتوت بلهيب ناره الشعوب - فإن المعنى الفطري للوطنية يظل المعنى الحاضر في نفس الإنسان الذي لا يغيب عن مشاعره لحظة من اللحظات، ويستولي على كل أحاسيسه وآماله ومشاعره.
الوطنية في الفكر الإسلامي(/6)
إذا كان الاتجاه المذهبي عمل على ربط معنى الوطنية بالأرض والوطن؛ فإن الإسلام لا يتنكَّر لفطرة حب الوطن، ولا يعدُّه مناقضاً له؛ فقد صدق مصطفى كامل - وهو من الوطنيين المصريين - في قوله: "قد يظنُّ بعض الناس أن الدين ينافي الوطنية، أو أن الدعوة إلى الدين ليست من الوطنية في شيء، ولكني أرى أن الدين والوطنية توءمان متلازمان، وأن الرجل الذي يتمكَّن الدين من فؤاده يحب وطنه حباً صادقاً" [8، ج1 ص82]، ذلك أن الإسلام نظر إليه على أنه ميلٌ فطريٌّ راسخٌ في النفس، فنمَّاه، ولم يقيِّده بمضامين أي نزعة من النزعات ذات المنحى العنصري؛ بل ربط بينه وبين الدين، وعمل على إدماج البشرية بعضهم ببعض دون تمييز على أساس الحدود الجغرافية؛ فمدَّ بذلك مفهوم الوطن على امتداد العقيدة، ووسَّع مفهوم الوطنية لتكون انتماءً فطريّاً إلى الأرض، وموالاةً دينيةً لعقيدة الإسلام ومبادئه وقيمه.
إن انسجام الدين والوطنية وامتزاجهما معاً، بحيث تكون الوطنية متشربةً للإسلام، ويكون الوطن داراً له - هو الذي جعل للوطنية هذا المعنى الواسع الذي يتجاوز الحدود الإقليمية والمعنى المحصور في الأرض، ليرقى به من الأرض والموقع الجغرافي، إلى القيمة والمكانة والحُرْمة، ويقرنه بالمبادئ والقيم التي يؤمن بها من يقيم على هذا الوطن، لقد أظهر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في خطابه لمكَّة، وهو مهاجرٌ منها: ((ما أطيبك من بلد، وأحبَّك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك!!)) [9، ج5، ص723].
إن هذا المعنى يجلي موقف الفطرة في محبته - صلى الله عليه وسلم - لبلده مكة، معللاً هجرته منه رغم تعلّقه به ومحبته له - بإخراج كفار قريش له، ومنعهم إياه من إقامة مبادئ الإسلام فيه.(/7)
وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ضحى بالبقاء في وطنه في سبيل مبادئه وقيمة التي حال بينه وبينها كفار قريش حينما ساوموه عليها - فإن ذلك كان في حالٍ من التخيير بين المضيِّ في الدعوة إلى الإسلام مع الهجرة عن الوطن، أو التخلِّي عنها مع البقاء في الوطن، وحال من التضادِّ بين إعطاء الأولوية للإسلام، أو التنعم بالسّكنى في الوطن، والعيش بين الأهل والعشيرة؛ لذا قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - في حدث الهجرة الدِّين على غيره، وقد أكَّد القرآن الكريم استحقاق الدين هذه الأولوية في قوله - تعالى -: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ولا يعني بحال أن الإسلام يغير انتماء الناس إلى أرضهم وشعوبهم وقبائلهم؛ فإن هذا أمرٌ ماديٌّ حسيٌّ واقعٌ، لا سبيل إلى تغييره، فالذي يولد في بلد يُنسب إليه، ولا يُنكر عليه محبته له؛ فإن بلالاً - رضي الله عنه - الذي هاجر إلى المدينة مضحِّياً بكل شيء في سبيل عقيدته هو الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى بلده مكة، في أبيات تمتلئ رقة، وتقطر حلاوة، ينشد - رضي الله عنه - فيقول:
هَلْ أَرِدَنْ يوماً مِياهَ مَجَنَّةٍ = وهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شامَةٌ وطَفِيلُ؟!(/8)
وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف مكة من أصيل فجرى دمعه حنيناً إليها، وقال: ((يا أصيلُ، دع القلوب تقِرَّ)) [10، ج1 ص84]، لقد أقر الإسلام هذا الانتماء، ولم يرَ حُبَّ الوطن منافياً للإيمان، ولا ملازماً له، فقد دل قوله - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]، دلت هذه الآية على حب هؤلاء لوطنهم، مع عدم تلَبُّسهم للإيمان. [11، ج1 ص414]، كما أن الإسلام لم يجعل الأرض، ولا الدم، ولا اللغة، ولا المصالح الصلة الأولى التي تجمع الناس، ولم يقدمها على صلة العقيدة الصحيحة [12، ص586]؛ فإذا اتَّسقت دوائر الانتماء في فكر الإنسان، وتكاملت الحياة في ممارستها، ولم تكن متعارضة مع الانتماء إلى العقيدة فلن يكون هناك تناقض في الفكر، ولن يكون هناك مانع من العمل بكل دوائر الانتماء الفطري للإنسان؛ إن الأمر في علاقة الانتماء إلى الإسلام بالانتماء إلى الوطن ليتعدى حدود نفي التناقض إلى دائرة الامتزاج، والترابط، والاعتراف بما هو فطري؛ فالإسلام دين لا تتأتى إقامته إلا في وطن، ومكان، وجغرافيا، وهذا الواقع، والمكان، والجغرافيا لن يكون دارَ إسلام إلا إذا أصبح الانتماء إليه بُعداً من أبعاد الانتماء الإسلامي العام، ومن هنا تأتي ضرورة الوطن لإقامة الدين [13، ص35]، كما قال - تعالى -: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 141] ويتقرر حق المسلم فطرياً ودينياً في أن يعلن محبته لوطنه، وانتماءه إليه، وتفضيله على غيره في السكنى، والإقامة به، وحب الخير له، ونصرته دون(/9)
عصبية تقطع آصرة أخوة الدين، أو تَشغَل عن الاهتمام بباقي أجزاء الوطن الإسلامي؛ فوطن المسلم ليس له حدود جغرافية؛ فهو يمتد مع امتداد العقيدة [14، ص141]، وانتشارها في بقاع الأرض؛ إذ لا تعارض بين حب الوطن والانتماء إلى الأمة الإسلامية، فبِوُسع الإنسان أن يحب وطنه، ويحب إخوانه المسلمين في الأقطار الأخرى، فكما أن حب الوطن لا يناقض حب الأسرة؛ بل يكون متمِّماً لها، كذلك حب الوطن لا يناقض حب المسلمين أينما كانوا؛ بل يكون متمماً له أيضاً [15، ص31].(/10)
كما أن الإسلام جعل الوطنية حقاً من حقوق الشعوب، والمحافظة عليه حياة لها بين الأمم، فلا معنى لحياة أمة وهي تفقد حق استقلالها في أرضها وبلادها، وتعيش تحت هيمنة عدوِّها وحُكمه؛ فتلك أمَّة مَيْتة وإن كانت في حكم الأحياء، يقول الأستاذ محمد عبده في هذا المعنى: "تلك سُنَّة الله - تعالى - في الأمم التي تجبُن فلا تدفع العادين عليها، وحياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف؛ فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكَّل بهم فأفنى قوَّتهم، وأزال استقلال أمَّتهم حتى صارت لا تُعَد أمة، بأن تَفرَّق شملها، وذهبت جماعتها، فكل ما بقي من أفراده خاضعون للغالبين، ضاعئون فيهم، مدعمون في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم، ومعنى حياتهم عودة الاستقلال إليهم. إن الجبن عن مدافعة الأعداء، وتسليمَ الديار بالهزيمة والفرار هو الموت المحفوف بالخزي والعار، وإن الحياة العزيزة الطيبة هي الحياة الملِّية المحفوظة من عدوان المعتدين، والقتال في سبيل الله أعم من القتال لأجل الدين؛ لأنه يشمل أيضاً الدفاع عن الحوزة إذا همَّ الطامع المهاجم باغتصاب بلادنا، والتمتمع بخيرات أرضنا، أو أراد العدو الباغي إذلالنا، والعدوان على استقلالنا، ولو لم يكن ذلك لأجل فتنتنا عن ديننا، فالقتال لحماية الحقيقة كالقتال لحماية الحق، كله جهاد في سبيل الله. ولقد اتفق الفقهاء على أن العدو إذا دخل دار الإسلام يكون قتاله فرض عين على كل المسلمين". [16، ج4، ص695-697].
الوطنية في المملكة العربية السعودية
تمثل الوطنية في المملكة العربية السعودية المعنى المنسجم مع الفطرة والإسلام؛ إذ يعني مفهوم الانتماء إلى المملكة العربية السعودية معاني وقيماً عظيمة، تتمثل في:(/11)
1- الموقع الذي اختاره الله - تعالى - ليكون مهبط الوحي، ومعقل الإسلام، وقلعته العتيدة، وحصنه المنيع، ومخزن قيمه الحضارية، وأصالته الفكرية، ومأوى أفئدة المسلمين، ومقصدهم في صلاتهم وأداء نسكهم، وجعل أرضه مسكناً خالصاً لإقامة المسلمين وحدهم إلى قيام الساعة، قال - تعالى -: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لأُخْرِجَنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدعَ إلا مسلماً)) [17، ج3، ص1388]، أي: لا يدع كتابياً يقيم فيها إقامة دائمة؛ بحيث لا يمكن فهم هذا الموقع، إلا أنه أرض الإسلام والمسلمين.
2- الإسلام الذي جعل الله هذه الجزيرة داراً له، ومأرزاً لأتباعه، يقيمون على أرضه شعائره، ويحتكمون في أمورهم إلى شرعه، ويعملون بما ينطوي عليه من مبادئ، وقيم وتشريعات، وقد ختم الله به الدين، ونسخ به الرسالات السابقة، فلم يقبل غيره ديناً، قال - تعالى -: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، فنالت هذه الجزيرة به مكانتها، وتميزت به شخصيتها، واستشعر أهلها به واجبهم، وارتبطوا به في مناهج حياتهم.(/12)
هذا المعنى تجسَّد في المملكة العربية السعودية؛ إذ تمتزج هذه الدولة منذ تأسيسها بالدين واقعاً ومسؤولية، ولا غرابة؛ فهي من حيث الواقع الدولة المؤتمنة على الحرمين الشريفين، والراعية لحجاج بيت الله الحرام، وزوَّار مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعاملة على نشر الإسلام من خلال مؤسسات الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمقيمة لأحكام الشريعة، والمنفذة لحدود الله - تعالى - من خلال المحاكم الشرعية ذات السلطة المستقلة التي لا سلطة عليها غير سلطان الشريعة، وهي الملتزمة في جميع المجالات بالإسلام، نصت المادة الأولى للنظام الأساسي للحكم فيها على أن: "المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولغتها هي اللغة العربية". وقد مارست الدولة هذه الوظيفة في أدوارها الثلاثة منذ تأسيسها على يدي الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب، فهي نتاج دعوة إصلاحية عمَّ خيرها أرجاء الجزيرة العربية، وتفيَّأ ظلالَها جميعُ أبنائها، وقطفوا ثمرتها وحدة، وأمناً، ومعتقداً صافياً، ورخاء واسعاً، وعلماً منتشراً.
إن مفهوم المواطنة يعني الالتزام؛ بمعنى الانتماء إلى هذا الوطن المملكة العربية السعودية الذي يقتضي حماية أرضه، والنهوض برسالته التي هي رسالة الإسلام، والجهاد في سبيل الحفاظ على حُرُماته ومقدساته، والذَّبِّ عن منجزاته الحضارية بشقيها: المعنوية والمادية.
إننا في الوقت الحاضر وأكثر مما مضى بحاجة مُلِحَّة إلى تعميق هذا المفهوم في عقول الناشئة؛ بعد أن تسلَّلت بعض الأفكار والآراء الغريبة على بيئة هذا الوطن المسلم، وفوجئ أبناؤه بالأحداث الدامية التي استهدفت المواطنين الآمنين، والمقيمين المستأمنين، ولعل من أفضل الوسائل التي تعمق هذا المفهوم ما يلي:(/13)
1- مناهج التعليم التي يمكن أن تؤصِّل معنى الوطن، وتبرز مكانته في العالم كله، وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة، وتتحدث عن خصائصه وواجباته، ومواقفه الحميدة من القضايا الإسلامية كقضية فلسطين، والبوسنة والهرسك، ودور المؤسسات الخيرية في إغاثة المنكوبين، والمعوزين في العالم الإسلامي، ودعمه للمؤسسات الإسلامية العالمية؛ كمنظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، والبنك الإسلامي.
2- الإعلام من صحافة وتلفاز وإذاعة الذي يمكن استثماره في إظهار الصورة الحقيقية للمملكة العربية السعودية، ودورها الرائد في المحافظة على قيم الإسلام ومبادئه، والدفاع عن قضايا المسلمين في المحافل الدولية، وتسخيرها في ترسيخ هوية هذه البلاد في نفوس أبنائه من خلال الحوار الهادف، والبرنامج الملامس لمشكلات الناس وأحوالهم الاجتماعية، وفي التصدي للأفكار الوافدة المنافية للعقيدة الصحيحة والشريعة السمحة، وفي معالجة حالات الانحراف والغلو التي قد تظهر في المجتمع تأثراً بمجتمعات مجاورة.
الوطنية والثقافة
برزت الوطنية منذ انطلاقها في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي مقترنة بالقيم (الليبرالية)، أو الحرية الفردية و(الديمقراطية)، وتعتبر فرنسا أنصع مثال على هذا التلازم في أوروبا الحديثة؛ إذ تبنَّى الفرنسيون الوطنيون فكرة الدفاع عن ثقافتهم الوطنية مع ولائهم للدولة الفرنسية، كما تُعَد تركيا من أبرز الدول في العالم الإسلامي اهتماماً بتطوير ثقافتها الوطنية من خلال العمل على الانفصال عن العرب: في الحروف الأبجدية، واللباس، والتعليم، والعادات والتقاليد [18، ص20-26].(/14)
وفي العالم العربي ظهرت الوطنية مقرونة بمشروع الدعوة إلى الوحدة العربية الذي كان من أهدافه مقاومة الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية، وتم التسويق لهذا المشروع عن طريق بناء ثقافة وطنية جديدة على المنحى القومي لثقافة السياسة الغربية المتَّجِه إلى فصل الدين عن الدولة، وكانت رَدة الفعل الأولى عليه من المفكرين الإسلاميين بإعلان التمسك بفكرة الخلافة الإسلامية، والتنادي إلى مشروع إعادتها من جديد؛ مما أدى إلى تبلور اتجاه فكري مناهض لفكرة الوطنية العربية، يدعو إلى حماية الهُوية الإسلامية، والدفاع عنها في وجه العدوان الثقافي الغربي [19، ص34-37] الذي كان يسعى إلى تحجيمها، وإلى تحرير الوطن الإسلامي من الاستعمار الجاثم على أرضه، وتوحيد شعوبه على أساس العقيدة والمبادئ الإسلامية.
وحقيقة الأمر أن الدعوة إلى الوطنية كانت مرحلة أولى منحصرة في مفهوم الاستعلاء بالأرض، والتاريخ الإقليمي، فلما أخفقت هذه الدعوة ظهرت الدعوة إلى الإقليمية العربية التي كانت على نسق الطورانية في تركيا، والفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا، وقد ساهمت هذه الدعوة على تمزيق الأمة الإسلامية وفرقتها، ولقد كان للنفوذ الاستعماري داخل العالم الإسلامي أثر قوي في تفريغ مفهوم الوطنية ثم القومية من قيمته الحقيقية، وفصله عن تراث الأمة وثقافتها العامة، ولا ريب أن هذا المفهوم دخيل عليها؛ إذ أنها كانت تَعتبِر وحدة الفكر، أو وحدة الثقافة أساساً لترابط شعوبها وتماسكهم [20، ص225-226].(/15)
إن الاختلاف في مفهوم المواطنة بين القوميين والإسلاميين نشأ عنه تباين في الثقافة التي تحدد هوية الوطن، وصلته بغيره؛ إلا أن الفريقين متفقان على أن الوطنية - كما قال الأستاذ علي مزروعي-: "جمع بين الثقافة كهوية وبين الثقافة كطريقة اتصال". [18، ص23] إذ الثقافة عند الفريقين من أخص خصائص الإنسان، فهو مخلوق عاقل ومفكر، وأي انتقاص من ذلك هو انتقاص لبشريته وآدميته، وأي اهتمام بنمو ثقافته هو اهتمام بإنسانيته، والثقافة أيضاً مسألة هامة للمجتمع الإنساني؛ فهي قوام التواصل بين الشعوب من أجل التعارف، وتبادل الخبرات مهما اختلفت أجناسهم ومعتقداتهم، فعن طريقها يتبادل الناس المفاهيم، والأفكار، والمعقتدات، وأساليب الحياة، وغير ذلك من نظم وتصورات، وهي أيضاً وسيلة لتمايز الشعوب بعضها عن بعض بفضل السمات التي تتميز بها كل ثقافة عن الأخرى، مما يكسبها القدرة على الانفتاح على الثقافات الأخرى دون وَجَل من الاندماج، أو الذوبان في الثقافات الأخرى [21، ص74-84] أي مع القدرة أثناء الممارسة الثقافية على المحافظ على خصوصيات الوطن، وأصالته، وذاتيته المتمثلة في مبادئه، وقيمه، ونظمه.
إن المواطنة تعني استثمار ثقافة البيئة التي هي من الناحية العامة: "حصيلة معلومات متنوعة، وأساليب في التفكير تتسع وتضيق بحكم ارتباطها بقضايا الإنسان عموماً، وبما يتصل بالذاتية عموماً، ومجالات الهوية خصوصاً، فالمواطن المثقف: هو الشخص الذي يكون واعياً عن طريق حسه الاجتماعي؛ سواء تعلَّق الأمر بعصره أم خارج عصره، هذا - الوعي - هو الجانب الإنساني في الثقافة؛ أما ما يشعر به، ويحياه في هويته وانتسابه الوطني والقومي والروحي، فهو الجانب الذاتي في الثقافة" [22، ص6].(/16)
وفي هذا السياق يصعب جداً تصور ثقافة مجردة ومحايدة، لا ترتبط بخلفيات تاريخية، أو مذهبية تشكل مصدر موازينها، ومعاييرها، ومرجع قيمها، ولذلك فهي كثيراً ما تحمل نعتاً يحدد إطارها وأبعادها؛ لذا نجدها تُنْسَب إلى دين أو مذهب؛ كالثقافة الإسلامية، أو البوذية، أو إلى بلد، أو منطقة كالثقافة اليونانية، أو الهندية، وتتسع لمضامين ما تنتسب إليه، فالثقافة الإسلامية حينما اتخذت الإسلام رداء لها - أصبحت تتسع لكل ما يحويه هذا الانتساب من مضامين باعتبار الإسلام عقيدة، وشريعة، وفكراً، وحضارة، ومنظومة قيم [22، ص8]، وهكذا كل الثقافات الأخرى.
وإذا كان أي وطن بحاجة إلى تنمية شاملة وهادفة في كل مرافقه تستثمر كل إمكاناته وطاقاته فإن هذه التنمية لابد أن تكون متلائمة مع ثقافته، ومعطياته، ومكونات مجتمعه، ومن ذلك - على سبيل المثال - التنمية في حقل العلوم التطبيقية، هذه العلوم التي تطورت في هذا الزمن بصورة سريعة ومذهلة، وحاول المهتمون بها في ظل تسارع معلوماتها، وتلاحق نتائجها أن تنمو في معزل عن الثقافات، وبعيداً عن مضامينها مما أدى إلى نوع من الصراع والتناقض داخل المجتمعات، ولعل هذا هو الذي دفع العالم الشهير إيليا بريغورين Ilya Prigorine إلى القول: "إنه أضحى من المُلِحِّ على العلم أن يعتبر نفسه جزءاً لا يتجزأ من الثقافة التي تطور بين أحضانها". وإلى القول: "إن العلم سينفتح على العالمية عندما لا ينعزل عن اهتمامات المجتمع، ويعدل عن اعتبار نفسه مستقلاً ومجرداً عنها، عندها يصبح العلم قادراً على محاورة الناس من جميع الثقافات، واحترام تساؤلاتهم. ولعل تجرُبة العالم الإسلامي من أوضح الشواهد على سوء النتيجة عندما استورد أنماطاً من التنمية لا تتلاءم مع معطيات واقعه، ومكونات مجتمعاته فكانت الحصيلة تقليداً شبه أعمى للحضارة الغربية [23، ص26]، وتأخراً في كثير من مجالات الحياة.
هوية الوطن الثقافية(/17)
لابد لأي وطن من ثقافة خاصة به؛ إذ لا يُتصوَّر وجود وطن بلا تراث وتاريخ، ومجتمع بلا عقيدة ومبادئ، وأمة بلا نظم وقيم، أو في أقل الأحوال لا يمكن وجود مجتمع بلا دين، يقول هنري برجسون Henri Bergson: "قد نجد في الماضي أو الحاضر مجتمعات بشرية لا تعرف العلم، أو الفن، أو الفلسفة، ولكن ليس ثمة مجتمع بلا دين" [24، ص25].
يكاد يكون من البدهي التسليم بمساهمة الأديان في جميع المجتمعات في تشكيل ثقافتها، فهي ذات حضور مؤثر في بناء الثقافة لأي مجتمع من المجتمعات مهما كان هذا الدين من الصحة أو البطلان، وما من مجتمع إلا وقد تدَيَّن، فالتديُّن فطرة خُلِق عليها الإنسان، ينزع إليها ليشبع حاجة الروح إلى الإيمان بالمعبود، ويستمد من هذا الإيمان عقيدته ومفاهيمه للوجود والحياة، ويضبط به أمور حياته، وهو كذلك ضرورة اجتماعية يتم عن طريقها التأكيد على الإيمان بالقيم والفضائل، والالتزام بالأحكام والقوانين التي تُعنَى بتنظيم شؤون الحياة.
ويعد الدين في الثقافة الإسلامية بمصادره الصحيحة الأساس الأول الذي تقوم عليه، وتأخذ منه مادتها العلمية والفكرية، وتستمد منه ذاتيتها، ووجهتها، وتصوراتها، وقوام فكرها، وتعتمد عليه في نقد التراث البشري، ومواجهة التحديات التي تعترض سبيل المحافظة على شخصيتها من الذوبان في غيرها، وهو العاصم لها من الانحراف عن الطريق السويِّ، أو الاندثار مع الثقافات الضعيفة التي لم تستطع الصمود أمام متغيرات الحياة، أو الذوبان في غيرها من الثقافات الأخرى.(/18)
إن هذه المصادر تشكل دعامة قوية في تأصيل "الفهم الصحيح لكتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتفقُّه في الدين، واستيعاب التاريخ الإسلامي، وحل المشكلات المعاصرة للمجتمع الإسلامي، من خلال تحكيم شرع الله - تبارك وتعالى - تحكيماً كاملاً من غير تأويل تمليه الأهواء، أو تحمل عليه نزعة الانهزام الفكري والنفسي أمام التيارات المعادية. ولا تتحقق هذه الأصالة إلا بالإحاطة الشاملة بالإسلام عقيدة وعبادة وتشريعاً وخلقاً" [25، ص111-112].
لقد ارتبطت الثقافة الإسلامية بكلمات الله وحده غير محرفة، ولا مبدلة، ولا مخلوطة بأوهام البشر، وأغلاطهم، وانحرافاتهم، فهي تعتمد على كتاب الله الموحى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحصورة فيه، وبعيدة كل البعد عن الفكر الفلسفي الإنساني، وكتاب الله مصدر يتسِم بالصدق والصحة، قد تكفل الله فحفظه كما قال - تعالى -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وقد قيَّض الله من يميز صحيحها من ضعيفها، ويبيِّن ما أُلحِق بها كذباً بحيث أصبحت معلومة، ومحصورة، ومتناولة بين العلماء الثقات، بخلاف الثقافات الأخرى المرتبطة بأديان إلهية ذات مصادر محرفة، أو وضعية لا يعرف لها أصل؛ وحقيقة مصدرها فكر البشر؛ سواء من أصل الوضع كالبوذية، أو بعد التبديل والتحريف كاليهودية والنصرانية التي لم تبق ثقة بربانية مصدرها بسبب ما طرأ عليها من تحريف غيَّر حقيقتها، وأزال قداستها [26، ص35].(/19)
وقيام الثقافة الإسلامية على مصادر صحيحة جعلها تختلف عن الثقافات الغربية والشرقية الحديثة التي قامت حضارتها وثقافاتها على بقية من دين محرف، أو فلسفة إلحادية تنكر وجود الله - تعالى - أو من فلسفة وضعية كالفلسفة اليونانية والرومانية، أو على تصور علماني يتجاهل دور الدين، ويعزله في جزء يسير من أمور الحياة، مما جعل هذه الثقافات معرَّضة للتغير، والتناقض، والانحسار [27، ص84].
وبهذا يتبين أن الثقافة الإسلامية وحدها ربانية المصدر، تستمد عناصرها من تعاليم القرآن والسنة المطهرة، سواء كانت عناصرها مما لا عمل للعقل البشري فيها سوى التلقي، والفهم، والتطبيق كأساسيات الدين التصورية، والأحكام التعبدية، والمقدرات، وأصول المعاملات، أم كانت مما للعقل مجال فيه بالاجتهاد والنظر لاستنباط أحكام عملية يحتاج إليها الإنسان مما لم يأت في النصوص له أحكام جلية [28، ص30].
كما أن الثقافة الإسلامية تعتمد على عقيدة صحيحة، هي محور ارتكازها، وقاعدتها الصلبة، منها تستمد شخصيتها، ومكوناتها، ومقوماتها، ومجالاتها، واتجاهها، وهذه العقيدة مبنية على أركان الإيمان الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقضاء: خيره وشره، وقد ارتبطت بهذه العقيدة ارتباطاً تاماً، وجعلتها محوراً رئيساً تنبثق منها تصوراتها وأحكامها، وقد انفردت عن غيرها من الثقافات بهذه الميزة التي ساهمت في التأكيد على ذاتيتها واستقلالها نظراً لصحتها ووضوحها ويقينيتها، وقدرتها على تفسير الحقائق الوجودية تفسيراً صادقاً، لا غموض فيه، ولا لبس، ولا مغالاة، ولا مجافاة للواقع [29، ص39].(/20)
إن ارتباط الثقافة الإسلامية بالعقيدة أثمر آثاراً منفردة لا تثمرها أي ثقافة أخرى، فقد نشأت في قلب الإنسان المسلم وعقله حالة من الانضباط لا تتأرجح معها المفاهيم، ولا تهتزُّ معها القيم، ولا يتميَّع فيها التصور ولا السلوك، فالذي يتصور ألوهية الله - تعالى - ويدرك حدود عبوديته يتحدد اتجاهه، ويتحدد سلوكه، ويعرف على وجه الدقة: من هو؟ وما غاية وجوده؟ وما حدود سلطانه؟ ويدرك حقيقة هذا الكون، وحقيقة قوة الله وقدرته، ومن ثَمَّ يتصور الأشياء، ويتعامل معها في حدود مضبوطة، ينشأ عنها انضباط في طبيعة العقل وموازينه، وانضباط في طبيعة القلب وقيمه، وانضباط في التعامل مع سنن الله بعد ذلك، والتلقي عن هذه العقيدة يزيد هذا الانضباط، ويحكمه، ويقويه [30، ص228].
وظيفة الثقافة الإسلامية في بناء الهوية الوطنية
تضطلع الثقافة الإسلامية بوظيفة مؤثرة ورائدة في بناء الهوية الوطنية، وصياغتها وَفق تعاليم الإسلام، وقيمه السامية، تتضح في المحاور التالية:
1- المحافظة على سمات شخصية الأمة الإسلامية من الضياع، أو التلاشي والاندثار، ذلك أن أي ثقافة من الثقافات تتفرد بسمات خاصة تميزها عن غيرها، وتنتمي إلى أمة معينة ذات مبادئ وقيم وتصورات خاصة بها، فكما أن الإنسان ينتمي إلى أسرة أو جماعة أو وطن فكذلك الثقافة، كما أن الوطن الإسلامي هو المكان الذي تمتد فيه هذه الأمة بشعوبها المختلفة، وتمارس فيه شعائرها، وقيمها، ومبادئها الإسلامية.
وإذا كان الوطن الإسلامي قد تعرض لغزو الثقافة الغربية أيام الاستعمار السياسي، ولا يزال يتعرض لموجات من التغريب عن طريق وسائل الإعلام والاقتصاد، وما يعرف بـ(العولمة) - فإن الثقافة الإسلامية تؤدي وظيفة الوقاية من ضرر هذا الغزو، وتعمل على تحصين الوطن الإسلامي من أثر عملية الإحلال الثقافي الغربي التي تمارس في المجتمعات الإسلامية.(/21)
2- العمل على توحيد شعوب الوطن الإسلامي ودوله من الناحية الفكرية، فوجود ثقافة إسلامية مشتركة يلتقي عليها المسلمون، ويشبُّ عليها الشباب المسلم سيقيها من حالة التمزق الفكري والتشتت الثقافي، ويخلِّصها من حالة الضياع والعيش بدون شخصية وفكر موحد [31، ص10]، وسيعينها على ظهور أهداف واهتمامات وتصورات مشتركة ستسهم في نسج وحدة من التكوين الداخلي بين أبناء الأمة الإسلامية، وفي توحيدهم على نماذجها البشرية وقيمها، وجمعهم على الالتزام بمصير الأمة التضامني الواحد [32، ص68].
3- الإسهام في تشكيل البعد النفسي للفرد داخل الوطن الإسلامي، وتكوين الشعور بالأمان النفسي؛ لأن الثقافة الإسلامية أكثر العلوم اتصالاً بكرامة الإنسان، وأعمقها تأكيداً لذاته، وهذا يتحقق من خلال تأكيدها على الأطر والأنساق والنظم والقيم المستمدة من الوحي، وعنايتها بها؛ نظراً لأنه ينشأ من الالتزام بها واحترامها بشكل جماعي اطمئنانٌ ذاتيٌّ للفرد المسلم، وارتياح داخلي، فهي تُكسِب الفرد شعوراً بالتضامن والتعاون، وتحقق له إحساساً بروح الانتماء إلى جماعة المسلمين الواحدة [32، ص68-69]، ويتم معرفة أهمية البعد النفسي الذي يشكله هذا العلم عند تصور أن المسلم الذي يعيش في مجتمع غير مسلم يشعر بالغربة في أطر تفكيره ونظم حياته، وبالخوف على قيمة ومحارمه وكرامته من أن تنتهك أو يُتَعدَّى عليها، وبالتوجس الداخلي من كل شيء، إن هذا يعود إلى فقده للرباط الذي يربطه بالثقافة السائدة في وطنه المسلم.(/22)
4- الوقوف في مواجهة الأخطار الفكرية التي يتعرض لها الوطن الإسلامي ممثَّلة في الدراسات (الاستشراقية) التي تستهدف تشويه صورة الإسلام في نفوس المسلمين، وزعزعة ثقتهم بمصادر دينهم، وتشكيكهم بمبادئ الإسلام وعقائده وقيمه وتاريخه، وفي التنصير الذي يسعى إلى تحويل المسلمين عن دينهم، ونشر الإلحاد والنصرانية في بلاد المسلمين، أو في التغريب الذي يعمل على صياغة المجتمعات الإسلامية صياغة غربية تحاكي حياة المجتمع الغربي في العادات والتقاليد ونظم الحياة.
إن مواجهة هذه الأخطار التي تحدِق بالأمة الإسلامية تحصل عن طريق تحصين أبناء الأمة المسلمين من التأثر بهذه الأفكار، ووقايتهم من أضرارها، ونقد الدراسات (الاستشراقية) المعادية، وبيان مغالطتها للحقيقة، وتعمُّدها للتشويه والكذب، وإيقاف حركة التنصير، وذلك عن طريق مضاعفة الجهد في الدعوة إلى الله - تعالى - ومنع المنصِّرين من الدعوة إلى دينهم في بلاد المسلمين، وتحقيق قدر من الوعي بأهداف (العولمة)، وأخطارها على مكتسبات الأمة.
5- تعميق روح الانتماء إلى الإسلام، وربط المسلمين بدينهم القيِّم، وتاريخهم المجيد، وحضارتهم العظيمة، وتوثيق الصلات العَقَدية والفكرية بينهم مهما تباعدت بلدانهم، أو اختلفت أعراقهم ولغاتهم، وبناء الشعور بالأُخوة المبنية على الإيمان، والنصرة في الدين في نفوس المسلمين بحيث يُحِسُّ بعضهم بآلام بعض، ويفرحون بفرحهم، ويرتبط المسلم بأخيه برباط فكري واحد، يوحِّد مشاعرهم وأحاسيسهم؛ بل وتصوراتهم، ونظرتهم إلى الحياة، ومواقفهم من متغيراتها.(/23)
إن ثقافة تقوم بهذه الوظيفة جديرة بأن يَعتزَّ بها أبناؤها المنتمون إليها، وذلك لسمو أهدافها ومضامينها ومناهجها، فهي ثقافة دين ختم الله به الرسالات، ورضيه لعباده، كما قال - تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، أحل الله به الطيبات، وحرم به الخبائث، ورفع به الحرج الذي كان على الأمم السابقة، قال - تعالى - في وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وأصبحت الثقافة بالإسلام ثقافة عالمية، وليست ثقافة أمة عنصرية منغلقة على نفسها كبني إسرائيل، وثقافة هداية للبشرية تخاطب العقل، وتهديه للتي هي أقوم، وليس ثقافة ضلال وجهالة، فعلى المسلم أن يتمسك بهذا الدين، ويعتز به كما قال - تعالى -: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44،43]، ومعنى: {ذِكْرٌ لَكَ} أي: شرف لك، وفخر لكل من يدين به [33، ص49-51].
الثقافة الإسلامية وتعدد الثقافات(/24)
على الرغم من كون الثقافة الإسلامية تمثل هوية الأمة الإسلامية، وتضطلع بوظيفة حمايتها من التلاشي، أو الذوبان في غيرها إلا أنها واقعية في نظرتها إلى الثقافات، فهي ترى أنها متولدة عن سنة الاختلاف بين بني البشر، كما قال - تعالى -: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118-119]؛ إذ الاختلاف والتغيير سنة من سنن الله - تعالى - في المجتمعات؛ يقول ابن خلدون: "وأحوال الأمم؛ عوائدهم، ونحلهم لا تدوم على حال واحدة، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص يكون في الأوقات والأمصار؛ فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول" [34، ص29]؛ ومادام الأمر كذلك فلابد إذا من استصحاب هذه الحقيقة الواقعية، ومراعاتها في مجال التعامل مع الثقافات الأخرى.(/25)
والثقافة الإسلامية كذلك على وعي تام بالثقافات الأخرى، وهذا يعود إلى كونها ثقافة إنسانية تحترم الإنسان وتكرمه، وتَحتفل بالمثل العليا، والوحدة الإنسانية، وتُعنى بالاتصال بالشعوب ومحاروتها على أساس من العلم والحق، وتهتم بمخاطبة الثقافات الأخرى على أساس من الاحترام المتبادل، كما أنها تشاركها في حماية القيم وإرساء المبادئ الإنسانية، فهي ثقافة ذات نزعة إنسانية واضحة في كل جانب من جوانبها، ولا أدل على ذلك من مكاتبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لملوك وأمراء عصره، وحضوره حلف الفضول لنصرة المظلومين، فقد روي عنه أنه قال: ((لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحِب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)) [35، ج1، ص155]؛ أي: لو دعي إليه من غير المسلمين لأجاب مادام محقِّقاً للعدل والإنصاف لبني الإنسان؛ لذا جاءت الشريعة راعية للقيم والمثل العليا، كما قال ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه" [36، ج1، ص3].(/26)
إن هذه السمة المميزة للثقافة الإسلامية في وحدة العقيدة تطبع كل الأسس والنظم التي جاءت بها حضارتنا، فهناك الوحدة في الرسالة، والوحدة في التشريع، والوحدة في الأهداف، والوحدة في الكيان الإنساني العام، والوحدة في وسائل المعيشة وطراز التفكير؛ حتى إن الباحثين في الفنون الإسلامية قد لحظوا وحدة الأسلوب والذوق بأنواعها المختلفة: فقطعة من العاج الأندلسي، وأخرى من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانية تبدو رغم تنوعها وزخرفتها ذات أسلوب واحد، وطابع واحد - فلا عجب في أن تكون الثقافة الإسلامية من بين الثقافات إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه في قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة، وجعل حضارته عِقداً تنتظم فيه جميع عبقريات الشعوب والأمم التي خفقت فوقها رايات الفتوحات الإسلامية؛ ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة؛ إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا وحدتها من جميع الأمم والشعوب" [37، ص31].(/27)
إذا كان المعنى الإنساني واضحاً في الثقافة الإسلامية فإن الثقافات الوطنية عامة تعاني من فقدان هذا المعنى، مما حَمَل الباحث الأمريكي ريتشارد ماك كوين - مستشار وفد الولايات المتحدة في الدورات: الأولى والثانية والثالثة للمؤتمر العام لـ(اليونسكو) - "على الدعوة إلى إنشاء نظام إيجابي عالمي يلبي مطامح الشعوب، مشيراً إلى أن على هذا النظام أن يُعدِّل طبائع الشعوب وأوضاعها وعاداتها، مستنداً في ذلك إلى المكتسبات العقلية والخلقية ومبتكرات الأفراد في الإطار العالمي طبعاً في ميدان الفكر والعمل والتعبير" [25، ص94]، وفي هذا السياق صدر عن مجموعة الخبراء المجتمعين بدعوة من (اليونسكو) لدراسة المشكلات الناشئة عن الاتصالات والعلاقات بين الحضارات في العالم - بيان جاء في ختامه ما يلي: "إن مشكلة التفاهم الدولي هي مشكلة علاقات بين الثقافات؛ فمن هذه العلاقات بين الثقافات يجب أن ينبثق مجتمع عالمي جديد قوامه التفاهم والاحترام المتبادل، وهذا المجتمع يجب أن يأخذ صورة نزعة إنسانية جديدة، يتحقق فيها الشمول، بالاعتراف بقيم مشتركة تحت شعار تنوع الثقافات" [38، ص423].
وإذا كانت الثقافة الإسلامية تأخذ بمبدأ التفاهم مع الثقافات الأخرى والاحترام المتبادل بينها فإنها في الوقت نفسه لا تأخذ بفكرة التعايش مع الثقافات التي تستهدف كسر الحواجز المانعة من تأثيرها لغرض إحلال ثقافتها مكانها وتوطينها [39، ص24]، لكنها لا تمانع من تفاعل الثقافات، وتقاربها في الجوانب العلمية والتطبيقية والحضارية، على أن يكون ذلك مبنياً على الاحترام المتبادل في جو سلمي بعيد عن الروح العدائية، والتعصب ضد الثقافات الأخرى، وعن احتكار المعلومات، والتقنيات الحديثة، وتوظيفها في سياق من أجل هيمنة ثقافة على أخرى.(/28)
إن محافظة كل أمة على ثقافتها لا ينافي قبول تَعدُّديَّة الثقافات، وإن رفض التعايش الثقافي المؤدي إلى إلغاء الهوية الثقافية لكل أمة لا يعني الأخذ بأحادية الثقافة؛ وإنما الأحادية الخطيرة تكمن في سلوك منهج إلغاء الثقافات الأخرى وإنكارها، وفرض ثقافة معينة عليها، هذا المنهج مارسته الثقافة الغربية ضد الثقافات الأخرى؛ فقد ميزت بين الشعوب، وألَّبتْ المذهبيات والأديان بعضها على بعض، كما مارست هذا المنهج مع الثقافة الإسلامية بشكل خاص مدة الاستعمار؛ حيث نقلت الدول الاستعمارية أنظمتها السياسية، والاقتصادية، ومذاهبها الفكرية، والاجتماعية إلى الوطن الإسلامي، وفرضتها على الشعوب الإسلامية على سبيل القسر والإلزام، واستخدمت ما أوتيت من قوة لتغيير هُوية الأمة الإسلامية، وتغريبها غير عابئة بتاريخها، ومصادرها، ومدارسها الفكرية، وخصوصيات مجتمعاتها، وعقيدتهم، وقيمهم، ومبادئهم، ولا يزال هذا المنهج مسيطراً على الثقافة الغربية على الرغم مما يعرف عنها من أنها (ديموقراطية) في منهجها، عقلانية في تفكيرها وتعاملها، تؤمن بالتعددية، والاختلاف، والتنوع بين الحضارات الإنسانية، ولعل الواقع الحالي المتجِه نحو فرض الثقافة الغربية عن طريق (العولمة) أكبر شاهد على ذلك، وهو ما يمكن رصده في السياسة الغربية الحالية التي تعمل على المحافظة على عقلية التمركز الغربي، وإقصاء الآخر، ولعل عقدة التخوُّف من "الانتقام مما فعلته الحضارة الغربية بالحضارات والثقافات التي أخضعتها لهيمنتها، وهي ما اعترف بها (البروفيسور) صموئيل هنتجتون عندما قال: "ابتداء من سنة 1500م بدأت التوسع الضخم للغرب مع جميع الحضارات الأخرى، وقد تمكن الغرب أثناء ذلك من الهيمنة على أغلب الحضارات، وإخضاعها لسلطته الاستعمارية، وفي بعض الحالات دمَّر الغرب تلك الحضارات" [40، ص21] المتعايشة فيما بينها دون أن تعتدي حضارة على خصوصيات الأخرى"، فلعل هذه العقدة هي التي(/29)