المشكلة الكبرى -التي أتاحت الصفقة الليبية لها الظهورَ- هي الحرب الإعلامية التي شنها الطبيب الفلسطيني البلغاري، وزميله والممرضات البلغاريات، والذين أجروا العديد من المقابلات مع وسائل الإعلام، أكدوا من خلالها تعرضهم للتعذيب من قبل السلطات الليبية، مبينين أن الأمن الليبي لديه عقده (المؤامرة)، إذ نقلت صحيفة الغارديان البريطانية عن الممرضة كريستيانا فالتشيفا، قولها: "إنها كانت متهمة بأنها قائدة مجموعة مرتبطة بالموساد الإسرائيلي، وكانت تسعى لتقويض استقرار ليبيا".
أما الطبيب البلغاري زدرافكو جورجييف _وهو زوج إحدى الممرضات أيضاً_ فيروي عبر شبكة البي بي سي، تفاصيل سجنه، قائلاً: "إنه عاش عامين بين القاذورات، ولم يتوافر له سوى الماء المالح يشربه، وكان يشترك في زنزانة واحدة طولها 1.9 متر وعرضها 1.7 متر هو وثمانية أشخاص آخرين في المرة الواحدة، وأنه حتى مع ثلاثة أشخاص كان الوضع رهيبا في هذه الزنزانة".
وتابع قائلا: "لم أستطع أن أستلقي لأنام لمدة عامين، لم يكن بمقدوري سوى الجلوس. لا يمكنك أن تتخيل الأمر. في الصيف كانت درجة الحرارة رهيبة في الداخل وكان المسجونون يفقدون الوعي".
مشيراً إلى أن زملاءه في الزنزانة من أنحاء مختلفة من أفريقيا، ومعظمهم من القتلى وتجار المخدرات، وقال: "إن الحرس قاموا بضربه، وفقد أربعة من أسنانه حينما هاجمه المحققون بالعصي". ولكنه يقول: إن هذا لا يقارن بالصدمات الكهربية التي تلقتها الممرضات والطبيب الفلسطيني.
وتابع قائلا "لقد عذبوهم وعاملوهم كالحيوانات - بل حتى الحيوانات لا يتعامل معهم الإنسان بهذه الطريقة".
حتى الطبيب الفلسطيني الأصل، أشرف الحجوج، أكد في مقابلة تلفزيونية، أنه عانى التعذيب خلال اعتقاله في ليبيا.
مشيراً إلى أن معتقليه وجهوا صعقات كهربائية لأعضائه التناسلية، وأن كلاب الشرطة أطلقت عليه.(/7)
وأضاف أنه عانى الاحتجاز في زنزانة حارة الجو لدرجة أن جلد جبهته كان يتساقط، وأنه أجبر على توقيع وثيقة تفيد بأنه تلقى معاملة طيبة خلال مدة اعتقاله.
اليوم، وبعد انتهاء الأزمة، وإطلاق سراح المعتقلين بطريقة درامية توحي بظلم ليبي عليهم، وحصول طرابلس على بضعة ملايين من الدولارات لكل أسرة ضحية، لا تعادل سوى 10% من قيمة تعويض أسر قتلى لوكيربي! يبدو الرئيس الليبي وقد فقد الأوراق الأساسية للعبة، وتحوّل من شخص تعقد عليه الآمال لإنصاف الليبيين، وربما العرب أيضاً، إلى رجل يسخط الجميع عليه.
ربما هذه هي حال السياسة، التي لا تدخل في شيء إلا وحطّت من قدره.(/8)
العنوان: القرارُ الجبان في شهر رمضان
رقم المقالة: 1378
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
لله في أيام الدهر نفَحات، ومواسمُ خيرات، يضاعَف فيها ثوابُ الأعمال، ويسطع فيها نجمُ الخير، وتقل فيها دواعي المعصية، ومن هذه المواسم شهرُ رمضان المبارك، الذي اختاره الله تعالى لإنزال خير كتبه على أكرم رسله -صلى الله عليه وسلم-، وخصه بمميزات لا توجد في غيره؛ فصفّد فيه الشياطين، وفتح فيه أبواب الجنة، وأغلق فيه أبواب النار، فالقلوب فيه مقبلة على ربها، والهمم فيه سامية عن الشهوات، والنفوس متخلصة من أسْر المعاصي. رمضان فرصة ذهبية لمراجعة النفس وتحسين العلاقة بالله تعالى، وقد كان السلفُ يسمُّون رمضان المطهّر، ويسألون الله تعالى قبل قدومه بزمن طويل أن يبلغهم الشهر الكريم.
وفي هذه الجو الإيماني والمناخ الرُّوحاني تنتظم الغالبية العظمى من المسلمين في موكب الطاعة، ويتسابقون في جني الحسنات والبعد عن المعاصي والآثام، ولكنَّ بعض الناس لا يروق له إلا السيرُ عكس تيار الخير، والإصرار على القرار الجبان، الذي يتغلب فيه الهوى (مع قلة النصير) على الهدى (مع كثرة المعين).
إن من أعظم ما يشجّع على السير في طريق المعاصي كثرةَ الهالكين، ومن أعظم ما يثبّط عن السير في سبيل الهدى قلةَ السالكين، فما بالُ أولئك الذين يسيرون في طريق الآثام برغم قلة سالكيه في رمضان؟!(/1)
لقد كان قرارُ أبي لهب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- القاضي بعداء الدعوة والوقوف في وجهها قراراً مهلكاً أورثه ناراً ذات لهب، ولا تزال الألسنُ تردِّد ما أنزل الله بخسرانه على مدى العصور والدهور ما بقي على وجه الأرض إنسان يتلو من القرآن سورة المسد، وكان من أجبن قراراته قرارُه يوم جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قومَه، وعرض عليهم الإسلام، وطلب منهم حمايته، فلم يتخلف أحد من قومه عن حمايته مسلمِهم وكافرِهم، إلا أبا لهب فهو الوحيد الذي اختار القرار الجبان، وسار عكس التيار!
وكان قرار امرأة لوط -عليه السلام- قراراً جباناً؛ حين خانت زوجها، وعصت ربها في بيت توافق أهله على الإسلام، وتعاهدوا على الإيمان، وكانت هي الكلمة الشاذة في ذلك البيت النبوي؛ قال الله تعالى: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين} [النمل: 57].
إن من الشجاعة الوقوفَ أمام الباطل وإشهار سيف الحق في وجهه، ولو كان المرء وحيداً لا نصير له إلا الله تعالى {وكفي بالله ولياً وكفي بالله نصيراً} [النساء: 45]، كما فعل إبراهيم عليه السلام أمام طغيان النمروذ بن كنعان، وكما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أمام اعتداءات أهل مكة وأذاهم؛ وبذات القدر فمن الجبن والخزي أن يقف المرء وحيداً يصارعُ أمواج الخير سابحاً عكس تياره كما يحلو لبعض الناس في شهر رمضان.
إن كثيراً من الناس لو وُصِف بالجبن لتهيُّبه في بعض المواطن لغضب، وربما اعتدى على من أطلق عليه هذا الوصف، وربما حمل نفسه حملاً على اقتحام المخاطر حتى ينفي تلك التهمة عن نفسه، وذلك لتمام إقراره بأن تهيب المخاطر جبن، ولكنه يستغرب إن وصفه أحد بالجبن لغلبة شهواته عليه، وضعفه أمام نزواته، مع أن الجبن يدخل فيه أصالةً ضعفُ المرء أمام شهواته وإحجامه عن سلوك الصراط السوي.(/2)
وكما أن الجبن يتأكد صفةً لمن يتملكه الخوفُ مع عدم وجود مسوّغه، كما لو تهيب المرءُ السيرَ في طريق مسلوكة يغدو فيها الناسُ ويروحون، فكذلك يتأكد الجبنُ في حق من يعجز عن نهي نفسه عن هواها، فينقاد لها طائعاً لتُورِدَه مواردَ الهلاك، وسبيلُ الخير مسلوك معبد كما هو الحال في شهر رمضان.
إن رمضان مصدر يمدنا بطاقة إيمانية لسائر عامنا، والمحرومُ من حَرَمه جبنُه من التزود من تلكم الطاقة اللازمة لصناعة الأعمال الصالحة؛ المسعدة في الدنيا، والمنجية في الآخرة.(/3)
العنوان: القرآن الكريم روضة المربِّين والدَّارسين
رقم المقالة: 1820
صاحب المقالة: محمد يوسف الجاهوش
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآل كلٍّ، وصحْبِ كلٍّ، أجمعين. وبعد،،،
فقد بعث الله تعالى محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - مبشّرًا ونذيرًا، وداعِيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، وأنزل عليه القرآن، معجزة خالدة مستمرة، ما تعاقب الليل والنهار، وتحدَّى به الثَّقَلين من الإنس والجِنّ، فأذعن لفصاحته بلغاؤهم، وانقاد لحكمته حكماؤهم، وانبهر بأسراره علماؤهم، وانقطعت حُجة معارضيه، وظهر عجزهم، كيف لا؟! وهو كلام الحكيم الخبير، الذي خلق الخلق بعلمه، وتَعَبَّدهم بِقُدرته، فأنزل إليهم ما فيه صلاحهم ونجاحهم في الدارين {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
فالقرآن كلام الله تعالى، أحكم آياته بإرادته، وحفِظه بقدرته، يسَّر ذكره للذاكرين، وسهَّل حفظه للدارسين، فهو للقلوب ربيعُها، وللأبصار ضياؤها، جعله الله تعالى نورًا، وإلى النور يهدي، وحقًّا، وإلى الحق يُرشد، وصراطًا مستقيمًا، ينتهي بسالكيه إلى جنة الخلد، لا تملُّه القلوب، ولا تتعب من تلاوته الألسنة، ولا يخلق على كثرة الردِّ.
منزلة القرآن عند الله تعالى وعند رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم-:
لقد أبرزت النّصوصُ القرآنية منزلة القرآن العُليا ومكانته الرفيعة ومدى العناية الإلهية بهذا الكتاب الكريم.
وتجلَّى ذلك في جوانب متعددة، من أبرزها:
1- حِفظُ الله تعالى للقرآن الكريم من الضياع، ومن التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].(/1)
2- جَمْعُ الله تعالى القرآنَ في صدر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتثبيتُه، فلا ينسى منه شيئًا أبدًا، قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16-19].
3- معارضةُ جبريل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالقرآن:
فقد كان جبريل - عليه السلام - يعارض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالقرآن مرة كل سنة، وعارضه سنة وفاته مرتين؛ وذلك ليطمئن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى ضَبْطه وحفظه، وعدم نسيان شيء منه.
4- الأمر بترتيب سور القرآن وآياته:
فقد أوحى الله تعالى إلى رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بترتيب سور القرآن، وكذلك ترتيب الآيات داخل السور على الشكل الموجود في المصحف الذي جمعه سيدنا عثمان - رضي الله عنه.
5- أمر الله تعالى بتحكيم القرآن:
قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
عناية الرسول - صلى الله عليه و سلم - بالقرآن:
أمَّا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد بيَّن لنا بأفعاله وأقواله رِفعة منزلة القرآن الكريم، وأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان شديد الحِرص على العناية به، وتوجيه المسلمين إلى العناية التامَّة بالقرآن تعلُّمًا وتعليمًا، وفَهمًا وتطبيقًا، ومن أبرز ذلك:
1- الأمر بكتابة القرآن، وعدم كتابة الحديث:
فقد روى الإمام مسلم وغيرُه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تَكْتُبوا عنّي، ومن كتب عنّي غيرَ القُرآنِ فليَمحُه، وحدِّثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار)).(/2)
وذلك في بداية تَنزُّل القرآن، ودام الحال حتى أصبح الصحابة على دِراية بأسلوب القرآن، ولم يَعد هناك خشية من التباس الأمر بينه وبين غيره من الكلام، عندها سمح - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكتابة الحديث النبوي الشريف.
2- الحثّ على قراءة القرآن وبيان فضلها:
فقد روى مسلم وغيره عن أبي أُمامة الباهلي أنه قال: "سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزَّهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنَّهما غَمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صوافَّ، تُحاجَّان عن أصحابِهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإنَّ أخذها بركة، وتَركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة))[1].
3- الحث على حفظ القرآن واستظهاره:
فقد روى الترمذي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: "قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من قرأ القرآن واستظهره، فأحلَّ حلاله، وحرَّم حرامه، أدخله الله به الجنة، وشفَّعه في عشرة من أهل بيته، كلهم وجبت له النار))[2].
4- التَّزويج على حفظ القرآن:
فقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُزوِّج الرجل، ويجعل حفظه للقرآن، أو بعض سور القرآن بدلا من المهر، كما روى ذلك البخاري والترمذي.
5- الحث على تعلُّم القرآن وتعليمه:
فقد حث - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسلمين على تَعلُّم القرآن وتعليمه؛ وذلك لأنَّ القرآن الكريم هو المصدر الأول للدين الإسلامي، وقد روى البخاري وغيره عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه)) [3].
6- النهي عن حمل القرآن إلى أرض العدو:
فقد نهى - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسلمين عن حمل القرآن إلى أرض العدو؛ وذلك حفاظًا عليه من الإهانة أو العَبَث به، أو وضعه في مكان غير لائق به.(/3)
روى البخاري وغيره: "عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى أن يُسافَر بالقرآن إلى أرض العدو".
7- الوصية بكتاب الله تعالى:
فقد أوصى - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسلمين عند وفاتِه بالتَّمسُّك بكتاب الله - تعالى - والعمل به، فقد روى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى: "أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يُوصِ بمال ولا بغيره، وإنما أوصى بكتاب الله عز وجل".
والمسلم مُطالَب - وليس له خيار - أن يكون هذا الكتاب الكريم دليل دربه، ودستور حياته، في خَلوته وجَلوَته، والأمة مطالبة - وليس لها خيار - أن يكون القرآن الكريم دستورها، ومصدر تشريعها، تصدر عنه في دقائق وجلائل الأمور، على كل مستوى، وفي كل مجال، بقوانينها وتنظيماتها الداخلية، وبتشريعاتها وعَلاقاتها الدولية؛ ويوم أن تفعل ذلك، تنتظر نصر ربها الذي وعد عباده المؤمنين.
ما يربط المسلم بكتاب الله:
والخُطوة الأولى التي تربِط المسلم بالقرآن وتفتح أمام دارسيه آفاقًا من النور والمعرفة، هيتلاوته:
وقد استنبط أسلافنا - من نصوص الكتاب والسنة - ضوابط وآدابًا للتلاوة، تحقِّق مراعاتُها الغاية المَرجُوَّة منها.
آداب تلاوة القرآن الكريم:
1- الإخلاص: وهو أن يقصد بقراءته وجه الله تعالى؛ فالإخلاص أساسُ قَبول كل عمل {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، ومن كلام ابن عباس: "إنما يُعطى الرجل على قدر نيته".
2- طهارة البدن من الحدث الأكبر والأصغر، ومن الحيض والنفاس، ونظافة الثوب والمكان، وأن يستاك؛ ليكون فمُه نظيفًا؛ لأنه مجرى كلام الله - عز وجل - ومن كلام علي - رضي الله عنه-: "إن أفواهكم طرق للقرآن؛ فطيِّبوها بالسِّواك".
3- الاستعاذة بالله من الشيطان عند البدء:(/4)
قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، ثم يُسمي الله في أول السورة. ويرى الشافعيَّة أنه يُسمي الله إذا بدأ قراءته من وسط السورة كذلك.
4- التَّدبُّر والتفكُّر في معاني ما يَقرأ أو يَسمع، ولو اقتضاه هذا التدبر أن يُردِّد الآية مرات كثيرة؛ لأن هدف التلاوة إنما هو فَهم الخطاب الرَّباني، والوقوف عند أوامره ونواهيه، وقد بَيَّن لنا ربنا - عز وجل - أنه إنما أنزل القرآن من أجل تدبُّر آياته، والتفكُّر في معانيه ومقاصده؛ لتفقَه القلوب ما فيه من حقائق وتوجيهات، فتَصدُر عن وعي وإدراك، وتُطبّق عن فهم واطمئنان.
ومن كلام عليٍّ - رضي الله عنه -: "لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبُّر فيها". وقال ابن مسعود: "من أراد علم الأوَّلين والآخرين، فليتدبر القرآن".
كما ذمَّ الله - سبحانه وتعالى - من يغفل عن تدبر القرآن؛ فيُعرض عنه إعراضًا تامًّا، أو يتلوه وهو غافل لاهٍ عن التأمل والتدبر في نصوصه وأحكامه، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. وصحَّ عن أبي ذر أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام بآية يردِّدها حتى أصبح، وهى قوله عز وجل: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].
وعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: "قمت مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليلة، فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوَّذ"[4].(/5)
5- أن يتذكر القارئ من واقع حاله ما هو موافق لما يطلبه ربنا عز وجل في كتابه، وما هو مخالف وقائم على غير هدى من كتاب الله؛ ليعمل على تدارك التقصير، ويزداد نشاطًا في فعل الخيرات، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41].
6- أن يحرِص على النَّظر في المصحف ولو كان حافظًا مُتقِنًا؛ لأن النظر في المصحف ضَرْب من العبادة، روى البيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أعطوا أعينكم حظَّها من العبادة)). قالوا: "وما حظُّها من العبادة؟" قال: ((النظر في المصحف)).
7- أن يتحرى أوقات حضور قلبه وخشوعه، فيستغلها بالتلاوة والتدبر، وأهمها: ما كان عقب الصلاة المفروضة، وفي هَدْأة الليل وسكونه، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. والنصف الأخير من الليل أفضل من الأول، والقراءة بين المغرب والعشاء محبوبة، وأفضل قراءة النهار بعد صلاة الصبح، ويُفضَّل من الأيام: الجمعة، والاثنين، والخميس، ويوم عرفة، والعشر الأواخر من رمضان، والعشر الأوائل من ذي الحَجة، ورمضان شهر القرآن "التبيان" للإمام النووي[5].
8- وعلى سامع التلاوة الإنصات، وتأمل المعاني، ومتابعة القارئ، والابتعاد عن اللَّغو والكلام أثناء سماع التلاوة؛ فإن ذلك من أسباب نزول رحمة الله عز وجل، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. [الأعراف: 204].(/6)
9- ويستحب للقارئ وللسامع إذا قرأ أو سمع آية رحمة أن يسأل الله من فضله، وإذا مرَّ بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر، أو من العذاب، سواء أكان يقرأ في الصلاة أم خارجها، ويستوي في ذلك المنفرد، والإمام، والمأموم[6]، فقد صحَّ عن حُذيفة بن اليمان أنه صلى خلف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذات ليلة، فكان إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّحَ، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ[7].
10- أن يتجنب القارئ قطع قراءته، فيبتعد عن الكلام والضَّحك أثناء القراءة، إلا كلامًا يُضطر إليه؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه: "أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرُغ مما أراد أن يقرأه"[8].
11- تزيين الصوت وترقيقه، بما لا يُعَد تكلُّفًا؛ فإن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُحب سماع القرآن من ذوي الصوت الحسن، وقد صحَّ عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((زيِّنوا القرآن بأصواتكم))؛ رواه أبو داود، والنسائي. وأثنى على أبي موسى الأشعري؛ لحُسن صوته بقوله: ((لقد أوتيت مِزمارًا من مَزامير آل داود))[9].
12- وينبغي لقارئ القرآن أن يُرتل قراءته ويُجوِّدها؛ قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4].
ولو قال قائل بوجوب الترتيل لكان أقرب إلى ظاهر ما يدل عليه النص القرآني؛ ولذا قال الزركشي: "على كل من قرأ القرآن أن يُرتله، وقد سئل علي - رضي الله عنه - عن الترتيل فقال: هو تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف".
وقد نعتت أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - قراءة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنها كانت: "قراءة مفسَّرةً: حرفًا، حرفًا"[10].(/7)
عن ابن عباس: أن رجلاً قال له: "إني أقرأ المُفصَّل في ركعة واحدة". فقال له: "هذًّا كهذِّ الشعر؟! إن قومًا يقرؤون القرآن لا يُجاوز تراقيَهُم! ولكن إذا وقع في القلب فيرسخ فيه نفع". وقال أيضًا: "لا تنثروه نثر الدَّقَل[11]، ولا تَهذوه هذَّ الشعر، قِفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يَكن همُّ أحدكم آخر السورة".
13- خشوع القلب، وسكون الجوارح، واستحضار عظمة من أنزل القرآن - سبحانه وتعالى - والبكاء خوفًا من الله تعالى، ومحاولة التباكي إن لم يَتأتَّ له البكاء؛ فقد أثنى الله على أقوام لبكائهم عند سماع آياته: قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
وقد روى ابن مسعود أنه قرأ على رسول الله، فلما وصل إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، نظر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإذا عيناه تَذْرِفان[12].
14- الدعاء بعد كل تلاوة بما يتناسب والآيات التي تلاها، ويَتأكَّد الدعاء بعد ختم القرآن الكريم، فهو مَظِنَّة الاستجابة، قال مجاهد: "كانوا يجتمعون عند ختم القرآن، ويقولون: تنزِل الرحمة".
عن أنس - رضي الله عنه - أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا[13].
وعنه - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((من قرأ القرآن، وحمِد الربَّ وصلى على النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - واستغفر ربه، فقد طلب الخيْرَ مَكَانَهُ))[14].
15- يُسن إذا فرَغ من الختمة أن يَشْرَع في ختمةٍ جديدةٍ مباشرة؛ ليكون متواصل القراءة دون فترة أو مهلة أو تقاعُس بعد الختمة.(/8)
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أحب الأعمال إلى الله الحالُّ المُرتحِل، الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حلَّ ارتحل))[15].
وعن ابن عباس، وأُبيِّ بن كعب - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا قرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]، فتح من الحمد، ثم قرأ من البقرة: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، ثم دعا بدعاء الختمة ثم قام"[16].
فضل التلاوة وثوابها:
إن فضل التلاوة عظيم، وثوابها جزيل، ومنزلة العبد عند ربه بمقدار قربه من كتابه - عز وجل - ومُعايَشته له، وكثرة تلاوته، وإقامة أحكامه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الرعد: 29-30].
فانظر يا أخي إلى فائدة التلاوة وثواب المُثابِرين عليها، إنها مِفتاح كل خير، وسبيل المحافظة على الصلوات واطمئنان النفس إلى فضل الله وموعوده، فتراها تجود و تبذل، لا تخشى إلا الله - عز و جل.
- إنهم ممن وعدهم الله - تعالى - بالتجارة الرابحة في ديناهم وأخراهم.
- وتعهَّد لهم ربنا - عز وجل - أن يُوفِّيَهم أجورهم كاملة غير مَنقوصَة.
- أن يزيدهم من فضله، ثوابًا فوق ثوابهم، وجزاء يفوق ما استحقُّوه بأعمالهم.
- ويَختِم لهم بالمغفرة (إنه غفور شكور)، وما الذي يرجوه المؤمن من بعد هذا؟!
وإن تلاوة القرآن بفَهم وتدبر وخشوع تُحقِّق الخير الكثير لصاحبها؛ فهو يَنال زيادة على ما تقدم:
عُلوُّ المنزلة عند الله تعالي:
منزلة قارئ القرآن تَرتفع وتترقَّى كلما أخلص النية وابتغى وجه الله - تعالى - وكلما ازدادت صلته بكتاب الله - عز وجل.(/9)
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتَقِ ورتل، كما كنت تُرتِّل في الدنيا؛ فإنَّ منزِلَتَك عند آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُها))[17].
وقارئ القرآن أحد رجلين:
رجل آتاه الله مَلَكة الفصاحة والبيان والنطق السليم، فهو مع السفرة الكرام البررة.
ورجل لم يَنشَأ على الفصاحة والبيان؛ لعُجمته، أو بعده عن العلم والعلماء.
وكلاهما في منزلة عالية رفيعة.
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهِرٌ به، مع السفرة الكِرام، البَررة، والذي يقرأ القرآن وهو يَتَعْتَع فيه، وهو عليه شاق له أجران))"[18].
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويَضع آخرين))[19].
مضاعفة الأجر:
وقارئ القرآن تُضاعف حسناته، ويُجزل الله - تعالى - أجره؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن قرأ القرآن، له بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولا م حرف، وميم حرف))[20].
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال خرج علينا رسول الله ونحن في الصُّفَّة، فقال: ((أيُّكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطْحان - أو إلى العَقيق - فيأتي منه بناقتين كَوْماوَين، في غير إثم، ولا قطيعة رحم؟)) فقلنا: "يا رسول الله، كلنا نحب ذلك". قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم - أو فيقرأ - آيتين من كتاب الله - عز وجل - خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)).
الشفاعة:
والقرآن يأتي شفيعًا يوم القيامة لمن تعاهده بالدرس والفَهم والعمل؛ لذلك حثَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - على قراءته، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شَفيعًا لأصحابه))[21].(/10)
وروى مسلم أيضًا أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يؤتى بالقرآن وأهله الذين يَعملون به، تَقْدمهم سورة البقرة وآل عمران، تُحاجَّان عن صاحبهما))[22].
فالقرآن شافِع، مُشفَّع، وماحِل (مدافع) مُصدَّق، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار))[23].
حصول البركة لبيوت حملة القرآن:
وحامل القرآن الذي يتلوه، ويحرِص على تنفيذ أحكامه، ينال بركة وثواب ذلك في
نفسه، وفي ولده، وجميع أهل بيته.
قال عبد الله بن مسعود: "إن هذا القرآن مَأدُبة الله فمَنِ استَطَاع منكم أن يتعلم منه شيئًا فليفعل، فإن أصفر البيوت من الخير - الذي ليس فيه من كتاب الله شيء، وإنَّ البَيْتَ الَّذي ليس فيه من كتاب اللَّه شيءٌ كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرج من البيت الذي يسمع منه سورة البقرة".
نزول السكينة:
عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرسٌ مربوط بشَطَنين، فتغشَّته سحابة، فجَعَلت تدور وتدنو، وجعل فرسُه ينفِر منها، فلما أصبح أتى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فذكر ذلك له، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تلك السكينة، تنَزَّلت للقرآن))"[24].
وفى "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله - تعالى - يتلون كتاب الله، ويَتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغَشِيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده))[25].
فاحذرْ أخي المسلم أن تَشغَلك أمور الحياة - أيًّا كانت - عن صِلتك بكتاب الله - عز وجل - تلاوة وفهمًا؛ فشواغِل الحياة لن تنقضي ما دامت الحياة.(/11)
وفرق كبير بين من يواجه الحياة وأحداثها ومشاغلها مَوصولَ الحبال بربه مُتزوِّدًا من كلامه، وبين من يُواجهها ضعيف الصلة بمصدر العزة - القرآن الكريم - قليلَ التَّزوُّد من معينه وفضائله، وإن الوقت الذي يعيشه المسلم مع كتاب ربه ليس وقتًا ضائعًا، ولا يتوقَّف بسببه أيُّ عمل من الأعمال، إنَّهُ وقْتٌ يكتسب المسلم فيه طاقة إيمانية وقوة روحية تضاعف من همته ونشاطه، وتنعكس آثارُها الإيجابيَّة على نفسيَّته.
ثم هو وقت مبارَك، ويبارك الله بسببه في بقية الأوقات، ويعطي صاحبه أفضل مما يؤمِّل، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما يَرويه عن ربّه عز وجل: ((من شغله القرآن وذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين))[26].
فضل حفظ القرآن:
المحافظة على القرآن والتحذير من نسيانه:
إن من أوتي حفظ القرآن كله أو حفظ بعضه، فقد أوتى حظًّا عظيمًا، ورُزق خيرًا عميمًا، وإنْ ظنَّ أن أحدًا أوتي خيرًا منه فقد حقَّر ما عظَّمَ اللهُ - عز وجل؛ لذلك جاءت الأحاديث النبوية صحيحةً صريحة تحذِّر من نسيان القرآن، وتَحثُّ على تعهده بمداومة التلاوة؛ لتثبيت الحفظ، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفسي بيده، لهو أشدُّ تَفلُّتًا من الإبل في عُقُلها))[27].
وعن عمر - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّما مثل صاحب القرآن كمثل صاحبِ الإبل المعقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت))[28].
إكرام أهل القرآن:
القرآن كلام الله تعالى القديم، وحبله المتين، وحملته هم أولياء الله تعالى، ما حافظوا عليه، واهتموا بفهمه، وحرَصوا على تبليغ تعاليمه، فلا عجب أن يكونوا موضع الإكرام والإجلال.(/12)
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط))[29].
ومن كرامة أهل القرآن على ربهم أن جعلهم مُقدَّمين على غيرهم في حياتهم وبعد مماتهم.
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: ((أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟)) فإذا أشير إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحد))[30].
فليت من أكرمهم الله - تعالى - بحفظ كتابه وحمل رسالته يدركون منزلتهم عند ربهم - عز وجل - ويؤدُّون واجبهم تجاه الأمانة التي حُمِّلوها؛ فإن ذلك عِزُّهم وشرفهم في الدنيا، ورصيدهم الذي يرفع مكانتهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أخلاق حامل القرآن:
ينبغي أن يكون حامل القرآن هو رجل الدعوة، ورجل الدعوة يجب أن يكون رجل القرآن مُتحليًا بأكرم الشمائل، مَصونًا عن دنيء المكاسب، مترفِّعًا على الجبابرة والطغاة، مُتجافِيًا عن سفاسف الأمور، متواضِعًا للصالحين، ذا سكينة ووقار، شريف النفس، عاليَ الهمة، دائبًا في نشر الخير، حريصًا على تبليغ الرسالة، ودعوة الناس إليها.
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((من قرأ القرآن فقد استدرج النبوَّة بين جنبيه، غير أنه لا يوحى إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يَجِد مع من وجد، ولا يجهل مع من يجهل، وفي جوفه كلام الله))[31].
وهذه الأخلاق فهمها أصحاب النبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتحلَّوا بها، وحرَصوا على نقلها لمن وراءهم.(/13)
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله قائمًا إذ الناس نائمون، وبنهاره صائمًا إذ الناس مُفطِرون، وبعفَّة لسانه إذ الناس يهجرون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يَضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكينًا ليِّنًا، ولا ينبغي له أن يكون جافيًا، ولا ممارِيًا، ولا صيَّاحًا، ولا صخَّابًا، ولا حديدًا - أي: سريع الغضب -"[32].
وعن الحسن البصري - رحمه الله - قال: "إن من كان قبلكم رؤوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويُنفِّذونها بالنهار"[33].
وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم، فحامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو؛ تعظيمًا لحق القرآن"[34].
خاتمة:
وبعد أخي المسلم:
إن القرآن مائدة الله - عز وجل - يَدعو مُنادِيها صباح مساء: هلمَّ إلى قِرى الكريم، وضيافة العزيز الحكيم. فأقبل يا أخي، أقبل، ولا تتردد، تَزوَّد من مائدة القرآن؛ ففيها شفاء النفس من أمراضها، وسلامة الأجسام من أدوائها، وراحة الصدور من كآبتها وانقباضها، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].
إن نماذج الحياة على صعيد الفرد والدولة والأمة قد وضَّحها القرآن وبيَّنها، وتكفَّل بالسعادة والسيادة، والعزة والسُّؤدَد، لمن أقام الحياة على وَفق هديه، وفي ضوء تعاليمه.
وإن أمَّة أعرضت عن كتاب ربها، واتخذته وراءها ظِهريًّا، حَريَّةٌ أن يطول ليلها، ويدوم شقاؤها، ويستذلهَّا أعداؤها، وينهبون خيراتها، ويسومونها سوء العذاب.(/14)
فمتى يصحو عقلاء الأمة، ويحملون أنفسهم على منهج القرآن، ويقودون أمتهم إلى هذا النهج القويم؟!
إنَّنا لم نفقد الأمل، وما زلنا نتطلع إلى ذلك اليوم الذي نرى فيه شباب الدعوة ورجالها ربَّانيين في أخلاقهم، ربانيين في سلوكهم وتعاملهم، ربانيين في صداقاتهم ومعاداتهم، عندها نرجو لهم نصر الله الذي وعد عباده المؤمنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم، 408
[2] رواه الترمذي.
[3] "صحيح البخاري"، كتاب فضائل القرآن، حديث رقم، 5027، 5028.
[4] رواه أبو دواد، والنسائي.
[5] "التبيان في آداب حملة القرآن"، للإمام النووي.
[6] المرجع السابق.
[7] رواه مسلم.
[8] رواه البخاري.
[9] متفق عليه
[10] رواه الترمذي و أبو دواد و النسائي و قال الترمذي: "حسن صحيح".
[11] التمر الرديء
[12] متفق عليه.
[13] رواه أبو داود.
[14] رواه البيهقي.
[15] رواه الترمذي.
[16] رواه الدارمي.
[17] رواه أبو داود و الترمذي، و قال الترمذي: حسن صحيح.
[18] متفق عليه.
[19] رواه مسلم.
[20] رواه الترمذي.
[21] رواه مسلم.
[22] رواه مسلم.
[23] رواه ابن حبان.
[24] متفق عليه.
[25] رواه مسلم.
[26] رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح".
[27] متفق عليه.
[28] متفق عليه.
[29] رواه أبو داود، وهو حديث حسن.
[30] رواه البخاري.
[31] رواه الحاكم وصحح إسناده، ووافقه الذهبي.
[32] "التبيان في آداب حملة القرآن"، الإمام الذهبي.
[33] "التبيان في آداب حملة القرآن"، الإمام الذهبي.
[34] "التبيان في آداب حملة القرآن"، الإمام الذهبي.(/15)
العنوان: القرآن الكريم والمسألة الاجتماعيّة (خطوط عريضة)
رقم المقالة: 1063
صاحب المقالة: د. عماد الدين خليل
-----------------------------------------
القرآن الكريم والمسألة الاجتماعيّة
(خطوط عريضة)*
إنّ الإسلام في قرآنه وسنَّة نبيِّه، يطرح قواعدَ عامَّةً، وخُطوطًا عريضة يريد بها أن يُشَكِّل الأرضيَّة الصُّلبة التي تتحرَّك عليها العَلاقَات الاجتماعيَّةُ؛ التي تَمْتَدُّ جذورُها في أعماق النَّفس، وبِنْية العالَم، وفي صميم النَّظرة إلى الكون.
وصحيح أنَّه يَطرح -في الوقت نفسه- تفاصيلَ وجزئياتٍ عن قضايا يوميَّة، ومسائلَ اجتماعيةٍ بالذَّات، ويلامِسها مُلامسةً تامَّة إلّا أنَّ الإطار الكبير والرؤْية الشُّمولِيَّة التي يرسِمها الإسلام لموقف الإنسان في العالَم، وطبيعة دَوره فيه، والغاية التي خُلِق لها، والمصير الذي يسعى للتَّحقق به من خلال ممارساته الواقعيَّة، هي التي تُهِمُّنا ونحن نرسِم بعض آفاق العَدل الاجتماعيِّ؛ كما جاء بها هذا (الدّين القيّم).
ولْنَبْدأْ بمسألة (التَّرَف)،و (الغِنى الفاحش)؛ كظاهرتَين نقيضتَين لفكرة العَدل الاجتماعيِّ.(/1)
ذلك أنه إذا اختفى العدل وانعدم التوازُن؛ ظهر الغِنَى الفاحش، والتَّرف. وإذا كان القرآن الكريم قد عالَج (التَّرف)، و(الغِنَى الفاحش)-بطبيعة الحال –؛ كمسألةٍ هدّامَة في كِيان أي مجتمَع، تنبثِق عنها دومًا مواقفُ سالبة رجعيَّةٌ، وإجراميَّةٌ كافِرةٌ؛ فمعنى هذا أنَّه يُريد مجتمَعًا مُتوازنًا؛ كبديلٍ لحتميَّة ظُهور التَّرف في (حالةٍ اجتماعيَّةٍ غير مُتوازِنة). ولقد مدَّ القرآن تحليله للظَّاهرة إلى أعماقِ النَّفس، وإملاء العَلاقات الاجتماعيَّة؛ مادِّيَّةً ورُوحيَّةً وفكريّةً وأخلاقيّةً، وتَقَدَّمَ بها صُعُدًا صوْبَ الآفاق البعيدة، والتّحليلات الشّاملة؛ لكي ما يلبث أن يلقي أضواءه، ويقول كلمته في حجم الدَّور الذي يلعبه التَّرف إزاء مسيرة الحضاراتِ ونموِّها، وعوامل سقوطها ودَمارها.(/2)
إنّ (التّرف) مُمارَسة (مدمِّرة)، سواء للجماعة كلِّها التي تسكت عليها، وتغضُّ عنها الطَّرْف، أو تَغْلو في انهزاميَّتها فتتملَّق وتتقرَّب وتداهن، أو للمترفين أنفسهم الذين يعمي الثَّراء الفاحش، -وما ينبثق عنه من مُمارسةٍ مَرضيَّة متضخّمةٍ مبالَغٍ فيها -: بصائرَهم، ويطمس على أرواحهم، ويسحَق كلَّ إحساسٍ أخلاقيٍّ أصيلٍ في نفوسهم، ويَحجُب عنهم – وهذا هو الأهمّ والأخطَر – كلَّ رؤْية حقيقيَّة لدَوْر الإنسان في الدُّنيا (مَوْقفه في الكون)، وطبيعة العَلاقات المُتبادَلَة بين عالَمَيِ الحضور والغياب، والمادَّة والرُّوح، والطَّبيعة وما وراء الطَّبيعة، والأرض والسَّماء. فيما أكسب التَّرف نفوسهم وحِسَّهم من خشونةٍ وثِقل وغلاظةٍ، ثقلوا فهبطوا فانقطعوا عن كلِّ رؤْية بعيدة، أو إيمانٍ جادٍّ يتَجاوَز بهم عالَم الحضور إلى الغياب، والمادَّةَ إلى الرُّوح، والطَّبيعةَ إلى ما وراءها، والأرضَ إلى السَّماء، والعَلاقاتِ المنفعيَّةَ إلى المواقع الأخلاقيَّة التي يتميَّز بها بنو آدم عن عالَم النَّمل والنَّحْل والحيوان. وهذا التَّحليل القرآنيّ يَقِف في تضادٍّ كامل مع الفَرْضيَّة الماركسيَّة التي تقول: إنَّ الدِّين لا يَعدو أن يكون جزءًا من الأخلاقيَّات والمُمارساتِ البُورجوازيَّة.
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ}(/3)
فها هي كلمات الله تبيُّن لنا البُعدَ المتبقِّيَ والأهمَّ لما يَؤُول إليه التَّرف: إنكار النُّبوَّات، والقِيَمِ الغَيْبيَّة، وكفرٌ بها وتكذيبٌ بلقاء الآخرة، وعدم مقدرةٍ على استخدام مقاييسَ دقيقةٍ في وزن الحوادث، والدَّعوات والأشياء، غير مقاييس الطَّعام والشَّراب.. ثمَّ حكم وقْتي خاطئٌ سريعٌ، بعد هذا، يرى في أنَّ الالتزام بأيِّ نداءٍ؛ يُخْرِج الإنسان عن دائرة عَلاقاته المنفعيَّة المباشرة، ويصدُّه عن الانغمار في الطَّعام والشَّراب، إنَّما هي صفقةٌ خاسرةٌ، تمامًا وَفْق المنطق الذي يعتمده التِّجار!!
وما كان للمُترَفين - حمايةً لمواقعهم تلك - إلّا أن يَحْزنوا، ويتمنَّوا على حركة التَّاريخ المحتَّمَة أن تحزن معهم وتسكن. وهم في مواجهة أيَّة دعوةٍ جديدةٍ، تدعو الإنسان للتَّقدُّم خُطواتٍ إلى الأمام، يرفضون شعارات (السُّكون) و(الرُّجوع) إلى الوراء؛ خَوفًا من أن تجرفهم الدَّعوة بعيدًا عن أماكنهم. وفي أكثرَ من موضعٍ يحدِّثنا القرآن عن (رجعيِّة) هؤلاء المترفين: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[1]. وتَكُونُ الغَلَبَةُ دَوْمًا لكَلِمَةِ اللهِ: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [2].(/4)
وفي آياتٍ أخرى ينقُلنا القرآن الكريم بسرعةٍ، كشأنه في كثيرٍ من الأحيان، إلى يوم الحساب؛ ليبيِّن لنا المصيرَ الذي سيؤول إليه المُتْرَفون[3]، وليُدينَهم بالجُرْم الكبير الذي كانوا يمارسونه دومًا في مسيرة الحياة الدّنيا: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ* قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ*. وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}[4].
فكأنَّ كلمة الكفر معلَّقةٌ – وقد أخلدوا بالتَّرف إلى الأرض – على ألسنتهم !! ليس هذا فحسب؛ بل إنَّهم – وقد حملهم التَّرف إلى مواقع السُّلطة – (والعَلاقة الجدليَّة قائمةٌ أبدًا – عدا التَّجربة الإسلاميَّة الأصيلة – بين التَّرف والسُّلطة، فإمَّا أن يقودَ التَّرف إلى السُّلطة أو أن تقود السُّلطة إلى التَّرف)، اعتمدوا مواقعهم تلك؛ فأصدروا أوامرهم المشدَّدة إلى الجماهير والأتباع، ليلاً ونهارًا، أن يكفروا بالله وأن يجعلوا له أندادًا، ولن يكون هؤلاء الأنداد المعبودون من دون الله سوى أولئك الذين نقلهم التّرف إلى مواقع الشِّرك والطُّغيان.(/5)
كما أنَّهم – وقد جُوبِهوا بالنِّداء الجديد – راحوا يحتمون بالأموال والأولاد، مُعتقدين أنَّهم بمنأى عن العذاب، قريبًا كان أم بعيدًا. وهو إحساسٌ نفْسيٌ مؤكَّدٌ لمن تخدعه (الكثرة) فتسوقه إلى الاعتقاد بقدرته على البقاء في موقعه بمُواجهة أيَّة دعوةٍ جديدةٍ. ولكنَّ هذه المقاييس النِّسبيَّة الخاطئة، تتهافت عبْر حركة التّاريخ الشَّاملة التي يسوقها الله بإرادة الإنسان. وتتبدَّى هذه الحماية الكاذبة – التي هي ليست سوى امتحانٍ إلهيٍّ موقوتٍ – على حقيقتها!!
ومرّةً أخرى، يَعْرِض علينا القرآنُ صُورًا حيَّةً شاخصةً لهؤلاءِ وهم يتخبَّطون في العذاب وينالون جزاءً لا يعدو أن يكون من جنس عملهم نفسِهِ: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ[5] * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}[6].(/6)
وما أعدلَ الجزاءَ الإلهيَّ! إنَّ المترَفِين[7] الذين كانوا يتنعَّمون في حياتهم الدُّنيا بألوان الطَّعام والشَّراب، والناس يتضوَّرون جُوعًا وعطشًا، والذين كانوا يقضون ساعات الحَرِّ اللَّاهب في الظِّلال الباردة الطَّيِّبة، والمعدمون يَسُحُّون عَرقًا. ها هم أولاء الآن ينزلون المكان الذي أُعِدّ لهم سلفًا، والذي توحي كلُّ كلمةٍ من كلماته البارعة المصوَّرة بجوِّ الحرِّ والاختناق: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ* وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ* لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيم}.. ويأكلون كما تأكل الأنعام، لأنَّهم في حياتِهم الدُّنيا ما كانوا ليغايروا الأنعام في تَهافُتهم على الطَّعام والشَّراب. ولكنَّهم إذا كانوا هناك (يلتهمون) أطيب ما تمنحه الأرض، فإنَّهم يملَؤون بطونهم بأسوأ ما تطلعه الجحيم (شجر الزَّقُّوم) أو (شراب الحَمِيم). وتُختم هذه الآيات المروِّعة حديثها عن مصير هؤلاء، وهي تشير بكلتا يديها: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}[8].(/7)
وهذا لا يَعني أبدًا (تعليق الجزاء على جريمة التَّرف إلى يوم الحساب، وتجميدَ الإرادة البشريَّة عن العمل؛ لوقْف الجريمة وإعادة حالة التَّوازن) وما جاء القرآن الكريم لينفُخ رُوح القُعود والكسل في نفوس الناس، ومن السَّذاجَة البالغة أن يمرَّ هذا في البال كمجرَّد خاطرٍ، وهو الذي تنزَّلت آياته تِباعًا لتؤكِّد مسؤوليَّة الإنسان الكاملة عن كلِّ (فعلٍ) يمارسه هو، أو تمارسه (الجماعة) التي ينتمي إليها ويندمج فيها، وتشتبك مصائره بمصائرها.. على العكس تمامًا؛ إنَّ القرآن لا يكتفي بعرض المسألة من جانبٍ واحدٍ، ويبيِّن ما في تَجْرِبة (التَّرف) من قُبحٍ وكفرٍ وظلمٍ وإنكارٍ.. وما سيؤول إليه أصحابها من مصيرٍ يوازيه بشاعة ممارساتهم تلك، يوم الحساب، وإنَّما ينتقل إلى الجانب الآخر، ويندِّد بالجماعة التي لا (تتحرَّك) لوقف الجريمة عند حدِّها، وبالجماهير التي تنظر إلى قلَّةٍ من طُغاتها؛ تُمارِس المنكر فلا ترفع يدًا، ولا تنطق بكلمةٍ. وبالنَّاس الذين يَرَون -رأي العين- الدَّمار الذي يقودهم صوب النِّهاية المحتومة، بسبب ما يُمارس بين ظهرانَيْهم من فسادٍ، فلا يتجمَّعون للمُجابَهة والإصلاح قبل فوات الأوان: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[9].
وبلهجة السُّخرية يتحدَّث عن أولئك (الخاضعين)؛ الذين يرتَضون موقف الذُّلِّ، والتَّبعيَّة لطغاتهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}[10].(/8)
ويخطو القرآن الكريم خُطوةً أخيرةً في تحليله لمسألة التَّرف، لكي يبيِّن لنا على مستوى حركة التَّاريخ، وقيام الدَّولة والحضارات وسقوطها – المسؤوليَّة الثُّنائيَّة المشتركة التي يمارسها طَرَفا المسألة: المترفُون والمعدَمون، في السَّير بالجماعة أو الأُمَّة أو الدَّولة أو الحضارة، أو القبيلة – التي تَرد دائمًا؛ كوَحدةٍ اجتماعيَّةٍ معيَّنةٍ – نحو الدَّمار...المترفون الذين يزدادون ترفًا وظلمًا وطغيانًا وفُسوقًا، والمعدمون الذين يقف بعضهم (ساكنًا) إزاء الجريمة؛ بينما يسعى بعضهم الآخر إلى الإسهام في الجرم، وتعزيزه بتملُّقهم، وتذلُّلِهم، ومعاونتهم على الشَّرِّ في شتَّى مساحاته: النَّفسيَّة، والأخلاقيَّة، والاجتماعيَّة. ولن يكون بعد ذلك إلَّا أن تتَّخذ الإرادة الإلهيَّة – وَفْق سننها الثَّابتة التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل – طبقةَ المؤمنين أنفسهم، وهم في قمَّة السُّلطة، وسيلةً لإحلال الدَّمار بأمَّةٍ أو جماعةٍ؛ فقدت كلَّ مبرِّرات وجودها واستمرارها{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيرًا} [11].(/9)
ثُمَّ ما يَلْبث القرآن أن يبيِّن أنَّ (عطاء الله) مفتوحٌ للجميع، وأنَّه ليس مقصورًا على فئةٍ دون فئةٍ، وليست الملكيَّة أو عدمها حتميَّةً مُقفلةً؛ ليتنعَّم بها ناسٌ، ويُحرم آخرون. ثمَّ إنَّ المسألة المادِّية أو العطاء، ليس في نهاية الأمر المقياس الموضوعيّ الصَّارم لتقسيم النّاس إلى درجاتٍ؛ إنَّما هو الإيمان الذي يُناط به التَّفضيل الحقيقيّ، وتُنال بواسطته الدَّرجات الحقيقيَّة الكبيرة عند الله. وتبقى الأرزاق والأموال، يبقى عطاء الله، متاحَ الأسباب للناس جميعًا، مؤمنين وغير مؤمنين: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً*وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً* كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً* انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}[12].
وفي مكانٍ آخَرَ يَعْرِض علينا القرآن صورةً لمجمُوعتينِ من الناس تقف موقفًا متناقضًا إزاء (عطاء الله)؛ المجموعة الأولى: تَقْدُر هذا العطاءَ المتقلِّب المتغيِّر الذي لا يدوم،- حقَّ قَدْرِه- فتأخذ بدَوْرها مراكز العطاء بالمقابل، وتمنح بعض أو جُلَّ ما وهبها الله إيَّاه قبل أن يزول هو، أو تزول هي. وتتَّخذ من هذا العطاء سُلَّمًا تسارع في الصُّعود على درجاته إلى الخير والحقِّ والعدل.(/10)
والمجموعة الثّانية: تتنكَّر لصاحب هذا العطاء، وتستأثر، وتعطي، وتتَّخذه سُلَّمًا إلى مراكز السُّلطة والقوَّة والفجور، وحرمان الألوف ممَّن لا يَجدون رزقهم في مواطن الظُّلم والإثراء، والتَّرف، والطُّغيان.. لكنَّ هذه الفئة المترفة ما تَلْبث أن تتلقَّى الصَّفعة عاجلًا أم آجلًا: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ*........*حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ* لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ* قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ* مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ}[13].
وتبقى سنَّة الله التي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، تعمل عملها في حركة التَّاريخ، وتتَّخذ من المؤمنين أداةً تسوق بها القرى، والدُّوَل، والجماعات، والأمم نحو مصائرها المفجعة: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ* فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ* لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ َ* قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}[14].(/11)
و(الغنى الفاحش) الذي يقترب من التَّرف بدرجةٍ أو بأخرى - يتعرَّض هو الآخر لحملات القرآن الصَّارمة في أكثر من موضعٍ، ويتلقَّى ضرباتها في أكثر من زاويةٍ؛ إنّ القرآن يُحدِّثنا في إحدى آياته عن العَلاقة المتبادلة بين الغنى والطُّغيان، وكيف أنَّه لا مفرَّ من هذا المصير السيئ الذي يؤول إليه أصحاب الألوف والملايين؟!، يحدِّثنا بلهجة الزَّجر والتّعنيف: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [15]. وفي آيةٍ أخرى يندِّد بأصحاب الغنى والجاه، وكيف أنَّ الله سيسوقهم بممارساتهم الخاطئة الظَّالمة الأنانيَّة الطَّاغية التي تنبَثِق بالضَّرورة عن الغنى الفاحش، إلى الطَّريق المسدود؟! حيث السُّقوط الذي لن تجدي أموال صاحبه وأكداسُه في إنقاذه منه: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى*وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [16].(/12)
وفي آيةٍ ثالثةٍ ينقُلنا نَقْلته السَّريعة المعهودة إلى يوم الحساب؛ لنلتقيَ بأصحاب الملايين وذَوِي السُّلطان الذين كان الناس – يومها – يتضوَّرون جوعًا وهم مُتْخَمُونَ، فلم يتحرَّكوا لإشباع جَوْعتهم. نلتقي بهم لكي نرى ما الذي حلَّ بهم؟، وما هو الطَّعام الذي سيملؤون به بطونهم الفارهة هناك؟: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ* يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ* مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ* خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ* إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ* وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ* وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ* لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ}[17].
وآيةٌ أخرى تحمِلنا لعصر الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يتلقَّى عتاب الله سبحانه؛ إذ تصدَّى لأحد أغنياء مكَّة، وطمح أن يجلبه إلى حظيرة الإيمان، وأعرض عن فقيرٍ أعمى هُرِعَ إليه؛ لكي ينتمي إلى ندائه، ويبيِّن له كيف أنَّ (الذِّكرى) أجدى مع هؤلاءِ منها مع أولئك في أغلب الأحيان: {عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى* فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[18].(/13)
وخامسةٌ تجتاز بنا المسافات إلى أواخر العصر المدنيِّ؛ حيث النَّفير العامُّ الذي أعلنه الرّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – لقتال الرُّوم (عام 9هـ) في المعركة المعروفة بتبوك، فتُلْقى مسؤوليَّة التَّخلُّف على (الأغنياء) الذين رفضوا أن يستجيبوا للنّداء: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[19]..
وآيةٌ سادسةٌ تعرض علينا – بسخريةٍ واستهجانٍ – إحدى مقولات اليهود المادِّيَّة، أرباب الذَّهب والفضَّة،- وهي مقولةٌ مضحكةٌ حقًا-، لكنَّ بريق الذَّهب، ورنين الفِضَّة يُعميان ويصمَّان: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}[20].(/14)
وفي مواضع أخرى متعدِّدةٍ من كتاب الله، تتدفَّق الآيات متحدِّثةً هذه المرَّة عن أرباب المال، مُترفين وأغنياء، فاضحةً إيَّاهم، مندِّدةً بهم، مُلقية قَوارعها على مواقفهم الرَّجعيَّة والمنفعيَّة إزاء الدَّعوات الجديدة، صافعةً صلفهم وغرورهم، ممزقة الأستار عن حماية المال والبنين التي يحتمون بها دائمًا، ويتوهَّمون أنَّها تخلِّصهم من عقاب الله، واضعةً إيَّاهم – هذه الآيات – وجهًا لوجهٍ أمام مصائرهم، مبيِّنةً لهم أنَّ استدامة المال عليهم ليس من مصلحتهم في معظم الأحيان:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ* نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [21]، {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ{1} الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ{2} يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ{3} كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [22] ،{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ{1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ{2} سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [23] ،{لاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}[24].
ويَدْعُو نُوح في قلب المِحْنة: {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً}[25].
ويدعو موسى -عليه السَّلامُ- بعد قُرونٍ طويلةٍ: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}. [يونس 88].(/15)
ولن تُغني عنهم أكداسُهم من المال، وأتباعُهم من الأبناء والمواشي، إذا دمدم عليهم في الدُّنيا، أو جاء دَوْرهم يوم الحساب: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئا} [آل عمران 116] ، {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} [سبأ35-37]، {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً* أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً* وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [مريم78-80] {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً* وَبَنِينَ شُهُوداً* وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً* ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ* كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً* سَأُرْهِقُهُ صَعُودا ا} [المدثر 12-16]، {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة69].(/16)
هنالك الحوار الشَّائق الذي ورد في سورة الكهف بين صاحب المزارع الواسعة، وبين صديقٍ له لا يكاد يملك شيئًا، ولقد انتهى الأمر بأوَّلهما إلى البوار. فليس الغنى والثَّروة في منطق الإسلام بالشَّيء الأبديِّ الدّائم كما يتصوَّر كثيرٌ من الرَّأسماليين، ولا بالحتميَّة التي تفرضها (ظروف الإنتاج) كما يتصوَّر كثيرٌ من المادِّيين؛ إنَّما هي مسألةٌ وقتيَّةٌ معرَّضةٌ للزَّوال في أيَّة لحظةٍ قد يُساء فيها التّصرُّف، ويُمارس الطُّغيان إزاء جماهير النّاس، والصَّلف والغرور إزاء إرادة الله السَّريعة الحاسمة التي لا تبقي ولا تذر.(/17)
ومن منَّا لم يقرأ – كذلك – قصَّة (قارون) اليهوديّ الثَّريّ الذي كاد الذَّهب يخرج من أنفه وأُذُنيه!!: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ *وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ* فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ*وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ*فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} [القصص76-81].(/18)
وسوء التَّصرُّف هذا، والطُّغيان إزاء (حقوق) الفقراء والمُعْدَمِينَ هو الذي قاد الإخوة الثَّلاثة أصحاب المزرعة الذين سُمُّوا – لاتِّساعها وامتدادها واكتظاظها – بأصحاب الجنَّة!! إلى البوار: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ*وَلَا يَسْتَثْنُونَ* فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ*فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ* فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ* أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ* فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ* أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} [القلم: 17-24] لكنَّ إرادة الله سبقتْهم فحصدتها قبل أن تحصدها الأثرة، والجشع، والطُّغيان.
وبينما تنصبُّ الأوصاف القاسية السِّيَّئة على الفقراء والمُعْدَمِينَ في المجتمعات؛ التي يسودها التَّرف والطُّغيان فيسمَّون، بالأوباش، والأراذل، والسُّوقة، والأدنياء، والمتطفِّلين إلى آخِرِه، ينعكس الموقف في القرآن الكريم حيث تُوَجَّه أخسُّ الكلمات إلى (أصحاب المال) المارقين، ويُرْمَون بأقسى النُّعوت.(/19)
ها هي إحدى الآيات تتحدَّث عن أحدهم مُخاطِبةً الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – : {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ* هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ* أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ* إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ*سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}[26] ولا نجد في القرآن في مقابل هذا أيَّ نعتٍ، أو صفةٍ قاسيةٍ تلْحق بالفقراء والمعدمين، وكلُّ ما ورد عنهم إنَّما جاء على لسان الكفَّار والمترفين أنفسهم من تسمية هؤلاء بأراذل القوم، وأنَّهم طليعة من يتَّبع الأنبياء وهم يدعون أقوامهم إلى الإيمان: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}[27]، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [28]، وهذا يؤكِّد ما ذهبنا إليه.
وكأنَّ أرباب المال هؤلاء كانوا يُدْركون ما وراء الدَّعوات الجديدة التي يُنادي الأنبياء للانتماء إليها من تغييرٍ في العَلاقات الاجتماعيَّة، وأسلوبٍ جديدٍ في التَّعامل مع (المال) فكانوا يطرحون دومًا – سؤالهم الاستنكاريّ هذا: {أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء}[29].(/20)
ونجيء أخيرًا، إلى الآية التي يحسم القرآن فيها الموقف إزاء المترفين، والأغنياء، وأرباب المال الذين يقفون بمواجهة (العدل) الذي جاءت الأديان لتحقِّقه في هذا العالم، الآية التي سنعود إليها مرَّةً أخرى والتي تقودنا إلى أكثر من أُفقٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[30].
وفي مقابل هذه الحملة الشَّاملة الحاسمة الرَّهيبة على ظاهرتي (التَّرف)، (والغنى الفاحش) في التَّجربة الاجتماعيَّة، فما الذي يقدِّمه القرآن الكريم عن الفقر، والفقراء، والمساكين، والمعدمين؟ هل هي دعوةٌ للتَّبرُّع لهم والإحسان إليهم فحسب؟ فأين إذن السُّلطة الإسلاميَّة؟ وهل يمنع هذا الأسلوب (الأدبيّ) -دونما ضماناتٍ تشريعيَّةٍ-، ظهورَ وتضخُّمَ طبقة المترفين، وتحوُّلَ المال إلى دولةٍ للأغنياء؟ ما الذي دفع القرآن الكريم إلى أن يعرض في عشرات المواضع مسألة (الإنفاق) على الفقراء، و(الحضِّ) على إطعامهم بكلِّ ما يتضمَّنه فعل (الحضِّ) من قوَّةٍ وفاعليَّةٍ لتحقيق هذا الهدف، وهو إشباع الجائعين، وسدِّ حاجاتهم الأساسيَّة، ومن أولى من السُّلطة المشرِّعة والمنفِّذة بالتَّخطيط لهذا المطلب الحيويِّ الخطير وتنفيذه في عالم الواقع بما تمتلكه من قوَّةٍ وفاعليَّةٍ؟!!(/21)
صحيحٌ أنّ (الإنفاق) الفرديَّ، و(الصَّدقة) الاختياريَّة، و(التَّكافل) الاجتماعيَّ، وغيرها من فاعليَّات العطاء التي يُمارسها المسلِم إزاء إخوانه تمثِّل جزءًا أساسيٍّا من برنامج العدل الاجتماعيِّ في الإسلام، وتغطية مِساحةٍ واسعةٍ من نداءات القرآن في هذا المجال، وتلعب دورًا كبيرًا في إحداث التَّوازن، والانسجام، والتَّعاون، والتَّرابط، بين أفراد المجتمع المسلم وفئاته، وتجتثُّ أدران الحقد والكراهية والشَّرِّ؛ لكي تزرع بدلًا منها علائق التَّكافل، والمحبَّة، والخير، لاسيَّما في المراحل التي تغيب فيها السُّلطة فيتعرَّض الفقراء، والمَعْدمون للموت جُوعًا؛ فتمتدُّ إليهم اليد التي لا (تتبرَّع)، و(تمنُّ)؛ ولكن تعطي، وتواسي، وتندمج، وتتعاون؛ لكي تنقذهم من هذا المصير المفجع. وأيٌّ منَّا لم يمارس بنفسه، أو يشاهد إخوانه ورفاقه المؤمنين يحصون أموالهم سَنةً بسنةٍ؛ لكي يقتطعوا منها حقَّ السائل والمحروم، ويقدِّموها وزيادةً دونما جلبةٍ ولا ضوضاء.
ومع ذلك، فلا يعدو أن يكون هذا (العطاء) على أهمِّيَّته مساحةً محدودةً فحسب من المساحات الشَّاسعة لبرنامج العدل الاجتماعيِّ الذي رسم القرآن والسُّنَّة خطوطه العريضة، ونفَّذ الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم -، والرَّاشدون -رضوان الله عليهم- مخطَّطاته الفذَّة، وبنى الفقهاء والمجتهدون على هذا وذاك مقولاتهم، ونظريَّاتهم العجيبة المنفردة.(/22)
في أكثر من ثلاثين مَوْضعًا من القرآن الكريم تَرِد الدَّعوةُ لإطعام الفُقراء والمساكين، وسدِّ حاجاتهم الأساسيَّة، وفي أكثر من أربعين مَوضعًا يرد التَّأكيد على فريضة الزَّكاة والصَّدقات، وتقييم دافعيها والتَّنديد بمانعيها. وفي أكثر من سبعين موضعًا يتردَّد ذكر الإنفاق، وتُسلَّط عليه الأضواء من زواياه كافَّةً ، وفي أكثر من موضعٍ يجيء التَّأكيد على أنَّ هذا العطاء ليس تبرُّعًا، ولا مِنَّةً ولكنَّه حقٌّ للسَّائلين والمحرومين: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [31]، {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[32] ، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[33]، {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[34].
وفي آياتٍ أخرى يَرِد الحضُّ على إشباع الجائعين، وسدِّ حاجاتهم الأساسيَّة كجزءٍ أصيلٍ من متطلَّبات الإيمان؛ كمُمارسة الصَّلاة سواءً بسواءٍ، وأنَّ التَّوقُّف عن هذا (الحضِّ) يُخرج أصحابه من حظيرة الدِّين، ويدمغهم بالكذب: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[35]، {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ* وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ* وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ* لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ}[36]، {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ*وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[37].(/23)
ولن يكون (الحضُّ) مادام قدِ اقترن بالإيمان، وأصبح وقفه وقفًا لحركة الدِّين نفسه، لن يكون بكلماتٍ متثائبةٍ تقال، وبين دفع بقايا الطعام إلى المساكين الذين يقفون وراء الأبواب خائفين متوسِّلين. إنَّما بالفعل الدَّائم والحركة المستمرَّة وبالثَّورة – إذا اقتضى الأمر – لتحقيق هذا المطلب الأساسيِّ. تمامًا كما أنَّ الصَّلاة فعلٌ دائمٌ وحركةٌ مستمرَّةٌ، وأنَّها بمجرَّد تحوُّلها إلى الظِّلِّ، وإلى أن تعدَّ مُمارسةً جانبيَّةً تدمغ صاحبها بالنِّفاق.. وهذا هو الذي دفع أبا بكرٍ الصِّدِّيق -رضي الله عنه- إلى أن يُشْهر السَّيف بوجه مانعي الزَّكاة، ويعلن: "واللهِ لأُقاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ". ولا يتصوَّرنَّ أحدٌ أنَّ كثرة ورود الفقراء، والمساكين، وأبناءِ السَّبيل في القرآن الكريم يجيء بمثابة تأكيدٍ لأبديَّة ظاهرة (الفقر والحرمان) التي -هي كما هو معروفٌ اجتماعيًّا – مسألةٌ (نسبيَّةٌ)؛ لأنَّ كثرة ورود الكفر، والشِّرك، واللاَّت، وهُبَل، والعُزَّى، ووأْد البنات، وأكل مال اليتيم، وممارسة الرِّبا أضعافًا مضاعفةً، وشرب الخمر، ولعب الميسر، وعبادة الناس، لا تحمل أيَّة دَلالةٍ على أبديَّتها!! ثم إنَّ القرآن الكريم لا يمكن أن يناقض نفسه فيدعو إلى (تأييد) ظاهرة يشُنُّ هو نفسُه الحملة عليها، ويصل بها في إحدى آياته إلى أن يربطها بالشَّيطان وبما يأمر به، ويدعو إليه من الفحشاء: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء}[38].(/24)
وثمَّة آياتٌ أخرى تصل بنا إلى آفاق أبعد في مسألة التَّوازن الاجتماعيِّ: الآية التي تطلب من المسلمين- دولةً وجماعةً- أن (يتحرَّكوا) مقاتلين مجاهدين؛ لإنقاذ المستضعفين من أيدي الظالمين والجلاَّدين، وتعطي الإشارة إلى أنَّ (السَّيف) هو الحكَم الأخير عندما تَعجِز كلُّ الأساليب الأخرى عن وقف الظُّلم وتخليص البائسين. وأنَّ الجهاد – تلك الثَّورة المسلَّحة – هي الحركة التي تنقل المقاتل المسلم إلى كلِّ مَيدانٍ يُمارس فيه الظُّلم ضدَّ الإنسان أيًّا كان شكل هذا الظُّلم، وأيًّا كانت دوافعه: : {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}[39].
وهذه الآية التي يطْرحها القرآن؛ ليتحرَّك المسلمون على ضَوْئها على المستوى الجماعيِّ، تقابلها آيةٌ أخرى تدعوهم إلى أن يتحرَّكوا على المستوى الفرديِّ كذلك، وأن يقتحموا العقبة هكذا، بكلِّ ما يتضمَّنه (فعل) الاقتحام من قوَّةٍ، وعنف، وإرادةٍ لابدَّ منها جميعًا؛ لاجتياز الحاجز: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ*أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}[40]. فتحريرُ المستعبدين، وإطعام الجائعين؛ ذلك هو الهدف الذي يَقْتَحم المؤمن من أجله الحواجِز بقوَّةٍ ،وعنف ،وحزْمٍ، وإرادة!!(/25)
والآية التي تطرح نفسها؛ كسؤال خطير أمام الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأمام أيِّ مُشرِّعٍ مسلمٍ يجيء بعد الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة219]، ويجيء الجواب الدَّائم غير الموقوت بيِّنًا صريحًا: {قلِ العَفْو}، والعفوُ؛ هنا هو كلُّ ما زاد عن الحاجة، ونتذكَّر هذا المبدأ الخطير في التَّسوية الاجتماعيَّة؛ عندما نستمع إلى إحدى كلمات الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – ولا بأس من أن نوردها هنا: ((مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ)) ويَقُولُ شُهُودُ العَيَانِ: إنَّ الرَّسُولَ – صلَّى اللهُ علَيْه وسَلَّم – ذَكَرَ مِنْ أصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ.(/26)
وهنالك الآية التي تأمر المسلمين –دولةً، ومُشرِّعًا، وجماعةً- ألَّا يسمحوا لأموالهم؛ التي لكلِّ فئةٍ منهم حقٌّ معلومٌ فيها؛ والتي جعلها الله لهم سببًا من أسباب البقاء والنَّماء أن تذهب إلى (السُّفهاء) بهذا التَّعبير الصَّريح في تنديده: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء5]، والآيات التي تقطع الطَّريق على أيَّة مُحاولة؛ لطمس حقوق الناس في أموالهم؛ لكي يزداد أصحاب السُّلطة والواجدون غِنًى، والفقراء والمعدمون فقرًا؛ وتسمَّى هذه المحاولة التي يمكن أن تتمَّ بألف أُسلوب – بالإثم، والعُدوان، والظُّلم، والإجرام، أكثر من ذلك- نسمِّيها بقتل النَّفس. وليس كفقدان العدل الاجتماعيِّ مِعْوَلاً ينزل على بنية المجتمعات فيفتِّتها، ويدمِّرها، ويمحوها: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة 188].
{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء 2]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً* وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً} [ النساء29].(/27)
والآية التي تتصبَّب حممًا من نارٍ على طبقة (رجال الدِّين) من (الأحبار والرُّهبان)، الذين اشترَوا بعقيدتهم ثمنًا قليلًا، وراحوا يدجِّلون على النّاس باسم الدِّين؛ ليأكلوا بأموالهم، ويضخِّموا بها حجم كنوزهم من الذَّهب والفضَّة، وكأنَّ القرآن الكريم يفتح أعين المسلمين جيِّدًا، ويستفزُّ وعيهم الدَّائم؛ كي لا يتيحوا لظاهرة هدَّامةٍ؛ كهذه أن تبرز في مجتمعهم، وبين ظهرانَيْهم مهما كانت على درجةٍ من الضَّآلة والخفاء، ويندِّد بكلِّ من تحدِّثه نفسه بممارسة الأسلوب، الذي مارسه الأحبار والرُّهبان طويلاً،-وهذا وغيره من الأسباب – يفسِّر لنا انعدام ظهور المرتزقة بالدِّين في تاريخنا، وظهور نقيض هذا تمامًا: رجال الفكر الإسلاميّ، وهم أشدُّ الناس فقرًا، وتواضُعًا، واندماجًا في حياة الناس العاديين، ورفضًا لمواقع السُّلطة، وإنكارًا لإغراء الذَّهب والفِضَّة، ليس هذا فحسب؛ بل إنَّ القرآن يوجِّه تحذيره الرَّهيب إلى المسلمين أنفسهم ألَّا يكتنزوا الذَّهب والفِضَّة، وأن ينفقوها في سبيل الله، وأنَّه بدون هذا وذاك فسوف تنقلب عليهم وبالًا يوم الحساب.(/28)
وأيُّ مترف أو غنيٍ تستحيل حياته إلى تكديسٍ للمال، والناس يتضوَّرون جُوعًا دون أن يتحرَّك بأمواله لوقف ظاهرة الجوع والحرمان؛ فإنَّ له أن يتصوَّر أنَّ هذا الخطاب موجَّهٌ إليه، وأنَّه غريبٌ عن المجتمع الإسلاميِّ الذي ينتمي إليه؛ بل إنَّه مارقٌ عن حكمه وأهدافه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[41]، {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ...} أي: اليهود {يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}[42].
وفي آياتٍ أخرى من سورة الفجر يتكرَّر هذا التَّنديد بجمع المال، وأكل التراث، ويرتبط عفويًا بعدم إكرام اليتامى، والحضِّ على إطعام الفقراء، مُبتدئًا بكلمة الزَّجر القرآنيَّة العنيفة (كلّا): {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً* وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمًّا}[43]. ونحن لا نستطيع إلَّا أن نلحظ السِّمة الجماعيَّة المشتركة في الفعل (تَحَاضُّونَ)، والمفهومَ الحركيَّ الكامل في صيغته المبالِغة.(/29)
والآيات الكثيرة التي تأمر بربط (الإشباع)، و(الاعتدال)، والتَّقوى، والعمل الإيجابيّ الصَّالح، وتنهى عن الإسراف، والطُّغيان، والفساد في الأرض، واتِّباع خُطوات الشَّيطان - تعمق في أذهان المسلم العارف والمشرِّع - وتحذرهما في الوقت نفسه - من حتميَّة هذه العَلاقة المتقابلة بين عدم تنظيم الإشباع، وبين كلِّ ما يتمخَّض عنه ظلمٌ (اجتماعيٌّ) يتمثَّل بالإسراف، والطُّغيان، والفساد في الأرض. وليس ثَمَّة مجتمعٌ – تتحكَّم فيه قلَّةٌ من الذين يملكون بكثرةٍ من الذين لا يملكون، وتتخم فيه بُطونٌ معدودةٌ، وتتضوَّر الملايين- يخلو من سمات الإسراف، والطُّغيان، والفساد في الأرض، ذلك (الإفساد)؛ الذي يتلبَّس وسط هذا التناقض الاجتماعيّ الغريب ويتَّخذ – وقد اختفى التَّوازن – ألف وسيلةٍ لتقويض[44] المجتمع، وعرقلة الحركة الحضاريَّة، ووضع العراقيل في طريقها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [45]، {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [46]، {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [47] {{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ} [48]، و: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [49]، و: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [50].(/30)
والآية التي تبيِّن للناس جميعًا أنَّ الأرض قد ذُلِّلت لهم بإرادة الله -سبحانه- وتدعوهم إلى أن يتحرَّكوا في أمدائها، (ويأكلوا) من رزقها، ولا عذر بعدها لجائعٍ قاعدٍ لا يجهد، ومسحوقٍ لا يتحرَّك: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [51]. والآية التي تَقْرِنُ مأساة الجُوع بكارثة الخَوْف، وتبيِّن لهم كم هي عظيمة المنَّة التي يمنُّها الله على الناس؛ عندما ييسِّر لهم سبل الشِّبع، والأمن: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [52].
والآيات التي تأمر المسلمين بأن يتجاوزوا أخطاءهم، ويكفِّروا عنها باعتبارها أعمالاً سالبةً؛ وذلك بتقديم ما يقابلها، ويعوِّض عنها من عطاءٍ؛ باعتباره عملاً إيجابيًّا يمنح المجتمع ما خسره بممارسة الأخطاء. وأيُّ فعلٍ أولى بهذا العطاء من إطعام الجائعين، وتحرير المستعبدين: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} [53]، {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [54].(/31)
والآية التي تبيِّن أنَّ طبيعة الحياة الدُُّنيا، وفلسفتها العمليَّة تقوم على (التَّفاضل) بين الناس في الرِّزق، وأنَّ حكمة الله –سبحانه- هي التي قادت إلى هذا انسجامًا مع طاقات الناس، وقدراتهم، واهتماماتهم، وحرصهم، ومدى تحمُّلهم للمسؤوليَّة، ومقدار يقظة ضميرهم، وتمشِّيًا مع متطلَّبات التَّطوير، والتَّنوُّع، والتَّغاير في مسيرة الحضارات البشريَّة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ورفضًا للمنطق المثاليِّ الذي يتخيَّل الناس، وقد تساووا في أرزاقهم (مطلق) التَّساوي، ذلك المنطق اللاواقعي الذي قدَّمت لنا التَّجرِبة المادِّيَّة ارتطامه الصَّريح في مَيدان التَّنفيذ، وفي مدى العَلاقات الفعليَّة في المجتمع.
إلَّا أنَّ آيةً كهذه وهي لبنةٌ من لبنات كتاب الله المعجز، لا تقف عند حدِّ تسليط الضَّوء، على هذا الجانب الواقعيِّ من الصُّورة الاجتماعيَّة؛ فهي في شقِّها القريب الثَّاقب، سرعان ما تبيِّن أنَّ المال؛ الذي هو في أساسه مِلْكٌ للناس جميعًا يلغي أيَّ تصوُّرٍ قد يدور في أذهان الذين يملكون كثيرًا، من أنَّهم وحدهم أصحاب الحقِّ في هذا المال؛ لأنَّ الطرفين فيه سواءٌ، هكذا بهذه الصَّراحة القرآنيَّة المعهودة، وأنَّ أيَّ غبنٍ قد يعتري هذه الحقيقة؛ إنَّما هو جحودٌ بنعمة الله: {وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [55].
ويعود القرآن الكريم ليطرح مرةً أخرى- وهو يتكلَّم عن تهيئة الأرض؛ لاستقبال الحياة البشريَّة في فجر التَّاريخ الجُيولوجيِّ البعيد- مسألة التَّساوي بين الناس في (القُوت) الذي منحه الله لهم جميعًا{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ}[56].(/32)
ليس هذا فحسب؛ بل إنَّ القرآن الكريم ينعي على الكفَّار تصوُّرهم السَّاذَج، أنَّ الله –سبحانه- ما دام قد كتب (الجوع) على طائفةٍ من النَّاس؛ فإنَّه ليس بمقدور واحدٍ من خلقه أن يطعمها!! بهذه السَّذَاجة التي كثيرًا ما دارت في أذهان القانعين والزَّاهدين، وتمنح في المقابل مبرِّرًا مضحكًا، ولكن ذو فوائدَ جمَّةٍ للمالكين الذين لا يبذلون أيَّ جُهْد في إنقاذ الذين لا يملكون، فما دام الله هو الذي أجاعهم فليس بمقدور واحد من خلقه أن يشبعهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [57].(/33)
وهذا ينقلنا إلى مسألة ذات أهمية بالغة في قضيَّة (العدْل الاجتماعيِّ)، إن لم تكن محورها الأساسي، وعمودها الفِقَريَّ، تلك هي قضيَّة إشباع حاجة الإنسان الأساسيَّة؛ ألا وهي (الطَّعام)، ونحن نستطيع أن نميِّز بين المذاهب، التي أعارت هذا الجانب الحَيَويَّ اهتمامًا بدرجة أو بأخرى، وتلك التي لم تكترث له ألبتَّةَ، وظلَّت معلَّقةً في سماواتها، وأخيلتها، ومثاليَّاتها بمجرَّد أن تلقي نظرةً سريعةً على عدد المرَّات التي وردت فيها المفردات ذات العَلاقة المباشرة أو غير المباشرة بالموضوع من أكلٍ، ورزقٍ، وطعامٍ، وشرابٍ، والمناخ الذي وردت فيه، وليس لباحث جادٍّ يقرأ كتب عدد من الفلاسفة، والمفكِّرين؛ كجمهوريِّة أفلاطون، وَيُوتُوبْيَا تُومَاسْ مُور، ومدينة أُوغَسْطِينَ المُقَدَّسَةِ، وَمَدِينَةِ الفَارَابِيِّ الفاضلة، ولا يرى فيها إلَّا اهتمامًا عابرًا بمسألة الأكل، والطَّعام، والرِّزق، والشَّراب، ثمَّ لا يحكم عليها بأنَّها لا تولِّي اهتمامًا مصيريًّا حاسمًا؛ لإشباع إحدى أهمِّ حاجات الإنسان الأساسيَّة. وليس لباحث جاد ؛كذلك أن يقرأ كتاب الله، ويلتقي بعشراتٍ؛ بل مئات المواضع التي وردت فيها مفردات هذه المسألة، إلَّا أن يستنتج أنَّ الإسلام جاء؛ لكي يضع هذه المسألة الحيويَّة في مقدِّمة برامجه التَّغييريَّة، ويوليها اهتمامًا مصيريًّا حاسمًا.!!(/34)
في حوالَي مئة موضع في القرآن تَرِد كلمة (الأكل) بتصريفاتها المختلفة، وفي حوالي خمسين موضعًا ترد كلمة (طعامٍ) بتصريفاتها المختلفة، وفي حوالي ثلاثين موضعًا ترد كلمة (شرابٍ)؛ بتصريفاتها المختلفة، وفي حوالي مئةٍ وعشرين موضعًا ترد كلمة (الرِّزق) بتصريفاتها المختلفة، ليس هذا فحسب؛ بل إنَّ (المناخ) الذي كانت هذه الكلمات ترد فيه في كثيرٍ من الأحيان، والأرضيَّة التي تحرَّكت عليها عبْر الآيات والسُّور؛ تبيِّن لنا بوضوح كاملٍ -ووَفْق أساليب القرآن اللُّغويَّة والبلاغيَّة- مدى الأهمِّية المُولاَة لهذه المسألة الحيويَّة التي هي من أشدِّ المسائل أهمِّيةً في تاريخ الإنسان. هذا في الوقت الذي نجد فيه (مناخات)، و(أرضيَّات) كلمات الطِّعام، والشَّراب، والأكل في عددٍ من المذاهب، والأديان الأخرى المحرَّفة؛ تَفيح بروائح الاحتقار، والرَّفض، والدَّنس، والاشمئزاز. ولكنْ أنَّى لهؤلاء أن يهربوا من صيحات أجوافهم الجائعة التي لو أُلْقِمَتْ حصًى، وأحجارًا لطحنتها!!(/35)
ومن ثَمَّ؛ كان التَّناقض المحزن الذي عرفه التاريخ مرارًا: أن يأكل هؤلاء، ويشبعوا، ويتجاوزوا الشِّبَع إلى التُّخَمَة، ويتجاوزوا التُّخَمَة إلى التَّكديس؛ بينما أتباعهم، وعبدتهم يتضوَّرون جُوعًا، وهذه الفرضيَّة المحزنة بالنِّسبة لأصحاب المذاهب (المتطهِّرة)، والأديان الرُّوحيَّة، (والمحرَّفة)، وبعض الحركات الصُّوفيَّة المتطرِّفة؛ والتي استهجنت الحديث عن الطَّعام والشَّراب، انعكست تمامًا في القرنين الأخيرين وبشكلٍ أشد إيلامًا، في المذاهب المادِّيَّة التي رأت في المَعِدة بدء حياة بني آدم ومنتهاها، ورفعت مسألة الطَّعام والشَّراب إلى مصاف القداسة؛ فإذا بعددٍ من النّاس يأكلون، فيَشْبعون، فيَتْخَمون، فيَتْرفون، فيَكَدسون؛ وإذا بالجماهير السَّاحقة من الناس تكدح وتتصبَّب عرقًا، وتموت مَسْغَبةً وجُوعًا؛ لكي تقدِّم لسَدَنَةِ (الحرم المقدَّس) الجدد الأُضحِيَات والقرابين!!
المهم أنَّ الإسلام -هذا الدِّين (الوسط)- أَوْلى هذه الحاجة الحيويَّة؛ كما أَوْلى الحاجة الجنسيَّة تمامًا، اهتمامه الجادَّ الكبير، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ تمامًا؛ لأنَّ الله- سبحانه الذي خلق الإنسان، وصاغ وظائفه العضويَّة، وقدَّر حاجاته الأساسيَّة- أدرى بمتطلَّبات هذه الحاجات ؛وضرورة تلبيَة نداءاتها الأبديَّة المستمرَّة، وأعلمُ بطبائع الإنسان التي إن لم تنسَّق، وتنظَّم، وترتَّب ضماناتها؛ فإنَّها سوف تُدمِّر نفسها بالأَثَرَةِ والإسراف؛ بينما يموت الآخرون جُوعًا، أو تقتلها بالحجْب، والكبْت، والحرمان، فتشِذُّ بهذا عن منطق التَّكوين البَيُولوجيِّ للإنسان.(/36)
واهتمام القرآن الكريم بالمسألة التي تحت أيدينا يبتدئ أوَّل ما يبتدئ – كما قلنا – في هذا العدد الكبير من المواضع التي وردت فيها مفردات المسألة وعباراتها، وفي المناخ والأرضيَّة التي تحرَّكت عليها هذه العبارات والمفردات وتنفَّست!! وإليكم – بعد ذلك – نماذج محدودةٌ فحسب من هذا العرض القرآنيِّ لمسألة الأكل، والطَّعام، والشَّراب.
الأكل:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} [58]
{وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [59].
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}[60]
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [61]
{لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [62]
{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [63](/37)
{وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [64]
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [65]
{لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [66]
{وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [67]
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ*وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [68]
{اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} [69]
{وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [70] {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} [71]
{كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ} [72]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [73]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [74]
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [75](/38)
{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى} [76]
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [77]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [78].
الطَّعام:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [79]
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ...} [80]
{وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء...} [81]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [82].
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا} [83]
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [84].
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [85]
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [86]
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} [87]
{وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [88]
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [89](/39)
{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً*فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً* وَعِنَباً وَقَضْباً* وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً* وَحَدَائِقَ غُلْباً* وَفَاكِهَةً وَأَبّاً* مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [90].
الشَّراب:
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ* لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [91]
{وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [92]
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [93]
{نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} [94]
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [95].
{يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [96]
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [97]
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [98]
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [99].(/40)
يتقدَّم بنا القرآن الكريم خُطواتٍ واسعةً أخرى؛ في مَيدان (العدل الاجتماعيِّ) واضعًا -في كلِّ خُطوةٍ يخطوها، وآيةٍ يطرحها- مَعْلمًا من معالم هذا الميدان، ومَبدءًا من مبادئه الأساسيَّة التي تقوم عليها جزئيَّات التَّنفيذ، ويوميَّاته المتغيِّرة المتحوِّلة- إلَّا أنَّ القاعدة تبقى دومًا هي القاعدة-.. يتقدَّم بنا صَوْب حقيقةٍ أخرى لا تقلُّ عن سابقاتها إن لم تَفُقْها على الإطلاق تلك هي: أنّ الناس خلفاء الله في أرضه، وأنَّ أموالهم ليست في (ملكيَّتهم) ابتداءً؛ إنَّما هي (مال الله) استخلفهم فيه؛ لينظر ماذا يصنعون به؟، وفي أيِّ الوجوه يُسَخِّرون قيمته؟، ويعتمدون (منفعته) بإرادتهم الخاصَّة، وحرِّيَّتهم التي منحهم الله إياها تمييزًا لهم عن كثيرٍ من خلائقه، ومعنى هذا أنَّ بني آدم جميعًا يملكون حقَّهم المشروع في هذا المال، وأنَّ (وَكَالته)، أو (تفويضه الاجتماعيَّ) الموقَّت ليس أبديًّا؛ لأيَّة فئةٍ من الناس لا تمسُّ شروط توظيفها عليه، ولا تعدل في تصريف قيمه ومنافعه: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[100] {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[101].
والقرآن الكريم يربط هذا (الموقف) الاجتماعيَّ بنظريَّته الشَّاملة عن دَوْر الإنسان في الأرض، ذلك الدور الذي يقوم في أساسه على (خلافته) عن الله في هذا العالم{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا..} [102]، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} [103]، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[104]، {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [105].(/41)
ومسألة استخلاف النَّاس في الأموال، وفي ملكيَّتهم له ابتداءً، تزداد وُضوحًا وتأكيدًا؛ بمجرَّد أن نلقي نظرةً سريعةً على المواضع التي وردت فيها كلمة (رزقٍ) في القرآن بتصريفاتها المختلفة، ففي جُلِّ تلك المواضع البالغة حوالي المئة والعشرين موضعًا؛ يَرِد فصل (الرِّزق) مرتبطًا بمصدره الحقيقيِّ، ومالكه الأوَّل والأخير- الله سبحانه-، وفي معظمها تَرِد الدَّعوة الموَّجهة للإنسان بأن ينفق ويعطي من رزق الله هذا، وأنَّ عليه أن يتذكَّر دومًا أنَّ هذا المال ليس ماله؛ وإنَّما هو مال الله وبدون هذا الإنفاق والعناء، فإنَّه سوف يقدِّم الإشارة على أنَّه – فردًا أم جماعةً – غير مستحقٍ لهذا المال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [106] ، {أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} [107]، {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [108]، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [109]، {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [110]، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [111]، {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [112]، {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[113]، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [114]، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [115]، {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ(/42)
الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [116]، {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} [117]، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [118]، {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [119]، {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [120].
• • • •
وما كان لنا أن نغادر كتاب الله قبل أن نقف قليلاً عند آيات (الحشر) الحاسمة في هذا المجال، الآيات التي تحمل دعوة الله الصَّريحةَ إلى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – والمؤمنين أن (ينظِّموا) مسألة (توزيع المال) بشكلٍ، لا يقود إلى حصره في يد القلَّة، وحجبه عن الكثرة السَّاحقة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ تمامًا ما دام القرآن قد حدَّثنا – كما رأينا – عن الصُّورة الكالحة القاتمة للمجتمع الذي تكون كلمته الأولى، والأخيرة للمترفين: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ(/43)
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [121].
إنّ كلمات الله –سبحانه- في هذه الآيات في سورة الحشْر، وهي تأمر بتوزيع الفَيء على الفئات (المحتاجة) كافَّةً في المجتمع الإسلاميِّ الوليد - تقدِّم برنامج (عدل اجتماعي) سار على هديه الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – وخلفاؤه الرَّاشدون -رضوانُ الله عليهم- وإنَّ عبارة {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} هي غاية ما يمكن أن يطرح – في مجالٍ كهذا – أمام المُشرِّع الإسلاميِّ.
ــــــــــــــــــــــــــ
* انظر بحث (البعد الاجتماعيّ في مواقف الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – مجلّة المسلم المعاصر العدد الرّابع 1975 وبحث (مفهوم العدل بين الماركسيّة والإسلام)، مجلّة المسلم المعاصر العدد السّابع 1976.
[1] الزُّخْرف 22 – 24.
[2] الزُّخْرف 25.
[3] في الأصل (المؤمنون)، والصواب يقتضي أن تكون (المترفون)
[4] سَبَأ 33 – 37.
[5] لاحِظْ أَنَّ الشِّمَال – أيِ اليَسَار – هُنا، وفي مَوَاقِعَ أُخْرَى – يَجِيء – كرَمْز مُقْتَرِنًا بالتَّرَف، لا العَكْس، كما هُو مَعْرُوف!! وهكذا فإنَّ لنا، إذا أرَدْنا الحِفَاظَ على أصالتِنَا أنْ تَتَمَيَّز، حتى على مُستَوى تَقْسيماتٍ عَرَضِيَّة كهذه ما دَامَ القُرْآن نَفْسُه لا يَبْخَل علينا بها.
[6] الوَاقِعَة 41 – 55.
[7] في الأصل (المؤمنين)، والصواب يقتضي أن تكون (المترفين)
[8] الواقعة 56.
[9] هُود 116 – 117.
[10] الأحْزَاب 67 – 68.
[11] الإسْرَاء 16 – 17.
[12] الإسْرَاء 18 – 21.
[13] المُؤْمِنُون 60 – 67.
[14] الأنْبِيَاء 11 – 14.
[15] العلق 6 – 7.
[16] اللَّيْل 8 – 11.
[17] الحَافَّة 25 – 37.
[18] عَبَسَ 1 – 7.
[19] التَّوْبَة 93.
[20] آل عِمْرَان 181.
[21] المؤْمِنُون 55.(/44)
[22] الهُمَزَة 1 – 4.
[23] المَسَد 1 – 3.
[24] التَّوْبَة 55.
[25] نُوح 21.
[26] القَلَم 10 – 16.
[27] الشُّعَرَاء 111.
[28] هُود 27.
[29] هُود 87.
[30] التَّوْبَة 34 – 35.
[31] الإسْرَاء 26.
[32] المعَارِج 24 – 25.
[33] الذَّارِيات 19.
[34] الأنْعَام 141.
[35] الماعُون 1 – 7.
[36] الحَاقَّة 33 – 37.
[37] الفَجْر 17 – 18.
[38] البَقَرَة 268.
[39] النِّسَاء 75.
[40] البَلَد: 12 – 16.
[41] التَّوْبَة 34 – 35.
[42] المائِدَة 62 – 63.
[43] الفَجْر 17 – 20.
[44] في الأصل(لدعم) والسياق يقتضي أن يكون الصواب (تقويض).
[45] البَقَرَة 168.
[46] البَقَرَة 60.
[47] الأنْعَام 142.
[48] الأنْفَال 69.
[49] المؤْمِنُون 51.
[50] طَه 81.
[51] المُلْك 15.
[52] قُرَيْش 4.
[53] المائِدَة 89.
[54] المائِدَة 95.
[55] النَّحْل 71.
[56] فُصِّلَت 10.
[57] يَس 47.
[58]المائِدَة 65 – 66.
[59] السَّجْدَة 27.
[60] النُّور 61.
[61] النَّحْل 5.
[62] المؤْمِنُون 19.
[63] المؤْمِنُون 21.
[64] فَاطِر 12.
[65] غَافِر 79.
[66] يَس 35.
[67] يَس 33.
[68] يَس 71 – 73.
[69] البَقَرَة 35.
[70] البَقَرَة 57.
[71] البَقَرَة 58.
[72] البَقَرَة 60.
[73] البَقَرَة 168.
[74] البَقَرَة 172.
[75] الأعْرَاف 31 – 32.
[76] طَه 54.
[77] الحَجّ 28.
[78] المُلْك 15.
[79] المائِدَة 93.
[80] الأنْعَام 145.
[81] الأنْعَام 138.
[82] يَس 47.
[83] الإنْسان 8 – 9.
[84] قُرَيْش 3-4.
[85] الشُّعَراء 77 – 78.
[86] آل عِمْرَان 93.
[87] المائِدَة 5.
[88] الفُرْقَان 20.
[89] المائِدَة 96.
[90] عَبَسَ 24 – 32.
[91] الوَاقِعَة 68 – 70.
[92] البَقَرَة 187.
[93] مَرْيَم 26.
[94] النَّحْل 66.
[95] النَّحْل 10.
[96] النَّحْل 69.
[97] صَ 42.
[98] فَاطِر 12.
[99] يَس 73.
[100] الحَدِيد 7.
[101] النُّور 33.
[102] البَقَرَة 30.
[103] الأنْعَام 165.(/45)
[104] يُونُس 14.
[105] فَاطِر 39.
[106] يَس 47.
[107] البَقَرَة 254.
[108] المنافِقُون 10.
[109] البَقَرَة 3.
[110] إبْرَاهِيم 31.
[111] الشُّورَى 37.
[112] الأنْعَام 151.
[113] النَّمْل 64.
[114] المُلْك 21.
[115] الشُّورَى 27.
[116] الشُّورَى 12.
[117] العَنْكَبُوت 17.
[118] الذَّاريَات 22.
[119] ص 54.
[120] العَنْكَبُوت 60.
[121] الحَشْر 7 – 10.(/46)
العنوان: القرض والدين (1/2)
رقم المقالة: 602
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
فضل القرض
الحمدلله؛ ضرب الآجال، وقسم الأرزاق، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وكل شيء عنده بمقدار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كل الخلق مفتقرون إليه، ولا فرار لهم منه إلا إليه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه..بين لنا أبلغ البيان، ونصح لنا أعظم النصح، فالمفلح من تمسك بسنته، والتزم هديه، والمفلس من حاد عن شريعته، وخالف أمره.. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا من صحتكم لسقمكم، ومن غناكم لفقركم، ومن فراغكم لشغلكم، ومن حياتكم لموتكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
أيها الناس: فاوت الله تعالى بين العباد في الرزق، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضا سخريا؛ وليكون ذلك ابتلاء لهم {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ} [الأنعام:165].
ونتيجة لهذه السنة الكونية كان في الناس غني وفقير، وشريف ووضيع، وقوي وضعيف، وسيد ومسود.
ولأجل هذه السنة الكونية شرع الله تعالى السنن الشرعية من التراحم والتكافل، والصدقة والإحسان، والمواساة والإيثار، وغيرها من وجوه البر التي ليس لها عوض مادي يرتجى من الخلق، وإنما يرجى جزاؤها من الغني الحميد، الذي شرع الإحسان بين عباده، وجعله رحمة يتراحمون بها.(/1)
وإذا لم يأخذ البشر بهذه السنن الشرعية؛ اختل نظام العالم، وفسدت أخلاق الناس، ومن ثم يرفع الأمن، ويحل الخوف، ويعدو الناس بعضهم على بعض؛ ذلك أن الجائع المحروم إذا رأى غيره يشبع والجوع يقتله؛ تولد في قلبه دافع الانتقام من كل واجد موسع عليه، بل من كل الناس؛ لأنه يراهم لا يأبهون لأمره، ولا يشتغلون بحل معضلته، وإذا ما كثر فقراء الأرض، واستحوذ الأغنياء على الأموال بالطرق المشروعة وغير المشروعة؛ ازداد الشعور بالانتقام في أعداد كثيرة من البشر؛ وحينئذ لا الجائع يشبع، ولا الغني يأمن، وما قيمة العيش إذا كان أهل الأرض كذلك؟!
إن الإسلام بشريعته الربانية قد سدَّ منافذ الخطر هذه بتشريعات تحدُّ من طغيان الغنى الذي يستولي على النفوس البشرية {كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7]. وذلك بمنع الربا والرشا والاحتكار وتلقي الركبان واستغلال حاجة الناس، وغير ذلك من أنواع المعاملات الفاسدة التي تضر بالمجتمعات البشرية وتكون سببا في الخوف والجوع والفوضى. وأوجب للفقراء حظا في أموال الأغنياء، وفتح أبواب البر والإحسان، ورتب على ذلك ثوابا جزيلا مع ما يناله المحسن من البركة في أهله وولده وماله، وما يدفع عنه من السوء والمكروه بذلك.(/2)
ومن عظيم ما يغفل عنه كثير من الناس في هذا الباب: القرض الحسن، وإنظار المعسر، والتخفيف عليه، والوضع عنه؛ حتى إن هذه السنة تكاد لا توجد في الناس بسبب الجهل بفضلها، ولأن كثيرا ممن يقترضون لا يؤدون ما عليهم، ففقد الناس الثقة فيما بينهم، ثم تسللت البدائل المادية الرأسمالية التي لا تعرف القرض إلا بالربح المادي، مع الاحتيال بالالتفاف على أحكام الشريعة، وإيجاد الصيغ والحلول لتلافي الربا الصريح، والخروج من المعاملات المحرمة، التي عمت أرجاء الأرض. وكثير من تلك الحلول إن سلمت من الحرام الواضح فلن تخرج عن دائرة المشتبه الذي أمر المسلم باجتنابه؛ اتقاء لدينه وعرضه، ولو أن القرض الحسن أشيع في الناس لقضي على كثير من مظاهر الفقر والسؤال، ولتلاشت كثير من المعاملات الربوية، ولزالت صور البيع الفاسدة التي عمت وطمت، وأفسدت الأموال، ومحقت بركتها، وهي مؤذنة بعقوبات عاجلة وآجلة, نسأل العفو والسلامة.
إن من قرأ السنة النبوية، ورأى ما رتب على القرض الحسن من الأجور العظيمة، وهو مصدق بذلك، وليس له في هذا المجال من نصيب سيندم على أجور عظيمة فاتته فيما مضى، ليس ما ينتجه من أرباح دنيوية في أمواله مهما بلغت شيئا يذكر عندها!!
فالقرض الحسن معدود في الصدقة بمقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل قرض صدقة)رواه الطبراني.
ولذا كان المقرض كالمتصدق مع أن ماله يرجع إليه؛ كما روى ابن أذنان رحمه الله تعالى فقال: (أسلفت علقمة ألفي درهم فلما خرج عطاؤه قلت له: أقضني، قال: أخرني إلى قابل، فأتيت عليه فأخذتها، قال: فأتيته بعد، قال: برحت بي وقد منعتني - أي: عزمت علي في أخذها لما حان أجلها ولم تؤخرني - فقلت: نعم هو عملك، قال: وما شأني؟ قلت: إنك حدثتني عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن السلف يجري مجرى شطر الصدقة، قال: نعم فهو كذاك قال: فخذ الآن) رواه أحمد وصححه ابن حبان.(/3)
وفي رواية لابن ماجه: (فقال: أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهما واحدا، قال: فلله أبوك ما حملك على ما فعلت بي؟ قال: ما سمعت منك، قال: ما سمعت مني؟ قال: سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة قال: كذلك أنبأني ابن مسعود).
وتفريج الكرب في الدنيا سبب لتفريج الكرب في العرض الأكبر حيث يشتد كرب الناس وألمهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه مسلم.
ولأن المقرض فك أزمة أخيه فكأنه أعتق رقبة كما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من منح منيحة لبن أو ورق أو هدى زقاقا كان له مثل عتق رقبة) رواه أحمد وصححه الترمذي وابن حبان.
ومنيحة الورق هي قرض الدراهم، وقوله (أو هدى زقاقا) أي: أرشد تائها أو أعمى إلى وجهته.
وإذا أعسر المقترض، أو تلف ماله وجب على أخيه إنظاره إلى أن يقدر على السداد؛ لقول الله عز وجل {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280].
وليس إنظاره مهما طالت المدة يضيع؛ لأن له من الأجور ما لو علم عنه لتمنى أن يطول هذا الإنظار أطول مدة، فله به كل يوم صدقة مثله أو ضعفه؛ كما روى بريدة رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة، قال: ثم سمعته يقول: من أنظر معسرا فله بكل يوم مثليه صدقة، قلت: سمعتك يا رسول الله تقول: من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة، ثم سمعتك تقول: من أنظر معسرا فله بكل يوم مثليه صدقة، قال: له بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة) رواه أحمد.(/4)
وأفضل من ذلك أن يواسي أخاه حال عسره، ويخفف عنه في محنته، فيضع عنه بعض حقه أو كله ؛ فذلك جزاؤه عند الله عظيم، يستحق من فعله أن يفرج الله تعالى عنه يوم القيامة عسره، وأن يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280].
وعن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت رضي الله عنهم قال: (خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له معه ضمامة من صحف، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري، وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي: يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب! قال: أجل، كان لي على فلان بن فلان الحرامي مال فأتيت أهله فسلمت فقلت: ثَمَّ هو؟ قالوا: لا، فخرج علي ابن له جفر فقلت له: أين أبوك؟ قال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي، فقلت: أخرج إليَّ فقد علمت أين أنت، فخرج فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت والله معسرا، قال: قلت: آلله؟ قال: الله، قلت: آلله؟ قال: الله، قلت: آلله؟ قال: الله، قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده، فقال: إن وجدت قضاء فاقضني، وإلا أنت في حل، فأشهد بصر عيني هاتين - ووضع إصبعيه على عينيه - وسمع أذني هاتين، ووعاه قلبي هذا - وأشار إلى مناط قلبه - رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله) رواه مسلم.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نفس عن غريمه أو محى عنه كان في ظل العرش يوم القيامة) رواه البغوي وحسنه.(/5)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في تعليل هذا الحديث: (لأنه لما جعله في ظل الإنظار والصبر، ونجاه من حر المطالبة، وحرارة تكلف الأداء مع عسرته وعجزه؛ نجاه الله تعالى من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش).
أسأل الله تعالى أن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يجعلنا عونا لإخواننا المسلمين في عسرهم، كما أسأله تعالى أن يفرج هم المهمومين، وينفس كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، ويشفي مرضانا ومرضى المسلمين ،إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين ، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبه الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه، واشكروه على نعمه ولا تكفروه؛ فإن في الشكر دوام النعم وزيادتها، وفي كفرها زوالها وتبديلها {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
أيها المسلمون: ما من أحد من الناس إلا وتمر به أزمات، وتحيط به مشكلات، تكبر أو تصغر، تطول مدتها أو تقصر، وإن من أعظم ما ينجي الإنسان في كربه، ويكون سببا في تجاوز أزماته، وحل مشكلاته؛ معونته لإخوانه المسلمين، والسعي في تفريج كربهم.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
ومن التيسير على أخيه ومعونته له: التخفيف عنه في أقساط السداد، ومراعاته حال الإعسار؛ بإنظاره مدة أطول، أو الوضع عنه.(/6)
ومن الستر عليه: عدم فضيحته أمام الناس بذكر ما له عليه من الحق، والبعد عن الانتقام منه بالنيل من عرضه، أو السعي إلى سجنه وهو عاجز عن الوفاء، وكل ذلك لا يجوز إلا في حق الملي المماطل.
ومن نفَّس عن إخوانه المسلمين نفس الله تعالى عنه في الدنيا والآخرة، ومن عسَّر عليهم عُسِّر عليه في الدنيا والآخرة.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وهذا يدل على أن الإعسار قد يحصل في الآخرة، وقد وصف الله تعالى يوم القيامة بأنه عسير، وأنه على الكافرين غير يسير، فدل على أنه يسره على غيرهم، وقال سبحانه {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26] والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين: إما بإنظاره إلى الميسرة وذلك واجب كما قال تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] وتارة بالوضع عنه إن كان غريما، وإلا فبإعطائه ما يزول به إعساره، وكلاهما له فضل عظيم.
وقال الصنعاني رحمه الله تعالى: ويؤخذ منه أن من عَسَّر على معسر عُسِّر عليه، ويؤخذ منه أنه لا بأس على من عَسَّر على موسر؛ لأن مطله ظلم يحل عرضه وعقوبته.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لصبيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه).
وفيهما عن حذيفة وأبي مسعود الأنصاري رضي الله عنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مات رجل فقيل له:بم غفر الله لك؟ فقال: كنت أبايع الناس فأتجاوز عن الموسر وأخفف عن المعسر).
وفي رواية قال: (كنت أنظر المعسر وأتجوز في السكة، أو قال: في النقد، فغفر له).(/7)
وفي رواية أخرى: قال: (إن رجلا لم يعمل خيرا قط وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك قال الله له: هل عملت خيرا قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك).
وفي رواية أخرى: (قال الله تعالى: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه).
أيها الإخوة: لو أخذ المسلمون بهذه الآداب السامية لقُضي على أكثر مشاكل الفقر والتسول والديون، وما ينتج عنها من إشغال الشرط والمحاكم والسجون بكثرة المدينين المعسرين؛ ولزالت الأحقاد والضغائن، وما ينتج عنها من شتيمة وغيبة وقذف وانتقام؛ ولسادت روح الألفة والمودة، والتراحم والتعاطف بين الناس، وهذا ثواب عاجل يجده الناس على إحسانهم وتكاتفهم، غير الثواب الآجل المدخر لهم عند الله تعالى يوم القيامة.
فينبغي لكل مسلم أن يحيي هذه السنة العظيمة ولو رأى الناس معرضين عنها، أو خائفين على أموالهم من جرائها؛ فإن الحافظ هو الله تعالى، ومنه يُبتغى الرزق، وعليه سبحانه العوض. ومن أحياها فليبتغ بإحيائها وجه الله تعالى والدار الآخرة، ولا سيما مع موت هذه السنة العظيمة، واستبدالها بالمناهج المادية، التي تكرس الأنانية والفردية، وتقضي على الإحسان والإيثار.
وعلى من أخذ أموال الناس أن يسعى جاهدا في سدادها؛ حتى لا يكون سببا في غلق باب الإحسان هذا بزرع عدم الثقة في الدائنين والمحتاجين.
ومن أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى الله تعالى عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى.
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم ربكم بذلك...(/8)
العنوان: القرض والدين (2/2)
رقم المقالة: 603
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
خطر الدين
الحمد لله رب العالمين؛ خلق عباده فضرب آجالهم، وقدر أرزاقهم، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الرُّوم:40] نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فما من سراء إلا وهو مانحها، ولا من ضراء إلا وهو كاشفها {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ فارق الدنيا حين فارقها ولم يخلف مالا ولا متاعا، ودرعه مرهونة عند يهودي في شيء من شعير، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمر:10].
أيها الناس: فاوت الله عز وجل بين عباده في المال والجاه والقوة، وجعل بعضهم في حاجة بعض، فالأقوياء والأغنياء محتاجون إلى الضعفاء والفقراء؛ لإدارة ممالكهم، وتشغيل مصانعهم، ونماء تجاراتهم. والضعفاء والفقراء محتاجون إلى الأقوياء والأغنياء لتشغيلهم وإدارتهم، وتحصيل أرزاقهم منهم، وهكذا جعل الله تعالى رزقه دولة بين الناس يتداولونه بأنواع من الزراعة والتجارة والصناعة والإدارة وغير ذلك.(/1)
ومن طبيعة البشر أنهم لا يبذلون المال بلا عوض، ولا ينفقونه من دون عوائد دنيوية أو أخروية يرجونها من وراء إنفاقهم {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل:71].
ولما كان حال الناس كذلك؛ شرع الله تعالى لهم من الأحكام الشرعية المباحة ما يكون عونا لهم على تبادل المال من البيع والشراء والهبة والإهداء والصدقة والقرض الحسن وغير ذلك مما هو عوض عن التبادل المحرم من الربا والرشا والاحتكار والسرقة والغصب والنهبة وغير ذلك.
والفقير قد يحتاج إلى المال في وقت لا يجده، والغني قد لا يجد من يشتري بضاعته بالعاجل، فأحل الله تعالى المداينة بين الناس، وبيع حاضر بآجل، وفق شروط وضوابط تسد حاجة المحتاجين، وتمنع الوقوع في الحرام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] وبفضل هذا التشريع العظيم يسد الفقراء حاجاتهم المستعجلة، ويروج التجار بضائعهم الكاسدة، وتدور الأموال بين الناس.
والقرض الحسن له منزلة من الدين عظيمة، وقد رتب عليه عظيم الأجر والثواب باحتساب إقراضه لأخيه من الصدقات مع أنه لا ينقص من ماله شيء، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة.
ولما كان المال عزيزا على الناس، يعدلونه بنفوسهم، ويستهلكون في تنميته جهدهم وأوقاتهم، ويدافعون عنه بأرواحهم، ومن قتل دون ماله فهو شهيد كما أن من قتل دون نفسه فهو شهيد؛ فإن الشريعة الغراء شرعت ما يحفظ لأهل الحقوق حقوقهم بعقود يجب الوفاء بها، ويعاقب من أخل بها بعقوبات في الدنيا والآخرة.(/2)
وبسبب محبة المال، والخوف عليه من الضياع؛ قد يحجم الدائنون عن الدين، والمقرضون عن القرض؛ لما يجدونه من استهانة المدينين والمقترضين بحقوقهم، ومماطلتهم في تسديد ما عليهم، فتغلق أبواب من المنافع والمصالح بين الأغنياء والفقراء، وتزول ثقة بعضهم ببعض، لأجل ذلك جاء في الشريعة وعيد شديد في حق من يضيع حقوق الناس، ويأكل أموالهم بالباطل، وتواردت النصوص على ذلك، وحذرت من التوسع في الدين والقرض لمن لا يجد سدادا فيحمل نفسه ما يعجز عن سداده، ولا يعذر بذلك، بل يبقى في ذمته حتى بعد موته، وقد يحبس عن الجنة بسبب ما عليه من الحقوق.
وبلغ من تشديد النبي صلى الله عليه وسلم في حقوق الناس أنه كان في أول الإسلام يترك الصلاة على من عليه دين ليس له وفاء؛ كما روى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بجنازة ليصلي عليها فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أخرى فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله، فصلى عليه) رواه البخاري.
وروى جابر رضي الله عنه فقال: (توفى رجل فغسلناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطى، ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حقَّ الغريمِ وبَرئَ منهما الميت؟ قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن بردت عليه جلده) رواه أحمد.(/3)
ولما فتح الله تعالى على المسلمين الفتوح، واغتنوا بعد الحاجة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي مما أفاء الله تعالى عليه ديون الدائنين ويصلي عليهم، وكان هذا الفعل منه عليه الصلاة والسلام سنة لمن بعده من الخلفاء والأمراء أن تقضى ديون المدينين من بيوت المال، روى أبو هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسألُ: هل ترك لدينه فضلا؟ فإن حُدِّث أنه ترك لدينه وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال عليه الصلاة والسلام: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته) رواه الشيخان.
قال العلماء: في هذه الأحاديث إشعار بصعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة، وإنما ترك الصلاة على المدينين ليحرض الناس على قضاء ديونهم في حياتهم، ويبرئوا ذممهم من حقوق الناس؛ لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.
وقد يَحبس الدينُ صاحبه عن دخول الجنة مع استحقاقه لها برحمة الله تعالى؛ كما جاء في حديث سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر فقال: هاهنا من بني فلان أحد؟ ثلاثا، فقال رجل: أنا، فقال: إن صاحبكم محبوس عن الجنة بدينه) رواه أحمد، وفي رواية لأبي داود قال عليه الصلاة والسلام: (إن صاحبكم مأسور بدينه).
وروى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه).
وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فارق الروح الجسد وهو بريء من ثلاث دخل الجنة: الكبر والدين والغلول) رواه أحمد.(/4)
وبلغ من خطورة الدين أن الشهيد الذي بذل نفسه وربما ماله في سبيل الله تعالى لا تسقط عنه أموال الناس، بل تبقى في ذمته بعد استشهاده، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الجهاد، ورغبهم فيه، وحثهم عليه، فقال رجل: (أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك) رواه مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
وجاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) وفي رواية: (القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين) رواه مسلم.
وعن محمد بن جحش رضي الله عنه قال: (كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع راحته على جبهته ثم قال: سبحان الله! ماذا نُزِّل من التشديد؟ فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد سألته:يا رسول الله، ما هذا التشديد الذي نُزِّل؟ فقال: والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله، ثم أُحييَ ثم قتل، ثم أُحييَ ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينه) رواه النسائي.
ومن كان للناس عليه حقوق كان وفاؤه يوم القيامة من حسناته وسيئاته، وفي حديث المفلس: أن من أسباب إفلاسه يوم القيامة: وأخذ مال هذا، وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه دين فليس بالدينار ولا بالدرهم ولكنها الحسنات والسيئات) رواه أحمد.(/5)
وإذا عزم المسلم على وفاء ما عليه من ديون، وأداء ما عليه من حقوق؛ فإن الله عز وجل يكون معه في ذلك، ويعينه عليه وييسره له مهما كثر ما عليه، ولا سيما إذا كانت ديونه عن ضرورة أو حاجة من نفقات واجبة أو مستحبة. بخلاف من يستدين من غير حاجة، أو لأجل المفاخرة بكماليات زائدة عن حاجته، وأقبح منه من يستدين لفعل محرم فإنه لا يعان على سداد ما عليه، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الله مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله تعالى) رواه ابن ماجه. وعن ميمونة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يَدَّان دينا فعلم الله أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه) رواه النسائي.
ومن قبيح الفعل، وعظيم الإثم: أن ينوي المستدين حال استدانته الغدر بأخيه، وعدم الوفاء له، وكم في هذا الفعل من دناءة وخيانة؟! ومقابلة إحسان أخيه إليه بإساءته هو له؟! وكم فيه من إغلاق لأبواب البر والخير بين الناس؟! ولا يفعل ذلك إلا من ضعف دينه، وذهبت مروءته، وانحطت أخلاقه.
وتبلغ الدناءة ببعض الناس مبلغا يفاخرون فيه بهذا العمل الحقير، ويعدونه فطنة وكياسة، وبابا من أبواب الكسب، وما هو والله إلا غدر وخيانة، وأكل لأموال الناس بالباطل. ومن فعل ذلك بالناس فلن ير خيرا لا في نفسه ولا أهله وولده، ولا فيما أخذ من أموال بالكذب والمخادعة، بل تكون أمواله وبالا عليه في الدنيا والآخرة.
وهذا واقع مشاهد في كثير ممن أكلوا أموال الناس بالباطل. وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
وعموم الحديث يفيد أن الإتلاف يلحقه في الدنيا والآخرة، نسأل الله تعالى العافية والسلامة، ونعوذ به من موجبات غضبه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية(/6)
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [البقرة:196] .
أيها المسلمون: كثير ممن يتخوضون في المال الحرام، ويغصبون الناس حقوقهم، ولا يؤدون لهم ما عليهم؛ لا يدركون خطورة التساهل في حقوق الناس. والواحد قد يعفو عن أخيه، ويُسقط حقه إذا علم عجزه عن السداد. أما إذا رآه يماطل ويخادع فإن نفسه لا تسمح عنه، وإن ترك المطالبة به في الدنيا فإنه سيطالبه به في الآخرة.
ويكفي عذابا في الدنيا لهذا الصنف من الخونة الغدارين: ما يعيشونه من حالة الخوف والترقب والتخفي والاستتار، بسبب ملاحقة الدائنين لهم، وجرهم إلى الشرط والمحاكم، وإهانتهم بقبيح الألفاظ والألقاب، وفضيحتهم في أهلهم وجيرانهم (وليُّ الواجد ظلم يبيح عرضه وعقوبته) فلا بارك الله في مال تكون هذه عاقبته. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: الدين) رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
ولفداحة الدين، وما ينتج عنه من مشكلات في الدنيا والآخرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله تعالى منه، ففي حديث عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال عليه الصلاة والسلام: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) رواه البخاري. وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء) رواه النسائي.(/7)
وجاء عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: (رق الحر الدين) واشتهر عند الناس أن الدين همٌّ بالليل وذل بالنهار، والسلامة من حقوق الناس سلامة من كل هذه المآثم والإهانات.
فحري بالعاقل أن لا يتوسع في الدين، ولا يلجأَ إليه إلا عند الحاجة، ولا يحملَ نفسه ما لا يقدر على سداده.
فإذا استدان وثَّق ذلك في كتاب، وضمنه وصيته؛ لئلا يفجأه الموت وحقوق الناس في ذمته لا يعلم بها إلا هو.
ثم يجتهد في السداد ولو ضيق على نفسه وولده، فمنعهم ما زاد عن ضروراتهم وحاجاتهم من النفقات، وترك التوسعة عليهم حتى يقضي ما للعباد في ذمته، ويسأل الله تعالى المعونة على ذلك؛ ومن صدق في ذلك أعانه الله تعالى، ومن استعان بالله تعالى أعانه على ما يثقله؛ فإن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وصلوا وسلموا على نبيكم...(/8)
العنوان: القِس الذي أَسْلَم على يديه 6 آلاف شخص
رقم المقالة: 1636
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
القِس الذي أَسْلَم على يديه 6 آلاف شخص
محمد كافي يحكي قصته كاملة:
• القس الذي تَحَوَّل إلى أَشْهر داعية للجاليات في الرِّياض.
• عامل "سوداني" كان بداية تعرفي على الإسلام.
• على يد الشيخ الجِبرين نَطَقْتُ الشهادتينِ.. وكانت نُقطة التحوُّل.
• 6 آلاف شخص أَسْلَمُوا على يديّ: منهم 250 أمريكيًّا، و50 ألمانيًّا، و20 فرنسيًّا.
• لهذه الأسباب: الفِلِبِّينِيُّون أكثر إقبالاً على الإسلام.
• انتهَيْتُ من ترجمة معاني القرآن الكريم بالفِلِبِّينِيَّة، ولديَّ 11 مؤلفًا.
• • • •
يُعَدُّ من أشهر العاملينَ في مجال دعوةِ الجاليات في الرِّياض، أَسْلَم على يديه أكثر من ستة آلاف شخص، خلال رُبْع قرن من الزمان، انْتَهَى مُؤَخَّرًا من ترجَمَةِ معاني القرآن الكريم باللُّغة الفِلِبِّينِيَّة، وله أحدَ عشرَ مُؤَلَّفًا بالإنجليزية والفِلِبِّينِيَّة، ورغم أنَّ سِنَّه تَجَاوَز الخامسةَ والسّتّين عامًا، إلاَّ أنه لا يَكِلّ عنِ الحَرَكة والنَّشاط الدَّعوي الدَّؤُوب، فلا يمُرّ يوم إلا وله محاضرة عن الإسلام، في مركز طِبّيّ، أو مستشفى، أو شركة، أو مؤسسة. وفي يوم الجُمُعة يكون له اللِّقَاء المُوَسّع مع بعض المسلمين الجُدد يعرفهم دينهم؛ ويجيب عن أسئلتهم؛ واستفْسَاراتِهم كافَّة، وفي مكْتَبِه بقسم دعوة الجاليات بالنَّدْوة العالمية للشباب الإسلامي، يستقبل أيّ مسلم جديد، ويعد مادة محاضراته العلمية.(/1)
إنَّه الداعية/ محمد أمين كافي، القِسّ الَّذِي تَحَوَّل إلى داعيةٍ إسلاميّ، صاحب النشاط المُكَثَّف في مجال دعوة الجاليات، قصة إسلامه تستَحِقّ أن تُرْوَى، وعملُه الدَّؤُوب في مجال دعوة الجاليات، الكتابة عنه لا يَسْتَوْعِبُه موضوع، ومُنَاظَرَاته وطريقته في الدَّعوة في حاجة إلى وَقَفات ووَقَفات.
الْتَقَيْنا به في مكتبه بالنَّدْوة العالمية للشباب الإسلامي، ودار هذا الحوار:
من قِس إلى داعية
• كيف تَصِف حياتك قبل، وبعد الإسلام؟!
- البداية حيثُ النشأة، والتعليم، وتطوُّر الحياة كانت في الفِلِبِّين، فقد نشأتُ في أسرة نصرانية مُحافِظَة، الأب: كان يُريدُني قِسًّا؛ أُعَلِّم الناس طُقُوس النصرانية، وكذلك الأم، وهذا ما تَحقَّق بعد أن حَصَلْتُ على درجة البَكالُوريا في القانون، ودراستي للنصرانية البُروتستانتية، فالْتَحَقْتُ بالكنيسة، وكنتُ أقوم بِتَعليم النصارى، وأدرّسهم النصرانية، وأجيب على تساؤلاتهم، وتَحَوَّلْتُ إلى قِس في إحدى الكنائس.
إلى الرياض
• ومتى قَدِمْتَ إلى المملكة، وما السببُ في ذلك؟! وكيف اعتنَقْتَ الإسلام؟!
- قَدِمْتُ للمملكة العربية السعودية للعمل؛ كمُدير إداريّ في إحدى الشركات بالرِّياض، ومَضَتِ الأشْهُر الأولى مثل أي مُغْتَرِب، لا يعرفُ لغة البلد الذي قدِم إليه، فكنتُ أَقْتَصِر في علاقاتي على أبناء جلْدَتِي من الفِلِبِّينِيين، وكان من المُمْكِن أن تستمرَّ الأمور؛ كما هو الحال للآلاف من غير المسلمين الذين يحضُرون للعمل، ثم يُغادِرُون إلى بلادهم، ولا يعرفون شيئًا عن الإسلام ولا أهله؛ بل الدّعاية التي طَبَعَتْ في أذهانهم الصورةَ السلبية عن المُسْلِمين كانت كفيلة بإقامة الحواجز النفسيَّة والاجتماعيَّة لديهم، وعَزْلهم عن المُسلِمينَ، وأيضًا لم يكن في ذلك الوقت دُعاة مَشْهُورون في مجال دعوة الجاليات؛ بل لم تكن المكاتب التَّعاونِيّة للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات موجودة.(/2)
السوداني.. والطريق؟!
• أَخْبِرْنا عن قصة تَعَرُّفك على الإسلام؟!
- البداية كانت بمُجَرد كلماتٍ من أحد العمال السُّودانِيين الذين كانوا يعملون معنا في الشركة.
فقد فُوجِئْتُ به يسألُني! أنت مدير مجتهد وجيد، ومُوظف ممتاز، لماذا لا تَعْتَنِق الإسلام!!
رددتُ عليه بالقول: لماذا؟!
قال: لأن الإسلام دينٌ ممتاز.
قلت له: والنصرانية ممتازة أيضًا.
هذا الحوار المقتضب أثار عندي تَساؤُلات عن الإسلام كدِين، فلم أكن أعرف عنه أيَّ شيء، وعملي كقِس جعلني أَقْتَنِع بالنصرانية، ولكن بدأَتِ التَّساؤُلات تُراوِدُنِي، وكنت أستبعدها.
البداية… كتاب!
• وماذا حدث بعد ذلك؟!
- فُوجِئْتُ بعد عدَّة أيَّام بالعامل السوداني يُحْضِر لي كتابًا عن الإسلام باللغة الإنجليزية، وقال لي: هل من المُمْكن أن تقرأ هذا الكتاب؟!
فقَدَّمْتُ له الشُّكْر، وقلت له: سوف أقرؤه لأنَّني أحب القراءة، وفعلاً أخذتُ منه الكتاب، وعندما عدتُ إلى مسكني أخذت أقرأُ فيه، وأَخَذَتِ التَّساؤلات تُراودني عن هذا الدين وحقيقته..
أوَّل تساؤل!!
• وأي التساؤلات كانتْ أكثر إلحاحًا على ذِهْنك بعد قراءة الكتاب؟!
- الحقيقة كان التساؤُل المُهِمّ هو: هل الله واحد، أم اثنان، أم ثلاثة!!
ففي الكتاب الأمر محسوم في الإسلام أن الله واحِد، أَحَد، لا يَلِد، ولا يُولَد، وهذا الأمر فيه تَضَارُب لدى النَّصارى، هناك من يقول: المسيح هو الله، ومن يقول: إنه ابن الله، ومن يقول: بالتَّثْلِيث.
القراءة المستمرة!
• وكيف حَسَمْتَ التساؤلات؟!(/3)
- التساؤلات لم تُحْسَم بالنسبة لرجل نصرانِيّ، مُقْتَنِع بدينه؛ لكن أخَذَتْ تثير عندي فضولاً للمزيد من القراءة عن الإسلام، وهذا ما شرعتُ فيه، حيثُ فُوجِئ العاملُ السوداني بي أَسْتَدْعِيه وأسأله: مِنْ أين جئتَ بهذا الكتاب؟!، فدَلَّنِي على النَّدْوة العالمية للشباب الإسلامي، وقال لي: هناك الكثير من الكتب لديهِم التي قَدْ تُفِيدُك، وفعلاً ذهبتُ إلى الندوة العالمية، وحصلتُ على بعض الكتب التي تَتَحَدَّثْ عن الإسلام؛ كدين، والقرآن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
9 شهور
• وهل استغرقَ الوقت طويلاً؟
- دِرَاسَتِي للكُتُب الإسلامية، وتساؤلاتي عن حقيقة دين الإسلام، امتدتْ إلى تسعة أشهر، حيث تيقنت من خِلال الدِّرَاسة والمُطَالَعة أنَّ الإسلامَ دين الله الخاتم، ووجدتُ إجابات شافية لأسئلة صعبة، كانت مصدر شُكُوك لي حتَّى وأنا قِس، فكانت تُواجِهُني تساؤلات من النصارى لم أسْتَطِع الإجابة عنها!
على يد الشيخ الجبرين
• ومتى أعْلَنْتَ إسلامك؟! وعلى يَد مَنْ؟!
- بعد تسعة أشهر من بداية قراءاتي عن الإسلام، وقد فُوجئ العامل السوداني بالأمر، وأحسستُ بفَرحِه الشديد؛ لأنه كان السببَ بعد الله – عز وجل - في بداية الطريق، وتعريفي بالإسلام، وأعلنتُ إسلامي على يد الشيخ العلامة/ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين – حفظه الله – وكان عُضوًا في دار الإفتاء في ذلك الوقت.
نقطة تَحوُّل..!
• هل تعتبر أنَّ هذه نقطة تحول في حياتك؟
- بل أعظم نقطة تحوُّل، وعليك أن تسأل نفسك كيف يتحول قِس نصراني، درس القانون وعمل في الإدارة إلى مُسْلم؟!، الأمر صعب لمن لا يعرف حقيقة هذا الدين؛ ولكن على المرء أن يتجَرّد، ويَقْرأ، ويُمَحِّص، ويُدَقّق.(/4)
والتحوُّل كان اجتماعيًّا أكثر من أي شَيْءٍ آخَرَ، فأنا وُلِدْتُ نَصْرانيًّا، وجميعُ أَقارِبِي نَصارَى، وعِشْتُ في "مانيلا" نادِرًا ما تَجِد مُسْلمًا، وفجأة تتحول حياتك كليًّا، زوجتي الأولى كانت نصرانية، ولا أعرف هل ستَقْتَنِعُ بالإسلام أم لا؟ ولا أعرف هل أهلي سيقبلون إسلامي أم لا؟ ولكن الحمد لله حسمتُ الأمر، وتوكَّلْتُ عليه، وأَيْقَنْتُ أنَّ هذا دين الله، وأنَّ هذا قراري، لأن المسألة ليست دنيوية، ولا عائلية، ولا نمط حياة، المسألة: هي دين، وحياة أُخْرَوِيَّة، وعبادة، وعقيدة.
تردّد.. وشكّ
* وكيف استقبل أهلك إسلامك؟!
- هناك من اعترض بشدة، وهناك مَنْ رأى أن هذا أمر يخصّني، أمَّا زوجتي فقد كانت تساؤُلاتها أكثر، والحمد لله أسْلَمَتْ، وهي تَعِيش في الفِلِبِّين، وتزوجْتُ الثَّانية وهي مسلمة، وتعيش معي في الرياض.
فرح.. وابتهاج
• والأصدقاء والزملاء في العمل كيف استقبلوا خبر إسلامك؟!
- الحمد لله، لقد كان الجميع في أشدّ الفرح، وحالات السرور، وتقَبَّلْتُ التّهاني من الجميع.
طريق الدعوة!
• بعد إسلامك هل فكَّرْتَ في أن تكون داعية في مجال دعوة الجاليات؟!
- الحقيقة: هذا سؤال مُهِمٌّ؛ لأنَّه أوَّل ما طَرَأ على ذِهْني، فأنا كنتُ أُعَلِّمُ النَّصارى في الكنيسة النَّصْرَانِيَّةَ، فلماذا لا أُعَلِّمُ النصارى الإسلام، ومِنْ هنا كانت البداية، فبدَأْتُ أَتَرَدَّدُ على مكتب رابطة العالم الإسلامي، والندوة العالميَّة، وأقرأ عنِ الإِسلام، وأسمَعُ الأشرطة، وأُشَاهِد المُنَاظَرات، وتعرَّفْتُ على اثنينِ من خِيرَة الرجال في مجال دعوة الجاليات؛ هما: د. أبو حنانه (فِلَسْطيني)، والدكتور جليلو خان (باكستاني)، فتعلَّمْتُ منهما الكثير، وأخذْتُ أسلك طريق الدعوة، خاصَّة بين أبناء الجنسية الفِلِبِّينِيَّة.
6 آلاف شخص
• خلال مسيرة الـ27 سنة بعد إسلامك، حيث أسْلَمْتَ عام 1985م، كم أَسْلَمَ على يديك؟!(/5)
- الحمد لله أَسْلَمَ على يديَّ أكثر من ستة آلاف شخص، الأغلبية الكُبْرَى من الجنسية الفِلِبِّينِيَّة؛ لسبب يسير أنَّ مُعْظَمَ الفِلِبِّينِيينَ كانوا في الأصل مُسلمينَ، ثم تَحَوَّلُوا إلى النصرانية في عُهُود الاستعمار، وقد تجِدُ الاسم الثالث أو الرابع من أي شخص فلبيني اسمًا إسلاميًّا.
250 أمريكي..!
• وماذا عن الجنسيات الأُخْرى؟!
- من الذين أسلموا على يديّ 250 أمريكيًّا مِنَ الَّذين كانوا يعملون في الرِّياض، و20 فرنسيًّا، و10 إيطاليين، ودكتور سُويسري، ومُواطِن فنلندي، و30 صينيًّا، وخمسة تَايْلَنْدِيين.
المستشفيات ومكاتب الجاليات
• لديك جدول مُكَثّف بالمُحاضَرَات، والدُّرُوس؛ فأين تُرَكّز نشاطك الدَّعوِي؟!
- ننطلق مِنْ قسم دعوة الجاليات بالندوة إلى: المراكز الصحيَّة، والمستشفيات، ومكاتب دعوة الجاليات، حيث نُنَظِّم الدروس والمحاضرات، ونُجِيب عن التساؤلات الخاصة بأي شخص غير مسلم.
أَرْكان الإسلام..
• وأي القضايا الدينية تُرَكّز عليها؟!
- نُرَكّز على أركان الإسلام، وأصول العبادات، وكيفية الإسلام، لأنَّ الشخص الذي ندعوه يكون لديه أمور كثيرة مُتَشابِكَة، ويُرِيد حَسْمَها.
11 كتابًا..
• لديك بعض المؤلَّفَات في مجال دعوة الجاليات، حدِّثْنَا عنها؟!
- الحمد لله انتهَيْتُ مُؤَخَّرًا من تفسير معاني القرآن الكريم باللُّغة الفِلِبِّينِيَّة، إضافة إلى عشرة كتب حول الإسلام، وأركانه، والعبادات.
أسئلة حَرِجَة
• وماذا عن الأسئلة الحَرِجَة من غير المُسلمين؟!
- سُؤال الخادِمَات عن زَوَاج المسلم بأربعة، ولماذا لا تَتَزَوَّج المرأة بأربعة رجال: أليس هذا من العدل؟!
• وكيف ترد؟!(/6)
- الرد يسير؛ أنا أسأَلُ كُلَّ امرأة من الحاضرات سُؤالاً محددًا: هل تُريدينَ الزَّواج من رجلينِ، أو ثلاثة، أو أربعة في وقت واحد؟! فَتَكُون الإجابة الفطرية: لا قطعًا؟! ومن هنا النساء يجبْنَ على السؤال؛ لأنَّ الموضوع فِطْري، والإسلام هو دين الفِطْرة.
لا صعوبات
• هل تُقابِل بعضَ المُسلمينَ الجُدُد صُعُوبات؟!
- قَطْعًا؛ هناك مشكلات كثيرة - خاصَّة من الأهل - ولذلك نَهْتَم بحياة المسلم الجديد، ونُعَوِّضه عن أهله النَّصارى، أو الهنْدُوس، بإخوة له في الدين.
• كلمة أخيرة:
- أسْألُ الله – عزَّ وجلَّ - أن يكون ذلك في ميزانِ حسناتي، ويتقبل مني ما أقوم به لوَجْهِه.(/7)
العنوان: القصد والنية في الشريعة الإسلامية
رقم المقالة: 987
صاحب المقالة: د. عبود بن علي بن درع
-----------------------------------------
التمهيد: ويشتمل على ما يلي:
المبحث الأول: تعريف المقاصد لغةً وشرعاً.
المبحث الثاني: تعريف النية لغةً وشرعاً.
المبحث الثالث: تعريف التكليف لغةً وشرعاً.
المبحث الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت الأحكام الشرعية.
المبحث الأول
تعريف المقاصد لغة وشرعاً
في اللغة:
القصد جاء في كتب اللغة لمعان متعددة، ومما جاء في كتب اللغة قولهم:
"والقصد: الاعتماد والأم، تقول: قصده، وقصد له، وإليه بمعنى يقصِده – بالكسر"[1].
وقال ابن منظور[2]:
"القصد: استقامة الطريق، قصد يقصد قصداً فهو قاصد"[3].
ويقول ابن فارس[4]:
"(قصد)، القاف، والصاد، والدال أصول ثلاثة يدل أحدهما على إتيان شيء، والآخر اكتناز في الشيء، والأصل قصدته قصداً مقصداً"[5].
ويقول ابن سيدة[6]:
"القَصْدُ: استقامة الطريق، وقوله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل}[7] أي أن على الله تبيين الطريق المستقيم إليه بالحجج والبراهين، والقصد والاعتماد والأمُّ، قصَده يقصده قصداً، وقصد له[8] وأقصدني إليه الأمر وهو قصدُك، وقصدَك أي اتجاهك"[9].
فالقصد على ذلك نوع من الإرادة تبلغ في قوتها درجة الاعتزام، والإرادة لا تكون عزماً ما لم تكن جازمة، والمتأمل في كلام العلماء يلحظ أنهم يذهبون إلى أن القصد أعلى درجة من العزم، فالعزم عندهم قد يكون على فعل في المستقبل، وهذا العزم قد يضعف أو يحول، أمَّا القصد عندهم فلا يكون إلا إذا كانت الإرادة جازمة مقارنة للفعل أو قريبة من المقارنة، ولهذا فإن العلماء يقولون: لا فرق بين النية والقصد، وكثير من العلماء يرى أن النية لابد أن تقارن المنوي، وقال بعضهم بأن القصد والنية بمعنى واحد.
وملخص القول من كلام اللغويين: أن القصد استقامة الطريق، والقصد الاعتماد والأم.
في الشرع:(/1)
نجد أن الشاطبي[10] رحمه الله تعالى، لم يحرص على إعطاء حد وتعريف للمقاصد الشرعية عله رأي الأمر واضحاً ولعل ما زهده في تعريف المقاصد كونه كتب كتابه للعلماء، بل للراسخين في علوم الشريعة.
إلا أني وجدت عند بعض علمائنا المحدثين تعريفات لمقاصد الشريعة.
فالشيخ ابن عاشور يعرف المقاصد العامة للشريعة بقوله:
"مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظاتها بالكون في نوع خاص من أحكام التشريع عن ملاحظاتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها"[11].
وفي قسم آخر من كتابه، تعرض للمقاصد الخاصة، ويعني بها الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة.. ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس، مثل: قصد التوثق في عقد الرهن، وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقد النكاح ودفع الضرر المستدام في مشروعية الطلاق[12].
وقد جمع الأستاذ علال الفاسي مقاصد الشريعة – العامة منها والخاصة – في تعريف موجز واضح قال فيه:
"المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها"[13].
ويقرر علال الفاسي أن ((المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار إصلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع))[14].
وبناءً على هذه التعريفات والتوضيحات لمقاصد الشريعة، وبناءً على مختلف الاستعمالات والبيانات الواردة عند العلماء الذين تحدثوا في موضوع المقاصد، يمكن القول: أن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد[15].(/2)
كما يمكن – لزيادة الوضوح – تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1 - المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة الإسلامية وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية، أو في كثير منها. وهذا القسم هو الذي يعنيه غالباً المتحدثون عن ((مقاصد الشريعة)) وظاهر أن بعضه أعم من بعض، وما كان أعم فهو أهم أي أن المقاصد التي روعيت في جميع أبواب الشريعة هي أعم وأهم من التي روعيت في كثير من أبوابها.
2 - المقاصد الخاصة: وأعني بها المقاصد التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين، أو في أبواب قليلة متجانسة من أبواب التشريع، ولعل الشيخ ابن عاشور هو خير من اعتنى بهذا القسم من المقاصد، فقد تناول منها مقاصد الشارع في أحكام العائلة، ومقاصد القضاء والشهادة، ومقاصد التبرعات، ومقاصد العقوبات.. وغيرها.
3 - المقاصد الجزئية: وهي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي، من إيجاب أو تحريم، أو ندب أو كراهة أو إباحة أو شرط أو سبب.. وأكثر من يعتني بهذا القسم من المقاصد هم الفقهاء، لأنهم أهل التخصص في جزئيات الشريعة ودقائقها[16].
وعليه فإن مقاصد الشريعة هي المصالح التي شرع الله من أجلها الأحكام أو هي التي تعود بالنفع على المكلفين في الدنيا والآخرة.
ولذلك يقول الشيخ عبدالوهاب خلاف[17]:
"المقصد العام للشارع من تشريعه الأحكام هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسيناتهم"[18].
المبحث الثاني
تعريف النية لغة وشرعاً
لما كانت النية والقصد متقاربين، وكانت النية هي اللفظة التي كثر استعمالها لدى الفقهاء للدلالة على القصد خصصنا لها هذا المبحث لزيادة الإيضاح والبيان:
الاشتقاق اللغوي:
النية مصدر نوى الشيء ينويه نيّة ونواه، وأصلها نِوْيه بكسر النون وسكون الواو، ووزنها فِعْله، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء فالنية على ذلك واوية العين يائية الألف، قال الشاعر[19]:(/3)
صَرَمتْ أمَيمةُ خلّتي وصلاتي = ونَوتْ ولَمَّا تَنتوي كنواتي
والنية مؤنث النوى، والنية والنوى معناهما واحد[20].
وذهب الماوردي[21]: إلى أن النية مصدر نأى ينأى، وبمعنى بعد، لاختصاصها بأنأى أعضاء الجسد، وهو القلب[22]، وما ذهب إليه بعيد عن الصواب، لأن عين نأى همز، وعلى ذلك فمصدرها النأي وإجماع أهل اللغة على أن عين ((نية)) واو[23]، ثم إننا لا نقول: نأيت كذا بمعنى نويته.
ويبدو أن النِيَة بالتخفيف لغة[24] في النيْة[25]، وقال صاحب اللسان:
"النية بالتشديد هي النِيَة مخففة[26] ، وفي اللسان: ونى يني ونيا وونياً، وونى فهو وان"[27].
مدلول النية في لغة العرب:
الذي ينظر في استعمال العرب لهذه الكلمة يجد أنّها تدور في تصاريفها على القصد. فنجدهم يقولون:
"نوى الشيء ينويه نيّة.. وانتواه: قصده ونوى المنزل، وانتواه كذلك"[28].
ويقولون:
"نواك الله بالخير وقصدك به، وأوصلك إليه، وقال أعرابي من بني سليم لابن له سماه إبراهيم: ناويت به إبراهيم، أي قصدت قصده، فتبركت باسمه"[29].
ويقولون:
"فلان ينوي وجه كذا، أي يقصده من سفر أو عمل، وفي حديث عروة ابن الزبير[30] في المرأة البدوية يتوفى عنها زوجها أنها تنتوي حيث انتوى أهلها"[31].
وقد يريدون بالنية الشيء المقصود إليه: والنية الوجه الذي يذهب فيه، وقد يراد بها الشيء الذي يصاحبه القصد أو يسبقه[32].
((والنوى: التحول من مكان إلى مكان، أو من دار إلى غيرها، كما تنتوي الأعراب في باديتها))[33].
وقد يراد بالنية في اللغة: العزم، يقول صاحب المصباح المنير: خصت النية في غالب الاستعمال بعزم القلب على أمر من الأمور[34].
ويقول صاحب اللسان:
"نويت نية ونواة، أي عزمت، وانتويت مثله"[35].
النية في الاصطلاح:
1 – تعريف النية بالقصد والعزم:
ذهب الجميع من العلماء إلى تعريف النية بمدلولها اللغوي، فمن هؤلاء النووي[36]– رحمه الله – قال:(/4)
"النية هي القصد إلى الشيء، والعزيمة على فعله، ومنه قول الجاهلية: نواك الله بحفظه، أي قصدك به"[37].
ومنهم القرافي[38] – رحمه الله – قال:
"هي قصد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله"[39].
وقال الخطابي[40] – رحمه الله –:
"النية قصدك الشيء بقلبك، وتحري الطلب منك له وقيل: عزيمة القلب"[41].
وتعريف النية بالقصد والعزم مذهب قوي يدل عليه أنه مدلول الكلمة في لغة العرب، فالقصد والعزم على ذلك قسمان للنية، وقد خص إمام الحرمين[42] العزم بالفعل المستقبل، والقصد بالفعل الحاضر المتحقق، يقول في ذلك:
"النية إن تعلقت بفعل مستقبل فهي عزم، وإن تعلقت بفعل حاضر سميت قصداً حقيقياً"[43].
ويرى ابن قيم الجوزية[44] – رحمه الله تعالى – أن النية هي القصد بعينه، إلا أن بينها وبين القصد فرقين.
أحدهما: أن القصد معلق بفعل الفاعل نفسه وغيره، والنية لا تتعلق إلا بفعل نفسه، فلا يتصور إن نوى الرجل فعل غيره، ويتصور أن يقصده ويريده، ومن هذه الزاوية يكون القصد أعمَّ من النية.
الثاني: أن القصد لا يكون إلا بفعل مقدور يقصده الفاعل، وأما النية فينوي الإنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه، ولهذا في حديث أبي كبشة الأنماري[45]، والذي رواه أحمد[46] في مسنده، والترمذي[47] في سننه، وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي في ماله ربه ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل عند الله. وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، وأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي ربه، لا يصل فيه رحمه فذلك بشرٍّ منزلة عند الله، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواء))[48].
ويقول ابن القيم معقباً على الحديث:(/5)
"النية تتعلق بالمقدور عليه جوز عنه، بخلاف القصد والإرادة، فإنهما لا يتعلقان بالمعجوز عنه لا من فعله ولا من فعل غيره"[49].
فالنية على هذا أعمَّ من القصد.
وفريق آخر من العلماء لا يمانع في تعريف النية بالقصد والعزم إلا أنه لا يرى أن القصد والعزم قسمان للنية بل قسيمان[50] لها، وتعريفهما بهما من باب التوسع في الاستعمال، فإن النية والعزم والقصد متقاربة المعاني[51].
وقد جعل القرافي النية والقصد والعزم والمشيئة.. من أقسام الإرادة. وممن قال بذلك النووي فهو يقول:
"الإرادة والنية والعزم متقاربة، فيقام بعضهما مقام بعض مجازاً"[52].
وقد رفض الكرماني[53] – رحمه الله – تعريف النية بالعزم فقد نقل في شرحه لصحيح البخاري تعريف الإمام النووي للنية، والنية هي القصد وعزيمة القلب ثم قال:
"أقول ليس هو عزيمة للقلب، وحجته ما قرره المتظلمون من أن القصد القصد إلى الفعل هو ما نجده في أنفسنا حال الإيجاد، والعزم قد يتقدم عليه، ويقبل الشدَّة والضعف، بخلاف القصد"[54].
والذي دعا الكرماني إلى رفض النية بالعزم أمران كما هو واضح من كلامه:
الأول النية يجب أن تقارن الفعل، ولا يجوز أن تتقدم عليه، والعزم قد يكون مقارناً، وقد يتقدم على الفعل.
الثاني: أن عزيمة القلب قد زائد على أصل القصد.
وما ذهب إليه من أن النية يجب أن تقارن الفعل، ولا يجوز أن تتقدمه، ليس له دليل عليه، فالعرب تطلق النية على الفعل الحاضر المتحقق، كما تطلقها على الفعل المراد إتيانه مستقبلاً، وقد سقنا فيما مضى قول إمام الحرمين الذي يجعل النية شاملة للأمرين، وممن ذهب هذا المذهب الزركشي[55] في قواعده، فقد عدَّ النية مطلق القصد يقول:
"النية ربط القصد بمقصود معين، والمشهود أنها مطلق القصد إلى الفعل"[56].
2 – تعريف النية بأنها إرادة:
عرف بعض السابقين النية بالإرادة، وهذا غير صحيح لأن الإرادة أعمّ من النية من ناحيتين:(/6)
الأولى: من ناحية معناها، فالإرادة تشمل النية وغيرها، وقد عد القرافي الإرادة فكانت ثمانية، والنية واحدة منها، فالإرادة إذا أطلقت تشمل النية وغيرها، فتعريف النية بالإرادة على ذلك تعريف غير مانع.
والثانية: أن النية لا تتعلق إلا بفعل الناوي، والإرادة تتعلق بفعله وفعل غيره، كما نريد معونة الله وإحسانه، وليست فعلنا[57].
وقال ابن عابدين[58]:
"النية: العزم، والعزم هو الإرادة الجازمة القاطعة، والإرادة صفة توجب تخصيص المفعول بوقت وحال دون غيرهما، رأى أن ترجح أحد المستويين، وتخصصه بوقت وحال، رأى كيفية وحالة مخصوصة، وبه علم أن النية ليست مطلق الإرادة بل هي الإرادة الجازمة"[59].
ولا تثريب على من سلك هذا المسلك في تعريف النية، كما فعل الجرجاني[60] حيث يقول:
"العزم جزم الإرادة بلا تردد"[61].
وعرفها الشيخ دراز[62] بقوله:
"هي حركة تنتزع بها الإرادة نحو شيء معين لتحقيقه وإحرازه"[63].
3 – تعريف النية بالإخلاص:
يأبى بعض العلماء أن يعرّف النية بالإخلاص، ويعدُّ ((الإخلاص أمراً زائداً على النية لا يحصل بدونها قد تحصل بدونه))[64] وهؤلاء يجعلون صفة في النية، فالإخلاص هو تلك النية المتجهة لله وحده دون سواه، والنية قد تكون كذلك وقد لا تكون.
ويرى آخرون أن النية هي تلك الإرادة التي تقصد الفعل، أمّا الإخلاص فهو تلك التي تقصد التوجه بالفعل إلى الله، ويقول الشيخ عماد الدين الإسنوي[65] – رحمه الله –:
"الفرق بين النية والإخلاص هو أن النية تتعلق بفعل العبادة، وأمَّا إخلاص النية في العبادة فيتعلق بإضافة العبادة إلى الله تعالى"[66].
والحق الذي تدل عليه الأدلة أن النية تطلق ويراد بها قصد العبادة، ويراد بها قصد المعبود بل دلالة النية على المعنى الثاني أوضح وأظهر.(/7)
وبذلك يصح قول من قال: ((إخلاص الدين هو النية))[67] وتخصيص النية بالإرادة المتوجهة إلى العبادة لا يعدو أن يكون اصطلاحاً خاصاً لبعض العلماء، أمَّا لغة العرب ونصوص السنة فلا تدلان على تخصيصها بذلك[68].
4 – تعريف النية بأنها عمل القلب ووجهته:
يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى –: ((النية عمل القلب))[69] وعرفها التيمي[70]: بأنها وجهة القلب[71] وتعريفها بذلك ليس مبايناً لتعريفها بالقصد والعزم، إذ القصد والعزم عملان من أعمال القلوب، إلا أن تعريفهما بهما تعريف فغير مانع لأن وجهة القلب وعمله قد لا يكون إرادة فقد تكون وجهة القلب وعمله رغبة، أو رهبة، أو حباً، أو كراهية وما أشبه ذلك، وقد تكون إرادة، والإرادة قد لا تكون نية كالهمّ، والشهوة، والمشينة، وقد تكون نية: قصداً أو عزماً، فتعريف النية بأنها عمل القلب أعمّ من المعرف[72].
فإذا قيد التعريف بما يميزه عما عداه فلا غبار على التعريف به، وهذا ما فعله القاضي البيضاوي[73] عندما عرف النية بقوله:
"النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو ضر حالاً أو مالاً"[74].
النية شرعاً:
هل نقل الشارع النية من معناها اللغوي إلى معنى شرعي يخصها؟ يجيب جماهير العلماء بالإيجاب.
فالقاضي البيضاوي[75] – رحمه الله – يعرِّف النية فيقول:
"والشرع خصها بالإرادة والتوجه نحو الفعل ابتغاء لوجه الله تعالى وامتثالاً لحكمه"[76].
ثم يقول:
"والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي".
وهذا الذي ذهب إليه القاضي البيضاوي تابعه عليه أكثر العلماء ومن بعده ناقلين ومقررين له[77].
ومن حق الباحث أن يسأل عن المعنى الذي نقل إليه اللفظ.
واستطيع أن أقرر بعد التأمل في التعريفات التي أوردها أن لهم في هذا مذهبين.(/8)
الأول: يقول: أن المصطلح الشرعي للنية ((قصد الشيء مقترناً بفعله))[78] فهؤلاء يرون أن النية تطلق على القصد المقرن للفعل المتحقق، وعلى قصد الفعل الذي سيكون مستقبلاً، فجاء الشارع وخص النية بالقصد المقترن من الفعل.
الثاني: أن النية في اللغة شاملة لقصد الفعل ابتغاء وجه الله، أو لمنفعة دنيوية وعرض زائل، فخصص الشارع بالتوجه نحو ابتغاء مرضاة الله، وهذا ما يشعر به كلام القاضي البيضاوي ومن تابعه[79].
وما ذهبوا إليه هنا يحتاج إلى نظر وتأمل، فالنية كما قرروا فعل من الأفعال الخاصة بالقلوب، وأفعال القلوب كأفعال الجوارح لم ينقل الشارع مسماها الاسم اللغوي إذا قصد بها وجه الله تعالى. لم ينقل الشارع حركة البدن بالسجود لله عن مسماها بالسجود للصنم، بل الكل سجود.
ولم ينقل حركته بالطواف عن مسماه بالطواف للصنم، بل الكل باق على مسماه اللغوي وكذلك النية التي هي حركة القلب وانبعاثه فإنها باقية على مسماها اللغوي لم ينقلها الشرع ولا خصصها، بل بيَّن أن ما كان منها لله فهي المطلوبة المحبوبة، وما كان رياء وسمعة فهي مكروهة ممقوتة[80] وقد تنبّه إلى هذا الصنعاني[81] ورجحه، ومما يؤيد هذا القول أن الذين قالوا بأن النية معنى شرعياً غير المعنى اللغوي – عندما فسروا لفظ النيّة التي وردت في الأحاديث – لم يستطيعوا أن يحملوها على المعنى الشرعي الذي افترضوه، بل حملوها على المعنى اللغوي، وهذا متحتم في كل الأحاديث التي ورد فيها لفظ النية، كحديث ربَّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته[82] وغيره*.
ولا يمكن حمل هذه الأحاديث على المعنى الشرعي الذي فرضوه، إن هؤلاء أنفسهم حملوها على المعنى اللغوي، فالصواب – والله أعلم – أن الشارع استعمل النية في معناها اللغوي، ولم يضع لها معنى اصطلاحياً خاصاً.
وقد نص على هذا التحقيق الذي قررناه أحمد الحسيني[83] من المتأخرين قال:(/9)
"قول الفقهاء في تعريف النية: هي القصد وشرعاً قصد الشيء مقترناً بفعله ليس المراد منه أن هذا المعنى ((القصد)) خاص باللغة وليس مستعملاً في الشرع، بل هو مستعمل فيه، فكثيراً ما يستعمل لفظ النية في لسان الشرع مراداً منه القصد، كقولهم: تجب نية الصوم فالنية فيه بمعنى قصد الصيام قبل دخوله أي وقته الذي أوله طلوع الفجر، وهو العزم الذي هو أحد نوعي القصد الذي هو بمعنى النية فهذا المعنى شرعي أيضاً"[84].
ثم يبين أن المعنى الشرعي هو المعنى اللغوي وليس مختصاً بالشرع، قال:
"قولهم: وشرعاً قصد الشيء مقترناً بفعله، ليس المراد منه أن هذا المعنى غير لغوي، كيف وهو أحد نوعي القصد المتقدم، وكثيراً ما تستعمل العرب لفظ النية مراداً به المعنى المذكور"[85].
ثم يقرر بوضوح لا لبس فيه فيقول:
"فهو – أي المعنى الشرعي، لغوي وليس معنى جديداً مخترعاً شرعاً، وإن نسبته إلى الشرع من حيث أنه معتبر في جميع أنواع العبادات ما عدا الصيام.."[86].
المبحث الثالث
تعريف التكليف لغة وشرعاً
المكلفون جمع مكلف، والتكليف في اللغة: إلزام ما فيه كلفة أي مشقة، ولهذا يقول الزمخشري[87]:
"ليس عليه كلفة في هذا مشقة"[88].
ويقول ابن فارس:
"الكلفة ما يتكلف من نائبه أو حق"[89].
ويقول ابن منظور:
"كلفه تكليفاً رأى أمره بما يشق عليه، وتكلفت الشيء، تجشمته على مشقة، وعلى خلاف عادتك.. ويقال حملت الشيء تكلفة، إذ لم تطقه إلا تكلفا"[90].
والمكلفون من المخلوقات ثلاثة أصناف: الملائكة والإنس والجن هنا: البحث في مقاصد المكلفين من الإنس دون غير. وليس كل الإنس مكلفين.
فالمراد بالمكلف من كان بالغاً عاقلاً، وقد سمع وعرف بالدعوة الإسلامية، ولم يكن فيه ما يمنع تعلق الخطاب بفعله كالإكراه، والغفلة[91].
وقد ذكر الآمدي[92] اتفاق العقلاء على أن شرط التكليف أن يكون عاقلاً فاهماً، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا يعقل ولا يفهم محال، كالجماد والبهيمة[93].(/10)
وشبيه بالجماد والبهيمة: المجنون والصغير الذي لا يميز، فهذان وإن وجد لهما أصل الفهم لأصل الخطاب، فليس عندهما فهم لتفاصيل الخطاب: من كونه أمراً أو نهياً، ومفضياً للثواب والعقاب، ومن كونه الآمر به هو الله تعالى، وأنه واجب الطاعة.
فلما تعذر ذلك من المجنون والصغير استحال تكليفهما. أما الصبي المميز – وإن كان له فهم – فإن فهمه غير كامل، ومن رحمة الله تعالى أنه لم يكلفه حتى يكتمل عقله[94].
ولما كان العقل والفهم خفيين، ولا يظهران دفعة واحدة، بل يبدوان على التدريج، فقد جعل الشارع ضابط العقل، وفي الحديث: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون – المغلوب على عقله – حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم))[95].
ولما كان النائم والناسي والغافل، لا يتأتى منهم الفهم كانوا غير مكلفين حال اتصافهم بذلك، لأن القصد لا يتأتى منهم في هذه الأحوال.
((ووجوب الزكاة والغرامات في مال الصبي والمجنون ليس تكليفاً بهما، وإنما معناه أن الإتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمتهما، بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالإدلاء في الحال، وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ، وهذا ممكن))[96].
المبحث الرابع
قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة
إن المقصد الشرعي من وضع الشريعة إنما هو إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبدالله اضطرارياً، فقد خلق العباد لعبادته سبحانه، والدخول تحت أمره ونهيه، ومن ذلك قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}[97].
وغير ذلك من الآيات القرآنية الدالة على وجوب الرجوع إلى الله في جميع الأحوال، والانقياد إلى أحكامه على كل حال. ومن ذلك ما دل على ذم مخالفة هذا القصد، ومن النهي عن مخالفة أمر الله، وذم من أعرض عن الله وإيعادهم بالعذاب العاجل والآجل، من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات، وأصل ذلك اتباع الهوى، والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة:(/11)
ولما تقدم يقرر أهل العلم:
1 - أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق، من غير الالتفات أو التخيير، فهو باطل بإطلاق، لأنه – حينئذ – لا مقتضى إلا الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق، لأنه خلاف الحق.
2 - أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم، وإن جاء في ضمن المحمود، لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيث زاحم مقتضى الشريعة في العمل كان مخوفاً، لأنه، سبب تعطيل الأوامر، وارتكاب النواهي، ولأنه إذا اتبع واعتيد، ربما أحدث في النفس ولها ضراوة وأنساً به، حتى يسري معها في أعمالها.
3 - أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة آل بها على أغراضه، فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه، ومن اتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيراً[98].
المقاصد الشرعية ضربان:
الأول: مقاصد لا حظَّ فيها للمكلف، وهي المقاصد الأصلية، وإنما كانت بحيث لا حظ فيها للعبد لأنه قيام مصالح عامة مطلقة، لا تختص بحال دون حال، ولا بصورة دون صورة، وهي إما عينية، تجب على كل مكلف في نفسه، إذ هو مأمور بحفظ دينه اعتقاداً وعملاً، وبحفظ نفسه قياماً بضرورية حياته وبحفظ عقله حفظاً لمورد الخطاب من ربه إليه، وبحفظ نسله التفاتاً إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار، ودعياً له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة.
وإما كفائية من حيث كونها منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين، لتستقيم الأحوال العامة التي تقوم الخاصة بها، وهو قيام بمصالح عامة لجميع الخلق، والقائمون على الكفائي ممنوعون من جلب الحظوظ لأنفسهم، كمنصب القضاة وأهل الفتوى، لأن ذلك مما للناس فيه مصلحة، ويؤدي إلى مفسدة تضاد حكمة الشريعة.(/12)
ب – المقاصد التي روعي فيها حفظ المكلف، وهي مقاصد تابعة، وهي التسببات المتنوعة التي لا يلزم المكلف أن يأخذ بشيء خاص منها، بل وكل اختياره يتعلق بما يميل إليه، ومن هذه الجهة يحصل للمكلف مقتضى ما جلب عليه من نيل الشهوات، والاستمتاع بالمباحات، وسد الخلات... وغيرها[99].
إن العمل إذا وقع على وفق المقاصد الشرعية الأصلية، بحيث تمت رعايتها في العمل فإن العمل صحيح وسليم مطلقاً، لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع، لأن هذه المقاصد راجعة إما إلى الأمر والنهي، وهي حينئذ طاعة للآمر وامتثال لما أمر، وإما إلى ما فهم من الأمر فهو – حينئذ – وسيلة وسبب إلى الوصول إلى حاجة المكلف، فهو عمل بمحض العبودية[100].
قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع، إذ الشريعة موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع، ولأن المكلف خلق لعبادة الله، وذلك راجع إلى العمل وفق القصد في وضع الشريعة، لنيل الجزاء في الدنيا والآخرة إذا قصد الشارع المحافظة على الضروريات، وما رجع إليها من الحاجي والتحسين[101].
كل مكلف بمصالح نفسه، فليس على غيره القيام بمصالحه من الاختيار، وكل مكلف بمصالح غيره، فإن كان – ذلك – قادراً على القيام بمصالح نفسه الدنيوية المحتاج إليها، فليس على غيره القيام بمصالحه، وإن لم يكن قادراً على ذلك البتة، أو قدر لكن مع مشقة كانت المصالح المتعلقة بالغير خاصة، سقطت تلك المصالح الخاصة، وكانت مصالحه هي المقدمة، وإن كانت المصلحة عامة فعلى من تعلقت بهم المصلحة أن يقوموا بمصالحه، وعلى وجه لا يخل بأصل مصالحهم، ولا يوقعهم في مفسدة تساوي تلك المصلحة[102].
الباب الأول
أهمية المقاصد وأثرها والأدلة على اعتبارها
الفصل الأول
أهمية المقاصد:
وفيه ثلاثة مباحث:(/13)
المبحث الأول: الأدلة على اعتبار المقاصد والنيات في العبادات والتصرفات والأدلة على ذلك كثيرة منها[103].
أولاً – الأدلة القرآنية:
عندما يتناول الباحث معجم ألفاظ القرآن، ويبحث عن لفظ ((قصد)) و((نية)) فإنه لا يعثر للكلمة الثانية على وجود في كتاب الله، وما يجده من كلمات اللفظة الأولى قليل.
وقد يظن الباحث أن القرآن الكريم لم يتحدث عن المقاصد، ولم يعن بالنيات من أجل ذلك، وهذا قصور نظر، فالقرآن فصَّل القول في هذه المسألة تفصيلاً، لأنها أصل الدين وأساس الاعتقاد، إلا أن القرآن له في هذا المجال تعبيرات تخصه أطلقها على المعنى الذي تعنيه من القصد والنية.
وبالتأمل في آيات الكتاب نجد أن الآيات التي تتحدث عن الإرادة والإخلاص، وقد يعبر القرآن عن النية والقصد بلفظ ((الابتغاء)).
فمن النصوص القرآنية التي تتحدث عن القصد والنية بلفظ الإرادة قوله تعالى: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}[104]. وقوله سبحانه: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}[105]. والمتأمل في هذين النَّصين يدرك أن المراد بالإرادة هنا القصد والنية، والنصوص في ذلك كثيرة.
والآيات القرآنية الآمرة بالإخلاص والحاثة عليه كثيرة أيضاً، كقوله تعالى: {فاعبد الله مخلصاً له الدين}[106]. وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}[107].
وقد استدل العلماء بهاتين الآيتين، وأمثالهما على وجوب النية في العبادات، فإن الإخلاص عمل القلب، وهو الذي يراد به وجه الله تعالى[108].
ويرى فريق من العلماء أن الأحاديث التي حث الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيها على إصلاح النية وتصنيفها استقاها – صلى الله عليه وسلم – من مثل قوله تعالى: {وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}[109].
وقد فسر جملة من أهل العلم الشاكلة في قوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته} بالنية[110].(/14)
والآيات الناهية عن الشرك تدل دلالة أكيدة على وجوب تصفية النية وإصلاحها كقوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}[111].
وعبر القرآن عن النية والقصد بلفظ ((الابتغاء)) كما في قوله تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}[112]. وقوله: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم...}[113].
ودلالة الآيتين على المراد واضحة، فالممدوح في الآية إنما يفعل ما يفعل من خيرات وإسداء للمعروف طلباً لرضوان الله، فلا يجازي جميلاً أسدي إليه ولا معروفاً صنع له.
وفي الآية الثانية مديح للذين يبذلون أموالهم طالبين رضوان الله تعالى، فالاتفاق كما أمر الله ليطفئ غضب الرب كما يطفئ الماءُ النار ويجلب رضوان الله[114].
ثانياً – الأحاديث:
وعمدة الأحاديث النبوية الحديث الذي يرويه أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب[115] رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))[116].
وهذا الحديث يدل على أن الأعمال لا تصح شرعاً ولا تعتبر إلا بالنية، وأن النية هي الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح وكلمة ((إنما)) وضعت للحصر، فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه، فدلالتها: أن العبادة إذا صحبتها النية صحت وإذا لم تصحبها لم تصح، ومقتضى حق العموم فيها يوجب ألا يصح عمل من الأعمال الدينية: أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها قليلها وكثيرها، إلا بنية[117].(/15)
وظاهر الحديث ينفي وجود ذوات الأعمال التي تخلو من النية، وبما أن أعيان الأفعال الخالية من النية موجودة في واقع الأمر فقد قرر كثير من الفقهاء[118] أن هذا الظاهر غير مراد، وأوجبوا تقدير محذوف، كي يستقيم الكلام، ثم إن بعض هؤلاء قدروا المحذوف ((صحة الأعمال)) وبعضهم قدره: ((كمال الأعمال)) ذلك لأنهم رأوا أن بعض الأعمال لا تشترط في صحتها النيات كقضاء الحقوق الواجبة من الغصوب والعواري والديون، فإن مؤديها تبرأ ذمته منها، وإن يكن له في ذلك نيه شرعية، بل تبرأ عنها من غير نيه.
وحجة الذين ذهبوا إلى تقدير الصحة أن نفي الصحة يشبه نفي الشيء نفسه، لأن اللفظ يدل بالتصريح على نفي الذات، وبالتبع على جميع الصفات، فلما منع الدليل دلالته على نفي الذات بقي دلالته على نفي جميع الصفات[119].
والذي يظهر لي أن الحديث لا يحتاج إلى تقدير، لأن المراد بالأعمال: الأعمال الشرعية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرع. فالحديث يدل على أن الأعمال الشرعية توجد وتكون بالنيات، فإذا انتفت النيات من الأعمال انتفت الأعمال الشرعية، هذا رأي نسبه صاحب دليل الفالحين إلى بعض المحققين، وارتضاه، قال:
"والأقرب – كما قال بعض المحققين، إنه لا حاجة لتقدير في الخبر، وليس فيه دلالة اقتضاء، بل اللفظ باق على مدلوله من انتفاء الأعمال بانتفاء النية، لكن شرعاً، إذ الكلام فيه، والتقدير إنما وجودها كائن بالنية، فإذا انتفت انتفى العمل، ونفي الحقيقة إنما ينتفي شرطها أو ركنها، فيفيد مذهبنا وجوبها في كل عمل إلا ما قام الدليل على خروجه، والعام المخصوص حجة"[120].
ثالثاً – القصد إلى الفعل أمر ضروري:(/16)
ومما يدل على اعتبار القصود في العبادات والتصرفات أن الأفعال الاختيارية لا تصدر من الإنسان إلا بقصد وإرادة، وقد أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن ((أصدق الأسماء حارث وهمام))[121] لأنهما يصدقان على كل إنسان حي فكل إنسان حارث أي كاسب عامل، وكل إنسان همام، أي دائم الهمّ والإرادة لما يفعله[122].
وقد اعتبر ابن الهمام[123] أن الفعل الاختياري لابد في تحقيقه من القصد إليه، وعدّ ابن تيمية القصد إلى الفعل أمراً ضرورياً في النفس ولو كلف العباد أن يعملوا عملاً بغير نية كلفوا ما لا يستطيعون[124].
رابعاً – عدم اعتبار الشارع للأفعال التي وقعت من غير قصد:
الأعمال الصادرة من المجنون والمعتوه والمخطئ والساهي والغافل والنائم لا يعتد بها إن كانت طاعات، ولا يعاقب عليها إن كانت معاصي، فالذي يستمع القرآن بغير قصد الاستماع لا يثاب على استماعه والسامع للمحرم من الكلام من غير قصد لا عقوبة عليه. ومن أكل أو شرب ناسياً وهو صائم فصومه صحيح.
والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة متوافرة منها:
1 - وقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}[125].
وعندما نزلت هذه الآية من آخر سورة البقرة دعا الصحابة بها ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) قال الله ((نعم)) أو: ((قد فعلت))[126].
2 - وقد نص الرسول – صلى الله عليه وسلم – على عدم مؤاخذة من ليس له قصد، فعن ابن عباس[127] رضي الله عنهما قال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))[128].(/17)
3 - عن أنس بن مالك[129] رضي الله عنه يرفعه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته فبينما هو كذلك، فإذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح))[130].
4 - والناطق بكلمة الكفر مكرهاً، وقلبه مطمئن بالإيمان، لا يؤاخذه الله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}[131] والنصوص في ذلك كثيرة جداً.
خامساً – النية سر العبودية وروحها:
يقول ابن حزم[132] رحمه الله في هذا:
"النية سر العبودية وروحها ومحلها من العمل محل الروح من الجسد، ومحال أن يعتبر في العبودية عمل لا روح له معه، بل هو بمنزلة الجسد الخراب"[133].
والحق الذي يشهد له الكتاب والسنة أن المأمور بالتكاليف الشرعية هو النفس الإنسانية وما الجسد إلا آلة لها، فإذا كانت فاقدة للعمل الذي أمرت به – وهو الإخلاص والنية – كان العمل الذي يقوم به البدن ضرباً من العبث والضلال[134].
سادساً – القصود تميز العبادات، كما تميز رتب العبادات:
فمن تمييزها العبادات عن العادات:
– الغسل: فإنه مردد بين ما يفعل قربة إلى الله، كالغسل من الأحداث، وما يفعل لأغراض العباد من التبرد، والتنظيف وإزالة الأقذار فلما تردد بين هذه المقاصد وجب تمييز ما يفعل لرب الأرباب عما يفعل لأغراض العباد.
– دفع الأموال: مردد بين أن يفعل هبة، أو هدية، أو عطية، وبين ما يفعل قربة إلى الله كالزكاة والصدقات.
– حضور المساجد: قد يكون للراحات أو الصلوات والقربة بالحضور فيها زيارة للرب سبحانه وتعالى. وغيرها كثير[135].
ومن تمييزها رتب العبادات[136].(/18)
1 - الصَّلاة: فالصلاة تنقسم إلى فرض، ونفل. والنفل ينقسم إلى راتب، وغير راتب. والفرض ينتسب إلى منذور وغير منذور، وغير المنذور ينقسم إلى ظهر وعصر ومغرب وعشاء وصبح، وإلى قضاء وأداء، فيجب في النفل أن يميز الراتب عن غيره بالنية، وكذلك تميز صلاة الاستسقاء عن صلاة العيد، وكذلك الفرض تمييز الظهر عن العصر، والمنذورة عن المفروضة بأصل الشرع.
2 - وفي العبادات المالية تميز الصدقة الواجبة عن النافلة، والزكاة عن المنذورة والنافلة.
3 - وفي الصوم تميز صوم النذر عن صوم النفل، وصوم الكفارة عنهما، وصوم رمضان عما سواه.
4 - وفي الحج تميز الحج عن العمرة، والحج المفروض عن المنذور والنافلة.
سابعاً – تأثير النية في الأعمال:
النية يؤثر في الفعل، فيصير تارة حراماً، وتارة حلالاً، وصورته واحدة، كالذبح مثلاً، فإنه يحل الحيوان إذا ذبح لأجل الله، ويحرم إذا ذبح لغير الله، والصُّورة واحدة.
وكذلك القرض في الذمة، وبيع النقد بمثله إلى أجل، صورته واحدة، والأول قربة صحيحة، والثاني معصية باطلة[137].
المبحث الثاني
الاعتراضات الواردة على أن المقاصد وإن اعتبرت على الجملة فليست معتبرة بإطلاق والجواب على ذلك:
أورد الشاطبي بعض الأدلة التي تدل على أن المقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات، ثم أورد على نفسه دليلين يدلان على أن المقاصد وإن اعتبرت على الجملة فليست معتبرة بإطلاق وفي كل حال، ثم أجاب عما أورده.(/19)
الأول: الأعمال التي يجب الإكراه عليها شرعاً، فإن المكره على الفعل يعطي ظاهرة أنه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع، إذ لم يحصل الإكراه إلا لأجله، فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه فهو غير قاصد لفعل ما أمر به، لأن الغرض أن العمل لا يصح إلا بالنية المشروعة فيه، وهو لم ينو، إذ لم يصح كان وجوده وعدمه سواء فكان يلزم أن يطالب بالعمل ثانياً، ويلزم في الثاني ما لزم في الأول، ويتسلسل، أو يكون الإكراه عبثاً وكلاهما محال، أو يصح العمل بلا نية، وهو المطلوب[138].
وقد نص الفقهاء في أمور عدة على ما قرره الشاطبي هنا، فقد نص الشافعي[139] على أن للوالي أن يأخذ الزكاة من أهلها، ولو لم يكن لهم نية في دفعها إليه، ويقول الشافعي في هذا الصدد:
"وإذا أخذ الوالي من رجل زكاة بلا نية من الرجل في دفعها إليه أو بنية طائعاً كان الرجل أو كارهاً، ولا نية للوالي الآخذ لها في أخذها من صاحب الزكاة أو له نية فهي تجزئ عنه"[140].
وهذا الذي قرره يقول به جماهير العلماء، يقول الماوردي[141] من الحنابلة:
"لا يجوز إخراج الزكاة إلا بنيَّة، إلا أن يأخذها الإمام قهراً، فإنه تجزي عن ربها على الصحيح من المذهب"[142].
ثانياً: الاعتراض الثاني الذي أورده الشاطبي مما يستدل به على أن المقاصد لا تعتبر في كل فعل: أنَّ الأعمال ضربان: عادات وعبادات، فأما العادات فقد قال الفقهاء: إنها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نية، بل مجرد وقوعها كاف كرد الودائع والغصوب والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها.
وأما العبادات فليست النية مشروطة فيها بإطلاق أيضاً، بل فيها تفصيل وخلاف وخوف بين أهل العلم في بعض صورها.
فقد قال جماعة من العلماء بعدم اشتراط النية في الوضوء، وكذلك الصوم والزكاة، وهي عبادات، وألزموا الهازل العتق والنذر، كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة.(/20)
وذكر أن مذهب مالك فيه فرض النية في الصوم في أثناء اليوم ولم يفطر أنَّ صومه صحيح.
ومما أورده أيضاً أن من الأعمال ما لا يمكن فيه الامتثال عقلاً، وهو النظر الأول المفضي إلى العلم بوجود الصانع والعلم بما لا ينم عن الإيمان إلا به، فإن قصد الامتثال فعلى حسب ما قرره العلماء[143].
وقد أجاب الشاطبي رحمه الله عن هذه الاعتراضين بوجهين:
الوجه الأول: إجمالي بين عموم القاعدة، وعدم جواز تخلفها بحال.
والثاني: إجابة تفصيلية عن آحاد المسائل التي وردت في الاعتراض.
والوجه الأول بين فيه أن المقاصد ضربان:
ضرب هو من ضرورة كل فعل مختار ومن حيث هو مختار، وهنا يصح أن يقال: أن كل معتبر بنيته شرعاً قصد به امتثال أمر الشارع أولاً، وتتعلق إذاً الأحكام التكليفية به وعليه يدل ما تقدم من الأدلة، فإن كل فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضاً من الأغراض حسناً كان أم قبيحاً، مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، أو غير مطلوب شرعاً، فلو فرضنا العمل مع عدم الاختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك فهؤلاء غير مكلفين، لا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة، فليس هذا النمط بمقصود للشارع فبقي ما كان مفعولاً بالاختيار لابد فيه من القصد، وإذا تعلقت به الأحكام، ولا يتخلف عن هذه الكليَّة عمل البتة.
وعلى هذا فكل ما أورده الشاطبي في الاعتراضات لا يعدو هذين القسمين: فإنه إما مقصود كان قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل أو غير ذلك، فينزل على ذلك الحكم الشرعي بالاعتبار وعدمه، وإما غير مقصود فلا يتعلق به حكم على حال، وإن يتعلق به حكم فمن باب خطاب الوضع لها، فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة، وإن صححنا صومه فمن جهة خطاب الوضع كأن الشارع جعل نفس الإمساك سبباً في إسقاط القضاء أو في صحة الصوم شرعاً. لا بمعنى أنه مخاطب به وجوباً[144].(/21)
ثم تحدث الشاطبي عن الضرب الثاني: والضرب الثاني المقاصد التي هي من ضرورة التعبديات من حيث هي تعبديات فإن الأعمال كلها الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلا بالقصد إلى ذلك.
وهذا في الأمور التعبدية واضح وفي العاديات لا تكون تعبديات إلا بالنيات.
ثم بيَّن أنه لا يتخلف عن ذلك من الأعمال شيء إلا النظر الأول، لعدم إمكانه، لكنه – في الحقيقة – راجع إلى أن القصد التعبدي فيه غير متوجه عليه، فلا يتعلق به الحكم التكليفي كلية، بناءً على منع التكليف بما لا يطاق لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله، بخلاف قصد التعبد بالعمل فإنه محال، فصار في عداد ما لا قدرة عليه، فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعاً[145].
وأهم هذه الاعتراضات أن الحاكم ملزم شرعاً بإكراه الناس، فكيف يجزئ عن المكره الفعل مع أنه لا قصد له؟.
وفي الجواب نحبُّ أن نفرق بين أمرين:
الأول: أن العبادات من حيث هي أفعال صادرة من المكلفين لا تجزئ عنهم ما لم يؤدوها بقصد نابع من ذوات أنفسهم، فإن لم يؤدوها كذلك فلا تجزئ عنها بحال.
وقد نقل ابن تيمية[146] الإجماع على أن الذي يؤدي العبادة خوفاً من الضرب أو من السلطان، أو تقليداً للآباء والأجداد لا تقبل منه[147].
وقد قال الله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}[148] فقد نص في هذه الآية على عدم قبول الصدقة من الكاره. وقد نص فقهاء الأحناف أن المعتمد في المذهب عدم إجزاء أخذ الإمام الزكاة كرهاً، وإذا أخذت كرهاً لا يقع عن الزكاة، لكونها بلا اختيار[149].
ويقول الشاطبي:
"وما افتقر منه إلى نية التعبد فلا يجزئ فعلها بالنسبة إلى المُكْره في خاصة نفسه، حتى ينوي القربة"[150].(/22)
الثاني: أن من واجب الدولة الإسلامية أن تقيم شرع الله، فإن امتنع بعض الرعية عن أداء الواجبات التي كلفهم الله بها، كالصلاة، والزكاة، والصوم، فمن واجبها إجبارهم على أدائها بالقوة، قال تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}[151]، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذلك ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها))[152].
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أمر بقتال الناس حتى يؤدوا هذه التكاليف ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله))[153].
وواضح من النص الكريم أن عدم إقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة يبيح سفك دمائهم من قبل الحاكم، ومن هنا همّ الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت الذين لا يشهدون الجمع والجماعات، والهمّ لا يكون إلا لتركهم واجباً.
هذا واجب الدولة الإسلامية أن تجبر بالقوة هؤلاء الذين يتهربون من أداء الواجبات، شاؤوا أم أبوا، وهذا يكفينا منهم، إذ لنا ظواهر الأمور، ولا نطالبهم بأكثر من هذا في الدنيا، أمّا في الآخرة فلا خلاق لهم ما لم يؤدوها بنفس رضية إيماناً واحتساباً[154].
يقول الشاطبي في هذا الموضوع:
"لكن المطالبة تسقط عنه في ظاهر الحكم، فلا يطالبه الحاكم بإعادتها، لأن باطن الأمور غير معلوم للعباد فلم يطالبوا بالشق عن القلوب"[155].
ويشكل على هذا ما ذهب إليه الشافعي من أن المكره على أداء الزكاة من قبل الحاكم تجزي الزكاة عنه ولو أمكننا أن نفهم عنه أن هذا الإجزاء في ظاهر الأمر في الدنيا لما كان هناك إشكال[156]، لكنّه في موضع آخر يبين أن الإجزاء الذي يريده في الدنيا والآخرة، لأنه فرق بين الصّلاة والزكاة في هذا الجانب، يقول في الأمّ:(/23)
"وإن ما منعني أن أجعل النية في الزكاة كالنية في الصلاة لافتراق الصّلاة والزكاة في بعض حالهما، ألا ترى أنه يجزئ أن يؤدي الزكاة قبل وقتها، ويجزيه أن يأخذها الوالي منه بلا طيب نفسه، فتجزئ عنه، وهذا لا يجزئ في الصّلاة"[157].
وقد حاول بعض العلماء توجيه قول الشافعي هذا زاعماً أن الشافعي يرى عدم وجوب النية في الزكاة، لأنها شبيهة بالغرامات المالية.
وهذا زعم مرفوض، ولا أساس له من الصحة فضلاً عن أن يكون له دليل، فإن الشافعي رحمه الله ينص على وجوبها، فهو يقول:
"لما كان في الصدقة فرض وتطوع، لم يجز – الله أعلم – أن يجزئ عن رجل زكاة يتولى قسمها إلا بنية أنه فرض"[158].
وقد علل ابن حجر[159] سبب الإجزاء الذي يدل عليه كلام الشافعي أن السلطان قائم مقام صاحب المال[160]. والذي يترجح – والله أعلم بالصواب – أن الشافعي لا يرى أن المكره الذي يمتنع من أداء الزكاة أصلاً يجزئ ذلك عنه وإنما مراده به هنا ذلك الرجل الذي يريد الزكاة ولكنه لا يريد أداءها إلى الحاكم بسبب ظلمه أو لأنه يريد توزيعها بنفسه[161].
وممن قال بعدم إجزاء الزكاة ممن أخذت منه قهراً فقهاء الأحناف، وجمع من الحنابلة منهم ابن عقيل[162]، والشيخ تقي الدين[163] وقال هذا هو الصواب[164].
أمّا الجزئيات التي أوردها الشاطبي في الاعتراض الثاني، فالجواب عنها عن وجوه:
الأول: ليس معنى أن يخالف بعض العلماء في هذه الأمور أن تنخرم القاعدة بقولهم هذا.
الثاني: أن بعض الذين قالوا بعدم وجوب النية في بعض الأفعال عدوا هذه الأفعال من العاديات التي لا تلتزمها النيات كأداء الديون، ورد المغضوب والودائع، فالعبد يبرأ بمجرد الردّ.(/24)
الثالث: أن من قال: إن الهازل يلزمه مقتضى قوله: ليس من باب عدم الاعتداد بالقصد والنية، ولكن عقوبة له بسبب هزله في هذه الأمور الخطيرة التي لا تصلح مجالاً للهزل. وكثير من الفقهاء يرى أن هذا من باب خطاب الوضع فالتفريق بين الزوجين (سببه) لفظ الطلاق فليس في الأمر (على هذا القول) عقوبته أصلاً[165].
المبحث الثالث
فضل المقاصد وعظيم خطرها
1 – يبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله:
إن السبب في قلة الإرادة التي نستطيع تحقيقها: أن الأعمال التي نروم تحقيقها لا تتوقف على مجرد إرادتنا لها، فهنالك حوائل ذاتية وخارجية تمنعنا من تحقيق ما نعزم على فعله وقد تضعف عن تحقيق المراد بسب عظم المراد كما قال الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً = تعبت في مرادها الأجسام
وقد يمنع المرء من تحقيق مراده مرض مسهد، أو هرم مقعد، أو فقر مجهد، أو عدو قاطع للطريق، أو ظالم يحبسه في داره.
وهذه الموانع والحوائل الذاتية والخارجية لا تمنع النية من التحقق والوجود، إذ النية طليقة من القيود التي تكبل الأجساد، فالنية عمل القلب، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه.
ولذا فإن العبد الذي ينوي نية ولا يستطيع تنفيذها في الواقع ينال ثواب الناوي الفاعل لما نوى، ففي الحديث ((من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه))[166].
وتوفى أحد الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد تجهز للخروج في قتال الكفار، فقالت ابنته متحسرة ((إن كنت لأرجو أن تكون شهيداً، قد كنت قضيت جهازك)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قد أوقع الله أجره على قدر نيته))[167].(/25)
وتخلف رجال في غزوة تبوك، كانوا يتحرقون شوقاً إلى صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك المعركة، ولكن حبسهم العذر، بعضهم لم يكن عنده الزاد والراحلة، ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم – ما يحملهم عليه، وبعضهم لعله كان مريضاً ومنهم من تخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلي شؤون المدينة، ويقوم على حمايتها، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين كانوا معه في تلك الغزوة أو أولئك المتخلفين المعذورين يشاركونهم في الأجر، ونص كلامه – صلى الله عليه وسلم ((إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر))[168].
وقد أشار القرآن إلى مساواة أصحاب الأعذار للمجاهدين إذا منعم الضرر من المسير والحرب، قال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم}[169].
وقد نزلت هذه الآية كما يقول ابن كثير أولاً ((أولي الضرر)) وكان عبدالله بن أم متكوم قريباً من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أنا ضرير، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فنزلت ((غير أولي الضرر))[170].
فالآية كما يقول ابن كثير، ويرويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: تدل على أن ((أولي الضرر)) يساوون المجاهدين ما دام الضرر قاهراً، والنية مستقرة في القلوب[171].
والعبد الذي ينوي استدامة عبادة من العبادات كصلاة الليل، أو صيام أيام من كل شهر أو من كل أسبوع، ثم يغلبه على هذه العبادة، أمر ما. كأن يغلبه النوم، أو يشغله السفر، أو المرض، يكتب له ما كان يعمله ((فعن عائشة[172] رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم، إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه))[173].
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي الأشعري[174] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له بمثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً))[175].(/26)
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ابتلي المسلم ببلاء في جسده، قيل للملك: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه))[176].
2 – الخلود في الجنة أو النار بالنيات:
هناك شبهة تقول: لِمَ يعذب الله الكافر بالخلود في النار مرداً لا نهاية لها مع أن العدل يقتضي أن يعذبه بمقدار المدة التي كفرها؟ ولِمَ يخلد المؤمن في الجنة، مع أنه لم يؤمن ولم يطع إلا مدة معلومة محددة من الزمان؟
قال أئمتنا رضي الله عنهم: السبب في ذلك أن المؤمن يخلد في الجنة لأنه ينوي أن يطيع الله أبداً، ولذلك جوزي بالخلود في الجنة.
والكافر كان – في الدنيا – عازماً على الكفر أبداً، وإن لم يعص الله إلا مدة حياته، ومما يدل على تصميم الكافر على الكفر أبداً، قوله تعالى في الكفرة الذين يطلبون العودة إلى الدنيا كي يؤمنوا {ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنهم لكاذبون}[177].
3 – الأعمال البدنية قد تتوقف بخلاف النية:
قد تتوقف بعض الأعمال البدنية المطلوبة شرعاً كالهجرة، وذلك عندما ينتشر الإسلام وتصبح كلمة الله هي العليا، وكصلة الأرحام إذا لم يكن للمرء رحم يصله، ولكن نية عمل الخير باقية دائمة لا تتوقف أبداً، بقوله عليه الصلاة والسلام ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية))[178].
وذكر الغزالي[179] عن أحد الذين كانوا يعنون بفعل الخير، أنه كان يطوف على العلماء يقول:
"من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملاً لله تعالى، فإني لا أحب أن يأتي عليَّ ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله، فقيل له قد وجدت حاجتك، فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهمّ بفعله (أو بعمله)، فإن الهمَّام بعمله كعامله"[180].
4 – قاصد فعل الخير يثاب وإن لم يصب المراد:
إذا قصد البعد فعل خير شرعه الله، إلا أنّ هذا الفعل لم يقع الموقع المناسب فإن صاحبه يثاب بقصده ونيته.(/27)
ويروي البخاري[181] في صحيحه عن معن بن يزيد[182] قال: كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها على رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن))[183] فالأب لم يقصد توجيه المال الذي أخرجه إلى ابنه، ولكن الله أثابه بنيته الصالحة، وكتب له الأجر وإن عاد المال إليه.
وأوضح من هذا ما حدثنا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم عن رجل صالح من الأمم الماضية قال صلى الله عليه وسلم: ((قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، قال: اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني! لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني وعلى سارق! فأُتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق يستعف بها عن سرقته))[184].
5 – اهتمام العلماء بأمر النيات:
النيات تشكل مباحث مهمة في علم: الأخلاق، والفقه والأصول، والتوحيد، واعتنى بها شراح الحديث ومفسرو القرآن الكريم.
وقد اعتنى علماؤنا بحديث ((إنما الأعمال بالنيات)) وتواتر النقل بعموم نفعه، وعظم موقعه، قال أبو عبيد:
"ليس في الأحاديث أجمع ولا أغنى ولا أكثر فائدة".
واتفق العلماء أمثال الشافعي وأحمد وابن المديني[185]، وأبو داود[186] والدارقطني[187]، والبيهقي[188] وغيرهم على عدّه ربع الإسلام أو نصفه.(/28)
والذي يلفت النظر أن العلماء وإن اختلفوا في تحديد الأحاديث التي هي قواعد الإسلام، ومدار الدين، وفي تعليل كونها كذلك، إلا أنهم اتفقوا جميعاً على أن حديث ((إنما الأعمال)) أحد قواعد الإسلام، وأصل من أصوله[189]، بل هو كما يقول النووي ((أعظم هذه الأحاديث))[190].
وهذا الحديث من جوامع الكلم، وهو يدخل في غالب مسائل الفقه وأبوابه، فابن مهدي[191] ويرى أنه يدخل في ثلاثين باباً من أبواب العلم، أما الشافعي فإنه يرى أن ((حديث النية يدخل في سبعين باباً من الفقه، وما ترك لمبطل ولا مضار ولا محتاج حجة إلى لقاء الله تعالى))[192].
وقد أخطأ الذين ظنوا أن الشافعي أراد المبالغة عندما قال:
"إن هذا الحديث يدخل في سبعين باباً[193] ، ولا أدل على خطئهم من الإحصاء الذي قام به السيوطي[194] ، وفعل مثله المناوي[195] ، فقد عدَّ مسائل الفقه التي للنية فيها مدخل فنافت على السبعين"[196].
وقال النووي بحق:
"لم يرد الشافعي – رحمه الله – انحصار أبوابه في هذا العدد فإنها أكثر من ذلك"[197].
وقال قال السيوطي في آخر قاعدة الأمور بمقاصدها:
"اشتملت هذه القاعدة على عدة قواعد كما تبين ذلك وقد أتينا على عيون مسائلها، وإلا فمسائلها لا تحصى، وفروعها لا تستقصى"[198].
وبين ابن دقيق العيد[199] السبب في دخول حديث ((إنما الأعمال)) في مسائل كثيرة ((كل مسألة خلافية حصلت فيها نية فلك أن تستدل بهذا على حصول المنوي، وكل مسألة خلافية لم تحصل فيها نية فلك أن تستدل بهذا على عدم حصول ما وقع فيه النزاع))[200].
6 – البداءة به في المهمات:
ومن تعظيم العلماء لهذا الحديث أن رغبوا في البداءة به في خطب الدفاتر والمنابر، وفي مجالس الدرس والوعظ.
يقول أبو سعيد عبدالرحمن بن مهدي رحمه:
"لو صنفت كتاباً بدأت في أول كل باب منه بحديث ((إنما الأعمال))".
وأوصى[201] – رحمه – بذلك فقال:
"من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث"[202].(/29)
ومما يشهد لذلك أن عمر بن الخطاب بهذا الحديث على المنبر في المدينة، وذكر المناوي: أن الخلفاء الأربعة خطبوا به على المنابر[203]، فلما صلح أن يخطبوا به على المنابر، صلح أن يجعل في خطب الدفاتر.
وممن عمل بوصية ابن مهدي الإمام البخاري – رحمه الله – فإنه بدأ جامعه الصحيح بحديث ((إنما الأعمال بالنيات)) ومنهم تقي الدين عبدالغني المقدسي[204] في كتابه عمدة الأحكام، فقد شرح هذا الكتاب ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام.
7 – العمل بغير نية كالجثة الهامدة التى لا روح فيها:
لا يقبل العمل الذي يتقرب به إلى الله إلا بأمرين:
الأول: أن تبعث على العمل نية صالحة صادقة.
الثاني: أن تكون صورة العمل الظاهر مشروعة، غير مبتدعة.
وفي هذا يقول ابن مسعود[205] رضي الله عنه: ((لا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول وعمل إلا بنية، ولا ينفع قول وعمل ونية إلا بما يوافق السنة))[206].
والأمر الثاني لا قيمة له إذا فقد الأمر الأول.
فالعبادات التي يقوم بها المراؤون والمنافقون وعباد الدينار والدرهم وزرها عظيم، وحسابها شديد، وصدق الله إذ يقول: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً}[207]، وقال: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب}[208].
فالكفار والمنافقون والمراؤون، لا تنفعهم العبادات التي يقومون بها وذلك لأن نياتهم فاسدة غير صحيحة، فكان الجزاء من جنس العمل.
وفي يوم القيامة تكون النية هي المقياس الذي يحاسب العباد على أساسه ففي الحديث: ((أن جيشاً يغزو الكعبة، فيخسف الله بأولهم وآخرهم)). فقالت عائشة: يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم المكره...؟ فقال: ((يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم))[209].
8 – النيات تميز الأعمال:(/30)
قد يكون الفعل من أعظم الطاعات إذا قصد به صاحبه وجه الله تعالى، وقد يكون هذا الفعل من أعظم الذنوب عند الله إذا قصد به صاحبه غير وجه الله، كالناطق بالشهادتين يريد الإسلام حقاً فهذا بأفضل المنازل عند الله، وإذا نطق بها نفاقاً كان بشر المنازل عند الله جل جلاله.
والساجد لله فعله من أعظم القربات، والساجد لغير الله فعله من أعظم الذنوب، ومن ذبح لله فقد بر وأطاع، ومن ذبح لغير الله فقد خاب وخسر.
كذلك النيات تميز رتب العبادات، فالنية التي تميز راتبة العصر عن فرض العصر إذا صلاهما المصلي منفرداً وبها يتميز القضاء عن الأداء، والصدقة المستحبة عن الصدقة الواجبة، وهكذا سائر فرائض الإسلام ونوافله.
وكذلك تميز بين العبادات والعادات: فالإمساك عن الطعام والشراب والنكاح قد يكون طاعة وعبادة لله وحده لا شريك له إذا قصد به صاحبه القرب إلى الله والطاعة له، وقد يقصد منه مجرد الغذاء والعلاج، وكذلك غسل الوضوء فقد يكون قربة إذا نوى به صاحبه الدخول في طاعة الله وعبادته وحده، وقد يكون مجرد نظافة وعادة إذا لم يقصد صاحبه ذلك، وقد تكون النظافة عبادة إذا قصد صاحبها وجه الله وهو التخلص من الأقذار والأوساخ وعدم إيذاء المسلمين، ولأن الإسلام دين يدعو إلى النظافة، وهكذا.
فيلاحظ أن للنيات دوراً بارزاً ومهماً في تمييز الأعمال بعضها عن بعض، وكذلك العبادات. فسبحانه من مشرع عظيم.
الفصل الثاني
أثر المقاصد في الأعمال والتصرفات
المبحث الأول
تأثير القصد في المباحات
المباح هو: ما أذن الله في فعله وتركه، غير مقترن بذم فاعله وتاركه ولا مدحه[210].
والأمور المباحة ليست بقربات في نفسها، فالوقوف والجلوس والسير والأكل، والشرب، والنوم.. ونحو ذلك من المباح، وهي ليست من العبادات التي شرعها الله للتقرب بها.
وقد اختلف العلماء في الأمور المباحة، هل يمكن أن تتحول النية الصالحة إلى قربة وطاعة يثاب فاعلها؟.
قولان للعلماء في هذه المسألة:(/31)
القول الأول: أن المباح لا يتقرب به إلى الله تعالى، فلا معنى للنية فيه، وذهب إليه علماء المالكية، واختاره منهم الخطاب[211]، والقرطبي[212] في تفسيره.
يقول الحطاب في هذا:
"الشريعة كلها إما مطلوب أو مباح، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى فلا معنى للنية فيه"[213].
واحتج علماء المالكية بقوله تعالى: {وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها}[214] على أن الفعل بنية العبادة لا يكون إلا في المندوبات خاصة دون المباح، ودون المنهي عنه[215].
وردد القرطبي في تفسيره ما ذكره ابن العربي[216] عند تفسير القرطبي للآية السابقة فقال:
"ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب"[217].
وقد شعر القرطبي أن بعض الأفعال قد تشكل على بعض الناس هل يجوز التقرب بها أم لا، ولذلك نقل لنا ضابط عن ابن خويز منداد[218]، لتوضيح هذه المسألة.
قال: إذا أشكل ما هو بر وقربة فينظر إلى ذلك العمل فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون له قربة، وإن لم يكن فليس ببَّر ولا قربة، قال: جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال ((بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم – يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ((مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه))[219] فأبطل النبي – صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في الشريعة الإسلامية، وصحَّح ما كان قربة مما لم له نظير في الفرائض والسنن[220].
والقول الثاني: أن النية الخيرة تحول المباح إلى قربة يؤجر صاحبها.
يقول ابن الحاج[221] في المدخل:
"المباح ينتقل بالنية إلى الندب، وإن استطعنا أن ننوي بالفعل نية أداء الواجب كان أفضل من نية الندب"[222].(/32)
وذكر ابن القيم[223] أن خواص المقربين هم الذين انقلبت المباحات في حقهم إلى طاعات وقربات بالنية، فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين، بل أعمالهم راجحة[224].
التوفيق بينهما:
قد يبدو أن هناك تناقضاً بين الفريقين، إلا أن الناظر المتعمق يرى أن الذي نفاه الفريق الأول ليس هو الذي أثبته الفريق الثاني.
فالفريق الأول ينكر أن تكون المباحات عبادات وقربات في صورتها، وهذا حق، لا يجوز أن يخالف فيه أحد، ومن أراد أن يعبد الله بمثل هذه الأمور فقد تعب وأتعب، لأن استحضار النية في هذا متعسر.
ومن ينظر كتاب عوارف العوارف ينظر إلى الحالة التي وصل إليها الذين اتجهوا هذا الاتجاه الخاطئ، وعليه فكأن مراد أصحاب الفريق الأول أن المباحات لا يقصد التقرب بذواتها كما يتقرب بالصّلاة والزكاة[225] والله أعلم.
1 – المباح وسيلة للعبادات:
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"ينبغي ألا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على الطاعة"[226].
ويقول بعض العلماء:
"إذا قصد بالمباحات التقوِّي على الطاعات، أو التوصل إليها كانت عبادة، كالأكل والنوم، واكتساب المال.."[227].
وعليه فإذا أكل المسلم أو شرب أو نام بقصد التقوِّي على طاعة الله من صيام أو جهاد أو قيام، فهذا مثاب على هذه الأعمال بهذه النية.
وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد بن أبي وقاص[228]:
((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك))[229].
قال النووي – رحمه الله – معلقاً على الحديث:
"وضع اللقمة في في الزوجة يقع غالباً في حال المداعبة، ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر، ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله"[230].
وقال صاحب دليل الفالحين:(/33)
"وفيه أن الإنفاق على العيال يثاب عليه إذا قصد وجه الله به، وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة، ويثاب عليه إذا وضع اللقمة في فم امرأته إنما يكون في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع ذلك فقد أخبر الشارع بأن ذلك يؤجر عليه بالقصد الجميل، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا قصد به وجه الله. وأيضاً: أن الإنسان إذا فعل مباحاً من أكل أو شرب وقصد به وجه الله كالاستعانة بذلك على الطاعة، وبالنوم على قيام الليل يثاب عليه"[231].
ويقول السيوطي:
"ومن أحسن ما استدلوا به على أن العبد ينال أجراً بالنية الصالحة في المباحات والعادات قوله صلى الله عليه وسلم ((ولكل امرئ ما نوى)) فهذه يثاب فاعلها إذا قصد بها التقرب إلى الله، فإن لم يقصد ذلك فلا ثواب له.."[232].
2 – الأخذ بالمباح على أنه تشريع إلهي:
المؤمن المطبق للتكاليف الشرعية في جميع أقواله وأفعاله واعتقاداته، يكون ملتزماً بهذا الدين المتين، ولا يكون كالبهائم المسيبة التي ليس لها راعٍ يقودها، بل تمشي بهواها وبدون تفكير، بل يلجم هذا العبد بلجام هذا الشرع، ويسوس حركاته وأفعاله وأقواله ومعتقداته به، فإذا نظر إلى المباح هذه النظرة الثاقبة معتقداً أن الله عز وجل أباحه له. فالذي يأتي زوجه مثلاً لا شك أن هذا فعل مباح، ولكن إن قصد بذلك الفعل أن يعدل عما حرمه الله تعالى من الزنا واللواط – والعياذ بالله – إلى ما أباحه الله عز وجل، ويبغض التشدد والرهبنة بتحريم الطيبات {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون}[233].(/34)
ومما يشهد لهذا قوله – صلى الله عليه وسلم ((وفي بضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أليس كان في ذلك وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال له أجر))[234].
3 – المباح بالجزء مطلوب بالكل على جهة الندب أو الوجوب:
قد يكون الأمر مباحاً بالجزء ولكنه مطلوب بالكل، فالعبد إذا أجازت شريعتنا له أن يترك الطعام والشراب الذي به قوام الحياة، ويجهد نفسه في بعض الأحيان – مما لا تنفك عنه طبيعة البشر، إلا أن الشريعة تقف وبحزم ضد من يتمادى في ذلك حتى يهلك نفسه بسبب ذلك. ولذلك أوجب فقهاء الأمة على المضطر أن يأكل من الميتة التي حرم الله لغير الضرورة – وقالوا بأنه إذا لم يفعل فإن ذلك ولا شك فيه مستوجب للوعيد، لأنه قتل نفسه إذا هو امتنع عن الأكل حتى مات.
والذي ينظر في شريعتنا الغراء يجد مثلاً الصوم الذي هو صوم تطوع فمن ألزم نفسه صيام الدهر كله أو صيام داود قال أئمتنا رحمهم الله تعالى بأنه يجوز ذلك إذا لم يخف الضرر، فإذا كان هناك ضرر في دينه ومعاشه ودنياه وحصل من ذلك ضعف ظاهر وغير ذلك فإن تركه هو المتعين والأولى.
وكذلك فالعبد مأمور بالوطء عند حاجته إليه – لأنه كما هو معلوم أن النكاح يعتريه الأحكام الخمسة، مأمور نفس عقد الزواج إذا احتاج إليه وقدر عليه من حيث الباءة، وذلك من أجل عفافه وطهارته، وتحصين فرجه، وللبعد عن كل ما يؤدي إلى الوقوع في المحرم والعياذ بالله.
ولذلك فلو امتنع العباد عن الزواج مثلاً أو الصناعة وأمور المعاش كالتجارة فإنهم يعدون آثمين، وعليه فإذا تصرف المكلف بالمباح في ضوء هذا الفهم فلا ينعدم الأجر والمثوبة من رب كريم بإذن الله.
استحضار النية عند المباح:(/35)
أفعالنا وأقوالنا المباحة كثيرة جداً وإذا لم نقصد بها وجه الله تعالى، فإنها لن تعود علينا بالنفع الأخروي وما ندم أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها. فإذا اشتغل الإنسان بالمباح بدون النية الصالحة فلا شك أنه سيصاب بالندم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فمثلاً الطعام والشراب والنوم والمتاجرة وغيرها من الأعمال تصبح ثروات عظيمة ومكاسب طيبة عندما نقدم على الله عز وجل إذا قصد الاستعانة بها على طاعة الله وسد حاجة المسلمين ومعونتهم.
ولذلك نجد علماءنا حثوا ورغبوا في استحضار النية عن المباحات والعاديات ليثاب عليها ثواب العبادات مع أنه ولله الحمد لا مشقة تلحقنا في القيام بها، بل إن بعض هذه المباحات تكون عادة أو أمر مألوف مستساغ ومستلذ، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على سعة رحمة الله بعباده، وكبير منته عليهم، فله الحمد حتى يرضى وإذا رضي وبعد الرضا.
وعليه فتضاعف الفضل بكثرة النيات الحسنة، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوى بها خيرات كثيرة، فيكون له بكل نية ثواب، إذا كان واحدة منها حسنة، ثم يضاعف كل حسنة عشرة كالقعود في المسجد فإنه طاعة، ويمكن أن ينوي فيها نيات كثيرة، حتى يصير من فضائل أعمال المتقين ويبلغ به درجات المقربين:
أولها: أنه يعتقد أنه بيت الله، وأنه داخله زائراً، فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما وعد به من الإكرام.
ثانيها: أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة.
ثالثها: الترهب، بكف السمع، والبصر والأعضاء عن الحركات والترددات.
رابعها: عكوف الهمم على الله، ولزوم السر للفكر في الآخرة ودفع الشواغل الصادقة عنه بالاعتزال إلى المسجد.
خامسها: التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره أو للتذكر به.
سادسها: أن يقصد إفادة علم بأمر بمعروف، ونهي عن منكر، إذ المسجد لا يخلو ممن نسي صلاته أو يتعاطى ما لا يحلو له، فيأمره بالمعروف فتتضاعف خيراته.(/36)
سابعها: أن يستفيد أخاً في الله، فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة.
ثامنها: أن يترك الذنوب حياءً من الله عز وجل وحياءً من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة.
فهذه الطريقة لتكثير النيات، وقس به سائر الطاعات، إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة إنما يحضر في قلب العبد بقدر جدِّه في طلب الخير، وتشميره له وتفكره. فبهذا تزكوا الأعمال، وتتضاعف الحسنات[235].
المبحث الثاني
مما له علاقة بهذا الفصل المقاصد التي بقيت حبيسة في الصدور سواء أكانت خيرة أم شريرة، ما حكمها؟ وهل يثاب صاحبها ويعاقب؟
مراتب الإرادة:
القصد نوع من الإرادة، والإرادة مراتب متفاوتة، وهكذا كل صفة من صفات الحي، فالعلم مراتب الشك، ثم الظن، ثم اليقين ومراتبه، وقد قسم ابن أبي [جمرة][236] الوارد على القلب إلى ست مراتب: الهمّة، ثم اللمّه ثم الخطرة ثم النية، ثم الإرادة ثم العزيمة، وهذا التقسيم غير مرتضى:
1- لأن الخطرة في الحقيقة أقل مرتبة من الهمة، فالخاطر يمرّ في الذهن مروراً عابراً ولا يتوقف، أمّا الهمّ فإنه يتردد في النفس.
2 - لأنه جعل الإرادة مرتبة من المراتب، أعلى من النية، والحق أن الإرادة جنس للهم والخاطر والنية.
3 - لأنه جعل العزم في مرتبة أعلى من النية، وليس الأمر كذلك، فقد حققنا من قبل أن النية جزم الإرادة فعلى ذلك النية والعزم في درجة واحدة، بل يرى كثير من العلماء أن النية أعلى مرتبة من العزم[237].
والترتيب الذي نختاره هو ذلك الترتيب الذي وضعه السبكي[238]، فقد قسم ما يقع في النفس إلى خمس مراتب، وقد رتبها ترتيباً تصاعدياً:
الأول: الهاجس: وهو أضعف هذه المراتب، وهو ما يلقى في النفس.
الثاني: الخاطر: وهو ما يجري في النفس ثم يذهب في الحال بلا تردد.
الثالث: حديث النفس: وهو ما يقع من التردد، هل يفعل أم لا؟ فمرة يميل إلى الفعل، وأخرى ينفرد عنه، ولا يستقر على حال.(/37)
الرابع: الهمّ: وهو أن يميل إلى الفعل، ولا ينفر عنه، لكنه لا يصمم على فعله، وقد عرفه ابن حجر[239] بأنه: ((ترجيح قصد الفعل))[240].
الخامس: العزم: وهو أن يميل إلى الفعل، ولا ينفر عنه، بل يصمّم عليه، وهو قوة ذلك القصد، والجزم وبه ومنتهى الهمّ[241].
وهذا التفاوت في مراتب الإرادة يلزم الباحث بألا يعطي حكماً واحداً لكل أنواع الإرادة التي لم تتمثل في قول أو عمل، لاختلافها قوةً وضعفاً، إلا أننا سنكتفي بتقسيم هذه المراتب إلى قسمين، جاعلين الفيصل في هذا التقسيم هو الجزم في الإرادة والتصميم على الفعل أو عدم ذلك، بينما يشتمل القسم الثاني على المرتبة الخامسة فقط وهي العزم[242].
الإرادة غير الجازمة
نستطيع أن نقسم الإرادة غير الجازمة إذا لم تتمثل في فعل من حيث العقاب والإثابة عليها إلى قسمين:
الأول: ما لا ثواب عليه ولا عقوبة فيه.
وهذا يشتمل على المرتبة الأولى والثانية من المراتب الذي ذكرها السبكي ((الهاجس والخاطر))، ومن الذين نصوا على عدم المؤاخذة على الخواطر العز بن عبدالسلام، وقد علل ذلك بغلبة الخواطر على الناس[243]، وذكر السبكي الإجماع على عدم المؤاخذة بها، ونص على أنه لا ثواب عليها[244]، إلا أن السبكي جعل ((حديث النفس)) من هذا القسم، والصواب أن نعده من القسم الثاني، لما ورد في بعض الأحاديث من أن فيه الثواب، وسيأتي.
الثاني: ما يثاب صاحبه إذا كان خيراً، ولا يعاقب إذا كان شراً:
وهذا القسم يضم حديث النفس والهمّ، أمّا الهمّ فلم يختلف العلماء فيه، فالهامّ بالحسنة إذا لم يفعلها ينال حسنة هامة، والهامّ بالسيئة لا تكتب عليه سيئة، وينظر فإن تركها لله كتبت حسنة، وإن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة كما أنه لا تكتب له حسنة[245].
والأدلة على ذلك صحيحة صريحة:(/38)
فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يروي عن ربه عز وجل قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة))[246].
وهذا الحديث صريح في الدلالة على الإثابة على الهمّ الخيّر إذا لم يقترن به فعل، وإن كان غير صريح في الدلالة على أن الهامّ في السوء لا ينال شيئاً إذا ترك المعصية لغير خوف الله، وإنما فيه أنه ينال حسنة بتركها.
وأكثر صراحة منه حديث أبي هريرة[247] عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((قالت الملائكة يا رب ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من جراي))[248].
فنفيهم – والله أعلم بالصواب – من الجمع بين الحديثين أنه إذا ترك المعصية خوفاً من الله كتبت له حسنة كاملة، فإن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه، كما أنها لم تكتب له.
أمّا أن حديث النفس لا يؤاخذ عليه فلأنه أقل رتبة من الهمّ، وهو أقوى منه.
لا عقوبة فيه، فحديث النفس من باب أولى.
ويشهد لذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – ((إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم))[249].
ولم يرد حديث صريح في أن حديث النفس الخير ينال به العبد ثواباً إذا لم يفعل ما حدث نفسه به، إلا أنه يستأنس بقوله – صلى الله عليه وسلم – ((من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق))[250] فمفهوم المخالفة أن حديث النفس يدفع النفاق، وذلك لا يكون إلا مأجوراً عليه.
الإرادة الجازمة(/39)
نريد هنا حكم الإرادة الجازمة من حيث البيان لها، والإرادة الجازمة هي ((القصد أو العزم)) تكون مع أحد أمرين:
الأول: العزم على فعل من أفعال القلوب:
فهذا لم يخالف أحد من العلماء في أن العزم مثاب صاحبه عليه، إن كان المعزوم عليه خيراً، كالعزم على الإيمان أو محبة الله ونحو ذلك. وأن المقاصد فعل قلبي مؤاخذ معاقب كالذي يصممّ على الكفر، وترك الإيمان، وتكذيب الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو إنكار البعث، فهذا كافر بعزمه وتصميمه[251] وعن مالك رواية قوّاها ابن العربي ((من اعتقد الكفر كفر، ومن أصرّ على المعصية أثم))[252].
الثاني: العزم على فعل من أفعال الجوارح:
وهذا وقع فيه النزاع، فذهبت طائفة إلى أن القاصد لعمل ما كشرب الخمر، أو ترك الصلاة لا يؤاخذ على قصده، وقد ذكر ابن حجر أن القول بذلك هو نص الشافعي رحمه الله[253] وقال السبكي:
"خالف بعضهم في أن العزم لا يؤاخذ به – وقال إنه من الهمّ المرفوع"[254].
ومن هؤلاء المازري[255]، فقد حكى قول ابن الباقلاني[256] في أن العزم مؤاخذ به، ثم رده وقال:
"وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، واحتج على ما ذهب بحديث أبي هريرة القدسي: ((فإنما أغفرها له ما لم يعملها))"[257].
وقد استدل القائلون بعدم المؤاخذة بالأدلة الناطقة بعدم المؤاخذة على الهمّ، وقد سبق إيرادها، وقالوا: إن الهمّ في لغة العرب هو العزم، فهم يقولون ((همّ بالشيء يهمّ همًّا، نواه وأراده))[258].(/40)
فإذا صح أن الهمّ هو العزم صح أنه لا مؤاخذة عليه بنص الأحاديث القدسية، والأقوال النبوية، كما أننا لا ننكر في مجال الحجاج أن العرب تفسر الهمّ بالعزم، بل نقول: لقد ورد ذلك في كتاب الله في قوله {ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه}[259] والشاهد في الآية: أنه سمى الإرادة المصممة التي كانت من امرأة العزيز همًّا، ولا خلاف في كونها عزماً مجرداً، بل عزماً حاولت معه تنفيذ ما عزمت عليه بإغلاق الأبواب، ودعوته إلى الفاحشة، والإمساك به، وغير ذلك[260].
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وهمُّوا بما لم ينالوا}[261] فإن سبب نزول هذه الآية أن بعض المنافقين حاولوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات.
قال الإمام أحمد رحمه الله:
"الهمّ همّان: هم خطرات، وهمّ إصرار"[262].
فمن الهمّ الذي ليس بعزم همّ يوسف عليه وعلى نبينا الصّلاة والسَّلام، على القول بأنه همّ، إذ لم يكن همّه عزماً بالتأكيد، وكهمه صلى الله عليه وسلم بتحريق البيوت[263]، وكهم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بالجلوس وترك الرسول – صلى الله عليه وسلم – واقفاً في صلاة الليل[264].
ومما اختلف فيه العلماء قوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث الاستخارة ((إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل....))[265] الحديث.
ففريق ذهب إلى أن المراد بالهمّ هنا: الوارد أول ما يرد على القلب، فيستخير العبد عند وروده، فينظر ببركة الدعاء والصَّلاة ما الخير، وهؤلاء يعللون تفسيرهم هذا بأنه لو تمكن الأمر عنده، وقويت فيه عزيمته وإرادته، فإنه يخشى أن يخفى عليه وجه الأرشدية لغلبة ميله إليه.
وفريق يرى أن الهمّ في الحديث العزم: لأن الخاطر لا يثبت، فلا يستمر إلا على ما يقصد التصميم على فعله وإلا لو استخار في كل خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به، فتضيع عليه أوقاته[266].(/41)
وذهب صاحب كتاب مقاصد المكلفين إلى أن الهمّ هنا ليس مجرد الخاطر، ولا العزيمة، وإنما أراد به الميل إلى الفعل قبل أن يصل إلى مرحلة العزم والتصميم، إذ الخاطر ماض عابر وما عزم على فعله لا يستخار فيه[267].
وحقيقة أرى والله أعلم بالصواب: أن الهمّ في الحديث هو العزم، وليس كما قال شيخنا الأشقر بأن ما عزم على فعله لا يستخار فيه، بل إن كثيراً من الأمور التي يعزم الإنسان على فعلها كالزواج مثلاً بحاجة إلى الاستخارة فيها ليوفق إلى الاختيار الصالح له في دينه ودنياه، وأما ما ذكره من أن المراد بالهمّ في الحديث هو الخاطر، فإن الخاطر هو ما يجري في النفس يذهب في الحال بلا تردد، بخلاف الهم فإنه يتردد في النفس، وبالقول به – أي الخاطر – يلزم من ذلك الاستخارة فيما لا يعبأ به، فتضيع عليه أوقاته. والله أعلم.
إذا ثبت أن الهمّ نوعان: هم عزم وتصميم، وهم ليس كذلك، وثبت أن العزم لا يكون إلا جازماً لأن العزم ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله، إذا ثبت ذلك، بطل استدلالهم بقوله – صلى الله عليه وسلم – ((من هم حسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة..، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة))[268]. على أن العزم معفوٌّ عنه، ومما يدل على بطلان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((فعملها)) ((فلم يعملها)) ففيهما دلالة على أن هذا التقسيم في الحديث هو في رجل يمكنه الفعل فلم يفعل، وهذا ليس بجازم الإرادة، فالإرادة الجازمة لا تتخلف إذا وجدت القدرة التامة.
ومما يدل على التفريق بين العزم والهمّ، أن من خطر في قلبه أن يقطع الصَّلاة فإنها لا تنقطع، فإن صمّم على قطعها بطلت[269].(/42)
رأينا كيف أن القائلين بعد المؤاخذة على القصد المجرد عن الفعل لم يستطيعوا أن يدللوا على ما ذهبوا إليه، وأن دليلهم الذي أتوا به لم يثبت في مجال التمحيص والنقاش، لذا فقد ذهب ابن الباقلاني إلى القول بالمؤاخذة على العزم، وتابعه القاضي عياض[270] وقال:
"عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن [الباقلاني]، لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب"[271].
ومثل ذلك قال القرطبي[272]:
"وهذا المذهب الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف، وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين"[273].
ووصف ابن السبكي القائلين به بأنهم أهل التحقيق ((وأمّا العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به))[274] وسأل ابن مبارك[275] سفيان الثوري[276]: ((أيؤاخذ العبد بما يهم به؟ قال: إذا جزم بذلك))[277].
أدلة القائلين بالمؤاخذة:
قبل أن نذكر أدلتهم نقول إن مرادنا بالإرادة الجازمة ما نسميه القصد والنية، والعزم والإرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة، فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل، لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم.
ومتى وجدت الإرادة والقدرة التامة، ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة. في حين أن البعض الآخر قدروا إرادة جازمة للفعل لا يقترن بها شيء من الفعل، وهذا لا يكون، وإنما يكون في العزم على أن يفعل، فقد يعزم على الفعل في المستقبل من لا يفعل منه شيئاً في الحال، والعزم على أن يفعل في المستقبل لا يكفي في وجود الفعل، بل لابد عند وجوده من حدوث تمام الإرادة المستلزمة للفعل، وهذه هي الإرادة الجازمة[278].
وقد استدل القائلون بالمؤاخذة على القصد الجازم الذي لا فعل معه بأدلة كثيرة تدل أنه بمنزلة الفاعل التام في الإثابة والعقوبة، ومن هذه الأدلة:(/43)
1 - قوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولايستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، فأصبحت كالصريم}[279].
قال القرطبي:
"استدل بهذه الآية على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم"[280].
2 - قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}[281].
قال المخالفون: لا حجة في هذه الآية، لأنه نسخت بقوله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}[282] وقد قال بذلك جمع من الصحابة، ومما يوضح ذلك ما رواه مسلم[283] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية ((وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)) قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت))[284].
والصحيح أن هذا بيان وليس بنسخ، وهذا قول ابن عباس، والحسن البصري[285]، واختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري[286].
3 - رتب القرآن الثواب والعقاب على مجرد الإرادة، كقوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها، وماله في الآخرة من نصيب}[287].
4 - وقوله جل ذكره {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم}[288].
فالله نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز، ولم ينف المساواة بين المجاهد والقاعد العاجز بل يقال دليل الخطاب يقتضي مساواته إياه، ولفظ الآية صريح فقد استثنى ((أولي الضرر)) من نفي المساواة، فالاستثناء هنا هو من النفي، وذلك يقتضي أن أولي الضرر يساوون المجاهدين.
5 - قوله تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}[289] قال القرطبي:
"الإصرار العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه".
وقال قتادة:
"الإصرار الثبوت على المعاصي"[290].
وقال ابن المبارك:(/44)
"المصر الذي يشرب الخمر اليوم، ثم لا يشربها إلى شهر، وفي رواية إلى ثلاثين سنة، ومن نيته إذا قدر على شُربِها شَرِبَها"[291].
وقال النووي:
"وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر"[292].
6 - قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}[293].
نقل القرطبي عن جماعة من أهل التأويل أنهم احتجوا بالآية على أن الإنسان يعاقب بما ينوي به وإن لم يفعله[294].
7 - قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}[295].
يقول الكرماني:
"إن النية السيئة يعاقب عليها بمجرد النية، لكن النية لا على الفعل، حتى لو عزم أحد على ترك الصلاة بعد عشرين سنة يأثم في الحال، لأن العزم من أحكام الإيمان، ويعاقب على العزم لا على ترك الصلاة"[296].
8 - قوله عليه الصّلاة والسلام: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه))[297].
9 - حديث سهل بن حنيف[298] – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه))[299].
10 - قوله عليه الصلاة والسلام: ((من أتى فراشه، وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه))[300].
فقد أثاب الحق هذا النائم الذي لم يصحُ – لما عزم على القيام – إثابة الذي قام فصلى، وما ذلك إلا لإرادته التامة الجازمة.
بل يذهب الإسلام إلى ما أبعد من ذلك في الإثابة والعقاب على القصد المجرد، إذ يجعل الراضي بالفعل كالفاعل وإن لم يعمله ويقصده.(/45)
يقول القرطبي عند قوله تعالى عن اليهود: {وقتلهم الأنبياء بغير حق}[301] أي ونكتب قتلهم الأنبياء بغير حق، أي رضاءهم بالقتل، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء، لكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم.
وحسّن رجل عند الشعبي[302] قتل عثمان بن عفان[303]، فقال له الشعبي، شركت في دمه. فجعل الرضا بالقتل قتلاً – رضي الله عنه.
ثم قال القرطبي:
"وهذه مسألة عظيمة حيث يكون الرضا بالمعصية معصية"[304].
الفصل الثالث
قاعدة الأمور بمقاصدها (شرح وبيان)
وسنستعرض فيها المباحث التالية:
المبحث الأول: أدلة القاعدة وأصلها:
1 - قوله عليه الصلاة والسلام ((إنما الأعمال بالنيات)) وهو حديث مشهور تقدم معنا تخريجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أصل القاعدة.
2 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية))[305].
3 - وعن سعد بن أبي وقاص[306] رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت فيها حتى ما تجعل في في امرأتك))[307].
كل هذه الأحاديث وكثير غيرها تدل دلالة واضحة على أن ميزان الأعمال، إنما هو النية والقصد من وراء ذلك العمل.
المبحث الثاني: معنى القاعدة والأمثلة عليها:
القاعدة – وهو قاعدة الأمور بمقاصدها – بمعنى أن أعمال المكلف وتصرفاته من قولية أو فعلية تختلف نتائجها وأحكامها الشرعية التي تترتب عليها باختلاف مقصود الشخص وغايته وهدفه من وراء تلك الأعمال والتصرفات[308] أو ((أن الحكم الذي يترتب على أمر يكون موافقاً ومطابقاً لما هو المقصود من ذلك الأمر))[309].
مثال ذلك:
من التقط لقطة بقصد أخذها لنفسه كان غاصباً عليه ضمانها إذا تلفت في يده، ولو التقطها بنية حفظها وتعريفها وردها لصاحبها متى ظهر كان أميناً، فلا يضمنها إذا هلكت بلا تعدِّ منه عليها أو تقصير في حفظها[310].(/46)
وهذه القاعدة على وجازة لفظها وقلة كلماتها ذات معنى عام متسع يشمل كل ما يصدر عن الإنسان بقول أو فعل، وكان ذلك كذلك لأن كل تصرفه من تصرفات المكلف بحكمه وبوجهه دافع منبعث من القلب، سواء في ذلك تصرفاته الدنيوية أو الأخروية.
ولما كان القصد يأتي بمعنى النية – وهو المعنى المراد في قاعدتنا هذه فلابد من الحديث عنها، ونفردها بالمباحث الآتية:
المبحث الثالث: ما المقصود من النية؟
قد تقدم معنا تعريف النية بالمعنى العام والمعنى الخاص في الأبواب الأولى المتقدمة، وحديثنا الآن عن المقصود من النية:
ويقصد من النية أمران:
الأمر الأول: العبادات عن العادات، حيث إن أكثر العبادات لها مثيل في العادات فمثلاً: الإمساك عن المفطرات قد يكون حمية أو تداوياً أو لعدم الحاجة، وهذه أمور عادية دنيوية، وقد يكون الإمساك لصوم شرعي ابتغاء الثواب، فلابد من النية لتميز هذا عن ذاك وليستحق الممسك الأجر والثواب.
الأمر الثاني: تمييز العبادات بعضها عن بعض حيث إن العبادات من صلاة وصيام وغسل وحج قد تكون فرضاً ونذراً ونفلاً وكله تقرب إلى الله تعالى لكن لما اختلف رتبها شرعت النية لتميزها[311].
وهنا مسألة أخرى: وهي ما لو انفردت النية ولم تقترن بفعل ظاهر لا تترتب عليها أحكام شرعية... طلق إنسان زوجته في قلبه ولم ينطق بلسانه فلا يترتب على ذلك الفعل الباطني حكم شرعي دنيوي.
أمَّا في أحكام الآخرة عند الله سبحانه قد يترتب على النية ولو لم يصاحبها فعل ظاهر – حكم[312].
أمَّا لو انفردت الأفعال عن النية فهي مختلفة:
1 - إذا كان الفعل لفظاً فإما أن يكون اللفظ صريحاً أو غير صريح، فإن كان اللفظ صريحاً فلا يحتاج إلا نية، ويكفي صدور اللفظ لترتب الحكم عليه لأن اللفظ الصريح تكون النية متمثلة به.
وأما إذا كان اللفظ غير صريح – أي لفظاً كنائياً كمن قال لامرأته: اذهبي لأهلك، فيختلف هنا حكم اللفظ الواحد باختلاف مقصد الفاعل.(/47)
2 - وأمَّا إذا كان التصرف فعلاً غير النطق كمن سرق، فالحكم في مثل هذا تابع للفعل ولا ينظر إلى نيته ومقصده غالباً[313].
المبحث الرابع: شروط النية:
إن الكلام في النية مرتبط بأعمال القلوب ومعرفة مراتبها، وارتباطها بأعمال الجوارح فلا يصح عمل إلا بنية، والعمل الخالي من النية بمنزلة الجسد الخالي من الروح، ولهذا فإن العلماء اشترطوا للنية التي بهذه المنزلة شروطاً نذكر المهم منها، وما لاشتراطه وجاهة.
قال القرافي للنية شروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن تتعلق بمكتسب للناوي فإنها مخصصة، وتخصيص غير المفعول المكتسب المخصص محال، ولذلك امتنع نية الإنسان لفعل غيره، لأنه غير مكتسب له.
الشرط الثاني: أن يكون المعنى معها معلوم الوجوب – أي الوقوع – أو مظنون الوجوب، فإن المشكوك تكون النية مترددة، فلا تنعقد، لذلك لا يصح وضوء الكافر ولا غسله قبل اعتقاد الإسلام، لأنه غير معلوم ولا مظنون.
الشرط الثالث: أن تكون النية مقارنة للمنوي، لأن أول العبادات لو عري عن النية لكان أولها متردداً بين القربة وغيرها وأجزاء الصلاة مبني على أولها وتتبع له، بدليل أن أولها إذا نوى فرضاً أو نقلاً أو قضاءً أو أداءً كان آخرها كذلك؛ وكذلك إذا نوى أولها متردداً فلا تصح قربة[314].
ونهاية القول أنه لابد للنية من هذه الشروط التي ذكرها القرافي، وذكرها صاحب نهاية الأحكام[315] ومجملها.
1 - إسلام المناوي، لأن العمل الشرعي لا يصح من كافر، وذلك أن النية شرط لصحة العمل الشرعي، والعمل الشرعي لا يصح من كافر حتى يأتي بالشرط المصحح لعمله، وهو الدخول في الإسلام، قال تعالى: {وقدمنا ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً}[316].
2 - تمييزه، وذلك أن غير المميز لا يصح منه عمل فلا تصح منه النية التي هي شرط لصحة العمل.
3 - علم الناوي بما نوى، وذلك أنه لا يتصور أن ينوي الإنسان شيئاً لا يعلمه، فالنية لابد أن يسبقها علم وتصور.(/48)
4 - ألا يأتي الناوي بمناف لما نواه، فإذا أتى بمناف أو عدل عن العمل الذي نواه فلابد من استئناف النية والعمل.
5 - أن تتعلق بمكتسب للناوي، لأن المكتسب من فعل الناوي ومقدوره، وما لم يكن كذلك فلا معنى لنيته له.
6 - أن تتعلق النية بأمر تيقن أو بظن غالب، فلأن أحكام الشريعة مبنية على اليقين أو الظن الراجح، وأمَّا العمل المشكوك فيه فهو غير معتبر، فلا تتعلق به النية.
7 - أن تكون النية مقارنة للمنوي، لأن عدم مقارنة النية لأول العمل يؤدي إلى خلو جزء من العمل من غير نية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) الحديث[317].
المبحث الخامس: ما لا تدخله النية من الأعمال:
لما كان مدار التكاليف الشرعية يتوقف صحتها وفسادها على النية، وهذا هو الأغلب الأعم في جميع التكاليف الشرعية، فإن التكاليف تنقسم إلى قسمين: أوامر ونواه.
فأما الأوامر فلابد من القصد إلى فعلها تقرباً إلى الله وامتثالاً لأمره ورجاء ثوابه وخوفاً من عقابه ورغبة في طاعته.
وأما النواهي، فإن المكلف يخرج من عهدتها بتركها وعدم القصد إليها، وإن لم يشعر بها وعلى ضوء هذا التقسيم لابد من تبيان ذلك في مسألتين:
المسألة الأولى: أفعال التروك:
أ – معنى التروك: الترك في اللغة: تخلية الشيء وإهماله، يقال: تركه تركاً وتركاناً وأتركه: خلاه وأهمله. أغفله وبابه نصر[318]، ويطلق الفقهاء أفعال التروك على ما نهي عن فعله[319].
ب – الترك فعل أو لا؟. اختلف الأصوليون[320] هل الترك يسمى فعلاً أو على قولين:
أحدهما: أن الترك فعل. وهذا مذهب الجمهور من الأصوليين مستدلين بأن النهي تكليف، والتكليف إنما يرد بما يقدر عليه المكلف. فإذا ثبت أن النهي متعلق بالتكليف ثبت أنه أمر وجودي.(/49)
والقول الثاني: ما ذهب إليه أبو هاشم الجبائي[321]: بأن الترك لا يسمى فعلاً محتجاً بأن من دعاه الداعي إلى الزنا فلم يفعله، فإن العقلاء يمدحونه على أنه لم يزن من غير أن يخطر ببالهم فعل ضد الزنا، فعلمنا أن هذا العدم يصلح أن يكون متعلق التكليف.
الترجيح:
الصحيح ما ذهب إليه الجمهور وهو أن الترك فعل، فإن العقلاء لا يمدحونه على شيء لا يكون في وسعه، والعدم الأصلي يمتنع أن يكون في وسعه، بل إنما يمدحونه على امتناعه من ذلك الفعل، وذلك الامتناع أمر وجودي، وهو المراد بأن عليه أن يفعل ضد الزنا[322].
فتقرر أن يكون هذا الترك فعل وهو ترك ما نهي عنه، وسمى الفقهاء ما نهى عن فعله بأفعال التروك.
ج – نية الترك: وإذا كان القول المعتمد[323] عند أهل العلم فإن النواهي من باب التروك، وأن الترك فعل فهل يحتاج إلى نية؟ أو لا يحتاج إلى نية؟
1 - ذهب الجمهور من أهل العلم[324] إلى أن الترك لا يحتاج إلى نية. كترك الزنا وغيره، لحصول المقصود منها وهو اجتناب المنهي بكونه لم يوجد وإن لم يكن نية[325].
2 - وذهب بعض أهل العلم من أصحاب الشافعي[326] وأحمد[327] إلى جعل النية في التروك قياسياً على الأفعال المأمور بها كرفع الحدث وهو قول شاذ. مخالف للإجماع السابق مع مخالفته لأئمة المذاهب، وإنما قيل هذا من ضيق المجال في المناظرة[328].
الترجيح:
الصحيح هو القول الأول وهو أن الترك لا يحتاج إلى نية، وهو ما تقرر عند عامة أهل العلم كما تضمنه كلام شيخ الإسلام وهو الحق.
ووجهه: أننا أمرنا باجتناب ما نهينا عنه جملة، ولم نكلف باستحضاره واستذكاره، ثم ننوي اجتنابه، وذلك أن في مثل هذا مشقة بالغة، بل قد يكون تكليفاً بما لا يطاق، وذلك أن كثيراً من المنهيات لا تخطر ببال المكلف، ولو كانت النية تلزم المكلف في ترك ما نهي عنه، وإلا كان آثماً لكان ذلك عنده بالحرج والمشقة التي تنزهت عنهما شريعة الإسلام.(/50)
ولكن ترك النواهي من غير قصد ولا نية لا ثواب للمكلف فيها، لأن الإثابة إنما تكون على المقصود المنوي، ولا نية في هذا الحال.
نعم تحصل إثابة على النية عامة، فإن المسلم من لازم عقيدته امتثال الأوامر واجتناب النواهي وأما إن قصد فعل المنهي عنه أو خطر بباله أو تيسر له فعله ثم كف نفسه عنه طاعة لله أثيب على ذلك، لأن الترك في هذه الحال قربة مأمور بها[329].
فالنواهي بالضرورة لها حالتان:
الحالة الأولى: أن لا تخطر بالمكلف ولا تدور في خياله، فاجتنابها لا يسمى تركاً فلا يحتاج إلى نية.
الحالة الثانية: أن تخطر النواهي في بال المكلف فيفكر فيها أو يعزم على فعلها، أو يشمئز عند تصورها واستحضارها في ذهنه، فيكف نفسه، ويعرض عنها خوفاً من العقاب ورجاء الثواب، فالنية في هذه الأحوال ملازمة للمكلف إذ لا يتصور كف نفسه عنها إلا بنية وإعراضه عنها وكف نفسه يسمى فعلاً.
((والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس فمن لم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس كمن خطرت بكف نفسه عنها خوفاً من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه لا الترك المجرد))[330].
((وترك المنهي عنه لا يحتاج إلى نية للخروج من عهدة النهي، وأما لحصول الثواب بأن كان كفاً وهو أن تدعوه النفس إليه قادراً على فعله فيكف نفسه عنه خوفاً من ربه فهو مثاب، وإلا فلا ثواب على تركه، فلا يثاب على ترك الزنا وهو يصلي، ولا يثاب العنين على ترك الزنا، ولا الأعمى على ترك النظر إلى المحرم))[331].
((والنجاسة من باب ترك المنهي عنه فحينئذ إذا زال الخبث بأي طريق كان حصل المقصود، ولكن إن زال بفعل العبد ونيته أثيب على ذلك، وإلا إذا عدمت بغير فعله ولا نيته زالت المفسدة ولم يكن له ثواب ولم يكن له عقاب[332].
((فالنواهي يخرج الإنسان عن عهدتها بتركها، وإن لم يشعر بها فضلاً عن القصد إليها))[333].(/51)
((وبعد ذكر ما تقدم من عبارات هؤلاء العلماء وما تقرر في أول المسألة نستنتج الحقائق الآتية:
1 - الترك من قسم الأفعال لأن متعلقه في النهي كف النفس.
2 - المنهيات إذا لم تخطر ببال المكلف لا تحتاج إلى نية.
3 - المنهيات إذا قصد المكلف الكف عنها قربة لله صار عبادة وأثيب عليها))[334].
المسألة الثانية: أداء الحقوق لا يحتاج إلى نية:
المراد من هذه المسألة أن الحقوق الواجبة على المكلف تبرأ الذمة بأدائها إلى مستحقيها، ولو لم يكن له نية ولا فعل، وذلك أن جنس الحقوق الواجب أداؤها من قبيل ما نهي عنه شرعاً، والنواهي يخرج الإنسان من عهدتها بمجرد تركها وإن لم يشعر بتركها، ويمكن أن يكون اعتبار النية في أداء الحقوق أن صورة أفعالها كامنة في تحصيل مصالحها فلا تحتاج إلى النية، وعلى هذا الاعتبار الأخير يكون أداء الحقوق من باب الأوامر.
وأمثلة ذلك دفع الديون ورد المغضوب، ونفقات الزوجات، وعلف الداوب وكذلك لو تسلم المستحق عين ماله، أو أطارت الريح الثوب المودع، أو المغصوب فأوقعه في يد صاحبه، فإن هذه تبرأ الذمة منها بوصلها إلى مستحقها ولو لم يكن لمن عليه الحق نية أو فعل في أدائها[335].
((والضابط لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فيه: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما فلا تشترط فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب))[336].
((يوضحه أن الشريعة قسمت أفعال المكلفين إلى قسمين:
قسم يحصل مقصوده، والمراد منه نفس وقوعه، فلا يفتقر في صحته إلى نية في أداء الديون ورد الأمانات، والنفقات الواجبة، وإقامة الحدود وإزالة النجاسات وغسل الطيب عن المحرم، واعتداد المفارقة وغير ذلك، فإن مصالح هذه الأفعال حاصلة بوجودها ناشئة من ذاتها فإذا وجدت حصلت مصالحها فلم تتوقف صحتها على نية.(/52)
القسم الثاني: ما لا يحصل مراده ومقصوده منه بمجرده بل اكتفي فيه بمجرد صورته العارية عن النية كالتلفظ بكلمة الإسلام، والتلبية في الإحرام، وكصورة التيمم، والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة، الصلاة والاعتكاف والصيام))[337].
وهذا التقسيم هو الذي يوضح المقام ويزيل الإشكال، وذلك ما دلت عليه الأدلة الشرعية والقواعد الأصولية.
المسألة الثالثة:
المتعين من العبادات والحقوق لا يحتاج إلى نية التعيين، وإنما يحتاج إلى نية القصد أو الإرادة، وبيانه: أن النية تنقسم إلى قسمين:
1 - نية القصد والإرادة: فهذه النية لابد منها في كل عمل من الأعمال سواء كان العمل قولياً أو فعلياً، سواء كان من أعمال القلوب، أو من أعمال الجوارح، وسواء كان العمل مالياً أو بدنياً، أو منهما جميعاً فرضاً كان أو نفلاً مطلقاً كان أو مقيداً، فإن النية شرط في صحته، فلو عمل المكلف شيئاً من هذه الأعمال بدون قصد ولا إرادة فإن عمله لا يصح لعدم النية مصححة له، ولأن النية التي من هذا القبيل تميز العمل أهو لله أم لغيره، وهل هو عادي أم عبادي.
2 - نية التخصيص والإضافة: فهذه النية ليست بلازمة – ولا هي شرط صحة العمل فإن التي لله كالإيمان والتعظيم، والإجلال والخوف والرجاء والتوكل والحياء والمحبة وكالصوم والصلاة وغير ذلك أنواع العبادات فهذه متعلقة بالله عز وجل قربة في أنفسها متميزة لله بصورتها لا تفتقر إلى قصد تمييزها فلا تحتاج إلى نية التخصيص والإضافة فلا يلزم أن يستحضر المصلي أنه يصلي لله، ولا أنه يصوم لله لأن هذه العبادات لا يتقرب بها إلا إلى الله فلا تحتاج إلى نية التخصص والإضافة، هذا يسري في كل قول أو عمل مخصص لشيء مخصوص كالألفاظ الصريحة في العقود والطلاق فإنها لا تحتاج إلى نية التعيين لأنها بطبيعتها تنصرف إلى ما وضعت له في الأصل[338].
المبحث السادس: محل النية:(/53)
أجمع العلماء على أن محل النية القلب، لأن النية: القصد والعزم على فعل الشيء، ومصدر ذلك القلب، بحديث ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) ولم ينازع في ذلك أحد إذ أنه أمر متفق عليه بين العلماء.
ولكن جرى الخلاف في حكم التلفظ بالنية، هل ذلك شرط أم سنة؟ وهل ذلك سراً أم جهراً؟ إلى غيره، وهذا النزاع كله حادث، ولم يعرف في عهد الصحابة ولا التابعين من أوجب التلفظ بها أو استحبها ونقل ابن تيمية – رحمه الله – اتفاق الأئمة على ذلك، وإنه لم يقل التلفظ بالنية إلا بعض المتأخرين. أصحاب الإمام أبي حنيفة[339]، والشافعي[340]، ولكن غلطهم المحققون من أئمة الشافعية وغيرهم[341].
وأما من ذهب من الأحناف إلى أن التلفظ بالنية سنة أو مستحب فسندهم في ذلك الاستئناس بالتلبية عند الإحرام في الحج، قال شارح الدر المختار:
"ذهب صاحب المبسوط والهداية والكافي إلى أنه إن فعله ليجمع عزيمة قلبه فحسن"[342].
المبحث السابع: وقت النية:
الأصل أن وقت النية أول العبادات ولو حكماً، لأن الأولية تكون حقيقية كمصاحبة النية. لتكبيرة الإحرام وقد تكون الأولية حكمية كما لو نوى الصلاة قبل الشروع فيها عند الوضوء، فإذا توضأ ونوى عند الوضوء أن يصلي الظهر أو العصر مع الإمام ولم يشتغل بعد النية بما ليس من جنس الصلاة – إلا أنه لما انتهى إلى مكان الصلاة لم تحضر النية جازت صلاته بتلك النية لأن النية المتقدمة يبقيها إلى وقت الشروع حكماً إذا لم يبدلها بغيرها كما في الصوم. وهذا عند الحنفية[343]، والحنابلة[344]، وقول عند المالكية[345].
وأما عند الشافعية[346]، وأكثر المالكية[347] فالواجب مقارنة النية لأول الفعل الواجب كالوضوء والصلاة إلا في الصوم والكفارة والزكاة والأضحية حيث تصلح بالنية المتقدمة للمشقة. وعلى ذلك:(/54)
– فيجوز تقديم نية الزكاة على دفعها للإمام أو وكيله عند العزل تيسيراً أو عندما يوكل رب المال غيره في دفعها. وهذا عند جمهور الفقهاء. وقال بعض فقهاء الحنفية والشافعية يجب مقارنة النية دفع الزكاة إلى الإمام أو الأصناف ولا يجوز تقديمها والأول أرجح[348].
– وأمَّا القضاء والنذر والكفاءة فلا يجوز تأخير النية عند الجمع[349].
– وأمَّا الحج فالنية فيه سابقة على الأداء عند الإحرام عند الجميع[350].
– ومما يجوز تقديم النية فيه الأضحية فيجوز تقديمها على الذبح، ولا يجب اقترانها به في الأصح، كما تجوز النية فيها عند الدفع إلى الوكيل في الأصح.
– ومنها نية الاستثناء في اليمين فإنها تجب قبل الفراغ من الحلف مع وجوبها في الاستثناء أيضاً[351].
المبحث الثامن: النيابة في النية:
النيابة: مصدر ناب ينوب نوباً ومناباً ونياباً، يقال ناب عني فلان، ينوب مناباً أي قام مقامي[352].
والمراد بالنيابة هنا: أن ينوب شخص ما تأدية عبادة من غيره في صلاة أو صوم أو حج أو القيام بتصرف من التصرفات كالبيع أو الشراء والإجارة والمزارعة نيابة عن غيره ونحو ذلك.
المطلوب الشرعي ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما كان من قبيل العبادات.
الثاني: ما كان من قبيل العادات والمصالح الجارية بين الخلق.
1 - أما ما كان من قبيل العبادات كالصلاة، والزكاة، والصدقة، والصيام، والحج، والجهاد، وقراءة القرآن، وغير ذلك من أنواع القرب والطاعات فإن العلماء اختلفوا في حكم النيابة فيه على ثلاثة أقوال:
أ – المنع مطلقاً. وهو مذهب المالكية والمعتزلة[353].
ب – التفضيل: جواز ذلك في الحج ومنع ما سواه وهو مذهب الشافعي. وبه قال ابن عباس، وعلي بن أبي طالب[354]، وسعيد بن المسيب[355]، وإبراهيم النخعي[356]، وأهل الظاهر وغيرهم[357].
ج – والاقتصار على ما ورد في النصوص ومنه ما سواه، وهذا مذهب الإمام أحمد وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.(/55)
2 - وأمّا ما كان من قبيل العادات والمصالح الجارية بين الخلق فهذا النوع على قسمين:
أ – ما كان مشروعاً لحكمه لا تتعدى المكلف عادة أو شرعاً، كالأكل والشرب، واللبس والسكن، وغير ذلك مما جرت به العادات، كالنكاح، وأحكامه التابعة له من وجوه الاستماع التي لا يصح النيابة فيها شرعاً، وكذلك أيضاً أنواع العقوبات والجزاءات البدنية فهذه وأشباهها لا تجوز النيابة، لأن حكمة مشروعيتها لصاحبها لا تتعداه إلى غيره.
ب – القسم الثاني: ما لا تخص حكمة مشروعيته بصاحبه:
كالبيع والشراء والإجارة والخدمة والقبض والدفع ونحو ذلك مما هو في معناه، فالنيابة في هذه الأمور عن الغير صحيحة لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه[358] والله أعلم.
المبحث التاسع: بعض القواعد المندرجة تحت قاعدة ((الأمور بمقاصدها، والمتفرعة عليها.
القاعدة الأولى: يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد[359].
ومعنى القاعدة: أي حكم الوسيلة إلى الشيء يختلف عن حكم غايته ومقصوده، مثال ذلك:
يجوز الكذب لإصلاح ذات البين لتحقيق المصلحة مع أن الكذب في أصله محرم[360].
القاعدة الثانية: هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها.
– الأولى استعمال الألفاظ الموضوعة لكل عقد.
– إذا تعارف الناس على اصطلاح معين في العقود، كأن يكون البيع بالمعاطاة، أو بأي صيغة قولية تدل عليه وصار ذلك عرفاً جارياً معلوماً لكل أحد جاز ذلك، فإن الأولى عدم التحجر لما فيه من الضيق والحرج.
– النكاح لا يصح إلا بصيغته الموضوعة له، لخطره، ولأنه يحتاج إلى الإشهاد، ومثله العقود التي يقل تداولها والله أعلم[361].
القاعدة الثالثة: لا ثواب ولا عقاب إلا بنية.
الثواب والعقاب إما أن يكون دنيوياً وإما أن يكون أخروياً، فأما الثواب والعقاب الأخروي فإنه مترتب على النية جملة فإثابة المؤمنين برضاء الله بسبب ما أخلصوا لله من الأعمال الصالحة[362].(/56)
وأما الثواب والعقاب الدنيوي فلا يخلو العامل من أحد أمرين:
إما أن يكون مكلفاً أو غير مكلف، فإن كان مكلفاً وقام بطاعة الله جل وعلا حيي حياة طيبة، وإن عمل ما يستحق العقاب جوزي بما يستحق من حد أو تعزير أو ضمان.
وإن كان غير مكلف أثيب على الأعمال الصالحة تفضلاً من الله تعالى[363]، ولا تقام عليه الحدود لأنه غير مكلف[364]، وإن أتلف مالاً لزمه الضمان[365] فمدار ذلك على النية، فلا ثواب ولا عقاب إلا بالنية، وذلك أن النية شرط العمل وأساسه.
القاعدة الرابعة: التصرفات إذا كانت دائرة بين جهات شتى لا تنصرف لإحداها إلا بنية تصرف المكلف إما أن يكون لجهة معينة محددة وإما أن يكون لجهات متعددة متنوعة. فإن كان الأول فلا يحتاج إلى نية التعيين، وإنما يحتاج إلى نية قصد التصرف، وإن كان لجهات متعددة فلابد من نية التصرف ونية التعيين[366].
القاعدة الخامسة: مقاصد اللفظ على نية اللافظ إلا في موضع واحد وهو الحلف فإنه على نية المستحلف.
بمعنى أن مقاصد اللفظ على نية اللافظ، وأن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو طلب صاحب الحق من المنكر اليمين، ولو لم يكن ذلك في مجلس قضاء[367].
فعند الحنفية أن مقاصد اللفظ على نية اللافظ إلا في اليمين، فقد استثنوها فقالوا: اليمين عند القاضي على نية الحالف إن كان مظلوماً، وعلى نية المستحلف – أي القاضي إن كان الحالف ظالماً[368]. هذا في غير الطلاق والعتاق ففيها على نية الحالف سواء كان ظالماً مظلوماً وأمّا عند المالكية[369] والشافعية فاليمين على نية المستحلف – أي القاضي عند التحالف في الأحكام كلها، فلا يصح فيها التورية ولا ينفع الاستثناء. وأمّا عند الحنابلة: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ ولم يكن ظالماً[370] وهم بهذا كالحنفية.
المبحث العاشر: الغاية التي تتوجه إليها مقاصد المكلفين.(/57)
المقاصد التي يقصدها المكلفون بالعبادة تنحصر في مقصد واحد، وهو قصد الله دون سواه، هو الإخلاص.
والإخلاص لا يراد به التوجه إلى الله في عمل من الأعمال، بل المقصود به أن يتوجه المكلف بأعمالها كلها إلى الله وحده، دون سواه قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}[371].
قال الإمام العز ابن عبدالسلام:
"الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيماً من الناس ولا توقيراً ولا جلب نفع ديني ولا دفع ضرر دنيوي"[372].
وعليه: فإن صلاح العمل مرتبط بالنية وراجع إليها فإذا صلحت النية وخلصت لله جل وعلا كان العمل صالحاً. قال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً}[373]. وتتفاوت درجات العمل فتتفاوت درجات الإثابة، وذلك بحسب تفاوت درجات النية في الإخلاص والصدق والمحبة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"إن الكلام في مسألة النية شديد الارتباط بأعمال القلب ومعرفة مراتبها وارتباطها بأعمال الجوارح وبناؤها عليها وتأثيرها فيها صحة وفساداً، وإنما هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة وأن النية بمنزلة الروح والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارقته الروح يموت، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة عليها"[374].
((وإخلاص العبادة شرط في أولها، والحكمي كاف في دوامها، ولو وجب استحضار الإخلاص في جميع أجزاء العبادة لأدّى ذلك إلى الحرج المشقة))[375].
((والمخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله))[376].(/58)
وهذه الحالة أعلى درجات الإخلاص، وبالضرورة فإن الناس متفاوتون في درجات الإخلاص فأعلاهم وأكملهم في الإخلاص رسل الله وأنبياؤه، وأكمل رسل الله إخلاصاً أولو العزم منهم، وإمامهم في ذلك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليل الله إبراهيم عليه وعلى جميع الأنبياء الصّلاة والسّلام، ثم أتباع الرسل على حسب مراتبهم في الإخلاص.
وبالنظر في الأعمال فإن الإخلاص فيها يتفاوت من عمل إلى آخر، فالصلاة والصيام، والوضوء والغسل وغيرها غالب الناس يفعلها لله، والرياء فيها أقل من سائر الأعمال[377].
أما الأعمال المشتركة والمتعدية، فإن تطرق الرياء إليها أسرع، لذا اقتضت حكمة الله أن يكون ثواب العامل فيها أعظم من غيرها. دليل ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه))[378].
ولهذا فإنه ينبغي للعبد أن يتعبد لله بالإخلاص في كل جزء من أعماله فيستحضر بقلبه في أن يكون عمله خالصاً لوجه الله، راجياً منه الثواب على ذلك وحده.
وبهذه النية الصادقة يجعل الله البركة في أعمال العبد، ويكون اليسير منها أفضل من الكثير من عمل من خلا قلبه من هذه النية.
والنية أساس الأعمال وبها صلاحها، قال الله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً}[379].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).(/59)
فأخبر أن صلاح الأعمال وفسادها بالنيات، وأنه يحصل للعبد من الثمرات والنتائج بحسب نيته ومعلوم أن جميع العبادات لا تصح إلا بالنية، بأن ينوي ذلك العمل، ويميز بين العادات والعبادات، وبين مراتب العبادات، ثم لابد من ذلك أن يكون القصد منها، والغرض وجه الله وثوابه، وينبغي للعبد في العبادات أن يكون له فيها نية مطلقة عامة ونية خاصة مفيدة.
فأما النية العامة فإنه يعقد بقلبه عزماً جازماً لا تردد فيه أن جميع ما عمله من الأعمال الاعتقادية والبدنية والمالية، والقولية، والمركبة من ذلك مقصود بها وجه الله تعالى والتقرب إليه، وطلب رضاه واحتساب ثوابه، والقيام بما فرضه وأحبه الله لعبده، وأنه عبد مطلق يتصرف تصرف العبد المملوك فهذه النية العامة التي تأتي على عقائد الدين وأخلاقه، وأعماله الظاهرة والباطنة، ينبغي أن يجددها في قلبه كل وقت وحين، لتقوى وتتم ويكمل الله للعبد ما نقص من عمله، وما أخل به وأغفله من حقوق العبادات لعل الله يجزيه على تلك النية الشاملة للدقيق والجليل من أجر وثواب[380].
ولما كان الإخلاص هو حقيقة العبادة ولبها وشرطها الذي يصححها، بين الله سبحانه أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}[381].
وخلاصة القول:
"أن مدار العبادة على الإخلاص فمتى تحقق الإخلاص صح العمل، فكل أعمال القربة قليلها وكثيرها مرده إلى الإخلاص إذ ((لا وصول للسعادة إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم، فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير صدق وتحقق هباء))"[382].
ورحمة الله على سفيان الثوري عندما يقول:
"ما عالجت شيئاً عليّ أشد من نيتي، إنها تتقلب علي"[383].
نسأل الله العصمة والسلامة.
قائمة المراجع
مرتبة على حروف المعجم(/60)
1 - الإبداع في مضار الابتداع. لعلي محفوظ. دار الاعتصام، الطبعة السابعة.
2 - الإحكام في أصول الأحكام. للآمدي: طبعة دار الكتب، الطبعة الأولى سنة 1405هـ.
3 - الإحكام في أصول أحكام. لابن حزم طبعة زكريا يوسف – القاهرة، الطبعة الثانية.
4 - أحكام القرآن. لابن العربي – عيسى البابي الحلبي – الطبعة الثانية 1387هـ، 1967م.
5 - إحياء علوم الدين. للغزالي، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، القاهرة.
6 - إرشاد الفحول، للشوكاني، دار المعرفة، بيروت 1399هـ.
7 - الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد. للفوزان، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1411هـ.
8 - أساس البلاغة، للزمخشري. تحقيق عبدالرحيم محمود، القاهرة، مطبعة أولاد أورفاند سنة 1372هـ، الطبعة الأولى سنة 1408هـ.
9 - الاستصلاح – لمصطفى الزرقا. دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى سنة 1408هـ.
10 - أصول الفقه. للخضري، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الرابعة سنة 1382هـ.
11 - أصول الفقه. لحسين حامد، المطبعة العالمية، القاهرة سنة 1970م.
12 - أصول الفقه للزحيلي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، سنة 1406هـ.
13 - أصول الفقه. لزكي الدين شعبان، مطابع دار الكتب، بيروت، الطبعة الثانية، سنة 1971م.
14 - أصول الفقه. لأبي زهرة. دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الأولى.
15 - أصول الفقه. لعباس حمادة. دار النهضة العربية، بمصر، الطبعة الثانية. سنة 1388هـ.
16 - أصول الفقه، لمحمد أبو النور زهير، دار الاتحاد العربي للطباعة، مصر. بدون تاريخ.
17 - أصول مذهب الإمام أحمد – لعبدالله التركي. مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة – 1410هـ.
18 - الاعتصام للشاطبي، ضبط: أحمد عبدالشافي – دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1408هـ – 1988م.
19 - الأعلام – للزركلي – الطبعة الثالثة، سنة 1389هـ.
20 - أعلام الموقعين – لابن القيم – دار الكتب الحديثة – القاهرة.(/61)
21 - اقتضاء الصراط المستقيم – لابن تيمية – تحقيق د. ناصر العقل، شركة العبيكان، بالرياض، الطبعة الأولى، سنة 1404هـ.
22 - الأم – للشافعي، كتاب الشعب. سنة 1388هـ – 1968م.
23 - الإنصاف في مسائل الخلاف. للمرداوي – القاهرة – الطبعة الأولى. سنة 1374هـ.
24 - البحر المحيط – للزركشي دار الصفوة، الكويت، الطبعة الثانية، سنة 1413هـ، 1992م.
25 - بدائع الفوائد – لابن القيم – دار الطباعة المنيرية، القاهرة.
26 - بداية المجتهد – لابن رشد – مكتبة الكليات الأزهرية، سنة 1368هـ – 1966م.
27 - البداية والنهاية لابن كثير، نشر مكتبة الفلاح بالرياض.
28 - البدعة والمصالح المرسلة. لتوفيق الواعي، دار التراث، الكويت، الطبعة الأولى، سنة 1404هـ.
29 - بغية الوعاة للسيوطي. عيسى البابي الحلبي، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1384هـ – 1965م.
30 - تبين الحقائق شرح كنز الدقائق، للزيعلي الحنفي، الطبعة الأولى، سنة 1315هـ.
31 - تذكرة الحفاظ – للذهبي – دار إحياء التراث العربي، بيروت – الطبعة الرابعة – بدون تاريخ.
32 - التعريفات. للجرجاني. مكتبة مصطفى البابي الحلبي – القاهرة، 1357هـ – 1938م.
33 - تعليل الأحكام. لمحمد شلبي – دار النهضة العربية – بيروت – سنة 1981م.
34 - تلبيس إبليس. لابن الجوزي – دار الوعي، بيروت.
35 - تهذيب التهذيب. لابن حجر – طبع الهند، حيدر آباد – الطبعة الأولى، سنة 1325هـ.
36 - تهذيب اللغة. لمحمد الأزهري، تحقيق عبد السلام هارون – المؤسسة المصرية العامة للتأليف.
37 - التوضيح – لصدر الشريعة – مصر – مطبعة دار الكتب العربية الكبرى، سنة 1327هـ.
38 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن. للطبري، شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثالثة، سنة 1373هـ – 1954م.
39 - الجامع لأحكام القرآن – للقرطبي، دار الكتاب العربي –القاهرة– عن طبعة دار الكتب – الطبعة الثانية – 1387هـ – 1967م.(/62)
40 - جامع الترمذي. أبو عيسى محمد بن عيسى. دار الدعوة، بتركيا، سنة 1401هـ.
41 - جامع العلوم والحكم. لابن رجب – دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
42 - جلاء العينين للآلوسي، دار الكتب العلمية. بيروت.
43 - جمع الجوامع - لابن السبكي، مصر مصطفى محمد، سنة 1358هـ.
44 - جمع الفوائد – لمحمد بن محمد بن سليمان – المدينة المنورة، سنة 1381هـ – 1961م.
45 - حاشية السندي على النسائي، المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة.
46 - حاشية ابن عابدين ((رد المحتار)) مطبعة مصطفى البابي الحلبي – القاهرة – الطبعة الثانية – 1386هـ – 1966م.
47 - الحطاب على خليل ((مواهب الجليل)) مكتبة النجاح – ليبيا.
48 - حقيقة البدعة وأحكامها – لسعيد الغامدي، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى سنة 1412هـ.
49 - خلاصة تهذيب الكمال. لصفى الدين الخزرجي، تحقيق محمود عبد الوهاب، نشر مكتبة القاهرة سنة 1392هـ – 1972م.
50 - درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، مكتبة النهضة، بيروت – بغداد.
51 - دستور الأخلاق – لمحمد بن عبد الله دراز، مؤسسة الرسالة، بيروت – الطبعة الأولى. سنة 1393هـ – 1973م.
52 - دليل الفالحين شرح رياض الصالحين. لمحمد الصديقي – مطبعة حجازي، القاهرة. سنة 1357هـ – 1938م.
53 - الذخيرة – للقرافي – مطبعة كلية الشريعة. القاهرة سنة 1381هـ – 1961م.
54 - الذيل على طبقات الحنابلة – لابن رجب، مصر مطبعة السنة المحمدية، سنة 1371هـ – تصحيح محمد حامد الفقي.
55 - الرعاية لحقوق الله – للحارث المحاسبي، دار الكتب الحديثة – القاهرة – ومكتبة المثنى ببغداد.
56 - روضة المحبين. لابن القيم – مكتبة الجامعة، القاهرة، 1973.
57 - روضة الناظر. لابن قدامة – المطبعة السلفية. القاهرة، سنة 1378هـ.
58 - السبب عند الأصوليين – د. عبد العزيز الربيعة، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، سنة 1399هـ.(/63)
59 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني، المكتب الإسلامي، دمشق وبيروت – الطبعة الثانية 1399هـ.
60 - سلم الوصول شرح نهاية السول. لمحمد بخيت المطيعي، المطبعة السلفية، بمصر.
61 - سنن أبي داود. تحقيق عزت عبيد، وعادل السيد، حمص، دار الحديث، الطبعة الأولى، سنة 1389هـ.
62 - سنن الترمذي. تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، وعبد الرحمن عثمان، دار الفكر، بيروت الطبعة الثانية، سنة 1403هـ.
63 - سنن الدارقطني، علي بن عمر، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثانية، سنة 1403هـ.
64 - سنن الدارمي. بتحقيق محمد دهمان، مطبعة الاعتدال، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1349هـ.
65 - سنن النسائي – المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1348هـ.
66 - سنن ابن ماجة – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1374هـ.
67 - سير أعلام النبلاء. للذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، سنة 1402هـ.
68 - شرح التلويح على التوضيح. للتفتازاني – طبعة صبيح – القاهرة، دون تاريخ.
69 - شرح حديث إنما الأعمال بالنيات – لابن تيمية – المكتبة السلفية – القاهرة – الطبعة الأولى 1396هـ.
70 - شذرات الذهب. لابن عماد الحنبلي – المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت. دون تاريخ.
71 - شرح الأسنوي المسمى نهاية السول – مطبعة السعادة – مصر. دون تاريخ.
72 - شرح الكوكب المنير – للفتوحي، تحقيق محمد حامد الفقي. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1972م.
73 - شرح جمع الجوامع، للمحلي، مطبعة مصطفى محمد، مصر سنة 1358هـ.
74 - شرح مختصر الروضة للطوفي. تحقيق الدكتور عبد الله التركي. مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى، سنة 1410هـ – 1990م.
75 - شرح المنار في أصول الفقه، لابن ملك – المطبعة العثمانية، 1319هـ.
76 - شرح المنار – للنسفي، المطبعة الأميرية، بمصر، الطبعة الأولى، سنة 1316هـ.(/64)
77 - شجرة النور الذكية. لمحمد مخلوف – دار الكتاب العربي. بيروت، مصورة عن الطبعة الأولى 1349هـ.
78 - شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل – للغزالي. مطبعة الإرشاد. بغداد الطبعة الأولى، سنة 1390هـ – 1971م.
79 - الصحاح. للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، لبنان، الطبعة الثانية 1399هـ.
80 - صحيح البخاري. (مع شرح فتح الباري) تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، ومحب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1379هـ.
81 - صحيح ابن حبان – تحقيق عبدالرحمن عثمان، نشر محمد الكتبي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، سنة 1390هـ.
82 - صحيح ابن خزيمة، تحقيق محمد الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1391هـ.
83 - صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة. الطبعة الأولى، سنة 1373هـ.
84 - ضوابط المصلحة – لمحمد سعيد البوطي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، سنة 1402هـ.
85 - طبقات الحفاظ، للسيوطي، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1393هـ.
86 - طبقات الشافعية الكبرى – لابن السبكي – المطبعة الحسينية، مصر، الطبعة الأولى.
87 - الطبقات الكبرى، لابن سعد، طبع دار التحرير للطبع والنشر.
88 - عوارض الأهلية للجبوري، مطابع جامعة أم القرى، بمكة المكرمة، الطبعة الأولى، سنة 1408هـ.
89 - عوارف المعارف – للسهروردي – دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1366هـ.
90 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري. للعيني، إدارة الطباعة المنيرية.
91 - غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر، للحموي – دار المعرفة – بيروت.
92 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر – المطبعة السلفية ومكتبتها.
93 - الفتح المبين في طبقات الأصوليين. للمراغي – نشر محمد أمين، بيروت، الطبعة الثانية سنة 1394هـ.(/65)
94 - الفروق. للقرافي – دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، سنة 1344هـ.
95 - فيض القدير، للمناوي – المكتبة التجارية الكبرى. مصر، سنة 1351هـ، 1938م.
96 - القاموس المحيط. للفيروزآبادي، المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة.
97 - القسطلاني على البخاري، وهو الشرح المسمى إرشاد الساري، طبعة مصورة عن طبعة المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، سنة 1304هـ دار صادر، بيروت، الطبعة السادسة.
98 - قواعد الأحكام – للعز بن عبدالسلام. مكتبة الكليات الأزهرية. سنة 1388هـ – 1968م.
99 - القواعد لابن رجب. دار الجيل، بيروت، الطبعة الثانية، سنة 1408هـ – 1988م.
100 - قواعد السيوطي، ((الأشباه والنظائر)) دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1399هـ.
101 - قواعد ابن نجيم ((الأشباه والنظائر)) دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1400هـ.
102 - القواعد والفوائد الأصولية، لابن اللحام، تحقيق محمد الفقي مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، سنة 1375هـ.
103 - القوانين الفقهية، لابن جزي المالكي، تحقيق طه سعد، ومصطفى الهواري، عالم الفكر، الطبعة الأولى.
104 - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة. للذهبي – دار الكتب الحديثة، القاهرة الطبعة الأولى، سنة 1392هـ – 1972م.
105 - الكرماني على البخاري، المسمى (([الكواكب] الدراري في شرح صحيح البخاري))، المطبعة المصرية، الطبعة الأولى، سنة 1351هـ – 1932م.
106 - كشف الأسرار على أصول البزدوي. للبخاري، تحقيق محمد المعتصم بالله، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1411هـ – 1991م.
107 - لسان العرب – لابن منظور، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، مصر، سنة 1301هـ.
108 - لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت.
109 - لسان الميزان، لابن حجر، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت – الطبعة الثانية، سنة 1390هـ – 1971م.
110 - المانع عن الأصوليين. د – عبدالعزيز الربيعة. الطبعة الثانية، سنة 1407هـ – 1987م.(/66)
111 - مباحث الحكم عند الأصوليين. لمحمد مدكور، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، سنة 1384هـ.
112 - مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – العدد الخامس – مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، شهر محرم 1412هـ.
113 - المجموع للنووي، الناشر زكريا علي يوسف، القاهرة.
114 - مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع ابن قاسم، طبع في السعودية، الطبعة الأولى، سنة 1381هـ.
115 - مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع ابن قاسم، الطبعة الأولى، الطبعة المصورة عنها سنة 1398هـ.
116 - مختار الصحاح للرازي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1967م.
117 - مختصر ابن الحاجب – المطبعة الأميرية ببولاق، مصر الطبعة الأولى، سنة 1316هـ.
118 - مدارج السالكين، لابن القيم، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة.
119 - المدخل. لابن الحاج – دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية – 1972م.
120 - مصابيح السنة. للبغوي، تحقيق يوسف المرعشلي، وآخرين. دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1407هـ.
121 - مصادر التشريع الإسلامي ومناهج الاستنباط. لمحمد أديب صالح – المطبعة التعاونية سنة 1387هـ.
122 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للفيومي، مطبعة الحلبي، سنة 1369هـ.
123 - معارج القبول بشرح سلم الوصول، للحكمي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1403هـ.
124 - معالم السنن، للخطابي، مطبعة السنة المحمدية، سنة 1369هـ.
125 - معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، سنة 1366هـ – 1371هـ.
126 - معجم المؤلفين – لعمر رضا كحالة – مكتبة المسنى، ودار إحياء التراث.
127 - المغنى – لابن قدامة – مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، سنة 1401هـ.
128 - مفتاح دار السعادة، لابن القيم – دار الكتب العلمية، بيروت.
129 - المقاصد الحسنة للسخاوي، مكتبة الخانجي، بغداد، سنة 1375هـ.(/67)
130 - مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، الشركة التونسية – سنة 1366هـ.
131 - مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها – لعلال الفاسي – مكتبة الوحدة العربية بالدار البيضاء.
132 - المقاصد العامة – ليوسف حامد. نشر الدار العالمية للكتاب الإسلامي، الرياض، الطبعة الأولى، سنة 1412هـ – 1991م.
133 - مقاصد المكلفين – د – عمر الأشقر – دار الفلاح، الكويت، الطبعة الثانية، سنة 1411هـ – 1991م.
134 - منتهى الآمال في شرح حديث إنما الأعمال، للسيوطي تحقيق مصطفى عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، سنة 1406هـ – 1986م.
135 - المنشور في القواعد الفقهية. للزركشي، تحقيق تيسير فائق، منشورات وزارة الأوقاف، بالكويت، الطبعة الأولى، سنة 1402هـ.
136 - الموافقات للشاطبي، طبعة صبيح، القاهرة.
137 - الموافقات للشاطبي، دار المعرفة، بيروت.
138 - الموطأ – للإمام مالك بن أنس، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – القاهرة، مطبعة البابي، الطبعة الأولى، سنة 1389هـ.
139 - ميزان العمل للغزالي – دار المعارف، مصر، الطبعة الأولى، سنة 1964م.
140 - نزهة الخاطر والعاطر – لابن بدران، مكتبة المعارف، الرياض. الطبعة الثانية، سنة 1404هـ.
141 - نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي: لحسين حامد سنة 1981م.
142 - نهاية الأحكام في بيان ما للنية من أحكام – المطبعة الأميرية، سنة 1320 – 1903م.
143 - نيل الابتهاج بتطريز الديباج، للتنبكتي، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.
144 - النية وأثرها في الأحكام الشرعية. د – صالح السدلان – مكتبة الخريجي، الرياض، الطبعة الأولى، سنة 1404هـ – 1989م.
145 - الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، للبورنو. مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثانية، سنة 1410هـ – 1989م.
146 - الوسيط في أصول الفقه الإسلامي – لوهبة الزحيلي – المطبعة العلمية، دمشق، الطبعة الثانية، سنة 1388هـ.(/68)
147 - وفيات الأعيان – لابن خلكان – طبعة دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] القاموس المحيط وتاج العروس 2/466.
[2] هو أبو الفضل جمال الدين، محمد بن مكرم بن علي بن منظور، الأنصاري الرويفعي، الإفريقي، صاحب لسان العرب، الإمام اللغوي، الحجة، من نسل رويفع بن ثابت الأنصاري، ولد بمصر، وقيل بطرابلس الغرب سنة 630هـ، وخدم في ديوان الإنشاء بالقاهرة ثم ولي القضاء في طرابلس، وعاد إلى مصر فتوفي فيها سنة 711هـ، وقد عمي في آخر عمره، أشهر كتبه، لسان العرب ومختار الأغاني ومختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، وغيرها وله شعر رقيق. (وفيات الأعيان 2/524 – 525، بغية الوعاة، ص106 – 107، الأعلام 7/329).
[3] لسان العرب 4/353.
[4] هو أبو الحسين، أحمد بن فارس بن زكريا، الفزويني الرازي، ولد سنة 329هـ من الأئمة في علوم شتى، وخصوصاً اللغة والأدب، قرأ عليه البديع الهمداني، والصاحب بن عباد، وغيرهما من أعيان البيان، أصله من قزوين، وأقام مدة في همدان ثم انتقل إلى الري فتوفي فيها سنة 395هـ وقيل: 390هـ وإليها نسبته، من تصانيفه: معجم مقاييس اللغة، والمجمل، وجامع التأويل في تفسير القرآن، وحلية الفقهاء، وله شعر حسن، (وفيات الأعيان 1/100 – 101، الرسالة المستطرفة، ص52، الأعلام 1/184.
[5] معجم مقاييس اللغة 5/95.
[6] هو أبو الحسن الضرير، علي بن أحمد بن سيدة النحوي، الأندلسي، كان إماماً حافظاً، عالماً بالنحو والفقه، له مصنفات منها المحكم والمحيط الأعظم، والمخصص، توفي سنة 458هـ عن نحو 60 سنة. (وفيات الأعيان 3/17 – 18 – ولسان الميزان 4/205 – 206، وبغية الوعاة، ص327.
[7] سورة النحل، الآية: 9.
[8] في الأصل: (قصدك)، والتصويب من المحكم والمحيط الأعظم.
[9] المحكم، والمحيط الأعظم، باب قصد.(/69)
[10] هو أبو إسحاق، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، الغرناطي، الشهير بالشاطبي، من أهل غرناطة أصولي، حافظ، مجتهد حريص على اتباع السنة، مجانب للبدع، كان من أئمة المالكية، من تصانيفه: الموافقات – في أصول الفقه – والمجالس – شرح به كتاب البيوع من صحيح البخاري – والاعتصام، توفي سنة 790هـ. ((نيل الابتهاج بتطريز الديباج ص46 – 50، الأعلام 1/71، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية ص321.
[11] مقاصد الشريعة الإسلامية، ص51.
[12] مقاصد الشريعة الإسلامية، ص154.
[13] مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص3.
[14] مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص41 – 42
[15] نظرية المقاصد عند الشاطبي، ص7.
[16] المرجع السابق، ص7 – 8.
[17] هو عبدالوهاب خلاف بك، ولد سنة 1888م بمدينة كفر الزيات في مصر، أرسله والده سنة 1902م لطلب العلم بالجامع الأزهر بالقاهرة، وفي سنة 1915م، نال الشهادة العالمية من مدرسة القضاء الشرعي، وفي سنة 1921م، عين قاضياً بالمحاكم الشرعية، توفي سنة 1380هـ، من مؤلفاته علم أصول الفقه. ينظر (الفتح المبين 3/206).
[18] أصول الفقه لخلاف ص231.
[19] العيني على البخاري 1/23.
[20] تهذيب اللغة ج15 ص556 – ولسان العرب مادة ((نوى)) ج3 ص751.
[21] هو أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب الماوردي، البصري، ولد في البصرة وانتقل إلى بغداد، وتوفي بها سنة 450هـ، عالم، باحث، له تصانيف منها، الدنيا والدين، الأحكام السلطانية، والحاوي، اشتغل بالقضاء، وجعل أقضى القضاة في أيام القائم بأمر الله، ((وفيات الأعيان 3/282 – شذرات الذهب 3/285 – تاريخ بغداد 12/11 – البداية والنهاية 11/8 – الأعلام 5/146.
[22] نهاية الأحكام ص7.
[23] تهذيب اللغة 15/556.
[24] في الأصل: (لنة).
[25] المصدر السابق.
[26] لسان العرب – لابن منظور 3/751.
[27] لسان العرب 3/990.
[28] القاموس المحيط – للفيروز آبادي 4/397.
[29] معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/366.(/70)
[30] هو عروة بن الزبير بن العوام، تابعي جليل، وأحد فقهاء المدينة السبعة، اعتزل الفتن ولد سنة 22هـ وتوفي سنة 92هـ بالمدينة.
[31] القاموس المحيط – للفيروز آبادي 4/397.
[32] الصحاح – للجوهري 6/2516.
[33] لسان العرب مادة نوى. وما ذكره ابن منظور عن عروة ليس حديثاً مرفوعاً، بل ليس من قول عروة بن الزبير، بل هو قول هشام أخرجه مالك في الموطأ، في باب الطلاق (رقم 89 ص632).
[34] المصباح المنير ص632.
[35] لسان العرب مادة نوى.
[36] هو أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، الشافعي، ولد في قرية ((نوى)) من قرى حوران سنة 631هـ، وبها توفي عام 676هـ، كان علامة بالفقه والحديث، تعلم في دمشق، وأقام بها زمناً طويلاً، من كتبه: شرح صحيح مسلم، والمجموع شرح المهذب، ورياض الصالحين. ((طبقات الحفاظ ص510، وشذرات الذهب 5/354 تذكرة الحفاظ 4/1470)).
[37] المجموع 1/367.
[38] هو أبو العباس، أحمد بن إدريس بن عبدالرحمن الصنهاجي، المصري، المالكي، أخذ عن العز بن عبدالسلام، وعن ابن الحاجب، له مؤلفات منها: التنقيح في الأصول، وشرح المحصول، والذخيرة توفي عام (684هـ) وكان ولادته سنة (626هـ). ((معجم المؤلفين 1/158 – الديباج المذهب ص62 – الأعلام 1/90 – الفتح المبين 2/86 – 87.
[39] الذخيرة 1/134 – مواهب الجليل 2/230.
[40] هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي، فقيه محدّث، من نسل زيد بن الخطاب، له كتاب ((معالم السنن، وغريب الحديث))، ولد سنة 319هـ، وتوفي في بست من بلاد كابل سنة (388هـ) ((طبقات الحفاظ)) ص403، الأعلام 2/204.
[41] العيني على البخاري 1/3.(/71)
[42] هو أبو المعالي، عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني، الشافعي – مجمع على إمامته وتفننه في العلوم من الأصول والفروع، خرج من نيسابور لفتنة بين المعتزلة والأشاعرة، وأقام ببغداد ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة، ثم رجع إلى نيسابور، ومات بها، من كتبه البرهان في أصول الفقه والإرشاد، والورقات، وغيرها، مات سنة 478هـ ((وفيات الأعيان 3/167 – طبقات السبكي 5/165 – سير أعلام النبلاء 18/468 – الأعلام 4/160.
[43] نهاية الأحكام ص7.
[44] هو أبو عبدالله، محمد بن أبي بكر بن سعد الزرعي الدمشقي، ولد في دمشق عام 691هـ – عالم فقيه أديب مجاهد مصلح، تتلمذ على ابن تيمية وانتصر له، وسجن معه بدمشق – له مؤلفات كثيرة منها: أعلام الموقعين، ومدارج السالكين وزاد المعاد وغيرها توفي سنة (571هـ). ((شذرات الذهب 8/434 – البداية والنهاية 14/234 – الدرر الكامنة 3/400 – الأعلام 1/189.
[45] هو سعيد بن عمرو، [وقيل: عمرو بن] سعيد، صحابي، نزل الشام، له أحاديث كثيرة في كتب الصحاح والسنن، راجع الكاشف (3/370).
[46] هو أبو عبدالله، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، إمام المذهب الحنبلي، وأحد الأئمة الأربعة، له موقف مشهود في التصدي للذين قالوا: بخلق القرآن، أصله من ((مرد)) ولد بغداد سنة (164هـ) ورحل في طلب العلم، وألف، وصنف، ومن كتبه المسند. قال الشافعي فيه: خرجت من بغداد فما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل، توفي في بغداد سنة 241هـ، طبقات الحفاظ ص186، وخلاصة تهذيب الكمال ص29، طبقات الحنابلة جـ1 ص4، تاريخ بغداد جـ4 ص412، مرآة الجنان جـ2 ص132.
[47] هو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي، الترمذي، أحد أئمة الحديث وحفاظه – ولد في ترمذ سنة 209هـ وله كتاب السنن. أحد أئمة الكتب الستة المعتمدة في الحديث وله الشمائل، والعلل وغيرها، توفي في ترمذ في رجب 279هـ.(/72)
[48] أخرجه أحمد في المسند 4/230 – 231 – والترمذي في السنن (4/562) كتاب الزهد (37)، باب ما جاء مثل الدنيا أربعة نفر (17) الحديث (2325) وقال حسن صحيح. وابن ماجة في السنن 2/1413، كتاب الزهد (37) باب النية (26) الحديث (4228).
[49] بدائع الفوائد – لابن قيم الجوزية 3/189.
[50] هناك فرق بين قسمين وقسيمين، فالمراد بقسمان: أن العزم والقصد جزآن للنية بكونهما قسمين أي أن القصد والعزم والنية أقسام لكلمة أعم منها هي الإرادة.
[51] نهاية الأحكام للسيوطي نقلاً عن القرافي في الأمنية 14/أ.
[52] المجموع – للنووي 1/367.
[53] هو محمد بن يوسف [بن] على الكرماني – أصله من كرمان، واشتهر ببغداد، وأقام بمكة، له: الكوكب [الدراري] شرح صحيح البخاري وشرح مختصر ابن الحاجب، ولد سنة 717هـ وتوفي ببغداد سنة 786هـ. معجم المؤلفين 12/129 – بغية الوعاة 1/279.
[54] الكرماني على البخاري 1/18، ونقله عن العيني في العمدة 1/23. وانظر منتهى الآمال 13/أ، ب.
[55] هو محمد بن بهادر بن عبدالله الزركشي، فقيه شافعي، عالم بالأصول، تركي الأصل، مصري المولد والوفاة (ولد سنة 745هـ وتوفي سنة 794هـ) وله كتاب القواعد المسمى بالمنثور، وكتاب: إعلام الساجد بأحكام المساجد، الأعلام 6/286.
[56] منتهى الآمال ص13.
[57] العيني على البخاري 1/23.
[58] هو محمد أمين بن عمر بن عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره، مولده ووفاته في دمشق، ولد سنة 1198هـ وتوفي سنة 1252هـ – له رد المحتار على الدار المختار، ونسمات الأسحار على شرح المنار، ترجمته في الأعلام 6/267.
[59] حاشية ابن عابدين 1/304.
[60] هو علي بن محمد بن علي السيد الزين الجرجاني، من كبار علماء العربية، ولد في تاكو سنة (740هـ) ودرس في شيراز وتوفي بها سنة (816هـ)، وله كتاب: التعريفات وشرح مواقف الإيجي. راجع: الأعلام 5/816.
[61] التعريفات ص10.(/73)
[62] محمد بن عبدالله زار – عالم فاضل، له مؤلفات كثيرة، مولده ووفاته في مصر، وكانت وفاته في عام 1958م.
[63] دستور الأخلاق ص421.
[64] الأشباه والنظائر – للسيوطي ص20.
[65] هو محمد بن الحسن بن علي بن عمر الإسنوي – أحد علماء الشافعية، ولد في إسنا سنة 695هـ وتعلم الفقه بها ثم تعلم في القاهرة والشام، وقد توفي بالقاهرة سنة 764هـ من مؤلفاته: حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب. والمعتبر في علم النظر.. في الجدل، وقد شرحه وشرح المنهاج للبيضاوي إلا أنه لم يتمه، راجع شذرات الذهب جـ6 ص202 والأعلام جـ6 ص319.
[66] منتهى الآمال، ص25.
[67] مجمع الفتاوى لابن تيمية 26/31.
[68] مقاصد المكلفين د. عمر الأشقر ص30.
[69] بدائع الفوائد – لابن القيم 3/192.
[70] هو سليمان بن بلال التيمي مولاهم المدني، أحد علماء البصرة، قال ابن سعد: كان بربرياً جميلاً حسن الهيئة عاقلاً، وكان يفتي وولي خراج المدينة، وكان ثقة، كثير الحديث، مات سنة (172هـ). راجع تهذيب التهذيب 4/175 والكاشف 1/391.
[71] الكرماني على البخاري 1/18.
[72] مقاصد المكلفين – د. عمر الأشقر ص30.
[73] هو عبدالله بن عمر الشيرازي، ولي قضاء شيراز، ثم رحل إلى تبريز، وتوفي بها سنة 685هـ، من مؤلفاته تفسيره المشهور، وموضوعات العلوم وتعاريفها، ومنهاج الوصول إلى علم الأصول، والغاية القصوى في دراية الفتوى، وغيرها. راجع البداية والنهاية 13/309 – الأعلام 4/248 – طبقات السبكي 5/59.
[74] الكرماني على البخاري 1/18 – العيني على البخاري 1/23 – الأشباه والنظائر للسيوطي، ص30.
[75] سبقت ترجمته.
[76] ينظر: نهاية الأحكام لأحمد بك ص7.(/74)
[77] من الذين تابعوا القاضي البيضاوي على قوله ابن حجر العسقلاني، و[المناوي]، والسيوطي، والكرماني، والسندي، والشوكاني، وصاحب دليل الفالحين، والطيبي، وصاحب التوضيح من الحنابلة. راجع الفتح لابن حجر 1/13، وفيض القدير 1/30، ونبل الأوطار 1/148، والكرماني على البخاري 1/18، وحاشية السندي على النسائي 1/59، والأشباه والنظائر للسيوطي ص30، والتوضيح ص25، ودليل الفالحين 1/52.
[78] مقاصد المكلفين، ص32.
[79] العسقلاني على البخاري 1/52.
[80] مقاصد المكلفين، ص33.
[81] هو محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني والمعروف بالأمير، محدث فقيه أصولي متعلم، من أئمة اليمن، له مؤلفات منها: سبل السلام شرح بلوغ المرام، و((العدة)) حاشية على ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد، ولد عام 1099هـ وتوفي عام 1182هـ.
[82] أخرجه أحمد في المسند 1/397.
* فائدة (فتن/8) وابن ماجة (فتن30) وحديث من ((غزا ولا ينوي إلا عقالاً فله نيته)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/135 ، 320/329 والدارمي (جهاد/23).
[83] هو أحمد بن أحمد بن يوسف الحسيني، محام من فقهاء الشافعية، ولد وتوفي بالقاهرة (1271 – 1332هـ) له كتاب ((مرشد الأنام)) شرح فيه قسم العبادات من كتاب الأم في 24 مجلداً، وله كتب كثيرة غيره منها نهاية الأحكام في بيان ما للنية من أحكام. (معجم المؤلفين 1/157 – الأعلام 1 – 90).
[84] نهاية الأحكام، ص8.
[85] نهاية الأحكام ص9.
[86] المصدر السابق. يراجع – مقاصد المكلفين، ص35.(/75)
[87] هو أبو القاسم، جار الله محمود بن عمر بن محمد الزمخشري، نسبته إلى زمخشر ((قرية من قرى خوارزم)) ولد سنة 467هـ، كان إمام عصره بلا مدافع، نحوياً فقيهاً، مناظراً، بيانياً، متكلماً، أديباً شاعراً مفسراً، من أكابر الحنفية، حنفي المذهب، معتزلي المعتقد، له في العلو آثار ليست لغيره من أهل عصره، جاور بمكة زماناً، فكان يسمى جار الله، وتوفي بجرجانية خوارزم سنة 358هـ، تصانيفه كثيرة، ومنها: الكشاف في التفسير، وأساس البلاغة في اللغة، والمفصل في النحو. راجع (وفيات الأعيان 4/254 – 260 تاج التراجم 71 – 72 – الفوائد البهية ص209 – 210 – الرسالة المستطرفة ص157.
[88] أساس البلاغة، مادة ((كلف)).
[89] معجم مقاييس اللغة، مادة ((كلف)).
[90] لسان العرب، مادة ((كلف)).
[91] عوارض الأهلية د. الجبوري، ص16.
[92] هو أبو الحسن علي بن أبي علي بن سالم التغلبي الآمدي ولد بآمد ((بلدة بديار بكر)) عام 551هـ، وقدم بغداد وتعلم وتفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ثم صار شافعياً، واشتغل بعلم الخلاف، وتفنن في النظر، ويقال إنه حفظ الوسيط لأبي حامد الغزالي، ويذكر عن ابن عبدالسلام أنه قال: ما علمت قواعد البحث إلا من السيف الآمدي، وما سمعت أحداً يلقي الدرس أحسن منه، وكان إذا غير لفظه من الوسيط، كان اللفظ الذي يأتي به أقرب إلى المعنى، وقال: ولو ورد على الإسلام من الشكلة فيه من المتزندقة لتعين الآمدي لمناظرته، وقد حسده بعض الفقهاء فتعصبوا عليه ونسبوه إلى فساد العقيدة والتعطيل، ومذهب الفلاسفة، فخرج مستخفياً إلى حماة من الشام، ومنها إلى دمشق وتوفي فيها سنة 631هـ، وله نحو عشرين مصنفاً منها: الإحكام في أصول الأحكام، ومختصره ((منتهى السول)) وأبكار الأفكار وفي علم الكلام لباب ودقائق الحقائق. وفيات الأعيان 2/455 – الأعلام 5/153 – السبكي 5/129.
[93] الإحكام في أصول الأحكام – الآمدي 1/115.(/76)
[94] مقاصد المكلفين، ص42 – 43.
[95] أخرجه البخاري معلقاً في الصحيح 9/388، ولكن رواية (المعتوه حتى يعقل) وأبو داود في السنن 4/560، كتاب الحدود (32) باب في المجنون يسرق... (16)، الحديث (4403)، وأخرجه الترمذي في السنن 4/32، كتاب الحدود (15) باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد (1)، الحديث (4403)، وابن ماجة في السنن 1/658، كتاب الطلاق (10) باب طلاق المعتوه.. (15) الحديث (2041)، وابن حبان، ذكر الهيثمي في موارد الظمآن، ص360، كتاب الحدود (23)، باب فيمن لأحد عليه (2)، الحديث (497)، وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/258، كتاب الصلاة، باب رفع القلم عن ثلاث... وقال الصحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
[96] روضة الناظر لابن قدامة ص26.
[97] سورة الذاريات الآية 56.
[98] الموافقات – للشاطبي، 2/168 – 176.
[99] ينظر الموافقات – للشاطبي 2/176.
[100] ينظر الموافقات – للشاطبي 2/196.
[101] الموافقات للشاطبي 2/331.
[102] الموافقات للشاطبي (2/331 – 375).
[103] مقاصد المكلفين – للأشقر، ص61.
[104] سورة آل عمران من الآية 152.
[105] سورة الكهف، الآية: 28.
[106] سورة الزمر، الآية: 2.
[107] سورة البينة، الآية: 5.
[108] بداية المجتهد – لابن رشد 1/8 – وتفسير القرطبي عند تفسيره للآيتين السابقتين.
[109] سورة البينة، الآية: 5، وممن قال بهذا السيوطي في منتهى الآمال.
[110] سورة الإسراء، الآية: 84 – وينظر: فتح الباري لابن حجر 1/136.
[111] سورة الكهف، الآية: 115.
[112] سورة الليل، الآيتين 19، 20.
[113] سورة البقرة، الآية 265.
[114] ينظر الموافقات للشاطبي 2/238، مقاصد المكلفين للأشقر ص63.(/77)
[115] هو الصحابي الجليل، عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، أبو حفص، وعبدالله، ثاني الخلفاء الراشدين، وأول من لقب بأمير المؤمنين، بلغ في الشجاعة، والحزم، والعدل، والعبادة، مبلغاً عظيماً، فتحت في عهده الفتوحات، وانتشر الإسلام، ولد بمكة قبل الهجرة بـ(40) سنة وتوفي في المدينة سنة (23) هجرية شهيداً، قتله أبو لؤلؤة المجوسي، ينظر خلاصة تهذيب الكمال 2/268 – الكاشف 2/309 – طبقات الحفاظ ص3.
[116] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي، الحديث الأول (1/9)، وفي كتابه الإيمان، حديث (54) (1/135) وفي كتاب العتق (حديث رقم 2529 جـ5/160) – وفي كتاب مناقب الأنصار ورقمه (6689 جـ11/752)، وفي كتاب الحيل ورقمه (6953 جـ12/327) ((الصفحات والأرقام لفتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر)). وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة 13/53 (مسلم بشرح النووي), وأخرجه أبو داود في سننه في كتاب الطلاق (2/352). وأخرجه الترمذي في سننه في كتاب الحدود، في باب من يقاتل رياء وللدنيا (1/198). وأخرجه النسائي في سننه في كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء (1/85)، وفي كتاب الإيمان، باب النية باليمين (7/13)، وفي كتاب الطلاق في باب الكلام إذا قصد به فيما يحتمله معناه (6/158). وأخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد، باب النية، رقم الحديث (4227 جـ2/141). وأخرجه أحمد في مسنده (1/25/43) – والطحاوي في شرح معاني الآثار في كتاب الصيام. والدارقطني في سننه، وفي كتاب غرائب مالك بن أنس الأصبحي (ص19). ورواه بن خزيمة في صحيحه في كتاب الطهارة، وابن حبان في صحيحه. فوائد هل أخرجه مالك في الموطأ. قال الحافظ ابن دحية الحافظ: أخرجه مالك في الموطأ ((ولقد خطأه ابن حجر العسقلاني والقلقشندي وغيرهم، ولكن السيوطي رحمه الله قال إنه لم يهم، فإنه وإن لم يكن في الروايات الشهيرة فإنه في رواية محمد بن الحسن، أما دعوى كونه غريباً فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية(/78)
رحمه الله (مجموع الفتاوى 18/247) بأن الحديث متفق على صحته قد تلقته الأمة بالقبول والتصديق. وأمّا دعوى كونه شاذاً. فقد جزم العيني في شرحه على البخاري بأن هذا الحديث: لا يدخل في حد الشاذ، العيني على البخاري 1/20.
[117] مقاصد المكلفين – للأشقر ص64.
[118] أمثال الخطابي، وابن حجر، والبيضاوي.
[119] معالم السنن الخطابي 3/129. ومجموع الفتاوى، لابن تيميه 18/252 وفتح الباري لابن حجر 1/13.
[120] دليل الفالحين – لمحمد الصديقي، 1/49.
[121] أخرجه أبو داود في سننه 4/394، كتاب الأدب، باب تغيير الأسماء، عن أبي وهب الجشمي، النسائي في كتاب الحيل 6/ 218، وقد صنفه الألباني في تخريجه لمشكاة المصابيح (ينظر المشكاة 2/570).
[122] ينظر تهذيب السنن 7/251.
[123] هو كمال الدين محمد بن عبدالواحد السيواسي الشهير بابن الهمام، ولد بالإسكندرية سنة 790هـ ونبغ بالقاهرة، فكان إماماً من علماء الحنفية، عالماً بالتفسير والفرائض والأصول والفقه وغيرها، وجاور بالحرمين، من كتبه فتح القدير، شرح الهداية والتحرير والأصول توفي بالقاهرة سنة 861هـ. ((الفوائد البهية ص180 – 181 – الأعلام 7/134 – 135)).
[124] مجموع الفتاوى لابن تيمية 18/262.
[125] سورة البقرة، الآية: 86.
[126] أخرجه مسلم في الصحيح 1/81، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس.
[127] هو عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي، أبو العباس، حبر الأمة، صحابي جليل، ولد بمكة، ولازم الرسول صلى الله عليه وسلم، سكن الطائف وتوفي فيها سنة 68هـ، مجموع ما يروى عنه 1660 حديثاً، قال ابن مسعود رضي الله عنه: نعم ترجمان القرآن ابن عباس، الاستيعاب جـ3 ص933، والإصابة 2/90، الأعلام 4/288 – 289.
[128] ينظر: المقاصد الحسنة 288 والدرر برقم (234)، والتمييز: 82، والكشف 1/433 وتدريب الراوي 370، وابن ماجة 1/659، وموارد الظمآن 360، وصحيح الجامع الصغير 3/189 برقم (3509).(/79)
[129] هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم البخاري الخزرجي، أبو ثمامة أو أبو حمزة، صحابي جليل، كان خادماً للرسول صلى الله عليه وسلم، ولد بالمدينة، ولقد دخل في الإسلام صغيراً، ولقد رحل إلى الشام ومنها إلى البصرة، وقد مات فيها، وهو آخر صحابي مات فيها، اهتم بالحديث لذا روى عنه رجال الحديث 2286 حديثاً وتوفي في عام 93هـ (الأعلام 1/365 – 366 – طبقات ابن سعد 7/10 – والإصابة 1/84).
[130] أخرجه مسلم في الصحيح 8/94، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها.
[131] سورة النحل، الآية: 106.
[132] هو علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (384 – 456هـ) فقيه ظاهري، انتسب إليه بالأندلس خلق كثير، سموا بالحزمية، أسندت إليه الوزارة ثم زهد فيها، واتجه إلى التأليف، كان سليط اللسان، قوي الحجة، طرد وأقصي عن بلده، من كتبه ((المحلى)) في الفقه والإحكام في أصول الأحكام، في الأصول. ((لسان الميزان 4/198 – طبقات الحفاظ ص436 – الأعلام 5/59.
[133] الإحكام – لابن حزم 2/706 – 797.
[134] مقاصد المكلفين للأشقر – ص69.
[135] ينظر قواعد الأحكام للعز بن عبدالسلام 1/207 – والأشباه والنظائر للسيوطي ص12 – والذخيرة للقرافي 1/236.
[136] المصادر السابقة.
[137] مقاصد المكلفين ص71.
[138] الموافقات 2/239.
[139] هو محمد بن إدريس بن [العباس بن] عثمان بن شافع الهاشمي القرشي، أحد الأئمة الأربعة، عالم واسع العلم، وهو واضع علم أصول الفقه ولد بغزة سنة (150هـ) رحل إلى مكة صغيراً، وقصد مصر في آخر عمره وتوفي بها سنة (204هـ) له كتاب الأم والرسالة وغيرها. ((ينظر تهذيب التهذيب 9/25 – خلاصة تهذيب الكمال 2/377 طبقات الحفاظ ص152)).
[140] الأم – للإمام الشافعي 2/119.(/80)
[141] وهو علي بن سليمان بن أحمد المرداوي، ولد بفلسطين سنة (817هـ) وانتقل إلى دمشق كبيراً وتوفي بها سنة (885هـ) وهو من فقهاء الحنابلة، له كتاب الإنصاف وتحرير المنقول: ((شذرات الذهب 7/340 – الأعلام 5/104)).
[142] الإنصاف للمرداوي 3/196.
[143] الموافقات للشاطبي 2/239.
[144] مقاصد المكلفين للأشقر – ص74.
[145] الموافقات للشاطبي 2/241.
[146] هو أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني ثم الدمشقي، تقي الدين ابن تيمية، الإمام الحافظ المجتهد، شيخ الإسلام، ولد في حران سنة 661هـ، وتحول به أبوه إلى دمشق، فنبغ واشتهر، وطلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها، فقصدها فتعصب عليه جماعة من أهلها، فسجن مدة، ونقل إلى الإسكندرية، ثم أطلق، فسافر إلى دمشق سنة 712هـ، واعتقل بها سنة 720هـ، وأطلق ثم أعيد، ومات معتقلاً بقلعة دمشق سنة 728هـ، فخرجت دمشق كلها في جنازته وكان داعية إصلاح في الدين، آية في التفسير والأصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان، ناظر العلماء، واستدل وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين من مؤلفاته الفتاوى وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول والإيمان، ومنهاج السنة وغيرها كثير ((الذيل على طبقات الحنابلة 2/387 – 408 تذكرة الحفاظ 2/1496 – الأعلام 1/140 – 141)).
[147] مجموع الفتاوى – لابن تيمية 26/ 30.
[148] سورة التوبة، الآية: 54.
[149] الأشباه والنظائر لابن نجيم ص22.
[150] الموافقات – للشاطبي 2/241.
[151] سورة الحج، الآية: 41.
[152] سورة التوبة، الآية: 103.
[153] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: ((فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة)) حديث رقم25، ينظر الفتح 1/75، ومسلم في الصحيح في كتاب الإيمان – ينظر النووي على مسلم 1/212 – (1) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، محمد رسول الله (8) الحديث (36/22).(/81)
[154] مقاصد المكلفين – للأشقر، ص77.
[155] الموافقات للشاطبي 2/242.
[156] وقد تأوله النووي على هذا النحو: المجموع 6/190.
[157] الأم – للإمام الشافعي 1/19.
[158] الأم 1/18.
[159] هو أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، علامة عصره في الحديث، انتشرت مصنفاته في حياته، وتهادتها الملوك والأكابر، ولي قضاء مصر مرات، ثم اعتزل، من مصنفاته: فتح الباري شرح صحيح البخاري. ولسان الميزان، ولد في سنة (773هـ) وتوفي سنة (852هـ). ((طبقات الحفاظ ص547 – والأعلام 1/173)).
[160] فتح الباري 1/135.
[161] وهو اختيار ((صاحب كتاب مقاصد المكلفين ص78)).
[162] هو علي بن عقيل بن محمد البغدادي الحنبلي، شيخ الحنابلة في وقته، كان قوي الحجة، أعظم تصانيفه ((الفنون)) في أربعمائة جزء، ولد في سنة 431هـ وتوفي سنة 513هـ ((لسان الميزان 4/343 – شذرات الذهب 4/35 – الأعلام 5/129)).
[163] هو عبدالغني المقدسي الجماعيلي الحنبلي.
[164] الإنصاف 4/196، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص22.
[165] مقاصد المكلفين ص69.
[166] أخرجه مسلم في الصحيح 13/55، 56 مسلم بشرح النووي، وأبو داود في كتاب الصّلاة، باب الوتر – في السنن 2/114، والنسائي في السنن 6/37 في كتاب الجهاد، باب تمني القتل في سبيل الله، وابن ماجة في السنن 2/935، في كتاب الجهاد، باب القتال في سبيل الله.
[167] أخرجه النسائي في السنن 2/12 في كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت، ومالك في الموطأ، كتاب الجنائز (36) – وأحمد في المسند 5/446 – ورواه ابن حبان والحاكم بسند صحيح.
[168] أخرجه البخاري في الصحيح 8/268، كتاب المغازي (64) باب (81) وهو ما يلي باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر (80) الحديث (4423) ومسلم في الصحيح 3/1518، كتاب الإمارة (33) باب ثواب من حبه...(48)، الحديث (159/1911).
[169] سورة النساء، الآية: 95.
[170] تفسير ابن كثير 3/336.
[171] تفسير ابن كثير 2/367.(/82)
[172] هي عائشة بنت أبي بكر، الصديقة بنت الصديق، أم المؤمنين، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفقه نساء المسلمين، وأعلمهن بالدين والأدب، من المكثرات في الرواية، ولدت بمكة قبل الهجرة بتسع سنوات، وتوفيت بالمدينة سنة 58هـ. ((ينظر خلاصة تهذيب الكمال 3/387 – الكاشف 3/476 – طبقات الحفاظ ص8)).
[173] أخرجه النسائي في السنن 3/257: كتاب قيام الليل، باب من كان له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم، ومالك في الموطأ ص93: كتاب صلاة الليل، باب ما جاء في صلاة الليل، وأبو داود في السنن 2/47، كتاب صلاة التطوع باب من نوى القيام فنام.
[174] هو عبدالله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، أبو موسى من بني الأشعر من قحطان، كان صحابياً شجاعاً من الولاة القائمين ولد بزبيد باليمن، سنة (21) قبل الهجرة، وقدم مكة وأسلم وهاجر إلى الحبشة، استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على زبيد وعدن، وفي عهد عمر رضي الله عنه أسندت إليه ولاية البصرة سنة (17هـ)، يعد أحسن الصحابة صوتاً بالقرآن، توفي بالكوفة سنة (44هـ) وروى من الأحاديث 355 حديثاً، الأعلام 4/254 – 255، طبقات ابن سعد 4/79، الإصابة 2/351.
[175] أخرجه البخاري في الصحيح 6/136، كتاب الجهاد (56) باب أن يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة (134) الحديث (2996).
[176] ينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، والكرماني في شرحه على البخاري 1/21 – وكلام الحسن البصري في إحياء علوم الدين 4/364.
[177] سورة الأنعام، الآية 28.
[178] أخرجه البخاري في الصحيح 4/46، فتح الباري في كتاب جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة، ومسلم في الصحيح ((13/8)) في كتاب الإمارة. وأبو داود في السنن 3/7، كتاب الجهاد، باب الهجرة هل انقطعت.(/83)
[179] هو أبو حامد، حجة الإسلام، زين الدين، محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، ولد سنة 450هـ في الطابران (قصبة طوس بخراسان) فقيه شافعي متصوف، رحل إلى [نيسابور]، ثم إلى بغداد، فالحجاز، فبلاد الشام، فمصر، وعاد إلى بلدته، نسبته إلى صناعة الغزل ((عند من يقول بتشديد الزاي)) أو إلى غزاله ((من قرى طوس)) لمن قال بالتخفيف. له نحو مائتي مصنف منها: إحياء علوم الدين. وشفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومالك التعليل والمستصفى من علم الأصول، والمنخول من علم الأصول، والوجيز في فروع الشافعية. توفي في الطبران سنة 505هـ، قيل عنه: بأنه جبل من جبال العلم. ((وفيات الأعيان 3/353 – 355 – طبقات الشافعية 6/191 وما بعدها – جلاء العينين ص118 وما بعدها – الأعلام 7/247 – 248)).
[180] إحياء علوم الدين 4/364.
[181] هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، صاحب الجامع الصحيح، أصح كتاب بعد كتاب الله، ولد في بخاري سنة 194هـ ونشأ يتيماً ورحل في طلب الحديث توفي في قرية من قرى سمرقند سنة 256هـ. (تهذيب التهذيب 9/7 خلاصة تهذيب الكمال 2/379 – طبقات الحفاظ ص248).
[182] هو معن بن يزيد الأخنس من بني سليم، هو وأبوه وجده كلهم من الصحابة، كانت لمعن عند عمر بن الخطاب مكانة، فقتل معن في معركة مرج راهط سنة 54هـ ((تهذيب التهذيب 10/253 – خلاصة تهذيب الكمال 2/379 – طبقات الحفاظ ص248.
[183] أخرجه أحمد في المسند 3/470 – والبخاري في الصحيح مع الفتح 3/291.
[184] أخرجه أحمد في المسند 2/322، 350 – ومسلم بشرح النووي 7/110.
[185] هو علي بن عبدالله بن جعفر السعدي بالولاء، المديني البصري، محدث، مؤرخ، حافظ عصره، له نحو مائتي مصنف، ولد بالبصرة سنة 161هـ وتوفي بسامراء سنة 234هـ، من كتبه الأسامي والكنى، والطبقات، وقبائل العرب، والتاريخ. ((تهذيب التهذيب 7/349 – طبقات الحفاظ ص184، الأعلام 5/118)).(/84)
[186] هو سليمان بن الأشعث، أصله من باكستان، ولد 202 هـ، وتوفي بالبصرة سنة 275هـ، إمام أهل الحديث في زمانه وكتابه السنن أحد الكتب الستة المعتمدة في الحديث. ((طبقات الحفاظ ص26، وخلاصة تهذيب الكمال 1/408 – الكاشف 1/390)).
[187] هو علي بن عمر الدارقطني، نسبه إلى الحي الذي ولد فيه ((دار القطن)) ببغداد، حافظ عصره في الحديث، وله كتاب في السنن، والمؤتلف والمختلف، والعلل، ولد سنة 306هـ وتوفي سنة 385هـ، تاريخ بغداد 12/34، الأنساب 5/245 تذكرة الحفاظ 3/2991 غاية النهاية 1/558.
[188] هو أبو بكر بن أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي، الفقيه الشافعي، الحافظ الكبير المشهور، من أئمة الحديث، ولد في خسروجرد سنة 384هـ، ونشأ في بيهق، ورجل إلى بغداد ثم إلى الكوفة وغيرها، وطلب إلى بيسابور، فلم يزل بها إلى أن مات سنة 458هـ، قال الذهبي لو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهباً يجتهد فيه، لكان قادراً على ذلك، لسعة علومه بالاختلاف، صنف زهاء ألف جزء، منها السنن الكبرى، والسنن الصغرى، ورواة الأسماء والصفات، والاعتقاد، وغيرها. ((وفيات الأعيان 1/58 – طبقات الشافعية 4/8 – 11 – وجلاء العينين ص221 – وما بعدها – الأعلام 1/113)).
[189] جمع النووي رحمه الله الأحاديث التي عليها مدار الإسلام في جزء فبلغت أربعين حديثاً، لا يستغنى عن معرفتها، وكلها صحيحة جامعة لقواعد الإسلام.
[190] المجموع للنووي 1/361.
[191] هو عبدالرحمن بن مهدي بن حسان البصري، من كبار حفاظ الحديث ببغداد، مولده ووفاته بالبصرة (135 – 198هـ) قال الشافعي لا أعرف له نظيراً. ((ينظر تهذيب التهذيب 6/279 – طبقات الحفاظ ص139 – خلاصة تهذيب الكمال 2/154)).
[192] فيض القدير 1/32، العيني على البخاري 1/22.
[193] ممن قال بذلك ابن حجر في الفتح 1/11.(/85)
[194] هو جلال الدين: عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين، إمام، حافظ، مؤرخ، أديب، له نحو 600 مصنف، نشأ في القاهره يتيماً، وتوفي بها (849 – 911هـ) – له مصنفات كثيرة منها – الإتقان، والدر المنثور، والمزهر، وغيرها كثير. ((مقدمة طبقات الحفاظ وشذرات الذهب 8/51)).
[195] هو محمد بن عبدالرؤوف بن علي الحدادي ثم المناوي، القاهري، من كبار العلماء بالدين والفنون، له نحو ثمانين مصنفاً منها، كنوز الحقائق، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، ولد سنة 952هـ – وتوفي في القاهرة، سنة (1031هـ). ((الأعلام 7/57)).
[196] فيض القدير 1/32 – والأشباه والنظائر، للسيوطي ص10.
[197] العيني على البخاري 1/22.
[198] الأشباه والنظائر – للسيوطي ص49.
[199] هو محمد بن علي بن وهب القشيري، من أكابر العلماء بالأصول، أصله من ((منفلوط)) وولد في مدينة ((ينبع)) 625هـ وتعلم في دمشق والإسكندرية والقاهرة، ولي ديار القضاء المصرية، وتوفي بالقاهرة سنة 702هـ. ((شذرات الذهب 6/5 – طبقات الحفاظ ص513 – الأعلام 7/173)).
[200] إحكام الأحكام 1/76 – 77.
[201] المجموع 1/29 – العيني على البخاري 1/22.
[202] العدة – لابن دقيق العيد 1/62.
[203] فيض القدير 1/29.
[204] هو عبدالغني بن عبدالواحد، ولد بجماعيل، قرب نابلس، سنة 541هـ، وانتقل إلى دمشق صغيراً، نبغ في الحديث رجاله، له الكمال إصم أسماء الرجال، وعمده الأحكام في كلام خير الأنام، توفي بمصر سنة 600هـ. ((ينظر: تذكرة الحفاظ 4/1372، وشذرات الذهب 4/345 – طبقات الحفاظ ص458)).(/86)
[205] هو عبدالله بن مسعود بن غافل بن جيب الهذلي، أبو عبدالرحمن، كان من أكابر الصحابة، وأكثرهم فضلاً وعقلاً، أول صحابي جهر بالقرآن قراءة في مكة، كان خادماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحاب سرّه ورفيقه في حله وترحاله وغزواته، يدخل عليه في كل وقت ويمشي معه، كان من أهل مكة، إلا أنه توفي بالمدينة عن 60 عاماً. له من الأحاديث المروية ما يقرب من 848 حديثاً وتوفي بالمدينة سنة 32هـ. ينظر الإصابة في تاريخ الصحابة لابن حجر 2/368، أسد الغابة 3/256 – الأعلام 4/280، طبقات الحفاظ ص5.
[206] العدة 1/8، وينظر تلبيس إبليس ص18 لابن الجوزي من قول سفيان رحمه الله.
[207] سورة الفرقان، الآية: 23.
[208] سورة النور، الآية: 39.
[209] أخرجه مسلم في الصحيح 8/167، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت.
[210] روضة الناظر – لابن قدامة ص221، وأصول الفقه – للخضري ص35.
[211] هو محمد بن محمد الطرابلسي، فقيه المالكي، أصله من المغرب، ولد واشتهر بمكة، وتوفي بطرابلس سنة 954هـ، من كتبه مواهب الجليل في شرح مختصر خليل. ترجمته في الأعلام 7/286.
[212] هو محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري، الخزرجي، أبو عبدالله، يعد من أكابر علماء المالكية [ومن مؤلفاته] الجامع لأحكام القرآن]، توفي سنة 671هـ. ينظر ((الأعلام)) 5/218، وشذرات الذهب 5/335 – والديباج المذهب ص317.
[213] الحطاب على خليل 1/232.
[214] سورة البقرة، الآية: 189.
[215] أحكام القرآن، لابن العربي 1/10.
[216] هو محمد بن عبدالله المعروف بابن العربي – من أعيان المالكية في الأندلس، فقيه محدث محقق، تولى قضاء إشبيلية مدة، له شرح الترمذي، وأحكام القرآن، ((عاش ما بين 468، 543هـ)) ينظر الأعلام 7/106 – وطبقات الحفاظ ص467.
[217] تفسير القرطبي 2/346.(/87)
[218] هو محمد بن أحمد بن خويز[منداد]، العراقي، المالكي، فقيه أصولي، من آثاره كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه توفي سنة (390هـ) راجع معجم المؤلفين.
[219] أخرجه البخاري في الصحيح 11/586، كتاب الإيمان والنذور (82)، باب النذر فيما لا يملك..(31) الحديث (6704) وأبو إسرائيل قال عنه ابن حجر في الفتح 11/590 ((لا يشاركه أحد في كنيته من الصحابة، واختلف في اسمه فقيل قُشَيْر)).
[220] تفسير القرطبي 2/346.
[221] هو محمد بن محمد الحاج، المالكي، القاضي، نزيل مصر، توفي بالقاهرة (737) له كتاب المدخل والأزهار الطيبة. ينظر ((الأعلام 7/246)).
[222] المدخل 1/21 – 22.
[223] سبقت ترجمته.
[224] مدارج السالكين 1/107.
[225] ينظر عوارف المعارف، للسهروردي ص533، ومقاصد المكلفين ص494.
[226] مجموع الفتاوى 10/460 – 461.
[227] غمز عيون البصائر لأحمد الحموي 1/34.
[228] هو سعد بن أبي وقاص مالك بن وهيب، أبو إسحاق، الزهري، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كبار الصحابة، ومن أبرز قادة الفتح الإسلامي، فتح العراق، وهو أول من رمى سهماً في سبيل الله، وهو احد العشرة المبشرين بالجنة، ولد سنة 23 قبل الهجرة وتوفي سنة 55هـ بالمدينة. ((ينظر الإصابة 2/33 – أسد الغابة 2/290 – تهذيب التهذيب 2/487 – الأعلام 3/173)).
[229] أخرجه البخاري 1/23، (2) كتاب الإيمان، (41) باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، حديث (56) مطابع الشعب.
[230] فتح الباري – لابن حجر 1/37.
[231] دليل الفالحين 1/74.
[232] شرح السيوطي على النسائي 1/19.
[233] سورة الأعراف، الآية: 32.
[234] أخرجه مسلم في الصحيح 2/697 – 698، كتاب الزكاة (12) باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (16). الحديث 53/1006.
[235] منتهى الآمال – للسيوطي، من ص128 – 129.(/88)
[236] هو عبدالله بن سعد بن أبي [جمرة] الأزدي، الأندلسي، محدث مالكي المذهب، من كتبه ((جمع النهاية)) اختصره من صحيح البخاري وبهجة النفوس في شرح المختصر، توفي بمصر سنة 695هـ. يراجع ((الأعلام 4/211)).
[237] مقاصد المكلفين ص137.
[238] هو أبو نصر، تاج الدين، عبدالوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي السبكي، الفقيه الشافعي، الأصولي، المؤرخ ولد بالقاهرة سنة 727هـ ورحل إلى دمشق واشتغل بالقضاء سنة 756هـ – وحصل فنوناً من العلم من تصانيفه رفع الحاجب، شرح منهاج البيضاوي، وجمع الجوامع توفي بدمشق سنة 771هـ. ينظر ((جلاء العينين ص24 – 25 – الأعلام 4/335 – الفتح المبين 2/184 – 185)).
[239] هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حجر، من أئمة العلم والتاريخ، أصله من عسقلان بفلسطين، ومولده بالقاهرة سنة 773هـ، ووفاته بها سنة 852هـ قال السخاوي ((انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر. ومن مؤلفاته: الدرر الكامنة، ولسان الميزان، والإصابة، وفتح الباري في شرح صحيح البخاري، التلخيص الحبير وغيرها. ينظر ((الضوء اللامع 2/36، البدر الطالع 1/87 – بدائع الزهور 2/32 – الأعلام 1/178 – 179)).
[240] فتح الباري 11/323.
[241] الأشباه والنظائر – للسيوطي ص33، فتح الباري 11/327، ولم يذكر المرتبة الثانية.
[242] وهو التقسيم الذي مشى عليه صاحب كتاب مقاصد المكلفين ص138.
[243] قواعد الأحكام 1/139.
[244] الأشباه والنظائر – السيوطي 33.
[245] مقاصد المكلفين ص139.
[246] أخرجه البخاري في الصحيح باب 31 من الرقاق، ومسلم في كتاب الإيمان، حديث 203 – 20، والترمذي في سننه في تفسير سورة 6، والدارمي في سننه باب (70) من الرقاق، والإمام أحمد في المسند 1/227 – 279 – 130/361.(/89)
[247] هو عبدالرحمن بن صخر الدوسي، أبو هريرة، كان صحابياً عظيم القدر والشأن رضي الله عنه. وكان أكثر الصحابة رواية للحديث وحفظاً له وذلك لكثرة ملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم وتعلقه بالحديث، وحبه له، قال الشافعي رحمه الله أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في الدنيا توفي بالمدينة سنة 78هـ ينظر ((الاستيعاب 4/202 – وأسد الغابة 5/315)).
[248] أخرجه البخاري في الصحيح 7/87، (كتاب الرقاق (31)، باب من هم بحسنة أو سيئة، الحديث (6491).
[249] أخرجه البخاري في الصحيح 5/160، كتاب العتق (49) باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه (6) الحديث (2528) ومسلم في الصحيح 1/116 – 117، كتاب الإيمان (1) باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب... (58)، الحديث (201/127).
[250] أخرجه مسلم في الصحيح (3/1517)، كتاب الجهاد (33) باب من مات ولم يغز... (47)، الحديث (158/1910).
[251] فتح الباري 11/328.
[252] فتح الباري 9/394.
[253] فتح الباري 11/328.
[254] الأشباه والنظائر – للسيوطي ص34.
[255] هو محمد بن علي بن عمر التميمي، المازري، محدث من فقهاء المالكية، نسبته إلى ((مازر)) بجزيرة صقلية، ولد سنة 453هـ ووفاته بالمهدية سنة 536هـ، من مؤلفاته: ((المعلم بفوائد مسلم)) و((إيضاح المحصول في الأصول)). ينظر ((شذرات الذهب 4/114 – الأعلام 7/164)).
[256] هو محمد [بن] الطيب الباقلاني، قاضٍ من كبار علماء الكلام، ولد في البصرة سنة 338هـ وسكن بغداد، وتوفي بها سنة 403هـ، من كتبه مجاز القرآن، والملل والنحل، وكشف أسرار الباطنية وغيرها. ينظر: تاريخ بغداد 7/46 – شذرات الذهب 3/168 – الأعلام 7/46.
[257] فتح الباري 11/327، والحديث رواه مسلم، 1/82، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس.
[258] لسان العرب، مادة همّ.
[259] سورة يوسف، الآية: 24.
[260] مقاصد المكلفين ص143.
[261] سورة التوبة، الآية: 74.(/90)
[262] مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/740.
[263] أخرجه البخاري في الصحيح 2/125، كتاب الأذان (10)، وجوب صلاة الجماعة (29) الحديث (644).
[264] أخرجه البخاري في الصحيح 2/45، (19) كتاب التهجد، (9) باب طول القيام في صلاة الليل، الحديث (1135).
[265] أخرجه البخاري في الصحيح 3/48، كتاب التهجد (19)، باب ما جاء في التطوع مثنى.. (25) الحديث (1162) والترمذي في السنن 1/345، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستخارة. الحديث (480).
[266] فتح الباري 11/185.
[267] مقاصد المكلفين ص145.
[268] سبق تخريجه.
[269] مقاصد المكلفين ص145 – 146، وفتح الباري 11/324.
[270] هو أبو الفضل عياض بن موسى بن عمرون [اليحصبي]، قاض من الأئمة المحدثين الأدباء، كان أعلم الناس في زمانه، ومن أهل التفنن في العلم والذكاء، واليقظة والفهم، أصله من مدينة بسطة، ولد سنة 476هـ رحل إلى الأندلس، وتوفي بمدينة مراكش سنة 544هـ، وله مصنفات عدة منها: ترتيب المدارك، وشرح صحيح مسلم، والشفا بتعريف حقوق المصطفى. ينظر ((تذكرة الحفاظ 4/1304 – البداية والنهاية 12/225 – طبقات الحفاظ ص468.
[271] فتح الباري 11/327.
[272] هو محمد بن أحمد الأنصاري، الخزرجي، الأندلسي، القرطبي، المالكي، من كبار المفسرين، له الجامع لأحكام القرآن في التفسير، توفي سنة 671هـ، ينظر ((الأعلام 5/218)).
[273] تفسير القرطبي 4/215.
[274] الأشباه والنظائر – للسيوطي، ص34.
[275] هو عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي، مولاهم، أبو عبدالرحمن، المروزي، أحد الأئمة الأعلام، قال ابن معين: كان ثقة عالماً متثبتاً صحيح الحديث، وكانت كتبه التي حدث بها عشرين ألفاً، مات سنة (181هـ) وله 63 سنة. رحمه الله. ينظر ((تهذيب التهذيب 5/382 – خلاصة تهذيب الكمال 2/93 – طبقات الحفاظ من 117)).(/91)
[276] هو سفيان بن سعيد الثوري، ولد في الكوفة سنة 97هـ، وتوفي في البصرة سنة 161هـ، يدعى أمير المؤمنين في الحديث، من كتبه الجامع الكبير والجامع الصغير، وكتاب الفرائض. ينظر ((خلاصة تهذيب الكمال 1/396 – الأعلام 3/158 – طبقات الحفاظ ص88)).
[277] فتح الباري 11/328.
[278] مقاصد المكلفين ص147.
[279] سورة القلم، الآيات 17 – 20.
[280] تفسير القرطبي 18/241.
[281] سورة البقرة، الآية: 284.
[282] سورة البقلرة، الآية: 286.
[283] هو أبو الحسين، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري، النيسابوري، حافظ من أئمة الحديث، ولد بنيسابور سنة 204هـ ورحل إلى الحجاز ومصر والشام والعراق، من أشهر كتبه: صحيح مسلم، المسند الكبير، والأسماء والكنى والأفراد والوحدان، توفي بظاهر نيسابور سنة 261هـ ينظر: ((تاريخ بغداد 13/100 – 104 – وفيات الأعيان 4/280 – 282 – الأعلام 8/117 – 118)).
[284] أخرجه مسلم في الصحيح 1/81، كتاب الإيمان، باب بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس.
[285] هو الحسن بن يسار، إمام البصرة وعالمها، أحد العلماء والفقهاء الفصحاء الشجعان، تابعي ناسك، له مواقف مشهورة مع الحكام والولاة، حياته من (21هـ) إلى (110هـ). ينظر: ((تهذيب التهذيب 2/263 – الكاشف 1/220 – طبقات الحفاظ ص28.
[286] هو محمد بن جرير الطبري، أبو جعفر، من أهل طبرستان، ولد سنة 224هـ كان عالماً من أكابر علماء زمانه، وكان شجاعاً، من مؤلفاته: كتاب اختلاف الفقهاء وفي التفسير كتاب جامع البيان، توفي سنة 310هـ ينظر ((طبقات الشافعية الكبرى 3/121 – السير 14/267 – وطبقات المفسرين للداوودي 2/106)).
[287] سورة الشورى، الآية: 20.
[288] سورة النساء، الآية: 95.
[289] سورة آل عمران، الآية: 135.
[290] تفسير القرطبي 4/211.
[291] مجموع الفتاوى – لابن تيمية 10/743.
[292] فتح الباري – لابن حجر 11/327.
[293] سورة الحج، الآية: 25.
[294] تفسير القرطبي 12/35.(/92)
[295] سورة النور، الآية: 19.
[296] الكرماني على البخاري 1/20 – 21.
[297] أخرجه البخاري في الصحيح 1/21 (2) كتاب الإيمان (22) باب وإن طائفتان من المؤمنين... فسماهم المؤمنين، ومسلم في الصحيح 8/170 (52) كتاب الفتن وأشراط الساعة (4) باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما.
[298] هو سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم الأنصاري، أبو ثابت المدني، البدري: بايع تحت الشجرة، وكان عقيماً لا يولد له ولد، توفي سنة (38هـ) – ينظر: ((خلاصة تهذيب الكمال 1/4426/251 – الكاشف 1/407)).
[299] أخرجه مسلم في الصحيح 3/1517، كتاب الإمارة (33) باب استحباب الشهادة.... (46) الحديث (157/1909).
[300] أخرجه أحمد في المسند 4/230، 231، والنسائي في السنن 3/216، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب من أتى فراشه وهو ينوي القيام فنام (مطبعة البابي ط:1).
[301] سورة آل عمران، الآية: 181.
[302] هو عامر بن شراحيل أبو عمرو الشعبي، الحميري، الكوفي، راوية من الأئمة التابعين يضرب به المثل في الحفظ، كان إمام أهل زمانه في الحديث والفقه، كان فقيهاً شاعراً، ولد سنة 19هـ وقيل 20هـ توفي بالكوفة سنة 103هـ وقيل 109هـ، وقال مكحول عنه: ما رأيت أفقه من الشعبي، رحمه الله. ينظر ((تهذيب التهذيب 5/65 – الأعلام 4/19 – تذكرة الحفاظ 1/79، طبقات الحفاظ ص32)).
[303] هو الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ذو النورين – رضي الله عنه وأرضاه، ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، جواد كريم، منفق معطاء، جهز جيش العسرة، وجمع القرآن، توفي رضي الله عنه بالمدينة شهيداً سنة 35هـ. ينظر: ((خلاصة تهذيب الكمال 2/219 والكاشف 2/254، طبقات الحفاظ ص4)).
[304] تفسير القرطبي 4/294.(/93)
[305] أخرجه البخاري في الصحيح 6/3، كتاب الجهاد (56)، باب فضل الجهاد... (1) الحديث (2783)، وأخرجه مسلم في الصحيح 2/986، كتاب الحج (15)، باب تحريم مكة... (82)، الحديث (445/1353). والدارمي في كتاب السير باب (69). والإمام أحمد في المسند 1/226، 316، 355، 3/22، 401، 5/187، 6/466.
[306] سبق ترجمته.
[307] سبق تخريجه.
[308] المدخل الفقهي العام ص966.
[309] الوجيز في إيضاح القواعد الفقهية الكلية – للبورنو ص61.
[310] المرجع السابق نفسه.
[311] الأشباه والنظائر للسيوطي ص12 – وأشباه ابن نجيم ص29.
[312] الوجيز ص67.
[313] درر الحكام ص17 – 18 – والوجيز ص68.
[314] النية وأثرها – د– صالح السدلان 1/373.
[315] هو أحمد بن أحمد بن يوسف الحسيني، شهاب الدين، محام شهير – من فقهاء الشافعية، ولد بالقاهرة سنة 1271هـ، له مؤلفات عديدة منها مرشد الأنام، توفي بالقاهرة سنة 1332هـ – ينظر: ((الأعلام 1/94.
[316] سورة الفرقان، الآية: 23.
[317] النية وأثرها د. صالح السدلان 1/ص374 – 375.
[318] القاموس المحيط 3/296 – والصحاح 4/1577 – ومختار الصحاح ص91.
[319] المجموع للنووي 1/360.
[320] الإسنوي للسبكي على منهاج البيضاوي 2/49 – مطبعة التوفيق بمصر، والإحكام للآمدي 1/147 ط: الرياض.
[321] هو عبدالسلام بن محمد بن عبدالوهاب الجبائي، وكنيته أبو هاشم من أبناء أبان مولى عثمان رضي الله عنه – عالم بالكلام، من كبار المعتزلة له آراء انفرد بها، وتبعه فرق على ذلك، وله مصنفات منها: تذكرة العالم، والعدة في أصول الفقه، ولد سنة 247هـ توفي سنة 321هـ ينظر: ((وفيات الأعيان، لابن خلكان 3/183 – الأعلام 4/7.
[322] شرح جمع الجوامع 1/390 والمستصفى – للغزالي 2/1 – 2 – والمحصول – للرازي 1/505 – 507.
[323] المجموع 1/860.
[324] المجموع 1/359 – ومجموع الفتاوى – لابن تيمية 21/477.
[325] الأشباه والنظائر – للسيوطي ص12.
[326] المجموع 1/361.(/94)
[327] مجموع الفتاوى – لابن تيمية 21/477.
[328] المصدر السابق.
[329] نهاية الأحكام فيما للنية من أحكام – لأحمد بك الحسيني، ص12. والنية – د – السدلان 1/ص294 – 296.
[330] فتح الباري في شرح صحيح البخاري 1/15.
[331] الأشباه والنظائر – للسيوطي ص26.
[332] مجموع الفتاوى لابن تيمية 21/477.
[333] الأمنية في إدراك النية للقرافي ص7.
[334] النية وأثرها – د – السدلان 1/297.
[335] النية وأثرها 1/298.
[336] فتح الباري 1/136 – ونهاية الأحكام ص112 – القواعد لابن رجب ص236 القاعدة (96).
[337] بدائع الفوائد – لابن القيم 3/323.
[338] مجموع الفتاوى لابن تيمية 18/256، ونهاية الأحكام ص209.
[339] هو النعمان بن ثابت التيمي بالولاء، ولد عام ثمانين للهجرة بالكوفة، ونشأ بها، له ينسب المذهب الحنفي، إمام من أئمة السنة، قال الشافعي فيه ((الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة)). قال مالك: ((رأيت رجل لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته، وقد عرض عليه القضاء فامتنع، توفي – رحمه الله – عام مائة وخمسين للهجرة.
[340] مختصر الفتاوى المصرية ص9.
[341] ينظر: المجموع 3/243.
[342] حاشية ابن عابدين 1/416. وتبين الحقائق، للزيلعي 1/99.
[343] أشباه ابن نجيم ص42.
[344] الغني 1/112 و469 – والإفصاح 1/22 – 123.
[345] الكافي 1/199.
[346] المنثور في القواعد 3/293.
[347] الكافي 1/199.
[348] أشباه السيوطي ص24 – وأشباه ابن نجيم ص43.
[349] أشباه ابن نجيم ص44 – ومقاصد المكلفين ص170.
[350] أشباه ابن نجيم ص44.
[351] أشباه السيوطي ص24.
[352] الصحاح – للجوهري ص24.
[353] في غير الصدقة. ينظر: نيل الأوطار 4/105 – والموافقات 2/174.(/95)
[354] هو علي بن أبي طالب ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة، رضي الله عنها، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ورابع الخلفاء، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء، توفي شهيداً سنة 40هـ رضي الله عنه. ينظر: ((خلاصة تهذيب الكمال 2/250 – الكاشف 2/287 – طبقات الحفاظ ص4)).
[355] هو سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي، من كبار التابعين، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ولد سنة 13هـ، توفي سنة 94هـ رحمه الله تعالى. ينظر ((خلاصة تهذيب الكمال 1/372 – طبقات الحفاظ ص17، الكاشف 1/372.
[356] هو ابن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران، ولد عام 46هـ، وهو من كبار التابعين صلاحاً، وصدق رواية وحفظاً، من أهل الكوفة، فقيه العراق، توفي رحمه الله عام 96هـ للهجرة. ينظر: ((طبقات ابن سعد 6/188 – 199)).
[357] المحلى 7/78. ((ولمزيد التوسع يرجع إلى كتاب مقاصد المكلفين – الأشقر ص265)).
[358] الموافقات 2/166، ويراجع تفسير القرطبي 4/151.
[359] الأشباه والنظائر – لابن نجيم ص158.
[360] تفسير الطبري 18/8 والفخر الرازي في تفسيره 8/124 وبداية المجتهد لابن رشد 1/7.
[361] الأشباه والنظائر لابن نجيم ص16 وفتاوى ابن تيمية 29/8.
[362] الأشباه والنظائر لابن نجيم ص166.
[363] القواعد والفوائد الأصولية – لابن اللحام ص18.
[364] القواعد والفوائد لابن اللحام ص16.
[365] النية وأثرها – د – السدلان 1/218.
[366] الأشباه والنظائر – للسيوطي ص44.
[367] الأشباه والنظائر – لابن نجيم ص53.
[368] القوانين الفقهية ص334.
[369] الأشباه والنظائر – للسيوطي ص44.
[370] منار السبيل 2/44.
[371] سورة البينة، الآية: 5.
[372] قواعد الأحكام 1/146.
[373] سورة طه. الآية: 112.
[374] بدائع الفوائد 3/224.
[375] قواعد الأحكام 1/207.
[376] شرح حديث إنما الأعمال بالنيات – لابن تيمية ص20.
[377] النية وأثرها – د – السدلان 1/248 – 249.(/96)
[378] أخرجه البخاري في الصحيح 2/143، كتاب الأذان (10)، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (36) الحديث (660)، ومسلم في الصحيح 2/715، كتاب الزكاة (12)، باب فضل إخفاء الصدقة – (30)، الحديث (91 – 1031).
[379] سورة الفتح. الآية: 29.
[380] النية وأثرها 1/25 – 52.
[381] سورة الذاريات. الآية: 57.
[382] إحياء علوم الدين 4/350.
[383] المجموع 1.(/97)
العنوان: (القصص القرآني وعطاء الشباب) لمحمد أديب الصالح
رقم المقالة: 912
صاحب المقالة: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
القصص القرآني وعطاء الشَّباب
(القلب.. والعقل.. والسَّاعد)
لفضيلة العلامة الأصولي المربي الشيخ د. محمد أديب الصالح
صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة (معالم قرآنية في البناء) لفضيلة الدكتور محمَّد أديب الصَّالح، في 430 صفحة من القطع المتوسط، وهو من منشورات مكتبة العبيكان بالرياض، ط1 1428هـ - 2007م.
لم تكن القصَّة في القرآن الكريم - ومن بعدها القصَّة في السُّنة النَّبوية - بمنأى عما أشرقت به معالمه في العهدين المكِّي والمدني، من مؤشِّرات ألمحت إلى وجهة الإسلام في بناء الفرد والمجتمع، بل كانت واحداً من السُّبل المضيئة التي سلكها هذا الكتاب الكريم في إيصال الدِّين القيِّم إلى النُّفوس، لتنعكس آثار الاستمساك به على الحياة بوجوهها جميعاً وميادينها كافَّة؛ فأسهمت إسهاماً ملحوظاً، وأخذت دورها البارز في التَّمهيد لبناء الإنسان على الوجه المرضيِّ، وإقامة القواعد التي يقوم عليها بناء الجماعة والمجتمع؛ بناءً مصروفةً عنه عوامل الأذى والضَّعف، وترفده عناصر الحياة التي تمكِّن له، وتجعله قابلاً للنَّماء قادراً على العطاء.
والحجم الذي أخذه القصص القرآني في الكتاب العزيز، دليلُ عظمة الهدف الذي كان من أجله هذا القصص، حيث الدُّروسُ والعظات والحكم الغاليات، وحيث المقارنةُ والمقايسة، والعبر التي لا يستغني عنها روَّاد الحقيقة، ناهيك عن تثبيت فؤاد النَّبي صلى الله عليه وسلم، في مواجهة ما كان يلاقي من الشَّدائد والصِّعاب.(/1)
لقد كان المسلمون الأوائل يتلقَّون الدَّعوة وتبعاتها، والقصص القرآني يحمل إليهم - عبر القرون التي سلفت و الأمم التي خلت - ذلك الكمَّ الهائل من التَّجارب والعبَر، وكان ذلك رافداً من أهمِّ روافد الهداية على طريق هؤلاء الذين أسلموا وجوههم لله وحدَه، مع ما كانوا يلاقونه من الشِّدة والابتلاء.
وما دام في النَّاس قرآن يُتلى -وهو محفوظٌ بحفظ الله الذي أنزله- فالعبرةُ من القصص قائمة لأولي الألباب العاملين الصَّابرين المجاهدين، تغني طريقَهم ببواعث الخير، وتثبِّت أقدامهم، وتؤنس وحشتهم، وتحرِّك في أعماقهم مزيداً من الاعتبار والقدرة على المقايسة المجدية، والمقارنة التي تؤدِّي غرضَها على صعيد الموقف والسلوك.
والقصَّة في القرآن - وهي لونٌ من ألوان البيان على طريق الهداية والدَّعوة إلى الله؛ هدماً للباطل ورفعاً لقواعد الحقِّ الذي نزل به الكتاب وإقامةً واعيةً لصروحه - هي تعبيرٌ عن وقائعَ حدثت على وجه اليقين زماناً ومكاناً وأشخاصاً، جرت على أيديهم، أو حلَّت بهم تلك الوقائع.
ولهذا جاء هذا الكتاب، ليس بسبيل الاستقصاء لكلِّ ما ورد من القصص في كتاب الله عز وجل؛ ولكنه بسبيل التَّنبيه على النَّموذج الذي يُسعف في محاولة الانتفاع بغيره، وذلك يتَّفق مع ما أراد الكاتبُ من كل قضيةٍ مطروحةٍ ضمن الموضوع العام.
أما القضيةُ الأساسية التي تناولها الكاتبُ من خلال القصص القرآني في هذا الكتاب فهي قضية البناء؛ بناء الفرد والمجتمع بمعناه الإسلامي الحضاري؛ بناءً يتَّسم بالشُّمول؛ بناءً يتناول -مع العقيدة والعبادة والأخلاق- شؤونَ الحياة بأكملها، بحيث يتجاوز بناء الفرد إلى بناء المجتمع بناءً تُتَرجَم معه تلك القيم إلى وجودٍ عمليٍّ تنطِقُ به حركة الفرد والأسرة والجماعة، ويشرق بهديِه تنظيم العلاقات التي تحكم هؤلاء على أساسٍ من العقيدة التي عُنوانها الكلمة الطيبة: "لا إله إلا الله محمَّد رسول الله".(/2)
وقد وظَّف الكاتب لخدمة هذه القضية عدداً من القصص القرآني، وقف على مواطن العبرة فيها، وحاول استخلاصَ العظات منها، واستنباطَ الحكم والأحكام التي تضمَّنتها، والكشفَ عن معانيها ومنارات الهداية في كلٍّ منها، بأمانة علمية منهجية.
وقد تناول القصص الآتية:
أصحاب الجنَّة، التي ورد ذكرها في سورة (القلم).
موسى وشعيب عليهما السلام، التي جاء ذكرُها في سورة (القصص).
شعيب عليه السلام، من حياته ودعوته، التي ورد ذكرُها في سورة (هود).
يوسف عليه السلام، والعبرة في قوله: {إنِّي حفيظٌ عليمٌ}، والقصة بتمامها في سورة (يوسف).
إسماعيل عليه السلام، وقصَّة الذبح التي ورد ذكرُها في سورة (الصَّافَّات).
إسماعيل عليه السلام، ورفع قواعد البيت مع أبيه التي ورد ذكرُها في سورة (البقرة).
إبراهيم عليه السلام، ودعوته قومَه التي ورد ذكرُها في سورة (الأنبياء).
إبراهيم عليه السلام، في تفكُّره وتدبُّره، الآيات في سورة (الأنعام).
إبراهيم عليه السلام، وترابط المراحل في حياته، الآيات من سورتي (الأنبياء) و (البقرة).
أصحاب الفيل، وإهلاك أبرَهة وجيشه التي ورد ذكرها في سورة (الفيل).
من وقائع أُحُد، إشاعة مقتل النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ما ورد في سورة (آل عمران).
المثل القرآني، بيت العنكبوت، الآيات في سورة (العنكبوت).
المثل القرآني، الكلمة الطيِّبة، الآيات في سورة (إبراهيم).
تحويل القِبلَة، التي وردت في سورة (البقرة).
الفتية أصحاب الكهف والرَّقيم، التي ورد ذكرُها في سورة (الكهف).
الرِّجال عُمَّار بيوت الله، الذين ورد ذكرُهم في سورة (النور).
المعيار الصادق للرِّبح والخُسران، آيات من سورتي (البقرة) و(المنافقون).
المؤمنون.. والمنافقون، السلوك الصائب المطلوب، آيات من سورة (المنافقون).
واحدة من تحدِّيات المنافقين في التاريخ، آيات من سورة (المنافقون).
موقف عبد الله بن عبد الله ابن أبي من أبيه، آيات من سورة (المنافقون).(/3)
حقيقة الارتباط بين المعتقد والسُّلوك، الآيات في سورة (التَّوبة).
عمارة مساجد الله، الآيات في سورة (التَّوبة).
فضل الجهاد في سبيل الله، الآيات في سورة (التَّوبة).
أولو الألباب، الآيات في سورة (الرَّعد).
ولعلِّي أورد هنا طرفاً من بعض تلك القصص للتَّمثيل على توظيف الكاتب لها في قضية الشباب والبناء، والتَّدليل على أسلوب الكاتب في استخلاص العِظات والعبر:
يقول في عبرة العمل في قصَّة موسى وشعيب عليهما السَّلام:
لم يجد شعيب غضاضةً في أن يعرض على موسى الزَّواج بإحدى ابنتيه، بعد أن رأى فيه القوَّة والأمانة، وسمع منه قصَّة خروجه من بلده إلى مَدين بعد أن ائتمر به القوم ليقتلوه. والمهر المطلوب - كما هو صريح الآية الكريمة -: أن يرعى موسى غنم شعيب ثمان سنين وإن أتم عشراً فمن عنده.
وإذا كان العمل مكرمةً وعنوان رجولةٍ، فماذا على موسى أن يقبل هذا الزَّواج ويوافق على هذا المهر؟ إنها منه عليه السلام - وهو رسول من رسل الله - صورةٌ إيجابيةٌ لحياة من يختارهم الله لحمل رسالته، وإن كان ابتلاء موسى بالقوم الغارقين في غضب الله ولعناته المتتابعة على غاية الشِّدة في الابتلاء.
ونقرأ في جواب موسى قول الله عز وجل: {ذلك بيني وبينك أيَّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ والله على ما نقول وكيل}.
ولقد رافق العمل الأمين عنصرٌ خلقيٌّ كريمٌ؛ فعلى الرُّغم من أنه لم يلتزم -في جوابه- بعشر سنواتٍ؛ لكنَّه قضى هذا الوقت كلَّه في رعي غنم شعيب عليه السَّلام.
وبعد: فإن هذا المعلم القرآني الذي يأخذ حيِّزه في جانب من جوانب قصَّة موسى مع شعيب يؤصِّل لتكريم العمل والعاملين، ويرسم لأمتنا واحداً من خطوط مسارها في بناء المجتمع وتنميته وازدهاره.(/4)
أن يكونَ حديث العمل مرتبطاً برسولٍ من رسل الله، أن يكون الذي يأجر نفسه عشر حجج كاملة يرعى فها الغنم، واحداً من هؤلاء المصطفَين الأخيار = مؤشرٌ عميق الدلالة على طريق العمل والبناء، وإذا كانت هذه الأمَّة مدعوَّة لأن تفيد من تاريخ موسى مع بني إسرائيل الذين ابتلاه الله بهم ورأى من شرورهم وآثارهم ما يَشيب له الوليد، فإن هذا التَّعامل بينه وبين شعيب عليهما السَّلام ليُعطي دروساً في الواقعية الإيجابية وإعلاء شأن العمل والعاملين تستوقف النَّاقد البصير.
ويقول في الشَّباب والبناء في قصَّة إسماعيل عليه السَّلام:
والواقع أن مما يزيِّن طريق الشَّباب على مرِّ العصور: أن يكونوا في صدق العزيمة والاستعلاء على الصوارف من معوِّقاتٍ ومغرياتٍ وترغيبٍ وترهيبٍ، على نسبٍ متَّصلٍ بوقفة إسماعيل الصَّابرة الشُّجاعة المشرقة بخالص الإيمان؛ تلك الوقفة التي تزيِّنها الاستعانة الصَّادقة بمن بيده – سبحانه - نواصي العباد، وإليه -جلَّ شأنُه- مرجعهم ومآبهم..
فلقد كان إبراهيم عليه السَّلام النمَّوذجَ الرَّائع القدوةَ في هذه الواقعة -التي كان الاختبار فيها للجميع، والتي تركت بصماتها في حياة بني الإنسان بعامَّة وفي حياة المسلمين بخاصَّة- للأب الذي يمتثَّل أمر ربِّه بلا توانٍ ولا تردُّد في ذبح وليده الوحيد الذي رزقه الله وقد بلغ من العمر ما يجاوز الثَّمانين عاماً.. ثم للأمِّ التي لم يثبُت عنها أي اعتراض، نعم للأمِّ وما أدراك ما الأمُّ..(/5)
ولقد كان إسماعيل عليه السَّلام النَّموذجَ الرَّائع القدوةَ للشَّاب الذي يدلف إليه ريعان الصِّبا، فيُمتحن - وهو على عتبة الشَّباب - فلا يبخل بنفسه امتثالاً لإرادة أبيه عملاً بأمر الله، وكان له من إيمانه بربِّه والصِّدق في طاعته، وطاعة أبيه: ما جعله يَستعلي على حبِّ الحياة، وهو أمرٌ غريزيٌّ فُطر المخلوق عليه، ويكون - فيما يصدر عنه، وهو في قمَّة الابتلاء - أقوى من كلِّ نوازع الهوى ورغبات الإنسان، خصوصاً ما يكون منها أيام الشَّباب حيث يكون سُلطانها أقوى وفاعليتها أشدَّ.
ويقول في قصَّة إشاعة مقتل النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام في أُحُد:
وعلى هذا فكيف يحقُّ لهؤلاء البررة الذين خاضوا معركة أُحُد ذوداً عن تلكم العقيدة ورغبةً في الشَّهادة في سبيل الله: أن يُلقوا السُّيوف عن عواتقهم استجابةً لشائعة مقتل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فهو عليه الصَّلاة والسَّلام خاتم المرسلين مبلِّغ رسالة هذا الدِّين، والرِّسالة باقيةٌ إلى يوم يبعثون.
كيف يحقُّ لهم أن يقعدوا عن متابعة القتال فينقلبوا على أعقابهم.. وسيوفُ الكفر مشرعةٌ تريد القضاء على الإسلام وأهله مستهدفةً البدء بقتل المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام! وكلُّ أذى يصيب دعوة الإسلام فإنما هو أذى للإنسانية جمعاء {وما محمَّد إلا رسول قد خلت من قبله الرُّسل أفإن مات أو قُتل انقلبتُم على أعقابكم ومن ينقلب على عَقبَيه فلن يضرَّ الله شيئاً وسيجزي الله الشَّاكرين}.(/6)
أما بعد، فصحيحٌ أن الآيات تنزَّلت في شأن الجهاد يوم أُحُد، ولكن دلالة المعلم القرآني تتسع وتتسع، وتنذر وتحذِّر من أن القعود المتولِّد عن التماس المعاذير المتعجِّلة، عن أيِّ خطوةٍ من خطوات إحكام البناء الأمثل في ظلِّ شريعة الإسلام بأصولها وفروعها ومقاصدها العظيمة؛ مرفوض بحكم العقيدة والدِّين {أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم} ذلك بالنهاية سنَّة من سنن الله {إنَّك ميِّت وإنَّهم ميِّتون}..
ألا إن هذا المعلم القرآني بما يدعو إلى التَّحرك المنهجي المنضبط في ضوء الإيمان بما عند الله، وفي ظل قيم الإسلام ومبادئه التي تستعلي على محدودية الزَّمان والمكان والأشخاص: يحمل قضية كبرى مصحوبة ببرهانها المتمثِّل في أنَّ على كلِّ مكلَّف في دنيا المسلمين - ذكراً كان أم أنثى - تبعة الإسهام في بناء القوَّة الذَّاتية للأمَّة من حيث الطَّاقاتُ البشرية والاقتصادية والفكرية؛ لأن الرِّسالة هي الرِّسالة، ولأن الأمانة هي الأمانة، وحين تتفتَّح البصائر يتبدَّى للناظر المتدبِّر كأن هذا المعلم القرآني تتنزَّل كلماته غضَّةً طريةً اليوم لتشدَّ على يد الأمة في مُعترَكها ضد التخلُّف وسلطان المعتدين.
ويقول في نبأ الفتية المؤمنينَ أصحاب الكهف:
رأيتني وهذه الكلمات يجري بها قلمي الضَّعيف، بعد أن تأمَّلت فواتحَ سورة الكهف وخواتمها والآيات التي كانت واسطة العِقد بين الفواتح والقصَّة!(/7)
فالذي يبدو من خلال التَّصور الإيماني الدَّقيق لعملية البناء الجذري الذي تحكمه ضوابط الكلمة الطَّيبة ((لا إله إلا الله محمَّد رسول الله)) في المجتمع.. البناء الذي لا بدَّ أن يسبقه التَّعفية على عقابيل الضَّلال إزالةً للعوائق، حيث تكون جولة الباطل هي المستحكمة -: أن عناية القرآن بإبراز المقوِّمات الأولى لوجود أولئك الفتية المؤمنين المنعَم عليهم بزيادة الهدى، الذين قالوا: لا - بملْءِ أفواههم - في وجه الوثنية. وقالوا: لا -بكل شجاعة واعتزاز - في وجه الطُّغيان والفساد، وفوضى الفكر والعمل في المجتمع.. أن هذه العناية – بأسلوبها المعجِز - جزء من الصُّورة في إبراز ما اتَّصف به أولئك النَّفر من الشَّباب الذين يواجهون الحياة وهم في مُقتبل العمر!! حين واجهوا الواقع بثبات لا يعوزه الرضا وطمأنينة التَّسليم لأمر الله!
فهم فتيةٌ شرح الله صدورهم للإيمان بربِّهم، ذلك الإيمان المكين. وعلم -جلَّ شأنه- صدق هذا الإيمان وإخلاصهم فيه، فزادهم هدىً، وربط على قلوبهم، في مواجهة الباطل وأهله؛ فكانوا - بحقٍّ - النَّموذج الأمثل للشَّباب المؤمن الواعي، الذي لا يصرفه عن الموقف الإيماني صارفُ رَغَبٍ دنيويٍّ ولا رَهَب. وكل ما يطمح إليه: الظَّفر بمرضاة الله تعالى، وحسن العاقبة يوم الدِّين.
أما الجزء الآخر من الصُّورة: فيكمن - والله أعلم - في موقع صفاتهم من القصَّة بتمامها. وفي موقع القصَّة نفسها من سورة الكهف بكامل آيها.
وذلك يعطي المعلم القرآني تكامل ضيائه في هذا الموضوع على سلَّم الهداية التي هي المطلب الأسنى في آي الفرقان.(/8)
ذلك بأن فواتح السُّورة وخواتمها، والآيات التي كانت واسطة العِقد بين ما قصَّ الله من نبأ أهل الكهف والرَّقيم بالحقِّ، وبين ما تلاه في السُّورة نفسها، قد حملت المبادئ التي لا ينهض بأخذ الأنفس بها إلا أولو العزم والبصيرة الموفقون؛ ومن عيون هؤلاء البررة شبابٌ تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم، فيندفعون بمنهجيةٍ واعيةٍ إلى تحقيق مقتضى الإيمان والوفاء بعهد الله، في أنفسهم وفي الآخرين ما أمكنهم ذلك.
ومقتضى الإيمان والوفاء بعهد الله الذي يعاهد المؤمن ربَّه عليه: منهجٌ ربانيٌّ يبعث يقظةَ العقول والقلوب في جوانب المجتمع كافة، فضلاً عما يُنشئ في نفس الفرد والجماعة من رغبةٍ ذاتيةٍ في البناء المرضي لله، المحكمة لبناته على نور من الله، وينمِّي- من خلال صلة العبد بخالقه الحكيم - روح التَّفاني في نصرة الحق، وإحلال اتِّقاء الله محل الرَّغبات الهابطة والهوى.
ويقول في أولي الألباب والبناء من سورة الرعد:
وليس من نافلة القول هنا: أن نزيد الأمر وضوحاً بالتذكير مرَّة أخرى بآية سورة الرَّعد مفتاح المسألة المطروحة في المعلم القرآني وهو قوله تعالى: {أفمن يعلم أنَّما أُنزل إليك من ربِّك الحقُّ كمن هو أعمى}.. الآية. حيث نرى من عطائها نفي التَّسوية بين الاثنين من طريق هذا الاستفهام التَّقريري الإنكاري؛ أي فهذا كهذا؟ لا استواء!!
إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي كان يضيء للإنسانية طريقها بهذا الدين بلاغاً وبياناً، لم يكن همَّه أن يجمع أكداساً من البشر، لا تعي رسالة الإنسان في الحياة، ولكنَّ همَّه أن يزيل الغشاوةَ عن الأعين، وتلك الحجبَ الجاهليةَ الكثيفة عن العقول والقلوب، ويقدم للدنيا كلِّها إنسان العقيدة الخالصة، الذي يقوى على بناء الحضارة المثلى لبني الإنسان؛ ولذلك –والله أعلم- خُتمت الآية بقوله تعالى: {إنَّما يتذكَّر أولو الألباب}.(/9)
أي إنما يتَّعظ ويعتبر ويعقل سوءَ ما عليه النَّاس من أمر الجاهلية، وما يجب أن يكونوا عليه حيث تشرق شمس الإيمان، وتتحرَّك العقول، وتنطلق الكفايات على طريق الحقِّ.. إنما يفعل هذا أولو العقول السَّليمة الصَّحيحة على هدي ما جاء به من أُنزل عليه الحقُّ من ربِّه محمَّد بن عبد الله عليه الصَّلاة والسَّلام. وذلكم هو التذكُّر الحقيقي الذي يجمع أطرافَ الفكر السَّليم والعمل السَّليم.
لقد كانت الآية مؤشِّراً واضحاً على طريقة التَّغيير الذي أراده صاحب الرِّسالة الخاتمة صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو يمزِّق بالهداية المستنيرة ظلام القرون في حياة الفرد والأسرة والمجتمع في أصقاع الأرض.
فالقادرون - بتوفيق الله - على أن يكونوا من جند تلك المهمَّة الكبرى: هم أولائك الذين يضعون أقدامهم على الطَّريق الصَّاعدة، بقلوبٍ متفتِّحةٍ إلى الخير، وعقولٍ تتجاوز التَّبعية البلهاء والتَّقليد الأعمى - ولو كان المتَّبَعون لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون - ولديهم من الشَّجاعة الذَّاتية ما يجعلهم - وهم ينصرون الحقَّ ويحرسونه ابتغاء مرضاة الله - يدورون مع هذا الحقِّ حيث دار، مهما كلَّفهم ذلك من ثمن، والله معهم ولن يترهم أعمالهم.
فالكتاب - كما يتبيَّن - دعوةٌ للشَّباب للسَّير على خُطى المرسلين والصالحين المصلحين في العمل والبناء، لينهضوا هم أنفسهم، ويسهموا في نهضة الأمَّة.(/10)
العنوان: القضية الكشميرية في مرآة الشعر الإسلامي
رقم المقالة: 2036
صاحب المقالة: صهيب بن محمد خير يوسف
-----------------------------------------
كَشْمِيرُ جَنَّةُ أَهْلِ الأَرْضِ.. مَا نَظَرَتْ عَيْنِي بِأَجْمَلَ مِنْ جَنَّاتِ كَشْمِيرِ
عَبَرْتُ فِي أُفْقِها فِي طَائِرٍ فَسَرَى عَلَى جِبَالٍ مُضِيئَاتٍ مِنَ النُّورِ
كَأَنَّهَا غَابَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَإِذَا نَظَرْتُهَا صِرْتُ مِنْهَا شِبْهَ مَسْحُورِ
مَشَيْتُ فِي رَبَوَاتٍ كُلُّهَا كُسِيَتْ بِالْوَرْدِ، مَا بَيْنَ قُمْرِيٍّ وَشُحْرُورِ
هكذا وصف الشاعرُ عباس الخزام جمالَ كشمير الأخَّاذ في ديوانه "نغمات من أرض النخيل".
وفي وقفة أثرية رائعة، نقرأ هذا البيان للإمبراطور المغولي جهانغير: "إذا كانت هناك جنة على وجه الأرض، فلابد أن تكون هذه.. هذه.. هذه!".. وعلى الرغم من أنَّ هذه المقولة مضى عليها أكثر من خمسمائة عام، فإنها لا تزال حقيقة ماثلة حتى يومنا هذا.
والحق أن ما دفع الملوكَ والغزاةَ على مرّ العُصور إلى تَشْبِيهِها بالجنة، ليس مُجَرَّدَ جمالِ طبيعتِها، فَمُمَيّزاتها تَفُوقُ ذلك بمراحل؛ إذْ مثَّلتْ كشمير ملتقى العلم والثقافة على مدى العصور. وقد خطا أبناء كشمير جيلاً بعد جيل خُطُوَات كبيرةً نحو بناء حضارتهم الخاصة.
كان هذا حالَ كَشْمِير قبل أن تُصبح موضعَ نزاع دائم بين الهند وباكستان، وقبل أن تعاني وحشيَّة الهند، التي شبهها الشيخ يوسف القرضاوي بإسرائيل في كل شيء: "إسرائيل عدوانيَّة والهند عدوانيَّة، والله –تعالى- قد جمع بين الاثنين، حينما قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}" [سورة المائدة: الآية 82].(/1)
وكان ذلك الجمال يلفُّ كشمير قبل أن يلفَّها البؤس، وينشُر فِيها الهندوس (عبَّاد البقر) القَتْلَ، والعشرات من مراكز تعذيب المسلمين، وينتَهِكُوا أعراض المسلمات، حتى هذه اللحظة..
في ذلك يقول الشاعر حسين الحكمي:
دِيَارُ الْجَنَّةِ الْفَيْحَاءِ عَادَتْ فَنَاءً.. دَاسَهَا الْبَغْيُ اللَّعِينُ
رُبَى كَشْمِيرَ يَانِعَةُ الْمَجَانِي أَيَقْطِفُ يَنْعَهَا الْوَغْدُ الْمَشِينُ؟!
رُبَى كَشْمِيرَ مَا أَغْلَى هَوَاهَا لِبَيْتِ الْعِزِّ فِي دَمِهَا عَرِينُ
يَعِزُّ عَلَيَّ مَا يَلْقَى ذَوُوهَا فَفِي قَلْبِي لَهَا وُدٌّ مَكِينُ
يَعِيثُ بِزَهْرِهَا الْهنْدُوسُ ظُلْمًا يُؤَيِّدُ بَطْشَهُمْ حِقْدٌ دَفِينُ
* صور من المأساة:
ومن الطبيعي – بل من الواجب – أن يتفاعَلَ أبناءُ الأمَّة الإسلاميَّة مع هذه الجراحات، والصرخات التي يطلقها المسلمون، بالمشاعر والدعاء، وبَذْلِ المال والدماء، مُقْتَدِينَ بنبيِّنا عليه السلام، وبقوله -كما في صحيح مسلم-: ((مَثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطُفهِم مَثَل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
وقد برز الشعراء المسلمون، من بين جمهور المتعاطفين، بقصائدهم الإسلامية التي تصف الجرح، وترشد إلى سبيل الشفاء؛ التي منها: الإيمان والعودة إلى الله، والتفاؤل وطرح اليأس، والإعداد والجهاد.
.. فقد صوَّر لنا الشاعر الإسلامي د. عبد الرحمن العشماوي بعضَ المآسي الدامية التي تحصل في كشمير، كما صوَّر تخاذُلَنا، في قصيدته "دمعة على وادي كشمير"، ومما قاله:
أَمَا تَرَى كَشْمِيرَ مَذْعُورَةً تَسْأَلُنَا عَنْ سَيْفِنَا الْمُغْمَدِ؟!
تَسْأَلُنَا عَنْ جَيْشِنَا، وَيْحَهَا! لَمْ تَدْرِ أَنَّ الْجَيْشَ لَمْ يُحْشَدِ
ثم قال:
وَادِيكِ – يَا كَشْمِيرُ – مُسْتَوْحِشٌ أَغْصَانُهُ تَسْأَلُ عَنْ مُنْجِدِ(/2)
وَادِيكِ – يَا كَشْمِيرُ – يَجْرِي دَمًا لَكَنْ قُلُوبُ النَّاسِ كَالْجَلْمَدِ
يَا وَادِيَ الْمَوْتِ، رَأَيْنَا الرَّدَى يَخْرُجُ مِنْ بَوَّابَةِ الْمَعْبَدِ
رَوَّعَك الْهُنْدُوسُ، لَكِنَّنَا فِي جَمْعِنَا التَّائِهِ كَالْمُفْرَدِ
ومن قصيدة "فعال الهندوس" للشاعر إبراهيم سعيد أبو صيام:
كَوَى كَشْمِيرَ وَيْلاتٌ وَنَارُ وَتَمْزِيقٌ وَأَحْدَاثٌ كِبَارُ
وَتَشْرِيدٌ وَتَجْوِيعٌ وَقَصْفٌ تَئِنُّ لَهُ الْمَسَاجِدُ وَالدِّيَارُ
أَيُرْضِيكُمْ فِعَالُ الْهِنْدِ فِينَا وَتَرْوِيعُ الْعَذَارَى حَيْثُ سَارُوا؟
فَهَلْ حَقُّ الأُخُوَّةِ فِي الْبَرَايَا تَرَاخٍ وَانْشِغَالٌ وَانْتِظَارُ؟!
* مآسي المسلمات في كشمير:
وصور الشاعر محمد بن ظافر الشهري مأساةَ نِساء المسلمين المتكررة هناك، فقال:
وَكَشْمِيرُ وَالْهِنْدُ لا تَسْأَلا عَنِ الْهَتْكِ فِيهَا لِشَعْبٍ عَرِيقْ
فَكَمْ حُرَّةٍ مَزَّقُوا ثَوْبَهَا وَوَالِدُها مُثْخَنٌ وَالشَّقِيقْ
إنها صورة واقعيَّة، دامية، تتكرَّر دومًا في ذلك البلد المسلم، وقد جاء في صحيفة هندية أن "المدن والقرى في كشمير كلها تشهد حوادث الاغتصاب وهتك الأعراض".
ويقول الشاعر عامر الألمعي في الموضوع نفسه:
أَهْيَ كَشْمِيرُ الْجَمِيلَهْ؟
أَيْنَ ذَاكَ الزَّهْرُ؟ بَلْ تِلْكَ الْخَمِيلَهْ؟..
هَا هُوَ الْبَاغِي يُزَمْجِرْ
هَا هُوَ الْوَغْدُ يَعِيثْ
وَفَتَاةٌ تَسْتَغِيثْ
وَتُنَادِي رَبَّهَا:
يَا إِلَهِي، أَنْتَ فِي الْبَأْسَاءِ لِي
إِنَّ أَهْلِي يَعْلَمُونْ
أَنَّنِي بِتُّ بِأَنَّاتِي وَرُعْبِي، وَبِجُوعِي وَبِكَرْبِي
وَأَبِي قَدْ أَحْرَقُوهُ
وَسَبَوْا أُمِّي، وَبَيْتِي هَدَمُوهُ
فَلِمَاذَا أَسْلَمُونِي؟
إِنَّنِي أَشْكُو إِلَيْكَ، يَا إِلَهِي يَا رَجَائِي!
* مقاومة الاحتلال:(/3)
منذ عام 1410هـ بدأت جولة أخرى من مقاومة الاحتلال في كشمير، عشرات الألوف من أبناء كشمير يُقَاوِمُون مِئات الألوف من جنود الهند، ويبثون الرعب في أفئدتهم..
وقد قدَّم الشعب الكشميري حتى الآنَ أكْثَرَ مِن ثمانينَ ألف شهيد...
.. يخاطب الشاعر صالح بن جمعان الغامدي كشمير، فيدعوها إلى الصمود، وينهاها عن اليأس والقنوط {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [سورة يوسف: الآية 87].. يقول في قطعة قصيرة، مليئة بالمعاني السامية المستقاة من القرآن ومَعِين السنة:
كَشْمِيرُ، لا تَأْسَيْ وَلا تَتَجَهَّمِي وَدَعِي صُمُودَكِ شَامِخًا كَالأَنْجُمِ
فَمَعَاقِلُ الأَعْدَاءِ تَخْتَزِلُ الرَّدَى وَتَهَابُ فُرْسَانَ الْجِهَادِ الْقَائِمِ
فَغَدًا نَرَى جَيْشَ الْعَدُوِّ يَسُوقُهُ لِلْحَتْفِ أَنْصَارُ النَّبِيِّ الْهَاشِمِي
لِتَعُودَ أَرْضُكِ حُرَّةً، تَعْلُو بِهَا "اللهُ أَكْبَرُ" فِي سَلامٍ دَائِمِ
* السؤال المُرّ:
ذلك ما قدَّمه الكشميريون...
ويبقى السؤال المحير، الذي يُطرح كل يوم: ماذا فعل المسلمون – من غير الكشميريين – من أجل كشمير؟ وماذا قدَّموا؟!
يقول شاعر الأحرار محمد محمود الزبيري – يرحمه الله –:
يُعْطُونَهُ فِي خَطْبِهِ أَدْمُعًا تَزِيدُ فِي الْخَطْبِ وَفِي جَلْبِهِ!
مَا فَعَلَ الإِسْلامُ فِي شَرْقِهِ مِنْ أَجْلِ كَشْمِيرَ؟ وَفِي غَرْبِهِ؟
يَسْتَنْجِدُ الْجُرْحُ بِنَا صَارِخًا فَنُمْسِكُ الأَيْدِيَ عَنْ رَأْبِهِ!
.. إنه سؤال مرٌّ يتردد صداه في ديار الإسلام:
وَعَلَى رُبَى الشِّيشَانِ قَوْمٌ يَسْأَلُو نَ: أَحِبَّةَ الإِسْلامِ، هَلْ مِنْ رَاقِ
لِجِرَاحِنَا وَجِرَاحِ كَشْمِيرَ الْحَزِي نَةِ وَالأُلَى لَبِسُوا الأَسَى بِعِرَاقِ؟!
لماذا لم نُجِبْ؟! لماذا تناسَيْنَا مآسِيَنَا؟:
لا، لَمْ يُجِبْ أَحَدٌ! فَمَنْ سُئِلُوا بُلُوا بِبُطُونِهِمْ وَالسَّاقُ فَوْقَ السَّاقِ!(/4)
أَسَرَتْهُمُ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةُ؛ فَانْتَشَوْا لِلسِّجْنِ، وَاخْتَارُوا أَشَدَّ وَثَاقِ!
* على تربة اليأس تورق أزاهير الأمل:
وكثيرًا ما يختم الشعراء قصائدهم في قضية كشمير بالتفاؤل، وهذا مطلب شرعي، وهو من أهم ما يميز الشِّعر الإسلامي عن غيره في هذا العصر.
فمِن قصيدة الشاعر حسين الحكمي، المشار إليها آنفًا، نقرأ:
سَيَبْقَى وَحْدَهُ الإِسْلامُ فِيهَا أَبًا لا يَنْحَنِي مِنْهُ الْجَبِينُ
لَهُ مِنْ سِيرَةِ الْمُخْتَارِ دَرْسٌ وَمِنْ آيَاتِ مُصْحَفِهِ معِينُ
ومن القصيدة المذكورة لشاعر الصحوة عبدالرحمن العشماوي:
يَا وَادِيَ الْمَوْتِ، سَيَأْتِي غَدًا جِيلٌ يُدَاوِي الْعَيْنَ بِالإِثْمِدِ
جِيلٌ رُؤَى الصَّحْوَةِ تَسْمُو بِهِ يَدْعُو بَصَوْتِ الْفَارِسِ الْمُنْجِدِ
يَا أُمَّةَ الإِسْلامِ، لا تَيْأَسِي بِالرَّغْمِ مِنْ هَذَا الأَسَى الْمُجْهِدِ
إِنَّا نَرَى رَوْضَةَ إِيمَانِنَا فِيهَا اقْتِرَابُ الْحُلُمِ الأَبْعَدِ
غَدًا يَعُودُ الْخِصْبُ فَاسْتَبْشِرِي .. إِنَّا مَعَ النَّصْرِ عَلَى مَوْعِدِ
... وبعد، فقد كانت تلك إطلالةً سريعة على أدب القضية الكشميرية، أشرت فيها إلى بعض الأشعار التي تصف الجرح، وتبيِّن أسباب الضعف، وأسباب النصر، وتبعث الأمل، والقصائد في هذا الباب كثيرة، والموضوع واسع ويحتاج إلى دراسات من جوانب عدة؛ كالدينية والفنية، وشعرية الأمكنة؛ حتى نرقى بالأدب الإسلامي.. نسأل الله أن يفرّج عن المسلمين.. آمين.
• • • • •(/5)
العنوان: القطة الجريحة
رقم المقالة: 891
صاحب المقالة: أحمد بن أيمن ذوالغنى
-----------------------------------------
القصَّة بخط الطفل أحمد بن أيمن ذوالغنى
في أحد الأيام كنتُ خارجاً من البيت لأذهبَ إلى المدرسة..
فرأيتُ قطةً لطيفة أسفلَ الدرج، فابتسمتُ ومضيت.
وبعد أيام فوجئتُ بالقطة جريحةً مكسورةَ اليد..
فحزِنتُ عليها حزناً شديداً، وصرت أقدِّم لها الطعامَ والشراب؛ لعلها تشفى...
ومرَّ عليها ثلاثةُ أيام وهي على هذه الحال..
وفي اليوم الرابع وجدتُ القطة مستلقيةً مُنهكة تكاد تموت،لم تتناول شيئاً مما قدَّمتُه لها آخر مرَّة..
فصَعِدتُ إلى البيت قلقاً..
وصرتُ أطمئنُّ عليها كلَّ حين، وهي على حالها لا تتحرَّك..
وقبل أن أنامَ طلبتُ من أمي أن تسمحَ لي بالاطمئنان على القطة للمرَّة الأخيرة..
فنزلت إليها وأنا أدعو الله ألا تكونَ قد ماتت..
وفجأةً لم أجد القطة، ووجدتُ أنها قد أكلت ما كان أمامَها من طعام، وشربت الماء، فاستبشرتُ بأن حالها قد تحسن..
فحَمِدتُ الله، وعدتُ إلى بيتي مسروراً؛ لأن الله قد شفى لي قطتي اللطيفةَ،
ونمتُ مرتاحَ البال..
ولم أعد أراها من وقتها.
ألقاها في ندوة رابطة الأدب الإسلامي في الرياض: (منهج الأدب الإسلامي في أدب الأطفال)، في مركز البابطين للثقافة والتراث، بتاريخ 3 من صفر 1427 هـ.(/1)
العنوان: القطة اللطيفة
رقم المقالة: 150
صاحب المقالة: أحمد بن أيمن ذوالغنى
-----------------------------------------
عندما كنا نذهب إلى البيت الجديد وجدنا مرة قطة لطيفة،
صارت تدور حول أبي، وأنا أراقبها وأضحك، وقد أحببناها جميعًا.
كنا كلما صعدنا الدرج أو نزلناه لحقت بنا،
ثم أحضر لها أبي حليبًا لتشربه فأحبت أبي وصارت تقفز بين رجليه.
وفي اليوم الثاني وجدناها تقف على باب بيتنا تنتظرنا.
ولكن في اليوم الثالث لم نجد القطة أبدًا،
وأنا حتى الآن أنتظرها كل يوم.
ألقاها أحمد في ملتقى الإبداع بالمكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالميَّة بالرياض، مساء الأربعاء 9 من رمضان 1426هـ،
وتولى تقويمها والتعليق عليها الأساتذة النقاد: د.حسين علي محمد، ود.وليد قصَّاب، ود.صابر عبدالدايم، وأ.محمد شلال الحناحنة.(/1)
العنوان: القلق (بواعثه – وعلاجه)
رقم المقالة: 374
صاحب المقالة: عبده إحسان المعراوي
-----------------------------------------
هنالك ظاهرة خطيرة، يلاحظها الباحث في أحوال المجتمع الإنساني الحديث، تسري سريان الطاعون، وتنتشر إنتشار الوباء الطامي، ظاهرة تشل العقول عن التفكير، وتكبل السواعد عن الإنتاج والعطاء، وتزيح الإنسان عن زمام القيادة في هذا الوجود، لتقذفه في هاوية سحيقة من عبودية الظروف...
تلك هي ظاهرة القلق...
والقلق في معناه العلمي الحديث، هو إحدى الحالات الإنفعالية التي تصاحب الخوف من المستقبل، وتؤدي إلى الضيق وعدم الرضى والتهيج الذي يعوق التفكير الصحيح، والعمليات العقلية الأخرى.
ويعرفه بعض العلماء، بأنه عدم الإرتياح، مع ميل إلى عدم الاستقرار، ولا يكون القلق دائماً مصبوغاً الحزن، بل قد يختفي وراء مرح مصطنع، ونشاط ظاهر.
إن القلق نار تلتهم حيوية القلب النابض الرقيق، فيغدو كالفحمة السوداء دونما إحساس أو شعور، ويستحيل من موطن الحركة والإنفعال والتأثر، إلى آلة صماء، لا يوجد فيها إلى الجمود والفترة.
أنه قيد يمسك الإنسان، ويحول بينه وبين التقدم والإندفاع، بل إنه في أغلب الأحيان يجره أشواطاً إلى الوراء، ليلقيه في أغوار سحيقة من الإنحطاط والضياع.
والقلق لص ماكر خبيث، يتسلل ببطء، ولكن إذا ما تمكن ينهب بجنون فائق، ويسرق أول ما يسرق، سعادة الإنسان وابتسامته، ثم يأتي بعد ذلك على كل خير في حياته.
وحسب الإنسان القلق شؤماً أنه لا يرى لنفسه أية قيمة في موكب الحياة، وأنه يشعر دائماً بأنه غير قادر على تحمل المسؤولية، وخوض الصعاب، لأنه بهذا يكون قد جرد نفسه من الكرامة الإنسانية ووقع في شراك عبودية أليمة تجبره على السجود لأتفه الأشياء.(/1)
إن الحياة لتغدو مع القلق جحيماً لا يطاق، وأن كل شيء فيها ليبدو تافهاً في عين الإنسان القلق، حتى الطبيعة الغناء، والمناظر الفتانة التي تسلب العقول، يراها القلق لوحة باهتة، فلا يتلذذ لجمالها ولا تلفحه نسائمها، ويبصرها كأنها حلم عابر خال من الحركة والحياة.
ولعل أشد ما في القلق من عذاب، هو ذلك الشعور المبهم الغامض، الذي لا يدري معه الإنسان سر ألمه ولا يرى لنفسه هدفاً من الأهداف يرتاح إليه إذا ما تحقق، إلا الموت.
ولا شك أن لهذا الداء الخطير، ضرراً بالغاً على الفرد والمجتمع، فأما الفرد فحسبه منه، أنه في عذاب قاتل وفي غموض مبهم، حسبه أنه يحيا رغماً عن أنفه، وأنه لو خير لما اختار سوى الهلاك.
وأما في مجال المجتمع، فإنه تعطيل لكثير من الإمكانيات والمواهب عن الإنتاج، وأنه خور وضعف يهدد كيان الأمة بأسرها، وينذرها بالدمار.
ومن هنا كان هذا المرض الأليم، جديراً بالعناية، وكان شفاؤه واجباً مقدساً، تلقيه الأمة على دعاة الإصلاح.
وأن العالم اليوم، لا يحتاج إلى من يؤمن له الخبر والقوت، ولا ينتظر الدعوة التي تحرك له الأسنان والأضراس، بقدر ما يتوق إلى من يبث فيه روح السعادة والاستقرار، ويحييه بالإيمان، وينقذه من التفتت والضياع.
إن المشكلة عميقة، والخطب جليل.
المشكلة، مشكلة قلوب خاوية مترددة، وعزائم خائرة فاترة، ونفوس ميتة ضعيفة.
مشكلة ظلام وجهل وفوضى، مشكلة بشر، لا يحلها مشكلة ظلام وجهل وفوضى، مشكلة بشر، لا يحلها إلا خالق البشر.
وأنا اعترف منذ البداية، بأنني لن أفي هذا الموضوع حقه، وأن تناولي له لن يكون عميقاً، ولكنه خطوة على الطريق. ولعل غيري ممن تمرسوا بأساليب البحث، وتفهموا روح الإسلام العظيم، يكتبون في هذا الموضوع فيلبون رغبتي ورغبة هذا الجيل المتطلع إلى السعادة.
أسباب القلق:(/2)
يطلق بعض العلماء على القلق: ((لعنة العصر الحاضر)) وكل هذا نتيجة للحياة العصرية بصخبها وتعقيدها ومشكلاتها، فأكثر الناس يشعر بضعفه وعدم إرتياحه على مجابهة الحياة وأعبائها ومسؤولياتها.
وينفي الدكتور ((ماثيو تشابك)) في كتابه ((شفاء القلق)) وجود هذا المرض النفسي في العصور البدائية ويقول: "لو أن القلق عرف سبيله إلى نفس الإنسان البدائي لانقرض الجنس البشري ومحى الله وجه الأرض، لقد خلقت الحضارة القلق، وليت القلق يحل مشكلات الحضارة بل إنه يزيدها تعقيداً ويحيلها عصية على الحل والبت".
ثم إن للبيئة القلقة، أثراً فعالاً في توريث القلق إلى أبنائها، والقلق الوراثي قد يأتي عن طريق الأب أو الأم، أو عنهما معاً، فإن أبناء مدمني الخمر كلهم مصابين بالقلق منذ الطفولة.
غير أن للقلق عوامل أخرى، تنبع من صميم النفس القلقة، وترتبط بأفكارها وخواطرها، يقول الدكتور ((ويل كارنجي)) في كتابه ((دع القلق وابدأ الحياة)). ((حياتك من صنع أفكارك)). ويقول الشاعر:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
أن الإنسان وحده، هو القادر على تلوين حياته، بما يشيعه في نفسه من أفكار حزينة أو متفائلة. ولقد كان أستاذنا الراحل، الدكتور ((مصطفى السباعي)) رحمه الله، مصاباً بالشلل، كانت يده ميتة، وكان في بيته كالسجين مكبلاً بقيود المرض، تنهكه الآلام، وتحيق به الأخطار، وكنت تراه باسماً يشيع التفاؤل في نفوس أخوانه كان يقول:
وما لهفتي للبرء لهفة طامع حريص على الدنيا من الموت يهلع
رضيت من الرحمن أجر طوية على فعل خير نفعه لا يضيع
فإن يؤتني برءاً نهضت لفعله وإلا فقد رضيت نفسي بما الله صانع(/3)
ويقول رحمه الله: "اللذة والألم ينبعثان من تصور النفس لحقيقتهما فكم من لذة يراها غيرك ألماً وكم من ألم يراه غيرك لذة".. "من تهدم عليه البيت، فركن إلى الأنين، مات تحت الركام، ومن أمسك جراحاته بيد والمعول بيد، إن استطاع، فإن سلمت له حياته عاش كريماً، وإن مات بعد ذلك مات حميداً".
حقاً إنه لمأساة أليمة، أن يجد المرء نفسه ضائعاً بين الفكرة والسلوك، متخبطاً بين العقيدة والعمل، لا يستطيع أن يسمو بسلوكه إلى مستوى الفكرة التي يحملها، ولا تقبل هذه الفكرة أن تهبط معه إلى درك عمله وتصرفاته.
ولقد صور الله سبحانه القلق الذي ينبعث من التناقض في قوله تعالى في سورة الأنعام:
{كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى إئتنا}.
ثم أن مجرد التفكير في الماضي جدير بأن يجر إلى الإنسان آلاماً لا تطاق ولقد أراح الله المؤمن من عذاب الذنوب الماضية، فهو في كثير من الأحيان يطمئن إلى المغفرة:
{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً}.
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
كما إن للفراغ باعاً طويلاً في هذا المضمار، مضمار القلق.. وقديماً قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجدب مفسدة للمرء أي مفسدة
وما أكثر الفراغ الذي يعانيه شبابنا في هذا العصر، سواء من الناحية الفكرية، أو العملية في هذه الحياة.(/4)
وهنالك سبب أخير من أسباب القلق ألا وهو الشعور بالنقص. وما أصعب الحياة حين يلجها المرء بإمكانياته المحدودة الضئيلة، ويرمق مشكلاتها بمنظاره البشري القاصر. إنها لتبدو معركة طاحنة مع الأقدار العاصفة القوية. أما حين ينطلق المرء في شعابها، معتمداً على تصوره لرعاية الله الذي هو أقوى منها، متكئاً في أعماله وتصرفاته على إيمان راسخ بقدرة الخالق العظيم، فإنه لا شك سيجدها نزهة هادئة وادعة، يمر بها المخلوق على بدائع خالقه، فيزداد إيماناً بالقدر، ويرتاح لحكمته في كل شيء.
إن الإنسان إذا تجرد عن صلته بالله عز وجل، فقد أقوى سلاح يواجه به المعضلات وأصبح أسيراً وعبداً ذليلاً للحياة.
وبإختصار، فإن النقطة الفاصلة بين القلق والإستقرار، والسعادة والشقاء، هي نفسها التي تفصل بين الإيمان والكفر، فلا شقاء مع الإيمان ولا هناءة مع الكفر.
{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء. كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون}.
وحتى يتذوق هذا الجيل المعذب طعم السعادة، ويتلذذ بنعيم الاستقرار لابد له من الرجوع إلى الإسلام، أن الرجوع إلى الإسلام هو خير وسيلة لشفاء القلق، بل إنه الوسيلة الوحيدة لذلك، أن حلاوة الإيمان هي وحدها الكفيلة بالقضاء على جميع منغصات الحياة، وعندما تتسرب تلك الروح الربانية إلى القلب المؤمن تملؤه بالغبطة والسرور، فلا يعرف بعدها معنى الهم والحزن ولا يضطرب أمام عاصفة القلق.
وقد نجد السعادة في كل ((معجم)) ولكنها كلمة بتراء لا وجود لها في الواقع، أما في معجم المسلم فهي الواقع، وهي الحقيقة، وهي.. هي حلاوة الإيمان.(/5)
ثم إن قراءة القرآن بقليل من التفكر والتدبر، وسيلة ناجحة لشفاء القلق، ولقد قرأت الكثير من الكتب التي تبحث في هذا الموضوع فلم أجدها تجدي في القضاء عليه، إن لم تؤد إلى زيادته، وكان القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يستطيع تأمين السعادة، وبث روح الطمأنينة والاستقرار في القلوب.
ولقد قال الله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.
وليت شعري كيف نتذوق طعم السعادة، لو نشم عبيرها، ونحن في واد وهي في واد آخر، نحن بعيدون عنها لإننا بعيدون عن الحق، متنكرون لعبودية الله، مفرطون في حقوقه، مهملون لكتابه. ولقد قضى الله وقدر بأن لا سعادة إلا مع الإيمان، أما إذا تجرد القلب من إيمانه، فليس له إلا الإنقباض والقلق والحيرة.
هذه حقيقة يؤيدها الواقع الملموس، ويدركها أكثر الناس إلا أننا لا نلمسها خلال حياتنا العملية، ولا نعمل بمقتضاها، ونشتكي بعد ذلك كله من الضيق والكآبة، ونلعن الحياة، ونتساءل عن السبب، ولو نظرنا على أي درب نسير لعرفنا سر الأسى وسبب الشقاء.
أيها الجيل المكتئب البائس، لعمري كيف تطمح إلى الراحة والسرور؟
وأنت غارق في آثامك، مضيع لواجباتك، تحيا في غفلة عن الله وعن كتابه الكريم.
أين صحائف القرآن تتلوها فتنجلي أحزانك ويمتلئ قلبك بالرضى والسكينة؟.
وأين اندفاعك إلى الله كلما هتف المؤذن وحان وقت السجود؟ أين ذكرك وتسبيحك؟ وأين شوقك ولهفتك؟.
أما السعادة فلا تحدثني عنها، ولا تسلني عن سبيلها، إنما هي حيث وضعها الله، فإذا ما أردتها فما عليك إلا أن تطلبها من مكانها الذي لا يتغير. ولسوف تملأ جنبات قلبك، وتغمرك بالرضى وإذا غيرت خطتك مع الله عز وجل. فأرجع إلى صوابك، {واذكر ربك إذا نسيت، وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا}.(/6)
العنوان: القلم الطيب والقلم الخبيث
رقم المقالة: 195
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
8\8\1427
الحمد لله ( علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه البيان ) أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ تفرد بالخلق والملك والشرع ، فلا يقع شيء إلا بأمره ، ولا شرع يوصل إلى رضاه إلا شرعه( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله ؛ أرسله الله تعالى على حين فترة من الرسل ، ففتح به أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ، من أطاعه نجي من النار ، وأدخل الجنة برحمة الله تعالى له ، ومن عصاه فإنه يضر نفسه ولا يضر الله تعالى شيئا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد : فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإنكم في زمن كثرت فيه فتن السراء والضراء ، وغرق في لججها من غرق ، وعصم الله تعالى من عصم ، ولا نجاة إلا بلزوم التقوى ( وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولاهم يحزنون ).
أيها الناس: كانت البعثة النبوية ميلادا جديدا لأمة جديدة أراد الله تعالى لها الخيرية على كل الأمم التي قبلها ، واختصها بأحسن كتبه ، وامتن عليها بخاتم رسله ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين ) نعم والله كانوا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم في ضلال الشرك والجهل الذي أورثهم الذل والضعف والتفرق، وسوغ لهم أنواعا من الإثم والظلم والفساد.
إنها أمة أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة ولا الحساب إلا نُزَّاع منهم كانوا يقرأون لهم ويكتبون ويحسبون ، قال النبي عليه الصلاة والسلام:(إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)متفق عليه.(/1)
وأول ما نزل على رسولها صلى الله عليه وسلم الأمر بالقراءة، و جاء ذكر القلم في أول الآيات المنزلة ؛ مما يشي بأهمية القلم وشرفه ومكانته ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم ) إن الله تعالى قادر على أن يعلم البشر دون الحاجة إلى القلم ، ولكنه سبحانه أراد أن يكون القلم وسيلة التعليم ( الذي علم بالقلم ) وزاد من شرفه وعلوه إقسام الله تعالى به على الوحي المكتوب ( ن ، والقلم وما يسطرون ، ما أنت بنعمة ربك بمجنون ).
والقلم أول مخلوق ليكتب به القدر ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:( إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) رواه أبو داود.
وكما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن القلم خلق أولا لكتابة المقادير فقد بين عليه الصلاة والسلام تاريخ القلم في البشر ، وذكر أول من كتب به من الناس فقال عليه الصلاة والسلام عن إدريس عليه السلام (وهو أول من خط بالقلم ).
وبالقلم تكتب مقادير العام في ليلة القدر( فيها يفرق كل أمر حكيم )
وبالقلم يكتب مصير الأجنة في بطون أمهاتهم ؛ كما روى مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:( يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب أشقي أو سعيد ؟ فَيُكْتبان، فيقول: أي رب أذكر أو أنثى؟ فيكتبان ، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص ).
وبالقلم يكتب الملائكة أقوال المكلفين وأفعالهم ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) أي بكتابة ما يصدر عنه كما في قوله سبحانه :( وإن عليكم لحافظين ، كراما كاتبين ، يعلمون ما تفعلون ).(/2)
وبالقلم يكتب الناس ما يحتاجون إلى كتابته مما تنتظم به مصالح دينهم ودنياهم ، وأعلى ذلك وأشرفه كلام الله تعالى ، وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتابا يكتبون الوحي ، وقصرهم على ذلك في أول الإسلام فقال عليه الصلاة والسلام ( لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه )رواه مسلم.
ثم رخص لهم في كتابة كل ما يصدر عنه من قول أو فعل ، كما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال: (كنت أكتب كل شيء اسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش عن ذلك ، وقالوا: تكتب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الغضب والرضا ؟ فأمسكت حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق) رواه أحمد.
وربما قدم عليه وفد من الوفود فعلمهم سنة من السنن ، وبلغهم شيئا من العلم فيطلب بعضهم أن يكتب له ذلك فيقول عليه الصلاة والسلام ( اكتبوا لأبي فلان).
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن مما يجري أجره للمسلم بعد موته علما ينتفع به ، وأعظم وسيلة لحفظ هذا العلم المنتفع به : كتابته ، وانظروا إلى كثرة ما خطته أقلام أسلافكم من أنواع العلوم والمعارف حتى وصل إليكم تدركوا قيمة القلم والكتابة.
وبالقلم تكتب تواريخ الأمم وأيامهم ، وتدون أقوال العلماء والحكماء وأخبارهم ، وتحفظ تجاربهم وأعمالهم ، وما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه في هذا العصر من تنوع العلوم والمعارف ، وتقدم العمران والصناعات إلا بما دون من تجارب السابقين وأبحاثهم وخبراتهم ، ولا يمكن أن يتخيل حال البشر في هذا العصر بلا قلم وعلم وكتابة إلا كحال الحيوان الذي لا يعقل شيئا.
وبالقلم تكتب عقود الناس وشروطهم في السلم والحرب ، وفي التجارة والبيع ، وفي القرض والرهن والدين وغير ذلك ( يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)(/3)
وفي صلح الحديبية قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه :( اكتب الشرط بيننا ) (هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشا) ، ودعا عليه الصلاة والسلام ملوك العالم إلى الإسلام بكتب كتبها وأرسلها إليهم.
وبلغ من عنايته صلى الله عليه وسلم بالقلم أنه جعل فداء من لم يستطع فداء نفسه بالمال من أسرى المشركين في بدر أن يعلم الواحد منهم عشرة من غلمان المدينة الكتابة ، فكثرت الكتابة في المدينة بعد ذلك. وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه:(علمت ناسا من أهل الصفة الكتابة والقرآن)رواه أبو داود.
ورخص عليه الصلاة والسلام للنساء في تعلم الكتابة ؛ كما في حديث الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها قالت:( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: ( ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ) رواه أحمد.
والكلمة المنطوقة والمكتوبة إما أن تكون مما ينفع الناس في معاشهم أو معادهم ، وتلك هي الكلمة الطيبة ، وإما أن تكون مما يضر الناس وهي الكلمة الخبيثة.
والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة ، كما أن الكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة ، وهذا التقسيم ضربه الله تعالى مثلا في القرآن ؛ ليسارع الناس إلى طيب الكلم ، ويجانبوا خبيثه ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ).(/4)
وإنما يعرف الكلام الطيب من الخبيث منطوقا كان أم مكتوبا بعرضه على الكتاب والسنة دون اعتبار لقائله ومصدره ، فما كان موافقا للكتاب والسنة فهو الكلام الطيب الذي يرفع إلى الله تعالى ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) وما كان معارضا لهما فهو الكلام الخبيث ، ولا يصدر الكلام الطيب إلا من طيب وطيبة ، كما أن مصدر الكلام الخبيث كل خبيث وخبيثة ( الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات )قال جمهور السلف: الكلمات الخبيثة للخبيثين ، ومن كلام بعضهم: الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين.
والكذب من أخبث الكلام ؛ لما فيه من تزوير الحقائق ، وترويج الباطل ، وغش الناس ، فإذا كان هذا الكذب يبلغ الآفاق عبر صحيفة مكتوبة ، أو قناة معروضة ، أو إذاعة مسموعة ازداد خبثا إلى خبثه ، ولما كان كثير من القائمين على وسائل الإعلام في هذا العصر من أصناف الخبيثين والخبيثات فإنهم يروجون لكل فكر ومنهج وسلوك خبيث ، ويمتهنون الكذب المفضوح في ذلك ، ولا يحترمون عقول المتلقين عنهم ، ولا يخجلون من كذبهم ، وقد دأب عوام الناس على وصف ما يشككون في صحته بأنه كلام جرائد ، أو كلام إعلام .
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من خطورة هذا المسلك الخبيث ، وبين ( أن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزلّ بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) متفق عليه.
ورأى عليه الصلاة والسلام من أصناف المعذبين كذابا يبلغ كذبه الآفاق فسأل جبريل عنه فقال عليه السلام:( أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة ) رواه البخاري.
والمسلم كما هو مأمور بمجانبة كل خبيث وخبيثة من الناس، فهو كذلك مأمور بمجانبة الخبيث من الكلام سماعا من قناة أو إذاعة ، أو قراءة من صحيفة أو مجلة أو رواية أو كتاب أو غير ذلك ؛ لأن الكلام الخبيث يفسد قلبه ، ويصرفه عن طيب الكلام.(/5)
وإذا كان المسلم مأمورا باجتناب اللغو منطوقا كان أم مكتوبا وهو في الشر والإفساد أخف من الخبيث ، فكيف إذا بخبيث المنطوق والمكتوب.ومن صفات عباد الرحمن ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين ) والإعراض عن اللغو يكون بالإعراض عن مصادره ووسائله التي ابتلي الناس بها في هذا الزمان أشد ابتلاء.
وجاء النهي عن حضور المجالس التي يخاض فيها بدين الله تعالى جهلا أو استكبارا ، وجعل الله تعالى أهلها ظالمين:(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين )
بل جاء أن من جالس المستهزئين بآيات الله تعالى فهو منهم ولو لم يكتب أو يقل شيئا ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ).
فكم من المسلمين من يقتني من وسائل الإعلام من صحف ومجلات وفضائيات قد كرست مهمتها للاستهزاء بدين الله تعالى ، والتلاعب بشريعته ، وإخضاعها لإراء البشر وتخبطاتهم، ولا يحرك ذلك ساكنا عند من يقتنيها ، بل يضحك ملء فيه ، وينام ملء جفنه ، وكأن دين الله تعالى لا يعنيه ، ولسان حاله أن للبيت ربا يحميه ، وقد أسلم نفسه وأهله وولده لما يكتب وينطق من خبيث الكلام ورديئه ،وهو يعلم أنه سيحاسب عن ذلك كله ، فنعوذ بالله تعالى من استحكام الغفلة ، وتمكن الهوى ، وذهاب الغيرة على حرمات الله تعالى ، ونسأل الله تعالى أن يخفف عنا وعن المسلمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية(/6)
الحمد لله ؛ أنار الطريق للسائرين ، وجعل من عباده هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين ، أحمده حمد الشاكرين ، وأستغفره استغفار المذنبين ، وأشهد ألا إله ألا الله وحده لا شريك له ، رب العالمين ، وإله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، إمام المرسلين ، وخاتم النبيين ، وسيد ولد آدم أجمعين ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ، واحذروا الذنوب فإنها رافعة النعم ، جالبة النقم ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ).
أيها الناس: الكتابة نعمة من الله تعالى يمن بها على من يشاء من عباده ، ولا خير في قلم لا ينفع صاحبه عند الله تعالى ، فإذا كان قلمه مصدر ضرر عليه في دينه فبئس القلم وبئس صاحبه ، وكسره خير من بقائه.
إن الكتابة أضحت حرفة في هذا الزمن ، وكل صاحب فكر ومبدأ ينافح عن فكره ومبدئه بقلمه.ومن الكتاب من يتأكل بكتابته فينتقل من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين ، ويثني اليوم على ما كان يشتم بالأمس ؛ لأنه يكتب لمن يدفع أكثر ، أو يدور مع القوي حيث كان ، وكثير من كتاب الصحف والمجلات كانوا أيام الماركسية من أشد أعداء الليبرالية الإمبريالية ، وبعد أفول الشيوعية انتقلوا بكل صفاقة ووضاعة إلى الليبرالية يتسولون على أبوابها ، ويخطبون ودَّ أصحابها ، حتى صاروا أشد إمبريالية من أهلها.(/7)
ومن أصحاب الأقلام من يتأكل بالشهوات والغرائز ، فيتقيأ انحرافاته وشذوذاته الجنسية على أوراقه ؛ ليشكل منها رواية تغوي القارئين والقارئات ، وتستهوي المراهقين والمراهقات ، وإذا ما أراد شهرة واسعة ، ورواجا لروايته ، وحماية له ولها في الدوائر الصهيونية والصليبية والعلمانية فما عليه إلا أن يضمن روايته سخرية بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر ؛ وعلى قدر سخريته بمقدسات المسلمين ينال نصيبه من الحماية والرعاية ، ويحصد الجوائز والهبات والأوسمة، ولربما بلغ بذلك جائزة نوبل للأدب ، كما حازها الكاتب الهالك نجيب محفوظ على روايته التي سخر فيها بكل مقدسات المسلمين ، وأعلن في نهايتها موت الإله لصالح المادية ، في رمزية جبانة ، وإلحاد صارخ ، وزندقة ظاهرة ، تعالى الله عن إلحاده علوا ظاهرا.
إن هذا الكاتب الهالك الذي امتلأت الصحف بالكتابة عنه ، وأفردت لسيرته وغوايته صفحات كاملة لا تفرد لموت العلماء بل ولا للزعماء ما هو في واقع الأمر إلا خبيث يحمل قلما خبيثا ، سطر به فكره الخبيث.فهو حامل همِّ إحياء الفكر الفرعوني ، وهو الداعي إلى الفكر الاشتراكي ، ويكفيه سبقا في الإلحاد والزندقة أنه التلميذ الوفي للنصراني القبطي سلامة موسى الحاقد على كل شعيرة من شعائر المسلمين ، الذي كان يتطلع إلى نقل مصر من إسلامها إلى الفرعونية.(/8)
إن هذا الروائي الهالك لم يخرج في جل رواياته عن أصلين عاش حياته من أجلهما ، وسخر قلمه في خدمتهما : وهما الدعوة إلى الإلحاد باسم العلم في مقابل الدين ، ونشر الإباحية والشذوذ في أوساط المسلمين ، قابله أحد المعجبين به فقال له ( من الواضح أنك أصبحت تميل إلى الفكر الماركسي، فالماركسيون في رواياتك هم الأبطال الشهداء ، وحاملوا الزهور الحمراء ، وهم الذين يضيئون الحياة بنور الأمل في الظلمات... فرد عليه الروائي الهالك : لقد شخصتني فأجدت التشخيص ) وقام أحد مريديه والمعجبين به وبرواياته بقرأتها وسبر موادها ، فعرف القاسم المشترك بينها ، وأعلن نتيجة ذلك فقال: حفلت رواياته بحشد هائل من البغايا والراقصات والقوادين والديوثيين واللصوص والنشالين والفتوات وصانعي العاهات والمرتشين والملحدين.
وفي مقام آخر يزعم أن الغربيين حلوا المشكلة الجنسية بنشر الإباحية ، وأن هذا الحل في نظره ناجع في بلاد المسلمين ، فيقول: أما عن حل المشكلة الجنسية في مجتمعنا فأنا لا أستطيع أن أقوله ، ولا أنت تكتبه ! ولكنني أستطيع أن أقول:( أوروبا تمكنت من حل المشكلة الجنسية بطريقتها الخاصة، تجد أن البنت عمرها خمسة عشر عاما تلتقي في حرية تامة مع أي شاب ، لا مشكلة جنسية ، ولا مشكلة عفاف ولا بكارة ، وحتى إذا أثمرت العلاقة طفلاً ، فالطفل يذهب إلى الدولة كي تربيه إذا كانت أمه لا تريد ) هكذا يريد لبنات المسلمين أن يكن بغايا وفاسقات كما كان نساء الغرب.(/9)
لقد مضى هذا الهالك إلى رب عدل سيحاسبه على ما خط بقلمه ولا يظلمه شيئا ، ولكن الجريمة كل الجريمة ، والتزوير كل التزوير ما يمارسه كثير من الإعلاميين والصحفيين من تضليل العقول ، وممارسة الكذب على المكشوف بالإشادة بهذا الهالك مع إخفاء حقيقة فكره وانحرافه عن الناس ، بل والاستماتة في الدفاع عنه ، والنيل ممن يفضحونه ، وسيلتهم في ذلك :الكذب والتزوير.فأين احترام العقول ؟! بل أين احترام زبائنهم من قراء صحفهم ؟! أفلا كان عندهم من الشجاعة أن يظهروا حقيقة فكره لقرائهم ، ثم يختار القراء بين دينهم وبين روائيهم الهالك ؟!
لقد كذبوا ثم كذبوا ، ودافعوا عن إلحاده وزندقته ، ووصفوه بالراحل الكبير ، وبالقامة الشامخة في بلاد المسلمين ، ونقلوا كما كبيرا من أقوال زملائه وتلامذته ومريديه ، ولم ينقلوا شيئا من أقوال من أبانوا حقيقة فكره ، بل هاجموهم ووصفوهم بأبشع الأوصاف ، فأين هي الموضوعية التي يتشدقون بها ، وأين هي دعوتهم إلى قبول الآخر واحترام الآراء الأخرى ؟ وإن تعجب فعجب من وصف بعض الصحف لروائيهم بأنه متدين ، فيا لضحالة عقولهم ، ويا لسخافة أقلامهم ، ولو خرج صاحبهم من قبره لوبخهم أشد التوبيخ ؛ لأنه كان يفاخر بحربه للدين ، فكيف يصفونه بالمتدين، نعوذ بالله من الهوى والردى ، ونسأله الهدى والتقى اللهم يا حي يا قيوم إن هذا الروائي قد تطاول على ربوبيتك وعلى ملائكتك وكتبك ورسلك ، وسخر بشعائر دينك ، اللهم فعامله بما يستحق فأنت الحكم العدل ، اللهم من أثنى عليه وهو يعلم حاله فاحشره معه ، ومن أثنى عليه وهو لا يعلم حاله فتب عليه من زلته ، وأنر بصيرته ، وخذ بيده للبر والتقوى.اللهم واهد ضال المسلمين ، وأصلح أحوالهم ، وأمنهم في أوطانهم ، واكفهم شر الأشرار وكيد الفجار ، والحمد لله رب العالمين .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد....(/10)
العنوان: القمني هو الحل!!
رقم المقالة: 1023
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
كان سيدُ القمني مثارَ جدل واسع قبل عشر سنوات على صفحات الجرائد والمجلات كـ"روز اليوسف" وأخواتها، وعلى بعض المواقع الإلكترونية؛ بسبب الآراء التي تبناها، وادعى أنه تلقى تهديداتٍ كثيرة على بريده الإلكتروني تدعوه للتوبة، فاعتزل الكتابة، وها هو ذا اليوم يعود بآرائه المثيرة للجدل مرة أخرى، ومنها ما نشر على بعض المواقع الإلكترونية بعنوان "الإسلام هو الحل" ساخرا من هذا الشعار الذي لم يعد يصلح لهذا الزمان والمكان على حد زعمه، طارحا بديلا عن الشعار يتلخص في أن الحل يكمن في أفكاره التي بشَّر بها قبل عشر سنوات ونيف.
"الإسلام هو الحل" شعار ينطوي على مفاهيم عميقة لا يدركها إلا من فهم الإسلام، وليس مجرد شعار مفرغ من المضمون، فهو كما في شهادة "لا إله إلا الله" ينطوي على مفاهيم عميقة لا يدركها إلا من عرف معنى الشهادة، أهمها العبودية المطلقة لمن يستحق العبادة دون سواه، والحرية والشجاعة والإيمان والمساواة.
شعار "الإسلام هو الحل" حقيقة قرآنية وتاريخية، وعلمية، هو الحضارة بعينها إذا طبق بروحه ومفاهيمه، وما نراه من زخرف الدنيا كما في أوروبا أو أمريكا التي أصبحت اليوم قبلة الكثيرين ممن يعادون الإسلام بعد أن نقلوا كفالتهم من موسكو إلى واشنطن.
هل الحل في احتلال البلاد، والتنكيل بالعباد، وقتل الأحياء من بشر وحيوان وشجر، وإبادات جماعية لكل من يخالفهم الرأي؟! وما القشور التي يبثونها لنا إلا تخدير وملهاة حتى ينخدع المنخدعون، ما نراه اليوم من إعجاب بالغرب ليس حضارة بل هو مدنية؛ تقدم وامتلاك لأسباب القوة، وحرب شعواء على المخالفين لهم.(/1)
الحضارة هي ارتقاء بالإنسان وتحقيق العبودية لله، و مساواة الناس في الأحكام، ثم التقدم المادي الذي يخدم البشرية، وعمارة الأرض، ومن ينكر امتلاك الأمة الإسلامية لمقومات الحضارة لأكثر من عشر قرون خلت؟ وما انتشار الإسلام في أصقاع المعمورة إلا دليل على هذه الحضارة، أما ما تباكى عليه سيد القمني من الأشورية والفرعونية والبابلية فأين حضارتهم؟ اليوم فلو كانت حضارة كما ادعى لما بادت، بل سادت؛ لأن النفس البشرية تتوق لما يحقق أحلامها وطموحها وتسعى لبنائها وتطورها.
لا يذكر سيد القمني من تاريخنا الإسلامي إلا الظلم والاستبداد، وهذا نوع من الانتقائية لا يرقى للبحث العلمي، أنا لا أنكر أنه كان في كثير من الدول والعصور الإسلامية ظلم واستبداد سببه الصراع على الحكم، ولكن في الوقت نفسه كان هؤلاء المستبدون عادلين في كثير من الأحيان، فقارئ للتاريخ كسيد القمني -الذي أمدَّ المكتبة العربية بعدد من الكتب التاريخية- كيف يفوته العصور الذهبية الإسلامية؟ عصور الفتوحات والعلم والمكتبات، التي شهد بها المنصفون من المفكرين الغربيين قبل المسلمين!! فمن الإجحاف اتهام العصور الإسلامية كلها أو دولة الخلافة بالظلم والاستبداد والتخلف.
ألم يقرأ عن الدولة الأولى في العالم لاثني عشر قرنا من الزمن إذ كانت المدينة المنورة والكوفة ودمشق وبغداد والقاهرة وأخيرا إستانبول كواشنطن اليوم من حيث القوة والمنعة والاعتزاز، يقف على أبوابها الكثيرون طمعا في لقاء الخليفة أو شيخ الإسلام؟
ألم يعلم أن الدولة العثمانية "المستبدة" أغلقت أبوابها دون اليهود الذين طردتهم حضارة إسبانيا بعد محاكم التفتيش التي طاولت كل من خالفهم الرأي؟(/2)
وفي الوقت نفسه هل كان العالم الآخر -الذي تباكى عليه- ينعم بالحرية والديمقراطية وتداول الحكم حتى حكم على الخلافة الإسلامية بالاستبداد، ألم يعلم عن حروبهم المقدسة وقتلهم الملايين؟ وما الحربان العالميتان الأخيرتان إلا دليل على همجية هؤلاء القوم إذ ذهب ضحيتها ملايين من البشر!! وإن لم يعلم عن هيروشيما ونجازاكي فتلك مصيبة، وإن عدَّ ما حل بهما حضارة فالمصيبة أعظم!!
هل دعم إسرائيل من قبل العالم الغربي، وحصارهم للشعب الفلسطيني، ورفضهم استقبال أعضاء المجلس التشريعي المنتخبين شعبيا، والوزراء الممثلين لحكومة الوحدة الوطنية حضارة وتقدم؟!!
وللقمني أقول:
منذ مئة عام ونحن نجرب النظريات الغربية والشرقية وكان الإسلام مغيبا فلمَ لم تنجح هذه التجارب؟ فهل المشكلة في الإسلام أيضا؟!! لقد ازداد تخلفنا وتبعيتنا، وتفشت المشكلاتُ التي لم تجدوا لها حلا إلا باتهامكم الإسلام بأنه سبب التخلف، فلم لم يكن الأخرون المناوئون لهذا الشعار سبب التخلف وقد حكموا البلاد والعباد وتملكوا المقومات والقوة، وفي ظلهم شرعت لكم الأبواب وأصبحتم المنظرين والمستشارين والناصحين والمحرضين في بعض الآحايين!!
الحقيقة أنه بعد أن يئس الناس من شعارات الخمسينات والستينات وبعد الإخفاق الذريع لتجارب غريبة عن المجتمع ومفاهيمه لجأ الناس للفطرة ورفع بعضهم الشعار الذي لم يعجب أصحاب شعار "كل ما عدا الإسلام هو الحل"، بالرغم من التضييق عليهم وملاحقتهم واتهامهم بأبشع التهم، ويبدو أن كثيرين سيموتون بغيظهم لأنه لا شعار يضاهيه في أيامنا هذه بالرغم من المحاولات العديدة لتأميمه أو مصادرته.
إنه شعار وإن لم يعجبك وحتى لو تهكمت عليه سيسري سريان النار في الهشيم؛ لأن النبتة التي زرعتموها لم تثمر إلا هشيما خاويا اكتشفه الناس وسارعوا في اجتثاثه.(/3)
يبدو أنَّ لا حل لمشكلات العالم الإسلامي إلا بالشعار الذي لم يعجبك، لقد جربنا ما ناديتم به، ولم يبق للمناوئين إلا نموذجهم المفضل أمريكا، وأنت تعلم إلى أي مدى وصلت محبة أمريكا في العالم كله، بسبب حضارتها المزيفة!!
وأخيرًا ألم تقرأ عن العدالة والتنمية في تركيا التي حرمت من رفع هذا الشعار علنا فحملوه في عقولهم وقلوبهم، وارتقوا بتركيا بشهادة المنصفين من المحللين والدارسين، ألا تتفق معي أن تركيا اليوم أفضل من الأمس وقبل الأمس، فهل وقف الإسلام حجر عثرة أمامهم، أو أنه كان المعين لهم على التطور والتقدم والنظافة والمساواة، فإن لم تقتنع فلا تسأل أحدا من الإسلاميين فقد يكون متحيزا، أو متعصبا، بل اسأل الأصوات التي حصدوها وادرسها بطريقة علمانية أو علمية واعرف كم تضاعفت خلال عقد من الزمن في البلديات والبرلمان، وجميع المؤسسات الاجتماعية، فأين التخلف والتردي مما طرحته في مقالك؟!!
وليست التجربة التركية وحيدة، هناك تجارب كثيرة ولكن المشكلة سيدي أن يسمح لأصحاب هذا الشعار أن يعملوا في جو من الحرية والإنسانية لا أن يعاملوا كما قال الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
هناك برامج عديدة لمن يرفعون هذا الشعار، ومسألة البرامج أصبحت نغمة قديمة لحَّنها من أخفقت برامجهم، ولكن المشكلة أنكم لا تريدون أن تطلعوا على برامج غيركم.
الإسلام هو الحل الذي ينبثق منه بلا شك "العلم هو الحل"، ليس للعالم الإسلامي وحده، بل للعالم كله الذي يعيش اليوم في ظلم وطغيان ومعايير مزدوِجة، وربما تستغرب هذا الكلام، وقد استغرب قبلك سراقة بن مالك يوم كان يلاحق من فرّ بدينه من حضارة قريش المزعومة.(/4)
العنوان: القند في ذكر علماء سمرقند للنسفي
رقم المقالة: 526
صاحب المقالة: يوسف الهادي صادق العبادي
-----------------------------------------
ضمن سلسلة "تراث ما وراء النهر" صدر كتاب "القند في ذكر علماء سمرقند" لنجم الدين عمر بن محمد بن أحمد النسفي (461- 537هـ) في طبعة بتحقيق يوسف الهادي، بواسطة مركز نشر التراث المخطوط في طهران (1420هـ/ 1999م).
وقد أهدى المحقق الكتاب لحمد الجاسر (المقدمة ص 7)؛ لما لاقاه منه من تعاون في هذا المجال، يقول المحقق: "وإذا كان لي أن أشكر أحداً فهو الأخ الكريم الأستاذ حمد الجاسر، الذي بادر متفضلاً؛ فأرسل لي مصورة من مخطوطة مكتبة طرخان والده سي، مشفوعة بالنسخة المطبوعة منه في الرياض، مما مكنني من إتمام عملي بيسر" [المقدمة ص 40].
وقد اعتمدت طبعة طهران على مخطوطتين:
1- مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس، وتحتوي على تراجم الأشخاص الذين تبتدئ أسماؤهم بالحروف من الألف حتى الجيم وهي تراجم غير موجودة في مخطوطة إستانبول التي نشرت سنة 1412هـ في السعودية، حيث تضيف مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس 192 ترجمة لم تنشر في طبعة الرياض.
2 - مخطوطة إستانبول التي اعتمدت عليها طبعة الرياض، مكتبة الكوثر عام 1412هـ بتقديم محمد نظر الفاريابي.(/1)
والذي دعا المحقق إلى إعادة تحقيق هذا الكتاب؛ أولاً: إكمال أعلام النسخة الأولى (حروف الألف إلى الجيم). ثانياً: وجود عدة ملاحظات أساسية على طبعة مكتبة الكوثر في الرياض: فمخطوطة استانبول التي نشرت في الرياض بتحقيق محمد نظر الفاريابي، وهي طبعة عليها مآخذ (ص11) ومن ذلك سقوط سبع تراجم منها، ذكرت أسماء أصحابها في آخر صفحة 566 من طبعة الرياض وهي غير موجودة في نص الكتاب إضافة إلى أخطاء وقعت خلال نسخ الكتاب وطبعه مما جعل النص غامضاً أحياناً إلى درجة يستحيل معها فهم النص. ولقد كان ينبغي لمن يقدم على طبع أو تحقيق كتاب كهذا أن تكون له معرفة بعلم الرجال والتاريخ وجغرافية البلاد التي دارت تراجم الكتاب مدارها. كما احتوت على أخطاء طباعية أدت إلى ضياع الرسم الحقيقي لاسم الموضع أو النسبة التي نسب إليها المترجم له. فقد ذكر اسم علي السنكباتي (في صفحة 87 من طبعة الرياض) ثم ذكر باسم السكاني (في صفحة 129) والحقيقة أن الرجل هو السنكباثي (انظر صفحات 219، 221، 240، 241 من طبعة طهران) [المقدمة ص 12].(/2)
ويعزو يوسف الهادي محقق هذه الطبعة كثيراً من الأخطاء المطبعية إلى أنها جاءت من منضد الحروف الذي لم يطبعها بالشكل الصحيح، ويبدو أن خط المخطوطة الجميل هو الذي دفع ناشرها إلى تسليمها إلى منضد الحروف الذي لم يكن يعرف شيئاً خارج نطاق عمله، فطبع الكلمات بالشكل الذي رآه هو صحيحاً، وأن دور محمد نظر الفاريابي قد اقتصر على كتابة المقدمة (ص 12)، وقد أحصى المحقق مجموعة من الأخطاء المطبعية التي حرفت المعلومات الصحيحة وذكرها في المقدمة، ثم يقول: فإذا أضفنا إلى ذلك الأغلاط التي حرفت المعلومات الصحيحة وذكرها في المقدمة، ثم يقول: فإذا أضفنا إلى ذلك الأغلاط التي حدثت في فهرسي الكتاب (فهرس التراجم، وفهرس الأحاديث) إضافة إلى الأخطاء في الترقيم المذكور حيث يحال إلى رقم معين فلا نجده ينطبق على الرقم المذكور في أول كل ترجمة [المقدمة ص 15].
سمرقند وأهميتها الجغرافية والعلمية:(/3)
قال المؤرخ المجري فامبري وهو يصف بخارى وسمرقند: "ظلت بخارى مركز الثقافة القديمة وفنون العلم هي وسمرقند التي ذاع صيتها بما حبتها الطبيعة من جمال وفتنة" [تاريخ بخارى، 147] وقال بارتولد: "إنها ظلت من حيث الرقعة وعدد السكان أولى مدن ما وراء النهر قاطبة حتى تلك العهود التي كانت فيها بُخارى عاصمة للبلاد، كما حدث في عهد السامانيين، وهذه المكانة التي نالتها سمرقند إنما ترجع قبل كل شيء إلى موضعها الجغرافي الفريد، عند ملتقى الطرق التجارية الكبرى القادمة من الهند (مارة ببلخ) ومن إيران (مارة بمرو) ومن أراضي الترك، كما أن ما امتازت به المنطقة المحيطة بها من خصب فوق المألوف. جعل من الميسور لعدد هائل من السكان أن يجتمعوا في بقعة واحدة، (تركستان، 170)، ووصفها ابن المنذر الشيباني (18 – 97هـ) وكان مع قتيبة بن مسلم الباهلي في ما وراء النهر فقال: "كأنها السماء للخضرة، وقصورها الكواكب للإشراق، ونهرها المجرة للاعتراض، وسورها الشمس للإطباق". (المسالك والممالك) [المقدمة، ص 33].
وقد كانت سمرقند مركزاً من مراكز العلم، وفيها كان يُصنع ورق الكتابة ذو الجودة الفائقة وبه اشتهرت، وقال السمعاني في صناعة الكاغد: "وهو لا يعمل في المشرق إلا بسمرقند " [الأنساب، 5 / 18]، وبحكم كون سمرقند مدينة تقع على ثغور البلاد الإسلامية وهي عرضة أبداً للهجوم من شتى الطامعين، فقد استدعت الضرورة أن تعزز حاميتها بالمقاتلين الذين كان كثير منهم من المطوَّعة الذين كانوا يأتون من بقاع العالم الإسلامي تطوعاً للجهاد في تلك الثغور، ونجد لقب "المطوَّعي" يتردد كثيراً في كتاب القند، وهذا الموقع للمدينة هو الذي جعل البعض يبالغ في مدح سمرقند دفاعاً عن ثغور المسلمين وتشجيعاً لحمايتها، ويشكك محقق الكتاب في بعض الأحاديث المروية في ثنايا الكتاب والمنسوبة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - عن سمرقند وفضائلها [المقدمة، ص 35].(/4)
وقد جاء في ديوان ابن الفتح البُسْتي وهو يردُّ على من يساوي بين سمرقند وبلخ:
لِلنَّاسِ فِي أُخرَاهُمُ جَنَّةٌ وَجَنَّةِ الدُّنيَا سَمرقَندُ
يَا مَن يُسَوِّي أَرضَ بَلخٍ بِهَا هَل يَستَوِي الْحَنظَلُ وَالقَندُ
واستمرت سمرقند في ممارسة دورها الحضاري، إلا أن تعاقب الغزوات وخاصة المغولية قد أدت إلى نهبها، وطرد الكثير من سكانها، لكنها استعادت عافيتها عندما اختارها تيمورلنك في 771هـ عاصمة لدولته واهتم بها الملوك من بعده، إلى أن احتلها القياصرة الروس أول مرة عام 1480م، وقاموا بالقتل واستباحة الدماء والتنكيل وحروب الإبادة الشاملة التي شنت ضد المسلمين وخاصة في عهد إيفان الملقب بالرهيب (1530- 1584م) فكان على المسلمين أن ينتصروا أو يتركوا أوطانهم ويهاجروا، واستمرت هذه السياسة في عهد خلفائه وخاصة أسرة روانوف في القرن السابع عشر، وقد نهب الروس خيرات المنطقة وثرواتها الاقتصادية وسيطروا على المراكز التجارية في سمرقند وطشقند (ص 36).
وخلال عهد السيطرة الشيوعية (1917– 1991م) لبلدان آسيا الوسطى، جرى التركيز على تدمير أوزبكستان وحواضرها التاريخية سمرقند وطشقند وبخارى، خصوصاً مدارسها ومساجدها التاريخية، ففي العهد الشيوعي أغلقت المعاهد الدينية، وفرضت ضرائب على المساجد وحولت ألوف المساجد إلى مواخير ونواد وإسطبلات، وحولت جامعة سمرقند إلى نادٍ، وصودرت جميع أراضي الأوقاف الإسلامية، ودمرت مطبعة في قازان كانت تطبع القرآن الكريم، ووضعوا قيوداً على أداء فريضة الحج، ومنع المسلمين من أداء الزكاة وحتى منع الصوم بحجة أنه معطل للإنتاج، وتم تهجير المسلمين إلى مناطق ثانية، وجلب الروس واليهود والمسيحيين إلى مناطق المسلمين لتضييع الهوية الإسلامية مما أدى إلى خفض عدد المسلمين بشكل كبير (سمرقند، تاريخها وحضارتها، 34).
مصير العرب في سمرقند:(/5)
وقد ذكر مؤلف كتاب (المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفياتي) عام 1959م: أوردت الإحصائية السوفيتية أن هناك 7987 عربياً يستوطنون في الأساس وادي زرفشان الأسفل بين سمرقند وبحيرة قرة كول وهناك مجموعات منهم أقل أهمية تعيش في أوزبكستان الجنوبية، وكانت الجالية العربية في طريقها إلى الدمج السريع بالسكان المحليين، وقد امتزجت الأوزبكية والفارسية إلى حد كبير بلغتهم التي يتكلمون بها، وأخذوا يستخدمون الأوزبكية كلغة أدبية، يتكلم 34% منهم بالعربية و 34% الطاجيكية و28% الأوزبكية، وأخيراً لم يُمثل العرب في قوائم القوميات التي أعدتها السلطات السوفياتية في إحصائياتها خلال عامي 1970 و 1979م (المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفياتي ص 146، نقلاً عن مقدمة القند، ص 38).
مؤلف كتاب القند:
أما مؤلف كتاب القند في ذكر علماء سمرقند فهو حسب ما ذكره أبو سعد السمعاني: "أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن لقمان النسفي، السمرقندي، الحافظ من أهل نسف، سكن سمرقند، إمام فقيه فاضل عارف بالمذهب والأدب، وصنف في الفقه والحديث ونظم كتاب الجامع الصغير (للشيباني المتوفى 189هـ) ودُفن بسمرقند، أما شيوخه فكثيرون، قال السمعاني تليمذه: " كتب لي بالإجازة وقال: " شيوخي خمسمائة وخمسون رجلاً. ذكر ابن النجار بقوله: " قدم بغداد حاجاً. توفي سنة 537هـ ودفن بمقبرة وصفها أبو طاهر السمرقندي بقوله: تقع داخل مدينة سمرقند في طرف القسم الشرقي فيها، وكانت في الأصل بستاناً، وفي الطرف الغربي صحن توجد فيه حضيرة المفتين، يقال: إنه مدفون فيها أربعمائة من المفتين، ويحتمل إنها هي تل أصحاب الحديث التي ترد الإشارة إليه كثيراً في كتاب القند بوصفه مدفناً لأصحاب الحديث (ص20).
من آثار النسفي وكتبه:(/6)
قال ابن النجار: "كان فقيهاً فاضلاً مفسراً أديباً متفنناً، وقد صنف كتباً في التفسير والحديث والشروط... ولعله صنف مائة مصنف (ذيل تاريخ بغدد 20/99)، وقد كتبت على بعض كتبه الشروح، ودعاه أصيل الدين الواعظ (ت 883هـ) مفتي الثقلين، وهذه بعض آثاره المخطوطة والمطبوعة والمفقودة:
1 - الإجازات المترجمة بالحروف المعجمة.
2 - الإشعار بالمختار من الأشعار.
3 - الأكمل الأطول، في تفسير القرآن، 4 مجلدات.
4 - بعث الرغائب لبحث الغرائب.
5 - تاريخ بخارى.
6 - تطويل الأشعار لتحصيل الأخبار.
7 - تعداد الشيوخ لعمر، جمع فيه شيوخه وهم خمسمائة وخمسون شيخاً.
8 - تفسير نسفي بالفارسية، حققه عزيز الله جويني وطبع بطهران 1997م اعتماداً على ثلاث مخطوطات من خراسان وأفغانستان وتركيا.
9 - التيسير في التفسير.
10 - منطومة الجامع الصغير.
11 - شرح الأصول، شرح كتاب الأصول لابن دلال الكرخي.
12 - طلبة الطلبة، في الاصطلاحات الفقهية على مذهب الحنفية، طبع مراراً في مصر وبيروت.
13 - عقائد النسفي أو العقائد النسفية، مختصر في علم التوحيد، طبع عدة مرات.
14 - في بيان مذهب التصوف وأهله، مخطوطة بإستانبول بالفارسية.
15 - المختار من الأشعار في عشرين مجلداً.
16 - مشارع الشارع في فروع الحنفية.
17 - مطلع النجوم ومجمع العلوم، دائرة معارف في شتى العلوم.
18 - معجم شيوخ النسفي.
19 - النجاح في شرح أخبار كتاب الصحاح.
20 - القند في ذكر علماء سمرقند.
وكتب أخرى مخطوطة أو مفقودة (انظر مراجعها في المقدمة، ص 21 - 24).
أهمية الكتاب:
وكتاب القند في ذكر علماء سمرقند مرجع هام لحوالي 1232 من الرواة والمحدثين والتابعين والأعلام والأمراء الذين عاشوا وسكنوا أو مروا بسمرقند، وكذلك يحتوي الكتاب على جملة من الأحاديث النبوية، ومعلومات عن البلدان والمدن والقرى وبعض الوقائع والحوادث التاريخية.(/7)
والكتاب يحتوي على عدد من الأحاديث النبوية المروية عن النبي - صلي الله عليه وسلم - وقد جمعها المحقق في نهاية الكتاب مع رواتها (ص 713 - 748)، ورغم الأهمية الخاصة التي يتمتع بها كتاب القند في كونه مرجعاً ينقل عن مصادر لم يعد لها أثر اليوم، ويذكر مواقع وقرى ويترجم لأشخاص لا نعثر على مجموعة كبيرة منهم في كتب التاريخ والرجال المتوفرة، إلا أن بعض الأحاديث المروية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، يوجد في بعضها ما يشير إلى ضعف أسانيدها (ص 25)، وقد نقل المحقق بعض هذه الأحاديث مشفوعة بمصادرها (ص 24-29).
قال حاجي خليفة في مادة تواريخ سمرقند: ألف فيه أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري (350 – 432هـ) وأبو سعد عبد الرحمن بن محمد الإدريسي (ت 405هـ) والذيل عليه لأبي حفص عمر بن محمد النسفي ومنتخب القند لتلميذه محمد بن عبدالجليل السمرقندي (كشف الظنون 1/296)، وهناك كتاب القندية المدون بالفارسية لمحمد بن عبدالجليل السمرقندي الذي يتحدث فيه عن مقابر مدينة سمرقند، والذي توجد مخطوطاته في مكتبات آسيا الوسطى.
وأما عن اسم كتاب القند الذي فيما نحن فيه فيرد أحياناً باسم القند في ذكر علماء سمرقند، وأحياناً القند في تاريخ سمرقند وفي أحيان أخر تاريخ سمرقند، ويقال اختصاراً القند (ص30).
وقد اعتمد المحقق في هذه الطبعة على نسختين؛ الأولى: نسخة محفوظة بالمكتبة الوطنية بباريس برقم 6284 ناقصة الأول والآخر، مضطربة الأوراق، تضم التراجم التي تبدأ أسماء أشخاصها بحرف الألف حتى حرف الجيم، وبعض من العين. وتقع في 173 ورقة تحتوي على 22 سطراً، وقد كتبت بخط النسخ بيد كاتبين اثنين. الثانية: نسخة محفوظة بمكتبة طرخان والده سي بإستنبول برقم 2972 وعدد أوراقها 98 ورقة، معدل الأسطر 22 سطراً بالخط النسخي الجميل المشكول وهي تضم التراجم التي تبدأ أسماؤها بالحروف من الخاء حتى الكاف (ص 31).(/8)
ويبدو أنه توجد نسخة منه بالفارسية، أفاد منها بارتولد، في كتابه تركستان، وهذه النسخة هي فعلاً مختصر القند.
طريقة تحقيق الكتاب:
لقد اعتمد المحقق في هذه الطبعة على مخطوطتي المكتبة الوطنية بباريس ومكتبة طرخان والده سي بإستانبول - كما ذكرنا سابقاً - وقد ذكر في الهوامش ما اتفق واختلف بينهما، كما عرف بالمترجمين، فإذا لم يجد للمترجم ذكراً أشار إما إلى شيخه أو تلميذه الذي روى عنه مع شيء يدل على الزمن الذي عاش فيه كسنة ولادته أو وفاته.
أما عن الألقاب والكنى فقد حاول المحقق ذكر كل ما عثر عليه من لقب وكنية وذكرها في الفهرس الموضوعي آخر الكتاب، ذلك أن بعض هؤلاء عُرف بلقب آخر أو نسبة غير ذلك أو تلك التي وردت في كتاب القند، فبقي الاسم واللقب كما هو في المتن أمانة للنص، أما في الفهارس فقد ذكرت كل الألقاب الأخرى (ص 39).
لقد اقتضى تحقيق الكتاب قراءة كتاب الأنساب للسمعاني إضافة إلى كتبه الأخرى، ثلاث مرات لضبط النسب ومعرفة ما يمكن العثور عليه من المترجمين في القند، وقد التزم ضبط السمعاني للنسب نظراً إلى أنه ذهب إلى ما وراء النهر وزار أغلب المدن والقرى التي ذكرها، وأفاد من مكتباتها العامة والخاصة، والتقى بابن النسفي نفسه واستعار منه المؤلفات والكراسات، كما اعتمد المحقق على كتاب توضيح المشتبه لابن ناصر الدين (ت 842هـ) بسبب اعتماده على كتاب مهم في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم مؤلفه أبو العلاء محمود بن أبي بكر البخاري الكلاباذي الفرضي المولود ببخارى (644هـ) والمتوفى بماردين التركية (ت700هـ)؛ مما يكشف عن المجهود الطيب والواسع الذي بذله المحقق لإخراج هذا الكتاب إلى النور.
الفهارس:
ولقد ضم الكتاب في دفتيه عشرة فهارس، شاركت في إعدادها بشرى مشكور، والفهارس هي:-
1 - فهرس الآيات القرآنية.
2 - فهرس الأحاديث القدسية والنبوية.
3 - فهرس الأعلام والمترجمين.(/9)
4 - فهرس الخلفاء وأئمة المذاهب والملوك والولاة والقضاة.
5 - فهرس الأنساب والألقاب والصفات.
6 - فهرس الأقوام والجماعات والأمم والقبائل.
7 - فهرس البلدان والمدن والمواضع.
8 - فهرس الكتب الواردة في المتن.
9 - فهرس الوقائع والحوادث.
10 - فهرس المصادر والمراجع.(/10)
العنوان: القَوامة.. تكليف لا تشريف
رقم المقالة: 1292
صاحب المقالة: تحقيق: سحر فؤاد ومجاهد مليجي
-----------------------------------------
• القَوامة أساسها الورع والخشية والعدل.
• الزوج البخيل لا تسقط قوامته.
• الإنفاق بقدر استطاعة الزوج وليس بتطلعات الزوجة.
• البخيل أكرم الناس على أهل بيته فهو يدخر المال لهم.
• القَوامة لم يجعلها الإسلام للرجل بإطلاقها ولم يحْرِم منها المرأة.
• • • •
تثار بين الحين والآخر قضية القَوامة ويتنازعها بعض من الرجال والنساء، فما هي القَوامة؟ وما واجب النساء تجاهها؟ وهل البخل يُسقِط قَوامة الرجل على أسرته؟ وإذا كانت الزوجة مسرفة ماذا يفعل الزوج؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عليها من خلال التحقيق التالي.
أمور كثيرة في عصرنا أصبحت تُدفع باتجاه وضع من الندية بين الرجل والمرأة، فالظروف أتاحت أمام كل امرأة فرصاً أكبر للاستقلال المادي والمعنوي، فهي تخرج وتعمل وتشارك، لها مالها الخاص، وعندها حاسوبها الخاص، وهاتفها النقال، وحسابها البنكي، وعالمها الذي يتوسع، وغالباً ما يكون هذا التوسع على حساب الرجل وعلاقتها به، فهي أكثر برودة وزهداً تجاه زوجها؛ لأنها أقل احتياجاً له، وأقل رغبة في بذل الجهد لإرضائه، فيفقد الزوج ميزاته النسبية في الإنفاق والخصوصية، وتتسلل إلى نفسه مشاعر الحنق، وحين يستقر في ضميره أن زوجته ندٌ له يبدأ في معاملتها بالمثل؛ مما قد يحوِّل الحياة بينهما إلى جحيم.
العديد من الجمعيات النسائية العربية- التي تتبنى الأجندة الغربية في وجه ثوابتنا الإسلامية- تزعم أن القَوامة تسقط حال عدم الإنفاق؛ فقد ثبتت للرجل بالإنفاق؛ إلا أن علماء الإسلام وفقهاء الشريعة أكدوا أن قَوامة الرجل لا تسقط حتى مع عدم الإنفاق؛ لأنها قائمة بنص الآية بشرطين هما في قول الله تعالى: {بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ...} [النساء:34].(/1)
• تكليف لا تشريف:
يقول الشيخ سلمان العودة: القيِّم هو السيد، وسائس الأمر، وقيِّم المرأة: زوجها أو وليها؛ لأنه يقوم بأمرها وتدبير ما تحتاج إليه، فالمقصود إذاً بقوامة الرجل على زوجته: قيامُه عليها بالتدبير والحفظ والصيانة والنفقة والذبِّ عنها، والقَوامة تكليف بهذا الاعتبار أكثر من كونها تشريف، فهي تُحمِّل الرجل مسؤولية وتبعة خاصّة، وهذا يوجب اعتماد التعقّل والرَويّة والأَناة، وعدم التسرع في القرار، كما أنه لا يعني مصادرة رأي المرأة، ولا ازدراء شخصيتها.
والمسلّم به ابتداءً أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله، وأن الله - سبحانه - لا يظلم أحداً من خلقه، وهو يهيئه لوظيفة خاصّة ويمنحه الاستعدادات لإحسان الأداء في هذه الوظيفة.
وجعل الله من خصائص المرأة: أن تحمل، وتضع، وترضع، وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل، وهي وظائف ضخمة أولاً، وخطيرة ثانياً، وليست هيّنة ولا يسيرة بحيث تُؤدَّى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى؛ فكان عدلاً أن ينوط بالرجل- الشطر الثاني- توفير الحاجات الضرورية والحماية، وأن يُمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه، بالإضافة إلى تكليفه الإنفاق، وهو فرع من توزيع الاختصاصات.
ويؤكد الدكتور وهبة الزحيلي- عضو المجامع الفقهية العالمية والأستاذ بكلية الشريعة بجامعة دمشق- أن القَوامة لا تعني السلطة الاستبدادية، أو إعطاء الرجل صلاحيات ليكون كالوحش الضاري، ولكنها مُنحت للرجل لتسهيل إدارة هذه المؤسسة الاجتماعية - الأسرة -، وهي غرم وليست غنماً، ولكن تطبيقها الخاطئ هو الذي أساء لها.(/2)
وأضاف: ومع أن كل الأعمال تحتاج إلى رائد ومنظم ومدير إلا أن القَوامة في جوهرها ترتبط بالورع والخشية والعدل؛ وذلك لارتباطها بشرطي: التفضيل والإنفاق، وإذا حدث هناك خلل في شرط الإنفاق- سواء لعجز الرجل الجزئي، أو ضيق ذات يده، أو إعساره بعد يسر، أو إفلاسه- فستبقى القَوامة وفقاً للشرط الأول، وهو ما فضل الله به بعضهم على بعض.
ففي أثناء قيام الحياة الزوجية لابد من إنصاف المرأة وتكريمها، وصون شخصيتها وذاتيتها واستقلالها، فأوجب على الرجل- خلافاً للأعراف الغربية- منح المرأة صَداقاً (مهراً) على سبيل التكريم لا التعويض، لقوله تعالى: {وَءَاتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً...} [النساء: 4] كما أوجب عليه الإنفاق المعيشي المعتدل على امرأته، ولا تُكلف المرأة بالإنفاق على أحد، وإذا انفسخت الرابطة الزوجية لسبب اضطراري؛ وجب إكرام المرأة بمنحها هدية مناسبة وهي المسماة بالمتعة، لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وربما يدخل في المتعة توفير مسكن للمطلقة إذا لم يكن لها من أقاربها من يعيلها حتى لا تضيع.
إن بناء الأسرة المسلمة في كل عصر له ارتباط وثيق بمقاصد الشريعة وغاياتها الكبرى، لتحقيق الاستقرار والمحبة والوئام، وتقوية أواصر الأسرة على أساس من التعاون المثمر، والحفاظ على فضيلة العفة وطهارة النسب، وتكريم المرأة في وسط إنساني نسيجه الود والاحترام، وغايته مستقبل واعد مزدهر من أجل تربية الأجيال، وفاءً لحق الآباء ورسالة الأجداد، وإبقاء النوع الإنساني القوي المتماسك، والمزوَّد بطاقات التربية الحصينة والفضيلة والأخلاق القويمة، والتوصل إلى حماية الأسرة الفتية أو القديمة من كل ألوان التعثر والتصدع والانهيار.
• قَوامة الرجل لا تعني انتقاص المرأة:(/3)
أما الدكتورة آمنة نصير- عميدة كلية الدراسات الإسلامية بالإسكندرية- فترى أن القَوامة أمر طبيعي تقره أي مجموعة تعيش مع بعضها بأن يكون لها قائد، كما أنها أمر طبيعي في المنزل الذي لابد أن يكون له قائد، والطبيعي أيضاً أن يكون القائد هو الرجل، والقرآن الكريم أقر التفضيل وجعله متبادل بين الزوجين، وعاد وأردف الله عز وجل في الآية الكريمة بقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، لكن قد يتخلى الرجل عن مسؤوليته ويُسقط عن نفسه التفضيل الذي منحه الله إياه، فهنا فقط تأخذ المرأة هذا الدور، وتُكَرَّم بالقَوامة على الأسرة، وأخذ الدرجة، كما أنها تُمنح هذه الدرجة وهذا التفضيل في حال وفاة الزوج، أو عند السفر أو الهجرة أو الجهاد أو غير ذلك.
إن قَوامة الرجل ليس انتقاصاً من دور المرأة أو قدرها في المجتمع؛ بل قوامته من أجل توزيع إلهي للأدوار، وتخصيص لأعمال كل طرف؛ بأن يتحمل مسؤوليته التي خصه الله بها وأنه الأجدر على أداء تلك المسؤولية.
وتشير الدكتورة آمنه إلى أن الغرب أساء فهم القَوامة وتبعه العلمانيون، فالقَوامة لا تعني وجود زوجين يتناطحان فيما بينهما لإثبات أفضلية أحدهما على الآخر؛ فكلاهما عند الله مكرمان بما فضل الله بعضهم على بعض، كما أنهما مفضَّلان إذا أدّى كلٌ منهما دوره المنوط به على أكمل وجه دون ندية أو تناطح.
والقَوامة تكليف وليست تشريف؛ فالزوج القيِّم على الأسرة مُطالب: بالإنفاق عليها، ورعايتها، والكد والسعي لجلب الرزق، والإنفاق، والتعليم، والكسوة، وغير ذلك من الاحتياجات الأساسية، لكن للأسف يعاني المسلمون من سوء فهم القَوامة؛ فبعضهم يرونها استبداداً وتسلطاً ، فيسيئوا لمعنى ومفهوم القَوامة، وكان ذلك وراء هجوم الغرب على معنى القَوامة واعتبارها ظلماً للمرأة المسلمة والإسلام من ذلك بريء.(/4)
ويؤكد هذا الكلام الشيخ سلمان العودة فيقول: "تحدث الإشكالية عند البعض بسبب القول بأن الرجل أفضل من المرأة؛ فتهبّ المنظمات والهيئات ودعاة المساواة، وما إلى هنالك في افتعال صراع حول هذه النقطة، ويشطحون في فكرهم، فبدلاً من أن يفهموا معنى قوله تعالى: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} [النساء:34] فهماً سليماً؛ تجدهم يفرطون في إثبات حقوق – في زعمهم- للمرأة، ويدّعون أنها مهضومة، وأن الدين لم ينصفها؛ فيقودهم ذلك إلى التجرؤ على نصوص الكتاب والسنة، وفي النهاية يخرج ذلك في صورة المساواة في الإرث والحكم والإمارة وكل شيء، حتى يسعى الرجل بدوره إلى المساواة مع المرأة.
وأؤكد أن هذه القَوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت، ولا في المجتمع النسائي، ولا إلغاء وضعها "المدني"؛ وإنما هي وظيفة داخل كيان الأسرة لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها، ووجود القَيِّم في مؤسسة ما لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها؛ فقد حدد الإسلام صفة قَوامة الرجل، وما يصاحبها من: عطف ورعاية، وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجته وعياله.
• الغرب والقَوامة:(/5)
الدكتورة فوزية العشماوي- الأستاذ بجامعة جنيف بسويسرا- تلفت النظر إلى أن الغرب هو الذي أثار موضوع قَوامة الرجل على المرأة، عندما طالب بالمساواة الكاملة بينهما، ومن هذا الباب دخل العلمانيون والمستشرقون بادعاء أن الرجل يتسلط على المرأة في المجتمعات الإسلامية تحت مسمى "القَوامة"، وهذا غير صحيح، وفهم خاطئ للقرآن، ولي لعنق آيات القرآن الكريم ليصلوا إلى ما يريدون، ولكي يتشدقوا بأن الإسلام ظَلَم المرأة. وروَّجوا لوجهة نظرهم تلك وبرروها؛ حيث ادَّعوا أن الخطاب القرآني يقرر أن الرجل أفضل من المرأة، ولكنهم نسوا أو تناسوا أن القَوامة لا تعني السيادة ولا الأفضلية ولا السيطرة ولا الهيمنة على المرأة، ولكن تعني درجة أعلى في القيادة، وليس معنى القَوامة الانفراد بالرأي والسيطرة، وإلا لما أقر الإسلام مبدأ الشورى وحث عليه في جميع أمور الحياة، بما في ذلك أمور إدارة الأسرة التي يشترك في إدارتها الزوج والزوجة، حسبما جاء في الحديث الشريف: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته...".
فالقَوامة معناها أن لكل من الرجل والمرأة درجة في سلم القيادة، ودرجة الرجل هي أعلى درجة في السلم؛ لأنه مثل ربان السفينة، هو الذي يقودها ويوجهها، ولا يمكن أن يكون لأية سفينة قائدان وإلا غرقت.
• القَوامة والإنفاق:
من جانبه أكد الداعية الشيخ محمود عاشور أن القَوامة ترتبط بالإنفاق، ومسؤولية الرجل الإنفاق على بيته حتى لو كانت زوجته أغنى الأغنياء، فلا يجبرها على الإنفاق على البيت أو الأولاد، ولا يستطيع أحد إجبارها على ذلك، إلا إذا كان هذا الإنفاق برغبتها وطواعيتها.(/6)
ويرى أن الزوج المتعثر لبعض الوقت لا تسقط قوامته بتعثره المادي؛ لأن واجبه في حال تعثره أن يستدين ليفي باحتياجات الأسرة حتى تمر أزمته المادية، وبعد ذلك يقضي ما عليه من دين، وهذا بنص الآية الكريمة: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} [الطلاق:7]، ولابد أن نراعي ألا ينفق الزوج فوق طاقته، ولهذا فالزوجة المسرفة لابد أن تراعي ظروف زوجها المادية، وتسير معه بقدر استطاعته على الإنفاق؛ فلا تكلفه فوق طاقته من أعباء مادية وشراء كماليات، لأن الإنفاق يكون بقدر استطاعة الزوج وليس بقدر تطلعات الزوجة.
وإذا تم الاتفاق على أن شرط القَوامة هو الإنفاق؛ فإنها أيضا لا تعني التسلط والتحكم والانفراد بالرأي داخل المنزل؛ بل تعني أنه يقود هذا المنزل، وفي قيادته له حماية له من الغرق، كما أن قوامة ضرورية؛ بسبب درجة الفضل التي حباها الله له، وبسبب القوة البدنية والشدة ورباطة الجأش في مواجهة الأمور الصعبة، هذا في حين أن عاطفة المرأة قد تمنعها من ممارسة هذا الدور رغم أنها قد تمارسه حال وفاة زوجها.
أما بالنسبة لاهتزاز قَوامة الرجل البخيل في بيته فيعتقد الشيخ أن الزوج البخيل أكرم الناس على أهل بيته وأولاده؛ لأنه سيترك لهم كل ثروته التي بخل بها عليهم قبل وفاته، رغم أن هذا السلوك منبوذ وغير طبيعي ومستهجن بنص القرآن الكريم: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا..... هذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35]، لذا فهو يرى أن البخيل أكرم الناس على أولاده وهذا بالطبع لا يعني أن كل المسلمين بخلاء على أولادهم، فالأصل أن الرجل يعمل ويكافح من أجل تحقيق عيشة رغده لأسرته.(/7)
ويؤكد الدكتور الزحيلي على أهمية تحقيق التوازن الاقتصادي في الكسب والإنفاق، والاعتدال من غير بخل أو شح ولا تبذير وإسراف، لأن الفقر أو الحاجة سلاح هدام، وسبب ضياع وتفرق الكثير من الأسر في مجتمعاتنا المعاصرة.
وعن بخل الزوج وإسراف الزوجة أكدت الدكتورة آمنة أنها أمراض اجتماعية لابد أن نتخلص منها، مؤكدة أن هناك أزواجا لا يجيدون إصلاح عيوب زوجاتهم، وكذلك زوجات لا يجدن إصلاح عيوب أزواجهن، ولا يستطعن إسداء النصح والمشورة والعلاج الهادئ، ولا يحاولن التركيز على الجوانب الإيجابية في كل طرف منهما، وكذلك التخلي عن المشاحنات؛ فتزول هذه الأمراض الاجتماعية، ويعرف كل طرف في الأسرة أين حدوده فيلتزم بها، وما هي واجباته فيؤديها، وهنا تسود المودة والمحبة البيوت المسلمة كما قررها القرآن الكريم.
وقد سلطت الدكتورة آمنة الضوء على ظاهرة خطيرة، باتت تنتشر في مجتمعاتنا العربية وهي تفضيل الشباب المقبل على الزواج الارتباط بفتاة ثرية؛ لكي تنفق عليه وعلى الأسرة، ويتنازل طواعية عن قوامته التي تقر بالإنفاق، وتعتبره عيباً اجتماعياً وأخلاقياً خطيراً، وتنصح الفتيات المقبلات على الزواج برفض هذه النوعية من الشباب، وعدم الارتباط بهم لأن زواج بهذه الطريقة محكوم عليه بالفشل منذ البداية، كما تعتبره غياباً وربما اختفاءً لمعنى الرجولة الذي كانت تبحث عنه بنات الأجيال السابقة.
• القَوامة والشورى:(/8)
الدكتورة هبة رؤوف - المفكرة الإسلامية وأستاذة العلوم السياسية- تقول: وردت صيغة "القَوامة" في الاستخدام القرآني في ثلاثة مواضع، وليس في موضع واحد كما تقتصر معظم الكتابات التي تتناول المفهوم، في آية: {الرجال قوَّامون…}، بمعزل عن الآيتين الأخريين، حيث ورد اللفظ في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ...} [النساء:34]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ...} [النساء:135]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} [المائدة:8].
فالقَوامة إحدى صفات المؤمنين - رجالاً ونساءً- وترتبط بالشهادة على الناس، وتعني القيام على أمر هذا الدين وفق الشرع، والالتزام بالعدل والقسط، وهي صفة من صفات الله - سبحانه - التي يسوغ لعباده التخلق بها إذ إنه "القيُّوم".
وإذا كانت القَوامة على مستوى الأمة هي سمة عامة؛ فإنها مسؤولية تكليفية على الرجل في أسرته في إطار عقد الزواج، وهي في كلا المستويين قرينة التوحيد والعدل.
وتنطوي كلمة "قوَّام" على أمرين مهمين:
1- أن يأخذ الرجل على عاتقه توفير حاجات المرأة المادية والمعنوية، بصورة تكفل لها الإشباع المناسب لرغباتها وتشعرها بالطمأنينة والسكن.
2- أن يوفر لها الحماية والرعاية ويسوس الأسرة بالعدل.(/9)
وتخضع سلطة رب الأسرة للعديد من الضوابط والقيود التي تفسح المجال لأهلية الزوجة والأبناء في التصرف، في إطار ما هو مشروع ومسموح به إسلامياً، فرب الأسرة ليس له سلطة على أبنائه الراشدين سوى التوجيه والنصح فقط، وكذلك له سلطة محددة في الإذن بزواج بناته البالغات؛ إن "الدرجة" التي ذكرها القرآن الكريم للرجال- في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} [البقرة:228] وهي درجة القَوامة- لم تقم على أساس نقص ذاتي في المرأة؛ وإنما على أساس التطبيق العملي والكسبي، فمراد التفضيل هو زيادة نسبة الصلاح في الرجل من جهة الرئاسة للأسرة عن صلاح المرأة لها؛ فهي صالحة وهو أصلح والمصلحة تقتضي تقديم الأصلح، وهو ما لا يُعَدّ طعناً في صلاحية المرأة وذاتيتها، بدليل أنها تتولى أمرها وأمر أبنائها عند غياب الزوج في طلب الرزق أو الجهاد ونحوه، أو عند وفاته حتى في ظل رعاية أفراد الأسرة الممتدة لها.
وتضيف الدكتورة هبة: لا يكتمل فهم أبعاد مفهوم القَوامة في الرؤية الإسلامية إلا في ضوء إدراك أهمية الشورى كقيمة أساسية في العلاقات داخل الأسرة المسلمة؛ فالشورى ليست خاصة بالمساحة السياسية فقط، ولا هي سمة من سمات الجماعة المؤمنة فحسب، بل هي أيضاً منهج التعامل داخل الأسرة.
فالقاعدة في نظام المنزل الإسلامي هي التزام كل من الزوجين بالعمل وفق إرشاد الشرع فيما هو منصوص عليه، والتشاور والتراضي في غير المنصوص عليه، ومنع الضرر والضرار بينهما، وعدم تكليف أحدهما بما ليس في وسعه.(/10)
فالقَوامة إذاً لا تعني إدارة البيت، فالإدارة شركة بين الرجل والمرأة وحتى الأطفال - كل منهم يقوم بنصيبه في الإدارة - وتدخل الرغبات المعقولة لكل منهم في شأن الإدارة، والإدارة شورى داخل هذه البنية الاجتماعية الصغيرة، ولا ينبغي أن يستبد طرف بالأمر كله، بل تؤخذ آراء كل الأطراف في الاعتبار في حدود الشرع، وتكون القَوامة هي الكلمة الفاصلة التي يحتاجها البيت عند نشوب خلاف لا ينهيه إلا كلمة فصل، فرئاسة الأسرة رئاسة شورية لا استبدادية.
• إدارة لا سيطرة:
الدكتور أحمد محمد عبدالله أخصائي الطب النفسي يرى أنه ليس كل الذكور رجالاً، كما أنه ليس كل الإناث نساءً، فالذكورة والأنوثة شيء في الخلقة، وعليه فإن قَوامة الرجل على المرأة لا تكون للرجل بوصفه ذكراً على المرأة بوصفها أنثى فحسب، ولكن تكون للرجل بما يكتسبه من أخلاق، ويمارسه من أدوار على المرأة بما تكتسبه من أخلاق، وتمارسه من أدوار، ويكتسب الرجل "القَوامة" "بقيامه" على شؤون أسرته من نفقة وتدبير عيش، وهي أهم الوظائف الاجتماعية للزوج والأب، ولا نتفق مع من يقول بإسقاط القَوامة عن الرجل إذا قصّرَ؛ لأن ذلك قد يعني تكليف المرأة بواجب الإنفاق على الأسرة، وهو أمر قد تتطوع به بعض النساء حسب ظروفهن وقدرتهن، ولكنه ليس الأصل، ولا ينبغي أن يكون، والأسرة التي يتخلى فيها الرجل عن واجباته هي "أسرة بلا قوّام" لأن المرأة وإن قامت بدور الرجل لا يمكن أن تحل محله.(/11)
وإذا قرأنا مفهوم القَوامة في إطار الرعاية والمسؤولية "كلكم راعٍ" يتضح لنا أن القَوامة أقرب إلى الإدارة والإشراف منها إلى التحكم والسيطرة، وتكون بالتالي بمثابة صلاحيات مقابل مسؤوليات رعاية وحماية وإدارة شؤون الأسرة، ويكون الفضل والتفضيل هنا تكليفاً لا تشريفاً لرجل يتجاوب مع ما وضعه الله فيه من استعداد فطري، ويطور قدراته في الرعاية والإدارة من سعة في الصدر، وحزمٍ في الأمر، وقدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، كما لا يبتعد هذا عن الاستفادة من الشورى - وزوجته أولى الناس بالاستشارة - في بلورة رؤية اتخاذ القرار.
قد يكون من المفيد أيضاً لفهم "القَوامة" استدعاء مفهوم "الكبير"- وهو مفهوم أصيل وهام في التراث الوجداني، والوضع الاجتماعي العربي-:
*فالكبير: ملجأ – بعد الله - عند الشدة، ورأيٌ في مواجهة الأزمة، وبذلٌ عندما تشح الموارد، واطمئنان إلى جنب الله حين يفزع الناس ويقلقون.
*والكبير: حكمة وخبرة وغفران وتغاضٍ، لا حماقة وخفة ومناطحة وتقريع.
*والكبير: تورع عن الخوض في الصغائر: ثورة بسببها، أو غضباً منها، أو حساباً عليها.
*والكبير: تدبير وتمرير لا تدمير وتكسير، يسكت في غير عجز، ويتغاضى في غير ضعف، ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، ويمنح من ذهنه، وبسط وجهه، وحسن خلقه ما لا يستطيعه محدود الأفق، أو ضيق الصدر، أو شحيح البذل، أو لئيم الطبع، ولا ننسى قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أكمل المؤمنين إيمانا، وأقربهم مني مجلسًا، ألطفهم بأهله".
• قَوامة النبي - صلى الله عليه وسلم في بيته:(/12)
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن "إمبراطوراً "مثل بعض الناس إذا دخل بيته؛ بل من تأمل حياته - صلى الله عليه وسلم - وجدها تقريراً لما أسلفناه من: أن القَوامة ليست تسلطاً ولا تعنتاً ولا قهراً، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - "إذا كان في بيته يكون في مهنة أهله"، وكانت نساؤه يختصمن بين يديه، وأمثال ذلك كثير، ومن مثل ذلك نتفهم طبيعة القَوامة.
لقد كفل الشرع للمرأة أموراً لو تأملناها لأدركنا مدى التجني على الإسلام، ممن يظنون أنه باسم القَوامة ظلم الإسلام المرأة، فقد كفل لها الشرع حرية الرأي بضوابط، والسنة حافلة بوقائع كثيرة منها:
قصة المرأة المُجَادلة التي جاءت تجادل النبي - صلى الله عليه وسلم - في زوجها وهي خولة بنت ثعلبة ونزلت بسببها آيات معروفة، وهذه خنساء بنت خذام الأنصارية، زوّجَها أبوها وهي ثيّب فكرهت ذلك فأتت الرسول – صلى الله عليه وسلم - فردّ نكاحها، وفي رواية: زوَّجَها أبوها وهي بكر، وهذه امرأة أخرى تبدي رأيها لتعرف مالها من حقوق، كما روى النسائي أن فتاة دخلت على عائشة فقالت: "إن أبي زوجني ابن أخيه؛ ليرفع خسيسته، وأنا كارهه..." وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل الأمر لها فقالت: "يا رسول الله! قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم أن للنساء من الأمر شيء".
وقصة بريرة وزوجها مغيث أيضاً معروفة، فكانت بريرة أَمَةً وأُعتقت، والأمة إذا أعتقت صار لها الخيار في زوجها، إذا كان رقيقاً أيضاً، فإن شاءت بقيت، وإن شاءت طلقت، وقد اختارت فراقه، وكان مغيث بعد فراق زوجته يمشي خلفها ويبكي ودموعه تسيل على لحيته، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبريرة كما في البخاري: "لو راجعتِهِ!" قالت: "يا رسول الله تأمرني؟" قال:" إنما أنا أشفع"، قالت: "لا حاجة لي فيه".(/13)
وهذه امرأة أخرى، تناقش النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخصيص الرجال بالغزو والجماعات وما إلى ذلك، فسُرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - من حسن أدبها في الخطاب، وهذه المرأة هي أسماء بنت السكن الأنصارية.وهذا باب يطول الكلام فيه فإن قَوامة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على نسائهم لم تمنع النساء من كل ما تقدم، ومن هنا نعلم روح القَوامة.
سر نجاح الزوجة
"استسلام الزوجة سرّ نجاح زواجها" هذا عنوان كتاب ألَّفته امرأة أمريكية تبلغ من العمر (32) سنة، اسمها "لوردا دويل"، وقد عرضت فيه تجربتها الشخصية مع زوجها، وكيف كانت متسلطة تريد أن تتحكَّم في كل شيء باستمرار، إلى أن شعرت بأنَّ زواجها في طريقه إلى الفشل، حيث بدأ زوجها يتهرَّب منها، الأمر الذي جعلها تغيَّر منهجها في الحياة إلى الحوار الهادئ معه وعدم التدخل في كل شؤونه وعدم مضايقته، والمسارعة إلى السمع والطاعة في كل ما يطلبه، وتقول للزوجات: كفوا عن التحكم في حياة أزواجكن..!"
إنَّ هذا الكلام قد ذكره الله من قبل منذ1400 سنة، ولكن الكفار لا يعلمون، قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] وقد قيل قديماً: "والحق ما شهدت به الأعداء".(/14)
ويقول الدكتور عبدالله وكيل الشيخ في كتابه "المرأة وكيد الأعداء": "أمَّا قَوامة الرجل، فالمرأة أحوج إليها من الرجل؛ لأنَّ المرأة لا تشعر بالسعادة وهي في كنف رجل تساويه أو تستعلي عليه، حتى لقد ذهبت إحداهن إلى القاضي تطلب طلاقها من زوجها، وحجتها في ذلك أنَّها سئمت من نمط الحياة مع هذا الرجل الذي لم تسمع له رأياً مستقلاً، ولم يقل لها يوماً من الأيام كلمة: "لا"، أو "هكذا يجب أن تفعلي"، فقال لها القاضي مستغرباً: أليس في هذا الموقف من زوجك ما يعزز دعوة المرأة إلى الحرية والمساواة؟ فصرخت قائلة: كلا.. كلا.. أنا لا أريد منافساً، بل أريد زوجاً يحكمني ويقودني".(/15)
العنوان: القيلولة تحميك من أمراض القلب!!
رقم المقالة: 1836
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
قال باحثون: إنَّ نوم القيلولة بانتظام مفيدٌ للقلب، وأفادت دراسة استمرَّت ستة أعوام شارك فيها 24 ألف يوناني بالغ أنَّ مَن يُحافِظُونَ على نوم القيلولة بانتظام انخفضت لديهم مخاطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة تجاوزت الثلث.
وقالتِ الدراسة: إنَّ مَن حافظوا على نوم القيلولة بانتظام ثلاث مرات على الأقل أسبوعيًّا لمدة 30 دقيقة على الأقل، انخفضت لديهم احتمالات الوفاة نتيجة الإصابة بأمراض القلب بنسبة 37 في المائة.
وقال باحثون من كلية الطب بجامعة أثينا: إنَّ العلاقة بين نوم القيلولة ومخاطر الإصابة بأمراض القلب، أقوى لدى الرجال العاملين منها لدى العاطلين عن العمل.
فالعاملون يتمكَّنون من التخلّص من بعض التوتّر الناجم عن العمل، والذي يشكّل ضررًا على قلوبهم.
ولم يتمكَّنِ الباحثون من التوصّل إلى نفس النتائج فيما يخص النساء العاملات؛ بسبب قلة عدد النساء المشاركات في الدراسة.
وكتب الباحث أندرونيكي ناسكا الذي أشرف على الدراسة في دورية "أرشيف الطب الباطني": نرى أنَّ نتائج الدراسة تشير إلى أنَّ نوم القيلولة يمكن أن يقلّل من مخاطر الوفاة الناجمة عن الإصابة بانسدادٍ في الشُّريان التَّاجي لدى الأصحَّاء البالغين، ربّما لأنَّها تُساعد في تقليل ضغوط العمل.
كما أوضحت الدراسة أنَّ مَن ينامون القيلولة بصورة غير منتظمة أقلُّ عرضة بنسبة ضئيلة للوفاة نتيجة الإصابة بأمراض القلب، مِمَّن لا ينامون القيلولة على الإطلاق.
ومن بين 792 رجلاً وامرأة تُوُفّوا في أثناء فترة المتابعة، كان سبب وفاة 133 منهم الإصابة بأمراض القلب، وكان نصف عدد المشاركين في الدراسة تقريبًا يحافظون على نوم القيلولة.(/1)
العنوان: الكائن الأحمر
رقم المقالة: 1813
صاحب المقالة: مها عبدالرحمن سالم
-----------------------------------------
كائنُنا اليوم صغيرٌ حجمُه، لو ضُمَّ بالكَفَّينِ لَضَمَّتَاهُ، مُضَّرَّجٌ بِالدِّمَاءِ، مُطرِقٌ بالفكرِ، جوّالٌ لايمَلّ ..نابِضٌ بالشُّعورِ..
أجلْ، إنه (القلب)..
مَهلاً أيا قلب.. فإنَّ حديثي إليكَ لا إلى غيرِكَ:
مالكَ تكثر التقلّبَ .. فلا تستقرُّ بكَ حالٌ؟ أعيَيتَ فِكري، وأسهدتَ لُبّي بهواجسكَ.. أفي كلّ وادٍ تريد الهَيَمان؟ وَعَلى كُلّ وِهادٍ ترمي الجَريَ والتَّعفرَ؟!
مالكَ أيها قلبُ؟ وكأني بِكَ أخذتَ العهدَ بالرضا.. وكأنك خِلتَ المكارِهَ طُويتْ عنكَ مرحاً واختيالاً لا تلوي!
.. وتارةً يطحنُكَ الأسى بكلاكِلهِ، فتنغطُّ في أردانِ نفسِكَ مضمّراً! يأساً وأسَفاً.
وما أظلمك أيها القلبُ حين تجذِبك الأرضُ، فتخيّل لكَ أنّ عنانك في السماءِ.. وما دريتَ أنك مخدوع في سفلائِكَ، مغشوشٌ ضميركَ.. قد شريتَ بعَدَمِكِ التراب، حتى صار الترابُ أغلى مِنكَ!
مهٍ أيا قلبُ ! مالكَ ؟ هل ظننت حينها أن منظاركَ يُسعفُ بَصَركَ، هلاّ التفتّ إلى وجهِكَ في مرآةِ ذاتكَ.. فنفضتَ ما اعترى مَرآكَ من نُكتٍ؛ واغتسلتَ بدمعٍٍ مسكوبٍ، لعلّهُ يجلو منظاركَ! فتعود إلى الحياةِ بصيرا!
هلاّ أرهفتَ منك السمع لآيةٍ ؛ أم أنك تفتعِلُ الهروب..
أرْعِني أيها القلبُ سمعَكَ ولا تُصمَّهُ، وتأمّل بقطعةِ حشاك التي لم يخالجها الكدر قَولي..
أيا قلب، مزّقْ عنكَ لَبوس الإثم واستبدله بثوب أبيضَ طاهرٍ..واختصِر مسافَةَ البُعدِ.(/1)
عِش كسحابةٍ بيضاءَ.. أينما أصابَت نَفَعَت وَأنبَتَت. وأمسِك عليك دِرعكَ بتهليلٍ وشكرٍ واستغفار، فما أحسنَكَ حينَ تُحلِّقُ في أرجاءِ الكون طائفًا مسبحاً متأملاً.. وكأن الكون محرابٌ تراوحُ في تراتيلك فيه بين تهليلٍ وتسبيحٍ! يهولكَ حجم سماءِه، وألوان أبراجه وتدفق النور في سواده، ويدهِشك في الكون تماوجُ ألوانِه و نضرة مراعيهِ، وتشَعُّبُ فِجاجِهِ وعمق ماءِهِ، وسُحقُ جبالهِ.. فتستشعِرُ حجمَكَ الحقيقيَّ كذَرّةٍ في المَجَرّةِ!!
فتعتريك المهابةُ ويغشاكَ شيئٌ مما يغشى الكون من الخشوع.. فتشتاق إلى أن تسجد وقبلتُكَ السماء.
فانثنِ -أيا قلب- لتسجد سجدةً للهِ لا تقوم بعدها أبداً..! فتِلكَ هي السعادة.. تِلكَ هي السعادة.(/2)
العنوان: الكاريزمية داء المؤسسات الشرقية
رقم المقالة: 849
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
دخلت على أحد الفضلاء في مكتبه، وهو يضع على أذنيه سماعته المتصلة بجهاز الكمبيوتر، وقد علت شفتيه ابتسامة ساخرة، ثم وضع السماعة عن أذنيه طالباً مني أن أدنو؛ ليسمعني صوت أحد طلبة العلم وهو يستأذن الشيخ العثيمين - رحمه الله - في إلقاء قصيدة نظمها وبذل فيها جهداً واضحاً، وقد مرت أبياته الأولى المشيدة بالصحوة الإسلامية المباركة المبشرة بفجر جديد لهذه الأمة بسلام، والشيخ بصوته الوقور يتبع كلماتها الطيبة بالتكبير مؤيداً.
وتتابعت الأبيات.. حتى قال الناظم ما فحواه: إن الصحوة منصورة ما دام فينا العلامة ابن عثيمين! فاعترض الشيخ قائلاً: "لا لا لا! قل: ما دام فينا كتاب الله وسنة رسوله!..."، فقال الأخ الفاضل: ما دام فينا كتاب الله وسنة رسوله... ببراءة غير متكلفة، ولا شك أن القافية والوزن والروي قد فارق هذا البيت، ولكن لا بأس، فقد صحبه اسم الله تعالى وسنة رسوله، وأكرم بها من صحبة!
ويأتي البيت الذي بعده على شاكلة سابقه، فيقول الشيخ معترضاً: "ما عندك إلا هذا؟"، ثم يطيب خاطر الأخ الذي أحسن به الظن، ثم توجه مرشداً الطلاب إرشاد من تواضعت نفسه، وحمل همَّ الدين فؤادُه، فيقول: يا إخواني، المنهج لا ينسب إلى الرجال، فالرجال يموتون، والرجال يفتنون، فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، الحق يعرف بنفسه، والرجال يعرفون به... ونحو هذا الكلام.(/1)
كلمات مؤثرة من مربٍّ بحق، وليس ذلك بغريب على الشيخ العثيمين، والرجل أفضى إلى ربه، فهو المتخرج من مدرسة الشيخ ابن باز؛ الذي اعترض في حفل تسليمه جائزة الملك فيصل على من صفق إعجاباً واحتفاء به، وقد كان في ذلك المجلس علية القوم، والشيخ ابن باز هو الذي كتب رده الشهير على أحد المحبين؛ لما نشر في إحدى الصحف قصيدة عصماء يثني فيها عليه وعلى عشيرته، وهذا ديدن علماء المسلمين الأخيار في كل عصر ومصر.
ولكن هناك قضية جالت في الذهن بعد سماعي هذه الموعظة العملية البليغة، والتي طالما أحجم أحدنا عن الكلام فيها مخافة أن يُحمَل كلامه على غير محمله.
ولقد كشف لي صديقي سر ابتسامته الساخرة، ذاكراً أنه عقد مقارنة بين ما سمع من الشيخ العثيمين ومجلس لأحد علية القوم كان قد شاهده، وفيه قام الشعراء يمدحون ذلك الزعيم، وهو يتيه عجباً ويتمايل طربا،ً ولما يفرِغ الشاعر ما في جعبته يطنطن هذا الممدوح - بكلمات شكر لمادحه تخرج من أطراف شفتيه؛ إذ لا ينبغي لمثله أن ترى أسنانه!
العقلية الشرقية:
إننا في المجتمعات الشرقية - بصفة عامة - نعيش أزمة اختزال المناهج والأفكار - أياً كانت - في الأشخاص، فالأحزاب السياسية والجماعات الدينية، وحتى على مستوى الأعمال الدعوية والطوعية؛ لا تتقبل نفوسنا إلا أن تكون هنالك شخصيات (كاريزمية[1]) ذات نفوذ فيها، ومسيطرة عليها، وليس للمؤسسية في قاموسنا مكان! فما من حزب يذكر إلا وبرزت تلك الأسماء بروز المتملِّك، أما البرامج والمناهج فهي آخر ما يذكر!
إنني لا أبخس الناس أشياءهم، ولا أنقص من له سبقٌ وبذلٌ حقَّه من الإجلال، ولكن الذي يُنتقَد – هنا - أن تدخل المؤسسات في العباءات الشخصية لبعض الناس، وأن تعرَف المناهج بالرجال، وأن تنسب المؤسسة - بكل محتوياتها المادية والمعنوية والمنتسبين إليها - لاسم من الأسماء، أو لمجموعة أسماء!(/2)
ولست أعترض على هذا السلوك تحكماً، ولكن ما قاله الشيخ العثيمين - رحمه الله تعالى - لهذا الطالب فيه من الحجة والبرهان ما يكفي للاعتراض على هذا المنحى، فالأشخاص يخطئون؛ وكم من خطأ سُوِّغ لمن كانت له اليد الطولى في الحزب أو الجماعة أو المجموعة أو المؤسسة...، وكم من تلكم الشخصيات تَرى - لموقعها المرموق - أنها قد كبرت على النصيحة، فالنفس البشرية ليست معصومة من الفتنة، وكم أدى الإطراء والمدح والتقديس لرؤساء تلك الأحزاب إلى أن يظن أحدهم أن مجرد النقد ممن هو دونه؛ سوء أدب لا ينبغي مواجهته إلا بتأديب ذلك الوقح الذي تجرأ على المخالفة، وخان قَسَم الولاء والطاعة! والتأديب غالباً ما يكون الطرد من الجماعة أو الحزب أو المؤسسة، بمنطق أن الحزب لهذا الشخص؛ فإما أن ترضى بما يقول، وإما أن تُري الحزب عرض كتفيك!
إن هذه الأزمة موجودة حتى في الأحزاب التي تنادي بالديمقراطية، والجماعات التي تنادي بالإسلام والشورى، بل وحتى على مستوى الدول؛ يصل العتو ببعض الرؤساء الحد الذي يرى فيه أن مخالفه في الرأي يجب أن يجد له مكاناً آخر غير الوطن الذي يعتبره - بلسان الحال - ملكاً له، ولقد قال أحد الرؤساء الماضين: "(البلد) من غيري لا يسوى شيئاً"! إنه منطق غريب حقاً؛ أن يظن رئيس الدولة أنه هو الدولة، ويتصور رئيس الحزب أنه هو الحزب، ويعتقد شيخ الجماعة أنه هو الجماعة، وينقدح في ذهن المشرف على المؤسسة أنه هو المؤسسة، والأغرب من ذلك أن يرى الآخرون ذلك، ويعتقدونه، ويتعاملون على أساسه!
إن هذه الشخصيات (الكاريزمية) كان لها القدح المعلى في كثير من الانشقاقات التي أضعفت الكيان المنسوب إليها، وعصفت بوحدته.
وليس من المبالغ فيه إن قلنا: إن بعض هذه الأحزاب السياسية والجماعات وغيرها اكتفت بهذه (الكاريزميات) عن البرامج والرؤى والتصورات.(/3)
إن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عرف خطر هذا النوع من الأدواء، وعزلُه الصحابيَّ الجليل والقائد المحنك خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لما ظهرت شخصيته في المؤسسة الإسلامية العسكرية شخصيةً (كاريزمية)؛ كان خوفاً من الآثار السالبة لوجود شخصية من هذا النوع، وعمر - رضي الله عنه - برأ خالداً من الخيانة وغيرها مما يستدعي العزل، فلم يبق لهذا العزل إلا التفسير الذي مضت الإشارة إليه.
إن حمل صور القادة والزعماء والرؤساء في المسيرات والمظاهرات وتعليقها في المنازل وغيرها ما هو إلا تعزيز لمفهوم (الكاريزمية).
إن هذا المرض يجب أن نسعى جميعاً - بما في ذلك القادة والزعماء - لإيجاد علاج ناجع له، لتستمر مسيرة العطاء والبناء في مجتمعاتنا، لأن العمل المؤسسي أدوم وأنفع وأكثر خيراً وأقل أخطاءً، ولقد تجاوز الغرب هذه المرحلة منذ زمان بعيد، والمتأمل في أحزابهم ومؤسساتهم لا يخفى عليه ذلك.
ـــــــــــــــــــــ
[1] كلمة يونانية الأصل وقيل إغريقية، تعني الهيبة، ويستخدم هذا المصطلح في الدلالة على الشخصية ذات التأثير غير العادي على الآخرين، والتي تتمتع بجاذبية تخولها لذلك التأثير.(/4)
العنوان: الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات
رقم المقالة: 1824
صاحب المقالة: د. عبدالستار الحلوجي
-----------------------------------------
عرض كتاب: "الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات" لأيمن فؤاد السيد
صدر الكتاب في القاهرة، 1997م، مجلدان.
دفعني للكتابة عن هذا الكتاب أمران:
أوَّلهما: موضوعه الحبيبُ إلى نفسي؛ فقد قُدِّرَ لي أن أعمل بقسم المخطوطات بدار الكتاب خَمْسَ سنين في أوائل الستينات، وأن أكون أوَّلَ باحث يَدرُس المخطوط العربيَّ في نشأته وتطوُّرِهِ دراسةً أكاديمية، قُدِّمَتْ كرسالةِ دكتوراه إلى جامعة القاهرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، في سنة 1967م على وجه التحديد، وما زِلْتُ أَحتفِظُ بأجملِ الذكريات عن الفترة التي عَمِلْتُها في دار الكتب، وعن كلِّ الزملاء الذين سَعِدْتُ بصُحْبَتِهِمْ فيها، سواء كانوا من جيل الزملاء الذين كانوا في ذلك الوقت يُمَثِّلون صَفْوَةً من شباب الباحثين والباحثات، تَجَرَّؤُوا على اقتحام هذا العالم الغامض؛ عالمِ المخطوطات، وتَحَمَّلوا بشجاعة وجَلَد مشقَّةَ العمل في ظروف غير مُوَاتِيَةٍ، وتعاملوا مع نَوْع من أوعية المعلومات أدركه البِلَى، وتنازعَتْهُ الآفاتُ؛ نتيجة لسوء الحفظ وسوء الاستخدام.(/1)
مجموعةٌ نادرة منَ الباحثين، لا أظن أنها توافرت لقسم المخطوطات في أيَّةِ فترة أخرى من تاريخه، منهم مَنِ انتقل إلى رحاب الله، ومنهم مَنِ انتقل للتدريس بالجامعة، ومنهم مَنِ اجْتَذَبَتْهُ مناصبُ أخرى خارجَ دار الكتب ووزارةِ الثقافة، ومنهم مَن وصل إلى أعلى المناصب في الدار، ومنهم مَنِ ابتُعثوا إلى دُول عربيَّة صديقة؛ فقاموا بدَوْر مُشَرِّف في فهرسة المخطوطات بها، قِلَّة منهم ما زالت تعمل في مركز تحقيق التراث بدار الكتب في بسالة وصمت، قانعةً بالعمل العلميِّ الجادِّ، غيرَ عابِئَةٍ ببَرِيق الوظائف والمناصب الإدارية، ولهؤلاء جميعاً في نفسي رصيد منَ الحب والتقدير لم يَخْلَقْ على مرور الأيام.
أما دار الكتب؛ فرغم أني تركتها للعمل بالجامعة منذ سنة 1970م، إلا أنني أَعُدُّها بيتي الأول، ولا أظن أنها غابت عن خاطري في يوم من الأيام؛ فأنا أتابع أخبارها وأحوالها، وآسَى لما يصيبها من مكروه، وأَسْعَدُ لكل بارقة أمل تلوح في الأُفق وتُبَشِّر بإصلاح ما أفسده الدهر، وفي تقديري أن كل ما أصابها من فساد أو تَخَلُّفٍ وقع بغير قصد منَ القائمين على أمرها والمسئولين الذين تتابعوا على إدارتها، فقد كان لكلٍّ منهم رُؤْيَتُهُ واجتهادُهُ، وكان لكلٍّ منهم مستشاروه وحَوَارِيُّوهُ، ونحن بَشَر نخطئ ونصيب، وليس عَيْباً أن يخطئ المسئول، ولكن العَيْب كلّ العيب أن يُنَبَّهَ إلى الخطأ فلا يرجع عنه.
هذا هو السبب الأول لإقبالي على قراءة هذا الكتاب، والكتابةِ عنه؛ فهو يتناول موضوعاً أَثِيرًا عندي، ويُثِير في نفسي ذكرياتٍ عزيزةً، تحتفظ بها النفس وديعةً غالية، لفترة من أجمل فترات الحياة، ولمجموعة من الصِّحاب يحتلون في قلبي مكاناً مُتَمَيِّزاً، لم يَبْرَحوه رَغْمَ طول الفِراق.(/2)
أما السبب الثاني: فهو أن مؤلِّفَ الكتاب صديق عزيز، وابن صديق عزيز؛ فقد زاملْتُ أباه بِضْعَ سِنِينَ في دار الكتب، كنتُ أَلْقَاهُ كلَّ يوم تقريباً، ولا يكاد يَمْضِي يومٌ دون أن نتناقش ونتحاور في أمور المخطوطات، وفهارسها، وصِيانتها، وتحقيقها، ونَشْرِها؛ فقد كان أمينًا للمخطوطات بالدار، وكان حريصًا على الاحتفاظ بهذا المُسَمَّى لوظيفته دون تغيير، ونَشَرَ عِدَّةَ فَهَارِسَ، وحَقَّقَ كتاب (طبقات الأطباء والحكماء) لابن جلجل، وقدم له بمقدِّمة قَيِّمة تكشف لنا عن قامته العلمية.
أما أَيْمنُ: فقد عَرَفْتُهُ منذُ كان صبياً صغيراً، ثم تابعت مسيرته العلمية في الجامعة وفي الخارج حتى حصل على الدكتوراه، وتابعت جهوده في مجال التحقيق والتأريخ والفهرسة، وأعجبني فيه طُمُوحُهُ وحماسُهُ وغَيْرَتُهُ على التراث، تلك الغَيْرَةُ التي كانت تدفع - في كثير من الأحيان - إلى الحِدَّةِ على مَن يقتحمون المجال بغير علم، ولعل هذه الحِدَّةَ هي التي أفقدته كثيراً من الأرض التي كان يمكن أن يكسبها بجدارة.
فأنا مُحِبٌّ لموضوع الكتاب، ومُحِبٌّ لمؤلفه أيضاً، وبدافع من هذا الحُبِّ قرأتُ الكتاب، وكتبتُ هذه السطور، رغم أني أصبحت من أزهد الناس في الكتابة، كلُّ يوم يمضي يَزِيدُنِي اقتناعي بمَوْقِفِي هذا؛ لكثرة ما يُنْشَرُ من مؤلفات منهوبة، لا يَستَحِي أصحابها، ولا يحترمون درجاتهمُ العلميةَ ومواقِعَهُمُ الأكاديمية، ولا يُطَبِّقون على أنفسهم ما يَتَشَدَّقُونَ به على طُلاَّبِهم، وما يُلقُونَهُ عليهم من محاضراتٍ عن أساسيات البحث العلميِّ، وما ينبغي أن يَتَّسِمَ به من أمانة.(/3)
ولهؤلاء وأمثالهم أقول: إن أقدام الزمن ثقيلة، لا يَقوَى عل تحمُّلِها، ولا ينجو من وطأتها إلا العملُ الجيِّدُ، الذي يَفرِض نفسه على الأيام، بصَرْف النظر عن مَوْقِعِ مؤلِّفِهِ، ووَظِيفَتِهِ، ودرجته العلمية، وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد : 17].
من أجل ذلك؛ فأنا لا أكتب إلا عن عمل جيِّد يستحق القراءة، أما الأعمال "المضروبة" – على حد تعبير العوامِّ – فلا أُعِيرُها التفاتًا مهما كَثُرَتْ أعدادها، وتضخَّمَتْ أحجامها، وعلا صُراخ أصحابها؛ لأنها تَجْتَرُّ كتاباتِ الآخَرِينَ؛ فهي كغُثاء السَّيْلِ، لا قيمة لها، ولا جديد فيها، ولأن مؤلفيها لم يتجردوا منَ الأمانة العلمية فحَسْبُ، وإنما تَجَرَّدوا مما هو أكثر، وهو الحياء العلميُّ، ومن لا يَحْتَرِمْ نفسه لا يَنْتَظِرْ من الناس أن يحترموه.
وأخيراً: لأن وقت الإنسان - الكاتبِ والقارِئِ معاً - أَثْمَنُ من أن يُنْفَقَ فيما لا طائل ورائه، ولا خير فيه.
فالكتاب الذي بين أيدينا صدر عام 1997م بعنوان (الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات)، يقع في مجلدين يضمان أكثر من 600 صفحة، بالإضافة إلى 176 لوحة مصورة من المخطوطات. أما مادته العلمية فتتوزع على ثلاثة أبواب: أولها عن الكتاب العربي المخطوط في المصادر، وثانيها عن الكتاب العربي المخطوط كما وصل إلينا، وثالثها النماذج.
وأبادر فأقول: إن الكتاب يكشف عن جهد ضخم بذله مؤلفه في جمع مادته، وإنه يضم معلومات قيمة وموثقة توثيقاً جيداً، وإن إخراجه متميز؛ سواء في ورقة، أو حروف طباعته، أو تجليده، أو اللوحات التوضيحية التي تضمنها وما عليها من شروح، وإنه يسد فراغاً في المكتبة العربية التي ندرت فيها الكتابات الجيدة حول هذا الموضوع، وكثير مما ينشر منقول عن الآخرين بأمانة حيناً، وبغير أمانة أكثر الأحيان*.(/4)
ولكني مع ذلك أستأذن المؤلف في أن أسجل بعض الملاحظات التي يغريني بها حبي له ولموضوع الكتاب، وتتلخص تلك الملاحظات فيما يلي:
أولاً: أن عنوان الكتاب هو: الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات، وهو عنوان جيد ولا شك، ولكنه لا يعبر تعبيراً دقيقا عن محتويات الكتاب؛ ففي حديثه عن صناعة المخطوط نراه يتحدث عن الورق والمداد والتجليد والخط، ولكنه لا يذكر شيئاً عن أساليب كتابة المخطوط، والاختصارات والرموز التي كانت تستخدم، وكيفية تصويب الأخطاء، والإلحاق بالحواشي، وغير ذلك من الأمور التي يصعب فهم النص واستيعابه بدون معرفتها، يضاف إلى ذلك أن من يقرأ الكتاب لا يخرج بتصور واضح أو باهت عن علم المخطوطات: ماذا يقصد به المؤلف؟ وما هي حدوده ومجالاته؟
قد يقول قائل: إن المؤلف تحدث عن الفهرسة والتحقيق والنشر، وهي من علوم المخطوطات، ولكن لماذا يترك للقارئ أن يجتهد في جمع خيوط هذا العلم المتفرقة في صفحات لكتاب، والموزعة على البابين، دون رابط يربطها؟! وهل الخط والفهرسة والتحقيق هي كل مجالات علم المخطوطات؟
ثانياً: أن الكتاب يجمع أشتاتًا متفرقة من المعلومات، ولكنه يفتقر إلى وضوح الرؤية في عرض هذه المعلومات بطريقة منطقية، تتسلسل فيها الأفكار وكأنها حلقات متصلة، يأخذ بعضها برقاب بعض، ويستبعد منها ما يشذ بها عن السياق، ولهذا يسهل على القارئ أن يعيد ترتيب عناصر الكتاب دون أن يسبب ذلك خللاً في بنائه؛ بل إن إعادة الترتيب قد تظهره في صورة أفضل.
وتلك نقطة تحتاج إلى بعض الأمثلة التي توضحها:
1 – فقد تحدث عن صناعة المخطوط العربي (الورق والحبر والتجليد) في الباب الأول، في حين تكلم عن زخارف المخطوطات، وعن الإجازات والسماعات والمقابلات في الباب الثاني، وهي موضوعات من صميم صناعة المخطوط.(/5)
2- وفي حديثه عن صناعة المخطوط (ص ص 13 – 46) تكلم عن أربعة عناصر، هي: المواد التي يكتب عليها، والأحبار، والتجليد، والتعقيبة. ولا يخفى أن الحديث عن التعقيبة (ص ص 45 – 46) قد أتى في غير موضعه.
3- وفي الباب الأول تحدث عن الخط العربي وتطوره، في حين جاء الحديث عن ضبط الكتابة العربية في الباب الثاني. وفي حديثه عن تطور الخط العربي (ص ص 47 – 72) تعرض للخط العربي المبكر، وخطوط المصاحف المبكرة، وكتاب المصحف، والشكل، والإعجام، وأخيراً تطور الخط العربي (ص ص 55 – 72). والحديث عن كتاب المصحف هنا (ص ص 51 – 52) لا محل له من الإعراب كما يقول النحاة.
4- كذلك تحدث عن الأمالي في باب، وعن المسودات والمبيضات في باب آخر، وكان الأولى أن يلحق الحديث عن المسودات والمبيضات الذي ورد في الباب الثاني بالحديث عن الأمالي في الباب الأول، بدليل أن المؤلف نفسه بدأ كلامه عن المسودات والمبيضات في الباب الثاني بقوله في (ص 331): "استكمالاً لما ذكر في الباب الأول، حول طرق التأليف عند العلماء المسلمين...".
5- وفي الصفحات (364 – 368) يتحدث عن التأليف الأول والتأليف الثاني،وتحت هذا العنوان نجد صفحتين لا صلة لهما بالموضوع، هما (367، 368) اللتان يتحدث فيهما المؤلف عن نسخة من كتاب "الفهرست"، تفرقت بين مكتبة شيستربيتي في دبلن، ومكتبة شهيد علي باشا في إستانبول.
6- وفي (ص ص 369 – 397) يتناول المخطوطات المزينة بالمنمنات؛ فيقسمها إلى قسمين: الكتب الأدبية، والكتب العلمية. وتحت الكتب الأدبية يذكر تصاوير كتابي (البيطرة) و(الحشائش) (ص 382)، مع أنه يذكر (مختصر البيطرة) تحت الكتب العلمية في (ص 387).
ومن مظاهر الخلط في الكتاب أيضاً:(/6)
أ- أن المؤلف ذكر في المقدمة (ص 9) أن "هذا الكتاب محاولة لدراسة كوديكولوجيا الكتاب العربي المخطوط في الشرق على وجه خاص". وعرف الكوديكولوجيا في (ص 1) بأنها: "علم خاص بدراسة الشكل المادي للمخطوطات". فهل الفهرسة والتحقيق والنشر، والصيانة والترميم، والمكتبات الإسلامية، وهواة الكتب، ومجموعات المخطوطات في تركيا وأوروبا، وفهارس جامع القيروان والتربة الأشرفية من دراسة الشكل المادي للمخطوطات؟
ب- أنه عندما تعرض للحديث عن فهارس المكتبات القديمة نراه يخلط بين نوعين من الأعمال الببليوجرافية، هما: الفهارس والقوائم الببليوجرافية. فالكتب التي تحصي مؤلفات كاتب معين، أو الكتابات التي صدرت في موضوع معين، أو المترجمات في عصر معين (ص ص 521 – 523) – مثلاً – ليست فهارس، وإنما هي قوائم ببليوجرافية، أو ببليوجرافيات حصرية.
ج- أنه وضع في (ص 545) عنواناً يقول: "تحقيق المخطوطات ونشرها، أو الدراسات الفيلولوجية للمخطوط". وعرف الدراسة الفيلولوجية في الصفحة نفسها بأنها: "التي تُعنى بنص الكتاب، ومضمونه العلمي الذي كتبه المؤلف بنفسه، والتي اصطلح على تسميتها (تحقيق النصوص)". وأريد أن أسأله: من الذي اصطلح على هذه التسمية؟ إن للألفاظ دلالاتها اللغوية، ولبعضها دلالات اصطلاحية يستخدمها أهل الاختصاص، وأتصور أن أيمن يعدني من أهل الاختصاص، ولكني لا أعرف أحداً استخدم مصطلح (الدراسة الفيلولوجية) بديلاً عن (التحقيق).
وأيمن درس في فرنسا، فهلا رجع إلى المعاجم الفرنسية ليتأكد من أن المصطلحين ليسا مترادفين؟(/7)
ثالثاً: ويتصل بالنقطة السابقة الخاصة بالمنهج وطريقة العرض؛ أن المؤلف يفصِّل حينما تتوافر لديه معلومات عن موضوع معين، ويوجز أو يصمت تماماً حينما تعز عليه المعلومات، دون أن يحاول استكمال الصورة، وسد الخلل فيها. وكان ينبغي أن يضع لنفسه منهجاً محدداً، وأن يلتزم خطاً واضحاً ينتظم جميع أفكاره، وكأنها حبات من الجوهر تنسجم في عقد جميل.
ومن الأمثلة على صدق ما أقول:
1- أنه ذكر في (ص 80) أكثر من عشر طرق للتأليف، ولكنه لم يتحدث إلا عن الترجمة (ص ص 80 – 85)، ثم الأمالي (ص ص 85 – 94)، ولا يخفى أن الترجمة ليست تأليفاً، وأن الأمالي ليست الطريقة الوحيدة للتأليف.
2- أنه عندما تحدث عن المكتبات الإسلامية وهواة الكتب (ص ص 233 – 288) لم يذكر من مكتبات العصر الحديث سوى مجموعتين من المكتبات المهداة لدار الكتب المصرية، هما مجموعة مصطفى فاضل ومجموعة أحمد تيمور (ص ص 278 – 288).
3- أنه عندما ذكر وثائق الوقف الشاملة (ص ص 443 – 447) اقتصر حديثه على النقل من دراسة عبد اللطيف إبراهيم لوثيقتين، إحداهم مملوكية، والأخرى عثمانية، وختم حديثه بنقل نص من دفتر الشيخ خالد النقشبندي المجددي بمكتبة الأسد، يقف فيه الكتب الموجودة بمكتبته على ذريته، دون أي تعليق!!.
4-= أنه عندما أراد التعريف بمجموعات المخطوطات العربية في العالم لم يتعرض إلا لتركيا (ص ص 510 – 512)، وأوربا (ص ص 512 – 520)، وعندما أراد الحديث عن فهارس المكتبات القديمة ( ص 521) ذكر كلاماً عاماً، ثم ركز على فهرست خزانة التربة الأشرفية وسجل مكتبة جامع القيروان ( ص ص 526 – 530)، وكأن فهارس هاتين المكتبتين هي أهم فهارس المكتبات الإسلامية.(/8)
5- أنه يشير في (ص 538) إلى مشروع تطوير دار الكتب المصرية، ويذكر أنه كلف به في مايو 1992، وأن هذا المشروع يقدم "بيانات ببليوجرافية كاملة عن مؤلفي هذه الكتب، وعن ما نشر منها، سواء في طبعات علمية محققة، أو نشرات تجارية" ثم يذكر في (ص 540) أن العمل توقف في المشروع في أغسطس 1993. وقد صدر كتابه في يولية 1997، أي بعد أربع سنوات من توقف المشروع، ولست أدري كيف يطوي تلك الصفحة بهذه السهولة دون أن يحدثنا عما تم إنجازه من المشروع الذي كلف به، وعن أسباب توقفه، وهل هناك أمل في بعثه من جديد؟
لقد ذكر أنه بدأ العمل في أول قاعدة بيانات من نوعها عن المخطوطات العربية، وأن هذه القاعدة توافرت لها إمكانات كبيرة، تكفل لها الاستمرار والنجاح. فماذا أصابها؟ وأين ذهب قرار "التكليف"؟
6- أنه تحت عنوان: إتاحة المخطوطات (ص 541) قصر حديثه على منع الاطلاع على المخطوطات الأصلية بدار الكتب بالقاهرة منذ أكتوبر 1986، وعلى القيود التي تفرضها الدار على تصوير المخطوطات، وأنا أتفق معه ومع ويتكام في الرأي، ولكني أذكره بأن الكتاب ليس عن مخطوطات دار الكتب المصرية، وإنما عن (المخطوطات العربية وعلم المخطوطات).
رابعاً: أن الإطناب سمة عامة في الكتاب، والأمثلة على ذلك كثيرة، ويكفي أن نذكر منها أن به خمسين صفحة (ص ص 95 – 145) عن اهتمام القدماء بالنسخ الأصلية، وأكثر من ستين صفحة (ص ص 167 – 230) عن الوراقين والعلماء المشهورين بجودة الخط، وهذا كثير بجميع المعايير.(/9)
خامساً: أنه يفرط في ذكر النماذج. صحيح أن النماذج مطلوبة، ولكن ليس بهذه الصورة الاستفزازية، خاصة أن المؤلف يكتفي بعرضها دون أن يخضعها للدراسة والتحليل، والاستنباط والتفسير، ومن الأمثلة على ذلك الصفحات (331 – 360) التي تقدم نماذج للمسودات والمبيضات، و(402 – 415) التي تعرض نماذج لقيد الفراغ من النسخة، و(428 – 442) التي تقدم نماذج للوقف، و(454 – 472) التي تذكر نماذج للتمليكات والهبات، والنسخ المكتوبة لخزائن العلماء، و(485 – 507) التي تعرض نماذج من الإجازات، وروايات الكتب، وقيود التصحيح والمقابلة والمعارضة، وبعض هذه النماذج يسرف في الطول كما في (ص ص 436 – 438).
سادساً: أنه يلوي أعناق بعض النصوص، ويحملها فوق ما تحتمل، ويستنتج منها أشياء لا تبوح بها؛ ففي (ص 46) - مثلاً - يتحدث عن التعقيبات، وأنها وجدت في مخطوطات القرن الثالث الهجري، ويستشهد على ذلك بقوله: "ويؤكد ذلك ما أورده الخطيب البغدادي في ترجمة أبي الحسن علي بن المغيرة الأثرم.." وينقل نصاً لا صلة له بالتعقيبات من قريب أو بعيد، نصاً مؤداه أن إسماعيل بن صبيح الكاتب أحضر الأثرم، ودفع إليه كتب أبي عبيدة لينسخها، وأن الأثرم كان يقرأ على أبي عبيدة ويسمعه. ويعقب على ذلك بقوله: "فهذا الذي فعله الأثرم لا يمكن أن يتم إلا إذا كان هناك نوع من الترقيم، هو دون شك التعقيبة".(/10)
سابعاً: أنه يصدر أحكاماً شخصية قاطعة لا يقوم عليها أي دليل، ومثال ذلك عبارة "دون شك" التي وردت في تعليقه على نسخ الأثرم لكتب أبي عبيدة في الفقرة السابقة، وقوله في (ص 524): "فلا شك أن جميع المكتبات الإسلامية منذ أول مكتبة أنشأها خالد بن يزيد بن معاوية كانت لها فهارس تعرِّف بمقتنياتها". وقد امتدت هذه الأحكام إلى المخطوطات والكتب، فهو في (ص 13) ينقل عن إبراهيم شبوح - دون أن يذكر ذلك - أن كتاب (عمدة الكتاب وعدة ذوي الألباب): "أشمل ما وضع في صناعة الكتاب المخطوط". وفي (ص 37) يصف كتاب (التيسير في صناعة التسطير) للشيخ بكر بن إبراهيم الإشبيلي بأنه: "أشمل كتاب تناول موضوع تجليد الكتب". وفي (ص 74) يصف كتاب (تاريخ التراث العربي) لسزجين بأنه: "أحسن ما كتب في هذا الموضوع". وفي (ص 304) يقول: إن مصحف أما جور هو: "أول المصاحف الكوفية التي وصلت إلينا". ويبدو أن مؤلفنا مغرم بأفعل التفضيل، بدءاً من اسمه، وانتهاء بالأوصاف التي يحلو له أن يخلعها على الكتب والمؤلفين.(/11)
ثامناً: أنه يتجاهل نسبة الآراء إلى أصحابها في بعض الأحيان؛ فحديثه في (ص ص 99، 523) عن الأعمال الببليوجرافية السابقة التي نقل عنها ابن النديم في (فهرسته) - ولاحظ البعد بين النصين - يعتمد أساساً على ما كتبه كاتب هذه السطور عن نشأة على الببليوجرافيا عند المسلمين، ونشر في مجلة (الدارة). ع3 – 4، السنة الثانية، (شوال 1396هـ/ أكتوبر 1976م)، وأعيد نشره في كتاب (دراسات في الكتب والمكتبات) سنة 1988. ومع ذلك لم يشر المؤلف إلى المصدر، ولم يذكره في قائمة المراجع. وكثير مما ذكره عن الوراقة والوراقين اعتمد فيه على كتاب (المخطوط العربي)، وكان ينبغي الإشارة إلى هذا الكتاب على الأقل في (ص 149) التي يناقش فيها شكوى أبي حيان من كساد الوراقة، وفي (ص ص 150 – 151) اللتين يتحدث فيهما عن أنواع الوراقين، وفي (ص ص 161 – 162) اللتين يتحدث فيهما عن انتحال الوراقين للكتب، دون أن يخل ذلك بذكر المصادر القديمة التي اكتفى بها المؤلف.
تاسعاً: أن لغة الكتاب جيدة، وأسلوبه سلس، ومع ذلك فلم يسلم من الأخطاء النحوية، ومن بعض الصياغات السقيمة؛ فمن الأخطاء النحوية:
أ- قوله في (ص2 - سطر 23): "ولا نجد فيها مقدمات أو فصول مستقلة...".
ب- وقوله في (ص 380 - سطر 5): "وهي تمثل رجل ملتحي ينحني على الأرض، ويسحب جمل ينحني برأسه أيضاً إلى الأرض".
ج- وقوله في (ص 444 - سطر 20): "تذكر لنا أنواع مختلفة من جلود الكتب والمصاحف".
د- وقوله في (ص 546 - سطر 17): "وضع بلاشير وسفاجيه قواعداً لنشر وترجمة النصوص العربية".
ومن الصياغات السقيمة: ما جاء في (ص 535) من أنه في فهرسة النسخة المخطوطة "يشار إلى إذا كانت ألفاظها مضبوطة بالحركات.. وإلى إذا كانت عناوين أبوابها وفصولها بخط أكبر من خط المتن.. ويشار كذلك إلى إذا كان بالنسخة تذهيب أو منمنات".(/12)
عاشرً: أن الكتاب تضمن بعض الآراء التي أرجو أن يتسع صدر المؤلف لمناقشتها معه بهدوء، وأن يراجع نفسه إذا استبان له وجه الصواب فيها، ومن هذه الآراء:
1- رفضه الرأي القائل بأن الحديث النبوي الشريف لم يدون إلا في القرن الثاني الهجري؛ فهو يتبنى رأي يوسف العش، وينقل عنه في (ص 73) أنه "اشتهر بين عامة الناس من غير ذوي التتبع والاستقصاء، أن الحديث ظل أكثر من مائة سنة يتناقله العلماء حفظاً، دون أن يكتبوه". ويعقب على ذلك بقوله: إن "الدراسات المتوافرة لدينا - فيما عدا استثناءات طفيفة - تصر عل مفهوم خاطئ، مؤداه أن الرواية الإسلامية لم تكن إلا شفوية"، وإن الخطيب البغدادي ألف كتابه (تقييد العلم) "ليوضح فيه خطأ هذه الفكرة".
ويستطرد فيقول في (ص ص 74 – 75): "ثم توافر على درس هذه القضية العالم التركي فؤاد سزجين في كتابه (تاريخ التراث العربي) الذي يعد أحسن ما كتب في هذا الموضوع، ووصل فيه إلى نتائج هامة سأعتمد عليها فيما يلي؛ فهو يرى أن هذا المفهوم الخاطئ والغريب يرجع إلى سوء فهم الرواية الإسلامية ذات الشكل المتميز الفريد".
وأريد أن أسأل أيمن فؤاد عن رأيه في الأحاديث الصحيحة التي لا يرقى إليها شك، والتي تنهى عن كتابة الحديث نهياً صريحاً جازماً، وأريد أن أسأله أيضًا: أيهما أولى بالتصديق: الخطيب البغدادي أم فؤاد سزجين؟ وكيف فهم من كلام الخطيب في (تقييد العلم) أنه أراد بكتابه "أن يوضح خطأ هذه الفكرة". أية فكرة يا سيدي؟! المسألة ببساطة أن الخطيب البغدادي وجد أحاديث صحيحة تنهي عن كتابة كلام النبي - صلى الله عليه وسلم، وأحاديث أخرى صحيحة أيضاً تبيح الكتابة، فجمع هذه بأسانيدها في فصل، وجمع تلك بأسانيدها في فصل ثانٍ، وعقد فصلاً ثالثاً لمناقشة القضية، انتهى فيه إلى أن الأصل هو النهي عن كتابة الحديث النبوي، والاستثناء هو الإباحة، وعلل النهي عن الكتابة بأمرين:(/13)
أولهما: خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يخلط المسلمون في تلك الفترة المبكرة من تاريخ الدعوة بين آيات القرآن الكريم - التي كانت تترى، ولم يكن قد اكتمل نزولها بعد - وبين أحاديثه - صلى الله عليه وسلم. أما السبب الثاني: فهو حرصه - صلى الله عليه وسلم - على ألا يركن المسلمون إلى الكتابة ويتركوا الحفظ، وفى الحالات التي اطمأن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن الصحابة لن يخلطوا بين كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم؛ كان يبيح لهم الكتابة، كما فعل مع عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي الحالات التي كانت تستعصي فيها الذاكرة؛ كان يبيح الكتابة أيضاً، كما فعل بالنسبة لأبي شاة، الذي قدم من اليمن ليتلقى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن ذاكرته كانت في إجازة مفتوحة، وخشي أن يعود إلى اليمن وقد نسى كل ما سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم؛ فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((اكتبوا لأبي شاة)).
لن يفهم سزجين من كلام الخطيب أكثر مما نفهم، ولا ينبغي أن نستنبط من النصوص إلا ما تبوح به طواعية، ثم إن أيمن نفسه يعترف في (ص 76) بأن عمر عبد العزيز كلف محمد بن حزم بمهمة جمع الأحاديث، وأن ابن شهاب الزهري "أول من دون الحديث"، ولن ينقض هذا الرأي إلا ظهور كتب في الحديث النبوي ترجع إلى القرن الأول الهجري.
2- أنه يرهق المفهرسين من أمرهم عسراً شديداً، ويحملهم ما لا طاقة لهم به، حين يطالبهم في (ص 536) بأن يحددوا إذا كان الكتاب قد سبق نشره، وأن يذكروا أماكن هذا النشر وتواريخه، وليس ذلك من مهام المفهرسين؛ للسبب نفسه المذكور في الفقرة السابقة، ففي الأعمال الببليوجرافية يمكن أن تذكر هذه المعلومة، أما المفهرس فإن مهمته تنحصر في التعريف بالنسخة التي أمامه، وليس مطالباً بأن يتتبع النسخ الأخرى من المخطوط، أو أن يبحث إن كان قد نشر أم لا؟ ومتى نشر؟ وأين نشر؟.(/14)
3- أنه يطالب مفهرسي المخطوطات في (ص 537) بالإشارة إلى تواريخ مجموعات المخطوطات المختلفة، وأصحاب هذه المجموعات، وذلك أيضاً من لزوم ما لا يلزم.
وبعد... فقد سعدت بقراءة كتاب أيمن فؤاد سيد عن (الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات)، وأختم حديثي بما بدأته به؛ وهو الإشادة بالجهد الكبير الذي بذله المؤلف في جمع مادة كتابه، وبالتوثيق الدقيق لمعلوماته، وبأهمية اللوحات التي أثرى بها الكتاب.
وكلي أمل في أن ينظر في كل ما ذكرته هنا من تعليقات وتساؤلات؛ حتى تصدر الطبعة الثانية من الكتاب أكثر نضجاً، وأعمق تأصيلاً لعلم المخطوطات.(/15)
العنوان: الكتاب في الإسلام
رقم المقالة: 390
صاحب المقالة: طه الولي
-----------------------------------------
كان الناس أول عهدهم بالتدوين والكتابة يتخذون الصحائف من ورق البردى وهو نوع من النباتات التي كانت تعرف باللغة اليونانية باسم ((بابيروس)) وقد سميت في بعض كتب العرب ((فافير)) وسماها ابن حوقل ((البربير)) وهو تحريف للاسم اليوناني، وعامة المصريين يسمون هذا النوع من النبات: الخوص أو الخوصي، ويكثر ظهوره في مصر والحبشة وبلاد النوبة. وقد عثر المنقبون عن الآثار على قطع كثيرة من ورق البردى في الهياكل المصرية وعليها كتابات بالقلم المصري القديم (الهيروغليفية).
أما العرب في أول عهدهم بالكتابة، فإنهم لم يستعملوا هذه الصحائف النباتية لعدم وجودها في بلادهم. وإنما كانوا يكتبون في أكتاف الإبل واللّخاف، وهذه هي الحجارة الرقاق البيض، وفي العُسُب، عسب النخيل، ثم لمّا أصابوا حظاً من الرقي والحضارة بعد الإسلام، لاسيما في أواخر العهد الأموي وأوائل العهد العبّاسي، بدؤوا باستعمال الورق الخراساني، المصنوع من الكتان، وقيل إن هذا النوع من الورق وصل إلى البلاد العربية عن طريق صناع من الصين عملوه بخراسان على مثال الورق الصيني.
ولقد كنا ذكرنا في حديث سابق أن العرب لم تكن حياتهم غير المستقرة، لتسمح لهم بالتفرغ للكتابة والانصراف إلى التأليف على نحو ما كانت عليه الأمم الأخرى التي سبقتهم إلى حياة الاستقرار في الحواضر والمدن. فلما انتقل بهم الإسلام من البداوة إلى الحضارة، أقبلوا على الكتابة وصنّفوا الكتب. إلاّ أن ما عرف لهم بهذا الصدد، لم يكن يتجاوز في صدر الإسلام بعض المؤلفات باللغة العربية مما له علاقة بأحكام الشريعة، حاشا الطب كما يقول القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي ((فإنه كان موجوداً عند أفراد منهم)).(/1)
ويقول المرحوم الشيخ عبدالقادر المغربي في مقالة له نشرتها مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق تحت عنوان ((فصحاء الأعراب))، أنه وجد في خزانة الأنبار عدة كتب بخطوط بعض الصحابة والتابعين. ونُقل عن ابن النديم أنه رأى في إحدى المكتبات قِمطراً كبيراً فيه نحو ثلاثمائة رطل من جلود وقراطيس مصرية وورق خراساني وتهامي فيها خطوط بعض الصحابة وبينها أربعة أوراق رجّح أنها من ورق الصين، عنوانها: ((هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود الدؤلي بخط يحيى بن يعمر)) الذي كان من تلاميذ أبي الأسود، وهو من أبناء القرن الأول للإسلام.
وذكر المرحوم الشيخ أحمد عارف الزين صاحب مجلة العرفان الصيداوية بلبنان، أن سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، كانت له رسالة في ((الديّان))، وأن أبا ذر الغفاري وسلمان الفارسي الصحابيين ألفا في الأخبار والسّيَر.
هذا فيما يتصل بالتأليف والتدوين والكتابة، أما فيما يتصل بجمع الكتب وإفرادها في أمكنة خاصة للقراء والمطالعة، فإن محمد كرد علي يذكر بأن الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز كان أول من فعل ذلك، إذ كتب إلى عامله على المدينة المنورة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن ينظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته ويكتبه لأنه ((خاف دروس العلم وذهاب العلماء)).
ونُقل عن هشام بن عروة قوله: "أحرق أبي يوم الحَرّة – سنة 63 للهجرة – كتب فقه كانت له، فكان يقول بعد ذلك؛ لأن تكون عندي، أحب لديّ من أن يكون لي مثل أهلي ومالي".(/2)
على أنه قد ثبت لدى المحققين، أن أول خزانة كتب في الإسلام، أنشئت في دمشق، أنشأها خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى سنة 85 للهجرة. وهذه الخزانة غمرتها الأحداث السياسية ونهشت محتوياتها الفتن والمنازعات التي قامت بين الأمويين والعباسيين، فلم يصل إلينا من أخبارها إلا أنها كانت تحتوي على بعض المؤلفات في العلوم التي نقلت عن القبطية واليونانية والسريانية، في الكيمياء والطب والنجوم، وربما كان فيها شيء من كتب الجغرافيا؛ لأن القفطي، العالم المؤرخ المشهور، ذكر في كتابه ((تاريخ الحكماء)) أثناء ترجمة الفلكي المشهور بابن السنيدي، أن الوزير أبا القاسم أحمد بن علي بن أحمد الجرجاني تقدم سنة 435 هجرية للعمل في خزانة الكتب بالقاهرة ليعمل لها الفهرست ويرم ما خلق من جلودها، فوجد فيها كرة من نحاس من عمل بطليموس (اليوناني) مكتوب عليها: حملت هذه الكرة من خزانة الأمير خالد بن يزيد بن معاوية))، وتأمل ما مضى من زمانها فكان ألفاً ومئتين وخمسين سنة...
وكان خالد بن يزيد المذكور، محباً للعلم والحكمة، وكانوا يسمونه: حكيم آل مروان، ويحكى عنه أنه استقدم من الاسكندرية راهباً رومياً اسمه ((مريانوس)) ورغب إليه أن يعلمه صناعة الكيمياء، وأنه أمر باحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممن كانوا ينزلون بمصر وكلفهم بنقل كثير من الكتب العلمية من اللسانين اليوناني والقبطي إلى العربي، فكان أول من عُني بالترجمة في الإسلام.
فإذا صح ما ذكر عن خالد بهذا الصدد، وهو في أرجح الظن صحيح، فإننا نستطيع أن نزعم بأن هذا الأمير العربي الأموي، كان أول من تصدّى من علماء المسلمين للعناية بالكتب بشكل جدي، وبالتالي أول عربي مسؤول توفّر على جمع المصنفات العلمية في مكتبة مستقلة خاصة، لتكون مرجعاً موثوقاً في مختلف الموضوعات والمواد، كي تيسر لمن يرتادها من العلماء والأدباء سبل البحث وأسباب الدراسة والتحقيق.(/3)
وفي أثر خالد بن يزيد بن معاوية، وعلى سنته في الترجمة والتأليف وجمع الكتب، سار من جاء بعده من أولي الأمر الحاكمين والوجهاء والنافذين أيام بني أمية، فقد رُوي أن الخليفة العمراني الكبير الوليد بن عبدالملك كان محباً للقراءة شغوفاً بجمع الكتب وأنه كان يملك خزانة كبيرة جعل عليها رجلاً يقال له سعد، وأن سعداً هذا كان يعرف بين الناس بأنه ((صاحب المصاحف)) وهو اللقب الذي يقابله اليوم ((أمين دار الكتب)).
ويحكي لنا ابن النديم في كتابه الفهرست، أن أول من كتب المصاحف في الصدر الأول، ويوصف بحسن الخط هو خالد بن أبي الهيّاج، وقال ابن النديم إنه رأى مصحفاً بخطه. وكان سعد المذكور نُصب لكتابة المصاحف والأخبار والشعر للوليد بن عبدالملك.
وعلى غرار الوليد بن عبدالملك، كان سميّه وابن أخيه، الوليد بن يزيد بن عبدالملك الذي كان من فتيان قريش وأدبائهم وظرفائهم، فإنه اشتهر بحب الكتب والتماسها من كل سبيل حتى جمع منها في دار الخلافة، التي لم يشغلها إلا سنة وبعض السنة، ما جعل ابن سعد المؤرخ المعروف يقول في كتابه ((الطبقات الكبرى)): "حُملت الدفاتر (الكتب) على الدواب من خزائن الوليد بن يزيد...".
وكما قلنا من قبل، فإن الكتاب لم يكتف بما أصابه من عناية واهتمام وترحيب في أبهاء القصور الملكية وأفنائها الواسعة، بل هو تابع خطواته في طريق الازدهار والمجد، حتى طرق أبوابها سائر الناس من كل طبقة ومن كل لون، ودخلها واستقر بها وازدانت به الرفوف، بعضها فوق بعض.(/4)
فقد ورد في سيرة الزّهري المحدث، من أعلام التابعين وقد توفي سنة 124 هجرية، ورد أنه كان إذا جلس في بيته، وضع كتبه حوله مشتغلاً بها عن كل أحد، فتضيق زوجته به ذرعاً وتقول له: والله لهذه الكتب، أشد علي من ثلاث ضرائر... ومن الطريف أن نساء اليوم لسن أقل تبرماً بالكتاب من زميلتهن زوجة الزهري قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمان، ومن أراد الدليل على ذلك فليسأل زوجته إن كان من أهل الكتابة والكتب.
هذا وبعد أن أصبح الكتاب جزءاً من مظاهر الحياة الفكرية عند العرب، وأخذ الناس يتنافسون في التماسه في مظانه، سواء كان مصنفاً باللغة العربية أو بغيرها من اللغات الأخرى التي كانت تعتبر حية في زمانهم، كالفارسية واليونانية والسريانية، ويجمعون منه أعداداً كبيرة في بيوتهم أو في أمكنة أخرى خاصة بالطبقة الحاكمة أو مباحة لعامة الجمهور، بعد أن أصبح الكتاب على هذا المستوى من فضول الناس وعنايتهم، بدأت تظهر على الألسنة، المصطلحات التي تتصل به وبالمختصين فيه بغية التعريف بهم وتمييزهم عن غيرهم من أهل الصناعات والحرف الأخرى.
وأول ما استعمل العرب للكتاب وللدلالة عليه هو كلمة ((دفتر)) ثم تركوا هذه الكلمة واستبدلوا بها أخرى، وهي كلمة ((مصحف)). حتى إذا انتصف القرن الثاني للهجرة تخلى الناس عن الكلمتين السابقتين واستعملوا بدلاً منهما كلمة ((كتاب)) اسماً لكل مصنف علمي في أي لون من ألوان الفكر والثقافة وفي أي لغة من اللغات. ولعل الذين اختاروا هذه الكلمة قد استأنسوا بالقرآن الكريم الذي استعمل كلمة كتاب وكتب لمجموعة الآيات والسور التي أوحي بها على النبي صلى الله عليه وسلم أو المدونات الدينية الأخرى كالتوراة والزبور والإنجيل من الكتب السماوية المتقدمة.(/5)
أما بالنسبة للشخص الذي كانت مهمته جمع الكتب وصيانتها وإعدادها للمطالعة والقراءة، فإنه كان يحمل أول الأمر، لقب ((صاحب المصاحف)) وبقي هذا الشخص معروفاً بهذا اللقب ما بين العهدين الراشدي والأموي، وفي العهد العباسي غلب عليه لقب ((الخازن)) إذ شاع يومئذ استعمال هذا الاصطلاح على المسؤول عن الكتب المعدة للمطالعة العامة وبقي الناس عليه حتى زمن قريب من أيامنا.
ولقد جاء في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري قوله على لسان إحدى الجواري: "أتدري من أنا يا أبا علي بن منصور؟ أنا توفيق السوداء، التي كانت تخدم في ((دار العلم)) ببغداد، على زمان أبي منصور محمد بن علي ((الخازن)) وكنت أخرج الكتب للنساخ".
على أن كلمة ((الخازن)) كانت تطلق في ذلك الحين على الشخص الذي يقوم على خدمة الكتب في المكتبات غير التجارية، ونستطيع أن نقابله اليوم بالشخص الذي يقوم بوظيفة ((حافظ دار الكتب)).
أما الشخص الذي كان يتخذ من الكتب بضاعة تجارية للارتزاق والكسب المادي فإنه كان يعرف باسم ((القراطيسي)) وذلك نسبة إلى الورق الذي كانت العرب تسميه ((القرطاس)) والجمع ((قراطيس)) وقد ورد في ذكر القرطاس، بالجمع والإفراد في القرآن الكريم، إذ يقول الله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} وفي مكان آخر: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ}.
وكلمة القرطاس ليست عربية وقد أرجعها بعضهم إلى كلمة ((كارت)) اليونانية، ومعناها: ما يكتب به من ورقة أو صحيفة.
وإنا لنجد ((الخطيب)) صاحب ((تاريخ بغداد)) يترجم لسبعة رجال عُرف كل منهم باسم ((القراطيسي)). وما يزال في دمشق، حتى يومنا هذا أسرة قديمة كنيتها ((القراطيسي)) أفرادها يتعاطون تجارة الورق.(/6)
وكذلك، فقد أطلق على بائع الكتب في الماضي اسم ((الكراريسي)) نسبة إلى الكراريس ومفردها ((كراس))، على أن الكلمتين: القراطيسي، والكراريسي، لم تعيشا طويلاً إذ ما لبث الناس أن استعملوا مكانهما كلمة أخرى هي ((الورَّاق))، وذهب بعضهم إلى أن الوراقة لم تكن محصورة في تجارة الكتب بل تناولت كذلك الاشتغال بكل ما يتعلق بالكتاب من ورق وكتابة ونسخ وخط وخيط وتجليد. وقد فصّل القلقشندي في ((صبح الأعشى)) أدوات الوراق بقوله: وهي القلم والدواة والحبر والليقة والسكين، والمقطّ والسن والمقلمة والملواق والمرملة أو المتربة، والرمل، والمنشأة، والملزمة والمفرشة والممسحة والمسقاة والمسطرة والمصقلة.
وكان للوراقين في كل بلد سوق خاصة بهم ويتولى أمرهم فيها رئيس عليهم يحمل لقب ((شيخ الوراقين))، ولهؤلاء الوراقين نظمهم وتقاليدهم ونوادرهم وقد ترك لنا بعض ظرفائهم شعراً ضمنوه انطباعاتهم عن مهنتهم، فقال واحد منهم وكان راضياً عن حرفته:
يمضي الزمان وكل فانٍ ذاهبُ إلا جميل الذكر فهو الباقي
لم يبق من إيوان كسرى بعد ذا ك الحفل إلا الذكر في الأوراق
هل كان للسفاح والمنصور وال مهديّ من ذكر على الإطلاق
أو للرشيد وللأمين وصنوه لولا شباة يراعة الوُرّاق
وقال آخر، وكان متبرماً بحرفته:
أما الوراقة فهي أنكد حرفة أوراقها وثمارها الحرمان
شبهت صاحبها بصاحب إبرة تكسو العراة وجسمها عريان(/7)
العنوان: الكتاب في العالم الإسلامي
رقم المقالة: 2031
صاحب المقالة: د. عباس عبدالحليم عباس
-----------------------------------------
الكتاب في العالم الإسلامي
تحرير : جورج عطية
ترجمة : عبدالستار الحلوجي
عباس عبدالحليم عباس
الجامعة العربية المفتوحة – عمان – الأردن
الكتاب في العالم الإسلامي (الكلمة المكتوبة كوسيلة للاتصال في الشرق الأوسط – تحرير جورج عطية ؛ ترجمة عبد الستار الحلوجي – الكويت : المجلس الوطني، 2003 "عالم المعرفة").
أبرز ما يميز هذا الكتاب هو التقاء عدد من كبار الباحثين والمختصين في عدد من الميادين الثقافية ذات الصلة الوثيقة بالكلمة المكتوبة، فقد جمعت دفتاه بين أساتذة معروفين في جامعات مرموقة كهارفارد وجورج واشنطن وشيكاغو وغيرها، ممن عرفوا في دوائر الاستشراق باتجاهاته المتنوعة كفرانز روزنتال وآن ماري شيمل وغيرها، ولعل أهم ما يمكن قوله هنا إننا أمام مجموعة من الأبحاث التي قدمت في مؤتمر دولي دعت إليه مكتبة الكونجرس تحت عنوان (الكتاب في العالم الإسلامي)، وقد بذل المترجم عبد الستار الحلوجي جهداً عظيماً في وضع أوراق هذا المؤتمر بين أيدينا وهي بحد ذاتها فائدة جليلة، وجدير بالذكر أن هذا المؤلف (الكتاب في العالم الإسلامي) من تحرير جورج عطية، رئيس الشرق الأدنى بمكتبة الكونجرس، ضمن سلسلة عالم المعرفة، أكتوبر 2003م.
(من عصر المخطوطات إلى عصر المطبوعات) هو أول فصول هذا الكتاب يوضح فيه محسن مهدي كيف استمر الانتقال من عصر المخطوطات إلى عصر المطبوعات في العالم الإسلامي فترة طويلة ومضطربة، امتدت قروناً ووضعت أمام من يدرس تاريخ الكتاب ألواناً من المشكلات.(/1)
وعندما بلغت تلك المرحلة نهايتها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ظهرت مشكلة جديدة، فقد بدأ العالم الإسلامي ينسى تدريجياً ماذا يعني الاعتماد على النساخين والنسخ المخطوطات في صنع المعرفة ونشرها ونقلها، وتصور أكثر الناس أن الكتب المطبوعة تحظى بقدر من الثقة أكبر بكثير مما تحظى به النسخة أو النسخ المخطوطة المتعددة للكتاب، وهكذا بدأ عصر المخطوطات ينمحي تدريجياً من ذهن الجمهور، فلم يعد أحد ينسخ مخطوطات كاملة بيده إلا إذا كان يعده للطباعة، وجاء التصوير الفوتوغرافي لغني عن عملية النسخ هذه، ومن ثم تلاشت صناعة النسخ التي استمرت أكثر من ألف عام.
ومن المستحيل – طبعاً- أن نستعرض أو حتى نلمس كل المشكلات التي ثارت خلال فترة الانتقال من عصر المخطوطات إلى عصر الكتب المطبوعة بسبب كثرة ما نجهله عن التاريخ الثقافي والاجتماعي والاقتصادي لتلك الفترة. وإذا أردنا أن نكون صورة كاملة عما حدث خلال تلك الفترة الانتقالية، وأن نعرف العوامل التي أسهمت في انتقال الكتب من صورتها المخطوطة إلى الشكل المطبوع، فينبغي أن نطرح بعض الأسئلة وأن نحاول الإجابة عنها.
وبداية يعترف الباحث بأن عدة عوامل ثقافية واجتماعية صاحبت ظاهرة الانتقال من عصر المخطوطات إلى عصر الكتب المطبوعة، فقد ارتبط انتشار الطباعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ارتباطاً وثيقاً بظهور فكرة القومية بين عدد من الشعوب الإسلامية، وكما حدث في أوروبا من قبل، أصبح المسلمون أقل قدرة على الكلام أو القراءة بغير لغتهم الوطنية، وكان عليهم أن يلتمسوا ترجمات من لغات إسلامية أخرى للحفاظ على بعض مظاهر التجانس في العالم الإسلامي.(/2)
والسؤال الذي يطرحه مهدي هنا هو : إلى أي مدى غيرت الطباعة نوع الكتب المتاحة للقراءة، مقارنة بما كان موجوداً قبل ظهور الطباعة ؟ وكيف حدث هذا التغيير؟ ولماذا؟ وما هي الكتب التي كانت تطبع ؟ وما حجم التراث القديم الذي أصبح متاحاً بشكل أكبر ؟ وهل يرجع ذلك إلى سهولة إصدار نسخ متعددة للمخطوطات النادرة، أم إلى سهولة الوصول إلى المكتبات والمجموعات التي كان يتعذر الوصول إليها والإطلاع عليها من قبل، أم إلى توافر المعلومات عن النسخ المخطوطة عن طريق الطباعة بصفة عامة وفهارس المخطوطات بصفة خاصة ؟
ومن الخطأ أن نظن أن الأساليب العلمية التي كانت تتبع في النسخ في فترة التحول إلى عصر الطباعة في العالم الإسلامي كانت كافية، أو أنها كانت تمارس بالمستوى الرفيع نفسه عند نسخ الكتب بمختلف أنواعها، فإلى جانب النص القرآني والحديث النبوي، كانت هناك مجالات معينة تستلزم الحرص والدقة في النقل، ومثال ذلك المخطوطات الفلكية والطبية والرياضية، فقد كان يمكن للمتخصصين اكتشاف الأخطاء فيها بسهولة، والحكم على المخطوطات بأنها عديمة القيمة. ولذا كان كثير من النساخين في هذه المجالات يتمتعون بقدر لا بأس به من الخبرة، وكانوا ينتجون نسخاً شديدة الشبه بالأصل، وعلى درجة فائقة من الدقة والضبط والإتقان، أما في المجالات الأخرى كالأدب والتاريخ والجغرافيا، حيث توجد أعداد هائلة من النسخ المخطوطة فلم تكن الحال فيها مثلما في المجالات العلمية.(/3)
وثمة جانب آخر يناقشه مهدي هنا وهو جانب الكتاب الإلكتروني إذ ينبغي أن نتذكر أيضاً أنه حتى من دون هذه الثورة التكنولوجية الحديثة، فإن الكتاب المطبوع قد بدأ يفقد بعض سلطانه على الجنس البشري منذ أوائل القرن العشرين، فحتى حوالي سنة 1914م لم يكن هناك وسيلة اتصال جماهيري بجانب الكتب والكتيبات والنشرات المطبوعة غير الرواة والمنشدين والمعلمين والوعاظ، ولم يكن للراديو والتلفزيون والمسجلات والأفلام وجود ينافس النص المطبوع منافسة حقيقية. ولذا كانت الكلمة المطبوعة تحتل مكان الصدارة، ولم يكن لها منافسون أقوياء، وعندما كانت تثار قضية مهمة في المجتمع الإسلامي – كالموقف من التدخين – كان الجدل حولها يظهر في شكل كتب وكتيبات ونشرات مطبوعة.
أما فرانز روزنتال فقد نظر إلى عالم الكتاب على أنه (عالم بلا نهاية) موضحاً كيف كان التبرم من تزايد حجم المعرفة يمثل شكوى عامة، وكانت مشكلة تزايد أعداد الكتب – كأوعية تصب فيها المعارف – أكثر وضوحاً، وذلك لعدة أسباب أولها أن المؤلفين لا يقاومون الرغبة في تأليف المزيد من الكتب وهذا أمر طبيعي، فهم – مثلنا- قلما يعترفون بأن أياً من مؤلفاتهم عديمة القديمة أو حتى مضرة، وكان من عادتهم أن يتجنبوا في مقدمات كتبهم ذكر المصادر الكثيرة التي ألفها غيرهم في الموضوع، والسبب الثاني الأكثر أهمية هو الحاجة المتجددة إلى الكتب في بعض البيئات والأقاليم.(/4)
ففي مساحة بمثل اتساع العالم الإسلامي وتنوعه، لم يكن يمكن تجنب اختلال التوازن في التزود بالكتب، ذلك أن الكتب التي كانت تتوافر بكثرة في مكان ما، قد لا يعلم بها أو يحصل عليها أبناء إقليم آخر، ونظراً إلى ارتفاع أسعار الكتب، فقد كان على العلماء – عدا قلة منهم – أن يكونوا مكتباتهم عن طريق نسخ الكتب بأنفسهم، ولم يكن ذلك مقصوراً على بداية اشتغالهم بالعلم وإنما كان يصحبهم طيلة حياتهم، وقليلون هم الذين كان في مقدورهم أن يشتروا (أو يرثوا) الكتب، أو ينسخها لهم غيرهم مجاملة أو بأسعار معقولة، وكان من النادر أن يكون للعالم زوجة يمكن أن يدربها على عملية النسخ.
أما السبب الثالث لعدم الشكوى من كثرة الكتب فخاص بالحضارة الإسلامية واهتمامها البالغ بالكتب.(/5)
وقد كان هذا الاهتمام ناشئاً عن الفكرة السائدة عن أهمية الكلمة المنطوقة، ونحن نعلم أن الحديث النبوي الذي كان يروى مشافهة كان يمثل مركز النشاط العقلي الإسلامي، وأن الكتب كان ينظر إليها على أنها بدعة، ولذا لم تظهر إلا بعد سنة 120هـ/738م بعد وفاة الجيل الأول من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتابعيه. ومع أن العرب كانوا يفتخرون بقوة الذاكرة وبقدرتهم على حفظ كل المعارف ونقلها شفاهة، إلا أن الذاكرة قد بدأت تضعف عند الأجيال التالية، وأصبح من أسباب الفخر أن يمتلك الفرد أكبر عدد ممكن من الكتب، وبدأ الاقتناع بأن الكتابة ضرورية للحضارة بغض النظر عن كثرة الكتب أو قلتها. ومع ذلك فقد كان علماء الدين يشكون في أن المعلومة بمجرد تسجيلها كتابة، تبدأ عملية نسخها إلى ما لا نهاية "كتاباً بعد كتاب بعد كتاب"، وأن النقل الشفهي كان أكثر انضباطاً ومن ثم أقل فساداً وأعلى ثقة من النصوص المكتوبة، وحتى بالنسبة إلى العلوم غير الدينية، فقد أتاحت الكثرة المفرطة من الكتب والتصانيف لبعض الجهال أن يطاولوا العلماء ومن ثم هبط مستوى الكتب، وبدأت تلوح في الأفق مشكلة تضخم أعدادها.(/6)
ويأتي بحث سيد حسن نصر الأستاذ بجامعة جورج واشنطن ليربط بين (الرواية الشفهية والكتاب) في العالم الإسلامي، مبيناً أن الاهتمام بحفظ القرآن أوقد الذاكرة الشعرية والنثرية للشعوب الإسلامية، وضاعف من أهمية الرواية الشفهية وكان له أثره في تحديد الرواية الشفهية التي تعتمد على الذاكرة وعاء لنقل المعرفة يقف جنباً إلى جنب مع النصوص المدونة في الكتب، والتي تمثل مختلف المذاهب الفكرية، وكانت حلقة الوصل بين الأستاذ وطلابه. ولم تكن تلك الكتب مجرد نصوص مكتوبة ولا مجرد حبر على ورق، وإنما كانت تصاحبها دروس شفهية يلقيها الأستاذ على طلابه فتستوعبها ذاكرتهم . وقد لعبت الرواية الشفهية دوراً مهماً في تحديد الكتب التي تلقى على الطلاب في حلقات الدرس وفي تحديد مكانة الشيوخ الجديرين بالتدريس، وكانت في الوقت نفسه معياراً يساعد في تمييز تلميذ على آخر على أساس قربه من الشيخ وفهمه لما يقول.
ولقد بين الباحث أن العلماء السالفين يصرون على أن الأعمال الأساسية في الفكر الإسلامي مثل الإشارات والأسفار لا يمكن قراءتها قراءة صحيحة من دون مساعدة ما صاحبها من تراث شفهي، ومن هنا تأتي أهمية تلقي العلم على أحد الشيوخ. ومعنى هذا أن الكلمة المنطوقة هي التي تتيح الفهم الكامل والقراءة الصحيحة للنصوص المكتوبة.
وهذه الظاهرة ليست مقصورة على التراث الإسلامي، فنحن نجدها بصورة أو أخرى في تراث الأمم الأخرى، ولكن المرويات الشفهية والكلمة المنطوقة في الإسلام لعبت وما زالت حتى يومنا دوراً رئيساً، ومن ثم يجب التأكيد على أهميتها خلافاً لكل الفلسفات التاريخية والوضعية التي تسعى إلى قصر التراث العقلي الإسلامي على النصوص المكتوبة، ومع أن الدراسة التاريخية للنصوص المكتوبة لها مصداقيتها وأهميتها، إلا أنها لا تمثل الصورة الكاملة والشاملة للتراث العقلي الإسلامي.(/7)
وفي الوقت الذي تعرضت فيه الكتب والمخطوطات الإسلامية للتدمير في مناطق مختلفة من العالم، تعرض كثير من التراث الشفهي للفقد أيضاً نتيجة الانصراف عن الطرق التقليدية لتلقي العلم. ومع أننا مطالبون بأن نسجل للأجيال التالية بل للجيل الحالي أفكارنا التي كانت تنتقل في الماضي مشافهة من شخص إلى آخر، إلا أننا حين نفعل ذلك يجب ألا نغفل أهمية الكلمة المنطوقة في التعليم على مدى التاريخ الإسلامي كجزء مكمل للنصوص المكتوبة. وحتى في أيامنا هذه.
وبحثت المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل في بحث مستقل موضوع (التورية بالكتب في الآداب الإسلامية) منطلقة من أن الاستخدامات المجازية للكتاب تلعب دوراً رئيساً في الشعر الإسلامي كتشبيه الوجه، ويمكن أن نجد التشبيهات بالكتب عند كل الأمم، فالشاعر البغدادي القديم لم ير في الحديقة والزهور كتاباً فحسب، ولكنه اكتشف كتاباً مسطوراً في جلد حية رقطاء، والشاعر الفارسي القديم أخستكي يتحدث عن "كتاب الفقر"، ويذكر جلال الدين الرومي مكتبة (احتياجاتي) التي يفترض أن يدرسها المحبوب . وعندما يقول سنائي :
ما أكثر ما قرأت في كتاب المحبين
ولكنني في الحب ما زلت مبتدئاً يتعلم حروف الهجاء.
فإنه يشير إلى أن الحب الحقيقي لا يمكن فهمه بدراسة الكتب التي تتحدث عنه، وأن على الإنسان أن يعيش في كل مرة تجربة جديدة ومعاناة جديدة. وهذه الفكرة يعبر عنها نظيري (المتوفى 1612م) أعظم شعراء الهند في العصر المغولي فيقول :
كتب كثيرة ونسخ متعددة من تحكي قصة "الحب"
ولكن عندما تعيش القصة الحقيقية
فلن تحتاج إلى قراءة أي صفحة بعد ذلك.
ولكن جامي ينظر إلى الموضوع نظرة مختلفة إلى حد ما، فقد قرر أن يقلع عن الحب، ولكن "خط" الحبيب أوقعه في الغرام من جديد . يقول :
لقد حكمت العقل فغسلت كتاب الحب
ولكن "خطك" أعادني إلى درس "أبجد".(/8)
وفي بحث طريف عن (معاجم التراجم : تنظيمها الداخلي وأهميتها الثقافية) تذهب وداد القاضي إلى إيضاح الأهمية الكبيرة لهذا النمط من الكتب، ونظراً إلى أهمية هذا النوع من التأليف، فقد تناوله عدد كبير من الدراسات، بعضها عرض موجز أو مفصل للإنتاج الفكري، وبعضها الآخر دراسات تحليلية. وهذه الفئة الأخيرة تناقش قضايا مثل الدوافع لتأليف معاجم التراجم، وبدايات هذه المعاجم، وأصولها، ومصادرها، وتنظيمها والمعايير التي طبقها مؤلفوها وعناصر الترجمة فيها وغير ذلك. وقليل من تلك الدراسات هو الذي تجرأ على الكتاب بالتفصيل عن تطور هذا النوع من المؤلفات، وأقل منه من حاول أن يوضح العلاقة بين هذا التطور ومراحل تطور المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية عبر العصور، مع أنها من المسلمات فقد ظلت هذه الجوانب من دراسة معاجم التراجم غائبة تقريباً. وعلى الرغم من وجود بعض الدراسات الجيدة عن هذا النوع من التأليف، إلا أنها لا تربطه بالتطورات الاجتماعية والثقافية.
وتلك النقطة الأخيرة هي التي تحاول هذه الدراسة أن تستقصيها من منطلق أن معاجم التراجم هي في الحقيقة مرآة تنعكس عليها بعض المظاهر المهمة للتطور الفكري والثقافي للمجتمع الإسلامي في القرون التسعة الأولى من تاريخ الحضارة الإسلامية على أقل تقدير. تحاول دراسة وداد القاضي أن تلقي الضوء على تلك الجوانب من خلال التركيز على أسلوب التنظيم الداخلي للكتب التي ألفت خلال القرون الأولى من تاريخ الإسلام.(/9)
وتلاحظ الباحثة أن معاجم التراجم لم تظهر إلا عندما بدأت تتضح معالم الحضارة الإسلامية ومقوماتها، وأول هذه المقومات أنها حضارة تقوم أساسًا على الدين، وتعتمد على اللغة العربية والشعر العربي، ومع أنها تمثلت التراث العربي قبل الإسلام، واعتبرت نفسها وريثاً للتراث الديني من خلال كتاب وصلنا في التراجم، وهو طبقات ابن سعد الذي يبدأ بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشغل ربع حجم الكتاب بأجزائه المتعددة. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمثل الرمز الأساس والمثل الأعلى لهذه الحضارة الجديدة، فهناك آخرون أسهموا في بنائها وقدموا بسيرتهم وسلوكهم ومواقفهم النموذج والقدوة للمجتمع الجديد. وقد اختيرت تلك الرموز – قبل كل شيء- على أساس قربها الزمني من مصدر الدعوة الجديدة، ولذا طبق معيار "السابقة" في القسم الأول والأساس من الكتاب. أما القسم الثاني الذي بني على أساس المكان فقد ارتبط أيضاً بتطور الدولة الجديدة واتساعها بعد الفتوح لتشمل مناطق شاسعة، تمتد من مصر غرباً إلى خراسان شرقاً.
ولقد تتابع ظهور معاجم التراجم، ومضت تجنح نحو التخصص الذي يعكس هوية الفرق الإسلامية داخل المجتمع. ولم يكن هذا التخصص واضحاً عندما ألف ابن سعد كتابه، ولكن بحلول الجيل التالي، جيل أحمد بن حنبل ؛ أصبح رواة الحديث يمثلون فئة متخصصة لها ثقلها، ولذا شهد هذا الجيل ظهور سلسلة من معاجم التراجم المحدثين، وبعد ذلك بوقت قصير ظهر الفقهاء كجماعة متخصصة، ولكن معاجم التراجم التي تناولتهم لم تظهر إلا في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي.(/10)
وفي مجال مختلف يعالج رمزي بعلبكي قضية (الكتاب في التراث النحوي) منطلقاً من أن كتاب سيبويه يمثل مركز الدائرة في تاريخ المؤلفات النحوية. ولذا فإن أية دراسة في التراث النحوي لابد أن تتخذ من الكتاب نقطة انطلاق لها، لأنه المرتكز الأساس في تاريخ التأليف النحوي، ولقد مر هذا التأليف بثلاث مراحل هي :
1- عصر ما قبل سيبويه، ونعني به المحاولات الأولى التي سبقت التأليف النحوي وأدت إليه.
2- كتاب سيبويه، وما يمثله من نظريات ومناهج نحوية.
3- ما بعد سيبويه، ويعني به الباحث التحرر من أساليب التحليل النحوي التي وضعها سيبويه، وأشهر نحاة هذه المرحلة هو "المبرد".
وقد يبدو هذا التقسيم مبسطاً شديداً، ولكنه يمثل تطور التأليف النحوي تمثيلاً دقيقاً، فمن المؤسف أننا بعد سيبويه لا نكاد نجد عملاً يتسم بالأصالة، يقول الباحث، غير أن هذا غير دقيق، إذ لم يأخذ البعلبكي محاولات التجديد اللاحقة بعين النظر، ولذا فإنه يعد الفترة التي تلت سيبويه مرحلة واحدة.
وبعد دراسة المرحلة التي أدت إلى ظهور أول كتاب نحوي، يرصد الباحث تطور الكتب النحوية وأساليبها، وذاك بمقارنة كتاب سيبويه بمؤلفات النحاة المتأخرين، بناء على أن النحاة الذين أتوا بعد سيبويه يمكن أن يصنفوا في مجموعة واحدة على أساس أنه ابتدأ من القرن الثالث وما تلاه، وكان هناك اتجاه مطرد للابتعاد عن بعض العناصر الأساسية التي تكون منهج سيبويه وطريقته، وقد نتج عن ذلك تغير جوهري في النظرة إلى الموضوعات التي ينبغي أن يتضمنها كتاب النحو والهدف من تأليفه. وعلى الرغم من الحاجة إلى دراسة مفصلة لتتبع هذا التطور في مظاهره المختلفة.
ويؤكد البعلبكي هنا على أن سيبويه قد وضع الملامح الرئيسة لأي كتاب في النحو، وأن الفرق بينه وبين المؤلفين المتأخرين ينحصر في بعض أساليب الإعراب، أما الملامح الأخرى وأهمها الملامح العامة فلم يطرأ عليها أي تغيير.(/11)
وهذه الملامح العامة ينبغي ألا تتوه وسط التفاصيل الكثيرة. وفي بحثه (الرسوم التوضيحية في المخطوطات العلمية والإسلامية وبعض أسرارها) يعرض ديفيد كنج أستاذ التاريخ بجامعة جوته العديد من أنواع الرسوم والخرائط وأنماطها مما أورده العرب القدماء في مخطوطاتهم كالرسوم الفلكية، وخرائط القبلة وأشكال جغرافية، وأماكن مقدسة، وأشكال توضح أساليب من المعمار القديم في التهوية والتصميم ليصل إلى أن المخطوطات العلمية الإسلامية قد تضمنت عدداً كبيراً من الأشكال التوضيحية التي يمكن أن تزيد من فهمنا لجوانب متعددة للعالم الإسلامي، بل وللمؤسسات الإسلامية، ولكننا ينبغي ألا نعتمد على تلك الأشكال وحدها، خاصة إذا صاحبتها نصوص توضحها، وما زلنا نفتقر إلى النسخ الأصلية من المخطوطات المهمة، وما زلنا في حاجة إلى دراسات مقارنة للنصوص التي توضحها الأشكال والرسوم، وحينما نقارن بين ما وصلنا من نماذج الجغرافية الدينية الموجودة في المخطوطات الشهيرة التي صدرت منها طبعات غير محققة (مثل كتب القزويني وياقوت الحموي وابن الوردي) يتبين لنا مدى الحاجة الماسة إلى تلك الدراسة.
وعند نشر مخطوطات أصلية بطريقة التصوير ينبغي الالتزام بضوابط شديدة. وإلا أصبح نشرها عديم الفائدة. فالتلاعب بالألفاظ التي التهمتها الأرضة، وإخفاء الأرقام الأصلية للأوراق، وإعادة ترتيب تلك الأوراق بلا تعليق، وإدماج أجزاء من نسخ مختلفة للكتاب نفسه من دون الإشارة إلى ذلك، كل هذه أمور تتنافى مع أبسط المعايير العلمية للنشر. ولكن ذلك – للأسف- هو السائد في سلاسل المخطوطات التي نشرت أصولها في السنوات الأخيرة في فرانكفورت على يد أحد كبار المختصين في المخطوطات العربية.(/12)
ولتلك السلاسل مشكلات أخرى كما يرى كنج، لعل أهمها التدخل برسوم توضيحية . واكتفى هنا بذكر مثالين أولهما : أن أشكال الأبراج السماوية والكواكب في مخطوطات قديمة من كتاب صور الكواكب للصوفي قد غيرت، والنتيجة الطبيعية لذلك أن تلك الأشكال أصبحت تناسب رواد مقهى أكثر مما تناسب مؤرخي الفنون الذين يجب عليهم أن يرجعوا إلى المخطوط الأصلي بحثاً عما به من رسوم توضيحية والمثال الثاني خاص بشكل تضمنه مخطوط في الجغرافيا الدينية بإسطنبول، وهو الجزء الثاني من كتاب "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لابن فضل الله العمري، وهو يرجع إلى العصر المملوكي، أي أوائل القرن الرابع عشر للميلاد، وفيه كتبت الآية 97 من سورة آل عمران {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} بماء الذهب على رسم للكعبة. ولكن الناشر الحديث الذي رتب الصور المختارة من المخطوطات لتطبع في سلسلة مخطوطات فرانكفورت محا هذه العبارة ووضع مكانها عبارة أخرى أوضح وكتب "آمين" بألفين في أولها. وهذا يدلل على الحاجة إلى القول بأن الرسوم التوضيحية في مخطوطات القرون الوسطى ينبغي أن تحترم.(/13)
أما جيفوفري روبر فقد اختار بحث (فارس الشدياق والانتقال من ثقافة النسخ إلى ثقافة الطباعة في الشرق الأوسط) مبيناً أن هذا العلم كان نتاجاً لثقافة النسخ القديمة، لا بالمعنى الضمني فحسب، وإنما كممارس لها وخبير بها. ولد في لبنان في العقد الأول من القرن التاسع عشر من عائلة مارونية طالما خرج منها نساخ ورجال دين ومعلمون لأبناء الطبقة الإقطاعية، ونشأ في بيئة أدبية، فقد كان لأبيه مكتبة حفلت بالكتب في مختلف الموضوعات، واطلع عليها فارس في صباه، وأعجب بما فيها من كتب الأدب والشعر. وكانت هذه المكتبة كلها مخطوطة. فمع أن الطباعة كانت قد دخلت لبنان في عام 1734م، ومع أن الكتب العربية المطبوعة كانت تستورد من أوربا منذ القرن السادس عشر، إلا أن هذه الكتب المطبوعة كانت كلها في الديانة المسيحية والطقوس الدينية، وكانت تطبع بأعداد قليلة لاستخدام الكهنة أما الكتب الأدبية والتعليمية فكانت كلها مخطوطة.
وكان طبيعياً أن يسير فارس على منوال عائلته وأن يشتغل منذ صباه بالنسخ، فكلف بنسخ سجلات الأمير حيدر الشهابى وحولياته عندما كان هذا الأخير يكتب تاريخاً للبنان والدول المجاورة، كما نسخ كتباً أخرى مسيحية باللغتين العربية والسريانية ما زال بعضها موجوداً في مكتبات كنسية وخاصة في لبنان.(/14)
وقد حرص الشدياق على مستوى عال من الدقة والجمال فيما ينسخ من كتب، فنراه – فيما بعد – يركز على ضرورة استخدام الأدوات المناسبة للكتابة العربية . وقد كان الشدياق على اقتناع بأن السبيل إلى إحياء الأدب العربي والثقافة والعربية هو تجاوز أساليب النسخ القديمة، رغم إجلاله لها وكونه جزءاً منها، والبحث عن أساليب جديدة لنقل النصوص وحفظها سواء في ذلك النصوص القديمة أو المؤلفات الحديثة. ومن حسن الحظ أن ظروف حياته وعمله قد أتاحت له أن يعرف أن هذه الأساليب قد أصبحت متاحة، وأنها يجب أن تطبق على نطاق واسع لخدمة التعليم والأدب العربيين، فمنذ ترك موطنه الأصلي في عام 1826م ارتبط عمله باستخدام المطبعة واعتمد عليها ؛ ففي بداية حياته الوظيفية، كانت الطباعة في البلاد العربية والإسلامية بمنطقة الشرق الأوسط بدعة مشكوكاً فيها، ولكن عند وفاته بعد ذلك بستين عاماً كانت قد أصبحت الأداة الطبيعية والمعترف بها لإنتاج النصوص العربية ونقلها.
وكانت أول مطبعة ارتبط بها الشدياق هي تلك التي كانت تديرها الجمعية التبشيرية للكنيسة الإنجليزية في مالطة، فقد عمل بها ثمانية عشر شهراً من عامي 1827 و1828م مساعداً في تجهيز النصوص الدينية المسيحية – المتمثلة في شرح أمثال المسيح وترجمة بعض المزامير ونظمها لطباعتها وتوزيعها في لبنان ومصر بصفة أساسية، ولكن اعتلال صحته دفعه إلى أن يترك مالطة ويتجه إلى مصر حيث قضى بها سبع سنوات عمل خلالها لفترة قصيرة في أول صحيفة عربية تصدر وهي "الوقائع المصرية" وهكذا كان أحد العرب الأوائل الذين مارسوا مهنة الصحافة إن لم يكن أولهم على الإطلاق.(/15)
وبعد الحديث عن الشدياق يختار جورج عطية لبنان ومصر نموذجين (للكتاب في العالم العربي الحديث) من خلال إدراكه للسمات المشتركة التي أتاحت لهما التفوق على بقية الدول العربية، فقد كان لكل منها اتصال مبكر ومستمر بالغرب، وخلال الحكم العثماني مارسا نوعاً من الحرية بسبب غياب السلطة العثمانية أو تراخيها. ولم تلبث القبضة العثمانية التي بدأت في عام 1516م – في الوقت نفسه تقريباً الذي طبع فيه أول كتاب عربي في فانو بإيطاليا سنة 1514م – لم تلبث أن ضعفت عندما قبض محمد علي (1805-1849م) على زمام الأمور في مصر سنة 1805م، وعندما حصل لبنان على نوع الحكم الذاتي في عهد بشير الثاني (1798-1840م) وقد زادت سلطة هذا الحكم الذاتي في عهد المتصرفية (1864-1914م) ونال اللبنانيون مزيداً من الحرية في تصريف أمورهم.
وفي أواخر القرن التاسع عشر كان في بيروت وغيرها من المدن اللبنانية أكثر من عشرين مطبعة، إضافة إلى المطبعتين الأمريكية والكاثوليكية. وقد أصدرت تلك المطابع عدة ألوف من الكتب في جميع فروع المعرفة البشرية. ومن الناحية الموضوعية شهدت نهاية القرن تفوق العلوم الإنسانية على الموضوعات الدينية، وهو تحول لافت للانتباه، فقد نشرت كتب في المنطق والفلسفة والأدب والعلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافيا، إلى جانب كتب العقيدة والقراءات، والطقوس الدينية والأخلاق، والأدب الشعبي، والأشكال الأدبية الجديدة من قصص ومسرحيات.
وعلى خلاف ما حدث في الدول العربية الأخرى، لم يرتبط نمو صناعة الكتاب وتطور الطباعة في لبنان بالحكومة، وإنما ارتبط بالأفراد والمؤسسات، واستطاع اللبنانيون أن يبدعوا أشكالاً جديدة للحروف، وأن يرتفعوا بمستوى الكتب والطباعة بصفة عامة، وإن لم يتحقق فيها مستوى عالٍ من التكشيف والحواشي، وترتيب المحتويات، وتجنب الأخطاء الطباعية.(/16)
لعل أبرز الأحداث في تاريخ مصر الحديث : الحملة الفرنسية سنة 1798م، وولاية محمد على سنة 1805م، والاحتلال البريطاني، والثورة العرابية سنة 1882م، وثورة 1919م، ومقاومة الاحتلال، وثورة يوليو سنة 1952م، ومعاهدة كامب ديفيد سنة 1979م، وقد كان لكل واحد من هذه الأحداث تأثير كبير على الكتاب في مصر.(/17)
العنوان: الكتلة الإسلامية
رقم المقالة: 1839
صاحب المقالة: أحمد حسن الزيات
-----------------------------------------
الكتلة الإسلامية
إن الجامعة الإسلامية هي الغاية المحتومة التي ستتوافى عندها الأُمَم الإسلامية، في يوم قريب أو بعيد؛ ذلك لأنها النظام السياسيُّ الذي وضعه الله بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}؛ ثم شَرع له الحجَّ مؤتمرًا سنويًّا ليَقْوَى، وجعل له الخلافة رباطًا أبديًّا ليبقى، وهذا النظام الإلهيُّ أجدر النُّظُمِ بكرامة الإنسان؛ لأنه يقوم على الإخاء في الرُّوح، والمُساواة في الحق، والتعاون على الخير، فلا يُفَرِّق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين طبقة وطبقة.
وظَلَّتِ الجامعة الإسلامية في ظلال إمارة المؤمنينَ، وإمارة الحجيج قويَّة شاملة حتى خلافة المتوكّل، ثم وَهَى السِّمْط فانْفَرَط العِقْد، واضطرب اللسان فتَفَرَّقَتِ الكلمة، فلمَّا تبوَّأ التُّرْكُ عرش الخلافة استطاعوا أن يُبْرِمُوا الخيط، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينظموا فيه الحَبَّ؛ فبَقِيَ المسلمون عَبادِيدَ لا يجمعهم نظامٌ ولا تُؤَلِّف بينهم وَحْدة، ثم أدركتِ الشيخوخةُ دولةَ العثمانيينَ في أواخر القرن التاسِعَ عَشَرَ، فتعاوَتْ على جسدها المنحلِّ ذئابُ الغَرْب، فَلَوَّحَ لهم عبدالحميد بالجامعة الإسلامية ذيادًا عن مُلْكِهِ فَهَرُّوا هَريرَ الكلاب المذعورة، وصوَّر لهم هذا الذُّعر أنَّ الجامعة هي التعصُّب وسَفْكُ الدماء، فصدقوا وهْمَهم وكذَّبوا الواقع، واخر الوكان الاستعمار قد توقَّح وفَجَرَ، فنشأتِ العَصَبِيَّةُ الوطنيةُ في الأقطار الإسلامية؛ لدرءِ خطره أو تخفيف ضرره، والوطنية لا تُعارض الجامعة، ولكنها تفارقها في الطريق؛ لتلاقيها عند الغاية.(/1)
إن أوربا التي مزقتها الأطماع، وطَحَنَتْهَا الحروبُ سَتُرَحِّبُ اليومَ بالجامعة الإسلامية؛ لأنها هي وَحْدَهَا التي تملك غَرْس الوِئَام في النفوس، وإقرارَ السلام في العالم؛ إنها تقوم على الإيمان المَحْض، وتنزل في خير مكان من الأرض، وتشمَل مِئَاتِ الملايينِ منَ الناس، وتُهَيْمِن على الموارد الأولى للاقتصاد، وتَدين بالآداب السماوية المُثْلى للاجتِمَاع، وتُشرِق أعمالها في الصفحات العُظْمى منَ التاريخ؛ فمنَ المحال أن تظل نَهْبًا مُقَسَّمًا بين فرنسا الحمقاء، وإنجلترا المتطَفِّلَة، وهولندا الأُنثى!
أما الشبهات التي تطير هنا وهناك حول الكُتْلة الإسلامية فقد طار أمثالها من قبلُ حول جامعة الدولة العربية؛ لأن (إيدن) أوحى بها، وحول الدولةَ الباكستانيةَ؛ لأن (مونتباتن) سعى لها، ثم جَلاَّ الزمن الشكوك، ومَحَّصَ الوعْيُ الحقائق، فذهب إيدن وبَقِيَتْ جامعةُ العرب، واختفى مونتباتن وسَطَعَتْ دولة الإسلام.(/2)
العنوان: الكسوف والخسوف
رقم المقالة: 1359
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد: فإنَّ أحسن الحديث كلام الله – تعالى -، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور مُحْدثاتها، وكُلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالةٌ، وكل ضلالة في النار.
أيُّها النَّاسُ: خلق الله - تعالى - النيِّريْنِ: الشَّمْسَ والقَمَرَ، وسخَّرَهُمَا لِلعِبادِ، وجعل فيهما مِنَ المَنافِعِ والمصالح لأهل الأرض، ومَنْ عليها ما لا يقدر قدره إلا الله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5].(/1)
آيَتَانِ عَظِيمَتَانِ، وبُرْهانانِ كبيرانِ على قُدْرَةِ الخالِق - سبحانه -، وعلى عظيم إفضاله وإنعامه على عباده: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61].
إنَّهُما بِأَمْرِ الله - تَعالَى - وتقديرِه كانا سَبَبَ اللَّيْلِ والنَّهار، والنور والظلام، وانتظام الحياة، وعمارة الأرض، وفي اختلالهما اختلال الحياة، وفساد النظام، وذلك يكون حين يأذن الله - تعالى - بانتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة الآخرة، حينها تكور الشمس، ويخسف القمر: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التَّكوير: 1]، وقال - سبحانه -: {وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالقَمَرُ} [القيامة: 8 – 9].
وفي الحياة الدنيا، يحصل كسوف الشمس وخسوف القمر؛ تخويفًا للعباد وتذكيرًا، حتى يؤبوا إلى الله - تعالى - ويتوبوا، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الشمس والقمر لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحدٍ مِنَ النَّاس؛ ولكنَّهُما آيَتَانِ من آيات الله فإذا رأيتُمُوهُما فَقُوموا فصلُّوا))؛ متفق عليه[1].(/2)
فحصول الكسوف والخسوف فيه تخويف للعباد، وتذكير لهم في حال غفلتهم، والأمم السالفة عُذِّبَتْ بأنواع من العذاب الذي أرسل عليهم من السماء؛ كالغرق والريح والصيحة ونحوها، والعالم يسير بانتظام، فالشمس لها وقت شروق ووقت غروب لا تتخلف عنه، ويصدر منها إشعاع ينفع الأرض ومن عليها، والقمر له منازل مقدرة في بداية الشهر وانتصافه ونهايته، لا يتخلف عن شيء منها، وله نور جميل عند اكتماله في منتصف الشهر؛ فإذا ما ذهب إشعاع الشمس، ونور القمر أو بعضهما؛ كان هذا علامة على اختلال انتظامهما المعتاد، فيخاف العباد أن يكون ذلك بداية عذاب، وهذا من تخويف الله - تعالى - للعباد بهذين النيرين.
وما في الشمس والقمر من المنافع العظيمة يجعل أهل الأرض محتاجين إليهما، فلما يختل نظامهما؛ فتكسف الشمس أو يخسف القمر يخاف العباد من ذهاب ما ينتفعون به من نورهما.
ومن التخويف بالكسوف والخسوف أيضًا: أن اختلالَ النَّيِّرَيْنِ بِالكُسُوفِ والخُسُوفِ مُذَكِّر بيوم القيامة، وما يجري فيه من اختلالهما، وذهاب نورهما؛ إيذانًا بانتهاء العالم الدنيوي؛ فيخاف العباد عند حدوث ذلك من نهاية الدنيا، أو يتذكرون يوم القيامة فيُحْدِثُ الكسوفُ والخسوفُ خوفًا منه.
قال الخطَّابي - رحمه الله تعالى -: "كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغيُّرٍ في الأرض من موت أو ضرر، فأَعْلَمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتقادٌ باطل، وأن الشمس والقمر خَلْقان مُسَخَّرانِ لله – تعالى -، ليس لهما سلطانٌ في غيرهما، ولا قدرةٌ على الدفع عن أنفسهما"[2] ·(/3)
إذًا فالنيران ينكسفان تخويفًا للعباد، والتخويف إنما يكون بوجود سبب الخوف، فعُلم أن كسوفهما قد يكون سببًا لأمر مخوف، والله - تعالى - يخوف عبادَهُ بآياته: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] فعلم أن هذه الآيات السماوية قد تكون سبب عذاب؛ ولهذا شرع للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند وجود سبب الخوف ما يدفعه من الأعمال الصالحة[3].
وليس ذلك يمنع معرِفَةَ وَقْتِ حُدوثِ الكُسوفِ من قِبَلِ أَهْلِ الهَيْئَةِ والفَلَكِ بما يعملونه من حساباتٍ، يُعرف بِها وقت حدوثه ومدته، ووقت انجلائه، وهذا ما قرَّرَهُ شَيْخُ الإسلامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رحمه الله تعالى- بقوله: "فإذا كان الكسوف له أجلٌ مُسَمًّى لم يناف ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله - تعالى - سببًا لما يقتضيه من عذابٍ وغيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت، أو لغيره ممن يُنْزِلُ الله به ذلك. كما أنَّ تعذيبَ الله -تعالى - لِمَنْ عذَّبَهُ بِالريح الشديدة الباردة؛ كَقَوْمِ عادٍ كانتْ في الوَقْتِ المُناسِبِ، وهو آخر الشتاء"[4].
وقال ابن دقيق العيد: "ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [ الزمر: 16]وليس بشيء؛ لأن لله - تعالى - أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها من بعض. وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله - تعالى - لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف؛ لقوة ذلك الاعتقاد؛ وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب حقًّا في نفس الأمر، لا ينافي كون ذلك مخوفًا لعباد الله - تعالى -"[5]·(/4)
وعليه فإن معرفة وقت الكسوف والخسوف ليس من الغيب؛ بل يُدرك بالحساب، "وكما أن العادة التي أجراها الله – تعالى -: "أن الهِلال لا يستهل إلا ليلة ثلاثين من الشهر أو ليلة إحدى وثلاثين، فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار، وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار، وللشمس والقمر ليالي معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف، كما أنَّ من علم كم مضى من الشهر يعلم أنَّ الهلال لا يطلع في الليلة الفُلانية أو التي قبلها، لكن العلم بالعادة في الهِلال علم عامٌّ يشترك فيه جميع الناس، وأما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف، فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما، وليس خبر الحاسب بذلك من علم الغيب.
وأما تصديق المخبر بذلك وتكذيبه فلا يجوز أن يصدق إلا أن يُعلم صدقه، ولا يكذب إلا أن يعلم كذبه... والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكنًا لكن المخبر قد يكون عالمًا بذلك وقد لا يكون، وقد يكون ثقة في خبره وقد لا يكون... ولكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون، ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علمٌ شرعي؛ فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تُصَلَّى إلا إذا شاهدنا ذلك، وإذا جوَّز الإنسانُ صِدْقَ المخبر بذلك، أو غلب على ظنه فنوى أن يُصَلِّيَ الكسوف والخُسوف عند ذلك، واستعدَّ ذلك الوقتَ لِرُؤْيَةِ ذلك كان هذا حثًّا من بابِ المُسَارَعَةِ إلى طاعة الله تعالى وعبادَتِه؛ فإنَّ الصلاةَ عند الكسوف متفق عليها بين المسلمين، وقد تواترت بها السُّنَنُ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم –" ا. هـ مُلَخَّصًا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -[6].(/5)
ومما يلاحظ ـ أيها الإخوة ـ أن العلم بوقت حدوث الكسوف والخسوف هوَّن وقعه على النفوس، حتى صار أكثر الناس يَشْتَغِلُ بالفرجة على الكسوف، ووقت بدايته وانجلائه عن الخوف من الله - تعالى -، والفزع إلى الصلاة والذكر، والدعاء والاستغفار، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما كسفت الشمس خاف، وفزع إلى الله تعالى بالصلاة.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام قيامًا طويلاً نحوًا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلاً، ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلّت الشمس فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله))، قالوا: يا رسول الله: "رأيناك تناولت شيئًا من مقامك، ثم رأيناك كعكعت"، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني رأيت الجنة فتناولت عنقودًا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرًا كاليوم قط أفظع...))؛ متفق عليه[7].
وفي حديث آخر أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل يبكي في سجوده وينفخ ويقول: ((رب لم تعدني هذا وأنا أستغفرك، لم تعدني هذا وأنا فيهم))[8].
ألا فاتقوا الله ربكم، واعتبروا بالآيات والنذر، واحذروا الذنوب والغفلة، وإذا رأيتم آيات الله - تعالى - في الشمس والقمر بالكسوف والخسوف، فاهرعوا إلى الصلاة، وأكثروا الدعاء والاستغفار.(/6)
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين -.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - بفعل ما أمر، واجتنبوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر، واعلموا أن الله مع المتقين.
أيها الناس: ظاهرة كسوف الشمس وخسوف القمر وإن كانت ظاهرة فَلَكِيَّة تعرف بالحساب في وقت الابتداء والانجلاء، إلا أنه يجب أن لا يكون العلم بها سببًا لذهاب هيبتها من النفوس؛ بل الواجِبُ على المسلم أن يخاف من كل تغيُّر في الظواهر الفَلَكِيَّة، خشية أن يكون عذابًا؛ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم – يفعل.
فقد ذكرت عائشة - رضي الله عنها - أنه - عليه الصلاة والسلام -: "كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عرف في وجهه، قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيتَهُ عُرِفَ في وَجْهِكَ الكَرَاهِيَةُ، فقال: يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ عُذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]؛ رواه الشيخان[9].
وقد جاء في أحاديثَ كثيرةٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالفزع إلى الصلاة، وذكر الله - تعالى -، ودعائه واستغفاره، وذلك عند رؤية الكسوف أو الخسوف.(/7)
كما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة))؛ متفق عليه[10].
وفي رواية: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا، وصلوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا))[11].
قال الطيبي: "لما أُمروا باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي، التي هي من أسباب جلب البلاء، وخص منها الزنى لأنه أعظمها في ذلك"[12].
وإذا انتهى المصلون من صلاة الكسوف ولما ينجل بعد فعليهم بذكر الله - تعالى - حتَّى ينجليَ؛ لما رَوَتْ عائشة - رضي الله عنها - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((فإذا رأيتم كسوفًا فاذكروا الله حتى ينجليا))؛ رواه مسلم[13].
ولم يأمر - عليه الصلاة والسلام - بالانشغال برصد هذه الظاهرة، ومشاهدتها، ومتابعة بدء الكسوف وانجلائه عن الصلاة والذكر والاستغفار؛ كما هو واقع كثير من الناس الذين حولوا آيات التخويف، وأمارات العذاب إلى ما يشبه مواسم الفرح والعيد والفُرْجَة.
فالواجب على المسلمين أن يهرعوا عند الكسوف إلى الصلاة، ويكثروا من الاستغفار والصدقة والذكر حتى ينجلي، ولا يكون شأنهم شأن ضُلال أهل الأرض من الكفار ومن تبعهم في طريقتهم؛ إذ يشتغلون عن ذلك بما لا يدفع عذابًا، ولا يجلب رحمة، نسأل الله الهداية والعافية.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله؛ كما أمركم ربكم بذلك.
---
[1] أخرجه البخاري في الكسوف؛ باب الصلاة في كسوف الشمس (1041)، ومسلم في الكسوف باب ذكر النداء بصلاة الكسوف (911) من حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -.
[2] إعلام الحديث (1/60)، وهو كلام طويل واختصره الحافظ في "الفتح" (2/613).(/8)
[3] "فتاوى شيخ الإسلام" ابن تيمية (25/191).
[4] "فتاوى شيخ الإسلام" (35/176).
[5] "فتح الباري" (2/625)، وانظر: "فتاوى شيخ الإسلام" (24/259).
[6] "فتاوى شيخ الإسلام" (24/255 ـ 258).
[7] أخرجه البخاري في الكسوف باب صلاة الكسوف جماعة (1052)، ومسلم في صلاة الكسوف باب ما عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - (907 ـ 908 ـ 909)، وأبو داود في الصلاة باب من قال صلاة الكسوف أربع (1181 ـ 1183)، والترمذي في الصلاة باب ما جاء في صلاة الكسوف (560)، والنسائي في الكسوف باب القراءة في صلاة الكسوف (3/146).
[8] أخرجه النسائي في الكسوف باب القول في السجود في صلا الكسوف (3/149)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1401 ـ 1407)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
[9] أخرجه البخاري في التفسير، سورة الأحقاف، باب قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الأحقاف: 24]، ومسلم في الكسوف باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، والفرح بالمطر (899).
[10] أخرجه البخاري في الكسوف باب لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته (1058)، ومسلم في الكسوف باب صلاة الكسوف (901).
[11] هذه الرواية للبخاري في الكسوف باب الصدقة في الكسوف (1044).
[12] "فتح الباري" لابن حجر (2/617).
[13] أخرجه مسلم في الكسوف باب صلاة الكسوف (901).(/9)
العنوان: الكلمة الطيبة
رقم المقالة: 1343
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
الكلمةُ الطيبةُ جوازُ سفر إلى القلوب، يهَشُّ لها السمع، وتُسر بها النفسُ، وينشرح لها القلب، فتُبقي فيه أثرَها الطيب، وتنشر فيه أريجها الفواح، وتوتي أكلها كل حين؛ توثيقَ أواصر، وتقويةَ روابط، وتعزيزَ وشائج، ونشرَ وئام. ورضوانٌ من الله أكبر.
وهي شجرة وارفة الظلال، مثمرة يانعة، ضربت في باطن الأرض جذورَها، وتمددت في الآفاق أغصانها وفروعها؛ قال الله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} [إبراهيم: 24-25].
وبالكلمة الطيبة تنال مطالب الآخرة فهي أسهل طريق لجني الحسنات، ورفع الدرجات، وحط السيئات، ودخول الجنات؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والكلمة الطيبة صدقة)[1].
فبالكلمة الطيبة تحصل الرغبات كلها، فكم قربت بعيداً، ويسرت صعباً، وذللت عسيراً، وفتحت أبواباً، وعبدت طرقاً، وهيأت أسباباً، وبلغت غايات لا تبلغ إلا بشق الأنفس.
تنساب انسياب الهواء، فتعطر الأرجاء، وتطيب الأنحاء، وتلطف الأجواء، وتصعد إلى السماء، تجاوز السحب، وتشق الحجب، مشتاقة لربها، وإليه مستقرها ومستودعها؛ قال الله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10].
يسيرة على المتقين، فقد نشرت في بحورهم شراعها، وألقت عليهم رياحها، فطابت بها صدورهم.
والكلمة الخبيثة بعكس ذلك، تمجها الآذان، ويظلم منها الوجدان، وتورد النيران، وتفرق الإخوان، كم أغلقت باباً، ووضعت حجاباً، وقطعت أسباباً، وفرقت أحباباً، وأسخطت الخالق، وأوردت المهالك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)[2].(/1)
والكلمة الخبيثة كشجرة خبيثة، قريبة جذورها، قصيرة فروعها، مُرة ثمارُها، قد بلغ بها السُّوسُ كلَّ مبلغ؛ فلا تنتفع برِي ولا سَماد، كالوتد والحجر لا حياة فيهما؛ رآها صاحب البستان على ذلك الحال فاجتثها فهوت في النار تستعر، قال الله تعالى في شانها: {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} [إبراهيم: 26].
وعوداً إلى الكلمة الطيبة مبدأ الحديث، فقد حدث أن وجّه لنا الأخُ الشريف المقيم بالجزيرة من أقاليم السودان، دعوةً بمناسبة زواج أخيه، فبلغتنا وقد اكتنفها الخطأ، فأخلفنا موعده بغير ملكنا، وجئنا تالي يوم السعد، فما إن رآنا حتى هش وبش، وأقبل علينا مرحبا، ولم يلبث أن جاء بكبش حنيذ فقربه إلى ضيوفه، وعبارات الترحيب تنبعث من لسانه فيفوح أريجها معطراً القرية الخضراء.
وأكثرَ أخونا الشريف من الأسف إذ لم نحضر يوم الفرح لخطأ مُبلِغنا، فكانت إجابتنا الدعوة قضاء لا أداء، فمازحه أحدُنا قائلاً: حق لك الأسف فالخرفان ليست رخيصة هذه الأيام، يعني بهذا أن أسف الشريف على ذبيحته لا على تأخرنا عن العرس، فلم يشرق الشريف بهذا المزاح الثقيل، وأجاب بتلقائية قائلاً: لو أتيتم يوم العرس فالذيبحة الخاصة بكم واجب عليّ، وإنما أردت أن يراكم المدعوون ليعرفوا بأي صحبةٍ صالحة أنعَم.
لقد لامست عباراتُه تلك وجدانَ كل واحد منا، وتقاصر أخونا المازح خجِلاً، ولم يجد كفارة لمزحته إلا عبارات ثناء ودعاء.
إن الشريف لم يكن شاعراً منطيقاً، ولا خطيباً بليغاً، ولم ينل تعليماً نظامياً متقدماً، لكنه لم يُحرم إحساساً مرهفاً، وتعاملاً راقياً، ومنطقاً حسناً، وقد يُحرم ذلك أربابُ الشهادات ومرتادو الجامعات.(/2)
ولم أكد أسمع تلك العبارة -التي تحاكي النسيم رقةً- حتى وجدت لساني قد أتى على خبر نعيم بن عبد الله النحام، القرشي العدَوِي، وإنما سمى النحام لأنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: دخلتُ الجنة فسمعت نَحمَةً من نعيم فيها، والنحمة السّعلة، وقيل النَّحنَحة، فسمي النحام بذلك، كان قديم الإسلام يقال: إنه أسلم بعد عشرة أنفس قبل إسلام عمر، وكان يكتم إسلامه ومنعه قومه لشرفه فيهم من الهجرة؛ لأنه كان ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم ويمونهم فقالوا: أقِم عندنا على أيّ دينٍ شِئتَ وأقم في ربعك واكفِنا ما أنت كافٍ من أمور أهلنا، فوالله لا يتعرض أحدٌ إليك إلا ذهبَت أنفسنا جميعاً[3].
والشاهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له لما قدم عليه: "قومك يا نعيم كانوا خيرا لك من قومي لي"، قال: بل قومك خير يا رسول الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قومي أخرجوني وأقرك قومك... فقال نعيم: يا رسول الله قومك أخرجوك إلى الهجرة، وقومي حبسوني عنها"[4].
لقد كانت الكلمة الطيبة التي خرجت من شفتي هذا الصحابي غاية في الأدب واللباقة، وكان رده الموفَّق عنواناً على حسن سمته، ودماثة خلقه، وجميل خصاله، ومما علم أن التشبه بالصلاح فلاح، فليتنا نقتدي به.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري، 3/1090، (2827)، ومسلم، 2/699، (1009).
[2] رواه البخاري، 5/2377، (6113).
[3] الاستيعاب، 1/476.
[4] المصدر السابق.(/3)
العنوان: الكون يستقبل رمضان فاستقبلوه
رقم المقالة: 1249
صاحب المقالة: علي محمد محمد ونيس
-----------------------------------------
عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: ((إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ.))
إن المخلوقات عند قدوم الشهر تتغير أحوالها، وتتبدل طبيعتها، فذاك الشيطان يعجز عن كثير من طرق الإغواء، وسبل الإضلال، وهذه الجنة تتجمل بحُللها، وتلك النار تغلق أبوابها، تغير الجميع إلى ما غلب من صفات الله تعالى، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي.))
أفلا تتغير أيها المسكين؛ لتكون أهلاً لرحمة رب العالمين، إذا كان حالك بعد استسلام الشيطان، وفتح الجنان وغلق النيران، لا يتغير! فهيهات أن يكون لك من الخير بعد ذلك نصيب.
والمعنى أن الشياطين لا يخلصون فيه في إفساد الناس إلى ما يخلصون إليه في غيره، لاشتغال أكثر المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات، والله أعلم.
أو تصفد حقيقة تعظيمًا للشهر، ولا ينافيه وقوع الشرور فيه؛ لأنها إنما تغل عن الصائم حقيقة بشروطه، أو عن كل صائم والشر من جهات أخر كالنفس الخبيثة، أو المقيد هو المتمرد منهم فيقع الشر من غيره.
قوله ( تفتح فيه أبواب الجنة) أي أبواب أسبابها، مجاز عن كثرة الطاعة ووجوه البر، وهو كناية عن نزول الرحمة وعموم المغفرة، فإن الباب إذا فتح يخرج ما فيه متواليًا، أو هو حقيقة، وإن مَن مات من المؤمنين برمضان يكون من أهلها، ويأتيه من روحها فرق من يموت في غيره، وكذا القول في غلق أبواب النيران.(/1)
فكيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين؟! من أين يشبه هذا الزمان الزمان؟! و في حديث آخر: ((أَتَاكُمْ رَمَضَانُ سَيِّدُ الشُّهُورِ)) فمرحبًا به و أهلاً، جاء شهر الصيام بالبركات فأكرم به من زائر هو آت.
قال معلى بن الفضل: "كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم."
و قال يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم: "اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً."
بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فرؤي في المنام سابقًا لهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَلَيْسَ صَلَّى بَعْدَهُمَا كَذَا وَكَذَا صَلاَةٍ، وَأَدْرَكَ رَمضَانَ فَصَامَهُ؟!، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ بَيْنَهُمَا لَأَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.))؛ خرجه الإمام أحمد وغيره.
مَن رُحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.
أَتَى رَمَضَانُ مَزْرَعَةُ العِبَادِ لِتَطْهِيرِ القُلُوبِ مِنَ الفَسَادِ
فَأَدِّ حُقُوقَهُ قَوْلاً وَفِعْلاً وَزَادَكَ فَاتَّخِذْهُ لِلْمَعَادِ
فَمَنْ زَرَعَ الحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا تَأَوَّهَ نَادِمًا يَوْمَ الحَصَادِ
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة! يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة! من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟ من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح!(/2)
فبادر بالعمل الصلح في رمضان قبل أن ينصرم دون أمل في تَكرار اللقاء، فكم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله! فصار قبله إلى ظلمة القبر، كم من مستقبل يومًا لا يستكمله، ومؤمل غدًا لا يدركه، إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره؛ لأبغضتم الأمل وغروره.
كم ينادي حي على الفلاح وأنت خاسر! كم تُدعَى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر! فيا أيها الغافل إلى متى؟
إِذَا رَمَضَانُ أَتَى مُقْبِلاً فَأَقْبِلْ فَبِالْخَيْرِ يُسْتَقْبَلُ
لَعَلَّكَ تُخْطِئُهُ قَابَلاً وَتَأْتِي بِعُذْرٍ فَلاَ يُقْبَلُ
هذا - عباد الله - شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع، و هذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع وهو القرآن، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع ولا عين تدمع، و لا صيام يصان عن الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع. قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع.
كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة! وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة! لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة؟! وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أفما لنا فيهم أسوة؟!!!
كما بيننا وبين حال الصفا أبعد مما بيننا وبين الصفا والمروة، كلما حسنت منا الأقوال ساءت الأعمال، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله.
يَا نَفْسُ فَازَ الصَّالِحُونَ بِالتُّقَى وَأَبْصَرُوا الَحَقَّ وَقَلْبِي قَدِ عَمِي
يَا حُسْنَهُمْ وَاللَّيْلُ قَدْ جَنَّهُمُ وَنُورُهُمْ يَفُوقُ نُورَ الأَنْجُمِ
تَرَنَّمُوا بِالذِّكْرِ فِي لَيْلِهِمُ فَعَيْشُهُمْ قَدْ طَابَ بِالتَّرَنُّمِ(/3)
قُلُوبُهُمْ لِلذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغَتْ دُمُوعُهُمْ كَلُؤْلُؤٍ مُنْتَظِمِ
أَسْحَارُهُمْ بِهِمْ لَهُمْ قَدْ أَشْرَقَتْ وَخُلَعُ الغُفْرَانِ خَيْرُ القَسَمِ
وَيْحَكِ يَا نَفْسُ أَلاَ تَيَقُّظٌ يَنْفَعُ قَبْلَ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي
مَضَى الزَّمَانُ فِي تَوَانٍ وهوى فَاسْتَدْرِكِي مَا قَدْ بَقِي وَاغْتَنِمِي
موعظة لعمر بن عبدالعزيز في مبادرة الأجل بالأعمال:
خطب عمر بن عبدالعزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها: "إنكم لم تخلقوا عبثًا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادًا ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيتركها بعدكم الباقون كذلك، حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله فتودعونه، وتدعونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنيًّا عما خلَّف، فقيرًا إلى ما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته، وإني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه"، ثم رفع طرف ردائه وبكى حتى شهق، ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه.(/4)
العنوان: اللاجئون الأفغان.. مأساة إنسانية أفرزتها الحرب
رقم المقالة: 1050
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
اللاجئون الأفغان.. مأساة إنسانية أفرزتها 25 عاما من الحرب
• أمريكا قامت بدور كبير في تدمير الشعب الأفغاني وإفقاره وتشريده، وتتجاهل اليوم مأساته.
• 7.5 مليون لاجئ أفغاني تمتد مأساتُهم إلى ما يقرب من ربع قرن بسبب ويلات الحروب والمنازعات الداخلية.
• عودتهم إلى بلادهم تحتاج إلى سنوات طويلة من البناء وإعادة الإعمار وإصلاح ما دمرته الحرب.
* * * *
منذ ما يزيد عن ربع قرن بدأت معاناةُ الشعب الأفغاني المسلم، بعد الاحتلال السوفيتي لبلاده أملا في الوصول إلي مياه الخليج الدافئة وخزائن النفط . وعبر العقدين الماضيين لم ينعم هذا الشعبُ بالراحة، وبدأ يخرج من حرب إلى حرب، حتى انتهت به ويلاتُ هذه الحروب الداخلية والخارجية إلى أن أصبح من أبأس شعوب العالم وأكثرها معاناة وفقرا وعدمَ استقرارٍ.
وقد خلّفت هذه الحروب المتوالية 7.5 مليون لاجئ أفغاني دفعتهم الحربُ تلو الأخرى إلى الهرب مرة من الغزو السوفيتي، ومرة من معارك أمراء الحرب، ثم جاءت الحرب الأمريكية الأخيرة لتدمر مقدرات هذا الشعب، وتخلف المزيد من اللاجئين الذين نزحوا إلى الدول المجاورة خوفا من الحرب الأمريكية التي أكلت الأخضر واليابس.(/1)
وقد بدأت مشكلة اللاجئين الأفغان تلوح في الأفق، كأول أزمة تخلقها الحرب الأمريكية على أفغانستان، إذ حذرت الأمم المتحدة عقب الحرب مباشرة من أن أكثر من 7 مليون أفغاني يواجهون الخطر، وأصدرت إحصائية عن اللاجئين الأفغان، أوضحت فيها أن هناك حوالي ثلاثة ملايين وسبع مئة ألف أفغاني يعيشون لاجئين في البلدان المجاورة لأفغانستان، وخاصة باكستان وإيران. وقالت الإحصائية: إنه خلال المدة من 11 من سبتمبر 2001م وحتي نشوب الحرب الأمريكية، كانت هناك تحركاتٌ جديدة لعدد من الأفغان شملت نحو 1.5 مليون أفغاني تدفقوا على الحدود مع البلدان المجاورة لأفغانستان، خاصة باكستان وإيران. وهو ما يزيد الضغط على معسكرات اللاجئين التي تكتظ بنحو مليوني نسمة، بينما اتجه آخرون إلى الجبال خشية قدوم الجنود الأمريكيين، وفي الوقت نفسه توجه عدد آخر من الأفغانيين إلى مناطق المعارضة التي تخرج عن سيطرة طالبان والواقعة في الشمال الشرقي للبلاد، كما كان هناك تحركات لعدد من الأفغان داخل أفغانستان، وهو ما يعرف بالنزوح الداخلي، وقدرتهم بحوالي 100 ألف أفغاني.
• هرب 2.5 مليون لاجئ:
وقد أشارت بيانات منظمة مراقبة حقوق الإنسان إلي أن عدد اللاجئين الأفغان قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001م بلغ 4 ملايين لاجئ موجودين في باكستان وإيران، في حين أدت الحرب الأمريكية إلي هرب مليونين ونصف المليون من اللاجئين.
وفي نهاية 2002م توزع اللاجئون الأفغان بين معظم دول العالم، لكنهم تركزوا أكثر بين 15 دولة علي رأسها باكستان وإيران والحدود مع طاجيكستان، وحدود أوزبكستان، وهناك نحو 15 ألفا في الهند ، في حين تحتضن ألمانيا نحو 20 ألفا آخرين.(/2)
ومع استمرار تدفق موجات الأفغان الهاربين اضطُرت باكستان وإيران وقتها إلي إغلاق حدودهما لعدم قدرتهما علي استيعاب كل الأعداد الراغبة في اللجوء إليهما، ونشأت أكبر مشكلة من نوعها تهدد اللاجئين الذين لا يستطيعون العودة إلى بلادهم . ولا تقبلهم دول الجوار بسبب مخاوف أمنية رأت منظمة مراقبة حقوق الإنسان الدولية أنها مشروعة .
لذلك جاء التشدد من قبل باكستان التي تركت اللاجئين الأفغان الجدد في منطقة جالوزي الحدودية ، في حين رفضت إيران المساعي الرامية لإقامة مخيمات في إقليم خراسان شمالي شرقي أفغانستان لاستقبال اللاجئين الأفغان.
• مأساة قديمة:
ومأساة اللاجئين الأفغان ليست وليدة سنوات الحرب الأخيرة، بل تمتد لسنوات طويلة مضت، منذ الغزو الروسي لأفغانستان عام 1979م، وما تعرضت له البلاد بعد خروج الروس من حرب أهلية بين فصائل المجاهدين ما زالت مستمرة حتى اليوم، وقد وصل تَعداد اللاجئين الأفغان في العالم عام 1999م إلى ما يزيد عن 6.3 مليون لاجئ، وهناك 165 ألف أسرة أفغانية تعيش في 17 مخيما في مناطق وادي بنجشير، يتجرعون مرارات العذاب والضنك والشقاء، في حين تعاني 25 ألف أسرة أخرى في 7 مخيمات أجبروا على مغادرة مدينة تخار، ويكابدون المشاق في سبيل الحصول على أيسر مقومات الحياة، ويمرون بظروف قاسية وهم في أمس الحاجة إلى المواد الغذائية والكساء والخدمات الصحية وغيرها، خصوصا وأن بينهم أطفالا ونساء وشيوخا يئنون من فرط المرض والجوع.(/3)
وقد أعلنت حكومة باكستان عقب الحرب الأمريكية أنها ستعيد اللاجئين الأفغان الذين دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية وشكلت مئة فرقة للتدقيق في أوضاع اللاجئين، خاصة بعد تزايد تدفق اللاجئين الأفغان على باكستان بسبب الحرب والجفاف. ويعيش في باكستان مليون لاجئ أفغاني في مخيمات مزدحمة، وأصبح الناس يموتون فيها بسبب الأمراض وعدم توفر مجاري الصرف الصحي والنظافة والمياه، وهناك كثير من اللاجئين يعيشون في مخيمات داخل أفغانستان تحت إشراف الأمم المتحدة، وحكومة باكستان الحالية لا تملك القدرة على مواجهة حاجات الأعداد الضخمة من اللاجئين.
كما أن الولايات المتحدة التي كانت شديدة الحماسة لتمويل وتسليح الجهاد الأفغاني والدعاية له من قبل الحرب الجديدة التي خاضتها ضد أفغانستان، أصبحت تتجاهل في مأساة الشعب الأفغاني الفقير، الذي قامت بدور كبير في تدميره وإفقاره وتشريده، بعد أن انتهت من استخدامه وسيلة للانتقام من الاتحاد السوفيتي السابق لهزيمتها في حرب فيتنام، وضمن الصراع بين القوى الكبرى آنذاك. وها هي ذي مؤخرا مارست وتمارس ضده حربَ إبادة بالطائرات والصواريخ والقذائف التي يذهب ضحيتها آلافُ المدنيين الأبرياء.
• تعامل غير وُدي:
وقد أعربت المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة عن أسفها للتعامل غير الودي عموما الذي يصل أحيانا إلى حد العدائية مع اللاجئين الأفغان، وأشارت إلى أنهم يكوّنون حاليا أكبر مجموعة من اللاجئين في العالم. وقال الناطق باسم المفوضية في جنيف "إن التعامل غير الودي هذا الذي يصل أحيانا إلى حد العدائية حيالَهم لا يلاحَظ في الدول المجاورة لأفغانستان فحسب، بل كذلك في أماكن أخرى من العالم، وذكر أن وضع اللاجئين الأفغان أسوأ منه في أي وقت مضى.(/4)
وكان اللاجئون الأفغان قد توجهوا في السنوات الأخيرة إلى دول مختلفة مثل أستراليا وكمبوديا وكوبا وأيسلندا، وتضاعف عددهم بصورة خاصة في أوروبا خلال سنتين فارتفع من 18.300 في عشرين دولة أوروبية عام 1998م إلى 34 ألف عام 2000م.
وقال الناطق باسم المفوضية: "إنه لسوء الحظ حين يصل الأفغان - كالكثير من طالبي اللجوء إلى دول صناعية - يواجهون إجراءات استبعاد متزايدة". وأوضح أنهم يوضعون في بعض الدول في مراكز اعتقال، في حين يرفضهم المجتمعُ في دول أخرى وكأنهم منبوذون. كما أن الدول الخمس المجاورة لأفغانستان، أغلقت حدودها في وجه اللاجئين.
• الوضع الحالي للاجئين:
واذا نظرنا إلى الوضع الحالي للاجئين الأفغان بعد الحرب الأخيرة - وطبقا لإحصائيات مفوضية شؤون اللاجئين نجده يشمل:
- 2 مليون لاجئ أفغاني في باكستان.
- مليون ونصف لاجئ في إيران.
- نحو مليون نازح مشتتين داخل أفغانستان.
- 1.5 مليون لاجئ أفغاني على الحدود.
- 34 ألف لاجئ في عشرين دولة أوروبية.
فمع نشوب الحرب الأمريكية ضد أفغانستان، تفاقمت أزمة مئات الآلاف من اللاجئين الأفغان الذين يعيشون أوضاعا مأساوية على الحدود الباكستانية مع استمرار سلطات إسلام أباد بإغلاق حدودها أمامهم، ودعت المفوضية العليا للاجئين إلى تقديم مساعدات عاجلة تصل إلى نحو ربع مليار دولار لمواجهة أزمة النازحين، وتتوقع الأمم المتحدة أن يرتفع عدد الأفغان المشردين داخل أفغانستان بسبب الحرب والجفاف المتفاقم إلى نحو 2.2 مليون شخص.
ويقدر مكتب المساعدة الإنسانية لأفغانستان التابع للأمم المتحدة عدد الأفغان الذين يحتاجون إلى مساعدات بنحو 7.5 ملايين شخص، وحذر المكتب من وقوع كارثة إنسانية حقيقية إذا لم تتوفر مساعدات عاجلة تنجي الحياة.(/5)
وتقدر منظمة الصحة العالمية معدل وَفَيَات الأطفال الرضع بين اللاجئين بحوالي 152 وفاة لكل 1000 ولادة حية، ومعدل وفيات الأمهات بحوالي 820 وفاة لكل 100.000 ولادة حية، ومعدل وفيات الأطفال ما دون الخامسة بحوالي 257 لكل 1000 ولادة حية.
وبينت منظمة الصحة العالمية في نشرتها أن هناك انتشارا لأمراض السل والملاريا والكوليرا والهزال الشديد، تعوقُ النمو الطبيعي في أوساط الشعب الأفغاني.
• 600 مليون دولار:
وبرغم صعوبة الأزمة في ظل وجود أكثر من 6.5 مليون لاجئ أفغاني فإن جهود المنظمات الدولية لا تتوقف عن محاولة توفير الحد الأدنى للحياة للاجئين في دول اللجوء أو حتى في إعادة توطين من يجري إعادتهم، وفي هذا السياق خاطبت المفوضية الدولية لشئون اللاجئين كل دول العالم لتوفير معونات عاجلة تصل إلي 600 مليون دولار لمساعدتها في برامجها لإعاشة اللاجئين الأفغان في حين تعمل منظمات أخرى علي إعادة توطين الأفغان، مثل منظمة الهجرة الدولية التي أعلنت عن برنامج لإعادة الأفغان المؤهلين إلي بلادهم وهو البرنامج الذي نجح في إعادة بعض الآلاف، لكن الرقم يبقي متواضعا جدا أمام حجم المأساة وملايين المشردين الذين لم يلتفت إليهم أحد.
• فرص العودة:(/6)
وفرص العودة اليوم أمام اللاجئين الأفغان تواجهها العديد من العقبات، فليس من السهل لأناس نزحوا على مدى ربع قرن من الحرب، واستقر عدد كبير منهم في مخيمات اللاجئين بباكستان وإيران وغيرها من الدول المجاورة أن يعودوا إلى بلادهم، التي حطمتها الحروب ودمرت بنيتها الفوقية والتحتية، وخلفت ملايين الألغام في كل بقعة منها، هذا إلى جانب عدم استقرار الأوضاع حتى اليوم في أفغانستان. وفي ظل هذه الأوضاع المتردية هناك والصراعات المتشابكة يواجه اللاجئون كثيرا من المتاعب في التكيف مع الوضع في أفغانستان، وقد ذكرت وكالة اللاجئين الدولية أنه عاد إلى أفغانستان حوالي 200 ألف من اللاجئين الأفغان من باكستان وإيران منذ مدة، ويجد اللاجئون العائدون بلادَهم مدمرة بسبب القتال الذي أدى أيضا إلى نقص في المساكن وفرص العمل والطعام، يضاف إلى ذلك عدم استقرار الوضع الأمني، وأعمال العنف المتزايدة في بعض أنحاء البلاد تهدد عمليات تقديم المعونات الإنسانية وإعادة الإعمار.
ولحل جزء ولو يسير من مشكلة اللاجئين وقّعت إيران وأفغانستان في المدة الأخيرة اتفاقية لإعادة توطين اللاجئين الأفغان في إيران.. ولكن برغم ذلك تظل المشكلة التي خلفتها 25 عاما من الحروب والصراعات قائمة، إذ يتفرق اللاجئون الأفغان بين الكثير من الدول، وعودتهم إلى بلادهم تحتاج إلى سنوات طويلة من البناء وإعادة الاعمار وإصلاح ما دمرته الحرب.
إنها مأساة حقيقية مؤلمة يعيشها الشعب الأفغاني المسلم اليوم في الداخل والخارج، ولابد أن يتحرك المسلمون لإغاثة هذا الشعب، وتخفيف وطأة الحصار والجوع وحرب الإبادة التي يتعرض لها بسبب سياسات بعض أفراده التي أوقعت الشعب الفقير البائس في مشكلات لا حصر لها.(/7)
العنوان: اللاجئون في الصومال بين الرفض والإهمال
رقم المقالة: 848
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
لا تبشر الأوضاع الاجتماعية والسياسية والإنسانية في الصومال بخير، فكل ما يمكن الحديث عنه اليوم هناك، ينصب عن المزيد من الدمار والتشريد والقتل، وإن انتهى ذلك بالفعل - كما ادعت القوات الأثيوبية المحتلة سابقاً - فإن على البلد الذي لم يشهد السلام منذ أكثر من 16 ستة عشر عاماً أن يقع تحت رحمة "الممولين" الغربيين، لإخراج الشعب من الفقر والتشرد والدمار الذي شهده أخيراً.
ففي حين تتسارع الأخبار القادمة من الصومال عن مزيد من المواجهات المسلحة بين القوات الأثيوبية المحتلة والمجاهدين، وعن التصريحات المتعارضة بين (شيخ شريف) زعيم المحاكم الإسلامية (وجنداي فيريز) مساعدة وزيرة الخارجة الأمريكية؛ تتوارى الأخبار المتعلقة بالأزمة الإنسانية هناك خجلاً من ضعف القدرة الفعلية على مساعدة آلاف النازحين والمشردين واللاجئين، الذين فاق عددهم هذه المرة ما كان في أي نزوح صومالي سابق، منذ سقوط نظام الحاكم العسكري السابق للبلاد محمد سياد بري عام 1991.
النزوح سيراً على الأقدام:
عدة أشهر قضاها الصوماليون في ظل قيادة المحاكم الإسلامية، استطاعت فيها نشر السلام في المناطق التابعة لها، وإقامة موازين العدل والفسطاط بين الناس، فانتشر الحجاب، وأغلقت محلات الخمر والملاهي، وحوربت الجريمة والسرقة، وبات الناس في مأمن ورعاية.(/1)
لم يطل المقام بالصوماليين على هذه الحال، حتى فوجئوا بهجوم عسكري من قبل الحكومة الصومالية، مدعومة بقوات أثيوبية؛ احتلت البلاد، وعاثت فيها فساداً ودماراً. فما كان من المحاكم الإسلامية إلا الانسحاب، واستخدام "تكتيك حرب الشوارع" لمواجهة القوات الكبيرة والعتاد العسكري الثقيل، فضلاً عن مواجهة الأمريكيين، الذين رعوا منذ البداية احتلال الصومال، وقدموا دعماً عسكرياً و(لوجستياً) للأثيوبيين؛ بغية إقصاء المحاكم الإسلامية عن الحكم، لا لشيء؛ إلا لأنها "إسلامية"!
بعد المعارك التي احتدمت منذ بداية الحرب، وصولاً إلى المواجهات التي اشتعلت بعد مدة من الاحتلال؛ بات أمام آلاف الصوماليين خياران: إما البقاء والتعرض للقتل أو القصف أو الاعتقال، وإما النزوح بعيداً عن المناطق الساخنة، ريثما تهدأ الأمور، وتعود الحياة الآمنة إلى المنطقة، وهو ما لا يمكن التبشير به على المدى القريب.
آلاف الصوماليين قرروا النزوح خارج العاصمة (((مقديشو))) - التي شهدت أشد المعارك والمواجهات - سلك الكثير منهم الطريق المؤدية إلى الدولة الجارة (كينيا)، التي فاجأت الجميع - منذ بداية احتلال البلاد نهاية العام الماضي - بإغلاق حدودها أمام النازحين! فحسب الإحصاءات التي ذكرتها وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة؛ فإنه بعد مرور 6 ستة أشهر تقريباً على الأزمة الصومالية، وإغلاق الحدود؛ لا يزال المئات من الصوماليين يقيمون على الحدود مع كينيا، في بلدة (دوبل) الحدودية وغيرها، قدموا إلى هناك سيراً على الأقدام من (مقديشو)!
وتؤكد شبكة "بي بي سي" البريطانية هذه الأنباء، حيث نقلت في تقرير لمراسلها في بلدة (جاريسا) الحدودية، قوله: "إن معظم اللاجئين وصلوا إلى المنطقة سيراً على الأقدام من (مقديشو) ويفتقرون إلى أبسط المقومات من ماء وطعام وعلاج".(/2)
وتؤكد آخر الأنباء، الواردة من المنطقة الحدودية؛ أن عدة أطفال لقوا حتفهم سابقاً، نتيجة الإسهال الحاد، بسبب الجفاف وقلة الطعام والماء.
آلاف النازحين.. إلى أين؟!
لا تبدو هناك فرصة كبيرة أمام النازحين والمشردين الذين خرجوا من (مقديشو) وغيرها، للاستقرار، لا على الحدود الكينية، ولا حتى في المدن والبلدات الصومالية الأخرى، خاصة مع قلة الإعانات الإنسانية المقدمة من قبل الدول العربية والإسلامية والعالمية، واستمرار المواجهات بين المجاهدين والاحتلال الأثيوبي الداعم للحكومة العميلة. وهو ما يؤدي الآن إلى زيادة عدد اللاجئين والفارين من المناطق الساخنة باتجاه المجهول، إذ لا يمتلك غالبية الذين هربوا من هناك تصوراً عن المكان الذي يذهبون إليه، أو عن الأوضاع التي يمكن أن يلاقونها خارج منازلهم ومدنهم.
حيث تؤكد التقارير التي أتاحتها لجنة الإغاثة في الأمم المتحدة، فضلاً عن وسائل إعلام عالمية، أن المهجرين الذين لجؤوا إلى منطقة ساحلية في الصومال - مثل (شابيل) وغيرها - من الذين ليس لديهم أقرباء أو علاقات عشائرية هناك؛ يضطرون إلى افتراش الأرض، وتفيؤ ظلال الأشجار!
وتضيف التقارير القول: "إنه في ميناء (كيسمايو) الجنوبي، استقبل السكانُ اللاجئين استقبالاً عدائيا"، واصفة ما يجري هناك بالقول: "إن أهالي البلدة يجبرون اللاجئين على دفع مبالغ مالية لقاء تفيؤ ظلال الأشجار"!(/3)
والآن، فإن عدد اللاجئين الصوماليين، الذين فروا منذ بداية احتلال البلاد نهاية العام الفائت 2006؛ يقدر بنحو 500000 خمس مئة ألف شخص، وهو رقم كبير للغاية، جعل (جون هولمز) كبير مسؤولي الإغاثة بالأمم المتحدة يعلن في 14 (مايو) الجاري: أن مأساة النازحين الصوماليين تعدّت مأساة النازحين في (دارفور) و(تشاد)؛ قائلاً: "بخصوص ما يتعلق بالأعداد والمقدرة على الوصول إليهم؛ فإن الصومال يدخل أزمة نزوح أسوأ مما في ( دارفور) أو (تشاد) أو أي مكان آخر في هذا العام".
وقد اضطر عشرات الآلاف من الصوماليين في الأسابيع الأخيرة إلى النزوح من (مقديشو)؛ بسبب تجدد القتال، في حين تشهد عمليات إغاثتهم حالة من أسوأ حالات الإعانة الدولية.
حيث أعلنت (كاثرين فيبل) المتحدثة باسم "مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة": أن (المفوضية) تقدم الآن مواد الإغاثة لما يقارب 20000 عشرين ألفاً من المشردين، وهم جزء من أكثر من 320000 ثلاث مئة وعشرين ألفاً نزحوا بسبب العنف الدائر في البلاد.
من جهتها، أعلنت (فيرونيك تافو) المتحدثة باسم (اليونيسيف) سابقاً في مؤتمر صحفي: أن الوضع في الصومال أكثر من سيء بخصوص 365000 ثلاث مئة وخمسة وستين ألف نازح، بينهم آلاف النساء والأطفال، الذين فروا من العاصمة الصومالية بسبب المعارك.
وأشارت المنظمة إلى أن غالبية النازحين بسبب المعارك، هم من النساء، والأطفال دون الرابعة عشرة، والمسنين. مضيفة أن العدد الكبير للنازحين الذين لا يزالون في (مقديشو) يزيد من تفاقم مشكلة الوصول إلى الحاجات الأساسية، ويسهم في تدهور الوضع الصحي، وزيادة مخاطر انتشار (الكوليرا).
الموقف العربي الخجول:(/4)
لم تقدم الدول العربية والإسلامية حتى الآن ما يمكن اعتباره "مساعدة حقيقية" للصوماليين، لإخراجهم من محنة التشرد واللجوء وضنك الحياة التي يقاسونها. كانت هناك محاولة فقط، من قبل ما أطلق عليها اسم "مجموعة الاتصال الدولية"- التي تتألف من الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية وإفريقية - التي اجتمعت في القاهرة مطلع (إبريل) الماضي، حيث خرج الاجتماع "بتوصية!" بدعم وتعزيز اتفاق وقف إطلاق النار، الذي كان قد أقر سابقاً في الصومال!
فعلى خلاف ما كان يحدث في السابق من دعم الدول العربية والإسلامية بعضها بعضاً، عندما كان العالم يعيش حالة "القطبية الثنائية"؛ فإن أي دعم الآن، يمكن أن تقدمه دولة إلى أخرى؛ يجب أن يكون عبر القرار الأمريكي، كي يوافَقَ عليه أو لا، حسب سياسته ونظرته إلى هذا الطرف "المحتاج"، لذلك فليس هناك أمل بأن تقوم الدول العربية والإسلامية بتقديم مساعدات حقيقية للصوماليين الذين يعيشون في الصحارى الملتهبة، بحثاً عن ظل شجرة يتفيؤون ظلالها، أو ثمرة يأكلونها، هرباً من شبح الموت.
اجتماع مجموعة الاتصال الدولية أكد طلب وقف القتال الدائر، ولكنه لم يقدم مساعدات حقيقية لمئات الآلاف من النازحين، ربما كانوا يبحثون عن وأد لسبب الأزمة، التي لن تكون في وقف القتال، بقدر ما تكون بإخراج القوات الأثيوبية المحتلة من الصومال، لذلك فقد وجه الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى كلمة إلى المجتمعين في القاهرة، حثّ فيها كافة أطراف النزاع على الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار، دون أن يكون للمشردين نصيب في كلمته. كما حاولت المجموعة إشراك من وصفتهم بأنهم "زعماء معتدلين من اتحاد المحاكم الإسلامية"؛ في العملية السياسية، التي ادعت أنها ستكون "انتقالية"! كما كانت سابقاً!
عجز دولي في مواجهة المأساة:(/5)
يرغم المحاولات التي تبذلها (مفوضية) اللاجئين التابعة للأمم المتحدة لمساعدة اللاجئين والمشردين بسبب احتلال الصومال؛ إلا أن المساعدات لا تصل إلا لجزء بسيط منهم، بسبب استمرار المواجهات المسلحة من جهة، وصعوبة التنقل هناك من جهة أخرى، خاصة بعد إغلاق الحدود الكينية أمام اللاجئين وأمام وكالات الإغاثة، فضلاً عن شح المساعدات المقدمة إلى هذا البلد المسلم؛ إذ لو كانت إحدى الدول النصرانية تعاني ما يعانيه الصوماليون؛ لاختلف الأمر كثيراً، ولباتت المساعدات تصل إلى جميع اللاجئين.
وأمام هذه المشاكل، قال (هولمز): "نحن نقدر أننا لا نصل سوى إلى ما بين 35% 40% في المائة من المحتاجين... يعاني كثيرون بالفعل من انتشار (الكوليرا)".
وقد ذكرت المصادر الإعلامية التي رافقت زيارة (هولمز) إلى الصومال: أن كبير مسؤولي الإغاثة في الأمم المتحدة طلب من الرئيس الصومالي الحالي عبد الله يوسف تفكيك نقاط تفتيش على حدود المدينة، للسماح بإدخال الأغذية والمساعدات إلى (مقديشو) في أسرع وقت ممكن. مشيرة إلى أن هذا الطلب جاء عقب شكاوى من عمال الإغاثة، الذين اتهموا السلطات بعدم السماح لهم بتوزيع شحنات الغذاء.
وبرغم الشعارات التي ترفعها وتنادي بها الدول الغربية؛ إلا أن معظم القرارات والمطالبات كانت تذهب أدراج الرياح، منها دعوة الاتحاد الأوروبي لإجراء تحقيق عن جرائم حرب ارتكبتها القوات الأثيوبية في الصومال، ودعوته لإجراء تحقيقات أخرى مع الحكومة عن اختفاء أشخاص إثر اعتقالهم بشكل تعسفي. فكل تلك الأنباء التي تتحدث عن الانتهاكات الإنسانية هناك تذهب أدراج الرياح؛ محاولةً للي عنق الحقائق التي تكشف مدى الظلم الذي يعيشه الصوماليون؛ بعد أشهر من العدل والسلام في ظل المحاكم الإسلامية.(/6)
ومن بين الدعوات التي لم تتحقق حتى الآن، "الحملة" التي أطلقتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، لجمع مبلغ 13500000 ثلاثة عشر مليوناً وخمس مئة ألف دولار (10 ملايين يورو) للصومال، بسبب ما وصفته بـ"الوضع الإنساني الخطير". وقالت الـ(يونيسيف) وقت الحملة: "إن الأموال التي سيتم جمعها ستتيح الاستجابة للحاجات الغذائية، والصحية، والتربوية، وحماية هؤلاء الأشخاص الذين يتسم وضعهم بالهشاشة".
وهذا لا يعتبر تشاؤماً، بل جزءاً من الحقيقة، خاصة بعد أن أطلقت المنظمة نداء لجمع 33300000 ثلاثة وثلاثين مليوناً وثلاث مئة ألف دولار لتمويل عملياتها الإنسانية في الصومال مطلع عام 2007، ولكن لم يتم تغطية إلا 40% منه فقط حتى الآن.
ولأن دولاً تغلق حدودها مع الصومال، ودولاً أخرى تهمل مساعدة الشعب اللاجئ، بسبب الموقف الأمريكي؛ تشتد معاناة الصوماليين، يوماً بعد يوم، خاصة مع قدوم فصل الصيف، وجفاف المياه، وشح الموارد الغذائية.. فمن لهذا الشعب المسلم اليوم؟!(/7)
العنوان: اللادينية.. طابع المجتمع الغربي الحداثي
رقم المقالة: 802
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
الحداثة صناعة غربية، طُبِخت في مطبخ الفكر الغربيِّ، وهي حصيلةُ تراكُم معرفي استغرق عشرات السنين، فهي لم تكن طفرةً من الطفرات المفاجئة، ولا وليدةَ يوم وليلة، إن المجتمعَ الغربيَّ - حتى أصبح مجتمعاً حداثياً - قد مرَّ بمراحلَ تاريخية كثيرة، ومرَّت به ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية مختلفة.
ولا شك أن مجتمعَ الغرب الحداثيَّ يختلف كلَّ الاختلاف عن مجتمع الغرب قبل الحداثة.
يقول دو ميترو كيكان: ((أما اليوم – وبالمفهوم الاعتيادي العام – فإن كون الإنسان (حداثياً) يعني شيئاً مختلفاً آخر جديداً ومتميِّزاً عن شيء مختلف آخر، كما يعني – في الوقت ذاته، ومن حيثُ ماهيةُ الكائن – التمردَ والثأرَ على التقاليد المقيِّدة للعطاء الإبداعي، وعلى كلِّ ماهو تافه ورادع للتطوُّر[1]..)).
وقد لا يهمنا كثيراً الوقوفُ عند التحديد الزمني لتاريخ ولادة الحداثة الغربية؛ إذ إن هذا التاريخَ هو موضع خلاف شديد بين الباحثين، ففي حين يربطه بعضهم بفكر ديكارت في القرنين السادسَ عشرَ والسابعَ عشرَ الميلاديين، يحدِّد الناقد الأمريكي ((فردريك جيمسون)) تاريخ ميلادها في النصف الأول من القرن العشرين[2].
أقول: ربما لا يهتم قوم بالتاريخ بقدر ما يهتمون بربط هذه الحداثة بفكر معيَّن انطلقت منه، وشكَّل جوهر فلسفتها في النظر إلى الكون والإنسان والحياة، بل إلى العقيدة والأديان والألوهة ذاتها..(/1)
وقد حدد أحدُ الباحثين الغربيين الكبار جوهرَ هذا الفكر الفارق بين مجتمع الحداثة الغربيِّ ومجتمع ما قبلها بأنه غيابُ الطابع ((المتيا فيزقي)) الذي كان سائداً في مجتمع ما قبل الحداثة، الذي كان يؤمن أن هنالك نظاماً يحكم الكون، متمثِّلاً في الدين بخاصَّة، ومن ثَمَّ فإن مجتمع الحداثة وما بعدها يتجه إلى ((اللادينية))، يتجه إلى ما يسمِّيه ((العلمانية)) أو ((العقلانية)) أو ((الدنيوية)) التي تعني – في مفهومهم – استبعادَ الدين من جميع مناحي الحياة وأنشطتها الفكرية المختلِفة، بل الإيمان بضرره وعدم جدواه.
يقول آلان تورين – صاحب كتاب نقد الحداثة - : ((تُحِلُّ فكرة الحداثة – في مركز المجتمع – العلمَ محلَّ الله، تاركةً – في أفضل الحالات – المعتقدات الدينيةَ في داخل الحياة الخاصة. ولا يكفي أن تكونَ التطبيقاتُ التكنولوجية للعلم حاضرةً حتى يقال: إن المجتمعَ حديث، لابدَّ – فوق ذلك – من أن يُحْمَى النشاطُ العقلي من الدعايات السياسية، أو من العقائد الدينية[3]..)).
ويقول مرة أخرى مؤكداً فلسفة الحداثة الغربية: ((إن الإيديولوجية الغربية للحداثة – والتي يمكن أن نسمِّيها الحداثية – قد حلَّت محل فكرة الذات وفكرة الله التي كانت تتعلَّق بها... يقول الحداثيون: لا المجتمع، ولا التاريخ، ولا الحياة الفردية، تخضع لمشيئة كائنٍ أعلى يجب الخضوع لها أو يمكن التأثيرُ فيها بالسحر، فالفرد لا يخضعُ لغير القوانين الطبيعية.. يجب إحلال معرفة قوانين الطبيعة محلَّ تعسف الأخلاق الدينية[4]..)).(/2)
ولا تتحقَّق المنفعة الاجتماعية في هذا المجتمع الغربيِّ الحداثيِّ إلا ((بإلغاء جميع الصور، والابتعاد عن كلِّ لجوء إلى قانونٍ إلهي.. وإذا كان لهذا اللجوء إلى الطبيعة وظيفةٌ نقديةٌ ومعاديةٌ للدين – على الخصوص – فذلك لأنه يسعى إلى أن يمنحَ الخير والشر أساساً لا هو بالديني، ولا هو بالسيكولوجي، وإنما هو اجتماعي فحسب. والفكرة التي مفادها أن المجتمع هو مصدرُ القيم، وأن الخيرَ ما ينفع المجتمع، وأن الشرَّ ما يضرُّ تكامله وفعاليته، هذه الفكرة عنصرٌ جوهريٌّ في الإيديولوجية الكلاسيكية للحداثة[5]..)).
وهكذا تعلن الحداثةُ – بجرأة ووضوح، لا لَبْس فيه ولا غموض – أنها ((لادينية))، وأنها في عداء مع الدين، وترفع رايةَ العصيان عليه، والصُّبوء منه، وتقدِّم نفسها باستمرار على أنها ظاهرة ((العقلنة)) و((العلمانية))، وأنها ((عالم الدنيويات)) عالم ((انهيار التصورات الدينية)).
يقول مالكوم براد بري وجيمس ماكفارلن – وهما من مُنظِّري الحداثة الغربيين - : ((الحداثةُ من عالم يتجدَّد بسرعة، عالم التمدُّن والتقدم الصناعيِّ والتكنولوجي، عالم الدنيويات، من عالم غابَ عنه الكثير من المسلَّمات التقليدية[6]..)).
ويقول لامونت موجزاً ما يسمِّيه النزعةَ الإنسانية للحداثة: ((إن الإنسانَ لا يحيا إلا حياةً واحدة، ولا يحتاج إلى ضمان أو دعامة من مصادرَ عالية على الطبيعة، وإن العاليَ على الطبيعة الذي يُتَصَوَّر عادة على شكل آلهة سماوية، أو جنات مقيمة، ليس موجوداً على أية حال.. ففلسفة النزعة الإنسانية تسعى على الدوام إلى تفكير الناس بأن مقرَّهم الوحيد هو هذه الحياة الدنيا، فلا جدوى من بحثنا في غيرها عن السعادة وتحقيق الذات، إذ ليس ثمَّةَ مكان غيرها نقصده، ولابدَّ لنا – نحن البشر – من أن نجدَ مصيرنا وأرضنا الموعودة في عالمنا هذا الذي نعيش فيه، وإلا فلن نجدَهما على الإطلاق[7]..)).
ــــــــــــــــــــــ(/3)
[1] مجلة الرافد الإماراتية، العدد 113 (ذو الحجة: 1427هـ / يناير: 2007م).
[2] انظر ((مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة)) ترجمة محمد الشيخ، وياسر الطائري (بيروت، دار الطليعة: 1996م)، ص10.
[3] نقد الحداثة، الحداثة المظفرة، ترجمة صياح الجهيم (وزارة الثقافة، دمشق: 1988م)، 1/16.
[4] السابق: 1/18.
[5] السابق: 1/23.
[6] الحداثة (1890-1930م) تحرير مالكم براد بري، وجيمس ماكفارلن، ترجمة مؤيد فوزي (وزارة الثقافة والإعلام، بغداد: 1987م)، ص57.
[7] قضايا وشهادات (الحداثة: 1) [دار عيبال، قبرص: 1991م]، ص259.(/4)
العنوان: اللسان العربي
رقم المقالة: 108
صاحب المقالة: د. حيدر الغدير
-----------------------------------------
يا لساناً مثل الضحى عربياً تشرب العين حسنه العبقريا
وتصيخ الآذان عشقاً وشوقاً لغواليه بكرة وعشيا
سيداً للبيان كنتَ وتبقى سيداً مالكاً وهوباً غنيا
تهب الفكر كل معنى جميل حين تكسوه من حلاك حُليا
تأسر الذائق العصيَّ رضاه إذ تلقاهُ ساحراً سامريا
ويجيء المعنى البعيد المرامي فيك يزهو مثل الصباح بهيا
كل نعمي على بساطك راحٌ كل حسني على رواقك ريا
كالدنان المعتقات اللواتي طبن طعماً وفُحنَ مسكاً شذيا
أنت نهر أكواب مترعات وشرابٌ مثل الرحيق نقيا
وبساط مثل الربيع الموشّى ضاحَكَ الغيثَ حسنه الموشيا
شهد الأعصر الطوال ولما يخبُ حسناً وما يزال صبيا
إنه الضاد شمسُ كل بيان كان مذ كان ملهماً وسريا
سرق الحسنَ كلّه واكتساه وجلالَ النُهى وكان حريا
ومضى يملأ الحياة طيوباً ويجوب الآفاق طَلْقَ المحيا
ما تملّى بيانه ذو بيان وذكاء إلا اعترته الحُمَيّا
وأعارته جذوة تترى وأصارته ضاحكاً أو شجيا
مستعيداً ما راقه واستباه مستهاماً به شغوفاً حفيا
وكفى الضاد عِزةً وفخاراً ما أطل الصباح يوماً وحيَّا
أن فيه الكتاب يتلوه قومٌ ملأوا الرحب دانياً وقصيا
ربما هبت البشارات فيه فسرى فيهم الرضاء نقيا
أو توالت قوارعٌ فتهاووا حذرَ النارِ سجداً وبكيا
ستشيب الحياة والناس تبلى وسيبقى غضاً ويبقى طريا
أنا للضادِ عاشق فسلوه كيف أحببته زماناً مليّا
وحباني من وده ما حباني واصطفاني فكنت براً وفيا
سكن الضاد كاللبانات قلبي وبناني وخاطري والمحيا
ولساناً يراه أحلى وأشهى من كؤوسِ الطِلى وفي شفتيا
هو ضيفي في يقظتي ومنامي ورفيقي أحنو ويحنو عليّا
هو في كل ذرة من كياني وأخو خلوتي وفي مقلتيا
هو إلفي وصبوتي ونديمي جئته مغرماً وجاء إليّا
وهو لحن في مسمعي عبقري وشذاً فاح طيبه ورديا
عشتَ يا ضادُ سيداً وسرياً مثلما كنت سيداً وسريا(/1)
العنوان: اللعبةُ الأمريكية الإيرانية من جديد
رقم المقالة: 1391
صاحب المقالة: عمر حميدان
-----------------------------------------
قد تبدو إدارةُ الرئيس الأمريكي (جورج بوش) بصددِ استغلالِ عطلةِ الكونغرس خلال هذا الشهر، من أجل تصعيد التوتر مع إيران، خاصة وأن خطاب الرئيس الأمريكي الأخير أمام قدامى المحاربين الأمريكيين في (نيفادا)، استهدف إيران بطريقة مباشرة هجومية. على الأقل، هذا ما تعتقده بعضُ الصحف والوسائل الإعلامية الأجنبية.
ومع أن التقارب الإيراني الأمريكي الذي يعمل في الخفاء على تقارب المصالح بينهما في العراق وغيرها، يبدو واضحاً للكثيرين.. إلا أن أسلوب التورية لا يزال يجدي نفعاً إعلامياً حتى الآن.
فالرئيس الأمريكي في كلمته يوم الثلاثاء الماضي 27 من أغسطس، جعل الحرسَ الثوري الإيراني (IRGC) منظمةً إرهابية عالمية، مصعّداً من لهجة الحرب الكلامية ضد إيران لدرجة أعلن فيها استعدادَ الولايات المتحدة لمواجهة ما وصفه بـ "نشاطات إيران القتالية في العراق".
الهجوم الكلامي الذي وجهه جورج بوش لطهران، جعل بعضَ الإعلاميين والسياسيين، مثل الدكتور تريتا بارسي (Trita Parsi) رئيس المجلس الوطني الإيراني الأمريكي، يؤكد أن هذا الهجوم الكلامي يذكرنا بالتصعيد الخطابي الذي أطلقه جورج بوش وأعضاء إدارته قبل الحرب على العراق. ويقول: "يبدو أن الحرب الكلامية بين طهران وواشنطن تشير إلى تكرار النمط السابق بين الجهتين، ويشتبه أنها تهدف إلى إثارة حرب مع إيران". مذكراً بالتصعيد الأمريكي ضد العراق قبيل احتلاله.(/1)
وفي المقابل، يورد الدكتور بارسي في مقالة له نشرتها وكالة إنتر برس الإعلامية، يوم الخميس 30 من أغسطس، التصعيدَ الخطابي الذي شارك به الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، عندما قال في وقت سابق من هذا الشهر: إن المنطقة "ستشهد فراغاً كبيراً في السلطة" في إشارة إلى إمكانية خروج القوات الأمريكية من العراق، وقال في مؤتمر صحفي: "نحن مستعدون لملء هذا الفراغ، بمساعدة جيراننا وأصدقائنا في المنطقة، مثل السعودية، لمساعدة الأمة العراقية". في إشارة واضحة إلى تدهور الأوضاع في المنطقة، وإمكانية انسحاب القوات الأمريكية من العراق، بسبب عدم توقف المقاومة هناك، وتزايد الخسائر الأمريكية التي تقترب من أربعة آلاف قتيل، والمعارضة المتنامية في أمريكا ضد سياسة بوش في العراق، ومطالبتها بإعادة الجنود إلى ديارهم.
وإن كان الدكتور بارسي يشير إلى هذا الكلام الإعلامي الذي قد يستغله البعضُ في تسويق فكرة إمكانية نشوب حرب بين الأمريكيين والإيرانيين، إلا أن موازنةً بين بعض المواقف التي جرت في العراق، قد تفضي إلى توصيف أدق للأحداث.
فالأحداثُ السياسية التي تشهدها العراق اليوم، خاصة فيما يتعلق بأمور الحكومة المقلقلة، واستمرار وجود مواجهة عسكرية ضد الأمريكيين وعملائها في العراق، يجعل من الأسهل على بوش إلقاء اللوم على الإيرانيين؛ لتشتيت الانتباه، واتهام إيران أنها السبب الرئيس لما يحدث هناك.
كما أن اتهام إيران يتيح لبوش إلقاء التبعة على متهم آخر غير إدارته، أمام الكونغرس، الذي باتت أغلبيتُه الديمقراطية قادرةً على استجواب أعضاء إدارته، كما حدث مع وزيرة الخارجية كونداليزا رايس قبل أيام. ولضمان استمرار حصوله على تمويل مالي من الكونغرس هناك، بحجة مواجهة إيران في العراق!(/2)
وبرغم أن الأمريكيين حشدوا الكثير من قواتهم الإضافية في الخليج العربي منذ شهرين تقريباً، إلا أن أي تحرك عسكري جاد لم يحدث حتى الآن. بل على العكس، هناك المزيد من المفاوضات بين الطرفين.
ولا يعدو الخطابُ الأخير لبوش -الذي ذهب فيه إلى القول: "إن سعي إيران النشط لامتلاك تكنولوجيا يمكن أن تؤدي إلي إنتاج أسلحة نووية سيجعل المنطقة التي تتسم بعدم الاستقرار والعنف عرضة لمحرقة (هولوكوست) نووية"- تكراراً سابقاً لما حدث في العاشر من يناير الماضي، عندما اتهم بوش إيران -وللمرة الأولى- أنها "توفر الدعم المالي للهجمات على القوات الأمريكية" واعداً بالوقوف في وجه هذه الهجمات، وتدمير الشبكات التي توفر الأسلحة المتطورة للميليشيات العراقية!
الذي حصل بعد دقائق من خطاب بوش في العاشر من يناير الماضي، أن القوات الأمريكية الخاصة، قامت باقتحام القنصلية الإيرانية في إربيل (شمال العراق) واعتقلت 5 إيرانيين، متهمةً إياهم أنهم من عناصر الحرس الثوري الإيراني، في حين قالت طهران: إنهم "دبلوماسيون". كما اشتبكت القوات الأمريكية مع قوات من البشمركة الكردية، عندما حاول الأمريكيون اعتقال المزيد من الإيرانيين في مطار إربيل.
الحكومة العراقية في ذلك الوقت أعلنت عن غضبها لما حدث، واصفةً التحرك الأمريكي بالمزعج، وقال وزير الخارجية العراقي هوشي زيباري: "إن هناك مكتبَ اتصالٍ إيرانيا منذ عدة سنوات، وهو يقدم خدمات للمواطنين العراقيين"!! وقد كتب الكثير من الإعلاميين في ذلك الوقت، عن إمكانية غزو أمريكي لإيران، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، واقتصر الأمر على اعتقال الإيرانيين الخمسة.(/3)
تماماً كما حصل في ذلك الوقت، قامت القواتُ الأمريكية -بعد وقت قصير من خطاب بوش في نيفادا- بشن غارةٍ على فندق (عشتار شيراتون) في العاصمة بغداد، وقاموا باعتقال 8 إيرانيين، منهم اثنان من الدبلوماسيين، وستة أعضاء في وفد لوزارة الكهرباء الإيرانية. وحسب الأنباء التي أوردتها عدةُ مصادر إعلامية، من بينها وكالة الأنباء الإيرانية ووكالة الأسوشيتدبرس، فإن المجموعة الإيرانية كانت تقوم بمفاوضات حول عقود لإنشاء محطات توليد طاقة كهربائية للعراق.
وقامت القوات الأمريكية بعد مدة وجيزة من اعتقال الإيرانيين الثمانية، بإطلاق سراحهم، وانتهى الأمر!!
ربما هذا أكثر ما تقوم به الولايات المتحدة ضد إيران والإيرانيين في العراق.. فكلام بوش الهجومي، الذي يعدُّه البعضُ بوابةً لفتح جبهة ضد إيران، لا يعدو أكثرَ من محاولة تضليل جديدة، أو مفرقعة نارية محدودة الأثر، إذ تقوم القواتُ الأمريكية في العراق باعتقال عدد محدود من الإيرانيين، ثم الإفراج عنهم، وذلك يعطي صورة أن الإيرانيين المعتقلين مظلومون، وأنهم جماعة تعمل على مساعدة العراقيين.
ففي المرة الأولى، أكد العراقيون والإيرانيون أنهم دبلوماسيون، يعملون منذ سنوات لصالح العراقيين! في حين يذكر الجميعُ عن المعتقلين الجدد أنهم وفد رسمي سيساعد العراقيين في توليد طاقات كهربائية، في وقت يشهد فيه العراق موجة استياء من نقص الطاقة الكهربائية، وعدم مقدرة الحكومة الحالية على تجاوز هذه المشكلة.
الرد الإيراني:
في المقابل، تذهب طهران في كل مرة يلوّح فيها بوش بالخيار العسكري، إلى حد التحدي الكامل للأمريكيين، وتأكيد عدم اهتمام القيادة الإيرانية بالكلام الأمريكي!.(/4)
ففي أول رد فعل رسمي لها، ذكرت طهران أن خطابَ بوش أمام قدامى المحاربين في نيفادا، مؤشرٌ على اليأس السياسي الذي تعيشه أمريكا. وقال منوشهر متكي (وزير الخارجية الإيراني): "إن تصريحات بوش لا تتضمن أي عنصر جديد، وتعكس ترددًا في اتخاذ القرارات، ويأساً سياسياً، وافتقاراً إلى الحس المسؤول"!!
وأضاف قائلاً: "إن الجميع متيقنون من افتقار هذه التصريحات إلى المصداقية"، مشيراً إلى أن هذه التصريحات لا تخدم سوى الحملة التي أطلقها بوش تمهيداً للمعركة الانتخابية الرئاسية القادمة خلال العام القادم.
وفي حين طالب منوشهر أمريكا بترك المنطقة بيد أصحابها (حسب قوله)، وتبنِّي مقاربة أمنية وعسكرية صرفة، قال محمد علي حسيني (المتحدث باسم الخارجية الإيرانية): "إن المسار الأمريكي في المنطقة ليس مفيداً ولا مثمراً، وعلى بوش أن يغير من مواقفه وقراراته السياسية". مشيراً إلى أن ما قاله بوش هو محاولة أمريكية جديدة لتحميل الآخرين مسؤولية إخفاقهم في المنطقة.
هذه التصريحات المتبادلة لم تخدم حتى الآن أي هدف أمريكي في العراق، ولم تحقق أي فائدة.. ففي الوقت الذي تدعي فيه القواتُ الأمريكية أنها تعتقل إيرانيين، تترك في الوقت نفسه المئات منهم يقومون بإبادة جماعية للمسلمين السنة، على رؤوس الأشهاد، عبر الدعم المستمر والعلني لميليشيات مقتدى الصدر، وفيلق بدر الشيعي المسلح، وغيره من الجماعات الشيعية، التي تعمل في المرتبة الأولى على إخراج المسلمين السنة من أهم المناطق العراقية، أملاً بإقامة مناطق فيدرالية مستقبلية للشيعة، تضمن استيلائهم على العاصمة بغداد، والمناطق النفطية في الجنوب وغيرها.(/5)
هي -من ثَمّ- مصالحُ تتقارب وتتباعد، ولكن لا يبدو مطلقا أنها قابلة للتصعيد لدرجة الغزو العسكري، فالمصالح المشتركة بين الأمريكيين والإيرانيين هي أكبر بكثير من الخلافات الهامشية، التي لا تعدو أن تكون وسيلة دائمة لتسويغ بعض الأفعال أو الأقوال، أو حتى الهفوات والأخطاء.
ربما لهذا السبب كتب وليم هوكنز (عضو مكتب دراسات الأمن القومي في الولايات المتحدة) في تقرير سياسي له نشر بتاريخ 31 من أغسطس الماضي، قائلاً: "إن الولايات المتحدة تتعاطف مع الشيعة العراقيين، ولكن استمرار دعمهم من قبل الإيرانيين لا يضمن لهم مصالحة دائمة مع أمريكا". مشيراً إلى أن الولايات المتحدة قامت أكثر من مرة بضرب عناصر من جيش المهدي، التابع لمقتدى الصدر، والذي يرأس كتلة شيعية قوية في البرلمان العراقي، وأنه من غير الواضح ما إذا كانت جماعة الصدر ستتصدر الحكم في يوم من الأيام في العراق.. وهو ما يشير إلى أن المصالح الأمريكية مع الشيعة أكبر من المناوشات المحدودة، التي لم تستطع حتى الآن خلق حالة حقيقية من الخلاف بين الجهتين.. بل على العكس.. هناك الكثير من المصالح التي تظهر كل مدة.. ولكن أهم ما يميزها أنها "تحدث في الخفاء".(/6)
العنوان: اللغة العربيّة تنعى حظَّها بين أهلها
رقم المقالة: 103
صاحب المقالة: حافظ إبراهيم
-----------------------------------------
رَجَعْتُ لنَفْسِي فاتَّهَمْتُ حَصاتِي ونادَيْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حَياتِي
رَمَوْني بعُقْمٍ في الشَّبابِ وليْتَني عَقِمْتُ فلَم أَجْزَعْ لقَوْلِ عُداتِي
وَلَدْتُ ولمَّا لمَ أَجِدْ لعَرائِسِي رِجالاً وأَكْفاءً وَأَدْتُ بَناتِي
وسِعْتُ كِتابَ اللهِ لَفْظًا وغايًة وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أَضِيقُ اليومَ عن وَصْفِ آلَةٍ وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البَحْرُ في أَحْشائِه الدُّرُّ كامِنٌ فهل سَأَلوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتِي
فيا وَيْحَكُمْ أَبْلَى وتَبْلَى مَحاسِني ومنكم وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي
فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني أَخافُ عليكمْ أن تَحِينَ وَفَاتِي
أَرَى لرِجالِ الغَرْبِ عِزًّا ومَنْعَةً وكم عَزَّ أَقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ
أَتَوْا أَهْلَهُمْ بالمُعْجِزاتِ تَفَنُّنًا فيا لَيْتَكُمْ تأتونَ بالكَلِمَاتِ
أَيُطْرِبُكُمْ مِنْ جانِبِ الغَرْبِ ناعِبٌ يُنادِي بِوَأدِي في رَبِيعِ حَياتِي
ولول تَزْجُرونَ الطَّيْرَ يوما عَلِمْتُمُ بما تَحْتَه مِنْ عَثْرَةٍ وشَتاتِ
سَقَى اللهُ في بَطْنِ الجَزِيرةِ أَعْظُمًا يَعِزُّ عليها أنْ تَلِينَ قَناتِي
حَفِظْنَ وِدادِي في البِلى وحَفِظْتُه لهنّ بقَلْبٍ دائمٍ الحَسَراتِ
وفَاخَرْتُ أَهلَ الغَرْبِ والشرقُ مُطْرِقٌ حَياءً بتلكَ الأَعْظُمِ النَّخِراتِ
أَرَى كلَّ يومٍ بالجَرائِدِ مَزْلَقًا مِنَ القَبْر يُدْنِيني بغَيْرِ أَناةِ
وأَسْمَعُ للكُتّابِ في مِصْرَ ضَجًّة فأَعْلَمُ أنّ الصّائحِين نُعاتِي
أَيَهْجُرُني قَوْمِي – عفا اللهُ عَنْهُمُ - إلى لُغَةٍ لَمْ تَتّصِلْ برُواةِ
سَرَتْ لُوثَةُ الافْرَنْجِ فيها كما سَرَى لُعابُ الأَفاعِي في مَسِيلِ فُراتِ(/1)
فجاءَتْ كثَوْبٍ ضَمَّ سَبْعِين رُقْعَةً مُشَكَّلَةَ الأَلْوانِ مُخْتَلِفاتِ
إلى مَعْشَرِ الكُتّابِ والجَمْعُ حافِلٌ بَسَطْتُ رَجائِي بَعْدَ بَسْطِ شَكاتِي
فإمّا حَياةٌ تَبْعَثُ المَيْتَ في البِلى وتُنْبِتُ في تِلْكَ الرَّمُوسِ رُفاتِي
وإمّا مَماتٌ لا قِيامةَ بَعْدَهُ مَماتٌ لَعَمْرِي لَمْ يُقَسْ بمَماتِ(/2)
العنوان: اللغة العربية في مهب الريح
رقم المقالة: 2030
صاحب المقالة: د. كمال بشر
-----------------------------------------
اللغة العربية في مهب الريح[1]
إذا كان البعض يقول: إنَّ اللغة العربيَّة أصبحتْ في مهبّ الريح، فأنا أقول: إنَّ العروبة كلها في مهب الريح، وإنَّ الانتماء إلى العربيَّة والخواصّ العربيَّة كلها – سواء سياسيًّا أو ثقافيًّا أو اجتماعيًّا أو أخلاقيًّا – أصبحتْ في مهبّ الريح، وأعتقد أنَّ الريح سوف تذهب بهذه الأشياء بلا عودة، لأنَّ كون اللغة في مهب الريح يدل على أنَّ القوم أجمعين في مهب الريح، لأنَّ اللغة هي الإنسان: جسمًا وعقلاً وفكرًا، فاللغة مرتبطة بالعقل والجسم أيضًا، وقد قال العربي في القديم.
لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ فَلَمْ تَبْقَ إِلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ
وهذا أبلغ تعبير عن حقيقة اللغة، وأنَّها لها جانب مادي، وجانب فكري، وأنا هنا حين أتكلَّم عن اللغة، فإنَّني أتكلَّم عنِ اللغة المنطوقة، لأنَّ اللغة في الاصطلاح هي اللغة المنطوقة لا المكتوبة. فاللغة المكتوبة ليست سوى تمثيلٍ للمنطوق، لأنَّ اللغة المنطوقة هي اللغة الواقعيَّة الحيَّة التي بها يصدق الواقع، أمَّا هذا المكتوب ففيه اصطناع وتكلّف، فأنت تجلس أمام الخطاب ساعة تكتب فيه وتعيد وتزيد، ولكنَّ المنطوق يختلف حين تتكلَّم، ثم لماذا ننعى اللغة؟ إنَّ علينا أن ننعَى أنفُسَنَا أوَّلاً، كما يجب أن نعلم أنَّ اللغة لا تعيش وحدها أو لِنَفْسِها ولِذَاتِها، فاللغة لا تعيش إلاَّ في مجتمع، ومن ثمَّ لا بُدَّ من التَّنازُل المستمرّ بينها وبين أهلها.(/1)
وتفسير هذه القضيَّة في الكمبيوتر، فالكمبيوتر فيه "الهاردوير" و"السوفت وير"، وكذلك اللغة فيها جانبان، فهناك شيء يُسمَّى الكفاية اللغوية أو المقدرة اللغويَّة، وهذه خاصية إنسانيَّة ممنوحة من الله لكل إنسان سوي على وجه الأرض، فالماكينة جاهزة للعمل، ولكن هذه الماكينة مثل "الهاردوير" عبارة عن إمكانيَّات ماديَّة وهو لا يعمل إلاَّ بالبرمجة "السوفت وير"، فلا بُدَّ من إعداد البرامج أولاً، وإعداد البرامج يكون من البيئة، فإذا كانت البيئة تتكلَّم الإنجليزية يكون البرنامج إنجليزيًّا، وإذا كانت البيئة تتكلَّم العربية يكون بالعربي، بدليل أنَّنا نتكلم العامية بدقة وصحة كاملة، فهل تعلَّمْناها؟ هل أخذنا فيها دروسًا؟ إطلاقا؛ إنَّما الذي حدث ويحدُث هو أنَّنا نسمعها مرارًا وتَكرارًا، ثم نأتِي على منوال ما سمعنا؛ لأنك عندما تسمع اللغة – وهي اللغة المنطوقة – فإنَّ آثار هذا المنطوق تستقرّ في ذهنك، وتكوّن القواعد العامَّة التي يمكن فيما بعد أن تولد منها ما تشاء، ولأنَّنا ليس لدينا مخزون من اللُّغة العربيَّة الفصيحة وإنَّما لدينا مخزونٌ من العاميَّة فلِذَلِكَ نتكلَّم العاميَّة بطلاقة، ومن هنا أقول: إذا أردتُم أن تتعلَّموا لغة أو تكتسبوا لغة أو تُجِيدُوا لغة فعليكم أن تستمعوا لهذه اللغة، ثم عليكم بعد ذلك أن تتكلَّموها جهرًا، لأنَّ هذا الجَهْرَ له آثار صوتيَّة، تذهب إلى الذهن، وتستقِرّ وتكون القواعد.(/2)
والسؤال الآن هو: مَن الذي يتكلَّم العربيَّة الفصيحة الآن؟ لا وجود لها إلاَّ على الملابس، فاللغة كلها أخطاء في الإذاعة والتليفزيون، أمَّا أخطاء المُعلم فاللهُ وحده أعلم بها؛ بل إنَّ الذي يُعلم النَّحو نفسه يتكلَّم بالعاميَّة، فكيف يتعلَّم الولد؟ إنَّ التَّعليم في المدارس – في العالم العربي كله – لا قيمة له مُطلقًا بالنّسبة للّغة العربيَّة؛ لأنَّهم يُقدِّمون قواعد اللغة مُنعزلة عن اللغة، بينما المفروض أن يبدأ العمل في تعليم القواعد بقراءة نَصّ وفهم هذا النَّصّ، ثم قراءته جهرًا أكثر من مرَّة بوساطة معلم ماهر، ثم يقرأ الأولاد، وبعد هذا يستخلص المعلم القاعدة من هذا النَّص، ثُمَّ يُطبق هذه القاعدة على هذا النَّص وعلى نَصّ آخَر، فالطَّالب يتعلَّم قواعد اللغة في الفصل الدراسي وقد يحصل على الدَّرجة النهائيَّة، ولكنَّه إذا خَرَجَ من الفصل لا يستطيع أن يتكلَّم لحظة واحدة، ولا يستطيع أن يكتب سطرًا واحدًا، وتنطبق هذه القضيَّة على الإذاعة والتليفزيون، وإن كانت الإذاعة مُلتزمة إلى حدٍّ ما باللغة العربيَّة، فالإذاعة والتليفزيون مدرسة جماهيريَّة مُتنقّلة بالمجَّان، ويسمعها الصَّغير والكبير، الرَّجل والمرأة، والعامل في دكَّانه، وفي ورشته، وفي شارعه، وفي حقْلِه، فإذا سمع كلامًا عربيًّا استطاع فيما بعد أن يأتي على منوال هذا الكلام العربِي.(/3)
أمَّا المُصيبةُ الأخيرة في رأيِي فهي المدارس الأجنبيَّة، والجامعات الخاصَّة، ومدارس اللغات، وقد قُلْتُ هذا أمام كِبار المَسؤولين في هذه الدَّولة، فكانوا يتعجَّبون منّي، ويرَونني على أنِّي رجلٌ مُتخلّف، ففي المدارس الأجنبيَّة ومدارس اللغات والجامعات الخاصَّة الموادّ كلّها – ما عدا اللّغة العربيَّة - تدرس باللغات الأجنبيَّة فكيف إذًا يستطيع الولد أن يستوعب اللغة العربيَّة، وكيف يستطيع أن يستوعِبَ المادَّة الَّتي تُقدَّم باللغة الأجنبيَّة، وهو يعيش في المجتمع العربي؟!
إنَّ هذا هو ما أسمّيه بالتَّلوّث اللغوي، والتَّلوث اللغوي معناه: كلام باللغة العربيَّة مخلوط ومغلوط ومملوءٌ باللَّهجات والرَّطانات، ومحشوّ بالكلمات والعبارات الأجنبيَّة التي تنطق وتستخدم خطأ في المبنى والمعنى، ومِن هُنا فأنا أرى أنَّها قضيَّة قوميَّة، وليستْ مجرَّد قضيَّة اللغة، فاللّغة هي العِماد الأوَّل أوِ المرآة التي تُوضِّح لَنَا، فإذا كانت اللغة قويَّة دلَّ ذلك على قوَّة أهلها، والعكس صحيح، لأنَّها المرآة العاكسة لكلّ أعمالك واتّجاهاتك، ولكلّ ما تعمل في هذه الدنيا. إذًا المسألة هي جفاف الفِكْر العربِي، وأيضًا البلادة العربية، فهذا الطالب لا يفكّر عربيًّا؛ وإنَّما يفكّر مرَّة باللغة الألمانيَّة، ومرَّة بالإنجليزيَّة، ومرَّة بالفرنسيَّة، حتَّى أصبحت الموضة أن يتكلَّم جملة بالعربيَّة، ويمزج معها بعض الإنجليزيَّة.(/4)
والحقيقة أنَّ القضيَّة من أبسط ما يمكن، فالقضيَّة ليست قضيَّة اللغة، وإنَّما هي قضيَّة أصحاب اللغة من الذين يكتُبون، ويحاوِرُون اللغة، ويبتكرون ما يشاؤون، فكُلّ لُغة على وجه الأرض قابلةٌ للتَّجديد والتَّحديث، والتَّحديثُ عادةً يبدَأُ فرْديًّا من خلال أيّ شَخْصٍ منَ الأشخاص النَّابغين عندما يستعْمِلُ كلمةً أو عبارة ما، مثل المصطلحات الحديثة التي كُنَّا نسمعها في أثناء الحرب من (الصحَّاف)، فقدِ استعمَلَ مجموعةً من الكلمات وبعضها قُبِل، وبعضها لم يُقْبل. إذًا قل ما تشاء، فإذا قبِلَهُ المُجتمع انضمَّتِ الكلمة أوِ العِبارة إلى نظام اللغة، والعكس صحيح؛ لكن لا تنتظر من اللغة أن تُعْطِيَكَ وأنْتَ نائم؛ لأنَّ اللُّغَة لا تَعِيشُ وحْدَها؛ ولذلك أقول: حرِّكْ فِكْرَك، وحرِّكْ ثَقَافَتَكَ، وحرِّك معارِفَك، واطْلُبْ منَ اللغة تُعْطِكَ هذه اللغة ما تشاء، ولكنَّ القضيَّة أنَّنا قومٌ بُلَداء، فضلاً عن أنَّ كلَّ شيء في العالم العربِيّ أصبح مُنْهارًا: الثقافة منهارة، العِلْم منهار، ومِنْ ثمَّ فإنَّ اللّغة من الطبيعي أن تكون منهارة أيضًا، فنحن الذين نقدم الزَّاد للغة، وليست اللغة هي التي تقدم لنا الزَّاد، وبالتالي فالقضيَّة قضيَّة النَّاس؛ لكنَّ العرب الآن نائمون في كل شيء، بما في ذلك العِلم نفسه، فهل نحن عِنْدَنا عِلْم عربِيّ في أيّ فرع من فروع العلم؟ إطلاقًا، حتَّى العلوم النظريَّة هي الآنَ مُتَرْجَمة، أو معرَّبة، أو خليط من عربي وأجنبي، وليس هناك إبداع.(/5)
إنَّ اللغة ليست كائنًا حيًّا، وإنَّما اللّغة تُشْبِه الكائنَ الحيَّ، أمَّا العبارة التَّقليديَّة التي ترِدُ عندنا بأن "اللغة كائن حي" فهي عبارة مجازيَّة، لأنَّ الكائن الحيّ يموت بنفسه، بينما اللغة لا تموت بنفسها، فاللغة تموت بموت أهلها، والدَّليل أنَّ اللغات الَّتِي نسمّيها لغات ميتة مثل اليونانيَّة ما زلنا نتعلَّمُها ونقرؤُها ونفهَمُها، فاللغة تختفي وتظهر مثل اللغة العبريَّة فهي في فترة من الفترات انتهتْ ولكنَّها لم تَمُتْ، بلِ اختفت نظرًا لاختفاء قوَّتِها هي، فإذا عادت هذه القوة عادت اللغة، لأنَّ اللغة لا تعيش وحدها أبدًا.
والحقّ أنَّ اللهجة المصريَّة أخفّ وأسهل في النطق؛ لأنَّها مُتناسقة الأصوات والنَّغمات لا أكثر ولا أقلّ، أمَّا الكلمات ومدى صحَّتها فهذِه تَحتاج إلى دراسة علميَّة؛ لكن على أيَّة حال فإنَّنا فيما يتعلَّق بضَعْفِ اللّغة العربيَّة لا نلوم الحكومة، ولا نلوم الشعب، ولا نلوم الأفراد، وإنَّما نلوم الجميع، فكلّنا مُخْطِئون: الأفراد والهيئات والحكومة والقاعدة، ومن ثمَّ فإنَّ القضيَّة قضيَّة قوميَّة كبيرة جدًّا، ولكنَّنا في المقابل لا نستطيع أن نقرّر شيئًا، وإنَّما نَحْنُ ننصح ونوجّه فقط.
---
[1] الدكتور كمال بشر هو العميد الأسبق لكلية دار العلوم جامعة القاهرة، والأمين العام لمجمع اللُّغة العربيَّة بالقاهرة.(/6)
العنوان: اللغة العربية لسان وكيان
رقم المقالة: 790
صاحب المقالة: أحمد محمد جمال
-----------------------------------------
قبل أن نتحدث عن (اللغة العربية) كلسان للأمة العربية خاصة، وللعالم الإسلامي3 الأكبر بصفة عامة، وأثرها العميق الوثيق في تكوين كيان الأمة الإسلامية عقيدةً وشريعةً، وخُلقاً وتعاملاً وارتباطاً..
قبل ذلك لابدَّ من مقدمة وجيزة عن ((اللغة)) من حيث الاصطلاح الأدبي والاجتماعي:
اختلف الباحثون في نشوء اللغات: هل هو توقيفي؟ أم تواضعي؟ ويقول ابن فارس في كتابه ((فقه اللغة)): إن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} أي الأسماء التي يتعارفها الناس من دابة وأرضٍ وجبلٍ وسهل وأشباه ذلك.. ويوضح ابن فارس معنى أن اللغة توقيف بقوله: "وليس معنى ذلك أن اللغة كلها جاءت جملة واحدة، وإنما المعنى أن الله علم آدم ما شاء، ثم علّم بني آدم بعده ما شاء أيضاً حتى انتهى الأمر إلى نبيِّنا ((صلى الله عليه وسلم))، فآتاه الله ما لم يؤت أحداً من قبله".
أما ابن جنّي فيقول: في كتابه ((الخصائص)): ((إن أصل اللغة لابد فيه من المواضعة، وذلك بأن يضع حكيمان أو ثلاثة لكل واحدٍ من الأشياء سمةً ولفظاً)).(/1)
ويرى علماء الاجتماع أن ((اللغة)) تجعل من الأمة الناطقة بها كلاً متراصاً يخضع لقانون واحد، وأنها الرابطة الحقيقية الوحيدة بين عالم الأذهان وعالم الأبدان، وهي نظرية تصدُقُ على لغتنا العربية كما يقول الدكتور عثمان أمين – أكثر مما تصْدُق على أية لغة أخرى. فاللغة العربية عظيمة الأثر في تكوين عقليتنا، وهداية سلوكنا، وتصريف أفعالنا. ذلك أنها تمتاز على اللغات الأخرى ((بمثالية)) عميقة صريحة، تحسب حساب الفكرة والمثال وتضعهما مكانَ الصدارة والاعتبار.. أي أن لغتنا العربية تفترض دائماً أن شهادة الفكر أصدق من شهادة الحس، ويكفي في التعبير بها إنشاء علاقة ذهنية بين المسند والمسند إليه، دون حاجة إلى فعل الكينونة الذي هو لازمة ضرورية في اللغات ((الهندو – أوربية)) ودون الحاجة إلى التصريح بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب، لأن الذات متصلة دائماً بالفعل في نفس تركيبه الأصلي.
ويقول ابن خلدون: "الملكات الحاصلة للعرب أحسن الملكات وأوْضحها إبانةً عن المقاصد لدلالة غير الكلمات على كثير من المعاني، مثل الحركات التي تعيَّن الفاعل من المفعول والمجرور – أي المُضاف – ومثل الحروف التي تُغضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى.. ولا يوجد ذلك إلا في لغة العرب. وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطبتهم أطول مما تقدره بكلام العرب..".
حقيقة التلازم بين الإسلام والعربية
والآن نتحدث عن حقيقة الارتباط الوثيق بين اللغة العربية والإسلام، وأسراره وآثاره.. إن الواقع التاريخي للغة العربية وللدين الإسلامي – خلال أربعة عشر قرناً – يثبت حقيقة التلازم والارتباط بين انتشار كل منهما وازدهاره بمساعدة الآخر.
هذا إلى جانب حقيقة أخرى واضحة وثابتة هي: أن في كل من الدين الإسلامي واللغة العربية من القوة الذاتية والاستعداد الأصيل ما يكفل له الغلبة والانتصار.(/2)
فاللغة العربية – ذاتها – لغة حية أدت رسالتها في الحياة خير أداء، وعبّرت في عصورها الأولى عن حاجات المجتمعات التي تتخذها لغة لها تعبر بها عن مطالبها وآلامها وعلومها وآدابها وفنونها، وما زالت مستعدة للتعبير عن الحياة وما جدَّ فيها، ومستعدة أن تتسع أكثر من ذي قبل لكل جديد مبتكر ومخترع حديث كما يقول الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار في كتابه ((الفصحى والعامية)).
واللغة العربية أيضاً – من أغنى لغات البشر ثروة لفظية تستوعب حاجات الأمة الحسية والمعنوية – كما يقول الأستاذ مصطفى السقا في مقدمة كتاب ((المعجم العربي)) للدكتور حسين نصار.
والعرب منذ أواخر العصر الجاهلي مهتمون بلغتهم معتزون بتراثها الأدبي، وقد قيل: ((الشعر ديوان العرب)) ولكن اهتمامهم واعتزازهم بها ازداد مع ظهور الإسلام لأن الله عز وجل اختارها لغة لدينه؛ قرآناً، وسنةً، وعبادةً، وتشريعاً.. وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد، ثم تضاعف الاهتمام والاعتزاز باللغة العربية وحفظ التراث اللغوي وتنقيته من الدخيل الأعجمي أثناء الفتوحات الإسلامية وبعدها. وعلى الرغم من أن الاستعمار الغربي كان يعمل لهدم اللغة العربية بحسبانها لسان الدين الإسلامي الذي ما يزال يحاول هدمه بالدعوة إلى استخدام اللهجات العامية لغة للتأليف والكتابة كما فعل اللورد ((دفرين)) السياسي البريطاني حين طالب بتدوين العلوم باللغة العامية المصرية. وكما حاول المستعمرون الفرنسيون في الجزائر، إلا أن هذه الدعوات والمحاولات الاستعمارية قَد باءت بالخيبة والفشل والخسران المبين.
وننتقل الآن إلى الحديث عن أثر الإسلام في انتشار اللغة العربية وسنروي أقوال بعض أئمة اللغة والأدب مختصرة عن حقيقة التلازم القوي بين انتشار الإسلام بالعربية، وانتشار العربية بالإسلام.(/3)
نبدأ بالأزهري الإمام اللغوي المشهور فهو يقول في مقدمة كتابه ((تهذيب اللغة)): "الحمد لله، على ما أسبغ علينا من نعمه الظاهرة والباطنة، وهدانا إلى تدبر تنزيله، والتفكر في آياته، والإيمان بمحكمه ومتشابهه، والبحث عن معانيه، والفحص عن اللغة العربية التي نزل بها الكتاب، والاهتداء بما شرع فيه، ودعا الخلق إليه وأوضح الصراط المستقيم به، وهداهم إلى ما فضلنا به على كثير من أهل هذا العصر في معرفة لغات العرب التي نزل بها القرآن ووردت سنة المصطفى النبي المرتضى عليه السلام".
هذا النص من مقدمة ((التهذيب)) لأحد أئمة اللغة الأعلام كاف لأن نتبين الباعث الأساسي على الاهتمام باللغة العربية، وتدوينها وتصحيحها ونشرها ألا وهو ((الإسلام)) قرآناً وسنةً وعبادةً وتشريعاً.
والقرآن نفسه، قبل كلام الأزهري وأمثاله من علماء اللغة، يؤكد حقيقة هذا الباعث الأساسي للاهتمام باللغة العربية والاعتزاز بتراثها العلمي والأدبي. فقد منّ الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى العرب الذين بعث فيهم ومنهم بقوله عز وجل: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون}. {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون}. {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون}. {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} الخ...
فنزول القرآن الكريم بالعربية – كما يتضح من آيات القرآن نفسه – دليل أهميتها وأفضليتها وباعث نهضتها، وصاحب الفضل الأكبر والأثر الأظهر في نشرها وخلودها. وهي – أيضاً – لأنها أغنى اللغات بياناً وأقواها برهاناً كانت ولا تزال عاملاً مساعداً لنشر الإسلام، والإقبال عليه. ويكفي تدليلاً على ذلك اختيار الله لها لساناً لدينه العام والأخير، وهو الإسلام وَمَنُّه بذلك على العرب خاصة والمسلمين عامة.(/4)
وقد رُوي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: (لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، والعلم بها عند العرب كالعلم بالسنن عند أهل الفقه. (كما نقل عن الإمام ابن تيمية قوله:"إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ويقول الأزهري في مقدمته: إن تعلّم العربية التي يتوصل بها إلى تعلم ما تجزئ به الصلاة من تنزيل وذكر فرض على عامة المسلمين. وإن على الخاصة التي تقوم بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهاد في تعلم لسان العرب ولغاتها التي بها التوصل إلى معرفة ما في الكتاب (القرآن) ثم في السنة والآثار وأقاويل أهل التفسير من الصحابة والتابعين من الألفاظ الغريبة، فإن الجهل بذلك جهل بجملة علم الكتاب الخ.
ثم يذكر الأزهري أن من أسباب قيامه بتأليف كتابه: النصيحة الواجبة على أهل العلم لجماعة المسلمين، كما جاء بها التوجيه النبوي: (الدين النصيحة) أي أن دينه حَمَله على أن يضع كتابه في اللغة العربية لإفادة الناس ما يحتاجون إليه، والدفاع عن لغة العرب التي جاء بها القرآن، وجاءت بها السنن والآثار..
ويقول الأستاذ العقاد رحمه الله في مقدمة كتاب (الصحاح) للأستاذ العطار: "ولقد قيل كثيراً إن اللغة العربية بقيت لأنها لغة القرآن. وهو قول صحيح لا ريب فيه، ولكن القرآن الكريم إنما أبقى اللغة لأن الإسلام دين الإنسانية قاطبة وليس بالدين المقصور على شعب أو قبيل. وقد ماتت العبرية وهي لغة دينية أو لغة كتاب يدين به قومه، ولم تمت العبرية إلا لأنها فقدت المرونة التي تجعلها لغة إنسانية، وتخرجها من حظيرة العصبية الضيقة بحيث وضعها أبناؤها منذ قرون".(/5)
ثم يضيف الأستاذ العقاد: ((إن هذه الفضيلة الإنسانية التي لا تفرق بين العربي والأعجمي ولا بين القرشي والحبشي، لهي التي أنهضت لخدمة اللغة أناساً من الأعاجم غاروا عليها من حيف الأعجمية – أي أنهم غاروا عليها من لغة أمّهاتهم وآبائهم، لأنها لغتهم على المساواة بينهم وبين جميع المؤمنين بالقرآن الكريم كتاب الإسلام.
ويقول العقاد أيضاً: وستبقى اللغة العربية ما دام لها أنصار يريدون لها البقاء. ولم ينقطع أنصارها في عصرنا الحاضر بل نراهم بحمد الله يزدادون ويتعاونون. ويتلاقى أبناء البلاد المختلفة على خدمتها ودعمها، لأنهم مختلفون بمواقع البلاد متفقون بمقاصد الضمائر والألسنة والأفكار).
إن العقاد يعني بما قدَّم: أن إنسانية الإسلام وعالمية تشريعه الحكيم هي التي ساعدت على انتشار اللغة العربية التي هي لغة كتابه ((القرآن)) الذي وحّد في المؤمنين به ((مقاصد)) الضمائر والألسنة والأفكار، على الرغم من اختلافهم في مواقع البلاد..
ويقول الدكتور حسين نصار في ((المعجم العربي)) لم تنهر اللغة العربية بانهيار الدولة الأموية وذلك بفضل القرآن الذي أحاط العربية بهالة من القداسة والجلال غمرت كل مسلم مهما كان جنسه ومهما كانت لغته، فاستمرت حية تتوارثها ألسنة جيل بعد جيل. وأن السبب المباشر الذي أظهر الدراسات اللغوية هو ارتباطها بالدراسات الدينية، واتحادها في النشأة... فقد أنزل القرآن كتاب العربية الأعظم على الرسول العربي الكريم [صلى الله عليه وسلم] ليدعو قومه إلى سبيل الرشاد فكان بلغتهم وعلى أساليب كلامهم.(/6)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة من بعده المرجع في تفسير القرآن، ثم جاءت الحركة العلمية الأولى عند المسلمين التي شملت في مدة وجيزة جميع العلوم التي عرفها العالم القديم، فما اتصل بالقرآن كان أولها ظهوراً حيث ظهرت كتب (غريب الحديث) وكان آخر الظواهر التي أمدَّت الدراسات اللغوية بالروافد ظاهرة التدوين العلمي حيث وضعت معظم العلوم العربية في أواخر العصر الأموي وأوائل العهد العباسي: كعلوم القرآن والحديث والفقه والأصول والنحو والرياضة والمنطق والكلام والفلسفة الخ..)).
ويقول الأستاذ سيد قطب في كتابه ((المستقبل لهذا الدين)): "إن انتصار الصليبيين في الأندلس وانتصار اليهود في فلسطين.. أعظم مشاهد على أنه حين يُطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى لغته ولا قوميته بعد اقتلاع الجذر الأصيل".
ويقول أيضاً: "إن المماليك – وهم من جنس التتار – حموا من التتار بلاد العرب، مع أنهم ليسوا من جنس العرب، فصمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين دفاعاً عن الإسلام، لأنهم كانوا مسلمين.. صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم (ابن تيمية) الذي قاد التعبئة الروحية، وقاتل في مقدمة الصفوف.. وكذلك حمى صلاح الدين الأيوبي هذه البقعة من اندثار العروبة والعرب واللغة العربية وهو كردي لا عربي.. وهو إنما حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين، لقد كان الإسلام في ضمير صلاح الدين هو الذي كافح الصليبيين، كما كان الإسلام في ضمير المظفر قطز والظاهر بيبرس والملك الناصر هو الذي كافح التتار المتبربرين".(/7)
ولغير العرب وغير المسلمين شهادات مماثلة: يؤكد جورجي زيدان في كتابه (آداب اللغة العربية) تأثير القرآن في أخلاق أهله وعقولهم وقرائحهم ومعاملاتهم. فالصبغة القرآنية أو الإسلامية – كما يقول – تظهر في مؤلفات المسلمين، ولو كانت في موضوعات علمية.. كالفلسفة والفلك والحساب، فضلاً عن العلوم أو الآداب الشرعية.
وبعد أن يشير جورجي زيدان إلى تأثير القرآن في حياة المسلمين المعاشية والاجتماعية يقول: "... وهذا ما لا نراه في الأناجيل – مثلاً – فإنها كتب تعليمية لمصلحة الآخرة فقط. ولا نجد فيها شرعاً، ولا حكومة ولا أحوالاً شخصية.. أو نحو ذلك". ثم يضيف: "وبالجملة فإن للقرآن تأثيراً في آداب اللغة العربية، ليس لكتاب ديني مثله في اللغات الأخرى".
وجورجي زيدان هذا – كما نعلم – كاتب مسيحي معروف.. فاعترافه بتأثير القرآن على المُسلمين خلقاً وأدباً ولغة وثقافة، وخلو الكتب الأخرى، ومنها الأناجيل، من هذا التأثير – اعترافه هذا له قيمته الكبيرة، ودلالته الخاصة.
وفي كتاب ((اللغات السامية)) لارنست رينان تأكيد آخر لأثر الإسلام في انتشار اللغة العربية، فهو يقول: "إن من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية.. حيث بدت فجأة في غاية السلامة والغنى والكمال، فليس لها طفولة ولا شيخوخة. ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم إلى اللغة العربية ليفهمها النصارى".
كما يقول المستشرق برنارد لويس في كتابه ((العرب في التاريخ)): "إن موجات الفتح الكبرى التي تلت موت محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة الخلافة على أرس الأمة الإسلامية الناشئة قد سطرت بحروف كبرى كلمة ((عرب)) على خريطة القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا، وجعلت منها عنواناً لفصلٍ حاسم رغم قصره، في تاريخ الفكر والأعمال البشرية".(/8)
نكتفي بهذه الآراء والنظريات الحاسمة، لبعض أئمة اللغة والأدب والتاريخ – في القديم والحديث – مسلمين وغير مسلمين.. كحجة ساطعة على مدى التلازم الوثيق والارتباط الشامل بين انتشار الإسلام بالعربية، وانتشار العربية بالإسلام، لأنها لسانه المبين، ولغته الساحرة، ولأنه هو روحها النافذ وعقلها الرشيد.
تآمر الأعداء على اللغة العربية
الذين كادوا للغة العربية كثيرون، من مستشرقين ومستغربين. وغايتهم من ذلك القضاء على وحدة المسلمين التي هي ثمرة التقائهم على لغةٍ واحدة هي لغة ((القرآن)) ولغة ((السنة النبوية)) ولغة التراث الحضاري الإسلامي المجيد..
من المستشرقين المتآمرين على اللغة العربية:
• القاضي الإنجليزي ((دلمور)) الذي عاش في مصر وألف سنة 1902م كتاباً سماه (لغة القاهرة) ووضع فيه قواعد اقترح اتخاذها لغة للعلم والأدب، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية.
• وفي سنة 1926م دعا ((وليم ويلكوكس)) مهندس بالري حينذاك في مصر إلى هجر اللغة العربية، وخطا باقتراحه خطوة عملية، فترجم الإنجيل إلى ما سماه باللغة المصرية.
• وممن أعلنوا آراءهم في أهمية اللغة وأثرها في وحدة المسلمين وقوتهم:
القس زويمر ((1906م)) الذي دعا أيضاً إلى القضاء عليها تمهيداً للقضاء على الإسلام ووحدة المسلمين ومثله ((وليم جيفورد بالجراف)) الذي يقول: ((متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في قبول الحضارة المسيحية التي لم يبعده عنها إلا ((محمد وكتابه)).
• ويزعم ((ارنولد توينبي)) أن اللغة العربية لغة دينية لا تصلح إلا للطقوس والشعائر كالصلاة، وتلاوة القرآن والدعاء.
• وهناك المستشرق الألماني ((سبيتا)) الذي بدأ الدعوة إلى استعمال اللغة العامية لتحل محل العربية سنة 1880م.
أما العرب المستغربون:
الذين حطبوا في حبل أعداء الإسلام، وكالوا بصاعه فمنهم:(/9)
• عبد العزيز فهمي عضو المجمع العلمي المصري.. الذي تقدم سنة 1943م باقتراح لاستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وشغل المجمع ببحث اقتراحه ثلاث سنوات حتى خصص المجمع جائزة مالية لمن يتقدم بأحسن اقتراح لتيسير الكتابة العربية..
• وسلامة موسى، الكاتب المصري المسيحي المعروف بعدائه للإسلام، الذي أيد اقتراح ((ولكوكس)) أن تكون هناك لغة مصرية للكتاب والتأليف، وقال: إن اللغة العربية لغة بدوية، وأنها لغة رجعية متخلفة)).
• ورفاعة الطهطاوي.. الذي دعا بعد عودته من فرنسا سنة 1285هـ إلى استعمال اللغة العامية وتصنيف الكتب بها. ومثله الدكتور لويس عوض الكاتب المصري.
• وكذلك سعيد عقل الكاتب اللبناني.. دعا إلى استخدام اللغة العامية، وكتابتها بالحروف اللاتينية قائلاً في وقاحة عجيبة ((من أراد لغة القرآن فليذهب إلى أرض القرآن)).
• وأحمد لطفي السيد – من مصر – دعا إلى التسامح في قبول المسميات الأجنبية، وإدخالها في اللغة العربية، زاعماً أن استعمال المفردات العامية وتراكيبها: إحياء للغة الكلام والخطاب، وأننا بذلك نجعل العامة يتابعون كتابة الخاصة، وخطبهم وأحاديثهم.
ولئلا نطيل نحيل القارئ إلى كتاب ((الاتجاهات الوطنية)) للدكتور محمد حسين – وكتاب ((أباطيل وأسمار)) للأستاذ محمود محمد شاكر[1] - وكتاب ((تاريخ الدعوة إلى اللغة العامية)) للدكتورة نفوسة زكريا سعيد – وكتاب ((التبشير والاستعمار)) للأستاذين عمر فروخ ومصطفى الخالدي..
لغة عربية جديدة
وفي عام 1393هـ ((1973م)) انعقد في برمانا في لبنان مؤتمر ضم عدداً من أساتذة الجامعات في أمريكا وأوروبا والبلاد العربية. وبحث فيه اقتراح فرنسي قدمه جاك بيول، وأندريه رومان، ورولان مانيه.. بإيجاد لغة عربية جديدة تكون مفرداتها هي المفردات الأكثر تداولاً بين الناطقين بالضاد.. أي استعمال اللهجات العامية الدارجة، وذلك بحجة أن ((الاستعمال هو السيد الذي يفرض نفسه)).(/10)
وهكذا يتكرر الزعم الفاسق بأن الفصحى لا تستجيب للحضارة الحديثة، ولا تستوعبها، وأنها عسيرة على الذين يتعلمونها، ولابد من استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وكتابتها باللهجات العامية الدارجة.. وقد قام فريق من الأدباء العرب بتأليف الكتب، ونظم الأشعار، وكتابة القصص باللهجات العامية تطبيقاً لهذه الدعوة الماكرة، ومظاهرها لدعاتها الكائدين للإسلام والعربية، ومحاولة لإقناع الجماهير بأن اصطناع اللغة العامية في الأدب العربي والصحافة العربية.. إنما هو اعتراف بحقها – أي الجماهير – في العلم والفهم، وفي التأثر بالرأي العام والتأثير فيه.
والدعاة الآخرون إلى الشعر الحر، والشعر المرسل.. المنتقدون لقواعد القصيد العربي، ونظام الوزن والقافية – ليسوا بعيدين عن ميدان التآمر على اللغة العربية وبلاغتها المؤثرة، وأدبها الممتع.
وليس أدل على خطأ هذه الدعوات والمحاولات، وخداع حملتها وافترائهم وزورهم، من الحقائق والتجارب العلمية والتربوية التالية:
أولاً:
أن ما تُتهم به العربية من تقصير ليس في ذاتها، وإنما التقصير الحقيقي هو في نفر من المدرسين الذين يتولون تدريسها للطلاب في المعاهد والكليات، ويؤلِّفون فيها كتبهم ومراجعهم (كما يقول الدكتور عمر فروخ).
ثانياً:
أن أحد أسباب الصعوبة التي يجدها الأطفال في تعلم اللغة العربية: هو فرض لغة أجنبية عليه في المدرسة في سن مبكرة، وأن ازدواجية اللغة في هذه السن الباكرة هي الخطر الحقيقي الذي تتجنبه كل دول العالم. فاللغة الأجنبية يمكن تعلمها عند الحاجة إليها في ثلاثة شهور، كما يقول أحد رجال التربية في لبنان ((في مجلة الحوادث عام 1973م)).
ثالثاً:
أن اللغة العربية حفظت التراث العالمي، والعلمي بالذات، واستوعبتهما قروناً طويلة من الزمن، فكيف تعجز الآن عن القيام بنفس الدور؟
رابعاً:(/11)
إن ثمة مصاعب تواجه كل لغة في العالم، وثمة طرق وأساليب للتغلب على تلك المصاعب، أهمها: بالتأكيد تطوير طرق تدريس اللغة وتعلمها.
خامساً:
يقول الكاتب الإنجليزي ((هكسلي)): "إن كتابة العلوم والآداب باللغة العامة يضعف المواهب العلمية، ويقضي على ملكة الإنشاء الفصحى. لذلك ينبغي أن نرقى بعقول العامة إلى فهم لغة العلم والأدب العالية.. لا أن ننزل بالعلماء والأدباء إلى مستوى العامة".
ومع يقيننا الثابت بخسران هذه المحاولة اللئيمة في معركتها الفاشلة ضد اللغة العربية، لغة القرآن ولغة الدين الإسلامي، خسرانها اليوم وغداً كما خسرت بالأمس القريب والبعيد، إلا أننا لا نجد بُداً من وقفة قصيرة، نَرُدُ فيها الشبهة التي يختلقها الدعاة المتآمرون، حول مقدرة اللغة العربية وكفايتها وبلاغتها، وتفضح – إلى جانب ذلك – ما تقتضيه دعوتهم المنكرة من تخريب للْمجد الأدبي العربي، وتذويبٍ للشخصية العربية الأصيلة لغةً وأدباً وتأريخاً وحضارةً.
إن الدفاع عن اللغة العربية الفصحى: هو دفاع عن القرآن، وعن الدين الإسلامي: قُرآنه، وحديثِ رسوله، وتاريخِه، وتراثِه الفقهي، وذخائرِه الفكرية والأدبية الخالدة الماجدة..
واللغة العربية التي حملت هذا الميراث الضخم الفخم المتطاول على الزمن من حضارة الإسلام الدينية والفكرية والعلمية منذ أربعة عشر قرناً – لا يعجزها بل لم يعجزها فعلاً أن تمضي في رسالتها البيانية والتاريخية وإلى الأبد الأبيد.
أما أنها عسيرة على الذين يتعلمونها، فهذا شأن كل لغة أجنبية يتعلّمُها من هو من غير أهلها. فاللغة الانجليزية أو الفرنسية – مثلاً – عسيرة على الذين يتعلمونها من العرب لكثرة ما فيها من شواذّ في القاعدة، والنطق، والكتابة.. وهو ما لا يوجد في العربية مثيله أو نظيره.(/12)
أمّا عواقب التذويب والتخريب، التي يقتضيها استعمال اللغة العامية في كل قطر عربي، بديلاً عن اللغة الفصحى – فيأتي في مقدمتها الانفصال التام بين شعوب البلاد العربية، لأن كل شعب منها سيقتصر على لغته المحلية تفاهماً وتعاملاً، وتعليماً وصحافة وتأليفاً، فيتعذّر اللقاء بين الشعوب العربية على علم أو أدب أو تعامل أو فكرٍ أو عمل. وهذا ما تريده ((الصليبية الاستعمارية)) فصْماً للوحدة العربية التي وسيلتها اللسان العربي، وقوامها الدين الإسلامي.
ونقول: إن قوام الوحدة العربية: هو الدين الإسلامي، لأنه لا يمكن فصل الإسلام عن اللغة العربية ولا عن الأمّة العربية التي اعزها الله بالإسلام، والتي لا يمكن أن تحيا مجيدة سعيدة إلا في ظله الكريم العزيز.
ومن عواقب التخريب والتذويب، لهذه المؤامرة الماكرة الخاسرة: إهمال جميع الكتب العربية القديمة والحديثة – المؤلّفة بالفصحى بما في ذلك مراجع العقيدة والشريعة، وعلى رأسها القرآن والسنة، والقيام – من جديد – بوضع كتب باللغة العامية أو بالحرف اللاتيني، والتدريس في المدارس والمعاهد والكليات، على الطريقة الجديدة، بعد إلغاء المناهج الحالية، وتخريج معلمين ومدرسين على النظام العامي أو النظام اللاتيني!!
وبعد فإن اللغة العربية التي وسعت كتاب الله (لفظاً وغاية)) كما قال ((حافظ إبراهيم)) وسعت حضارة الإسلام أربعة عشر قرناً: علماً وأدباً وفكراً وتأريخاً، واستطاع علماء العرب ومفكروهم ومترجموهم – قديماً – أن يستولدوها كلمات ومعاني جديدة من لغات أخرى، عن طريق التعريب والاشتقاق.
.. هذه اللغة الولود الودود، الغنية السخية ليست عاجزة عن مسايرة ركب العلم الحديث، وإنما أبناؤها العاقون هم العاجزون. وهم الذين يخربون بيوتهم بأيديهم، ويطفئون نور حضارتهم بأفواههم، ويطمسون معالم شخصيتهم العربية الإسلامية الأصيلة بآرائهم المنحرفة.(/13)
إلا أن المتآمرين على الإسلام، ولغته، وتراثه الحضاري المجيد الرشيد: هم الخاسرون...
ــــــــــــــــــــــ
[1] في الأصل (محمد محمود شاكر).(/14)
العنوان: اللغة العربية لغة القرآن
رقم المقالة: 833
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
إخوتي وأخواتي
أبنائي وبناتي
تثار بين الفينة والفينة هجمة ظالمة على اللغة العربية لغةِ القرآن، وتُهاجم بشراسة، وتتعدّد مقولات المهاجمين.
ولا أعلم لغة في الأرض تتعرّض لمثل ما تتعرّض له العربية، وما ذلك إلا لأن هؤلاء المهاجمين يريدون الهجوم على الإسلام، فجعلوا اللغة العربية هدفًا أولاً. ولا أعمّم فهناك ناس طيبون مخدوعون ظنوا أن في ذلك خدمة للعلم فقالوا بقولهم وهم مخطئون.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الانفال: 36].
لقد أخبرني صديق صدوق من أهل السودان أن من يتعلّم اللغة العربية في جنوب السودان يدخل في الإسلام مباشرة.
إن أعداء العربية يدّعون أن هذه اللغة لا تستطيع التعبير عن حقائق العلم التجريبي!!
ويدّعون تارة أخرى أنّ الحروف العربية ينبغي أن تُستبدل وتحلَّ الحروفُ اللاتينية محلّها.
وينادون تارة بإحلال العامّية محل الفصحى.. إلى غير ذلك من الادّعاءات الباطلة فأردت في هذه الكلمة بيان فضل هذه اللغة.
اللغة العربية لغة حية ظلّت على مدار بضعة عشر قرنًا لغة الأدب والشعر ولغة المعارف العامة التي كان العرب يعرفونها بحكم تجربتهم ورواياتهم. ثم غدت لغة العلم منذ القرن الهجري الأول وما زالت كذلك إلى الآن.
يكتب الفقيه بها علم الفقه، ويكتب الطبيب بها علم الطب، ويكتب الفلكي بها علم الفلك، ويكتب عالم الرياضيات بها حقائق هذا العلم، ومن الجدير بالذكر أن أمتنا هي التي اخترعت علم الجبر، ويكتب عالم الفيزياء وعالم الكيمياء بها حقائق هذين العلمين.. وهكذا..(/1)
وما زالت هذه اللغة متصفة بالحيوية حتى هذه اللحظة.
وقد عمل المستعمرون الذين احتلّوا بلاد المسلمين بالحديد والنار على محاربة اللغة العربية، وصنع مناهج التعليم على ما يحقق لهم أغراضهم الاستعمارية، لقد عمدوا إلى جعل الإنكليزيّة محل العربيّة في الجامعة والمدارس الثانويّة في مصر العزيزة بلد الأزهر، وكانت العربية قبل ذلك هي لغة التعليم [1].
وكانت الكارثة.. إذ قلّدت بعض الدول العربية مصر في ذلك.. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
أمّا بلاد الشام فقد أبت أن تنقاد إلى هذه الخطة المغرضة، وشرعت تدرس الطبّ منذ أكثر من ثمانين سنة في كلية الطب باللغة العربية [2].. ولما أنشئت في دمشق كلية العلوم والكليات العلمية التجريبية الأخرى كان التدريس فيها كلها باللغة العربية. وكان في هذه الكليات علماء أفذاذ جمعوا بين معرفة واسعة في اللغة وإتقان للمادة العلمية التي يدرسونها، وقد كتبوا في علومهم التي تخصصوا بها كتبًا ضخمة مؤلّفة بالعربية من الطبّ والرياضيّات والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها. أغنوا بها الفكر العلمي المكتوب بالعربية. وكان المتخرّجون في هذه الكليات متمكّنين من مادّة التخصص التي درسوها وكانوا متفوّقين في تخصّصهم، واستطاع من ذهب منهم إلى ديار الغرب لمتابعة دراسته أن يثبت تمكّنه من مادّة تخصّصه واستيعابه لحقائقها.
وإنّه ليحزنني – والله – أن تكون الأمة العربية قد رضيت لنفسها المهانة عندما خضعت لرغبة الأعداء فهجرت اللغة العربية وأخذت لغة أعدائها المستعمرين تدرّس أبناءها العلوم باللغة الأجنبية.
إن جميع الدول لا تدرس العلوم إلاّ بلغتها القومية سواء في ذلك بلاد الغرب والشرق، فالصين واليابان وكوريا وتركيا وإسرائيل وروسيا ودول شرقي أوربا، كل هذه البلاد وغيرها تدرس أولادها بلغاتها القومية.(/2)
ومن أبرز الملاحظات التي تبدو لي ههنا تدريس إسرائيل العلوم باللغة العبرية، والعبرية لغة ميتة مضى على موتها أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ولكن اليهود عملوا على إحيائها، وقد أحيوها وها هم أولاء يدرّسون بها.
حقًّا إنّه لأمر عجيب أن ينفرد العرب بهذا الموقف المريب.
ويثيرون مشكلة المصطلحات العلمية، وما هي بمشكلة أبدًا.
إن تعليم العلوم باللغة العربية يعني شرح النظريات والحقائق العلمية وبيانها باللغة العربية.
وهذا شيء، ووجود المصطلحات العلمية خلال الشرح والبيان شيء آخر، والمصطلحات لا تشكل حجمًا كبيرًا من النص.
ولا مانع عندنا أن تبقى بعض المصطلحات باللغة الأجنبية إن لم نجد لها مصطلحًا في العربية. والمهمّ هو أن تعرف قضايا العلم وتشرح باللغة الأمّ للطلاّب.
وقد عُني مؤلفونا بموضوع المصطلحات، ومن أشهرهم التهانوي الذي كان حيًّا في سنة 1158هـ. والذي ألّف معجمًا قيّمًا سمّاه: "كشّاف اصطلاحات العلوم".
وقد وضع العلماء المسلمون عددًا من الموسوعات العلمية والمعاجم الشاملة وفيها بعض المصطلحات ومنها: "جامع العلوم الملقب بدستور العلماء" لأحمد فكري، و"مفاتيح العلوم" للخوارزمي، و"الكليات" لأبي البقاء الكفوي، و"التعريفات" للجرجاني.
وقد يشكو بعضهم من تعدد المصطلحات العربية، ذلك أن علماء بلد عربي يضعون مصطلحًا، ويقوم علماء بلد عربي آخر بوضع مصطلح مغاير للتعبير ذاته.
أقول: وليس في ذلك بأس والمصطلح الأجود سيفرض نفسه ويسود، وهذه الشكوى لم تعد واردة بعد أن صدر المعجم الطبي الموحد الذي وضعه علماء من بلدان عربية متعددة وهم:(/3)
د. جميل عانوتي (لبنان)، ود. حسني سبح (سوريا)، ود سعيد شعبان (الجزائر)، ود. الصدّيق الجدي (تونس)، ود. عادل حسين لطفي (مصر)، ود. عبداللطيف البدري (العراق)، ود. عبداللطيف بنشقرون (المغرب)، ود. محمد أحمد سليمان (مصر)، ود. محمد هيثم الخياط (سوريا)، ود. محمود الجليلي (العراق)، ود. مروان المحاسني (سوريا)، ود. أحمد عبدالستار الجواري.
وهذا المعجم أصدره اتحاد الأطباء العرب في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الميلادي الماضي.
وقد صدرت الطبعة الأولى بعد أن عملت لجنة توحيد المصطلحات سبع سنين في إعداده. وكان هذا المعجم بالإنكليزي والعربي.
وقد وَجَد اتحاد الأطباء العرب أن من الضروري أن يُشفع هذا المعجم بمعجم فرنسي عربي، فعهد مجلس وزراء الصحة العرب إلى المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بشرق البحر الأبيض المتوسط أن يقوم بإنشاء معجم فرنسي عربي وأن يعيد النظر في الأصل الإنكليزي العربي لتعديل ما ينبغي تعديله ولإضافة عدد من المصطلحات الجديدة التي لم يشتمل عليها المعجم في طبعته الأولى وهي كثيرة متنوعة. فكانت هذه الطبعة الثانية التي صدرت 1988 وقد استغرق إعدادها أربع سنوات. وقد ضمّ هذا المعجم عددًا كبيرًا من المصطلحات العربية والإنكليزية والفرنسية.
وللحديث تتمة
ــــــــــــــــــــــــ
[1] بدأ التدريس الطبي في مصر سنة 1827 يوم أسّس محمد علي في أبي زعبل ثم قصر العيني أول مدرسة للطب الحديث، وكانت لغة التعليم هي العربية. (انظر كتاب "في سبيل العربية" للدكتور محمد هيثم الخياط. ص28).
[2] أُسس المعهد الطبي العربي في دمشق سنة 1919م الذي أصبح فيما بعد كلية الطب في الجامعة السورية. (انظر كتاب "في سبيل العربية" ص32).(/4)
العنوان: اللهَ اللهَ الصلاة
رقم المقالة: 1160
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون:
يقول - صلى الله عليه وسلم -: كما في الصحيحين: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله))[1].
أمره الله أن يقاتل هذا الإنسان، حتى يسجد لله، فيوم يتهاون الإنسان بالصلاة، أو يترك الصلاة، أو يتنكر للصلاة، أو لا يتعرف على بيت الله، يصبح هذا الإنسان لا قداسة له، ولا حرمة له، ولا مكانة ولا وزن.(/1)
هذا الإنسان حين يترك الصلاة، يكون دمه رخيصاً لا وزن له، يسفك دمه، تهان كرامته، يقطع رأسه بالسيف، قيل حدّاً، وقيل كفراً وهو الصحيح.
يقول الله - تعالى - عن جيل من الأجيال تهاونوا بالصلاة: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم: 59].
قال أحد السلف: أما إنهم ما تركوها بالكلية، ولكن أخروها عن أوقاتها.
أي إسلام لإنسان يترك الصلاة، أي دين له، ما معنى شهادة أن لا إله إلا الله لرجل تؤخره تجارته، أو وظيفته، أو عمله، أو منصبه، أو اجتماعه عن الصلاة، ثم يتبجح بعد ذلك مدعياً أنه مسلم! {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142].
إنهم يصلون. لكن صلاة العصر مع غروب الشمس، وصلاة الظهر في الساعة الثانية، وصلاة المغرب مع العشاء، وصلاة الفجر مع طلوع الشمس! فأين الإسلام، وأين لا إله إلا الله، وأين التحمس للدين؟!
حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معركة الأحزاب، قبل أن تنزل صلاة الخوف، فقام يقاتل المشركين، دمه يسيل على الأرض في مخاصمة لأعداء الله، فنسي صلاة العصر حتى غربت الشمس، ما نسيها لأنه كان في لهو أو لعب حاشا وكلا، بل نسيها من احتدام القتال، اليهود، المشركون. المنافقون. عملاء الصهيونية العالمية. أنسوه صلاة العصر، فلما غربت الشمس قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى))[2]. ثم قام فصلاها، فأنزل الله - تعالى - صلاة الخوف، يصليها المسلم أثناء القتال، يصليها الذي يقود الدبابة، يصليها الذي يحمل الرشاش، يصليها المريض على سريره، لا يعذر في تركها أحد.(/2)
إن تأخير الصلاة عن وقتها، معناه النفاق الصريح الذي وقع فيه كثير من الناس، إلا من رحم ربك، يقول - صلى الله عليه وسلم - وهو في سكرات الموت: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم))[3] فاي دين بلا صلاة، وما معنى الانتساب للإسلام بغير صلاة، يقولون: مسلمون، ولكن لا نصلي، أو نتهاون بالصلاة، أو ننقر الصلاة، فأين الإسلام؟ وأين الصدق مع الله؟ وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((الذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال، معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم))[4].
وعند أحمد: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني، يحرقون ما في البيوت بالنار))[5] لماذا؟ لأنهم أصبحوا في عداد المنافقين، يتذرعون بالإسلام، ولكن لا يصلون الجماعة مع الناس ويدَّعون لا إله إلا الله ثم يخرجون الصلاة عن أوقاتها. يسأل - عليه الصلاة والسلام - عن أفضل الأعمال فيجيب: ((الصلاة لوقتها))[6]. ويقول أيضاً: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر))[7]. دمه مسفوك بسيف الشريعة، خارج من الملة، لا طهر له، لا قداسة، لا حرمة، لأنه حارب الله ولم يعظم شعائره، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة))[8].
إنه لا عذر لأحد في ترك الصلاة مع الجماعة، ما دام صحيحاً سليماً يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف))[9].(/3)
مرض أحد الصالحين من التابعين، اسمه ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير، فسمع أذان المغرب، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت مريض، وقد عذرك الله. قال: لا إله إلا الله! أسمع حي على الصلاة. حي على الفلاح ثم لا أجيب! والله لتحملني إلى المسجد، فحملوه إلى المسجد، ولما كان في السجدة الأخيرة من صلاة المغرب، قبض الله روحه.
قال بعض أهل العلم: كان هذا الرجل إذا صلى الفجر، قال: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قيل له: وما الميتة الحسنة، قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد.
نعم هذه هي الميتة الحسنة، أن يتوفاك ربك وأنت في صلاة، أو في جهاد في سبيل الله، أو على طهارة وأنت تقرأ القرآن، أو في طلب العلم، أو في مجالس الذكر.
والميتة القبيحة: أن يتوفاك الله وأنت تستمع إلى الأغنية، أو في سهرة خليعة، أو على كأس الخمر، أو في سفر إلى الفاحشة، أو في مجالس الغيبة، هذه هي الميتة القبيحة التي تعوذ منها الصالحون.
سعيد بن المسيب إمام التابعين، كان يأتي في ظلام الليل، إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له إخوانه: خذ سراجاً لينير لك الطريق في ظلام الليل فقال يكفيني نور الله {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40].
وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))[10]. وهل في القيامة ظلم؟ وهل في القيامة ليل؟ إي والله. ليل أدهى من الليل، وظلمة أدهى من الظلمة، يجعلها الله لأعداء المساجد، وللذين انحرفوا عن بيوت الله، تظلم عليهم طرقاتهم وسبلهم يقولون للمؤمنين يوم القيامة: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} [الحديد: 13].(/4)
كان لسعيد بن المسيب عين واحدة، ذهبت الأخرى، قالوا من كثرة بكائه في السحر، خشية لله، وكان يذهب بهذه العين الواحدة في ظلام الليل إلى المسجد، وقال في سكرات الموت وهو يتبسم: والله ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد، قبل الأذان تجد سعيد بن المسيب في المسجد.
لكن أتى أناس، أكلوا نعم الله، وتمرغوا في فضل الله، ولكنهم نسوا حقه وأهملوا شعائره، فأصبحت الصلاة في حياتهم آخر شيء يفكرون فيه، وإلى الله المشتكى.
ودَّع عمر - رضي الله عنه وأرضاه - سعداً إلى القادسية، ثم قال له: يا سعد، أوص الجيش بالصلاة، الله الله في الصلاة، فإنكم إنما تهزمون بالمعاصي، فأوصهم بالصلاة.
كان الصحابة إذا تلاقت الصفوف،والتحمت الأبدان، وأشرعت الرماح، وتكسرت السيوف، وتنزلت الرؤوس من على الأكتاف، تركوا الصفوف لطائفة، وقامت طائفة أخرى تصلي.
نَحنُ الذين إِذَا دُعُوا لِصَلاتِهِم وَالحَرْبُ تسْقِي الأَرْضَ جَاماً أَحْمَرَا
جَعَلُوا الوجُوهَ إِلى الحِجَازِ فَكَبَّرُوا فِي مَسْمَعِ الرُّوحِ الأَمِينِ فَكَبَّرَا
حضر أجدادنا حصار كابل – عاصمة أفغانستان – فطوقوها من كل جهة، ولبسوا أكفانهم، لأنهم يريدون؛ إما الحياة في عز، وإما الموت في شرف.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52].
هذه هي غاية المسلم وهذا هو مراده.
فَإِمَّا حَيَاةٌ نّظَّمَ الْوَحْيُ سَيْرَهَا وَإِلاَّ فَمَوتٌ لا يَسُرُّ الأَعَادِي
إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ إِمَامُنَا كَفَى بِالْمَطَايَا طِيب ذِكْرَاكَ حَادِي(/5)
وقف أجدادنا يحاصرون كابل، ولما صلوا الظهر، قال القائد العظيم قتيبة بن مسلم، وقد كان قبل المعركة يبكي ويقول: اللهم انصرنا، فإن النصر من عندك، فلما وقف بعد صلاة الظهر، وكان جيشه يقدر بمائة ألف مقاتل، قال ابحثوا لي عن الرجل الصالح محمد بن واسع، أين هو محمد بن واسع؟!
لقد حانت ساعة الصفر، ساعة بيع الأرواح، ساعة تفتح فيها أبواب الجنان، ساعة حضور الملائكة، ولا زال القائد يقول: ابحثوا لي عن محمد بن واسع، فالتمسوه، فوجدوه يبكي، وقد اتكأ على رمحه، ورفع أصبعه إلى السماء يقول: يا حي يا قيوم. فأخبروا قتيبة بذلك، فدمعت عيناه، ثم قال: الذي نفسي بيده، لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف مقاتل طرير، وابتدأت المعركة، وحمي الوطيس، وانتصر المسلمون، ولم يصلوا العصر إلا داخل كابل.
إنها الصلاة، إنها حياة القلوب، إنها الميثاق، إنها العهد بين الإنسان وبين ربه.
ويوم يتركها المرء، أو يتهاون بها، يدركه الخذلان، وتناله اللعنة، وينقطع عنه مدد السماء.
عباد الله:
إن من أسباب السعادة، وحفظ الله لنا، ودوام رغد العيش الذي نعيشه، أن نحافظ على عهد الله في الصلاة، وأن نتواصى بها، وأن نأمر بها أبناءنا.
يقول لقمان - عليه السلام - لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17].
فهل من مجيب؟ وهل من مسارع إلى الصلاة حيث ينادي بهن؟ وهل من حريص على تلكم الشعيرة العظيمة؟ إنها الحياة. ولا حياة بغير صلاة.
لما طعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صلاة الفجر، فاتته ركعة واحدة، غلبه الدم، فحمل على أكتاف الرجال، ووصل إلى بيته فلما أفاق قال: هل صليت؟ قالوا: بقيت عليك ركعة، فقام يصلي. فأغمي عليه، ثم عقد الصلاة، فأغمي عليه، ثم قام يصلي. فأغمي عليه، ثم أتم الركعة وقال: الحمد لله الذي أعانني على الصلاة.(/6)
فالله الله في الصلاة. من حافظ عليها، حفظه الله، ومن ضيعها، ضيعه الله، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
فالصلاة الصلاة عباد الله، في أول وقتها؛ بخشوعها، بخضوعها، بأركانها، وواجباتها، وسننها، لعل الله أن يحفظنا ويرعانا كما حافظنا عليها وعظمناها.
اشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِماً فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس:
يوم الجمعة أفضل الأيام عندنا أهل الإسلام، يوم الجمعة عيد لنا، يوم الجمعة تاريخ، وله قصة من أعظم القصص، هذا اليوم خلق الله فيه آدم، وفي هذا اليوم، أدخله الله الجنة، وفي هذا اليوم أخرجه الله منها، وفيه تقوم الساعة[11].
وفي هذا اليوم كانت ساعة النزال بين موسى - عليه السلام - وبين فرعون عليه اللعنة، يوم الصراع العالمي بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين الهدى والضلال.
يوم جاء موسى بالتوحيد، وليس معه إلا عصاه، وجاء فرعون بالصولة والصولجان، ومعه دجاجلة الدنيا وسحرة الدنيا. {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] هذا هو يوم الجمعة في التاريخ.
ولكن ما هو واجب هذا اليوم العظيم علينا؟
إن من المؤسف أن كثيراً من الناس، جعلوا هذا اليوم موسماً للنزهة والخروج، بحيث يضيعون في طريقهم صلاة الجمعة، فلا يحضرون الخطبة، ولا يؤدون الصلاة، ولا يتهيئون لهذا اليوم العظيم.(/7)
إن الملائكة تقف من الصباح على أبواب المساجد؛ تسجل الأول فالأول، فإن صعد الخطيب على المنبر، طوت الصحف، وأنصتت لسماع الخطبة.
أما الإنسان فيجعله يوماً للهو واللعب، فيخرج ويترك صلاة الجمعة، ويبارز ربه - عزَّ وجلَّ - بالمحاربة.
نص شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على أن المسافر إذا حضر صلاة الجمعة في المدينة، فعليه أن يؤديها في المسجد.
المسافر وهو في حال السفر ومظنة المشقة إذا نزل في مدينة تقام فيها الجمعة، عليه وجوباً أن يحضر صلاة الجمعة، ليستمع إلى الخطبة، ويعيش مع المسلمين مشاعرهم وأحاسيسهم.
أيها المسلمون:
يوم الجمعة له علينا واجبات وحقوق منها:
الاغتسال والتطيب: وقد أوجب غسل الجمعة بعض أهل العلم والجمهور على أنه سنة مؤكدة، وذلك ليتهيأ العبد للقاء الله؛ لأنه عيد، وهو يذكر بيوم العرض الأكبر على الله - تعالى.
وكما أنه ينبغي أن نتجمل بالاغتسال والطيب واللباس الحسن، فكذلك ينبغي أن نتجمل بالتحلي بالأخلاق الفاضلة، كالصدق والأمانة والحلم والمروءة، وأن نتخلى عن الأخلاق الذميمة؛ كالحقد والحسد والغيبة والنميمة وغيرها.
فليس في القيامة ثياب، ولا سيارات، ولا كل هذه الزينة الظاهرة، وإنما {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].
فالسجل مكشوف والبدن عار والضمائر معروضة وكتابك مفتوح أمام عينيك {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14].
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94].
{وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49].
كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر على الله))[12].
فما الفائدة إذا كانت الظواهر جميلة، والبواطن خراب!!(/8)
لَبِسْنَا وَاشِياً مِن كُلِّ حسنٍ فَمَا سَتَرَت مَلاَبِسُنَا الخَطَايَا
وَتِلْكَ قُصُورُنَا بِالعُمْرِ بَاتَت وَتِلْكَ قُبُورُنَا أَضْحَتْ خَلاَيَا
ومن حقوقها كذلك: التكبير إلى الصلاة، وإتيان المسجد قبل الأذان فليس من المعقول أن يدخل الخطيب المسجد قبل الأذان، ثم يأتي المصلون بعده تباعاً.
يأتي المصلون من بيوتهم بعد صعود الخطيب على المنبر، بل إن المساجد تبقى فيها الأماكن الكثيرة الخالية من المصلين، وقد أشرف الخطيب على الانتهاء من الخطبة، حتى إذا انتهى من خطبته، دخل المتخلفون بلا أجور؛ ليشهدوا الصلاة هكذا مع الناس.
فأين الساعة الأولى؟ وأين الساعة الثانية؟ وأين المبكرون؟
إن قوماً لا زالوا يتأخرون، حتى يؤخرهم الله فيمن عنده، وإن قوماً لا زالوا يتقدمون، حتى يقدمهم الله فيمن عنده.
وإن بعض الغوغاء ممن لا يفهمون أحكام الله؛ يبيعون ويشترون بعد الأذان الثاني وصعود الخطيب، أي بيع لهم! لا أربح الله تجارتهم.
الملائكة تنصت للخطبة، والسماء مفتوحة تستقبل الدعاء، وخطباء الأمة الإسلامية الخالدة على المنابر، وقلوب الناس متجهة لسماع الخطيب، والسكينة تغشى الناس، والرحمة تحف بهم، والله يباهي بهم مَنْ في السماء.
وهؤلاء اللاهون يبيعون ويشترون، ويجرحون مشاعر المسلمين، ويتعدون على حرمة صلاة الجمعة.
فإذا أذن المؤذن، فلا بيع، ولا شراء، ولا تجارة، ولا دنيا، إنما توجه إلى الله - تعالى - وإنصات لأحكامه، بل إن الجالس ليس له أن يكلم من بجانبه ولا أن يسلم عليه، قال بعض العلماء: وليس له بعد دخول الخطيب، وبدء الخطبة أن يكلمه، ولو بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت))[13] وزاد بعضهم: ((ومن لغا فلا جمعة له))[14] وفي الصحيح: ((من مس الحصى فقد لغا))[15].(/9)
فعليكم بالسكينة أيها الناس، لا تنشغلوا باللعب بالسواك، ولا بتهيئة الغترة، ولا بمس اللحية، وإنما خشوع وسكينة، وتوجه إلى الله الواحد الأحد.
وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - فضل ذلك فقال: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام))[16].
ومن معالم الجمعة كذلك: قراءة سورة الكهف، فقد صح عند الدارقطني والبيهقي: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين))[17].
وفي لفظ: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق))[18].
أيها الناس:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
---
[1] أخرجه البخاري (1/11، 12)، ومسلم (1/52) رقم (21).
[2] أخرجه البخاري (3/233)، ومسلم (1/436) رقم (627).
[3] أخرجه أحمد (6/290، 311، 315، 321)، وابن ماجه (1/519) رقم (1625)، عن أم سلمة. في الزوائد: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[4] أخرجه البخاري (1/158). ومسلم (1/451) رقم (251، 252، 253).
[5] أخرجه أحمد (2/36) وفي إسناده: نجيح أبو معشر السندي قال ابن حجر في التقريب (2/298): ضعيف من السادسة، أسن واختلط.
[6] أخرجه مسلم (1/89) رقم (85).
[7] أخرجه النسائي (1/231) رقم (463)، والترمذي (5/15) رقم (2621) وقال: حديث حسن صحيح غريب. وابن ماجه (1/342) رقم (1079)، وأحمد (5/346، 355). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع، رقم (4143).
[8] أخرجه مسلم (1/88) رقم (82).
[9] أخرجه مسلم (1/453) رقم (654).
[10] أخرجه أبو داود (1/154) رقم (561)، والترمذي (1/435) رقم (223)، وابن ماجه (1/256) رقم (781). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع، رقم (2823).(/10)
[11] لفظ الحديث ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة)) أخرجه ملم (2/585) حديث رقم (854).
[12] ذكره الترمذي في سننه (5/550).
[13] أخرجه البخاري (1/224)، ومسلم (2/583) كتاب الجمعة، حديث رقم (851).
[14] أخرجه أبو داود (1/276، 277) رقم (1051) عن علي - رضي الله عنه -.
[15] أخرجه مسلم (2/588) رقم (857).
[16] أخرجه مسلم (2/587، 588) رقم (857).
[17] أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري، وصححه الألباني كما في الإرواء رقم (226).
[18] أخرجه البيهقي في العب، وصححه الألباني كما في الإرواء رقم (626) وانظر صحيح الجامع رقم (6470، 6471).(/11)
العنوان: الله موجود
رقم المقالة: 128
صاحب المقالة: أحمد نجيب
-----------------------------------------
اُنظرْ إلى العُصفورْ يَطيرُ في الهواءْ
يَجْمَعُ بَعضَ القَشّ يَصنَعُ مِنْهُ العشّ
مَن عَلّمَ العُصفور أن يَجْمَعَ القَشَّا؟
مَن عَلّمَ العُصفورْ أن يَصْنَعَ العُشَاّ؟
اللهُ ربُّنا.. وربُّ كلِّ الناسْ
اللهُ لا نَراهْ لكنَّهُ مَوجودْ
ولا نَرَى الهَواءْ لكنَّهُ موجودْ
مَن خَلقَ البِحارْ والزَّرعَ والشَّجرْ؟
مَن صَنعَ السَّحابْ من يُنْزِلُ المطرْ؟
من خَلقَ السَّماءْ وَالشَّمسَ والقمرْ؟
اللهُ ربُّنا.. وربُّ كلِّ الناسْ
اللهُ لا نَراهْ لكنَّه موجودْ
ولا نَرَى الهواءْ لكنَّه موجودْ
مَن خَلقَ الأَطفالْ والنَّاسَ والرِّجالْ؟
مَن خَلقَ العُصفورْ والقِطَّ والطُّيورْ؟
مَن خَلقَ الزُّهورْ اللهُ ربُّ النُّورْ
اللهُ ربُّنا.. وربُّ كلِّ الناسْ
الله لا نَراهْ لكنَّهُ موجودْ
ولا نَرى الهواءْ لكنَّهُ موجود(/1)
العنوان: اللهُمَّ أبدلهم إماماً خيراً من هذا الإمام!
رقم المقالة: 1470
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
تأخرتُ في التهيؤ لصلاة التراويح، فآثرتُ أن أدرك العشاء والصلاة في مسجد لا يبعد كثيراً، كانت لي به معرفةٌ سابقة، لقد كان إمامُه من طلاب العلم، وكان له جهدٌ مبارك في الحي، وقد علمت أنه ترك المسجدَ لظروف يختلف الناسُ في تقديرها.
وأياً ما كان فقد ترك المسجدَ وعهِد به إلى المؤذن السابق، فأضحى بين عشية وضحاها المؤذنُ إماماً وخطيباً مع أنه لا يزال طالباً، والمسجدُ يقصده عددٌ كبير من المصلين، يحتاج إلى من له خبرة وحنكة في التعامل مع الناس.
دخلتُ المسجد، وبعد أن أدينا صلاةَ العشاء جماعة، توجه الإمامُ الجديد إلى اللاقط، ووجَّه الأخوات المصليات بأسلوب فج لا يليق -في تقديري- فلا أظن أن قول القائل مثلاً: على الأخوات الفضليات(!) تركُ اللعب أو العبث بالمكيفات. لا أظن أن هذا توجيه رشيد!
وأياً ما كان فقد لبثنا هنيهة ثم تقدم شاب -إمام مساعد- ليبدأ التراويح، فاستفتح القراءةَ من سورة مريم -وكنا في الأيام الأولى من رمضان- وصلى ركعتين، ثم صلى الإمامُ الجديد مثلَهما وأوتر.
لقد كان الإمامُ يقرأ نظراً، ومع ذلك لم تخلُ القراءةُ من أخطاء تدخل في حيز اللحن الجلي، ومجملُ القراءة في الركعات كلها كانت نحوَ خمسة أوجه –أو أقل- فلا أدري لأي معنى قسمت القراءة على رجلين! ومع ذلك لطول الفواصل والتأخر خرجنا نحو التاسعة والربع أي بعد نحو الساعة.
أما دعاءُ القنوت فلا تسل عن الأخطاء التي تضمنها، حتى إني لم أكن أجرؤ على التأمين في بعضه، وأعجب ممن يؤمّن، وأقول: اللهم سلّم سلّم!(/1)
وليست الأخطاءُ التي أتحدث عنها من قبيل الأخطاء المعهودة كأن يختم الدعاء على الظالمين المتجبرين بصفة رحمة، أو العكس، أو يلحن في لفظ، أو يغلط في ضبط كلمة أو إعرابها، لكنها أخطاء من لا يعقل ما يقول حقاً! وأذكر منها على سبيل المثال قولَه: (اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وذرياتنا وأزواجنا أبداً ما أحييتنا واجعلها الوارث منّا)! فهل رأيتَ إماماً يدعو على المصلين بأن ترثهم أزواجُهم وذرياتهم وهم يُؤمِّنون؟! نعم هو لم يُرِد هذا ولكنه حاصلُ لفظه! والدعاء على النفس لا تُحمد مغبتُه ولو جاء خطأ، ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نعس الرجلُ وهو في الصلاة فلينصرف، لعله يدعو على نفسه وهو لا يدري)[1].
على كل حال، بعد أن جلسنا للتشهد الأخير، واستعذتُ بالله من الأربع، وجدتني أدعو وأقول: اللهم أبدل هؤلاء القومَ إماماً خيراً من هذا الإمام!
ومع كل ما رأيت لم أكن لأعجب إذا كنت في بلاد لم ينتشر فيها العلمُ ويكثر طلابُه، فقد شهدت في مساجد أخرى في بعض بلاد الله التي قلّ فيها العلمُ ما هو أعجب!
ولكني في بلادٍ -ولله الحمد- وفقني الله فيها للاتصال ببعضِ كبار علمائها ودعاتها، وقد عاشرتُ فيها وصاحبتُ من طلاب العلم الجادين فئاماً لا أوازن نفسي بهم، وهم بحمد الله جم غفير، ولا أظن أن بعضَهم لو عُرض عليه مثلُ هذا المسجد الذي أتحدث عنه يأبى إمامتَه!
ومع هذا قُدِّم مثلُ هذا وسُكِت عنه، وقد تقرَّر قبحُ المجاملات والوساطات يوم تدخل عموم الولايات، ولعلها في الولايات الدينية أشد قبحاً، ولا يليق بنا أن ننكر الأولى ونتغاضى عن الثانية، كما لا يسوغ أبداً أن نشهد على الكفاءة بالتخمين والحدس أو بمحض الزور، فسوف تكتب شهادتنا ونسأل.(/2)
ولا سيما إن كان لمثل التغاضي عن هذا الشأن آثار لا ينبغي أن نقلل من شأنها؛ كهوان مرتبة الإمام في أعين عموم الناس، وكتولية أمر الإرشاد والتوجيه -والأمةُ أحوجُ ما تكون إليه- إلى من ليس له بأهل.
وبعدُ.. أخي الإمام، فنصيحتي لك أن تعتني بأمر المسجد، وأن تقوم بالأمانة على وجهها، فمسؤوليتُك توجيه حي بأسره، فاتق الله وإياك والتفريط، وقدر مئات العقول التي تصلي خلفك أو تسمع خطبتك، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سن للخطبة سنناً وفرض لها آداباً -حتى منع من مس الحصى، ومن قولة (صَهْ)- لم يشرع ذلك إلاّ ليعي الناسُ قولَك، ويُقبِلُوا على خطابك، فإذا كان منقولاً عن موقع ما، مكرَّراً كما هو مع أخطائه، بالإضافة إلى أخطاء أدائه فما قيمتُه؟ وما فضلُك على من سواك؟!
وأما التراويحُ فالناس لا يشترطون لها في الغالب إماماً حافظاً متقناً، ولكن على الأقل إن لم تكن قد عرضت القرآن على متقن صَحَّحَ لك، فاسمع مقطعاً من شريط لقارئ متقن يقرأ ما تنوي القراءة به وصحِّح أغلاطك على تلاوته قبل أن تؤم الناس.
فإن كانت تلك طاقتك، فانزل عن منبر الإرشاد والتوجيه –الذي تحتاجه الأمة- وانظر له من يسد مسده، واترك ولاية الصلاة -التي هي عماد الدين- إلى من هو أكثر كفاءة وفق معايير السنة.
واستحضر دائماً أن الإمامة مسؤولية وأمانة، وأن حياً بأسره قد تعلق برقبتك، وليس عيباً أن تتنحى إن لم تكن تطيق الحمل الثقيل.
أعانك الله وسددك، وجنبنا وإياك التقصير والزلل.
ورزقنا القيام بواجباتنا وإعطائها حقها.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه النسائي في سننه (162)، وصححه الألباني.(/3)
العنوان: الماء.. تلك النعمة المهدرة
رقم المقالة: 1002
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
الماء.. تلك النعمة المهدرة
الإسلام أول من وضع التشريعات الحكيمة لحمايته وترشيده
إذا كانت الدراسات العلمية تؤكد أن البلدان العربية والإسلامية مقبلة على موجة من الفقر المائي الذي يهدد مظاهر الحياة وخطوات التنمية، وأن أكثر من بليون من سكان العالم لا يعرفون الماء النقى، ومليار شخص في الدول النامية يعانون من نقص مياه الشرب، وأن أحدث تقارير للبنك الدولي تؤكد أن 80% من أمراض مواطني العالم الثالث منشؤها المياه الملوثة.. فان الإسلام هو أول دين سماوي سبق التشريعات الحديثة وأرسى مبادئ المحافظة على المياه وترشيد استهلاكها منذ أربعة عشر قرنا من الزمان.
والحديث عن المياه يعني في معظم الدول الأمن الغذائي، وهو ما يرادف الأمن القومي، ولقد تحولت المياه في ظل تزايد النمو السكاني ومعدلات الاستهلاك والندرة الملحوظة في مصادرها إلى محور من أهم محاور الصراع الدولي في الربع الأخير من القرن الماضي، وزاد الأمر حدة مع مطلع القرن الجديد حتى أن البعض تنبأ بنشوب حروب بين الدول بسبب المياه خلال القرن الحالي، خاصة في ظل صدور العديد من التقارير الدولية للبنك الدولي والمجلس العالمي للمياه والتي تحذر من "شح" المياه وندرتها، وتبنيها لسياسات جديدة لترشد استهلاك المياه، والمحافظة على مصادرها المختلفة من التلوث.(/1)
ولقد اهتمَّت معظم المنظمات الدولية بقضايا ندرة المياه واحتمالات تعرُّض العالم لأزمة مياه في المستقبل، ولذلك عقدت العديد من المؤتمرات الدولية والإقليمية تحت رعاية هذه المنظمات لتدارس هذه القضية، وحدّدت الأمم المتحدة يوم 22 مارس من كل عام يومًا عالميًّا للمياه لتلفت أنظار العالم إلى أهمية هذه المشكلة المتوقَّع حدوثها، وبدأت هذه المنظَّمات الدولية تُدخل قضايا المياه بطريقة جديدة في النظام العالمي، مما أدَّى في بعض الأحيان إن لم يكن في معظمها إلى زيادة حدة الصراع بين دول الشمال ودول الجنوب.
ولا غرابة في أن تمثل قضية المياه هذه الأهمية الكبيرة على المستوى الدولي، فالماء أساس كل حي، قال تعالى: { وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30]، وقد نشأت الحياة منذ البداية وستبقى إلى يوم الساعة مرتبطة بالماء عصب الحياة، وأهم مكون من مكوناتها، وارتبط استقرار الإنسان على وجه الأرض وازدهار حضارته بالماء، وارتبطت الحضارات القديمة بمواقع مائية، عرف بعضها بالمسمى المائي مثل حضارة بين النهرين وحضارة وادى النيل، ودبت الحياة في مكة المكرمة بعد أن تفجر بئر زمزم استجابة لدعوة أبى الأنبياء إبراهيم - عليه السلام {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} [إبراهيم: 37].
• الماء يعني الحياة:
وكلمة الماء - كما هو معروف - هي المرادف لكلمة الحياة، والماء يعنى الزراعة والغذاء والغذاء والشراب والطاقة، ويصل الأمر إلى أن حجم الأراضي الزراعية يتحدد في كثير من دول العالم ليس فقط بحجم الأراضي القابلة للزراعة ولكن بكميات المياه العذبة المتوفرة(/2)
وقد اثبت العلم استحالة الحياة على وجه الأرض دون الماء لارتباط الأنشطة البشرية المختلفة به، ولأنه المكون الهام في تركيب الخلية الحية، حيث يدخل في تكوين جميع خلايا الكائنات الحية بمختلف صورها وأشكالها وأحجامها وأنواعها، فالماء يكون نحو 90 % من أجسام الأحياء الدنيا، ونحو 60 - 70 % من أجسام الأحياء الراقية بما في ذلك الإنسان.
ونظرا لهذه الأهمية القصوى للماء جعله الله - سبحانه - حقا شائعا بين البشر جميعا، فحق الانتفاع بالماء مكفول للجميع دون إسراف ولا إفساد ولا احتقار ولا تعطيل، وهذا يعنى أن مصادر الماء لا يجوز لأحد أن يحتكرها أو يمنعها عن الآخرين، ولو أدركت الشعوب والحكومات هذه التعاليم الإسلامية لانتهت الصراعات التي تدور حول الماء وموارده المختلفة.
ولا شك ان تصرفات البشر من سوء استخدام المياه العذبة والإسراف فيها وتلويثها قد يكون سببا لندرة المياه، واهدار هذه النعمة الربانية، وحدوث الفقر المائي في بعض المناطق.. ولذلك فقد أصبحت مشكلة المياه تتصدر أولويات هموم سكان العالم خاصة وأن هناك أكثر من بليون من سكان العالم لا يعرفون الماء النقى.
وتعتبر المنطقة العربية من أكثر المناطق تأثرا بمشكلة المياه بسبب عدم وجود استراتيجية عامة كافية للمياه تتعامل مع هذا النقص الحاد، وحسب دراسة أعدها البنك الدولي لا يوجد في المنطقة العربية سوى 1% فقط من إجمالي المياه المتوفرة في العالم، والأخطر من ذلك - كما تشير الدراسة - أن الدول العربية تستهلك أكثر من 100% من مصادر مياهها المتجددة، ورغم ذلك فان هناك 60 مليون شخص من مواطني العالم العربي لا تتوافر لديهم مياه صحية.(/3)
ولا تقتصر مشكلة المياه في الوطن العربي على الندرة، وإنما تمتد إلى نوعية المياه التي تتدنى وتتحول إلى مياه غير صالحة للاستخدام لأسباب متعددة، وتسرى مشكلة المياه على كل المصادر المائية في الوطن العربي، فالأنهار العربية الكبرى مثل النيل والفرات تنبع من دول غير عربية وتجرى وتصب في بلدان عربية مما يجعل لدول المنبع ميزة استراتيجية في مواجهة البلدان العربية، كما يتطلب الاستغلال الأمثل للمياه الجوفية ومياه الأمطار استثمارات ضخمة لإقامة التجهيزات والمشروعات الأزمة لهذا الاستغلال.
• قيم إسلامية عظيمة:
واذا كانت مشاكل المياه تنحصر في التلوث والإسراف وسوء الاستخدام، فان هذه قضايا عالجها الإسلام منذ 14 قرنا من الزمان بما قرره من آداب وقواعد وأحكام للمحافظة على الماء وترشيد استهلاكه، فالماء هو مصدر الحياة، والمحافظة عليه تعني المحافظة على الحياة بأشكالها المختلفة.
وقد قرر الإسلام مجموعة من القيم والآداب والأسس والقواعد للمحافظة على الماء وحمايته من التلوث، منها ما يلي:
1. نهى الإسلام عن الإفساد في الأرض، فقال الله تعالى: {كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [البقرة: 60]، وقال تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض} [القصص: 77]، وقال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} [الروم: 41]، وقال تعالى في وصف الطغاة: {الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد} [الفجر: 12]، وقال تعالى: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس: 81]، ومعلوم أن تلويث الماء بشتى طرق التلوث المختلفة هو إفساد في الأرض لما يترتب عليه من أضرار جسيمة لكل من يستخدم هذا الماء الملوث من البشر إلى جانب بقية الأحياء الحيوانية والنباتية والمائية.
2. أقر الإسلام مبدأ (لا ضرر ولا ضرار)، فكل ما يضر المسلمين في رزقهم ومأكلهم ومشربهم ينهي الإسلام عنه، وتلوث الماء من أكبر أشكال الضرر.(/4)
3. حرم الإسلام كل ما يفسد حياة المسلمين، وفقا للقاعدة الفقهية التي تقول (ما أدى إلى الحرام فهو حرام)، والتلوث المائي يتسبب في حالات كثيرة في إزهاق الأرواح وقتل الأحياء ونشر الأوبئة والأمراض، ودرء هذا التلوث واجب
4. أرسى الإسلام قواعد الطب الوقائي حماية للنفس وحماية للبيئة، ومن هذه القواعد ما يتعلق بالماء، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التبول في الماء الراكد في قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه) رواه البخاري عن جابر -رضي الله عنه -، ومن المعروف أن هناك أمراضا كثيرة تنتج عن الاستحمام في الماء الراقد الذي سبق التبول فيه مثل الكوليرا والبلهارسيا. كما نهى - صلى الله عليه وسلم - (أن يبال في الماء الجاري) رواه الطبراني، وذلك للمحافظة على نظافة الماء من الطفيليات التي تكون مع البول وتؤدى إلى تلوث الماء. ودعا - صلى الله عليه وسلم - أن يتحرى المسلم في قضاء حاجته الأماكن المعزولة حتى تستقر الفضلات الآدمية في مكان سحيق فلا يتلوث بها ماء، ولا يتنجس بها طريق فقال - صلى الله عليه وسلم - (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الماء وفي الظل وفي طريق الناس) رواه أبو داود عن معاذ بن جبل. وروي عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى أن يتخلى الرجل تحت شجرة مثمرة، ونهى أن يتخلى على ضفة نهر جار) رواه الطبراني. فالتبرز أو التبول في الماء من السلوكيات الخاطئة التي يجب البعد عنها، والمعروف أن تصريف مياه المجاري في المياه النقية لا يؤدي إلى تلويثها بالطفيليات والروائح الكريهة فحسب، بل يتسبب في استهلاك الأكسجين الذائب في المياه مما يؤثر على حياة الكائنات التي تعيش فيه، كما أن المواد العضوية الموجودة في مياه المجاري تؤدى إلى ازدهار أنواع عديدة من البكتيريا والطفيليات والكائنات الأولية التي تسبب تلوث الماء.(/5)
وعلاوة على ذلك دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تغطية أواني الماء لحمايته من الملوثات التي قد تنتقل إليه من الهواء أو الحشرات الناقلة للجراثيم والطفيليات كالصراصير والفئران والنمل والبعوض، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (غطوا الإناء وأوكوا السقاء فان في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء) رواه مسلم، ومعنى (أوكوا السقاء) أي اربطوا فوهات أواني الماء لحمايتها من التلوث والأوبئة.
بل إن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على طهارة الماء وسلامته بلغت حدا أكبر من ذلك إذ نهى عن النفخ في الشراب ليحميه من نفس شاربه ورائحة فمه كي لا يتلوث، لأن الشارب الأول قد لا يشرب الماء كله، وقد يحتاج بقيته شخص آخر.
وبالمثل نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من فم السقاء مباشرة، ويرى المفسرون والعلماء أن لذلك سببين: الأول عدم تلوث ماء السقاء برائحة فم الشارب، والثاني حماية الشارب مما قد يكون في السقاء من شيء مختلط بالماء، فإذا وضع الماء في كأس علم ما به.
ولقد التزم المسلمون منذ فجر الإسلام بهذه التعاليم فحرصوا على الماء حرصا شديدا، كما حرصوا على بقائه نقيا طاهرا حتى يتمكنوا من شربه والتطهر به في صلاتهم وسائر عباداتهم التي تحتاج إلى طهارة، كما حرصوا على توفيره للجميع فلا يحرم منه أحد، وفي مرحلة مبكرة من الإسلام اعتبر الماء ثروة يمكن التصدق بها كالمال، وشجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في مناسبات كثيرة أشهرها قصة بئر رومة الذي كان تحت يد يهودي وكان يمنع المسلمين من مائه، فقال - صلى الله عليه وسلم – (من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين)، فاشتراها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - رواه البخاري.(/6)
وتيسير الماء في الإسلام ليس مقصورا على الإنسان، بل يمتد للحيوان حتى لو كان كلبا ضالا، فقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل الذي سقى كلبا في خفه فغفر الله له.
• مباديء الترشيد:
وفيما يتعلق باستهلاك المياه، نجد أن الإسلام كان له السبق في إقرار مبادئ ترشيد الاستهلاك لكل ما في يد الإنسان من نعم وثروات، باعتبار أن الإسراف والتبذير من أهم عوامل الخلل والاضطراب في منظومة التوازن البيئي المحكم الذي وهبه الله - سبحانه - للحياة والأحياء في هذا الكون.
وقد أقام الإسلام منهجه في هذا الصدد على الأمر بالتوسط والاعتدال في كل تصرفات الإنسان، وأقام بناءه كله على الوسطية والتوازن والقصد. فالإسراف يعتبر سببا من أسباب تدهور البيئة واستنزاف مواردها، مما يؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل، وتدمير البيئة.
وقد نهى القرآن الكريم عن الإسراف في أكثر من موضع، فقال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]، وقال تعالى: {كلوا من ثمرة إذا أثمر، وآتوا حقه يوم حصاده، ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين} [الأنعام: 141]، وتوعد القرآن المسرفين بالهلاك فقال تعالى: {ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين} [الأنبياء: 9].
ودعا الإسلام إلى الوسطية والاعتدال فقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143]، وقال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} [الفرقان: 67].
فالوسطية الرشيدة هي مسلك المسلمين ودعوة الإسلام لأتباعه في كل الأحوال وعموم الأوقات، وهي خير ضمان لحماية التوازن البيئي فيما يتعلق بالماء وغيره من الموارد الطبيعية.
ولأهمية الماء وضرورته للحياة وقفت الشريعة الإسلامية ضد الإسراف في استهلاكه، سواء في أغراض الشرب أو الزراعة أو الصناعة، أو حتى في مجال العبادات، ومن التعاليم والآداب الإسلامية التي وردت في هذا الشأن ما يلي:(/7)
1. دعا الإسلام إلى المحافظة على الماء وعدم الإسراف في استهلاكه، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة) رواه النسائي وابن ماجه.
2. نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسراف في استعمال الماء حتى ولو كان من أجل الوضوء، فقد روي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ فقال (ما هذا الإسراف؟)، فقال: أفي الوضوء إسراف؟، قال (نعم وان كنت على نهر جار) أخرجه بن ماجه في سننه. وأخرج مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد"، والإسراف يتحقق باستعمال الماء لغير فائدة شرعية، كأن يزيد في الغسل على الثلاث، وقد اتفق العلماء على أن الزيادة في غسل الأعضاء للوضوء على الثلاث مكروه، وأنه إسراف في استعمال الماء.
• المراجع:
1. محمد عبد القادر الفقي - البيئة.. مشاكلها وقضاياها وحمايتها من التلوث - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1999م.
2. د.علي محمد علي عبد الله - التلوث البيئي والهندسة الوراثية - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1999م.
3. مجدي شندي - المياه الصراع القادم في الشرق الأوسط - كتاب أكتوبر - دار المعارف - القاهرة 1992م.
4. محمود عبد الوهاب فايد - الإسلام والصحة - دار القلم والكتاب - الرياض 1993م.
5. ابن القيم الجوزية - زاد المعاد - الجزء الثالث.
6. صحيح البخاري - الجزء الثالث - باب الشرب.
7. د.احمد فؤاد باشا - التشريعات الإسلامية لحماية البيئة - مجلة الأزهر - شوال 1417هـ - فبراير 1997م.(/8)
العنوان: المال فتنة انقسم الناس فيها
رقم المقالة: 745
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خول عباده من الأموال ما به تقوم مصالح دينهم ودنياهم وجعل لتحصيلها وتصريفها طرقا شرعها لهم وبينها وهداهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين ومولاهم، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أكرم الخلق وأزكاهم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن هذه الأموال التي بين أيديكم جعلها الله تعالى فتنة لكم، فتنة في تحصيلها وفتنة في تمويلها وفتنة في إنفاقها.
فأما الفتنة في تحصيلها فإن الله تعالى شرع لتحصيلها طرقاً معينة مبنية على العدل بين الناس واستقامة معاملتهم، بحيث يكسبها الإنسان من وجه طيب ليس فيه ظلم ولا عدوان، فانقسم الناس في ذلك قسمين، قسما اتقى الله تعالى وأجمل في الطلب، اكتسبها من طريق الحلال فكانت بركة عليه إذا أنفق ومقبولة منه إذا تصدق وأجراً له إذا خلفها لورثته فهو غانم منها دنيا وأخرى، والقسم الثاني لم يتق الله ولم يجمل في الطلب فصار يكتسب المال من أي طريق أتيح له من حلال أو حرام من عدل أو ظلم لا يبالي بما اكتسب فالحلال عنده ما حل بيده، فهذا المال الذي اكتسبه من طريق محرم إن أنفقه لم يبارك له فيه وإن تصدق به لم يقبل منه وإن خلفه بعده كان زادا له إلى النار، لغيره غنمه وعليه إثمه وغرمه. فهذه فتنة المال في تحصيله.(/1)
وأما فتنة المال في تمويله فمن الناس من كان المال أكبر همه وشغل قلبه ولا نصب عينه إلا المال، إن قام فهو يفكر فيه وإن قعد فهو يفكر فيه وإن نام كانت أحلامه فيه، فالمال ملء قلبه وبصر عينه وسمع أذنه وشغل فكره يقظة ومناماً، حتى عباداته لم تسلم فهو يفكر في ماله في صلاته وفي قراءته وفي ذكره كأنما خلق المال وحده، فهو النهم الذي لا يشبع والمفتون الذي لا يقلع، ومع ذلك الهم والفتنة فلن يأتيه من الرزق إلا ما كتب له، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها. ومن الناس من عرف للمال حقه ونزله منزلته فلم يكن أكبر همه ولا مبلغ علمه، وإنما جعله في يده لا في قلبه فلم يشغله عن ذكر الله ولا عن الصلاة ولا عن القيام بشرائع الدين ولا فروضه، بل جعله وسيلة يتوسل بها إلى فعل الخيرات ونفع القرابات وذوي الحاجات، فهذا هو صاحب العيش الرغد المحصل لما كتب له في الرزق من غير تعب في قلبه ولا نكد، وأما الفتنة في إنفاق المال فإن الناس انقسموا إلى ثلاثة أقسام: منهم البخيل الذي منع حق الله وحق عباده في ماله، فلم يؤد الزكاة ولم ينفق على من يجب الإنفاق عليه من الأهل والمماليك والقرابات، ومن الناس المسرف المفرط الذي يبذر ماله وينفقه في غير وجهه وفيما لا يحمد عليه شرعاً ولا عرفاً، فهذا من إخوان الشياطين، ومن الناس من إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا قد بذلوا الواجبات وكملوها بالمستحبات وبذلوا ما يحمدون عليه في العادات، فهؤلاء هم عباد الرحمن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما. أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وأجملوا في طلب الأموال، اطلبوها على وجه مباح حلال فإنكم لن تبقوا للمال أبداً، إنما المال عارية بين أيديكم وأنتم عارية في هذه الدنيا، فإما أن تنتقلوا عنه وتتركوه وأنتم أزهد الناس فيه، وإما أن يسلب من أيديكم وأنتم أحرص الناس عليه فتبوء بالحسرة والندامة.(/2)
أيها المسلمون، لقد لعب الشيطان بأفكار بعض الناس فجرأهم على المعاملة المحرمة السيئة فارتكبوا محارم الله وهم يعلمون، وتجرؤوا على الإثم كأنهم لا يعقلون، ومناهم الكسب وكثرة المال فبئس ما يصنعون، لقد تجرأ كثير من الناس على الغش في معاملتهم وجعلوا الكسب من الغش والخداع مغنماً، ووالله إنه المغرم لأنه كسب حرام لا بركة فيه ولا مصلحة بل فيه مفاسد متعددة. فمن مفاسد الغش أن صاحبه قد تبرأ منه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((من غش فليس منا)) فهذا نص صحيح صريح إن من غش فليس من المسلمين، نعم ليس من المسلمين لأن المسلم حقيقة من يعامل إخوانه بصدق وصراحة كما يحب أن يعاملوه بالصدق والصراحة، فالمؤمن هو من يحب لأخيه ما يحب لنفسه، إذا كنت لا ترضى أن يخدعك أحد ويعاملك بالغش فكيف تفعل ذلك بإخوانك؟ ومن مفاسد الغش أن الغاش ظالم لنفسه معرض لها بالعقوبة عاص لله ورسوله، ومن مفاسده أن الكسب به كسب محرم لا خير فيه ولا بركة، ومن مفاسده أنه ظلم للناس وأكل لأموالهم بالباطل، فإن الناس لو علموا بالغش لم يبذلوا ما بذلوا في ثمن السلعة، ومن مفاسده أن الغاش يسقط اعتباره بين الناس ويحذرون منه ولا يثقون به فتكسد سلعه ويخسر في دينه ودنياه، فكيف يليق بالمسلم أن يتجرأ على الغش وهو من أمة الإسلام الذي يأمر بكل عدل وإنصاف وينهى عن كل ظلم، أيها الغاش: ألست تقول إنك مسلم فلماذا تفعل ما يكون سببا لتبرؤ النبي - صلى الله عليه وسلم - منك وإخراجك من المسلمين؟ والله لو كنت تعقل لكنت بمجرد ما تسمع هذا الحديث منتهياً منزجراً، ولا بارك الله في كسب يقول لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسببه أنك لست منا، فاتق الله أيها المسلم وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.(/3)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خيراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النغابن:15،16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/4)
العنوان: المبادرات العمرية
رقم المقالة: 1996
صاحب المقالة: د. صلاح الصاوي
-----------------------------------------
المبادرات العمرية
يتابع المشككون شبهاتهم قائلين:
- إننا نجد أن عمر - رضي الله عنه - قد عطل حد السرقة في عام الرمادة للمصلحة، ورفض تقسيم أرض السواد بين الفاتحين للمصلحة، وأمضى الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة للمصلحة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم للمصلحة، فماذا تقولون في ذلك كله؟
- كل ذلك خارج عن محل النزاع، أيها الصديق لأنه لم يكن إلا إعمالاً للنصوص واجتهادًا في فهمها، ولم يكن تركًا لها بالمصلحة بحال من الأحوال، وإليك تفصيل القول في ذلك.
أما إيقافه العمل بحد السرقة في عام الرمادة، فلكثرة المحاويج في هذا العام، الأمر الذي أدى إلى وقوع الاشتباه بين من يسرق اضطرارًا وبين من يسرق عدوانًا، وغلبة من يسرقون اضطرارًا على غيرهم، ولا يخفى أن دَرْء الحدود بالشبهات من القواعد القطعية في الشريعة، وأن من شروط إقامة الحد انتفاء الشُّبْهَة، وأن خطأ الإمام في العفو خير من خطئِه في العقوبة، فقد روى الترمذي عن الإمام أحمد: ((ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فخلوا سبيله، فإنَّ الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة))، فعمر - رضي الله عنه - لم يسقط الحد بعد وجوبه؛ بل هو لم يجب أصلاً لوجود الشبهة التي أوجبت درأه، فكيف يقال إنه عطل النص بالمصلحة؟
- هل تقبل أنت التأسي بعمر - رضي الله عنه - بالنسبة لواقعنا المعاصر؟(/1)
- ولم لا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّينَ من بعدي عضوا عليها بالنواجذ[1]))؟، إذا بلغ القحط بأمة من الناس ما بلغ بالمسلمين في عام الرمادة أوقفنا إقامة الحد عليهم تأسّيًا بعمر - رضي الله عنه - بل وإعمالاً للقواعد الشرعية التي أعملها، وهي درء الحدود بالشبهات، وعدم إقامة الحد على مَن سرق لحاجة، وقد سُئل الإمام أحمد - رضي الله عنه - فقال: لا أقطعه إذا حملتْه الحاجة على ذلك، والناس في مجاعة وشدة.
- أما إلغاؤه لسهم المؤلفةِ قلوبُهم من الزكاة فقدْ كان اجتهادًا منه في تحقيق مناط الحكم، ولم يكن نسخًا له، وإخراجًا له بالكلية من عداد مصارف الزكاة، فتأليف القلوب صفة إن وجدت الحاجة إليها استحقَّ أصحابها من الزكاة، وإن لم توجد لم يستحقوا؛ شأنها شأن الفقر والمسكنة، وغيرها من بقية الصفات التي أناطت بها الآية استحقاق الزكاة.
ولقد كان احتجاجُ عمر أنَّ الحاجة في عهده إلى التأليف منتفية؛ لعزة الإسلام ومنعته، فتخلفت الصفة التي كان يعطى من أجلها هؤلاء من أموال الزكاة، ثم إن تجددت هذه الصفة في عصر لاحق تجدَّد عطاؤهم، وهكذا، وذلك كما لو كنت تعطي إنسانًا لفقره، ثم أغناه الله فامتنعت عن إعطائه، فإن افتقر مرة أخرى أعطيته وهكذا، لأنك لا تعطيه لذاته؛ وإنما تعطيه لما اتصف به من الفقر، فإن وجدت الصفة أعطيته، وإن لم توجد منعته.
وأمَّا إمضاؤه الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة، فلقد كان هذا اجتهادًا منه - رضي الله عنه - وله عليه شواهد كثيرة منَ السنة، فقدِ استفاضت الأحاديث والآثار فيمن طلق ألفًا أو مائة أو تسعة وتسعين فاستقر في حقهم ثلاثًا، ومن هذه الأحاديث ما هو مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنها ما هو مروي عن الصحابة أو التابعين، فلم يكن في فعله هذا مخالفًا للسنة، ولا رادًّا لها بالمصلحة.(/2)
ومن هذه الشَّواهد أيضًا حديث فاطمة بنت قيس، وهو في الصحيحين، قالت: "طلقني زوجي ثلاثًا فلم يجعل لي رسول الله نفقة ولا سكنى".
وقد عقد ابنُ ماجه في سننه بابًا بعنوان: باب مَن طلق ثلاثًا في مجلس واحد، وساق فيه حديثًا عنِ الشعبي أنَّه قال لفاطمة بنت قيس: حدّثيني عن طلاقك، قالت: طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن، فأجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الشواهد أيضًا حديث رُكانة الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والشافعي: أنه طلق زوجته البتة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أردتَ إلا واحدة؟))، فقال: "الله ما أردتُ إلا واحدة"، فردها إليه. وفيه دليل أنه لو أراد ثلاثًا لأمضاها عليه.
- ولكنْ ماذا تقولُ في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عباس: "كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنَّ النَّاس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم". وهو حديثٌ صريح في أنَّ من طلق ثلاثًا بكلمة واحدة كانت تحسب له تطليقة واحدة في عهده - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أبي بكر؛ بل وفي صدر خلافة عمر نفسه، ثم أمضاه عليهم ثلاثًا بعد ذلك؛ تحقيقًا للمصلحة حتى ينزجروا عن المُسارعة في التطليق؟
- لقد ذكر النووي - رحِمه الله تعالى - في بيانه لهذا الحديث أنَّ معناه: أنَّ مَن كان يقول لزوجَتِه في أول الأمر: "أنت طالق"، "أنت طالق"، "أنت طالق"، ولم ينوِ تأكيدًا ولا استئنافًا كانت تُحسب عليه طلقة واحدة؛ لقلَّة إرادتهم الاستئناف يومئذٍ؛ بل كان التأكيد هو الغالب، فلمَّا كان زمن عمر كثر استعمال الناس لهذه الصيغة وغلب عليهم إرادة الاستئناف بها، فحملت عند الإطلاق على الثلاثة عملاً بالغالب السابق إلى الفهم منها في ذلك العصر.(/3)
وأيًّا كان الأمر فالمسألة من موارد الاجتهاد بين الصحابة وبين الأئِمَّة، والَّذي يَعنينا هو ورود سُنَّةٍ صحيحة تؤكّد أنَّ الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة، كان يُحسَبُ ثلاثَ تطليقات، وتبقَى قضيَّة الجمع بين النصوص وهي قضيَّةٌ اجتهاديَّة، فلم يكن الأمر مُجرَّد المصلحة أو محض تحكيم العقل؛ كما يريد أن يحملنا على ذلك المجادلون!
- وماذا عن عدم قسمة سواد العراق بين الفاتحينَ، وجعلها وقفًا على جميع المسلمين، خلافًا للمقطوع به من الدين من قسمة الغنائم أخماسًا؛ خمس لله ورسوله، وأربعة أخماس للمجاهدين؛ كما قال - تعالى -: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41].
- الجواب عن ذلك أنَّ عمر - رضي الله عنه - قد فهم من خلال التأمل في النصوص أن قسم الغنائم كان تصرفًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصف الإمامة ورياسة الدولة، وليس على سبيل التبليغ، وما كان كذلك فإنه لا يكون شريعة عامَّة؛ ولكنه يدور مع المصلحة الشرعية وجودًا وعدمًا.
وإذا كان ذلك كذلك فإنه يكون تخصيصًا لعموم آية الأنفال، ويكون المراد بها المنقولات ونحوها مما يغنم ويحاز حقيقة للأفراد والمقاتلين، ولا يكون معارضًا لها ولا رادًّا لعمومها بمحض المصلحة.(/4)
ولم يكن عمر في صنيعه هذا مبتدعًا؛ بل كان مهتديًا بنور النبوة، فلقد فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ولم يقسمها كما هو مشهور، بل مَنَّ على أهلها وترك أرضهم وأموالهم في أيديهم؛ لما رأى في ذلك من المصلحة وتأليف القلوب على الإسلام، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لما فتح خيبر قسم نصفها فقط، ووقف نصفها لنوائبه.
بل كان مُتأوِّلاًَ لقوله - تعالى - في سورة الحشر: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].
وإذا كان الأمر في ذلك واسعًا فلا تثريب على الفاروق أنه اجتهد أن تبقى الأرض ملكًا للمسلمين في جميع أجيالهم، ويقر أربابها عليها مقابل خراج يكون في المصالح العامة للمسلمين؛ حتى لا تكون دولة بين الفاتحين، وقد وافقه على ذلك كثير من فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
- ماذا تعني بقولك أنَّ هذا تصرّف من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الرياسة والإمامة؟
- أعني أنَّ هُناك ما صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إمام الجماعة الإسلامية ورئيسها لا بصفته مبلّغًا عن الله - تعالى - فما صدر عنه على سبيل التبليغ والرسالة كان حكمًا عامًّا، وشريعة ملزمة على الثقلين إلى يوم القيامة.
أمَّا ما صدر عنه بوصف الإمامة فإنَّ الأمر فيه يكون موكولاً إلى الإمام، ولا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلاَّ بإذنه، ومن الأمثلة على ذلك تصرفه - صلى الله عليه وسلم - في أمر الحرب وتعبئة الجيوش وعقد العهود وقسمة الغنائم ونحوه.(/5)
ولا يخفَى أنَّ هناك من الأمور الشرعية ما اتفق على كونه قد صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التبليغ؛ ككافة مسائل العبادات، وكثير من مسائل المعاملات، كما أن هناك من المسائل الأخرى ما اتفق على صدوره عنه بوصف الإمامة.
ويبقى بعد ذلك قسم ثالث هو موضع نظر أهل العلم، هل صدر عنه بوصف التبليغ أم بوصف الإمامة؟ وذلك كقوله: ((من قتل قتيلا فله سلبه))؛ رواه البخاري، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: ((خذ من كل حالم دينارًا))، وذلك في الجزية، وكقضائه على الزاني بالتغريب والنفي عن البلد، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ النبي قد فعل ذلك سياسةً وتعزيرًا، فيكون الأمر فِي توقيع هذه العقوبة من بعده إلى الإمام، وكقسمة أرض خيبر بين الفاتحين، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عنِ ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام من عيد الأضحى ونحوه، ومن رجع إلى كتب المحقّقين من أهل العلم وقف من ذلك على الكثير، وقد أشار إلى هذا التفريق القرافي المالكي - رحمه الله - في كتابه "الفروق" فليراجع.
---
[1] رواه أبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية.(/6)
العنوان: المبشرات بالنصر
رقم المقالة: 2016
صاحب المقالة: صالح بن صبحي القيم
-----------------------------------------
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
إلى أمتي الغالية الحبيبة، إلى أمة خير البشر وسيد الأولين والآخرين، إلى أمة التوحيد، إلى الأمة التي اصطفاها الله تعالى من بين الأمم لتحملَ هذه الرسالةَ العظيمة، إلى خير أمة أُخرِجت للناس.
إلى إخواننا المسلمين المضطهدين في كل مكان، إلى من طالتهم يدُ الكفر والإلحاد، وتناوشتهم أنيابُ الشر والفساد، وتعامت عما أصابهم أعينُ دعاة الأمن والسلام في كل البلاد، وتكالبت عليهم زَرَافات من الصاغرين والأوغاد.
إلى كل من تكبر من الكافرين وطغى، إلى كل من حشد الحشود وأوعى، وجيَّش الجيوش وسعى، وأنفق الأموال فما اكتفى، ورفع راية الكفر ليصد عن سبيل الله من آمن به وبغاها عوجًا.
أزفّ إليكم بشرى من خير من مشى على وجه الأرض، وخير من بعث ونطق بالحق، البشير النذير، الداعي الأمين، الصادق المصدوق، المؤيد بالوحي والرسالة -صلى الله عليه وسلم-.
هي بشرى للمؤمنين، وويل وعذاب على الكافرين، من الكتاب والسنة، وليست هذياناً ولا وسوسة جِنّة، هي طمأنينة وسكينة للصالحين، وخوف ورعب للمجرمين.
هذه تباشير جمعتُها، وكلمات من ماء الذهب دونتها، تثلج الصدر، وتنور القلب، وتفرج الهم، وتذهب الغم، وتبشر بالنصر الكبير، برغم المحن والبلايا، والمصائب القوية.
نطق بها الرسول، فخالجت الألباب والعقول، فرحت بها قلوب المؤمنين، واستنكرتها ومجتها عقول المنافقين.(/1)
كان ذلك في أيام مثل أيامنا، إذ اجتمعت دولُ الكفر والإلحاد، وتكالبت وتحزبت على المؤمنين، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] حفر المسلمون الخندقَ حول المدينة، فظهرت صخرةٌ عجز عن كسرها الأصحابُ، فشمر لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ساعده المتين، فقال لأصحابه: ((دعوني فأكون أول من ضَرَبَهَا، فقال: بِسْمِ اللَّهِ، فَضَرَبَهَا، فَوَقَعَتْ فِلْقَةٌ ثُلُثُهَا، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ قُصُورُ الرُّومِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِأُخْرَى فَوَقَعَتْ فِلْقَةٌ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ قُصُورُ فَارِسَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ))[1].
نعم.. الله أكبر في هذا الموقف العظيم، الكفار مجتمعون حول المدينة بعدتهم وعتادهم، والموقف صعب وشديد كما وصفه الله في كتابه {إِذْ جَآءُوكُم مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَاْ} [الأحزاب: 10]، ومع عظم الخطب واشتداد الأمر وضيق الحال، كما قال الله تبارك وتعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] ينادي النبي -صلى الله عليه وسلم- مبشراً بفتح فارس والروم وسلب كنوزها، هذا كلام لا يصدر إلا عن ثقة تامة بنصر الله لأوليائه، وتعلق كبير بالله خالق الأسباب، وهازم الأحزاب، وأن النصر بيد الله وحده، وإن كانوا في مثل هذا الموقف العصيب.(/2)
هنالك قال المنافقون، ضعيفو الإيمان، أصحاب القلوب المريضة، وهم مع الأسف موجودون في كل مكان وزمان، يخذلون المؤمنين، ويحاولون إضعافهم وهزَّهم، ويبثون الرعب بين صفوفهم، كما وصفهم الله في كتابه وفضحهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، قال هؤلاء المرجفون: نَحْنُ نُخَنْدِقُ عَلَى أَنْفُسِنَا وَهُوَ يَعِدُنا قُصُورَ فَارِسٍ وَالرُّومِ[2].
هذا كلام مُدعي الإيمان، الذين لم يفقهوا كتاب الله المنان، ولم يجاوز تراقيهم في كل زمان، يسخرون من أهل الإيمان، وينظرون إليهم نظرة الحاقد الغضبان، ويقولون هذا اغترار منهم بل إنه هذيان، كما قال الله تعالى عنهم: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49].
ولكن المؤمن الصادق التقي النقي، يعرف أن هذا الكلام حق، فهو صادر من الذي {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، هذا تبشير منه عليه الصلاة والسلام لأصحابه في هذا الموقف، ليرفع معنوياتهم، ويجدد أمنياتهم، ويعزز آمالهم.
هي الحكمة والله، وحسن التصرف عند الشدائد، فلا استسلام، ولا انهزام، ولكنه الرسوخ والثبات عند الأمور العظام.
واستمر تبشيره عليه السلام لأصحابه ببلوغ الإسلام سائرَ البلاد والعباد، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ اللَّهَ زَوَى[3] لِىَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِى سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِى مِنْهَا))[4].(/3)
وفي بشرى أخرى يبلغنا إيّاها تميمٌ الداري -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ[5] وَلاَ وَبَرٍ[6] إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ)). وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِىُّ يَقُولُ قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِى أَهْلِ بَيْتِى؛ لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِراً الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ[7].
وهذا المقداد بن الأسود -رضي الله تعالى عنه- يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ((لاَ يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الإِسْلاَمِ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ؛ إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا))[8].
ولقد بشّرنا رسولُنا الحبيب أيضاً بانتشار الإسلام في أوربا، وبالأخص (روما) كما جاء في الحديث:(/4)
فعن أَبِي قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيِّ قال: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَسُئِلَ أَىُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حِلَقٌ، قَالَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَاباً، قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَكْتُبُ، إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَىُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةَُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً)). يَعْنِى قُسْطَنْطِينِيَّةَ[9].
و(رُومِيَّةَُ ) هي (روما) كما في "معجم البلدان" وهي عاصمة إيطاليا اليوم.
وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني كما هو معروف، وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، وسيتحقق الفتحُ الثاني بإذن الله تعالى ولا بد، ولتعلمن نبأه بعد حين.
إذن النصرُ قادمٌ بإذن الله لا محالة، وسيُهزم الكفرُ ولو بعد حين، ولكن هذا النصر سيكون للدين الذي يريده الله -عز وجل- ويرتضيه، كما قال الله تعالى في كتابه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].(/5)
هذا وعد من الله تعالى لرسوله -صلوات الله وسلامه عليه- بأنه سيجعل أمتَه خلفاء الأرض، أي أئمةَ الناس والولاة عليهم، وبهم تصلحُ البلادُ، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم.
قال البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنه-: نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد[10].
كمثل أيامنا هذه، فالخوفُ والرعبُ يسود البلاد، والقتل والتشريد والاضطهاد، ولكننا مؤمنون بنصر من الله العزيز، كما نصر المؤمنين من قبلنا، ونعلم أن هذه الآية الكريمة هي كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]. وقوله تعالى: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]، كما قال تعالى عن موسى -عليه السلام- إنه قال لقومه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5-6].
فالصحابة -رضي الله تعالى عنهم- لما كانوا أحسنَ الناس امتثالاً لهذا الدين بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- وأنهم تعبدوا لله بما ارتضى لهم، وقاموا بهذا الدين حق القوامة هم ومن تحتهم، جاءهم النصرُ والتمكين لما كانوا له خاضعين.(/6)
ولمّا قصّر الناس بعدَهم في الخضوع لهذا الدين، ونزلوا من العلو الذي كانوا فيه إلى أسفل سافلين، وضيعت الأمانة، وانتشرت الخيانة، وصُدق الكاذب، وكُذب الصادق، خارت قواهم، وضعفت هممُهم، وتكالبت عليهم حشود الكفار والمفسدين.
ولكنّه قد ثبت في الصحيح، من غير وجه، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ))[11].
إذن فهناك من هم قائمون على ما كان عليه الأصحاب، برغم الخلاف والشقاق والصعاب، يعبدون الله كما يرتضي، ويأخذون ما يختار لهم ويجتبي، بالكتاب والسنّة قائمون، وبنصر الله مؤيدون، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
لذا فإن النصر والتمكين سيكون لهم بالتأكيد كما وعدهم الله، وإن كانوا قِلَّة، حفاة عراة، لا يملِكون الأسلحةَ النووية، ولا الطائراتِ النفاثة القوية، ولكنهم ملكوا معيّةَ وتأييدَ خالق كل هذه الأشياء، وخالق البشرية.
فقد بشرهم بذلك نبيهم -عليه الصلاة والسلام- كما جاء في الحديث: عن أبي بن كعب قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ[12] بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِى الأَرْضِ؛ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِى الآخِرَةِ نَصِيبٌ))[13].
فهذه بشارات من النبي الحبيب، بنصر هذه الأمة عما قريب، إذا رجعوا لدين خالقهم الذي ارتضى، واستغفروا وتابوا عما بدر منهم من الآثام والذنوب ومضى، سيأتيهم النصر لا محالة، بتأييدٍ مِن هازِم الأحزاب ومظهر الرسالة.
والحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــ(/7)
[1] المعجم الكبير (ج11/ص376 ح12052), وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: (ج 6 / ص 118) (10140): رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن حنبل ونعيم العنبري وهما ثقتان.
[2] انظر تخريجه في رقم (2) بنفس الصفحة.
[3] قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ قَبَضَهَا وَجَمَعَهَا، يُقَال: انْزَوَى الشَّيْء إِذَا انْقَبَضَ وَتَجَمَّعَ [عون المعبود - (ج 9 / ص 292)].
[4] رواه مسلم (8 / 171) وأبو داود (4252) والترمذي (2 / 27) وصححه. وابن ماجه (رقم 2952) وأحمد (5 / 278 و 284) من حديث ثوبان، وأحمد أيضا (4 / 123), انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله (1 / 7 ).
[5] المدر: الطين اللزج المتماسك، وما يصنع منه مثل اللَّبِنِ والبيوت وهو بخلاف وبر الخيام.
[6] الوبر: صوف الإبل والأرانب ونحوهما والمقصود أهل البادية لأنهم يتخذون بيوتهم منهم.
[7] أخرجه أحمد (4/103 ، رقم 16998)، والطبرانى (2/58 ، رقم 1280)، قال الهيثمى (6/14): رجال أحمد رجال الصحيح. والحاكم (4/477 ، رقم 8326)، وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقى (9/181، رقم 18400).
[8] أخرجه أحمد في مسنده ج 6/ ص 4 حديث رقم: 23865. الطبراني في مسند الشاميين ج 1/ ص 325 حديث رقم: 572. الحاكم في مستدركه ج 4/ ص 477 حديث رقم: 8324 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ابن حبان في صحيحه ج 15/ ص 93 حديث رقم: 6699. البيهقي في سننه الكبرى ج 9/ ص 181 حديث رقم: 18399. وصححه الألباني في المشكاة (1/9).
[9] أخرجه أحمد في مسنده ج 2/ ص 176 حديث رقم: 6645 .و الحاكم في مستدركه ج 4/ ص 598 حديث رقم: 8662 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.و الدارمي في سننه ج 1/ ص 137 حديث رقم: 486. و عبد الرزاق في مصنفه ج 4/ ص 219 حديث رقم: 19463. وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 8 : صححه الحاكم و وافقه الذهبي و هو كما قالا .(/8)
[10] تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 79)ومن شاء فليراجع تفسير هذه الآية ففيه الفائدة.
[11] مسلم في صحيحه ج 3/ ص 1524 حديث رقم: 1037 عن معاوية رضي الله تعالى عنه.
[12] (بشر هذه الأمة) أي أمة الإجابة, انظر فيض القدير (ج 3 / ص 201).
[13] أحمد في مسنده ج 5/ ص 134 حديث رقم: 21258-وقال عنه الهيثمي في المجمع: رواه أحمد وابنه من طرق ورجال أحمد رجال الصحيح. والحاكم في مستدركه ج 4/ ص 354 حديث رقم: 7895-وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وابن حبان في صحيحه ج 2/ ص 133 حديث رقم: 405. وقال الشيخ الألباني: ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2825 في صحيح الجامع.(/9)
العنوان: المتمالئون على غزة
رقم المقالة: 1924
صاحب المقالة: زياد بن عابد المشوخي
-----------------------------------------
حُجَّاج غزة كغيرهم من المسلمين ممن يحلُم بأداء فريضة الحج، تلك الفريضة التي فرضها رب العالمين، لم تفرضها عليهم حكومةٌ مُقالة أو مؤقتة، وقفت الحكومةُ المصرية موقفاً مشرفاً فأخرجتهم من المعبر بالتنسيق مع الحكومة الفلسطينية بغزة، ولم تطلب حينها وجودَ مراقبين أوربيين، سرعان ما طاشت عقولُ اليهود لتطيش معها عقول ممثلهم بالمنطقة الخضراء -عفوا بالمقاطعة-؛ لأن تلك الخطوة تمثل انفراجاً للحصار المفروض على قطاع غزة ولو جزئياً.
ولفرض المزيد من الضغوط على غزة وتعزيز الحصار قامت وزيرة الخارجية الصهيونية بإرسال فيلم (مفبرك) إلى الولايات المتحدة الأمريكية يُظهر تسهيلَ تهريب السلاح –كما زعموا– إلى غزة، واستطاعت أن تمارس الابتزاز السياسي على مصر الكنانة، وكأنه كان ينبغي على الحجّاج أن يعجّلوا بالعودة إلى ديارهم قبل أن يزور (باراك) وزير الدفاع الصهيوني مصرَ، وقبل أن تبعث (ليفني) الشريط، إلا أن تلك الزيارة توافقت مع موسم الحج وأيامه الفاضلة، فبينما كان الحجاج على صعيد عرفات يسكبون الدمعات ويرفعون الأكف إلى رب العالمين بأن يغفر زلاتهم ويفرج عنهم وعن أهلهم بغزة، كانت المؤامرة تحاك ضد غزة.
ها هم أولاء يعودون إلى وطنهم، وقبل الصعود إلى العَبَّارة يُطلب منهم أن يوقّعوا على ورقة تسليم أنفسهم إلى الصهاينة!!
أيُطلب من هؤلاء الحجاج الذين خرجوا من غزة؛ غزةِ الثبات.. غزة الكرامة.. غزة التحدي.. غزة التضحيات.. غزة الخنساوات.. غزة المجد.. غزة العزة..!!
أيُطلب ممن وقف في وجه الحصار، وضحَّى، وبذل ما بذل من أجل مبادئه ومطالبه العادلة ومنها الإفراج عن الأسرى، أيطلب منه اليوم أن يمضي على تعهد يترتب عليه زيادةُ أعداد الأسرى لدى اليهود؟!.. وسؤال أشد مرارة: ممن يكون هذا الطلب؟!(/1)
وبعد رسوخ وثبات عجيب يسمح لنصفهم بالنزول إلى ميناء (نويبع)، أكثر من 2200 حاج، 60% منهم من النساء، وأما البقية فهم من كبار السن وغيرهم، لا تسأل عن دُوار البحر، ولا عن نفاد الدواء والطعام، ولا عن الأمراض الجلدية، ولا (الإنفلونزا) الحادة بسبب البرد القارس، ولا عمَّن مات من بينهم.
بعد ذلك ينقل جزء منهم إلى (الاستاد الرياضي) بالعريش، فيرفض من استطاع منهم النزول من الحافلات، وتحجز العبارة الثانية، ويسقط ضحايا من بينهم، وتتفاقم حالاتُ المرضى، وتزداد سوءًا، ويستمر الثبات، ورفض التسليم، ومطلبُهم الوحيد الدخولُ من معبر رفح المصري الفلسطيني، وهم حقيقة بطلبهم هذا إنما سيعيدون لمصر السيادة والكرامة على جزء من أراضيها وإن كان معبرًا.
أيقال عن توسلات الحجاج (جعجعة)؟!.. ألم تكن تصريحات وزيرة الخارجية الصهيونية (تسيبي) جعجعة؟!
أيقال عن الحجاج إنهم يحملون ممنوعات؟!.. أهم قدموا من (تورا بورا) أم (وزيرستان) أم (الفلوجة)؟!
لقد قدموا من بيت الله الحرام، ولقد قال ربنا عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]، قال القرطبي رحمه الله: "الْمُرَاد مَنْ مَنَعَ مِنْ كُلّ مَسْجِد إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ الصَّحِيح؛ لِأَنَّ اللَّفْظ عَامّ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْع، فَتَخْصِيصهَا بِبَعْضِ الْمَسَاجِد وَبَعْض الْأَشْخَاص ضَعِيف، وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم"، فإن كان هذا الوصف لمن يصد عن المساجد، فكيف حال من يصد عن البيت الحرام والمسجد الأقصى؟!(/2)
لقد استطاع الصهاينة أن ينقلوا ولو شيئاً من تبعات الحصار على غيرهم بإثارة أزمة الحجاج، وتظهر الصورة أن هذا فعل بعضكم ببعض، فكيف تريدون الرحمة من أعدائكم؟!
وظُلمُ ذوي القربى أشدُّ مَضاضةً على النفس من وقع الحسام المهنّدِ
وما حصل من إطلاق قوات الاحتلال النار على الحجاج القادمين من معبر إيرز -بعد التنسيق مع حكومة رام الله- ليسقط منهم شهداء ويجرح البعض، ما هو إلا مؤشر على ما يريد اليهودُ فعله بالحجاج -لا قدر الله- في حال دخولهم من جهته.
ماذا لو رأى عمر -رضي الله عنه- من يتمالأ على قطاع غزة اليوم، وهو الذي "قَتَلَ نَفَرًا خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَتَلُوهُ قَتْلَ غِيلَةٍ"، وَقَالَ عُمَرُ: "لَوْ تَمَالَأَ -أي: توافق- عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا"، أخرجه الإمام مالك في الموطأ.
بل ماذا لو رأى صلاح الدين من سار على خطى (أرناط) صاحب قلعة الكرك الذي كان يقطع قوافل الحجاج، فأقسم أن يقتله بيده وبر بقسمه يوم فتح بيت المقدس.
فإلى أولئك المتمالئين على الحجاج أقول: إن أرواح من سقط منهم في أعناقكم، وما تقومون به إنما هو صد عن بيت الله الحرام، وعن مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لا أحد يدري ما نهاية مأساة الحجاج، وما نهاية مأساة حصار قطاع غزة، ولكن ما جرى كفيل بأن يهز مشاعر الملايين من المسلمين في كل مكان.
أما الحجاج فلا نخشى عليهم.. وقد عادوا من أقدس البقاع، وكانوا من قبل ذلك في أرض الرباط.. وإنما الخشية كل الخشية على المتمالئين وإن (جعجعوا)؛ فإن الله العليم القدير قد علم من الذي تمالأ على حجاج بيته، ومن الذي تمالأ على عباده المستضعفين في غزة.(/3)
العنوان: الْمُتَمَسْلِمُون
رقم المقالة: 889
صاحب المقالة: فهد بن محمد الحميزي
-----------------------------------------
لما ذكر مؤرخُ الإسلام الحافظُ الإمام الذهبي أنواعَ التواريخ التي تناولت مختلف طبقات المجتمع المسلم والتي أوصلها إلى أربعين تاريخاً حتى إنه ذكر منها تاريخ عقلاء المجانين والموسوسين والمنجمين والسحرة.. ليته - رحمه الله - ذكر منها تاريخ أولئك الخونة الذين سوَّدوا صفحاتِ التاريخ بمواقفهم وخيانتهم..
هم لم يسقطوا ملوكاً فحسب بل أسقطوا شعوباً وأمماً وخلافات, ومع الأسف فإن العلماء وسابِرو التاريخ وقتها أصيبوا (بفزع سياسي) فتولد عندهم خوفٌ من الخوض في مثل هذه القضايا الخطيرة مما جعلها تصبح حبيسة الأذهان. ومن تكلم من العلماء حينها وصدع بكلمة الحق أصبح يترقب (ضيوف الفجر) ممن كابدوا الليل لا بطُولِ قيام وإنما بِخُبثِ طوية وفساد معتقَد!!
وقد حدثنا التاريخُ كثيراً عن أولئك الخونة (المتمسلمين)؛ حدثنا عن عبد الله بن سبأ لما كان يعمل في الخفاء ويُحدث الفتنة كما في حادثة الجمل, وبالثورة والتأليب كما وقع منه حيال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -..
حدثنا التاريخُ عن عبيد الله بن يزيد قاتل الحسين..
حدثنا التاريخ عن أبي دؤاد المعتزلي قاتل القضاة والعلماء..
حدثنا التاريخ عن أبي طاهر القرمطي منتهك حرمة المسجد الحرام..
حدثنا التاريخ عن الحسين الحلاج صاحب البدعة المكفرة والقول بالحلول والاتحاد..
وحدثنا التاريخ عن ابن العلقمي الوزير المنافق صاحب الرسائل العلقمية الخائنة لهولاكو...!!(/1)
إن التاريخ القديم كما حدثنا عن أولئك الخونة (المتمسلمين) في الحقبة الماضية, فقد حدثنا التاريخ الحديثُ عن أسماءٍ سوداءَ وعملاءَ مرجفين وطوابيرَ مختلفةِ الأجناس والتوجهات للإطاحة بدول عربية تنتمي إلى الإسلام ولو بالظاهر أمثال حسني الزعيم, وأديب الشيشكلي, وسامي الحناوي, وأسعد طلس - عميل بريطانيا الوفي -، ونوري السعيد، وأحمد خان قائد اتجاه التغريب في الهند ومؤسس المدرسة الفكرية التغريبية الذي دعا إلى تقليد الحضارة الغربية وإلى تفسير الإسلام تفسيراً مطابقاً لما وصلت إليه المدنية الحديثة في آخر القرن التاسع عشر. وغير هؤلاء الكثير الكثير ممن تعرفهم في لحن القول..!!
ولذلك كتب الدكتور محمد محمد حسين وقتها كتابه القيم "حصوننا مهددة من داخلها" وشنع فيه على الانهزاميين (المتمسلمين) الذين وقعوا تحت سيطرة الأفكار والنظم الغربية.
ومثل هؤلاء لا ينبغي أبداً أن يذكُر أحدٌ لهم سيرةً وإنما تكفي الإشارة بأسمائهم، فهم في الحقيقة لا يستحقون أن يُرفع لهم ذكر أو شأن وإن كانوا أبقوا بصماتِهم في دُوَلِهم؛ بصماتِ الخزي والخيانة والتخريب.
إن بعض هؤلاء العملاء حاول أن يبني له قاعدةً صلبة ولو على المدى البعيد؛ قاعدة ذات نتائج وخيمة وأهداف خبيثة وخطط مدعومة، والأثر المترتب على ذلك الإطاحة بكِيان الأمة المسلمة.
ولذلك لما حصلت الانقلاباتُ المتتالية في الدول العربية المجاورة في السنوات السابقة كانت قوى الانقلاب فيها تُدعم من عدوٍ خارجي لمصالِحَ ومطامعَ ثرواتية فيها. وبينما كانت هذه الدول العربية تتقلب بين هذه الانقلابات كانت إسرائيل التي قامت على أكتاف الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية تعد العدة للعدوان والاحتلال وتوسيع رقعتها الجغرافية.(/2)
إن العدو الآن يتربص بنا وإننا لنعلم أن هناك خططاً تآمرية رهيبة تطبخ بدوائر (البنتاغون) والمخابرات المركزية الأمريكية على نار هادئة. وما تقاريرُ مؤسسة (راند) الأمريكية لدراسات طبيعة الشرق الأوسط والتيارات الإسلامية بها إلا أكبر نموذج مشاهد لهذا التربص فهل لك أن تعي الواقع الذي من حولك؟!
إن ما كنا نسمعُه من أسماء لهولاء العملاء الخونة في بلد عربي مثل مصر أمثال (فكري أباظه) -صاحب مقالة (إن أعظم رجل في التاريخ الحديث هو مصطفى كمال أتاتورك) - ومن تصدروا أعمدةَ الصحف والمجلات في تلك الحقبة أمثال (عبد الرحمن الشرقاوي) و(يوسف الخال) وغيرهم من (المتمسلمين) الذين ينتسبون للإسلام اسماً وهم في حقيقة الأمر أعداء حاقدون، هم أنفسهم - وإن اختلفت أسمائهم - الذين نراهم ونشاهدهم في قنواتنا وهم الذين اعتَلَوْا أعمدة صحافتنا وفُتح لهم المجال لكتابة ما يريدون.. !! كنا نعرفهم (طابوراً خامساً) فإذا بهم طوابيرُ منظمة ومدعومة.
وما زالت (الصحافةُ الصفراء) تُخَرِّج لنا أسماءً جديدة لهولاء (المتمسلمين) وتنشر لهم أفكاراً مستوردة حتى أضحت هذه الصحافة التي تحتضنها بعضُ البلاد المسلمة حرباً على الإسلام هدفُها هدم القيم الإسلامية وتدمير مفاهيمها.
إن الخيانة التي نتحدث عنها هنا ليست قيام بعض الأشخاص بالتجسس لصالح العدو وقت السلم أو وقت الحرب فمثل أولئك يعرفهم الناس وتلفظهم الشعوب, ويحتقرهم كل عاقل..
إن الخيانة التي نعنيها هي تلك التي يقوم بها أناسٌ من بني جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا ويكيدون في نفوسهم أو عند ملئهم لكل ما يمت للإسلام بصلة, سواءً كانوا حكاماً أو وزراء أو مفكرين أو ليبراليين (متمسلمين).
إن ما حدث من الخيانات منذ قرون وسنوات ما زالت تخلف وراءها الآثار السلبية وتؤكد أن الجرح ما زال غائراً.. ولا أدلَّ على ذلك من الآثار التي بقيت بعد (واضح الصقلي) أول من استعان بالغرب ضد أهل الإسلام !!(/3)
نعم سيظل ابن سبأ ومن كان على شاكلته رمزاً لخيانة الضمير قبل خيانة العقيدة وخيانة الوسيلة قبل خيانة الهدف.
العروض المجانية:
من العروض المجانية التي سجلها التاريخُ الحديثُ ما فعله السلطان عبد الحميد الثاني الخليفة العثماني حينما تلقى عروض (هرتزل) ممثل الصهيونية العالمية، وكرر إغراءاته لإنقاذ الدولة العثمانية من ديونها، وتقوية جيوشها وتدعيم اقتصادها، مقابل بيع فلسطين!! والتنازل عن بعض أراضيها.. فما كان من السلطان إلا أن يرفض إغراءات العروض الصهيونية ويُصِرّ على الحفاظ على سائر الديار الإسلامية، فثارت القوى الصهيونية، وخرجت التسمية الأوربية للدولة العثمانية باسم (الرجل المريض) وظهر في عالم السياسة ذلك الوقت ما عرف (بالمسألة الشرقية) التي سعت فيها أوربا لطرد العثمانيين وتقسيم ممتلكاتهم.
ثم توالت (العروض المجانية) حتى اختير الرجل المناسب في المكان المناسب - ممن باع آخرته بدنياه - لما لُمِّع شخص (كمال أتاتورك) ذلك (المتمسلم) الذي عرف بلقب الغازي لما فُتحت الأبواب أمامه وأُظهر انتصارُه على اليونانيين، ولكنه لم يلبث أن ظهر على حقيقته، وأنه صَنِيعةٌ لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى.
وفي عام 1342هـ قدم أعظمَ هديه للغرب (إلغاء الخلافة) ولما أثقلت كاهلَه الخيانةُ وطمست على قلبِه وأعمت بصرَه وبصيرته قال بعد أن ألقى القرآن ذات مره في يده: (إن ارتقاءَ الشعوب لا يصلُح أن ينفذ بقوانين وقواعدَ سُنت في العصور الغابرة).(/4)
ومثل هذه العروض المجانية ما تقوم به الدول العربية ودول الشرق الأوسط من القيام بدعوة أبنائها للابتعاث إلى الخارج.. والنتيجة أن يصبحوا لقمة سائغة للتغريب، ويذوب الطرف الأضعف في الطرف الأقوى ذوباناً شبه كامل حيث يترسَّمون خطاهم ويسيرون على منوالهم في كل شيء؛ في النظم والتشريعات والقوانين، بل حتى في الزي واللباس وطريقة التفكير. وما نموذجُ (رفاعة الطهطاوي) من مصر، و(خير الدين التونسي) من تونس، إلا أكبر شاهد لنقل الحضارة (الباريسية) التي ترعرعوا عليها هناك.
إن ما تبثه بعض قنواتنا العربية وما تلاقيه من دعم من جهات مشبوهة لأكبرُ شاهد على القيام بدور الخسة والخيانة، لكن بَدَلَ أن يقوم بهذا الدور فردٌ قام به أفراد وجماعات منظمة!! وبدل أن تكونَ ارتجاليةً أصبحت مؤسسية وتدار على طاولة النقاش!!
يُجلِّي ذلك ما ذكر في تقرير(2007م RanD) من الإشارة إلى الدعم التي تتلقاه قناة الحرة الفضائية وراديو (سوا) - والتي تخاطب سكان دول الخليج على وجه الخصوص - والذي بلغ (671 مليون دولار) في السنة!!.
وهذا دليل جديد على الدعم المستمر لكل ما من شأنه زعزعةُ الْهُوية الإسلامية.
الأفكار التوفيقية:
إن هذه الأفكار نشأت نتيجة الإغراق في التبعية للغرب والتي نستطيع أن نقول إنها بدأت بعد انهيار الخلافة العثمانية حينما واجَه الغربُ الصليبي والشيوعيةُ والصهيونية الأمةَ الإسلامية ونشِط حينها (المتمسلمون) وأصبحوا في حل من القيود، وأخذت أفكارُهم تجد هوًى وتأييداً لدى العامة لتصبح رأياً عاماً باسم التقدمية والنهضة والإصلاح!! وقامت هذه المدرسة الجديدة ذاتُ الأفكار التوفيقية والتي ترمي إلى التقريب بين الإسلام والحضارة الغربية في ميادين الحياة حتى كان من نتاج هذه الأفكار: تفسير النصوص تفسيراً عصريا يلائم الفكر السائد!!(/5)
وقد ألجأ الهجوم الفكري في هذه المدارس إلى مواقف دفاعية غريبة عن الإسلام إذ جردته من كثير من أحكامه الصريحة نحو تعدد الزوجات، والربا، والتماثيل، والجهاد، وأهل الذمة.. فأصبحت هذه الأمور عندهم في الإسلام من نقاط الضعف التي تحتاج إلى دفاع!!
أسأل الله بمنه وكرمه أن يكفينا شر هؤلاء (المتمسلمين) وأن يكبت انتشار أفكار هذه المدرسة التغريبية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/6)
العنوان: المتنبي بين الإباء والاستسلام.. قراءة في قصيدة
رقم المقالة: 2005
صاحب المقالة: جمال عبدالناصر
-----------------------------------------
المتنبي بين الإباء والاستسلام
قراءة في قصيدة
"الشاعر بين أَلم المرض وأَلم الاغْتِرَاب" لأبي الطيِّبِ المُتَنَبِّي
لقد عُرف أبو الطيِّب المتَنَبِّي بالجانب الذاتيّ في شِعره، وكذلك بتعبيره عن الإباء العربيّ، وعدم الخضوع والاستسلام للآلام والخطوب مَهْما عَظُمَتْ وكَبُرَتْ؛ فلقد عبَّر المتنبِّي في شِعره عن فِكْرِهِ وفَلْسَفَةِ ذاته؛ وهو ما يوحي بِمَدَى التطوُّر الذي وصل إليه الشِّعرُ العربيُّ في العصر العباسي، حيث وجد الشعراء مَن يحترم كلامهم، ويُقَدِّرُ إبداعَهم، بخلاف عصرنا الذي نحن فيه، فلقد جَنَتِ المَدَنِيَّة على الشِّعر العربيّ، وأفقدته جمهوره ومَلَكَتَهُ النَّقْدِيَّة المُعَبِّرَة والمُشَجِّعَة؛ وهو ما أدَّى إلى انْحِدار مُسْتواهُ، وانْحِسار مساحة قُرَّائِهِ، على خِلاف ما كان عليه قديمًا.
وقدِ انْمَازَتْ فلسفةُ الشخصية العربية في الشِّعْر العَرَبِي بِالشهامة والمروءة، وعدم التَّكاسُلِ والقناعةِ بِالقليل؛ بل لا بد من السَّعْيِ والاجتهادِ؛ لتحقيق الأمجاد والبُطولات، مَهْمَا كَلَّفَ ذلك من جُهد ومن تَعَب، يقول أبو الطيِّب:
وَمَنْ يَجِدُ الطَّرِيقَ إِلَى المَعَالِي فَلا يَذَرِ المَطِيَّ بِلا سَنَامِ
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
ويقول أبو تَمَّام مُخاطِبًا الخليفةَ المُعْتَصِم بِاللَّه:
بَصُرْتَ بِالرَّاحَةِ الكُبْرَى فَلَمْ تَرَهَا تُنَالُ إِلاَّ عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
ومناجاة الخليلين كانت أسلوبًا متَّبَعًا في الشعر العربي، وها نحن نرى أبا الطيب المتنبي
يبدأ قصيدته تلك "الشاعر بين ألم المرض وألم الاغتراب":
مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عَنِ المَلامِ وَوَقْعُ فَعَالِهِ فَوْقَ الكَلامِ(/1)
وهذه القصيدة عبرت بعاطفةٍ صادقةٍ عمَّا يدور في وِجدان الشاعر، حيث أقام في مصر، وفرض عليه كافور الإخشيديُّ قيودًا حدَّتْ من رغباته وتطلُّعاتِه، ومِمَّا زادَ الطِّينَ بِلَّةً أنْ مَرِضَ المتنبِّي بالحُمَّى، وتنازعته آلام المرض، وآلام الغُرْبَة، وآلام الحَيْلُولَةِ دون تحقيق المُرام.
فإن المتنبِّي ذهب إلى مصر رغبةً في تحقيق مَجْد ومَنْصِب، ونَيْل مكانةٍ لدى كافور - بعد ما حدث بينَهُ وبين سيف الدولة الحَمَدَانِيِّ من وِشَايَةٍ - فأتتِ الرياحُ بما لا تَشْتَهِي السُّفنُ؛ فبعد أنِ امتدح كافورًا قائلاً:
أَبَا المِسْكِ أَرْجُو مِنْكَ نَصْرًا عَلَى العِدَا وَآمُلُ عِزًّا يَخْضِبُ البِيضَ بِالدَّمِ
وذلك كي ينال رضاه، ويَنْعَمَ بقُرْبِهِ، ويُحَصِّلَ إِمارَةً لديه:
أَبَا المِسْكِ هَلْ فِي الكَأْسِ فَضْلٌ أَنَالُهُ فَإِنِّي أُغَنِّي مُنْذُ حِينٍ وَتَشْرَبُ
فإذا بكافور قد خيَّب ظنَّه؛ فهَجَاهُ المتنبي، مُعَبِّرًا عن رأيه في سُلُوْكَاتِ هذا الأمير الزِّنْجِيِّ، قائلاً:
وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا
وقال أيضًا هاجيًا العبيد:
لا تَشْتَرِ العَبْدَ إِلاَّ وَالعَصَا مَعَهُ إِنَّ العَبِيدَ لأَنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ
وفي هذه القصيدة عبَّر الشاعر عن أبعاد الشخصية العربية بأنَّها شخصية شُجاعة، لا تعبأ بالصعاب في مقابل أن تحقق ما تطمح إليه من أمجاد ومفاخر، وذكر الشاعر مدى حُبِّه لمواجهة الشدائد والصِّعاب مهما كانت المشاقُّ المترتبة على ذلك فيقول:
ذَرَانِي وَالْفَلاةَ بِلا دَلِيل وَوَجْهِيَ وَالْهَجِيرَ بِلا لِثَامِ
فَإِنِّي أَسْتَرِيحُ بِذِي وَهَذَا وَأَتْعَبُ بِالإِنَاخَةِ وَالْمُقَامِ
فهو يسير في البَيْداء وَحْدَهُ بلا دليل يَدُلُّه على خبايا الطريق، وهو يواجه هجير الشمس ولهيبها دون لِثام.(/2)
وفي هذه القصيدة أيضًا تَحدَّث الشاعر عن مبادئ ذاتِيَّته وفخرِهِ؛ بأنه لا يَفْخَر بأبيه ولا جَدِّه، بل يَفْخَرُ بما حَقَّقَه بنفسِهِ من مآثِرَ وأمجاد، وبأنه يَنْفِر من كلِّ قريب له إذا لم يَنْهَج نَهْج الكِرام، فيقول:
وَآنَفُ مِنْ أَخِي لأَبِي وَأُمِّي إِذَا مَا لَمْ أََجِدْهُ مِنَ الكِرَامِ
أَرَى الأَجْدَادَ تَغْلِبُهَا كَثِيرًا عَلَى الأَوْلادِ أَخْلاقُ اللِّئَامِ
وَلَسْتُ بِقَانِعٍ مِنْ كُلِّ فَضْل بِأَنْ أُعْزَى إِلَى جَدٍّ هُمَامِ
وكذلك بَرَعَ المتنَبِّي في حديثه عن الحُمَّى، وكيف أنها كانت تأتيه ليلاً، فرَسَمَ لها صورةَ زائرةٍ ليليَّةٍ تأتي إليه في الظلام على استحياء:
وَزَائِرَتِي كَأَنَّ بِهَا حَيَاءً فَلَيْسَ تَزُورُ إِلاَّ فِي الظَّلاَمِ
بَذَلْتُ لَهَا المَطَارِفَ وَالْحَشَايَا فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ فِي عِظَامِي
يَضِيقُ الجِلْدُ عَنْ نَفَسِي وَعَنْهَا فَتُوسِعُهُ بِأَنْوَاعِ السِّقَامِ
كَأَنَّ الصُّبْحَ يَطْرُدُهَا فَتَجْرِي مَدَامِعُهَا بِأَرْبَعةٍ سِجَامِ
أُرَاقِبُ وَقْتَهَا مِنْ غَيْرِ شَوْق مُرَاقَبَةَ المَشُوقِ المُسْتَهَامِ
وَيَصْدُقُ وَعْدُهَا وَالصِّدْقُ شَرٌّ إِذَا القَاكَ فِي الكُرَبِ العِظَامِ
أَبِنْتَ الدَّهْرِ عِنْدِي كُلُّ بِنْت فَكَيْفَ وَصَلْتِ أَنْتِ مِنَ الزِّحَامِ
جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَكَانٌ لِلسُّيُوفِ وَلا السِّهَامِ
كذلك عندما جاؤوا له بالطبيب فقال لهم: إنَّ مَرَضَه ليس عُضْوِيًّا؛ بل هو مرض من نوع خاصّ؛ إنه مرض الحيلولة دون تحقيق الأهداف، إنه كالجواد الذي تعوَّد الكَرَّ والفرَّ فحِيلَ بينه وبين ما تَعَوَّد عليه:
يَقُولُ لِيَ الطَّبِيبُ أَكَلْتَ شَيْئًا وَدَاؤُكَ فِي شَرَابِكَ وَالطَّعَامِ
وَمَا فِي طِبِّهِ أَنِّي جَوَادٌ أَضَرَّ بِجِسْمِهِ طُولُ الجَمَامِ(/3)
تَعَوَّدَ أَنْ يُغَبِّرَ فِي السَّرَايَا وَيَدْخُلَ مِنْ قَتَامٍ فِي قَتَامِ
فَأُمْسِكَ لا يُطَالُ لَهُ فَيَرْعَى وَلا هُوَ فِي العَلِيقِ وَلا اللِّجَامِ
ثم يختم الشاعِرُ قصيدته بالحِكَم؛ كعادته في شعره:
فَإِنْ أَمْرَضْ فَمَا مَرِضَ اصْطِبَارِي وَإِنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعْتِزَامِي
وَإِنْ أَسْلَمْ فَمَا أَبْقَى وَلَكِنْ سَلِمْتُ مِنَ الحِمَامِ إِلَى الحِمَامِ
تَمَتَّعْ مِنْ سُهَادٍ أَوْ رُقَادِ وَلا تَأْمُلْ كَرًى تَحْتَ الرِّجَامِ
فَإِنَّ لِثَالِثِ الحَالَيْنِ مَعْنًى سِوَى مَعْنَى انْتِبَاهِكَ وَالْمَنَامِ
هكذا نرى الشاعر العربيَّ يوصل إلينا رسالة سامية، لقد كان الشِّعر ديوانَ العرب، وكانت له رسالة ساميةٌ، ومكانَةٌ عالية فيهم، وصَدَقَ رسولُنا الكريم – صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((إن منَ الشِّعر لَحِكْمَةً، وإن منَ البيان لَسِحْرًا".
القصيدةُ كاملةً:
"الشاعر بين أَلَم المرض وأَلَم الاغتراب"
1- مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عَنِ المَلامِ وَوَقْعُ فِعَالِهِ فَوْقَ الكَلامِ
2- ذَرَانِي وَالْفَلاةَ بِلا دَلِيلِ وَوَجْهِيَ وَالْهَجِيرَ بِلا لِثَامِ
3- فَإِنِّي أَسْتَرِيحُ بِذِي وَهَذَا وَأَتْعَبُ بِالإِنَاخَةِ وَالْمُقَامِ
4- عُيُونُ رَوَاحِلِي إِنْ حِرْتُ عَيْنِي وَكُلُّ بُغَامِ رَازِحَةٍ بُغَامِي
5- فَقَدْ أَرِدُ المِيَاهَ بِغَيْرِ هَادٍ سِوَى عَدِّي لَهَا بَرْقَ الغَمَامِ
6- يُذِمُّ لِمُهْجَتِي رَبِّي وَسَيْفِي إِذَا احْتَاجَ الوَحِيدُ إِلَى الذِّمَامِ[1]
7- وَلا أُمْسِي لأَهْلِ البُخْلِ ضَيْفًا وَلَيْسَ قِرًى سِوَى مُخِّ النَّعَامِ
8- وَلَمَّا صَارَ وُدُّ النَّاسِ خِبًّا جَزَيْتُ عَلَى ابْتِسَامٍ بِابْتِسَامِ
9- وَصِرْتُ أَشُكُّ فِيمَنْ أَصْطَفِيهِ لِعِلْمِي أَنَّهُ بَعْضُ الأَنَامِ
10- يُحِبُّ العَاقِلُونَ عَلَى التَّصَافِي وَحُبُّ الجَاهِلِينَ عَلَى الوسَامِ(/4)
11- وَآنَفُ مِنْ أَخِي لأَبِي وَأُمِّي إِذَا مَا لَمْ أََجِدْهُ مِنَ الكِرَامِ
12- أَرَى الأَجْدَادَ تَغْلِبُهَا كَثِيرًا عَلَى الأَوْلادِ أَخْلاقُ اللِّئَامِ
13- وَلَسْتُ بِقَانِعٍ مِنْ كُلِّ فَضْل بِأَنْ أُعْزَى إِلَى جَدٍّ هُمَامِ
14- عَجِبْتُ لِمَنَ لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ وَيَنْبُو نَبْوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ
15- وَمَنْ يَجِدِ الطَّرِيقَ إِلَى المَعَالِي فَلا يَذَرِ المَطِيَّ بِلا سَنَامِ
16- وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
17- أَقَمْتُ بِأَرْضِ مِصْرَ فَلا وَرَائِي تَخُبُّ بِيَ الرِّكَابُ وَلا أَمَامِي
18- وَمَلَّنِيَ الفِرَاشُ وَكَانَ جَنْبِي يَمَلُّ لِقَاءَهُ فِي كُلِّ عَامِ
19- قَلِيلٌ عَائِدِي سَقِمٌ فُؤَادِي كَثِيرٌ حَاسِدِي صَعْبٌ مَرَامِي
20- عَلِيلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القِيَامِ شَدِيدُ السُّكْرِ مِنْ غَيْرِ المُدَامِ
21- وَزَائِرَتِي كَأَنَّ بِهَا حَيَاءً فَلَيْسَ تَزُورُ إِلاَّ فِي الظَّلاَمِ
22-بَذَلْتُ لَهَا المَطَارِفَ وَالْحَشَايَا فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ فِي عِظَامِي
23- يَضِيقُ الجِلْدُ عَنْ نَفَسِي وَعَنْهَا فَتُوسِعُهُ بِأَنْوَاعِ السِّقَامِ
24- كَأَنَّ الصُّبْحَ يَطْرُدُهَا فَتَجْرِي مَدَامِعُهَا بِأَرْبَعةٍ سِجَامِ
25- أُرَاقِبُ وَقْتَهَا مِنْ غَيْرِ شَوْق مُرَاقَبَةَ المَشُوقِ المُسْتَهَامِ
26- وَيَصْدُقُ وَعْدُهَا وَالصِّدْقُ شَرٌّ إِذَا ألقَاكَ فِي الكُرَبِ العِظَامِ
27- أَبِنْتَ الدَّهْرِ ، عِنْدِي كُلُّ بِنْت فَكَيْفَ وَصَلْتِ أَنْتِ مِنَ الزِّحَامِ؟!
28- جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَكَانٌ لِلسُّيُوفِ وَلا السِّهَامِ
29- أَلاَ يَا لَيْتَ شِعْرَ يَدِي أَتُمْسِي تَصَرَّفُ فِي عِنَانٍ أَوْ زِمَامِ
30- وَهَلْ أَرْمِي هَوَايَ بِرَاقِصَات مُحَلاَّةِ المَقَاوِدِ بِاللُّغَامِ(/5)
31- فَرُبَّتَمَا شَفَيْتُ غَلِيلَ صَدْرِي بِسَيْرٍ أَوْ قَنَاةٍ أَوْ حُسَامِ
32- وَضَاقَتْ خُطَّةٌ فَخَلَصْتُ مِنْهَا خَلاصَ الخَمْرِ مِنْ نَسْجِ الفِدَامِ
33- وَفَارَقْتُ الحَبِيبَ بِلا وَدَاع وَوَدَّعْتُ البِلادَ بِلا سَلامِ
34- يَقُولُ لِيَ الطَّبِيبُ أَكَلْتَ شَيْئًا وَدَاؤُكَ فِي شَرَابِكَ وَالطَّعَامِ
35- وَمَا فِي طِبِّهِ أَنِّي جَوَادٌ أَضَرَّ بِجِسْمِهِ طُولُ الجَمَامِ
36- تَعَوَّدَ أَنْ يُغَبِّرَ فِي السَّرَايَا وَيَدْخُلَ مِنْ قَتَامٍ فِي قَتَامِ
37- فَأُمْسِكَ لا يُطَالُ لَهُ فَيَرْعَى وَلا هُوَ فِي العَلِيقِ وَلا اللِّجَامِ
38- فَإِنْ أَمْرَضْ فَمَا مَرِضَ اصْطِبَارِي وَإِنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعْتِزَامِي
39- وَإِنْ أَسْلَمْ فَمَا أَبْقَى وَلَكِنْ سَلِمْتُ مِنَ الحِمَامِ إِلَى الحِمَامِ
40- تَمَتَّعْ مِنْ سُهَادٍ أَوْ رُقَاد وَلا تَأْمُلْ كَرًى تَحْتَ الرِّجَامِ
41- فَإِنَّ لِثَالِثِ الحَالَيْنِ مَعْنًى سِوَى مَعْنَى انْتِبَاهِكَ وَالْمَنَامِ
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] يوضّح أبو العلاء المعري معنى قوله:
يُذِمُّ لِمُهْجَتِي رَبِّي وَسَيْفِي إِذَا احْتَاجَ الوَحِيدُ إِلَى الذِّمَامِ
فيقول: "يُذِمّ" أي يجعلني في ذمّته، والذّمة هنا: العَزْر.
يقول: إذا سرت فإنّما أسير في ذمة الله تعالى. وذمّة سيفي، ولا أحتاج إلى خفير يُجيرُنِي إذا احْتاج إليه غيري.
وحكى أنه لما رجع من عند عضد الدولة وبلغ الأهواز أحضر خفيرَ العرب وقاطعهم على الخفارة فوقع النزاع بينه وبينهم في نصف دينار، سألوه زيادة على ما بذل لهم فلم يجبهم إليه، وضرب فرسه وهو ينشد هذا البيت. يُذِمُّ لِمُهْجَتِي رَبِّي وَسَيْفِي.. البيت. فقتل عند دير العاقول.(/6)
العنوان: المجاهدُ بطلاً
رقم المقالة: 140
صاحب المقالة: د. حسين علي محمد
-----------------------------------------
أصدر الأديب الراحل نجيب الكيلاني – يرحمه الله – مسرحية واحدة (عام 1958م) بطلها الداعية المجاهد أحمد بن تيمية، ولقد كان ابن تيمية واحدًا من أبرز علماء عصره، وكان من حملة السيف والقلم، ولعب دورًا خطيرًا في حروب التتار (699هـ-702هـ).
والداعية المجاهد حينما يكون بطلاً، فيجب أن تكون كلماتُه سهمًا يُسدَّد إلى صدور الأعداء، وخطبه ومواعظه رعدًا يصم آذانهم.
إن المجاهد البطل، يختلف عن أبطال التمرد والمقاومة والاغتراب في أدبنا المعاصر. ففي الوقت الذي كان فيه أولئك الأبطال يقودون الجموع – أو يفترض فيهم هذا – رأيناهم منعزلين عن الناس. تقول سلمى للفتى مهران (في مسرحية ((الفتى مهران)) للشرقاوي):
أنت أيضًا.. يا فتى الفتيان مهران.. اهجر عزلتك
امتزج بالناس في القريةِ عش في قريتك.
لكن المجاهد حينما يكون بطلاً في نص أدبي، فإننا نراه ملتحمًا بالعامة، يقودهم، ويحقق بهم النصر، كما نجد في الحوار التالي (في مسرحية على أسوار دمشق للكيلاني):
أبو يزيد: لعل أخي الشيخ يريد أن يلم فلول الجيش ليلقى التتار وهم في عقر دارنا. إنها مهمة عسيرة.
ابن تيمية: أنا لست حالمًا... إني أعني تمامًا ما أقول... المعركة لم تنته بعد.
أبو يزيد: هل أفهم من ذلك أنك تنوي مغادرة دمشق لتعد العدة؟
ابن تيمية: (مفكرًا) كلا، لن نترك دمشق.
أبو يزيد: وَلِمَ؟
ابن تيمية: العامة في حاجة إلى من يقف بجانبهم.
أبو يزيد: إن العامة كمٌّ مهمل دائمًا في نظر حُكَّامهم.
ابن تيمية: بل هُمْ صُنَّاع التاريخ... وسترى أن النصر سوف يُبْنى على كواهلهم. (فترة صمت).. لن نستسلم ولن نفرّ مهما كان الأمر.
محمد: إذن سنجدّد المعركة.
ابن تيمية: أجل.
أبو يزيد: نحن في أرضنا، وبين أمتنا... والإيمان يعمر قلوبنا، فماذا بقي؟(/1)
إن المجاهد البطل لا ينفصل عن أبناء شعبه المسلمين، ويمتزج بهم ويعيش بينهم، ويستطيع أن يثمِّن قدرة أمته، وبالإيمان الذي يعمر قلوب أبناء عقيدته، يستطيع أن يقود الجحافل التي تحقق النصر، وتطرد الغازي.
لقد استطاع نجيب الكيلاني في مسرحيته ((على أسوار دمشق)) أن يُقَدِّم صورة البطل المسلم مجاهدًا، رافضًا للعدوان، مرتبطًا بأبناء عقيدته، لا يفرُّ من أرضه، ولا يترك ساحة المواجهة.
فهل يستثمر أدباء الإسلام عشرات المواقف لأبطال مجاهدين على امتداد تاريخنا الإسلامي، فيقدمون صورة حية للمجاهدين المسلمين أبطالاً في عصرٍ أحاطت الأخطار بالمسلمين من كل جانب؟(/2)
العنوان: المجتمَع المختلَط
رقم المقالة: 1777
صاحب المقالة: د. محمد محمد حسين
-----------------------------------------
المجتمَع المختلَط
كثُر كلام الناس في هذه الأيام – في الصُّحف وفي دور العلم، وأقسام الفلسفة، ومعاهد تخريج المدرسين، والإِخْصَائِيِّينَ الاجتماعِيِّينَ منها خاصة - عن الكبت الجنسي ومضارِّه، وشاع بين كثير ممن ينتحلون الدراساتِ النفسيَّةَ – والفرويدية منها خاصة – أن السبيل إلى تلافي الأضرار المتولِّدة عن هذا الكبتِ هي اختلاط الذكور بالإناث، وتخفُّف النساء منَ الحجاب ومنَ الثياب، وهو تخفُّفٌ لا يعرف الداعون إليه مدًى ينتهي عنده، ولعله ينتهي إلى ما انتهى إليه الأمر في مُدُنِ العراة التي نُكِست فيها المَدَنِيَّةُ فارتدَّتْ إلى الهمجية الأولى! ذلك هو "المجتمع المختلَط" الذي يَدْعون إلى تعميمه في المدارس، وفي الإدارات الحكومية، وفي المصانع، وفي الشركات، وفي الأندية والمجتمعات. وقد أخذت هذه الدعوة سبيلها إلى التنفيذ في بعض هذه الميادين.
والواقع أنَّ هذا الاتجاه هو جزء منَ اتجاه أكبرَ وأعمَّ، يُرادُ به فَرْنَجَةُ المرأة، وحملها على أساليب الغرب في شتى شؤونها: في الزواج، وفي الطلاق، وفي المشاركة في العمل والإنتاج، في شتى الميادين، وفي الزيِّ وفي المحافل والمراقص، إلى آخر ما هنالك، وهذا الاتجاه هو بدوره جزء من اتجاه أكبر، يراد به سَلْخُنا من أدب إسلامنا وتشريعه، وإلحاقُنا بالغرب في التشريع، والأدب، والموسيقى، والرسم، وفي فنون الحياة بين جِدٍّ ولَهْو.
والموضوع ذو جوانبَ متعددِّةٍ؛ ولكن أبرز جوانبه ناحيتان:
ـ اختلاط النساء بالرجال.
ـ واشتغال النساء بأعمال الرجال.
وسأعالج الناحية الأولى منه في هذا المقال، مرجِئًا الشقَّ الثانيَ إلى مقالٍ تالٍ إن شاء الله.(/1)
وأخطر ما في هذه الدعوات الجديدة أنَّ أصحابَها يلجَؤُونَ إلى تَدْعِيمِها، وتثبيتِ جُذُورِها الغربية في أرضنا، بأسانيدَ من الدين، بعد أن يُحَرفوا الكَلِمَ عن مواضعه في نصوصه الشريفة؛ من قرآن أو حديث أو خبر؛ لذلك رأيت أن أبدأ هذه الكلمةَ بتقديم طائفة من الآيات القرآنية، تبين بوجهٍ قاطع حُكْمَ الإسلام الصريح في هذه الأمور:
1 – يقول الله - تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59].
تأمر هذه الآية المسلمات بإطالة الثياب، وبإدناء بعض أطرافها منَ البعض الآخر، حتى تَستُر الصدور والظهور والأذرُعَ والسُّوق، وتُصرح بالحكمة في ذلك، وهو تمييز الأحرار منَ النساء، وتكريمُهن بصَوْنهن عن أذى الذين يتعرَّضون للبغايا والخليعات، لأنَّ التبرُّج والتبذُّل يسلكهنَّ في مسالك الريب، ويُطمِع الفُسَّاق في التعرّض لهنَّ، وإيذائهنَّ في حيائهنَّ، وفي أعراضهن بالأقوالِ أوِ الأفعال.(/2)
2 – ويقول – تعالى -: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30 - 31]:
تأمر هاتان الآيتان الرجلَ والمرأة كليهما بغضِّ البصر عند رؤية أحدهما للآخر، وتُردِف الأمر بالمحافظة على العفاف مع الأمر بغضِّ البصر؛ كأن النظر هو سبيل التفريط في العفَّة، ثم هي تأمر المرأةَ بأن تحرص على ستر مواضع الفتنة والأنوثة منها، وعدمِ إفشائها بأدوات الزينة والتجميل المختلفة، أوِ الثياب الضيِّقة أو الشفَّافة، أوِ الحركات الخليعة التي تُذيع صوت ما تتحلى به من حُلِيٍّ، كما تأمُرُها أن تغطِّيَ رأسها بالخمار، وأن تضرب بفُضُوله على صدرها ليَستُر فتحة ثوبها.(/3)
ولا تُبيح الآيتان للمرأة أن تتخلَّى عن هذا الحجاب؛ إلا في حضرة الذين لا تُثِيرُهم مَفَاتِنَهَا؛ منَ المحارم أوِ الأطفال الذين لم يَبْلُغوا الحُلُم، أو ناقصي الذكورة منَ التَّبَع، والخَدَمِ الَّذين لا أَرَبَ لَهُمْ في النساء، وتكشف الآية الأولى عنِ الحكمة فيما تطلب إلى المؤمنين من غض الأبصار؛ فتقول: إنه أَدْعَى إلى تزكية النفس وتطهيرها، والسموِّ بها عن مواطن الدنس، وتقول للمرتابين في صدق هذا الأمر وحكمته: إن الله أخبَرُ بطبائع خلْقِه وبمذاهبهم فيما يصنعون من أنفسهم.
وتَختِم الآيتان هذه الحدودَ المرسومةَ بدعوة المؤمنين جميعًا إلى أن يعودوا إلى طريق الله بعد أن نأتْ بهم عنه الشهواتُ ودعوات المضلِّلينَ؛ لأن التزام طريق الله هو سبيل الفلاح والنجاح.
3 – يقول – تعالى -: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60]:
أمَّا هذه الآيةُ: فَهِيَ لا تبيح التَّخفُّف من بعض الثياب - كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار - إلا للطاعنات في السن؛ ممن ذهب رَوْنَقُهُنَّ، وفارقْنَ سِنَّ الزواج، ولم يَعُد مثلُ هذا الصنيع منهن يثير الناظرَ إليهن، ومع ذلك فهُنَّ مأمورات بأن يَلزَمْنَ جانب الحشمة؛ فلا يُبْرِزْنَ ما يتكلَّفن من زينة، وتَحُثُّهُنَّ الآيةُ على التزام القصد فيما أباحت لهن، وتصف الاحتشام أمام الغرباء بالعِفَّة؛ حيث تقول: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ}.(/4)
4 – يقول – تعالى -: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 32 - 33]:
الحديث في هاتين الآيتَيْنِ موجَّهٌ إلى نساء النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يتضمَّن أَمْرَهُنَّ بأن يَلْزَمْنَ بُيُوتَهُنَّ، ولا يَصْنَعْنَ صنيعَ الجاهليات في التبرج، وبأنْ يَقْصِدْنَ في محادثة الرجال إذا دعتْ إليه ضرورةٌ؛ فيَذْهَبْنَ به مَذْهَبَ الجِدِّ والحزمِ والإيجاز، وبأن يُقِمْنَ شعائر الدين؛ من صلاة وزكاة، ويَلْزَمْنَ حدود الله، وتعلل الآية ذلك كله بأنه سبيل الطهارة، والبعد عن مظانِّ الرِّيبَةِ، وإطماع مرضى القلوب.
وقد يَظن بعض الناس أن توجيه الحديث في هاتين الآيتين إلى نساء الرسول - صلى الله عليه وسلم - يَعني أنهن قد خُصِصْنَ به دُونَ سائِرِ المُسْلِمات، وأنَّ حُكْمه لا يَتَعَدَّاهُنَّ إلى غَيْرِهنَّ، وهو خطأ ظاهر؛ فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو قدوة المسلمين، ومَثَلُهم الأعلى، ونساؤه قدوةُ المسلمات، ومثلُهُنَّ الأعلى؛ فالله - سبحانه وتعالى - يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].(/5)
فإذا كان هذا هو الأحوطَ، وهو الأطْهَرُ، وهو الأدعى إلى إذهاب الرجس عن بيت سيدنا رسول الله، وعن نسائه الطاهرات رضوان الله عليهن ـ: فلا شكَّ أنَّ عامَّة المسلمات – وهنَّ أبعد عن العصمة جدًّا – أحوج إلى الأخذ به والتزامه. وإذا كانت إلانَةُ القول وإطالته في غير موجِب من جانب نساء الرسول – وهنَّ أُمَّهات المؤمنين – مَظِنَّةَ إطماع مرضى القلوب، فكيف يكون الحال بالقياس إلى سائر المسلمات، اللاتي لا يُحيطهن من أسباب العصمة، وذَوْدِ الشر، ودفْعِ الأطماع والإغراء ما كان يحيط بنساء الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟!
5- يقول – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53].(/6)
هذه الآية خاصَّة بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا، وهي تُنبِّه المسلمين إلى أنْ يُخفِّفُوا عند زياته والإلمام ببيته، وأن لا يُثقِلوا بإطالة الحديث بعد قضاء حاجاتهم، أو تناوُل ما دُعُوا إليه من طعام. كما تأمرهم إنِ احتاجُوا إلى طلبِ شَيْءٍ من نساء الرسول أن يكون حديثُهُمْ إليهن من خلف ستار، يَحجُبُ كُلاًّ منهم عن الآخر. وتعلِّل الآية الكريمة ذلك بأنه أدعى إلى طهارة الطرفين، وأحوط في تجنب أسباب الفتنة. وليتَ شِعْرِي إذا كان نساء النبي – وهنَّ مَنْ هُنَّ – وصحابة رسول الله – وهُمْ مَنْ هُمْ – مأمورين بذلك، فكيف لا نكون نحن مأمورين به؟!
6 – يقول – تعالى -: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 25 - 28].(/7)
المخاطبون بهذه الآيات همُ الذين لا تساعِدُهم ظروفهم المالية على الزواج، ودفع مُهور الحرائر من النساء. والآيات تُبيح لمن لا يستطيع الصبر من هؤلاء أن يتزوَّج من الإماء، بعد أن يدفع مُهُورَهُنَّ إلى مواليهِنَّ، وتَنْهَى عن أن يكون سبيلُ التَّنْفِيس عن شهوات الذين لا يجدون إلى ضبطها سبيلاً، هو الزنا بهؤلاء الإماء، أو عقد الصلات معهن في السِّرِّ، واتخاذَهُنَّ عشيقاتٍ أو صديقاتٍ – على ما يَحْلُو لبعض الناس في هذه الأيام أن يُسَمِّيهِنَّ تقليدًا لمذهب الفِرِنْجَةِ في تسميتهن (Girl friends) - ولكنها تنصح لهم بالصبر؛ حتى لا يَجنوا على أولادهم من هؤلاء الإماء بجعلهم أرقاء.
ويقول الله - تبارك وتعالى -: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}، بينما يسمي الفرويديون الصبرَ وضبط النفس، والتحكم في الرغائب والشهوات – كَبْتًا، ويرتِّبون على هذا الكَبْتِ ما شاءت لهم شياطينُهم منَ الأمراض النفسيَّة، فلْيختَرِ المسلمون لأنفسهم بين الكفر والإيمان، وبين ما أوحى اللهُ إلى نبيِّه، وما أوحت شياطين الجن إلى شياطن الإنس.
وتختم الآيات هذا الحديثَ بأن الله سبحانه وتعالى عليمٌ؛ يعرف حقائق شؤونكم ودقائقها، حكيم يضع الأشياء في مواضعها، فهو – سبحانه وتعالى – يُرْشِدُكم إلى سبيل الطهارة والتوبة، ويُبَيِّن لكم طريق الرشاد والصلاح، ويخفِّف عنِ الضعفاء منكم؛ فيرسُمُ لهم ما يحتملون، ولا يُكَلِّفهم ما لا يطيقون. يريد الله سبحانه وتعالى أن يعود بكم إلى طريقه الموصِّلة للخير، المنقِذَة من الضلال؛ بينما يريد الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أن يميلوا بكم عن طريق الهداية والنجاة ميلاً عظيمًا.
هذه جملة من الآيات صريحةِ الدَّلالةِ فيما تأخذ به المسلمين والمسلمات؛ فهي تأمرهم:
1 – بستر جسم المرأة كلِّه – ومنه شعر الرأس – وتجنُّبِ إبداء المفاتن، والتزيُّنِ أمام الغرباء من غير المحارم.(/8)
2 – بتجنب التَّسَكُّعِ في الطرقات، واستعراضِها في غير حاجة، وبالاستقرار والاكتنان في البيوت.
3 – بتجنب التحدث إلى الرجال، فإذا دعت إلى ذلك ضرورةٌ فليكن بين الرجل والمرأة ستار، وليكن الحديث أَمْيَلَ إلى القَصْدِ، وعلى قدر ما تقضي به الضرورة.
4 – بغض البصر عند التقائه بالرجال، والرجال مأمورون بمثل ذلك عند التقاء نظرهم بالنساء.
5 – بالزواج لمن استطاعَهُ، وبالصبر وضبْطِ النفس لمَنْ أَطَاقَهُ، وبالزواج من الإماء لِمَنْ لا يُطِيقُ الصبر، ولا يجِدُ مهر الحرائر. أمَّا اتّخاذُ الخليلات ومُقارفة البغايا، فهو محرَّم يحذّر منه الدين.
ولا أَظُنُّنِي محتاجًا بعد ذلك كلِّه إلى إطالة القول في أنَّ التزام هذه القواعدِ، التي يأمر بها الشرع، أمرٌ قاطع لا يدع مجالاً للتوفيق بين إسلام المسلمين، وبين مذاهب دعاة المجتمعات المختلَطة في شتى صورها وأشكالها.
هذا هو حُكْم الدين لمن أراد أن يقيمه، وتلك هي حدود الله لمن أراد أن يلتزمها، وذلك هو الخير كلُّ الخير لِمَنْ أسلم وَجْهَهُ لِلَّه وآمَنَ بِالكِتاب كُلِّه، لا يحكِّم هواه أو أهواء الذين يُضِلُّون بغير علم مِمَّن يتَّبِعون الظَّنَّ، فيأخذ ببعضٍ ويَدَعُ بعضًا، ولا يطلب دليلاً على ما أُمِرَ به، ولكنه ينقاد إليه سواء ظهر له وجه الخير فيه أم خفي عنه؛ لأن الدين يقوم على مجموعة من المسلَّمات، يلتقي عندها الناس على اختلاف أفكارهم وأمْزِجَتِهم وبيئاتهم، فيُصبحون في اتّحادِهِمْ أُمَّةً واحدةً، ويُصْبِحون مع تعددهم كالفرد الواحد، وكالبُنيان المرصوص يشُدُّ بعضُهُ بعضًا، ويُصبحون في توادِّهم وتراحُمِهم كالجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائر الأعضاء بالحُمَّى والسهر، وذلك هُوَ أقْصَى ما يطمح إليه التفكيرُ السياسِيُّ مِنَ التَّماسُكِ والتآلُف والاستقرار والاطمئنان.(/9)
أما الذين لا يُلزمون أنفسَهم حدودَ الله، ولا يَنقادون لما أمر به، فلنا معهم حديثٌ آخَرُ، وإلى هؤلاء نقول:
قدِ اقْتَضَتْ حِكمة الله - سبحانه وتعالى - أن يكون جميع خلقه من ذكر وأنثى؛ تجد ذلك في الحيوان، وفي النبات، وفي الظواهر الطبيعية؛ كالكهرباء والمغناطيس، وتجده في الكرة الأرضية نفسِها، فأحدُ قطبيها سالب والآخَر موجب، وتجده في أَدَقِّ دقائق الخَلْقِ وَأَلْطَفِ وَحَدَاتِهِ، وهي الذَّرَّةُ. و{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36].
ومن طبيعة الأَزْوَاج في كل هذا الخلق أن تتجاذب؛ فالذَّكَر والأنثى في النوع الواحد يتجاذبان حتمًا حَسَبَ ما بنى الله عليه طبيعةَ كلٍّ منهما، وحَسَبَ ما هدى إليه من فطرة، وسبحان {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فمَيْل الرجل للمرأة، ومَيْل المرأة للرجل إذن هو جزء من قانون عامٍّ، اقتضته حكمة الله سبحانه، لا سبيل إلى تجنُّبِهِ أو إنكاره. وليس من المطلوب ولا هو مما يرغب فيه ويُسْعَى إليه؛ أن يُخَفَّفَ هذا المَيْلُ أو يُعمَلَ على إضعاف حِدَّته.(/10)
ثم إنَّ إطلاق الأمر في تَجَاوُرِ الرَّجُلِ والمرأة واختلاطهما، لا يخلو من أحد أمرين: فهو إمَّا أن يؤدِّيَ إلى إثارة الشهوة في الجنسين وزيادة حدَّتها، أو يؤدي إلى إضعافها وكسر حدَّتها. فإذا كان الاختلاط مؤدّيًا إلى تجاذُب الذَّكَر والأنثى، على ما ركب في طبيعة كل منهما، ولم تكن هناك حدود لهذا الاختلاط، أو نظامٌ مرسومٌ، تحوَّل الأمر إلى فوضى لا ضابط لها، وعند ذلك يَشِيعُ الأذى بين الناس، بشُيوع الأمراض التي قدَّر الله سبحانه أن يضرب بها الذين يُقارفون الفاحشة منَ الزناة، ويَفْسُد المجتمعُ، ويَضطرب نظامه، ويتمزَّقُ شَمْلُ جماعته، ويموج بعض الناس في بعض، بتكاثر الأحقادِ والضغائن بين الآباء الذين أُوذُوا في بناتهم، والأزواج الذين أوذوا في نسائهم، والأولاد الذين أوذوا في أمهاتهم، وبين المتنازعين والمتنازعات، والمتنافسين والمتنافسات على العشيق الواحد والعشيقة الواحدة، وذلك كله مما لا خير فيه، ومما لا تسعى إليه جماعة من الناس، تنشد الوَحدة والطُّمَأْنِينة والسلام، وتتجنَّبُ السُّبُلَ التي تظن أنها لا تؤدي إليهما، ذلك هو أحد الفرضين.(/11)
أما الفرض الآخَر: فهو أن التجاور بين الرجال والنساء، وكثرةَ اللقاء بينهم وبينهنَّ، أفرادًا وجماعاتٍ موجِب لإضعاف التجاذُب؛ بخُفوت صوت الشهوة الجنسية، وإضعاف حِدَّتها أو تحويلها عن وجهها وأسلوبها، على ما يزعمه الزاعمون من بعض الباحثين في الدراسات النفسية، الداعين إلى تهذيب الغريزة الجنسية، أو التنفيس عنها، ومعنى هذا أن يجد كلٌّ منَ الذكور والإناث لذَّتَهم في مجرد الاستمتاع بالحديث والنظر، وأنَّ طول التجاور والتقارب يولِّد في نفوسهم ونفوسهنَّ شيئًا من الإلف، لا تثور معه الرغبة في استمتاع جسد كل منهم بجسد الجنس الآخر عند رؤيته؛ بل مع قربه منه وملاصقته له، وذلك كله أمر معقول ومحسوس يؤيِّده المنطق والتجرِبة، لأنَّ إلف النفس للشيء، وتَكرارَ اعتيادها إياه يضعف أثره فيها، فالذي يطيل المكث في مكان عَفِنٍ نَتِنٍ، يَفقد الإحساس بعَفَنه ونَتَنِه على مرِّ الزمان، والذي يُدمِن شمَّ رائحة زكية، يَفقد الإحساس بطِيبِها بعد وقت قصير أو طويل، والذي يتعوَّد لمس الأجسام الساخنة أو الشديدة البرودة، يفقد الإحساس بحرارتها أو ببرودتها، مما لا يُطيقه غيره من الذين لم يدمنوا ممارسة ذلك؛ وكذلك الشأن في الرجال والنساء؛ فالذين يسكنون المُدُن من الرجال لا يثير غرائزَهم الجنسيةَ رؤيةُ أذرع النساء وسوقهنَّ وصُدُورهن؛ بل إنَّ بعضهم لا يثيره رؤية الجسد عاريًا معروضًا في أكثر الأوضاع إغراءً على شواطئ البحر في الصيف، أو في مراسم الرسَّامين من هُوَاةِ رسم الأجساد البشرية العارية، وفي هؤلاء الرجال مَن كان يعيش في الريف من قبل، وكان يثيرُ شهوته مجرد الاستماع إلى صوت المرأة، أو مجرد النظر إلى وجهها أو يدها أو رِجلها، فضلاً عن مجالستها أو مصافحتها:(/12)
ذلك أمر صحيح تثبته التجرِبة ويؤكده الواقع، والذي يذهب إليه دعاة تهذيب الشهوة صحيحٌ من بعض نواحيه، وإن كان كثير من الشهوات الجامحة الجارفة يستعصي على الترويض، وينطلق إلى الفتك والافتراس، ويفلت زمامه من المروضين، وأغلب الظن أن إدمان الخضوع للتجرِبة على تعاقب الأيام، قد ينتهي إلى ما يريده المروّضون من دعاة التهذيب؛ ولكن أيُّ شيء يمكن أن يُسمَّى هذا الذي يسعون إليه، ويبذلون الجهود لتحقيقه؟ أليس هذا هو البرودَ الجنسيَّ عينَهُ؟ إذا رأى الرجلُ المرأةَ فلمْ يُثِرْ فيه هذا اللقاءُ ما يثور عادةً في الرجال عند رُؤْيَة النّساء، وإذا رآها بعد ذلك عاريةَ الأذرُع والسوق والصدور والظهور، بارزة النُّهُود والأوراك، فكان قُصارَى ما يلتَذُّ به هو الحديثَ والنظرَ، ولم يستتبع هذا الحديثَ والنظرَ أيُّ اندفاع أو رغبة في ممارسة الصلة الجسدية، وإذا تَشَابَكَتِ الأَذْرُع بالأَذْرُع، والتفَّتِ السُّوق بالسُّوق، ولامست الأجسادُ الأجسادَ؛ صدرًا لصدر، وبطنًا لبطن، ثم لم يطرأ على الرجل أيُّ تغْيير جِنسيٍّ جسديٍّ، وكان قُصارَى ما يستتبعه ذلك كلُّه، هو أن تَسرِيَ في جسده نشوة، لا تدفع به إلى الحالة الإيجابية العضوية، أليس يكون قد بلغ عند ذلك ما يسمى بالبرود الجنسي؟! وهو عند ذلك برود مزدوج يشمل الطرفينِ كِلَيهما: الرجلَ والمرأةَ؟!
ثم أليس البرود الجنسي مرضًا يسعى المصابون به إلى الأطباء، يلتمسون عندهم البُرْءَ والشفاء من أعراضه؟! فكيف إذن نجعل هذا المرض غاية من الغايات، نسعى إليها باسم التنفيس عن الكبْت، أو تهذيبِ الغريزة الجنسية؟! وكيف يكون الحال لو تصورنا هذا الناموس – ناموس تجاذُب الذكور والإناث – وقد "تهذَّب" في سائر خلق الله، فبَطَلَ تجاذُب السالب للموجب، أو فَتَرَ، فأصبح من غير المؤكّد أن يترتَّب على التقائهما التَّوْقُ الشديدُ، والمَيْل العنيف الذي لا يقاوم إلى الاندماج الكامل؟! أليس يفسد الكون كله؟!(/13)
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون : 71]
ثم إن هذا البرود الجنسي متفاوِتُ الدرجات، يختلف قوةً وضعفًا باختلاف درجات المجتمعات في الأخذ بمبدأ المجتمَع المختلَط، ورفْع الحواجز بين الذُّكْرانِ والإناث، ولكنه – في غير الحالات المَرَضِيَّة الشديدة، التي تُعَرِّضُ النوعَ البشريَّ للفناء بانقطاع النسل – يَسْتَتْبِعُ نتيجتينِ شديدتَيِ الخَطَر: ضعفَ النَّسْل وتخلُّفه وانحطاط خصائصه، وانتشارَ الشذوذ الجنسي واستفحال دائه.(/14)
أما النتيجة الأولى: فهي ترجع إلى أن حدَّةَ الشهوة وقوتها سبيلٌ إلى تحسين النسل، وداعيةٌ إلى إبراز أحسن خصائصه وأفضل صفاته، كما أنَّ فُتُور الشهوة وبُرودها سبيلٌ إلى ضعف النسل، وداعية إلى تدهور خصائصه وانحِطاط صِفاتِه، وممَّا يتَّفق مع هذا المذهب في النتيجة – وإن اختلف معه في التعليل – ما يذهب إليه علماء الوِراثة من التنبيه إلى خطر زواج الأقارب ومضارِّه[1] ، ويؤيده تأييدًا قويًّا تحريم الشريعة الإسلامية زواجَ أخوات الرضاعة، فمن الواضح أنه مبنيٌّ على اعتبار الغرباء، الذين لا تربطهم قرابة الدم ممن تجاوروا؛ حتى ازداد إلف أحدهما للآخر في حُكْم أقرباء الدم، هذه حقيقة معروفة تقطع بها المشاهدة وتجارب الأجيال المتعاقبة، وتؤيدها الشرائع الثابتة، وهي تشمل الإنسان والحيوان على السواء، ومن مظاهر تطبيقها على الحيوان إبعادُ الذكور عن الإناث، وعدم السماح باختلاطهما إلا عند اللقاح. ومن علامات صحتها - فيما أزعمه - انحطاطُ خصائص الجنس البشري في الهمج من العراة؛ الذين لا يزالون يعيشون في المتاهات والأدغال على حال تقرب من البهيميَّة، فإنهم لا يأخذون طريقهم في مدارج الحضارة إلا بعد أن يكتسوا، ويستطيع المراقب لحالهم في تطورهم أن يلاحظ أنهم كلما تقدموا في الحضارة زادتْ مساحة الأعضاء الكاسية من أجسادهم، كما يستطيع أن يلاحظ أن الحضارة الغربية في انتكاسها، تعود في هذا الطريق القهقرَى درجةً درجةً؛ حتى تنتهي إلى العري الكامل في مُدُن العراة، التي أخذت في الانتشار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم استفحل داؤها في السنوات الأخيرة.(/15)
وقد أدرك قدماء العرب ذلك بالتجرِبة والملاحظة، فوصف أبو كبير الهُذَلِيُّ فارسًا عربيًّا مشهورًا من صعاليك العرب – وهو تأبَّطَ شرًّا – بأنَّ أُمَّه قد حملت به، وهي أشهى ما تكون إلى زوجها، حين لم تكن مُرْضِعًا، ولم تكن في أعقاب حيض، حتى لقد صوَّر أباه في هياج شهوته؛ وكأنه قد اغتصب أمه اغتصابًا وأخذها غِلابًا، وذلك حيث يقول[2] :
مِمَّنْ حَمَلْنَ بِهِ وَهُنَّ عَوَاقِدٌ حُبُكَ النِّطَاقِ فَجَاءَ غَيْرَ مُهَبَّلِ
وَمُبَرَّأً مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ
حَمَلَتْ بِهِ فِي لَيْلَةٍ مَزْؤُودَةٍ كَرْهًا وَعَقْدُ نِطَاقِهَا لَمْ يُحْلَلِ
فَأَتَتْ بِهِ حُوشَ الْفُؤَادِ مُبَطَّنًا سَهِدًا إِذَا مَا نَامَ لَيْلُ الْهَوْجَلِ
وأدرك ذلك أيضًا الإمام الجليل أبو حامد الغَزَالِيُّ، فجاء في كتابه "إحياء علوم الدين" من بين ما سَرَدَهُ في الخصال المطَيِّبَة لعيش الزوجينِ قوله[3] :
"ثامنًا: أن لا تكون من القرابة القريبة؛ فإن ذلك يقلل الشهوة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تنكحوا القرابة القريبة؛ فإن الولد يخلق ضاويًا)). وذلك لتأثيره في تضعيف الشهوة؛ فإن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحساس بالنظر واللمس، وإنما يقوى الإحساس بالأمر الغريب الجديد، فأما المعهود الذي دام النظر إليه مدة، فإنه يضعف الحس عن تمام إدراكه والتأثر به، ولا تنبعث به الشهوة". إ هـ.(/16)
أما النتيجة الثانية الخطيرة لشيوع البرود الجنسي؛ وهي انتشار الشذوذ واستفحال دائه: فهي راجعة إلى أنَّ الرجل الذي أَلِفَ أن يقع نظرُه على مفاتن المرأة فلا يثور، يحتاج لكي يثور إلى مناظر وأوضاع تخالف ما أَلِفَ، ثم إنَّ إصابته بالبُرود تَحرِمه لذةً من أكبر اللذائذ، ومتعةً من أعظم ما ينطوي عليه الناموس منَ المتع، وهي متعةٌ تسكن عندها النفس، ويطمئنُّ القلب، ويستقر الاضطراب، ومصيبته هذه بالبرود الجنسيّ تَحرِمه من الإحساس بذكورته، فيعاني أشد الألم مما يُحِسُّهُ في أعماق نفسه منَ الذّلَّة والمهانة، ويدفعه ذلك إلى أن يحاول تحقيق متعة الاتصال الجنسيّ، وإثباتها من كل الوجوه، عن طريق التقلب بين الخليلات وبائعات الهوى، والتماس الشاذِّ الغريب منَ الأساليب والأوضاع، رجاء انبعاث ما ركد من ذكورته، وقد تدفعه مع ذلك إلى إغراق نفسه في المخدِّرات تعويضًا لما فقده من لذة، أو إلى الإجرام أو المغامرة؛ إثباتًا لذكورته من وجه آخر.
ومثل هذا الشذوذِ يشمل المرأة والرجل على السواء؛ لأن البرود الجنسي الذي يؤدي إليه هذا الاختلاط – بل الذي يسعى إليه دعاة الاختلاط – برودٌ ذو شِقِّينِ، لا يحقق ما يزعمونه من أهداف؛ إلا إذا شَمِلَ الذكر والأنثى، فانتفت الرغبة الجنسية الجسدية في الطرفين كليهما؛ عند اللقاء، وعند اللعب، وعند الممازحة والمراقصة. ويستطيع القارئ أن يتتبع هذه الظاهرة في المجتمع الغربي؛ ليتبيَّن آثارها المدمرة فيه، وهي آثار لا مفر معها من مثل مصير الذي خَلَوْا من البائدين {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].(/17)
وأنا أعلم أنَّ كثيرًا من الناس لا يقع منهم الدليل موقع الإقناع؛ إلا إذا نسب إلى الغرب، وإلى هؤلاء أسوقُ بعض ما نَقَلَتْه صُحُفٌ - لا تُتهم عندهم بالرجعية - عن علماء الغرب وهيئاته؛ فمن ذلك ما نقله المصوِّر (العدد 1689 ص 4) عن الأستاذ بيتريم ساروكين، مدير مركز الأبحاث بجامعة هارفارد في كتاب له، صدر أخيرًا بعنوان "الثورة الجنسية"، حيث يقرِّر أن أمريكا سائرة بسرعة إلى كارثة في الفوضوية الجنسية، كما يقرّر أنَّها متَّجهة إلى الاتجاه نفسِهِ، الذي أدى إلى سقوط الإمبراطورية الإغريقية، ثم الإمبراطورية الرومانية في الزمان القديم، ويقول في ذلك الصدد: "إنَّنا محاصرون من جميع الجهات بتيار مطرَّد من الجنس، يُغرق كلَّ غرفة من بناء ثقافتنا، وكل قطاع من حياتنا العامة، وهذه الثورة التي تَعْبُر بنا آخذةً في تغيير حياة كل رجل وكل امرأة في أمريكا ـ: أكثرٌ من أي ثورة أخرى في هذا العصر".
ومن ذلك ما جاء في صحيفة "الأخبار" (عدد 26 محرم 1377 ص 2 تحت عنوان: عالم أمريكي يقول: إن المرأة الأمريكية باردة) حيث نقلت ما صرح به الدكتور جون كيشلر، أحد علماء النفس الأمريكيين في شيكاغو، حين قال: "إن 90 في المائة من الأمريكيات مصابات بالبرود الجنسي، وأنَّ 40 في المائة من الرجال مصابون بالعقم، وقال الدكتور: إن الإعلانات التي تعتمد على صور الفتيات العارية، هي السبب في هبوط المستوي الجنسي للشعب الأمريكي".(/18)
ومَن شاء المزيد فليرجع إلى تقرير لجنة الكونغرس الأمريكية لتحقيق الأحداث في أمريكا، الذي نقلته مجلة "التحرير" (العدد 234 تحت عنوان: أخلاق المجتمع الأمريكي منهارة). وهو يشير إلى ارتفاع نسبة تعاطي المخدرات بين الأحداث، وانتشار الحانات التي تقدم الخمور، وكُتُب الجنس، وقصص الجنس، وأفلام الجنس، وانتشار نوادي العراة بكثرة مخيفة على الشواطئ الشرقية خاصة. ومَن شاء فليرجع كذلك إلى تقرير اللجنة، التي شكلها مجلس العموم البريطاني للتحقيق في مشكلة الشذوذ الجنسي، فانتهت من بحثها إلى اقتراح إباحته بعد الواحدة والعشرين، وقد نشرته صحيفة "الأخبار" أخيرًا.
وأحب أن أشير إشارة موجزة إلى بعض مزاعم، يؤيد بها دعاةُ الاختلاط مذهبهم الهدامَ:
من ذلك: ما يزعمه بعضهم من أن الريف العربي كله – ومنه قُرَى مصر – يمارس الاختلاط:(/19)
والواقع أنَّه ليس هناك اختلاط بين الرجال النساء في أيِّهما، ولم يوجد هذا الاختلاط في أيِّ عصر من العصور؛ فسُفور القَرَوِيَّةِ أو البَدَوِيَّةِ شيءٌ، والمجتمع المختلَط شيء آخر، وكل الناس يعرفون أنَّ الزّيَّ الذي رَسَمَهُ الإسلام للنساء؛ من إطالة الثياب وتوسيعها، إلى تغطية الرأس بالخمار، والضرب بفضوله على الصدر، لا يتوافر في امرأة، كما يتوافر في القَرَوِيَّةِ والبَدَوِيَّةِ، ومن المعروف كذلك أنَّ السُّفور في هذه البيئات، لا يتجاوز معاونة المرأة لزوجها في بعض الأعمال، وهي معاونة محدودة فيما تستطيعه، مثل نقل الحطب أو جَنْيِ الثمار، أو القيام على الدواب، أو نقل بعض المتاع والغذاء، على أنها لا تفعل شيئًا من ذلك إلا بدافع الفقر والحاجة، أما السُّراة فنساؤهن مصونات في البيوت؛ لذلك كان الشاعر العربي إذا وصف المرأة الكريمة قال إنَّها (نَؤُومُ الضُّحَى)، على أنَّ التي يُلجئها الفقْرُ إلى الخُرُوجِ، لا تُخَاطِبُ الغُرَبَاءَ إلا بقدر ما تدعو إليه الحاجة الماسَّة الضَّروريَّة، وهي تضع طَرْفَ خِمَارِها بين يدها وبين يد الرجل إذا سلَّمت عليه، ومن المؤكَّد على كل حال أنها لا تُجالس الرجال في أسمارهم أو عقودهم؛ بل ولا تشارك أهل بيتها من الرجال على المائدة في بعض الأحيان؛ فأين ذلك كله من المجتمع المختلط؟!
ومن هذه المزاعم كذلك: ما يُرَوِّجونه من أن الأخطاء التي نشاهدها الآن من آثار الاختلاط، سوف تَزُول كما زالت في الغرب حَسَبَ زعمهم، وواقع الأمر أن الأخطاء لم تَزُلْ في الغرب؛ ولكن حياء الغربِيّين والغربيَّات هو الذي زال، ونحن ناس خُلُقُ دينِنا الحياءُ، والحياء خيرٌ كله؛ كما قال سيدنا رسول الله، إن الذي يُدمِن الحياة بين نَتَنِ الجِيَفِ، وعَفَنِ الأقذار، يَفقِد الإحساس بالنَتَنِ والعَفَنِ؛ ولكن هذا لا يعني أن النَّتَنَ قد زال.(/20)
ومن أعجب ما يلجأُ إليه دعاةُ الاختلاط في بعض دَعاياتهم، أنهم يعارضون الإسلام بما جرى عليه العُرف عند بعض البائِدِين؛ كالفراعنة، أو بمذاهِبِ بعض الدراسات الاجتماعية والنفسية الحديثة:
ومعارضة الإسلام بهذه أو بتلك لا تَصدر إلا مِن جاحد بالله ورسالاته وكُتُبه؛ لأنَّ الفِرْعَوْنِيَّة ليستْ دِينًا، وليستْ مَذهبًا خُلُقيًّا؛ ولكنها عصر تاريخيٌّ، قد يكون فاسدًا، وقد يكون ضالاًّ، وقد يكون كافرًا بالله، وقد قطع الإسلام ما بين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وبين أبيه، وقطع ما بين نوح - عليه السلام - وبين ابنه، وبين لوط - عليه السلام - وبين زوجته، فكيف لا يقطع الإسلام ما بيننا وبين الكفار من الفراعنة، والله سبحانه وتعالى يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23]؟!!(/21)
أما الدراسات النفسية والاجتماعية: فهِي الآن دراساتٌ موجَّهة، تَخضع لمذاهب الدارسين وأهوائهم؛ ولذلك فهي متشعِّبة إلى مذاهبَ ومدارسَ مُتَباينةٍ، تتعرَّض لتغيُّر دائم لا يكاد يستقر؛ فترْك نصوص الدين الثابتة إلى هذه الفروض المتغيّرة، التي يَنقُض بعضها بعضًا، هو اتّباعٌ لِلظَّنّ المفرِّق للوَحدة، والباعثِ على التَّنازُع المؤدِّي للفَوْضَى والانحلال، ومن غير الجائز بوجه عام، وفي أيِّ حالٍ منَ الأَحْوَالِ، أن يُحْتَكَمَ في مثل هذه الشؤون إلى بعض مذاهب الناس قديمًا أو حديثًا، فهذه المذاهب والآراء إنْ صلحت لدارسِ فنونِ الشُّعُوبِ وعاداتها (الفولكلور)؛ لكي يتصور منها صورةً للمجتمَع في بيئاته المختلِفة، وفي عصوره المتتالية، فهي لا تصلح في كل الأحوال لأن تكونَ قُدْوَةً صالحة، ولا يصح أن تكون مَذهبًا خُلُقِيًّا أوِ اجتماعيًّا يُعارَض به مَذهب الإسلام، فما اخْتَلَفْنَا فيه من شيء فمَرَدُّه إلى كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفه، لا إلى الفراعنة، ولا إلى ما اعتاده الناس، وما جرى عليه العُرف هنا أو هناك، ومَنِ اعتراه أدنى شكّ في أنَّ مصالح الناس ومصلحة الوطن لا تتعارض مع الدِّين فقد أخرج نفسه من عِدَاد المسلمين.
ثم إني أُحب في آخِر الأمر أن أضع بين يديِ القارئ مقتطفاتٍ من خُطَّة الصِّهْيَوْنِيَّة الكبرى للسَّيْطَرَة على العالم، عن طريق هدم كل ما فيه من قوى، التي اكتُشِفَتْ مخطوطاتها، وذاع سِرُّها للمرة الأولى في أواخر القرن التاسعَ عَشَرَ، وهي الخُطة المشهورة باسم "بروتوكولات حُكماء صِهْيَوْن"، فقد تُعين على تدبر بعض ما ذكرته.(/22)
جاء في البروتوكول الأوَّل: "يجب أن ننظر إلى أولئك السكارى، الذين تبلدت أذهانهم بفعل الخمر، إنَّ الحريَّة أتاحتْ لهم هذا الإفراط والإدمان... إنَّ الشعب لدى المسيحيين أضحى متبلّدًا تَحْتَ تأثير الخمر، كما أنَّ الشباب قد انتابه العَتَه؛ لانغماسه في الفسق المبكر، الذي دفعه إليه أعوانُنا من المدرسين والخدم والمربيات، اللاتي يعملن في بيوت الأثرياء، والموظفين والنساء اللاتي يعملن في أماكن اللهو، ونساء المجتمع المزعومات، اللواتي يقلدنهن في الفسق والترف".
وجاء فيه أيضًا: "لقد كنا أوَّلَ مَن صاح في الشعب فيما مضى "بالحرية والإخاء والمساواة"، تلك الكلمات التي راح الجهلة في أنحاء المعمورة يردِّدُونها بعد ذلك دون تفكير أو وعي... إن نداءنا "بالحرية والمساواة والإخاء" اجتذب إلى صفوفنا من كافَّة أركانِ العالم، وبفضل أعواننا، أفواجًا بأكْمَلِها لم تلبثْ أنْ حملتْ لواءنا في حماسة وغَيْرَة. وكانت هذه الكلمات – في ذلك الوقت – تُسيء إلى الرخاء السائد لدى المسيحيين، وتحطّم سُلَّمهم وعزيمتهم ووَحْدتهم، عاملةً بِذَلِكَ على تقويض دعائِمِ الدولة، وأدى ذلك العمل إلى انتصارنا".(/23)
وجاء في البروتوكول الثاني: ".. أمَّا غَيْرُ اليهود فإنهم لا يستفيدون من تجارِب التاريخ التي تمر بهم، ولكنهم يتمسَّكُونَ بِنَظَرِيَّات رُوتينية، دون تفكير في النتائج التي قد يسفر عنها هذا المسلك، لذلك فنحن لا نعير غير اليهود أية أهمية، فلْيلْهوا ما طاب لهم اللهو؛ حتى ينقضي الوقت، ولْيَعِيشُوا على أمل ملذَّات جديدة، أو في ذكرى متع سالفة، وليعتقدوا أن هذه القوانين النظرية، التي أوحينا بها إليهم ذاتُ أهميَّة قصوى، فبهذا الاعتقاد الذي تؤكّده صحافتنا نَزيد من ثِقَتِهِمُ العمياء في هذه القوانين... يجب أن لا يكون هناك اعتقاد في أنَّ مناهجنا كلمات جوفاء. فنحن الذين هيَّأْنَا لنجاح دارون وماركس ونيتشه[4] ، ولم يفتنا تقديرُ الآثار السيئة التي تركتها هذه النظريات في أذهان غير اليهود".
وجاء في البروتوكول الرابع: "إنَّ لفظة الحريَّة تجعل المجتمع في صراع مع جميع القوى؛ بل مع قوة الطبيعة وقوة الله نفسها... على أنَّ الحريَّة قد لا تنطوي على أي ضرر، وقد توجد في الحكومات وفي البلاد دون أن تُسيءَ إلى رخاء الشعب، وذلك إذا قامت على الدِّين والخوف من الله، والإخاء بين النَّاس المجرد من فكرة المساواة، التي تتعارَضُ تمامًا مع قوانين الخليقة، تلك القوانين التي نصَّت على الخضوع. والشعب باعتناقه هذه العقيدة سوف يخضع لوصاية رجال الدين، ويعيش في سلام، ويُسلِّم للعناية الإلهية السائدة على الأرض، ومن ثَمَّ يتحتم علينا أن ننتزع من أذهان المسيحيين فكرةَ الله، والاستعاضة عنها بالأرقام الحسابية والمطالب المادية".(/24)
وجاء في البروتوكول الخامس: "ولكي نطمئن إلى الرأي العام يجب بادئ ذي بدء أن نُربكه تمامًا؛ فنُسْمِعه من كُلّ جانب، وبشتى الوسائل آراء متناقضةً، لدرجة يضل معها غير اليهود الطريق في تِيهِهم، فيدركون حينئذ أن أقوم سبيل هو أن لا يكون لهم أي رأي في الشؤون السياسية... والسرّ الثاني الملازم لنجاح حكومتنا، يقوم على مضاعفة الأخطاء التي ترتكب والعادات، والعواطف، والقوانين الوضعية في البلاد لدرجة يتعذر معها التفكير تفكيرًا سليمًا وسط تلك الفوضى... وسوف تساعدنا تلك السياسة كذلك على بث الفرقة بين جميع الأحزاب، وعلى حلّ الجماعات القويَّة، وعلى تثبيط عزيمة كل عمل فردي، يمكن أن يعرقل مشروعاتنا".
وجاء في البروتوكول الثامن: "لا يتيسر إسناد المناصب الرئيسية في الحكومة إلى إخواننا اليهود؛ لذلك فإننا سنُسْنِدُ المناصب المهمَّة إلى أناس من ذوي السمعة السيئة؛ حتى تنشأ بينهم وبين الشعب هوَّةٌ سحيقة، أو إلى أناسٍ يُمْكِنُ محاكمتهم والزج بهم في السجون، إذا ما حالوا دون تنفيذِ أوامرنا، والغرض من هذا هو إرغامهم على الدفاع عن مصالحنا حتى النفَس الأخير".
وجاء في البروتوكول التاسع: "ولكي نحطم التنظيمات التي أقامها غير اليهود عاجلاً، فإننا قد دَعَمْناها بخبرتنا، وأمسكنا بأطراف أجهزتها، فقد كانت الأجهزة تسير في الماضي بنظام صارم؛ ولكن عادل، فأحلَلْنا محله نظامًا متحررًا غير منتظم، ووضعنا يدنا على التشريع، وعلى المناورات الانتخابية، وتَحكَّمْنا في إدارة الصحافة، وفي نمو الحرية الفردية، والأهم من ذلك كله إشرافنا على التعليم، وهو المعول الرئيس للحياة الحرة".(/25)
وبعد: فإني أسوق هذا الحديث إلى دعاة المجتمع المختلَط؛ في المدارس، وفي الجامعات، وفي الأندية والمجتمعات، وفي المصانع والمتاجر، وفي إدارات الحكومة ومحافلها، وفي المعسكرات والمهرجانات، حيث تعرض أجساد الطالبات وأفخاذُهنَّ وأذرُعُهنَّ ومفاتن أجسادهن، في تمايلهن، وتثنِّيهن باسم الرياضة والفن، التي انتهت أخيرًا إلى إجراء مسابقات للسباحة في الجامعات، تظهر فيها الطالباتُ عارياتٍ؛ إلا من زيِّ الشاطئ، الذي لا يستر من العورات؛ إلا ما يضاعف فتنتها وإغراءها، وذلك على مشهد من الأساتذة والطلاب في منشآت الجامعات الرياضية! إلى هؤلاء جميعًا أسوق الحديث. ثُمَّ إِنّي أرجئ الشطر الآخر من الموضوع، وهو الخاص باشتغال المرأة بأعمال الرجال، مما جرى عرف بعض الناس في هذه الأيام على تسميته "حقوقَ المرأة" إلى حديث تالٍ إن شاء الله.
---
[1] علماء الوراثة لا يعُدُّون أن قوَّة الشهوة أو ضَعْفها، هي العلة في قوة النسل وضعفه؛ لأنهم يردون قوانين الوراثة إلى عوامل مادَّية خالصة. ويزعمون أن ما يسمونه (الكروموسومات) بما تحتوي عليه من الجِينات، التي تصور الخصائص المختلفة، هي وحدها التي تتحكم في الوراثة، بما تحمله البويضات والحيوانات المنوية منها، فتنحدر بعض هذه الصفات والخصائص من الأسلاف إلى الأبناء والأحفاد، حسب قوانين معيَّنة رتبوها.(/26)
ولكن علماء الوراثة مع ذلك يعترفون بأن (الجينات) تكاد تكون شيئًا افتراضيًّا لم يره أحد، ولا يمكنُ تحديدُ عددها في الكروموسوم الواحد أو وصفها أو بيان خصائصها، هذا إلى أنَّ فَرْضَهُمْ هذا لا يستقيم مع كثير من الظواهر التي لا يمكن تعليلها على أساسه، مثل ظواهر الوراثة المتحدة الأزمنة، ومثل ظواهر الوراثة بالتأثير، ومثل وراثة الحالات العارضة وقت العلوق، ومثل قانون وراثة الصفات الخارجة عن المعتاد، على أن بين علماء الوراثة مَن أنكر نظرية (الكروموسومات) التي يترتب عليها عدم قابلية الصفات المكتسبة للوراثة؛ مثل لزنكو (Lysenko ). ثم إن علماء الوراثة جميعًا يعترفون بما يسمونه (الطفرة)، كما يعترفون بعجزهم عن تعليلها، وبقصور قاعدة (الكروموسومات) المادّيَّة عن تعليلها؛ بل ومناقضتها لها، وموضع الضعف في كل النظريات، التي يكتشفها الباحثون، أن أصحابها يظنون حين يطَّلعون على بعض الحقائق والأسباب، أنهم قد أحاطوا بكل الحقائق والأسباب، وذلك ما لا يُحصيه إلا الله وحده سبحانه وتعالى، ثم إنهم لا يقرون إلا بما يخضع للحس والتجرِبة.
[2] "شرح ديوان الحماسة" للتبريزي: 1: 84 - 86 ط مصطفى محمد 1357.
[3] ج 4 ص 132 – 133 لجنة نشر الثقافة الإسلامية 1356.
[4] من المعروف أن (فرويد) - رأس المزاعم النفسية الحديثة، التي تستند إلى ما سماه العقل الباطن، والتي تجعل الغريزة الجنسية محور الشخصية الإنسانية -: يهوديٌّ؛ بل لقد كان معروفًا بتعصبه المفرط لليهود؛ فلم يكن يختار مساعديه وأعوانه إلا منهم.(/27)
العنوان: المحاصرون في غزة
رقم المقالة: 1984
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
بين طغيان الأعداء وخذلان الإخوان
الحمد لله القوي العزيز؛ كتب العز والنصر لمن آمن به وأطاعه، وقضى بالذل والصغار على من كفر به وعصاه، لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه، نحمده ونشكره فهو أهل الشكر والحمد، وهو مستحق الثناء والمجد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ حرَّم الظلم على نفسه، وجعله محرما بين عباده، فويل لهم إن تظالموا ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله ربه عز وجل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وآمنوا به، والتزموا دينه، والزموا طاعته، واعلموا أنه عز وجل ربُكم وأنتم عبيده، وأنه سبحانه قادر عليكم وأنتم عاجزون عنه، وأنه تعالى غني عنكم وأنتم مفتقرون إليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ} [فاطر:15-17].(/1)
أيها المسلمون: من رحمة الله تعالى بنا، وهدايته لنا، وتعليمه إيِّانا أن ميَّز لنا أعداءنا من إخواننا، وبيَّن لنا من يغشنا ممن ينصح لنا، وحذَّرنا ممن لا يريد الخير بنا، وأوضح لنا المنهج القويم في التعامل مع الآخرين، مما لا نحتاج معه إلى اجتهادات مجتهدين، ولا تخبطات منظرين وسياسيين، ولا استنتاجات إعلاميين ومحللين؛ فكلام ربنا جل جلاله هو مصدر علمنا بالصواب، وهو سبب هدايتنا للحق، وهو سبيل تحصيل النفع ودفع الضر، وهو مصدر العز ورفع الذل فخبره سبحانه صدق {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثًا} [النساء:87] وقوله عز وجل حق {لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} [يونس:94] ويهدينا لما هو أصلح لنا {إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] فلا قولَ لأحد مع قول الله تعالى، ولا حكم إلا له سبحانه، ولا مرجعَ عند التنازع إلا إليه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
فما أحوج المسلمين إلى هدايات الكتاب العزيز في زمنٍ كثر فيه الدجل على الناس، وأخفيت الحقائق، ومورست أبشع ألوان المسخ العقلي، والطمس العقائدي، والتزوير الإعلامي وإضلال الناس بشعارات جوفاء، وأمانٍ كاذبة، وأحلام خادعة، وظنون كاسدة، لا تغني من الحق شيئا، ولا يركن إليها إلا أهل العجز والخور، من نحو قولهم في: التعامل مع الآخر، والتعايش السلمي، والأخوة الإنسانية، وغيرها من الشعارات، التي اخترعها الكافرون، وسوق لها المنافقون، فاقتنع بها الجاهلون المخدوعون!! مع مصادمتها لكلام ربنا جل جلاله، ومباينتها لتاريخ المسلمين مع غيرهم ولا سيما أهل الكتاب، ومجافاتها لما عشناه من أحداث ونكبات.(/2)
فربنا جل جلاله أخبرنا أن الكافرين أعداء لنا {إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101] وأن أهل الكتاب منهم يحسدوننا على ديننا، ويريدون ردتنا عنه {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ} [البقرة:109]. وأنهم لن يرضوا حتى يحولونا من إيماننا إلى يهوديتهم ونصرانيتهم المحرفتين كما كانوا يفعلون قديما، أو إلى إلحادهم وعلمانيتهم كما في عصرنا هذا {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] كما يخبرنا ربنا عز وجل أن من طبيعة الكفار إن كانت لهم الغلبة إرهابَ المؤمنين، ومعاداتَهم في الدين، وإكراههم على الكفر {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20] وفي الآية الأخرى {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2].
تلك هي حقيقة الكافرين التي يخبرنا بها ربنا وهو عز وجل أعلم بنا بهم؛ إذ إنه سبحانه وتعالى خالقنا وخالقهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك:14].
ثم رأينا في السير والتاريخ كمَّاً هائلا من الأحداث والوقائع الدالة على ما قرأنا في القرآن الكريم من عداوة الذين كفروا للذين آمنوا، وأنها عداوة أبدية دينية، ابتداءً من مشركي مكة ويهود يثرب، ونصارى الشام، ومجوس فارس، في عهد الرسالة ثم عهد الصحابة، ومرورا بنكبات المسلمين في الأندلس، والحملات الصليبية الكبرى التي أُبيد المقادسة في الأولى منها، وانتهاءً بالاستعمار الغربي لبلاد المسلمين إبَّان إسقاطهم الخلافة العثمانية.(/3)
ثم عشنا واقعا مؤلما مريرا، أدرك أكثرنا مجازر اليهود في فلسطين ولبنان وسيناء والجولان، وأبصرنا وحشية نصارى روسيا في بلاد الأفغان والشيشان، ورأينا كيف افترس نصارى صربيا البوسنة ثم كوسوفا، ثم رأينا الدولة الأولى في الظلم والطغيان تبتلع عاصمة بني العباس، ولولا لطفُ الله تعالى بعباده لجاوزوها إلى غيرها، ولكن فشلهم كبح جماحَ نزواتهم الدموية الحيوانية.
أتعجبون -يا أيها المؤمنون- بعد حوادثِ التاريخ الكثيرة، وأحداثِ الواقع الأليمة، وقبل ذلك وبعده كتاب ربنا الذي هو الصدق والحق..أتعجبون إن حاول اليهود، ومِنْ ورائهم عبادُ الصليب قتل إخواننا في غزةَ صَبْرًا بقطع أسباب الحياة عنهم وهي: الغذاء والدواء والطاقة، حتى يموت منهم من يموت. وهذا القتل هو أشد أنواع القتل؛ لأن الضحية فيه يعذب قبل أن يموت، ويقتل ببطء شديد، وقد جاءت الشريعة بمنع تصبير البهائم، فكيف إذن ببني آدم؟!
وما حصارُ غزة إلا مثالٌ واحد من أمثلة لا تكاد تحصى من عداوة الكافرين للمؤمنين، وأنهم لا يريدون إلا الشر بالإسلام وأهله، وأنهم متى تمكنوا من المسلمين فلن يرحموا فيهم طفلا ولا امرأة ولا شيخا مسنا ولا مريضا عاجزا {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ} [التوبة:10].
لقد كان من ضمن مشروعات الدولة المستكبرة الطاغية نشرَ الديمقراطية في المنطقة فرأينا رأي العين ما فعلوه في العراق من الظلم والبطش وهتك الأعراض، وقتل المستضعفين، وزرع الجوع والخوف فيه. ثم رأيناهم ومِنْ خلفهم أوربة المتحضرة ينحرون ديمقراطيتهم التي يدعون إليها، ويهتفون بها في فلسطين، فيخنقون شعبا بكامله لأنه اختار من لا يريدون، ولم يصوت للخونة من عملائهم وأخدانهم.(/4)
لقد ملئوا العالم ضجيجا بالشعارات الإنسانية، وحفظ حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، وحقوق المرضى، وهاهم يقتلونهم صبرا في غزة، فأين هي الشعارات؟ وأين ما به يهتفون وينادون؟ تلك هي حقيقة كفار ولكن أكثر الناس لا يعقلون.
أما المنافقون فإنهم قد أعانوا على هذا الظلم العظيم، وشاركوا اليهود والنصارى في خنق المسلمين في غزة، وتلطخت أيديهم بدماء من يزعمون أنهم منهم، وظهر المنظِّرون منهم كعادتهم على شاشات التلفزة، وأعمدة الصحف ليُسوغوا هذه الجريمة النكراء، فيجلدوا الضحية، ويدافعوا عن المجرم، ويتهموا من لا يوافقهم في عمالتهم ونفاقهم بالعاطفية، وعدم الواقعية، والبعد عن العقلانية.
إن هؤلاء المنافقين يحسنون الظن بالأعداء أكثر من يقينهم بالله تعالى، ويصدقونهم أكثر مما يصدقون القرآن والسنة، ولا يأبهون بما حفظه التاريخ، ولا بما أثبته الواقع المؤلم من عداوة الكافرين للمؤمنين، فأين هي الواقعية؟! وأين العقلانية؟!
إن التاريخ يخالفهم، وأحداث الواقع تكذبهم، ومن يطبلون لهم، ويدافعون عنهم من الأعداء يحتقرونهم فلا يلقون لهم بالا، ولا يرفعون بهم رأسا، ولا يأخذون منهم رأيا، مع كثرة تسولهم على أبوابهم، وارتمائهم تحت أحذيتهم.
إن المنافقين يرمون مخالفيهم بالعاطفية؛ ليقللوا من أهميتهم، وليضفوا على خبالهم وضياعهم شيئا من الشرعية، وتالله إنه لا خير في أفراد لا عاطفة فيهم تجاه أمتهم وإخوتهم في الدين.(/5)
وإذا أراد المنافقون إسكات من يجادلونهم اتهموهم بأنهم مؤدلجون، وينطلقون من فكر المؤامرة، حتى أضحى كثير ممن يخافون سطوتهم الإعلامية، وإرهابهم الفكري، يفتتحون مقالاتهم بنفي أنهم ينطلقون من فكر المؤامرة، وأنهم بعيدون عن القول بذلك...سبحان الله يا عباد الله، ربنا جل جلاله يخبرنا أن الأعداء متآمرون علينا، وأنهم يجتمعون ضدنا، ويجمعون إبادتنا، ويوالي بعضهم بعضا في سبيل محونا وديننا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] والمنافقون ينكرون ذلك، والضعفاء يخشون إرهابهم الفكري فينفون تآمر الكافرين على المؤمنين، فما هم؟ وكيف يفكرون؟
إن المنافقين لا يملكون حادثة واحدة لا في القديم ولا في الحديث نصحت فيها أمة الكفر للمؤمنين، وكانت نصيحتها خالصة لا مصلحة لها فيها؛ بل تاريخ الكفار حافل بالظلم والطغيان، والنكاية بالمؤمنين، وفي هذا العصر تتولى منظماتهم الدولية، ودولهم المستكبرة تشريع كل شيء ضد الإسلام والمسلمين، ودونكم ملفات القضية الفلسطينية في أروقتهم منذ ستين سنة كيف كانت؟ وإلى ماذا آلت؟ ليس سوى ظلمات بعضها فوق بعض من الظلم والبغي والعداء، ولكن المنافقين بواقعيتهم وعقلانيتهم التي لا يملكها سواهم لا يبصرون ذلك، ولا يعقلونه، وحقيقتهم أنهم قد تجردوا من عواطفهم تجاه بلدانهم، فلا يفكرون إلا بعقول الأعداء، ولا يبصرون إلا بأعينهم، ولا ينطقون إلا بألسنتهم، ولا يكتبون إلا بأقلامهم، وصدق الله العظيم حين قال فيهم {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].(/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا} [النساء:138-139].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمدلله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ووالوا فيه، وعادوا فيه، وأحبوا له، وأبغضوا له؛ فمن فعل ذلك فقد استكمل الإيمان.
أيها المسلمون: بعد سبع سنوات من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تعاقد أئمة الكفر، ورؤوس الطغيان في مكة على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب، مسلِمهم وكافرهم؛ لأنهم آزروا النبي صلى الله عليه وسلم، وكتبوا صحيفة بذلك علقوها على الكعبة، فدخل بنو هاشم وبنو المطلب شعب أبي طالب، وتركوا منازلهم في مكة؛ نصرة للنبي عليه الصلاة والسلام وحمية له -وإن كان كثير منهم على غير دينه- ومنعت قريش عنهم الطعام والشراب وكلَ ما يحتاجونه، وعَظُم الحصار عليهم فأكلوا أوراق الشجر، وكلَّ شيء رطب، وهلك منهم ناس من الجوع، وبذل أبو طالب -وهو مشرك- جميع ماله، وكان يُنظِّم مناوبات لحراسة النبي عليه الصلاة والسلام خوفا عليه من أذى المشركين وغدرهم، وتاالله لو كان أبو طالب مسلما لترحمنا عليه، وترضينا عنه؛ جزاء حمايته للنبي عليه الصلاة والسلام.
وكان صياحُ الصبيانِ يُسمع من وراء الشِعْب من شدة الجوع والمخمصة، فَيَرِقُّ بعض أهل مكة لحال أهل الشِعْبِ فَيُهَرِّبون الطعام والكساء لهم بالليل، وربما أفلت بعضهم من عيون زعماء المقاطعة فحمَّل بعيرا ووجهه إلى الشعب، وبعد ثلاث سنوات من الحصار والجوع سعى بعض كبارهم إلى نقضها.(/7)
وما فعل المشركون من بني هاشم وبني المطلب ما فعلوا حتى تركوا بيوتهم، وهجروا قبيلتهم، وانحازوا إلى الشعب يقاسمون المسلمين الجوع والضراء والبأساء ثلاث سنوات تباعا.. ما فعلوا ذلك إلا حمية للدم والنسب، ووفاء بواجب المروءة والشهامة، وحفظا لحق الرحم والقرابة.
قارنوا -عباد الله- بين هذا الحدث التاريخي العظيم وبين ما يقع للمسلمين في غزة، وما يعانونه من ظلم الكافرين والمنافقين والظالمين، وقد عَجِز إخوانهم في الدين والدم عن نصرتهم، فما سبب ذلك مع أن رابطة الدين أقوى رابطة؟
إن السبب هو الخذلان، وإذا خُذل قوم هانوا وذلوا وقعدوا واستكانوا، فإن دبَّروا أخطئوا، وإن تصرفوا لم يحسنوا. وإذا سلب الناس التوفيق بسبب ذنوبهم فأنى لهم التوفيق والسداد {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
لقد غُلَّت أيدي الشعوبِ الإسلامية عن نصرة قضاياها، وقعد المسلمون عن نجدة إخوانهم المنكوبين في غزة وغيرها بسبب سياسات حكوماتهم الخاطئة، ولا سيما من تُسمى دول الطوق، التي كانت أهم أدوات الحصار والتجويع.
وغُلَّت أيدي الحكومات عن فعل شيء بسبب معاهداتٍ جائرة، واتفاقيات مذلة، فرضها الأعداء، ورضيها الساسة، فما أنتجت إلا ظلما وبغيا، وما نال منها المسلمون حكوماتٍ وشعوبا إلا مهانة وذلا.(/8)
لقد رُوِّضت الدول الإسلامية في هذا العصر على مبادئ النفعية الذرائعية البُرْجماتية، التي تضحي بمصلحة الجماعة والأمة لصالح الأفراد، وتُقَدِّم المنفعة الذاتية الآنية المتوهمة على كل شيء، فلا عجب حينئذ أن لا يثق المسلمون بعضُهم ببعض، ولا ينجد بعضهم بعضا، ولا يتأثرون بمصاب إخوانهم ما سلمت لهم دنياهم، ولم ينتقص شيء من شهواتهم، وهكذا يفترس العدو منهم من شاء وهم على هذا الحال من الذل والهوان والخذلان، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ) (ولا يُسْلِمُهُ) وقد ظلم المسلمون إخوانهم ، فخذلوهم في وقت حاجتهم لهم، وأسلموهم لأعدائهم، فكان أهل غزة بين ظلم الأعداء وخذلان الإخوان، نعوذ بالله تعالى من الذل والهوان والخذلان.
ثم انظروا -عباد الله- إلى الإعلام العربي كيف يرقص ويغني ويتعرى، ويعرض أنواع الترفيه المباح والمحرم، في الوقت الذي يتضاغى في غزة أطفالها ونساؤها ورجالها من الجوع، ويتألمون من البرد، ويموت مرضاهم من قلة الرعاية الطبية، ولا يجدون كفافا يقيم أودهم، ويعينهم في نائبتهم، ولم يحرك ذلك ساكنا في الإعلام العربي الراقص على جراح المسلمين، وكأن هؤلاء المحاصرين ليسوا مسلمين بل ليسوا عربا بل ليسوا بشرا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجبر الله تعالى مصاب المسلمين في أنفسهم، وخلف عليهم في مصيبتهم بخير.
اللهم يا كاشف الضراء، ويا مجيب الدعاء فرج عن إخواننا في غزة، وارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان.
اللهم ارحم أطفالهم ونساءهم ومرضاهم، وأطعم جوعاهم، واكس أجسادهم، واربط على قلوبهم، وقو عزائمهم، وأنزل عليهم الصبر والسكينة والمعونة، وارزقهم من حيت لا يحتسبون.(/9)
اللهم لَا تَكِلْهُمْ إلينا فَنضْعُفَ عَنْهُمْ، ولا تَكِلْهُمْ إلى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عنها، ولا تَكِلْهُمْ إلى الناس فَيَسْتَأْثِرُوا عليهم، اللهم كِلْهُم إلى رحمتك التي وسعت كل شيء، إنك أنت أرحم الراحمين.
اللهم ارفع الذل والهوان والخذلان عن المسلمين، وأحيي قلوبهم بالإيمان واليقين، وردهم إليك ردَّا جميلا، وانصرهم على أعدائهم.
اللهم عليك بصهاينة أهل الكتاب، ومن عاونهم على ظلمهم يا رب العالمين، اللهم نكس راياتهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأخرجهم من ديار المسلمين أذلة صاغرين، أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد....(/10)
العنوان: المحراث
رقم المقالة: 1003
صاحب المقالة: عبدالشكور محمد
-----------------------------------------
سُنبلةُ الأرض الذهبية
بيدِ فتاةٍ ريفية
وثوبها المزركشُ الطويل
خلف رجلٍ هرمٍ
في تلاطم المحراثِ والثور الأحمر
والترابُ الثائرُ حول النهر العتيق
والمياهُ العطشة في مستنقعات الصيف
حيثُ عِراكُ العرقِ وتجاعيدُ الجبهةِ السمراء
ومقبضُ المحراسِ الخشبي المشقق
بين أصابع يدٍ خشنة
والسوطُ النَعِسُ فوق ظهر الثور
بثوبه الأحمر المتعفن
وقربةُ الماء الساخنة
حين يختلطُ مائُها بالعرق
بين شفتينِ يابستينِ كالتراب
حرُّ صيفِ القريةِ الجبلية
والرجلُ الهرم يغني أغنيتهُ الريفية
عن الحب الأزلي
وسلةُ الطعام الجميلة
بيد طفلةٍ صغيرة
(أبي أبي أتيتُ بالغداء)
تمرٌ ولبنٌ وخبزٌ ريفي حار
والقليلُ من الماء
أما المحراث،
ذلك التَعِبُ المُعتق
يروي قصصاً عن التراب
عن الأرضِ والعراك
عن النهر والجفاف
عن التراث والتاريخ..
إنهُ المحراث
ذاكرةُ التاريخ
صانعُ الأرض...
تعليق وتقويم الأستاذ: شمس الدين درمش
تعليق: هذا النص نثرٌ كتب بشكل شعر التفعيلة, السطران الأول والثاني فيهما وزن فحسب (سنبلة الأرض الذهبية/ بيد فتاة ريفية), وإذا أخذناه نصًّا نثريًّا فإن موضوعه في وصف البيئة الريفية القديمة موضوع جميل, يُظهر معاناة الإنسان في حياته في العمل بأرضه التي يحرثها ويزرعها.
والعمل قيمة إنسانية حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة.
الأخ/ عبدالشكور محمد اختار (المحراث) عنوانًا, لكنه لم يتحدث عنه إلا قليلاً, وقدم صورة جميلة في الريف تداعب الخيال وتغريه بالماضي.
من الكلمات والعبارات التي نقف عندها: (المياه العطشة) ما معنى وصف المياه بالعطشة, فالأرض تعطش والمياه تروي؟!(/1)
(النهر العتيق) وصف النهر بالعتيق هل يعني القديم أو الكريم؟! لأن الذهن ينصرف في مثل هذا النص إلى معنى (القديم) كونه يحكي الماضي, ووصف النهر بالقديم لا معنى له, لأن الأنهار موغلة في القدم.
في عبارة (مقبض المحراس الخشبي المشقق). المحراس كتب بالسين خطأ مطبعيًّا والصواب بالثاء كما في العنوان.
كلمة (بين أصابع خشنة) مقبض المحراث يكون في (الكف) ولا يكون بين الأصابع.
في (يختلط مائها) الصواب (ماؤها).
ومثل عبارة (النهر العتيق) عبارة (ذلك التعب المعتق) فوصف (المعتق) غير واضح الدلالة، فضلاً عن احتمال قراءته (المعتّق) بتشديد التاء المفتوحة, أو بتسكين العين وفتح التاء مخففة. وفرق بينهما, ولفظ (العتيق أو القديم) أقرب للدلالة على المحراث.
يلاحظ ولع الكاتب بصيغ (المبالغة) على وزن (فَعِل) في الكلمات (العطشة) و(النعِس) و(هرِم) و(خشِنة) و(التعِب) والتي تأتي في بعضها صفة مشبهة مثل (هرِم) و(خشِن) وهو لافت للنظر في نص قصير, وكان الأولى أن يقول:
(العطش) و(الناعس) و(المتْعِب) ليخرج عن التكلف في صيغة معينة.
في النص صور جميلة عديدة من الريف كما في المقطع الأول, وصورة سلة الطعام في يد طفلة صغيرة تقدمها إلى أبيها الهرم.
وصورة الماء الذي يختلط بالعرق بين شفتين متيبستين.
أقترح على الكاتب إعادة صوغ النص بشكل (مذكرات محراث خشبي)!!(/2)
العنوان: المدرسةُ المنسيّة
رقم المقالة: 1563
صاحب المقالة: وسمية سليمان
-----------------------------------------
كثيرةٌ هي المدارسُ التي ننتسبُ إليها دراسياً أو أدبياً أو فنياً، فقد أصبحت من أكثر الوسائل المعينة على التربية بطريقة مباشرة ومؤثرة أيضاً. واختلفت العروضُ التي تمنحها والدروس التي تقدمها. تخرج المئاتِ بل الآلاف... أجيال متعاقبة.... ولكن هناك مدرسة من بين تلك المدارس هي منسيّةٌ لدى الكثير منا.. مدرسة تخرج أجيالاً وطبقاتٍ مختلفة من المجتمع؛ ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، هي المدرسة المنسية، مدرسة رمضان التربوية، مزيج من القيم والمعتقدات والمباديء التي تقدمها.. منها:
• مدرسةُ الصبر: فالإمساك عن الأكل والشرب يعينُك بإذن الله على ترك ما حرم منه وعلى ترك شهوة البطن.
• مدرسةُ الحلم: بإمساكك عن كل من يسيء إليك من قول أو فعل بغية الأجر، وردك بقول: (اللهم إني صائم)، فذلك يعلمك الحلم؛ لأن الحلم بالتحلم.
• مدرسةُ النظام: فأوقات الأكل وصلاتي التراويح والتهجد ووقت الراحة يكون الناس فيه سواسية، وفي ذلك دروس في النظام والتنظيم والإدارة والتخطيط.
• مدرسةُ القرآن: فيها يتم العكوف على القرآن تلاوةً وحفظاً تدبراً وتفكراً سماعاً وعملاً، ومن ثم يكون سببًا لانشراح الصدور، وذهاب الهموم والغموم، وجلاء الحزن من القلوب وزاداً نتقوى به لبقية أيام السنة.
• مدرسةُ الرحمة والغفران: فإن كنا نطلب من الله غفران الذنوب، وجلاء الأوزار، فحريٌّ بنا نحن أن نعفو ونسامح مع بداية الشهر الكريم ليرحَمَنا اللهُ برحمته وينعم علينا بمغفرته.
وغيرها من الدروس والعبر التي لا تعد ولا تحصى، ولكن هنيئا لمن فتح الله عليه ونوّر بصيرته لينهل من هذا المعين الصافي، العذب الزلال، الذي يخرج منه المرء بالكثير من الدروس العلمية والدورات التربوية، فهي فرصة ثمينة وغنيمة باردة لا يمكن أن تجتمع لك إلا في هذا الشهر.(/1)
العنوان: المدنية وتعميم التعليم
رقم المقالة: 1961
صاحب المقالة: الزعيم المصري مصطفى كامل
-----------------------------------------
المدنيَّة وتعميم التَّعليم[1]
مَهْمَا بَحَثْنا فِي تواريخ الأُمَم، ونظرْنا في آثار الإنسان، لا نَجِدُ أُمَّةً عظيمةً قامَتْ على الأرض، وتوفَّرت لديْها وسائلُ القوَّة والنجاح إلاَّ بالعلم[2]، ولا نرى أثرًا جليلاً إلاَّ ويُنَبِّئُنا عمَّا لصاحبه منَ القدْرِ، وما كان عليه من عُلوِّ الهِمَمِ؛ هذا المَشْرق لقد مضى عليه - في عهد شَبِيبَتِهِ وزمانِ زَهْرِهِ ونَضْرَتِهِ - أجيالٌ تدرَّجتْ في مَهْدِها المدنيَّةُ حتَّى بلَغَتْ أَشُدَّها منَ الكمال، وقامَتْ فيها لِلمعارِفِ والعُلوم سوقٌ تَزَاحَمَ فيها الشُّعوبُ الشَّرقيَّةُ تزاحُمَ الوُرود على الماء الزُّلال، فاستكملوا أسباب التَّرقِّي، ومَهَدُوا سُبُل العُمران؛ فتوفَّرتْ لديْهِم وسائِلُ القُوَّة والنَّجاح، فشَيَّدوا المَمَالك وعمَّروا الأمصار، وأقاموا للتَّمدُّن بقوَّة الحياة الأدبيَّة دعائمَ، ما كانت لتقوى على هَدْمها عادِيَاتُ السِّنين والأيَّام، لو لم يكن النَّقصُ مُقارِنًا للكمال، والدَّهرُ لا يستقيم على حال.
إِذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُهُ تَرَقَّبْ زَوَالاً إِذَا قِيلَ تَمّ(/1)
حيث عَبِثَتْ بِهم بعد ذلك يدُ الاستِغْراق في نعيم الرَّفاهة والتَّلهِّي عن المعارف والعلوم، بالتَّحاسُد الذَّميم، فتطرَّقَ إلى نِظامهمُ الخَلَل، وأخذت عوامل الانقسام والتَّقهقُرِ تتوالَى على الشَّرق، وما زال يضعف نورُه وتتراخَى قُواه حتَّى ظُهور الإسلام، وقيام الأمة العربيَّة بخدمة المدنيَّة والعلم خيرَ قيام؛ إذ عاد مظهر المَشْرِق وقتَئذٍ بِمظهر جديد، ودبَّت في عناصره رُوح الحياة، فاستقامَتْ له الأحوال، وتحلَّى منَ المدنيَّة بِحُلل البَهاء والكمال، إذْ لَمْ يَتْرُكِ الخُلفاءُ في عصْرِهِمْ وسيلةً منْ وسائل تعميم التَّعليم إلاَّ اتَّخذوها، ولا طريقةً لِبَثِّ أنوار المعارف إلاَّ سلَكُوها، فشيَّدوا المدارس ورتَّبوا لها المُرتَّبات، وتقدَّموا لأهل الفضل بترجمة الكُتُب العلميَّة من جميع اللغات، ورغَّبوا النَّاس في الإقبال عليها، والاقتباس من فوائدها، فراجت سوق العُلُوم، وأينعت رياض الفُنُون، وكثُرَتِ التَّآليفُ والتَّصانيف، فعمَّت الرَّغبة في العلم، وتوفَّرت بذلك موادّ القُوَّة للخُلفاء، فدوَّخُوا الممالك وعَمَرُوا المَسالِكَ، وأَصْبَحَتِ الأُمَّة العربيَّة في أقلَّ من جيل، وقد ملأتِ الخافِقَيْنِ دِينًا ولُغَةً وعِلْمًا وأَدَبًا وسِياسةً وغيرَ ذلك من الأمور الَّتِي هي نتيجة تعميم التَّعليم، ومُثابرةِ الخُلفاء على بثِّ روح المعارف والعلوم بين النَّاس، وانتقائِهم لترويج مقاصدهم وإدارة مهامِّ الأعمال خِيرَةَ الرِّجال، وأفاضلَ النَّاس، ومشاركتِهم في كلِّ عمل لفَطَاحِلِ العلماء ومشاهير الفُضَلاء، حتَّى كانتِ المَمالك العربيَّة في أيام زَهْوِها محفوفة بأهل العلم، مُشَيَّدَةً على دعائم النَّجاح، مُشْرِقَةً بأنوار الفضيلة والفضل.(/2)
نعم ذلك لم يدُمْ للشَّرق، لكن لما طرأ عليه منَ العوارض الكثيرة حينما تغيَّرت الأعمال، وساءت نيَّات الرِّجال، فتقلَّص ظِلُّ العلم إلاَّ لدى الخاصَّة الذين استعملوه لغير وجهته، وحَمَلُوهُ على غير مَحْمَلِهِ، فشوَّهوا وجه الفضيلة، وكانوا سببًا لتداعي أركان العلم، وزوال صَوْلَةِ الملَّة فتلاعبت بالأمم الشَّرقيَّة من ذلك الحين أيدي التَّفريق، وعَمَّ بينهمُ الجهل، وما زالت بهمُ الحال بين إدبار وإقبال حتى قُضِي على بقيَّة ما لديهم أو كاد؛ بقيام الأمم الغربيَّة وظهور المَدَنِيَّة الأوروبيَّة التي تأسَّست على قواعدَ أحفظ لثباتها، وأضمَنَ لاستمرارها، وأهمُّ تلك القواعد تعميم التَّعليم بطُرُق سهلة، ووسائطَ مقبولة كافلةٍ لحُسن مستقبل الشُّعوب الغربيَّة، حتى كان من نتائجها التَّدريجيَّة ما نراه الآن من انتشار المبادئ العلميَّة بين جَميع طبقات النَّاس من أولئك الشعوب، ومشاركتهم للهيئة الحاكمة في كلِّ عمل[3] مُقتضاه جرُّ المنفعة للوطن، أو دفع الضَّرر عنه.
ولا يخفى ما يترتَّب على ذلك من الأهميَّة التي أَقَلُّها مُراقبة أعمال الهيئة الحاكمة، وإلزامُها بالسَّير على طريق السَّلامة في جميعِ الأحوال؛ لِئَلاَّ يَحْدُو بِها استِئْثارُها بِالعِلْمِ إلى جَعْلِ الهيئة المحكومة آلةً صمَّاء تضعها يدُ الأغراضِ حيث شاءت.
إذ منَ المقرَّر أنَّ كُلَّ هيئةٍ حاكمة لا بُدَّ أن تكون عالمة، والعلم إذا لم يكن مقرونًا بالفضيلة أوِ العمل، يُؤدِّي بصاحبه إلى استعماله في غير وِجهته في كثير من الأحيان، فإذا استأثرتِ الهيئةُ الحاكمة بالعِلْمِ دون الهيئة المحكومة، وكان علم أفرادها غيْرَ مقرون بالفضيلة وهو الأغلب، يتصرَّفون بمصالح الرَّعيَّة تصرُّفًا لا يُحتَمَلُ إتيانُه بنتيجة حَسَنَةٍ قَطُّ.(/3)
وأمَّا إذا كانت مبادئُ العُلُوم عامَّة بينَ أفراد الهيئة كما هي لدى الهيئة الحاكمة، فلا يُمْكِنُ لِلأُولى أن تستعمل علمها بأيَّة وجهة يتأتَّى عنها ضرر الثَّانية ما دامت مشارِكَةً لها في العلم، ورقيبةً عليْها في كُلِّ عمل إلا في بعض أحوالٍ خفيَّة ربَّما يتعذَّر وقوف العامَّة عليها.
ولا يُستغرَب قولُنا (وهو الأغلب)، إذ قلَّ أن تجتمع الفضيلة والعلم إلاَّ بما استُثْنِيَ منه أفرادٌ يُعَدُّون على الأنامل في كلِّ هيئة حاكمة مهما تنوَّعت أشكالها، ولا حاجةَ بِنَا إلى أن نَسْتَدِلَّ على صِحَّة ذلك بأكْثَرِ المسائل الاختلاسيَّة الرَّاهنة؛ كالمسألة الباناميَّة في فرنسا، ومسألة مصارف التَّوزيع في إيطاليا، ومسألة السلاح في ألمانيا[4]، فإنَّها جميعًا لم تصدُرْ إلاَّ عن أعاظم رجال تلك الأمم المُتصدِّرين في الهيئة الحاكمة، الذين لم يتوصَّلوا إلى المناصب العالية الَّتي وُسِّدَتْ إليهم إلاَّ بشُهرتِهم بالعلم، وكفاءتهم للرِّئاسة، ومع ذلك فحيث تحرَّر عِلْمُهم عنِِ الفضيلة فعِلْمُهم كان مُخالِفًا لها أيضًا إلاَّ أنَّهم لمَّا كانوا في هيئة حاكمة لم تستأثر بالعلم دون الهيئة المحكومة فقدِ افْتُضِحَ أمرُهم، وكَشَفَ الحقُّ سِتْرَهُم فجُوزُوا بعملهم حين لم ينفعهم عِلْمُهم، ولو صَدَرَ عنهم ذلك في شَعْبٍ عَمَّ فيه الجهل، وانفردت حُكَّامه بالسُّلطة والعلم فاستعملوها في سبيل الغاية لما أصابَهم شيء من ذلك، مهما تَمادَوْا في سَلْبِ الأُمَّة، وخَرَابِ البلاد.(/4)
ومِمَّا اعتُبِرَ من أركان المدنيَّة الغربيَّة وأهمّ أسباب انْتِشار المعارف لدى الشُّعوب الأوربيَّة –: حُريَّةُ المطبوعات[5]، وأَخَصُّها الجرائِدُ سياسيَّةً كانت أو علميَّة؛ فإنَّها قامتْ بِخِدمة المدنيَّة والعلم خيرَ قيام، وكانتْ هي الوصلة الحقيقيَّة بين الحاكم والمحكوم، لبثِّ الأولى لأنوار الفضيلة والعلم بين النَّاس، ومُراقبةِ الثَّانية لأعمال العمَّال في الهيئة الحاكمة، لإيقافهم عند حدِّ الواجب وتطهيرهم من دَرَنِ الغُرُور، فتراهُم محاسَبين بسبَبِها على كُلِّ ما يَصْدُرُ عنهم منَ الأعمال، مُتَوَخِّينَ طُرُقَ الحِكمة في كلِّ حركة وسُكُون؛ فلا يَتَجَرَّأُ أحدهم على أيِّ عمل يخالف مبدأ الاستقامة، ويضرُّ بِصالح الشَّعب والمملكة، ما دامَتِ الجرائدُ الصَّادقة مُعِدَّةً صفحاتِها لقَيْدِ أعماله ونَقْدِ أفعالِهِ، خدمةً للحقِّ وقيامًا بالواجب، حتَّى تُبُودِلَتِ الثِّقةُ لذلك بين الهيْئَتَيْنِ الحاكمة المحكومة فَتَسَاعَدَتَا على كُلِّ ما من شأنِه جلبُ المنافع العموميَّة، والاستمساكُ بواجب الحقوق الوطنيَّة، وأصبحت الجرائد لدى الشعوب المتمدِّنة من أهمِّ ما تدعو إليه الحاجة، وتقوم به حياة الشَّعبِ الأدبيَّةُ، وتدور عليه رحَى السّياسة، فهي مجرى أقلام الكُتَّاب، ومَطْمَع نظر السَّاسة؛ ومُنْعَكَسُ أشعَّة أفكار العلماء؛ وبِها تُعلَن جلائلُ الأعمال، وتَشْتَهِرُ مناقب الرِّجال كما أنَّ فيها تُعَدَّد الحسنات وتُحصر السَّيئات، فهي لذلك مصباح الاسترشاد، ومِرْقَاةُ الأفكار، وداعِيَةُ الرَّهبة والتَّهذيب، والباعثة على الرَّغبة والنَّشاط.(/5)
وبالإجْمال: فَمَا ذكرْناه هو أقل ما ترتَّب على تعميم التَّعليم، وحريَّةِ الجرائد في أوروبا، فضلاً عمَّا نتج عن ذلك من توسُّع الشُّعوب الأوربيَّة في جميع الفنون العلميَّة، وتَرْقِيَتِهم من المدنيَّة إلى درجةٍ جَعَلَتِ الشَّرق بعد ذلك المَجْدِ الباذخ في حاجة للغرب حتَّى بالضَّروريَّات الحيويَّة، وهذا - لَعَمْرُ الحقِّ - إنذارٌ كان لنا.
وإنَّنا لَيَسُرُّنا - معاشِرَ العُثمانِيِّين - ما نراه من جلالة مولانا أمير المؤمنين، الذي أحيا في قلوب الأُمَّة الضَّعيفة الأملَ، وأعاد للشَّرقيِّين أيَّام الخلفاء الأُوَل؛ منَ الاهتمام بهذينِ الأمرينِ العظيمينِ، وأَخَصُّهما تعميم التَّعليم، وتوجيهِهِ العنايَةَ الفائقةَ بإنشاء المدارس، ونَشر العلوم والمعارف في جميع أنحاء السَّلْطَنَةِ السَّنِيَّة، حتى إنَّنا لذي[6] المدارس التي أُنشِئت في عهدِهِ السعيد على مَصْرف الحكومة لا تَقِلُّ مادَّةُ التَّعليم فيها عن مِثْلِها من مدارس أوروبَّا، وذلك ما يُبَشِّرُنا بكل مستقبل حَسَنٍ إن شاء الله تعالى.(/6)
إلا أنَّه يُعْوِزُنا - لتَدَارُك خطر المدنيَّة الأوروبيَّة والوصولِ إلى الغاية المطلوبة - سُلُوكُ طريقٍ لتعميم التَّعليم أقربَ سرعَةً، واستعمالُ وسائلَ أعمَّ فائدةً؛ إنَّ الوسائل المُتَّخَذَةَ لذلك الآن سواءٌ كانت جَبْرِيَّةً أو تَرْغِيبِيَّةً غير وافيةٌ بغرض أمير المؤمنين الذي من مقتضى إرادته السَّامية تعميمُ التَّعليم بين جميع طبقات الرَّعيَّة بدون استثناء، والواسطة لذلك سهلة سنبسطها برسالة تاليةٍ إن شاء الله، وأملُنا بِاللَّه وبعناية الخليفة الأعظم - أدام الله ملكه - أن نرى قريبًا من نتائج حكمتِه ومَزِيدِ سَهَرِهِ على مصلحة رعيَّته ما يجعل المملكة العثمانيَّة في مقدِّمَةِ الممالك الشرقية في مسابقة الأُمم الأوروبيَّة، بدليل ما هو مُشاهَدٌ في جميع العثمانيين من تَرَقِّي الأفكار، وعظيم الانتباه، وما رُزِقُوه من صفاء الخواطر، وقُوَّة الضَّمير، ولا سيما وهم في مركزٍ هامٍّ منَ الشَّرق، يساعِدُهُم على نَيْلِ الغاية أوَّلاً بسبب قُرْبِ اتصاله بالغرب، وتيسُّر تَلَقِّيهِ لموادِّ المدنيَّة مباشرةً بدون كثير عَناء، وثانيًا لتوسُّطه بين بقيَّة الممالك الشرقيَّة، والقارة الأوروبيَّة، وكونِهِ بهذه المَزِيَّة نقطةَ الاتصال التجاريَّة بين الجهتينِ، وهو لذلك مركزٌ كان له من الأَهَمِّيَّة في كل جِيل منَ الأجيال ما جعله مَنْبِتَ الرُّسل، ومَهْبِطَ الشَّرائع والوحي، ومظهَرَ المَدَنِيَّة ومَطْمَحَ أنظار الفاتحين، ومقرًّا لأعظم الأُمَمِ قُوَّةً، وأَسماها علمًا ومدنيَّةً، حتى توالى عليه من عصور الشِّدَّة والرَّخاء، ما لَمْ يتوال على مركز في القسم المعمور.(/7)
ولا شُبْهَةَ في أنَّ الله تعالى سخَّر في هذا العصر لبقاء همية هذا المركز وسلامة عناصره، وإحياء شعوبه من وهب قوة العممنينينأهميَّة هذا المركز، وسلامةِ عناصره، وإحياءِ شُعُوبِهِ مَنْ وُهِبَ قُوَّةَ العلم والحكمة وعظيمَ السِّياسة والقُوَّة ما جعل الأبصار شاخصةً إليه، والقلوب والآمال مُتعلِّقةً عليه، ألا وهو فَخْرُ آل عُثمانَ وفريدةُ عِقْدِ السَّلاطين العظام، ومولانا السلطان الغازي عبدالحميد خان أيَّده اللَّه بِأَيدِهِ الأسنَى، وأمَدَّهُ بعَوْنِهِ العظيم، ومَتَّع الأُمَّة والبلادَ بطول بقائه، وأجرى على يديه منَ الخير ما به رِفْعَتُها، إنَّ الله كريم مجيب.
---
[1] أعيد نشر هذه المقالة في كتاب: "أوراق مصطفى كامل (المقالات)" بتحقيق د/ يواقيم رزق مرقص، وهو التحقيق الموجود هنا.
[2] كانت حالة التَّعليم في مصر سيئة للغاية، إذ عمد الإنجليز منذ دخولهم مصر إلى سياسة إضعاف التَّعليم، وقصر نشاط المدارس على مُجرَّد تخريج كتبة للدَّواوين الحكوميَّة، أمَّا التَّعليم في حد ذاته فلم يكن هدفًا لإنجلترا في مصر، حتى لا تكون هناك أصوات مُتعلِّمة تُنادي بمصلحة البلاد دون مصلحتها، وأصبح التَّعليم مجرد "نجلزة" للمصريين، بل لقد وصل الأمر إلى إلغاء التَّعليم المجَّانيِّ في مدارس الأوقاف، وأصبح برنامج التَّدريس لا يزيد عن القراءة والكتابة والحساب البسيط، لذلك اتَّجهت دعوة مصطفى كامل لحثِّ الأُمَّة على نشر التَّعليم القومي في أرجاء البلاد، حتى تقوى الرُّوح الوطنيَّة في نفوس الشَّباب، ودعا الأغنياء إلى إنشاء وإقامة المدارس الأهليَّة على نفقتهم، وأول من لبَّى تلك الدَّعوة هو حسين بك القرشوللي أحد أعيان القاهرة، الذي أسَّس مدرسة على نفقته بالحلميَّة، ثم تلاه كل من محمد أفندي سعيد التومي, وأحمد أفندي صادق، اللَّذانِ أسَّسا مدرسة في باب الشعرية في يناير 1899.(/8)
- تيودور روزشتين: "تاريخ مصر قبل الاحتلال وبعده"، تعريب علي أحمد شكري ص 469 - 484.
- عبدالرحمن الرَّافعي: "مصطفى كامل باعث الحركة الوطنيَّة" ص 139، 140.
- المجلة التَّاريخيَّة، مصطفى كامل، بحوث أُلقيت في النَّدوة بمناسبة مرور مائة عام على مولده. القاهرة 1976.
- صلاح عيسى: "مصطفى كامل وقضايا الإصلاح الاجتماعي" ص 179 – 187.
[3] كان مصطفى كامل في رفضه لسياسة الاحتلال يسعى دائمًا لفكرة تكوين حكومة وطنيَّة مُقَيَّدة، فكما أنَّ التَّقدُّم الحضاري في ظِلِّ الاستعباد والاستعمار مرفوض من الجبهة الوطنيَّة بقيادة مصطفى كامل، فإنَّ الاستبداد الوطني كذلك مرفوض، لذلك كان مصطفى كامل يُنادي بحكومة ديمقراطيَّة؛ كالحكومات الأوروبيَّة، التي تشعر بما على عاتِقِها من واجبات أمامَ شعوبها، بجانب أنَّ الهيئة الحاكمة في كل بلد إنَّما هي جُزْء لا يتجزَّأ من الهيئة المحكومة، لا فارقَ بينهما، ولا امتيازات للأخرى على حساب الأمَّة؛ فالهيئتان في نظر مصطفى كامل – الحاكمة والمحكومة – إنَّما هما هَيْئَتان مُتبادِلتان للمصالح والخِدْمات متبادِلَة الثِّقةِ فيما بينهما، فالحكومة خادمة للشَّعب، أمَّا الاستبداد فهو قاتل للنُّبوغ والرُّوح الوطنيَّة، ويُطالِب بأن تكون الأُمَّة هي صاحبةَ الكلمة العليا، فإن رضيت الأُمَّة عن عمال الحكومة ظلوا في مراكزهم؛ يؤدُّون واجباتهم، أمَّا إن حادُوا عن ذلك فتعزلهم أُمَمُهم.
وبذلك نرى أنَّ رؤية مصطفى كامل للمسألة المصريَّة ككُلٍّ ليست في وجود الاحتلال البِريطانِيِّ فَقَطْ؛ بل أيضًا تأخُّر الشعب المصري في إدراك حقوقِهِ الشَّرعيَّة، وذلك لا يتحقَّق إلاَّ عن طريق تطوير التَّعليم خاصَّة الذي يؤدِّي إلى بناء الاقتصاد المصري، ونعني به التَّعليم الفنِّي صناعي، وزراعي، وتجاري.(/9)
- مجلة الجمعيَّة التاريخيَّة، مجموعة بحوث ألقيت في النَّدوة بمناسبة مرور مائة عام على مولد مصطفى كامل، صلاح عيسى، "مصطفى كامل وقضايا الإصلاح الاجتماعي" ص 182 – 191.
[4] تعرضت حركة النَّهضة التي تولاَّها مصطفى كامل لكثير من عوامل الإحباط، منها عدم أمانة من حوله، فساق بعض الأدلَّة على قيام السلبيَّات في الدول الأوروبيَّة نفسها، فبعد نجاح حفر وافتتاح قناة السويس في مصر دعا فرديناند ديلسبس الشَّعب الفرنسي للاكتتاب لفتح قناة بناما في أمريكا الوسطى؛ للوصل بين المحيطين الهادي والأطلنطي، إلاَّ أنَّ الشَّركة المكلَّفة بأعمال الحفر توقَّفتْ عن المشروع، وأعلنت إفلاسها عام 1892، وذلك بسبب التَّلاعُب في حسابات وأموال المشروع، مِمَّا أدَّى إلى فضيحة ماليَّة وهياج الرَّأي العام الفرنسي.
- أنور الرفاعي، وشاكر مصطفى، العالم الحديث القاهرة. ص 200.
كما نجد أنَّه بالنِّسبة لقطاعات الحياة الاقتصاديَّة الإيطاليَّة الرئيسيَّة كانتْ يدُ ألمانيا تُسيْطِر عليْها تَمامًا، فكانَتْ مشروعات المصارف الإيطاليَّة في أيدي عدد من المصارف الألمانيَّة، وأشهرها "المصرف التجاري" الذي أنشِئ عام 1894 بإشراف بليشرودر Bleichroeder رجل مصارف بسمارك، وكان هذا المصرف هو الذي يساعد المشروعات الألمانيَّة الكبرى الخاصَّة بالكهرباء، وكان له نفوذ على مصانع صناعة الأسلحة، كذلك يمتلك أغلب الأسهم في الشَّركة العامَّة الإيطاليَّة للملاحة، مما ساعد على تزايد النُّفوذ الاقتصادي الألماني في إيطاليا.
- بير رنوفان، تاريخ العلاقات الدَّوليَّة 1815 – 1914، تعريب جلال يحيى ط 2 القاهرة 1971 ص 863، 864.(/10)
[5] ضرب مصطفى كامل على هذا الوتر كردِّ فعل لموقف الاحتلال منَ الصَّحافة في مصر، وتكبيلها بِالمُصادَرة تارة وبالقوانين الجائِرَة تارة أخرى، فمُنْذُ وضع الاحتلال قَدَمَهُ في مصر عطَّل الصحف الوطنيَّة الموالية للعُرابيين وصدر أمْرُ ناظر الداخليَّة في 23 سبتمبر 1882 بإلغاء جريدتي (الزَّمان والسَّفير).
بل وتعقُّب السلطة للصحف العربيَّة المصريَّة الَّتِي كانت تُطْبَع في الخارج أيضًا كمجلة (أبو نضارة، والعروة الوُثقى).
ولقدْ كان المحتلّون مُتشدِّدينَ في تعرُّضِهِم للصَّحافة المصريَّة، رغم توصية لورد دفرين لهم بمنحها (حريَّة تامَّة) معتمدين على جذور الضَّغط القديمة التي بَذَرَها الخديوي توفيق بسَنِّه قانون المطبوعات 1881.
(ولمزيد من المعلومات في هذا الموقف يمكن الرجوع إلى: سامي عزيز، الصَّحافة المصريَّة وموقفها من الاحتلال الإنجليزي) ص 75: 87.
[6] جاءت في الأصل هكذا، وصحتها "لنرى".(/11)
العنوان: المذاهب النقدية: ثورة، شك، عبثية
رقم المقالة: 973
صاحب المقالة: وائل بن يوسف العريني
-----------------------------------------
المذاهب النقدية: ثورة، شك، عبثية..
قراءة في أسباب نشوئها
يَصِفُ بعضُ العلماء والنقاد العصرَ الحديث بأنه (عصر النقد)؛ وما ذاك إلا لبروز النقد واتساع مجاله وكثرة طُرُوقِه، ولدخول النقد في علوم كثيرة ونشاطات متعددة بمفهومه الذي يَعنِي التقويمَ، والحُكْمَ، وإظهارَ العلل، وإبرازَ المحاسن، والتطلعَ إلى الجيد، واستشرافَ التطور وَفْقَ معاييرَ وأسسٍ معينة، ورؤىً واضحة محددة.
والنقدُ الأدبي - لكونه أحدَ فروع النقد وأكثرها انتشاراً وسيراً في الآفاق - كثُرَ وتعددت مدارسُه، واختلفت فلسفاتُه، حتى أصبحت المذاهبُ تتغير وتتبدلُ بمرور الزمن وتقادُمِ العهد، وكأنها ألبِسَة وأمتعة تخلُقُ فيُبدَّل غيرُها بها.
ولعلَّ من أسباب نشوء المذاهب النقدية والأدبية ما يلي:
1- الثورة بمفهومها الواسع، وابتدأت الثورةُ بالثورةِ على الكنيسة وسيطرتها على الحياة، ثم الثورة الصناعية، حتى أصبح مصطلح (ثورة) يدل على كل ما هو حسن وجيد، ومن هنا ثار الأدباءُ على النظام السائد في الأدب والنقد، بهدف التجديد ومحو السابق؛ إما لقِدَمه فقط، أو لعدم وفائه بتطلعات إنسان اليوم.
وقد كان لنجاح الثَّوْرات الكبرى كالثورة الصناعية أثرٌ في إذكاء الروح الثائرة المتطلعة للخروج عن بوتقة القديم وكسر حاجزه، والتخلص من منطلقاته وأفكاره التي كانت سائدة مدة من الزمن.(/1)
2- كما أن العداوةَ سبب آخر، ولها ضلع ظاهر في نشوء المذاهب الأدبية والنقدية، إذ كثيراً ما كان الدافعُ لنشوء مذهب ما الوقوفَ في وجه مذهب سابق له، أو عداوة بين أقطاب المذاهب حتى يستقل آخر بمذهب جديد، ويقرر له فلسفته ونظريته، وما نشوءُ (الرومانسية) إلا وقوفٌ في وجه (الكلاسيكية) التي محضت الأدب للغير، فجاءت الرومانسية تنادي بأن يكون الأدب ذاتياً؛ ينبع من النفس، ويعالج قضاياها، ويغوص في أعماقها، ويعبر عنها. وما لبثت الرومانسية أن هوجمت من قبل البرناسة (مذهب الفن للفن) - وهي مجال الدراسة - إذ جعلت الأدب - كما يرى أصحاب الفن للفن - وسيلة للتعبير عن الذات، فالحق أنه غاية ومطلب في حد ذاته في رأي أصحاب الفن للفن، وهكذا استمرت السنة مع (التفكيكية) مثلاً في ثورتها على (البنيوية)، وهلم جرا.
3- ولعلَّ من أبرز الأسباب وأكثرِها إعانةً على تعدد المذاهب وتطاحنها فيما بينها: سهولةَ النشر والطباعة، وكثرةَ الكتاب والمؤلفين الذين ينطلقون في كتابات عقلية؛ يقررون ويضعون الأسس للأدب من خلال نظرة ربما لا تكون بالضرورة صحيحة، بل قد تكون ضرباً من الجنون والعبثية، ثم ما تلبث تلك الرؤى والأفكار التنظيرية أن تخرج في كتاب ويترجم وترُوج سُوقُه، ثم يقرَّظ ويمدح أو يذم، وهذا يقود إلى السبب التالي:
4- ما يمارَس في الصحف من نفخ وتمجيد لمذاهبَ جديدة أو منطلقات نقدية وأدبية حديثة، فحين تكثرُ الصحف ويتعدد المحررون والصحافيون وتحكمُهم الأهواء و(الشللية) فما يقوله فلان - بالنظر إلى شخصه لا ما جاء به - هو الصواب والنظرة الجديدة المتوافقة مع المدنية أو الحضارة أو الحداثة أو غيرها من التسميات البراقة التي لا تنطوي على كبير معنى أو أثر. وقد ساعد هذا في نشر وانتشار مذاهبَ مَنْ يُعيدُ النظر فيها يجدُها لا تستحق ما خُلِع عليها وما وهبت من مدح وثناء وإشادة، أو على الأقل لا تستحق بعضه.(/2)
5- صدور أصحاب المذاهب الأدبية عن فهم سقيم للأدب، أو قل: عدم فهم الأدب على حقيقته عند أولائك الكتاب والنقاد - إن صحت التسمية - كما أن لضعف الدين أثراً في ذلك الفهم السقيم والغفلة عن أهداف الأدب ومهامه في الحياة، حتى نشأ جيل لا يرى ضرورة في أن يتصل الأديب بالمجتمع، ولا يهم أن يُخاطب أدبُه النخبةَ - إن فهموا أصلاً - دون غيرهم، المهم أن يطبِّق الأديب تلك الفلسفة ويسير على نهجها، حتى يصل الحال بالأدب إلى ألفاظ لا تُعقَد على معانٍ، أو معانٍ لا تنطوي على فائدة، أو فائدة تهدم ولا تبني، وتنحط ولا تسمو.
ثم إن لكل مذهب أدبي - مهما كان مصدرُه أو ادعاءاتُ أصحابه - فلسفةً وعقيدة يدور عليها ذلك المذهب، ونظريات فكرية ينعقد عليها ذلك المنهج، وإن دعا من دعا إلى ضرورة الفصل بين العقائد والأديان وبين الأدب، وإن بكى من بكى (أدلجةَ) الأدب وتسييسَه وضرورة البُعد عن تمييع الأدب في العلوم الأخرى دينيةً أو سياسية أو اجتماعية أو غيرها.
ثم إن سُلِّم لهم جدلاً إبقاء الأدب خلواً من العقائد والأديان والمذاهب، لو سُلِّم لهم ذلك جدلاً فإن مقومات تلك المناهج ستنطوي على عقائد جديدة إلحادية عابثة، دينها اللادين، وعقيدتها تمجيد الإنسان والوصول به إلى مراتب الألوهية! جل ربنا عن الشريك والمعين والصاحب والولد!.
إن المذاهب الأدبية في العصر الحاضر - وأهمها الحداثة وما بعدها - لتتخبط في ظلمات الحيرة والشك والاضطراب - إلا من رحم الله - يوم أن تخلت عن دينها وعبدت هواها، وهدمت كل يقين وكل سلطة كانت سائدة، حتى صار العقلُ وحده المحور في هذا الكون، وهو الذي يملي على الإنسان علاقاته وتقديره للأشياء، وغدا العقل - على ضعفه وقلة إدراكه - مشرِّعاً وساناً للقوانين التي يجب أن يسير عليها الإنسانُ في هذه الحياة ويأتمر بأمرها.(/3)
تلك هي سماتُ وأسباب نشوء المذاهب الأدبية، التي ضاعت وضيَّعت معها الكثيرين، ويريد أبناءُ الإسلام السير على منوالهم والخطوَ على طريقتهم، مع أن الفارق شاسع، والبون ظاهر بين عقيدتهم وعقيدتنا، الحقيقة في الإسلام ظاهرة واضحة لا غموض فيها ولا شك ولا تدليس، إن المسلم حين يُسأل عن الكون يُسأل عن معلوم لديه، وحين تُطرق بحضرته مشكلاتُ العصر وقضايا المجتمع يجد لها - بإذن الله - حلولاً، لا يتردد في ذلك ولا يتلعثم، تلك هي العقيدة الإسلامية الواضحة الصريحة، فهل يعي أبناؤنا ذلك ويتركوا تقليد الغرب؟ وهل يلتفت الأدباء لمنهج الإسلام في الأدب ويسيروا وَفق سنن الحياة التي شرعها الله لعباده؟ اللهم اكتب ذلك، وأرنا من إخواننا أوبةً إلى سبيل الحق وطريق الفلاح.(/4)
العنوان: المرأة الإندونيسية فريسة للمنصرين والعلمانيين
رقم المقالة: 520
صاحب المقالة: حوار: جمال سالم
-----------------------------------------
المرأة الإندونيسية فريسة للمنصرين والعلمانيين
في لقاء مع د. نبيلة لوبيز رئيسة مجلس العالمات المسلمات بإندونيسيا
* التنصير والفقر والمرض والكوارث تفتك بمسلمي إندونيسيا.
* دعاة التغريب والتنصير يسعون إلى اقتلاع الإسلام من أكبر دولة مسلمة.
* لدينا خطة للتصدي لحملات الإغاثة التنصيرية، ولكننا في حاجة للدعم المادي.
* * *
تتعرض إندونيسيا أكبر دولة إسلامية لمؤامرة شرسة؛ لاقتلاعها من دينها الذي دخلها منذ القرن الهجري الأول، وتمثلت مخالب الاقتلاع في دعاة التغريب، والمستشرقين، والتبشير الذي نجح في تحويل بعض المسلمين عن دينهم، مستغلاً الظروف الاقتصادية والصحية الصعبة التي يعيشون فيها، ولهذا فإن مسؤولية حماية مسلمي إندونيسيا تقع على العالم الإسلامي بأسره، فهم يوجهون صرخة إلى كل الشعوب والحكام المسلمين: " أنقذونا قبل فوات الأوان".
هذا ما أكدته الدكتورة نبيلة لوبيز - رئيسة مجلس العالمات المسلمات بإندونيسيا - في هذا الحوار الذي أجريناه معها في القاهرة.
قامت في بلادكم منذ مدة وجيزة مظاهرات تطالب بسرعة إصدار القانون الذي يجرِّم بعض الأفعال الخاطئة، التي استطاع العلمانيون زرعها في إندونيسيا المسلمة، فما أهم هذه الأفعال المرفوضة؟
للأسف إن القبلات والعناق بين الجنسين في الشوارع العامة، بل والرقص الماجن فيها لا يعد جريمة يعاقب عليها القانون، بحجة أن هذه حرية شخصية، ولا يجوز لأحد مصادرتها أو التدخل فيها، ونتيجة الضغوط والرفض الشعبي لهذه الأفعال المرفوضة شرعاً وعرفاً، قامت هذه المظاهرات؛ للمطالبة بالتعجيل بصدور هذا القانون، الذي يجرِّم كل ما فيه خدش للحياء العام، باسم المدنية والتحضُّر؛ لأننا لن نتنازل عن هويتنا الإسلامية مهما كانت التضحيات.
نشر الوعي(/1)
ماالدور الذي يقوم به مجلس العالمات المسلمات في نشر الوعي الديني في بلادكم؟
للأسف الشديد إن المهمة الملقاة على عاتقنا تفوق إمكانياتنا المادية بكثير، وخاصة إذا علمنا أن إندونيسيا مكونةٌ من آلاف الجزر، التي مازال بعضها حتى الآن يعيش حياة ما قبل التاريخ، ولا يعرفون شيئاً عن الأديان، وعلى الجانب الآخر نجد هجوماً مزدوجاً على المرأة المسلمة من دعاة التغريب، الذين يزداد نفوذهم يوماً بعد يوم، واستطاعوا تحقيق بعض المكاسب مثل: المساواة بين الرجال والنساء في الميراث بطريقة قانونية، وسعوا خلال الحقبة الماضية إلى إقرار مشروع قانون يبيح زواج المسلمة من غير المسلم، وخاصة الكتابي، ومنع تعدد الزوجات، بحجة أن فيه إيذاء لمشاعر المرأة، والمطالبة بتعدد الأزواج، إذا كان هناك تعدد زوجات، وألا يعطي الزوج لزوجته مهراً، بل يقوم كل من الرجل والمرأة بدفع مبلغ متساو يوجَّه لإعداد عش الزوجية.
وقد استطاع مجلس العالمات المسلمات، بالتنسيق مع بعض المؤسسات الإسلامية، إيقافَ أو تعطيل هذا المشروع، فهو قانون تغريبي يستهدف اقتلاع المسلمة الإندونيسية من جذورها الدينية.
وعلى نفس الخط نجد دعاة التبشير ينشرون سمومهم، بالتنسيق مع التغريب، بالادعاء أن الإسلام ظلم المرأة، والترويج للشبهات المثارة عن وضع المرأة في الإسلام، التي قُتلت بحثاً خلال القرون الماضية، وفنَّدها علماء الإسلام في كل العصور.
شروط الانضمام
ما الشروط الواجب توافرها فيمن تريد الانضمام إلى مجلس العالمات؟(/2)
للعلم إن المجلس ليس مقصوراً على عالمات الدين كما يوحي بذلك الاسم؛ بل إنه يضم إلى جانب عالمات الإسلام كلَّ مسلمة متفوِّقة في مجال من المجالات العلمية، ولديها ثقافة إسلامية، أو ترغب في تحصيل العلم، ولهذا نجد المجلس يضم: الطبيبة، والمهندسة، والإعلامية، وغيرهن، ويقوم الجميع بعرض سماحة الإسلام وعظمته، وموقفه من المرأة، سواء من خلال وسائل الإعلام أو المحاضرات، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات، أو المشاركة في قوافل دعوية تجوب الأقاليم والجزر؛ لتقديم الخدمات الشاملة، حسب التخصصات المختلفة، ولهذا فإن القافلة قد تضم عالمات في الدين، وطبيبات لعلاج المريضات مثلاً، وإذا توافرت الإمكانيات المادية اللازمة لدعم هذا المجلس فإنه سيكون له دور أكبر في نشر الوعي الديني، والصحي، والتعليمي؛ بين الإندونيسيات.
الرقيق الأبيض
قرأنا عن عودة تجارة الرقيق الأبيض والأعضاء البشرية إلى بعض مناطق إندونيسيا وخاصة في المناطق المتضررة من زلزال تسونامي، فما مدى صحة هذا؟
للأسف الشديد هذا صحيح، حيث دخلت منظمات مشبوهة لتلك المناطق تحت ادعاء تقديم مساعدات إنسانية للمتضررين، وبثت سمومها؛ حيث نشط التبشير من جانب، وفي نفس الوقت قامت بعض المنظمات الغربية بالترويج لتجارة الرقيق الأبيض، عن طريق الادعاء بأنهم يشغلون العمالة النسائية، وخاصة أن نسبة البطالة ارتفعت ارتفاعاً كبيراً في تلك المناطق التي دمَّر فيها الزلزال كل شيء، وقضى على أسر كاملة، ولم ينجُ منها إلا القليل الذي لم يجد له أسرة أو مأوى أو مصدر رزق، ويعاني أزمة نفسية قاتلة، استغلَّها المبشرون ودعاة الإباحية وتجار الأعضاء البشرية الذين قاموا بسرقة الأفراد واتَّجروا بأعضائهم، وقد ضُبطت حالات كثيرة، وتبذل الدولة جهوداً كبيرة لمنع تلك الظاهرة السلبية.
قيود المرأة(/3)
يقول المؤرخ الغربي الشهير ويل ديورانت: "استطاع الغرب أن يفك عن يد المرأة وساقها بعض القيود، ولكنه في نفس الوقت كبَّلها بقيود وأغلال أخرى أشد وأقسى، فهل توافقيه على هذه المقولة؟ وهل تعتقدين أنه يحاول البعض جعل المرأة المسلمة تشرب من نفس الكأس؟
بكل تأكيد، فالحرية التي نالتها المرأة الغربية أخيراً بعد أن عاشت قروناً طويلة في ظلم ومهانة، من غير اعتراف بإنسانيتها، وعدم الإقرار لها بأية كرامة أو ذمة مالية مستقلة، أو حق في الانتخاب، أو شغل الوظائف العامة، وأنها وسيلة لإمتاع الرجل فقط، وللأسف فإن كثيراً من هذه الممارسات على المرأة قامت باسم المسيحية واليهودية؛ لذا ارتبط في ذهن الغرب أن الأديان كلها ما هي إلا تقييد لحرية المرأة؛ لأنهم عمموا دون أن يعرفوا موقف الإسلام منها، بل إنهم تعمَّدوا تشويه صورته من خلال التراث العدائي وأقوال المستشرقين، الذين كانوا حلفاء الاستعمار والتبشير طَوال تاريخهم.
واستبدل الغرب القيود السابقة بحرية منفلتة، تؤدي لنتائج مدمرة؛ لأنه باسم الحرية اعترفوا بالسِّحاق، وزواج الشواذ، وتقرير حقوق لهم، وجعل تجارة الرقيق الأبيض هي الأوسع انتشاراً في الغرب؛ حيث تحولت المرأة إلى سلعة سواء في البرامج الإعلانية، أو (الفيديو كليب)، أو حتى من خلال عملها في مجالات: (السكرتارية)، والعلاقات العامة، والإعلام، والأنشطة المالية، بكل أنواعها؛ حيث تحولت إلى وسيلة جذب وإغراء.(/4)
وتحت مسمى الحرية نجد الاعتراف بالإباحية ونسبة الأبناء غير الشرعيين الذين أصبحوا يمثلون أكثر من 50% في بعض الدول، أو أن يعترف بالأبناء بعد سنوات من الإباحية والإنجاب؛ حيث انقلب الترتيب لديهم، بحيث تبدأ العلاقة بالخِطبة ثم المعاشرة ثم يأتي الزواج متأخراً بعد الإنجاب بسنوات، إذا رغب الزوج، وإذا لم يرغب فلا يجبره أحد عليه، في حين تقوم الأم بوضعه في مؤسسات اللقَطاء إن أرادت ألا تتحمل مسؤوليته. وقد أباحت القوانين الغربية حرية الإجهاض، وعدم الاعتراف بالخيانة الزوجية مسوِّغاً لطلب الطلاق.
وقد أدى هذا الانفلات من القيود إلى تحويل المرأة إلى سلعة على موائد اللئام، همها الأول إشباع غريزتها والتعري، وقد أدى هذا إلى انتشار الإيدز وغيره من الأمراض، وتراجع معدل الخصوبة لدى غالبية النساء، فكثيرات لا يُنجِبنَ، وبعضهنَّ يُنجِبنَ طفلاً واحداً، على الرغم من تشجيع دولهن على الإنجاب، وصرفها مكافآت تشجيعية على كل طفل، بعد أن تحولت هذه المجتمعات إلى حالة الشيخوخة؛ حيث تقل حالات المواليد عن الوَفَيات، أو تساويها في أحسن الأحوال، ولهذا نجد هذه المجتمعات على الرغم من تقدمها العلمي في طريقها للانهيار.
امتهان المرأة
في عصر هنري الثامن ملك إنكلترا، أصدر البرلمان الإنكليزي قراراً يحظر على المرأة أن تقرأ الإنجيل؛ لأنها كائن نجس، أما الآن فهم يريدون اقتلاعها من أي علاقة بالدين حتى لو كان وضعيّاً وليس سماوياً، فما خطورة هذا التوجُّه على المسلمات في العالم كله؟(/5)
في ظل العولمة وتكنولوجيا الاتصال أصبح العالم قرية كونية صغيرة، ويحاول الغرب فرض ثقافته على البشرية كلها، سواء بالترغيب أو الترهيب، ولهذا نجد الإعلام يظهر المرأة الغربية التي تتفنن في التعري باسم (الموضة) والتحضر، على أنها النموذج والقدوة التي يجب أن تقلدها النساء المسلمات، اللائي عليهن ترك تعاليم دينهم وراء ظهورهن. وعلى نفس النهج نجد الحركات النسوية الغربية، تسيطر على الهيئات الدولية، ابتداء من الأمم المتحدة وتحاول فرض أفكارها على دولنا الإسلامية؛ بإجبارها على التوقيع على ما يراد منها، وإن لم توقع تتعرض لعقوبات، مع التضييق عليها بكل الوسائل حتى تحذو المرأة المسلمة حذو الغربية، التي تعد الدين مرحلة مظلمة في تاريخ البشرية، ولابد من التحرر منها.
الوضع المأساوي
زاد زلزال جاوة الطين بِلَّة حيث زاد عدد المتضررين؛ لذا فإن معاناة المرأة والطفل ستزيد، فكيف يمكن أن تواجهوا هذا الوضع المأساوي؟
لن ندخر جهداً في العمل على تضميد الجراح؛ حيث نقوم بحصر الأرامل والأيتام في الأماكن المتضررة، وسنعمل على بدء حملة قومية لجمع التبرعات لتقديم جميع المساعدات اللازمة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ مما سيؤدي إلى إفساد مؤامرات منظمات التبشير التي تقدم الغذاء مع الدعوة لترك الإسلام، واعتناق الأديان الأخرى؛ ولهذا فإن تقديم الإغاثة للمتضررين ليس مسؤولية مسلمي إندونيسيا فقط، وإنما مسؤولية العالم الإسلامي كله، كل إنسان حسب مقدرته لأن منظمات الإغاثة غير الإسلامية لا تقدم عملاً لوجه الله، وإنما لها أهدافها الخبيثة، سواء كانت معلنة أو غير معلنة.
سموم المستشرقين
دس المستشرقون سمومهم حول الوجود الإسلامي في إندونيسيا. فما تفاصيل هذه المؤامرة القديمة المتجددة؟(/6)
بلغ عدد المستشرقين الأوربيين الذين ذهبوا لإندونيسيا 215 مستشرق، منهم 12 من هولندا التي استعمرت دولتنا لسنوات طويلة؛ وكان هناك تنسيق بين الاستعمار والمستشرقين لبسط الهيمنة على إندونيسيا؛ وأشهر هؤلاء المستشرقين يدعى سنوك هورخرونيه الذي كان مستشاراً رسميّاً للاستعمار، وقد كانت له محاولات في التشكيك بتاريخ دخول الإسلام لإندونيسيا، إذ ادعى أنه وجود حديث، وليس منذ القرن الهجري الأول، كما تؤكد كتب التاريخ، ويدعي أن الإسلام انتشر بحد السيف، وأُكره غير المسلمين على الدخول فيه.
دعاة التغريب
ألا ترين أن ذيول المستشرقين ودعاة التغريب ما زالت مستمرة حتى وإن اختلفت الأسماء والألوان وأصبحوا من أبناء جلدتنا؟
هذه هي الخطورة، حيث تتخذ مطاعن هؤلاء المتأسلمين وسيلة لتشويه صورة الإسلام، وادعاء أنهم "إصلاحيون وتنويريون " يحترمون العقل ويقدسونه، ولهذا لاحظنا أن هؤلاء يحاولون تقويضَ الإسلام من كل جوانبه، وتحت شعارات مختلفة خادعة، سواء بالنسبة للمرأة أو الرجل؛ لأن هناك مخططاً طويل المدى لاقتلاع إندونيسيا من دينها وتحويلها من دولة ذات أغلبية مسلمة إلى دولة غير إسلامية، وأن يكون المسلمون المتبقون فيها مسلمين بالاسم فقط.
مستقبل إندونيسيا
ما رؤيتكم لمستقبل الإسلام في بلادكم في ظل هذه المؤامرة المتكاملة عليكم؟
يتوقف مستقبل الإسلام على عاملين:(/7)
أولهما: داخلي؛ وهو التنشئة الدينية للأجيال، وتمسك الآباء والأمهات بدينهم، لأنهم القدوة لهم وأن يُدعم التعليم الإسلامي في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام والثقافة. وثانيهما: العامل الخارجي؛ وهو مدى دعم المسلمين لإخوانهم في إندونيسيا، سواء كان دعماً ماديّاً بالمساعدات للخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية، التي تزايدت مع حدوث زلزال تسونامي وجاوة، وخاصة أن بلادنا في نطاق الزلازل النشطة، ولهذا فإن تكرار هذه الكوارث أمر متوقَّع، ولهذا يجب إنشاء صندوق للإغاثة من الكوارث، ويكون تابعاً لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ويخصص هذا الصندوق دخله للتخفيف من آثار الكوارث التي يستغلها الأعداء في تضييع الهوية الإسلامية.(/8)
كما أن للدول الإسلامية دوراً آخر هو المساعدة في نشر الوعي الديني، سواء عن طريق زيادة المنح الدراسية لأبناء إندونيسيا للدراسة بالجامعات الإسلامية، أو إرسال دعاة إلى إندونيسيا لينشروا نور الإسلام والوعي بتعاليمه في المناطق النائية التي تركز عليها الهيئات التبشيرية المزودة بكل الإمكانيات المادية، حتى إن كثيراً من المبشرين يعيشون وسط الفئات المستهدفة سنوات طويلة، ويجيدون لغتها وتقاليدها، لذا فإن إستراتيجيتهم طويلة المدى، ولابد أن نكون على وعي كامل بها، ونضع إستراتيجية طويلة المدى، لمواجهة المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين، ليس في إندونيسيا فقط وإنما في كل الدول الإسلامية، بوسائل مختلفة، تتناسب مع ظروف كل دولة، لأنهم يؤمنون بأنهم سادة الكون، يفعلون به ما يشاؤون، وعلى الآخرين الاستجابة والتنفيذ دون مناقشة؛ لأن البشرية الآن يحكمها قانون الغابة، حيث يأكل القوي الضعيف بلا رحمة، ويسود مبدأ: "الغاية تبرر الوسيلة"، فهل يستشعر المسلمون الخطر، أم أنهم سيظلون متجاهلين للأخطار المحيطة بهم، ثم يبكون على اللبن المسكوب؟ وحينها لا ينفع الندم، فمن لا يجيد قراءة التاريخ ودروسه، ولا يكرر ما وقع فيه من أخطاء، يستحق أن يكون مهملاً، ونحن لا نريد من المسلمين أن يكونوا كذلك.(/9)
العنوان: المرأة الجديدة
رقم المقالة: 1869
صاحب المقالة: الزعيم مصطفى كامل
-----------------------------------------
المرأة الجديدة
اهْتَمَّ قُرَّاء اللُّغة العربية عُمومًا بكتاب "تحرير المرأة"، الذي وَضَعَهُ حضرة الفاضل قاسم بك أمين، واختلف الناس في الحُكْم عليه، وقد قرأتُهُ وقرأتُ الكُتُب التي نُشرتْ رَدًّا عليه، وتَلَوْتُ أخيرًا بمزيد الاهتمام كتابَ "المرأة الجديدة"، فوجدتُ أن صاحب "تحرير المرأة"، و"المرأة الجديدة" يُدافع عنِ المبدأ الذي أعلنه أمام أُمَّته؛ دِفاعًا يَدُلُّ على أنه معتقِدٌ تمامَ الاعتقاد ما يقول، ورأيتُ من بعض الذين خَطَّؤُوا رأيه تَهَوُّرًا وخُرُوجًا عن حدِّ الاعتدال، واتّهامًا بالقصد السيِّئ على أنه كان منَ السهل على الجميع أن يُناقِشوه رأيَهُ، ويعارضوه في فِكْرِهِ بكمالٍ لا يَضُرُّ بقوَّة حَجْجِهِم؛ بل يَزيدُها قوَّةً على قوَّتها.
وإني أعلم أنَّ كثيرًا منَ القُرَّاء يريدون أن يعرفوا رأيي الصحيحَ الصريحَ في مسألة تحرير المرأة الشرقيَّة، ومساواتها بالمرأة الغربية في الحريَّة، وكَشْفِ الحجاب، وحُضُورِ المجتمَعات، فأقول بكلِّ صراحةٍ غيرَ خائف في الحقِّ لَوْمَةَ لائمٍ:
إنِّي زُرْتُ أوربا المراتِ العديدةَ، ودرستُ أحوال المرأة الغربيَّة في كلِّ طبقات الهيئة الاجتماعيةِ دراسةً دقيقةً خاليةً منَ الغَرَض والأهواء، فرأيتُ أنَّ الحرّيَّة المطلَقة أفسدتْ على المرأة عُلومها وآدابها، ومَحَتْ كثيرًا منَ الأخلاق الفاضلة، وبدَّلَتْ في العوائد والفصائل تبديلاً بَاتَ يشكو منه الكثيرون من فُضلاء الغرب وعلمائه.(/1)
ولا إِخالُ حضرةَ قاسم بك أمين لا يوافقني على ما أَثْبَتُّهُ في هذا الشأن؛ فَقَدْ وَفَّى الموضوعَ حقَّهُ في كتاب "الرد على الدوق داركور"؛ حيث أبان بأحسنِ بيانٍ أنَّ الحريَّة المطلقة للمرأة الغربية قتلتْ عِدَّة فضائلَ، بِخلافِ الحجاب في الشرق فإنَّه حَفِظَ منَ الكمالات جُلَّها، إن لم يكن كلها.
نعم إن صاحب "المرأة الجديدة" ذهب في لُزوم الحُرّيَّة لِلنساء مَذْهبًا بعيدًا، وخالف ما قاله في كتاب "الرد على الدوق داركور". ولكن لِيسمحْ لي حضرتُهُ بأن أُوافِق كثيرًا قاسم بك أمين مؤلِّفَ "الرد على الدوق داركور"، وأُخالِفَ في مسائلَ عديدةٍ قاسم بك أمين مؤلِّفَ "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة".
فقد فات حضرتَهُ أنَّ بِلادَ أمريكا الَّتي أخذها قاعدةً لِحُكْمه وقياسِه تخالِف بلادَنا مخالَفَةً تامَّة في الأخلاق والعوائد والأميال، وأن تلكَ بلادٌ أُنشِئَتْ حرَّةً في أيَّام نَشْأَتِها، وقرَّرتْ للمرأة حُرِّيةً تامَّة منَ اليوم الذي وُضِعَ فيه لها دُستورٌ ونِظام؛ ولكن ما وافق تلك البلادَ لا يوافِق مِصْرَ وغيرَها من بلاد الإسلام؛ لأن العوائد والأميال متبايِنة تبايُنًا واضحًا.
ذلك فَضْلاً عن أنَّ بعضَ أنصارِ رَفْعِ الحجاب يقولون: "إنَّ حُرّيَّة النّساء بما فيها من المضارِّ - حتَّى الزِّنا - خير منَ الحجاب المصحوب بالفضيلة القَهْرِيَّة"، وهو ما لا أراهُ أبدًا؛ فإنَّه خَيْرٌ لِرَجُل يَشْعُرُ أن يموت ويُدفَنَ عن أن يرى مِن أهله أو مِن بَيْتِهِ امرأةً تَزْنِي، ولو كانت بَهْجَةَ العِلْم وحِلْيَتَهُ.
ولستُ أدْرِي إذا كان هذا الشعورُ شُعورًا طبيعيًّا عند كُلِّ الرِّجال، أوْ مَنْشَؤُه المِيراثُ الَّذي يَحْمِلُه كُلٌّ منَّا في دَمِهِ من أخلاق آبائِهِ وأجدادِهِ، وسواءٌ كان هذا أو ذاك، فإنَّ الحُرّيَّة التي تَقتل العِصْمَةَ شَرٌّ عندي منَ الحجاب القاتِل للرذائل.(/2)
كتبَ أحدُ الكُتَّاب رسالةً في "المرأة الجديدة" قال فيها: إنَّ أغلب الشُّبَّانِ يَميلون للتزوُّج بالأوروبيَّات؛ نَظَرًا لعدم خروج النساء المصريَّات مكشوفاتِ الوجوه":
فأدهَشَنِي هذا البرهانُ الجديدُ على لُزوم إطلاق حرِّيَّةِ النساء، لأنَّ الكاتب وَجَّهَ بحثَهُ في طريقٍ ضَيِّقٍ وتَرَكَ الطريق الواسِعَ؛ نَسِيَ حضْرَتُهُ أنَّ سبب تزوُّجِ بعضِ الشُّبَّان بالأوروبيات هو فساد تربية هؤلاء الشُّبَّان؛ لا عَدَمُ خروج المصريات مكشوفاتِ الوجوه، وليس دليلٌ على فسادِ أخلاقهم وسُوءِ تربِيَتِهِم مثلَ اختيار العديدِ مِنْهُم لأَحَطِّ الأوروبيَّات أخلاقًا، وأسفَلِهِنَّ طَبَقَةً زوجاتٍ لهم.
إننا نَشْكُو جميعًا من عدم تربية نسائنا تربيةً سليمة نافعة، ونتَّفِق مع كل رجال الأُمَّة على أنَّ التعليمَ واجِب للنساء والتهذيبَ مُحَتَّمٌ عليهم أُسْوَةً بالرجال؛ ولكنَّنا لا نوافق أصحابَ مَذْهَبِ إطلاق حريَّة المرأة في مسألة رفْعِ الحجاب.
لَعَلَّهم لا يريدون - كما يَعتقِدُ الكثيرون - أن تنال المرأة المصرية الحاليةُ ما يبتغونه لها من حريَّة مطلَقة، ويَرْمُون بمبدئهمُ الجديدِ إلى مستقبَلِ الأيام؛ ولكنَّ الحُكم على نساء المستقبَل لا مَحَلَّ ولا معنى له الآن؛ فإنَّما يسير أبناؤنا وأحفادُنا في السبيل الذي يَرَوْنَهُ مُوَافِقًا لِدَرَجَةِ تعليمِهِم وتمدُّنِهم، والواجبُ عَلَيْنا أن نبحثَ فِي إصلاح حالَتِنا الآنَ وتَمهيد السعادة للأَعْقَابِ الآتية.
وعندي أن حرية المرأة لا تكون في مأمنٍ من كُلِّ خَطَر وضَرَر، إلاَّ إذا جمعتْ شُروطًا ثلاثًا:
- كمالٌ وأدبٌ عند النساء.
- وتعليم وتهذيب عند الرجال.
- وحكومة شديدةُ الشَّكِيمَةِ في المحافظة على الآداب العامَّة.(/3)
ومُحالٌ أن تجتمع هذه الشروطُ الآنَ في بلدٍ كَمِصْرَ، فخَيْرٌ لِلَّذين يريدون إسعادَ بلادِهم وإعلاءَ شأن أُمَّتِهم أن يُوَجِّهوا عِنايَتَهُم كُلَّها إلى تربيةِ البَنِين والبناتِ، تاركِينَ كُلَّ ما يدعو للاختلاف والشِّقاقِ؛ فإنهم يجدون من الأُمَّة كلِّها إجماعًا في مسألة التربية، ولا يلاقون في مسألة رَفْع الحجاب إلا معارضَةً قَوِيَّةً وخِلافًا شديدًا.
والله قادر أن يوفقنا جميعًا إلى ما فيه الرُّشْدُ والصواب.(/4)
العنوان: المرأة الصالحة رابطة المجتمع
رقم المقالة: 375
صاحب المقالة: عبدالقادر السبسبي
-----------------------------------------
تمهيد:
1 – إن الزواج هو عماد الأسرة الثابتة التي تلتقي فيها الحقوق والواجبات، وهو علاقة روحية تليق برقي الإنسان وتسمو به عن دركة الحيوان. وهذه الناحية النفسية الروحية هي المودة التي جعلها الله تعالى بين الزوجين، وهي التمازج النفسي. وأن الأسرة هي الوحدة الأولى لبناء المجتمع، وأن الشريعة الإسلامية قد أمرت بالمساواة بين الزوجين في كل شيء إلا القيام برياسة الأسرة، والقيام على مصالحها {الرجال قوامون على النساء}.
الزواج باعث للتراحم:
إن الزوجية أقوى رابطة تربط اثنين من البشر أحدهما بالآخر، فهي الصلة التي يشعر كل من الزوجين بأنه شريك الآخر في كل شيء مادي ومعنوي وقد قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} فقد جعل الله التواد والتراحم بعصمة الزواج، وقد كانت المجانسة من دواعي التضامن والتعارف. وفي المثل (من جالس جانس) لأن النفس ميالة إلى ما يوافقها ويلائمها ويلتقي معها في الغرض العام ولذلك وجب بناء الزواج على أسس كريمة ودعائم قويمة تقوية للصلة الروحية، تلك هي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة الستر والتجمل يمنحها طابع النظافة والبراءة.
فينبغي للرجل أن يقصد بالتزوج حفظ النسل ونظام المنزل وحفظ المال والمطلوب في الزوجة العقل والعفة والحياء ورقة القلب وطيب الكلام وطاعة الزوج وقال عليه الصلاة والسلام ((الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) لأنها تحفظ حقوق الزوجية وتعين زوجها على القيام بالأمور الدنيوية والدينية. وقال أيضاً: أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وبدناً على البلاء صابراً وزوجة لا تبغيه حوباً – أي إثماً – في نفسها وماله.(/1)
ان من يختار زوجة بدون أن يلاحظ فيها الجناب المعنوي من حسن الطباع والأخلاق الكريمة، بل يؤاثر عليها الجانب الحسي، بجعل الحياة الزوجية عرضة للزوال لأن الإعجاب الحسي قد ينتهي ولكن النواحي المعنوية فإن الإعجاب بها قد يتجدد الزمان.
ولذلك فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الزواج من ذات الدين فقال: ((لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغين عليهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل)).
طهارة الزوجة:
من المقرر عند العلماء بأن حسن الإختيار لدليل على ذوق المختار فالذين يتخيرون أزواجهن من المسارح والملاهي لمنظر خلاب بدا، لا يمكن أن تستمر حياتهم الزوجية سعيدة، وأنها سرعان ما تزول، لأن معظم هؤلاء النساء هن كأوراق الخريف ليس لها فرع تلوذ به أو تأوى إليه.
وقال أكثم بن صيفي يوصي بعض أولاده: يا بني إياك واختيار اللئيمة بما عندها من المال فإنه يذهب وتبقى في حالة اللؤم الذي لا يغنيه وقال: لا يقصينكم جمال النساء فإن التزوج بالكرائم مدرجة الشرف. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إياكم وخضراء الدمن) وهي المرأة الحسناء في منبت السوء، فإنها تلد مثل أصلها وعليكم بذات الأعراق فإنها تلد مثل أبيها وعمها وأخيها.
فإذا لحظنا ذلك علمنا أنه لا ينبغي الاغترار بالمرأة الحسناء وجمالها الظاهري قبل البحث عن جمالها الباطني الحقيقي، وفي أي منشأ نشأت وأي خلق تعودت.
الزواج بالكتابيات:(/2)
لما كان الزواج أعمق وأدق وأقوى رابطة بين اثنين من بني الإنسان، فلابد إذن من توحد القلوب والتقائها في العقيدة. ولكي تتوحد القلوب يجب أن تتوحد ما تنعقد عليه وما تتجه إليه، والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس ويؤثر فيها ويكيف مشاعرها ويحدد تأثراتها وإستجاباتها وإن كان الكثيرون يخدعهم أحياناً كمون العقيدة أو ركودها، فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية أو بعض المذاهب الاجتماعية وهذا هو وهم وعدم خبرة بالنفس الإنسانية ومقوماتها الحقيقية.
فالله سبحانه وتعالى لم يحرم زواج المسلم من كتابية، لأنهما يلتقيان في أصل العقيدة في الله وإن اختلفت بعض التفصيلات. على أن الزواج بالكتابية وإن كان جائزاً ولكن إذا خشي أن تجذب المرأة الرجل إلى دينها لعلمها وجمالها وضعف أخلاقه كما يحصل كثيراً في هذا الزمن في تزوج بعض ضعفاء العقول من المسلمين ببعض الأوروبيات أو غيرهن من الكتابيات فيفتنون بهن، فلا يجوز له التزوج بهن سداً لباب الذريعة لأن سد الذريعة واجب في الإسلام.
الزواج بالأجنبيات:(/3)
وأما الزواج بالأجنبيات فهو أدهى وأمر، لأن خطورتها لا تقف على الزوج أو الأسرة فحسب بل قد يؤدي الأمر إلى تحطيم المجتمع وغضب الوالدين الذين أمر الولد بالإحسان إليهما وبذل الجهد لإرضائهما نظراً لما قد يحدث من المنازعات والمشاحنات وعدم الاستقرار، وقد تتغلب المرأة على أمر زوجها أو ولدها فتقوده إلى دعوتها. ومرد ذلك كله هو البون الشاسع بين الشرق والغرب من اختلاف وعدم الاتفاق في العقيدة، لأن كلا الزوجين له آداب اجتماعية وتقاليد مشاعر مستقاة من محيطه وبيئته غير ما هي موجودة عند الآخر. على أن المجتمع الغربي مهما تحفظ فهو مجتمع إباحي، وإن المجتمع العربي مهما تحرر فهو مجتمع يقوم على المروءة والأنفة قبل كل شيء. ومما يتصل بالتربية هو الأخلاق فالأخلاق نسبية تختلف مفاهيمها من بلد إلى بلد، وإذا كانت الأم أجنبية فلن تشيء لنا أطفالاً يتصفون بالأخلاق العربية الأصيلة، وإنما يتصفون بالأخلاق التي درجت عليها في بلدها، وقد تكون مناقضة لما عندنا كل التناقض ومعنى هذا أن الزوجة الأجنبية سينشأ عنها أطفال غرباء عنا في طبائعهم، وأخلاقهم، مما يؤدي بهم إلى نفور أو كره لما يجدونه حولهم من طبائع وأخلاق مختلفة عما ألفوا. وهذا ادعى ما يكون إلى تفتيت هذا المجتمع.
إقتباس الأخلاق:
على أنه إذا سلم الزوج من ضلال زوجته الكتابية أو الأجنبية أو إضلالها فلا يسلم ولده الذي يولد له منها نظراً لما يقتبسه عنها من أخلاق وعادات. مصداقاً للحديث الشريف مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه. وفي صحيح ابن حبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)).(/4)
على أن الوالدة هي المدرسة الوحيدة للطفل فلها التأثير الأكبر على الولد إذ ليس أفعل في النفس من رؤية أم تر أم ولدها وتحنو عليه بالعطف والشفقة، لأن قلب الأم مدرسة الطفل، وإن عظماء الرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم. فإذا كانت الأم أوروبية أو كتابية فلن تحدث ولدها بتاريخ وطنه ولا بأمجاد أجداده وبطولاتهم وما حصلوه من العلوم والمعرفة، بل تلقنه حوادث أجدادها ومآثرهم وتدفعه إلى تقديس شارل مارتيل وذم عبدالرحمن الغافقي مثلاً، وتلقي في روعه احترام ريتشارد قلب الأسد والإغضاء عن ذكر صلاح الدين، وتحدثه عن مستعمرات قومها وامتهان العرب ولا تذكر له ما قاله غوستاف لوبون: لم ير التاريخ فاتحاً أرحم من العرب. ثم تسعى لأن تنفث سمومها فيه لتجعله يشعر كأنه يتربى في محيط غربي. وما دام التوجيه الغريزي عند الأم قد أصبح أجنبياً محضاً، فبنتيجته الحتمية تدفع أولادها إلى كره وطنهم وتفضيل أخوالهم والتزوج من أولادهم ذكوراً وأناثاً. وقد قرأت مقالاً في مجلة الحضارة الإسلامية في العدد العاشر سنة 1962م بأنه في حادث العدوان الثلاثي قد أسر عدد من الضباط المصريين وسجنوا في إسرائيل، ثم خيروهم بين العودة إلى بلادهم أو البقاء في إسرائيل فاختار أحدهم البقاء عندهم ثم رحل إلى انكلترا واتخذ الجنسية الانكليزية، وقد تستغرب هذا الخبر مع أن أباه عربي أصيل في مصر ولكن هذه الغرابة تزول إذا علمنا أن أمه كانت انكليزية.
المقابسة بين المرأة الغربية والمرأة الشرقية:
إن المرأة الغربية كانت تمتاز عن المرأة الشرقية بسعة ثقافتها، وأما الآن فإن المرأة الشرقية قد بلغت مبلغاً كبيراً في العلم وقطعت شوطاً بعيداً بالثقافة وأصبحت تدرك معنى العلم وتقدره وتسعى لتربية أولادها على أساس علمي صحيح. هذا ما أغنانا عن الزواج بالأجنبيات.(/5)
على أن الحياة الاجتماعية في الشرق جعلت العفة في أول قائمة الأخلاق عند النساء. حتى أن الرجل يود لو أن الأرض ابتلعته إذا سمع خيانة عن زوجته أو ابنته أو احدى قريباته، نعم إن العفة فضيلة في النساء في الغرب ولكنها لم تقوم القيمة التي لها في الشرق، والعلة في ذلك هو أن الغرب قد هجر فكرة ارتباط الأخلاق بالدين ولم ينجح في إحلال شيء محله، وأما الشرق فإنه لا يزال يؤسس الأخلاق على الدين، ولذلك يقدسها.
وتمتاز المرأة الشرقية بأنها تنظر إلى نفسها كأم لأولادها وسيدة لبيتها وتحس إحساساً جديداً بحياة جديدة وشخصية جديدة عندما تصبح أماً، بينما المرأة الغربية تعنى أكثر ما تعني بنفسها كفرد ولا تود أن تكون أماً، وإذا أصبحت أما لم تحب أن تلد كثيراً خوفاً من ضياع وقتها لأولادها وحرمانها من وقتها لنفسها وهي ترهق نفسها بالمحافظة على جمالها، وكثيراً ما تحرم نفسها من عاطفة الأمومة. ولا ينال الأولاد من أمهم في الغرب ما ينالونه من الأم الشرقية، وسبب ذلك هو أن الفردية والشخصية تغلبان على الغربيين ذكوراً وإناثاً، بينما يغلب في الشرق الرباط العائلي لأن الفرد في الغرب له أكبر الحرية فهو يفعل ما يشاء، فينصرف إلى الجد وينغمس في اللهو ما يشاء سواء كان ذكر أو أنثى وليس لأسرته أن تتدخل في شؤونه وعلى هذا المقتفى فإن الزوج لا يتدخل في شؤون زوجته فلا يحق له أن يمنعها حريتها في حدودها وهي كذلك بالنسبة له، على العكس من ذلك الحال في الشرق فأفراد الأسرة في الشرق أكثر ارتباطاً منهم في الغرب، يشعر الفرد في الشرق بالمسؤولية الكبيرة نحو أبيه وأمه وإخوته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته وهو يعتز بعزة الأسرة ويذل بذلتها.
وصية أم لأبنتها:
مما يدل على بلاغة العرب وحص الأمهات على بناتهن ما كتبته عربية من كندة إلى ابنتها حين أرادوا أن يحملوها إلى زوجها قالت لها:(/6)
أي بنية: إن الوصية لو تركت لفضل أدب لتركت ذلك منك ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها لكنت أنت أغنى الناس عن ذلك الزوج ولكن النساء خلقن للرجال ولهن خلقت الرجال.
أي بنية: إنك فارقت الجو الذي فيه خرجت وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه. فأصبح بملكه عليك رقيباً ومليكاً فكوني له أمة يكن لك عبداً.
يا بنية احملي عني عشر خصال تكن لك ذخراً وذكراً، الصحبة بالقناعة والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضع أنفه، والتعهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، والاحتفاظ ببيته وماله، والارعاء على نفسه وحشمه وعياله، ولا تفشي له سراً ولا تعصي له أمراً فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، ثم اتقي مع ذلك الفرح إن كان ترحاً والاكتئاب عنده إن كان فرحاً، فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له موافقة واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك وهواه على هواك فيما أحببت وكرهت، والله ولي الأمر والتدبير.
والخلاصة أنه من الواجب على الشخص المؤمن أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء سيما في المرأة التي يختارها زوجة له، وأن يؤثر ذات الدين الإسلامي على غيرها، ثم يجب أن يلحظ صلاح المرأة ومنشأها والبيئة التي عاشت فيها لأن صلة الزوجية أشد وأقوى صلة حيوية اجتماعية. قال عليه الصلاة والسلام ((من رزقه امرأة صالحة فقد أعانه الله على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي)).
ورحم الله الإمام الشافعي حيث يقول:
وإن تزوجت فكن حاذقاً واسأل عن الغصن وعن منبته
وابحث عن الصهر وأخواله من عنصر الحيِّ وذي قربته(/7)
العنوان: المرأة العاملة، والزوج العاطل من العمل
رقم المقالة: 479
صاحب المقالة: ألماز برهان
-----------------------------------------
مع ازدياد الحديث في أجهزة الإعلام عن المرأة وعملها، ومدى إمكانية تفوقها - حالها حال الرجل - وكيف أن قدرتها على التحمل تفوق قدرة الرجل، ومع كثرة المقالات التي تكتب في هذا الشأن والندوات التي تُعقد، انقلبت موازين بعض الرجال ليروا ضرورة تحمل نسائهم عبء الأسرة والأبناء، ليصير ذلك من مسؤوليات المرأة؛ فإما أن تشارك الرجل هذا العبء؛ ليعيشوا مع أسرهم في رغدٍ، ويحيوا حياة كريمة، وإما أن يترك الرجل العبء الكبير على كاهل زوجته دون أن يعطيها فرصة للتعاون معه، وهنا تكمُن الكارثة التي باتت تهدد الكثير من البيوت العربية؛ فأصبح الرجل مجرداً من المسؤوليات، وعليه المتابعة عن كثب ينتظر ما تجود به زوجته من طعام وملبس، ولا ننسى الادخار؛ لتتمكن من دفع مصاريف الكهرباء والهاتف، وسداد أجرة الدار.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: مَن المُلام في مثل هذا الواقع؟ هل أذنبت المرأة حين رضيت أن تجسد صورة الرجل فيها، متناسية حقوقها وظروف تركيبتها البيولوجية؟ وما الظروف التي أدت بعض النساء إلى الخروج إلى العمل للكدِّ، في حين أن الرجل يجلس إما في البيت أو المقهى؟
كل هذه الأسئلة نجد لها ردوداً حية من نساء عاملات يحكين لنا عن واقعهن المقلوب، ولن ننسى رأي الرجل فيه.(/1)
* جاهدت أم عبدالرحمن في سبيل البحث عن عمل؛ حتى تنعش حياتها التي بدأت تنهشها الديون، حتى رزقها الله وظيفة في أحد المراكز الصحية؛ لتعمل بها، تقول: "حمدت الله أن رزقني هذه الوظيفة؛ فبعد أن طُرد زوجي من عمله لنشوب خلاف بينه وبين زميله في العمل، جلس قرابة سنة بغير عمل حتى بدأ الحال يضيق بنا؛ فلدينا أربعة أبناء، وكثرت الالتزامات، إلى أن اضطررنا أن نستدين مبلغاً متواضعاً إلى حين حصول زوجي على عمل، والمشكلة أنه يبحث يوماً ويتحسر أياماً، وعندما يجد عملاً لا يتناسب مع مؤهلاته أو أن الراتب غير مُنصف، يرفض الوظيفة غير مقدرٍ لظروفه الحالية، التي تتطلَّب القَبول بأيِّ عمل حتى ينتشلنا من هذه الأزمة، وبعد سنة رزقني الله بعملٍ إلا أن المشكلة موقف زوجي، فقد سحب بساطه من البيت، وأصبح معتمداً عليَّ في كل الأمور الحياتية والمالية، وإذا تحدثت معه عن ضرورة بحثه عن عمل كي يساندني يثور ويغضب بحجة إهانته لأنه عاطل، ولم يوفَّق بعد، وأنا بدوري أعتذر إليه عن سوء تعبيري، وبأني لم أقصد ذلك، وتضيف: ما يزال هذا هو حالنا منذ سنتين، وأشعر أن المسألة سيطول حلها إلا أن كل ما علي فعله تلبية احتياجات أولادي، والله المستعان.(/2)
* أما أم عيسى فرأت أن تملُّصَ زوجها من تحمل المسؤولية والعمل، وانعدامَ التفكير الإيجابي بعقله الباطن ينطوي على سببين هما: اعتماده على عملها مصدراً للرزق لهما؛ حيث لم يرزقا بأطفال لزواجٍ دام سبعة عشر عاماً، أيضاً شعوره بالتعالي وبحثه عن الأفضل كما يزعم، وتقول: عمل زوجي سابقاً مع أحد أصدقائه، وكانت الأحوال ميسورة والحمد لله، إلى أن أُغلق المكتب الخاص بهما؛ لجنيهم خسائر مادية أطاحت بعملهما، وفي ذلك الوقت كان لي وظيفتي الخاصة، ولأني - كأي امرأة - أحلم بتكوين أسرة؛ قررت التغاضي عن جلوسه في البيت، وأن نعيش على ما أجنيه من عملي، وعلى الرغم من الألم والتعب الذي أشعر به أحياناً، وشعوري بالوحدة، أحاول تعويضه، أو ربما (إسكاته) بتركه على سجيته دون الضغط عليه، وأعلم تماماً أنه مرتاح لحاله هكذا، وعلى الرغم من أسفي أفضل أن أبقى تحت ظل زوج .
* يختلف حال عائشة محمد عن مثيلاتها؛ فقد انقلبت الموازين في بيتها لتصبح هي الرجل والآمر الناهي - كما تقول - فصار وجود زوجها كعدمه، وتحكي: بعد انصرافه من عمله ذات يوم أبلغني أنه قرر ترك العمل الذي أمضى فيه عشر سنوات، ولأسباب غير معلومة، ولأنه قرر ذلك لم يعط نفسه فرصة الحصول على بديل، قبل أن يُقدم على الاستقالة، مع عِلمه أنه لا يملك سوى شهادة الكفاءة، وهو ما قد يصعِّب عليه فرصة اقتناصه للوظائف التي أصبحت نادرة حتى على كثير من الشباب أصحاب الشهادات العليا.(/3)
وعدم اهتمامه بأمري، وبشؤون أولاده الثلاثة جعلني أجتهد في البحث عن عمل، وبالفعل عملت (سكرتيرة) بإحدى المطبوعات النسائية، والحمد لله اندمجت في عملي بصورة جيدة، ونتيجة لجهودي ازداد راتبي خلال مدة وجيزة؛ فتمكنت من إدارة بيتي، ولم أبخل على أولادي بأي شيء، إلا أن أكثر ما يزعجني هو موقف زوجي السلبي؛ فكلما وجد عملاً رفضه معللاً ذلك إما بعدم قدرته على التحمل - كسائق لإحدى الشركات، مندوب مبيعات - أو لأن الراتب لا يوازي ما يبذله من جهد، حتى أصبحت حياتنا لا تطاق، فما عليه سوى التباهي أمام الناس بأنه أفضل حالٍ منهم!
ومن الغريب أنه في الماضي كان كثيراً ما يثور ويغضب إذا طلبت منه إيصالي إلى أي مكان، والآن لا يعجز عن ذلك، وإن كثر عليه ليضمن لنفسه فرصة قضاء أطول وقت في لعب (البلياردو) التي أصبحت شغله، وهمه الأكبر، والله صَدَق مَن قال: "دوام الحال من المحال".(/4)
*وفي المقابل طلبنا من أبي عادل أن يصف لنا حاله وهو جالس دون عمل؛ ليرضى أن يعيش على حساب إرهاق وإجهاد زوجته فأجاب: من الطبيعي أن يتمنى المرء أن يحيا في استقرار وظيفي وعائلي إلا أنه أحياناً "قد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن" فبعد أن خسرت عملي انتابني شعور بالنقص، وكثيراً ما أتحسر على حالي، خاصة إذا ما رأيت أصدقائي يتأهبون للتوجه إلى أعمالهم وأنا بصحبتهم، فعادةً منذ الصباح ما علي سوى الجلوس أمام شاشة التلفاز؛ أترقَّب البرامج تلو الأخرى، والفراغ قد كسرني حتى إنني أصبحت أشعر بافتقاري إلى الشخصية ......، وتدهورت حالتي النفسية لكثرة متطلبات أولادي، وكثرت معاتبتهم لي لتقصيري في إخراجهم للتنزه، أما زوجتي فلن أنسى لها موقفها الشجاع معي؛ فقد ساندتني في محنتي، وكم حاولت التخفيف عني، حتى إنها باعت كل ما تملك من ذهب لننفقه على احتياجاتنا الضرورية، وبعد عام ونصف على هذه الحالة فوجئت يوماً باتصال من إحدى الشركات تطلب مني الحضور لإجراء مقابلة شخصية، والحمد لله رزقني الله بوظيفة جيدة، لا تقل عن عملي السابق بكثير؛ فاستعدت حياة التفاؤل، وعوضت زوجتي ما فقدته وأكثر.(/5)
* وعلى طريقة إمساك العصا من الوسط أعرب محمد عن رأيه بقوله: إذا كان الزوج عاطلاً ولا يرغب في العمل فهذا شيء آخر، ولا أعتقد أن رجلاً يقبل على نفسه أن يأخذ مصروفه من زوجته، وإذا حدث ذلك فإن خللاً ما يوجد في هذه العلاقة، خصوصاً إذا ارتضت الزوجة هذا الوضع؛ فخروج الزوج للعمل يمثل ركيزة مادية وقيمة معنوية لا يُستهان بها بالنسبة إلى الزوجة، وحين يتخلى عن هذا الدور فإن شخصية الزوج ستكون ضعيفة للغاية، ولا يمكن التنبؤ بالنتائج والتوابع السلبية التي قد تنتج من وراء حالة كهذه. ويستطرد محمد قائلاً: في بعض الحالات النادرة جداً تكون علاقة الزوجين متماسكة إلى حد كبير، والتفاهم بينهما قوياً للغاية، والتقارب الثقافي والتعليمي متساوياً، وهو ما يعطي دلائل بأن لا مشكلة تؤثر في مسيرة الحياة الزوجية بينهما، إلا أن هذا ليس صحيحاً، حتى إن كابر الزوجان أمام الآخرين؛ فالعامل النفسي لدى الزوج يكون في أسوأ حالاته.
* أما تجربة أم ياسر فهي لا تختلف كثيراً عن التجارب السابقة؛ حيث تقول: لقد تقبلت الوضع الجديد لزوجي، ولا يمكن أن أتخلى عنه في أيام الشدة، وأقبل به في أيام الرخاء. وتضيف: في البداية شجعته على العمل، وحاول؛ إلا أن محاولاته باءت بالفشل بعد أن عمل لأوقات قصيرة في بعض الأعمال ليكتشف عدم استطاعته التأقلم مع أي عمل غير الذي كان فيه، وتقول عن علاقته معها: إنها لم تتأثر كثيراً بل أصبحت أكثر حميمية؛ لأننا في السابق كنا لا نلتقي إلا نادراً، وصار يساعدني في إعداد الطعام، وإنجاز بعض الأمور المنزلية التي كنت أقوم بها، وأخذ يحترمني أكثر كامرأة عاملة استطاعت وحدها التكفل بجميع احتياجات عائلتها المادية.(/6)
ومن المؤكد أن مسألة بقاء الرجل بدون عمل ذات تأثير سيئ في نفسيته؛ فهو قد يحدث بعض المشاكل داخل بيته، خاصة عندما تطول هذه المدة، وأعتقد أن هذه المسألة معتمدة على شخصية المرأة، ومدى تفهمها للأمر بحيث لا تجعل الرجل يشعر بأنه أصبح عالة عليها، وإن لنا في سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير قدوة؛ فقد عمل راعياً للغنم، ثم أجيراً في تجارة قريش، ثم تاجراً بمال زوجته، ما نقص كل هذا من قدره في قومه، و ما نقص عند الله بل اختاره لقيادة البشرية.
* بعد تعرضها للحبس والكي من قبل زوجها، قررت أم حنان أن تطرق أبواب العيادات النفسية لتدهور حالتها، وحين سألناها عن سبب ما وصلت إليه أجابت: كنت متساهلة مع زوجي، وبحسن نية لم أبخل على بيتي بشيء إلى أن جاء اليوم الذي فقد فيه زوجي وظيفته، وصار يأخذ مني المال مع بداية كل شهر ليشارك بها في سوق الأسهم؛ فأنا المصرف والملجأ الوحيد له، وكلما طلبت منه الخروج للبحث عن عمل، أجاب: من المؤكَّد أنني لن أجد ما يناسبني، وفي حال حصلت على وظيفة ستكون دون المستوى الذي كنت عليه، وأنا راض بحالي هكذا.
هنا شعرت بأني مُسْتَغَلَّة غبية؛ فقررت عدم إعطائه المال، وكان ذلك سبباً في منعي من زيارة أهلي، وحبسي في البيت، وبعد تسلمي راتبي قام بكيي في رجلي ليجبرني على أن أعطيه مالي، وحين لجأت إلى أهلي؛ رفضوا الوقوف بجانبي بحجة أنني المسؤولة عما حدث لي؛ لسذاجتي من البداية؛ فشعرت بعدها بالكره تجاه أهلي وزوجي، وبأني مضطهده من الجميع، حتى إنني فكرت في الانتحار، خاصة أني طلبت الطلاق من زوجي ورفض، عندها قررت اللجوء إلى العيادة لسوء حالتي النفسية، وللسعي في حل مشكلتي، وبتدخل من المختصين، وتوجيه أهلي تفهموا الوضع، ولأني كنت مُسْتَغَلَّة بادروا بمساعدتي في تسوية الأمور مع زوجي حتى نلت منه الطلاق.
وللطب النفسي رأي في هذه الحالة:(/7)
الدكتور وليد الزهراني - أخصائي علم نفس إكلينكي - تعجب من موقف الزوجة السلبي تجاه متطلبات الزوج، وصحوتها بعد فوات الأوان، ويقول: من المعروف أن الزوج هو عماد البيت، والركيزة الأساسية التي يستند عليها الكيان الأسري، وقد درجت العادة على خروج الزوج للعمل في الصباح الباكر، وأن تظل الزوجة في البيت ترعى شؤون بيتها وأولادها، لكن مع اختلاف إيقاع الحياة، وخروج المرأة للعمل لتكون سنداً لزوجها في التغلب على بعض الأزمات المادية، وجب على الزوجين العاملين أن تكون لهما آلية، واتفاق في تسيير شؤون الأسرة بكل جوانبها بما في ذلك الناحية المادية؛ كأن تسهم الزوجة بجزء من راتبها في أداء النفقات التي قد تستعصي على قدرات زوجها.
وفي ظل الظروف الطارئة قد يصبح الزوج عاطلاً من العمل، وتضطر الزوجة أن تتحمل المسؤولية المادية بمفردها، وفي حال كان الزوج لا يقدِّر مجهود زوجته هنا نستطيع القول إنه يتسم بالأنانية وربما لديه نقص في شخصه أو به مشكلة تمس رجولته؛ لأنه رضي على نفسه بهذا الوضع، ومن المؤكد أنه سيفقد ركناً مهماً من شخصيته بصفته رَب أسرة، إضافة إلى نظرة الأبناء له بوصفه أباً راعياً لأبنائه، وعديم المسؤولية تجاه الأعباء المادية، والوضع النفسي لزوجته المسكينة.
ويستطرد الدكتور: أيضاً هناك من الأزمات والمشاكل ما يتطلب تدخل الزوجة لإنقاذ الوضع الذي تعرض له الزوج، ولابد من مراعاة ظروفه وتفهمها بحنكة ودبلوماسية، ويجب أن تشجعه، وتحثه على البحث عن عمل كي لا يعتاد الحال، فقد أصبحت هي المطالبة في هذه الحالة أكثر مما مضى، وربما لا يفي راتبها بتغطية ضروريات البيت.
ولخص الزهراني خطورة هذا التحول في علاقة الأبناء بالأب في التالي:
- فقدان الأب احترام أولاده له؛ فشعورهم باستغلاله للأم، واتكاليته عليها من المؤكد أنها ستؤثر فيهم سلباً.(/8)
- تولد مفهوم الاتكالية والاعتماد على الآخرين، خاصة لدى الذكور؛ فمن المفترض أن والدهم هو القدوة، والمثل الأعلى، وموقف الأب من المؤكد أنه سيعزز بداخلهم السلوك السلبي فتقل حماستهم لمواصلة تعليمهم وسعيهم الارتقاء إلى الأفضل.
- الشعور بالغيرة من أقرانهم، ومقارنة آباء أقرانهم بوالدهم؛ فمنهم مَن والدُه ضابط، ومدرس، وطبيب ... إلخ؛ فتتولد بداخلهم الحساسية تجاههم.
- توقف دور الأب تجاه الأولاد، واتجاههم ناحية الأم ومطالبتهم لها بالاحتياجات المادية؛ فهي من تمتلك القدرة على العطاء، وبهذا يتوقف دور الأب تماماً.
- كره الأولاد للأب ولومهم له؛ لشعورهم بأنانيته، واعتماده على الأم الضعيفة؛ فغالباً ما تدور النقاشات، والخلافات بين الوالدين لمطالبة الأب بالإنفاق عليهم.
وعن رأي الشرع في أحقية طلب الزوجة فسخ العقد في حال لم يستطع الزوج الإنفاق عليها - أكد د. خالد الطويان المحامي أن من حق المرأة - في هذه الحالة - أن تطالب بفسخ العقد، وذلك في حال رفض الزوج البحث عن عمل وأصرَّ على استغلال زوجته وإلزامها بالإنفاق، تاركاً الحمل والعبء كله عليها.
في هذه الحالة يجب أن تحاول تسوية الأمور بينهما للوصول إلى حل، وإذا لم يتفقوا سيكون من حقها اللجوء إلى القضاء، وعندها سيلزمه القاضي بصرف مبلغٍ معينٍ كل شهر لبيته، وإذا رفض بحجة عدم استطاعته يكون من حق المرأة طلب الطلاق، وسيوافقها عليه القاضي.
فمن المعروف كما ذُكر في القرآن أن الرجال قوامون على النساء، والقوامة هنا تعني الإنفاق؛ بمعنى أنه من واجب الزوج الإنفاق على زوجته، ما دام ليس هناك أي خلل صحي يمنعه من ذلك.(/9)
العنوان: المرأةُ بين إنصاف الإسلام وإجحاف الغرب
رقم المقالة: 1490
صاحب المقالة: فاطمة محمود عليوة
-----------------------------------------
لقد أَوْلَى الإسلامُ المرأة اهتماماً كبيراً، يتضحُ لنا جلياً من خلال كثير من آيات القرآن الكريم التي أرست قواعدَ الرحمة والمساواة في التعامل مع المرأة بعد الظلم الذي كان يقع عليها قبل الإسلام.
والمتأمل لهذه الآيات يجدُها صانت ما للمرأة من حقوقٍ ابتداءً من الحفاظ على حقها في الحياة، محارباً عادةَ وأدِ البنات التي كانت سائدة في الجاهلية، ثم حثت على رعايتها وهي طفلة إلى امرأة ثم في مرحلة الشيخوخة، وكذلك المتأمل للسيرة النبوية الشريفة يجدُها جاءت مبينةً ومفصلة لتلك الحقوق الممنوحة للمرأة في ظل الإسلام، وكفانا قولُ عمر بن الخطاب عن مكانة المرأة قبل الإسلام حتى يتضح لنا كيف كانت مهضومةَ الحق ذليلة القدر؛ فقد قال -رضي الله عنه-: "والله إنا كنا في الجاهلية لا نعد النساء أمراً.. حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم".
وهكذا جاء الإسلام بما يحفظ للمرأة قدرَها بعد أن كانت لا قدر لها، ومن العزة للمرأة في الإسلام أنه لم يأتِ أي من الشرائع الأخرى ولا حتى القوانين المتعددة سواء شرقية أو غربية، لم يأت أي منهم بما جاء به الإسلام..!، وهذا مما يُثير العجب، ويحثنا على التوقف لتأمل حقيقة تلك الدعوات التي ترتقي لمسامعنا من وقت إلى آخر.
تلك الدعوات التي تنادي بحقوق المرأة، حاملةً فوق عاتقها همومَ المرأة، ومحاولةً رفعَ تلك الهموم عن كاهلها، مطالبةً لها بأقصى حقوق المساواة مع الرجل، والحق في المشاركة الكاملة في شتى مناحي الحياة، ومظهرةً مدى الظلم الواقع على المرأة وبشاعة الحال التي هي عليه.
ولكن تثور لدينا بعض التساؤلات:
ما طبيعة وحقيقة تلك الحقوق التي يناودن بها؟
وما مدى المكاسب التي يسعون لتحقيقها للمرأة؟(/1)
وأي امرأة يعنون..؟! أهي المرأة الغربية أم العربية المسلمة..؟ أم المرأة كجنس بشري بعيداً عن أي معتقدات دينية، أو مسميات لأقطار معينة؟
وفي الحقيقة لو كانوا يقصدون المرأة نفسها (سواء غربية أو مسلمة) فهذا بهتان عظيم وطمس للحقائق فمنذ متى كانت الاثنتان سواء..؟!
إنّ لكل منهما مرجعيةً، وبحسب كل مرجعية يتبين مدى الحقوق المشروعة لكل منهما، وعلى هذا يتضح مَن منهما مهضومة القدر، مسلوبة الحق.
فإن الغرب اعتمد على ما تراءى له في تنظيم الحياة، متخبطين بين عدم الالتزام بدينهم وبين شرائع متضاربة ظالمة وضعتها عقولُهم التي استقت مبادئها من المادة التي يؤمنون بها ويلهثون وراءها، فاصطبغت حياتهم بسماتها من جفاء وقسوة، وذلك أدى إلى إفراد الذات بالنظر، والإشباع بلا حدود لمباهج الدنيا كما يتصورونها، حتى لو كانت على حساب الأخلاق، والفضيلة، والحق.
أما المرأة المسلمة فمرجعيتُها التي تنظم حياتها هي من لدن الخالق العظيم، العادل الرحيم سبحانه وتعالى {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2، 3].
فالذي خلق الإنسان هو الأعلم به، وبحاجاته، وقدراته، ولذا كان من عدل الله -عز وجل- أن أنزل المنهج القويم الذي ينظم حياة هذا الإنسان، ذلك المنهج الذي يراعي طبيعة كل من الرجل والمرأة، ويلبي حاجاتهم المختلفة، بما يضمن لهم حياة سوية كريمة، فهل تستوي المرجعيتان..؟! وهل يستوي السبيل الغث مع المنهج القويم والنهج السليم..؟!
وعلى هذا نرى أنه من خلط الأمور، ومن الظلم البين في تلك الدعوات والمؤتمرات التي تعقد لهذا الغرض: أن يضع الغربُ المرأتين في بوتقة واحدة، محاولين صهرهما، ثم يدّعون بأنهم رموز العدالة، التي تطالب بحقوق ومساواة المرأة المسلمة -المغلوبة على أمرها- مع تلك المرأة الغربية -صاحبة كل الحقوق- (كما يزعمون).
وإنَّ هذا الخلطَ يرجع لأحد أمرين أو كليهما:(/2)
أولاً: إما انطلاقاً من رغبتهم الناتجة من حقدهم على المرأة المسلمة، تلك المرأة التي أعياهم الجهد الذي يبذلونه لتدمير حياتها..! وإخراجها من صومعتها بادعاء الحرية في العمل والمساواة مع الرجل، ولننظر إلى أقوال بعض الغربيين -الذين تألموا من انهيار مجتمعاتهم، وحاولوا رصد الحقائق لمعرفة السبب في انهيار الأخلاق لدى الغرب– إذ تقول الدكتورة إيد إيلين: "إنَّ سببَ الأزمات العائلية في أمريكا وسرَّ كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجةَ تركت بيتَها لتضاعف دخلَ الأسرة، فزاد الدخلُ وانخفض مستوى الأخلاق"، وقالت أيضاً: "إنَّ التجاربَ أثبتت أن دعوة المرأة إلى الحريم هو الطريق الوحيد لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه"، وقال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي: "إن المرأة تستطيعُ أن تخدم الدولة حقاً إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة".
ولننظر إلى هذا التناقض بين ما ينادون به لإصلاح بلدانهم، وبين ما يبذلونه من مساعٍ جادة لإخراج المرأة المسلمة من بيتها، حتى تتجرع مرارةَ ما ارتوت به المرأةُ الغربية، وحتى تبلغ بلدانُنا من الانهيار الاجتماعي، والأسري، والأخلاقي، ما بلغته بلدانُهم، يتضحُ لنا من هذا التناقض النياتُ الحقيقية لمثل هذه الدعوات، والمؤتمرات الدولية التي تنادي بحقوق المرأة.
ثانياً: قد تنطلق دعوتهم تلك من جهلهم بعظمة الإسلام، وما جاء به من شريعة غرّاء تُقر للمرأة كل حقوقها منذ أربعة عشر قرناً من الزمان.(/3)
وبإلقاء نظرة سريعة على بعض القطاف من ثمرات الشريعة الإسلامية الغراء للمرأة المسلمة؛ إذ منحها الشرع الكرامة بمجرد ميلادها مثل الرجل، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ...} [الإسراء: 7]، وأقر الإسلامُ ما يحفظ على المرأة حرمة نفسها وعقلها ومالها؛ ففي حرمة النفس قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33]، أما حفظ المال فجعل لها نصيبًا من الميراث، سواء كانت ابنة، أو زوجة، أو أختًا، أو أمًا، وأما احترام عقلها، فيظهر في أمر الله -سبحانه وتعالى- لرسوله الكريم، بالالتزام بالشورى بين المسلمين على السواء، في قوله سبحانه وتعالى: {... وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...} [آل عمران: 159].
أما تلك الدعوة الكاذبة عن المساواة، التي يريدونها للمرأة المسلمة، فأي مساواة أكثر من تلك التي أمر بها الله سبحانه وتعالى.
فقد سوّى الله سبحانه وتعالى بين الرجل والمرأة في الكرامة، ثم في الخلقة والنشأة كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، ثم في الحقوق والواجبات في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، ثم أتى الإسلام بحوافزَ لتشجيع الرجال على احترام المرأة والمحافظة عليها وحسن عشرتها، كما شجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- الإحسان للمرأة في قوله: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، هكذا ربط الرسول الكريم صدق إيمان الرجل وحبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمدى حسن عشرته، ومعاملته مع أهله. فأي غربٍ هذا الذي يمكن أن يأتي بما أتى به الإسلامُ ورسولُ الإسلام من أسوة حسنة في التعامل مع المرأة؟!(/4)
بل نجد أن الإسلام قد كلف الرجل أكثر من ذلك، فأعطى للرجل القوامة تكليفًا لا تشريفًا، تكليف حتى يقوم على رعاية المرأة، ويتفقد احتياجاتها، وأعطاه القوامة في الحياة الزوجية حتى يضمن استقرار البيت كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34].
وكذلك سوّى الله -سبحانه وتعالى- بين الرجل والمرأة في الحساب والمجازاة على العمل كما قال تعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: 195].
فأين أدعياءُ حقوق المرأة في الغرب وغيره من كل هذا الخير الذي حظيت به المرأة المسلمة، في ظل الالتزام بتطبيق الإسلام؟!
بل جاء الإسلامُ حامياً للمرأة محافظاً عليها في جميع مراحل عمرها، من طفولة، وشباب، وهَرَمٍ، سواء كانت ابنة أو زوجة أو أما، فجعل لكل منهن كرامة، وحقا، فجاءت النصوص قرآنية والأحاديث النبوية في الحث على الإحسان إليهن..:
المرأة (ابنة):
جاء الإسلامُ بالثواب الجزيل إذا قام عائل البنت على أداء حقها ورعايتها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من كانت له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فعلمهن وأدبهن واتقى الله فيهن، فله الجنة"، فهل بلغ الغربُ هذا الرقي في الحث على الحفاظ على بناتهن؟!
المرأة (أمًا):
أمر الله سبحانه وتعالى ببر الأم، والإحسان إليها، والتحذير من عقوقها، وهذا للوالدين على السواء، كما في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15].
وقد بلغت وصيةُ الرسول الكريم بالأم إلى أن قال: "الزمها فإن الجنة عند رجلها".(/5)
هذا ما أتى به الإسلام للمرأة الأم، من علو مكانة، وعظم شأن حتى جعلها طريقًا للجنة، فبماذا أتى الغربُ للأمهات المسنات؟ غير إلقائهن في دور المسنات، تلك العدوى غير الأخلاقية التي انتقلت لبلداننا، واقتدى بها أبناؤنا، عندما جفت الرحمةُ من قلوبهم، بعدما ارتووا من المدنية والحضارة الغربية، بكل مساوئها في عصر الجهالة الحديثة، فيا ليتهم كانوا رجعيين مثلما ينعتوننا.
المرأة (زوجةً):
تلك المرحلة التي تتفتح فيها زهورُ الأنوثة، أتى الإسلامُ بما يحافظ عليها ويصونها، من أمر بغض البصر، وعدم اتباع خطوات الشيطان، وعدم الاقتراب من الزنا، وجعل الطريق الوحيد للاستمتاع بالمرأة هو الزواج، تلك العلاقة العفيفة التي تحفظ للمرأة كرامتها، وتحفظ المجتمع من الانحلال الخلقي وآثاره المدمرة.
وقد جعل الله -سبحانه وتعالى- الزواج آية من آياته، وحدد المنهج القويم لحماية المرأة داخل الأسرة، كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
وأقر الله -عز وجل- للمرأة (الحق المعنوي)؛ وذلك في التشاور معها، وأخذ رأيها بأن تنكح برضاها، كما قال الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "الثيب أحق بنفسها من وليها؛ والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها" [صحيح مسلم].
وكذلك حق الصداق، وهو (حق مادي) كما قال تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4].
أما الغرب.. فيتعامل مع المرأة كسلعة، ليس لها كرامة، كما تدل على ذلك الإحصاءات التي تتناولها الصحفُ والدراسات الاجتماعية التي تبين ارتفاعَ نسب قضايا الضرب، والاعتداء، وقضايا الاغتصاب، وكذلك ليس للمرأة ذمة مالية مستقلة –كما للمرأة في الإسلام– بل حياة مدنية مشتركة (أي شراكة بين الزوجين).(/6)
وفي الغرب أيضا.. يقع على المرأة عبءٌ ظالم، فهي مطالبة بالعمل، ومجبرة عليه، حتى تستطيع أن توفرَ لنفسها لقمةَ العيش، وإن لم تستطع فالشارعُ أولى بها، وتصبح سلعة في بيوت الدعارة، حتى توفر لقمتها.
أما المرأة في الإسلام فهي مسؤولة من أبيها، ثم أخيها، ثم زوجها، ثم ابنها، بالقدر الذي يضمن لها حياة كريمة.
والقارئ للسيرة النبوية الشريفة، والعهد النبوي في صدر الإسلام، سوف تتضح له الحقائقُ عن مكانة المرأة في الإسلام، تلك الحقبة التي تمثل أروع المثل لمكانة المرأة المسلمة، وعظم شأنها، ومكانتها، واشتراكها في كل مجالات الحياة، إذ كانت تشارك جنباً إلى جنب مع الرجل في بناء المجتمع المسلم، في الحياة السياسية، والاقتصادية، والجهادية، والاجتماعية، والنماذج على ذلك كثيرة.. منها:
اشتراك المرأة في البيعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والهجرة للحفاظ على دينها، وتحمل مشاقها كالرجل، والمشاركة في الغزوات (كأم عمارة في غزوة أحد)، واشتراكها مع الرجل في التكاليف الشرعية، من عبادات، ومعاملات، وحدود.
هذه هي صورة المرأة المسلمة، المتمسكة بدينها، وشرعها، المساعدة في بناء مجتمعها، العاملة لنهضة أمتها، فهي لم تشكُ مما تشكو منه نساء العالم؛ لأنها لم تفتقر إلى ما افتقرت إليه هؤلاء النساء.
وللإنصاف.. إن كانت هناك بعضُ المشكلات في العالم الإسلامي تجاه المرأة، فهذا يرجعُ إلى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية في كثير من هذه البلدان، أو يرجع إلى الخطأ في التطبيق أحياناً. وهنا نقول: إن الجهود البشرية التي تخطئ ليست حجة على الإسلام، ولكن الإسلام وشريعته هو الحجة على المسلمين، وعلى الإنسانية جمعاء.(/7)
العنوان: المرأة في الحضارة الغربية جنس ثالث في طريقه إلى الظهور
رقم المقالة: 418
صاحب المقالة: مجلة حضارة الإسلام
-----------------------------------------
كتبت الدكتورة بنت الشاطئ في جريدة الأهرام بعنوان ((جنس ثالث في طريقه إلى الظهور[1])) تقول:
((.. شاءت الظروف أن أذهب في عطلة الأحد لزيارة صديقة لي طبيبة بإحدى ضواحي ((فينا)) – بعد اسبوع مرهق قضيناه بين أوراق البردي العربية في دار الكتب – وكنت أحسب أن يوم الأحد هو أنسب وقت لمثل تلك الزيارة، فما كان أشد عجبي حين فتحت لي صديقتي باب بيتها معجلة، وفي يدها ((بطاطس)) تقشره. ثم قادتني في لطف إلى مطبخها لنأخذ مجلسنا هناك.
((ولم يغب عنها ما شعرت به من دهشة. فابتدرتني قائلة:
((ما كنت تتوقعين هذا المنظر: طبيبة في المطبخ يوم الأحد!
((قلت ضاحكة : أما العمل يوم الأحد فربما فهمته وأما اشتغالك بالطبخ مع ما أعرفه من ارهاق مهنتك، فهذا ما لم أنتظره .
((فردت: لو عكست لكنت أقرب إلى الصواب، فالعمل في عطلة الأحد هو المستغرب عندنا. لولا أنه فرصتي الوحيدة لكي أقف هنا حيث ترين. وأما اشتغالي في المطبخ، فلعلي لم أتجاوز به نطاق مهنتي، إذ هو نوع من العلاج لحالة قلق أعانيها وتعانيها معي سيدات أخريات من المشتغلات بالأعمال العامة.(/1)
((ولما سألتها عن سر هذا القلق – مع استقرار الوضع الاجتماعي للمرأة الغربية – أجابت : بأن ذلك القلق لا صلة له بمتاعب الانتقال المفروضة على جيل الطليعة من نساء الشرق! وإنما هو صدى شعور ببدء تطور جديد يتوقع حدوثه علماء الاجتماع والفسيولوجيا والبيولوجيا في المرأة العاملة ، وذلك لما لحظوا من تغير بطيء في كيانها، لم يثر الانتباه أول الأمر لولا ما سجلته الاحصاءات من اطراد النقص في المواليد بين العاملات. وكان المظنون أن هذا النقص اختياري محض، وذلك لحرص المرأة العاملة على التخفف من أعباء الحمل والوضع والارضاع، تحت ضغط الحاجة والاستقرار في العمل. ولكن ظهر من استقراء الاحصاءات أن نقص المواليد للزوجات العاملات ، لم يكن أكثره عن اختيار بل عن عقم استعصى علاجه. وبفحص نماذج شتى منوعة من حالات العقم اتضح أنه في الغالب لا يرجع إلى عيب عضوي ظاهر، مما دعا العلماء إلى افتراض تغير طارئ على كيان الأنثى العاملة نتيجة لانصرافها المادي والذهني والعصبي – عن قصد أو غير قصد – عن مشاغل الأمومة، ودنيا حواء، وتشبثها بمساواة الرجل، ومشاركته في ميدان عمله.
((واستند علماء الاحياء في هذا الفرض – نظرياً – إلى قانون طبيعي معروف ، وهو أن ((الوظيفة تخلق العضو)). ومعناه فيما نحن فيه أن وظيفة الأمومة هي التي خلقت في حواء خصائص مميزة للأنوثة لابد أن تضمر تدريجياً بانصراف المرأة عن وظيفة الأمومة واندماجها فيما نسميه ((عالم الرجل)).
((ثم تابع العلماء هذا الفرض، فإذا التجارب تؤيده إلى أبعد مما كان منتظراً، وإذا بهم يعلنون – في اطمئنان مقرون بشيء من التحفظ – عن قرب ظهور ((جنس ثالث)) تضمر فيه خصائص الأنوثة التي رسختها الممارسة الطويلة لوظيفة حواء.(/2)
((وثارت اعتراضات .. منها: أن كثرة العاملات ينفرن من العقم ويشتهين الولد. ومنها : أن المجتمع الحديث يعترف بالعاملة الأم ويحمي حقها في العمل ، ويتيح لها بحكم القانون فرصة الجمع بين شواغل الأمومة وواجبات العمل . ومنها : أن عهد المرأة بالخروج من دنياها الخاصة لا يتعدى بضعة أجيال، على حين يبلغ عمر خصائص الأنوثة فيها ما لا يحصى من دهور وأحقاب.
وكان الرد على هذه الاعتراضات: أن اشتهاء الزوجة العاملة للولد يخالطه دائماً الخوف من أعبائه ، واشفاق من أثر هذه الأعباء على طمأنينة مكانها في محل العمل.
((ثم أن الاعتراف بالعاملة الأم قلما يتم إلا في حدود ضيقة ، تحت ضغط القانون وما أكثر ما يجد أصحاب العمل فرصتهم لتفضيل غير الأمهات. وأما قصر عهد المرأة بالخروج، فيرد عليه بأن هذا الخروج – على قرب العهد به – قد صحبه تنبه حاد إلى المساواة بالرجل واصرار عنيد على التشبه به ، مما عجل ببوادر التغيير ، لعمق تأثير فكرة المساواة على أعصاب المرأة ، وقوة رسوخها في ضميرها.
((وما يزال المهتمون بهذا الموضوع يرصدون التغيرات الطارئة على كيان الأنثى، ويستقرئون في اهتمام بالغ دلالات الأرقام الاحصائية لحالات العقم بين العاملات، والعجز عن الارضاع لنضوب اللبن ، وضمور الاعضاء المخصصة لوظيفة الأمومة)).
ــــــــــــــــــــــ
[1] راجع كتاب ((جاهلية القرن العشرين)) للاستاذ محمد قطب ص163- 166 .(/3)
العنوان: المرأةُ في ديوان "إلى حوَّاء" للعشماوي
رقم المقالة: 1345
صاحب المقالة: محمد شلال الحناحنة
-----------------------------------------
قراءاتٌ في الأدب السَّعودي المُعَاصر
المرأةُ في ديوان
"إلى حوَّاء"
للشَّاعر: عبدالرَّحمن صالح العشماوي
المرأةُ.. تلك الإنسان العظيمةُ التي كرَّمها اللهُ ورسولُه -صلى الله عليه وسلم- فأصبحتْ بالإسلام في منزلةٍ فاضلةٍ ساميةٍ؛ حيث أمرنا الله بإكرام النِّساء؛ فقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} [النساء:19]، وقال، صلى الله عليه وسلم: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ))[1].
هذه هي المرأةُ في إسلامنا..
فماذا نجدُ عن هذه المرأةِ الصَّالحةِ في شِعْرنا الإسلاميِّ؟!
شاعرُنا د. عبدالرَّحمن صالح العشماوي يقطِفُ لنا باقاتٍ نَدِيَّةً، منَ الصُّوَر العَطِرة لهذه المرأةِ، في ديوانه (إلى حوَّاءَ)، الصادرِ قبل سنواتٍ قليلة. وعموماً؛ نرى أنَّ المرأةَ في ديوانه تسيرُ في اتِّجاهَيْن متضادَّيْن:
* المرأةُ الصَّالِحةُ الملتزِمةُ بدِينِها، التي تَفوحُ بشَذَى التَّقوى والتَّضحية والوفاء والإخلاص، وهي تمثِّلُ المرأةَ الإسلاميَّةَ، الحيَّةَ بفِكْرِها ورُوحِها.
* امرأةُ السُّوءِ الشَّقيَّةُ، البعيدةُ عن ربِّها، التي تَتَرَهَّلُّ بالكِبْر؛ فتلهَثُ خلف صِرَاعات (المُوضَة)، وتَتَلَوَّى تحتَ سِياطِ الحَسَد والغِيبَة والنَّميمة، فتعيشُ في فوضى وشقاءٍ!!.
تُقرِّبُنَا قصيدتُهُ (وفاء) إلى جوٍّ مُشْبَعٍ بالحَنِين، فنَعْشَقُ أحلامَنا النَّشْوى، ونَذْكُرُ طفولَتَنا الغَضَّة؛ حيثُ نعانقُ الأمَّ بكلِّ دِفْئِها، نسترخي بهدوءٍ في حُضْنِهَا..
إنها الأمُّ المسلمةُ، الحنونُ، الهادئةُ...
إنها دَرْبُنَا إلى الجنَّة؛ ألم يَقُلْ المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأُمَّهَاتِ))[2]؟(/1)
هذه الأمُّ القائدةُ إلى السُمُوِّ نتهجَّى خَطْوَهَا عند شاعرِنا العشماويّ؛ فنجدُ أنَّ سِرَّ الهُدَى يَكْمُنُ في صَدْرِها.
رَأَى حَنَانَ الْخُلْدِ فِي خَطْوِهَا وَذِكْرَهَا يَسْمُو عَلَى ذِكْرِهِ
وَفِي تَرَانِيمِ ابْتِهَالاتِهَا صَدًى يَفُكُّ الدَّمْعَ مِنْ أَسْرِهِ
كَأَنَّمَا سِرُّ الْهُدَى كَامِنٌ وَقَدْ طَوَاهُ الْلَّيْلُ فِي صَدْرِهِ
تَبْتَهِلُ القصيدةُ إلى شيءٍ من الكَشْف؛ لتَسْتَمْطِرَ دهشةَ الشِّعْر القابض على الوَعْد؛ وَعْدُ الهدى، وأسرارُ ليل المُخْبِتِين.
إنها الأمُّ المسلمة... وهل هناك امرأةٌ أعظمُ وأصدقُ تضحيةً منها؟
وتتألَّقُ القصيدةُ باستعاراتها وتشبيهاتها، مقتربةً من سلوكيَّات الشِّعْرِ الإسلاميِّ النَّابضِ المتوهِّجِ بالإيمان، فاتحةً منابعَ الطُّهْر:
أَبِي، وَقَدْ سِرْتَ بَعِيدَ المَدَى وَهَلْ يُرَدُّ المَرْءُ مِنْ قَبْرِهِ؟
لَيْتَكَ تَصْحُو -يَا أَبِي- سَاعَةً لِكَي تَرَى الإِخْلَاصَ فِي قَدْرِهِ
لِكَي تَرَى أُمِّي عَلَى عَهْدِهَا تُرْضِعُنَا الإِيمَانَ مِنْ نَهْرِهِ
هذه المعاني القريبةُ العميقةُ هي معاني الأمومةِ الحقَّةِ عند شاعرِنا عبدالرَّحمن العشماوي؛ ذلك لأنَّه المسلمُ الشَّامخُ بإيمانه، الذي تَربَّى على التُّقى، فيستقي من هذه الأمومةِ ذِكْراهُ وإخلاصَهُ وأشواقَهُ، تُغَذِّيهِ بحَلِيب الوفاء، وتُوقِظُ في قلبهِ مشاعرَ المحبَّة والحنان.
هذا النَّموذجُ الفَذُّ منَ الأُمومة يتكرَّر عند شاعرِنا، ويستقصي مشارِبَهُ في كثيرٍ من قصائده في هذا الدِّيوانِ.
فنرى شُعْلَتَهُ تتأجَّجُ في قصيدته (دمعةٌ على سمَّاعة الهاتِف)، ونَحْشُدُ أنْفُسَنا لحَنِينٍ لا يَنْضُبُ في قصيدة (ينابيع الحنان)، ونَهْفُو إلى أملٍ شاهقٍ، يَتجلَّى بكلِّ رَوْنَقٍ وبهاءٍ في قصيدة (نبعٌ من الرِّضى):
يُؤَنِّبُنِي فِيكِ الضَّمِيرُ لأَنَّهُ يَرَى أَنَّ شِعْرِي فِيكِ لَمْ يَبْلُغِ الْوَصْفَا(/2)
وَذَلِكَ حَقٌّ، لَوْ وَقَفْتُ قَصَائِدِي وَكُلَّ كِتَابَاتِي عَلَيْكِ لَمَا وَفَّى
فُؤَادُكِ يَا أُمَّاهُ نَبْعٌ مِنَ الرِّضَى سَقَيْتِ بِهِ نَفْسِي وَبارَكْتِهِ أَلْفَا
أَرَى تَحْتَ رِجْلَيْكِ الجِنانَ وَقَدْ غَدَتْ حَصَى الأَرْضِ فِي عَيْنِي بِها ذَهَباً صِرْفَا
هذه الأمُّ الرائعةُ تملأ النفسَ آمالاً وسكينةً، لتَفِيض الأرجاءُ بمشاعر الصَفْوِ والرِّضا.
إنها الأمُّ، السَّخيَّةُ، التي باركتْها السَّماءُ، وهي فوقَ العادة، وفوقَ الوَصْف، والشَّاعرُ يشدو لهذه الأمِّ بعباراتٍ شائقةٍ تَقْطُر عذوبةً، ومعانٍ ساميةٍ تَفتَح جنَّاتِ الشَّوق والمحبَّة.
أما النقيضُ الآخَرُ؛ فهو صورةُ المرأة الدُّمْيَة، المرأة العاصيةُ ربَّها، المُتَشَبِّثَةُ بالقُشور، التي خَلعتْ ثوبَ الفضيلة والحياء، مُقلِّدةً المرأةَ الغربيَّةَ التَّائهةَ في سراديب الحياة!
يحاورُ شاعرُنا هذه المرأةَ في قصيدته: (ضدِّان يا أُختاهُ) فيسألُها: من أين أنتِ؟ -حين رأى تبذُّلَها وزِيَّها الإفرنجيَّ الفاضحَ- فتُجيبُهُ بكل صَلَفٍ ورُعُونَةٍ:
عَرَبِيَّةٌ! حُرِّيَّتِي جَعَلَتْ مِنَّي فَتَاةً مَا لَهَا نِدُّ
أَغْشَى بِقَاعَ الْأَرْضِ ما سَنَحَتْ لِي فُرْصَةٌ، بِالنَّفْسِ أَعْتَدُّ
عَرَبِيَّةٌ، فَسَأَلْتُ: مُسْلِمَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلِخَالِقِي الْحَمْدُ
فَسَأَلْتُهَا وَالنَّفْسُ حَائِرَةٌ وَالنَّارُ فِي قَلْبِي لَهَا وَقْدُ:
مِنْ أَيْنَ هَذَا الزِّيُّ؟ مَا عَرَفَتْ أَرْضُ الْحِجَازِ! وَمَا رَأَتْ نَجْدُ؟!
هَذَا التَّبَذُّلُ يَا مُحَدِّثَتِي سَهْمٌ مِنَ الإِلْحَادِ مُرْتَدُّ!(/3)
هذا الحوارُ الصَّادقُ يمورُ بالوَجَع والأسى لما آلَتْ إليه بعضُ النِّساء المسلمات! إنها بَهْرَجَةُ الحريَّة الغربيَّة المزيَّفة، التي أدخلتِ المرأةَ في متاهات الضَّلال والفِسْق والانحلال، ولو كانتِ المرأةُ العربيةُ مسلَّحةً بالإسلام قَوْلاً وعملاً، متفيِّئةً ظلالَ الإيمان؛ لَمَا انحرَفَتْ في فِكْرِها، ولسَلِمَتْ من وَباء التَّقليد والازْدِوَاجِيَّة في الشَّخصيَّة.
إنَّ الشاعرَ عبدالرَّحمن العشماوي يغوصُ إلى جزئيَّات مَضامينه في هذه القصيدة بـ(حِوَارِيَّةٍ) تتَّكِئُ على إشْرَاقَةِ الوَعْيِّ الإسلاميِّ الناضجِ لِما يُحَاكُ للإسلام وأهلِه، عبر التَّسلُّل إلى عقل المرأة؛ لطَمْسِه بالأفكار العَدائيَّة الدَّخِيلَة.
إنَّ إفساد المرأة خطَّةٌ خبيثةٌ لإفساد المجتمع الإسلاميِّ، وهذا ما تَسعى إليه جاهدةً الدوائرُ الصَّلِيبِيَّةُ والإلْحَادِيَّةُ والصُّهْيُونِيَّةُ؛ لتحطيم البِنْيَةِ الإسلاميَّةِ، لا قدَّر اللهُ.
إنَّ عبدالرَّحمن العشماويَّ يطرِّز أناشيدَهُ الصَّافيةَ بنَفْسٍ مُفْعَمَةٍ بالإخلاص، إخلاصِ المسلم الحيِّ، بقَلْبِه ورُوحِه، وشفافيةِ المؤمنِ المُتَّصِل بربِّه دائماً، فالحياةُ دونَ الرُّكُونِ إلى هذا الرُّكْنِ العظيم، دونَ التَّوَكُّل عليه -جلَّ وعلا- هي حياةٌ مرعبةٌ ومُوحِشةٌ ومُهْلِكةٌ لصاحبِها:
أُخْتَاهُ.. يَفْقِدُ هَذَا الْكَوْنُ مَعْنَاهُ لَوْلا رِضَانَا بِمَا يَقْضِي بِهِ اللهُ
أُخْتَاهُ.. يَا شَمْعَةً لِلْعَطْفِ مُوقَدَةً وَيَا نَشِيداً فَمُ الإِخْلاصِ غَنَّاهُ
إِذَا وَصَلْنَا بِرَبِّ الْكَوْنِ أَنْفُسَنَا فَمَا الَّذِي فِي حَيَاةِ النَّاسِ نَخْشَاهُ؟!
أمَّا الحُبُّ عند شاعرِنا؛ فهو حُبٌ طاهِرٌ عفيفٌ، والمرأةُ التي يُحِبُّها هي امرأةٌ جادَّةٌ وفيَّةٌ، ملتزِمةٌ بما يُرْضِي اللهَ:
أَقَمْتُ عَلَى أَرْضِ الْعَفَافِ مَحَبَّتِي فَمَا أَبْتَغِي غَدْراً، وَمَا أَرْتَضِي!(/4)
إنَّه في حُبِّه لا يعرفُ الغدرَ، ولا يرتضي غيرَ المعروف، والحبُّ عندهُ حُبٌّ تَقودُهُ الشَّريعةُ، ويُقوِّي عُرَاهُ الطُّهْرُ والصِّدْقُ، وهو بعيدٌ كلَّ البُعْد عن آثامِ الشُّعراء المتخبِّطِينَ غيرِ الملتزِمِينَ.
والمرأةُ التي تقرِّبُهُ منها هي امرأةٌ داعيةٌ إلى الله، في سلوكِها، وقولِها، وعفافِها، وزيِّها، امرأةٌ رُوحانيَّةٌ بكلِّ معنى الرُّوح:
حُبِّي الطَّاهِرُ أَسْمَى هَدَفاً فَأَعِيذِيهِ بِرَبِّ الْفَلَقِ
شَهِدَ اللهُ عَلَى عِفَّتِهِ وَعَلَى الطُّهْرِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ
أليسَ هذا حُبُّ الرُّوح بكلِّ عُمْقِها وشَذَاهَا؟! حُبٌّ لا يُنَاوِشُهُ زَيْفٌ أو مصلحةٌ دنيئةٌ، حُبٌّ يَزُفُّ قصائدَ العَفَاف، ويُرْسِلُ الشِّعْرَ معنًى جميلاً:
مَعْنَاكِ عِنْدِي مِثْلَ مَعْـ ـنَى الرُّوحِ -عُمْقاً- أَوْ يَفُوقُ
كُلُّ الْمَعَانِي الزَّائِفَا تِ لِمِثْلِ قَلْبِي لا تَرُوقُ
إنَّ لذَّةَ الطُّهْر في حُبِّه لا تُعادِلُها لذَّةٌ، ذلك لأنَّه شاعرٌ سامٍ بأخْلاقِهِ، مخلِصٌ لمبادِئِهِ، سَوِيٌّ في تفكيره، نقيُّ الهوى والسَّريرَة، شاعرُ القِيَم والمُثُل العُلْيَا، شاعرُ الدَّعوةِ بكلِّ نبضاتِها وحركاتِها:
وَهَلْ يَكُونُ الْحُبُّ ذَا قِيمَةٍ إِذَا خَلا مِنْ لَذَّةِ الطُّهْرِ؟!
تُرى؛ أين هذه (الأُستاذيَّة) الأخلاقيَّة المتفوِّقة في الحبِّ من عُهْرِ (نِزار قبَّاني) وأشباهِه؟!! فلا وجهَ مقارنةٍ بين شاعرٍ ماجنٍ عاصٍ لربِّه، منحرِفٍ في سلوكِهِ ومبادئهِ وأخلاقِهِ، وشاعرٍ ملتزِمٍ بدِينه، وفي إسلامه رفيعُ الهِمَّة، وصادقُ الوَعْد.
إنَّ حُبَّ عبدالرَّحمن العشماوي حُبُّ الشُّموخ، وحُبُّ العَطاء والأَنَفَة، إنَّه حُبُّ الرُّجولة الحقَّة، والعِفَّة الطَّاهِرَة، إنَّه حُبُّ الإخلاص بكلِّ معانيه وألوانه النَّقيَّة:
يَا وَرْدَةً مَا اسْطَعْتُ أَلْمِسُهَا أَخْشَى بَأَنْ يُفْسِدَهَا اللَّمْسُ(/5)
لِلطُّهْرِ فِي أَعْمَاقِنَا أَلَقٌ يَسْمُو بِنَا وَلِجُرْحِنَا يَأْسُو
لَوْ أَنْطَقَ اللهُ الْحَصَى حَكَمَتْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ مَا بِهَا بَأْسُ
طُهْرٌ وَإِخْلاصٌ فَإِنْ صَدَقَا فَالْحُبُّ فِي لَيْلِ الأَسَى شَمْسُ
وبعدُ؛ فهذا هو عبدُالرَّحمن العشماوي؛ صوتٌ نقيٌّ تقيٌّ يَسْكُنَنَا، هذا هو وَارِفاً بأناشيد العصافير، قَرِيباً إلى الرُّوح بكلِّ شَغَفِ الهُدَاةِ إلى الله، القابضينَ على نور المحبَّة والإيمان[3].
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] حسن صحيح، صحيح الترغيب والترهيب: 1924.
[2] لا أصل له، كما في تعليق الألباني عليه في كتاب "حقوق النساء في الإسلام"، لمحمد رشيد رضا. وقال في السلسلة الضعيفة؛ معلقاً على الحديث 593:
ويغني عن هذا حديث معاوية بن جَاهِمَةَ: (أنه جَاءَ النبيَّ -صَلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ، وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ؟
فَقَالَ: [هَلْ لَكَ أُمٌّ ؟].
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: [فَالْزَمْهَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا]).
رواه النسائي 2/ 54، وغيره؛ كالطبراني 1/ 225/ 2. وسنده حسن، إن شاء الله، وصححه الحاكم 4/ 151، ووافقه الذهبي، وأقره المنذري 3/ 214. اهـ.
[3] نحسبه كذلك، ولا نزكيه على الله، عز وجل.
التعليقات من الموقع.(/6)
العنوان: المرأة والأعمال العامة
رقم المقالة: 1835
صاحب المقالة: د. محمد محمد حسين
-----------------------------------------
المرأة والأعمال العامة
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعدُ..
زَعَمَ أعداءُ المرأة المُتظاهِرون بالدِّفاع عنها بعد أن أخرجوها من بيتها، الذي زعموه سجنًا وسمَّوْا ذلك تحريرًا، أن حريتها لا تكمُل إلا بمنحها حقَّ العمل مع الرجل سواءً بسواء، وتسَرَّبَتِ المرأة إلى ميادينَ محدودةٍ منَ العمل في مصر بعد الحرب العالمية الأولى، وكان الذي يَجْرِي في تركيا بعد الانقلاب الكمالي يُشجِّع على ذلك، ويُعِين عليه، باعتباره وجهًا من وجوه النهضة؛ كما يزعمون، ثُمَّ استفحل الأمر بعد الحرب العالمية الثانية فأُقْحِمَتِ المرأة على كُلِّ ميادين العمل بلا استثناء، وشاركَتْ في الحكم وفي التشريع إلى أعلى درجاتِهِما، بعد أن مُنحتْ حقَّ المشاركة في الانتخاب، وفي تمثيل الشعب في المجالس النيابية، وتولَّتِ الوزارات، ولم يلبث هذا التقليد أنِ انتشر في كثير من البلاد العربية، واتَّخذ شكل الطفرة المفاجِئة، والانقلاب الأهوج في بعضها، وراحتْ بَقِيَّة البِلادِ الَّتي لم تلحقها الموجة تُعانِي من صَدّ تيَّارها الطاغي في مواجهة الزَّاحِفين.(/1)
ويستطيع الدارس المتأمِّل أن يرى بوضوح في كل ما يجري أن المرأة لا تُوضَع حيث تدعو الحاجة - صحيحةً كانت أو مزعومةً - إلى أن توضع؛ ولكنها توضع لإثبات وجودها في كل مكان، ولإقحامِها على كل ما كان العقل والعُرْف يُنادِي بِعَدَمِ صلاحِيَتِها له؛ فليس المقصودُ بِتَوْظِيفِها سدَّ حاجة موجودة؛ ولكن المقصود هو مخالفة عُرْفٍ راسِخ، وتحطيمُ قاعدةٍ مُقَرَّرة، وإقامة عُرف جديد في الدين وفي الأخلاق وفي الذَّوق، وخَلْقُ المبررات والمقوِّمات التي تجعل انسلاخنا من إسلامنا وعُروبتنا أمرًا واقِعًا؛ كما تجعل دُخُولنا في دين الغرب ومذاهب الغرب وفسق الغرب، أمرًا واقعًا كذلك.
والحُجَّة الأولى عند أنصار هذه الدعوة: أن المرأة نصف المجتمع، وأننا حين نَحْرِمُها من العمل نُعطِّل نصف القُوَى العاملة.
والحُجَّة باطلةٌ من وجهين:
أحدهما: أنَّها قائمة على افتراض أنها لا عمل لها في البيت يَشغَل كلَّ وقتها، وهو غير صحيح.
وثانيهما: أنَّ حُجَّتهم لا تقوم إلا بعد أن نقضي على البِطالة في الرجال قَضاءً كاملاً، وإذا قُلْتُ: البطالة، فالمقصود بها البطالة في كل صورها الصريحة والمُقنَّعَة، والبطالة المُقَنَّعَة أكثر انتشارًا من البطالة الصريحة، وأبرزُ صُوَرِها زيادة العِمالة عن حاجة العمل الحقيقية، والاشْتِغال بالأعمال التافهة، واحتراف الحِرَف غير المفيدة؛ بل الضارَّة في كثير من الأحيان، والإهمال أو التراخي في القيام بواجبات الوظيفة، أو الانزواء وتَرْك العمل جُمْلَة؛ اعتمادًا على وجوه للرزق ضيقة أو واسِعة، تجئ بغير عمل من طريق الصَّدقات، أو الأُعْطِية، والإعانات.(/2)
ومنَ المُغالطات المشهورة التي ابتدعها قاسم أمين، وتابعه فيها كثير من الناس أنهم يقولون: إنَّ بين النساء نابِغاتٍ، وبينهن عانِسات، وبينهن مَنْ فَقَدَتِ الزَّوج والعائل، فلماذا لا يُشارك هؤلاء في الأعمال العامَّة في الحياة؟ والواقِعُ أنَّ الإسلام لم يُنْكِرْ على المرأة حقَّها في السَّعْي الشريف لِلرّزق إنْ دعتها إلى ذلك ضرورة، فالإسلام سَمْحٌ، وقد أباح للضرورة أشياءَ كثيرةً، حتى الميَتْة ولحم الخنزير وما أُهِلَّ به لغير الله، فرَفَع الإِثْم فيها عنِ المضطر في أكثر من موضع من القرآن الكريم: [البقرة: 173] – [المائدة: 3] – [الأنعام: 145] – [النحل: 115]؛ بل رفع الإثْمَ عَمَّن أُكْرِه على الكُفْر، وقلبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان [النحل: 116]، واشتراك مَنِ اشترك من المُسلمات في الجهاد، مِمَّن يَتَصَيَّدُونَ أسماءَهُنَّ في كُتُب التاريخ، هو من باب الاستثناء الذي تدعو إليه الضرورة، وهو في كل الأحوال لا يتجَاوَز حدود الأعمال التي تُلائِمُ المرأة؛ كالتَّمريض؛ والخدمة خَلْفَ صفوف القتال، ومصدر الخطأ والخَلْط في ذلك كله ناشِئ عن وضع الاستثناء والشذوذ موضعَ القاعدة والأصلِ من ناحية، واتخاذ أعمال الأفراد حُجَّة على الشرع نفسه من ناحية أخرى.(/3)
ومن أكْبَر ما يَشْغَلُ المُتزعّمينَ لهذه القضيَّة الخاسرة -: أنَّهم يجعلون أكْبَر همِّهم مصروفًا إلى إثبات أنَّ المرأة تستطيع القيام بأعمال الرِّجال، وأنها إنسان مثله لا فرق بين عقلها وعقله، ويُجْهِدونَ أَنْفُسَهم في حصر الأمثلة التي تُؤَيِّد زعمهم مِمَّن نَبغ من النساء في مختلِف العصور, من المسلمات وغيرِ المسلمات، وهو من الشذوذ الذي يُراد وضعه موضع القاعدة؛ وليس هو في كل حال لُبَّ المشكِل وصميمَهُ، ولا هو بالمقياس الصحيح في تقدير الخطأ والصواب في هذا الأمر؛ ولكن لُبَّ المشكِل وصميمَهُ هو: هل يؤثر اشتغال المرأة بعمل الرجل على إتقانها لعملها النَّسَوِيِّ الأصيلِ؟
من الواضح أنَّ عمل الأنثى الأول الذي خُلقت له هو النَّسْل، وحفظ النوع؛ لأن تركيب الذُّكْران العُضْويَّ لا يسمح لهم بحمل الجنين ولا بإرضاعه، وليس عَبَثًا أن خَلَقَ الله الذكر والأنثى، ومن الثابت أن إرهاق المرأة بالعمل يترك أثرًا في مِزاجها وفي أعصابها، ومن الثابت أيضًا أن هذا الأثر ينتقل إلى جنينها في حالة الحمل؛ كما ينتقل إلى طفلها في حالة الإرضاع؛ بل إن بعض عُلماء الوراثة يتحدثون عن وراثة الصفات، والأعراض الطارئة والغريبة على الأب والأم كليهما من آثار المُخالطة في أثناء العُلوق والحمل.(/4)
ثُمّ إن المرأة مُحْتَاجَة بعد ذلك إلى أن تُوَفَّر لها الفرصةُ الكاملة؛ لمُلازَمَةِ طِفْلِها مُلازَمَةً تسمح بأن يُصْنَع على عينها جسمًا وعقلاً وخُلُقًا؛ لكي تَغرس فيه العادات الفاضلة، وتُجَنِّبَهُ ما قد يَعْرِضُ له أو يطرأ عليه من عادات قبيحة، ومثلُ هذا لا يَتَأَتَّى بالأمر أوِ النهي مرَّة أو مرَّات؛ ولكن لا بد فيه منَ المُراقبة الدائمة والإشراف القريب على تَكرار الفعل حتَّى يَرْسَخَ في نفسه، واليقظة على الزجر مرة بعد مرَّات عن بعض الأفعال الأخرى، حتَّى يُحالَ بَيْنَها وبَيْنَ الرُّسُوخ في نفسه، وذلك كله لا يُغْنِي فيه الخَدَم، ولا دُورُ الحضانة غَناءَ الأم؛ لأن الإخلاص فيه والحِرْصَ على ابتغاء الكمال مِنْ كل وجه لا يتوَافَر في أحدٍ توافُرَهُ في الأُمّ.
والقَوْل بأنَّ كُلَّ صلة الأم بولدها تَنْحَصِر في الحمل والوَضْع، هو نُزولٌ بِالإنسان إلى مَرْتَبَةِ الحيوان؛ فالإنسانُ يَمتازُ بِطُول حضانَتِه لأَولاده، وهي حضانة لا تنحصر في توفير الغذاء والحماية؛ كما هو في سائِرِ الحيوان؛ ولكنَّها حضانة خُلُقيَّة وعقليَّة أيْضًا في الإنسان، وذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ الأسبابِ في تَقَدُّم البَشَرِيَّة؛ لأنه يُورِّثُ الجيل التاليَ تجارِبَ الأجيال السابقة, بِما يمكنه من مُتابعة الشَّوْطِ، وتوفير الوَقْتِ والجهْدِ الَّذِي يَضيع في تَكرار التجرِبة.(/5)
وَلَوْ شِئْنا لقُلْنَا - بعد ذلك كُلِّه لأَعْدَاءِ المَرْأَةِ وأَعْدَاء أنفُسِهم، مِمَّنْ جَرَى عُرْفُ الصُّحُفِ والكُتَّاب في هذه الأيَّام على تَسْمِيَتِهِم "أنصار المرأة" -: إن المرأة لا تصلح للكَدِّ وممارسة الأعمال العامَّة صلاحيةَ الرجل؛ لأنها بحُكْم تكوينها تَحيضُ أُسْبُوعًا في كُلِّ شهر، وهي حالة تَكاد تكونُ مَرَضًا عند بعض النساء، تُخْرِجها عن مألوف عاداتها، وهي بعد ذلك إن حملت ظلَّت تُعانِي في الشهور الأولى من حالة "الوَحَمِ"، وما يلازمه من أسقام، ثُمَّ إنها تعانِي في الشهور الأخيرة من ثِقَلِ الحَمْل، الَّذي يُقَيِّد حركاتِها حتى يكاد يَشُلُّها، فإذا لم تكنِ المرأة العاملة متزوِّجَةً كانت مشغولةً بالبحث عن الزوج، مُعرَّضَةً للزلل، والتفريط عند كل بارقة من الأمل في الظَّفَرِ به، وهي لا تعدِل عن ذلك، ولا تنصرف عنه، إلا لعلَّة قد تكون شرًّا من البحث عن الزوج وأخْطَر.
ثُمَّ إنَّ حياتَنا الحديثة تقوم في كل شؤونها، ومختلِف نواحيها على التخصُّص الدقيق الذي يُتِيحُ دِقَّة المَعْرِفة، وحِذْق المرانة لكل عاكف على فرع بعينه، والتربية الحديثة تُحاوِل أن تكتشف مواهِبَ الأطفال والصِّبْية؛ لتُوجِّه كلاًّ منهم فيما يُلائم استعداده وتكوينه، فلماذا نُطَبِّق هذين المبدأينِ - التخصُّص والعمل المناسب - في كل شيء، ونَأْبَى تطبيقَهُما في الرجل والمرأة!(/6)
ويستطيعُ كُلُّ ذي لُبٍّ وبصيرة أن يدرك آثار الفشل الذي حاق بتجارِب المجتمع الأوروبي والأمريكي في هذه الناحية، مع أن هذه الآثار لم تبلغ بعدُ منتهى مَدَاها، ولا يزال سائر عقابيلها في الطريق؛ فهذا الجيل من التائهينَ والضائعينَ، المُحَطَّمي الأعصاب، والمُبَلْبَلِي الأفكار، والقَلِقِي النفوس، وهذه النسبة الآخذة في الارتفاع – حَسَبَ إحصاء الغربيين أنفسِهم - للانحراف والشذوذ بكل ضروبه وألوانه، هذه الظواهر كلها هي من آثار التجرِبة التي خاضَها الغرب في المرأة؛ لأنَّ هؤلاء جميعًا هم أبناء العاملات والمُوظَّفات، الذين عانَوْا من إرهاق أُمَّهاتهم وهم في بطونِهنَّ، ثُمّ تعرضوا لإهمالِهِنَّ بعد أن وضعنهم، ثم لم يجدوا ما يردعهم عما تدعوهم إليه النفس من شَطَط، في ظل الأجواء التي تُقدِّس الحرية في كل صورها دون حدود، وقد كان هتلر على حقٍّ حين هداه تفكيره إلى حلِّ كثير من مشاكل مجتمَعِهِ الألماني عن طريق عودة المرأة إلى البيت.
والعجيب من أمر هذه القضيَّة المَوْهُومة أن المرأة لم تقم فيها بالخطوة الأولى، ولم تحمل أعباءها فيما تلا من خطوات، ولكن الرجال هم الذين قاموا بهذا العِبْء من بدئه حتى نهايته ولا يزالون؛ بل هم يُعارِضُون الآن أشدَّ المعارضة ما يُبْدِيهِ بعض العقلاء من الدعوة إلى مراجعة التجرِبة الفاشلة، وعودة المرأة لميدانها الأصيل وهو البيت، ويهاجمون الداعين إليه والداعيات أشدَّ المُهاجَمَة، ويطلقون على الدعوة - استخفافًَا بعقول الناس - (العودة إلى عصر الحريم):
والقائمون بذلك والمتحمِّسون له أحد شخصينِ:
مَفْتُون بحضارة الغرب، أعمتْهُ الفتنة عنِ اكتشاف عيوبِها، ثُمَّ لم يَعْصِمْه إيمانٌ يَشْرَحُ اللَّه معه صدره للإسلام وتشريعه.
وطالِبُ مُتْعة من غير وَجْهِهَا الحلال وطريقِها المشروع، لا يريد أن يَحْرِمَ نفسَهُ متعة الحديث والنظر، والأُنس والسمر، ولا أجاوز ذلك إلى ما وراءه.(/7)
والظلم في القضية كلها حائِقٌ بالمرأة، كانت رَيْحانَةً تُشَمُّ، فأصبحت مشكِلاً يتطلب الحلَّ، وكانت عِرْضًا يُصان، وأمانة تُحْفَظ، فأصبحت عِبْئًا يَضيق به الأبُ والأخُ، ويتحتَّم معه على المرأة أن تَعْمَلَ لِتَعِيش، وماتَتِ المُروءَةُ الَّتي كانت تدفع إلى القِيام بِحَقِّها، والغَيْرَةُ الَّتي كانتْ سَببًا في المُحَافَظة عليْها، وأصبح القانون يُلْزِمُها بالعمل في النظام الشيوعي، وأصبح الواقع يُلْزِمها به في النظام الليبرالي، وأصبحتِ التي لا تعمل لا تجد اللقمة ولا تجد الزوج، ولئِنْ كانتِ المرأةُ الَّتِي خاضَتْ مَعْرَكَةً ظَفِرَتْ فيها بحق العمل، فما أظن أن الوقت يطول قبل أن تخوض معركة أخرى أشقَّ وأصعَبَ للظفر بحق العودة للبيت.
وقد لا تكون هناك نصوص صريحة في القرآن أو السنة تَمْنَعُ المرأة من العمل في خارج البيت؛ لكَسْبِ عَيْشِها حين تدعو إلى ذلك ضرورة؛ ولكن من المؤكَّد أنَّ اتخاذ هذه القاعدةِ أصلاً من أصول التنظيم الاجتماعيِّ يُخَالِفُ رُوح الشريعة، ويُناقِض كثيرًا من نصوصها، ويتعارَض مع كثير من شرائعها وحدودها تعارُضًا صريحًا؛ فهو يدعو إلى إعادة النَّظَر في التشريعات الإسلامية الَّتي تتعلَّق بقِوَامَةِ الزوج وبالميراث وبالنفقة؛ لأنها جميعًا مَبْنِيَّة على أنَّ الرجل هو الذي يعمل، وهو المكلَّف بالإنفاق، ويجب أن يكون واضحًا أن قِوامة الرجل على المرأة لا تقتضي تفضيله عليها في الدين أو الدنيا؛ ولكن هذه القِوَامَة قاعدةٌ تنظيميةٌ تستلزمها هندسةُ المجتمَع واستقرارُ الأوضاع في الحياة الدنيا، ولا تَسْلَمُ الحياة في مجموعها إلا بالْتِزَامِها، فهي تُشبه قِوَامة الرؤساء وأُولِي الأمر، التي لا تستلزم أن يكون الرؤساء أفضلَ من كلِّ المحكومين؛ ولكنها مع ذلك ضرورة يَستلزمها المجتمع الإنسانيُّ، ويأثم المسلم بالخروج عليها، مهما يكن من فضله على وَلِيِّ الأمر في العلم، أو في الدين.(/8)
والسلام عليكم ورحمة الله.(/9)
العنوان: المرأة.. والسلم الدولي
رقم المقالة: 929
صاحب المقالة: أسماء عبدالرازق
-----------------------------------------
جاء في التقرير الختامي للمؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم، الذي انعقد في نيروبي بكينيا عام 1985م، وعرف باسم: (استراتيجيات نيروبي المرتقبة للنهوض بالمرأة)؛ جاء فيه:
"مهمةُ صون السلم العالمي، وتفادي وقوع كارثة نووية، من أهم المهام التي ينبغي للمرأة أن تضطلع بدور فيها، لا سيما بتأييدها الفعال لوقف سباق التسلح، الذي يعقبه تخفيض انتشار الأسلحة، وتحقيق نزع السلاح العام الكامل، في ظل رقابة دولية فعالة، وبذلك تساهم في تحسين وضعها الاقتصادي"[1].
"وينبغي تشجيع المرأة على تلقي دراسات جامعية في نُظُمِ الحُكْمِ والعلاقات الدولية و(الدبلوماسية)، وتقديم الدعم المادي لها؛ كي تتمكن من الحصول على المؤهلات الفنية؛ اللازمة للعمل في الميادين المتصلة بالسلم والأمن الدوليين"[2].
أما تقرير المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة، الذي انعقد في بكين بالصين عام 1995م، فقد نص على أنه:
"في عالم يتسم باستمرار عدم الاستقرار والعنف؛ ثمة حاجة ملحة إلى تنفيذ نُهُج تعاونية تجاه السلم والأمن، ووصولِ المرأة إلى هياكل السلطة، ومشاركتِها الكاملة فيها تماماً مثل الرجل، ومشاركتِها الكاملة في جميع الجهود التي تبذل من أجل منع المنازعات وتسويتها، كلها أمور أساسية لصون وتعزيز السلام والأمن.
ومع أن المرأة بدأت تؤدي دوراً هاماً في حل النزاعات، وحفظ السلام، وفي آليات الدفاع والشؤون الخارجية؛ فإنها ما زالت ممثَّلةً تمثيلاً ناقصاً في مناصب صنع القرار.
وإذا أريد للمرأة أن تنهض بدور مساو لدور الرجل في تأمين السلم وصيانته؛ فيجب تمكينُها سياسياً واقتصادياً، ويجب أن تكون ممثلة على جميع مستويات صنع القرار تمثيلاً كاملاً"[3].(/1)
صدِّقْ أو لا تصدق أن الذين أَمّوا هذين المؤتمرين هم مختصون وخبراء! وأن جُلَّهم من العالم المتحضر الذي يدعي أن حضارته قائمة على العلم، وأن سياساته وقراراته تستند دائماً إلى الإحصاءات والدراسات. ومع ذلك لم يجد المؤتمرون حرجاً في الاعتماد على التنظير المبني على غير أساس، والتغاضي عن التجارب النسائية، التي لم تسهم أي واحدة منها في تحقيق السلم الدولي!!
فقد عُقِدَ مؤتمر نيروبي هذا بعدَ ثلاث سنوات فقط من انتهاء الحرب البريطانية الأرجنتينية، التي كان سببها النزاع على جزر فوكلاند، وكانت (مارغريت تاتشر) رئيسة وزراء بريطانيا هي التي صادقت على قرار الحرب، ودفعت الجنود البريطانيين ليكونوا وقوداً لحربٍ كانت واحدة من أشد الحروب ضراوة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولم تكن المرأةُ الحديدية -كما كانوا يلقبونها- هي المرأةَ الوحيدةَ التي تقود بلادها إلى حرب دولية؛ فقد خاضت دولة الصهاينة من قبل بقيادة (قولدا مائير) حرباً ضد الدول العربية سنة 1967م، واغتصبت مزيداً من الأراضي العربية.
وفي الشرق الأقصى لم تحاول (أنديرا غاندي) إنهاء الحرب بين الهند وباكستان، بل ولم تحقق السلام في بلادها؛ فقد تفاقمت الصراعات في أطراف الهند أيام ولايتها، حتى كانت هي نفسُها واحدة من ضحاياها؛ عندما اغتالها حرسُها الشخصي، الذي ينتمي لطائفة السيخ، الذين سبق لها أن قمعتْهم بقوة الحديد والنار!
أما (بنازير بوتو) التي حكمت باكستان؛ فلم تكن أحرص من (أنديرا) على إنهاء الصراع على كشمير، الذي حصد أرواح الآلاف من الجانبين في جبهة القتال، وكان -وما يزال- سبباً للتفجيرات التي تقع في قلب المدن الكبيرة، في كل من الهند وباكستان.(/2)
وكما لم يكن للسياسِيَّاتِ أيُّ أثر في إيقاف الحروب، وتحقيق السلم؛ فهنَّ لم يبذلن -كذلك- أي جهد لوقف سباق التسلح؛ فقبل انعقاد مؤتمر نيروبي بخمس سنوات عيَّن (رونالد ريجان)، (جان كيركباتريك) ممثلةً لبلادها في مجلس الأمن، ومع ذلك كان عهد (ريجان) أحد العهود التي شهدت سباقاً محموماً في التسلح النووي، وكانت (جان) من المؤيدين بشدة لاعتماد سياسات دفاعية؛ تؤمن البلاد من أي خطر سوفيتي.
وبرغم كل هذه النماذج وسواها؛ خرج المؤتمرون في بكين سنة 1995م بتوصيات أخرى؛ مبنية على زعم أن المرأةَ "بدأت تؤدي دوراً هاماً في حل النزاعات، وحفظ السلام، وفي آليات الدفاع والشؤون الخارجية"، كأن سكان العالم لا يعرفون أي شيء عن تاريخ النزاعات، وليس لهم أي مصدر لمعرفة دور المرأة في سياسات الدول؛ إلا تقارير هذه المؤتمرات المشبوهة!!
وبعد هذه المزاعم تحسَّر المؤتمرون على التمثيل الناقص للمرأة في مناصب صنع القرار! ودعوا لتمكينها سياسياً واقتصادياً، وتمثيلِها على جميع مستويات صنع القرار تمثيلاً كاملاً؛ إذا أريد لها أن تؤدي دوراً مساوياً لدور الرجل في تأمين السلم وصيانته، كأنهم يهددون بأن من لم يفعل ذلك فهو الجاني على نفسه، وكأن المرأة بمجرد كونها وزيرة أو رئيسة وزراء؛ ستتجاوز سياسات بلدها، وتأتي بالخوارق والمعجزات لتنعم الشعوب بالسلام!!(/3)
لقد كان بإمكان هؤلاء الأفَّاكين أن يدْعُوا لتولية المرأة المناصب العالية في البلاد بحجة مساواتها مع الرجل، كما دعت لذلك اتفاقية (سيداو)، دون الحاجة لمثل هذا التعليل العليل، الذي لن يقنع سفيهاً ولا عاقلاً؛ إذ لن يصدِّق الناس مثل هذه التوصياتِ ويكذِّبوا أعينَهم؛ فالناس لم ينسوا بعدُ تهديداتِ (مادلين ألبرايت) -التي كانت ممثلةً للولايات المتحدة في الأمم المتحدة في عهد (كلينتون)، ثم عيَّنها وزيرةً للخارجية- للسودان؛ لينصاع لرغبات بلادها، ثم مجاهرتَها بدعم المتمرِّدين بملايين الدولارات، ثم تحريضَها لإريتيريا وأثيوبيا ويوغندا؛ ليمكِّنوا المتمردين من شن القتال من أراضيهم.
ولما فُجرت سفارتا دار السلام ونيروبي اللتان تتبعان لوزارتها؛ كانت ردة الفعل أكثر من سبعين صاروخاً تقع على رؤوس المدنيين الأبرياء في أفغانستان، وأخرى تهدم مصنعاً للدواء في السودان؛ بحجة أنه مصنع لإنتاج الأسلحة الكيماوية، رغم أن المصنع مُنشَأٌ في وسط إحدى المناطق السكنية!
ولا يزال الناس يذكرون البارونة البريطانية (كوكس) التي كانت تدعو لمعاقبة السودان، ولم تتورع من تقديم تقارير خاطئة في سبيل تحقيق ذلك.
أما (كوندوليزا رايس) -الحاصلة على الدكتوراة في العلوم السياسية- فلم يمنع كونُها مستشارةً للأمن القومي، ثم وزيرةً للخارجية إرسالَ الجنود الأمريكان آلافَ الأميال ليشعلوا الحرب في أفغانستان والعراق، لمجرد الخوف من أن تتعرض بلادها لهجمات من هذين البلدين المحاصَرَين، المُدْقِعَين اللذَين يعيش أغلب سكانهما تحت خط الفقر! ولما ضَرب الصهاينةُ لبنان لم تقم بأي دور يذكر؛ برغم استنجاد الحكومة اللبنانية بحكومة بلادها، حتى حقق الصهاينة ما يريدون!!(/4)
أما (نانسي بيلوسي) رئيسةُ مجلس النواب -الشخصيةُ الثالثة في الولايات المتحدة بعد الرئيس ونائبه- التي من صلاحياتها السيطرةُ على حافظة أموال الدولة ووسائل إنفاقها؛ لأن كل تشريع يتعلق بالتمويل يجب أن يبدأ أصلاً في مجلس النواب، وهي التي تشرف على تعيين رؤساء اللجان واللجان الفرعية المختلفة في مجلس النواب، بما فيها اللجان المشتركة التي تتولى إجراء المفاوضات؛ للتفاهم والاتفاق على التشريعات التي تختلف نصوصها بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ .
ومن صلاحياتها -كذلك- السيطرةُ والإشراف على جدولة التشريعات؛ لأن الرئيس هو الذي يحيل أي مشروعِ قانون يتقدم به أحد أعضاء المجلس لإحدى لجان المجلس الإحدى والعشرين، وهو قرار له تأثير كبير على مصير مشروع القانون، وذلك لأنه لا يمكن أن يحظى أي مشروع قانون بالموافقة دون دعمٍ من اللجنة التي يحال عليها لدراسته وإقراره. وإذا حظي مشروع القانون بموافقة اللجنة؛ فإن رئيس المجلس هو الذي يقرر هل يُعرَض المشروع أو لا، وهو الذي يحدِّدَ موعدَ عرضه على المجلس بكامله لمناقشته والتصويت عليه.
ومع كل هذه الصلاحيات، ومع أنها لم تكن راضية عن الضربة الأمريكية للعراق قبل أن تتولى رئاسة المجلس؛ إلا أنها غيرت رأيها ووقفت في صف المؤيدين للحرب على العراق!
وأخيراً؛ ليس المقصود من هذه المقالة حصرَ النساء اللاتي تولَّين مناصب عالية، ولم يسعين لتحقيق السلام في العالم؛ ولكني أردت أن أشير إلى أن الواقع يُكذِّبُ الافتراض؛ الذي بُنيَت عليه الدعوةُ لإشراك النساء في الولايات العامة. وهذا واحد من أمثلةِ استخفافِ تلك المؤتمرات بالعقول المستنيرة الليبرالية!
فرجاءٌ حارٌّ: لا تصدقي كلَّ ما يقال، لاسيما من هؤلاء!!..
ــــــــــــــــــــــــ
[1] تقرير المؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم، الفصل الأول، ثالثاً، (ب)- الفقرة (250)، ص86.(/5)
[2] تقرير المؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم، الفصل الأول، ثالثاً، (و)- الفقرة (268)، ص94.
[3] تقرير المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة- بكين، الفصل الرابع، (هـ)- الفقرة (134)، ص74-75.(/6)
العنوان: المراجعاتُ الفِكْرية (2)
رقم المقالة: 1680
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
في المقال السابق جرى الحديثُ عن المراجعات الفكرية، وأهميتها، وخطورةِ المراجعات القائمة على غير ضوابطَ معلومةٍ منهجية، مع تأكيد أن الحقَّ أحقُّ أن يتبع، وأن المسلم متى استبان له الحقُّ هُرِع إليه؛ لأن الحكمة ضالته والهدى مطلبه، وقد عاب الله تعالى على الذين جمدوا على ما هم عليه من ضلال الأفكار لَمَّا استبان لهم الهدى واتضح كما سبق البيان.
وفي هذا المقال وقبل الشروع في بيان ضوابط المراجعات الفقهية نقف وقفات:
الوقفة الأولى:
ماذا نعني بالمراجعات الفكرية، وللإجابة عن هذا السؤال يجب تعريف الفكر، وبيان المعنى المراد منه لغة واصطلاحا ليسهل بعد ذلك إيضاح المراد من مراجعته.
الفكر في اللغة: قال ابن منظور: الفَكْرُ والفِكْرُ إِعمال الخاطر في الشيء. قال سيبويه: ولا يجمع الفِكْرُ ولا العِلْمُ ولا النظرُ. قال: وقد حكى ابنُ دريد في جمعه أَفكاراً، والفِكْرة كالفِكْر وقد فَكَر في الشيء[1].
وقال الفيروزأبادي: الفكر.. إعمالُ النَّظَرِ في الشيءِ كالفِكْرَةِ والفِكرَى بكسرهما، ج: أفْكارٌ. فَكَر فيه وأفْكَرَ وفَكَّرَ وتَفَكَّرَ. وهو فِكِّيرٌ كسِكِّيتٍ وفَيْكَرٌ كَصَيْقَلٍ: كثيرُ الفِكْرِ[2].
هذا التعريف اللغوي يبرز منه معنى؛ هو أن الفكر يكون فيما يحتاج إلى إمعان النظر والتأمل والتدقيق في محتواه، لا فيما اتضح وبان من الأمور بحيث يعد التدقيق والتأمل فيه جهدًا بغير طائل.
وحول هذا المعنى اللغوي تدور غالب التعريفات الاصطلاحية، فإليك بعضها.
يقول الغزالي عليه رحمة الله: "اعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة"[3].
قال بعض الأدباء: "الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول إلى حقيقتها"[4].(/1)
وبالنظر إلى تعريفات الفكر اللغوية والاصطلاحية، يمكننا القول بأن مفهوم الفكر يتلخص في ما يلي:
أولاً: أن الفكر عملية عقلية تعني إمعان النظر في ما علم إمعانا يفضي بالممعن إلى إدراك ما لم يكن معلوما لديه.
ثانياً: تسمى هذه العملية العقلية المعرَّفة في الفقرة السابقة (فكرًا) كما تسمى نتيجتها وثمرتها (فكرًا) كذلك، وهذا يذكرنا بمصطلح الفقه؛ إذ تسمى ملكة النظر في الأدلة واستخراج الأحكام عند الفقيه فقهًا، كما تسمى تلك الأحكام الناتجة عن عملية الاستنباط فقها كذلك، وتجدر الإشارة إلى أن بين الفكر والفقه عمومًا وخصوصًا.
الثالث: مما مضى يتبين أن الفكر لا يطلق على البديهيات، بل يطلق على ما يحتاج إلى نظر واستدلال وإمعان.
رابعاً: يتضح أن الفكر مجاله في المعاني وليس في المحسوسات، فإجالة العقل في القضايا التي تخص فلسفة الحياة أو تتعلق بمصير الإنسان الأبدي وغيره هي مجال الفكر.
الوقفة الثانية:
وإذا تبين أن الفكر هو النظر العقلي فيما علم للتوصل إلى نتيجة غير معلومة، فليس من العسير علينا أن نستنتج أن الشريعة الإسلامية ومصادرها الأصلية التي في طليعتها الكتاب والسنة هي أصل المعلوم للمسلم، ومن ثم في مراد كل فكرِه، فما وافق الشريعةَ وقواعدَها مما تتوصل إليه تلك العمليةُ العقلية المسماة بالفكر أو نتائجها فهو فكر صحيح، وما خالفها فهو فكر منحرف عن سواء السبيل.
الوقفة الثالثة:(/2)
لا يقول مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: إن مرجعيته ليست الكتاب والسنة، ولكن هذه المرجعية التي يدعيها الكل تتباين طريقتُه في التعامل معها والرجوع إليها، فمن المسلمين من يقدم العقل على النقل فيجعل هذه المرجعية محكومة بالعقل، لا أن العقل محكوم بها، مع أن الواقع عدم التعارض بين النقل الصحيح والعقل الصحيح، ولكن كثيرًا ما تحكِّم هذه الطائفةُ عقولَها السقيمة على نصوص الوحيين الشريفين، ومن المسلمين من جعل المنامات والأحلام حاكمة على النقل، والحق الذي ليس بعده إلا الضلال أن يعتمد عند الرجوع إلى نصوص الوحيين على فهم السلف الصالح، وقد دلت على اتباع منهجهم في فهم الدين نصوصُ الوحيين الكريمين وإليك بعضها:
أولا: قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، وأول ما يدخل في سبيل المؤمنين المذكور في هذه الآية الكريمة سلف الأمة الصالح من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام والتابعين لهم بإحسان.
ثانياً: قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، ففي هذه الآية تزكية إلهية صريحة للصحابة الكرام الذين هاجروا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونصروه، وقد أخبر الله تعالى أنه رضي عنهم وقبلَ منهم، وفي ذلك حض من الله تعالى للعباد أن يسلكوا سبيلهم ليفوزوا برضوانه.(/3)
ثالثاً: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته"[5].
وفي هذا بيان من النبي -صلى الله عليه وسلم- وتصريح بأفضلية الرعيل الأول على من بعدهم من القرون فأي الناس أولي بالاتباع: مَن شهد له المعصوم صلى الله عليه وسلم بالخير والفضل، أم مَن استهوته الشياطينُ ممن طال عليهم العهد وبعدوا عن مشكاة النبوة؟
رابعاً: خطب عمرُ الناسَ بالجابية، فقال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام في مثل مقامي هذا، فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يحلف أحدهم على اليمين قبل أن يستحلف عليها، ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد، فمن أحب منكم أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن كان منكم تسره حسنته وتسوءه سيئته فهو مؤمن"[6].
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على فضل الصحابة وتوقيرهم ومعرفة قدرهم، فإن كانت هذه بعض حقوقهم علينا فهل يختلف عاقلان في وجوب اتباعهم واقتفاء آثارهم؟
خامساً: قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، فأول من اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- هم الصحابة الكرام فقد كانوا أول وأصدق من اتبعه وتمسك بهديه، وقد شهدت لهم هذه الآية بالبصيرة فكانوا لذلك أحق من اتبع.(/4)
سادساً: عن أبي بردة عن أبيه قال: "صلينا المغرب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قلنا لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا فخرج علينا فقال: ما زلتم ههنا؟ قلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم أو أصبتم، قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً مما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون"[7].
فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصحابة أمان للأمة كلها، فمن أراد الأمن في الدنيا والآخرة فليقتفِ أثرهم وليهتدِ بهديهم، وهم نجوم الأمة، وقد جعلت النجوم ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وكذا الصحابة يُهتدى بهم لمعرفة الحق والنجاة من ظلمات الفتن.
سابعاً: عن العرباض -رضي الله عنه- قال:" صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة؛ ذرفت منها العيونُ، ووجلت منها القلوبُ، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"[8].
ووجه الدلالة في هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أمته عند الاختلاف بالتمسك بسنته وفهم صحابته كما سبق بيانه، ومن اللطائف في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر سنته وسنة الخلفاء الراشدين قال: "عضوا عليها"، ولم يقل: "عليهما" للدلالة على أن سنته وسنة أصحابه منهج واحد.(/5)
ثامناً: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: وما تلك الفرقة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي"[9].
فهذه صفة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وهي اتباعها لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- واقتدائها بهم كما أبان هذا الحديث.
وقد تضافرت أقوالُ العلماء الهداة على وجوب اتباع منهج الرعيل الأول والأخذ بفهمهم للكتاب والسنة والرجوع إلى قواعدهم في فهمها، وإليك بعض أقوالهم في ذلك:
قال أبو المظفر السمعاني: "وشعار أهل السنة اتباعهم لمنهج السلف وتركهم كل ما هو مبتدع"[10].
قال الأوزاعي: "اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القومُ، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم"[11].
وقال الأوزاعي أيضاً: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوها وحسنوها؛ فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم"، وقال أيضاً: "اصبر على السنة وقف حيث يقف القوم وقل ما قالوا وكف عما كفوا وليسعك ما وسعهم" وقال: "العلم ما جاء عن أصحاب محمد وما لم يجئ عنهم فليس بعلم"[12].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً"[13].
وقال ابن أبى العز الحنفي: "وقد أحببت أن أشرحها [أي العقيدة الطحاوية] سالكاً طريق السلف في عباراتهم، وأنسج على منوالهم متطفلاً عليهم، لعلي أن أنظم في سلكهم وأدخل في عدادهم وأحشر في زمرتهم (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا)[14].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلاً"[15].(/6)
وقال: "والعدل المحض في كل شيء متعذر علماً وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل، ولهذا يقال: هذا أمثل، ويقال للطريقة السلفية: الطريقة المثلى"[16].
وقال ابن كثير: "فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً"[17].
وقال عبد الله بن عمر: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا على الهدى المستقيم"[18].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من كان مستناً فليسن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفاً اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه؛ فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"[19].
وقد قال ابن عباس للحرورية لما جاءهم مناظراً: "أتيتكم من عند صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار؛ لأبلغكم ما يقولون، فعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بالوحي منكم، وفيهم أنزل، وليس فيكم منهم أحد"[20].
والسلف الصالح هم الأقرب إلى مشكاة النبوة، والأعرف بحقائق هذا الدين الشامل لجميع نواحي الحياة، وكان منهجُهم أسلمَ وأعلم، ولذا وجب اتباعُه، والسير على خطاه، لقد كان للسلف منهج منضبط صالح لكل زمان ومكان، مستوعب للتغيرات في كل شؤون الحياة الفكرية وغيرها، وميزان دقيق مبرأ من العطب والخلل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لسان العرب، 5/65.(/7)
[2] القاموس المحيط، 1/588.
[3] إحياء علوم الدين، 4/425.
[4] معجم مفردات القرآن، مادة فكر.
[5] رواه البخاري، (2509)، 2/938، ومسلم، (2533)، 4/1962.
[6] رواه أحمد، (177)، 1/26، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (430)، 1/792.
[7] رواه مسلم، (2531)، 4/1961.
[8] رواه أبو داود، (4607)، 2/610، الألباني في صحيح الجامع، (2549)، 1/432.
[9] المعجم الأوسط، (4886)، 5/137، والمعجم الصغير، (724)،2/29، حلية الأولياء، 9/242.
[10] الانتصار لأصحاب الحديث ص31.
[11] حلية الأولياء، 6/143.
[12] البداية والنهاية، 10/117.
[13] مجموع الفتاوى، 4/149.
[14] شرح العقيدة الطحاوية، 1/69.
[15] مجموع الفتاوى، 5/28.
[16] مجموع الفتاوي، 10/99.
[17] تفسير القران العظيم، 2/294.
[18] حلية الأولياء، 1/305.
[19] ضعفه الألباني، مشكاة المصابيح، (193)، 1/42.
[20] المستدرك، (2656)، 2/164 قال الذهبي في التلخيص على شرط مسلم.(/8)
العنوان: المراجعاتُ الفكرية بين الانضباط والانفلات (1)
رقم المقالة: 1526
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
الإنسانُ أسيرُ أفكاره؛ فالأفكار (بوصلة) تحددُ مسارَ الحركة، وكلُّ خطوة من عاقلٍ راشدٍ مسبوقةٌ بفكرة، وقد تبلغُ الأفكارُ درجةَ العقيدة والإيمان، فيرى المرءُ عندها الشرفَ والمجد في التضحية من أجلها بالغالي والنفيس، ومن الناس من رأى أفكارَه عرائس من شمع؛ لا تحيا إلا إذا سَقَوها بدمائهم، ولعلهم يتمثلون قولَ الشاعر:
عِشْ دون رأيك في الحياة مجاهداً إن الحياةَ عقيدةٌ وجهادُ
ومما يعبَّر به عن تبني الفكر كلمةُ (اعتنق) من المعانقة؛ فيقال: اعتنق فكر الخوارج، أو المعتزلة، أو نحوه، وذلك دلالة على قوة تأثير الفكر في حياة الإنسان.
ولما غزا الأعداءُ بلادَ المسلمين ردحاً من الزمن، ولم يغيروا في فكر السواد الأعظم من الأمة، وظلت الأمة محتفظة بعقيدتها وفكرها وتراثها، علموا ألا سبيل للسيطرة عليها إلا بالسيطرة على مركز التحرك فيها، وهو فكرُها وعقيدتها وفلسفتها للحياة؛ فقاموا بحملة مضادة لفكر الأمة، وقد قطعوا شوطاً طويلاً في غزوها فكرياً، وبذلوا في ذلك الأموالَ الكثيرة، ورصدوا جميعَ الإمكانيات المتاحة للغزو الفكري، وهو غزوٌ أكثرُ تدميراً وأبلغُ ضرراً من غزوهم الحسي.
ولما كانت الأفكارُ من الأهمية بالقدر الذي لا يُجهل، كان لا بد من مراجعتها، والنظر في موافقتها الحقَّ، فلا أحد يرضى أن يكون للباطل نصيراً، أو أن يجعل من حياته نهباً لأفكار منحرفة.(/1)
ومعلومٌ أن التحولَ الفكري قد يكونُ نتيجةً من نتائج المراجعة الفكرية، وهو من الخطورة بمكان، ولذا لزم تحديدُ ضوابط المراجعة الفكرية وتوضيح آلياتها، حتى لا تثمرَ رِدَّة إلى الوراء، فعدُوُّ الإنسان من يوم خَلْقِه -الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير- لن يفوِّتَ فرصةَ مراجعة يُدخل فيها نَزْغةً من نَزَغاته؛ لعلمه أن فسادَ الفكر رأسُ كل فساد؛ قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]، وقال عز من قائل: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].
والناظر يرى كثيراً من المعاول التي شَيَّدت للحق صروحاً، عَطَفت على ما شيدت، فهدمته بدعوى المراجعة الفكرية والتجديد، وذلك يوم استَعْمَلت كلمة الحق هذه لِمُرادٍ باطل، ولربما وَلَّدت تلك المراجعاتُ المنفلتة غداً موقفاً آخرَ منهم، فبنوا ما هَدَموا؛ ليصدُق عليهم قولُ ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
وتهدمُ ما تبني بكفك جاهداً فأنت مدى الأيام تبني وتهدمُ(/2)
إن الأفكار ليست ثوباً نلبسُه صباحاً ونخلعه مساء، بل لا بد من التأني والتفكر قبل تبني جديد الأفكار، فالأمر يتعلقُ بمسيرنا في حياة حاضرة، ويترتب عليه مصيرُنا في حياة آجلة، ولذا كان لا بد من الدقة والاجتهاد في مراجعتها وفق ضوابطَ مستقاةٍ من الشرع، أما أن لا يكون للمراجعة الفكرية خطامٌ ولا زمام، فهذا عينُ الفتنة التي عناها ابنُ مسعود -رضي الله عنه- بقوله: "من كان مُسْتَنًّا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن فتنته"[1].
ويلاحَظُ أنَّ بعضَ المفكرين كلما التقى أحداً فأعجب بمنطقه وفصاحة لسانه، أو كلما قرأ كتاباً يناقش قضايا لم تخطر على باله سكب في وعائه منها، دون الرجوع لمنهجٍ طالما زعم الانتماءَ إليه، ليتأكد له صوابُ تلك الأفكار من خطئها، مع أن الأمر لن يكلفَه إلا مزيدَ قراءة في ذلك المنهج المتكامل الشامل.
والتقلبُ الفكري غيرُ المنضبط، الذي رآه بعضُ أهل هذا الزمان -لانطماس بصيرتهم- دليلاً على سعة الأفق وقابلية التفاعل، عدَّه السلفُ الصالح رقةً في الدين، وقلةً في العقل؛ فعن معن بن عيسى قال: انصرف مالكُ بن أنس -رضي الله عنه- يومًا من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجلٌ يقال له: أبو الحورية كان يُتهم بالإرجاء فقال: يا عبد الله اسمع مني شيئًا أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأي، قال: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعتني، قال : فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال: نتبعه، فقال مالك -رحمه الله تعالى-: يا عبد الله، بعث الله -عز وجل- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بدين واحد، وأراك تنتقلُ من دين إلى دين. قال عمرُ بن عبد العزيز: من جعلَ دينَه غرضًا للخصومات أكثرَ التنقلَ[2].
فلم يكن التقلبُ الفكري المتجاوز لضوابط المراجعة الفكرية منقبةً يوماً، حتى نَجَمَ قرنُ المفتونين المغترين بما معهم من بضاعة برغم أنها مزجاة إذا ما ووزنت بما عند السلف الصالح من رسوخ علمي وفهم دقيق منسجم مع روح الشريعة ونصوصها.(/3)
ولم يَرُدّ السلف مراجعةَ الفكر القائمة على ضوابط وأسس مستقاة من الكتاب والسنة، وحواراتُهم العلمية ومراجعاتُهم الفكرية تشهدُ لهم بذاك، وإنما كان رفضُهم لمنهج أهل البدع المنفلتين عن المنهج القويم الذي رسموه لمراجعة الفكر.
إذاً هذه ليست دعوةً تزين الجمود، وتحض على التشبث بالأفكار وإن جانبت الصواب، كما قال الأولون وأخبر عنهم أصدق القائلين عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، وقال تعالى عنهم: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132]، ولكنما الحقُّ وسط بين المنكفئين والمنفلتين، وهو منهج المنضبطين الذي نعد القارئ أن نعرض له في مقال قادم إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البيهقي في السنن الكبري، 10/116، (20136).
[2] الشريعة، للآجرى، 1/64.(/4)
العنوان: المراكز الصيفية.. عمل وأمل
رقم المقالة: 998
صاحب المقالة: تحقيق: سارة السلطان
-----------------------------------------
* د. عبدالعزيز العمر: المراكز الصيفية تحقق جزءاً مهما من أهدافنا التربوية التي تعجز الحصص الدراسية عن تحقيقه.
* أ. رقية الهويريني: إذا كنا نطمح إلى تطوير المراكز الصيفية فلابد من إدخال الجانب الترفيهي بجانب العلمي بطريقة جذابة.
* أ. بدر الجريش: المراكز الصيفية تملأ فراغ أبنائنا بالخير الكثير.
* * * *
ها هي ذي المراكزُ الصيفية تفتح أبوابَها، وتعلن عن نشاطاتها، وتبدو أكثر استعداداً لاحتواء أكبر عدد ممكن من أبنائنا وبناتنا؛ إذ هي المحاضنُ الآمنة، والمراكبُ الزاخرة بالبرامج والفعاليات والنشاطات الممتعة المتنوعة؛ وذلك لاستثمار أوقات الأبناء فيما يعود عليهم نفعُه وخيره في الدنيا والآخرة، وتبعدهم عن شبح الفراغ وضجره وسلبياته.
لقاءات متعددة:
كان للألوكة عدةُ لقاءات مع التربويين والمسؤولين والمعنيين بالأمر.. لنستطلع الآراء.. ولنعرف ما إذا كانت هذه المراكزُ عبئاً على الوزارة وليس لها مردود إيجابي يذكر موازنة بالاستعدادات والميزانيات المخصصة لها.. أو أنها منارٌ يُقتدى به في استثارة همم أبنائنا، حيث يجدون بها من التدريب والعلم والرعاية ما يفتح أذهانهم، ويصقل مواهبهم، ويسدد فكرهم..
رؤى وتقويم:
في البداية كان لنا لقاء مع د. عبدالعزيز بن سعود العمر - عميد كلية المعلمين والكاتب المعروف بجريدة الجزيرة - الذي تحدث عن رؤيته حول المراكز الصيفية قائلاً:(/1)
شئنا أو أبينا سيبقى النشاط الطلابي أو النشاط اللاصفي جزءا مفصلياً من المنهج الذي تقدمه المدرسة؛ فهو يحقق جزءا مهماً من أهدافنا التربوية التي تعجِز الحصصُ الدراسية اليومية عن تحقيقها.. لقد بلغت الحياة الحاضرة حداً من التعقيد أصبح معه قصرُ التربية والتعليم على ما يجري فقط داخل قاعة الدرس أمراً مستحيلاً.. وهناك مناطق في شخصية الطالب لا تصل إليها الحصصُ اليومية.. وستبقى هذه المناطق ضعيفةً وهزيلة ما لم نؤسس في مدارسنا معايير ومفاهيم تربوية صحيحة عن النشاطات الطلابية، ونخضع تخطيطَ وتنفيذَ تلك النشاطات لما تفرضه تلك المعايير.
لقد أثار النشاط الطلابي (الأندية الصيفية) جدلاً واسعاً وحاداً في الوسط الإعلامي، بل والوسط التربوي نفسه.. هناك من يرى أن مشكلة المراكز الصيفية لا تكمن في نوعية ما يتم إقراره من برامج للنشاطات الطلابية.. فهذه برامج يعتمدها جهاز رسمي متخصص، لكن المشكلة تكمن - كما يرى البعضُ - في نوعية الأشخاص الذين يتم اختيارُهم لإدارة وتنفيذ برامج المراكز الصيفية؛ فهؤلاء الأفراد إما أن لا يكونوا في مستوى تحديات ومتطلبات برامج النشاطات الطلابية، وإما أن اندفاعهم وحماستهم الزائدة يدفعانهم إلى الخروج عن ما تم التخطيط له.
وعلينا أن نتذكر دائماً أن من يقوم بتنفيذ برامج النشاط الصيفي والإشراف المباشر عليها هم غالباً معلمون مدفوعون أساساً برغبتهم الذاتية وحبهم للعمل التطوعي مع الطلاب. حَظِيَ هؤلاء المشرفون على تلك المراكز الطلابية بثقة الجهاز المركزي برغم أنه تبين مؤخراً أنه أصبح من الضرورة وضع حد أدنى من الضبط والمتابعة والتقويم والمساءلة لضمان جودة العمل في هذه المراكز وتناغمه مع الخطط المركزية.(/2)
وأضاف د. العمر أن أي برنامج في الدنيا لن يكتب له النجاح ما لم يتم التخطيطُ المسبق له ومتابعتُه وتقويمه وإخضاع القائمين عليه لمبدأ المساءلة. والمراكز الصيفية ليست استثناء هنا في هذا الشأن. في البدء لم تكن المساءلة أو المحاسبة واردة في تنظيم المراكز الصيفية. فالجهود المبذولة في هذه المراكز هي غالباً تطوعية لا يبحث أصحابُها عن أجر مادي، بل إن الهامش المتاح للمبادرات الفردية كان واسعاً ومرناً.
وفي ختام حديثه أجاب بأنك لن تجد من يجادلك في أهمية المراكز الصيفية، وما قد تحققه من نفع عظيم، ومكاسب تربوية هائلة في مجال تربية وتعليم أبنائنا. لكنك ستجد حتماً من يجادلك في نوعية البرامج التي يتم تنفيذها ونوعية الأفراد الذين يتم اختيارهم لإدارة وتنفيذ برامج المراكز الصيفية. والمخرج الآمن في هذه الحالة هو أن يتم إسناد تخطيط ومتابعة تنفيذ وتقويم برامج المراكز أو الأندية الصيفية إلى لجنة عليا عُرِف عن أفرادها الحس التربوي الراقي وعمق الخبرة وإدراك التحديات التربوية المعاصرة، وأن يتم اختيار المشرفين على المراكز الصيفية والعاملين بها وَفْق معايير مهنية تضمن تحقيق أهداف هذه المراكز.
عوائقُ وحلولٌ:
كان للألوكة لقاءٌ مع الأستاذة رقية الهويريني - المرشدة الطلابية والكاتبة المعروفة - التي أجابت عن سؤال الألوكة في الأسباب التي تجعل المراكز الصيفية عند الأبناء أكثر تشويقاً ومرونة منها عند البنات قائلة:(/3)
عند إطلالة إجازة المدارس الصيفية للطلاب والطالبات - والتي تستمر ثلاثة أشهر أي ما يقارب فصلا دراسيا - تقع بعض الأسر في حرج تربوي.. إذا علمنا أنها تقضى غالباً بالكسل والنوم طوال النهار والسهر طوال الليل، وعليه فلا بد من استغلالها واستثمار الوقت فيها بما يعود على أبنائنا بالفائدة. وإننا لندعو بصدق إلى التخطيط المسبق للإجازة الصيفية. كما لا بد من وجود آلية للتنفيذ. بعيداً عن النمطية والارتجالية المعتادة في كل إجازة، وكأن الأمر واجب التنفيذ فحسب!! هذا وقد قامت وزارة التربية والتعليم بإقامة مراكز صيفية محدودة للطلاب والطالبات بهدف الفائدة وكسر الملل، بيد أنها لم تؤد الدور المطلوب منها لعدة أسباب سأستعرضها مع القراء وأضمّنها مقترحاتٍ محاولة إنجاحها.
فمن أسباب تعثر المراكز الصيفية للبنات الآتي:
- قلة أعداد المراكز الصيفية إذ لا تتوفر في جميع الأحياء بل تقتصر على بعضها فقط.
- لا توافق نشاطاتها اهتماماتِ الفتيات ولا تطلعات أسرهن؛ بل يغلب عليها الطابع الدراسي التقليدي.
- ضعف الإعداد وقلة التأهيل المناسب للقائمات على المراكز الصيفية؛ إذ إنهن من المعلمات اللاتي سئمن الدروس المنهجية فضلاً عن أن تلك المعلمات قد استنزف جهدهن في أثناء العام الدراسي.
- اقتصار المراكز الصيفية على نشاطات محددة يغلب عليها الطابع الديني فقط، دون إشراك نشاطات أخرى جديدة.
- عدم وجود مبانٍ مجهزة وإمكانيات مناسبة، وكأن الأمر مؤقت، فيتم حشر الطالبات في مكان محدود في مدرسة مستأجرة غالب فصولها مغلقه.
- عدم توفر مواصلات لنقل الطالبات من وإلى المركز.
وثمة وسائل من شأنها أن تؤدي إلى نجاح المراكز الصيفية منها:(/4)
- الحرص على اختيار الكفاءات المؤهلة للقيام بمهمة الإشراف والإدارة مع المعرفة الدقيقة بمنهجية (خدمة الجماعة)، وتأصيل مفهوم الفريق الواحد، والتأكيد على التعاون الذي يفتقده أفراد مجتمعنا وإهماله في مدارسنا النظامية، على الرغم من تأكيد الشريعة الإسلامية عليه إحقاقاً لقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، متفق عليه.
- إشراك القطاع الخاص إما بتحويل المراكز الصيفية أو بتوفير المدربين والمدربات سواء لعلوم الحاسب أو اللغات الحية أو التدريب على المهارات العامة؛ كإلقاء الخطب، والقدرة على المواجهة، والتمكن من الحديث بطلاقة، وغيرها من المهارات التي لا يحسنها أبناؤنا مع الأسف الشديد.
- الاهتمام بتنمية شخصية الفتيات وإعدادهن وتأهيلهن لسوق العمل في وقت باكر كتعلم صنع بعض المشغولات الفنية السهلة، وفنون الطهي والخياطة، والمنافسة الشريفة، وشحذ الهمم في أثناء المسابقات، والتشجيع المستمر، ومحاولة البعد عن الملل والجمود.
- السعي إلى ترسيخ فكرة التدريب المهني وتنفيذها كالسباكة والنجارة والصيانة المنزلية وأعمال الدهان. ولا أجد ما يمنع من تعليمها للفتيات؛ فكثيراً ما تواجه المرأة في منزلها أعطالاً في السباكة والكهرباء فتلجأ للرجل في ذلك وهو بدوره يستعين بأحد العمال الذين لم يتعلموا هذه المهن إلا في بلادنا! والأمر لا يتطلب سوى تغيير بعض القطع دون جهد يذكر!! وليس أجمل من دهان الجدران وتغيير الألوان من تعتيق وترخيم بأنامل إحدى الفتيات ومشاركة أسرتها في هذا العمل الإبداعي الجميل ولعلها محاولة للرفع من مستوى هذه المهن في عقول أبنائنا وبناتنا، كما أنها فرصة للفتاة لتعلم فن الديكور المنزلي.(/5)
- وقد أيدها في هذه النقطة الأستاذ محمد زيد المجلي فقال: إن الطالب لا يريد أن يستكمل الدراسة في المركز الصيفي حتى لو كانت دورات ما دامت نظرية، ولكنه يريد مهارات يدوية، ورش عمل.. يبحث عن المهن التي من خلالها يستطيع أن يصلح في بيته (لمبة) أو (ماسورة) وهكذا؛ أن ينفع نفسه من عمل يستغل أيسر الأشياء أعطالاً في البيت لتلعب بالأسعار، وهكذا – حتى لو أدى الأمر بالجهات المعنية بالتعاقد مع فنيين من المراكز المهنية مؤقتاً أو انتداباً وتدرب مجموعة كبيرة من الطلاب من خلال هذه المراكز..
وأضافت الأستاذة الهويريني: لا بد من إدخال البرامج التعليمية ذات الطابع الترفيهي. واختتمت حديثها قائلة:
إذا كنا نطمح إلى تطوير المراكز الصيفية يجب ألا تقتصر على حلقات القرآن والتجويد، على الرغم من فاعليته وأهميته بل لنرتقي بإدخال الجانب الترفيهي بجانب العلمي بطريقة جذابة وفتح المجال للأفكار الجديدة التي تثري العمل..
مع المشرفين والمشرفات:(/6)
والتقى الألوكة الأستاذ/ بدر صالح الجريش - مدير مركز ثانوية الفاروق الصيفي – وبدأ كلمته بأهمية المراكز الصيفية للشباب قائلاً: إنها تغنيهم عن كل منكر، وتملأ فراغهم بالخير الكثير سواء كان القرآن الكريم أو السنة النبوية، وتأتي البرامج تبعاً لأهميتها للشباب مثل الثقافية والفنية والأدبية والرياضية وجميع المهارات التي يحتاجها الشباب ليستثمر به الطالب وقته ويستفيد منه.. وأحب أن أنبه على أن النوادي الصيفية تسعد باقتراحات وانتقادات أولياء الأمور.. لأنني أرى أنهم الذين يقوّمون ويطوّرون برامج النادي.. وأكد الأستاذ الجريش على أهمية تطوير البرامج ودراستها؛ فقد كونت إدارة النادي لجنة الدراسات والتطوير للعام الثالث، ووضعت الاستبيانات لكل برنامج، ودراسة جوانب الضعف والقوة في كل ما يقدم عبر برامج حاسوبية تقوم بتحليل البيانات وتعتمد خطة نادينا على توجيه القيم والمشاعر ومراعاة الفروق الفردية في تفاوت البرامج وتحقيقها للأهداف من ترفيهي وعلمي وثقافي وأدبي ورياضي مما يلبي حاجات الشباب ويحقق رغباتهم..
كما يقوم على المركز مربون ومعلمون نحسبهم والله حسيبهم مخلصين لوجه الله، ونحرص على تطويرهم بعقد لقاءات وبرامج خاصة بهم.
أسأل الله تعالى القبول والسداد وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
- والتقى الألوكة مديرة المركز الثقافي الصيفي الثاني بالثانوية الثانية والثلاثين التي شكرت لموقع الألوكة اهتمامه بقضايا المجتمع وبالذات همومه التعليمية، وأحب أن أطلع القراء من خلال موقع الألوكة على نشاطات المركز من الدورات التدريبية المختلفة.
من الندوات والمحاضرات.. وتنظيم المسابقات الهادفة في المجالات الثقافية والاجتماعية والعلمية والفنية والمهنية..(/7)
ولقد تم قبول الموظفات المؤهلات ذوات الخبرة والمواهب لجذب الطالبات بطريقة التنويع والتشويق والابتكار وإجراء المقابلات الشخصية للمتقدمات سواء من داخل السلك التعليمي أو خارجه..
ولقد كان إقبال الطالبات كبيراً إذ وصل إلى أكثر من سبعين ومائتي طالبة من جميع المراحل التعليمية بالإضافة إلى المرحلة الجامعية.
وكان لحضور المسئولات من الإشراف التربوي فضل كبير بعد الله في التوجيه والإشراف على نشاطات وسير العمل في المركز.. وأخيرا أتقدم بالشكر مني ونيابة عن المشرفة التربوية/ لطيفة العبيد وموظفات المركز لموقع الألوكة لإتاحته الفرصة للتعريف بالمركز للأهالي وأهميته لشغل أوقات فراغ بناتنا الطالبات بما يثري مواهبهن، ويستثمر فراغهن بالجديد من البرامج، حيث هنالك عناصر تشويق في برامج المركز تتناسب وتطورات العصر.
كما التقينا رائدة النشاط الأستاذة/ نورة محمد العمرو التي أسعدها أن تقدم من خلال موقع الألوكة الشكر والامتنان لوزارة التربية والتعليم على جهودها وعونها لإدارة المركز من مسئولين وموظفين وبالذات د. ناصر العبيد من خلال الدعم المادي والمعنوي وتوفير الوسائل التعليمية والترفيهية طبقاً لاحتياجات المراكز..
ووجهت نداء إلى بناتنا الطالبات بأهمية الالتحاق بهذه المراكز لاحتوائها على عناصر التشويق في البرامج التي تحرص على أن تكون الفتاة ذات شخصية واثقة ومبدعة وتكوين شخصية منطلقة الأفكار.. من خلال برامجها الدينية والترفيهية والتجميلية، ودورات شبابية تواكب تطورات العصر بما يحقق للفتاة شخصية متوازنة.. ويرغبها في الالتحاق بالمركز..
البيت الثاني:
الأهالي: ننتظر افتتاح المراكز بفارغ الصبر لما لها من أثر حسن في بعد أبنائنا عن الاحتكاكات وإثارة المشاكل مع أفراد الأسرة.(/8)
- التقى موقع الألوكة ببعض الأهالي ليستشف من خلال آرائهم مدى أهمية المراكز الصيفية في استقطاب أولادهم.. وهل حققت المرجو منها في تحسين أوضاع الشباب واستقامة سلوكهم واستثمار فراغهم..
- ولي الأمر يوسف القاضي: نرحب بافتتاح المراكز لأنها تنقذنا من حرج وجود الأبناء الذكور في زيارات لا تتطلب وجودهم.. فالنادي كالبيت الثاني الذي تطمئن له الأسرة لا سيما إذا وجدنا طاقاتهم تتجه إلى التوجيه السليم الذي لمسناه من خلال سلوك أبنائنا.. وصرف ساعات اليوم تحت سمع وبصر الخيرين من المسؤولين في هذه المراكز التي لم نجد منها إلا كل خير..
- وأضافت والدة نايف القاضي قائلة: يشكل الابن عبئا عندما نرتبط مع القريبات من النساء التي لا يجد عندها الابن أترابه من الأولاد، ولا يمارس بحرية نشاطه فكان المركز المعقل الآمن من شياطين الإنس؛ يجد به الطالب منشوده من الاستثمار الأمثل لفراغه..
- وأيدتها الرأي والدة عبدالله الرشودي التي تحدثت عن معاناتها مع الأبناء عندما تغلق المدارس أبوابها قائلة: نشعر بثقل الفراغ على أولادنا ونعد الأيام التي تفتتح فيها المراكز الصيفية أبوابها لنتنفس الصعداء، ونسجل أبناءنا، ونتخلص من احتكاكهم بنا من جهة، وبإخوانهم من جهة أخرى.. لما نلاحظه بعد التحاقهم بالمركز من إشباع هواياتهم بالمنافسات الرياضية والأدبية وبقائهم مدة طويلة بعيداً عن الشارع والتسكع بالأسواق أو بقائهم في البيوت يثيرون المشاكل مع إخوانهم، وأتمنى أن تمتد إلى ثمانية أسابيع بدلاً من خمسة أسابيع..
- ووالدة عبدالله العنزي تساءلت عبر موقع الألوكة: أين أضع أبنائي الناشئين في أماكن آمنة غير المراكز؟! فعندما أذهب بأبنائي الصغار إلى الملاهي أو التجمعات النسائية أشعر بالحرج والضيق على إخوانهم الذين لا ترحب بهم هذه الأماكن – فكانت المراكز الصيفية الحل الأمثل الذي يؤويهم من شبح الفراغ وخطر الفضائيات..
تطوير واستثمار:(/9)
- كان للألوكة لقاءات مع أبنائنا الطلبة.. فهم الأمل المنشود في فتح أبواب المراكز الصيفية وتنوع نشاطاتها وفعاليتها تلبية لرغبات الطلاب المختلفة من أجل قضاء وقت ممتع ومفيد في المراكز الصيفية..
بداية كان لقاءنا مع الطالب/ نايف القاضي - المرحلة الثانوية - الذي شكر الألوكة على اهتمامه بهموم الشباب التي من ضمنها الفراغ قائلا: إن السبب الرئيس في التحاقي بالنادي الصيفي هو رضا الله سبحانه وتعالى واستثماراً للإجازة التي تضيع فيها أوقات الشباب، وقد وجدنا في النوادي صقلا لمواهبنا وقدراتنا في إبداعات حركية وغيرها، وتستهويني داخل أروقة النادي الدورات العلمية والعملية التي تناسب ميلي.. وإقامة بعض البرامج الجماعية التي تبعث روح التنافس بين أعضاء النادي ونلاحظ الكثير من النشاطات الجميلة التي تتناسب مع اهتمامات الشباب، وأتمنى مستقبلاً تكثيف الزيارات الميدانية التي تعود علينا بالنفع.. وشكر خاص عبر موقع الألوكة للقائمين على مثل هذه النوادي وما يبذلونه من جهود موفقه لملء أوقات الشباب واستغلال طاقاتهم..(/10)
كما التقينا الطالب عبدالله الزيد – في الثالث الثانوي - الذي حمد الله على نعمة التيسير في فتح مثل هذه النوادي الصيفية التي فيها من الخير والنفع الكثير للشباب فهي هُيئت لهم، وتقوم نشاطاتها عليهم، وهذا سبب التحاقي بها إذ وجدت بها ضالتي من استثمار فراغنا بالمعهد، وتطوير ذواتنا وشخصياتنا من خلال الدورات المقامة في هذه الأندية، واللقاءات الصحفية على مستوى المركز التي أثْرَتْ خبراتنا من خلال قدوات المجتمع من علماء ومربين، بالإضافة إلى التعرف على الصحبة الجيدة التي كانت من أهم أسباب التحاقي بهذه المراكز حيث تقدم صورة جميلة للتكافل الأخوي والتعاون على توزيع المهمات والمسؤوليات، فضلا عن النشاطات الدينية والثقافية الجماعية.. وإني أطلب ممن ينتقدها أن يؤجل حكمه عليها حتى يأخذ جولة في أحد النوادي المنتشرة في هذه البلاد الطيبة بنفسه، فليس راء كمن سمع.
جولة الختام:
ومن خلال جولتنا التي شملت أروقة المراكز الصيفية للبنات التقينا بعدد من الطالبات المسجلات فيه حيث أكدت الطالبة/ سارة محمد الدريبي أن سبب تسجيلها في المركز هو: قضاء وقت الفراغ والترفيه، وتنمية وممارسة هواياتنا في الإجازة، ونتمنى مستقبلاً إضافة الرحلات إلى برامج المركز، وأيدتها في الرأي الطالبةُ أفنان المطوع والطالبة شعاع الدريبي بإضافة الرحلات الترفيهية، وتختلف عنهن الطالبة نجود الريس بأمنيتها إضافة النشاط الصحفي، في حين سجلت الطالبة أنجاد الجريس في المركز الصيفي لعدم وجود بديل آخر، والطالبة نورة عبدالعزيز العقيل للترفيه والتخلص من الملل والاستفادة من العطلة الصيفية بالمفيد من بعض النشاطات التي تعرض في المركز.(/11)
العنوان: المربي الناجح
رقم المقالة: 1890
صاحب المقالة: محمد سعيد مرسي
-----------------------------------------
المربي الناجح
• القدوة
• حسن الصلة بالله
• نفس عظيمة وهمة عالية
• يألف ويؤلف
• ضبط النفس
• سعة الاطلاع
• الثقافة التخصصية
• الحنان
• التصابي.
• الاتصال بأولياء الأمور
• وضوح الهدف
• تحصيل الثمرة
• • • • •
سواء كنت يا أخي في البيت أبًا، أو مُعلِّمًا في المدرسة، أو مُحفِّظًا في المسجد، وسواء كنتِ يا أُختي أُمًّا، أو مُعلِّمةً، أو مُحَفِّظةً، لكم جميعًا نُوَجِّه حديثنا؛ من أجل تربية إسلامية صحيحة لأبنائنا، نتحدث معًا وبإجمال أقربَ منه إلى التفصيل عن صفات المربِّي الناجح، وما يجب عليه أن يتحلَّى به، وما يجب عليه أن يتخلى عنه، ومن تلك الصفات:
1 – القدوة:
وهي عُمدة الصفات كلِّها؛ بل تَنبني عليها جميعُ صِفات المُربِّي، فيكون قدوةً في سُلوكه، قدوةً في مَلْبَسِه، قدوة في حديثه، قدوة في عبادته، قدوة في أخلاقه وآدابه، قدوة في حياته كلها.
ولقد سَبَقَ أنْ تَحَدَّثْنَا فِي الجُزْءِ الأوَّل عن ذلك تحت عنوان (الاستنساخ)، وقلنا إن الطفل إذا ما افتقد القُدوة فيمَنْ يُرَبِّيهِ، فسوف يفتَقِدُ إلى كلِّ شيء، ولن يُفلِح معه وَعْظ، ولا عقاب، ولا ثواب، كيف لا وقد رأى الكبير يفْعَلُ ما يَنهاهُ عنه؟! وقلنا كذلك إنَّ عَيْنَ الطفل لكَ كالميكروسكوب ترى فيه الشيء الصغير واضحًا تمامًا، فالنظرة الحرام التي تختلسها، والكلمة القصيرة السريعة الَّتي تنطِقُ بِها وغيرُها، يستقبلها الصغير فيُخَزِّنها، ويفعل مثلها إن لم يكن أسوأَ، ولا تستطيع أن تنهاه، وإلا قال لك: أنتَ فَعَلْتَ ذلِك، وأنا أفْعَلُ مِثْلَك!! طبعًا هو لا يعانِد – غالبًا – في مثل هذه المواقف؛ ولكنه يُقلِّدُكَ، فأنت الكبير وهو يُحِبِّكَ، ويحب أن يفعل مثلما تفعل ليتشبَّهَ بكَ.(/1)
فإن غضبتَ فشتمتَ فإنَّه سيشتُمُ عندما يغضَب، وإن طلبت منه شراء الدخان أو رَمْيَ باقي السيجارة، فسيشرب منها بعد ذلك ولو خِلْسَةً؛ حتَّى يتمكَّن مِن شُرْبِها بِحُرِّيَّة في أقربِ فرصة، فَهُو يُقَلِّدك وأنت الكبير، وإن خرجتِ الأمُّ مُتَبرِّجَةً فلن تستطيعَ إقناعَ ابْنَتِها بعد ذلك بارْتِداء الحجاب، وإن نادى المؤذِّن للصلاة وصلَّيْتَ في البيت فسيصلي في البيت، وإن ذهبت إلى المسجد فسوف يُحِبُّ الذَّهاب إلى المسجد، وإن غَفَلْتَ عنِ الصلاة ساهيًا أو عامدًا فسوف يقلِّدُكَ؛ فأنت القدوة.
وهكذا إن طلبت منه أن يخبِرَكَ بسِرِّ أحد، أو لعبت أمامه بدون حذاء أو بغير الملابس الرياضية، وكذا إن رآك (تُبَحْلِقُ) في صور العاريات، أو فِي الفيديو، أوِ التليفزيون، أو عاكستَ أحدًا في الهاتف... إلخ.
2 – حسن الصلة بالله:
وهي منَ الصفات التي لا غنى للمربي عنها، وقد كنا نقصر في صلتنا بالله، فلا نرى قلوبًا مفتوحة لنا، ولا آذانًا صاغيةً، تَستَقْبِلُ بِحُبّ ما نقولُه وما نفعلُه، والعكس عندما كنا نحسن الصلة بالله، فكان الله - عز وجل - يُبارِكُ في القليل، فيستجيب الصغار لنا أسرعَ مِمَّا نتخيَّل، يُصَلُّون، ويُذَاكِرون، ويحفظون القرآن الكريم، ويظهَرُ مِنْهُم حُسن خلق أثناء اللعب، وأثناء الفسح.
إن الصلاة في جماعة، خاصة صلاةَ الفجر، والمداومة على ورد القرآن، وأذكار الصباح، وأذكار المساء، وكثرة الاستغفار، والبُعْد عن المحرَّمات والشُّبُهات، خاصَّةً غضَّ البَصَر، والوَرَع لَفِيهَا جميعًا الخيرُ والبركة في هذا المجال، فإرضاءُ اللَّه غايةٌ، ما مِن أحد إلاَّ ويتمنَّاها ويسعى إليها؛ لِينالَ الجنَّة في الآخرة والسعادة في الدنيا، ومَن أسعد في الدنيا مِن رجل له أبناء صالحون، يحسن تربيتهم فينالُ مِنْهُم بِرًّا ودعوةً صالحةً، نسأل الله ألا يَحْرِمَنا من هذه النعمة العظيمة.
3 – نفس عظيمة وهِمَّة عالية:(/2)
المُربي لا بد أن يكون عظيمَ النَّفس، هِمَّتُه عالية، وإرادته قوية، ونَفَسُه طويل، لا يطلب سفاسفَ الأُمُورِ، يعلم أن تربية الأولاد في الإسلام فنٌّ له عقبات؛ كما له حلاوة، وأجر عظيم. لذلك يسعى جاهدًا أن يجعلها لِلَّه، ويُضَحّي من أجلها بِراحَتِه وبماله، وبكل شيء عنده، ويصل طموحه به إلى أن يتمنَّى أن يكون ابنه؛ كمُحَمَّد الفاتح، الَّذي علَّمه شيخُه وهو صغير أنَّ القسطنطينية سيفْتَحُها اللَّه على يد أمير مسلم، يرجو أن يكون هو، فقد قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فَلَنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيش))، ومن نماذج المربين وأصحاب الهمم والطموحات الكثير والكثير.
4 – يألف ويؤلف:
نعم مِن صفات المُرَبِّي أن يألف ويؤلف، يألف الصغار ويحبهم، ولا يأنف الجلوس معهم، يتبسط في حديثه ويتواضع، يمزح ويلعب، يلين ولا يشتد، يعطي كثيرًا بلا مقابل، ولا تفارقه الابتسامة، وكذلك يُؤْلَف عند الصغار، وإلا فلا يتصدَّى للتعليم ولا التربية، فهي مهمة ليس هو أهلاً لها، إذ إنه دائمُ التجهُّم، شديد، عنيف، لا تعرف الرحمة طريقًا إلى قلبه، فويل لأبنائه منه تمامًا؛ كمن قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لي عَشْرَةً منَ الولد ما قَبَّلْتُ منهم أحدًا"، فقال له الحبيب المُرَبّي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لا يَرحم لا يُرْحَم))، وعمر بن الخطاب عَزَل مثل ذلك الرجل عن ولاية المسلمين، فمن لا يألفه أبناؤه، لا يألفه المسلمون، وهو بالتالي لن يرحمهم.
5 – ضبط النفس:
شَتَمَ الصغيرُ أخاه، غَضِبَ الأبُ، وقام لِيضرِبَ الصغير، فبكى الصغير معتذِرًا عما فَعَلَ؛ لكن الأب ظلَّ غاضبًا متجَهِّمًا طوال اليوم، ورَفَضَ أن يتحدث معه.(/3)
وفي الفصل أخطأ التلميذ فعاقبه المدرِّس وظلَّ غاضبًا طوال الحِصَّةِ، لم يبتسمِ ابتسامَةً واحدة رغم اعتذار التلميذ عمَّا فعل، أوِ اعترافه بخطئه، هذا هو ما قصدناه بضبط النفس أن تغضب ولكن ليس من قلبك، وتُعاقِبَ بمزاجك، تُعاقِبُ وأنت تهدُف من وراء العقاب شيئًا، وهو التربية؛ أي تَغْيِير السلوك؛ ولكن لا تكتشف بعد العقاب أنَّك غضبت كثيرًا، وعاقبت بشدة أكثر مما يستحقُّ السلوكُ الخطأ الذي فَعَلَهُ الصغير، وأنك عاقبتَ أصلاً كردِّ فعلٍ سريعٍ للخطأ ولم تنوِ قبل العقاب أن تغير من سلوك الصغير، وبالتالي فقد عاقبتَ بالغضب والصِّيَاح بدلاً من التصحيح الهادئ أوَّلاً، أو ضربتَ وكان الأَوْلَى أن تُظْهِر الغضب فقط، ليس هذا فحسب؛ بل مِن ضبط النفس أيضًا أن تغضب فإذا ما اعترف الصغير بخَطَئِهِ فيتلاشى غضبكَ على وجه السرعة، ويتحوَّل إلى ابتسامة رقيقة، وكذلك تتحوَّل الابتسامةُ إلى تَجَهُّم عند الخطأ، وسرعان ما يزول التجهُّم، وهكذا دون أن يُؤَثِّرَ ذلك في القلب؛ لِيُرَبِّيَ الكبيرُ الصغير، وليس العكس، فيتحكَّم الصغير في حركاته وسكناته، ابتسامِهِ وتَجَهُّمِهِ، جِدِّهِ ولَعِبِهِ.
6 – سَعَةُ الاطلاع:
يجب على المربِّي الاطلاعُ عامَّةً، وعلى الإصدارات في مجال الطفولة بشكل خاص؛ فالمسلم مثقَّف الفِكر، والمربِّي أَوْلَى بذلك؛ ليستطيع تعليم الصغار، وتغذيتهم أولاً بأول بالمعلومات الجديدة والمفيدة في التفسير، وفي الحديث، وفي الفقه، وفي السيرة، وفي العقيدة، وفي أخبار المسلمين، وفي الآداب والأخلاق، وفي المعلومات الإسلامية والعامة.. إلخ.
الصغار يسألون في كل شيء، وفي أيّ شيء، فإن عجز المربي عن الإجابة، أو تَكرر تَهَرُّبُهُ منهم سقط من نظرهم، ولجؤوا لغيره؛ يسْتَقُونَ مِنْهُ معلوماتِهم، قد يكون التليفزيون، وقد يكون شخصًا سيئًا، وقد يكون مجلة داعرة، أو كتابًا فاسدًا، أو غيرَهُ.
7 – الثقافة التخصصية:(/4)
فالمربِّي لكي يُحسِنَ التعامل مع الصغار؛ لا بد أن يعرف خصائص كل مرحلة سِنِّية، وأن يقرأ عن أساليب التربية ومجالاتها، وكذلك يقرأ في وسائل جذب الأطفال، ويقرأ عن المشكلات النفسية والسلوكية، التي قد يُعاني منها بعض الأطفال، وقد حرصت في هذا الكتاب بجزأيه التيسير على المربي في هذا المجال بشكل عملي، لا ينقصه التنظير أيضًا، وإن كنا ننصح المربين بدوام الاطلاع على الإصدارات المطبوعة في هذا المجال، ومتابعة هذا الموضوع في الجرائد والمجلات، وببعض المواقع على شبكة الإنترنت لِمَنْ تَيَسَّر له ذلك، وإنَّ هذا الموضوعَ لَمِنَ الأهمّيَّة بمكان، بحيثُ إنَّ افتقادَه، أو ضَعْفَ المربِّي فيه، يجلب المشاكل الَّتي هو في غِنًى عنها أثناء العملية التربوية، عندما يَجِدُ طِفلاً عنيدًا ويظن أنه يفعل معه ذلك لأنَّه يكرهه، والواقع أنَّ هذه سِمَةٌ للطفل، وطبيعة فيه في مرحلة معينة، وكذلك التعرُّف من خلال الثقافة التخصصية على أن هناك فروقًا بين الأطفال، فهذا يحب القيادة، وذلك اجتماعي، والآخر كسول، وهكذا فلا تكون التربية في كُتَلٍ ثابتة؛ بل تختلف مِن طفل لآخَرَ، لذا فنحن ننصح المربي بدوام القراءة في مجال تربية الأولاد؛ من أجل الثقافة التخصصية.
8 – الحنان:
والمربي الذي ينقصه الحنان لا يصلح للتربية، الذي يغلب عليه التجهم، الذي يبخل بالابتسامة، الذي لا يمسح على رأس الطفل، الذي لا يعرف إلا العقاب، أما الثواب فلا حاجة به إليه، ليعلم كل هؤلاء أنه ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا))، و((من لا يَرحم لا يُرحم))، وأنه بذلك مخالف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مزاحه مع الصبيان، وتلطفه معهم.
9 – التصابي:(/5)
المربي الناجح يتصابَى للصغير، فينزل إلى مستواهم، فيُلاعبهم، ويمازحهم، ويحادثهم، لا يتكبر عليهم، ولا يطرُدُهم من مجالسه، يمشي معهم ولا يأنف ذلك، تأخذ البنت الصغيرة بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به في طرقات المدينة، فلا يمنعها، ويأذن للأخرى أن تفي بنذرها فتضرب بالدف بين يديه، ويعقِدُ المسابقات بين الأطفال، ويمشي على يديه ورِجْلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - ويركب الحسن والحسين فوق ظهره فلا يمنعهم، يأكل معهم ويعلمهم آداب الطعام، ويُرْدِفهم خلفَهُ على الحمار؛ كما فعل مع عبدالله بن عباس، وغير ذلك مما نتعلمه منَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يصح أبدًا أن نُبعِدَ أبناءنا عنا، ونتجنبهم كالجَرْبَى نقول لهم: (ابعد عني)، (هل ستُصَاحِبُنِي؟)، (أنسيت نفسك؟)، (لست في سِنِّي لتتحدث معي)؛ لكن لنُلاعِبْ أبناءنا، ونلعبْ معهم، ونذاكرْ لهم، ونجلسْ معهم، ونخاطِبْهُم على قَدْر عقولهم، وبما يفهمون هم لا بما نَفْهَمُ نَحْنُ، وإنَّ هذا لا يُنافِي الوقارَ والهَيْبَة والإجلال؛ بل يَزِيدُها - إن شاء الله - بما يلقاه من أبنائه وتلاميذه حينما يكبرون، ويجد أمامه ثمرةَ تَعَبِهِ، وكيف أنهم يكونون مع أبيهم وأمهم؛ كالأصحاب يُصارِحُونَهم بِمَشاكِلِهِمْ، وما يدور في نفوسهم وما يَشْغَلُهُم، فيسهل حلُّ مشكلاتهم، أمَّا الذي يهابُهُ أولاده، ويصبُّ عَلَيْهِم كل يوم وابلاً كثيفًا من الشتائم، ومختلِف أنواع العقوبات إلى جانب الفظاظة والغِلْظة، الَّتي يتحلَّى بِها، فَهَذَا يتمنَّى مِنْ أولاده حينما يكبرون أن يصارحوه ويحادثوه ويصاحبوه؛ ولكن هيهاتَ، فقد وضع الحاجز بينه وبينهم منذ زمن، ناهيك عن تمنِّيهِم لموته؛ ليستريحوا منه بعد طول عَناء؛ وربما يدعون عليه بعد موته فيحرم نفسه من خير كثير، وهو إحدى الباقيات الثلاث الصالحات للإنسان بعد موته ألا وهي ((ولد صالح يدعو له)).
10 – الاتصال بأولياء الأمور:(/6)
فالمعلِّم لابد أن يجلس مع وليِّ الأمر أو يتصل به تليفونيًّا؛ ليطمئن على ابنه، ويُنَسِّقَ معه طُرُقَ التربية، وليَعرفْ عن قُرب بيئة الصغير، ومَنِ المسيطر في البيت الأب أو الأم، وهل هناك مشاجرات بينهما أم لا؟ وهل الأب متفرغ للتربية أم لا؟ وهل الأم لا تجلس مع ابنها إلا على مائدة الطعام أم تجلس معه في غير ذلك لتطمئنَّ عليه وتتعرَّف أخبارَهُ؟ إنَّ كُلَّ ذلك سيؤثر بالطبع على الصغير بشكلٍ أوْ بِآخَرَ، فإنَّ المشاكل الأُسْرِيَّة مثلاً لها آثار جانبية تظهر في سلوك الطفل بالسلب غالبًا، فإذا ما عرف المربي هذا فلا يعاقب الطفل إلاَّ بقدر؛ لِمَا يعلم من أسباب لتلك المشكلة.
ومن فوائد الاتصال بالبيت التنسيق مع ولي الأمر، فإذا عاقب المعلِّم تلميذه فحَرَمَهُ من رحلة مثلاً فلا يصح للأب أو الأم أن تخرج ابنها في ذات الأسبوع في نزهة مماثلة، فلا يصبح لعقاب المعلِّم جدوى، وكذلك المعلم والذي يكون تربويًّا في الغالب، فإنه يُعْلِم ولي الأمر بوسائل التربية، وطرقها ليستفيد منها في تربية ابنه، فمن هنا نعلم أهمية اتِّصال أولياء الأمور والمربين معًا؛ لتنجح العملية التربوية وتتكامل.
11 – وضوح الهدف:(/7)
المربّي الناجح يضع أمامه دومًا الهدف من التربية، والفوائد الدينية، والدنيوية العائدة عليه؛ بل عليه أن يضع له أهدافًا جزئية كل فترة زمنية، فيقول مثلاً: في خلال هذا العام سيحفظ أبنائي جُزأين من القرآن، ويتعلمون ثلاثة أخلاق إسلامية، ويتعلمون ثلاثة آداب يومية، ويتقنون مهارة الإنشاد أو الكتابة على الكمبيوتر، ويعرفون كل شيء عن الأزهر، والمُتْحَف الإسلاميِّ مَثَلاً، ويعرفون أعداءهم اليهود، وما فعلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعرفون أجدادهم العَشَرَةَ المُبَشَّرِينَ بالجنة، وكذا يعرفون خطأين شائعينِ في المجتمع، وهكذا يضع المربِّي أمامَهُ هَدَفًا عامًّا، وهو تَرْبِية الطفل تربيةً إسلاميَّةً صحيحةً، وتحته أهداف جزئية كما سبق.
12 – تحصيل الثمرة:
فالمربي الناجح ليس هو الذي يَظَلُّ أعوامًا طويلةً يجلس مع الأطفال، ويَبْذُلُ معهمُ المجهود في أشياء لا طائل منها، ولا يأخذ منهم ثمرة أولاً بأوَّلَ، فقد يعطيهم زادًا ثقافيًّا، وقد يُحَفِّظُهُم نصف القرآن؛ ولكن أخلاقَهُم سيئةٌ في أول مباراة يلعبونها مع بعضهم بعضًا، تظهر الأنانية والسَّبُّ واللَّعْن والتباغُضُ فيما بينهم، فالتربية كانتْ ثقافيَّةً لم تتعدَّ ذلك، أما الجانب التطبيقيُّ أو الجانب العمليُّ فقد تَنَحَّى جانبًا، وهو المهمُّ في العملية التربويَّة، فلْنطلُبِ الثمرةَ؛ ولكن لا نَسْتَعْجِلْها، فكلٌّ بقَدَرٍ، والزمن جزءٌ منَ العلاج.(/8)
العنوان: المرجفون في غزة
رقم المقالة: 1670
صاحب المقالة: زياد بن عابد المشوخي
-----------------------------------------
في حين ازدياد الأخطار المحدقة بالمسجد الأقصى المبارك، لا تزال زمرةُ أوسلو تعاني الصدمةَ من جرَّاء ضياع سلطتها وجاهها في قطاع غزة. لقد كانت تلك الزمرةُ تعيش على حساب الشعب الفلسطيني، مقابلَ التفريط في حقوقه وثوابته، واستمر مسلسلُ تنازلاتها لتنال حتى من رمز حركة فتح: عرفات، بعد وعد قطعه دحلانُ أمام بوش بأن يتولى أمرَ (إذابة) عرفات، وفقاً للوثائق التي كشف عنها لاحقاً.
لستُ بصدد الحديث عن الجرائم التي ارتكبتها -ولا تزال ترتكبها- هذه العصاباتُ، ولكن السؤال الذي ينبغي لأنصار حركة فتح طرحُه على أنفسهم: هل القيادة الحالية في رام الله تمثل حركة فتح؟ هل هي حقاً معنية بإحياء ذكرى عرفات؟ هل هي معنية بفك الحصار عن قطاع غزة؟ هل هي تمثل الشعب الفلسطيني؟
الأفعال على أرض الواقع كفيلة بالإجابة عن تلك التساؤلات وغيرها، لو كانت هذه الزمرة علمانية لأمكن الالتقاء والحوار معهم ضمن نقاط مشتركة، وهي المصالح الوطنية والثوابت التاريخية والحقوق القانونية، والدستور الفلسطيني مثلاً، لكن أفعالها تكشف وبجلاء أنها غدت ضمن الأجهزة الأمنية التابعة للاحتلال الصهيوني، والتي تلتزم الولايات المتحدة الأمريكية بدعمها وتقويتها وتسليحها، ولست بحاجة هنا للحديث عن مندوبهم لدي الأمم المتحدة رياض منصور.
"قاتل أبيه لا يرث"
هكذا قال عرفات لدحلان بعدما شعر بالمؤامرة التي يحيكها ضده. قيادة رام الله والفُرَّارُ معها حقيقة ليسوا معنيين بإحياء ذكرى عرفات ما داموا قد شاركوا في قتله، ألم يُطلِق عناصرُ من كتائب شهداء الأقصى النارَ على عباس عندما قدم للتعزية في عرفات؟ ألم يكن من أول المهام لعباس ولتلك الزمرة بعد وفاة عرفات تصفيةُ من تبقى من المقاومين في حركة فتح حتى أصبح شهداء الأقصى أشياعاً وأحزاباً متفرقة؟(/1)
وبدلاً من أن تحيي حركةُ فتح الذكرى الثالثة لرحيل عرفات بتنفيذ عمليات ضد الاحتلال الصهيوني، فإنها فضلت أن تحيي الذكرى على أشلاء ودماء أبناء قطاع غزة المحاصر الثابت، ففي الوقت الذي يمنع فيه الاحتلالُ دخولَ المواد الغذائية والأدوية، فإنه يسمح بدخول أعلام فتح وملصقات صور عباس ومن معه، لينتهي ذلك الإحياء بخمسة قتلى وإصابة العشرات من المواطنين.
الحكومة الشرعية أرادت أن تقول: لهم إننا لن نقف ضد الحريات السياسية والإعلامية، وتم إجراء اتفاق بين الشرطة وقادة فتح، ولكنهم سرعان ما غدروا، إنهم يريدون إلغاء نتائج الانتخابات، والمقاومة التي تشكل مصدر إزعاج لهم في أثناء انعقاد مؤتمر أنابوليس.
المهرجان الذي كان من المفترض أن يوجه ضد من اغتال عرفات تحول ليصير مهرجاناً للفتنة والإرجاف من جديد بعد صلاة الضرار. لقد أساء القوم فهم رسائل حماس وكشفوا عن بشاعة ما يضمرون وعن شيء مما يتمنون فيما لو أُتيحت لهم أدنى فرصة.
دعت زمرة عباس إلى الحداد 3 أيام بعد أحداث المهرجان، وقامت قواتُ الأمن التابعة لعباس بتنكيس العلم الفلسطيني في الضفة الغربية، والسؤال: كم ستكون مدة الحداد بعد مؤتمر التنازلات القادم أنابوليس؟! وعلى القوم أن يستعدوا لتنكيس رؤوسهم.
وبمجرد الموازنة القريبة بين ما يجري لأنصار حماس في الضفة وبين ما جرى في غزة، يدرك الجميعُ حالةَ الحرية التي أتاحتها حماس في غزة، في مقابل حالة القمع الذي مارسته، لا أقول فتح؛ بل تلك الزمرة التي سيطرت على حركة فتح، فهي التي منعت حتى مسيرةً للتضامن مع الأسرى في سجون الاحتلال في الخليل.(/2)
حركة فتح كوَّنت في مدينة رام الله مكتباً إعلامياً تحريضياً لمهاجمة حكومة هنية وحركة حماس في قطاع غزة، بالتنسيق مع عدد من وسائل الإعلام بالإضافة إلى تهديد المراسلين والصحفيين، وبحسب ما ذكرت المصادر المقربة من قيادات في حركة فتح، فإن المكتب الجديد يهدف إلى التشهير بحكومة هنية وبقيادات حركة حماس السياسية والعسكرية، وافتعال الأكاذيب الإعلامية، وتأليب الرأي العام الفلسطيني على حركة حماس، ونشر الشائعات التي تبين أن حركة "حماس" تعاني أزماتٍ داخليةً عميقة.
وبينَّت المصادر نفسها أن المكتب الإعلامي التحريضي يرأسه الطيب عبد الرحيم، ويضم في عضويته كلاً من: توفيق أبو خوصة، وماجد أبو شمالة، وجمال نزال، وعبد السلام أبو عسكر الذي أسندت إليه مهمة جهاز الدعاية المكوّن ضمن المكتب الإعلامي التحريضي.(/3)
قيادات حركة فتح في غزة لا يقدرون على الظهور؛ إلا وهم مهددون خائفون من أبناء الشعب الفلسطيني، الشعب الذي لم يعد مقتنعاً بأهدافهم وهو يرى أفعالهم في الضفة الغربية، ولا تزال ذاكرته مليئة بجرائمهم طوال سنوات تسلطهم على غزة، وأسمى ما يملكونه اليوم في غزة هو الإرجاف، وحالهم كما قال عز وجل: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا} [الأحزاب: 60]، قال القرطبي رحمه الله: "وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَة: قَوْم كَانُوا يُخْبِرُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَسُوءهُمْ مِنْ عَدُوّهُمْ؛ فَيَقُولُونَ إِذَا خَرَجَتْ سَرَايَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ قَدْ قُتِلُوا أَوْ هُزِمُوا, وَإِنَّ الْعَدُوَّ قَدْ أَتَاكُمْ"، واليوم يهدد قادة فتح (الشعب المحاصر) باجتياح اليهود لغزة، ويقفون في وجه كل محاولة لفك الحصار، يستمدون قوتهم المادية والمعنوية من الاحتلال، ووضعوا كل آمالهم على خرافة الخريف، يلهثون وراء كل شائعة، وهذا هو الإرجاف، قَالَ اِبْن عَبَّاس رضي الله عنه: الْإِرْجَاف الْتِمَاس الْفِتْنَة, وَالْإِرْجَاف: إِشَاعَة الْكَذِب وَالْبَاطِل لِلِاغْتِمَامِ بِهِ، وَقِيلَ: تَحْرِيك الْقُلُوب.
قَوْله: {لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ}؛ قال ابْن عَبَّاس رضي الله عنه: لَنُسَلِّطَنَّك عَلَيْهِمْ.
ألا يزال القوم يعلقون آمالهم على الاحتلال، ألا يزال القوم بحاجة لتكرار الحسم في الضفة، ألا يزال القوم يأمُلون في نجاح الحصار؟!
ألم يدرك القوم أن في الخريف تتساقط الأوراق!
ألم يدرك القوم بعدُ نهايةَ كل عميل وخائن وغادر!..
ألم يدرك القوم أنهم لن يطفئوا نور الله بأفواههم!..(/4)
ألم يعلموا أن {...الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.(/5)
العنوان: المرضى وكبار السن .. الإسلام يكرمهم .. والغرب يقتلهم
رقم المقالة: 481
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
- القتل الرحيم ..حيلة شيطانية اخترعها المجتمع الغربي للتخلص من المرضى وكبار السن.
- رحمة الصغير، وتوقير الكبير، ورعاية المريض؛ قيم إسلامية أصيلة، لا يجوز أن يفقدها المجتمع.
- توعية المجتمع بمكانة المسنِّين وحقوقهم، من خلال مناهج التعليم والبرامج الإعلامية.
* * *
برغم ما أحرزته الحضارة الغربية من تقدم مادي وتكنولوجي في هذا العصر؛ فإن الحضارة العربية الإسلامية تظلُّ هي الأبقى والأصلح؛ لما تتميز به من طابع إنساني، يقوم على احترام آدمية الإنسان أيًّا كانت ديانته، أو جنسيته.
ولقد وصلت الحضارة الغربية إلى قمة انهيارها وفسادها عندما أهدرت قيمة البشر، وحوَّلتهم إلى مجرد آلات تعمل، فإذا توقفت عن العمل- لمرض، أو عجز، أو شيخوخة - فلا سبيل إلى صيانتها، ولكن يجب التخلص منها. فأصحاب هذه الحضارة المادية يبيحون القتل، ويسهِّلون سُبُلَه، ويقدِّمون الوصفات السحرية للانتحار والتخلص من الحياة لمن يرغب في ذلك.(/1)
هذه الحيلة الشيطانية التي يسمونها بـ "القتل الرحيم" - والتي تستهدف أصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن - لها جذور تمتد لعشرات السنين؛ فقد أُلِّفَتْ في إنجلترا عام (1936م) جمعية باسم "القتل بدافع الرحمة"، طالبت السلطات بإباحة الإجهاز على المريض الميئوس من شفائه، وتكرر الطلب، فرُفض، كما تكونت جمعية لهذا الغرض في أمريكا، وباء مشروعها بالفشل سنة (1938م)، وما زالت هذه الدعوة تكسب أنصارًا في هذه البلاد، فانتشرت انتشاراً عظيماً في أمريكا ودول الغرب، ووصل الحدُّ ببعض هذه الدول إلى وضع تشريعات قانونية تسمح بهذا القتل، ولا تجرِّم مرتكبيه من الأطباء وغيرهم، مثل هولندا، كما وصل الحدُّ ببعض الأطباء إلى اختراع الأجهزة التي تسهِّل الانتحار للراغبين فيه، وأُعدَّت البرامج التلفازية لترويجه، ونُشرت الكتب التي تؤيده وتدعو إليه.
حجج فاسدة:
يستند المؤيدون للقتل الرحيم في المجتمع الأوربي إلى عدة حجج؛ منها: أن الإنسان حرٌّ في تقرير مصيره، وله حق التصرف في جسده كما يشاء؛ فله حق الحياة وحق الموت، وحقٌّ أن يُقتل إن هو طلب ذلك، وأن القتل الرحيم من شأنه أن يريح المريض من معاناته وآلامه، كما أن القتل الرحيم بمنزلة مساعدة على الانتحار. ويقولون: إن حياة بعض كبار السن والمرضى لا تساوي عدمها، وخير لهم أن يموتوا، وإن قيمة الحياة تقاس بمقدار مساهمة الإنسان إبداعًا وإنتاجًا، ويقولون أيضاً: ما قيمة الحياة عندما يصبح الإنسان معتمداً على غيره في قضاء حوائجه؟!.
كما يستند هؤلاء إلى العامل الاقتصادي، ويرون أن التخلص من بعض المرضى وكبار السن فيه توفيرٌ مادي على المجتمع والدولة، فمن الواجب تخليص المجتمع من الحشائش الضارة!! ويمثِّلون لذلك بمرضى الإيدز.
حياة الإنسان قيمة:(/2)
إن الأسانيد التي اعتمدوا عليها في تقنين هذا القتل مردودة؛ إذ تحكمها النزعة المادية البحتة، وتهدر قيمة الحياة البشرية، وتقيس هذه الحياة بميزان النفع المادي للإنسان، فإذا توقف هذا النفع أو تعطَّل - لمرض أو عجز - فلا ضرورة لبقاء الإنسان على قيد الحياة، وهي الدعوى التي تقدم خير دليل على فساد الحضارة الغربية وانهيارها، وإهدارها لحقوق الإنسان، خاصةً في حالة العجز والمرض، إن الإنسان في هذه الحضارة مجرد آلة صماء، إذا تعطلت وعجز المجتمع عن إصلاحها يجب التخلص منها، فماذا بقي لهذه الحضارية المادية البغيضة كي تحافظ عليه، بعدما أهدرت قيمة البشر، وسعت لإقامة المجازر والمقاصل للمرضى وكبار السن تحت حماية القانون، مع ما أحرزته من تقدم مادي وتكنولوجي في هذا العصر؟!.
موقف الإسلام:(/3)
قوبلت هذه الدعوى الخبيثة في عالمنا العربي والإسلامي بالرفض، فقتل الإنسان أيًّا كان؛ سواء المريض الميئوس من شفائه، أو المُسِنّ العاجز عن الحركة والعمل - كما يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر -: "ليس قرارًا متاحًا من الناحية الشرعية للطبيب، أو لأسرة المريض، أو للمريض نفسه، وحياة الإنسان أمانة يجب أن يحافظ عليها، وأن يحفظ بدنه ولا يلقي بنفسه إلى التهلكة؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة : 195]، وقد حرَّم الإسلام قتل النفس؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء : 29]، ونهى الرسول – صلى الله عليه وسلم - عن أن يقتل الإنسان نفسه نهيًا شديدًا، وتوعَّد من يفعلون ذلك بسوء المصير في الدنيا والآخرة، فقد أكَّدت شريعة الإسلام على التداوي من أجل أن يحيا الإنسان حياة طيبة، كما أمرت الشريعة الإسلامية الأطباء بأن يهتموا بالمريض، وأن يبذلوا نهاية جهدهم للعناية به، وعلى الطبيب والمريض أن يتركا النتيجة إلى الله - سبحانه وتعالى. كما أن على الطبيب ألا يستجيب لطلب المريض إنهاء حياته، وإذا استجاب؛ يكون خائنًا للأمانة - سواء بطلب المريض أو بغير طلبه - وإلا أصبح قاتلاً، وتعرض للعقاب".
أكدت لجنة الفتوى بالأزهر الشريف أن الإسلام يحرم قتل المريض بدعوى الرحمة، وقالت اللجنة: "إن الآجال محددة بعلم الله - سبحانه، ولا يدري أحد ولا يستطيع تحديد متى يموت، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان : 34]، والمرض وحده ليس كافياً في توقع الموت؛ فكم من حالاتٍ أجمع الناس فيها على حتمية الموت العاجل، ثم كانت إرادة الله - عز وجل – بالشفاء!! فنتائج الأسباب مظنونة، وإرادة الله عز وجل غالبة".(/4)
والإسلام يحرم القتل بدافع الرحمة مهما كان الغرض منه، ولا يبيحه لمن يشرف على علاج المريض، سواء أكان طبيباً أو غيره، حتى وإن أَذِنَ المريض أو أولياؤه؛ لأنه قتل حرَّمه الله - سبحانه - إلا بالحق، والمريض إن أَذِنَ به يعد منتحراً، هذا وقد تقدم نهيه - سبحانه - عن قتل النفس، حيث قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً}.
الإسلام وكبار السن:
إن المتأمل في نظرة الإسلام إلى كبار السن؛ لتتبدَّى له حقيقة ثابتة، ألا وهي أن الإسلام - من منطلق الكرامة الإنسانية التي قررها لكل فرد من بني آدم - قد اهتم بالإنسان في جميع مراحل حياته؛ حيث يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [الإسراء : 70]، ومراحل حياة الإنسان هي قوة بين ضعفين؛ شباب بين طفولة وشيخوخة، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [الروم : 54]، فالإنسان لا محالة – أي إنسان – تبدأ حياته بطفولة ضعيفة، قد تنتهي بشيخوخة ضعيفة أيضاً - إذا أمد الله في عمره، فيصبح في حاجة إلي رعاية غيره من أفراد المجتمع.(/5)
ولقد أقر البرلمان الكويتي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي قانوناً يعاقب المسيء لوالديه ولكبار السن، يدعو هذا القانون إلى رعاية المسنين، ويقضي بفرض عقوبات مشددة على كل من يتعرض لوالديه ولكبار السن بالأذى وسوء المعاملة، وحدَّد هذا القانون عقوباتٍ على من يتعرض بالسوء لوالديه أو أيٍّ من أقربائه، وعلى من لا يرعى والديه الرعاية المستحقة، خاصة عند وقوع ضرر جسيم.
ومن نصوص هذا القانون: إذا كان الضرر الواقع على أحد كبار السن من قريب له؛ فإن العقوبة هي السجن لمدَّة عام - كحدٍّ أقصى -، وبغرامة تتراوح بين خمسة آلاف دينار - كحدٍّ أقصى -، وألف دينار على الأقل، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وأما إذا كان المتضرِّر هو أحد الوالدين؛ فإن العقوبة هي السجن مدةً لا تتجاوز السنتين، وتتراوح الغرامة بين ألفين وعشرة آلاف دينار. وشدد هذا القانون على حقوق الوالدين؛ فقرَّر أن العقوبة قد تصل إلى السجن مدة قد تصل إلى عشر سنوات، وتتراوح الغرامة بين ألفين وخمسة آلاف دينار كويتي.
وأصدر مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة في إحدى دوراته السابقة قراراً بشأن حقوق المسنين؛ انطلاقاً من حاجة المجتمع الإسلامي اليوم إلى من يذكِّره بهذه الحقوق المنسية، ويقوده إليها، بعد أن بدأت بعض قيم الغرب المادية تنتشر بيننا.
أكد مجمع الفقه الإسلامي ما قرره الإسلام من رعاية الأبوين وكبار السن في المجتمع الإسلامي؛ حيث يقول الله - سبحانه - : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء : 23]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أكرم شابٌّ شيخاً لسنّه؛ إلا قيَّض الله لهم من يكرمه عند سنِّه))؛ أخرجه الترمذي، وقال أيضاً: ((ليس منَّا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا))؛ رواه الترمذي، وأحمد في "مسنده".(/6)
وقرر مجمع الفقه الإسلامي ضرورة توعية المُسِنِّ بما يحفظ صحَّته الجسدية والروحية والاجتماعية، ومواصلة تعريفه بالأحكام الدينية التي يحتاج إليها في عبادته ومعاملاته وأحواله، وتقوية صلته بربه، وحسن ظنه بعفوه - تعالى - ومغفرته، وتأكيد أهمية عضوية المسنين في المجتمع، وتمتعهم بجميع الحقوق الإنسانية، وأن تكون أُسَرُهم هي المكان الأساسي الذي يعيشون فيه؛ ليستمتعوا بالحياة العائلية؛ وليبَّرهم أولادهم وأحفادهم، وينعموا بصلة أقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم، فإن لم تكن أُسَرٌ؛ فينبغي أن يوفَّر لهم الجو العائلي في دور المسنين.
كما يجب توعية المجتمع بمكانة المسنين وحقوقهم من خلال مناهج التعليم والبرامج الإعلامية، مع التركيز على بر الوالدين، وإنشاء دور الرعاية للمسنين الذين لا عائل لهم، أو تعجز عائلاتهم عن القيام بهم، والاهتمام بطب الشيخوخة في كليات الطب والمعاهد الصحية، وتدريب بعض الأطباء على اكتشاف أمراض المسنين وعلاجها، مع تخصيص أقسامٍ لأمراض الشيخوخة في المستشفيات، وتخصيص مقاعد للمسنين في وسائل النقل، والأماكن العامة، ومواقف السيارات، وغيرها؛ لرعايتهم.
عناية الإسلام بكبار السن:
وهذه الحقوق التي قرَّرها مجمع الفقه الإسلامي للمسنين إنما هي بعضٌ مما كفله الإسلام لهم من حقوق، فلا يوجد دين عُني بحقوق الشيوخ وكبار السن كما عُني بها هذا الدين، فالإسلام يُعنى بالإنسان طفلاً، ويُعنى به صبياً، ويُعنى به شاباً، ويُعنى به كهلاً، ويُعنى به شيخاً، إنه يمضي مع الإنسان في رحلة حياته كلها، من المهد إلى اللحد، من صرخة الوضع إلى أنَّة النَّزْع، يشرِّع لهذا الإنسان، ويوجهه في جوانب حياته كلها.(/7)
وفي ذلك يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "عُني الإسلام بمرحلة الشيخوخة، ومرحلة الشيخوخة مرحلة طبيعية من مراحل حياة الإنسان، أشار القرآن إليها حينما قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} [غافر : 67]؛ فقد أشار إلى المرحلة الجنينية، والمرحلة الطفولية، ومرحلة بلوغ الأَشُدِّ، وتشمل مرحلة الشباب والكهولة، ثم مرحلة الشيخوخة، {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً}.
هكذا لابد أن يصل الإنسان إذا لم يدركه الموت في الصِّغَر؛ أن يصل إلى الشيخوخة، والشيخوخة مرحلة ضعف، فالسنين تعمل عملها في الإنسان، كما تعمل عوامل التَّحَاتِّ والتعرية في الأرض وفي المادة وفي الحياة الطبيعية، كذلك مُضِيُّ السنين والأعوام يعمل في الإنسان؛ فيضعُف بعد قوة، وتقل حواسه من السمع والبصر، ويضعُف إدراكه، ويعتمد على عُكَّازةٍ بعد أن كان يمشي على رجلَيْه سليمتَيْن"!!.
ومن الشيخوخة مرحلة متأخرة سماها القرآن أَرْذَلُ العُمُر: {وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج : 5]. وأرذل العمر - كما قال ابن عباس -: أردؤه؛ بحيث يصبح المرء كالصبي الصغير، يحتاج إلى غيره في كل الأشياء، أو في معظم الأشياء، لقد استعاذ النبي – صلى الله عليه وسلم - بالله من أمور خمسة؛ قال: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أَرْذَل العُمُر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، ومن عذاب القبر)). استعاذ بالله أن يُردَّ إلى أَرْذَل العُمُر فينسى بعد تذكُّر، ويضعف بعد قوة، ويصبح كَلاًّ على غيره، فهذا مما يُستعاذ بالله - تعالى - منه.
حقوق مؤكدة:(/8)
والإنسان إذا بلغ من الكبر عتيّاً - كما يقول القرضاوي -: "ضعُف واحتاج إلى غيره، وقد عبَّر عن ذلك نبي الله زكريا، حينما قال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم : 4]. هذه طبيعة الإنسان، أن يَهِنَ عظمه، وتضعف قوته وحيلته، ويفتقر إلى معونة غيرِه. بعد أن كان هو الذي يعين غيرَه، ويعُول أولاده، أصبح في حاجة إلى معونة أولاده!! وهنا يوجب الإسلام لهذا الإنسان الضعيف حقوقاً مؤكدة، حقوقاً مادية وحقوقاً أدبية، فمن حق هذا الإنسان أن يعيش مكفول الحاجات المادية، لابد أن يوفَّر له مطعَمه، ويوفَّر له مشرَبه، ويوفَّر له ملبَسه، ويوفَّر له مسكَنه، وتوفَّر له أدويته، وكل ما يحتاج إليه. هذه الأمور لابد أن توفَّر له، وأول من ينبغي أن يوفِّر له هذا هو أسرته وأولاده؛ فله حقٌّ عليهم؛ كما أنه رباهم صغاراً، يجب أن يكفلوه كبيراً. هذا حقٌّ من حقوق الله - تعالى - على الأولاد، ومن حقوق الوالدين على أولادهم، لا يجوز لهم أن يفرِّطوا في هذا الحق بوجه من الوجوه، ولا أن يمتنُّوا على آبائهم ولا أمهاتهم بهذا؛ فهو حقٌّ مؤكَّد، ولذلك لم يُجِزْ الفقهاء أن يعطي الإنسان زكاته لأبيه وأمه؛ لماذا؟ لأن نفقتهم واجبة عليه؛ فكأنما يعطي نفسه، هؤلاء جزء منك، جزء من أسرتك، كما يجوز لك أن تعطي ابنك، يجوز لك أن تعطي أباك، فالنفقة نفقة واجبة مؤكدة".(/9)
وإذا لم يكن الأولاد قادرين؛ فعلى المجتمع أن يسد هذه الحاجة؛ فالإسلام يجعل أهل كل حيٍّ، وأهل كل قريةٍ، وأهل كل عَرَصةٍ - ساحة - متكافلين فيما بينهم، يأخذ القوي بيد الضعيف، ويصب الغني على الفقير، ويحمل بعضهم بعضاً؛ فكأنهم أسرة واحدة، ((ليس منَّا مَن بات شبعانَ وجارُه إلى جَنبه جائع وهو يعلم))، ((أيُّما أهل عَرَصَة من المسلمين بات فيهم امرؤ جائع؛ فقد برئت منهم ذمَّة الله وذمَّة رسوله)). وإذا لم يكفِ ذلك، يؤخذ من موارد الدولة، التي قد تكون من الزكاة، أو من الغنائم - خمس الغنائم - قد تكون من الفيء، قد تكون من الخراج، قد تكون من أملاك الدولة مما يفيء الله عليها من باطن الأرض؛ من النفط، من الذهب، من المعادن، من أشياء أخرى تملكها، كل هذا لهؤلاء الشيوخ الضعفاء حقٌّ فيه، ولا يجوز أن يذهب هذا الحق، ولا أن يضيع أبداً في أمة مسلمة.
الحقوق الأدبية للمسنين:(/10)
والإسلام يوجب علينا أن نرعى حقوق المسنين المادية وحقوقهم الأدبية؛ فالإنسان ليس مجردَ حيوان يأكل ويشرب، الإنسان أكبر من ذلك، بعض الناس يظن أن أباه يحتاج إلى الأكل والشرب فقط، فيضعه في بيت للمسنين أو العَجَزَة - كما يسمونه، وهذه تسمية خاطئة، فلا يجوز أن نسميهم العجزة، إذ يمكن أن نسميهم (كبار السن)، أو (الشيوخ)، أو نحو ذلك - فإذا وضعه في هذه الدُّور، شعر أنه أدَّى ما عليه، وهذا خطأ كبير؛ فالإنسان له أشواق وطموحات، وحقوق أدبية، ومن حق الأب والجد أن يعيش مع أولاده وأحفاده، ومن حق الأحفاد أن يستمعوا إلى حكايات جدهم، وأن يتعلَّموا من تجاربه، من حقهم أن يؤنسهم، ومن حقه أن يؤنسوه، أما أن ترميه في المصحة، أو في دار العجزة، وتقول: لقد أديت ما عليَّ؛ فهذا لا يعرفه الإسلام، يقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء : 23-24].
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ}؛ لقد أوصى القرآنُ بالوالدين بصفة عامة، وخصَّ هذه الحالة بالذكر، حالة بلوغ الكبر، كبر السن والشيخوخة، فقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ}، (عندك)، وليس (في المصحة)!! عندك في بيتك، في دارك، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}، هذان نهيان، الأُفُّ: مجرد التأفف والتضجر، سواء أكان بالكلام؛ كأن يقول: "أُف"، أو بالنَّفَس؛ مجرد النفخة حرام!!
قال بعض السلف: لو كان هناك شيء أقل من (أُفٍّ) لحرمه الله.(/11)
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}. نهى الله - تعالى - في هذه الآية عن أمرين، وأمر - سبحانه - بثلاثة أمور: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
القول الكريم: هو القول الليِّن، القول الطيب، القول الحسن، كأن يقول له: (يا أبتِ) كما رأينا سيدنا إبراهيم - عليه السلام - يقول لأبيه، وهو - أي: والد إبراهيم - مشركٌ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم : 42]، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } [مريم : 45]، وهكذا القول الكريم، {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..}.
والإنسان المسلم يكسب الجنة ببِرِّ والديه؛ فالله تعالى قال لرسوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {الشعراء : 215]، اخفض جناحك...، ولكن هنا قال: {جَنَاحَ الذُّلِّ}، ليس مجرد خفض جناح، ولكنه جناح الذل، ولم يمدح الله الذل في القرآن إلا في موضعين؛ في هذا الموضع، وفي موضع آخر؛ حينما قال {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة : 54]، ذلُّ الإنسان لأبويه، وذلُّ الإنسان لأخيه المؤمن، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، خفضٌ من الرحمة، ليس من هوان ولا من ضعف!!.
تذلَّلْ لهما، تحبَّب إليهما بهذا، {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}، ادعُ لهما أن يرحمهما الله في حياتهما وفي موتهما.(/12)
كان بعض السلف إذا أصبح يقول لأبيه: "يا أبتِ، يرحمك الله كما ربيتني صغيراً". يقولها منفذاً تعاليم القرآن، فيقول له أبوه: "يا بني، وأنت يرحمك الله كما برَرتَني كبيراً". انظر إلى هذه العلاقة الطيبة الحسنة!!.
{وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}؛ فعلى الإنسان أن يرعى هذه العلاقة؛ إذ يستطيع بها أن يكسب المغفرة ويربح الجنة، إذا أحسن إلى أبويه - أو أحدهما - في حالة الكبر.
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((رَغِمَ أنفُه. ثم: رَغِمَ أنفُه. ثم: رَغِمَ أنفُه. قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبواه عنده الكِبَر - أحدُهما أو كلاهما - فلم يُدخلاه الجنة)). لم يصل إلى الجنة من خيبته!! ضيَّع الجنة وكان يمكنه أن يكسبها ببرِّ والدَيه!! في هذه الحالة: رَغِمَ أنفُه، ثم: رغم أنفه، ثم: رغم أنفه.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ } ... روى البزَّار: ((أن رجلاً كان يطوف بالبيت وهو حامل أمه، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نظر إليه: يا رسول، هل أديتُ حقَّها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة))!! زفرة من زفرات الطَّلْق والوَضْع والآلام، لم تؤدِّ بحملك هذا لها حقَّ زفرةٍ واحدة!!.
وجاء رجل إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بلغ بِرِّي بأمي أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطيّاً؛ أحملها وأذهب بها إلى المرحاض كما كانت تفعل بي في الصِّغَر، فأنا أؤدي إليها ما كانت تؤدي إليَّ؛ هل وفَّيْتُ حقَّها؟ فقال عمر: لا، إنها كانت تفعل بك ذلك وتتمنى لك عمراً طويلاً، وأنت تفعل بها ذلك وأنت تترقَّب موتها غداً أو بعد غد!! فرقٌ بين الأمرين.
الرعاية التي يرضاها الإسلام:(/13)
فالواجب على الإنسان أن يرعى أبويه، ليس بمجرَّد رميهما في المصحة، وإن كانت المصحات لابد منها؛ لأن من الناس من لا عائلة له، وقد يكون الابنُ فقيراً لا يستطيع أن يُسكنَ أباه في بيته؛ ذي الحجرتين، فماذا يفعل؟ هنا يمكن أن يذهب المُسِنُّ إلى المصحة، ولكنْ لابد أن يزور بيت أولاده بين الحين والحين، ولابد أن يزوروه، وهناك - في بعض البلاد - أندية تقام للمسنين، يقضون نهارهم معاً في هذه الأندية، ثم يعودون إلى بيوت ذويهم في المساء، والحاجة إلى مثل هذه الدور في بلادنا ملحَّةٌ - خاصةً في عصرنا؛ إذ تعمل المرأة، والأولاد في المدارس، والابن يعمل، ويبقى الرجل المُسِنُّ وحده، وهذه حياة موحشة؛ فأقاموا لذلك أندية المسنين. لا بأس أن نقيم هذه الدور في بلادنا، وفي مجتمعاتنا، فالإسلام لا يمنع من إقامة مثلها؛ لتقوم بحق هؤلاء الشيوخ الكبار، وبحق المُسِنَّات من النساء أيضاً.
هذا واجبنا، وواجب المجتمع أيضاً أن يعين في ذلك، واجب المجتمع أن يوقِّر الكبار، وأن يؤدي إليهم حقهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقِّر كبيرنا، ويعرف شرف عالمنا".
فرحمة الصغير، وتوقير الكبير، واحترام العالِم، قيم إسلامية أصيلة، لا يجوز أن تُفقد هذه القيم، ولا أن نستبدلها بقيم أخرى غريبة عن هذه المجتمعات، يرى الرجلُ الشيخَ الكبير فلا يعينه، يركب الحافلة وهو يحتاج إلى أن يجلس، فيظل الشاب جالساً ويترك هذا الشيخ!! هذه قيم غريبة عن هذا المجتمع، المجتمع يوقر الكبير، وكما قال الحديث الذي رواه الترمذي: ((ما أكرم شابٌّ شيخاً إلا قيَّض الله له من يكرمه عند سنِّه". إذا أكرمت شيخاً وأنت شابٌّ، جزاك الله من جنس عملك؛ فهيأ لك - وأنت شيخ - من يكرمك وأنت في حاجة إلى الإكرام، هذه الأمور كما يقول الناس (سلف)؛ البر سلف، والعقوق سلف، برُّوا آباءكم، تبرُّكم أبناءكم.(/14)
ويحذر الدكتور القرضاوي من أن تنتقل إلينا العدوى من الغربيين، الذين تفكَّكت أسرهم؛ فلا يكاد الابن يعرف أباه أو أمه بمجرد أن يبلغ الحُلُم، إذا بلغ الشاب ستة عشر عاماً أصبح حبله على غاربه، بحث له عن صديقة، وبحثت الفتاة لنفسها عن صديق، ولا يكاد أحدهما يعرف أمه أو أباه، ولذلك احتاجوا إلى أن يحتفلوا بعيدٍ للأم، وعيدٍ للأب، يومٌ في العام يتذكر الواحد منهم فيه أن له أباً أو أماً!! وماذا يفعل؟ لعله يرسل إليه بهدية، أو يرسل إلى أمه بزجاجة عطر أو نحو ذلك!! هذه هي حياتهم!! ويعيش أحدهم في شيخوخة موحشة، الشيخوخة هناك موحشة أشد الإيحاش؛ لأن الإنسان يعيش وحده، لا يتمتع فيها بابن ولا بنت، ولا حفيد ولا حفيدة، والإسلام لا يرضى بهذه الحياة، لا يرضى للإنسان إلا أن يحيا كريماً عزيزاً موقَّراً.(/15)
العنوان: المُرُوءَةُ في ظلالِ الشِّعِْر
رقم المقالة: 1841
صاحب المقالة: د. أسامة عثمان
-----------------------------------------
اختلفت كلمةُ اللغويين والأدباء في معنى المروءة، فمِنْ قاصرٍ لها على معنى معين ومِنْ راءٍ أنها تعم المحاسن الخلقية كلَّها.
قال ابن منظور في لسان العرب: "والمُرُوءَة: الإِنسانية... يقال من المُرُوءَةِ: مَرُؤَ الرجلُ يَمْرُؤُ مُرُوءَةً، ومَرُؤَ الطعامُ يَمْرُؤُ مَراءَةً، وليس بينهما فرق إلا اختلاف المصدرين. وكَتَب عمرُ بنُ الخطاب إلى أبي موسى: خُذِ الناسَ بالعَرَبيَّةِ، فإِنه يَزيدُ في العَقْل ويُثبتُ المروءَةَ. وقيل للأَحْنَفِ: ما المُرُوءَةُ؟ فقال: العِفَّةُ والحِرْفةُ. وسئل آخَرُ عن المُروءَة، فقال: المُرُوءَة أَن لا تفعل في السِّرِّ أَمراً، وأَنت تَسْتَحْيِي أَن تَفْعَلَه جَهْراً. وطعامٌ مَريءٌ هَنِيءٌ: حَمِيدُ المَغَبَّةِ بَيِّنُ المَرْأَةِ، على مثال تَمْرةٍ."
ومن هذا يُلمح أن المروءة تلتقي أيضًا ومعنى السهولة، فهي في الأخلاق السهلة الكريمة التي تستسيغها الطباع السليمة، وتسعى إلى بلوغها النفوس النازعةُ نحو الكمال.
هذا، ومن تصريفات الفعل الأصلي (مرأ) صيغةُ: تفعَّل (تمرَّأَ) التي تفيد معنى الصَّيْرُورَة: تَمَرَّأ أي صار ذا مرُوُءة. أو التكلّف، أي بذلَ جهدًا ومعاناة حتى يتصف بالمروءة ويكتسبها، وهذا يعني أنّ للإنسان يدًا في بعث المروءة في نفسه وتربيتها فيها.
وجاء في كتاب الكامل للمبرِّد: "...يروى عن ابن عمر أنه كان يقول: إنا معشر قريش، كنا نَعُدُّ الجودَ والحِلمَ السوددَ، ونعد العفافَ وإصلاحَ المال المروءةَ.
قال الأحنف بن قيس: كثرةُ الضحك تُذهِب الهيبة، وكثرة المزح تذهب المروءة،
وقيل لعبد الملك بن مروان: ما المروءة؟ فقال: موالاة الأكفاء، ومداجاة الأعداء.
وتأويل المداجاة المداراة؛ أي لا تظهر لهم ما عندك من العداوة.(/1)
وقيل لمعاوية: ما المروءة؟ فقال: احتمال الجريرة، وإصلاح أمر العشيرة. فقيل له: وما النُّبْلُ؟ فقال: الحِلْمُ عند الغضب، والعفو عند القدرة...".
ويبدو أنهم قد اختلفوا في أيِّ الصفات أقرب إلى تحقيق المروءة، وأيها أولى برفع المنزلة واستجلاب الهيبة؛ فرآها بعضُهم في إصلاح المال، ورآها آخرون في صفات معنوية أخرى.
وتلتقي المروءة في الاشتقاق مع المَرْء، وهو الواحد من بني آدم، فكأنها إذ تصبغه بتلك الصفات الجميلة، تردُّه إلى إنسانيته التي خُلق عليها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] أما رَدُّهُ أسفلَ سافلين فقد يكون بالهوى الذي تميل النفوس إليه، أو بالاستجابة إلى وساوس الشيطان: أي أن الله عز وجل خلق جنس الإنسان في أحسن شكل، متصفًا بأجمل الصفات وأكملها... لكن الله سبحانه قد رده أسفل سافلين؛ بكفره وعصيانه واتّباعه لهواه.
ومن هنا جاء قول الشاعر لبيد بن ربيعة:
ما عاتبَ المرءَ الكريمَ كنفسِه والمرءُ يصلحُهُ الجليسُ الصالحُ
فالفطرة الإنسانية التي فطر الله الإنسان عليها كريمةٌ، لكنها معرضة للتلوث والانحراف، أو الانحطاط باتباع الهوى؛ فجاء الدين للحفاظ عليها نقيةً قويمةً، وجاءت الأنظمة والتشريعات لضبطها وإرشاد الإنسان إلى ما لا يُضمن اهتداؤه إليه بنفسه.
فمن أصاب من الشعراء صفةً من الصفات الكريمة التي فطر الله الإنسان عليها فقد تضمن شعرُه ما يحيي المروءة، ويذكي ذكرها تنويها وتمجيدًا، وبناء على كون المروءة جامعةً للمحاسن كلِّها، فإنك واجدُها في الكرم، وعزة النفس، والحفاظ على الجار، والكرم والجود، والإيثار، والشجاعة والنجدة، والقناعة والزهد بمتاع الدنيا الفانية، وطهارة العرض، والحياء، والحفاظ على العهد والوفاء بالوعد، وعدم احتمال الضيم، وفي الصبر وعدم الملل أو الضجر، وفي نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، وغيرها من المناقب والمحاسن الخلقية.(/2)
وتنشأ المروءة العربية إِمّا من تأثُّرات العرب بما تبقى من رسالات سماوية، وأديان وشرائع أوحى الله بها إلى الرسل الذين لم تخلُ أمةٌ منهم، أو أنها تكون من الفِطَر السليمة التي لم تُلوث، أو من العقول الحكيمة التي تعمقت في النظر في معاني الحياة وتجارِب الناس؛ فاهتدت إلى تلك المعاني وصاغتها شعرًا.
ولا يخفى أن العربيَّ والعرب لم يكونوا أقلَّ من غيرهم اتصافا بالشمائل والمناقب والصفات الكريمة والأخلاق الرفيعة، إن لم يكونوا أفضلَهم في شدة بأسهم وفروسية أخلاقهم؛ وذلك أهَّلهم لتنزُّلِ رسالة الإسلام عليهم، واختيارهم لأن يكونوا مادة الإسلام الأولى. وقد عقد ابن خلدون فصلا في مقدمته بيَّنَ فيه "أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير..." وقال في موضع آخر: "وهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى؛ لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتهم من ذميم الأخلاق..."، مع ما هم عليه من ضلال في الأديان، وظلم في التشريعات، وتواضع منزلتهم السياسية بين الأمم.
ونظرًا للتقدير الكبير والمكانة العالية التي كان الشعر يتبوؤها في الحياة العربية؛ تلك المكانة التي أمدته بالسيرورة والانتشار وشرف الاستقبال، فقد كان من الطبيعي أن ينهض الشعر بتلك المهمة؛ بأن يكون هو الخطابَ الأدبيَّ الحافلَ بالقواعد الأخلاقية المحكَّمة، والمثل العليا التي يسعى العربي إلى تمثُّلها.
وقد كانت النفس العربية آنذاك؛ تتصف بالاستعصاء أنفةً وإباءً، وتستصعب أن يعظها أحدٌ غيرها. وهي لا بد لها من وعظ وتذكير، ولا ينفعها مثلُ اتعاظها من نفسها.
لن ترجع الأنفسُ عن غَيِّها = حتى يُرى منها لها واعظ(/3)
فلو لم يأتِ الوعظ يومَها من الشعر بسلطته المحترمة المقدَّرة، فلربما لم يكن له مثل ذلك القبول. فهو أسرع الأساليب البشرية تأثيرا في الوجدان واختلاطا في النفوس، وهو أقربها إلى الصدق، وأوفاها بحمل التجارب الإنسانية واختزالها.
هذا، ولم يُعْنَ الإسلام بإنزال الشعر عن تلك المكانة، ولم يقلِّل من دوره في التهذيب والتثقيف، بل إنه أقره على ذلك، مادام داعيا إلى المعالي، مبرَّأً من الدعوات الكافرة، ومترفعا عن المجون وتزيين القبيح. قال رسول الله:" إن مِنَ الشعرِ حكمةً".
وقد أتى النابغةُ الجَعْدِيُّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وأنشده:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ إِذْ جاءَ بالهُدَى ويَتْلُو كتاباً كالمَجَرَّةِ نَيِّرَا
بَلَغَنا السَّماءَ مَجْدَُنا وجُدُوَدَُنا وإِنَّا لنَرْجُو فَوْقَ ذلك مَظْهَرا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إلى أين أبا ليلى؟" فقال: إلى الجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن شاء الله". وأنشده:
ولا خَيْرَ في حِلْمٍ إِذَا لم تَكُنْ له بَوَادِرُ تَحْمِى صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرا
ولا خَيْرَ في جَهْلٍ إِذَا لم يكن له حَلِيمٌ إِذَا ما أَوْرَدَ الأَمْرَ أَصْدَرا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفضض اللهُ فاك"، قال: فبقي عمره لم تنقص له سنٌّ، وكان مُعَمَّراً.
في قدرة الشعر على استمالة الكريم:
وكأنّ من وظيفة الشعر أن يذكِّر الكريمَ بكرامة أصله، وما يقتضيه ذلك من خلق أو موقف، ومن هنا جاء قولُ عمرَ بن الخطّاب -رضي الله عنه-: أفضلُ صِناعات الرَّجل الأبيات من الشِّعر، يُقدِّمها في حاجاته، يَستعطف بها قلبَ الكريم، ويستميل بها قلبَ اللئيم. (العقد الفريد- ابن عبد ربه الأندلسي)
في بعثه المروءة:
وفي معرض دعوة معاوية للحارث بن نوفل لرواية الشعر، وحفظه وبيان فضله في إيقاظ المروءة، أشاد ببيتين من الشعر كانا من أسباب ثباته وتشجُّعِه، وهما:(/4)
أبتْ لي عفتي وأبى بلائي وأخذي الحمدَ بالثمن الربيحِ
وإعطائي على المكروه مالي وضربي هامةَ الشيخِ المشيحِ
وهما لعمرو بن الإطنابة. وبعدهما قولُه:
وقولي كلَّما جشَأتْ وجاشتْ مكانَكِ تُحمَدي أو تَسْتَريحي
لأدفعَ عن مآثِرَ صالحاتٍ وأَحمِي بعدُ عن عِرضٍ صحيحِ
(ديوان المعاني- أبو هلال العسكري)
وقد كان الخلفاء والقادة يحرصون على رواية الرفيع من الشعر، ويرغبون في ذلك لأبنائهم، فقد قال عبدُ الملك بن مروان لمؤدِّب ولده: "روِّهم الشِّعر يَمْجُدوا ويَنْجُدوا". كما كانوا يتمثلون الأبيات من الشعر حين يكون واقعُها.
فقد أخبر العتبى عن أبيه: أن عبد الملك بن مروان -رحمه الله- كان يوجه إلى مصعب جيشًا بعد جيش فيهزمون، فلما طال ذلك عليه واشتد غمُّه أمر الناس فعسكروا، ودعا بسلاحه فلبسه، فلما أراد الركوب قامت إليه أم يزيد ابنه -وهي عاتكة بنت يزيد بن معاوية- فقالت: يا أمير المؤمنين، لو أقمت وبعثت إليه لكان الرأي، فقال: ما إلى ذلك من سبيل، فلم تزل تمشي معه، وتكلمه حتى قرب من الباب، فلما يئست منه رجعت فبكت، وبكى حشمها معها، فلما علا الصوت رجع إليها عبد الملك فقال: وأنت أيضاً ممن يبكي! قاتل الله كُثيِّراً، كأنه كان يرى يومنا هذا حيث يقول:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همَّه حَصَانٌ عليها نظمُ درٍّ يزينها
ولكن مضى ذو مرةٍ متثبت بسنة حق واضحٍ مستبينها
( الأمالي- أبو علي القالي)
و(المروءة) في الإيجابيات والمناقب نقيضةُ (العيب) في السلبيات والمثالب؛ كلمةٌ جامعة، أو وصفٌ عام كأنها قانون للأخلاق يصنفها، ويقدمها، أو يؤخرها.
لَيسَ المُروءَةُ في الثِيابِ وَبطنَة إِنَّ المُروءَةُ في نَدىً وَصَلاحِ
وَتَرى الفَتى رَثَّ الثِيابِ وَهَمُّهُ طَلَبُ المَكارِمِ في تُقىً وَصَلاحِ
(أحمد بن طيفور)
روافد شعرية إلى دوحة المروءة:(/5)
ويفيض الشعر العربي في عصوره المتعاقبة بالمعاني الإنسانية التي تصقل النفوس وتهذبها، أقتطف منها أبياتًا.
معنى الأمانة:
قال عمرُ بن الخطّاب للوَفد الذين قَدموا عليه من غَطفان: من الذي يقول:
حلفتُ فلم أتركْ لنَفْسك رِيبةً وليس وراء الله للمرءِ مَذْهَبُ
قالوا: نابغة بني ذُبيان. قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر:
أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيابي على وَجَل تُظنُّ بيَ الظُنونُ
فألفيتُ الأَمانةَ لم تَخنْها كذلك كَان نُوحٌ لا يَخونُ
قالوا : هو النابغة . قال : هو أشعرُ شُعرائكم . (العقد الفريد- ابن عبد ربه)
القناعة والرضا:
ويقال: إن أبدع بيت قالته العرب قولُ أبي ذُؤيب الهُذَليّ:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبتها وإذا تُردُّ إلى قَليلٍ تَقْنعُ
أَلم تَرَ أَنَّ الفَقْرَ يُرجى له الغِنَى وأَنَ الغِنى يُخشى عليه من الفقرِ
إِنّي اِمرُؤٌ سَمحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها
ولحاتم الطائي:
فإِنَّك إنْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ وفَرْجَكَ نَالاَ مُنْتَهَى الذَّمّ أَجْمَعَا
وللشنفرى:
وَإِن مُدَّتِ الأَيدي إِلى الزادِ لَم أَكنُ بِأَعجَلِهِم إِذ أَجشَعُ القَومِ أَعجَلُ
في بعث الثبات والشجاعة والإقدام والنجدة:
وكان عليٌ -رضي الله عنه- إذا أراد المُبارزة في الحرب أنشأ يقول:
أيّ يوميّ من المَوتِ أفرّ يومَ لا يُقدر أم يوم قُدِرْ
يومَ لا يُقدر لا أَرْهَبُه ومِن المَقدور لا يَنجو الحَذِرْ
قالت عائشة: وكان عامر بن فُهيرة يقول:
وقد رأيتُ الموتَ قبل ذَوْقه إنّ الجَبان حَتْفه مِن فَوْقه
ولزهير:
ولَأَنْتَ أَشْجَعُ من أُسَامَةَ إِذْ دُعِيَ النزَالُ ولُجَّ في الذُّعْرِ
قال عمرو بن برَّاقة الهَمْداني:
متى تجمع القلبَ الذكيّ وصارما وأنفاً حمِيّا تجتنبْكَ المظالمُ
ولطَرَفَةَ:
إِذا القَومُ قالوا مَن فَتىً خِلتُ أَنَّني عُنيتُ فَلَم أَكسَل وَلَم أَتَبَلَّدِ
في الشكر:
لزُهير بن جناب:(/6)
ارفَعْ ضعيفَك لا يَحُر بك ضعْفهُ يوماً فتُدركَه عواقبُ ما جَنَى
يَجزيك أو يثني عليك فإنّ مَن أثنى عليك بما فعلتَ كمن جَزَى
وفي حفظ السر:
لقيس بن الخطيم:
وإنْ ضيَّع الإخوانُ سرّاً فإنَّني كتومٌ لأسرارِ العشيرِ أمينُ
في الهيبة:
للفرزدق:
في كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبقٌ مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ في عرْنينه شممُ
يُغْضِى حَيَاءً ويُغْضَى مِنْ مَهَابَتِةِ فَما يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
قالوا:لم يُقل في الهيبة شيءٌ أحسن منه.
[ابن قتيبة- الشعر والشعراء]
في الحياء:
قال عبيد السلاميّ:
وأعرضُ عن أشياء لو شئتُ نلتُها حياءً إذا ما كانَ فيها مقادِعُ
في الصبر وعدم الجزع:
قول أوس بن حجر:
أيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلى جَزَعَا إنَّ الَّذِي تَحْذرِينَ قَدْ وَقَعَا
في حفظ اللسان:
قال امرؤ القيس:
إِذَا المَرْءُ لم يَخْزُنْ عليه لِسَانَهُ فلَيْسَ على شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ
وقال أيضا:
وَلَو عَن نَثاً غَيرِهِ جاءَني وَجُرحُ اللِسانِ كَجُرحِ اليَدِ
وقال طرفة:
وإنَّ لِسَانَ المَرْءِ ما لم تَكُنْ له حَصاةٌ على عَوْراتِهِ لَدَلِيلُ
في اصطناع البر:
قال امرؤ القيس:
واللهُ أَنْجَحُ ما طَلَبْتَ بِهِ والبِرُّ خَيْرُ حَقِيبَةِ الرَّحْلِ
وللحطيئة:
مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللهِ وَالناسِ
وفي الكرم:
قال عبد الملك لقومٍ من الشعراء: أي بيت أمدح؟ فاتفقوا على بيت زهيرٍ:
تَرَاهُ إذَا ما جِئْتَهُ مُتَهَلَّلاً كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الِّذِي أَنْتَ سائِلُهْ
وقال حاتم الطائي:
أَماوِىَّ إِنَّ المالَ غادٍ ورائِحٌ ويَبْقَى من المالِ الأَحادِيثُ والذّكْرُ
أَماوِىّ إني لا أَقُولُ لسائِلٍ إِذَا جاءَ يَوْماً حَلَّ في مالِنا نَذْرُ
أَماوِىَّ إِمَّا مانِعٌ فمُبَيِّنُ وإِمَّا عَطاءٌ لا يُنَهْنِهُهُ الزَّجْرُ(/7)
أَماوِىَّ ما يُغْني الثَّرَاءُ عنِ الفَتَى إِذا حَشْرَجَتْ يَوْماً وضاقَ بها الصَّدْرُ
أَماوِىَّ إنْ يُصْبِحْ صَدايَ بِقَفْرَةٍ من الأَرضِ لا ماءٌ لَدَيَّ ولا خَمْرُ
تَرَىْ أَنَّ ما أَنْفَقْتُ لم يَكُ ضَرَّنِي وأَنَّ يَدِي ممَّا بَخلْتُ به صِفْرُ
وقد عَلِمَ الأَقْوَامُ لَوْ أَنَّ حاتِماً أَرَادَ ثَرَاءَ المالِ كان له وَفْرُ
وفي التسامح:
قول زهير في مدح هرم بن سنان:
هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعطِيكَ نَائِلَهُ عَفْواً ويُظْلَمُ أَحْيَاناً فَيَظَّلِمُ
قد سبق زهيرٌ إلى هذا المعنى، لا ينازعه فيه أحدٌ غير كُثيِّر، فإنه قال يمدح عبد العزيز بن مروان:
رَأَيْتُ ابنَ لَيْلَى يَعتَرِي صُلْبَ مالِهِ مَسَائِلُ شَتَّى من غَنِىٍّ ومُصْرم
[الشعر والشعراء]
وفي العفة:
إِذا أَنْتَ لم تُعْرِضْ عنِ الجَهْلِ والخَنَا أَصَبْتَ حَلِيماً أَو أَصابكَ جاهِلُ
ولعنترة:
وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي حَتّى يُواري جارَتي مَأواها
وللشنفرى:
لَقَد أَعجَبَتني لا سَقوطاً قِناعُها إِذا ما مَشَت وَلا بِذاتِ تَلَفُّتِ
تَبيتُ بُعَيدَ النَومِ تُهدي غَبوقَها لِجارَتِها إِذا الهَدِيَّةُ قَلَّتِ
تَحُلُّ بِمَنجاةٍ مِنَ اللَومِ بَيتها إِذا ما بُيوتٌ بِالمَذَمَّةِ حُلَّتِ
كَأَنَّ لَها في الأَرضِ نِسياً تَقُصُّهُ عَلى أَمِّها وَإِن تُكَلِّمْكَ تَبْلَتِ
أُمَيمَةُ لا يُخزي نَثاها حَليلَها إِذا ذُكَرِ النِسوانُ عَفَّت وَجَلَّتِ
ويستوقفنا البيتُ الرابع:
إذ "يقول كأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئاً ضاع لا ترفع رأسها، والنسي الشيء المنسي. وتبلت أي تقطع كلامها ولا تطيله من فرط حيائها..." [شرح أدب الكاتب – ابن الجواليقي]
وفي الجرأة واقتحام الخطر:
قول زهير:
ولَيْسَ لِمَنْ لم يَرْكَبِ الهَوْلَ بُغْيَةٌ ولَيْسَ لرَحْل حَطَّهُ اللهُ حامِل
في العزة وعدم المبيت على الضيم:
قول النابغة، وهو مما يتمثل به من شعره:(/8)
ومَنْ عَصاك فعاقِبهْ مُعاقَبَةً تَنْهَى الظَّلُومَ ولا تَقْعُدْ على ضَمَدِ
وعليه قول الشنفرى:
وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ
في سيادة الأخيار:
قول الأفوه الأودى:
لاَ يَصْلُحُ القَومُ فَوْضَى لاَ سَرَاةَ لَهُمْ ولا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا
تُهْدَى الأُمُورُ بِأَهل الرَّأي مَا صَلَحَتْ فإنْ تَوَلَّتْ فَبِالأَشْرَارِ تَنْقَادُ
في حسن التصرف بحسب المواقف واختلاف الناس:
قال أبو دؤاد الإيادي:
مِنْ رجال من الأَقارِبِ فَادُوا من حُذَاق هُمُ الرُّؤُوس العظامُ
فهُمُ لِلْمُلاَيِنِينَ أَنَاةٌ وعُرَامٌ إِذَا يُرَادُ العُرَامُ
وقريبٌ منه قولُ المتنبي:
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى
في الحفاظ على العهد و الجوار والقرابة:
قال امرؤ القيس:
عَلَيها فَتىً لَم تَحمِلِ الأَرضُ مِثلَهُ أَبَرَّ بِميثاقٍ وَأَوفى وَأَصبَرا
أبو دؤاد الإيادي:
تَرَى جارنَا آمِناً وَسْطَنا يَرُوحُ بعَقْدِ وَثيقٍ السَّبَبْ
إِذَا ما عَقَدنا له ذِمَّةً شَدَدْنا العِنَاجَ وعَقْدَ الكَرَبْ
البحتري:
إذا احْتربَتْ يوماً ففاضت دماؤها تذكَّرتِ القربى ففاضت دموعُها
الثراء والغنى:
عدَّه بعضُهم من لوازم المروءة، ولا سيما في المجتمع الجاهلي؛ قال النَّمِر بن تولب:
فَالمالُ فيهِ تَجِلَّةٌ وَمَهابَةٌ وَالفَقرُ فيهِ مَذَلَّةٌ وَقُبوحُ
ورأى مالك بن حريم الهمداني بأن الفقير، أو قليل المال:
يَرى دَرَجاتِ المَجدِ لا يَستَطيعُها وَيَقعُدُ وَسْطَ القَومِ لا يَتَكَلَّمُ
خاتمة:(/9)
وليست تلك المحاسنُ والأخلاق الكريمة مما يُعفِّيه الزمانُ أو تنقص من قيمته التطوراتُ المادية؛ لأنها ثابتة في الخَيْرية والرِّفعة، فالصدق والأمانة والاستقامة في المعاملات والعلاقات، مثلا، كانت ممدوحةً في الجاهلية، وفي الإسلام، وهي كذلك في هذا الزمان، وحتى قيام الساعة، عند جميع العقلاء والأسوياء. لا تتغير صفتها بالتقادم. وينبغي أن لا يختلف عليها البشر.
ومن المعلوم أن التشريع الإسلامي حين نزل، ثم اكتمل قد أقرّ في العرب أخلاقًا وسجايا كانت تتحلى بها وتقدرها، كالكرم والحفاظ على العهد والشجاعة والشهامة، ونفى أخرى كانت العرب متورطة فيها؛ كالحمية الجاهلية، والغزو للنهب والسلب، والمفاخرة بالقبيلة وغيرها. فبعد نزول الشريعة صارت هي الميزان والحكم على أخلاق العرب ومفاخرهم، فَحُكْمُ الله قاضٍ على تلك الصفات، قبولا أو رفضا، وتهذيبا أو تكميلا.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "إنما بعثت لأتمم صالحي الأخلاق".(/10)
العنوان: المرونة النفسية.. كيف السبيل إليها؟
رقم المقالة: 1265
صاحب المقالة: د. ياسر بكار
-----------------------------------------
(الحياة صعبة.. قاسية.. لا ترحم.. حياتي رواية مأسوية) هذه مقتطفات من أحاديث الناس وهم يصفون ما يعيشونه كل يوم من ابتلاءات وتحديات.. وليس في الأمر أي جديد؛ فهذه سنة كونية متفق عليها, فالله -عز وجل- خلق الدنيا دارَ ابتلاء واختبار لعباده, وجعل فيها كل صور الابتلاء.. رضينا أو لم نرض.. قبلنا أو لم نقبل..! ومن الممتع أن ترى كيف يختلف الناس في التعامل مع هذه الحقيقة الكونية القائمة على مجموعة من المهارات التي يمكن تسميتها (المرونة النفسية). هذه المهارات ليست حكراً على أحد.. ولذا فما رأيك أن نأخذ نظرة عامة حولها؟
أولاً: عينٌ على الحاضر وعينٌ على المستقبل:
من مهارات المرونة النفسية القدرة على استقراء الواقع، ورؤية الصورة الكبيرة للحياة وكيف تسير, وللعالم, وللأحداث المحيطة. لاحظ معي أنك عندما ترى الكأس الذي يقابلك الآن مباشرة فسترى جزءاً منه (الجزء الذي يواجهك) في حين تغيب عنك بقية أجزائه. لكنك لو أبعدته قليلاً ونظرت إليه فسترى شكلاً مختلفاً جدا. وكذلك المميزون من الناس يمتلكون القدرة على انتزاع أنفسهم من زحمة الحياة ومشاغلها ليقرؤوا واقعهم الخاص ويحسنوا تقديره, ليرسموا صورة واضحة عن المستقبل وما يخبئه لهم, بعيداً عن تأثير المغريات والمحسنات المؤقتة.
تمرين عملي:
اختبر نفسك عبر قراءة الجمل التالية، وحدد مدى مطابقتها لحالك:
- أعرِفُ تماماً الظروف والمتغيرات التي قد تحدث لي في مجال عملي وبقية شؤون حياتي.
- لدي خطة جاهزة لمواجهة مثل هذه التغيرات في المستقبل.
- أعرف ما أفضل وأسوأ شيء قد يحدث لي خلال الأيام القادمة؟
- في مجال عملي, أعرف كل الخيارات المتوفرة لي حالياً؟ بعد سنة؟ بعد خمس سنوات؟ بعد عشر سنوات؟
ثانياً: الموقف من التغيير:(/1)
استطاع (جميل) -وهو مدير عام لشركة هندسية- الحصول على موافقة مجلس إدارة الشركة لإدخال نظام حاسوبي جديد ومكلّف، لكنه سيوفر الكثير من الوقت والجهد. كان (جميل) سعيدا بهذا الإنجاز. لكن المفاجأة التي كانت تنتظره أن الكثير من مديري إدارات الشركة رفضوا هذه الفكرة محتجين: (لقد اعتدنا النظام القديم، ونحن نفهمه بشكل جيد.. أوه هل تريدنا أن نتعلم من جديد؟.. بعد ما شاب راح للكتّاب!), بل إن أحد المهندسين شعر بقلق واضح حين أحس أن هذا النظام قد يقوم ببعض أعماله المهمة، ولذا قاوم الفكرة بشراسة.
تمنحنا المرونة النفسية روحاً تشتاق لكل جديد, وتسعى إليه وإلى التعامل معه والاستفادة القصوى منه, في حين يرى مَن يفتقدونها التغييرَ تهديداً لهم, وإقصاءً لما تعلموه, واعتادوه منذ قديم الزمان. هذا ما حدث في شركة (جميل) وما يحدث أيضاً مع المزارع الذي يصمم على حراثة أرضه بالمحراث الذي يجره الثور، ويرفض استخدام الآلات الحديثة, وينعتها بأوصاف غريبة ومتعددة. وهذا ما نشاهده أيضاً من بعض الأطباء الكبار الذين يرفضون الاستفادة من بعض التقنيات الجديدة (أسلوب جراحي جديد أو دواء مصنع حديثاً) ويقاومونه ويتخذون منه موقف المتشكك المعادي, ويصرون على الطريقة التي تعلموها ومارسوها لسنواتٍ طوال. وتراهم يتغنون دوماً: (قديمك.. نديمك)..!
فعلى الرغم من أن الكثير من الأحداث التي تقتحم حياتنا تحمل في طيّاتها فرصاً جديدة. لكن الكثير منا يتضايق من أي تغيير يمس (الروتين) الذي ألفه واعتاده, مما يضيع عليهم الكثير من المكاسب والإنجازات.
ثالثاً: التكيف مع شدائد الحياة وصدماتها:(/2)
لا بد أنك شهدت إحدى قصص التكيف, فـ(عبد الرحمن) أحد زملاء الجامعة توفي والده ونحن في سنواتنا الأولى في كلية الطب. كانت صدمة شديدة لوالدته التي كانت تعيش في قمة السعادة والطمأنينة مع زوجها الحبيب. ولكنها -بما آتاها الله من مهارة عالية في التكيف مع ضغوط الحياة وشدائدها- لم تستسلم, ولم تطل النحيب. شمرت عن ساعد الجد، وأخرجت شهاداتها القديمة، واستقبلت الحياة بكل ثقة وعزيمة. كان في إمكانها أن تجلس في بيتها, تبكي وتنتحب وتشقق الجيوب: (لماذا أنا؟ هل هذا عدل..!) لكنها لم تفعل ذلك. لقد صنعت أجمل قصص النجاح في الكفاح لتأمين لقمة العيش لأولادها, وقامت بهذا الدور خير قيام. لقد تميزت والدة صديقي بمرونة هائلة أعتقد أنها من أكثر سمات الذكاء العاطفي أهمية. إنها الجاهزية للانتقال من أعلى قمة هرم الراحة والسعة والرخاء إلى أعلى قمة هرم البذل والتضحية.
إن القدرة على تحمل مثل هذه الصدمة والقيام بعدها لمواصلة مسيرة الحياة أمر يحتاج إلى مرونة نفسية عالية.. أقول هذا وأنا أعرف الكثير من القصص لأشخاص (كسرتهم) شدائد الحياة وحوّلتهم إلى أشخاص عاطلين على هامش الحياة.
رابعاً: عين على الداخل (النفس):(/3)
المَرِنون لديهم القدرة الشعورية على تحمّل إعادة التفكير في مواقفهم, وقراراتهم, ونمط حياتهم, واختياراتهم, وسلوكياتهم, وإثارة الشك بما كانوا يعدونه حقائق قطعية ونهائية في حياتهم. إنها القدرة على الانسلاخ من النفس والنظر إليها من بعيد لتصحيح مسارها. لقد كان هذا النمط من الناس على مدار التاريخ هم الأكثر انتفاعاً من الدعوات الإصلاحية والتصحيحية التي جاء بها المصلحون وعلى رأسهم الأنبياء والرسل –عليهم السلام- في حين لم يمتلك غيرهم القدرة الشعورية لتحمل الألم المصاحب للحظات المراجعة والتصحيح؛ فأبوا وعاندوا تمسكاً بـ(الآبائية), والنظام الاجتماعي القائم. ومع الأسف نحن نفعل ذلك أيضاً, إذ نحمل الكثير من المعتقدات عن أنفسنا, وعن الناس من حولنا, وعن بعض التقاليد الاجتماعية المتوارثة, كما أننا نمارس الكثير من السلوكيات التي تحولت إلى طقوس روتينية ليس لها أي سند سوى أننا نفعلها, أو نؤمن بها منذ زمن بعيد, أو توارثناها عن آبائنا أو عن رموز السلطة غير الرسمية في مجتمعاتنا. أرجو أن تتأمل معي هذه القصة الرمزية التي تحمل الكثير من المعاني الهامة.. اقرأها مرةً بعد أخرى لتكتشف خفايا ما تشير إليه:
يُحكى أن زوجاً لاحظ أن زوجته عندما تطهو سمكة تقوم بقطع ذيلها ورأسها, فسألها:
- لماذا تقومين بقطع رأس السمكة وذيلها قبل طهيها؟
فصمتت الزوجة لحظات ثم تمتمت:
- هكذا يتم طبخ السمك.. هذه هي الطريقة.. همم.. لا أدري بالضبط.. ربما لأني تعلمت ذلك من والدتي!
فذهب الزوج إلى والدة زوجته ولاحظ أنها تقوم هي أيضاً بقطع رأس السمكة وذيلها قبل طهيها. فسألها في ذلك. فصمتت أيضاً لحظات وقالت:
- هذه هي الطريقة التي أعرفها وأستخدمها منذ سنوات.. همم.. لا أدري.. ربما لأني تعلمت هذا من والدتي!
كان الفضول لدى الزوج كبيراً, فأصرّ على سؤال الجدة حتى يتبين الأمر. وبالفعل وجد فرصة ذات يوم وسألها:(/4)
- لاحظت يا جدتي أن ابنتك وحفيدتها تقومان بقطع رأس السمكة وذيلها قبل طبخها.. وهما يقولان إنهما ربما تعلما ذلك منك. فهل هذا صحيح؟
فردت عليه باسمة:
- نعم.. الأمر بسيط, لقد كانت مقلاتي صغيرة, فلم أجد حيلة سوى أن أفعل ذلك!!
هل عرفت المغزى الخفي لهذه القصة؟ لقد تعلمنا الكثير من المعتقدات والأفكار التي نحملها في عقولنا, ونمارس الكثير من السلوكيات دون أن يكون عليها دليل حقيقي, ودون أن نراجع مدى صحتها, ربما كانت ذات معنى في القديم لكنها تخلو من أي سند أو منطق في الوقت الحالي.
خامساً: التمييز بين الأشياء التي يمكن تغييرها والتي لا يمكن:
اللهم..
... امنحني القوة لأغيّر الأشياء التي أستطيع أن أغيّرها..
... والقبول بالأشياء التي لا أستطيع..
... والحكمة لكي أفرق بينهما..
هذه المناجاة تحمل فكرة عميقة ومزية هامة من مزايا المرونة النفسية, فعندما نبدأ بالتعامل مع المحيط الذي نعيش فيه, فسنواجه في الحال عدداً كبيراً من الصعوبات والعقبات التي ستعترض مسيرتنا، وهنا تظهر أهمية القدرة على قراءة الواقع, وفهم الإشارات التي يحملها من أجل تحديد الأمور التي لا يمكن تغييرها, والأمور التي يمكن تغييرها بمساعدة الآخرين أو بدونهم. تأمل معي هذا الجدول:
الأمور التي لا أستطيع تغييرها ... الأمور التي يمكن تغييرها بمساعدة الآخرين ... الأمور التي يمكن تغييرها بنفسي
سوء الأحوال الجوية ... طريقة تحدث زوجي معي ... طريقة تخطيطي لجدولي اليومي
الاقتصاد ... أولويات إدارة الشركة ... موقفي النفسي
ضعف البنية التحتية (تكسر الشوارع, انقطاع الكهرباء,..) ... أسلوب تربية الأطفال والتعامل معهم ... ميزانيتي ومصاريفي الشخصية
الأنظمة والقوانين ... جدول عملي في المنزل ... طريقة تواصلي مع الآخرين(/5)
إن من المرونة النفسية أن تمتلك القدرة الشعورية على تقبل الواقع كما هو, وقبول الأشياء من حولنا كما هي, لا كما يجب أن تكون, أن تتقبل ما يحدث من طيب وسيئ.. من خير وشر.. ومن ثم التعامل معه بالطريقة المناسبة (تغييره, قبوله, التحايل عليه,..إلخ) للخروج بأفضل النتائج. تأمل هذه المقولة: (عندما تقلق وتتذمر من أشياء لا يمكن تغييرها.. فسيكون لديك طاقة أقل لبذلها في الأشياء التي يمكن تغييرها).
في لحظة من اللحظات لا بد أن نقبل هذا العالم الذي نعيش فيه, وأن نكيف أنفسنا للعيش فيه: (لم يكن هذا العالم هو الذي أريده أن يكون.. لكني لن أنتظره حتى يتغير). لاحظ أن هذا لا يعني الاستسلام.. بل يعني القدرة على تفحص الواقع وفهمه بشكل صحيح. ومن ثم امتلاك المرونة لقبوله, والسعي إلى تحقيق الأحلام في اتجاه آخر أو باستخدام وسائل أخرى. إنها القدرة على الجمع بين مجاراة الواقع, واستلهام الهمة من الخيال عبر الأحلام والطموح لتحقيق ما نريد.
سادساً: من الداخل إلى الخارج وليس من الخارج إلى الداخل:
في مسيرتنا في هذه الحياة, نواجه الكثير من العقبات والظروف الخارجية التي لا تستأذننا في أن تعترض طريقنا, وتعكر صفو حياتنا, والمرنون يواجهونها بالعودة إلى أنفسهم بحثاً عن حل أو مخرج, وقد يسعون إلى تعلّم شيء جديد أو تطوير مهارة لديهم, أو تغيير نمط حياتهم, ويعتمدون بقدر أقل على العوامل الخارجة عن سيطرتهم (منحة من مسئول, أو أمل في ضربة حظ, أو..). لنتذكر أن قوتنا في أنفسنا.. إنها تنبع من هناك.. من أعماقنا.
سابعاً: القدرة على تبديل الأدوار:(/6)
يؤدي كل واحدٍ منا في هذه الحياة أدواراً متعددة. فأنا في أثناء العمل (طبيب), وعندما أدخل إلى بيتي أصبح (زوجا), وعندما ألتقي مع أطفالي فأنا (أب), وعندما أخرج إلى المجتمع فأنا (مواطن), وعندما أزور والدَي فأنا (ابن) وهكذا.. هل ترى كيف تتبدل أدوارنا مرات كثيرة خلال اليوم الواحد. إنها كالأقنعة التي نرتديها الواحد تلو الآخر. من الملاحظ أن هذا الانتقال بين الأدوار والقيام بمتطلبات كل دور على الوجه الأكمل ليس أمرا سهلاً لدى الكثير من الناس.
ومن الأمثلة على ذلك ما رأيته لدى (حياة) وهي أستاذة جامعية مرموقة. جاءت (حياة) تطلب المساعدة بعد أن شعرت بابتعاد زوجها عنها, إذ بدأ يقضي الساعات الطويلة خارج المنزل. استمعتُ إليها وهي تصف طبيعة شخصيتها المنظمة, ونمط حياتها (المكافِحة), والنجاحات التي تحققها دائماً. كان واضحاً أنها (مهنية) من الطراز الأول, ولكنها فقدت القدرة على القيام بالأدوار الأخرى المطلوبة. همست في أذنها: زوجك لا يحتاج إلى (عصامية) بل يحتاج إلى (أنثى)!
الأزواج هم أبطال الإخفاق في تبديل الأدوار, إذ يقضي الرجل وقته في العمل ثم يعود إلى البيت منهكاً ليستلقي على الأريكة, ظناً منه أنه قام بواجبه.. وينتظر من زوجته أن تقوم هي بواجباتها. والحقيقة أن عمله الجاد يفي بدور واحد فقط, ويبقى عليه الوفاء بالأدوار الأخرى. هذه المشكلة هي منشأ الكثير من الخلافات الزوجية التي تعكر صفو الحياة وجمالها.
هذا أهم ما استطعت جمعه من عناصر لهذه السمة الحيوية من سمات المميزين بين الناس.. أرجو أن تراجعها وتتذكر أن امتلاك أي مهارة يحتاج إلى الكثير من التدريب والتمرين وأن العلم بها ليس كافيا لاكتسابها.(/7)
العنوان: المساجد ودورها في نهضة العالم الإسلامي
رقم المقالة: 1564
صاحب المقالة: قصي أحمد محمد
-----------------------------------------
كانت وما زالتِ المساجد مصدر إشعاع في العالم الإسلامي قديمه وحديثه؛ ففي عهد النبي – صلى الله عليه وسلم - كان المسجد مدرسة تخرَّج فيها علماء وقادة، وفيه كان يَعقد ألوية جيوشه التي نشرت الإسلام في ربوع الجزيرة العربية، وكذلك كان الخلفاء الراشدون يفعلون.
وأصبح المسجد بعدئذٍ مدرسةً تُعقد فيها حلقات العلوم في شتى الفنون، وما مساجد بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة ودمشق والموصل وجميع حواضر الإسلام بالخافي شأنها في تثبيت النهضة العلمية كما يحدثنا التاريخ، وما جاء في كتاب "مدرسة البصرة النحوية" للدكتور عبد الرحمن السيد؛ حيث يقول:
"لم تكن هناك بطبيعة الحال مدارس منظمة أو معاهد مهيأة يلتقي فيها المُعَلِّمُون والمُتعَلِّمون على النحو الذي نراه في عصرنا الحاضر، وإنما كانت الدراسة ملائمة لهذه الحِقْبَة من تاريخ البشرية، مُتمشِّية مع حاجات الناس في ذلك العصر المُتقَدِّم فكان من جملة ما يسعى إليه الدارسون لأخذ العلم والأدب واللغة هو المساجد؛ فكانت حلقات الدراسة تُعقد فيها".
فهي للدراسة المقصودة، وللتعليم المنظَّم؛ حيث يقصد التلاميذ حلقات الدرس يسمعون ما يُلقي أستاذهم من مسائل، أو ما يسألونه ويجيبهم، ويستخبرونه ويفتيهم.
حكى الأخفش فقال:
"لما ناظر سيبويه الكسائي ورجع وجه إلي؛ فعرفني خبره معه ومضى إلى الأهواز فوردت بغداد؛ فرأيت مسجد الكسائي؛ فصليت خلفه الغداة؛ فلمَّا انفتل من صلاته وقَعَدَ بين يديه الفَرَّاء والأحمرُ وابنُ سعدان وسألتُه عن مائة مسألة؛ فأجاب بجوابات خطَّأته في جميعها؛ فأراد أصحابه الوثوب عليّ؛ فمنعهم.
ويبدو أنَّ الدراسة في المسجد كانت تتناول كل الثقافات في ذلك الوقت.(/1)
ويبدو أن اتخاذ المسجد مدرسة يؤمها الطلاب، ومعهدًا تعقد فيه مناقشات، ويصاحبه ارتفاع الصوت وحدة في المناقشة ممَّا أثار بعض العلماء ودفعهم إلى التفكير فيه لما خامرهم من تنافيه مع حرمة المسجد وخروجه عما تستوجبه حرمة المكان من توقر وهدوء؛ فقد نُقِل عن مالك أنَّه سُئِل عن ارتفاع الصوت في المسجد بالعلم وغيره فقال:
"لا خير في ذلك في العلم ولا في غيره، ولقد أدركت الناس قديمًا يعيبون على من يكون في مجلسه ومن كان يكون ذلك في الجلسة، كأن يعتذر منه وأنا أكره ذلك ولا أرى فيه خيرًا".
وأجاز ذلك أبو حنيفة؛ فقد قال: "إن أصحابه لا يفقهون إلا بهذا".(/2)
العنوان: المستقبل للإسلام
رقم المقالة: 235
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
إخوتي وأخواتي
أبنائي وبناتي
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد
فإنِّي متفائلٌ أعظم التفاؤل بمستقبل الإسلام العظيم، على الرُّغم من حلقات الكيد له الكثيرة، وحملات العدوان عليه وعلى أتباعه التي نراها في هذه الأيام تُوَجَّهُ إليه من أعداء الإسلام وعملائهم.
بل إنَّ هذه الحلقات وتلك الحملات ما كانت لتكون لولا خشيةُ هؤلاء الأعداء من انتشار الإسلام في ديارهم.. هذا الإسلام الذي هو رحمة وحياة وعدالة وسلام وسعادة في الدنيا والآخرة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
لقد بدأ أعداء الله يكيدون للإسلام منذ أن شرَّف الله الإنسانية بإنزال القرآن على خير الخلق وأشرف الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وقد توالى هذا الكيدُ إلى وقتنا هذا.. أجل لقد لقي رسولُ الله صلوات الله وسلامه عليه الإيذاء والتكذيب، ولقي أصحابه – رضوان الله عنهم – الاستهزاء والتعذيب، ولما قامت دولة الإسلام في المدينة لقيت من المكايد الشيء الكثير. واستمرَّ هذا الكيدُ كما ذكرنا وكان في مجالات متعدِّدة: فكرية، واقتصادية، وعسكرية.
وقد قرَّر القرآن الكريم أنَّ المعركة بين الحقِّ والباطل أزليَّة قال تعالى:
{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].(/1)
وقال عزَّ من قائل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] يقرِّر ربنا سبحانه أن الكفرة يودُّون لو يكفر المسلمون كما كفروا هم فيكونون سواء.
إخوتي.. وأبنائي.
إن شبح الحروب الصليبيَّة التي استمرَّت قرابة قرنين من الزمان، والتي أهلكت الحرثَ والنسل لَيتراءى لنا اليوم من خلال الأحداث الهائلة التي تجري في بلاد المسلمين؛ في أفغانستان والشيشان والعراق والبلقان وفلسطين وغيرها من البلدان، وأودُّ أن أُذكِّر بمقولة القائد الفرنسي عندما وقف أمام قبر صلاح الدين الأيوبي في دمشق، وقال: يا صلاح الدين، نحن هنا، الآن انتهت الحروب الصليبيَّة.
وقد كذب، فلم تنته تلك الحروبُ بل هي مستمرَّة. والله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.
ثم كانت بعد الحروب الصليبيَّة هجماتُ التتار الوحشيَّة.. وكانت كارثة صقلية وكارثة الأندلس.. فقد نكَّل النصارى بالمسلمين قتلاً وتعذيباً، وأخرجوهم من ديارهم، وأقاموا محاكم التفتيش، وحملوهم على الكفر.
ثم كانت الكارثةُ الكبرى، وهي القضاء على الخلافة الإسلاميَّة التي كانت على مرِّ العصور جامعةً للمسلمين، ناصرة لمذهب أهل السنة والجماعة.
وقام الكفرة بعد القضاء على الخلافة بتقسيم بلاد المسلمين إلى دُوَيلات وأثاروا النُّعَرات القوميَّة بينهم.
قال المستشرق الفرنسي كارادي فو المتوفَّى سنه 1953: (أعتقد أنّ علينا أن نعمل جاهدين على تمزيق العالم الإسلامي وتحطيم وحدته الروحيَّة، مستخدمين من أجل هذه الغاية الانقسامات السياسيَّة والعرقيَّة... دعُونا نمزِّق الإسلام، ونستخدمْ من أجل ذلك الفرق المنشقَّة والطرق الصوفيَّة.. وذلك كي نُضعف الإسلام لنجعلَه إلى الأبد عاجزاً عن صحوة كبرى).
هذا تخطيطهم ومكرهم، ولكنَّ الله ردَّ كيدهم في نحورهم، وقامت الصَّحوة في بلاد المسلمين والحمدلله.(/2)
وأنا أعترفُ أن هذه الصَّحوةَ المباركة بحاجة إلى ترشيد وتسديد وتوجيه، وهذا هو واجب العلماء الذين هم القيادة الفكرية للأمَّة.. إنَّ عليهم توعيةَ المسلمين، وحضَّ أجيالهم على معرفة دينهم وإدراك مزاياه والعمل به والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة. يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 23-24].
إنَّ واقع المسلمين اليومَ واقعٌ متخلِّف علمياً وتقنياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.. وإنَّ ديننا مستهدَف، وإن أخلاقنا مستهدَفة، وإن بلادنا مستهدَفة. فالواجب يقضي بأن نعملَ على الدفاع عن ديننا وأخلاقنا وبلادنا، وذلك بأن تقومَ جماعةٌ من أهل العلم والاختصاص بإعداد خطط مرحليَّة للعمل على تغيير هذا الواقع، والنهوض بالمسلمين ليُتابعوا أداء الرسالة التي حملوها، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}.
وأحبُّ أن أقرِّر أنَّه لا يجوز أن يكونَ عملنا ردَّ فعل لكيد الكفرة فقط.. لا بل يجبُ أن يكونَ هذا، وأن يكونَ إلى جانبه تخطيطٌ وعمل.
والنصر آتٍ لا شكَّ فيه إنْ حقَّقنا نصر الله، قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].(/3)
وقال سبحانه: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].
والحمد لله رب العالمين.(/4)
العنوان: المستقبل مجال الفعل
رقم المقالة: 1379
صاحب المقالة: د. محمد بريش
-----------------------------------------
المستقبل مجال الفعل
للدكتور محمد بريش
مهندس خبير في الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية
المستقبل مجال الفعل:
نقصد بمفهوم "المستقبل" في دراستنا: صور الغد القريب، الناتجة عن استشراف علمي للقادم من الأزمنة، من خلال إعمال محكم ودقيق لعلوم المستقبل المعاصرة، داخل أفق يمتد من بُعْدٍ قصير المدى؛ فمتوسطه بالنسبة لمآلات القرارات المتخذة حاضرًا لاختيار بديلها الأصوب والأنجع، إلى بُعْد بعيد المدى بالنِّسبة للمقاصد والتوجهات، وما يلزمها من وسائل وطاقات، تسمح بصياغة المخططات والاستراتيجيات، من خلال الوعي بمضمون دائرة المستطاع اليوم ودائرة المستطاع غدًا، على جميع الأصعدة الفاعلة، والحيَّة المحققة للمقاصد والغايات المرجُوَّة.
ومن ثَمَّ فتحديد المفهوم يتجلَّى في مُسَاءَلَة فنون دِراسات وعلوم المستقبل المعاصرة عما تعنيه وما تقصده من مصطلح "المستقبل" حين تتطلع لاستشرافه، وتكَهُّن مضامينه، وأشكال حركاته وتيَّاراته. "وعلوم المستقبل"، أو "دراسات المستقبل"، أو"الدراسات المستقبلية"، أو "فنون استشراف المستقبل"، أو "المستقبلية"، هي قبل كل شيء منهج علمي، وموقف فكري، وتصرف عقلي، للتحكم في مسار الحاضر، ليس من خلال ادعاء التمكن من إدراك كلي لمضامين المستقبل، فذلك ضرب من المُحَال – ولو صَدَقَت مقولات التنبؤ يومًا ما بالصُّدفة – بل بتوجيه الحاضر نحو المستقبل المراد، والغد المنشود.(/1)
فالأمر لا يتعلق بتصرف سكوني تِجاه مُيولات الحاضر بمسايرة دوافعه وتياراته، فذلك موقف سلبي، لا دور للفكر فيه؛ لأنَّه يقضي بانتظار التغيير ثم الخضوع لحتميَّته. ولا عزم على تأريخ أحداث المستقبل؛ لأن ذلك ضربٌ من الكهانة لا يدعي عِلْمِيَّته إلا سفيهٌ أو محتال. ولكن توقع مستقبلات مَرْجوَّة، مع ترقُّب عَقَبَات في وجهها محتملة، وموانع في طريقها متوقعة.
فالتعامل مع المستقبل من هذه الوجهة لا يتعلق برد فعل من المداهم والمباغت من النوازل والمُدْلَهِمَّات؛ لأن المسألة ليست إقصاءً لعمليَّات مجابَهَة الضار من الدوافع والجاذبيَّات، والشديد البأس من الموانع والعَقَبات، وإغْفَال الإعداد والتهيؤ لها إلى حين بزوغِهَا، ذلك أن أية منازلة لها على ساحة التاريخ هي منازلة خاسرة، فعجلة التاريخ عجلة ساحقة.
ولكن المسألة فعل بدل رد الفعل، ينطلق أساسًا من إعمال للفِكْر والذهن في معالجة الواقع على بصيرة وبُعْد زمني، عبر تَكَهُّن علمي بمدى سَطْوة تلك الدَّوافع والجاذبيات قبل مجيئها، ومدى حِدَّة عوائق الموانع والعقبات قبل الوصول لها، إعدادًا وضمانًا لسلامة التحصين، وبلوغ مستويات واقية من المناعة حين مقابلتها أو مواجهة مثيلاتها.
وإعمال الفكر والذهن تبصرًا واستشرافًا ممكن في وجه تلك العقبات والموانع والجاذبيات والدوافع، من الترقُّب الراقي والإعداد الواقي بعد بلوغ درجة من الظن الواعي بمباغتتها، ودراسة جدوى التَّحَسُّب لاحتوائها، بعيدًا عن عمليات التهويل والتخويف الصادرة غالبًا عن فعل جهات ومؤسسات وتنظيمات، تدفع بشتى الوسائل والحجج جهة الإيمان المطلق بحتمية وصدق ما ترمي به من التوقعات، وتحول بتلفيق في الأسلوب والمنهج دون التشكيك في استحالة وقوع ما تنذر به من التنبؤات[1].(/2)
لذا كانت "المستقبلية" موقفًا فكريًّا من جهة لابتسار نظري تصوري واعٍ لحركة التغيير القادمة، وتكهن لما يبشر أو ينذر به تطور الأوضاع القائمة والأحداث المتفاقمة، وتصرفًا عقليًّا من جهة أخرى؛ لدفع عجلة التاريخ ورحى الأحداث نحو مستقبل منشود محدد سلفًا، ووضع مرغوب معلوم مسبقًا.
والمستقبلية زاد للوعي الجماعي، وإلا فلا حاجة لها على الإطلاق:
وعي جماعي: بأنَّ الأمَّة معرَّضة للزوال في حالة عدم تَبَصُّرِ الخَطَرِ المُحْدِق بها في كل قرار أو حركة جهة العقبات التي عليها اقتحامُها، وإدراك درجة الكوارث المحتملة، المانعة من إنجاز المصالح، ودرء المفاسد حمايةً للفرد والمجتمع، وإقامة موازين الحق والعدل التي تتوخاها في مجتمعاتها ومحيطها، على مستوى يتجانس مع طموحاتها والمتوفر لديها من الوسائل داخل دائرة الممكن حالاً، وما قد تتسع له أو تضيق به مآلاً.
وعْي جماعيٌّ بانعكاس الخطر على الجميعِ أفرادًا وشعوبًا وحكومات ومؤسسات حين غياب الإيمان بضرورة العمل لصناعة الغد المشرق، من خلال تعزيز الموجود، وإيجاد المفقود من المصالح، والحرص على درء الأخطار كافة والمفاسد المهددة للبقاء.
فإنعاش الذاكرة الجماعية هو الهدف الأساس من المستقبلية، وأس ذلك الإيمان والعمل، ومحاربة التآكل المعرفي، والحيلولة دون تآكل الذاكرة، هما المقصد الأسمى من الاهتمام بعلوم المستقبل، وأس ذلك العلم والتواصي بالثبات على الحق، والصبر على مواصلة السير، لبلوغ الأهداف المرسومة لازدهار الأمة ودوام السؤدد لها.
ولقد سبق أن شرحنا بتفصيل في دراسات سابقة دَلالاتِ مصطلح "المستقبلية" من خلال أهم ما نُشر من الدراسات الاستشرافية بالبلاد العربية والغربية المُعَرِّفة لمفاهيمه يمكن أن يرجع إليها[2].(/3)
وحسْبنا في هذه الفِقْرات تقديمُ بعض التوضيحات الضرورية حول القصد من إعمال علوم وفنون دراسات المستقبل المعاصرة في معالجة واقعنا؛ حتى نعي المراد من مفهوم "المستقبل"، من خلال عرض مُركَّز لبعض الرُّؤَى والمُرْتَكَزات والمناهج لتلك العلوم والفنون ورجالاتها ومؤسساتها ومدارسها، استخلصناها من تجرِبتنا المتواضعة، ومشاركتنا الدولية في مجال الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية. وهي توضيحات وإشارات منتقاة من مُسَوَّدِة مشروع تنظيري، نُعده للنشر حول هذا العلم الضروري، ثم تناوله من وجه نظر ترمي لجعله عنصرًا أساسيًّا من عناصر الاجتهاد المعاصر، مدخلاً من مداخل إتقان البث في المستحدثات والنوازل داخل ساحة واقعنا المتقلب.
ولهذا كان مفيدًا ونحن نتطرق لمفهوم "المستقبل" - الذي هو أس كل معالجة استشرافية وبرنامج تغيير مستقبلي - أن نقدم نبذة مركزة عن القصد من تلك العلوم والفنون؛ لنمارس من خلال التعريف ذاته منهجًا للغوص في تحليل الواقع المعاصر، وكيفية البحث عن تحديد العوامل الفاعلة في تقلباته، والدالة على أشكال تغيراته.
ونشير بَدْءًا قبل التطرق لمقاصد فنون المستقبل ومضامينها إلى أن هناك أنواعًا متعددة لهذه الفنون، تختلف باختلاف موضوعها ونماذجها، منها السلبي ومنها الإيجابي. أما السلبي منها فلن نطيل الكلام حوله؛ لأنه بعيد عن المنهج العلمي، لصيق بالخرافة وادعاء علم الغيب، بل لا يصنف بتاتًا عند العديد من الخبراء ضمن علوم المستقبل، وإن كان غير عديم الفائدة في مجالات الأدب وإبداعاته القصصية المعتمدة على نسج الخيال، أو البرامج الإعلامية والمواد السينمائية التي قد تسد عطشًا معرفيًّا أو حاجة ترفيهية، من خلال التلويح بالعقل في سراديب الخيال ومتاهات المحال.(/4)
وحسْبنا في هذا التعريف الموجز الإشارةُ إلى ثلاثة أنواع من النمط السلبي لا تفيد لا في المجال الأدبي ولا في المجال العلمي، حددها بدقة شيخنا وأستاذنا في هذا الفن، عميد المستقبليين العرب، الدكتور أبو سليمة المهدي المهدي المنجرة - حفظه الله - تباعًا كالآتي[3]:
نوع يمكن تسميته بـ"المستقبلية التراجعية"، يقاوم الحاضر بتبرير الماضي عِوضًا عن ابتكار المستقبل.
ونوع يمكن نعته بـ" المستقبلية التخديرية" يلجأ إليه بعض الساسة، ومَن في فلكهم حينما يصبح الواقع لا يطاق لتبرير هروبهم إلى الأمام، وقرارهم من معالجة الحاضر، من خلال سيل من التمني بعهود قادمة من الرخاء بوابل قراراتهم وتصرفاتهم، أو العمل قيد شبر استعدادًا للوفاء بتعهداتهم.
نوع يمكن أن نصفه بـ:" المستقبلية الاحتكارية" حين يكون على المستوى الدولي، أو بـ: "المستقبلية الانتهازية" حين يكون على المستوى الوطني، يعتمد أسلوب التأثير على الحركات الفكرية في حصر الأولوية لفائدة تصوراته المستقبلية، دون أخذ رأي المعنيين بالأمر أو استقراء رغباتهم وتطلعاتهم.
أما أبرز أنواع النمط الإيجابي فنوعان:
نوع يمكن أن ننعته بـ: "المستقبلية الاجتماعية"، ويتميز بكونه نقدًا اجتماعيًّا يعتمد أساسًا على المستقبلية العكسية من خلال استقراء نقدي لتاريخ الظاهرة أو المنظومة المرادِ دراستُها، وهو منهج علمي لكونه يعمد إلى إعمال منهج دراسي نقدي وتحليلي، يقوم بتشخيص الحاضر وحركته وتوجهاته من خلال دراسة جينات انبثاقه ومسار تطورها في الماضي، ويمحص المستقبلات الممكنة التي تتولد عنها؛ ليستطيع بعد ذلك إدراك الاتجاهات الضخمة التي جعلت الكفة تميل جهة أحدها فقط، والمتمثل في الحاضر.(/5)
ونوع يمكن أن ننعته بـ:"المستقبلية القرارية"، وهي تهدف أساسًا إلى صياغة مشاهد للمستقبل تساعد على صناعة القرار وتوجيه مساره نحو الدقة، وذلك من خلال بسط ملامح تبدو مريحة على صعيد التفكير في المستقبل وتوجساته، لكنها تشحن بآمال تحققها طاقات رجالات القرار صوب العمل المتقن، والممكن من تجسيد الأكثر إمكانية، والأصوب قصدًا من تلك المشاهد على أرض الواقع، وانطلاقًا من مقصدها القراري، يكون منهجها شديد العناية بمآلات القرار ومعوقاته وانعكاساته المحتملة، ومدى تحقق الأهداف المتوخاة منه، تستخلص منها مشاهد يمكن أن يطمأن إليها حين العزم باتخاذ القرار المراد أو عدمه.
وكثيرًا ما نجد الدراسات المستقبلية اللصيقة بالمجالات السياسية والاقتصادية محتاجةً ومستعملة لكِلاَ النوعين المذكورين. محتاجة للأول لمعرفة شكل المستقبلات الممكنة، ومستعملة للثاني لاختيار بدائلها حين العزم على قرار يتعلق بإنجاز المتوخى والمرغوب من تلك المستقبلات.
ولا نستغرب كون بعض الخبراء يرون في المستقبلية نوعًا من الانتقام العقلاني من وقع جهل العقل بمعظم نتوءات وتجاعيد تطور الحاضر، لكننا دون أن نسلك نفس المذهب نراها نوعًا من التحدي المعرفي المشحون بالآمال؛ للتغلب على عقبات تحليل تطورات واقع المجتمع. وهي تأخذ أهميتها من شح المعلومات حول شكل القادم من الأحداث داخل ذلك المجتمع. بل وجدنا بعضهم يعرفها تعريفًا واضح العيب والخلل يتهكم فيه قائلا: "إن المستقبلية، وخاصة منها المستقبلية الاجتماعية، هي بالتأكيد وفي آخر المطاف ما كان ينبغي أن نفكر فيه ابتداء من اليوم للمنظومة الاجتماعية القائمة"[4].
ولو تمعنا في القول لوجدنا صاحبه يخطو على خطى الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار" (Gaston Bachelard) حين قوله: "الواقع الحقيقي ليس ما نظنه، بل هو دومًا ما كان يلزم أن نظنه"[5]. ثم يضيف نفس الباحث المستقبلي المتهكم لينهي تعريفه بكلام مقبول:(/6)
"المستقبلية الاجتماعية هي ما يلزم أن نعلمه عن منظمة المجتمع في الوقت الذي نضع أنفسنا موضع المتوقع لما هو محتمل الوقوع. وهي بذلك لا تعدو أن تكون إعادة بناء مستمر للحاضر الاجتماعي انطلاقًا من معرفة أحسن لماضيه، وتساؤل مراقب علميًّا عن مصيره"[6].
ولهذا صنفت المستقبلية كعلم حديث من طرف علماء الاجتماع ضمنَ إحدى الشعب الجديدة لعلم اجتماع المعرفة. ويرون أن الهدف الأساس منها ليس تقديم أجوبة عن أسئلة مُعَدَّة سلفًا، ذلك أن التساؤل حول المصير مبدئيًّا يسبح في جو كامل من الحرية، من المفسد للمنهج العلمي تقييد فسحته وتحجير اتساعه إلا بما يمنع من الدخول إلى دروب المحال، أو الغوص بعيدًا عن سليم المنطق في متاهات الخبال. بل الغاية منها الوصول إلى كيفية علمية أسئلة محددة ودقيقة، من النوع الذي تبقى أجوبته مفتوحة أمام عديد من التفسيرات والقراءات مهما كان موضوعها. بمعنى أن الصرامة الأبستيمولوجية هنا تتجلى أساسًا على مستوى صياغة السؤال، وليس على مستوى تحرير الجواب.
وأراهُم نَحَوْا ذلك المَنْحَى؛ لكون السؤال تعبيرًا عن إيجاد منفذٍ، يملي رغبة في التطلع، ويعبر عن عطش معرفي يولّده القلق حول المصير. أما الجواب فالغاية منه أن يوجه قرارًا، أو يملي حلاًّ، بعد أن يستغرق الذهن في التفكير حول ماهية وموضوع السؤال. ولهذا كانت الصرامة الأبستيمولوجية بالفعل ضرورية على مستوى السؤال، وليس على مستوى الجواب. لكن لا يعني هذا أن الجواب يظل دون قيمة.
ولا غرو أن نجد المبرّزين من الخبراء في فن المستقبلية يحصرون مهامها في ثلاث:
- مهمة التوقع.
- مهمة الإعداد للاختيار أو اتخاذ القرار.
- مهمة النقد العلمي للحاضر، أو إعادة القراءة للماضي.(/7)
وانطلاقًا مما تقدم، تكون المستقبلية عبارة عن منظومة أدوات معرفية ومنهجية، تعتمد في تحاليلها أسلوبًا نقديًّا، مسترسل التساؤل العلمي حول ثبات الفرضيات التي انطلقت منها، لتصور التطورات والتغيرات للموضوع المدروس أمام إمكانية صدق توقعاته، تستخلص منها مشاهد محتملة الوقوع، وأشكال لرسم مسار التطور والتغيير المرتقب.
تلك الأدوات المعرفية مكونة أساسًا من قوالب علمية وبحثية لتحديد فرضيات لتطور وتغيير الموضوع المعالج، محكمة الصياغة، مترابطة فيما بينها وبين منطلقاتها ومسار تطورها وتطور الواقع الذي تعالج فيه في جميع أبعاده وميادينه المتعددة والمتشابكة، لكنها ليست على أي مستوى جردًا ليقينيات أو أحداث حتمية الوقوع. فلا هي علم اليقين بالمستقبل، ولا هي منهج للتنبؤ الحتمي بل هي قائمة أسئلة معمقة حول المصير، دقيقة من حيث الصياغة، مراقبة علميًّا في كل مرحلة من مراحل صياغتها، ومعتمدة على مجموعة من الملاحظات الدقيقة.(/8)
ولا عجب أن نجد ترابطًا عضويًّا متينًا بين الحاجة عند الإنسان للمعرفة والتفكير في المستقبل. فالحاجة تترجم عند الراغب فيها إلى هدف، ويحول التخمين في تحقيقها لديه إلى مشروع لا مجال لاستكمال ظروف تنفيذه إلا بعمليات التبصر والتدبر في الزمن القادم المرادِ تحقيقُه فيه، واستطلاع مختلِف الموانع والعوائق التي تقذف بإنجازه إلى أمد أبعد، أو تفرزه على شكل أقل من المرغوب والمرتقب، أو تحرم المشروع من الوجود أصلاً. فهناك مَن يرى أن الحاجة هي التي تملي الرغبة في استشراف المستقبل وسَبْر أغواره، لمعرفة متى يتحقق إشباع تلك الرغبة، وفي أي وسط يمكن أن تستجمع ظروف تلك الحاجة. وهناك مَن يرى أن الخوف هو الذي يملي كل ذلك. فالخوف من القادم وأهواله هو ما يولد الرغبة في استشراف المستقبل . والخشية من زوال الطمأنينة – أو الحرص على توفرها – هو الذي يدفع لمعظم ذلك. وما نرى هؤلاء إلا مؤكدين على ما لعمليتي الترغيب والترهيب من دور في تحيز الذات الإنسانية.
وللأسف أن علماء النفس المسلمين لم يولوا هذا الجانب مزيدًا من الاهتمام؛ إذ ظلت علومنا الاجتماعية والسلوكية في أمسِّ الحاجة إلى توسيع مجالات الدراسات الأكاديمية والبحوث العلمية؛ للبرهنة والتأكيد على كون الرغبة والرهبة عنصرين أساسيين لتحفيز همم الفاعلين في كل زمان ومكان. فالخطاب الدعوي لمختلف الأنبياء والرسل قد اعتمد على تحريك هذين العنصرين بفعالية تشحن حوافز الجمهور المخاطَب، وتثير الاهتمام لديه.(/9)
ونحن لا نقصد من هذا التعريف بالمفهوم التوغلَ في التنظير لعلوم المستقبل من وجهة تنطلق من مرتكزات الثقافة الإسلامية؛ لأننا لا نرى ضرورة في تفصيل ذلك، إذ إننا لا ننتظر من دراسات المستقبل حلاًّ شاملاً لمعضلات قائمة، أو قرارًا ناجعًا لفك إشكاليات حاصلة، وإنما حسبها بعد الوعي بنتائجها وتوصياتها الإحاطةُ إجمالاً بالموضوع، وتوجيه الأنظار لمختلف مركباته، وشكل حركاته، والمسار المتوقع لكيانه، المحدد لشكل مآلاته. ولهذا كانت عنايتنا في هذا التعريف بمفهوم "المستقبل" منكبةً على مقاصد الفنون والعلوم المتعلقة بصياغة مشاهده؛ لتوجيه تلك الأنظار نحو الغايات لا تهويل الذات من خطر المستقبلات. ولن نتردد كلما سنحت الفرصة أن نعيد ما سبق أن نادينا به في دراسات سابقة – خاصة في عصور طغت فيها التقلبات، واشتدت فيها وتيرة وحِدَّة التغيرات – ما أصبح شبه القاعدة عندنا من أن "البت في الحال، يقتي الإحاطة بالمآل".
ونحن حين نعالج المستقبلية، نمارس عمليًّا دراسات المستقبل، فنمعن النظر استشرافًا لآفاق عملنا الحالي والظرفي، في سبيل أن نقدم حاضرًا داخل حقلنا الإسلامي قادرًا على تصحيح ما ينبغي تصحيحه، وتغيير ما يلزم تغييره، لن نعدم مَن يصيح في وجهنا مِن بني قومنا وإخوتنا، ممن يشاطروننا الدين والعقيدة، ويحملون معنا هم الأمة، ويشاركوننا الانتماء لعالم الإيمان وأسرة الإسلام، منبهًا كلما باشرنا الحديث عن المستقبل أننا نمشي في هذه الدنيا بقدر، وأن لا حركة لنا ولا سكون إلا بما قدر الله، ووَفْقَ ما قدر الله.(/10)
بل نحن حين نشق طريقنا على خطى ونهج نود أن يبلغنا الأهداف التي نرجو، ونحقق على دربه الغايات التي إليها نصبو، نسلم بأنه لم يبرح مكانه مَن راقه من أهل ملتنا وضع الذمي في حضارة القهر المعاصرة، , واكتفى في حقها بترديد أوراد تطول أو تقصر من السب والشتم للآخر، وألوان شتى من التأسي والتمني حول زمن الأسلاف وإنجازاتهم، صارخًا في صفوفنا – وهي تغالب أقدار الواقع تعاكس جاذبية أتعسها بالطموح والسعي لأخيرها مع الدعاء المتواصل لله المقدر والمغير، كلما عزمت على استشراف ما توده من أزمنة قادمة راغدة، توجه صوب شروطها عملها الحالي وسيرها الحاضر، حذرة من ضغط الجانب الفاتك من رحى تداول الأيام – مغلظًا لها القول معاتبًا ومرددًا أن "استشرفوا ما شئتم من المستقبلات، فلن تسيروا إلا حيث أراد الله!".
ولقد شقينا إن لم نكن نعلم أنَّنا ماضون في كل حالاتنا وأحوالنا وحركاتنا حيث أراد الله. إلا أننا نسمح لأنفسنا – انطلاقًا مما تعلَّمناه من ديننا وما استنبطناه من شريعتنا – أن حجج هذا الصنف من المعاتبين داحضة. فهي من النوع الذي مضمونه الشكلي حقيقة، وقوام كلماته صدق، لكن أريد به تبرير كسل عن فعل لازم، أو منع من إقدام على عمل ضروري، أو استسلام لأمر حاصل، مع ترويج خطاب يدعو لاستقالة من مغالبة الحاضر في انتظار الرجوع إلى عهد السلف، والاكتفاء مثل أصحابه بالعيش في وضع الذمي من الوجهة الحضارية بجميع مقاييسها، والاستمرار في أداء جزية جماعية نؤديها من حريتنا في إنجاز تطلعاتنا للعيش السليم، والحفاظ على ديننا القويم.
بل ننطلق من كامل اليقين بأن الإيمان لا يكتمل عند المسلم إلا بالإيمان بالقدر، وَفْقَ ما خطه الرسول - عليه الصلاة والسلام - في حديث جبريل المشهور:(/11)
"... قال: فأخبرني عن الإيمان"، قال: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، قال: "صدقت..." [7].
حجج المعاتبين الداحضة في سياقها الشكلي مشحونة بالحقائق، لكن في سياقها التبريري مقرونة بالمغالطات. فلا يلزم ولا يعقل بحال أن يُلغى من ساحة الفعل والأقدار المصرفة له – بالوعي المعكوس أو المنعدم للموضوع والمقاصد والغايات – عدلُ الله - عز وجل - وقسطه. ولا يستحسن على أي وجه كان، الانطلاق من تلك الحجج، المبنية على قصور في الفَهْم وضعف في إدراك المعاني، لضرب سريان مفعول الأمانة الملقاة على بني آدم على مختلف الأزمنة والعصور.
أليس الله - عز وجل - هو المعاتبَ على مَن قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟ أليس الله - سبحانه وتعالى - هو الزاجرَ لمن قالوا: لو شاء الله ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء؟ ومن رام أننا ننفرد بالرأي في هذا المجال فليتدبر القرآن!. يقول الله - عز وجل - معاتبًا للكافرين، وداحضًا تبريراتهم وحججهم للاستمرار في ضلالهم، في آيتين اخترناهما للمثل لا للحصر:
الأولى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[8].
الثانية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}[9].(/12)
فهذان مَثلان يعاتب الله فيهما على قوم يحتجون في وجه مَن يدعونهم للإصلاح بالقدر. الأولون يدَّعون أنهم لا يريدون تغيير قدر الله، والآخرون يزعمون أنهم لا يستطيعون مخالفة قدر الله . فهل أجازهم الله على مواقفهم وأفعالهم، أم أنكر زعمهم وادعاءهم؟
ونحن لا نريد في سياق كلامنا أن ندخل في متاهات فلسفة القدرية، وما جرته من جدال وصراع مدمر ومكبل بين مختلف الفصائل التي تصارعت في أزمنة سابقة في تاريخ أمتنا الإسلامي بين الجبرية والمعتزلة، لكن أشير إلى ما قاله أحد الأئمة الأعلام، والسلف العظام، الإمام ابن القيم - رحمه الله -، في كتابه القيم "مدارج السالكين"[10]:
"وراكب هذا البحر في سفينة الأمر، وظيفته: مصادمة أمواج القدر، ومعارضتها بعضها ببعض، وإلا هلك. فيَرد القدرَ بالقدر. وهذا سيْر أرباب العزائم من العارفين. وهو معنى قول الشيخ العارف القدوة عبد القادر الكيلاني: "الناس إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا فانفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق. والرجل مَن يكون منازعًا للقدر، لا مَن يكون مستسلمًا مع القدر". ولا تتم مصالح العباد في معاشهم إلا بدفع الأقدار بعضها ببعض، فكيف في معادهم؟
والله تعالى أمر أن تدفع السيئة - وهي من قدره - بالحسنة، وهي من قدره. وكذلك الجوع من قدره، وأمر بدفعه بالأكل الذي هو من قدره. ولو استسلم العبد لقدر الجوع مع قدرته على دفعه بقدر الأكل حتى مات؛ مات عاصيًا. وكذلك البرد والحر والعطش كلها من أقداره. وأمر بدفعها بأقدار تضادها. والدافع والمدفوع والدفع مِن قدره.
وقد أفصح النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا المعنى كل الإفصاح، إذ قالوا: "يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورُقى نسترقي بها، وتُقى نتقي بها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟، قال: ((هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ))"[11].
ثم يضيف إمامُنا ابن القيم - رحمه الله - بحجج دامغة، شارحًا أنواع دفع القدر بالقدر:(/13)
"ودفع القدر بالقدر نوعان:
أحدهما: دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه – ولمَّا يقع – بأسباب أخرى من القدر تقابله، فيمتنع وقوعه. كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.
الثاني: دفع القدر الذي وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بالتداوي، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان.
فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها وترك الحركة والحيلة، فإنه عجز . والله تعالى يلوم على العجز، فإذا غلب العبد، وضاقت به الحيل، ولم يبق له مجال، فهناك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء. وهنا ينفع الفناء في القدر، علمًا وحالاً وشهودًا. وأمَّا في حالة القدرة، وحصول الأسباب، فالفناء النافع أن يفنى عن الخلق بحكم الله، وعن هواه بأمر الله، وعن إرادته ومحبته بإرادة الله ومحبته، وعن حوله وقوته بحول الله وقوته وإعانته. فهذا الذي قام بحقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. علمًا وحالاً. وبالله المستعان".
ونحن قوم بالطبع والفطرة لا نقول بسخرية القدر، لعلمنا أن القدر وهو على صنع ونهج رباني لا يسخر، ويستحيل أن يسخر. وكيف يسخر وهو مجال فعل لكل مكلف فيه من الحرية والحركة على قدر ما يمتطيه من أقدار الله المفسوحة أمامه، يفر من هذا إلى ذاك، يمتطي الأجود والأسرع من مراكب أقدارها لاختيار بدائل أقدارها، ويغالب المشهود والوشيك من أنواعها بما يتوق إليه من أحاسن أصنافها، مثلما قال عمر - رضي الله عنه - حين أبى أن يدخل الأرض التي قصد، وقد حلَّ بها الطاعون. "أفرار من قدر الله؟!" فكان جوابه القاطع البليغ: "نفر من قدر الله إلى قدر الله".(/14)
ومعنى ذلك أن الصالحين من عباد الله يسعون – ضمن نطاق التكليف وداخل دائرة أقدار الله - إلى التنقل من قدر الله، هو أوسع لهم رحمة، وأضمن لهم ثباتًا على الدين وممارسة لتعاليمه. من هنا كانت الكلمة البليغة للشيخ العارف القدوة عبد القادر الكيلاني - رحمه الله - نوعًا من الحكمة التي لا يستوعبها إلا العارفون أولو الألباب والنُّهى حين قوله: "والرجل مَن يكون منازعًا للقدر، لا مَن يكون مستسلمًا مع القدر".
فالإيمان بقدرة الله وقدره على المنحى السلبي الذي نراه اليوم في مجتمعاتنا، والمنعدم الوعي للفرق بين التوكل التواكل، المُفْقِد للإنسان طموح التغيير والإقدام على المبادرة، إيمانٌ أجوف لا أس صلب له. بل الإيمان القويم المتين أن تضع قدر الله داخل مجال فعلك، وأن تغالب الأقدار التي لا مفر لك منها، تستجلب في محيطها صارعًا ودافعًا وتدافعًا قدرًا أحب إلى الله، تكون فيه أقدر على القيام بما كلفت به من الله - جل علاه -، لإعلاء كلمة الله، خدمة لخلق الله، وحفاظًا على موازين الصلاح في الكون المسخر للإنسان من الله.
وسعيًا لإبعاد تلك الرؤى السلبية التي رسخت في أذهان العديد من أفراد عالمنا الإسلامي، نقدم فيما يلي مجموعة من المعلومات المركزة عن فنون المستقبل موضوعًا وغايات، لأننا لمسنا أن عديدًا من جمهور المثقفين المسلمين قدِ اخْتَلَطَتْ لَدَيْهِمْ مفاهيمُ التخطيط والاستشراف والتدبير، وآخرون لا يميزون بين القدر والإعداد للغد، لعلنا نكون بذلك قد ساهمنا في إزالة الغموض، وشاركنا في تنوير النهى حول الغايات من إعمال فنون المستقبل وأدواتها المعرفية، للبت في قضايانا اليومية.(/15)
1- لعلَّ الخطر الكبير الذي يتهدد "علوم المستقبل" أو "المستقبلية" هو ذاك الكامن في إطارها الأبستيمولوجي المستمر التطور والتبلور، لأنه لصيق بالعلوم الاجتماعية. فالمستقبلية منهج يُخشى على الآخذ به حين التطبيق أن ينشغل بتحديد العوالم الفاعلة انشغالاً يجد له حلاوة وجاذبية تبعده عن الصرامة الأبستيمولوجية الضرورية والمواكبة لجميع مراحل البحث والدراسة، وتدفعه لتحميل المصطلحات المستعملة مفاهيمَ وتفاسير، يمليها العناد لدى الخبير أو الباحث من جراء ميولاته الفلسفية والمذهبية؛ لتفسير وتدعيم رؤيته ونظرته للموضوع المدروس مع مختلف صورها، وعدم وعيه العميق دون استعصاءٍ فقهَ عوارضها، وظروف انبثاقها، أو غموض بعض مظاهرها عليه كلية، فيلزم المنهج تحليلاً يجد له نوعًا من المنطق، وشكلاً من التبرير العلمي، لكن يرفضه النسق الأبستيمولوجي حين إعمال النقد، وإعادة التركيب، وتوجيه سهام التساؤل حول مبررات النتائج و علل الفرضيات.(/16)
2- والخطر يكمن خاصة عند المهتمين بتلك العلوم والفنون في عدم التمييز بين "التداول" و"التقدم". فتداول الأيام سُنة من سنن الله في الكون، قائمة دائمة إلى أن يشاء الله، وهي الأساس في التغيير، وهو مخالف للتقدم الذي قد يحصل حين التداول أو لا يحصل. ونحن إذ نشير لذلك لا نريد فتح باب لتحديد كِلاَ المصطلَحين، ولكن لنلاحظ هناك عددًا من المفتونين بالتقدم والتطور العلمي، يدَّعون أن المستقبل هو لمن له قدم راسخة في المجال الاقتصادي، وباعٌ متصاعد في الميدان التكنولوجي، حتى إذا ما عالجوا ظواهر النسيج الاجتماعي الذي يتبلور فيه ذلك الاقتصاد، وأمعنوا النظر في مناخ تطور تلك التكنولوجيا، تبين لهم دور الجانب الإنساني والثقافي داخل المجتمع، فانهالوا حينئذ على صياغة تبريرات، يلبسونها لبوس العلم والمنطق، يبرهنون بها على تأثير أوضاع الاقتصاد والتكنولوجيا على ذلك الجانب الإنساني، ليعودوا إلى ديدنهم الأول وهم مقتنعون.
3- ويسقط في نفس الخطأ الذين ينطلقون من السؤال: "ماذا سيقع في سنة 2000 أو ما بعدها من السنوات؟". فهؤلاء ليسوا مع المنهج المستقبلي الأبستيمولوجي في شيء. لأن الهدف الأساس من المستقبلية ليس كتابة تاريخ وقائع الأزمنة القادمة – مهما تعددت الوسائل العلمية لتكهنها – ولكنه النظر في إمكانية صنع مستقبل مرغوب، وتحديد العمل استراتيجية وبرنامجًا لتحقيقه حسب شروطه، باستبصار مختلف العوامل الفاعلة في الماضي القريب والحاضر اللهيب، سواء منها المانعة من بزوغه، أو المشجعة على تجليه.(/17)
4- وبأسلوب أكثر وضوحًا. نؤكد أن المستقبلية من منظور إسلامي علمي هي تلك التي تُعْنَى بدراسة بدائل المستقبل لحل المشاكل التي تتخبط فيها الجموع الإسلامية، وشن حرب ضروس على الجهل الذي ينخر جسمها، ومقاومة الفوضى السائدة ببعض صفوفها. وهي بذلك لا تنشغل بصور زهوق الباطل، ولكن تنظر للمستقبل على أساس أنه مجال حرية وإرادة وقرار لتحقيق دمغ الحق للباطل فإذا هو زاهق. فالقائد حين يخوض حربًا يكون هدفه النصر والتمكين لجيوشه من الفوز على الخصم. ولا نعلم قائدًا عاقلاً يخوض الحرب لينظر بأي الطرق سيتجرع الهزيمة، أو ليلاحظ بأي شكل ستباد جيوشه وتزال شوكته.
5- إن المستقبلية تنطلق من جمع مختلف الأسئلة الحرجة حول وضع يراد دراسته ببدائل مستقبلية، فتحسن صياغتها بشكل تسلسلي مترابط يسمح بإبراز العناصر الفاعلة وترابطها . وفي غياب جو من الحرية يسمح بتقدير البدائل ومناقشة صلاحيتها، تتحول المستقبلية إلى نوع من الأسلوب القسري "الدكتاتوري"، الذي يفرض رؤيا واحدة، يبرر أصحاب القرار علميتها ومنطقيتها من خلال إرغام الباحثين على السير على خطاها بما لهم من قوة نفوذ عليهم، فتضيع بذلك أزمنة كان يلزم أن تصرف للانتقال بالمجتمع نحو الأمثل، وتباد طاقات ليتها سخرت للنهوض بالمجتمع نحو الغد المشرق.
ولنا في النظم الاشتراكية والليبرالية والديكتاتورية على السواء في عالمنا العربي البئيس، التي سادت في ماضينا القريب، أو التي تسود في أقطار شتى من عالمنا المهتز، خيرُ المثل للدَّلالة على ما نقول. والنتيجة من ذلك تحول المستقبلية من فن يسمح بنهج سبل المستقبل المرغوب فيه عبر مشاركة الفاعلين من أفراد المجتمع، إلى تقنوقراطية لتمرير خيار القادة، وتبرير نهجهم بمختلف الوسائل العلمية والتقنية والمنطقية المتاحة، انطلاقًا من إسقاطات رياضية متعددة، وتفاسير منمقة ومضخمة للظواهر الاجتماعية.(/18)
6- تسمح المستقبلية بتغذية الوعي الجماعي بفكر مضاد للفكر الراكد الرافض للتغيير؛ ولهذا كانت طاقة مولدة لفكر منتج حينما تنبثق عن إسهامات جماعية لأفراد المجتمع، على عكس الصورة التي ذكرناها آنفًا حين تنقلب أداة في أيدي الطغاة والدكتاتوريين لتبرير سياستهم، وإيجاد السند العلمي لتوجهاتهم.
ونحن نهدف من خلال إعمال فنون علوم المستقبل داخل مجتمعاتنا إلى دفع المسلمين قدمًا نحو الوعي الجماعي بإمكانية وضرورة إظهار الوجه الحضاري المشرق للإسلام، وتحقيق شروط إنزاله على أرض الواقع علمًا وثقافة وصناعة معرفية وحضارية. فإيمان المسلمين بمستقبل تتحقق فيه أمانيهم مؤازرة وتكافلاً مع باقي فئات المجتمع الأخرى، بل تَمثُّلهم لذلك المستقبل، وعيشهم ذهنيًّا وسط فضاءات تخيله، يجعلهم أكثر استعدادًا لسلوك حصوله. ومن ثَمَّ كان الإيمان سابقًا على العمل وأصلاً له.
7- على ضوء ذلك، لا تكون المستقبلية ذات جدوى من وجهة نظرنا إلا إذ كانت منبثقة من الإيمان بأن الله ممَكِّن للمسلمين دينَهم الذي ارتضى لهم، وأن مستقبلهم بيدهم فلينظروا لشروطه، وأن الغد غدهم فليعملوا على تحقيق سبل تحصيله.
ومن ثَمَّ فهي أداة لتوسيع دائرة البحث والنقاش حول تلك السبل وصورها المحتملة الممكنة من تحقيق الشروط المطلوبة، والنظر بالعين البصيرة والدقيقة لمختلف الموانع والعوائق التي تحول دون ذلك، وطرق التغلب عليها ومواجهة المترتب عنها من العوارض والصعوبات، وما تمليه من تكثيف الجهد وحشد القوة لاقتحام العقبات.(/19)
8- في إطار ذلك تفهم "سورة العصر" في القرآن الكريم، لأن الإيمان والعمل ضروريان للانطلاق وخوض غمار التغيير نحو المنشود، وضامنان لترجيح كفة تداول الأيام جهة الغد المشرق للإسلام. والتواصي بالحق والتواصي بالصبر دعامتان لتحقيق الفوز حين مواجهة الموانع والعوائق، لازمتان لكسب النصر حين مدافعة الصعوبات وتحمل الشدائد حتى يحصل ذلك الغد المنشود، فيتشكل في هيأته المثلى على يد جيل من الأجيال القادمة، ثم الاستمرار على نفس النهج إيمانًا وعملاً جهادًا وصبرًا وتعاقبًا من طرف الأجيال التالية، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
فانقطاع التواصي بين الأجيال قاتلٌ لكل مشروع في عز تطوره، وماحِقٌ لكل مكتسب قبل نفاد عطائه، ومولد لأجيال يصفها الله - عز وجل - بقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}[12]. فانقطاع التواصي بالحق والتواصي بالصبر منسِفٌ للإيمان، مجهض للعمل، مولِّد للخلف الضائع والمضيع، يفقد عقل الأمة استمرارية التوقد لبسط نفوذها على المستقبل، ويدفع عديدًا من أفراد المجتمع للاستغراق في شهوات الحاضر، واللهو عن استيفاء شروط الغد القادم، وما مثال فِلَسطين عنا ببعيد.
9- المستقبلية في منهجها السليم تقتضي نظرتين متكاملتين: نظرة إلى الأفق البعيد، ونظرة إلى الحاضر من بعيد. نظرة إلى الأفق البعيد لتكهن مآلات القرارات المتخَذة الآن، ليس بقصد استغراق الذهن في التحديد الدقيق لتفاصيل مضمونها، ولا الاستمتاع ببراعة تخيل أشكالها، ولكن بهدف معرفة مجال المراجعة حاضرًا، وفسحة إمكانية المبادرة حالاً، لتغيير المسار نحو الأفضل، وتوجيه الواقع نحو الأمثل.(/20)
وتلك نظرة تقتضي بدورها كشف الجينات المولِّدة للاتجاهات الثقيلة التي تجر الأحداث بجاذبيتها، وتشد الواقع والوقائع تحت مفعولها، وهو أمر صعب دون نظرة أخرى من بعيد للواقع المدروس، نظرة تنطلق من زمن موغل في التاريخ بشكل كافٍ لاستيعاب المسار التاريخي للأحداث وفِقْهِ أشكال تطوره، ومعرفة غلبة الصورة منه التي تحققت على صورة أخرى لم يُكتب لها أن ترى النور، وإن كانت لها حظوظ افتراض الوقوع والتحليل الأبستيمولوجي الناقد بين النظرتين من شرفة الماضي الذي انطلقت منه النظرة الأولى، إلى أفق المستقبل الذي بلغته النظرة الثانية، هو الزبدة المرتجاة من البحث والتحليل، وهو المانع من أن يرجع بصر البحث المستقبلي خاسئًا وهو حسير، وما أمره على الدارس المستغرق الجهد بيسير.
10- فنحن لا نسير على خطى الذين يدعون أن دراسة الماضي وحدها تحدد المستقبل، فهؤلاء يرون في تطور الأحداث أمرًا سكونيًّا، ومعرفة أثر القادم لا تحتاج لديهم إلا إلى إسقاط تطورات الماضي على المستقبل، فتلوح لهم بذلك - حسب ما يتخيلون - أجزاءٌ مهمة من صوره، ولكننا نؤمن وننطلق من أن المستقبل هو الذي يصنع الحاضر، ليس لأن فقهاء المستقبلية يقولون بذلك ويعتبرونه أصلاً لعملهم، ولكن لكون الإسلام كان سباقًا في إرساء هذا المنهج والدعوة إليه، إذ المستقبل الأخروي المرغوب عند الفرد المؤمن هو الذي يحدد عمله الحاضر.
فمن كان يريد حرث الدنيا فقط، يؤتيه الله منها ما يشاء، وهو من وجهة الإسلام لا مستقبل له إلا النار. ومن أراد الدار الآخرة وسعى لها سعيها في الحاضر، فإن له المستقبل الزاهر بإذن الله. وتلك أقوى الدَّلالات على قولنا إن المستقبل صانع الحاضر، وإن الإيمان بالصورة المرغوبة والممكنة منه محفز على العمل الآن، دافع للإقدام على استيفاء شروطه في الحال.(/21)
فالمستقبلية من منظور علمي، لا تنطلق كما يتبادر للذهن من السؤال: ماذا سيقع من الحوادث في المستقبل؟ فذلك نوع من الكهانة لا يمارسه إلا مدعٍ معرفتَه بالغيب. ولكن تنطلق أساسًا من السؤال: كيف يقع في المستقبل القريب ما أريد - بإذن من الله وتأييد منه -؟ وما العقبات في وجهه؟ وما العوامل المساعدة على حصوله؟ وما عساني أفعله لو تعطلت خطاي، وسبقني المنافسون لصناعة المستقبل على شاكلتهم، بحيث تكون سُنة تداول الأيام لصالحهم؟
تلك هي المستقبلية من وجهة نظر علمية، ومن منطلق إسلامي رصين، ولئن سُئلنا بعدها عن ماذا سيحدث سنة 2000؟ سنجيب بكامل الابتسام: سيكون – على الرغم أننا - لغزو ثقافي مكثف - نسينا أو أنسينا مرجعية التأريخ بالهجري – أولها رمضان، وآخرها رمضان. وهو خير نهاية لقرن مليء بالانكسار والانهزام، معلن عن صحوة إسلامية مباركة، تتنامى على الرغم من اشتداد أنواع القهر والفتك، وقلة العدة والعدد، وغياب النصير، وضعف الظهير.
إنها سَنة عادية من حيث الزمن، خاتمة لقرن متلاطم الأمواج، كثير المتغيرات، شديد الزلزال، كثيف التقلبات. إن كان لها ما يميزها عن غيرها من شيء مهم، ونعلمه علم اليقين على وجه التمام، فهو أن انقضاءها يفسح المجال لمطلع شمس ألفية ميلادية ثالثة، وقرن جديد، وعام وليد. يبدأ الثلاثة والعالم الإسلامي يبتهج بأفراح عيد الفطر. فلا عجب أن يفرح المؤمنون يومئذ بنصر الله، أيًّا كانت حالتهم التي لا نخالها تخرج عن واقع مرير؛ لضعف في العمل وغياب في التنظير. لكنه فاتحة لعهد فريد، وموسم جديد، يبدأ والأمة تعيش أيام الفرح بعيد الفطر السعيد. فأنعِم به موسمًا لثقافة الإسلام، وطالع خير للألفية والقرن والعام.
ــــــــــــــــــــــــــــ(/22)
[1] مما تقوم به تلك المؤسسات والتنظيمات مثلاً تخويف شعوب الغرب وغيرهم من الإسلام، من خلال ادعائها أن المسلم أيًّا كان وحيث كان إرهابي الطبع، حلف الخلق، لا يمكن الاطمئنان لمواطنته وسماحته. وهي في ذلك تعتمد على ترويج أفكار مغلوطة ومكذوبة، وصناعة افتراءات متناقضة، وتضخيم أحداث من الواقع ظرفية ومنعزلة، لتبرير المواقف، وتأكيد مشاهدها وتصوراتها المفزعة.
[2] انظر مثلاً دراستنا بعنوان "حاجتنا إلى علوم المستقبل"، مجلة المسلم المعاصر، العدد 61، خريف 1412 – 1991، ص 45 – 88: ومجلة المستقبل العربي، العدد 144، فبراير 1991، ص 21 – 51. وكذا دراستنا بعنوان "في سبيل استشراف محكم لمستقبل الثقافة في العالم الإسلامي"، مجلة الهدى، العدد 31، ذو القعدة 1415، أبريل 1995، ص 22 - 28.
[3] د. المهدي المنجرة، "من أجل استعمال ملائم للدراسات المستقبلية" مجلة عالم الفكر، المجلد 18، العدد 4، شتاء 1988، ص 3 – 6.
[4] "Prospective et societe", travaux et recherché de prospective, n28, la Documaentaion francaise, n14 p.2 mars 97.
[5] G.Bachelard, "la formation de l'esprit scientifique 8eme edition 1970 p.13, Vrin.
[6] نفس المرجع المذكور فوقه "Prospective et societe" .
[7] الحديث رواه مسلم في أول كتاب الإيمان رقم 3، والترمذي في كتاب الإيمان رقم 2738، وأبو داود في كتاب السنة – باب القدر، رقم 4695، والنسائي في كتاب الإيمان، باب نعت الإسلام، 97/8. كما أنه ثاني أحاديث الأربعين النووية، وله شروح كثيرة.
[8] سورة يس، الآية 47.
[9] سورة الأنعام، الآية 148.
[10] ابن القيم الجوزية، "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى 1412 – 1991 ج1، ص 232 – 233.
[11] الحديث رواه الترمذي وصححه، رقم 2065، ورقم 2148، وابن ماجه رقم 3437، والحاكم 402/4.
[12] سورة مريم الآية 59.(/23)
العنوان: المسجد الأقصى منارة الإسلام
رقم المقالة: 933
صاحب المقالة: د. يوسف كامل إبراهيم
-----------------------------------------
المسجد الأقصى منارة الإسلام والمسلمين، لا تتركوه يهدم
القدس مدينةٌ تعيش في هذه الأيام أصعب أوقات حياتها؛ حيث التهويدُ الذي قضى على جميع أراضي المدينة، وكذلك الجدار الذي يخنُق الأحياء الفلسطينية، والحفائر تحت أساسات المسجد الأقصى تمهيدا لتدميره.
ومن هنا؛ كان لابد أن نلقي الضوء على الواقع الذي تعيشه المدينة، والتغيرات التي حصلت في جغرافية المدينة؛ فالقدس: اسمٌ يطلق على محافظة القدس، التي تعتبر من أهم وأقدس محافظات فلسطين – انظر: خريطة فلسطين.
وتعد مدينة القدس - بكل ما فيها - آثاراً تاريخية للمسلمين والمسيحيين والإنسانية، وتضم إلى جانب المساجد والكنائس والأديار مدارسَ ومنازل وقباباً وأوقافاً.
وأهم آثارها: المسجد الأقصى، الذي بُني قبل الميلاد بأكثرَ من ألفَي سنة، وهو ثاني مسجد بُني بعد المسجد الحرام في مكة.
والقدس هي أكثر الأماكن قدسيةً عند النصارى، ولهم فيها كنيسة القيامة، التي بنيت في القرن الرابع الميلادي. وفيما يلي نذكر أهم الآثار في المدينة المقدسة.
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والأقصى:
وعندما جاء الخليفة عمر بن الخطاب من المدينة إلى القدس، وتسلمها من أهلها في اتفاق مشهور بـ(العُهْدَة العُمَرِيَّة)، قام بنفسه بتنظيف الصخرة المشرفة وساحة الأقصى، ثم بنى مسجداً صغيراً عند مسرى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعراجه. وقد وفد مع عمر العديد من الصحابة منهم: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وأبو ذر الغفاري –رضي الله عنهم أجمعين.
الأمويون والأقصى:(/1)
كان اسم المسجد الأقصى قديماً يطلق على الحرم القدسي الشريف وما فيه من منشآت، أهمها (قبة الصخرة) التي بناها عبدالملك بن مروان عام 72هـ/691م مع المسجد الأقصى، التي تعدُّ واحدةً من أروع الآثار الإسلامية، ثم أتمَّ الخليفة الوليد بن عبدالملك البناءَ في خلافته التي امتدت من عام 86 - 96هـ / 705 -714م.
ويختلف بناء المسجد الحالي عن بناء الأمويين؛ حيث بُني المسجد عدة مرات، في أعقاب زلازل تعرض لها على مدى القرون الماضية، بَدأً من الزلزال الذي تعرض له أواخرَ حكم الأمويين عام 130هـ/747م، ومروراً بالزلزال الذي حدث في عهد الفاطميين عام 425هـ/1033م.
أولا: المسجد الأقصى:
المقصود بالمسجد الأقصى:
المسجد الأقصى المبارك جزءٌ من البلدة القديمة، وهو الساحة التي يحيط بها سور، وهي واقعة داخل أسوار القدس في زاويتها الشرقية الجنوبية، فسوره من الجهة الشرقية متَّحدٌ مع سور القدس، ومن الجهة الجنوبية متَّحدٌ معه في أكثر من نصفه، والباقي من الجهة الجنوبية الغربية، والغربية بأكملها، والشمالية بأكملها؛ فهو سور خاص داخل المدينة التي يحيط بها سورٌ أيضاً – انظر: خريطة البلدة القديمة.
وهو المسجد الذي أُسري بالنبي محمد - عليه الصلاة والسلام – إليه، والقصة وردت في القرآن، في سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء: 1].
وهو أُولى القبلتين؛ حيث استقبله المسلمون سبعة عشر شهراً، قبل أن يؤمروا بالتحوُّل شطر المسجد الحرام، كما أنه ثالث الحرمين المكِّي والمدني.(/2)
والمسجد الأقصى إضافة إلى السور الذي يحيط بالقدس العتيقة، هناك سورٌ تاريخيٌّ آخر في المدينة، هو سور الحرم القدسي، الواقع فوق جبل الموريا في الجنوب الشرقي للقدس العتيقة، ويبلغ طول الجانب الغربي للسور 490م، والشرقي 474م، والشمالي 321م، والجنوبي 283م. ويضم الحرم داخل أسواره عدداً كبيراً من الأبنية الإسلامية، أشهرها قبة الصخرة - انظر الصورة.
يقع هذا المسجدُ على تل من تلال بيت المقدس الأربعة، الواقعة عليها المدينة المسورة، وعلى منحدرها المتجه من الزاوية الشمالية الغربية للجنوبية الشرقية.
والمسجد الأقصى المبارك هو المسجد الوحيد في العالم كله الذي يضم تفاصيل عديدة ومتنوعة، بمثل هذه الكثرة؛ من مبانٍ، حواكير، قباب، سُبُل مياه، سُبُل مرور، مصاطب، مساجد، مغاور، أروقة، مدارس، برك مياه، أشجار، محاريب، منابر، مآذن، أبواب، أبار، مكتبات، مكاتب لدائرة الأوقاف وما انبثق عنها، لجنة الزكاة، لجنة التراث الإسلامي، دور القرآن والحديث، خُلُوَات، غرف لأئمة، مباني المسجدَيْن الكبيرَيْن، وحراس المسجد الأقصى، ومخفر الشرطة.
آبار وسُبُل:
يوجد في ساحة الأقصى الشريف خمس وعشرون بئراً للمياه العذبة، ثمانٍ منها في صحن الصخرة المشرفة، وسبع عشرة في فناء الأقصى، كما توجد بركة للوضوء.
وأما سُبُل شرب الماء؛ فأهمها: سبيل قايتباي المسقَّف بقبة حجرية رائعة، لفتت أنظار الرحَّالة العرب وغير العرب ممن زاروا المسجد، إلى جانب سبيل البديري، وسبيل قاسم باشا.
مآذن وقباب:
للمسجد الأقصى أربعة مآذن، والعديد من القباب والمصاطب، التي كانت مخصصة لأهل العلم والمتصوِّفة والغرباء، ومن أشهر هذه القباب: قبة السلسلة، وقبة المعراج، وقبة النبي - صلى الله عليه وسلم.
أروقة ومزاول:
أما بالنسبة للأروقة: فأهمها الرُّواق المحاذي لباب شرف الأنبياء، والرواق الممتد من باب السلسلة إلى باب المغاربة.
كما يوجد به مزولتان شمسيتان لمعرفة الوقت.(/3)
حريق المسجد الأقصى:
يأتي حريق المسجد الأقصى في إطار سلسلة من الإجراءات التي تتخذها الحكومة الإسرائيلية منذ عام 1948م لطمس الهُوية الحضارية الإسلامية لمدينة القدس، ففي يوم 21/8/1969 قطعت سلطات الاحتلال الإسرائيلية الماء عن منطقة الحرم، ومنعت المواطنين العرب من الاقتراب من ساحات الحرم القدسي، في الوقت نفسه حاول أحد المتطرفين اليهود إحراق المسجد الأقصى.
واندلعت النيران، وكادت تأتي على قبة المسجد لولا بسالة المسلمين في عمليات الإطفاء، التي تمت على الرغم من قيود السلطات الإسرائيلية، لكن بعد أن أتى الحريق على منبر صلاح الدين، واشتعلت النيران في سطح المسجد الجنوبي، وسقف ثلاثة أروقة.
وادَّعت إسرائيل أن الحريق بفعل الكهرباء، وبعد أن أثبت المهندسون العرب أنه تم بفعل فاعل، ذكرت أن شابّاً أسترالياً هو المسؤول عن الحريق، وأنها ستقدِّمه للمحاكمة، ولم يمض وقت طويل حتى استنكرت معظم دول العالم هذا الحريقَ، واجتمع مجلس الأمن، وأصدر قراره رقم 271 لسنة 1969، بأغلبية أحد عشر صوتاً، وامتناع أربع دول عن التصويت - من بينها الولايات المتحدة الأميركية - الذي أدان إسرائيل، ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي يترتب عليها تغيير وضع القدس، وجاء في القرار: "مجلس الأمن يعبِّر عن حزنه للضرر البالغ الذي ألحقه الحريق بالمسجد الأقصى يوم 21/8/1969، تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، ويدرك الخسارة التي لحقت بالثقافة الإنسانية نتيجة لهذا الضرر".
ثانيا: مسجد قبة الصخرة:
مسجد القبة له تاريخ ديني عريق - كما تتحدث المراجع التاريخية - فقد عرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فوقها إلى السماء في رحلة المعراج.
والعمارة الحالية لمسجد قبة الصخرة تمت في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، وهو بذلك يعدُّ من أجمل المباني الأثرية، وقد استوعبت في تصميمه وزخرفته الفنون التشكيلية الإسلامية، والتراث الإنساني الفني.(/4)
وبسبب تميز بناء المسجد وجماله فإنه الأكثر انتشاراً وتداولاً في موضوع القدس، حتى صار يرمز إلى القدس أكثر من المسجد الأقصى، ولم يصبح كثير من الناس يميزون بين المسجدين.
ثالثا: المصلى المرواني:
يقع مسجد المصلى المرواني في الجهة الجنوبية الشرقية من المسجد الأقصى، وكان يطلق عليه قديماً التسوية الشرقية من المسجد الأقصى.
ويتكون المصلى المرواني من ستة عشر رواقاً، وتبلغ مساحته 2775 متراً مربعاً، وخصص زمن عبد الملك بن مروان كمدرسة فقهية ومن هنا اكتسب اسم المصلى المرواني. وأيام الاحتلال الصليبي لبيت المقدس استعمله الصليبيون مكانا تأوي إليه الخيول، ومخزناً للذخيرة، وأطلقوا عليه اسم "إسطبلات سليمان"، وأعاد صلاح الدين الأيوبي فتحه للصلاة بعد تحرير بيت المقدس.
وبالنسبة للسقف الحالي للمصلى فإنه يعود إلى عهد السلطان العثماني سليمان القانوني، أما الأعمدة والأقواس الموجودة في المصلى فإنها تعود إلى عهد عبد الملك بن مروان، وأعيد افتتاحه للجمهور بعد عمليات ترميم عام 1996.
رابعا: حائط البراق:
وهو الحائط الذي يحيط بالمسجد الأقصى من الناحية الغربية، ويعد جزءاً لا يتجزأ من الحرم المقدسي، وسمي بهذا الاسم لأنه المكان الذي ربط عنده الرسول - صلى الله عليه وسلم - براقه ليلة الإسراء والمعراج. ويسميه اليهود "حائط المبكى" لاعتقادهم أنه من بقايا هيكلهم الذي لم يعثر له على أثر حتى الآن؛ انظر الصورة.
مكونات المسجد الأقصى:
يخطئ الكثير من أبناء أمتنا الإسلامية بظنهم أن المبنى ذو القبة الذهبية هو المسجد الأقصى المبارك, فالمسجد الأقصى: هو الأسوار وما بداخلها من أبنية ومدارس ومساجد ومساطب وقباب وأروقة ومحاريب الخ. والصورة التالية تشرح مكونات المسجد الأقصى.
تصوير جوي للمسجد الأقصى المبارك في 7/5/1999م - التصوير من الجهة الجنوبية
مبنى المسجد الأقصى المبارك:(/5)
هذا البناء ليس المسجد الأقصى المبارك، بل سمي مجازاً بمبنى المسجد الأقصى وكان يسمى في السابق بالجامع أو بمسجد الرجال, وهذا البناء الحالي بني في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وكذلك بناء قبة الصخرة المشرفة ليس هو المسجد الأقصى المبارك، فالمسجد الأقصى المبارك أكبر وأشمل فهو يحويهما، ويحوي مئات المعالم الأخرى من قباب ومحاريب ومساطب ومآذن وأروقة الخ، وتحت الرواق الأوسط لمبنى المسجد الأقصى يقع مبنى المسجد الأقصى القديم, الذي قامت الحركة الإسلامية بترميمه، وافتتاحه للمصلين بعد عشرات السنوات من الاغلاق.
الزاوية الجنوبية الشرقية للمسجد الأقصى المبارك:
هي أعلى منطقة في سور المسجد، وهي تعد الحد الجنوبي الشرقي للمسجد الأقصى المبارك.
المصلى المرواني:
وما يظهر في الصورة هو سطح المصلى المرواني الذي قامت الحركة الاسلامية برئاسة الشيخ رائد صلاح بتبليطه, بعد أن كانت قد نظفت المصلى المرواني ورممته، وافتتح في صيف 1998م للصلاة، وهو أعظم مشروع عمراني في المسجد الأقصى منذ مئات السنين. وقد حاول اليهود بمساعدة رئيس السلطة الفلسطينية الاستيلاء على المصلى المرواني وبناء هيكلهم مكانه ليكون لهم المدخل لهيكلهم المزعوم، إلا أن تنظيفه وترميمه وافتتاحه للصلاة حالا دون الاستيلاء عليه، وزيارة "شارون" البشعة للمسجد الأقصى المبارك كانت مخصصة لزيارة المصلى المرواني، والدرج العظيم الذي بني كمدخل أساس له، وللأسف لا يظهر في الصورة؛ لأن العمل تم بعد التصوير.
درج المصلى المرواني:
في هذا المكان قامت الحركة الإسلامية بالحفر والكشف عن سبعة أروقة للمصلى المرواني، وقد أخرجت ألاف الأطنان من التراب، وبني درج عظيم عريض يليق بهذا المصلى الكبير.
قبة الصخرة المشرفة:(/6)
الذي يظنه كثير من المسلمين المسجد الأقصى، وهذا خطأ، إذ أن المسجد الأقصى هو كل شيء داخل الأسوار، ومبنى قبة الصخرة ما هو الا مسجد من كثير من المساجد والمصليات والمعالم الكثيرة؛ الخ التي تكون المسجد الأقصى المبارك، وقد بني هذا البناء الذي يعد أجمل المساجد والعمارة قاطبة زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي خصص خراج مصر سبع سنوات لهذا الغرض. وهذا البناء يحيط بالصخرة المشرفة التي عرج بالرسول الأعظم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - منها إلى السماوات العلى.
قصور أموية:
هذه الآثار لقصور أموية، بدأت الحفريات من تحتها باتجاه المسجد الأقصى المبارك وتحت ساحاته وأبنيته، وفي سنة 1999م قامت حكومة "باراك" ببناء درج حتى السور الذي هو: حائط المصلى المرواني والحد الجنوبي للمسجد الأقصى المبارك، وقد افتتحه "باراك" نفسه وادعى كذباً أن هذا كان مدخل الهيكل المزعوم.
الزاوية الخنثنية:
وهي أقصى الجنوب من المسجد الأقصى المبارك، كانت مدخلاً للأمراء والخلفاء من قصورهم للمسجد الأقصى المبارك.
الزاوية الجنوبية الغربية:
هذه الزاوية تعد الحد الجنوبي الغربي للمسجد الأقصى المبارك.
كلية الدعوة وأصول الدين:
مبنى من مباني المسجد الأقصى في الجهة الجنوبية، وقد استعمل في السابق كمدرسة، وقد كان حتى سنة 1993 مقر كلية الدعوة وأصول الدين، وهو الآن يستعمل لمكتبة المسجد الأقصى المبارك، وقد أغلق زمن الانتفاضة الأولى على أيدي السلطات الإسرائيلية
المُتحف الإسلامي:
وهو بناء قديم جداً وبه مقر المُتحف الإسلامي الذي يحوي آثاراً كثيرة من العهود المختلفة للحكم الاسلامي لبيت المقدس، وبداخل المتحف ما تبقى من آثار منبر نور الدين زَنكي الذي احترق في سنة 1969م على يد المجرم الصهيوني "مايكل روهان"؛ انظر حريق المسجد الأقصى المبارك.
بوابة المغاربة:(/7)
تقع في الجهة الغربية للمسجد الأقصى المبارك بمحاذاة حائط البراق الذي يسميه اليهود زوراً وبهتانا بحائط المبكى، وكانت هذه البوابة المدخلَ لحارة من حارة المغاربة التي محيت عند احتلال القدس وطرد أهلها وقتلوا على أيدي يهود، التي يقوم على آثارها الآن حارة اليهود. وقد قام اليهود بإغلاق باب المغاربة بعد مجزرة الأقصى الأولى في 8/10/1990م بادعاء أن دخول المسلمين منه يشكل خطراً على حياة المصلين اليهود عند حائط المبكى المزعوم، وجدير بالذكر أن الاقتحامات العسكرية للأقصى المبارك تأتي منه دائماً.
حائط البراق:
وهو الذي ربط به المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم - دابة البراق عند دخوله المسجد الأقصى المبارك، وهو ما يسميه اليهود بحائط المبكى، ويدعون أنه آخر ما تبقى من هيكلهم المزعوم، وفي الساحة ترى تطاولاتهم.
باب السلسلة:
وهو واحد من أكبر مداخل المسجد الأقصى المبارك من جهة السوق، وتحته يمر نفق ما اسموه "الحشمونائيم" الذي يبدأ من الجهة الجنوبية لحائط البراق وحتى الحد الشمالي الغربي من الأقصى المبارك.
المدرسة العمرية:
وتقع في الجهة الشمالية للمسجد الأقصى المبارك وتعد جزءاً لا يتجزأ منه، ويحاول اليهود أن يستولوا عليها ليبنوا معبدا لهم بها.
الحد الشمالي الغربي: ويقع في حارة المسلمين.
الحد الشمالي الشرقي: ويقع بجانب باب الأسباط.
باب الأسباط:
ويقع في الجهة الشمالية للمسجد الأقصى المبارك، ويعد الآن المدخل الأساسي للمصلين، وخاصة من خارج القدس بعد إغلاق باب المغاربة؛ لأن السيارات لا تدخل إلا من جهته.
بوابة الرحمة:
وهي إحدى بوابات الأقصى المبارك التي قام القائد البطل صلاح الدين الأيوبي بإغلاقها لأنها كانت تعد خطراً؛ لاقتحام الصليبيين الأقصى منها، وخارجها تقع مقبرة الرحمة.
مقبرة الرحمة:
وبها قبري الصحابي شداد بن أوس، - رضي الله تعالى عنه - وهذه المقبرة تستعمل حتى الآن، وبها قبور شهداء مجزرة الأقصى.(/8)
مقابر إسلامية:
الحي الإسلامي الغربي:
وقد استولى اليهود على بعض الأبنية فيه بالقوة وحولوها إلى معبد.
الحي الإسلامي الشمالي:
وقد استولى اليهود على بعض الأبنية فيه بالقوة وحولوها إلى معبد.
وتعد الحفريات التي تقوم بها جماعة "أمناء الهيكل" تحت المسجد الأقصى من أهم الأخطار التي تحيط به، وقد بدأت هذه الحفريات منذ عام 1967 تحت البيوت والمدارس والمساجد العربية؛ بحجة البحث عن هيكل سليمان، ثم امتدت في عام 1968 تحت المسجد الأقصى نفسه، فحفرت نفقاً عميقاً وطويلاً تحت الحرم، وأنشأت بداخله كنيساً يهودياً.
إن ما تقوم به المؤسسة الإسرائيلية حالياً لربما يصب في التعجيل في إحكام السيطرة على المسجد الأقصى، والإسراع في تهويد البلدة القديمة، هذا ولا بد من الإشارة إلى أن أعمال الحفريات أسفل المسجد الأقصى مستمرة ليل نهار، وأن ما قامت به السلطات الإسرائيلية أخيراً هو جزء من هذه المخططات. إن إسرائيل ساعية نحو تقويض المسجد الأقصى ومكانته في قلوب المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، مستغلة ما تعانيه أمتنا من أوضاع الفرقة والضعف والهوان، إن المسلمين اليوم مطالبون، بأن يقفوا أمام مسؤولياتهم كاملة، لا بل أنهم مسؤولون أمام ربهم عما يحصل من تدنيس وتقويض للمسجد الأقصى، ولم تقتصر الوسائل الصهيونية على الحفريات كوسيلة وحيدة لتهويد القدس والمسجد الأقصى وإنما أتبعت الكثير من الوسائل والأدوات، فبعد أن قامت إسرائيل باحتلال القدس الشرقية اتخذت خطوات مباشرة وسريعة من اجل تهويد المدينة وعلى جميع الأصعدة، فهل يبقى المسجد الأقصى منارة الإسلام والمسلمين أم سيذهب نوره تحت ركام وأنقاض الحفريات الصهيونية ؟!
مراجع ومصادر:
- البنك الفلسطيني للمعلومات
- القدس مفاهيم يجب إيضاحها، حسام الدين خليل - الموسوعة الفلسطينية، المسجد الأقصى، المجلد الرابع.(/9)
- التهويد الثقافي والإعلامي لمدينة القدس، د. خالد عزب، بحث مقدم لندوة القدس العالمية. مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
http://www.alaqsa-online.com/
- هيئة الاستعلامات الفلسطينية: البنك الوطني للمعلومات.
- فلسطين أرض الرسالات الإلهية: رجاء جارودي صـ190، ترجمة: د. "عبد الصبور شاهين".
- القدس الشريف – الواقع وتحديات المستقبل – إبراهيم أبو جابر.
- القدس (تقرير شهري يصدر قي القاهرة) العدد التجريبي، شعبان 1419هـ، ديسمبر 1998م.
- حروب القدس في التاريخ الإسلامي: ياسين سويد، دار الملتقى للطباعة والنشر، بيروت 1997م.
- فلسطين والانتداب البريطاني: 1922 - 1929: كامل محمود خلة، طرابلس، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، 1982م.
- فلسطين أرض وتاريخ: محمد سلامة النحال.
http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/fan-56/alrawe1.asp - top#top
- خطة عزل القدس - خليل التفكجي.
- مستقبل القدس وسبل إنقاذها من التهويد د. إبراهيم أبو جابر.(/10)
العنوان: المسجد البابري.. قبل أن ينساه المسلمون
رقم المقالة: 397
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
صورة المسجد البابري
* المسلمون قدَّموا للمحكمة العليا في الهند جميع الأدلة التاريخية والقانونية التي تدل على أحقيتهم في بناء المسجد.
* لجنة حكومية أكدت الحق الإسلامي في أرض المسجد، وأثبت تقريرها عدم العثور على أية آثار هندوسية تدل على وجود معبد هندوسي.
* حملة هندوسية دعائية تزعم أن كل مساجد المسلمين العتيقة قد بنيت على أنقاض معابد هندوسية.
* الحكومات الهندية المتعاقبة وعدت المسلمين بإعادة بناء المسجد وتقاعست عن تنفيذ وعودها.
* المؤرخون وعلماء الآثار ينكرون الزعم الهندوسي بأن المسجد البابري بني على أنقاض معبد هندوسي.
* مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة: لا يجوز شرعاً أي صلح على المسجد البابري أو على مسجد آخر يقضي على مسجديته.
* المجلس الأعلى العالمي للمساجد: على الهند إعادة بناء جميع المساجد التي هدمها الهندوس، وإزالة المعابد الهندوسية التي أقيمت على أرضها.
* * *
بين الحين والآخر تطفو قضية المسجد البابري التاريخي في الهند على السطح، لكي تذكر المسلمين في أنحاء العالم بهذا الحق الضائع، منذ عام 1992م، عندما أقدم المتطرفون الهندوس على هدم المسجد، وبدؤوا مخططهم لبناء معبد هندوسي على أرضه.
ففي مطلع هذا العام ومنذ أيام معدودات صدر قرار المجلس الهندوسي العالمي، والذي ينص على المضي في خطة بناء المعبد الهندوسي شمالي الهند وفي موقع المسجد البابري، وسيناقش لاحقاً هذا الشهر مجلس لزعماء الهندوس يطلق عليه "دارما صانصاد" بمدينة الله أباد شمالي الهند خطط بناء المعبد الذي سيخصص لإله الهندوس "راما".(/1)
وقضية المسجد البابري بالهند من قضايا المسلمين المعلقة والتي لم تحل حتى اليوم، فمنذ ارتكب المتطرفون الهندوس جريمتهم النكراء بهدم المسجد عام 1992م بزعم أنه أقيم فوق معبد رام الهندوسي، والصراع قائم حتى اليوم بين المسلمين في الهند والهندوس، لإعادة بناء المسجد مرة أخرى، وإثبات أحقية المسلمين في أرضه.
وتشهد المحاكم الهندية صراعاً مريراً بشأن هذه القضية منذ سنوات، حيث قرر القضاء الهندي منع كل الأطراف من بناء أي شيء في الموقع قبل البت في القضية، لكن هذا لم يمنع الهندوس من بناء معبد مؤقت في موقع المسجد التاريخي.
وحلاً لهذا النزاع كونت الحكومة الهندية لجنة مختصة تضم عدداً من خبراء الآثار لعمل مسوحات جيولوجية على الأرض التي كان عليها مسجد بابري التاريخي بالهند بهدف تحديد ملكية الأرض وما إذا كان عليها آثار تثبت وجود معبد على تلك الأرض قبل بناء المسجد كما يدعي الهندوس.
وجاء قرار اللجنة مؤيداً للحق الإسلامي في أرض المسجد، حيث أثبت التقرير عدم عثور اللجنة على أية آثار هندوسية تدل على وجود معبد هندوسي، حيث قامت اللجنة بمسح ثلاث طبقات من الأرض، وتيقنت من رجوع ملكية الأرض للمسلمين من خلال وجود آثار تدل على وجود منازل مسلمين قبل بناء المسجد. وأوصت بإعادة بناء المسجد، ولكن المجلس الهندوسي العالمي رفض إعادة بناء المسجد، حيث جاء تقرير اللجنة بعكس ما كان يرجو الهندوس المتطرفون، وهدد زعماء المجلس الهندوسي العالمي بإحداث اضطرابات وأعمال عنف وأعلنوا أنهم لن يسمحوا بوجود أي مسجد على تلك الأرض أو بالقرب منها.(/2)
ولكن أمام الصمت الإسلامي والتعنت الهندوسي مازالت قضية المسجد البابري من القضايا الخاسرة التي عجز المسلمون بحكوماتهم وهيئاتهم ومؤسساتهم عن حلها، فقد مر حتى اليوم 15 عاماً على هدم هذا المسجد التاريخي، ولم يستطع المسلمون إعادة بنائه، بل إن المتطرفين الهندوس يقودون حملة لإنشاء معبدهم الوثني مكان المسجد، والمجلس الهندوسي العالمي أعلن بدء تنفيذ المشروع متحدياً مشاعر أكثر من مليار مسلم في العالم.
وإذا كانت الحكومات الهندية المتعاقبة قد وعدت المسلمين بإعادة بناء المسجد فقد تقاعست عن تنفيذ وعودها، برغم علمها بكذب ادعاءات المتطرفين الهندوس بأن المسجد البابري بُني على أنقاض معبد رام، فليس هناك دليل على وجود (راما) في التاريخ، بل سمحت هذه الحكومات الهندوسية بقيام حملة هندوسية دعائية تزعم أن كل مساجد المسلمين العتيقة قد بنيت على أنقاض معابد هندوسية.
فماذا ينتظر المسلمون بعد هذا التعنت الهندوسي المعلن تجاه المسلمين ومساجدهم ومقدساتهم، لقد أفتى مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة: بأنه لا يجوز شرعاً أي صلح على المسجد البابري أو على أي مسجد آخر يقضي على مسجديته، وطالب المجلس الأعلى العالمي للمساجد الهند بإعادة بناء جميع المساجد التي هدمها الهندوس، وإزالة المعابد الهندوسية التي أقيمت على أرضها؟
* حلقات الصراع(/3)
وما يجري الآن ومنذ مدة في ساحات القضاء الهندي حلقة من حلقات الصراع على أرض المسجد سبقها حلقات أخرى كثيرة، فمنذ أعوام تحرك نحو ثلاثة آلاف كاهن ومتطرف هندوسي من بلدة " أيوديا " في شمال الهند في إطار حملتهم لإنشاء المعبد، متجهين إلى العاصمة نيودلهي، وقد صبغوا جباههم باللون الأصفر، وهم يرددون هتافات تشيد بالملك الهندوسي " رام " وينفخون في قواقع المحار، واستمرت هذه المسيرة أسبوعاً كاملاً بهدف شحن المشاعر الهندوسية ضد المسلمين والشروع في بناء المعبد دون تأخير. وأكد " أشوك سينجال " رئيس المجلس الهندوسي العالمي الذي كان يقود موكب الكهنة أن هدفهم هو تذكير رئيس الوزراء بأن يسلمهم أرض المسجد، ليبدأ المجلس الهندوسي العالمي تنفيذ مشروع بناء المعبد.
وعلى الجانب الآخر تسعى " لجنة العمل الإسلامية من أجل بناء مسجد بابري " لإعادة بناء المسجد، وأعلنت بعض الجماعات الإسلامية هناك أنها ستلجأ للقوة لوقف بناء المعبد الهندوسي.
وقد أكد الشيخ أبو بكر بن أحمد الأمين العام لجمعية علماء أهل السنة والجماعة بعموم الهند أن قضية المسجد البابري تُنظر الآن أمام المحكمة العليا في الهند، ولا أحد يستطيع أن يفعل أي شيء إلا بعد حكم المحكمة، فلا يمكن بناء المسجد ولا المعبد، وإن شاء الله تعالى نتوقع أن يكون حكم المحكمة العليا في صالح المسلمين وأن يعاد بناء المسجد مرة أخرى.
وفي حالة صدور حكم المحكمة ببناء المعبد وليس المسجد لن يسمح المسلمون ببناء معبد على أنقاض المسجد مهما كان الثمن غالياً، وسوف نسلك كل السبل لبناء المسجد وإلى الآن المسلمون قدموا للمحكمة جميع الأدلة التاريخية والقانونية التي تدل على أحقيتهم في بناء المسجد في حين عجز الهندوس عن تقديم دليل واحد مقنع للمحكمة.
* وقفية المسجد(/4)
ولقد أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن المساجد إذا بنيت في مكان ما، فهي تبقى مسجداً إلى يوم القيامة، لا يجوز بيعها ولا إهداء أرضها إلى أحد، ولا يجوز لأي شخص أو حكومة تغيير حيثيتها، فالمسجد في الواقع هو تلك القطعة الأرضية التي أوقفت لتكون مسجداً، وليس هو اسماً لجدرانه وأساسات بنائه فقط، فإذا انهدمت عمارة المسجد أو هدمت ظلماً أو بقي مهجوراً إلى مدة طويلة لا يصلى فيها، فمع ذلك يبقى مسجداً، ويجب على المسلمين شرعاً عمارة ذلك المسجد.
والغاية من المسجد عبادة الله الخالق الواحد وإنكار عبادة غير الله، لذلك لا يجوز أبداً تحويل أرض المسجد معبداً للأصنام، لأنه مناف لهدف المسجد، وهذا لا يكون مخالفاً للعقيدة والدين فقط بل معارضاً للعقل أيضاً.
وقد تقدمت الإشارة إلى قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة بالإجماع بأنه لا يجوز شرعاً أي صلح على المسجد البابري أو على مسجد آخر يقضي على مسجديته أو يجعله - والعياذ بالله - معبداً للأصنام، وهذا قرار متفق عليه بين المسلمين من كافة مذاهبهم.
واعتبر العلماء أن ما حدث للمسجد البابري من اعتداء وهدم عام 1992م جريمة عظمى بكل المقاييس، إذ هو إساءة للإسلام والمسلمين ومقدساتهم الإسلامية، وإن الحكومة الهندية مطالبة بمعاقبة مرتكبي هذه الكارثة المؤلمة، وإعادة بناء المسجد، وإيقاف مثل هذه الجرائم المنكرة من قبل الهندوس والموجهة ضد الإسلام وأهله ومقدساته.
* تاريخ المسجد البابري(/5)
والمسجد البابري الواقع بمدينة " إيودهيا " في شمال الهند، يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، عندما بناه " بابر " أول إمبراطور مغولي حكم الهند، وفي أوائل الثمانينيات من القرن العشرين اكتشف المتطرفون الهندوس قضية هذا المسجد، ونسجوا زعمهم الكاذب بأنه بُني على أنقاض معبد بمكان مولد "راما" الأسطوري المقدس لدى الهندوس، ولذا وجب نسفه والتخلص منه.. وجعلوها قضية شعبية، وقضية عامة للهندوس، وبدؤوا ينظرون إلى هذا المسجد كأنه علامة وشعار للغزو المسلم لهذه البلاد.
وكانت أحداثه بالفعل بداية مرحلة تصاعدية جديدة من تطرف الهندوس وعدائهم للمسلمين، وكانت إيذاناً بحملة هندوسية دعائية، زعمت أن كل مساجد المسلمين العتيقة قد بنيت على أنقاض معابد الهندوس، وهي الحملة التي سوغت هدم المسجد البابري في السادس من ديسمبر عام 1992، وما أعقبه من صدامات دامية أودت بحياة ألفي مسلم.
* سلسلة من الاعتداءات
وتعود بداية العدوان على المسجد البابري إلى ما يزيد على نصف قرن، ففي ليلة 22 ديسمبر 1949 هجمت عصابة مكونة من 50 -60 هندوسياً على المسجد البابري ووضعوا فيه أصنامًا لذاك الممجَّد لديهم المسمّى "راما"، وادعوا أن الأصنام ظهرت بنفسها في مكان ولادته (!)، وهو ما اضطر الشرطة إلى وضع المسجد تحت الحراسة مغلقا لكونه محل نزاع.
وفي 3 نوفمبر 1984 سمح رئيس وزراء الهند الأسبق "راجيف غاندي" للهندوس بوضع حجر أساس لمعبد هندوسي في ساحة المسجد، وتبع هذا حكم صادر بمحكمة فايزباد بتاريخ 1 فبراير 1986 من طرف القاضي "ر.ك. باندي" –الذي أصبح عضواً في الحزب الحاكم حزب "ب.ج.ب" المسؤول عن هدم مسجد بابري – سمح فيه بفتح أبواب المسجد للهندوس، وإقامة شعائرهم التعبدية فيه، وحذر السلطات المحلية من التدخل في هذا الشأن.(/6)
وقامت جماعات الهندوس المتعصبة قبل سنوات باقتحام المسجد بقوة السلاح والشروع في هدمه وتحطيمه ووضع حجر الأساس وجلب مواد البناء، استعداداً لتشييد معبد الاله «رام» وذلك لان المسجد في زعمهم قد شيد على أنقاض معبد كان يقوم في ذلك الموقع نفسه، على الرغم من ان الأدلة الأثرية تؤكد ان المسجد إنما شيد على ارض خلاء.
وفي بداية الثمانينات قام الهندوسي المتطرف "محنت راغوبير" برفع قضية أمام المحكمة بشأن كون المسجد البابري قد بُني فوق معبد "راما " الأسطوري، الا أن هذه المزاعم تم دحضها بحكم القضاء في إبريل 1985 لفقدان أي دليل تاريخي أو قانوني.
* الجريمة الكبرى
ولكن التحركات الصادرة عن الحكومة العلمانية هناك، قد شجعت المتطرفين الهندوس على ترتيب هدم المسجد بالكامل بتاريخ 6 ديسمبر 1992. فقد قام عشرات الآلاف من الهندوس في مدينة أبوديا بالهند - يوم الأحد الحادي عشر من جمادي الآخرة 1413هـ – 6 ديسمبر 1992، بتدمير مسجد بابري بالمدينة، بل ومسحه من الوجود، وهم يرددون أهازيج الانتصار معلنين العزم علي البدء في بناء معبد هندوسي مكان المسجد الذي يبلغ عمره ما يناهز الأربعة قرون ونصف قرن – ومنادين في الوقت نفسه بأنه قد آن الأوان لخروج المسلمين من الهند.. في الوقت الذي التزم فيه المسلمون في المدينة منازلهم أو غادروها بحثا عن الأمن والأمان، ولكن الحشود الهندوسية الغوغائية التي اقتحمت المسجد بقوة السلاح وفتكت بالمسلمين الذين حاولوا الدفاع عنه، وسط تواطؤ معلن من أجهزة الأمن الهندية وتحت أنظار الدنيا بأسرها، حرصت على تدمير كل شيء، وبدأت بمحراب المسجد قبل كل شيء ربما لما يحمله من رموز من ناحية، وربما لان النقش الموجود في قلب المحراب والذي يحدد تاريخ إنشاء المسجد على وجه الدقة، وهو ما يكذب مزاعمهم وتخرصاتهم عن وجود سابق للمعبد المزعوم.(/7)
وفي أعقاب هذه الجريمة النكراء عمت حوادث الشغب أنحاء الهند وقتل فيها أكثر من ثلاثة آلاف شخص.
* حصاد التطرف الهندوسي
ولم تكن أحداث المسجد البابري، وما ترتب عليها من صدامات قادها المتطرفون الهندوس ضد المسلمين ومساجدهم هي الأولى من نوعها، ولكن هناك عشرات الحوادث والمصادمات التي ذهب ضحيتها آلاف المسلمين الأبرياء، فإذا ما تجاوزنا أحداث انفصال الهند وباكستان التي أودت بحياة مليون مواطن فضلاً عن 17 مليون آخرين أجبروا على الهجرة، فإن المدة بين عامي 1954م و 1963م شهدت وقوع 62 حادث مواجهة بين المسلمين والهندوس أدى إلى سقوط 39 قتيلاً، و527 جريحاً.
وفي عام 1964م كانت الحصيلة 1070 حادث، و2000 قتيل، وأكثر من 2000 جريح. وبين عامي 1965م و1984م وقع 310 حادث، والحصيلة 160 قتيلاً، و1685 جريحاً، وبين عامي 1985م و 1991م كانت الحصيلة 620 حادثاً، و660 قتيلاً، و6 آلاف و950 جريحاً.
* صراع لم ينته
وبعد وقوع جريمة الهدم بدأ الصراع على أرض المسجد ولم ينته، إلا أن ستاراً من الصمت قد أسدل على هذه المأساة من الجانبين معاً خلال السنوات الماضية، فالجانب الهندي يحرص ـ بالطبع ـ على التزام الصمت حول قضية اعتداء وحشي على المسلمين يكشف ضراوة التيار الهندوسي الذي نجح في الوصول برموزه وقياداته إلى سدة السلطة الاتحادية في نيودلهي. أما الجانب الإسلامي فثمة فريق فيه يدعو إلى ابتلاع المسألة برمتها والتزام الصمت بشأنها، بدعوى أن إثارتها لن تؤدي إلا إلى مزيد من المشكلات للمسلمين في الهند.(/8)
ولكن هذا الصمت قطعه إعلان المجلس الهندوسي العالمي في 20/5/2001 بأنه سيبدأ قريباً ببناء معبد بالقرب من موقع المسجد البابري، واعتبر هذا الإعلان بمنزلة تحدٍّ للحكومة الهندية التي تعارض بناء هذا المعبد، حيث صرح وزير الداخلية "لال كيرشنا أدفاني" بعدها - بأنه لن يسمح ببناء ذلك المعبد. والمعروف أن الحكومات الهندية المتعاقبة وعدت المسلمين بإعادة بناء المسجد المهدم، ولكنها تقاعست عن تنفيذ وعودها.
* حيلة هندوسية
وفي مطلع عام 2001 توصل المتعصبون الهندوس إلى حيلة جديدة للاستيلاء على أرض المسجد البابري، وتمثلت بمحاولة الحصول على ورقة من بعض المسلمين تخول لهم بناء معبدهم على أرض المسجد الشهيد التي يقوم عليها بالفعل معبد مؤقت، ولكن المتعصبين يريدون إنشاء معبد ضخم هناك وقد بنوا نموذجاً له، وتحرك هذا النموذج بالفعل من بلدة ايودهيا قبل أيام من هذه الحيلة التي لجؤوا إليها، متوجهاً إلى مدينة (الله آباد) حيث عرض على ما يسمونه بـ"البرلمان الديني" خلال احتفالات (كومبه) الهندوسية.
وقال المتعصبون: إن هذه الجلسة ستقرر تاريخ بناء المعبد، كما أكدوا أنهم لا يأبهون بما تقوله الحكومة والمحاكم، وأن الكهنة الأعضاء بالبرلمان الديني هم وحدهم يملكون حق الأمر والنهي بالنسبة لهم.(/9)
والشخص الذي اهتدى إليه المتعصبون لعقد الصفقة المشبوهة معه هو (محمد هاشم أنصاري) من سكان بلدة ايودهيا، وهو الوحيد الباقي على قيد الحياة ممن أقاموا الدعوى الأصلية في المحاكم عندما استولى المتعصبون على المسجد البابري قبل أكثر من خمسين سنة (ديسمبر1949) بعد أن وضعوا فيه التماثيل تحت جنح الظلام، ثم زعموا في الصباح التالي أن إلههم الأسطوري المزعوم (راما) قد ظهر في المسجد الذي يدعون أنه مسقط رأسه برغم أن المؤرخين وعلماء الآثار ينكرون هذا الزعم بصورة قاطعة ويقولون: إنه لا دليل على وجود (راما) في التاريخ، كما لا يُعرف البتة أين تقع بلدة (ايودهيا) الأسطورية التي تتحدث عنها الأساطير الهندوسية، وهي تختلف عن بلدة (ايودهيا) الحالية التي وجد بها المسجد البابري.
وقد تزعم المتعصبين الهندوسَ النائبُ (ويناي كاتيار) زعيمُ منظمة (باجرانغ دال) - الشبيبة شبه العسكرية التابعة للمنظمة الهندوسية العالمية التي تتصدر الحملة لأجل إنشاء معبد راما منذ البداية - وعقدوا أول اجتماع لهم مع (محمد هاشم أنصاري) في مدينة لكناؤ يوم 13 يناير 2001م، وهذا الشخص لا يتمتع بأية أهمية أو مقام في أوساط مسلمي الهند البالغ عددهم (200) مليون نسمة، ولم يجد أي نصير له بين المسلمين حتى الآن.
وقد رفضت قيادات مسلمي الهند، وعلى رأسهم المتصدرون لبناء المسجد البابري منذ البداية الاشتراك في هذه المحادثات وقالوا: إنه لا سبيل لحل هذه المعضلة إلا بقرار المحكمة.
* تواطؤ حكومي(/10)
والتواطؤ الرسمي من قبل الحكومة الهندية والقضاء، مع المتطرفين الهندوس الذين حرضوا على هدم المسجد لا يخفى على أحد، فقد كشف رئيس الوزراء الهندي عن وجهه القبيح وموقفه من قضية المسجد البابري عندما قال في أواخر عام 2000م: إن بناء المعبد الهندوسي مكان المسجد البابري يأتي "تعبيراً عن الأماني القومية " وإنه "برنامج لم ينته بعد".. وبعد أن تعرض للهجوم الشديد بسبب هذا التصريح الذي يقف بجوار المتطرفين الهندوس عاد ليقول: إن قضية المعبد ستبت فيها المحاكم أو بالاتفاق بين المسلمين والهندوس، وأي شخص يتجرأ على تغيير الوضع القائم سيعامل وفق القانون.
وفي العام قبل الماضي وقعت مفاجأة كبيرة في مسار القضية المرفوعة ضد الذين هدموا المسجد البابري قبل عشر سنوات، حين ألغت محكمة (الله آباد) العليا قرار المحكمة الخاصة التي تنظر في هذه القضية، واستندت المحكمة العليا في حكمها إلى نقطة (فنية) وهي أن القرار الحكومي بإنشاء المحكمة الخاصة فاسد قانونياً؛ لأنه أهمل حصول موافقة المحكمة العليا (مسبقاً) عند إنشاء المحكمة الخاصة، ومن هنا فإن كل الإجراءات التالية فاسدة قانونياً.
وتركت المحكمة العليا الخيار للحكومة بتشكيل المحكمة الخاصة من جديد بعد حصول الموافقة المسبقة من المحكمة العليا. ويسري هذا القرار على القضايا المرفوعة ضد تسعة من المتهمين، وعلى رأسهم وزير الداخلية ووزير تنمية القوى البشرية ووزيرة الشباب، الى جانب ستة آخرين تصدروا الحملة المؤدية إلى هدم المسجد عام 1992.(/11)
وكانت حكومة ولاية أوتاربراديش قد أصدرت قراراً في 8 أكتوبر 1993 لإنشاء المحكمة الخاصة لمحاكمة المتهمين بهدم المسجد البابري. والمطلوب الآن صدور قرار حكومي جديد بمحاكمة المتهمين، إلا أن هذا أمر مشكوك فيه، والمتوقع هو أن الحكومة الهندية ستحاول المماطلة والتأخير، ولأن حزب المتهمين (بهارتيا جاناتا) هو الذي يحكم الآن على مستوى الحكومتين الإقليمية والمركزية فليس متوقعاً منه أن يسارع إلى إصدار قرار ينال كبار زعمائه الذين بذلوا كل الجهود خلال السنوات الماضية لتأجيل القضايا وتضليل المحاكم ولجان التحقيق حول دورهم في مؤامرة هدم المسجد الشهيد.
وكانت أحزاب المعارضة هناك قد طالبت في ديسمبر ( 2001م ) باستقالة الوزراء المتهمين في قضية هدم البابري. وهددت لجنة عمل المسجد البابري باللجوء إلى المحكمة العليا الدستورية لو تقاعست الحكومة عن إصدار قرار جديد وبسرعة.
ومن المؤكد أن استمرار هذه الاضطرابات في الهند وما يثيره المتطرفون الهندوس ضد المسلمين هناك ليس في صالح الحكومة الهندية ولا في صالح الاستقرار الذي تسعى لتحقيقه بين طوائف المجتمع المختلفة، خاصة أن مسلمي الهند هم أكبر أقلية إسلامية في العالم، وهم ثاني أكبر تجمع إسلامي على وجه الأرض، وقد كانوا يمثلون ربع السكان في شبه القارة الهندية قبل الاستقلال، وتقسيمها إلى دولتي الهند وباكستان، وهو التقسيم الذي يعتبره المسلمون في الهند تقسيماً للطائفة الإسلامية الهندية.(/12)
العنوان: المسلم الحقيقي
رقم المقالة: 1131
صاحب المقالة: محمد حسام الدين الخطيب
-----------------------------------------
إن كنتَ تُدْعى مُسلماً فارفَعْ برأسِكَ للسَّما
واعْمَلْ لرَبِّكَ طائِعاً وافْخرْ بِدِينكَ دائما
وانهَضْ ودَعْ عنكَ الكَرى واسمَعْ وأبْصِرْ ما جَرى
فالكُفْرُ قَد عَمَّ الوَرى وإلامَ تَبقى نائما؟
قُم يا أخي نَدْعو البَشَرْ البَدْوَ منهُم والحضَرْ
لِما بهِ اللهُ أمَرْ حتَّى نَفُوزَ ونَغْنَما
لا تَنخَدِعْ بمَقالِ مَنْ يَدعو لِحِزْبٍ أو وَثَنْ
فالدِّينُ مِنْ فَجْرِ الزَّمَنْ سُورٌ مَنيعٌ للحِمى
لكِنْ حَذارِ مِنَ الغُرورْ وارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَخورْ
إنْ رُمْتَ إصلاحَ الأُمورْ فاجْعَلْ صَلاحَكَ سُلَّما(/1)
العنوان: المسلم والبناء الحضاري لمحمد أديب الصالح
رقم المقالة: 1432
صاحب المقالة: إعداد: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
المسلم والبناء الحضاري
الوجود الذاتي وعمارة الأرض
لفضيلة العلامة الأصولي الشيخ د. محمد أديب الصالح
يأتي هذا الكتاب ضمن سلسلة (معالم قرآنية في البناء) للأستاذ الدكتور محمَّد أديب الصَّالح، في 342 صفحة من القطع المتوسط.
الناشر مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى، 1428هـ- 2007م.
أخذ بناء الإنسان؛ في قلبه وعقله وطريقة تفكيره ومشاعره -ليكون ذلك الإنسان المؤثِّر في بناء المجتمع- حيِّزاً واضحاً في كتاب الله وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فقد وضع القرآن -بمعالمه المشرقة- الأمَّةَ على الطَّريق الصَّحيحة في البناء، وكانت صياغة الإنسان وبناؤه على الوجه الذي يكفل له القدرة على أن يكون -وهو يعمر الأرض- اللَّبنة الصَّالحة في مجتمع أنموذجي، هو مجتمع الرِّسالة التي تنزَّل بها القرآن وحياً من السَّماء، كانت البحر الذي لا ساحل له في حياة نبيِّنا محمَّد -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن ليشغله عنه شاغلٌ في سلمٍ ولا حرب، ولا منشطٍ ولا مكره.
وقد حاول الكاتب استقراء الأسس التي قام عليها بناء الإنسان في القرآن، فجاءت عنده على النَّحو التَّالي:
• في ضوء المنهج القرآني؛ كانت الخطوة الأولى: العمل لجعل الإنسان يحسَّ بحقيقة إنسانيَّته؛ فهو المخلوق الذي كرَّمه الله -سبحانه- فخلقه في أحسن تقويم، وفضَّله على كثيرٍ ممَّن خلق، وعليه؛ فمقياس التَّفاضل بين البشر، وتقدير الأولويات بينهم؛ ينبغي أن يقوم على ما يكون من حسن صلة هذا الإنسان بربه، وما يقدِّم من عملٍ صالح، وملاك ذلك كلِّه في المصطلح الإسلامي هو التَّقوى.(/1)
• الدَّعوة إلى إعمال العقل ونبذ التَّقليد الأعمى؛ فإعمال العقل يفسح المجال للتدبُّر في النَّفس، والنَّظر في آلاء الله ومخلوقاته نظرةً عمليةً تجريبيًة؛ تصل بالإنسان إلى الإيمان بالله -عز وجل- والاستقامة على طريقةٍ تتحقَّق معها إنسانية الإنسان.
• الدَّعوة إلى العلم، والكشف عن الأبعاد الحقيقية للعلم في بناء الفرد وتكوينه، وفي سلامة بناء المجتمع وحراسته التي تضمن الاستقرار، وتباعد عنه عوامل الأذى والانهيار.
• التَّوجه إلى الله بالدُّعاء الصَّادق، والضَّراعة الخاشعة؛ فصلة العبد بربِّه في الرَّخاء، والتجاؤه إليه في الشِّدة، وتوجُّهه إليه بإخلاصٍ وصدقٍ؛ يشدُّ الأزر، ويبعث على الطُّمأنينة، ويجعل من المؤمن إنساناً يتَّسم بالإيجابية، والبعد عن اليأس.
• التَّناسب والتَّلازم بين طبيعة الرِّسالة الإسلامية، والآفاق التي هي كِفاء حجمها إنسانيةً وشمولاً وتجاوزاً لحدود الزَّمان والمكان؛ وبين قيمة الإنسان، والارتفاع به إلى حيث القدرة على العطاء والإنجاز.
• إنهاء رحلة الضَّياع التي يمثِّلها سلوك الإمَّعة في المجتمع؛ ذلك الإنسان الذي رضي من الغنيمة بالإياب، فأخلد إلى الرَّاحة من عناء التَّفكير، والوصول إلى القناعة التي فيها مقنَع، فهو يتعامل مع الحياة والنَّاس وكأنه معوَّق فكراً وسلامةَ تصرُّف!
• عقد الصِّلة بين الإيمان وما يخاطَب به المؤمنون، تكليفاً وتوجيهاً وتنبيهاً، على صعيد الهداية التي هي الغرض الأول من إنزال القرآن الكريم؛ كيما يكون التَّكامل بين الإيمان والعمل سمةً من سمات البناء السَّليم في حياة الفرد والجماعة.
• الضَّلال المبين الذي يمثِّل المخالفة عن أمر الله ورسوله؛ داءٌ عضالٌ تتجرَّع الأمَّة غصصه على صعيد الفرد و المجتمع، متجاوزاً ذلك إلى الصَّعيد العام، في عديدٍ من بقاع عالمنا الإسلامي.(/2)
• {يَاأَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا} هي وأمثالها مرتكز حركة الأمَّة، وحافزها إلى التَّخطيط والتَّنفيذ، وهي انطلاقةٌ راسخة الجذور شهدتها أصعدة العقيدة والتَّشريع والأخلاق والسُّلوك، ناهيك عن التَّربية والتَّعليم والبناء الحضاري السَّليم في شموله وتكامله وارتباطه بالرِّسالة الخاتمة، وبذل الأموال والأنفس في سبيل ذلك.
• أن تأخذ التَّربية على بلوغ مرتبة الإحسان حقَّها من العناية في عملية البناء الهادفة للإنسان المسلم، ذكراً كان أم أنثى؛ لما لذلك من الآثار المحمودة التي تعطي عطاءها الميمون في سلوك الفرد وكيان الجماعة على مختلف الأصعدة وبشتَّى الميادين.
• الانتفاع بحقيقة أن الله لا يغيِّر نعمةً أنعمها على عباده حتى يغيَّروا ما بأنفسهم؛ فإذا غيَّروا ما بأنفسهم من صادق العبودية، وأن تعنوا الوجوه أبداً لخالق السَّماوات والأرض؛ غيَّر الله ما بهم من نعمةٍ وباؤوا بالخسران المبين، فإن أراد هؤلاء الذين غيَّر الله ما بهم من نعم أن تعود إليهم تلك النِّعم؛ فما عليهم إلا أن يعودوا لما كانوا عليه من الصِّدق مع الله، والإخلاص في طاعته، والبعد عن كل ما يعكِّر صفاء القلب بالمعرفة، وإشراقة النَّفس بالهدى والخير.
• أهلية الإنسان قابلها تسخير الكون وتذليله وفق حكمة الله البالغة والصُّورة التي أرادها؛ فالكون مسخَّر للإنسان، والإنسان قد أعطي مفاتيح هذا التَّسخير، بما أودع الله-تعالى- فيه من عقل، وقدرةٍ على النَّظر والبحث والتدبُّر والفهم، والإفادة من المعاناة والتَّجربة.
• كما تعبَّدنا الله -تعالى- باعتقاد ألوهيَّته ووحدانيَّته، وتنزُّهه عن الأضداد والأنداد؛ تعبَّدنا بشريعةٍ ناظمةٍ لكل شؤون الحياة. والعمل بها طريق البشرية للسَّعادة والفلاح.(/3)
• الحياة التي تدعو إليها الرَّسالة المحمدية تأخذ بعين الاعتبار مقام العلم في الوصول إلى حقيقة التَّسخير ومفاتيحه، وأنه بدون هذا العلم العملي، وتنمية حوافز البحث والتَّنقيب؛ لا يمكن أن يصل الإنسان إلى اكتشاف أسرار هذا الكون، والوقوف على سنن الله-تعالى- التي بناه عليها، وسيَّره بمقتضاها على صعيد الإنسان والحيوان والجماد، وفي البرَّ وفي البحر وفي الجوِّ.
• أن تتيح الأمة لأبنائها الموهوبين القادرين أن يأخذوا مكانهم الطَّبيعي في المجتمع، وتستخدم ما يقدَّمونه من منجزاتٍ علميةٍ في البناء السَّليم الذي يعود على الإنسانية بالخير، وينمِّي عوامل الطَّمأنينة والاستقرار.
• من سلامة التَّصور والتزام منهج الإسلام في التَّفكير؛ حيث ينتفي الفصل بين الإيمان ومقتضياته وبين السلوك: أن يكون ما يعطيه تسخير الله- سبحانه- ما في السَّماوات وما في الأرض للإنسان، وما تقوم عليه طبيعة العلاقة بين الإنسان والكون في القرآن؛ حافزاً عظيماً يشحذ الهمم ويجنَّد الطَّاقات. وذلكم مؤشِّر الجدَّية في إحكام البناء، وعنوان صدق العزيمة في العملية التَّنموية على كلِّ صعيد.
• الحياة الكريمة التي تُشعر الإنسان بإنسانيته وكرامته وحرَّيته، ركيزةٌ على غايةٍ في الأهميَّة في شريعة الإسلام، والحرص عليها مَعْلمٌ أوليٌّ بارزٌ من معالم حضارة الإسلام.
• المسلمون لا ينتظرون رسالةً جديدةً، ولا رسولاً جديداً، ولكن يديرون حركة الحياة، وينطلقون في ميادينها عاملين بهذه الرِّسالة، مستضيئين بهديها في كتاب الله -سبحانه- وسنة رسوله -عليه الصَّلاة والسَّلام- ثم ما أعطاه الواقع العملي في كل الميادين الاقتصادية والاجتماعية والفكرية وما إليها، حين خرجوا إلى حيِّز التَّنفيذ، وتوظيف الثَّقافة والفكر على أرض الواقع الحي.(/4)
• إكمال الدِّين، وإتمام النِّعمة بالإسلام الذي رضيه الله لعباده؛ مسؤولية كفاؤها تحويل المبادئ إلى وجودٍ عمليٍّ ناطقٍ يتحرَّك في شتَّى الميادين ويحرس الأمة؛ جهاداً للأعداء في الخارج، وتزكية للنُّفوس وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر في الدَّاخل.
• المعرفة مسؤوليةٌ وتَبِعاتٌ؛ فهي ليست ترفاً ثقافياً في حياة المسلم، ولكنَّها -مع المسؤولية- نقطة بدءٍ، على طريق تنأى بسالكيها عن السَّآمة وما هو الألصق بالعافية من التَّبعات. وهم يزاولون عملية البناء في أنفسهم وفي مجتمعهم؛ تطبيقاً للمنهج الرَّباني الذي أملاه الإسلام الحنيف.
• لمَّا ثبت أنَّ محمَّداً -صلى الله عليه وسلَّم- خاتم النَّبيين؛ فالواجب متابعة طريق البناء القويم في ظلِّ الرِّسالة الخاتمة وعلى هديها الواضح المستبين = مسؤولية القول والعمل بانتظار كل من يصبح أهلاً للتَّكليف آمن بأن رسالة الإسلام هي الخاتمة، وأنَّ محمداً -صلى الله عليه وسلَّم- خُتمت به النبوَّة والرِّسالة.
• حين ختم الله -تعالى- بالإسلام رسالات السَّماء، وختم النُّبوة بمحمَّد -عليه الصلاة والسلام- ائتمن أمَّة الإسلام على حمل العبء في قيادة قافلة الإنسان نحو سعادة الدارين، ونبَّهها أوضح تنبيه وأحزمه على ألا تكون مع كتاب ربها كأولئك المغضوب عليهم الذين حُمِّلوا التوراة، ثم لم يحملوها؛ بالعمل بها، والوقوف عند حدودها.(/5)
• الرهبانية مثلٌ سيِّءٌ غريبٌ عن بنية هذه الأمَّة التي أخرجتها الرِّسالة الخاتمة من الظُّلمات إلى النُّور، في مسلكها الإيجابي، ومزاولتها لشؤون الحياة هنا وهناك، والعمل الجادِّ على تنمية طاقاتها الذَّاتية التي تجعلها على مورد الاستقلال؛ في الفكر، والمنهج، وصنع القرار المناسب لهذا المستوى، وتهبها قدرة السَّبق-بعون القادر سبحانه- حيث السِّباق مع الزَّمن الذي لا يعبأ بكسول ولا متهاون، ومع أولئك الذين يتربَّصون بها الدَّوائر؛ فلا رهبانية في الإسلام، بل إنَّ رهبانية هذه الأمَّة الجهاد.
• القضاء على الضَّعف، والقدرة على الإفادة من إمكانات القوَّة المتوافرة في كل بقاع العالم الإسلامي، كما تدلُّ على ذلك المتغيِّرات القائمة اليوم؛ لا تكون إلا بعودةٍ صادقةٍ موضوعيةٍ إلى معالم الكتاب؛ نهتدي بهديها، ونستضيء بنورها.
• بين الرُّكن الخامس من أركان الإسلام وبين الجهاد صلة قربى ووشيجة نسب؛ لما أنَّ كثيراً من أعمال الحجِّ تبدو وكأنها صورٌ من صور الجهاد للنَّفس والمألوف، ودُرْبةٌ على الجهاد في ميدان القتال أو تمهيداً له.
• هدم الوثنية والخرافة والكسل العقلي، بجانب غرس عقيدة التَّوحيد، وإقامة الأدلَّة على صدقها وأحقيَّتها، وتوجيه الإنسان إلى النَّظر والتفكُّر في نفسه وما حوله؛ من الآيات الدَّالة على وجود الله وقدرته، جلَّ شأنه.
• إبراز حقيقة التَّرابط بين دار العمل ودار الجزاء؛ حيث إن مجال السَّعي هنا، بما يترتَّب عليه من تطبيق منهج {لا إلهَ إلا اللهُ} في كل مجال من المجالات، على صعيد الفرد والجماعة، والجزاء العدل الأخروي هناك يوم يعرض النَّاس لربِّ العالمين.(/6)
• مكرمة الشَّهادة على النَّاس -وهي إحدى الجوانب التَّطبيقية للتَّرابط بين العاجلة (دار السَّعي) والآجلة دار (الجزاء)- ليست مرتبطةً بعنصريةٍ متميزة، أو أرض، أو لسان؛ ولكنَّها مرتبطةٌ بالعمل الجادِّ المنبثق عن العقيدة، الذي يضمن أن تكون الأمَّة على المستوى اللائق بالشَّهادة على النَّاس يوم توضع الموازين بالقسط.
• تعاون الأخ مع أخيه على البرِّ والتَّقوى، وتجاوز الفوارق في ظلِّ العقيدة؛ ركيزةٌ من أهمِّ ركائز العمل البنَّاء.
• ينبغي على المؤمن إذا انطلق لبناء الحياة على الوجه الذي ينبغي ديناً ودنيا؛ من الإيمان العميق بقدرة الله -تعالى- على أن يبعث الخلائق بعد الموت، ويجمعهم في يوم المعاد، الإيمان الذي لا يفارقه الاقتناع العقلي؛ انطلق بايجابيةٍ وقدرةٍ على متابعة الطَّريق فيما يتطلَّب البناء من أخذٍ بالأسباب، في سلوكٍ يسيِّر الإمكانات والطَّاقات في قنواتها الطَّبيعية، ويضع إنسانية الإنسان وحريَّته موضعهما، من التَّكريم والقدرة على التَّفاعل مع كلِّ ما هو خيرٌ وبرٌّ.
• الصِّلة -صلة التَّدبُّر والتَّفكُّر، والاستجابة للحقيقة والانفعال بها- بين المسلم وبين كلام الله -عزَّ وجلَّ- ثمرتها: استنارة العقل والقلب، بما يدلَّ على الطُّمأنينة التي وسعت القلب وأراحته، وعلى الاستقرار النَّفسي الذي لا غنى عنه في عملية البناء الكبرى.
• استنفاد الوقت بالعبادة والعمل شكرٌ لله -تعالى- المنعم على تفضُّله؛ فالوقت أمانةٌ في الأعناق، خصوصاً والمطلوب تدارك ما فات، والمسارعة بحزم وعزم إلى الأخذ بأسباب الوجود الذَّاتي، وإلا اشتدَّ الخطب وضاقت الحيلة.
• المسؤولية في بناء المجتمع، وإغناء ميادينه بالعطاء والنَّماء؛ قدرٌ مشترك بين ذكور الأمة وإناثها، كلٌّ حسب تكوينه وما فُطر عليه.(/7)
• توطيد دعائم التَّميز والاستقلالية في التَّفكير، وأن يكون للمصطلحات المتَّسقة مع ذلك التَّفكير سلطانُها على السُّلوك في الأقوال والأفعال وكلِّ ما هو من بناء الحياة بسبيل.
• الوعي العميق لتحرُّكات اليهود التي تصل في عصر النُّبوة إلى وزن كلمةٍ يخاطبون بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو التَّحية المزعومة يلقونها على طريق المسلمين؛ جديرٌ بأن يوقظ الأمَّة على مطارق البغي، وأن يفتح الأبصار وينير البصائر، في شتى ميادين البناء.
• اعتقاد أن تصريف الكون -بما في ذلك نزول المطر- هو من الله -عزَّ وجلَّ- وفق قوانين وضعها بحكمته؛ هو حجر الزَّاوية في المنهج السَّليم، الذي يجعل من المؤمن إنساناً لا تمزقه الشُّكوك، ولا يقع في حمأة التَّناقض بين إيمانه بالله وإسناده الأفعال إلى غيره.
• النَّهي عن الرُّكون إلى المكذِّبين، أولئك الذين لا يقفون عند التَّكذيب الذي هو صفةٌ ملازمةٌ لهم، والإنكار الذي يصحبه؛ بل يتجاوزون ذلك إلى تمني أن يترك أهل الحق حقَّهم إلى ما هم فيه من الباطل والضَّلال.
• ضرورة أن يستخدم الإنسان عقله، ووسائل المعرفة التي وهبها الله -سبحانه- له، ولا يغيِّبها تحت وطأة الأهواء، والتَّقليد الأعمى، والنَّزعات الجاهلية، ثم أنْ يتأمَّل ويتدبَّر، ويُعْمِل عقله ووسائل المعرفة تلك في نفسه وفي الآفاق؛ ليظفر بما يثمر ذلك الخير الكثير.
• اليسر وعدم الحرج هو إحدى خصائص البناء التَّشريعي في الإسلام، كما أنَّه عاملٌ مهمٌّ من العوامل التي أقدرت البناء التَّشريعي في الإسلام على الاستجابة لكل الحاجات الاقتصادية والاجتماعية، على اختلاف الأقاليم والظُّروف.
• التَّكاليف الشرعية، وفي كونها بعيدة عن العسر والحرج؛ هي خير عونٍ للمسلم؛ إذا تدبَّر أمره، وفَقِهَ حكمةَ ربه؛ على أن يكون طاقةً فاعلةً في مجتمعٍ ناهضٍ قويٍّ جديرٍ بالانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس.(/8)
• تنمية قدرة الإنسان على التَّفاعل مع الحياة بكل ميادينها؛ كيما يمتدَّ ذلك بكلِّ ما فيه من إمكاناتٍ بشرية، ولكيلا تكون العبادة الخاصَّة عائقاً عن العبادة العامَّة التي تبعث الحياة في كلِّ زاويةٍ من زوايا المجتمع، ضمن إطار من الخير والغايات النَّبيلة التي تضع كلاً من الجهد والوقت والمال موضعه الطَّبيعي المنتج.
• سلامة التَّصور ليسر هذا الدِّين وبعده عن الحرج؛ لا تنفصم عن الانطلاقة الفاعلة البنَّاءة، على صعيد الفرد والجماعة؛ بل والأمة.
• الموالاة القائمة على حب الله ورسوله ما بدٌّ من أن تأخذ طريقها العملي، على صعيد الواقع الذي تنشئه الأمَّة بالإسلام، في حالات السِِّلم والحرب، وفقه العلاقة بين المؤمنين بعضهم ببعض، وبينهم وبين الآخرين كيف تكون. وليس ذلك فحسب؛ بل أن يكون السُّلوك في تسيير دفَّة الحياة وتوجيه حركتها الوجهة النافعة المثمرة؛ وفق تلك الحقيقة، دون أي لَبْس أو تأويل!
• العناية بغرس ضوابط الولاء والبراء في النُّفوس، وإعطاؤها ما تستحقُّ من فقه النَّص وأبعاده، على السَّاحتين الثقافية والعملية، وما يستلزم ذلك -مع الحزم- من الحكمة وحسن التأتي والحصافة في إيراد القضايا مواردها المناسبة!
• الإيمان بالله -سبحانه- وخشيته حقَّ الخشية؛ طريقهما العلم الناتج عن البحث والتَّجربة، والنَّظر في آلاء الله وآثار قدرته المبثوثة في هذا الكون المنبسط الأرجاء.
• حين تتَّسع ميادين العمل، وتتنوَّع الأساليب، وتجد الأمَّة نفسها أمام أكثر من طريق للتَّطوير والتنمية والبناء؛ تبدو الحاجة ملحَّة أكثر لتنمية وازع الخشية من الله -تعالى- ومراقبته؛ ليكون لكل فرد رقيبٌ من داخل نفسه.(/9)
وبعد استجلاء معالم قرآنيةٍ نيِّرةٍ حفلت بالأسس التي سبق ذكرها، وقبل أن يلقي الكاتب عصا التِّسْيار مع تلك المعالم المشرقة؛ كان له وقفاتٍ مع أثر الهداية في بناء الفرد والجماعة، وما للتَّربية على الهداية والإتباع من طيب الثَّمر في بناء أجيال الأمة؛ عبر معالم قرآنيةٍ عديدةٍ؛ من سور: التوبة، والعنكبوت، والزلزلة، والكهف، ويونس.
ويختم الكاتب ببيان قيمة الإنسان في الدَّعوة الإسلامية، وقيمة الهداية في الإسلام، في صورٍ من سيرة نبي الرَّحمة -صلَّى الله عليه وسلَّم- فهداية الخلق إلى الحق الذي جاء به الإسلام كان المطلب الأول.(/10)
العنوان: المسلمون التركستان.. مأساة قابلة للانفجار
رقم المقالة: 1612
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
30 مليون موحّد تحت القهر الصيني
المسلمون التركستان.. مأساة قابلة للانفجار
• الاحتلالُ الصيني يمارسُ سياساتِ التطهير العِرْقي والديني لضرب الهُوية الإسلامية.
• نسبة المسلمين انخفضت من 95% عام 1940م إلى 40% فقط بسبب سياسة الاستيطان المنظم الذي تمارسه الصين.
• خطة حكومية لتوطين مئتي مليون بوذي في مناطق المسلمين وأراضيهم.
• الصين تقوم بإجراء التجارب النووية في مناطق المسلمين، وتقارير الأمم المتحدة تؤكد أن مليون شخص كانوا ضحايا هذه التجارب.
• حملات تنصير مدعومة استعماريًا تركز نشاطاتها في تركستان لتنفيذ مخطط التغريب الثقافي الروحي.
• • • •
المسلمون في تركستان الشرقية يبلغ عددُهم 30 مليون مسلم، وهم يعيشون مأساة قابلة للانفجار في أي وقت بسبب الاحتلال الصيني وسياسات التطهير العرقي والديني، فالإحصائياتُ تؤكدُ أن نسبة المسلمين هناك انخفضت من 95 % عام 1940م إلى 40% فقط بسبب سياسة الاستيطان المنظم الذي تمارسه الصينُ لتوطين صينيين بوذيين في الإقليم، إذ تسعى الحكومةُ لتوطين مئتي مليون بوذي في مناطق المسلمين وأراضيهم.
ولا يتوقف الأمرُ عند هذا الحد، بل نجد الصين تجري التجارب النووية في مناطق المسلمين، وتقاريرُ الأمم المتحدة تؤكد أن مليون شخص كانوا ضحايا هذه التجارب، هذا إلى جانب حملات التنصير المدعومة استعماريًا والتي تركز نشاطاتها في تركستان لتنفيذ مخطط التغريب الثقافي الروحي.
• مأساة قابلة للانفجار:(/1)
وتركستان الشرقية -التي تعد إحدى أقاليم الصين حاليا- بلادٌ إسلامية دخلها الإسلامُ منذ ثلاثة عشر قرنًا، وتعد معقلا من معاقل الإسلام في آسيا، حيث تضم أكثرية مسلمة، وقضيتها مع الحكومة الصينية مأساة إسلامية جديدة قابلة للانفجار في أي وقت بسبب الاحتلال الصيني الشيوعي الذي يحكمُهم بالحديد والنار، ويقوم بالتطهير العرقي والتهجير في محاولة "لتصيينها" ديموغرافيا حتى تحول المسلمون فيها من أكثرية إلى أقلية، وأطلقوا على الإقليم اسم (سينكيانج) أي (المستعمرة الجديدة) بدلا من الاسم التاريخي المعروف به منذ قرون، والذي يعد اسمًا محببًا لدى أهلها المسلمين؛ لأنه يعني استقلاليتهم عن الصين الشيوعية، وهذه القضية تشبه إلى حد كبير القضيةَ الفلسطينية، إذ تتعلق بإلغاء هُوية شعب، وإحلال شعب آخر محله، وسرقة أراضيه، وإطلاق اسم آخر على وطنه.
وتقع تركستان الشرقية في وسط آسيا الوسطى، ومساحتها 1.828.418 كيلومتر مربع، ويحدها من الشمال روسيا، ومن الغرب الدول الإسلامية التي كانت تمثل تركستان الغربية، وهي (قازاقستان وقيرغيزا وطاجيكستان وأوزبكستان)، ومن الجنوب باكستان والهند والتبت، ومن الشرق الصين، ومن الشمال الشرقي منغوليا.
وحسب الإحصائيات الرسمية فإن نسبة المسلمين في الإقليم عام 1940م كانت 95% وانخفضت عام 1949م إلى 90%، وإلى 55% عام 1983م، وذلك بسبب سياسة الاستيطان المنظم الذي تمارسُه الصين لتوطين صينيين في هذا الإقليم، حتى إن نسبة الصينيين في الإقليم الآن 60% والمسلمين 40% فقط، وتقدم الصينُ الإغراءاتِ لمواطنيها للإقامة في تركستان، فتقدم لهم الأرضَ والمنازل وفرصَ العمل والبدلات، ونفَّذت الحكومة الصينية مشاريع تنمية في الإقليم.
• قيود على الولادة:(/2)
وفي المقابل تضع قيودًا صارمة على ولادة أكثر من طفل واحد للأسرة المسلمة، ومن يخالف ذلك تفرض عليه ضرائب باهظة ويُسجن، ومن يفكر في الدعوة إلى الله فلا مكان له سوى السجن، ومنذ عام 1990م أطلق حكامُ الصين شعارَ فتح تركستان الشرقية، فبدأوا موجة مكثفه من استقدام المهاجرين الصينيين في الإقليم، وكثفوا رؤوس الأموال فيه على نطاق واسع.
وقد صار اكتشاف كميات احتياطية كبيرة من البترول وبالا كبيرًا على الشعب التركستاني المسلم، فبفتح حقول البترول في (كاراماي) (أقبولاق) و(قبزيلداغ) و(مايتاغ) و(أوجكيك) و(كوكيار) للاستثمار جرى إسكان أكثر من مليوني صيني في المنطقة، كما أخرجت السلطات الصينية السكان المسلمين من أكثر من 600 منطقة سكنية بالقوة.
وسياسةُ الانفتاح التي تطبقها الإدارةُ الصينية في تركستان تستهدفُ فتحَ الطريق أمام إسكان الصينيين، ونهب ثروات البلاد الطبيعية، وتكثيف عمليات نقل هذه الثروات إلى داخل الصين، وأخيرًا القضاء على الشعب التركستاني المسلم بصهره في المجتمع الصيني صهرًا كاملا.
وأمام كل هذه المحاولات الصينية يحرصُ مسلمو تركستان على إسلامهم وهويتهم، ويبذل رجالُ العلم التركستانيون جهودًا كبيرة من أجل تعليم الشعب المسلم أحكامَ دينه وقواعده الأخلاقية وتاريخه الوطني والقومي، وقد قام أفرادٌ قلائل من المسلمين بحركة انفصالية، وأعدمتهم السلطاتُ الصينية، وتعد محاولاتُ الانفصال مستحيلةً حاليًا بسبب قوة الصين الضخمة، واعتراف الدول الإسلامية بوحدة أراضيها، وقيام علاقات سياسية واقتصادية معها.
وتعود أهمية إقليم تركستان الشرقية "سيكيانغ" عند الصين إلى موقعه الجغرافي وموارده الطبيعية بما في ذلك النفط والذهب والبلاتين والنحاس والحديد، وكذلك إلى مساحته الشاسعة؛ إذ يمثل حوالي 17 في المئة من مساحة الصين، في حين إن الكثافة السكانية فيه لا تتجاوز نسبة الواحد في المئة بالنسبة لعدد سكان الصين الإجمالي.(/3)
وقبل العهد الشيوعي كان المسلمون في الصين يواجهون الاضطهاد الديني، لكن بطريقة عشوائية وغير منظمة، ومن ثم لم يهدد ثقافتَهم بالذوبان، أما في مرحلة الشيوعية فراحوا يواجهون آله ضخمة من التشويه والطمس الأيديولوجي المنظم المدعوم بالسلطة والمال على مستوى الترقيات الوظيفية أو العلاوات في الرواتب والأجور، وكذلك أحقية التوظيف.
• الإسلام في تركستان:
ولقد دخل الإسلامُ إلى هذه الأرض في وقت مبكر، إذ اعتنق أهلُها هذا الدين منذ عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وولده الوليد بن عبد الملك في سنة 705م، وذلك عندما أسلم حاكمهم "ستوق بغراخان"، واستبدلوا بدينهم البوذي والوثني الإسلامَ، ومنذ ذلك التاريخ حمل التركستانيون على كاهلهم نشر الإسلام داخل الأراضي الصينية، وكان لهم فضلٌ في ذلك؛ إذ انتشر الإسلامُ في جنوب الصين وشمالها.
وفي عام 880م نشأت أولُ دولة تركية إسلامية، وغدت مركزًا من مراكز الحضارة الإسلامية، خرج منها العلماء والمشاهير في شتى ميادين العلم والمعرفة.
وكانت مدينتا (بخارى) و(سمرقند) في آسيا الوسطى تجمُّعين مزدهرين للحضارة الإسلامية خلال القرنين الرابعَ عشرَ والخامسَ عشرَ، وكانت تركستان القديمة تضم أراضي من الصين وجمهوريات آسيا الوسطى وصولا إلى أفغانستان، ويقع هذا الإقليم المترامي الأطراف الذي كان يقطنُه الناطقون بالتركية على الطريق الذهبي الذي اتبعه الرحالةُ الإيطالي (ماركو بولو) في أسفاره، فشاد هذا الشعب المدن، وأقام الدول، وسعى إلى المحافظة على نقاء عرقه وثقافته.
• الغزو الصيني:(/4)
وفي عام 1760م فقد المسلمون التركستانيون دولتهم أمام جحافل القوات الصينية التي أطلقت على هذا الإقليم بعد استيلائها عليه اسم "سيكيانغ" أو الحدود الجديدة، وهرب الكثيرُ من القبائل التركستانية هناك إلى أماكن أخرى من آسيا الوسطى التي أصبحت فيما بعد جزءًا من القيصرية الروسية، وهب الإيفوريون -وهو الاسم الذي كان يُعرف به المسلمون، في وجه الاحتلال الصيني- مئاتِ المرات، وحققوا في بعضها استقلالا مؤقتًا.
وخلال الأربعينيات من القرن العشرين أعيدت السيطرة الاستعمارية الصينية على هذه المناطق، وفي عام 1944م اندلع تمردٌ جديد في مناطق الأقاليم الشمالية المحاذية للاتحاد السوفيتي بحدود طولها 3 آلاف كيلومتر، وفي يوم 12 من نوفمبر من ذلك العام أعلن قيام جمهورية تركستان في مدينة كولجي، إلا أن الأمر لم يصل إلى الاستقلال التام، واقتصر على الحكم الذاتي، وقدم (جوزيف ستالين) الزعيم السوفياتي آنذاك المساعداتِ للحكومة المؤقتة التي كان يعدها عنصرَ توازن في وجه قوة الصين المتعاظمة، وفي الوقت ذاته أرسل ستالين خبراء في علم الأعراق البشرية ليقسموا الأجزاء الجنوبية المضطربة عن الاتحاد السوفياتي إلى عدد من الجمهوريات الصغرى، مما سمح لموسكو بممارسة سلطة أوسع في تلك المدة.
وقد برزت نتيجة لذلك جمهوريات (أوزبكستان) و(تركمانستان) و(كازاخستان) و(فرغيزيا) و(طاجستان)، غير أن مساعي السلطات الشيوعية في كل من بكين وموسكو لم تنجح في إحلال الولاء الوطني محل الهوية الدينية أو القومية لشعوب هذه الجمهوريات في مناطقها؛ إذْ حافظ التركستانيون على هُويتهم الثقافية واللغوية والعرقية، وتمسكوا بجذورهم الإسلامية.(/5)
وفي خريف عام 1929م تواترت الأنباء عن مقتل زعيم تركستان الشرقية "اخبمحير قاسمي" إلى جانب وفد من أبرز قادة الجمهورية في حادث تحطم طائرته خلال رحلة إلى بكين للاشتراك في الجلسة الأولى "المؤتمرات الشعبية السياسية الاستشارية" للصين، وقد عدوا ذلك الحادث قضاءً وقدرًا، ويعتقد الكثير من المؤرخين أن قاسمي والوفد المرافق له قتلوا في مؤامرة حاكها الشيوعيون الصينيون والسوفيات.
• ضرب الهوية الإسلامية:
وقد مارست السلطات الشيوعية خطة شاملة لضرب الهوية الإسلامية في تركستان، فأصدرت مراسيم قررت فيها منع الأطفال من التعليم الديني قبل أن يبلغوا 18 عامًا من العمر، وأن يكون التعليم الديني بعد هذه السن في معاهد تُشرف عليها السلطاتُ الشيوعية، وتواصلت الحملات الأيدلوجية على هذا المنوال، وكان الهدفُ من ذلك هو تأهيل الموظفين الذين يستطيعون تطبيق سياسة تسخير الدين لأهداف الحزب الشيوعي، وهذا ما شرحه بالتفصيل كتاب "التوجيه في تفعيل الاشتراكية بالدين" الذي وضعه قسمُ الجبهة المتحدة في الحزب الشيوعي الصيني لولاية كاشفر بالاتفاق مع الإدارة الدينية للأقليات في محافظة كشفر، ويضم الكتاب دروسًا ومحاضراتٍ ألقيت في ندوة ضمت 48 من رجال الدين و24 من رؤساء الإدارات الدينية الشيوعين و43 من مدرسي الدين، وعقدت هذه الندوة في كاشفر بين 5-9 من سبتمبر عام 1994م، وصدر عن هذه الندوة قراراتٌ عدة تحارب جميع الأديان، ونذكر منها ما يتعلق بمحاربة الدين الإسلامي، وهي الآتي:
1- يمنع تنظيم حلقات حفظ القرآن الكريم وتعليم أحكام الدين في المساجد والمنازل، وأن يتم ذلك فقط في المعاهد الإسلامية التي تفتح في المدن الرئيسة تحت إشراف السلطات الرسمية.
2- أن يكون التعليم الإسلامي مقتصرًا على الراشدين الذين تجاوزوا الثامنة عشرة من عمرهم.
3- يمنع ترميم المساجد وإصلاحها أو بناء الجديد منها إلا بإذن رسمي من السلطات الرسمية.(/6)
4- يمنع تدخل علماء الإسلام في الأحوال الشخصية الإسلامية مثل عقود الزواج والطلاق والميراث وتحديد النسل والتعليم وجمع الزكاة أو صرفها.
5- تسخير المفاهيم الإسلامية في ترويج النظام الشيوعي، وتأييد ممارسة السلطات الصينية لأعمالها ويمنع الإشارة إلى أي مفهوم ديني ينتقد الفكر الماركسي الشيوعي الصيني.
6- رجال الحزب الشيوعي الصيني لا يمارسون شعائر الدين؛ لأنهم العاملون بنظامه ومنفذو تعاليمه، ولا يحق لأي كائن كان أن يحتقرهم ويسيء إليهم بسبب مواقفهم من الدين.
7- يمنع اتصال الهيئات الدينية ورجالها بالمؤسسات الإسلامية وشخصياتها في خارج الصين، كما يمنع تلقي المساعدات منهم من دون تصريح حكومي، ويمنع السماح لأي عالم أو إمام أجنبي أن يؤم المسلمين أو أن يخطب فيهم في المساجد.
8- يحظر على غير الإمام الرسمي الإمامة والخطابة، كما تمنع الصلاة أو الوعظ في غير المساجد التي تفتح بإذن السلطات الرسمية وتحت إشرافها.
ومن يخالف هذه التعليمات يتعرض لأشد الأحكام فظاظة؛ مثل السجن المؤبد مع الأعمال الشاقة لمدد تتراوح بين خمسة أعوام و20 عامًا، وهناك مئات المعتقلين ما زالوا يقيمون في السجون الصينية لمخالفتهم هذه القرارات.
• التجارب النووية الصينية:(/7)
وليست سياسة التجهيل الديني والثقافي المتبعة ضدهم من قبل السلطات الرسمية أخطر ما يواجه المسلمين في تركستان الشرقية، وإنما يواجهون أخطارًا أخرى تهدد وجودهم على أرض أجدادهم، ويتمثل ذلك في إجراء التجارب النووية الصينية على أرضهم منذ الستينيات؛ إذ يقع أكبرُ موقع في العالم اليوم لتجارب الصواريخ والقنابل النووية قرب بحيرة "لوب نور" في صحراء "تاكل ماكر" في إقليم تركستان الشرقيه "سيكيانغ"، وفي هذا الموقع فجرت الصين أولى قنابلها الذرية في الجو خلال نوفمبر 1964م، وواصلت الحكومةُ الصينية إجراء تجاربها في هذا الموقع منذ ذلك التاريخ، وكان آخرها التفجير الذي نفذته في أكتوبر عام 1993م.
وتقول تقارير الأمم المتحدة إن حوالي مليون شخص على طرق الحدود الصينية الروسية كانوا ضحايا هذه التجارب، حيث سقط المئات من الأطفال في تركستان الشرقية ضحية مرض غريب، من أعراضه آلام الأذنين وآلام في الرأس، وتعتقد بعض الجهات الطبية في الأمم المتحدة أن هؤلاء الأطفال تأثروا بالتجارب النووية.
ونتج عن هذه الحملات هجرةُ الآلاف من المسلمين إلى بلدان آسيا والشرق الأوسط، وأحفاد هؤلاء كانوا يعرفون في الغالب بالبخاريين نسبة إلى (بخارى) التي كانت عاصمة إقليم في أواسط آسيا، أطلق عليه الاسم ذاته وهو اليوم الدولة المعروفة باسم أوزبكستان.
• الشيوعية والتنصير:(/8)
ولقد جاءت حملاتُ التنصير المدعومة استعماريًا لتركز نشاطاتِها في أقاليم تركستان الشرقية ذي الكثافة السكانية المسلمة التي كانت تعرف تاريخيًا باسم شرق تركستان، وكان المنصرون يلقون كل الدعم في نشاطاتهم ضمن مخطط استهدف التغريب الثقافي الروحي المترافق مع التغريب السياسي الاقتصادي، غير أن المساعي التنصيرية تلك، وإن كانت وجدت لها أرضًا خصبة بين الكونفوشيوسيين والبوذيين الصينيين، إلا أنها اصطدمت بوجود إسلامي قوي يغطي مساحات واسعة من أراضي الصين، وتبين أن للمسلمين ثقافةً دينيةً راسخة لم تستطع البعثاتُ التنصيرية التأثيرَ فيها بالسهولة التي كانوا يتوقعونها، لذلك كان من الضروري من وجهة نظرهم دراسةُ واقع المسلمين بدقة من أجل وضع المخططات اللازمة لإنجاح حملات التنصير.
وفي مطلع القرن العشرين انعقد في أدنبرة باسكوتلندا المؤتمرُ التنصيري العالمي، ونص أحد القرارات التي اتخذت في المؤتمر على تشكيل لجنة مهمتها دراسةُ سبل إقامة بعثة تنصيرية دائمة في الصين.
• السيطرة الشيوعية:
وقد مرت السيطرةُ الشيوعية على تركستان بثلاث مراحل هي:
1- مرحلة البناء الشيوعي والسيطرة الشيوعية الصينية من 1949م- 1965م، وتم في هذه المدة: القضاء على الزعماء الوطنيين والعلماء، وتطبيق النظام الشيوعي بمصادرة الأملاك والأوقاف واعتقال الأثرياء وتكوين المليشيات الشعبية من اللصوص والمنحرفين، وبسط السيطرة الصينية على تركستان الشرقية بتكثيف الموظفين الصينيين في الإدارات والمراكز الحكومية، وتنفيذ خطة الاستيطان الصيني البوذي وفرض التصيين الثقافي والتعليمي.(/9)
2- مرحلة الثورة الثقافية من 1966م- 1975م، وفيها عمل الصينيون على القضاء على التعاليم الإسلامية والحضارة التركية والمعالم الوطنية لتركستان، وأغلقت جميع المساجد واستعملت لغير أغراضها، وانتهكت الحرمات، ومنع المسلمون من ممارسة شعائر دينهم، وصودرت جميع الكتب الإسلامية، وأجبر المسلمون على تعاليم ماوتسي تونج، وعلى الزواج المختلط بين المسلمين والبوذيين، وشهدت هذه المدةُ تدميرَ ما بقي من مؤسسات ثقافية أو تعليمية أو دينية، وكان الهدف هو قطع المسلمين عن دينهم وعقيدتهم وأصالتهم وتراثهم الديني والقومي.
3- المرحلة المعاصرة من 1976م- إلى الآن، وتميزت بتحول الشيوعيين الصينيين من تطبيق سياسة الإرهاب المكشوف إلى ممارسة تطبيق الشيوعية العلمية والتصيين الثقافي، بعد أن نجحت السياسةُ السابقة في بث الرعب في نفوس التركستانيين، والتخلص من القوى الإسلامية والوطنية وسيطرة الصينيين على مقدرات البلاد، وتمكنهم من توطين أكثر من خمسة ملايين صيني بوذي في تركستان الشرقية.
وقد شهدت هذه المدة نوعًا من الانفراج النسبي، ومظاهر التسامح الديني للمسلمين، ولكن الخطر الحقيقي ما زال قائما، ويتمثل في سعي الحكومة الصينية لتوطين مئتي مليون صيني بوذي في هذه البلاد المسلمة.
• ثورات المسلمين:
ولقد وقف المسلمون في تركستان الشرقية بالمرصاد للاحتلال الصيني لبلادهم، وثاروا على الحكم الصيني، واستشهد مئاتُ الألوف من المسلمين في سبيل خلاصهم من الاستعمار الدخيل، وأثمر هذا الجهادُ قيامَ عدد من الحكومات الإسلامية الوطنية، مثل حكومة خوجه نياز عام 1933م وحكومة على خان توره عام 1945م، ولكن دخول الشيوعيين -بعد انتصار ثورتهم في الصين– إلى تركستان الشرقية عام 1949م قضى على آمال التركستانيين في حكم أنفسهم بأنفسهم، وقاموا بثورات مسلحة منها:
1- الثورة الأولى التي امتدت فيما بين الاحتلال عام 1949م وحتى 1951م.(/10)
2- الثورة الثانية التي امتدت فيما بين 1954م وحتى سنة 1958م.
3- الثورة الثالثة التي امتدت فيما بين 1959م وحتى 1963م.
4- الحركات الرافضة الكثيرة التي امتدت فيما بين سنة 1965م وحتى 1968م.
وقد واجه الشيوعيون هذه الثوراتِ بالعنف والإرهاب والظلم، وتم عام 1952م إعدام 120 ألف شخص من العلماء والزعماء والشخصيات.
فهل يدرك المجتمعُ الدولي مدى فداحة السكوت عن الاضطهاد الديني والثقافي والعرقي الذي يتعرض له المسلمون في تركستان الشرقية وسائر أقاليم الصين؟ أم أن الصين دولة قوية وصاعدة على مستوى النمو الاقتصادي، وتجد بها رؤوسُ الأموال الغربية أسواقًا مربحة، فلذلك يجري السكوتُ عن جرائمها الوحشية ضد المسلمين وحقوق الإنسان وحرياته؟
• مطالب المسلمين:
إن مطالب المسلمين في تركستان مطالب مشروعة، أعلنوا عنها في أكثر من مناسبة، ويسعون لتحقيقها بكل الطرق والوسائل المتاحة لهم، ويجب أن يقف العالم الإسلامي إلى جانبهم للحصول على هذه الحقوق المشروعة، ومنها:
1- وقف الاستيطان الصيني في بلادهم.
2- وقف إجراء التجارب النووية الصينية في أراضيهم.
3- إلغاء السياسة الصينية الاستعمارية بتصيين المسلمين التركستان ثقافيًا واجتماعيًا ومنحهم الحرية لحفظ كِيانهم ووجودهم الإسلامي وهُويتهم.
4- منح المسلمين التركستانيين حق تقرير المصير في حكم بلادهم، وإجراء انتخابات حرة لاختيار رئيس الحكومة المحلية ورؤساء اللجان الشعبية.
5- وقف تطبيق سياسة تحديد النسل لمسلمي تركستان.
6- إعطاء الأولوية لشباب تركستان للعمل في الأجهزة الحكومية والمؤسسات والمصانع.
7- العمل على رفع المستوى العلمي والصحي والاقتصادي لشعب تركستان.
• المراجع:
1- تركستان المسلمة وأهلها المنسيون – د. عبد القادر طاش – دار الفتح للإعلام العربي – القاهرة 1999م.
2- مجلة الأسرة - العدد 75 جمادى الأولى 1420هـ.
3- تقارير وكالة الأنباء الإسلامية.
4- موقع محيط - 3 يونيه 2000م.(/11)
5- جريدة الشرق الأوسط – 15 يونيو 1987م.
6- مجلة رابطة العالم الإسلامي – العدد التاسع – رمضان 1404هـ "1984م".(/12)
العنوان: المسلمون في ألمانيا.. جهودٌ لتحسين صورة الإسلام
رقم المقالة: 1451
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
بعدَ أحداثِ سبتمبر 2001م في أمريكا، وخلالَ السنواتِ الماضية، تكالبت بعضُ وسائل الإعلام في أوربا وأمريكا على تشويهِ صورة الإسلام وإظهارهِ بمظهرِ الخطر الداهمِ على أوربا والعالم بأسره، على الرغم من أن كل الدلائل تؤكد أن مسلمي أوربا وأمريكا جزءٌ لا يتجزأ من المجتمع الغربي والأمريكي، وأنهم لن يكونوا إلا عنصرَ إثراءٍ للمجتمع، يؤدون دوراً هاماً في الحفاظ على الأمن الاجتماعي، ويسعون للتعاون مع الفئات الأخرى للمجتمع، من أجل تحقيق السلم الاجتماعي الذي تعودُ فائدتُه على المجتمع بأسره.
والمسلمون في ألمانيا على رأس من ناله هذا التشويهُ المتعمَّد للإسلام، ولعل ذلك ما دفع عددًا من مسلمي ألمانيا لبذل الجهود الرامية إلى تحسين صورة الإسلام والمسلمين هناك، فقد مرّت مدينةُ هامبورج الألمانية في السنوات الأخيرة، بتجربة جديدة للدفاع عن الإسلام، وتحسينِ صورته، ودفعِ عجلة الاندماج مع المجتمع الألماني للأمام.. وذلك عندما تجمّع نحوُ 40 شابًا وفتاةً من مسلمي ألمانيا، التابعين لمجلس الأقلية المسلمة في مدينة هامبورج -تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاما- في (كشك) صغير بميدان (أيدا أيريه) وسط مدينة هامبورج لشرح دينهم وثقافتهم للمهتمين من المارّة، والعمل على مد جسر من التفاهم بين المسيحيين والمسلمين، ووزّع الشباب المسلمون ملصقا دعائيا يحمل عبارة "مسلمون ضد الإرهاب".
وقد علّقت صحيفة "دي تسايت" الألمانية على فكرة (الأكشاك) قائلةً في تقرير لها: "الهدفُ المقصود من الكشك الذي أقامه مجلسُ الأقلية المسلمة في مدينة هامبورج، هو أن يدرك المواطنون في المدينة أن المسلمين ضد الإرهاب، وأنّ كونَ المرءِ مسلمًا لا يعني ذلك أبداً أنه إرهابي".(/1)
وأوضحت الصحيفةُ الألمانية أن المارّة الذين دخلوا هذا الكشك لم يشعروا أنَّ لدى الشباب المسلم الذي تحاور معهم "موقفًا متزمتًا"؛ إذ يسمحون للمواطنين الألمان غير المسلمين بعرض آرائهم ومناقشتها.
• ضرورة الحوار والاندماج:
وقد لاقت هذه الفكرة ترحيبا من أهل المدينة الذين قدّموا الدعم المعنوي للشباب المسلمين في هذا الكشك، لأن ما يفعلونه شيء جيد، وجاء الكثيرُ من الألمان ومعهم آراؤهم الخاصة لمناقشتها، ونبّهت الفكرةُ جميعَ أفراد المجتمع المسلم هناك لضرورة التوجه إلى بعضهم، في محاولة لإيجاد وسيلة للتحاور، ليس من خلال (كشك) منصوب في الشارع فقط، بل يجبُ أن يشملَ الحوارُ الحياةَ اليومية في العمل ومع الجيران، فالمرءُ يمكن أن يتحاور في أي مكان مع الآخرين.
وقد سجّل (الكشك) الذي أقيم في هامبورج نجاحًا واضحًا في شوارع المدينة، الأمر الذي ظهر في تصريحات الكثير من سكان المدينة، الذين أكّدوا أنهم عرفوا الكثير عن الإسلام من خلاله.
وروّج المسلمون من خلال هذا (الكشك) لورقة المبادئ التي وقّعها مجلسُ الأقلية المسلمة في مدينة هامبورج مع المؤسسات الإسلامية الأخرى في مسجد "خيرت" بمدينة هامبورج، حول الاندماج وعلاقة المسلمين مع الدولة والمجتمع في ألمانيا. ومن بين هذه المبادئ -التي جاءت في الورقة التي حملت عنوان "المسلمون في مجتمع متعدد" ووقعت في إبريل 2004- أن "العدل بالنسبة للمسلمين هو المعيارُ الأساسي للنظامين الاجتماعي والاقتصادي، وهو يهدف إلى إتاحة حياة كريمة للإنسان، كما أن الرجل والمرأة سواسية أمام الله والقانون الذي يحمي الأفراد وكذلك المجموعات الاجتماعية المختلفة".(/2)
وتطالب ورقةُ المبادئ كذلك السلطاتِ الألمانية بالسماح ببناء المساجد وملحقاتها التي تضم نشاطات اجتماعية في المناطق التي يكثر فيها المسلمون، ومنع أي لون من التمييز القائم على اختلافات دينية، وأن يكون للنساء الحق في ارتداء الزي الإسلامي سواء في أماكن العمل أو الأماكن العامة.
• الوجودُ الإسلامي في ألمانيا:
يعيشُ أكثر من 3.3 مليون مسلم في ألمانيا، طبقا لآخر التقديرات الرسمية، ومعظمُهم من ذوى الأصول التركية، والآخرون من العراق والسعودية ومصر ونيجيريا، ومن دول آسيوية؛ مثل الهند وباكستان وسنغافوره وماليزيا، بدأوا في الوصول إلى البلاد لملء الفجوات في أسواق العمل في ألمانيا الغربية وبرلين الغربية في الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين.
ففي المدة الممتدة بين عام 1955 وعام 1990م، حَمَلَ ما يربو على عشرين مليون شخص من مختلف دول العالم، حقيبةَ السفر إلى ألمانيا. وكانت ألمانيا قد شعرت بحاجة ماسة في منتصف الستينيات إلى الاستعانة بعدد من العمال الوافدين لسد الثغرة التي نشأت في سوق الأيدي العاملة. وتعاقدت الحكومةُ الألمانية الاتحادية في ذلك الوقت مع حكومات إسبانيا وتركيا ويوغسلافيا السابقة وتونس والمغرب والبرتغال، الأمر الذي تبعه وفودُ جماعات كثيرة من العمال الذين استقروا بعد ذلك مع عائلاتهم، التي توسعت توسعا سريعًا في المدن مثل برلين وفرانكفورت ودوسلدورف وفيسبادن وكولون.
ثم بدأ الألمان أنفسُهم يعرفون الإسلامَ ويُقبلون عليه، فهناك 100 ألف ألماني اعتنقوا الإسلام في الثلاثين عامًا الماضية طبقا لأرقام نشرتها دوائرُ إسلامية هناك.(/3)
واليومَ يعيشُ في ألمانيا أكثرُ من 150 ألف مسلم من أصل عربي، ونحو 120 ألف من أصل إيراني، وأكثر من 100 ألف من أصل ألماني. ويصلُ عددُ المسلمين الذين يحملون الجنسية الألمانية إلى 600 ألف، ومعظمُ المسلمين في ألمانيا يعدّون أنفسهم من مواطني هذا المجتمع. ويوجد 2300 مسجد ومدرسة في المدن والبلدات الألمانية.
• دور المستشرقين:
ولم يكن العمالُ الوافدون من مناطق إسلامية السببَ الوحيدَ في معرفة الشعب الألماني لأول مرة بالدين الإسلامي، فقد كان المستشرقون الألمان أولَ من قام بنقل صور في مؤلفاتهم عما شاهدوه وعايشوه في البلدان الإسلامية التي تنقلوا فيها وأمضوا بعض الوقت يتعرفون طبائعَ وتقاليدَ شعوبها.
وفي نهاية السبعينيات ومنتصف التسعينيات نشأت في ألمانيا صورةٌ واضحة عن مجتمعات الأجانب في ألمانيا، ومن بينها المجتمعُ الإسلامي الآخذ في التطور. ويأتي الإسلام في المركز الثالث في ألمانيا بعد الدين المسيحي الكاثولويكي والدين المسيحي الإنجيلي وقبل اليهودية. ويقيم أغلب مسلمي ألمانيا –ومنهم أكثر من مائة ألف مسلم من أصل ألماني- في ولايتي شمال الراين وستفاليا وبرلين. وهناك عشرات الجمعيات والاتحادات والتنظيمات الإسلامية النشيطة في ألمانيا.
• مشكلاتٌ تُواجِه المسلمين:(/4)
وموقفُ الدولة الألمانية من المسلمين –كما يؤكد الدكتور نديم إلياس (رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا) - يحددُه الدستورُ الألماني الذي يعترفُ بجميع الأديان، ويضمن حق ممارسة الدين والعقيدة لكل إنسان، ويُمكن الطوائفَ الدينية أن تحصل على مميزات اجتماعية تمكنها من المشاركة في مجالس مراقبة الإعلام، وإنشاء المؤسسات التعليمية، وغير ذلك.. إلا أن المؤسسات الإسلامية في ألمانيا لم تتقدم بطلب للحصول على صفة مؤسسة الحق العام، وهذا لا يحجب عنهم من ناحية الأصل الحقوقَ الأساسية المنصوص عليها في الدستور، ولكنهم يواجهون صعوباتٍ كبيرةً لتحويل هذه الحقوق النظرية إلى واقع عملي، إذ يجدون معوّقاتٍ كثيرةً عند بناء المساجد، ولا يزالون يكافحون منذ سنوات كثيرة لإدخال مادة الدين الإسلامي في المدارس مساواةً بالطوائف الأخرى، وتعاني المرأة المسلمة تضييقًا شديدًا في توظيفها وسائر الحياة الاجتماعية.
كما يعاني مسلمو ألمانيا نوعًا من رفض القبول في المجتمع الألماني لأسباب كثيرة، بعضها معروف والآخر مجهول، برغم أن عددهم زاد في العقود الأربعة الماضية إلى ثلاثين ضعفًا ليبلغ حاليًا أكثر من ثلاثة ملايين مسلم كما ذكرنا. وكما أثيرت قضيةُ الاندماج في غالبية المجتمعات الأوربية تجاه لمسلمي فرنسا أو بريطانيا وغيرها، أثيرت القضيةُ نفسها تجاه مسلمي ألمانيا، فأصبحت قضايا مثلُ الحقوق والمكانة والدور الثقافي ودمج المسلمين، من الموضوعات الاجتماعية والسياسية المهمة في السنوات الأخيرة.(/5)
وما زال مسلمو ألمانيا يطمحون إلى الحصول على امتيازات يضمنُها لهم الدستورُ الألماني الذي ينص على حرية العبادة. ففي هذه المرحلة التي تجيء بعد كثير من الإنجازات التي حققها المسلمون بالتعاون مع المسئولين الألمان في الولايات وعلى مستوى عموم الدولة الألمانية، يصرون على انتشار تلقين دروس الإسلام في المدارس الألمانية، وتشير الإحصائياتُ إلى أن نحو 570 ألف طالب وطالبة في المدارس الألمانية محرومون من تلقي دروس عن دينهم الإسلام، الأمر الذي يدفع الاتحادات والجمعيات الإسلامية في ألمانيا إلى توفير الفرصة لهم لتعرّف دينهم، وفي هذا السياق يجري العملُ في ولاية شمال الراين وستفاليا ببرنامج نموذجي ينص على تعليم دروس عن الإسلام باللغة الألمانية في عدد من المدارس من قِبَل معلمين تلقوا تعليمهم في ألمانيا. وإنما يأتي هذا العمل لأن المسئولين في الولايات الألمانية البالغ عددها ست عشرة ولاية، يريدون منع التنظيمات الإسلامية المتطرفة من تحقيق أهدافها في ألمانيا والعمل باستغلال الدين.
وفي الوقت الحالي يجد المسلمون في ألمانيا أنفسَهم أمام عدد من المشكلات؛ منها: أن الدولة لا تعترف بمنظماتهم بصورة مماثلة للكنيسة المسيحية، ومنها أن تنظيماتهم مشتتة متباعدة لا يمثلهم اتحاد واحد كما هو الحال بالنسبة للجالية اليهودية. ويرى وزراءُ الثقافة في الولايات الألمانية من الضروري العثور على طرف يتحد المسلمون عليه لتمثيل مصالحهم في ألمانيا.
وقد دفع هذا الرابطات الإسلامية في ولاية هيسن إلى تشكيل رابطة موحدة تقوم الجهاتُ الألمانية المختصة في هذه الولاية بالنظر في الأمر بهدف الاعتراف بالرابطة الإسلامية.
وتتعرض مدارسُ القرآن في برلين باستمرار لانتقاداتٍ من جهات ألمانية تتهمها بالذهاب إلى أبعد من تحفيظ القرآن والشروع في إقامة شقاق مع المجتمع الألماني.
• جهود مخلصة:(/6)
وهناك جهودٌ مخلصة من قيادات العمل الإسلامي في ألمانيا لتحقيق الانتماء للمجتمع الألماني ولأوربا على جميع المستويات، مع الحرص على حمل مسؤولية ربط المسلمين وتوحيدهم في إطارهم الألماني والأوربي من خلال المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا واتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا، وهي المؤسسات التي تسعى بجد لرعاية شؤون المسلمين وتمثيلهم، وتحقيق الرغبة في التأثير الإيجابي، والتعاون الفعال مع نمط الحياة في ألمانيا، من خلال السعي لرفع التحديات في تطوير قدرات أبناء المسلمين، على طريق دمجهم في المجتمع الألماني، وإشراكهم في تحمل المسؤولية، والحفاظ على مكتسباته وبناء مستقبله.
والعزمُ معقودٌ على العمل الدائب من أجل توطين الإسلام الوَسَطي والحضاري كجزء طبيعي متناغم في المجتمع الألماني والأوربي، من خلال الحوار السوي مع جميع الطوائف الدينية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات السياسية، والاجتهاد في الوقت نفسه لتوطيد أركان العمل المؤسسي الذي يرشد إلى الوعي برسالة الإسلام ويقدمها فكراً وسلوكاً.
• المراجع:
1- كشك هامبورج للدفاع عن الإسلام - جريدة العالم الإسلامي - العدد 1873- 10 يناير 2005م.
2- أوضاع مسلمي أوربا: عام بعد 11 سبتمبر - إسلام أون لاين – 12 سبتمبر 2002م.
3- المسلمون في ألمانيا يتزايدون برغم التحديات - كليف فريمان - ميدل إيست أونلاين.
4- المسلمون في ألمانيا - سمير عواد - الراية القطرية - 20/ 12/2000م.
5- المسلمون في ألمانيا إثراء وليس خطراً - العالم الإسلامي - العدد 1873- 10 يناير 2005م.(/7)
العنوان: المسلمون.. في مستقبل أمريكا السياسي
رقم المقالة: 875
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
• يوجد حاليا في أمريكا حوالي 3000 مسجد، وأكثر من 300 مدرسة، ويشارك 15 ألف مسلم في الجيش الأمريكي.
• عدد المسلمين في الولايات المتحدة سيزيد عن عدد اليهود بحلول عام 2010م، وهو تحول من شأنه أن يؤثر على السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية.
• المسلمون في أمريكا في حاجة إلى الثقة في أنفسهم وإعادة اكتشاف قدراتهم وتوظيفها.
• مجلة "نيوزويك" الأمريكية: المسلمون الأمريكيون بدأوا يكوّنون قوة انتخابية واقتصادية كبيرة يجب أن تؤخذ في الحسبان.
• دور المسلمين الفعال على الساحة الأمريكية مرتبط بوحدة الكلمة والهدف والعمل الجماعي بدلا من التشرذم والفرقة.
• نجاح المسلمين في استغلال الانتخابات الأمريكية والتأثير فيها سيفرض المجتمع المسلم على الخريطة السياسية الأمريكية.
• العرب في أمريكا مطالبون باستغلال قوتهم العددية في تشكيل هوية إسلامية أمريكية محلية وليست وافدة.
* * *
أصبح المسلمون اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية جزءا لا يتجزأ من المجتمع الأمريكي، وظهرت خلال السنوات الأخيرة بوادر اهتمام بإشراك المسلمين في الحياة السياسية، وذلك استجابة للوجود الإسلامي المقدر في هذه البلاد، والدور الذي يؤديه المسلمون على المستوى الاقتصادي والاجتماعي بتكوين "لوبي إسلامي" في مواجهة "اللوبي الصهيوني" ذي النفوذ الكبير على المستوى السياسي والاقتصادي والإعلامي.
فواقع المسلمين اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية وعلاقتهم بالمجتمع الأمريكي، التي تمتد على مدى عدة عقود ماضية تنبئ عن الدور الكبير الذي سيؤدونه على الساحة السياسية والاقتصادية في السنوات القادمة، بعد أن سجل لهم التاريخ المعاصر الكثير من المشاركات والإنجازات الملموسة في الحياة الأمريكية.(/1)
وعدد المسلمين في أمريكا اليوم يتراوح - وَفق التقديرات المختلفة - ما بين 6 و10 ملايين مسلم، وهناك إحصائية نشرها موقع الإسلام اليوم تؤكد أن عددهم 8 ملايين مسلم، ونسبتهم 5% من تعداد مواطني الولايات المتحدة، وتقول تقديرات أخرى إن عددهم وصل إلى 15 مليون نسمة نتيجة الإقبال المتزايد من الأمريكان على اعتناق الإسلام حيث إن 50 ألف أمريكي يدخلون في الإسلام سنويا، وأكثر من 60% من المسلمين مواطنون أمريكيون محليون عاش أجدادهم في أمريكا ما يزيد على قرنين من الزمان، وأغلبهم من أصول إفريقية وأوروبية، وتاريخهم كأمريكيين يسبق هجرة اليهود الكبيرة إلى أمريكا في أوائل 1955م. ويوجد حاليا في أمريكا حوالي 3000 مسجد، وأكثر من 300 مدرسة، ويشارك 15 ألف مسلم في الجيش الأمريكي.
* بوادر الاهتمام:
وهناك مجموعة من الدلائل التي تشير إلى الاهتمام الرسمي بالوجود الإسلامي في أمريكا، وبعضها ظهر بصورة واضحة بعد تفجيرات أمريكا عام 2001م، ومن هذه الدلائل ما يلي:
1- حرص الرئيس الأمريكي على تهنئة المسلمين الأمريكيين والدول الإسلامية بمناسبة حلول شهر رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى المبارك.
2- قيام الرئيس الأمريكي بوش - تعبيرا عن الأهمية التي يمثلها الوجود الإسلامي في الولايات المتحدة - بزيارته للمركز الإسلامي في واشنطن عقب تفجيرات سبتمبر 2001م التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية، وما ترتب عليها من انفعالات غضبية وعنصرية سريعة ضد المسلمين هناك، حيث أمضى ساعتين في الحديث مع المسلمين في المسجد، وعمل على إرضاء المسلمين بعد ما تعرضوا له من مضايقات نتيجة لهذه الأحداث.
وقال بوش في حديثه للمسلمين ولوسائل الإعلام: إن المسلمين يجب أن يعاملوا باحترام وإن العقيدة الإسلامية لا علاقة لها بالإرهاب، وإن الشعب الأمريكي يجب أن يعامل المسلمين بالتقدير.(/2)
3- شجب مجلس النواب الأمريكي بالإجماع العنفَ ضد الأمريكيين العرب والأمريكيين المسلمين في أعقاب هجمات 2001م، وذلك تأكيدٌ لهذا الموقف الإيجابي الرسمي تجاه المسلمين في أمريكا، حيث وافق على قرار يشجب أعمال العنف والتعصب ضد المسلمين والأمريكيين المنحدرين من أصل عربي أو من جنوب آسيا.
4- تعيين مُفتٍ مسلم في الجيش الأمريكي منذ عدة سنوات؛ استجابة لاحتياجات المسلمين، حيث يشارك 15 ألف مسلم في الجيش الأمريكي. وهذه المشاركة بدأت منذ الحرب الأهلية الأميركية، قبل أكثر من مائة عام وإلى يومنا هذا، حيث يشارك المسلمون في صفوف القوات المسلحة الأميركية، وقادة أمريكا اليوم يفتخرون بتعدد العقائد والأجناس في قواتهم المسلحة، ولا يفوِّت الرئيس الأميركي مناسبة ملائمة إلا ويتباهى بمثل هذا التعدد.
5- تزايد إقبال الطلبة الأمريكيين على دراسة الإسلام واللغة العربية والشرق الأوسط، بعد أحداث نيويورك المروعة، وذلك في الجامعات الأمريكية المختلفة، كما زار آلاف الأمريكيين المساجدَ لتعرُّف الإسلام، وعبر كثير من الأمريكيين عن تعاطفهم وتضامنهم مع المسلمين في أمريكا الذين تعرضوا لمضايقات.
* تاريخ الإسلام:
وتاريخ الإسلام في الولايات المتحدة الأمريكية قديم قِدَمَ قيام هذه الدولة، إذ ثبت تاريخيا أن البحارة المسلمين ساعدوا في اكتشاف هذه القارة قبل "كريستوفر كولومبس"، بل إن اكتشاف "كولمبس" لأمريكا كان بمساعدة بعض بحارته المسلمين، والوثائق تؤكد أن المسلمين قد دخلوا أمريكا منذ عام 1300م، حيث تشير الدلائل إلى اتباع بعض قبائل العالم الجديد الأصلية لعادات إسلامية كدليل على وصول المسلمين إلى أمريكا قبل كريستوفر كولمبس، ويؤكدون على وجود الكثير من المسلمين بين الأفارقة الذي أُحضِروا إلى أمريكا في موجات تجارة العبيد الشائنة.(/3)
أما أفواج القبائل العربية فقد بدأت بالوصول إلى هذه البلاد منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، والمؤتمر الأمريكي الأول للأديان والذي عقد عام 1893م قد حضره شخص مسلم واحد هو محمد ألكسندر، في حين حضر المؤتمر الثاني الذي عقد في عام 1993م 500 ممثل للجالية الإسلامية في أمريكا.
وهجرة المسلمين إلي أمريكا بدأت من غرب إفريقيا في وقت مبكر، وفي أوائل القرن العشرين بدأ عدد من الأفارقة والزنوج المقيمين في أمريكا اعتناقَ الإسلام، ثم نشطت الهجرة إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية من بعض بلدان العالم العربي مثل فلسطين وسوريا ولبنان وغيرها من الدول العربية والإسلامية، وبدأ استقرار المسلمين هناك، وتميزهم في جماعة مستقلة داخل المجتمع الأمريكي مع ستينيات القرن العشرين، فقد ساعدت قوانين الهجرة الأمريكية الجديدة، وموجات الطلاب المسلمين القادمين للدراسة بالغرب، وثورة الحقوق المدنية الأمريكية، وتوجه الأقلية الإفريقية الأمريكية نحو الإسلام، في زيادة عدد المسلمين في أمريكا ازديادا ملحوظا منذ أواخر الستينيات.
* بناء المؤسسات الإسلامية:
ومنذ منتصف السبعينيات شرع مسلمو أمريكا بقوة في بناء مؤسساتهم الأساسية والضرورية، مثل المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية والمنظمات الاجتماعية ثم المدارس الإسلامية، إذ تشير "دراسة المساجد في أمريكا" التي أصدرها مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) منذ سنوات إلى أن 2% من المساجد الأمريكية أُسِّست قبل عام 1950، ومنذ عام 1970 أُسِّسَ 87% من المساجد الموجودة حاليا، بينما باقي المساجد بعد عام 1980م.
وفي أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، بدأ مسلمو أمريكا مرحلة تأسيس مؤسساتهم السياسية والإعلامية، إذ تأسست المؤسسات السياسية المسلمة الأمريكية الأربعة الكبرى وهي:
1- مجلس الشئون العامة الإسلامية (MPCA) الذي تأسس في عام 1988م.(/4)
2- المجلس الإسلامي الأمريكي (AMC) الذي تأسس في عام 1990م.
3- مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (CAIR) الذي تأسس في عام 1994م.
4- التحالف الإسلامي الأمريكي (AMA) الذي تأسس في عام 1994م.
وفي عام 2000م، أَسَّست تلك المؤسسات مجتمِعةً المجلسَ الإسلامي الأمريكي للتنسيق السياسي (AMPCC) ؛ لكي يقوم بمهمة التنسيق بين نشاطات المؤسسات الأربع السياسية.
وكما يؤكد الباحث علاء بيومي في دراسة حول مستقبل المسلمين في أمريكا نشرتها شبكة الإسلام على الإنترنت، فإن تأسيس تلك المؤسسات جاء تعبيراً عن الحضور المتزايد للمسلمين الأمريكيين، سواء على مستوى عددهم، أو على مستوى إمكاناتهم التعليمية والاقتصادية والعمرية، كما جاء تأسيس هذه المؤسسات إيذانا ببدء مرحلة جديدة من مراحل وجود المسلمين في أمريكا، مرحلة تتخطى الاستجابة للحاجات الدينية والاجتماعية الأساسية، مثل المساجد والمدارس والمؤسسات الاجتماعية والثقافية، إلى بناء القوة السياسية والإعلامية للمسلمين الأمريكيين، والتحرك الدؤوب لتنفيذ برنامج عمل مشترك وواضح يقوم على أربعةِ محاورَ رئيسةٍ، وهي:
1 - مكافحة محاولات تشويه صورة الإسلام والمسلمين بالإعلام الغربي، واستبدال الصورة الإيجابية بالأخرى السلبية.
2 - زيادة وعي المسلمين الأمريكيين بحقوقهم المدينة، وبخاصة حقهم في ممارسة دينهم بمختلف المؤسسات العامة الأمريكية، والدفاع عن تلك الحقوق من خلال جهد منظم وعملي.
3 - تشجيع المسلمين الأمريكيين على المشاركة في الحياة السياسية الأمريكية، واستخدام حقوقهم المكفولة دستوريا، وبخاصة حقوق التصويت وحرية الرأي والتعبير وحرية التنظيم السياسي والترشيح لتولي المناصب السياسية.(/5)
4 - العمل على التأثير في السياسة الخارجية الأمريكية لتطوير الموقف الأمريكي من قضايا المسلمين الهامة، وعلى رأسها: قضية فلسطين، وقضية كشمير، وقضايا الأقليات المسلمة المظلومة في بلدان كيوغسلافيا السابقة وروسيا.
وكل هذا يعني أن المسلمين الأمريكيين قد دخلوا مرحلة جديدة من مراحل تطور علاقتهم بغيرهم من الجماعات الأمريكية، تتخطى مرحلة النشأة إلى مرحلة الاستقرار والحفاظ على الحقوق، ويتمثل أبرز عنصر في السعي لزيادة التأثير السياسي، وأنه بات عليهم بناء تحالفاتهم مع الجماعات القريبة منهم، والمرحبة بوجودهم، والمساندة لتقدمهم، وذلك لمواجهة من يحاولون إيقاف ذلك التقدم، أو القضاء عليهم كجماعة أمريكية صاعدة سياسيا.
* ازدياد القوة العددية:
وهذه الإنجازات التي حققها المسلمون على الساحة الأمريكية، تبرز قوتهم وفعاليتهم، ولقد أكدت تقارير إعلامية أمريكية وبريطانية أن عدد المسلمين في الولايات المتحدة سيزيد على عدد اليهود خلال أعوام قليلة، وهذا تحول من شأنه أن يؤثر على السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية.
وذكرت صحيفة "إندبندنت" البريطانية أنه مع حلول العام 2010م، فإن تنامي نسبة المسلمين في عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية والتي زادت من 0.4 % إلى 1.4 % سيؤدي إلى زيادة عددهم عن عدد اليهود الأمريكيين، فاليهود الذين كانوا يكوّنون نسبة 3.3 % من مجموع سكان الولايات المتحدة في منتصف السبعينات سينحدرون إلى نسبة 2 % خلال ثلاثة أعوام.
وأضافت الإندبندنت أنه مع حلول عام 2010م فإن نسبة المسلمين ستشهد ازديادا مضطردا يفوق عدد اليهود، موضحة أن الإحصاءات التي تقدمها المؤسسات اليهودية والإسلامية في الولايات المتحدة تشير إلى أن نقطة التقارب العددي قد حدثت فعلا، حيث تقول كل جالية إن عدد أفرادها ستة ملايين نسمة.(/6)
وبرغم أن دائرة الإحصاءات الأمريكية لا تدرج الدين ضمن إحصاءاتها، إلا أن المسئولين الأمريكيين بدأوا يدركون التغيرات الديمغرافية في أوساط الأقليات الدينية والعرقية.
ونقلت الصحيفة عن إحدى المشرفات في دائرة الإحصاءات الأمريكية قولها: "إن على العرب في أمريكا أن يدركوا ضرورة استغلال قوتهم العددية من خلال عملهم على تشكيل هوية إسلامية أمريكية محلية وليست وافدة، وذلك خلال المشاركة بالتعداد السكاني.
وقالت مجلة "نيوزويك" الأمريكية: إن المسلمين الأمريكيين بدأوا يمثلون قوة انتخابية واقتصادية كبيرة يجب أن تؤخذ في الحسبان، وتوقعت التقارير أن تعملَ الاختلافاتُ السياسية في أوساط اليهود، وانحدارُ قوتهم العددية أمام تزايد المسلمين على إضعافِ "اللوبي اليهودي" الذي طالما تباهى اليهود بقوته، واحتمال بروز لوبي إسلامي منافس.
* الحفاظ على الهوية الإسلامية:
وعلى المستوى الدعوى يقوم المجتمع المسلم في الولايات المتحدة بجهود كبيرة من أجل نشر الوعي الإسلامي والحفاظ على الهوية الإسلامية، فالمؤسسات الإسلامية - مثل المساجد والمدارس الإسلامية بالإضافة إلى المعاهد والمراكز الدعوية - ليست بخافية على أحد، ويكفي أن نشير إلى عدد تلك المؤسسات الموجودة حالياً على الأراضي الأمريكية الذي وصل إلى ما يقرب من ألفي مركز، أما عدد المدارس الإسلامية فيقدر بالمئات، هذا بالإضافة إلى المؤسسات الإسلامية التي تؤدي دورا كبيرا لوضع المسلمين في دائرة الضوء داخل المجتمع الأمريكي، وإبرازهم كمواطنين أمريكيين لهم ثقافة متميزة لابد من احترامها.(/7)
وكما يؤكد نهاد عوض، المدير العام لمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) وعضو مجلس الحقوق المدنية الاستشاري التابع للبيت الأبيض، فإن المسلمين والعرب في أمريكا وخارجها في حاجة إلى الثقة في أنفسهم وإلى إعادة استكشاف قدراتهم وتوظيفها، فطبيعة الحياة في أمريكا تتيح لأي فئةٍ فرصةً كافية للتطور والتغيير.
كما أن هناك نظامَ حياة ديمقراطيا يمكِّن الأقليات من استرداد حقوقها وتغيير القوانين واستصدار قوانين جديدة تستجيب لحاجة الأقليات فقط، من خلال الجهد المتواصل والنضال السياسي، وبناء تحالفات مع الآخرين.
ويتحدث نهاد عوض عن جهود مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) في هذا الصدد بعد أحداث سبتمبر 2001م، فيؤكد أن المنظمات المسلمة الأمريكية نشطت منذ أحداث سبتمبر 2001م في العمل مع عدد متزايد من المنظمات المدنية الأمريكية، التي اهتمت بالدفاع عن قضايا مسلمي أمريكا، في ظل الضغوط الكبيرة التي تعرضوا لها بعد أحداث سبتمبر، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أربعة تحالفات أساسية دخلها مسلمو أمريكا بقوة خلال العامين الماضيين:
1- التحالف الأول، قرَّب بين مسلمي أمريكا وعدد من أكبر جماعات الحقوق والحريات المدينة، مثل اتحاد الحريات المدنية واتحاد المحامين الوطني واتحاد محامي الهجرة الأمريكيين، التي انتَقَدَت ما تعرض له حقوق وحريات مسلمي وعرب أمريكا خلال العامين الماضيين.
2- التحالف الثاني، قرَّب بين مسلمي أمريكا وعدد كبير من جماعات السلام ومناهضة الحروب الأمريكية خاصة خلال مدة الحرب على العراق.(/8)
3- التحالف الثالث، قرَّب بين مسلمي أمريكا والجماعات المدافعة عن حقوق الأقليات في أمريكا، كالأفارقة واليابانيين والسيخ الأمريكيين، التي توحدت شعوريا مع مسلمي وعرب أمريكا خلال المدة التالية لأحداث سبتمبر رافضين ما تعرضت له حقوق وحريات المسلمين والعرب من انتهاكات ذكَّرتهم بمعاناتهم خلال أوقات تاريخية أخرى كمعاناة اليابانيين الأمريكيين خلال الحرب العالمية الثانية.
4- التحالف الأخير، قرَّب بين مسلمي وعرب أمريكا وبعض الجماعات الدينية، مثل مجلس الكنائس الوطني، والكثير من الجماعات المعنية بالتقريب بين أبناء الأديان المختلفة، والتي نشطت في التواصل مع مسلمي وعرب أمريكا وفتح قنوات للحوار معهم.
ويشير الدكتور أحمد دويدار - رئيس المركز الإسلامي بمنهاتن - إلى أن مسلمي أمريكا يؤمنون بضرورة العمل الإسلامي والاجتهاد فيه على الساحة الامريكية، وبرغم أن هذا العمل يكاد يكون بجهود فردية، إلا أنه أظهر نوابغ إسلامية نبغت في فروع العلم، وبعض مناحي الحياة، واستطاعت أن تحدث أثرا للإسلام في أمريكا، سواء للمسلمين وغير المسلمين، أفضل من عشرات الخطب.
ولكن - كما يقول دويدار - تكمن الخطورة في سلوكيات بعض المنتمين للإسلام، التي قد تمنع قيام مسلمي أمريكا بالعبادات، ووجودهم كمواطنين أمريكيين لهم الحقوق نفسها مع غير المسلمين.
ويوضح أهمية انضباط سلوكيات المسلمين في أمريكا، فلِحُسْن أخلاقهم، وعدم تطرفهم، واحترامهم لتقاليد المجتمع الأمريكي مفعولُ السحر على احترام أمريكا لهم ولدينهم. ومن الأهمية إخراج عناصر ناجحة من الأجيال الإسلامية داخل أمريكا في مختلف المجالات، فلا بد أن يظهر الطبيب والإعلامي والمهندس المسلم الناجح داخل المجتمع الأمريكي، لتأمين مستقبل للوجود الإسلامي في أمريكا وأوروبا.(/9)
ويلخِّص الدكتور صفي الدين حامد في كتاب "الإسلام في أمريكا" الصادر مؤخرا، التحدياتِ التي تواجهها الحركة الإسلامية في الولايات المتحدة في التالي:
- عجز بعض المجموعات الإسلامية عن إقامة علاقات مودة مع مختلف عناصر المجتمع الأمريكي.
- التردد في الاجتهاد بين علماء المهجر مما أدى إلى تعليق أكثر القضايا الفكرية والاجتماعية.
- الخلل في ترتيب أولويات العمل الإسلامي، مما أدى إلى حصر الدعوة وتقييد انطلاقها وتبديد الجهود في أمور ثانوية.
- التشتت الغريب والشرذمة الحادة بين المجموعات الإسلامية المختلفة.
- غياب مشاركة النساء بطريقة ملموسة في نشاطات الحركة.
- تعثر الكثير من المنظمات في تطوير وتنفيذ انتخابات تعكس مفهوم الشورى.
- اتساع الفجوة الفكرية بين الحضارات المختلفة.
* توحيد الموقف السياسي:
وأما في محيط السياسة الأمريكية فإن حجم تأثير المسلمين الأمريكان على السياسة الأمريكية – بوجه عام – لا يرقى إلى المستوى المطلوب، ولا يتواكب مع عددهم ولا مع إمكاناتهم، فبالرغم من النمو المتزايد للمنظمات الإسلامية التي تعمل على توعية وإعداد المسلمين سياسياً، إلا أنها لم تنجح حتى الآن في قطف ثمار أية مكاسب أو انتصارات سياسية، والسبب في ذلك يَكْمُن أولاً في البيئة السياسية الأمريكية التي تتسم بالصلابة الشديدة.. تلك الصلابة التي تفرض حواجز عالية ومعوقات مفرطة في وجه كل من يريد أو يحاول حتى اختراقها.(/10)
كما أن مسلمي الولايات المتحدة متحدون على ما يخص الأمور الدينية، ولكنهم متفرقون في كل ما يخص الأمور السياسية. ومهمة تحقيق وحدة سياسية في المناخ الأمريكي المسلم ليست بالشيء الهين أو اليسير، فالمصالح متنوعة وكثيرة ومتعددة، مما يؤدي بها في بعض الأوقات إلى التنافس والتناحر، ولذا فإنه من الصعب جداً أن يجتمع كل مسلمي الولايات المتحدة على أهداف سياسية واحدة. ولن يتحقق ذلك إلا إذا التف المسلمون في الولايات المتحدة حول هوية واحدة، ووضعوا أنفسهم في إطار واحد ينتمون إليه، وهو أنهم جميعاً أمريكيون مسلمون.
وإذا أراد مسلمو أمريكا أن يكون لهم موقف سياسي موحد، فيجب عليهم أن ينتموا إلى الهوية الأمريكية المسلمة، أما إذا استمروا في التمييز بين بعضهم على حسب جذورهم الأصلية، فيقال مثلاً هذا "عربي أمريكي"، وذاك "إفريقي أمريكي" وغير ذلك، فسينتهي بهم الأمر إلى السعي وراء مصالح مختلفة وسيبقى المجتمع منقسماً على نفسه.
ويبقى الأمل موجوداً في الزعماء المسلمين بالولايات المتحدة الذين يمكنهم أن يُكَثِّفوا جهودهم، لكي يجتمعوا على هدف واحد – على الأقل - وهو: الأخذ بيد المجتمع الأمريكي المسلم نحو الوحدة والتضامن والقوة.
* المسلمون والانتخابات الأمريكية:
وفي هذا الإطار يحدد "ريتشارد كوريتس" رئيس تحرير "واشنطن ريبورت" الخيارات الممكنة التي يستطيع المسلمون - وكذلك العرب الأمريكيون - أن يتخذوها ليؤثروا في الانتخابات الأمريكية كما يؤثر فيها اليهود، وهي:(/11)
1- تصفية الأجواء مع الإدارة الأمريكية: فالتحدي الذي يواجه المجتمع الأمريكي المسلم وكذلك العرب المسيحيين إنما يكمن في أمرين، أولاً: إيجاد ما يوازن أو يعادل تلك الجماعة اليهودية الضاغطة، وثانياً: إطلاق سراح صُناع السياسة الأمريكية لكي يسعوا وراء المصالح القومية الأمريكية التي تنادي بالاستقرار في العلاقات الدولية، والتي تنادي كذلك بإنشاء علاقات إيجابية وودية مع جميع الدولة الإسلامية.
2- عدم مُهاجمة اللوبي اليهودي: فبعض المسلمين المقيمين في أمريكا يرون أنه - في سبيل تيسير الاندماج في الحياة الأمريكية بالصورة التي تحفظ هويتهم كمسلمين وفي نفس الوقت لا تفقدهم تواصلهم مع أصحابهم وجيرانهم الأمريكيين - لا ينبغي على الإطلاق مهاجمة اللوبي اليهودي، إذ إن مهاجمة ذلك اللوبي - كما يعتقدون- هي آخر خطوة يُمكن أن يلتجئوا إليها.
ويرى اللوبي اليهودي (لوبي إسرائيل) في وجود المسلمين الأمريكيين خطورة جسيمة على موقف إسرائيل تُِجاه السياسة الخارجية الأمريكية، بمعنى آخر إن هؤلاء المسلمين يمكن أن يخففوا من السيطرة أو القبضة الإسرائيلية على السياسة الخارجية الأمريكية الأمر الذي يثير خوف اللوبي اليهودي.
وأكثر ما يخيف اللوبي اليهودي هو ازدياد أعداد المسلمين في أمريكا وتناميها بصورة مفزعة سواء من خلال الهجرة أو من خلال الحالات المتزايدة في اعتناق الإسلام، أو من خلال نسبة المواليد المستمرة، والتي تُعد من أعظم الأخطار التي تهدد سيطرة أو هيمنة إسرائيل على تسيير السياسة الخارجية.(/12)
3- تنسيق الجهود بين المنظمات الإسلامية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فمن الخطوات التي اتخذها المسلمون في الولايات المتحدة: تنسيق الجهود فيما يبن المجلس الأمريكي المسلم للتنسيق السياسي، وبين مجلس رؤساء المنظمات العربية الأمريكية، هاتان المنظمتان تعدان من أكبر المنظمات التي تضم جماعات الممارسة السياسية داخل المجتمعين: المسلم والأمريكي، وتعمل هاتان المنظمتان مع أعضاء الكونجرس على إلغاء قانون التحريات السري الذي كان قد تم إقراره في عام 1996م لمقاومة "الإرهاب".
ويوجد بعض المسلمين الناشطين حزبياً، سواء أكانوا جمهوريين أم ديمقراطيين، وهؤلاء يعملون بجد ونشاط داخل أحزابهم الخاصة ليحدثوا تغييرات داخلية في البرنامج السياسي للحزب لجذب صوت المسلمين ومشاركتهم الفعالة في أي انتخابات أمريكية.
وإذا أظهر المسئولون والرواد المسلمون في الولايات المتحدة مقدرتهم واستطاعتهم على تحويل كل أعضاء المجتمع المسلم إلى صناديق الاقتراع في أي انتخابات أمريكية قادمة، وإذا أظهروا أنهم قادرون على توحيد صفوفهم بالقدر الكافي للاتفاق على تفويض مرشح بعينه للرياسة لكونه أكثر استعداداً وتهيئا - طبقاً للمعايير الإسلامية - من غيره، إذا أظهروا كل ذلك فسيقدرون بدون شك على فرض المجتمع المسلم على الخريطة السياسية الأمريكية، وسيفرضونه بطريقة يتعذر إزالتها، ومن ثم سيتخذون خطوة إيجابية تجاه معادلة اللوبي اليهودي الذي يرغب دائماً في إبقاء المسلمين والعرب الأمريكيين على الهامش.
وأفضل طريق للمسلمين الأمريكيين - الذين يرغبون في المشاركة السياسية، هو الانضمام على الأقل إلى إحدى الجماعات الوطنية الأربع التي تكوّن المجلس الأمريكي المسلم للتنسيق السياسي، وهذه الجماعات هي: الاتحاد الأمريكي المسلم (AMA )، والمجلس الأمريكي المسلم، ومجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، وأخيراً مجلس الشئون الإسلامية العامة.
* تعزيز دور المسلمين:(/13)
وهناك عدة ضوابط ومقترحات لتصحيح مسار الوجود الاسلامي في أمريكا، ومواجهة التحديات، أهمها: تعزيز الدور الإسلامي على الساحة الأمريكية، ولتحقيق ذلك يعكف مجموعة من العلماء والأكاديميين المسلمين في أمريكا منذ مدة على دراسة مشروع لتعزيز إسهامات المجتمع المسلم في الحياة العامة بالولايات المتحدة الأمريكية، ويشارك في هذا المشروع عدد من العلماء البارزين في أمريكا وفي المجتمع المسلم؛ من بينهم: بروفيسور جون إسبوزيتو - مدير مركز التفاهم الإسلامي/ المسيحي - الذي يعمل منسقاً عاماً للمشروع، والبروفيسور سليمان ينابخ، والبروفيسور زاهن بورهاري، وهما الباحثان الأساسيان بالمشروع.
وقد عقّب د. بورهاري على فكرة هذا المشروع الطموح وأسبابه قائلاً: إن المجتمع الأمريكي المسلم يمرّ بمرحلة انتقالية من الانغلاق والتردّد إلى المشاركة والفعالية، وهنا جاءت فكرة إسهام المسلمين في الحياة العامة.
ومن أهم أهداف هذا المشروع - كما ذكرت شبكة الإسلام على الإنترنت -:
1- بحث وجمع معلومات عن مشاركة وإسهامات المجتمع المسلم في الحياة الأمريكية المدنية.
2- إنتاج قائمة إرشادية للمنظمات الإسلامية والمراكز والمساجد وطبعها ووضعها على موقع المشروع على شبكة الإنترنت.
3- عمل استطلاع عن رواد مجتمع المركز الإسلامي، وعن تجمعات المسلمين وتنسيق ندوات إقليمية.
4- الاستفادة بخبرات المسلمين المتخصصين الراغبين في المشاركة في هذا العمل.
* مستقبل الوجود الإسلامي:(/14)
ويبقى في النهاية التأكيد على أن مستقبل الوجود الإسلامي في أمريكا يتطلب الحفاظ على الهُوية الإسلامية، وتنشيط العمل الدعوى من خلال مضاعفة جهد المنظمات العاملة في حقل الدعوة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي تروج لها الجهاتُ المعادية للإسلام في المجتمع الأمريكي، وربط قضاياهم بعالمهم الإسلامي باعتبارهم جزءا منه، والقيام بدور مؤثر على الساحة السياسية الأمريكية للتأثير في القرارات الأمريكية المرتبطة بقضايا المسلمين، فمن المعروف أن جماعات الضغط "اللوبي" تؤدي دورا حاسما في صناعة القرار الأمريكي، والمسلمون اليوم بما لهم من قوة فاعلة علي المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الأمريكي من الممكن لهم تشكيل "لوبي إسلامي" يؤثر على القرار الأمريكي.
* المراجع:
1- مستقبل المسلمين في أمريكا بعد الأزمة - علاء بيومي – شبكة الإسلام على الإنترنت – 10 نوفمبر 2001م.
2- المسلمون الأمريكان نجاح فى الدعوة وفشل فى السياسة - دراسة لـ مقتدر خان - ترجمة وتحرير. شيرين فهمي.
3- مسلمو أميركا وحقوقهم المدنية – شبكة الإسلام على الإنترنت – 15 سبتمبر 2003م
4- كتاب الإسلام في أمريكا - موقع مفكرة الإسلام – 16مايو 2007م.
5- هل يستطيع العرب والمسلمون إحداث نُقطة تحول في أمريكا ؟ - ريتشارد كوريتس - واشنطون ريبورت - عدد سبتمبر 1999 - ترجمة: شيرين فهمي - شبكة الإسلام على الإنترنت - 10 يونية 2000م.
6- الحقيقة وراء الحملة ضد الإسلام في أمريكا - تأليف: د. أحمد يوسف وكارلين كيبل - مراجعة: د. روبرت كرين
7- مجلة المجتمع - العدد 1394- 5 محرم 1421هـ - الموافق 4 إبريل 2000م.
8- رابطة الإيمان.. "وتد" مسلمي أمريكا - صبحي مجاهد - وسام كمال – شبكة الإسلام على الإنترنت – 30 يناير 2006م.(/15)
العنوان: المشورة
رقم المقالة: 738
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي فتح لعباده طريق الفلاح وأرشدهم إلى ما فيه الخير والبر والتقى والصلاح، وأمرهم بالاجتماع على الحق وجعل أمرهم شورى بينهم ليتحقق لهم الفوز والنجاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فالق الحب والنوى وفالق الإصباح، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي بددت رسالته ظلمات الجهل والظلم كما بدد ظلام الليل نور الصباح صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما أشرق الفجر ولاح وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واستقيموا على أوامره وطبقوها في أموركم العامة والخاصة إن كنتم تريدون السعادة في الدنيا والآخرة، واعلموا أن من خصال المؤمنين وطريق المتقين وسبيل الذين يريدون الوصول إلى الغايات والأهداف النافعة أن يتبادلوا النصح فيما بينهم، وأن يتشاوروا في الأمور التي تهمهم. ولا بد للتشاور في الأمور من شروط يتعين تحقيقها قبل إجراء المشاورة، لا بد أن يكون التشاور مع إنسان مخلص يشعر لشعورك ويتألم لآلامك ويسر بسرورك، وإلا فلا خير لك في مشاورته لأنه العدو الخفي، ولا بد أن يكون التشاور مع إنسان عارف بالأمور بمصادرها ومواردها، فمشاورة الجاهل جهل وحمق لأن الجاهل وإن كان حسن النية إلا أن جهله وعدم معرفته بالأمور قد يوقع في المحذور، والناس من هذه الناحية يختلفون بحسب معرفتهم، فأهل العلم والدين نستشيرهم في الأمور الدينية، وأهل البيع والسلع نستشيرهم في أمور البيع والشراء، وكل إنسان نستشيره فيما يكون من اختصاصه، وربما يكون للشخص اختصاص ومعرفة في عدة أمور فنستشيره فيها، ولا بد أن يكون التشاور مع إنسان ذي دين وتقوى لله عز وجل لأن صاحب الدين لا ينالك منه غش، فإن المؤمن المتقي يعلم أنه لا يظهر كلمة من فمه إلا حوسب عليها يوم القيامة، فتجده يحاسب نفسه قبل أن يقدم على إخراج الكلمة كما أنه يحاسب نفسه عند الأفعال فلا يدخل في فعل إلا وقد حاسب نفسه كيف يدخل وكيف يخرج، فإذا اجتمع الإيمان والمعرفة في شخص فناهيك به أهلا للمشورة. فعلى الإنسان أن يختار للمشورة أهل الإيمان والمعرفة والنصح، وعلى الإنسان الذي أدلى إليه أخوه بمشورة أن يشير عليه بما يعتقده أصلح له في دينه ودنياه، وأن لا يحابي في مشورته وينظر إلى هواه، فإن بعض الناس إذا استشاره أخوه في أمر من الأمور ورأى هواه وميله إلى جهة حاباه في ذلك وأشار عليه بها مع أن غيرها أصلح منها، وهذا خطأ فاحش وغش لمستشيرك، فالواجب عليك أن تشير(/2)
عليه بما هو أصلح فإن أشكل عليك فأخبره بأنك متوقف في ذلك، ولتكن مشورتك عن درس للأمور وبصيرة فيها بحيث لا تقدم عليها إلا بعد التروي والبحث من جميع النواحي، خصوصاً في الأمور الهامة والأمور العامة فإن المسؤولية فيها تكون أعظم وأكبر فتتطلب التروي والدرس أكثر وأكثر، ومن أكبر العون على ذلك أن يناقش الرأي إذا طرح من جميع جوانبه وتورد عليه الإيرادات والأسئلة التي يمكن أن توجه إليه، فإن سلم منها وتخلص فقد تبين أنه رأي سديد، وإن لم يتخلص مما يورد عليه فليطلب رأي آخر أسد منه. فمتي استعان الإنسان بالله وسلك السبل التي توصل إلى الحق قاصدا بذلك الحق هداه الله إليه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:36-38] اللهم اجعلنا من هؤلاء السادة المفلحين ووفقنا لما فيه صلاحنا وصلاح أمتنا في أمر الدنيا والدين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل اللهم على عبدك ونبيك محمد وآله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.(/3)
العنوان: المصارعةُ خارج الحَلْبة بين (سوريا) و(إسرائيل)
رقم المقالة: 1500
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
حَدَثٌ وَقَعَ كالصاعقة في سوريا، وجد أصداءً له في عدة دول عربية وعالمية.. حَدَثٌ لم يكن في الحسبان، أخرج الكثيرَ من الأسرار والخبايا المدفونة في رمال السياسة الصهيونية والعربية.. دون أن يتوقف عند حد معين حتى الآن.
فمعَ انقضاءِ أكثرَ من نصف شهر على قيام الطائرات الإسرائيلية بالإغارة على موقع عسكري سوري قرب مدينة (دير الزور)، إلا أن الأنباء والخلفيات الخاصة بالحدث لا تزال تتوالى، دون أن يتضح الحدُّ الذي ستقف عنده هذه التداعياتُ.
الحادثةُ -التي تذكرنا بالغارة الإسرائيلية على المفاعلات النووية العراقية قبل عدة سنوات- حدثت مساء السادس من سبتمبر، في منطقة (التبني) قرب مدينة (دير الزور)، الواقعة شمال شرق سوريا. على بعد نحو (500 كيلومتر) من العاصمة دمشق، وهي منطقة عسكرية محظورة، تفرض حولها السلطات السورية سرية كبيرة.
رواياتٌ متضاربة:
لم تشأ السلطاتُ الإسرائيلية في البداية الاعترافَ بالغارة، إلى أن أعلن بنيامين نتنياهو (زعيم المعارضة) عن علمه بالضربة في وقت سابق، مؤكداً أنه اطلع من خلال إيهود أولمرت (رئيس الوزراء الإسرائيلي) عليها، وأنه وافق من فوره، مبدياً حماسة كبيرة حولها، وكان نتنياهو أولَ زعيم إسرائيلي يعترفُ بالضربة.
أما سوريا، فقد أعلنت قبل ذلك عن حدوث هذه الضربة، مؤكدةً أن الدفاع الجوي السوري، التقط إشاراتٍ بوجود طائراتٍ معادية، فأطلق صواريخَه باتجاه طائرات (F-15) الإسرائيلية، وأرغمها على الفرار، بعد أن أسقطت خزاناتِ الوقود الإضافية التي تحملُها قربَ الحدود السورية التركية.(/1)
من الناحية النظرية، تحتاجُ الطائراتُ المقاتلة إلى وقود كافٍ يسمح لها بالتحليق لمسافات كبيرة جداً، كتلك التي تحتاجها للوصول إلى عمق الأراضي السورية لأكثر من (600 كيلومتر)، ذهاباً، ثم عودة. وهي مشكلة يمكن حلُّها بوجود طائرات وقود، تزود الطائرات المقاتلة بالوقود في الجو. إلا أن غارة سرية كهذه كانت ستكون مفضوحة تماماً بوجود طائرة نقل كبيرة. لذلك فإن سلاح الجو الإسرائيلي لجأ إلى الطريقة نفسِها التي أمّن من خلالها الوقودَ للطائرات التي قصفت المفاعلاتِ النووية العراقية عام 1981، عبر تزويد الطائرة بخزانات وقود إضافية. الأمر الذي أوجد حلاً لمشكلة الوقود، في ذات الوقت الذي أوجد فيه مشكلة أخرى، وهي بطء الطائرة!
وتشير التصريحاتُ السورية، إلى أن الدفاعاتِ الجوية التي تصدت للطائرات الإسرائيلية، أجبرتها على إلقاء خزانات الوقود الإضافية، لضمان السرعة، خوفاً من الصواريخ السورية، أو من الطائرات التي كان يمكن أن تتصدى لها.
إلا أن الإسرائيليين لديهم روايةٌ أخرى، مفادها أن المراقبةَ المستمرة، والعملياتِ الاستخبارتية، أكدت لتل أبيب وجودَ موادَّ وتجهيزاتٍ نووية، حصلت عليها من كوريا الشمالية، التي لا تزال المفاوضاتُ بينها وبين الولايات المتحدة جاريةً حول إنهاء برنامجها النووي.
ومع أن وكالة الطاقة الذرية أكدت أن ليس لديها أي معلومات حول وجود أي مفاعلات أو تجهيزات نووية في سوريا، إلا أن تل أبيب ذهبت إلى أبعد حد في هذه الرواية، عبر معلومات نشرت لأول مرة من قبل صحيفة بريطانية!(/2)
الرواية الإسرائيلية تقول: إن الإسرائيليين كانت لديهم معلوماتٌ شبه مؤكدة في وجود شحنة من المعدات النووية، وصلت إلى سوريا بَرًّا من كوريا الشمالية، على أنها شحنة (إسمنت)، وقد نقلت هذه المعدات إلى منطقة في العمق السوري. وتضيف الرواية -حسب تقرير مطوّل وحصري نشرته صحيفةُ (الصنداي تايمز) يوم الأحد 23 من سبتمبر- أنَّ الطائرات الإسرائيلية شنت غارة أرضية! على الموقع العسكري السوري، للحصول على عينات منه، قبل أن تشن غارتَها الجوية عليه.
وتقول الصحيفة -نقلاً عن مصادر وصفتها "بالموثوقة"- أن تل أبيب، أخبرت الرئيسَ الأمريكي (جورج بوش) بوجود موقع سوري يضمُّ معداتٍ وخبراءَ من كوريا الشمالية، وأنها بصدد توجيه ضربة عسكرية لها، إلا أن بوش طالب بعدم توجيه الضربة قبل الحصول من الموقع على دليل مادي مباشر. وتتابع الصحيفةُ بالقول: "إن أفراداً من الكوماندوس التابعين للقوات الخاصة في الجيش الإسرائيلي، يرتدون ثياباً عسكرية سورية على الأغلب، نُقِلوا في مروحية عسكرية قرب الموقع، وأنهم ظلوا يتحينون الفرصةَ لاقتحام الموقع، قبل أن يشنوا غارتهم على المنشأة العسكرية السورية".
وتشير الصحيفةُ إلى أن الوحدة الإسرائيلية، استطاعت الحصولَ على "مواد نووية والعودة بها إلى إسرائيل، حيث تم التحقق من طبيعتها النووية، ومن وجود بصمة كوريا الشمالية عليها"!
وتتابع بالقول: "إنه وبعد إطلاع الإدارة الأمريكية على هذا الدليل حصلت الخطةُ الإسرائيلية على الضوء الأخضر من واشنطن، فشنت الغارةَ الجوية التي دمرت الموقع تماما في السادس من سبتمبر... وذلك أدى إلى مقتل عدد من الأفراد، من بينهم خبراء كوريون".
اتهامات سابقة:
ومع أنَّ هذه الروايةَ صعبةُ التصديق إلى الحد الذي يجعل البعضَ يصفق لها في بعض الدول الغربية والعربية، إلا أن (تل أبيب) تبدو متمسكة بهذه الرواية، مع ما قد يثار حولها من تنديد بانتهاك سيادة دولة مستقلة.(/3)
الصحيفة التي كتبت تقريرَها الحصري عبر مراسليها في كل من تل أبيب وواشنطن ولندن، تشير إلى اللقاء الذي جمع أحدَ القياديين الحزبيين السوريين، مع ثاني أكبر شخصية سياسية في كوريا الشمالية، ذاكرةً أن هذا اللقاء يشير إلى أن البلدين يتدارسان الردَّ المناسب على الضربة الإسرائيلية.
في دمشق و(بيونغ يانغ)، يؤكد القادةُ السياسيون أن تعاوناً نووياً بين الدولتين ليس حقيقياً، وأنه تلفيق لتسويغ الغارة الإسرائيلية؛ فكوريا الشمالية تذكر أن الإعلان الذي أطلقه جون بولتون (السفير الأمريكي السابق في الأمم المتحدة) ليس أكثرَ من محاولة للثأر من الكوريين الشماليين، بسبب إخفاقه في حل مشكلة الملف النووي لها. وهو أمر يؤيدُه جشوا لانديس (الأستاذ في جامعة أوكلاهوما والخبير في الشؤون السورية) والذي قال لموقع (سيريا كومانت): "إن بولتون يمثل التيارَ الأمريكي الحانق على إخفاق الولايات المتحدة في إنهاء الملف النووي لكوريا الشمالية، ويريدون إفساد الاتفاق معها".
على أنّ قصةَ وجود معدات نووية من كوريا الشمالية في سوريا قصةٌ قديمة، بدأت عام 2004، عندما قال أندرو سيميل (المسؤول الرفيع في وزارة الخارجية الأمريكية): "إن سوريا قد حصلت على معداتٍ نووية من مُورّدين سريين"، مشيراً إلى أن كوريا الشمالية من بين تلك الدول المحتملة، وأكد في ادعاءٍ آخرَ لاحقٍ، أن العالم الباكستاني النووي (عبد القادر خان) يدير شبكة نووية سرية، أوصلت الغاز المركزي الباكستاني إلى كوريا الشمالية عبر سوريا. دون أن يقدّم وقتها أي أدلة حقيقية على هذه البيانات.
وخلال احتلال العراق، أعلنت الولاياتُ المتحدة أن الكثير من أنصار الرئيس العراقي السابق (صدام حسين) وأبناؤه فيهم، قد فروا إلى سوريا. إلا أن الأمريكيين اعتقلوا عدداً منهم، وقتلوا عددًا آخر داخل العراق.(/4)
وبعد ذلك بوقت قصير، أعلنت واشنطن أن المعدات النووية العراقية المفترَضة، والتي قدمت قوات الاحتلال الأمريكية من أجلها، قد هُرِّبت إلى سوريا، قبل أن ينكشف زيف وجود معدات نووية من الأصل. وقد رد ديفيد أولبرايت (أحد المفتشين السابقين في الأمم المتحدة لأسلحة العراق) وقتها بقوله: "إن الوكالة وجدت أن ادعاءات بولتون (السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة) على سوريا، غير مثبتة".
الرد السوري:
يأمُل السوريون أن يأتي الردُّ العسكري قوياً هذه المرة، خلافاً للمرات السابقة التي لم تشأ دمشق القيام به، لأسباب مجهولة حتى الآن. فالتحليقُ الجوي للطائرات الإسرائيلية حول القصر الرئاسي للرئيس بشار الأسد لا يزال عالقًا في أذهان البعض، وكذلك الغارة الجوية على مركز عسكري سابق قرب العاصمة دمشق قبل سنتين، التي قالت عنها تل أبيب: "إنها غارة على معسكر تدريبي لعناصر من الجهاد الإسلامي في سوريا"، وكذلك قصف الطائرات الإسرائيلية لمدفعية سوريا في لبنان قبل ذلك.
وقد أكدت سوريا مرة أخرى، أنها تحتفظ بحق الرد في الوقت والمكان المناسب، للغارة الجوية، في وقت طالبت فيه بثينة شعبان (وزيرة المغتربين السورية)، بتنديد دولي ضد الغارة.
ويبدو أن تل أبيب متخوفة هذه المرة من رد فعل سوري، لذلك فقد استنفر الطيران الإسرائيلي يوم الخميس 20 من سبتمبر، في مرتفعات الجولان الشمالية، بعد أن رصدت أجهزةُ الرادار الإسرائيلية أجساماً غريبة في الجو، ليتبين أنها "سرب من الطيور المهاجرة". وبعد ذلك بيومين كشف مصدرٌ عسكري إسرائيلي، عن إرسال عدة طائرات مقاتلة باتجاه سوريا، عقب اختفاء طائرة سورية من شاشات رادار سلاح الجو الإسرائيلي.
ونقلت شبكةُ الـ(CNN) الأمريكية عن المصدر الإسرائيلي قولَه: "إن المقاتلات الإسرائيلية عادت سريعاً إلى قواعدها العسكرية إثر اكتشاف أن الطائرة السورية تحطمت نتيجة حادث".(/5)
واكتفى الجيشُ الإسرائيلي بالتزام الصمت تجاه الحادثة، وكذلك فعلت دمشق!
وحسب صحيفة (الصنداي تايمز) البريطانية، فإن الإسرائيليين الذين كانوا يحتفلون السبت 21 من سبتمبر بعيد (الغفران) وضعوا الجيشَ في أقصى درجات الاستعداد بعد أن تعهدت سورية بالانتقام للغارة.
وتنقل الصحيفةُ عن خبير في المخابرات الإسرائيلية قوله: "لقد ردت سورية في الماضي على إهانات أقل كثيراً من تلك الأخيرة، لكنهم سيختارون المكان والزمان والهدف". ولا يزال الكثيرون ينتظرون هذا الرد، الذي قد يتأخر، أو لا يأتي أبداً.
البحث عن السلام بين النيران:
المثير للدهشة، أن تل أبيب التي تقوم بتصعيد الأوضاع العسكرية مع سوريا، تدعوها في الوقت نفسه إلى عقد صفقة سلام دائمة، بمباركة أمريكية أيضاً.
فـ(تل أبيب) التي رفضت خلال السنوات الماضية، أي تلميحات سورية للجلوس إلى طاولة المفاوضات، ولو من نقطة (الصفر) مع الشوط الكبير الذي سارت فيه محادثاتُ أوسلو السابقة، تمد يدها اليوم –إعلامياً- لسوريا، عبر تصريحات لقادة كبار من حجم (إيهود أولمرت)، و(شمعون بيريز). إذ أعلن أولمرت قبل أيام قليلة، أنه مستعد للجلوس مع القيادة السورية، والتكلم عن "السلام لا عن الحرب"، حسب قوله، وأضاف أنه سيكون سعيداً لو صنع سلاماً مع سوريا، وقال: "لا أريد شن حرب عليها". قبل أن يكرر بيريز هذا الكلام، مضيفاً بالقول في 18 من سبتمبر: "نحن مستعدون للحوار مع سوريا".
هذه اللفتة الإسرائيلية، تبدو وقد أخذت الضوءَ الأخضر من الأمريكيين، الذين سارعوا بعد ذلك للإعلان عن دعوة سوريا لحضور مؤتمر السلام، الذي دعا إليه بوش في واشنطن، والمقرر عقده في منتصف نوفمبر المقبل. مع أن بوش كان يعارضُ تماماً إجراءَ أي محادثات مع سوريا، بحجة أنها طرف أساسي في أزمة العراق، ودعم المقاومة هناك، ودعم حركة حماس في غزة، وحزب الله في لبنان.(/6)
هناك عدةُ احتمالات لتفسير ما يحدث؛ منها: أن واشنطن تريد إغراء سوريا، لفك حلفها مع إيران، في حال قرارِ بوش ضربَ الإيرانيين. أو أن الإسرائيليين أرادوا توجيه رسالة لدمشق، مفادها أنهم قادرون على ضرب العمق السوري، قبل أن يدعوهم للجلوس إلى طاولة المفاوضات، في محاولة للضغط عليهم، أو أنَّ وراءَ الأكمةِ ما وراءها.
وعلى كل الأحوال، إن كانت تل أبيب تريد إجراء سلام مع سوريا، فعليها على الأقل تقديمُ التسويغ المنطقي لتوجيه ضربة عسكرية لها في هذا الوقت بالذات.(/7)
العنوان: المضمون الإلحادي في برامج التلفاز السوفيتي
رقم المقالة: 1022
صاحب المقالة: د. سعد مصلوح
-----------------------------------------
تنبيه: أعدنا نشر هذه المادة مع كونها قديمة، لنبين الأثر السلبي لوسائل الإعلام من القديم في نشر الأفكار المنحرفة وتقرير المعتقدات الباطلة، وهذا الأثر ممتد ومتصل إلى أيامنا هذه.
يَتخِذ نَشر الإلحاد بين المُتَدَينِين في الاتحاد السوفيتي طريقَين مختَلِفَين، وإن كانا دائمًا متلازِمَينِ.
أولهما: طريق النشر الجماعي، ومن وسائِلِه استخدام برامج التعليم وقنوات التأثير الأَيدُيولُوجِي على الجماهيرِ؛ كالإذاعة والصحافة والسينما والتلفاز والفنون والآداب والمطبوعات بأنواعها المُختَلِفة.
وثَانِيهُمَا: طريق النشر الفردي، حيث يُوكَل إلى مسؤول الحزبِ، والمسؤول عن تخريب المعتقدات الدينية في كل مؤسسةٍ أو مصنعٍ أو مدرسةٍ - مُهمة تصنيف الأفراد، من حيث درجة تَدَينهم، وحين يُلاحَظ الالتزام الديني لدى أحد الأفراد يبدأ المسؤولون بدراسةٍ شاملةٍ للعوامل الأُسَرية والاجتماعية والثقافية، التي يُمكِن أن تكون مسؤولة عن تَدَينه، ثم يقومون برسم الخُطة المُلائِمة في ضوء هذه الظروفِ، ويبدأ التنفيذ بُغيَة تحقيق الهدف النهائي، وهو انعتاق هذا الإنسان من إسار الدين.
وغني عن البيان أن الإسلام والمسلمين يَحظَون بحظٍ وافرٍ من هذه العنايةِ، وقد سبق لنا أن ترجمنا عن الروسية مقالًا تَحَدث فيه مُؤَلفُه عن خصائص نشر الإلحاد بالطريق الفَردي بين المُسلِمِين، ويمكن الرجوع إليه لمن أراد مزيدًا من التفصيل (نُشِر المقال في عددين من مجلة "الدعوة" السعودية).(/1)
وسَنُمَحص هذا المقال – إن شاء الله – لبيان الكيفية التي يتم بها استخدام البرامج التلفازية في مُعتَرَك الصراع الأَيدُيولُوجِي الذي تقودُه الدولة السوفيتية والحزب الشيوعي على الدين والمُتَدَينِين، ولتحديد مكان هذه الوسيلة من سَائِر وسائل التأثير الفكري التي تُستَخدَم لنشر الإلحاد بالطريق الجماعي.
وقد لاحظ خبراء الدعاية الإلحادية من السوفِيت أن العاملين في محطات التلفاز المحلية المنتشِرة في الجمهوريات السوفيتية المختلِفة – إضافةً إلى زُمَلائِهِم من العَامِلين بالتلفاز المركَزِي في موسكو – قد بَذَلُوا جُهودًا كبيرةً لإِعداد بَرامِج إِلحَادية وتنفيذِها وتَقدِيمِها على الشاشَة الصغيرة، غير أن هذه التجَارِب كَانَت تَفتَقِد في رأيِهم وَضع استِرَاتِيجِيةٍ واحدةٍ لهذا النوع من العَمَل، وتنسيق الجُهُودِ، وتَبَادُل الخِبرات، بحيث تتكون - من خلال هذا التعاون - خِطة واحدة يَتحدد في إطارِها مُستقبَل النشاط الإعلامي الإلحادي في التلفاز السوفيتي، وحين عَكَف الخُبَرَاء في الدولة والحِزب على دراسة الجوانب المنهجية والتكنِيكِيةِ؛ لتَحقِيق هذه الغاية تَبَين لهم أن الحُكم الموضوعي على أثر النشاط الإعلامي للتلفاز وتوجيهِه لخدمة قضية التربية الإلحادية للجماهير يتوقف على عامِلَينِ:
الأول: المعرفة العلمية بالثقَل النوعِي لوسيلة التلفاز في إطار النظَام العام الذي يشمَل قنوات التأثير الأَيدُيُولُوجِي على الجماهير، وتحديد دورِها في هذا الإطارِ.(/2)
والثاني: دراسة كل ما يتعلق بمُشَاهِدِي التلفاز؛ لذلك التَزَمَت كل محطة من محطات الخدمة التلفازية التي تقوم بِبَث البرامج ذات المَضمُون الإلحادي، بأن تُوفر لمؤلفي هذه البرامج المعطيات ((الإحصائية)) اللازمةَ؛ من البِنيَة السكانِية في المناطق التي تُوَجه إليها إرسالَها، وعن أنماط الاهتمامات التي تُمَيز كل مجموعةٍ من المجموعات السكانية، كما ***عَمَدَت هذه **المحطات أيضًا إلى إجراء استطلاعات الرأي لمعرفة مُتَطَلبَات هذه المجموعة السكانية ومستوى تعليمِها، وعن مدى التطور العام والتطور السياسي للمجتمَع، وعلاقة السكان بالدين، وصورة الحياة في المجتمَع، وكيفية إزجاء أفرادِه لأوقات الفراغ، ومدى احتشادِهم لمشاهدة برامج التلفاز، وهكذا يتحَدد المَضمُون والشكل في أي برنامج إلحاديٍّ في ضَوء هذه الدائرة الواسعة من المعلومات، بحيث يُعطِي تأثيرَه المطلوب، وينبغِي أن نُضيف إلى هذه الأمور التي تتعلق بطبيعة مشاهدي البرامج التلفازية أمورًا أخرى، تتعلق بخصوصية التلفَزَة وإمكاناتِها التأثيرية في المُشَاهِدِين.(/3)
ويَعتَقِد خبراء الدعَايَة الإلحادية في التلفاز السوفيتي أن قضية المَضمُون لها الأهمية الأولى قبل قضية الشكل؛ ذلك أن كثيرًا من الأشكال العادية للبَرَامِج يُمكِنُها - إذا تَحَقق لها المَضمُون الملتَزِم - أن تُحدِث آثارًا بعيدة المدى في المشاهِد، ومن هنا يحتَل استخدام التلفاز في عملية ترسيخ العقيدة الماركِسية واتخاذ منظورِها الفلسفي أساسًا لمضامين البرامج الإلحادية التي يَبُثها: المحل الأول من الأهمية، أما خصائص الفن التلفازي فيأتِي في المَقَام الثاني، ويُعلِن هؤلاء الخبراء في بحوثِهِم ودراساتِهِم دون مُوَارَبَةٍ: أن تعميق الإلحاد في نفسية الإنسان السوفيتي يرتَبِط أوثَق ارتِبَاطٍ بتعميق صورة الحياة السوفيتية، ومبادئ الشيوعية كما أن تحقِيق هذه المُهِمة ينبغي أن يَتخِذ صُوَرًا مختلِفةً، إذ إن المُتَدَينِين يختلفون فيما بينهم اختلافًا بينًا من حيث درجة التدَين والمستوى التعليمي والثقافي، وينبغي - تبعًا لذلك - أن يكون المَضمُون الإلحادي شاملًا بحيث يَستوعب كل المشكلات، كما ينبغي في الوقت نفسه أن يكون متنوعًا؛ بحيث يأخذ في اعتباره اهتمامات المُتَدَينِين الذين يَختَلِفُون فيما بينهم في السن والجنس، والانتماء الديني ومستوى التعليم [1].
ويضَع المُخططُون السوفِيت - في الدولة والحِزب - نُصب أعيُنِهِم أَن هَدَف العَمَل الدعائِي الإلحادي هو القَضَاء عَلى الدين ووصم نظرَتِه إلى الطبِيعَة وحَياة المجتَمَع بأنها نَظرة تَقُوم على الأَوهَام والخُرَافَاتِ[2]، ومن ثَم يُحَتمون أن يسير العمل الدعائِي الإلحادي في اتجاهين رَئِيسَينِ:
الأول: ويَشمل موضوعاتٍ أخلاقيةً وفلسفيةً تُحَاوِل - بطريقةٍ واضحةٍ ومُقنِعَةٍ - حَض المُتَدَينِين على المُشارَكَة الفَعالَة في النشاط الاجتماعي، وتَقَبل صورة الحياة في المجتمَع السوفيتي، والتفَاعُل معها، والإسهام في صُنعِها.(/4)
الثاني: ويَتَوَلى تقديم المشكلات والقضايا المُتَعَلقة بالعلوم الطبيعية بُغيَة إِثبَات وجود تَنَاقُضٍ مبدئيٍّ بين العلم والدين[3].
ويتَفَرع عن تأكيد خبراء الدعاية الإلحادية على أهمية المَضمُون في البرامج التلفازية: مطالبتُهم مُؤَلفي هذه البرامج بألا تتسِم أعمالُهُم بالسطحية، وهم يُحَذرونَهُم من تركيز أعمالِهم على انتقَادٍ يُنسَب إلى بعض رجال الدين من نَقَائِص أو على الهُجُوم السافِر على الكُتُب المُقَدسة ورميِها بالتفَاهَة والسخَف[4].
ويُلاحَظ أن هذه السطحية كانت سِمَةً واضحةً من سِمَات البَرَامِج الإلحادية التي تم إِنجازُها فيما قبل الستينِيات، وأثبَت تقويم هذه البَرامج أَنها لا تَأتِي بالنتيجة المَرجُوة بل رُبما أدت إلى خلاف مَا يُراد منهَا؛ فهذه البَرامِج تَفتقد الوَحدة الموضوعية في إطار خُطةٍ شامِلةٍ، كما تَفتَقِد عُمق المضمون، والتنَوع في الشكل، ولا تَقُوم على أساسٍ نظريٍّ منهجيٍّ لنقد الدين.
ويُعتَبَر عام 1961 مرحلة تَحَولٍ نحو إعداد البرامج الإلحادية في التلفاز السوفيتي، فقد شُكلَت في هذا العام إدارة عامة بالتلفاز المركزي - الذي يَبُث إرسالَه على مستوى الاتحاد السوفيتي كُله - تتولى تحرير البرامج الخاصة بالدعاية الإلحادية على الشاشة الصغيرة، وعُقِد في هذا العام أيضًا عَدد من اللقاءات لدراسة الأُسس النظرية لهذا العملِ، شاركت فيها نقابة الصحفيين السوفِيت، وتَم في هذه اللقاءات وضع أَول أساسٍ منهجيٍّ لإعداد البرامج التلفازية الإلحادية، حيث أكد المجتمِعون أن المُهمة الأولى لهذه البرامج هي ترويج المفاهيم الماركِسِية وتأكيد العلاقة الإيجابية بين المُواطن والحياة على أرض السوفِيت، وصرف اهتمام الناس إلى محاولة تغيير الواقع المادي من حولِهم من خلال العمل الجماعي.(/5)
وإذا نظرنا إلى الفترة الواقعة بين عامَي 1917 و 1961 تبين لنا أنه على مدى ما يَقرُب من خمسين عامًا لم تَفتُر الحرب على الدين، وأن السلطة السوفيتية بجميع أجهزتها الدعائية والبوليسية لم تُفلِح - على مدى هذه السنوات المتطاوِلة - من حسم معركتِها على الفِطرَة التي فَطَر الله الناس عليها، لكن الفَشَل لا يزيدُها إلا إصرارًا، وقد أشَرنا في مقالٍ سابق [5] إلى المحاولات الدؤوب التي بذلها ويبذلها الاستشراق السوفيتي لتفسير ظهور الإسلام تفسيرًا ماركِسيًا وبينا كيف أن هذه المحاولات ما زالت مُستَمِرةً حتى اليوم دون أن تصل إلى وجهٍ من وجوه التفسير يُرضيهم هم، بَله أن يُقنِعُوا به غيرَهُم.
وتطبيقًا للقرارات التي اتخِذَت في عام 1961 قام التلفاز المركزي السوفيتي بتقديم سلسلة طويلة من الحلقات في برنامج جُعِل عنوانه: "حقيقة الدينِ" ثم برنامجٍ آخَر بَدَأَت إذاعته منذ عام 1969 تحت عنوان: "الإنسان والدين".
وقد أدار مؤلفو البرنامج الأول حوارًا مع المُشَاهِدِين، تناولوا فيه القضايا الفلسفية والأخلاقية من منظور ماركِس دون استخدامٍ لأسلوب التوجيهات المُبَاشِرة ودون اللجوء إلى كَيل التهَم لرجال الدين ومُعتَنِقِيهِ، وحاولوا تيسير القضايا وتوضيحها؛ بُغيَة التأثير على أكبر عددٍ ممكِنٍ من المشاهِدين، وقصروا كل حلقة من حلقات البرنامج على تناول مشكلة معينة.(/6)
وتوضيحًا لطبيعة هذا البرنامج نسوق مثالًا لحلقة من حلقاته جعلوا عنوانها: "عن معنى الحياة"، وجاءت هذه الحلقة على هيئة حوار مُبسط يبدو وكأنه لا تَكَلف فيه بين الدكتور ب.ت. جويجوريان، وأ. أ. أوشيبوف الأستاذ السابق بأكاديمية اللاهوت في ليننجراد، قام أولهما بتقديم وجهة النظر الماركِسية، وقام ثانيهما بتوضيح نظرة الدين إلى هذه المشكلةِ، واتجه المتحدثان إلى عدم اتخاذ الطريق المباشر أو الإعلان عن النوايا، واتخَذ الحوار صيغة المناظرة بين شخصَين، ولكن الهدف النهائي لهما كان اتهام النظرة الدينية للحياة والإنسان بأنها معادية للإنسان.
وثَمة صيغة أخرى للدعاية الإلحادية، تَظهَر في حلقة أخرى قام بإعدادها وتقديمها صحفي سُوفِيتي يدعي أ.أ. شامارو، وفيها يَظهَر هذا المؤلف وقد عاد من رحلة طويلة عبر سَيبِريَا ومن خلال مادةٍ تصويريةٍ تُثِير اهتمام المشاهِدِين ودهشتهم يحكي المؤلف عن الحياة القاسية الرهيبة التي تحياها جماعات السكان المتمسكِين بالعقائد الدينية الوثنية القديمة في مجاهل سَيبِريَا، وعن أولئك الذين ارتدوا عن الدين بعد أن كانوا من أشد معتنِقِيه تَحَمسًا وانطلقوا في سبل الحياة الرحبة التي هيأتها لهم السلطة السوفيتية دون غيرهم، وهكذا تناولت الحلقة موضوعًا كبيرًا فقامت بإبرازه من خلال مصائر أفراد معينِين ليكون أكثر إقناعًا، إذا أضفت إلى ذلك استخدام المادة التصويرية الوثائقية على نحو يهدِف إلى جذب اهتمام المُتَدَينِين وإقناعهم.(/7)
وقد قام التلفاز المركزي بتقديم الموضوع نفسِه بصورة أخرى على هيئة فيلمٍ تِلفَازِي بعنوان "سنوات ضائعة"، ويحكي الفيلم قصة شابٍ يُدعَى د.س. كولوسوف كان قد هرب من أداء الخدمة العسكرية في الجيش الأحمر بدوافع دينية، وظل مختفِيًا مدة ثلاث وعشرين سنةً، واستَخدم المُخرِج والمُصَور في تنفيذ الفيلم لقطاتٍ للأماكن والمواقع الحَية التي اختفى فيها ذلك الهارب بدينِهِ؛ وذلك لإضفاء عُنصُر الواقعية على الأحداث، كما استَخدَما تِكنِيك الكاميرا السرية لإقناع المتفرج بأن الكاميرا إنما تَتبَع الهارب في تفاصيل حياتِه المُفزِعة الخائِفة دون أن يشعر هو بها، وقد حاز هذا الفيلم رضاء القائمِين على أمر الدعاية الإلحادية في التلفاز السوفيتي.
ويزداد إلحاح مؤلفي الأفلام التلفازية ومخرِجيها على معالَجة مشكِلةٍ من أهم المشكِلات التي تواجه المجتمع السوفيتي القائم في أساسه على الفلسفة الإلحادية الماركِسية، ونعني بها نفور المُتَدَينِين من نَمَط الحياة السوفيتية، ونكوصَهم عن المشارَكة الإيجابية في صُنعها وقد خصصوا لعلاج هذه المشكلة فيلمًا بعنوان: "مرحبًا بالحياة" قام بإعداده التلفاز المركزي بالاشتراك مع "دار الإلحاد" في إحدى مدن الاتحاد السوفيتي، وسنحاول أن نعرض بشيء من التفصيل للتكنِيكَات الفنية والموضوع الذي قام هذا الفيلم بالتعبير عنه.
يبدأ الفيلم بمجرد عَرضٍ تلفازيٍّ إعلاميٍّ خالِص لألوان النشَاط التي تُمارَس في دار الإلحاد؛ فتَعرِض مناظِر لاجتمَاعَات مَجلِس إدارة الدارِ، وللمحاضَرات وجَلَسَات الحِوار والمَعَارِض الفَنية والحفلات وغير ذلك من ضُروب النشاط الإعلامي الصرف.(/8)
ولا شك أن تلحيد المؤمنين هو على رأس ما تقوم به الدار من مَهَام، بل هو الهدف الاستِرَاتِيجِي من جميع ألوان النشاط الأخرى، ومع ذلك نَجِد مُؤَلفِي الفيلم ومنفذِيهِ؛ وَهم: كبير المحررِين ت. جولوبيف، والمخرج ن. تشيكاسين، والمصور ب. تشوبين يقتربون من هذا الموضوع بِحَذَرٍ شديد فينتهِزُون فُرصة لقائِهم بأحد العامِلِين في الدار ليعالجوا هذه القضية من خلاله، ذلك أن هذا الموظف نفسه كان من بين الذين ارتَدوا عن دِينهم، وانخرطوا في سِلك العمل بِدار الإلحاد ليُستَخدَم في العمل الدعائي الإعلامي على الدين، ومن هنا كانت فرصتهم من خلاله لبيان الكيفية التي يرتد بها إنسان عن دِينه، ها هو ذا الموظف الملحِد يبدو على الشاشة في أثناء عَرض النشَاط العادي للدار، وهو يقف وراء المنصة ليُلقِى محاضَرَةً على المُستمِعِين، وتبدو وجوه المُستَمِعِين وهي تتطَلع إلى المحاضِر، غير أن مشاهِدي التلفاز لا يستمِعون في اللقطة إلى نَص المحاضَرة بل إلى أصداء الخواطر التي تدور في رأس هذا الموظف على طريقَة المونولوج الداخِلي وهو يَنظُر إلى مستمعِيهِ، إنه يقول لنفسِهِ: "عندما أنظر إلى القاعة التي تَضُم المستمِعِين، تقول لي هذه الوجوه الكثيرةُ: واضح أن بعضَهم لا يوافِقني على رأيي، إنني أحكِي عن تلك التنَاقُضات التي تمتَلِئ بها الكتب المُقَدسَةِ، ورأى كيف يبدو على وجهٍ من هذه الوجوه خاطر ما، إنه لمحة من الشكوك التي تَتَوَلد في أعماقه بل إنني لَأَلمَح خَلف القَسَمَات ضَحكَة السخرِيَة المكتُومَة".
وهكذا يستخدم مؤلفو الفيلم هذه الوسيلة الفنية في العرض ليُحدِثُوا بذلك أبلغ تأثيرٍ مُمكِن على مشاهِدي الفيلم التلفازي، وذلك من خلال استعراض الكاميرا لوجوه المُستَمِعِين إلى المُحاضِر؛ بحيث يُبرِزون تَطَور الانفعالات المُختَلِفة كما تَعكِسُها ملامِحُهُم، ويُظهِرون دَلالة الملامح وتحولَها من الريبَة إلى الشك العميق في أمر الدين.(/9)
ويُحَاوِل مؤلفو الفيلم استخدام وسائِل فَنِيةٍ كثيرةٍ أُخرَى؛ كالريبُورتَاج السينِمَائِي، والكاميرات السرية وشِبه السرية وذلك ليبدو تاريخ حياة الفرد المُتَدَين وظروف ارتِدَادِه عَن الدين أمرًا طبيعيًا، ويتحرك الأشخاص على الشاشة في سهولةٍ لا تُكَابِد التكَلف، كَمَا يَظهَرون وهم على حالٍ من الانهماك في قضيتهم وتَأَمل أنفِسِهم ومُعَايَشَة مُشكِلاتِهِم مما يجعلهم أَقرَب إلى قَلب المُشاهِد وعَقلِهِ.
ويَتعرف المُشاهِد في أحد لقطات الفيلم إلى أحد سُعَاة البَرِيد وهو يقطع شوارع المدينة مَرِحًا في صباحٍ مُشمِسٍ حَامِلًا إلى مُواطِنيه بَرِيد الصباح، ويمر ساعي البريد بخطواته المَرِحَة بأَحَد دُور العِبَادَةِ، وهنا تنتقل الكاميرا إلى وجوه المصلين الذين يمارِسُون شَعَائِر الدين، في حين يُسمَع صوت الموظف المُلحِد الذي يقوم بدور المُعلق وهو يحكي عن ساعي البريد؛ فيقول: "كثيرًا ما فَكر صاحبنا هذا خلال أداء العبادة مُسائِلًا نفسه: لماذا يكون الرب الرحيم هكذا قاسيًا وجائرًا؟ ولماذا يُصِر على إرهاب الناس وإثارة الذعر فيهم؛ بِتَهدِيدِهم بِعُقُوبَات الآخِرة؟"، وكذلك يُحَاوِل الموظف في دار الإلحاد أن يحطم بِكَلِمَاتِه قُدسِية الذات الإلهية في نُفُوس المُتَدَينِين، {كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُج من أَفوَاهِهِم إِن يَقُولُون إِلا كَذِبًا} [الكهف:5].
ولكي تَتم المُقارَنَة يَظهر ساعي البريد وسط أصداء ابتهالات المصلين ضاحكًا مَرِحًا في إحدى الحفلات، كما يبدو وهو يخطو خطواتٍ واسعةً في شوارع المدينة حاملًا على صدره شارة الكُومسُمُول.(/10)
ثُم يَبدو المُعَلق في لقطةٍ أخرى من الفيلم وهو يُجرِي مقابَلةً مع رجلٍ وامرأةٍ، ويُتَبَين من الحديث أنهما زوجان مُتدينان، وأنهما والدان لفتاة ارتدت عن دينِهَا ودين أبويها منذ وقت ليس ببعيد، وتُرَكز الكاميرا على وجهي الأبوين؛ لتُظهِر مَلامحهُما في صورةٍ قاسيةٍ، تعكِس التعَصب والانغلاق، وهنا يُترَك لخيال المُشاهِد الفنان ليرسم لخياله صورة عن البيئة التي تَرَبت فيها الفتاة، وبعدها مباشَرةً تبدو على الشاشة صورة مرحة للفتاةِ، تبدو فيها سعيدةً بالطريق الجديد الذي اختَطته لنفسِها.
وُيحاوِل مؤلفُو الفيلم أن يُظهِروا العمل الذي يقوم به دُعَاة الإلحاد ومروجوه بمَظهَر النضَال الشريف المُستَمِيت من أجل خير الشعب وهدايته إلى صراطهم (المُستَقِيمِ)، وَمن هُنَا يوحون إلى المُشاهِد بما يتطلبه عملُهم هذا من المُثابَرة والدأب والتضحية من جانب القائمِين به، ويُحس المُشاهِد بهذا الإحساس عندما يرى على الشاشة تلميذةً في دور المُرَاهَقةِ، تَسمَع إلى مُروج الإلحاد دون تَحَمس، وهي تَتَصَرف مع رفيقاتِها وفي عينيها حزن عميق إذ يتَنَازَعُهَا الصراع بين نشأتها الدينية والتيار الإلحادي الجارِف الذي تسير فيه الحياة من حولها، وهنا نَسمَع صَوت المُعَلق يقول: "ها نحن أُولاء نشهد اليوم صديقتَنَا تامارا وهي تَخرُج للنزهة مع رفيقاتها الملحِدات. وهذا في حد ذاتِه شيء كثير؛ إنه ثمرة لجهود رفاقي العاملين في دور الإلحاد، ها هي ذي الفتاة تخطو خطواتها الهَيابَة الأولى على هذا الطريق الطويل الذي انفتح أمامها الآن، أما نحن – أصدقاء تامارا – فمازال أمامنا الكثير من المشاغل".
ويتضِح لنا - من هذا العرض المُفصل بعض التفصيل لهذا الفيلم - كثير من المُشكِلات النظرية والإمكانات والتكنِِيكَات الفَنية المُستخدَمَة في الأفلام التلفازية لِنشر الإلحاد بين المُتَدَينِين.(/11)
وثَمة مجال آخَر يُولِيه خبراء الدعاية الإلحادية في التلفاز اهتمامًا كبيرًا ونعنِي به عرض مُشكِلات العلم الحديث ومُكتشَفَاتِهعلى الشاشة الصغيرة في ضوء المفهوم الإلحادي الماركِسي، ويرى المتفائلون منهم أن أي برنامجٍأو حلقةٍ تِلفَازِيةٍ تتحدث عن المكتَشَفَات العِلمِية الجديدة وعن قوة العقل الإنساني تَكُون بطبيعَتِهَا إلحادية[6].
غير أن التجرِبة الطويلة لخبراء الإلحاد أثبتت أن هذا وَحدَه لا يكفي؛ فكثير من هذه البرامج تفتَقِد الجانِب الفلسفي الإلحادي وإن أرضَت سائر المتطلبات الفنية الأُخرى، وقد تؤدي هذه البرامج - على هذا النحو - إلى خِلاَف ما يُراد منها تحقيقُه ومن ثَم يُطالِب هؤلاء الخبراء بضرورة إنجاز برامج تلفازيةٍ علميةٍ ذات طابعٍ إلحاديٍّ خاص لا يُكتَفَي فيها بعرض ظواهر الطبيعة والمكتشَفات العلمية الحديثة بل تُوجه النقد إلى التصورات التي تتبناها العقائد الدينية بخصوصِ هذه الظواهرِ، ويمكن أن يأخذ البرنامج شكل الرد على أسئلة المُتَدَينِين أو بإجراء الحوار بين بعض المتخصصين مع الاستعانة بالأفلام التلفازية الموضحة.(/12)
وقد دلت التجارب على فشل جميع محاولات الدعاية الإلحادية التي تقوم على مهاجمة المُتَدَينِين والسخرية من عقولهم ومعتقداتهم ونسبة الرذائل إلى بعض رجال الدين واختلاقها إذا اقتضى الأمر، لذلك اتجهت جميع الأفلام التلفازية في هذا المجال إلى محاوَلات اكتساب ثقة المتفرج بدلًا من تنفيره أو إلى تحييد مشاعره تجاه هذه البرامج حتى لا يعتصم بمَعقِل الدين، ويرفض من البداية الاستماع أو المشاهدةَ. ولهذه الحقيقة أهمية كبرى بالنسبة للبرامج التلفازية؛ فالتلفاز يستقر عادة في غرفة من غُرَف المنزل حيث يجلس إليه المُشاهِد بمحض إرادته وينتفي أي إمكان لإكراهه على مشاهدة البرامج، والمُشاهِد حينئذ مُطلَق الحرية في أن يجلِس إلى التلفاز أو يأوِي إلى الفِراش ومن ثَم يَنبَغِي إذا أُرِيد لهذه البرامج أن تُؤتِي ثِمارَها، أن تبتعد عن إهانة مشاعِر المُشاهِد الدينية أو إثارة شكوكِه أو ارتيابِه وإلا فلن يكون إلا خلاف المُرَادِ.
ويَفرِض هذا الأمر على القائمين به الاحتياط الشديد في اختيار عناوين البرامج والحلقات التلفازية، فقد لوحِظ أن اختيار عناوين مِثل "المُلحِد" أو "الكَافِرِ" تَصرِف المُتَدَينِين عن مشاهَدَتِها بمجَرد قراءة العناوين على شاشة التلفاز، بل لُوحِظ كذلك أن بعض العناوين المحايدة مِثل "الإنسان والدين" أو "حقيقة الدين" لم تكن مُوَفقَة إلى حدٍّ كبير، ورُؤِي لذلك وجوب اختيار عناوين لا تَمَس الدين ولا تَذكُرُه بلفظِه مباشَرةً حتى يتم استدراج المُشاهِدِين المُتَدَينِين لرُؤيَتِهَا.(/13)
ويُتَبَين من هذه العناية الخاصة - التي يُولِيها دُعاة الإلحاد للوَسَيلَة التلفازية - خَطر هذه الأداة وعظمة تأثِيرِها؛ فالتلفاز جهاز موجود بالمنزِل بصفةٍ دائمةٍ، وهذا يجعل تأثيرَها في المعارك الأَيدُيولُوجِية قَويًا ودائمًا ومنتظِمًا، وهو يمتاز بهذه الخاصية عن بعض وسائل التأثير الأخرى التي تتوافر في بعض الظروف دون بعض، أو في مناسبة دون مناسبة؛ ولذا يُؤَكد دُعَاة الإلحاد على أهمية إعداد خطةٍ استِرَاتِيجِية دائمة للدعَايَة التلفازية الإلحادية.
وصحيح أن وسيلة التلفاز يَنقُصُها الموقِف الحَي، الذي يقوم على الاتصال المباشِر والمواجَهَة بين طَرَفَين، كجلسات الحوارِ، والمناقشةِ، والمُحاضَرَات، وما إلى ذلك، غير أن وسيلة التلفاز - لما سبق ذِكرُه من أسباب - لم توقِظ نَظَر دُعاة الإلحاد فَحَسب، بل دعاة المسيحية أيضًا، ويَشهَد بذلك مناقَشَة المَجمَع الكَاثُولِيكِي في الفَاتِيكَان للوَسَائِل الفَعالَة لاستِخدام التلفاز في نَشر المَسيحية وتَرسِيخ جُذُورِهَا.
وقَد أَثبَتَت الدرَاسَات أن مُستوى التعلِيم عند الفَرد يُؤَثر على مَوقِفِه من القَنَوَات الإِعلاَمِية المُختَلِفَةِ، وتَبَين أن ذَوِي المُستَوَى التعليمِي العَالِي يُفَضلُون استِقَاء مَعلومَاتِهِم من الصحُف والإِذَاعة، ويَحتل التلفاز - بالنسبَة لهم - المَحَل الثالثَ، أما ذلك المُستَوَى التعلِيمِي المنخَفِض فإِن التلفاز يُمَثل لَهُم أَقوَى الصيَغ الإعلامِية تَأثِيرًا.(/14)