إني أؤكد حق شبابنا المتطلع إلى تحسس واقعه والارتقاء بمجتمعه بأن يعرف هذا التفاعل في صفحة مجتمعه الذي نشأ فيه، لا من خلال واقع مجتمعات أخرى يضطر إلى تطبيقه، فيتصور مجتمعه حياةً وأشخاصاً، وعلاقات في ضوء ذلك الواقع المختلف، في فهمه، وينفصم عن الواقع الحقيقي لمجتمعه.
فهل من همةٍ لدى القادرين من المؤهلين علماً، وصدقاً، وشمولية فكر تنبعث لتحقيق هذه المهمة.
وسأشير إشارة موجزة إلى هذه المسألة من زاوية هذا البحث – العصرانية – ركيرة النظر هنا أن المجتمع السعودي مجتمع متفرد بين المجتمعات الإسلامية، والعربية في جوانب شتى تهمنا منها تلك الجوانب التي تصب مجتمعة في تركيز إسلامية هذا المجتمع إلى درجة أن أصبح الإسلام – في تصور الأخرين، حتى من غير المسلمين – يستدعي استحضار هذا المجتمع، فكأنه مرادف له.
ومن هذه الجوانب:
1 - أن مهاد هذا المجتمع كان مهبط رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – الرسالة الخاتمة والناسخة للرسالات السابقة، والموجهة للناس كلهم، والتي سيظل نورها مضيئاً إلى قيام الساعة.
2 - وأن فيه مأرِزَ الإسلام – المدينة المنورة – التي وُلدت فيها دولة هذا الدين، وفيها مسجد نبيه، حيث يأوي إليها هذا الدين إذا طورد في أقطار الأرض، كما جاء بذلك الحديث الشريف ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها))[90].
3 - أن فيها الأماكن المقدسة والمشاعر المعظمة، التى فرض على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يزوروها – إذا استطاعوا – وأن يتجهوا إليها في صلواتهم كل يوم مرات.
4 - أن تراثه الإسلامي حي في نفوس أهله، فهو تاريخهم الذي يتأملون، وأدبهم الذي يتذوقون، بل حقيقة حياتهم التي يعيشون.
5 - أن حركة النهضة التي ظهرت فيه، وثقفت رماحه المعوجة، كانت حركةً إسلاميةً صافية، لم يكن لمدارس التخلف في العالم الإسلامي تصوفاً، وفلسفة، ونحوها، ولا لعصرانية الغرب تأثير في منهجها وحركتها.(/64)
6 - لم تطأ أرضها جيوش الاستعمار الكافر التي تحكمت في بلاد إسلامية كئيرة، في مناهجها التعليمية وتنظيماتها القانونية، وتركيبتها السكانية. وكثير من أنماط حياتها الاجتماعية منحرفة بها في كل ذلك نحو الروح الغربية.
7 - أنها كانت بيئة فطرية؛ سواء في فترة انغلاقها السابق، أو انفتاحها اللاحق. فالمكونات الثقافية لمناهجها التربوية – خاصة في المراحل الدراسية الأولى عمادها النصوص الشرعية، ومبادئ علوم الدين، والتراث العربي والتاريخ الإسلامي بعيداً عن تيه الفلسفات وضلال النظريات المنحرفة[91].
والعلم الشرعي هو مدار حياة هذا المجتمع تعلماً لفنونه وتقاضياً إليه، واستفتاءً لأحكامه.
وهكذا فِطرة نقية يغذيها مدد ثقافي وعلمي إسلامي يحفظ الفطرة وينميها ويجعل لها حضورها أثناء التفاعل مع أنماط الفكر البشري[92].
8 - إن الحكم فيه بيد أُسرة ارتكزت حينما بدأ حكمها الشامل لهذا المجتمع على مبادئ دعوة إسلامية أصيلة، صارت تشكل إرثاً وهوية للحكم في هذا المجتمع.
وهذه القضية المصيرية الكبرى حاضرة في أذهان أهل هذا المجتمع حكاماً ومحكومين بشكل حاسم وواضح[93].
وقي هذا الاتجاه صدر النظام الأساسي للحكم في 27/8/1412هـ – مرتكزاً في بنوده على هذا المنحنى الإسلامي المريح – مثلاً –.
مادة (11): المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
مادة (6): يبايع المواطنون الملك على كتاب الله، وسنة رسوله، وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر.
مادة (7): يستمد الحكم سلطته من: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام، وجميع أنظمة الدولة.
ومواد أخرى كثيرة تجعل الإسلام هو الهوية التي تسري في عروق الدولة كلها، وتنفي شرعية أي خبث يفد على هذا المجتمع.(/65)
وبالمقابل: فإن التأييد والتعليقات من المسؤولين والمفكرين، بل وأحاديث العامة قد تركزت بهجتها أكثر ما تركزت على التأكيد الذي حظيت به هذه الهوية العظيمة.
هذا المجتمع ذو الملامح السابقة من آخر المجتمعات الإسلامية تفاعلاً مع الفكر الغربي المعاصر.
وإذا لم يكن للاستعمار والتنصير والمدارس الأجنبية، والطوائف غير المسلمة من قوات العصرنة في غالب البلاد الإسلامية أثر مباشر في خلخلته، فإن عوامل أخرى كان لها أثر متفاوت في هذا المجال، مثل:
1 - الابتعاث للدراسة في الخارج، وخاصة لخارج البلاد الإسلامية.
2 - استقدام المدرسين – من غير المسلمين أوحتى من مسلمين منحرفين – بعد انتشار التعليم، مما جعلهم ينتشرون معه في سائر البلاد.
3 - العمالة الوافدة التي كانت منوعة الأديان، والتقاليد.
4 - السفر إلى الخارج؛ وخاصة الأسفار السياحية بالعوائل، المشتملة على النساء، والأطفال، والمراهقين.
5 - وسائل الإعلام – خاصة – المنطلقة من مراكز العصرانية؛ سواء من الغرب أو من داخل البلاد العربية.
وإذا نظرنا في واقعنا في ضوء المظاهر – الإجتماعية للعصرانية – التي سبق ذكرها – سنجد كثيراً منها قد تمثلت صورها في حياة البعض، وإن لم تكن بحذتها التي انتهت إليها المجتمعات الأخرى.
بل إن بعض الجوانب ذات الحساسية احتفظ المجتمع السعودي تجاهها بتماسك طيب تعضده حشمة هذا المجتمع ودينه، وجهد علمائه، ودولته، مثل ما يتعلق بقضايا المرأة التي تمثل أهم الأهداف التي تصوب إليها العصرانية سهامها القاتلة[94].
والحق أن لهذا المجتمع بعامته وعلمائه ودولته موقفاً مشكوراً تجاه المد العصراني.
تمثل ابتداع لا محاولة الفرز بين النافع من العلم وتطبيقاته، والضار على المجتمع في دينه وخلقه، من أجل أخذ الأول ورد الثاني، كما تمثل في مواقف ذات حساسية تجعل الناس يعون ما يُقدمون عليه ما يتلقفونه من الغرب، من حيث ملاءمته لأحكام الاسلام، وخلق المجتمع أو لا.(/66)
كما تمثل – أيضاً – في مؤسسات علمية ودعوية تجعل مهمتها تحصين المسلمين ومقاومة الدخائل المدمرة، لا في نطاق المجتمع السعودي فحسب، بل امتد أثرها إلى المسلمين خارجه[95].
ويدخل في هذا الجهد تعميق الثقافة الإسلامية في نفس الناشئ، حتى يعي حقيقة إسلامه وعياً يكفل له كشف زيغ كل الطروحات العصرانية، التي تهدف إلى أن محل في نفسه محل دينه.
وقد سُعي إلى ذلك من خلال مادة الثقافة الإسلامية التي أكدت عليها سياسة التعليم في مراحله المختلفة، وإن كانت لم تأخذ قيمها أحياناً، لعدم الوعي بغاياتها الحقيقية في حياة المسلم التي تعتورها السهام الغازية من كل جانب.
ومع ذلك فينبغي ألا نخدع أنفسنا بأن نرى مجتمعنا في ظل ميزاته الطيبة التي مر ذكرها وحسب؛ بل لابد من الوعي بأن الكيد الهادف من أعداء هذا الوطن والجاهلين بالإسلام، لا يزال متواصلاً في هذا العصر منذ بدأت إرساليات التنصير تجوس خلال الخليج والبحر الأحمر مادة عيونها طمعاً في النفوذ إلى هذه البلاد قبل عشرات السنين، يوم أعلنت البعثة العربية للتنصير خطتها العملية لغزو هذه الجزيرة (احتلال الداخل عن طريق الساحل)[96].
ومنذ أخذ الغرب يتربص بهذه البلاد الدوائر من خلال جنوب الجزيرة العربية، الذي تم تسليم الحكم فيه بعد جلاء بريطانيا عنه إلى الجبهة القومية اليسارية، مع أنها مدعومة من الماركسية عدوة بريطانيا، ولم يكن لها دور بارز في حركة الاستقلال، إنما تتم ذلك ليكون تجربة في الجزيرة – من أعداء الإسلام – ومنطلقاً لامتداد الحركة التحررية اليسارية في الخليج العربي، وفي بلدان البحر الأحمر.
منذ تلك البدايات وخلال تطوراتها، وحتى وقتنا هذا الذي تحسب فمه دوائر العصرانية العالمية دقات قلب هذا البلد، والحاقدون يبذلون جهودهم لصرفه عن مسيرته الخيرة الناهضة، ولإحداث الثغرات في سمته الذي لا يزال نموذجاً في عالمنا الإسلامي.(/67)
إن العصرانيين رغم أنهم لا يستطيعون تجاهل تلك السمات المميزة لهذا المجتمع من حيث صبغته الإسلامية:
إن في قاعدته الجماهيرية.
أو في الإرث المكين لسلطته الحاكمة.
إلا أنهم يُراغمون هذه الحقيقة، طامعين بأن يلبسوا الحق بالباطل، وأن يستطيعوا من خلال كيدهم تحويل وعي المسلم بدينه، وبحقيقة انتمائه لإسلامه، ويقينه أن مقتضى كؤنه مؤمناً بهذا الدين أن يظل صافي العقيدة والعبادة من كل شائبة شرك أو بدعة وأن تستقيم حركته في الحياة على منهاج الله بأن تحكمها في كل جوانبها شريعة به[97].
– تحويل هذا الوعي – إلى تصور غائم مشؤش لدى المسلم لمعنى إسلامه، بحيث يكتفي بإسلام الوراثة، أو الهوية والاسم، أو بعض الشعائر التعبدية، ونحو ذلك – مما خدعوا به كثيراً من جهلة المسلمين في مجتمعات كثيرة –، ومن ثم يسمح لهم بأن يتدخلوا في حياته الاجتماعية، سياسة واقتصادية، وعائلية وثقافية، لينشروا فيها عمرانيتهم.
وإن مما يؤسف له أن يُخدع بهذه اللوثة من أبناء هذه البلاد أناس أتصورأن كثيراً منهم يحملون في قلويهم إيمانا بالإسلام، وحباً لمجتمعهم، ورغبة صادقة في أن برتقي سلم المجد الحضاري. ولكنهم رغم ذلك وقعوا في أحابيلها إمّا:
– بسبب نقص في فهمهم لحقيقة الإسلام في عقيدته وشريعته، نتيجة عدم دراستهم له أصلاً، أو لتصوره من خلال بعض الصور التراثية، أو الصور الحاضرة التي لا تمثل حقيقة الإسلام، وإن حملت اسمه، أو من خلال دراسادت اشراقية أو شعوبية حاقدة تستهدف تشويه الإسلام.
– أو بسبب موقفٍ نفسي من بعض التصرفات، أو الأشخاص الذين يحملهم هؤلاء على الإسلام، إمّا لهيئاتهم، أو لشهاداتهم، أو لطبيعة عملهم، فيتصورون أن شخصياتهم تمثل الإسلام بحَسيها وسيئها.
– أو نتيجة انخداع ببعض المذهبيات الفكرية، لما يحيط بها من بريق، وما يتسم به دعاتها من حيوية، وما تمثلت به من نظم سياسية.(/68)
– أو لخضوع تحت ضغط الواقع العربي والعالمي، الذي كانت الخيوط تشدُّه بعيداً عن الدين.
– أو بسبب نتيجة فكرية يلازمها شعور بالنقص، ممَّا يجعل التابع تليمذاً غير قادر كل تجاوز أساتذته عرباً، أو غربيين، حتى ولو استبطن قناعات مخالفة لهم.
لبعض هذه الأسباب أو لغيرها انصرفوا بطاقاتهم الفكرية، وجهودهم الحركية إلى الإساءة لدينهم ومجتمعهم.
– بتذويب عوامل الحصانة الاجتماعية فيه أمام الاختراق العصراني.
– وتقديم النماذج الطازجة للبُنى الثقافية والمذهبية المنافرة لدينهم وهويتهم، على أنها البدائل الصالحة التي ينبغي أن يندمج فيها المجتمع معصرنًا بها مؤسساته التقليدية.
– وتغييب ركيزة إسلامية كبرى تتمثل بها حقيقة تميز المسلم، وهي (الولاء، والبراء) من خلال تمجيد الملاحدة، وإضفاء الهالات الضخمة عليهم، وإبرازهم أمام الناس بصفتهم المثل الحياتية.
– ونقل عقدة النقص والشعور بالدونية إلى الجيل الناشئ، كي يخجل من واقعه، وبتتلمذ على من يفقدون أدنى درجات المصداقية علماً وخلقاً، من مفكرين، وشعراء وغيرهم[98].
– وتسفيه الارتباط بالتراث الإسلامي بأساليب منوعة.
– وحجب العيون عن رؤية الحقيقة، إذا كانت لا تتفق والوجهة المروجة من طريفهم.
.... إلخ. صور الإساءة التي تقل أو تكثر، تخف أو تحتد من شخص لاخر، لكنها مع ذلك تعكس خللاً خطيراً تعيشه تلك الفئة في فكرها وإيمانها وصدق ولائها لمجتمعها، وفي استيعابها لمقومات البناء الحضاري في هذه البلاد. [الإسلام والمجتمع السعودي، والعصر القائم].
هَزَّة الإيقاظ:
في الآونة الأخيرة تضافرت عوامل عديدة كانت جديرة بأن تهز النفوس اليقظة للعصرانيين من أبناء المسلمين وأبناء الجزيرة والخليج بالذات، لعل من أهمها:
– الإفلاس الذي انتهت إليه الاتجاهات والمذهبيات التي أزاغ وهخها أبصارهم واستهواهم مدها العصراني في عقود محاضية، هذا الإفلاس الذي انتهى بالانهيار الماركسي[99].(/69)
– والصحوة الإسلامية التي برزت تحدياً مذهبياً غنياً لسائر المذهبيات خاصة المروجة منها في عالمنا الإسلامي.
– أما طامة تلك العوامل فهي أزمة الخليج التي كشفت زيف أكبر الأصنام العربية – البعث المقيت – الذي كرس العصرانيون العرب، ومنهم: عصرانيو الخليج جهدهم ووولاءهم له، ولرموزه قبل الكارثة.
والحق أن هذه العوامل هزَّت نفوساً كثيرة بالفعل.
وقد برز ذلك في الصحف بعد أزمة الخليج نقداً للنظام العربي، ولأساسيات الفكر القومي، وللقيم العربية المنهارة، التي لم تزع قيادات فكرية من تأييد الباطل البعثي. ولكن هذه الهزة رغم إيجابيتها لا تخقق قيمتها إلا إذا وجهت توجيهاً سليماً من قبل أصحابها؛ بأن تنتهي – من بني قومنا – إلى مراجعة ذاتية لا يتحول فيها المتبصر من غرفة إلى أخرى، باحثاً عن النور في بيت تياره الكهربي مقطوع أساساً؛ بل لابد من الخروج من البيت وهو هنا: الدائرة العصرانية إلى مصدر النور وهو: دينه، ليستمد منه الضوء الذي يدخل به هذا العصر ليبدد ظلمات غرفه ودهاليزه، عارفاً ما فيه من الأشياء على حقائقها تحت هذا الضوء.
أمّا رفض الخروج من حلقة العصرانية: فإنه يُفقد التغير قيمته؛ لأن ثمرة الكفر تجربة من تجاربها لا تعني سوى التعلق بسواها من التجارب الجديدة.
ومهما زعمنا أننا امتلكنا ثقتنا بأنفسنا، والقدرة على تجاوز المراكز العربية التي كنا نستلهمها ما تبثه من فكر، وتنادي بما ترفعه من شعارات، فإننا سنظل أتباعاً، ولن نشعر لأنفسنا ولا لمجتمعنا بقيمة كيانية ما دمنا في دائرة هذه الحلقة (العصرانية). وهذا ما يُخشى أن يقف عنده أثر أزمة الخليج – خاصة – والتغيرات العالمية بعامة بالنسبة لهؤلاء، بل هوما يشهد به الحال لبعضهم[100].(/70)
يذكر الدكتور محمد الرميحي[101]: أن هذه الأزمة هزت المثقف الخليجي، مما عاد به ليحاسب نفسه، يقود متحدياً عن المثقف الخليجي (لقد ثبت بالدليل القاطع أن كثيراً منا غرر في تصوره لما يمكن أن تقدمه الأنظمة التي سميت في أدبياتنا بالثورية... لقد كانت بعض المفاهيم تنفر بعض مثقفينا وطلابنا في الخارج من أهلهم وذويهم، وتغرر بهم لدرجة أن يتنكروا لمجتمعهم).
لقد كان البريق الثقافي لبعض الأطروحات القادمة من الشرق والغرب التي بشر بها بعض المثقفين والسياسيين العرب تبهر بعض شبابنا، فتجد أسباباً عديدة منها: عدم الفهم الكامل لتركيبة، ومسار مجتمعنا، ومنها الانبهار بالجديد، ولم نحاول في السابق أن نسبر أغوار تلك الأطروحات ربما لإحساس بالنقص تجاه الآخرين، أو لتضخيم في المشكلات التي تواجهنا)[102].
ثم ماذا؟
إلى أين بعد هذه القناعات الانفعالية، وبعد أن أصبح – كما يقول – النظام العربي والجامعة العربية – بما حملت من أوهام الوحدة العربية والتنمية، وحقوق الإنسان والأمن القومي – جثةً تحتاج إلى من يدفنها، لا مريضاً يحتاج إلى علاج؟[103].
إلى أين الاتجاه بعد التطواف على مذهبيات الشرق والغرب، وبعد أن أصبحنا (أكثر نضجاً وأكثر فهماً وتفاعلاً، بل وثقة في أنفسنا؟).
الجواب إلى الارتماء سريعاً ودون تلكؤ في أحضان الأيديولوجية الجديدة – كما يسميها – إلى الاندماج في التيار العالمي الجديد إلى الخروج من زقاق الثاريخ إلى طريق الإنسانية السريع الذي يلتحم فيه العالم الآن في مسيرة موحدة تدفعها الليبرالية السياسية والمبادرة الفردية، والنظام المالي المفتوح[104].
وهكذا – كما قال الحارثي – عدنا حيث كنا.
لماذا؟
لأننا لم نخرج من حلقة العصرانية، وإن مقتنا بعض وجوهها.
من هنا أؤكد على استثمار هذه الهزة النفسية لذوي التوجه العصراني في مجتمعنا المتميز.
أدعوهم:(/71)
إلى أن يقوموا لله – خالقهم والمطلع على سرائرهم – مثنى وفرادى ثم ينفكروا في لحظات صدق مع النفس، وتجرد من الهوى والعصبية، ليسألوا أنفسهم.
ما حقيقة أهدافهم؟
وما مدى سلامة وسائلهم؟
وما مدى انسجامهم مع هويتهم الحقيقية؟
وما هو المسلك الحق المقنع عقلاً، المرضي وجداناً، الناجع واقعاً، الصحيح شرعاً لنهضة هذا المجتمع فكرياً، واجتماعياً، وحضارياً؟
ولا ريب أن بقايا الفطرة الإنسانية وجذور الإيمان بدينهم، وموضوعية التفكير ستقود من كتب الله له الهداية – نحو موقع جديد سينطلقون منه في توجهٍ جديد، خادمين بفكرهم، وأدبهم، وجهودهم أنفسهم ودينهم ومجتمعهم وأمتهم.
وإخال أن هذا التوجه الجديد سيقوم على منطق لا عهد للدوائر العصرانية في عالمنا العربي به، لعل من أبرز سماته:
1 - التحرر من أسر الثقافة الأوروبية التي تشكل منظومة فكر متشابكة، لا يستطيع الشخص الذي تهيمن عليه أن يقوم شيئاً إلا من خلالها.
2 - التحور من المصطلحات العصرانية التي تمثل في حقيقتها لبناتٍ مختومة بطابع الثقافة التي ولدت فيها وتطورت في ظلها.
3 - دراسة الإسلام دراسة شمولية مركزة تعي الفرق ما بين الوحي الإلهي وتعاليمه الراجعة إليه، وبين النظرات الاجتهادية لآحاد العلماء، فضلاً عن الأفكار الفلسفية والتطبيقات البدعية التي تنسب إلى الإسلام وليس لها به أدنى صلة، وهي التي – غالباً – ما يُسقطها العصرانيون على الإسلام، فيتصورونه من خلالها.
4 - الانطلاق من الإسلام وفق تلك الدراسة بصفته مذهبية مستقلة، لها منطقها ومصطلحاتها الخاصة، ومقاييسها المتميزة، ووجهتها المتفردة في تصور الكون، والوجود، والإنسان، والحياة.
5 - النظر إلى العصر على أنه وعاء تجري فيه حركة الإنسان في سائرمجالات حياته، ما بين صعود، وهبوط، مع وعي أن الرشد هو التفاعل مع هذه الحركة إمداداً لها واستمداداً منها، وفق معيار المذهبية الإسلامية.
وبعد فيا ترى:(/72)
ألم يأن للذين يلتمسون النور خارج دينهم متهافتين على الدوائر المظلمة ليقتبسوا – زعموا – من نورها أن يرجعوا وراءهم نحودينهم ونورهم، وأن يتقوا الله في أنفسهم، وفي ناشئة الأمة التي يُطفئون والإيمان في نفوسها، ويطمسون نور الفطرة في صدورها.
ليحذر هؤلاء من التمادي في (ضاعة طاقاتهم الفكرية، ومواهبهم الفائقة في حسرات عليهم، ستبقى ندماً أليماً لمن أدركته رحمة الله، فاهتدى قبل موته، أو تكون حجاباً عن ربهم وختماً يحول بين قلوبهم، والتوبة، فيموتون على ذلك فيكون الهلاك) – نسأل الله العافية –.
ختاما:
أسوق ما حكاه الله عن أمةٍ انتكس رأيها فزهدت بحق بين يديها، وتعلقت بباطل عند غيرها – جهلاً وسفها – يقول سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}. (الأعراف: 138 – 139 – 140).
ولهذا البلد الكريم، ولكافة أهله اذكر بنداء هتف به العالم الحائر منادياً هذه البلاد، قبل أربعين عاماً، وما زال النداء قائماً.
يقول هذا العالم:
(إنك تجودين عليَّ أيتها الجزيرة العربية بمقدارٍ عظيم من البترول أدير به ماكيناتي، وأسيرّ به عجلاتي، فأنا أدين لك بالفضل وأشكر صنيعك).(/73)
ولكني كنت أنتظر منك أيتها الجزيرة السعيدة، يا مولد نبي الرحمة شيئاً، أعز وأثمن من الذهب الأسود، كنت أنتظر منك أن تخرجي له عجلة الحياة التي غاصت في الوحل، وأن توجهيها التوجيه الصحيح، وأن تخلعيى ركابها من هذا المأزق، فقد عجزت حكمة الحماء، وصناعة الصناع من إخراجها، فأخرجيها بما معك من حكمة النبوة، وبقية قوة الرسالة والإيمان واليقين، وسيريها بنور الشريعة الإلهية، والهداية الإسلامية.
وفي الأخير، أقول: إنك يا جزيرة العرب قطعة مني يصيبك خيري وشري، ويصيبك لفحي ونفحي، لا يمكنك أن تعيشي منعزلة عني، فإن أدركتني وأصلحست شؤوني فإلى نفسك أحسنت، أو لا فعليك وعلى أهلك جنيت!)[105].
فهرس المراجع
1 - اتجاهات في الفلسفة المعاصرة – تأليف عزمي إسلام – طبع دار الفكر ببيروت.
2 - آراء نقدية – تأليف د.مهدي فضل الله – ط1/1401هـ، دار الأندلس للنشر.
3 - الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية – تأليف د.قاسم السامرائي – ط1/1453هـ.
4 - الاسلام في معركة الحضارة – تأليف منير شفيق – طبع دار القلم – الكويت.
5 - الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر – منير شفيق – ط2/1407هـ الزهراء للإعلام العربي.
6 - الإسلام والحضارة الغربية – محمد محمد حسين – ط 1/1399هـ – المكتب الإسلامي بيروت.
7 - الاسلام والعلمانية وجهاً لوجه – يوسف القرضاوي – ط2/1411هـ مؤسسة الرسالة بيروت.
8 - أصول التنصير في الخليج العربي – هـ. كونوى زيقلر – ترجمة مازن مطبقاني – ط ا/1410هـ مكتبة ابن القيم – المدينة المنورة.
9 - اغتيال العقل – برهان غليون – ط3/1990م مكتبة مدبولي بالقاهرة.
10 - إنسانية الإنسان – رينيه دوبو – ترجمة نبيل الطويل حـ1/1399هـ مؤسسة الرسالة بيروت.
11 - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط – يوسف كرم – طبع دار القلم بيروت.
12 - تاريخ الفلسفة اليونانية – يوسف كرم، ط 4.
13 - تجديد الفكر العربي – زكي نجيب محمود، ط6 دار الشروق – بيروت.(/74)
14 - تحديث العقل العربي – حسن صعب ط 1/1969م دار العلم للملايين بيروت.
15 - التراث والحداثة – محمد عابد الجابري – ط1/1991م المركز الثقافي العربي بيروت.
16 - تفسير ابن كثير – اسماعيل بن كثير القرشي – دار الفكر بيروت.
17 - التقارير السرية للمخابرات الأمريكية – إبراهيم العربي – المركز العربي للنشر والتوزيع القاهرة – والأسكندرية.
18 - تهافت العلمانية في الصحافة العربية – سالم البهنساوي ط1/1410هـ دار الوفاء بالقاهرة.
19 - جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث – جمال سلطان ط1/1412هـ مركز الدراسات الإسلامية – بريطانيا.
20 - حوار المشرق والمغرب – د.حسن حنفي ود.محمد عابد الجابري ط1/1990م مكتبة مدبولي القاهرة.
21 - شرح العقيدة الطحاوية – محمد بن أبي العز الحنفي – تحقيق د.عبدالله الزير وشعيب الأرناؤوط ط1/1408هـ مؤسسة الرسالة بيروت.
22 - الشريعة الإسلامية والآفاق العالمية – معروف الدواليبي – بحث ضمن مجموعة بحوث قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1399هـ.
23 - الشيخ عبدالله العلايلي والتجديد في الفكر المعاصر – د.فائز ترحيني ط1/1985م منشورات عويدات – بيروت – باريس.
24 - الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الاسلامية – أبوالحسن الندوي – طبع عام 1397هـ – مطبعة التقدم القاهرة.
25 - الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي – مجموعة بحوث بتحرير وتقديم د.سعد الدين إبراهيم ط1/1988م نشر منتدى الفكر العربي الأردن.
26 - صحيح الإمام البخاري – محمد بن إسماعيل البخاري – المكتبة الإسلامية – استانبول – تركيا.
27 - العرب والإسلام – أبوالحسن الندوي ط2/1389هـ – المكتب الإسلامي بيروت.
28 - عصر الإلحاد – محصد تقي الأميني الندوي – ترجمة مقتدى حسن ياسين – طبع دار غريب للطباعة بيروت.(/75)
29 - العلم والدين في الفلسفة المعاصرة – أميل باترو – ترجمة أحمد فؤاد الأهواني – طبع الهيئة المصرية للكتاب 1973م.
30 - العلمانية – سفر الحوالي – ط1/1402هـ جامعة أم القرى.
31 - الغارة على التراث الإسلامي – جمال سلطان – ط1/1410هـ مكتبة السنة بالقاهرة.
32 - في الفكر والثقافة الإسلامية – عدنان زرزور ط4/1411هـ – المكتبة الإسلامية.
33 - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين – أبوالحسن الندوي – ط6/1385هـ دار الكتاب العربي بيروت.
34 - محاضرات الموسم الثقاقي لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية لعام 406 – 1407هـ الطبعة الأولى 1411هـ طبع مركز الملك فيصل – الرياض.
35 - المسثشرقون – نجيب العقيقي – ط4 دار المعارف القاهرة.
36 - المسيحية – من سلسلة مقارنة الأديان – د.أحمد شلبي ط9/1995م مكتبة النهضة المصرية – القاهرة.
37 - المسيحية – نشأتها وتطورها – شارل جنيبر – ترجمة د.عبدالحليم محمود – المكتبة العصرية بيروت.
38 - معالم الثقافة الإسلامية – عبدالكريم عثمان – ط4/1394هـ مؤسسة الأنوار – الرياض.
39 - المغرب المعاصر – د.محمد عابد الجابري – ط1/1988م مؤسسة بنشرة – الدار البيضاء.
40 - مفهوم تجديد الدين – بسطامي سعيد – ط1 دار الدعوة – الكويت.
41 - الملك عبدالعزيز والتعليم – د.عبدالله أبو راس – وبدر الدين الديب ط1/1407هـ.
42 - مواقف من تاربخ الكنيسة – رولاند بينتون – ترجمة القس عبدالنور ميخائيل – ط2 دار الثقافة القاهرة.
43 - نقد العقل الوضعي – عاطف أحمد – ط1 دار الطليعة بيروت.
44 - ورقة في الرد على العلمانية – د.محمد يحي ط2/1408هـ – الزهراء للإعلام العربي – القاهرة.
صحف
1 - البيان – الإسلامية – مجلة شهرية – تصدر عن المنتدى الإسلامي – لندن.
عدد 40 تاريخ ذي الحجة 1411هـ.
عدد 41 تاريخ محرم 1412هـ.
عدد 43، 44 تاريخ ربيع الأول 1412هـ.(/76)
2 - التوباد – مجلة فصلية – تصدر عن الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بالرياض.
عدد محرم 1410هـ.
3 - الرياض – جريدة يومية – تصدر عن مؤسسة اليمامة الصحفية بالرياض.
عدد يوم 2/11/1412هـ.
4 - العربي – مجلة شهرية تصدر عن وزارة الاعلام بدولة الكويت.
عدد أكتوبر 1991م.
5 - المجلة العربية – مجلة شهرية – تصدر في المملكة العربية السعودية – الرياض.
عدد رمضان 1406هـ.
6 - المسلمون – جريدة أسبوعية تصدر عن الشركة السعودية للأبحاث والنشر.
عدد 340.
عدد 377 في 20/2/1412هـ.
7 - اليقظة – مجلة أسبوعية تصدر عن دار اليقظة الكويتية للصحافة والطباعة والنشر.
عدد شوال 1412هـ.
8 - اليمامة – مجلة أسبوعبة تصدر عن مؤسسة اليمامة الصحفية – الرياض.
العدد الصادر بتاريخ 15/11/1411هـ.
العدد الصادر بتاريخ 11/7 /1412هـ.
العدد الصادر بتاريخ 24/3 /1412هـ.
العدد الصادر بتاريخ 23/4 /1412هـ.
ــــــــــــــــــــــ
[1] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين أبو الحسن الندوي ص:163.
[2] تاريخ الفلسفة اليونانية – يوسف كرم، ص:253.
[3] انظر في تقرير هذا التغيير الذي أحدثه (بولس) في النصرانية كتاب المسيحية نشأتها وتطورها – شارل جنيبر ترجمة د.عبدالحليم محمود المطبعة العصرية بيروت ص104592) انظر عدداً من النقول عن أساتذة نصارى مثل ويدي، وبري الذي يقول (أن بولس هو في الحقيقة مؤسس المسيحية بل واعترف الفاتيكان بهذا – المسيحية – أحمد شلبي، ص111 – 130 – الطبعة التاسعة 990 –.
[4] انظر شارل جنيبر – المسيحية نشأتها وتطورها – مرجع سابق ص104 حيث يذكر تأثير المذاهب والنظريات التي كانت تعمر عقول الناس قبل تلقي المسيحية حيث يدخلون هذه المذاهب والنظريات في المسيحية التي يعتنقونها وكذلك تأثير للفلاسفة.
[5] انظر تحليلاً نقدياً لمسيرة أوروبا – ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين مرجع سابق ص:156.(/77)
[6] لم يكن النقل مقتصراً على كتب الفلسفة والعلوم التطبيقية والرياضية فقد ترجمت النصوص الشرعية – القرآن والسنة وسيرة الرسول ترجمات مشوهة حتى عد الدكتور قاسم السامرائي هذا القرآن المترجم (قرآناً جديداً مصنوعاً في الغرب) وكان الهدف من هذه الترجمات تشويه الإسلام أمام الأوروبيين أما كتب الفلسفة والعلوم الطبيعية التي ترجمت لتدرس فكان المقصود منهجها العقلي المتحرر واستثمار طرائقها البحثية التجريبية انظر – قاسم السامرائي الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية ص3546، ط1، 1403هـ.
[7] روجر بيكون هذا يعتبر من نافلي التراث الإسلامي إلى أوروبا، فقد ترجم كتباً من العربية، ويعتبر من المشجعين الأوائل على تعلم اللغات الشرقية، والعربية بالذات. انظر تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط – يوسف كرم 154 وانظر كذلك: المستشرقون – نجيب العقيقي (1/120).
[8] الفلاسفة والمعتزلة الداعون إلى العقلانية في الدراسات العقدية، إنما كانوا يدعون إلى نسق معين تمثل بالفلسفة العقلية الوافدة عليهم من فلاسفة اليونان ومن تأثر بهم.
[9] انظر: (العصرانية) السيد الشاهد – مجلة التوباد، محرم 1410 هـ، ص: 149.
[10] انظر في هذا فصل ((علمانية الحكم)) من كتاب العلمانية – د.سفر الحوالي، ص209.
[11] من أبرز هؤلاء الراهب لويزي في دراسة له للأناجيل، وجورج تيريل في كتابه (برنامج العصرانية). انظر هذه المسألة بتوسع في: مفهوم تجديد الدين – بسطامي، ص108.
[12] يصور أحد الغربيين حالتهم مع الدين قائلاً: إننا نعبد الدولار طيلة أيام الأسبوع، معبدنا البنك إليه تهفو نفوسنا وله يتجه سعينا، ولكننا مع ذلك نعبد الله متجهين إلى الكنيسة جزءاً من يوم الأحد!
[13] انظر: عصر الإلحاد محمد تقي الأأميني، ص:64، والإسلام والحضارة الغربية – محمد محمد حسين، ص185.
[14] العلم والدين في الفلسفة المعاصرة – أميل باتروا، ص19.(/78)
[15] في الفكر والثقافة الإسلامية – عدنان زرزور – ص31 – 32.
[16] وفي هذا الإطار لم جد الرئيس الأمريكي (جورج بوش) في حملته الانتخابية للعام 1992 حرجاً من تمجيد الدين والدعوة إلى التمسك به، واعتبار الإيمان هو سر عظمة أمريكا، وأن رئيس أمريكا لابد أن يكون مؤمناً، مع أن أمريكا دولة عصرانية – تجعل الشعب مصدر السلطات والتشريع وتنظم قوانينها على أساس الدراسات العلمية والواقع الاجتماعي بعيداً عن الدين الممجد.
[17] ولعل هذا من أسباب كون النصارى أكثر تجاوباً مع الدعوة الإسلامية وأسرع دخولاً في الإسلام من الوثنيين والملحدين؛ لأن عناصر الحق من دينهم تمثل خطوة نحو الإسلام.
وقد صور ما ذكرناه ((يوسف إسلام البريطاني)) في قصة إسلامه، حيث إنه لم تسترح فطرته للمسيحية، فتعلق ببعض الديانات الصينية، ثم بالماركسية، ولكنه عاد إلى النصرانية مرة ثانية، أنها أخون قسوة على النفس من تلك، حتى اهتدى إلى الإسلام أخيراً، فاستقر بفطرته المقام. انظر: المجلة العربية – رمضان 1406هـ.
[18] انظر مثلاً لهذا التأرجح في مجال الدين لدى العالم 0رينيه دوبو) الحائز على جائزة نوبل للعلوم في كتاب أخرجه عام 1970م، وهو: إنسانية الإنسان – فهو تحت ضغط الحضارة المادية يتجه – ناقلاً عن هوايت الابن – إلى أن الأمل الوحيد لإنقاذ العالم هو الاتجاه الديني العميق، لكنه في مكان آخر ينقد المسيحية بما فيها مت تفتت وإبهام وفلسفة زائغة – انظر: إنسانية الإنسان – ترجمة: نبيل الطويل، ص15.
[19] ولا شك أن الدين سيتحول إلى مسخ جديد، وإن أبقى له اسم الدين، إذ سيكون شبيهاً برجل طعم بهرمون أنثوي، فرق صوته، وتساقطت لحيته وارتفع صدره، ولكنه أصبح مسخاً لا هو بالأنثى، ولا بالذكر.
[20] قد يبدأ الناس مسيرة معينة، مستهدفين هدفاً محدداً، ولكن النتائج لا تأتي على ما رسموا، وهذا ما نريد قوله عن العصرانية على اقتراض حسن الظن.(/79)
ولقد كان ديكارت مؤمناً بوجود الله، محترماً للدين، ولأحقية الوحي في الحديث عن عالم الغيب، ولكن فلسفته العلمية انتهت باتباعه إلى الوضعية الملحدة.
وهذا ما ينبغي أن يعيه القادة والمفكرون المسلمون في دفعهم الأمة إلى التفاعل مع العصر، حتى لا ينتهوا بها إلى مواقع لا يرضاها دينهم، ولا تسعد بها أمتهم.
إن نبل المقصد وصدق النية لا يكفي وحده، إذ لابد معه من سلامة المنهج وانضباط الحركة، وفي نهايات علماء الكلام قديماً، والعصرانيين في الأمة حديثاً آية للمعتبرين.
[21] انظر تحليلاً لهذا التيار بين التسميتين (العلمانية والعصرانية) في مقالة العمرانية – مجلة التوباد، ص148، عدد عام: 1410هـ – للدكتور السيد الشاهد، ولعل له الريادة في هذا التحديد.
وانظر – بالمقابل – مفهوم تجديد الدين – بسطامي سعيد، ص95، 115. حيت انتهى إلى جعل العصرانية تعريباً للفظة (modernism ) وقد رأيت من خلال ما مر أن العصرانية تصدق على المصطلحين معاً.
[22] له كتاب عنوانه (خرافة الميتافيزيقيا) أي: خرافة ما وراء الطبيعة – الوجود الغيبي.
[23] الأستاذ عاطف احمد في كتاب (نقد العقل الوضعي).
[24] يفرق د.محمد هدارة بين المصطلحين فيجعل الأول هو الذي يصدق على الحداثة بمفهومها الشامل المذكور ويجعل الثاني مقصوراً على التفاعل مع ظروف العصر دون الانقطاع عن الماضي أي العصرية التي ستأتي في صفحة 74 انظر محاضرة هدارة – الحداثة والثراث، ص77، من محاضرات الموسم الثقافي لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية لعام 1486 هـ – 487.
[25] برهان غليون – اغتيال العقل – ص: 194.
[26] انظر: مجلة البيان – الإسلامية – ص: 19، العددان: 43، 44 1412هـ، حلقات الدكتور أحمد خضر بعنوان (علماء الاجتماع والعداء للدين وللصورة الإسلامية).
[27] صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام. انظر: تفسير ابن كثير (2/67).(/80)
[28] هذا الحكم للعموم، لكنه ليس عاماً لكل الناس، بل ولا كل البيئات، فقد ظهر خلال القرون المتأخرة فحول من العلماء المتحررين من ضغط الثقافة المهيمنة في وقتهم، وقد تجاوز تأثيرهم أنفسهم إلى بيئاتهم، فحركوا راكد فكرها، وردوا أهلها إلى الأصول الصحيحة التي بها حياة فكرهم وسلوكهم السليمة إلى الكتاب والسنة.
انظر توسعاً في تصوير حال المسلمين في القرون المتأخرة:
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، مرجع سابق ص: 129.
العلمانبة – سفر الحوالي، ص: 507.
الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام عبدالستار سعيد.
[29] سوى هؤلاء هناك صنف آخر من المسلمين رزقه الله سداداً في الموقف تجاه مدنية الغرب الغازية لفكره ودينه، فرجع إلى أساس إيمانه، إلى دينه.. إلى الكتاب والسنة، وجعلهما معياراً يزن بهما واقع أمته ووافد المدنية الغربية لينفي الخبث من كليهما، ويأخذ السليم منهما.
[30] تنكشف حيناً بعد حين عمالة بعض الأشخاص المؤسسات والدول، من خلال الأحداث أو رجال المخابرات مثل مايزكويلاند في لعبة الأمم وجورج آدمز في التقارير السرية للمخابرات الأمريكية الذي ذكر سعة هيمنة هذه المخابرات على المثقفين والصحافة ودور النشر لتسخيرها فيما يسهل من مهمة الحكومة الأمربكية في السيطرة على الشرق الأوسط وكانت من مهارة التغلغل؟ بحيث أن مجلة مثل (حوار) اللبنانية ظلت زمناً لم يكشف أن تمويلها الرئيس من المخابرات الأمريكية مباشرة، مما حدا برئيس تحريرها توفيق صائغ إلى الاستقالة أثر افتضاح المجلة. أنظر: التقارير السرية إبراهيم العربي، ص49.
[31] أنشئت المنظمة في أوائل السبعينات الميلادية، وهي منظمة منحرفة في توجهاتها ورجالها، وعامة من تستعين بهم في أنشطتها، فهي تستبعد من يحمل فكراً إسلامياً، وتحارب الفكر الإسلامي ذاته.
انظر: صحيفة المسلمون، عدد (340) – مقالة (غزو من الداخل) جمال سلطان.(/81)
[32] انظر: الغارة على التراث الإسلامي جمال سلطان ص: 130.
[33] انظر في هذا: الغارة على التراث الإسلامي مرجع سابق، ص: 130.
وصحيفة المسلمون – عدد 340/29/12/1412 هـ – الحلقة الأولى – لجمال سلطان من (غزو من الداخل). وجدير بالذكر أن المنظمة الإسلايبة للتريية والعلوم والثقافة (ايسكوا) بصدد إعداد استراتيجية للثقافة الإسلامية، نأمل فيها الاستقامة والنفع للمسلمين.
[34] يعترف الدكنور غسان سلامة أستاذ في جامعة السوربون – في ندوة الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي – المنعقدة في الأردن في 1987م – وهو يتحدث عن الصحوة (بأنه ما زال عدد منا يشك في مجرد وجودها) ص: 388، من الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي تحرير – الدكتور سعد الدين إبراهيم.
[35] الإسلام والهوية – د.على الكنز – عن مجلة البيان الإسلامية – عدد (41)، ص: 12. في مقال (علماء الاجتماع والعداء للدين وللصحوة الإسلامية لأحمد خضر.
[36] اغتيال العقل، ص: 202.
[37] انظر: مجلة (البيان) الصادرة عن المنتدى الإسلامي – عدد: 740، ص: 44.
مقال. د.احمد خضر – علماء الاجتماع والعداء للدين وللصحوة الإسلامية.
[38] أعتى من هذا الصنف التقليدي الذي بقى رغم تغيرالأحوال ينفخ في بوقه القديم صنف زادت حدة هجومه، وتوسع في توزيع ضرباته في الأمة وهو الصنف الذي يطلق عليه الأستاذ جمال سلطان في صحيفة (المسلمون) (ظاهرة محمد أركون) نسبة إلى رمز من رموزه، فقد كان انعكاس التحول الاجتماعي الذي يسير فيه المجتمع المسلم نحو أصالته ديناً وتاريخاً وتراثاً ليجعلها فاعلة في حاضرها موجهة لحركة المشتغلين – كان انعكاس هذا التحول – على هذه الفئة مفزعاً – لما تحمله من طموحات مضادة – لذا قررت تصعيد المواجهة لا مع الواقع العربي فكراً وحركة فحسب، بل مع منازع الأمة بصورة شاملة، مع دينها، وقرآنها، ورسولها وتاريخها وتراثها، فضلاً عن فاعليتها الحاضرة.(/82)
ويلحظ كات الدراسة: أن هناك خيطاً يربط هذا النسق من أشخاص هذه الظاهرة وهو انتماؤهم إلى أقليات مذهبية، أو طائفية، أو عرقية. صحيفة المسلمون – عدد: 377، ص80.
[39] المغرب المعاصر – محمد عابد الجابرى، ص: 75.
[40] انظر إن شئت مزيد وضوح في هذه القضية – جذور الإنحراف في الفكر الإسلامي الحديث جمال سلطان، ص71.
[41] انظر: حوار المشرق والمغرب – حسن حنفي ومحمد عابد الحابري، ص 45، وكذلك الغارة على التراث الإسلامي (مرجع سابق)، ص: 131.
[42] في هذا كتب الدكتور الجابري دراسة فكرية مطولة ومركزة بعنوان (نقد العقل العربي).
[43] إلى هذا يوجه د.برهان غليون في (إغتيال العقل) وإن كانت له مواقف تتسم بالحدة تجاه الصحوة.
[44] العلمانية – د.سفر الحوالي، ص: 586.
[45] الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر – منير شفيق، ص148 – 149.
[46] الدين في مواجهة العلم وحيد الدين خان، ص: 95.
[47] على حد قول الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
[48] لفظة عربية بمعنى التجميع والإمساك، سواء كان لصيد أو مال أو متاع، انظر: حوش في المعاجم اللغوية.
[49] أنانية الإنسان – رينيه دوبو، ص: 19.
[50] تعريب للفظة (برجماتزم) التي تعبر عن فلسفة يرى أتباعها أن قيمة المعتقدات والقيم الخلقية نابعة من أثرها، فما حقق منفعة للإنسان، فهوحق وخيروصحيح والعكس بالعكس، ومن أبرز روادها: وليم جيمس، وتشارلز برمر، وجون ديوى.
انظر: اتجاهات في الفلسفة المعاصرة – عزمي اسلام، ص: 85.
[51] يلاحظ بعد أزمة الخليج أن هناك تركيزاً هادفاً على هذا المنحى – المصالح لا المبادئ – مستغلين المفارقات التي حدثت في تلك الأزمة، ومنتهين من ذلك إلى أن علاقاتها المصلحية هي التي ساندتنا، وأن علاقاتنا الأيديرلوجية لم تسعفنا بالمستوى الذي كنا نرجوه.(/83)
[52] ذكرت الصحف ومنها (المسلمون) أن لندن وعدة مدن بريطانية شهدت منذ سبتمبر1991م لمدة ستة أشهر عروضاً ومهرجانات يابانية تقدم فيها أبرز مظاهر الحضارة اليابانية الثقافية والفنية والعلمية والمسرحية والرياضية. ويقول الخبر: إن هذه العروض تتناول الحياة اليابانية منذ القرن السابع حتى القرن الثالت عشر الميلادي، بعيداً عن النجاح الاقتصادي والتقني الذي ارتبط بصورة اليابان حاضراً، ويهدف اليابانيون من ذلك إلى إثبات أنهم رغم تقدمهم التقني والاقتصادي الباهر ما سزالون مشدودين إلى تراثهم وتقاليدهم بكل خصوصياتها.
[53] تجديد الفكر العربي، زكي نجيب محمود، ص: 189.
[54] التي هي بدورها مجال استهتار – كما يتضح في المسلسلات المُمَثَّلة – حيث يكون الملتزم بالحق الذي لا يغش ولا يسرق مجال سخرية الذين يعون عصرهم، فينتهزون الفرصة المواتية لالتهام ما تيسر لهم، دون تعثر في تلك القيم والمثل.
[55] بل وغير الغربية من عادات الأمم المختلفة البدائية عن طريق العمال والخدم، والأفلام.
[56] هذا ما يراه د.محمد الجابري في مشروعه للنهوض بالخطاب السياسي العربي، ولعلق محمود أمبن العالم على هذا الرأي بأنه: (دعوة تنويرية وتغييرية واعية ما أشد الحاجة إليها). أنظر: التراث والحداثة – محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية، ص: 347، 348.
[57] هذا في الأمور التي فصل الله ورسوله فيها الأمر؟ أما القضايا الإجتهادية فدائرة بين المجتهدين، ويبقى ما وراء ذلك من المجالات المفتوحة لكل إنسان في ظل الضوابط الشرعية.
[58] المجال هنا: مجال عرض للمظاهر، لا معالجة للمسائل، لكني أشير إلى أنه إن وجد الغرب مبرراً لصيحته بالحربة من سطوة رجال الكنيسة باسم الله، فلا مبرر للمسلم في إطلاق تلك الدعوة، لأن تكريمه بالعبودية لله يحرره من أي عبودية لسواه.(/84)
بل إن مقام الإنسان في الإسلام أرفع من مقام حرية يُرفع عنه بها مجموعة قيود أنه مقام التكريم (ولقد كرمنا بني آدم)، هذه الكرامة التي تقتضي احتراماً له، ورعاية لحقوقه، من قبل دولته ومجتمعه والأفراد من حوله، فأين هذه من تلك؟
[59] التعبير للأستاذ تركي السديري في زاوية/ لقاء – الرياض 2/11/1412هـ مقال جميل بعنوان ((الشكل)).
[60] مثل: مسابقات ملكات الجمال، وفتيات العلاف والفن والتمثيل، حيث يكون جمال الشكل المعيار المقدَّم للبروز.
[61] الخطورة في هذه المفارقة هي: أن الإنسان قد تستخفه الشهوات في حالات الرخاء، فينساق معها مع شعوره بمخالفته للحق.
ولكنه في حالات الشد والمصائب يركن إلى الطبيب، مع صعوبة ما يقوه على نفسه تاركاً المُهَرِّجَ رغم إضحاكه، ويأخذ بالعلاج مع مراراته، تاركاً المطعوم اللذيذ.
فإذا ما رفض الطبيب والعلاج مع فتك المرض به، وصاري يهيئ للمرض وسائل فتك أسرع بجسمه فإنه يكون قد انتكس في عقله، بل وفسدت غريزته الحيوانية، وعاد في مستوى دون البهيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[62] صحيفة المسلمون، ص: 9، عدد: 20/2/1412هـ، والنص للدكتور سعيد البازعي – المدرس بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة الملك سعود.
[63] انطر: مجلة اليمامة – مقابلة مع حسن العلوي ص: 38، عدد يوم 15/11/ 1411هـ.
[64] التأثير البشري في الكتب المقدسة – عند النصارى – أمر بدهي عند المفكرين والفلاسفة، لا من هم خارج الكنيسة، بل حتى لدى كثيرمن رجالها وشارحي تلك الكتب، مثل: (وليم باركي) وغيره.
انظر في ذلك – المسيحية – أحمد شلبي، ص: 213، 215، مواقف من تاريخ الكنيسة – رولاند بنيتون، ص38، 100، تاريخ الفلسفة الأورويية في العصر الوسيط، يوسف كرم، ص: 109.
[65] انظر: تحدبث العقل العربي – حسن صعب 119، حيث يكرس هذا الرأي.
[66] آراء نقدية – مهدي فضل الله، ص: 92، وانظر: الشيخ عبدالله العلايلي والتجديد في الفكر المعاصر فايز ترحيني، ص 336.(/85)
[67] في محاضرة له بعنوان (مناهج العلوم الإنسانية ومشكلاتها) ضمن محاضرات الموسم الثقافي لمركز الملك فيصل لعام 1406 – 1407هـ، ص: 192.
[68] لعل الشيخ الغزالي في آرائه التي ثارت عليها موجة الرفض يمثل نموذجها.
[69] يمكن أن يؤخذ د.محمد عمارة كنموذج في بعض كتاباته المتأخرة.
[70] جرت على علماء الكلام والفلاسفة في العصر العباسي قبل هؤلاء، حيث وقعوا في الحيرة والاضطراب الفكري – كما اعترف كثير منهم – أمّا المسلم المعتصم بوحي ربه فإن اعتصامه به يورثه يقيناً فطرياً بالحقائق واستقامة على وجهة هذا الوحي المحددة، ممَّا يجعله يقظاً أمام كل فكرة مناقضة لحقائق تلك الوجهة الواحدة، تشمئز منها فطرته قبل أن يُسقطها فكره.
[71] انظر: نماذج من العصرانيين وأنواعاً متفاوتة من أفكارهم العصرانية في:
1 – العصريون معتزلة اليوم – يوسف كمال.
2 – غزو من الداخل – جمال سلطان.
[72] العقيدة حسب ما هومصطلح عليه في علم الكلام، وإلا فإن كل ما أخبر الله به يمثل مناطاً لاعتقاد المسلم.
[73] المنهج السليم: هو أن الحكم على الأقوال والأشخاص يتم من خلال المصطلحات الشرعية فحسب دون المصطلحات المولِّدة التي لم تضبط بالتحديدات الشرعية.
انظر: الجواهر النقية من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، ص:12.
[74] العصراني: هو الشخص الذي اتخذ العصراية نهجاً له، أو حمل أفكاراً كثيرة منها، أو دعا إليها؛ أمَّا شحص تحدث منه فلتات عمرانية محدودة فإنه لا يسوغ وصفه بها، وإن أُدين ما اقترفه من فلتات، فقد قال الرسول – r – لأبي ذر حينما فلتت منه نعرة عصية تجاه بلال: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)).
صحيح البخاري – كتاب الإيمان، ص: 22. ولم يقل r إنك أصبحت جاهلياً.
[75] انظر: مجلة التوباد – عدد: محرم 1415 هـ، ص150، وكذلك الصراع بين الفكرة الإسلامية، والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية للندوي، ومعالم الثقالة الإسلامية – عبدالكريم عثمان، ص: 163.(/86)
[76] مجلة اليمامة 42 – 11/7/1412هـ – مقال التحريص الثقافي والاحياء – للدكتور عثمان الرواف.
[77] الصحوة الاسلامية وهموم الوطن العربي (مرجع سابق)، ص: 277، 353، وانظر في الكتاب نفسه البحوث الثلاثة عن (الصحوة الإسلامية والثقافة المعاصرة) للجابري وهشام جغيط، ورضوان السيد، والمداخلات عليها.
[78] وغير المعاصرة من الثقافات البشرية حتى ثقافة المسلمين أنفسهم.
[79] مثلاً: الايمان بالكتب يمثل الايمان بأن الكتب السابقة قد خرفت، وأن أهلها قد ضلوا، وأن القرآن محفوظ من التحريف، ومنزه عن الباطل. والإيمان بالرسل يدخل فيه الإبمان برسالة محمد – r – بما ورد لها من خصائص – كنسخها لما سبق، وختمها للرسالات، وانحصار الدين الصحيح في اتباعها، وعموميتها للناس... الخ.
[80] جيل الصحوة هنا، عَلَم على اتجاه، وهو الاتجاه الوسطي الذي تحرك ذووه في الواقع باتزان بين علم شرعي، ووعي واقعي يقوم عليهما منهج حركة. وعليه: فإن وجود أفراد، أو جماعات تأوي إلى هذه الراية، وهي لا تُمثِّل هذا الاتجاه – إسلامياً – إنْ بالغلو أو بالتفريط ليست في حسباننا.
[81] هذا إذا حدث يمثل تحولاً إلى الضد من مواقفهم، وقد يحدث هذا إذا وعوا حقيقة أخرى وعياً إيمانياً شعورياً، وهي: أن الإسلام – الذي تقوم عليه إسلامية المسلم وإسلامية ثقافته – مُنزَّل من عند الله، متعال على الزمان والمكان ونسبيات الفكر البشري، ممَّا يُقر في خَلّدهم أنه الحق، وأن ما يضاده باطل، مهما كان مصدر هذا المضاد، تمكناً ونضجاً، وبهذا يتخطون مشكلة أخرى لهم مع جيل الصحوة، حيث ينتقدون هذا الجيل بأنه لا يقدم مذهبيته ومنهجه، على أنه أطروحة قابلة للنقاش والأخذ والرد والامتزاج مع الأطروحات الأخرى، وإنما يقدمها على أنها أيديولوجية إلهية متفرقة على كل أطروحة بشرية قائمة أو ستقوم؛ ومن ثم فدورها دور نضالي إحلالي تجاه الأفكار البشرية المقابلة، لا تركيبي وامتزاجي معها.(/87)
انظر: الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي (مرجع سابق)، ص: 347. وأساس هذا النقد لديهم تعاملهم مع الإسلام كغيره من الثقافات والأديان بصفته إرثاً بشرياً قابلاً للخطأ والصواب – لا وحياً إلهياً قطعي الحقائق، وهذا التصور ناتج – بدوره – عن الحلقة التي تشكل داخلها تفكيرهم وهي: الفكر الغربي – العصراني – الذي لا يتجاوز بالقيمة العلمية – لتعاليم الدين سوى الفكر البشري.
[82] يقول الدكتور محمد يحيى ((إن العلمانية محاولة فاشلة لفرض التخلف في العالم الإسلامي بإبعاد الدين عن الحياة، وحصاره قي الزوايا والموالد، وهي نفسها بتقليدها الكامل وتبعيتها للغرب نوع من التخلف والجمود العقلي، والقعود عن الابتكار واكتفاء بقوالب جاهزة، وأفكار ماتت في الغرب نفسه، ونقلت عنه في أشكالها البدائية...)).
ورقة في الرد على العمانية د.محمد يحيى، ص: 101.
[83] شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز – تحقيق: التركي والأرناؤوط (2/546).
[84] وقد كانت الصدمة لبعض مفكري الخليج من مواقف رواد الفكر والأدب – العصرانيين – من أزمة الخليج التي اسقطوا بها مقولاتهم في الحرية والديمقراطة ونحوها – كانت من الشدة بحيث دعت الدكتور حسن الإبراهيم إلى دعوة هؤلاء – عبر صحيفة الشرق الأوسط – إلى الانتحار؛ لأنهم سقطوا.
[85] هذه سنة الحركة في الحياة (التخلية ثم التحلية) أو النفي ثم الإثبات على منطق الشهادة (لا إله إلا الله)، فقد كشفت الصحوة جهودها لتطهير المجتمع المسلم من أدران العصرانية، داعية الناس إلى العودة للإسلام دون تفصيل، ولكنها لابد لها بعد أن أدت دعوة تجاوز الواقع العصراني والتعلق بالاسلام أثرها أن تفصل حياة الناس على مقاسات الإسلام مع مواصلة جهاد العصرانية التي ستمثل وضعاً عدائياً قائماً لن يستسلم بشكل تام، حتى مع ظهور الإسلام.(/88)
[86] الاندماج في عملية الهدم دون التخطيط لما بعدها يوقع الناس في حيصة بعد أن يتهيأوا للتخلي عن البنيات السابقة لهم، حينما يشعرون أنهم سيصبحون في الخواء؛ نتيجة النقص في البدائل، أو عدم استوائها لدى الذين قاموا بعملية الهدم. لذا فقد يلعب العصرانيون على الحبل فيقدمون للناس بدائل عصرانية عن البنى السابقة، وكم بذل المسلمون من دماء في محاربة المستعمرين والطغاة، ثم قطف الثمرة سواهم.
[87] ولقد اهتبل بعض العصرانيين هذه الثغرة، فأعلموا حبُّهم للإسلام، واستعدادهم لخدمته، ومن ثم خلعوا على أنفسهم لقب المفكرين الإسلاميين، وبدأوا يقدمون للناس منهج حركة الحياة المطلوب، من حلال رُؤاهم المشبوهة، أو على الأقل الناقصة.
[88] أمّا العامة والمثقفون ثقافة لا تؤهلهم للريادة في هذا المجال، ينبغي أن يعوا دورهم تلقياً من المؤهلين، وحماية لمشروعهم الإسلامي، ومن الخطأ أن ينعكس الأمر فيُصبح الرواد تبعاً للعامة، ينفعلون بآرائهم ولو كانت فجّة، ويدارونهم ولو على حساب الحق.
[89] مبحث (العصرانيون ومفاجأة الصحوة الإسلامية)، ص: 38.
[90] رواه الشيخان وغيرهما. انظر: صحيح البخاري – كتاب فضائل المدبنة، الباب السادس.
[91] هذه الفلسفات والنظريات ترزع – وللأسف – في نفوس أبناء المسلمين وتعليم كثير من البلاد المسلمه، مما يؤدي إلى زعزعة بقايا الفطرة والتقاليد الإسلامية التي يعيشها مجتمعه، إذ الغالب في تلك المناهج أنها تعرض الفلسفات والنظريات المخالفة للإسلام، دون عرض مقابل للإسلام، ومنهجه، وموقفه. من تلك الفلسفات.(/89)
[92] ليس بين التفاعل مع الفكر البشري فلسفياً وعلمياً، وأصالة الإنسان الفطرية مفارقة لأن الفطرية هنا لا تعني البدائية فكراً أو حياة إنما تعني بقاء الأوليات العقلية (سواء من منطقيات المعرفة أو في الأخلاق) حية حاضرة في نظر الإنسان وممارسته خلافاً لإنسان ينشأ في جو مضطرب تسوده فلسفات لا منطفية، وله فيه أدب الاغتراب، ونحو ذلك مما يؤدي إلى مسخ فطرته.
[93] انظر وضوحه في أقوال حكام هذه الدولة في:
– خطب الملك عبدالعزيز.
و(وثائق للتاريخ) صادر من وزارة الإعلام السعودية.
وقد أجمل الملك فيصل – رحمه الله – هذا العنصر بقوله: ((البيت السعودي بيت دعوة قبل أن يكون بيت ملك)).
الملك عبدالعزيز والتعليم د.عبدالله الرواس، وبدر الدين الديب. ص: 17.
[94] بالنسبة للوضع العام.. أمّا التفلتات الشاذة فلا تمثل من المجتمع، ومن ثم فهي ساقطة الاعتبار.
[95] كالجامعات الإسلامية، وهيئات الدعوة، ورابطة العالم الإسلامي، والندوة العالمية للشباب الإسلامي.
[96] أصول التنصير في الخليج العربي – هـ. كونري زيقلر – ترجمة: مازن مطبقاني، ص: 33.
ويذكر أنه في عام 1914م عرض المبشر الطبيب مايلريا على الملك عبدالعزيز – رحمه الله – تأسيس مستشفى للبعثة في الرياض، فرفض الملك ذلك رفضاً حاسماً – 65 من المصدر نفسه.
[97] هذا الوعي الذي يمثل فهماً صحيحاً لحقيقة الدين الذي جاء به رسول الله – r – ورضيه المولى – سبحانه – لعباده – في هذه البلاد – من أثار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – ذلك أن تصور المسلمين لدينهم كان قد أصابه الغبش حتى قبل ظهور العصرانية في سائر البلاد في عصور الضعف عند المسلمين.
[98] وقد كثسفت أزمة الخليج من فضائح هؤلاء المثقفين العرب! ما فيه عبرة لأولي الألباب.(/90)
[99] في عام 1974م كنتيجة لصيحات النقد الموجهة لنظم العالم القائمة عقدت هيئة الأمم المتحدة بكامل أعضائها اجتماعاً (دار البحث فيه عن نظام جديد، وأقروا بالإجماع: إن النظامين القائمين، والأنظمة العالمية السائدة أصبحت غير صالحة لقيادة العالم المتحضر، الذي أصبح الإنسان يفتش فيه عن قيمته وكرامته.. وقرروا رجوب إنشاء نظام جديد على قواعد جديدة، وأحبل هذا القرار إلى الجهاز العلمي للأمم المتحدة – اليونسكو) الشريعة الإسلامية والآفاق العلمية، ص: 3، معروف الدواليبي – بحث ضمن بحوث قسم الثقالة الإسلامية – بجامعة الإمام، لعام 1399 هـ.
[100] ولعل هدا ما يشير إليه الدكتور فهد الحارثي في شيء من العتب حينما قال: إن أزمة الخليج كشفت عن أنا كنا (نفكربطريقة خاطئة، وأن نمط تعاملنا مع الأخرين كان يبلغ مداه في الفشل، وأن كل شيء ممّا كنا نفعله كان يمشي على عكسه، وهو زائف، وهو براق، وهو خادع...). ولكنه يقرر أن هذا الكشف لم يحقق تغييراً إيجابياً؛ إذ (لا زلنا نفكر بنص الطريقة، ولا زلنا نأتي ما اعتدنا من ممارسات وتصرفات)، ثم يحذر مثفقاً (إننا خائفون.. – خائفون جداً أن يكون هذا الغد ليس أكثر من تكرار مسخ لذلك الأمر، فتصبح الأزمة مجرد ذكرى أو حلم مزعج قضي وانتهى، ثم عدنا كما كنا).
انظر: مجلة اليمامة، ص: 11، العدد: 1174 في 24/3/1412 هـ – وانظر أيضاً: منير شفيق – الإسلام في معركة الحضارة حيث ينبه إلى خطورة هذا الموقف الذي يقفه العصرانيون حيث يقوم نقدهم لبعص صور الحداثة الفاشلة على أرضها، وضمن منطقها – الغربي (وهذا ما يبقينا في الأرض ذاتها، ولا يكون نقدنا غير صدى لما يجري على أرض الفرنجة من صراعات)، ص117.
[101] مفكر كويتي رئيس تحرير مجلة العربي وصوت الكويت.
[102] مجلة اليمامة، ص: 50، عدد 13/4/1412هـ.
[103] المقالة الافتتاحية لمجلة العربي بعنوان ((سقوط الأوهام))، عدد أكتوير 1991م.
[104] المصدر السابق.(/91)
[105] العرب والإسلام، ص: 22، أبوالحسن الندوي.(/92)
العنوان: العصفورة وشجرة التوت
رقم المقالة: 503
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
على مَقربة من غدير الماء العَذب الذي يَجري وسط الرَّبوة المكسوَّة ببساطٍ من العُشب الأخضر الزّاهي .. نمت شجرةُ التُّوت الجميلةُ وراحت تكبُر وتكبُر، ويمتدُّ ظلُّها الرَّطيب يوماً إثر يوم...
ومع قُدوم فصل الرَّبيع تفتَّحت الزهورُ الحمرُ والصُّفر تُزيِّنُ المَرجَ الأخضرَ النَّضير الذي بدا كثياب الفتيات يومَ العيد...هناك بين صدى خريرِ الماء وابتسامات الأطفال وعبير الزُّهور قرَّرت العصفورةُ البِكر أن تضَعَ بيوضها الأولى في أحضان شجرة التُّوت الوادِعة...
أمضت العُصفورةُ وقتاً طويلاً في بناءِ بيتِ الأمومة..لقد بَنَته من العيدان الطريَّة واللُّبَد الناعم ...وفرشتهُ بالقُطن الأبيض النَّاصع، وراحت تنسُج القُطنَ بمنقارها الحالم لتجعلَ من فِناء العش فراشاً وَثيراً يؤمِّن الدِّفء والراحة للضُّيوف الأعزَّاء القادمين.... لقد ملأت العُش بحبَّات القَمح والعَدس وكلِّ ما يحتاج إليه أبناؤها..
يا لها من أوقاتٍ سعيدة وماتعة في حياةِ العصفورة التي تسبَحُ في الفضاء فرحةً تَزُفُّ البشارةَ بحَملها الغالي لأسراب الحمام وجُموع البلابل والعصافير ...
لقد مرَّت الأيامُ بطيئةً عليها، وبدأت حركتُها تتثاقلُ شيئاً فشيئاً حتى وضَعت بيضتَين صغيرتَين كانتا في عينها أجملَ من الدُّرر، وأكثرَ بريقاً من النجوم، وأغلى من كُلِّ شيء في حياتها...
لم تعُد راغبةً في فراق العُشِّ الذي امتلأ بالمحبَّة والأُنس والسَّعادة.. وكانت كلَّما غادرته لتشربَ من الغَدير تحلُم بأن تعودَ وقد خرجَ الفرخان من البيضتين.
راحت تُكثر من التَّغريد وكأنها تستعجل فرخَيها بالخروج....(/1)
يا له من صباحٍ جميل.. الشمسُ تبتسمُ لزقزقة الفَرخَين الصَّغيرين..والبلابل تبعثُ تغريدَها في الأفق السَّعيد.... والنسائمُ هدَّأت من حركتها وراحت تُفيض العطرَ والنَّدى من ذَرَّاتها الوادعة..
حقَّقت العُصفورةُ أغلى أمنيَّاتها..ومكَثت أُسبوعاً كاملاً تُطعم فَرخَيها مما جَنته..
لكنَّها قرَّرت مع بُزوغ فجر اليوم التالي أن تجوبَ الفضاء بَحثاً عن طعام طازج ...
كانت رحلةً سعيدة.. ولكنَّ الشَّوق الذي يشدُّ العُصفورة إلى الفَرخَين كان أكبرَ من أن تستمتعَ برحلتها في الفضاء الرَّحب بين الغُيوم البِيض والبلابل الملوَّنة..
ملأت مِنقارَها بالحبوب ويمَّمت وجهها صَوبَ البيت الدافئ ..وعندما أصبحت على مَقرُبة منه فوجئت باندفاع سحائبَ من الدُّخان الكثيف تتخلَّل أغصان الشَّجرة...
ساوَرَها الخوفُ والقلق ..جدَّت بالطَّيران ..أسرعت وأسرعت فسقطت حبوبُ القمح من فَمِها ....يا إلهي إنَّهم مجموعة من الشُّبَّان يُشعلون النَّار ويتمتَّعون بالشيِّ...اقتحمت الأمُّ الحنون أغصانَ الشَّجرة فوجدت فرخَيها مختنقَين في العُشِّ ...حَملتهُما وأنزلتهما إلى الأرض على مَقرُبة من الشَّجرة..وراحت تتأمَّلهُن وتبعث تغريدَها حُزناً وألماً ملأ الأفقَ حُرقة وحسرة....
لقد بكتهُما طَويلاً و...
نَهض الشبَّان من فَورهم مُتأثّرين يتأمَّلون هذا المشهدَ الحزين..وقَفوا للحظات، وقال أحدُهم : لقد ارتكَبنا خطأً كبيراً عندما أشعَلنا النَّار تحت الشَّجرة ..لقد تسبَّبنا في مَوت هَذَين الفَرخَين..ومأساة هذه الأمِّ....إنها غَلطةٌ كبيرة.. لن نكرِّرَها ..
ذَرَفَت العُصفورةُ دموعَ الألم والحُرقة بعد أن تبدَّدت آمالهُا وأمانيها فوق شجرة التُّوت وراحت تبحثُ عن مكانٍ أكثر أمناً..(/2)
العنوان: العقلية الاستهلاكية ومستقبل الأمة
رقم المقالة: 1280
صاحب المقالة: طارق حسن السقا
-----------------------------------------
من المحاور المُلِحّة التي يجب أن تأخذ حقَّها في طاحونة التغيُّر الذي نأمُله للأمة محورُ تغيّر العقلية الاستهلاكية عند الكثيرين من أبناء أمتنا. ويبقى أيضا إعادةُ تكوين العقلية المنتجة عند أبناء هذه الأمة هدفًا كبيرًا نجاهد جميعا من أجله, أو بالأحرى من أجل أن تبقى رؤوسُنا طافية فوق الماء. فكل الدلائل تنبئ بنتائج كارثية إن سارت الأمةُ وهي تحمل لواء الفكر الاستهلاكي, أو تصر على إنتاج ما لا تحتاج, واستهلاك ما لا تنتج.
فمنذ ظهور العولمة سنة 1990م وهي تهدف إلى نشر ثقافة الاستهلاك وتصدير ثقافة السوق, وشل إرادة الإنتاج, وقتل الإبداع في الدول الفقيرة. وعمَدت إلى أن يتحقق ذلك جنباً إلى جنب مع إجبار هذه الشعوب على إنتاج ما لا تحتاج, واستهلاك ما لا تنتج. وجاء ذلك بالتوازي -أيضا- مع إغراق كل المجتمعات التي تغزوها العولمة بالقيم المادية, وتحطم القيم الأخلاقية التي تميزها. ويبقى الهدف الكبير من وراء كل ذلك محصورا في كلمة واحدة: تحقيق المزيد من فرص الكسب والثراء على حساب شعوب العالم الفقيرة!
ومن أجل تهيئة عقول شعوب العالم لقبول الفكر الاستهلاكي بسرعة وبغير إهدار للوقت, عمد منظّرو العولمة إلى السيطرة على وسائل الإعلام, وتطويرها بُغيةَ غزو عقول الشعوب, وخلق العقلية الاستهلاكية النهمة وتهيئتها لقبول ثقافة العولمة الاستهلاكية بسرعة وبغير إهدار للوقت. فهم يؤمنون بأن (التشابه في الأفكار يولّد حتمًا تماثلا في السلوك)، ولعل الكم الهائل من الإعلانات التجارية التي تصدعنا بها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في كل حين يؤكد لك هذا البعد. ويؤكد لك أن هذا أحد الأسباب التي ساعدت إلى حد كبير على خلق العقلية الاستهلاكية في مجتمعاتنا.(/1)
والعقلية الاستهلاكية: هي تلك العقلية التي تُقبل على الاستهلاك متجاوزة درجة إشباع الحاجات الطبيعية الضروريّة للعيش إلى إشباع الحاجات الثانوية غير الضرورية والتي يمكن أن يستغني عنها أصحاب الإرادات القوية أو أولئك الذين يدركون أبعاد المخطط وخطورة المؤامرة. ولعل ذلك يعطينا تفسيرًا لأسباب إغراق أسواقنا بجليل منتجات الغرب من: الهامبورجر, والبيتزا, والكولا, والأيس كريم, والفياجرا, وأفلام هوليود, وموسيقى الجاز و(الروك آند رول) ومنتجات الجينز وقبعات الكاوبوي، والمخدرات بكل أصنافها, وأفلام الجنس والعنف والإثارة والرذيلة بكل أنواعها، وكلها مما يغذي العقلية الاستهلاكية، ولعل ذلك أيضا يفسر أسباب إلحاحهم الدءوب على عقول الشعوب في تتابع عجيب.
كان من نتائج هذا الإلحاح أن انتشرت العقلية الاستهلاكية النهمة عند أبناء أمتنا بنسبة كبيرة، فلم يكن الأمر مستغربا حينما طالعتنا الأنباء بأننا ننفق مئات الملايين من الدولارات على الذهب والمجوهرات، ومكالمات الجوال، ورناته الخليعة, والأيس كريم المستورد، والعطور، ومستحضرات التجميل, والبخور, والمكسرات، ولعب الأطفال، والتدخين.
وما هذه النماذج التي ذكرناها -على سيبل المثال لا الحصر- إلا إحدى الدلائل القوية على أن العقلية الاستهلاكية في مجتمعاتنا بدأت تبيض وتفقس.
ودعني أعود بك إلى ما قبل ميلاد العولمة بـ1300سنة تقريبا، وبالتحديد إلى الليلة التي اشترى فيها أبو الأسود الدؤلي -القاضي المشهور, والتابعي المعروف, والشاعر المجيد- حصانا. في تلك الليلة استيقظ أبو الأسود على صوت غريب, ولما تحسس الأمر وسأل قالوا له:
إنه صوت الحصان يقضم شعيره طوال الليل.
فقال أبو الأسود الدؤلي مقولته الحكيمة:
والله لا أترك في مالي من أنام وهو يمحقه ويتلفه، والله لا أترك في مالي إلا ما يزيده وينميه.
وفي الصباح باع الحصان، واشترى بقيمته أرضا للزراعة.(/2)
إن حكمة أبي الأسود جعلته يرفض الإذعان للعقلية الاستهلاكية منذ اليوم الأول، كان الرجل يؤمن أن من يسلم نفسه, وماله, وموارده للعقلية الاستهلاكية إنما يسلم مصيره للإخفاق والهلاك. وهذا ما لم تقبله عقلية أبي الأسود وما لا تقبله عقليات كل الأسوياء على مر الزمان. إن حكمة الرجل جعلته يفضل اقتناء مصدر إنتاجي (أرض للزراعة) بدلا من الحصان (كمصدر استهلاكي).
لقد آن الأوان أن ندفع شعوبنا دفعا للبعد عن ثقافة الاستهلاك، وتثقيفهم بثقافة الإنتاج, والبعد عن المظهرية, وحب الظهور, والرغبة في التميز والاختلاف, وحب التملك, والتباهي. إذ يُجمع المتخصصون على أن العقلية الاستهلاكية عقلية سطحية بدائية، تميل إلى حب الظهور والتقليد بالتبعية، تربط السعادة دائما بالقدرة على اقتناء كل ما تشتهيه النفس. هدفها الأساسي في الحياة هو تحصيل الملذات مهما كانت الوسائل، وهذا يفتح المجال عند أصحاب العقليات الاستهلاكية إلى طلب المزيد. هذا المزيد يفتح المجال أمام مزيد آخر هو (مزيد المال). وفي رحلة البحث عن هذا (المزيد) غالبا ما تتولد الكوارث.
إن استشراف المستقبل ينبئ بنتائج كارثية جمة إذا لم تتخلَّ مجتمعاتنا عن العقلية الاستهلاكية, وتعُدْ سريعا إلى (الفلسفة الدُّؤَلية) فلسفة الإنتاج والبعد عن كل ما من شأنه إهدار ثرواتنا ومواردنا دون مردود إيجابي حقيقي. فلابد من العودة السريعة إلى إعداد الفرد المنتج, والبيت المنتج, والقرية المنتجة, والمجتمع المنتج، لابد من إنتاج ما نحتاج إليه. لابد من العودة إلى المشروعات الإنتاجية الصغيرة, بدلا من التباهي بالعقلية الاستهلاكية المقيتة التي ليست سوى واحدة من الحراب التي رشقتها العولمة في قلب الأمة, وهي تعلم أنها الحربة التي ستصيب الأمة في مقتل.
فهل نطلق هذه العقلية قبل فوات الأوان, وقبل أن تغوص رؤوسنا في الماء؟!(/3)
العنوان: العقيدة.. وأثرها في صياغة الشخصية المسلمة
رقم المقالة: 440
صاحب المقالة: محمد جلال القصاص
-----------------------------------------
(خرجت قريش - يوم أحد - بحدِّها وجدِّها وحديدها وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة، وأهل تهامة والظعينة[1])، موتورين بآبائهم وإخوانهم، يُجعجع فرسانهم، وتضرب بالدف نساؤهم، وينادي بالثأر جميعهم، فيهم مئتا فارس، على رأسهم خالد بن الوليد؛ يواجهون سبع مئة رجل؛ رجال حُسر، ولم يغنِ قريشاً أن بها خالد بن الوليد، ولم يستطع أن يفعل شيئاً إلا على غِرَّة، والمسلمون مشغولون، قد انفضوا من مواقعهم، واستدار بعضهم على بعض؛ و برغم ذلك، ما استطاع خالدٌ بثلاثة آلاف أن يقتل إلا سبعين رجلاً، أو أقل.
وفي يوم الحديبية خرجت قريش، كخروجها يوم أحد أو أشد، ووقف خالد بن الوليد على رأس فرسان قريش، وما جرؤ على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وهم حُرُمٌ لا يحملون إلا سيف الراحلة، بل وقف يبحث عن وقت غفلة؛ كي يأخذهم على غِرَّة - كما فعل يوم أحد - وما استطاع شيئاً[2].
وفي سنة تسع من الهجرة عقدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لواءً لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - بأربع مئة وعشرين فارساً، إلى إحدى قرى الشام (دومة الجندل)؛ كي يُغِيْر على مَلكها أُكَيْدِرِ؛ فقال خالد: يا رسول الله، كيف لي به وسط بلاد كَلْبٍ، وإنما أنا في أناس يسير؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستجده يصيد البقر؛ فتأخذه))؛ فتشجع خالد، وسار إليه فوجده على الحال التي وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فأخذه.[3]
وبعد عامين فقط: تجمعت قبائل كلب، ومن جاورها من بني تميم، ومعهم أحياء قضاعة عند دومة الجندل؛ فتحرك إليهم خالدٌ في جيش أقل منهم بكثير جداً، وذبحهم في الحصون وحولها.(/1)
وبعد عامين آخرين: ركب خالد بن الوليد في نفر يسير - بالنسبة لقوات العدو - إلى من ارتد من العرب؛ من غطفان، وبني حنيفة. ثم اتجه إلى أهل العراق والشام؛ فأتى على قوى الكفر كلها؛ من عرب، وفرس، وروم في تلك البلاد، وما تردد في معركة، وما انهزم.
ما الذي حدث؟
خالد هو خالد، بل في الإسلام كبرت سنه ورقَّ - بعض الشيء - عظمه، فكيف يَهزم كل هذه الجيوش المتماسكة المجتمعة؟ وكيف يقتل كل هذا العدد من البشر؟[4]
حدث هناك نوع من التغير في المفاهيم، والتصورات الداخلية، التي تُحرِّك خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ومن معه؛ نوع جديد من المفاهيم عن طبيعة المعركة، وأسباب النصر والهزيمة؛ جعلت خالداً يُحْدث كل هذا الأثر في واقع الناس. وتدبر هذين الموقفين:
الإسلام يُغيِّر مفاهيم خالد:
يوم اليرموك: جاء أحدهم يخوفه من الروم - وقد أقبلت كالسحابة السوداء، تسد الأفق، تموج بهم الأرض، كما يموج البحر، صوتهم كالرعد - كما يصفهم ابن كثير - رحمه الله - على لسان من حضر المعركة - والمسلمون قلة -: جاء يقول لخالد: ما أكثرَ الرومَ وأقل المسلمين! فقال خالد: ويلك! أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر (أي من الله)،[5] وتقل بالخذلان، لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر – يعني فرسه - براء من توجيه، وأنهم أُضعِفوا في العدد .
وحين همَّ بعبور بادية الشام من العراق إلى اليرموك؛ تخوف من معه؛ واستداروا كأنهم يريدون مراجعته في أمر العبور إلى الشام؛ فقام فيهم خطيباً بهذه الكلمات: "اعلموا أن المعونة على قدر النية، والأجر على قدر الاحتساب؛ فأروا الله من أنفسكم خيراً؛ يمدكم بمدده".
خالد بالأمس القريب، حين أُمِرَ بالتوجه لأُكيدر؛ يحسب للعدد حساباً وينادي: "كيف ... وإنما أنا في نفر يسير؟" وهو اليوم يلغي عامل العدد من أسباب النصر والهزيمة.(/2)
وخالد يتمنى شفاء فرسه؛ ليكون أنشط في القتال، مقابل أن يزيد جيش الروم ضعفاً كاملاً. أهذا خالد يوم أُحد والحديبية؟!
وخالد يُقدم على عبور المفازة، سالكاً طريقاً لا يظن عاقل أن جيشاً يسير به وينجو؛ معتمداً على أن "المعونة - من الله - على قدر النية"؛ فهو يتكلم بأن السبب المطلوب بذله لعبور هذه المفازة هو صدق اللجوء إلى الله، وحسن التوكل عليه، ويُذكِّر من معه بالاحتساب؛ حتى لا يضيع الأجر.
العقيدة.. ومقاييس أخرى للنصر والهزيمة:
إن العامل الأساسي هو العقيدة، وليس شخص خالد - رضي الله عنه - فكما رأيت، حَدَثَت تغيرات نوعية في شخصية خالد، وما أنجزه بعد الإسلام، وهذا الأثر ازداد تدريجياً بثبات الإسلام في صدر أبي سليمان – خالد بن الوليد - كما علل هو، رضي الله عنه وأرضاه.
يزداد هذا الأمر وضوحاً في ذهنك - أخي القارئ - حين تتذكر أن الفتوحات الإسلامية لم تتأثر مطلقاً برحيل خالد عن القيادة، ولكن برحيل الجيل الأول من الصحابة، ومجيء من كانوا أقلَّ شأناً في أمر الدين.
ويزيد من هذه الفرضية أن النصر، والهزيمة، وطبيعة المعركة - من حيث أطرافها – لها تصور خاص في الشريعة الإسلامية؛ فالشريعة تتكلم على حضور الملائكة القتال؛ تثبِّت الذين آمنوا، وتلقي الرعب في قلوب الذين كفروا؛ قال الله – تعالى -: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]، وحضور الملائكة الكرام متوقِّف على تقوى الله، لا على عدد المسلمين وعتادهم، ولا على كونهم منتسبين للإسلام فقط؛ يقول الله – تعالى -: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125].(/3)
وفي التصور الإسلامي - عن النصر والهزيمة - نجد أن العدد ليس من الأهمية بمكان؛ قال – تعالى -: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، ونجد – أيضاً - أننا سِتار لقدر الله - سبحانه وتعالى - فالله ينفذ من خلال عباده قدره، ويظهر آثار صفاته؛ فما علينا إلا أن نأخذ بالأسباب المتاحة للنصر؛ والله ينصر من ينصره.
وفي الشريعة الإسلامية: الهزيمة سببها الذنوب، ومنها: التقصير في الأخذ بالأسباب المتاحة، كما أمر الله؛ قال الله – تعالى -: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]، وقال – سبحانه -:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران:152].
والشاهد: أن هذه معارفَ يكتسبها أحدنا بقراءتها فقط - إن صدَّق المخبِرَ بها - أما أن تستيقن منها، وتصطبغ بها، وتتعامل من خلالها - فهذا لا تناله في يوم وليلة؛ فالشهوات والشبهات تتصارع مع خطاب الوحي، ولا يستقر الإيمان في القلب إلا بعد حين، وبين حين وآخر يجد من يناوشه، ويريد زحزحته، فإن لم ينتبه، تزحزح[6].
قوة العقيدة بحسب التفاعل معها:
وحين استقرت هذه المعاني في قلب خالد ورفاقه، تغيرت أسباب النصر، ليس بسبب خالد؛ ولكن بسبب الصياغة الجديدة التي صاغتها العقيدة لخالد ورفاقه.(/4)
وفرض الصورة العكسية يبين لك الأمر أكثر، لو اجتمع ثلاثون ألفاً من مشركي العرب، أمام ربع مليون - أو يزيد - من الروم والعرب، هل كانوا ينتصرون؟
لم يكونوا ليجتمعوا أولاً، وإن اجتمعوا، ما كانوا ليفكروا في غزوهم، وإن غزوهم، ما ثبتت أقدامهم ساعة.
ولتستبين قولي، ولتعلم أن العقيدة هي المحرك الأساسي، وهي التي صاغت خالداً وغير خالد من قادة الأمة؛ راجع الآيات التي تتكلم على المنافقين وقت القتال، مثل قول الله - تعالى -: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الفتح:11]، وقوله – تعالى -: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال: 49 ]، وقوله – تعالى -: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الأحزاب:12].
من تكلموا في هذه الآيات من المنافقين كانوا من جنس المسلمين، لا يختلف بعضهم عن بعض في الصفات الخارجية، ولكن خُلِعَ قلب هؤلاء حين جاء الخوف؛ لأنهم لم يؤمنوا، ولم تستقر حقائق الإسلام في قلوبهم، ولم يستيقنوا أن الفرار لن ينفعهم، وأنه لا عاصم من الله إن أراد بهم ضراً ؛ ولذا راحوا يبحثون عن مخرج، حين جاء الخوف.
أما الصادقون المستيقنون؛ فأقدموا، وصبروا، واحتسبوا، وعلموا أنه النصر، وأنهم إن لم يدركوه هم، فمَن بعدهم.
أبواب دون أبواب:(/5)
يُشكل على بعضهم أنه إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يتساوَ الجميع أو يُرَتَّبوا على حسب إيمانهم؟ هل برز خالد، وأبو عبيدة، وقتيبة الباهلي؛ لكونهم أكثرهم إيماناً؟
نقول: ليس الأمر كذلك؛ فالله - سبحانه وتعالى - خصَّ بعض الأفراد ببعض الصفات، وفتح على بعضهم من أبواب دون أبواب؛ فهذا حَبَّبَ إليه الجهاد، ورزقه بنيةً قوية، وقوة في قلبه، وهذا حبب الله إليه طلب العلم، وتعليمه، ورزقه عقلاً، وعزيمة في الطلب، وهذا حبب الله إليه الإنفاق، وأمده بالمال، وهكذا.
والعقيدة تصل بالمرء إلى أقصى مستوى، بل تصوغه صياغة جديدة؛ بحيث لا يُقارَن به، من لم يتأثر بالعقيدة بعد، أو ما زال في المراحل الأولى من التفاعل مع مفاهيم الدين وتصوراته.
العقيدة.. و قوة البدن:
لا يقتصر الأمر - فقط - على صياغة الشخصية من جديد، بل أستطيع أن أقرر أن التزام الشرع يعطي قوة بدنية، ولهذا الأمر شواهد كثيرة؛ منها هذا الحديث الذي رواه مسلم من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن فاطمة - رضي الله عنها - اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم – سبي؛ فانطلقت؛ فلم تجده، ولقيت عائشة؛ فأخبرتها؛ فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها؛ فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا وقد أخذنا مضاجعنا؛ فذهبنا نقوم؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عَلى مكانكما؛ فقعدَ بيننا؛ حتى وَجَدتُ بَردَ قدَمِه على صَدري، ثمَّ قال: أَلا أُعَلِّمُكُمَا خَيْراً مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، أَنْ تُكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعاً وَثَلاثِينَ، وَتُسَبِّحَاهُ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَتَحْمَدَاهُ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ)).[7]
توجيه الدليل:(/6)
فاطمة - رضي الله عنها - تعمل بالرَّحى حتى أثَّرت في يدها، ويشهد لهذا ما جاء في سنن الترمذي عن علي - رضي الله عنه – "شكت فاطمة إليَّ مَجَلَ يدَيْها"، ويقال لليد: مَجَلَتْ، إذا ثخُنَ جلدها، وتعجَّرت، وظهر فيها ما يشبه البتر، من العمل بالأشياء الصُّلبة الخشنة، ففاطمة - رضي الله عنها - تشتكي من الجهد المبذول في بيتها، وتريد خادمة تحمل عنها؛ ويكون الجواب وِرْدٌ من الأذكار (يحصل لها بسبب هذه الأذكار قوةٌ على الخدمةِ، أكثرَ مما يَقدرُ الخادم).[8] أو بعبارة أخرى: (إن الذي يلازم ذكر الله؛ يُعطى قوة أعظم من قوة الخادم، أو تسهل الأمور عليه؛ بحيث يكون تعاطيه أُموره أسهل من تعاطي الخادم لها)، هكذا استنبطه بعضهم من الحديث.[9]
وختاماً:
من خلال ما سبق من المفارقات في حياة خالد - رضي الله عنه - وما طرأ عليه من المتغيرات في ظل الإسلام، يتبين لنا جليّاً أن العقيدة أساس صناعته وصياغته، وسرُّ رفعته، وعلو منزلته.
ويتبين لنا أثر هذه العقيدة في صياغة القادة وتخريج الرجال، وأثرها - أيضاً - في بناء الأجيال والمجتمعات، وتغير الأمم والحضارات، وإلا لما بلغت أمة الإسلام ما بلغت، ولما كان لها اليوم أن تكون.
إنها العقيدة، التي إذا تمسك المسلم بها، وعاش في ظلها، تغيرت حاله، واستقامت حياته، بل وقويَ بدنُه، وأصبح شخصاً آخر، غير الذي يعرف، آمناً مطمئناً هنيئاً سعيداً.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] من سيرة ابن هشام، في ذكر غزوة أحد .
[2] المغازي، الجزء الثاني 582، وذكره النووي في شرح حديث صالح بن خوّات، عن صلاة الخوف في البخاري، باب المغازي / 3817 .
[3] ذكره الواقدي في المغازي، الجزء الثالث / 1025.
[4] يذكر أهل السير أن جملة من قُتلوا على يد خالد في أول أربعين يوماً من فتح العراق فقط - أربع مئة ألف مقاتل، أي: بمعدل عشرة آلاف لكل يوم، وما كان يقاتل كل يوم.(/7)
[5] ما بين القوسين مني، والنص لابن كثير - رحمه الله - في أحداث غزوة اليرموك .
[6] وهذا مفهوم من المثل المضروب في سورة الرعد في قوله – تعالى -: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد :17]، ولابن القيم في "مدارج السالكين" وفي "الداء والدواء" كلام طيب عن النفس المطمئنة والنفس الأمارة، أو قوة الخير وقوة الشر، وكيف الطريق لغلبة الخير على الشر، لمن أراد المزيد .
[7] متفق عليه .
[8] تحفة الأحوذي لشرح سنن الترمذي، في التعليق على الحديث / 3330- كتاب الدعوات. وهو قول العَينيِّ نقله صاحب التحفة.
[9] فتح الباري /4942(/8)
العنوان: العلاقات الاسرائيلية – الأمريكية 1948 – 1982 (المسار، ومنطق التطور)
رقم المقالة: 366
صاحب المقالة: جمال عبدالجواد
-----------------------------------------
لم تترك تجربة السنوات الأخيرة من الخبرة العربية في التعامل مع الولايات المتحدة مجالاً للشك – إلا لصاحب مصلحة أو متواطئ – في مدى التعارض الجذري بين مصالح الشعوب العربية في التحرر والتنمية والسيطرة على مقدراتها وثرواتها الوطنية، وبين المصالح الأميركية المعادية لاستقلال الشعوب العربية والتي لا تتنازل عن استغلال الثروات والإمكانات العربية واستنزافها عبر مسارب تضيّع على الأمة العربية فرصة التنمية والتقدم. أيضاً فإن تجربة السنوات الأخيرة أثبتت بالدرجة نفسها – إن لم يكن بدرجة أكبر من اليقين – أن بين الولايات المتحدة وإسرائيل اتفاقاً في المصالح وتحالفاً وثيقاً لتحقيق أهدافهما المشتركة.
هذه الخبرة تدفعنا لمحاولة تحليل عناصر ظاهرة العلاقات الأميركية – الاسرائيلية مفترضين عدداً من الافتراضات ننطلق منها للتدليل على عدد آخر من الافتراضات:
أولاً: إن مصالح الولايات المتحدة بحكم كونها قائدة المعسكر الامبريالي، تدخل في تناقض مستحكم مع مصالح الشعوب العربية.(/1)
ثانياً: إنه بينما تفسر المصالح الأمبريالية للولايات المتحدة التوجهات العامة والخطوط الرئيسية للسياسة الأميركية، فإنها لا تفسر وحدها كل قرار أو تطور دقيق يدخل على هذه السياسة. ذلك أنه بينما تتحدد السياسة العامة والتوجهات الرئيسية لدولة ما في حقبة تاريخية طويلة نسبياً، تبعاً لتفاعل عدد من القوى التي تمثل المصالح المهيمنة على السلطة السياسية في هذا البلد، ففي الحالة الأميركية فإنه منذ انتقلت الولايات المتحدة إلى المرحلة الأمبريالية فإن الاحتكارات والمصالح الرأسمالية الكبرى ترسم التوجهات الأساسية للسياسة الأميركية، وبالرغم من ذلك فإنه عند اتخاذ قرار محدد بصدد التعامل مع مشكلة جزئية معينة تتدخل عناصر أخرى لتساهم في صياغة وصنع ذلك القرار، بحيث يصعب فهم وتفسير دوافع ذلك القرار بالرجوع فقط إلى المقولة الأساسية والصحيحة عن المصالح الأمبريالية. ولكن لابد من أن ندخل في التحليل عناصر وعوامل أخرى مثل شخصية صانع القرار، والرأي العام، وجماعات الضغط، والعوامل الايديولوجية، وطبيعة وميكانيزمات عملية صنع القرار.. إلخ.
ثالثاً: إنه بينما لا تتعدد المصلحة الأميركية في الوطن العربي، أو في أية منطقة أخرى من العالم، فإنه يوجد أكثر من طريقة لتحقيق هذه المصلحة. أي إنه بينما لا يكون على صانع القرار الأميركي الاختيار بين مصلحة وأخرى، فإنه يدخل دائماً في مفاضلة بين أكثر من بديل لتحقيق هذه المصلحة.(/2)
رابعاً: إن القرار باختيار أحد البدائل لا يكون دائماً اختياراً سليماً مائة بالمائة، ليس بمعنى أن هذا القرار قد يتناقض تماماً مع المصلحة التي من المفروض أن يحققها، وإنما بمعنى أن هذا البديل ليس بالضرورة أكثر البدائل تحقيقاً للمصلحة المرجوة. وهذا يرجع بالذات إلى أثر عناصر الوعي الزائف أو الرؤية غير الصحيحة للواقع واختلال التقديرات Misperception، وهي كلها عناصر لا ينجو منها أي صانع قرار بحكم تأثره بعوامل البيئة المحيطة، وتعرضه لضغوط إجتماعية وبسيكولوجية وقيمية معينة. وفي هذا يقول البروفسور ((كينيث بولدينغ)) ((علينا أن نعترف بأن متخذي القرارات الذين تحدد قراراتهم سياسات الأمم لا يستجيبون للحقائق الموضوعية في الموقف. فالقرار يعني الاختيار الأفضل، يكمن في تصور صانع القرار))[1]. وحتى إذا كانت هذه العبارة تحمل بعض المبالغة في تأثير عناصر الإدراك، إلاَّ إنها تحمل جانباً هاماً من الحقيقة لابد من أخذه في الاعتبار.
وفي هذه الدراسة فإننا ننطلق من الافتراضات السابقة في محاولة لتفسير تطور العلاقات الأميركية – الاسرائيلية من أجل اختبار الافتراضين التاليين:
أولاً: إنه في العلاقات الأميركية – الاسرائيلية فإن الطرف الذي قدَّم المساهمة الأهم لصياغتها على ما هي عليه الآن هو إسرائيل، وهو ما يطرح إستفهاماً حول المدى الذي يمكن فيه لدولة صغيرة أن تساهم في تشكيل سياسة دولة كبرى بما يحقق مصالح هذه الدولة الصغيرة.(/3)
ثانياً: إنه بينما لعبت العوامل العقائدية والضغوط الداخلية دوراً هاماً في دفع الولايات المتحدة لمساندة المشروع الصهيوني خاصة في مراحله الأولى، فإن الدور الإسرائيلي في تحقيق المصالح الأميركية وفي الوصول بالنخبة الأميركية إلى القناعة بأن إسرائيل تمثل مصلحة وميزة استراتيجية للولايات المتحدة، قد لعب الدور الحاسم للوصول بالعلاقات الأميركية – الاسرائيلية إلى ما هي عليه. والدارس لتلك العلاقات يلاحظ بوضوح وجود أكثر من مرحلة ومن نقطة تحول في هذه العلاقة، ولعلَّ أشهرها نقطة التحول التي مثلها حرب حزيران (يونيه) 1967م. والمطلوب هو دراسة العوامل الأساسية التي ساهمت في تشكيل تلك العلاقات في كل مرحلة، والمنطق الذي تحكّم في عملية انتقالها من مرحلة إلى أخرى.
العلاقات الأميركية – الاسرائيلية.. مرحلة التشكل
هناك إطاران أساسيان لابد من التعامل معهما عند معالجة موضوع العلاقات الأميركية – الاسرائيلية. الأول: هو المصالح الأميركية في العالم العربي أو في منطقة الشرق الأوسط. والثاني: هو المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة وعلاقته بباقي الأجزاء المكونة للمجتمع والنظام الأميركيين.(/4)
فالوجود الأميركي في الوطن العربي قديم. فقد أبدت الولايات المتحدة قدراً من الاهتمام المبكر به في آسيا وأفريقيا، وانتشر منذ العام 1909م نوع من النفوذ الأميركي أدواته الهيئات الدبلوماسية وأصحاب المصالح التجارية والإرساليات التبشيرية والبعثات العسكرية والثقافية. غير أن المصالح الأميركية في الوطن العربي لم تكن بأهمية مصالح الدول الأوروبية الكبرى. وربما لهذا السبب لم تدخل الولايات المتحدة بنشاط في حلبة الصراع الدولي من أجل تقسيم الدولة العثمانية، بالإضافة لانشغالها بالتوسع في المحيط الهادي والبحر الكاريبي[2]. أي إنه برغم علاقة الولايات المتحدة غير القصيرة – نسبياً – بالوطن العربي، فلم يكن لها غير مصالح محدودة في المنطقة حتى قبل منتصف هذا القرن بقليل. فطوال القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى تقريباً اقتصرت المصالح الأميركية في الوطن العربي على تلك الناتجة عن وجود الإرساليات الدينية والمراكز الثقافية، وبعض المصالح التجارية المحدودة. حتى بدأت الاكتشافات النفطية تجتذب الشركات الأميركية للمشاركة في اقتسام ((الكعكة)). ومردُّ محدودية تلك المصالح عائد إلى البعد الجغرافي بين أميركا والوطن العربي في وقت كانت فيه وسائل المواصلات في مرحلة أقل تطوراً، بالإضافة إلى وقوع المنطقة فعلاً تحت النفوذ الأوروبي – البريطاني والفرنسي خاصة – وأيضاً لانشغال الولايات المتحدة بالنشاط الاستعماري في المناطق القريبة منها في أميركا اللاتينية والمحيط الهادي وشرق آسيا. هذه العوامل مجتمعة لم تساعد على دفع الولايات المتحدة للاهتمام ببذل جهود ذات شأن في صياغة استراتيجية واضحة ومحددة إزاء المنطقة، وإنما اكتفت انجلترا وفرنسا بمكاسب التجارة مع هذا الجزء من العالم الذي لم يمثل أهمية حيوية للولايات المتحدة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.(/5)
ومن ثم، كانت السياسة الأميركية تجاه الوطن العربي في مرحلة التشكل والاختبار حتى فترة غير بعيدة. وفي فترات التشكل هذه فإن قناعة صانع السياسة بقرار أو بسياسة معينة تصبح أقل. ذلك أنه لن يكون في هذه المرحلة، مدافعاً عن استراتيجية واضحة تمّ اختبارها. أيضاً فإن التناقض في وجهات النظر والمواقف داخل جهاز صنع السياسة – في هذه المرحلة – تصبح أوضح وأكثر عمقاً، بحيث أن السياسة النهائية التي تلقى اتفاق أغلب الآراء أو بالأصح التي تجد طريقها للتنفيذ العملي، تكون محصلة للضغوط التي مارستها جماعات المصالح والهيئات المختلفة. خاصة وأن هيئات صنع السياسة في مرحلة التشكل تكون أكثر حساسية لضغوط جماعات المصالح، وبالتالي فإن نجاح جماعة أو تيار ما في ممارسة ضغوط ذات شأن على جهاز صنع السياسة في تلك الفترة سيرتب بدوره فوز هذا التيار بنصيب أكبر في تشكيل إدراك النخبة لمصالح الولايات المتحدة وطرق تحقيقها في المنطقة.
ويمكن القول إنه بتأييد الولايات المتحدة لتقسيم فلسطين واعترافها بإسرائيل بعد ذلك، فإن الجزء الأكبر من مرحلة تشكل السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط كان قد تمّ قطعه. وفي هذه المرحلة سعت أطراف عدة للتأثير في الرؤية الأميركية للمنطقة ولمصالحها فيها:(/6)
1 – جهات عربية: عن طريق البعثات الدبلوماسية للدول العربية وممثليها التي اهتمت بشرح الموقف العربي تجاه المشكلة الفلسطينية، والتي عرفت في ذلك الوقت ((بمشكلة الهجرة اليهودية إلى فلسطين)). ولكن هذه الجهود اتسمت بعدم الاستمرارية والتبعثر وغياب التنسيق فيما بينها. خاصة وأنها كانت عبارة عن محاولة من الخارج للتأثير على صانع السياسة الأميركية (لم يكن العرب أبداً جزءاً من نسيج المجتمع الأميركي). ولهذا العامل أهمية كبرى تظهرها إجابة الرئيس الأميركي ((ترومان)) عندما ووجهت جهوده المساندة لإنشاء دولة إسرائيل بمعارضة قوية من المتخصصين الأميركيين في شؤون الشرق الأوسط، والذين حذروه من أن ذلك سوف يورث الولايات المتحدة عداء العرب، وسوف يضر بمصالحها في الشرق الأوسط، فقد رد الرئيس ((ترومان)) على هذه الضغوط بقوله: "للأسف فإنه يجب عليّ أن أستجيب لرغبة مئات الألوف من الذين يهمهم نجاح الصهيوني، إذ لا يوجد مئات الألوف من العرب بين ناخبيّ"[3].
وعندما تلقى الرئيس ((ترومان)) تقرير اللجنة الأميركية – الانجليزية التي زارت فلسطين في ربيع العام 1946م، أرسل في 8 أيار (مايو) من العام نفسه إلى رئيس الوزراء البريطاني ((أتلي)) رسالة يستحثه فيها على تنفيذ توصيات اللجنة الداعية للسماح بهجرة مائة ألف يهودي إلى فلسطين، وأنه لتنفيذ هذه التوصيات يجب استشارة عدد من الجهات حددها كما يلي:
1 - مجلس الطوارئ الأميركي – الصهيوني.
2 - اللجنة الأميركية – اليهودية.
3 - المؤتمر اليهودي الأميركي.
4 - المجلس الأميركي اليهودي.
5 - المجلس اليهودي الأميركي.
6 - معهد الشؤون العربية – الأميركية.
7 - آغودات إسرائيل الأميركية.
8 - المنظمة الصهيونية الجديدة في أميركا.
9 - الوكالة اليهودية.
10 - الجامعة العربية.
11 - اللجنة العربية العليا.
12 - حكومات العراق، سوريا، لبنان، مصر، شرق الأردن، العربية السعودية، اليمن[4].(/7)
ويلاحظ أنه من بين اثنتي عشرة جهة إقترحها الرئيس الأميركي للاسترشاد برأيها بشأن مشكلة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، لم يكن هناك سوى ثلاث جهات عربية فقط، بينما كانت الجهات الست الباقية جهات يهودية. أيضاً فإنه على عكس جميع الجهات العربية فإن المنظمات اليهودية المقترحة – باستثناء الوكالة اليهودية – موجودة داخل الولايات المتحدة، وتمثل جزءاً من نسيج المجتمع الأميركي. ومن ثم فإن لها قدرة فعلية بالضغط على الحكومة والرأي العام باتجاه تبني سياسة معينة مؤيدة للمطالب الصهيونية.
وفي الجهات نفسها، نذكر إنه في جلسات الاستماع التي عقدتها أول لجنة أميركية في فلسطين 27 – 28 أيار (مايو) 1945م تحدث ((عوني بك عبدالهادي)) رئيس حزب الاستقلال لافتاً نظر عضو اللجنة ((كارل موندت)) إلى أن الولايات المتحدة تؤيد اليهود تأييداً غير عادل، فقال له موندت ((إن هذا عيب العرب لأنهم لم يهتموا بإرسال أحد يتكلم بإسمهم في الولايات المتحدة. كما لا توجد لهم منظمات تعبر عن إرادتهم)) فلما تعلل ((عوني عبدالهادي)) بأن العرب فقراء ولا يمكنهم الانفاق على ذلك، قال موندت: "إن الفقر لا يجب أن يحول دون ذلك خاصة وأن جلسات الاستماع التي عقدتها لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس لم تظهر فيها بحال وجهة النظر العربية... ولهذا فإنه نظراً لنقص الدعاية العربية الكافية فإن أقل من 10% من الأميركيين يفهمون القضية تماماً والباقي لا يعرف عنها شيئاً. والأميركيون يعولون دائماً على الأغلبية".
وقد اعترف ((عوني بك عبدالهادي)) بأن العرب يتصورون أن مشكلتهم واضحة وعادلة ولا تحتاج إلى دعاية ولعل في ذلك – كما يقول هو – قدر من الحماقة[5].(/8)
2 – كذلك قامت شركات النفط الأميركية العاملة في الوطن العربي بالضغط على الإدارة لتعديل موقفها من تأييد إسرائيل. ومن ذلك المقابلة التي جرت في 6 كانون الثاني (يناير) 1948م بين وزير الدفاع ((فورستال)) وبين مدير شركة سوكوني فاكوم، الذي اشتكى من أن شركته وشركات أخرى متصلة بها، قد أوقفت العمل في أنابيب النفط السعودية نتيجة لنشوب القلاقل في فلسطين[6]. ولكن لأن مصالح الشركات النفطية في الوطن العربي لم تتأثر بسبب معاداة الولايات المتحدة للمطالب العربية في فلسطين، فإن ضغوط شركات النفط تضاءلت تدريجياً. وإن كانت لم تتقدم، فإنها تجمدت عند مستوى محدود، وعوّدت نفسها على التكيّف مع الوقائع الجديدة في المنطقة وفي السياسة الأميركية.(/9)
3 – الجماعات الصهيونية: بدأ اليهود في تنظيم أنفسهم كجماعة ضغط ملموسة في الثلاثينيات وأصبحوا منذ ذلك الوقت جزءاً ممّا يسمى بالتحالف الكبير الذي اعتمد عليه ((بنيامين روزفلت)) في كسب معركة الرئاسة في العام 1932م. وهو التحالف الذي ضمّ بين صفوفه، اتحادات العمال والأقليات غير البروتستانتية والمثقفين الليبراليين واليساريين غير الماركسيين. ومع ذلك لم يبدأ اليهود في ممارسة الضغوط على أي من الحزبين لتأييد الصهيونية إلاَّ بعد ذلك بعشر سنوات أي في العام 1942م حينما ذاعت الأنباء عن فظائع النازية. لقد كان ذلك عاماً حاسماً استطاعت فيه الصهيونية التي لم يؤيدها في الثلاثينيات إلاَّ حوالي 15% من مجموع اليهود الأميركيين، أن تكتسح كل مقاومة لها داخل الجماعات اليهودية وأن تكسب تأييد الأغلبية العظمى منها. ولذلك لم تأت حملة 1942م الانتخابية إلاَّ وكانت جماعة الضغط اليهودية قد ((تصهينت)) وأصبحت مجندة تماماً لخدمة الدعوة إلى فتح أبواب الهجرة في فلسطين أمام يهود أوروبا ثم إلى إنشاء دولة إسرائيل في حملة العام 1948م، ثم إلى زيادة الدعم المادي والمعنوي لإسرائيل في كل إنتخابات تالية إلى الوقت الحاضر[7].(/10)
والواقع أن دراسة دور الجماعات الصهيونية في دفع الإدارة والنخبة الأميركيتين لإدراك مصالحهما وصياغة سياستهما في الشرق الأوسط بطريقة معينة، هو من أكثر الموضوعات تعقيداً وإثارة. ذلك أن عوامل عديدة قد ساهمت في إنجاح الجهود الصهيونية في هذا الاتجاه: من أهمها صعود النازية في أوروبا وما ارتكبته من مذابح ضد اليهود خلفت (تولد عنها قضايا اللاجئين اليهود) مناخاً عاماً في استعداد للتعاطف مع المطالب الصهيونية الداعية لتوفير ملجأ ليهود أوروبا المتضررين من النازية. وقد انعكس هذا المناخ على قدرة بعض السياسيين الأميركيين رؤية أهداف الحركة الصهيونية بالوضوح الكافي. ففي أواخر العام 1945م تحدث الرئيس ((ترومان)) في مذكراته عن تصوره لأهداف الحركة الصهيونية قائلاً: "في تقديري أن أهداف الحركة الصهيونية في هذه المرحلة هي إغاثة اللاجئين اليهود، بينما يجيء هدف إنشاء الدولة اليهودية في مرتبة ثانية"[8].
كما عبَّر وزير الخارجية الأميركي آنذاك عن عمق تأثره بقضية اللاجئين اليهود في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1944م بقوله: "لقد بحث اليهود طويلاً عن ملجأ، وأنا أعتقد أنه يجب أن يكون لنا هدف أكبر. إننا يجب أن نبني عالماً يتمكن فيه اليهود كأي جنس آخر، من التمتع بالحرية والكرامة"[9].(/11)
وفي عامي 1941 – 1942م شكلت الخارجية الأميركية عدة لجان متخصصة لبحث مستقبل المسألة اليهودية في عالم ما بعد الحرب والعمل على امتصاص اليهود في أميركا اللاتينية وخاصة البرازيل وكولومبيا[10]. وكان الاتجاه الغالب في الولايات المتحدة حتى ذلك الوقت، يطالب ببذل الجهود من أجل انقاذ يهود أوروبا الناجين من مذابح النازية، ولكن دون دعم للمطالب اليهودية في فلسطين بحيث رفضت الأغلبية الربط بين إنقاذ يهود أوروبا وبين فتح أبواب فلسطين أمام اليهود، وقبلت بوجهة النظر البريطانية التي قدمتها في تفسير إصدارها للكتاب الأبيض في العام 1939م والخاصة بضرورة مراعاة المصالح العربية. وقد ظهر ذلك الاتجاه واضحاً في المناقشات التي أجراها الكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) 1943م بشأن تشكيل لجنة لانقاذ يهود أوروبا[11].
وكما ساهمت الظروف المتولدة عن الاضطهاد النازي ليهود أوروبا في اجتذاب تأييد الرأي العام الأميركي لصالح القضية اليهودية، فإنها لعبت الأثر نفسه في صفوف الجماعة اليهودية الأميركية نفسها والتي كانت حتى ذلك الوقت، ترفض – في معظمها – المطالب الصهيونية خوفاً على المكاسب التي حققتها نتيجة اندماجها في المجتمع الأميركي، وما قد تستثيره الدعوة الصهيونية لإنشاء وطن ((قومي)) لليهود، من التشكيك في أهلية اليهود لاكتساب حق المواطنية الأميركية. فحتى العام 1942م لم تكن المنظمات الصهيونية تضم سوى أقلية من اليهود الأميركيين، كما لم يكن لها أنصار كثيرون من بين غير اليهود. وبعد صراعات عديدة داخل الجماعة الصهيونية الأميركية – وخاصة بين أنصار ((بن غوريون)) من ناحية، وأنصار ((وايزمان)) من الناحية الأخرى – تبنت المنظمات الصهيونية خطة واضحة تقوم على:(/12)
أولاً: بناء التنظيمات الصهيونية وتوسيع عضويتها وإمكاناتها المالية، ثانياً: قلب الأوضاع داخل الرأي العام اليهودي، وتحييد قادة المنظمات اليهودية المعادية للصهيونية أو غير الصهيونية – على الأقل – ثالثا: تنظيم المجاهدين والدعاة المتجولين و((اللوبيات)) ووسائل وأدوات الاستعطاف، وبيع الأفكار الصهيونية لكل فئات ومستويات المجتمع – غير اليهودي – سواء من خلال الانتخابات في نيويورك أو عن طريق القساوسة أو الدعاة الدينيين في المناطق الريفية. وبهذا يتم توعية الرأي العام والكونغرس بمشكلة اللاجئين اليهود، وتوجيه ضغط متزايد للبيت الأبيض، ووزارة الخارجية. وكانت الأداة الأساسية لتحقيق هذه الجهود هي مجلس الطوارئ اليهودي – الأميركي الذي تأسس في العام 1939 ولكن لم يصبح مؤثراً إلا في العام 1943 تحت قيادة الحاخام ((سيلفر))[12].(/13)
– وتؤكد التطورات التي مرت بها الحركة الصهيونية، أنه من غير الصحيح إرجاع نجاحها في الولايات المتحدة فقط إلى الظروف الناتجة عن تطورات الحرب العالمية الثانية وحدها. فلابد من أن تعامل الجهود التي بذلها الصهاينة في هذا المقام بدرجة أكبر من الاهتمام، آخذين بعين الاعتبار عدة قوى تعمل في مواجهة الصهيونية مثل الدوائر العربية في الخارجية البريطانية، والمصالح النفطية بالإضافة إلى الجماعات التي عارضت الصهيونية من منطلقات عرقية. وبالرغم من أن خصوم الصهيونية كانوا يحتلون قلب الميدان، إلا إنهم لم يبذلوا الجهود نفسها لمواجهة الضغوط الصهيونية المتزايدة[13]. وهو التقدير نفسه الذي توصلت إليه الخارجية الأميركية التي كانت بأغلب هيئاتها، معارضة للمطالب الصهيونية، والتي بينما قدرت أنه لا معنى للخوف من نفوذ الصهيونية في الولايات المتحدة طالما كانت لا تمثل إلا اتجاه الأقلية بين اليهود، فإنها ووجهت بمشكلة كون الأغلبية اليهودية غير الصهيونية غير منظمة وغير مؤثرة في معارضة الصهيونية السياسية[14]. ويخرج الباحث الأميركي ((فيليب بارام)) من ذلك باستنتاج مؤداه أنه لولا الضغوط اليهودية في أميركا وفلسطين لما كانت الخارجية الأميركية لتهتم ولو قليلاً بمشكلة اللاجئين اليهود[15].(/14)
بدأت الجهود الصهيونية المتزايدة تؤتي ثمارها تدريجياً بإقناع ودفع أعداد متزايدة من المسؤولين الأميركيين لتبني المطالب الصهيونية. فبينما كان موقف الرئيس ((روزفلت)) تجاه المسألة الفلسطينية وطوال فترة رئاسته، غير محدد تقريباً حيث لم يعارض السياسة التي اتبعتها وزارة الخارجية تجاه هذا الأمر والتي لم تكن متعاطفة بوجه عام مع المطالب الصهيونية، نجده في أواخر حياته وبالتأكيد بأثر من الضغوط الصهيونية المتزايدة، قد بدأ يتبنى بعض الآراء المؤيدة للصهيونية. ففي حديث له مع الكولونيل ((هوسكنس)) في 5 آذار (مارس) 1943 قال روزفلت: "إن رفض الصهيونية لا يمكن أن يصمد كثيراً. وإن الدولة اليهودية لا يمكن بناؤها بغير العنف واستناداً إلى حقائق الأمر الواقع في المنطقة".
وفي 16 آذار (مارس) في حديث مع ((ستيفن وايس)) أيد ((روزفلت)) إلغاء القيود على الهجرة اليهودية فلسطين وإقامة دولة الصهيونية[16]. وقد عبر وزير الخارجية البريطاني((بيفن)) عن عمق التأثير الذي تمارسه الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة عندما حدد أمام اجتماع لحزب العمال البريطاني في العامل 1947 العقبات الأساسية التي تعترض خططه في فلسطين، في عقبتين أساسيتين:(/15)
أولاهما: الضغوط القوية التي يمارسها الصهاينة الأميركيون[17]. ويمكن أن نبين عمق التأثير الذي مارسته الجماعات الصهيونية على السياسة الأميركية في هذه الفترة، إذا لاحظنا بعض مظاهر العداء للصهيونية أو على الأقل عدم التعاطف معها والذي ظهر في أجزاء هامة من الإدارة الأميركية، ثم مقارنتها بالتطورات التي لحقت هذه المواقف وعلى السياسة الأميركية ذاتها في فترة لاحقة. فعادة ما أثير في المجتمع الأميركي تساؤل عما إذا كان يمكن لليهود أن يصبحوا مواطنين في مكان ما، وكان الرأي السائد في الخارجية الأميركية هو أنه لا يمكن لليهود أن يصبحوا مواطنين مخلصين قي أية دولة، ومن ثم فإنه على الولايات المتحدة أن تعزل نفسها عن أية نزعة إنسانية تطالب بتغيير الوضع السيئ ليهود أوروبا[18]. وكان الاتجاه الغالب في الخارجية الأميركية هو أنه لا يمكن حل المسألة اليهودية على أساس إقليمي، وإنما يجب حل مشكلة يهود أوروبا حيث يعيشون، بينما كان رأي اتجاه آخر هو ألن حلاً إقليمياً للمسألة اليهودية أمر ممكن. وتوزعت الآراء داخل هذا الاتجاه بين أميركا اللاتينية وأنغولا وليبيا كأماكن مقترحة لتوطين اليهود، والملاحظ أن أحداً من أصحاب هذا الاتجاه لم يطالب بتحول فلسطين إلى دولة لليهود[19]. أما الوزير الأميركي المفوض في مصر والسعودية في الفترة شباط فبراير) 1941 – تموز (يوليو) 1943. ((ألكسندر كيرك))، فكان يدين الصهيونية باعتبارها وهم ضد حقائق التاريخ والجغرافيا. وكان لأشخاص آخرين الرأي نفسه مثل ((دالاس موراي)) المسؤول عن شؤون الشرق الأدنى في الخارجية الأميركية، ووزير الخارجية ((كود ويل هيل)) نفسه[20]. ففي بداية العام 1943 طرح ((موراي)) تصوراً لحل مشكلة الصراع حول فلسطين جاء فيه ((إن التسوية بين العرب واليهود لا يمكن أن تتم إلا على أساس تخلي اليهود عن طموحهم لإنشاء دولة، وأن يكتفوا بالقبول بنوح من المركز الثقافي والديني اليهودي في(/16)
فلسطين في ظل أغلبية عربية يتم الحفاظ عليها بوضع حد للهجرة اليهودية إلى فلسطين))[21]. كما عارض ((موراي)) المشروع الذي دعا إليه ((حاييم وايزمان)) والخاص بجمع 80 مليون دولار لإعطائها كقرض لابن سعود مقابل موافقته على المشروع الصهيوني. فقد رأى ((موراي)) في ذلك توسيعاً للنفوذ والنشاط الصهيوني خارج فلسطين، ونوعاً من الإمبريالية الاقتصادية المحمية بموافقة دولية[22]. وعندما وقعت المصادمات بين العرب والمستوطنين الصهاينة في فلسطين في العام 1929، وهي المصادمات التي قتل فيها ثمانية من اليهود الأميركيين، طلبت الجماعات الصهيونية من الحكومة الأميركية التدخل لصالح اليهود في فلسطين، ولكن رئيس قسم شؤون الشرق الأدنى في الخارجية الأميركية حدد موقف الوزارة من هذه الضغوط بقوله: "ليس من المعقول أنه من أجل مقتل ثمانية يهود أميركيين في بعض الاضطرابات أن نقوم بمساندة وجهة النظر الصهيونية"[23].
وفي كانون الثاني (يناير) 1942 أرسل القنصل الأميركي في القدس ((ل. بينكرتون)) للخارجية الأميركية رسالة يعلن فيها عن غضبه واستيائه من بريطانيا التي لا تبدي حزماً كافياً مع ((اليشوف))، ويلوم الولايات المتحدة لأنها لا تدفع بريطانيا لكي تكون أكثر تأييداً للعرب[24].
وفي مواجهة الضغوط الصهيونية المتزايدة لم تكتف وزارة الخارجية الأميركية بمعارضة الخطط الصهيونية في فلسطين، وإنما سعت إلى محاربة النفوذ الصهيوني داخل الولايات المتحدة ذاتها، خاصة بعد إعلان الحركة الصهيونية لبرنامج بلتيمور في أيار (مايو) 1942. وبناء على جهود وزارة الخارجية في هذا المجال تأسس في تشرين الثاني (نوفمبر) 1942 ((المجلس الأميركي لليهودية)) يضم مجموعة من اليهود الأميركيين المعادين للصهيونية برئاسة الحاخام ((موريس لازارون)).(/17)
لكن نقطة التحول الهامة حدثت عندما نجحت الجماعات الصهيونية في اجتذاب الرئيس ((ترومان)) لتبني مطالبها في فلسطين. ويفسر الباحث الأميركي ((فيليب بارام)) إيجابية ((ترومان)) تجاه القضية الصهيونية بأنه كان لديه اعتقاد (منطقي) بأن فلسطين هي الملجأ الطبيعي لليهود[25]. ويتحدث ((ترومان)) في يومياته عن الخلاف في وجهات النظر بينه وبين إدارته بشأن فلسطين في الأسابيع القليلة التي سبقت إعلان قيام دولة إسرائيل فيقول: "بخصوص الموقف من فلسطين فإن وزارة الدفاع كانت تتحدث دائماً عن أمرين الأول هو عدم قدرة الولايات المتحدة على إرسال قوات إلى هناك في حالة نشوب اضطرابات، والثاني هو الثروات النفطية في الشرق الأوسط. وكان رأي وزير الدفاع فورستال دائماً أنه من الخطر على مصالحنا النفطي في الشرق الأوسط، أن نستثير عداء العرب لنا، أما في وزارة الخارجية فإن المتخصصين في شؤون الشرق الأدنى وبدون استثناء كانوا غير محبذين لفكرة إنشاء الدولة اليهودية على أساس أن تأييدنا لهذه الفكرة سيورثنا عداء العرب والذي سيؤدي بهم بدوره إلى دخول في المعسكر السوفياتي. أما أنا – والكلام لازال للرئيس ترومان – فلم أكن مقتنعاً أبداً بآراء الدبلوماسيين هذه"[26].(/18)
هكذا وبدون أن يقدم ((ترومان)) أية حجج من أي نوع اللهم إلا عدم اقتناعه بكلام الدبلوماسيين وضع نفسه في صفوف المؤيدين للمطالب الصهيونية نفسها، واتهام مساعديه المخالفين له في الرأي بشأن هذأ الموضوع، بمعاداة السامية[27]. حتى أر الرئيس ((ترومان)) قد ضرب عرض الحائط كل القواعد المعمول بها داخل الإدارة الأميركية، وتجاهل اعتراضات مساعديه على الاعتراف بالدولة اليهودية، واختار العمل بصورة مستقلة مبرراً ذلك بتخوفه من قيام بعض المتخصصين في وزارة الخارجية بمعارضة الاعتراف بالدولة اليهودية لدرجة أن بعض كبار موظفي الخارجية فوجئوا بإذاعة نبأ اعتراف الحكومة التي يشاركون في توجيه دفتها، بإسرائيل[28]. وقد علق ((بن غوريون)) على هذا السلوك من قبل الرئيس ((ترومان)) بقوله: "إنه رجل يعرف كيف يستمع إلى نصيحة مستشاريه، ولكن يعرف أيضاً متى يتبع رأيه الشخصي"[29].
أما الرئيس ((ترومان)) فقد اعترف في يومياته بأثر الضغوط الصهيونية في دفعه لتبني المطالب الصهيونية في فلسطين فكتب يقول: "لقد قام اليهود الأميركيون بممارسة ضغوط شديدة علي لدفعي لاستخدام إمكانات الولايات المتحدة لصالح الطموحات اليهودية في فلسطين"[30].
حتى أن أحد الباحثين وصف التأييد الأميركي لقيام إسرائيل في عامي 1947، 1948، بأنه ((تأييد ذو طابع إكراهي لأنه كان بدرجة أكثر خضوعاً من الإدارة الأميركية لضغوط الجماعات الصهيونية))[31].(/19)
ومن المهم ملاحظة أن الرئيس ((ترومان)) لم يستخدم ولو مرة واحدة أي برهان يربط فيه بين مصالح الولايات المتحدة وبين قيام إسرائيل، بينما نجده في أكثر من مناسبة يعبر عن إعجابه وتعاطفه الشخصي مع المشروع الصهيوني. ففي رسالة كتبها إلى وزير خارجيته جورج مارشال في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1948 بشأن موقفه من إسرائيل يقول ترومان: "إنني أرغب في أن نساعد في بناء دولة قوية، غنية، حرة، وديمقراطية في فلسطين، وهذه الدولة يجب أن تكون واسعة وحرة وقوية بدرجة كافية لجعل شعبها مستقلاً وآمناً"[32].
كما كتب إلى ((حاييم وايزمان)) أول رئيس لدولة إسرائيل بمناسبة الذكرى الأولى لصدور قرار التقسيم ((أود أن أخبرك بمدى السعادة والتأثر اللذين أشعر بهما للتقدم الفريد الذي حققته دولتكم الجديدة، والذي يرجع الفضل فيه لكم أنتم أكثر مما يرجع لأي جهد آخر. وإنني على ثقة من أنه لا زال لديكم أكثر مما أعطيتم، وأكثر مما قدم العالم لكم. وهو ما يجعلني شديد الإعجاب بكم))[33].
حدود النجاح الصهيوني
وهكذا وصلت الجماعات الصهيونية إلى أقصى طموحاتها بفوزها بتأييد الولايات المتحدة للمشروع الصهيوني في الأمم المتحدة وعلى الصعيد الدبلوماسي. لكن ذلك لا يعني أنها قد نجحت في إدخال تعديلات هيكلية على جدول أولويات وتوجهات السياسة الخارجية الأميركية. فعندما رأت الولايات المتحدة بأن تنفيذ قرار التقسيم قد يتطلب منها تحمل نفقات جديدة – بالمعنى المادي للكلمة – أحجمت عن اتخاذ القرارات التي قد تفرض عليها تحمل هذه النفقات. بل إنها كانت على استعداد لوقف تنفيذ قرار التقسيم حتى تجنب نفسها التورط في تحمل أعباء لم تكن مستعدة لتحملها. ومن ثم، فقد أصاب السياسة الأميركية في العالم العربي وخاصة تجاه المسألة الفلسطينية في الفترة اللاحقة لصدور قرار التقسيم، حالة واضحة من التردد لسببين أساسيين:(/20)
الأول: هو اتخاذ الولايات المتحدة لقرار تقديم الدعم الدبلوماسي اللازم لإنشاء دولة إسرائيل دون أن يكون لديها استعداد لتحمل النفقات المادية المترتبة على الالتزام بتنفيذ ذلك القرار.
والثاني: الخلاف الذي نشب بين فروع الإدارة الأميركية وخاصة بين الرئيس من ناحية، ووزارة الخارجية والدفاع من ناحية أخرى. والناتج عن انفراد الرئيس باتخاذ قرار الاعتراف بإسرائيل، إذ لا يستطيع الرئيس – بحكم آليات عمل الإدارة الأميركية – الاستمرار في تجاهل الأجهزة الأخرى لفترة طويلة، فإن المحصلة النهائية أخذت شكل تردد ومراوحة القرارات الصادرة عن الحكومة الأميركية تبعاً للتوازنات بين أركان الحكومة المختلفة وللأثر الذي يمارسه كل طرف لإصدار أو منع إصدار قرار بعينه.(/21)
لقد كانت الفترة الفاصلة بين صدور قرار التقسيم واستتباب الأوضاع بتوقف اتفاقيات الهدنة بين الدول العربية وإسرائيل، أكثر الفترات التي شهدت التردد والمراوحة الأميركية. فحين ساندت الولايات المتحدة قرار التقسيم كانت تتوقع تنفيذه في أقرب وقت ممكن، ولكن حين بدأت المقاومة العربية المسلحة المعارضة لتنفيذ القرار، بدا للولايات المتحدة أنها قد خسرت الرهان. فأخذ موظفو وزارة الخارجية يخففون بصورة مستترة من اندفاع حكومتهم في موالاة الصهيونية، فأوقفت واشنطن الإذن بنقل السلاح إلى الشرق الأوسط في الأسبوع الأول من كانون الأول (ديسمبر) 1947[34]، وفي 91 آذار (مارس) 1948 طلبت الولايات المتحدة من مجلس الأمن – وبرغم عدم موافقة الرئيس ترومان[35] – وقف العمل بخطة التقسيم واستبدالها بوصاية مؤقتة. وهو الاقتراح الذي تسبب في إزعاج شديد للقيادات الصهيونية[36]. وفي 29 آذار (مارس) أعلن وزير الدفاع الأميركي ((فورستال)) بأنه لا تتوافر لديه قوات لإرسالها إلى فلسطين. في الوقت نفسه الذي صرح فيه ((ترومان)) بأنه لا يرغب في الإدلاء بوعد قاطع بشأن إرسال قوات أميركية إلى فلسطين[37]. وفي 8 أيار (مايو) 1948 سافر ((موشى شاريت)) إلى واشنطن لمقابلة وزير الخارجية ((مارشال))، ووكيل الخارجية ((لوفيت)) اللذان أخبراه بأن القوات العربية النظامية ستغزو فلسطين عقب جلاء الإنجليز، فإذا كان اليهود مصرين على متابعة خطتهم فعليهم ألاَ يسعوا لمطالبة الولايات المتحدة بمساعدتهم[38]. أما المخابرات الأميركية فقد أعدت في شباط (فبراير) 1948 تقريراً يحمل عنوان ((التطورات المحتملة في فلسطين)) قدمت فيه عدداً من البدائل محتملة الحدوث نتيجة الأوضاع المعقدة في فلسطين. ومن بين هذه البدائل عدة صيغ لاستخدام القوة المسلحة عن طريق الأمم المتحدة، وبمشاركة أطراف دولية من بينها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. إلا إن المخابرات الأميركية نصحت بالعمل(/22)
على منع هذا الاحتمال بناء على تقدير مؤداه أنه بينما لن تساهم الولايات المتحدة في أي عمل يتطلب منها إرسال قواتها المسلحة إلى فلسطين، فإن الاتحاد السوفياتي سيجد في ذلك فرصة للانفراد بنشر قواته في المنطقة[39]. وفي العام 1949 حذرت الولايات المتحدة إسرائيل وطالبتها بالتنازل عن بعض الأراضي مقابل الأراضي التي استحوذت عليها ولم تكن داخلة في مشروع التقسيم ضمن حدود الدولة اليهودية، أي إن واشنطن أبدت رفضها لحدود الأمر الواقع كما فرضتها إسرائيل[40].(/23)
نستطيع إذاً تلخيص الإنجاز الذي حققته الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة في هذه الفترة وحتى قيام إسرائيل والذي انعكس بدوره على العلاقات الأميركية الإسرائيلية في الصياغة التالية: إنه من خلال الجهود الكثيفة التي بذلتها الجماعات الصهيونية – الأميركية والتي تركزت في أعمال الدعاية والضغط بأشكالها المختلفة، تمكنت الحركة الصهيونية من خلق تيار هام بين المواطنين الأميركيين وخاصة بين المسؤولين الأميركيين النافذين، يقبل بالمطالب الصهيونية في فلسطين. أي إنها استناداً إلى عوامل تاريخية وثقافية فيما يتعلق بالمجتمع الأميركي، واستناداً إلى الإمكانات الاقتصادية والفنية الكبيرة لليهود الأميركيين، وخاصة بالاستفادة من معطيات الحرب العالمية الثانية وما تعرض له يهود أوروبا من مآس على أيدي النازية، تمكنت الحركة الصهيونية من دفع قطاع هام من الأميركيين وخاصة من النخبة الأميركية إلى إدراك الواقع في فلسطين بطريقة مشابهة لتلك التي تدركها الحركة الصهيونية، أي إن الحركة الصهيونية قدمت مساهمة أساسية في صياغة وعي وإدراك قطاع كبير من النخبة والجمهور الأميركي تجاه فلسطين بطريقة تلائم المصالح الصهيونية. ولم تتمكن الحركة الصهيونية في هذه المرحلة من إقناع الأميركيين بأن نجاح المشروع الصهيوني يساوي تحقيق مصلحة أميركية معينة في المنطقة، بل على العكس فإن المساندة الأميركية للمشروع الصهيوني كانت تتم في الغالب، ضد المقولات المستقرة عن المصالح الأميركية قي الشرق الأوسط والتي تركزت حول ضمان استمرار تدفق النفط العربي، وعدم استثارة عداء الشعوب العربية تجنباً لتعريض المصالح النفطية الأميركية للخطر، ولدخول العرب في المعسكر السوفياتي، ومن ثم فإن نجاح المشروع الصهيوني لم يكن يمثل في ذلك الوقت، سوى مصلحة معنوية وأخلاقية لقطاع من النخبة والجمهور الأميركيين، وهو ما لم يكن كافياً لدفع الولايات المتحدة لتقديم المساندة(/24)
المادية، وخاصة العسكرية اللازمة لإنجاح المشروع. وقد أشارت مصادر عدة إلى حدود الالتزام الأميركي تجاه إسرائيل في هذه الفترة. فقد كانت الولايات المتحدة مصممة على نقل الرسالة واضحة للصهاينة في فلسطين. يقول ((بن غوريون)) إنه تلقى قبل أيام قليلة من إعلان قيام دولة إسرائيل رسالة من ((جورج مارشال)) وزير خارجية الولايات المتحدة ينصحه فيها بعدم إعلان قيام دولة إسرائيل ليس لعدم رغبته في قيامها ولكن لأن الجيوش العربية ستسحق هذه الدولة الضعيفة بمجرد إعلانها[41]. أي إن التأييد الأميركي لإسرائيل لم يتجاوز في هذه المرحلة حدود الالتزام بتقديم الدعم الدبلوماسي دون المادي للدولة الناشئة.
غير أن المشكلات بين إسرائيل والولايات المتحدة لم تنته عند هذا الحد، فحتى بعد قيام إسرائيل كانت الولايات المتحدة حريصة على الالتزام بحرفية قرار التقسيم أو بصيغة قريبة منه، فيما يتعلق بالمشكلات الثلاثة التي عالجها القرار: الحدود، اللاجئين، القدس. وحول هذه المشكلات ثارت خلافات هامة بين الإسرائيليين والأميركيين استمرت حتى شاركت الولايات المتحدة في إصدار الإعلان الثلاثي مع إنجلترا وفرنسا في منتصف العام 1950. ومن أمثلة ذلك أنه في كانون الأول (ديسمبر) 1948 وقبل توقيع اتفاقية الهدنة مع مصر، تمكنت القوات الإسرائيلية من اختراق الحدود المصرية واحتلال نقطة العوجة الحيوية القريبة من الحدود الفلسطينية – المصرية. وفي هذا الموقف أخذت الولايات المتحدة جانب الأمم المتحدة وطالبت إسرائيل بسحب قواتها، كما أرفقت هذا الموقف بالاحتجاج على التهديدات الإسرائيلية الموجهة ضد الأردن، مما اضطر إسرائيل في النهاية إلى سحب قواتها من الأراضي المصرية وإنكار واقعة تهديدها للأردن[42].(/25)
وبعد فشل مؤتمر السلام في لوزان العام 1949م أرسلت الحكومة الأميركية مذكرة شديدة اللهجة موقعة باسم الرئيس الأميركي وموجهة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ((بن غوريون))، حملت فيها إسرائيل مسؤولية فشل المؤتمر لرفضها تقديم تنازلات في مسائل الحدود وعودة اللاجئين وتدويل القدس. وقد أثارت هذه الرسالة أزمة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية. إذ أعقبها عدد من الرسائل الحادة المتبادلة بين الحكومتين[43]. ومما تجدر الإشارة إليه أن إسرائيل كانت حريصة في ردودها على محاولة دفع الولايات المتحدة للتورط في مساندتها، في محاولة منها لإنهاء الالتزام الأميركي بعدم إرسال القوات والأسلحة إلى إسرائيل، وذلك بتصوير الأمر كما لو كان التعنت الإسرائيلي نتيجة للسياسة الأميركية التي ترفض تقديم المساعدة والدعم لإسرائيل، أو كما لو كان تغيير الموقف الإسرائيلي رهناً بتعديل السياسة الأميركية. فقد جاء في الرد الإسرائيلي ((أن إسرائيل لا تستطيع أن تعيد الأعداء لأراضيها. وهل إذا تعرضت إسرائيل لهجوم جديد سترسل الولايات المتحدة السلاح والقوات إلينا))[44].
لقد عبر ((كلارك كليفورد)) المتحدث باسم الرئيس الأميركي ((ترومان)) عن المنظور الذي دفع الولايات المتحدة للتعامل بهذه الطريقة مع إسرائيل. ففي لقائه مع ((جيمس ماكدونالد)) السفير الأميركي الأول في إسرائيل، طلب ((ماكدونالد)) من الإدارة الأميركية أن تلتزم بالواقعية في علاقتها مع إسرائيل فرد ((كليفورد)) قائلاً: "إن الناس يتساءلون ألم تقبل إسرائيل بتدويل القدس بقبولها لقرار التقسيم الصادر في 39 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، ألم تقبل خطة الأمم المتحدة بشأن اللاجئين، ما الذي سيحدث للأمم المتحدة لو استمرت الدول في انتهاك قراراتها بهذه الصورة؟"[45].(/26)
وقد أسفرت السياسة الأميركية المتعارضة مع السياسات الإسرائيلية إلى ظهور ردود أفعال معادية للأميركيين في إسرائيل كان لها أثرها في برودة العلاقة بين الدولتين. ومن مظاهر ذلك ما قامت به مجموعة من الإرهابيين الصهاينة بمهاجمة القنصل الأميركي في القدس في أيلول (سبتمبر) 1948 وهددته موجهة له تحذيرا مضمونه أنهم، أي الإسرائيليون، ((لن يسمحوا للولايات المتحدة أن تحل محل بريطانيا في السيطرة على فلسطين، وتبديد الحلم اليهودي))[46].(/27)
وبعد الأزمة التي نشبت نتيجة لفشل مؤتمر لوزان، راحت العلاقات الأميركية – الإسرائيلية تتحسن تدريجياً، وبدأت الولايات المتحدة تفهم وتقدر الموقف الإسرائيلي بطريقة تتلاءم مع المصالح الإسرائيلية. على أن ذلك كان يجري في حدود معينة لابد من وضعها في الاعتبار. فالسياسة الأميركية تجاه إسرائيل منذ قيامها وحتى صدور الإعلان الثلاثي في أيار (مايو) 1950، تميزت بسمتين أساسيتين: الأولى: في الموافقة على استمرار وبقاء إسرائيل، والثانية: العمل على إدخال تعديلات معينة في الأمر الواقع المترتب على الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى بإدخال بعض التعديلات على الحدود القائمة وفقاً لاتفاقيات الهدنة، بحيث تتخلى إسرائيل عن بعض الأراضي التي احتلتها خارج الحدود التي عينها قرار التقسيم، والسماح لمن يرغب من اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، ورفع السيطرة الإسرائيلية عن الجزء الغربي من القدس لكي يتسنى تدويل المدينة، بمعنى أن الولايات المتحدة في الوقت الذي كانت فيه حريصة على استمرار الأمر الواقع بحرصها على استمرار إسرائيل، فإنها كانت أيضا حريصة على إدخال بعض التعديلات على واقع ما بعد الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى. وكان التقدير الأميركي وراء هذا الموقف المزدوج، هو أن الخطر الحقيقي على المصالح الأميركية الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة، هو خطر انفجار الموقف بين العرب وإسرائيل، وأنه لتجنب هذا الصدام لابد لإسرائيل من أن تقدم من جانبها بعض التنازلات الهامة للجانب العربي، ومن ثم فقد ألقت الولايات المتحدة تبعة تعذر التوصل للتسوية المطلوبة على التعنت الإسرائيلي. وقد عبرت السياسة الأميركية في هذه المرحلة عن نفسها بموقفها من عدم مد إسرائيل بالمعونات العسكرية والاقتصادية. فخلال السنوات الثلاث 1948، 1950، لم تحصل إسرائيل عن أية معونات اقتصادية أو عسكرية من الولايات المتحدة[47]. كما استمر قرار حظر إرسال السلاح لإسرائيل(/28)
الصادر في كانون الأول (ديسمبر) 1947، سارياً لفترة غير قصيرة. ولكن على الجانب الآخر فإن العجز العربي في تدعيم هذا التصور الأميركي، جعله يفقد مصداقيته تدريجياً، فقد انهمكت الدول العربية بعد حرب 1948 في مشكلاتها الداخلية وأمور الصراع بينها، ولم يبذل أي منها جهوداً جادة للاستعداد لخوض حرب جديدة، ضد إسرائيل. بحيث أنه بمجرد توقيع اتفاقيات الهدنة أصابت الجبهات العربية مع إسرائيل حالة من الهدوء لم يقطعها إلا بعض أعمال الفدائيين المحدودة، وبحيث لم يعد الوضع القائم ينذر بانفجار شامل يهدد بخلق حالة من الاضطراب تخشى الولايات المتحدة منها على مصالحها بالمنطقة. وبحيث توصلت الإدارة الأميركية تدريجيا إلى تقدير يقلل من خطورة الوضع الناتج عن الحرب، بل وصلت إلى استنتاج مؤداه أن تجميد الوضع الراهن والحفاظ عليه، هو الطريقة الأكثر عملية لحفظ الهدوء في المنطقة. إذا، فالتغير الذي أصاب الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة هو تغير جزئي، إذ استمر الاعتقاد بأن تجنب المواجهة الشاملة بين العرب وإسرائيل هو الطريقة الملائمة لحماية المصالح الأميركية، في الوقت نفسه الذي لم تعد فيه الإدارة الأميركية ترى أن تقديم التنازلات من جانب إسرائيل هو الشرط اللازم لتحقيق الهدوء بينها وبين العرب. وقد توج هذا التحول بمشاركة الولايات المتحدة مع بريطانيا وفرنسا في إصدار الإعلان الثلاثي في 35 أيار (مايو) 1950 والذي تضمن إعلانا باتفاق الدول الثلاث على العمل سوياً في إطار الأمم المتحدة وخارجها لمعارضة أية محاولة لتعديل خطوط الهدنة بالقوة، وإصرارها على منع اختلال توازن القوى بين العرب وإسرائيل.(/29)
وقد أصبح الحفاظ على توازن القوة بين العرب وإسرائيل هو عنوان هذه المرحلة في السياسة الأميركية التي استمرت أكثر من عقد من الزمان. وفي هذا الإطار يمكن فهم الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في توفير السلاح لإسرائيل بشكل مباشر أو عبر الوسطاء الأوروبيين. ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن الولايات المتحدة وحتى منتصف الستينيات تقريباً، لم تساهم بشكل نشط في عملية توريد السلاح للدول العربية أو لإسرائيل ووضعت لسياستها هذه عنواناً يشير إلى أنها ترفض أن تكون مورداً رئيسياً للسلاح إلى المنطقة، وان كانت من جهة أخرى تراقب الوضع بدقة، وتعمل على توفير السلاح اللازم لحفظ التوازن بين دول المنطقة عبر حلفائها الأوروبيين أو بشكل مباشر إذا كان ذلك ضرورياً.(/30)
من جانبها، حاولت إسرائيل مرات عديدة أن تحصل على السلاح الأميركي، ولكن في كل مرة كانت محاولاتها تبوء بالفشل، ومن ذلك أنه بعد أن عقدت مصر صفقة السلاح التشيكي في العام 1955، توجهت إسرائيل لإدارة ((إيزنهاور)) بطلب الحصول على السلاح، وبعد ستة أشهر من المماطلة أعلن وزير الخارجية ((دالاس)) أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ أنه على إسرائيل ألا تعتمد على السلاح الأميركي في الحفاظ على أمنها، وإنما عليها أن تعتمد على إجراءات الأمن الجماعي طبقاً لمبادئ الأمم المتحدة[48]. هذا بالرغم من أن إسرائيل كانت تعاني من مأزق حقيقي قي هذا المجال، إذ إنها ولمدة خمسة أو ستة أشهر بعد عقد صفقة السلاح السوفياتية الأولى لمصر، لم تتمكن من توفير أي مصدر لإمدادها بالسلاح حتى كانت فرنسا مستعدة لفعل ذلك بسخاء بسبب إعدادها للاشتراك في حملة سيناء[49]. وقد علق الكاتب الأميركي ((ريتشارد جولد أدامز)) على الموقف الأميركي في هذا المجال وعلى بعض المواقف الأخرى المشابهة بقوله: "إن وزير الخارجية دالاس شعر بأن ارتباط أميركا التقليدي بوجهة النظر الإسرائيلية كان عائقاً خطيراً في محاولة التنافس مع الروس على يد الصداقة العربية"[50].
إذاً فإن الولايات المتحدة كانت تقدر أن تطوعها بإمداد إسرائيل بالسلاح بشكل مباشر، قد ينجم عنه الإضرار بمصالحها في الوطن العربي.(/31)
ولكن الولايات المتحدة من ناحية أخرى كانت تسهل لإسرائيل الحصول على السلاح والمعونات الاقتصادية من أطراف دولية أخرى، أو أنها كانت تعطي الضوء الأخضر لبعض الاتفاقات في هذا المجال. ومن ذلك، مثلا، موافقة الولايات المتحدة على إتمام صفقة بين إسرائيل وكندا في أواخر العام 1955 تتسلم إسرائيل بموجبها 34 طائرة مقاتلة نفاثة أميركية النوع تصنع بترخيص في كندا من طراز، ((ف – 86 سابر مارك 6)) F –86 Sabre MK.6 . ولكن الصفقة لم يتم تنفيذها إذ جرى إلغاؤها بضغط من الولايات المتحدة بعد بضعة أسابيع بسبب هجوم شنته القوات الإسرائيلية على القوات السورية شمال بحيرة طبرية[51].(/32)
ومن ذلك أيضاً موافقة الولايات المتحدة في 24/2/1956م على بيع فرنسا لإسرائيل 12 طائرة مقاتلة نفاثة من طراز ((ميستير – 4 أ))، وذلك بحكم أن فرنسا كانت ملتزمة بتنفيذ صفقة مولتها الولايات المتحدة مؤلفة من 150 طائرة من الطراز المذكور لدول حلف ((ناتو))، ولذلك كان من الضروري الحصول على موافقة الحكومة الأميركية على إعطاء إسرائيل أولوية في تسلم هذه الدفعة من طائرات ((ميستير)). ثم أعقب ذلك موافقة الولايات المتحدة في أوائل أيار (مايو) من العام ذاته على إعطاء فرنسا أولوية تسليم الأسلحة عموماً إلى إسرائيل، بما فيها مزيداً من طائرات ((ميستير – 4 أ)) بالنسبة إلى متطلبات حلف ((ناتو)) من الأسلحة الفرنسية[52]. ومن ذلك أيضاً الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في دفع ألمانيا الغربية لتقديم السلاح إلى إسرائيل فقد أدلى الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية ((روبرت ماكلوسيم)) في 7/12/1965م، أي بعد افتضاح سر صفقة الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل، بتصريح جاء فيه ((إن العملية قد تمت بعمل وموافقة الحكومة الأميركية))[53]. كما أشار المستشار الألماني ((أديناور)) في مذكراته إلى أن الحكومة الأميركية قد أقنعت حكومة ((بون)) بتسوية مسالة التعويضات الألمانية. فقد كانت الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة مهتمة بإلقاء العبء الرئيسي في المعونة المالية لإسرائيل، على عاتق ألمانيا الاتحادية، حتى تتحاشى السخط في البلدان العربية على السياسة الأميركية الممالئة لإسرائيل[54]. على أنه لابد من الإشارة إلى سياسة الولايات المتحدة في هذا الاتجاه، خلال فترة الخمسينيات، لم تكن دائماً في صالح سعي إسرائيل للحصول على السلاح الذي تريده من الدول الغربية الأخرى. فقد لجأت الولايات المتحدة أحياناً، خلال الفترة المذكورة، إلى عرقلة إتمام بعض صفقات السلاح بين إسرائيل ودولة أخرى كنوع من الضغط غير المباشر على إسرائيل، مثلما حدث بالنسبة لإلغاء(/33)
كندا لصفقة طائرات ((سابر)) المشار إليها سابقاً. كما سبب رفض الولايات المتحدة منح إسرائيل السلاح الذي تريده بعض العقبات أمام محاولات إسرائيل الحصول على السلاح من دول أخرى. ففي بداية سعي إسرائيل للحصول على أسلحة من فرنسا قال ((كوف دي مورفيل))، وزير الخارجية الفرنسي رداً على محاولات ((شمعون بيريس)) في إقناعه بضرورة بيع فرنسا أسلحة لإسرائيل ((أين هو المنطق في اقتراحكم القائل بأن على فرنسا أن تحول نفسها إلى ((الفارس الوحيد في الشرق الأوسط)) بينما رفضت كل من بريطانيا التي حكمتكم من قبل الولايات المتحدة صديقتكم للغاية طلباتكم بتزويدكم بالسلاح بعناد))[55].
والجدير بالذكر أن جزءاً لا يستهان به من الشحنات التي تسلمتها إسرائيل من بعض دول أوروبا الغربية في الخمسينيات كانت تعبيراً عن التقاء مصالح الدول المذكورة مع مصالح إسرائيل. ومن أبرر الأمثلة على ذلك حصول إسرائيل على كميات كبيرة من الأسلحة الفرنسية في الخمسينيات الذي كان نتيجة للسياسة الفرنسية في الوطن العربي وعدائها المتزايد لمصر الناصرية بسبب موقفها المساند للثورة الجزائرية. وكما هو معروف فقد أسفرت السياسة الفرنسية عن تعاون فرنسا وإسرائيل وبريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول (أكتوبر) 1956.(/34)
وحتى تكتمل الصورة لابد من إضافة ملاحظة أخيرة، فالولايات المتحدة لم تقف موقفاً سلبياً تماماً من مسألة توريد السلاح الأميركي إلى إسرائيل. فقد استطاعت إسرائيل أن تحصل في أواخر الخمسينيات، على بعض الأسلحة الأميركية الدفاعية تضمنت مدافع مضادة للدبابات ومدافع مضادة للطائرات وأجهزة رادار[56]. وقد قرن وزير الخارجية الأميركي ((دالاس)) هذه الصفقة بمطالبة إسرائيل بالحد من ردود الفعل التي كانت تبديها ضد عمليات التسلل عبر الحدود العربية، كما قرنه بمحاولة إرضاء مصر فطالب إسرائيل بأن تتنازل لمها عن بعض الأراضي بغية خلق نقطة التقاء بين مصر والأردن قي وسط صحراء النقب، إلا أنه تراجع عن الطلب الأخير بسرعة. كذلك استجابت الولايات المتحدة لطلب إسرائيل بالحصول على السلاح في العام 1963، وباعت لها صواريخ ((هوك)) أرض – جو بمبلغ 33.5 مليون دولار تدفع على عشر سنوات بفائدة 3.5%. وقد شرح الرئيس ((كيندي)) وجهة نظر بلاده في هذه الصفقة ووصفها في إطار سياسة الولايات المتحدة الرامية لحفظ ميزان القوى متعادلا بما يمنع نشوب حرب جديدة بين العرب وإسرائيل... فقال أن هذه الصفقة لا تخرج عن خط السياسة الأميركية التقليدية في قضية تسليح الشرق الأوسط. فهذه السياسة لا تحول دون إرسال السلاح الأميركي إلى المنطقة بشكل عام، بل هي فقط تحول دون جعل أميركا مورداً رئيسيا للسلاح إلى المنطقة، ودون أن يخل هذا السلاح بتوازن القوى القائم في المنطقة، وإن حصول مصر على طائرات جديدة من الاتحاد السوفياتي من طراز ((تو – 16)) ذات المدى البعيد والقادرة على التحليق على ارتفاعات منخفضة والأسرع من الصوت، هو الذي أخل بميزان التوى، وأصبح من الضروري إرسال هذه الصواريخ لإسرائيل لضبط الميزان من جديد[57].(/35)
لقد افترضنا حتى الآن سبباً واحداً لتفسير سلوك الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، وهو حرص الولايات المتحدة على ميزان القوى بين العرب وإسرائيل متعادلاً بما يقلل من فرص نشوب حرب تراها الولايات المتحدة شديدة الخطر على مصالحها في المنطقة. وفي الاتجاه نفسه يمكن تقديم سببين إضافيين:
الأول: هو حرص الولايات المتحدة على علاقاتها بالدول العربية التي كانت ترى في إسرائيل عدوها الأساسي.
الثاني: هو حرصها على تقليص النفوذ السوفياتي في المنطقة وعدم إتاحة الفرصة له لتوسيع تواجده فيها وذلك بعدم دفع الدول العربية لتوطيد علاقاتها بالسوفيات إذا ما فقدت الثقة نهائياً بالولايات المتحدة. وبالعمل على تجنب حالة حادة من الاستقطاب تأخذ فيها الولايات المتحدة جانب إسرائيل، ويأخذ فيها الاتحاد السوفياتي جانب العرب بما يزيد من فرصة انتشار النفوذ السوفياتي في الوطن العربي. وفي تفسيره لسياسة الولايات المتحدة المتحفظة تجاه إمداد إسرائيل بالسلاح يقول شمعون بيريس إن ذلك يرجع إلى عامل سياسي أساسي: الوجود السوفياتي في الشرق الأوسط. فقد كانت واشنطن ترى آنذاك أن التسلل الشيوعي محدود، وكان ((دالاس)) يعتقد أن تطويقه أمر سهل، فاقتنع بقدرته على إبعاد ((عبدالناصر)) عن ((الهوة الروسية)) ولم يرغب عن طريق تزويد إسرائيل بأسلحة رئيسية في نسف هذا الاقتناع أو في فقدان تعاطف الدول غير المنحازة التي تزعمتها الهند ويوغوسلافيا ومصر[58]. وفي لقاء بين ((بيريس)) والرئيس الأميركي ((كيندي)) طلب الأول من الثاني أن تصدر حكومته إعلاناً صريحاً ضد الاعتداء في الشرق الأوسط، فاستوضح ((كيندي)) ما إذا كان الإعلان الثلاثي الذي صدر من أميركا وبريطانيا وفرنسا في العام 1951 لا يزال قائماً وكافياً، فأجاب ((بيريس)) إن الإعلان ينطوي على ثغرات كثيرة، وإنه لم يثبت جدواه في أية مناسبة أو تجربة جدية. فسأل كيندي: أي نوع من الإعلان يجب أن يصدر إذاً؟ فأجاب(/36)
((بيريس)): ((إن الإعلان يجب ألا يتطرق إلى الدول لكنه يشير إلى السياسة، أي يجب أن يكون إعلاناً صريحاً يشجب تجدد الاعتداء في الشرق الأوسط)). فتساءل كيندي ألا يجب أن يتضمن الإعلان ضمانة لحدود السعودية والأردن ولبنان وسوريا؟ وتساءل أيضاً: ماذا يكون موقفكم إذا أصدرت روسيا إعلاناً مماثلاً لصالح مصر. وقد علق ((بيريس)) على ذلك الموقف بقوله: "كنت أعرف حتى قبل أن ألج عتبة مكتب الرئيس أن العقبة الرئيسية أمام أي إعلان أميركي تكمن في الخوف من صدور بيان روسي مشابه قد يؤدي إلى مضاعفة تدخل الدول الكبرى في شؤون الشرق الأوسط"[59].
وتعليقاً على سياسة إغراق إسرائيل بالسلاح التي طبقتها الولايات المتحدة منذ العام 1973 كتبت مجلة Congressional Quarterly تقول ((إن هذه السياسة تتناقض تناقضاً واضحاً مع السياسة الأميركية تجاه الأمر نفسه قبل أقل من عقد واحد عندما كانت الولايات المتحدة حريصة على كسب العرب إلى جانبها في الحرب الباردة ولحماية مصالحها النفطية في المنطقة. وهي العناصر التي شكلت عائقاً في وجه إمداد إسرائيل بالأسلحة في الخمسينات وبداية الستينيات))[60].
لقد شكل الاتحاد السوفياتي عنصراً مؤثراً وفعالاً في الشرق الأوسط في الفترة حتى منتصف الستينيات، حتى أن بعض السياسيين الأميركيين رأى أنه لا فكاك من القبول بنوع من النفوذ السوفياتي في المنطقة، واقترح تنظيم التعامل معه فعلاً في المنطقة. فاقترحت لجنة ((كلارك)) التي زارت عدداً من دول المنطقة في النصف الأول من العام 1967 العمل على التوصل إلى تفاهم مع الاتحاد السوفياتي بشأن الشرق الأوسط. واقترحت اشتراك الدولتين في الإشراف على المنطقة من خلال قوات بوليس دولي[61].(/37)
وهناك مظاهر عديدة لحرص الحكومة الأميركية على علاقتها بالوطن العربي في ظل الفترة، بما يساهم في تفسير سياستها تجاه اسرائيل عموماً، وتجاه إمدادها بالسلاح الأميركي على وجه الخصوص. ففي حزيران (يونيه) 1960 أعلنت الخارجية الأميركية قرار استئناف إرسال معوناتها لـ((ج.ع.م)) وقال ((باركهارت)) مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط و((جيمس جرانت)) نائب مدير مؤسسة التعاون الدولي لشؤون البرامج والتخطيط: "إن الخارجية الأميركية استأنفت برنامج المعونة دون استشارة الكونغرس مقدماً لأن علاقتها بـ((ج.ع.م)) كانت ستتعرض للضرر إذا حدث تأخير في تسليم المعونات"[62].(/38)
ومعروف أن هذا الإجراء كان يتم في مواجهة معارضة شديدة من الكونغرس الذي كان قد أصدر قراراً يربط بين الحصول على المعونة الأميركية وبين اتباع سياسات معينة. وفي مواجهة هذا المشروع حذر وزير الخارجية الأميركي بالنيابة الكونغرس من ربط المساعدات الخارجية بالحظر المفروض على إسرائيل في قناة السويس[63]. وكانت الحكومة الأميركية في السنة الأخيرة من عهد الرئيس ((إيزنهاور))، قد قررت رفع حجم المعونات الأميركية لمصر، وأعلنت التزامها بمنح مصر ما مقداره 150 مليون دولار سنوياً من فائض القمع الأميركي[64]. وقد حدث موقف مشابه في العام 1963 عندما وافق مجلس الشيوخ على قرار يقضي بمنع المعونة الأميركية عن أية دولة تستعد لعمل عسكري ضد أميركا أو ضد أية دولة تتلقى المعونات منها. وكان واضحاً أن القرار يعني ((ج.ع.م)) بالدرجة الأولى. إذ كان السناتور ((أرنست جرونينج)) أحد أصحاب المشروع، قد صرح أثناء الإعداد لإصدار القرار بأنه ((مصمم)) على شن حملة في الكونغرس لجعله يسن تشريعاً يقضي بمنع تقديم أية معونة أميركية لمصر. وقد هاجم وزير خارجية ((راسك)) هذا القرار باعتباره محاولة من بعض أعضاء الكونغرس لإخضاع السياسة الخارجية الأميركية للسلطة التشريعية. فرئيس الجمهورية هو المسؤول عن سياسة البلاد الخارجية وأنه هو الذي يتحمل المسؤولية إذا ساءت الأمور. فالكونغرس يسير ببطء شديد، بينما يتحرك العالم بسرعة بالغة[65]. أيضاً، ظهر المنحى الأميركي لتحسين علاقاته بالوطن العربي وخاصة بمصر في تباطؤ الولايات المتحدة في الاعتراف بحكومة الانفصال وسوريا حتى سبقها الاتحاد السوفياتي في الاعتراف بها، وفي الفتور الذي استقبلت به الولايات المتحدة الاقتراح الداعي لإنشاء قياده مشتركة للحلف المركزي تشترك فيها الولايات المتحدة[66]. مما أدى إلى تعطيل تنفيذ هذا الاقتراح.
العلاقات الأميركية – الإسرائيلية في المنظور الإسرائيلي(/39)
المشروع الصهيوني في فلسطين هو مشروع خاص بمعنى أن في الدرجة الأولى تعبير عن إرادة قطاع من يهود العالم رأوا في هذا المشروع الطريق الأمثل لحل المشكلة اليهودية التي كانت – في تقديرهم – مشكلة حقيقية خاصة في مجتمعات شرق ووسط أوروبا. ولا شك أن بعض القوى الإمبريالية قد وجدت نجاح المشروع الصهيوني تحقيقاً لمصالحها فوقفت منه موقف المساندة. وهذا تطور طبيعي للأمور بحكم التشابك والتعقيد الشديدين في ظروف عالمنا المعاصر. ولكن هذا لا ينفي عن المشروع الصهيوني طابعه الخاص، فخلط الأوراق في هذا المجال يؤدي بالتأكيد إلى غموض في الرؤية تؤدي بدورها إلى العجز عن التمييز بين المصالح والأهداف الخاصة لكل من القوى المنغمسة في الصراع بالمنطقة، ويؤدي بالمحلل إلى الوقوف موقف العاجز عن التفسير في بعض الأحيان عندما تتصادم المصالح والسياسات الإسرائيلية مع مصالح وسياسات قوى أخرى يظن البعض أن سياساتها ومصالحها تتطابق مع مصالح وسياسات إسرائيل.. حدث هذا الخلط قديماً في التعامل مع فترة (شهر العسل) البريطاني – الصهيوني زمن الانتداب الإنجليزي على فلسطين، ويحدث أحياناً اليوم في التعامل مع العلاقات الأميركية – الإسرائيلية؟.(/40)
فتحت أية ظروف لا يمكن الحديث أبداً عن تطابق في المصالح بين أية دولتين في النظام الدولي. وتتوقف دقة التحليل على الوقوف بدقة على مساحة الهامش الذي يفصل بين سياسات وأهداف أية دولتين ومهما بلغت مساحة الاتفاق بينهما. فطالما وجد هامش للاختلاف يصبح توسيعه أمراً ممكناً بشرط التعرف على العناصر التي تتحكم في عملية تضييق أو توسيع ذلك الهامش. وتؤكد عملية تطور العلاقات الأميركية – الإسرائيلية الفرضية السابقة. فقد رصدنا خلال هذه الدراسة مرحلة ليست بقصيرة اتسع فيها هامش اختلاف المصالح والسياسات الأوروبية عن مثيلتها الأميركية. ثم راح هذا الهامش عميق تدريب حتى منتصف الستينيات، وأخذ يقفز قفزات سريعة منذ حرب 1967 في الاتجاه نفسه، حتى كاد يختفي تماماً، وهو ما قد يثير الالتباس لدى من يكتفي بالنظر إلى المرحلة الحالية من العلاقات الأميركية – الإسرائيلية. والفرضية التي نحاول إثباتها هنا هي أن تطور العلاقات الأميركية – الإسرائيلية في هذا الاتجاه كانت في جانب كبير منها نتاج لسياسة إسرائيلية ثابتة استهدفت دفع الأمور بالضبط في ذلك الاتجاه. فقد بدأت إسرائيل حياتها كدولة، وهي مهيئة لانتهاج سياسة غير منحازة بين الكتل المتصارعة على الصعيد الدولي، فقد حصلت على دعم يكاد يكون متساوياً من الكتلتين في سبيل إنشاء دولة. وأيضاً فإن المجتمع الإسرائيلي ضم بين صفوفه قوى متكافئة تقريباً يميل بعضها للتقارب مع السوفيات والكتلة الاشتراكية: الشيوعيون والجناح اليساري من الأحزاب العمالية، كما كانت التجمعات اليمينية: حيروت والأحزاب الدينية تميل للتقارب مع الولايات المتحدة والغرب. وقد عبر ((إيزا هاراري)) الناطق باسم حزب التقدميين الصهاينة في الشؤون الخارجية عن موقف الحياد هذا بقوله: "نحن لا نعلم من الذي سينتصر في الحرب الباردة أو الساخنة، ولهذا فإنه من الأفضل أن نبقى مستقلين".(/41)
وأضاف: "طالما كان هناك ملايين من شعبنا على الجانبين فإن علينا أن نحافظ على استقلالنا"[67].
كما عبرت إسرائيل في بعض من سلوكها الرسمي عن موقف غير منحاز – وإن كان هذا لم يستمر سوى لفترة قصيرة في بداية عمر الدولة – فعلى سبيل المثال كانت إسرائيل هي الدولة غير الشيوعية الوحيدة التي صوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد توجه الانتقاد للاتحاد السوفياتي لتدخله في الحرب الأهلية الصينية في العام 1949[68]. وعن سياسة الحياد هذه يقول ((ناداف صفران)): "إن هذه السياسة لم تكن فقط تعبيراً عن امتنان إسرائيل للمساعدات التي تلقتها من القوتين أثناء الحرب، وإنما رأت فيها أيضاً أفضل طريق لضمان مصالحها القومية بالحفاظ على تدفق المهاجرين من شرق أوروبا والفوز بموافقة روسيا على ذلك. وفي الوقت نفسه الاستمرار في تلقي الدعم من اليهود الأميركيين وربما من الحكومة الأميركية ذاتها"[69].(/42)
ولقد ذكرنا قبل قليل أنه كان يوجد في إسرائيل نوعان من القوى السياسية المتعادلة تقريباً يضغط كل منها في اتجاه دفع إسرائيل للتقارب مع إحدى القوتين الأعظم، وكانت العناصر الأيديولوجية هي العامل الحاسم في دفع هذه القوى لتبني هذا الموقف أو ذاك. ولكن التيار الأساسي بين القوى السياسية الإسرائيلية وهو تيار ((الماباي)) ذو النزعة البراجماتية، والذي كان ولاؤه الأساسي لصالح المشروع القومي الصهيوني، ومن ثم كانت الرؤية الاستراتيجية أكثر من الرؤية الأيديولوجية هي المتحكمة في صياغة سياسات ((الماباي)) وبرامجه. وقد كان لشخصية ((ابن غوريون)) وطريقة تفكيره الاستراتيجية البراجماتية أثر حاسم في بلورة توجهات ((الماباي)) وإسرائيل كلها لفترة حوالي عقد ونصف من الزمان. ففي الوقت الذي كان فيه ((ابن غوريون)) حريصاً على استقلال إسرائيل تجاه الدول الأخرى كما عبر عن ذلك وعبارات كثيرة منها: ((إننا نتسلم المساعدات من كلا الجانبين ثم نشكرهم ونسير في طريقنا الخاص، فنحن لا نريد أن نكون تابعين لأحد))، فإنه كان واعياً أيضاً بأن تحقيق مصلحة إسرائيل إلى الحد الأقصى يستلزم معها ألا تتمسك بسياسة صارمة للحياد، أو حتى بأي حياد على الإطلاق، وإنما عليها أن تخلق نوعاً من الروابط القوية بينها وبين الولايات المتحدة. وقد عبر ((بن غوريون)) عن أهمية ذلك الارتباط بأكثر من صياغة من بينها قوله: "إننا ندفع ثمناً للسلاح الذي نحصل عليه من الكتلتين وكلاهما يريد الدولارات منا، ولكن الدولارات لا تأتي إلا من بلد واحد. فنحن نحصل على الملايين من الدولارات من الولايات المتحدة".
ويقول أيضاً: "لا الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفياتي يعطينا السلاح، ولكن إذا ما قالت الحكومة السوفياتية لنا لا، فإن كلمتها تصبح نافذة على كل فرد في الاتحاد السوفياتي. ولكن ليس هذا هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة"[70].(/43)
ويظهر في عبارة ((بن غوريون)) الأخيرة أحد الأركان الأساسية التي قامت عليها سياسة إسرائيل تجاه الولايات المتحدة والتي اعتمدت على محاولة التأثير على القوى غير الحكومية لبناء جماعة ضغط قوية موالية لإسرائيل داخل الولايات المتحدة واستخدامها لدفع المؤسسات التنفيذية لتبني سياسات تخدم المصالح الإسرائيلية. وقد حققت إسرائيل في هذا المجال نجاحاً باهراً رأينا بعضاً منه في الدور الذي لعبته الجماعات الصهيونية في دفع الحكومة الأميركية لتأييد قيام إسرائيل. ومنذ ذلك الحين وحتى كاد هامش التناقض الأميركي – الإسرائيلي يختفي تماماً في بداية السبعينيات، يجد الباحث أن القوى غير الحكومية في الولايات المتحدة كانت دائماً أكثر تعاطفاً مع المطالب الإسرائيلية مقارنة بالجهات التنفيذية. ويتضح هذا من مقارنة مواقف كل من الكونغرس والحكومة تجاه إسرائيل والعالم العربي في تلك الفترة. فعلى سبيل المثال أثبتت أحداث لبنان 1958 لمجموعة كبيرة من أعضاء الكونغرس الأميركي – مثل ((جاكوب جافيتس)) النائب الجمهوري عن ولاية نيويورك – أهمية إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة كمرساة يمكن الاعتماد عليها من قبل العالم الحر في الأمور الاستراتيجية والعسكرية في الشرق الأوسط والبحر المتوسط، وطالب ((جافيتس)) الولايات المتحدة بأن تتخذ المبادرة لتأمين إيجاد حل للنزاع العربي – الإسرائيلي وذلك بإرغام الدول العربية على تحمل مسؤوليتها بالنسبة للاجئين، وأن تزيد من المساعدة العسكرية لإسرائيل بصفتها حليفاً يمكن الاعتماد عليه. وكان ((إبراهام ملز)) نائب نيويورك قد سبق في التأكيد على أنه ((لا يمكن التفكير في إعادة توطين اللاجئين في إسرائيل)). كذلك عارض كل من ((جافيتس))، و((إبراهام ريبكوف)) النائب الديمقراطي من ولاية ((كونيكتت)) اقتراح ((جون كيندي)) بتخصيص المساعدات الأميركية لوكالة غوث اللاجئين في إعادة توطين اللاجئين في إسرائيل. وأعلن النائبان(/44)
اللذان أصبحا عضوين في مجلس الشيوخ فيما بعد تأييدهما القوي لإسرائيل على اعتبار أنه من المستحيل أن تتحمل داخل حدودها عدداً متزايداً من الأعداء المحتملين. وطالب ((والتر جود)) النائب الجمهوري من ((مينسوتا)) بأن تقدم الولايات المتحدة لإسرائيل مساعدات توازن مساعداتها للعرب، وذلك ((لأن لإسرائيل جيشاً ممتازاً، كما أنها أظهرت صداقتها للغرب وللولايات المتحدة بشكل خاص)). وصرح ((جوزيف ماركومال)) النائب الديمقراطي عن ((ماساتشوستس)) والذي أصبح فيما بعد رئيساً لمجلس النواب، أن على الكونغرس أن يدرك ((أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأدنى التي نستطيع الاعتماد عليها، علماص بأننا لا نستطيع الاعتماد على غيرها))[71].(/45)
وبعد حرب العام 1967 طلب الإسرائيليون من الإدارة الأميركية تزويدها بطائرات ((فانتوم)) المقاتلة كي يتمكنوا من ردع الدول العربية عن شن حرب أخرى. وعندما أجلت الإدارة الأميركية البت بالطلب الإسرائيلي طيلة سنة 1968، وبسبب قلقه من هذا الموقف صادق الكونغرس على الطلب الإسرائيلي للحصول على طائرات ((الفانتوم)) من خلال تبنيه لقرار هذا نصه ((يرى الكونغرس أن على الرئيس اتخاذ الخطوات اللازمة بأسرع وقت ممكن بعد سن هذا التشريع للبدء بالمفاوضات حول اتفاقية مع حكومة إسرائيل تؤمن بيع الولايات المتحدة العدد الضروري من الطائرات المقاتلة الأسرع من الصوت لتزويد إسرائيل بالقوة الرادعة المناسبة والقادرة على منع اعتداءات العرب في المستقبل من خلال الأسلحة المتطورة التي حصلت عليها الدول العربية، ومن أجل تعويض الخسائر التي لحقت بإسرائيل في صراع العام 1967)). ونتيجة لهذا القرار طلب الرئيس ((جونسون)) من وزير الخارجية المبادرة إلى إجراء مفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية حول احتياجاتها من السلاح[72]. وفي رئاسة ((نيكسون)) الأولى تعرضت الإدارة الأميركية لضغوط مستمرة من أجل زيادة المساعدات العسكرية إلى إسرائيل. ففي أيار (مايو) 1970 اجتمع وزير خارجية إسرائيل ((آبا إيبان)) مع القادة الأميركيين في واشنطن بمن فيهم الرئيس ((ريتشارد نيكسون))، وطالب بالمزيد من طائرات ((الفانتوم)) و((السكاي هوك)) إلى إسرائيل. فلما كان رد الفعل غير مشجع، وجه 73 شيخاً رسالة إلى الرئيس يحثونه فيها على التعهد بالحماية والدفاع عن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. وهكذا فإن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط أصبحت مطابقة تماماً للاستجابة لطلبات إسرائيل. وفي أوائل أيلول (سبتمبر) من العام ذاته وافق مجلس الشيوخ بأكثرية 87 صوتاً ضد 7 أصوات على مخصصات بقيمة 501 مليون دولار لتزويد إسرائيل بالأسلحة[73].(/46)
على أن الأفكار التي صاغها ((بن غوريون)) لإدارة العلاقات الأميركية – الإسرائيلية لم تقتصر فقط على البعد الخاص بتنمية دور الجماعات الضاغطة الموالية لإسرائيل داخل الولايات المتحدة. فقد استوعب ((بن غوريون)) عدداً من الحقائق الهامة التي تبلورت في نهاية النصف الأول من هذا القرن. فمنع انهيار أوربا تحت ضربات النازيين أيقن ((بن غوريون)) أن الولايات المتحدة ستكون هي مركز عالم ما بعد الحرب. فانتقل مركز النشاط الصهيوني إليها منذ مؤتمر بلتيمور الشهير في العام 1942. وفي هذا الصدد يقول ((بن غوريون)): "لم أعد أشك في أن مركز الجاذبية لعملنا السياسي في الميدان الدولي قد انتقل من بريطانيا إلى الولايات المتحدة التي تزعمت العالم وتحتوي مجموعة كبيرة من اليهود. إن أوروبا أصبحت في قبضة النازيين وإنها حتى بعد أن تتغلب على ألمانيا، ستكون منهوكة القوى وستكون معتمدة اقتصادياً على أميركا لسنوات عديدة بعد التحرر، فحتى المسائل السياسية في أوروبا ستكون تحت النفوذ الأميركي"[74].
كذلك وعى ((بن غوريون)) حقيقة كون الولايات المتحدة أكبر مستودع لليهود والأغنياء القادرين على تمويل الحركة الصهيونية بما لا تستطيعه أية جالية يهودية أخرى. ففي الفترة بين 1939 ونهاية 1948 بلغ مجموع تبرعات المنظمات اليهودية والصناديق الخاصة في الولايات المتحدة للمستوطنين الصهاينة بين 282 و302 مليون دولار[75].(/47)
وبناءً على هذا، اتبعت إسرائيل سياسة ثابتة فحواها العمل على إقناع الولايات المتحدة بأنها هي حليفها الوحيد المضمون في الشرق الأوسط، وذلك عبر رسائل متوالية، وفي كل المناسبات، ولعل أولى هذه الرسائل ما حدث بعد شهور قليلة من قيام إسرائيل. فقد وصل السفير الأميركي الأول إلى إسرائيل في 11 آب (أغسطس) 1948 بعد ثلاثة أيام من وصول رئيس البعثة الدبلوماسية السوفياتية ((بافل دي يرشوف)). وفي افتتاح الأوبرا الإسرائيلية لأول مرة بعد قيام إسرائيل كان ممثلو البعثتين السوفياتية والأميركية في مقدمة المدعوين، ولكن عندما بدأ العرض تعمد الإسرائيليون بعد عزف النشيد الوطني الإسرائيلي ((الهاتكفاه)) أن يتجاهلوا تماماً النشيد الوطني السوفياتي، بينما عزفوا النشيد الوطني الأميركي، وهو ما أثار الأزمة الأولى بين السوفيات وإسرائيل، وحمل للأميركيين معان هامة[76]. وعندما نشبت الأزمة الكورية تبنت إسرائيل الموقف الأميركي بصورة كاملة وحاولت توظيف هذا الموقف لصالحها. ففي لقاء بين ((بن غوريون)) والسفير الأميركي في إسرائيل، قدم الأول تصوراً لخطة تستهدف تقوية إسرائيل لتمكينها من الصمود في وجه أي عدوان شيوعي في حالة نشوب أزمة مشابهة للأزمة الكورية في الشرق الأوسط[77]. وقد أدت هذه الرسالة غرضها بدرجة كبيرة، إذ علق السفير الأميركي في إسرائيل على هذا الموقف بقوله: "لقد أصبحت متيقناً من موقف إسرائيل المؤيد للغرب"[78].
وفي 23 كانون الأول (ديسمبر) 1950 أرسل ((موشيه شاريت)) وزير خارجية إسرائيل مذكرة سرية إلى الجنرال ((جورج مارشال)) وزير الدفاع الأميركي مضمناً إياها مشروعاً تفصيلياً للتعاون الاستراتيجي بين البلدين. نص البند الأول منه على ((أن التوتر الحالي في العالم قد دفع حكومة إسرائيل إلى تفحص موقفها تحسباً لأي تفاقم جديد في الوضع من شأنه أن يمس الشرق الأوسط)) وقد شمل المشروع الإسرائيلي عدة بنود أهمها:(/48)
– تمكين إسرائيل من توفير قدر مناسب من احتياطات الغذاء والطاقة فوق أراضيها. فبالإضافة إلى أهمية ذلك بالنسبة لإسرائيل فإنه ((يشكل رصيداً مهماً للولايات المتحدة في دورها كدولة عظمى لها مصلحة في الدفاع عن الشرق الأدنى))… ((لهذه الأسباب فإن إقامة مستودعات احتياطيات الغذاء قبل نشوء حالة طوارئ سيخدم أمن إسرائيل من جهة وسيعزز إلى حد كبير الموارد الدفاعية للديمقراطية في الشرق الأوسط)).
وفي المجال العسكري قدمت المذكرة للمطالب الإسرائيلية بقولها ((إن الإنجاز العسكري لسكان أرض إسرائيل اليهود في الحرب العالمية الثانية، وما حققه الجيش الإسرائيلي في العام 1948 في مجال الدفاع عن دولة ولدت لتوها ضد القوات العربية المشتركة يشكل مؤشراً جيداً بالنسبة للمستقبل على الخدمة التي تستطيع إسرائيل تقديمها إذا نميت قدرتها العسكرية ونظمت في أقرب وقت)). ولتمكين إسرائيل من أداء خدماتها العسكرية للغرب فإنه يجب:
– تزويدها بالسلاح الأميركي.
– توحيد تسليح الجيش الإسرائيلي بالأنواع الأميركية.
– تنمية صناعة السلاح الإسرائيلية لسد احتياجات إسرائيل وجزء من احتياجات حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
– تحسين منشآت الموانئ الإسرائيلية فمثل هذا التحسين ((سيعزز من قيمة إسرائيل كرصيد للدفاع عن الشرق الأدنى ضد العدوان)).
– قيام الخبراء الأميركيين بدراسة القدرات العسكرية والصناعية الكامنة في إسرائيل. وكذلك دراسة منشآتها ومواصلاتها كمقدمة لبناء خطة للدفاع عن المنطقة.
– تمكين مزيد من الطلاب الإسرائيليين من الدراسة في الكليات العسكرية الأميركية.
– تزويد إسرائيل ببعض المعارف العسكرية ذات الطبيعة السرية[79].(/49)
وتعليقاً على المذكرة الإسرائيلية كتب وزير الخارجية الأميركي ((دين اتشيسون)) إلى سفارة الولايات المتحدة في إسرائيل رسالة جاء فيها ((لقد قال الإسرائيليون إنهم مقتنعون الآن بخطأ سياسة ((عدم التماثل)) – يقصد عدم الانحياز – التي يتبعونها، وإنهم يعرفون أن أملهم الوحيد للخلاص هو الغرب. إنهم يريدون أن تؤخذ إسرائيل بالحسبان، بأكبر سرعة ممكنة، في خطط الغرب للدفاع عن الشرق الأدنى... وقد ألمع الإسرائيليون إلى أنهم سيكونون مستعدين في حال نشوب أزمة لأن يقترحوا على الغرب تقديم خدمات مثل ميناء حيفا ومطار اللد، حتى وان كان الأمر مرتبطاً باستخدام بريطانيا لهذه الخدمات))[80]. وبالرغم من أن الولايات المتحدة لم تستجب للمطالب الإسرائيلية إلا أن ذلك لم يمنع إسرائيل من الاستمرار في اتباع السياسة نفسهما. ففي محاولات متعاقبة لإلزام الولايات المتحدة بارتباط رسمي قوي مع إسرائيل، طلبت إسرائيل من الولايات المتحدة توقيع معاهدة دفاع بين البلدين وهو ما رفضته الولايات المتحدة حتى لا تسيء إلى علاقاتها العربية. كما عرضت إسرائيل في العام 1957 على الولايات المتحدة أن تقوم بتوسيع الموانئ والمطارات الإسرائيلية حتى تصبح صالحة للاستعمال كقواعد عسكرية للولايات المتحدة في حالات الطوارئ، وهو ما رفضته الولايات المتحدة أيضاً. وفي أواخر العام نفسه تقدمت إسرائيل بطلب للانضمام إلى حلف الأطلسي، لكن مجلس الحلف رفض هذا الطلب[81].
وحتى في أوقات الأزمات فإن إسرائيل لم تتخل عن هذا النهج. فبعد أن ردت بحدة واضحة على الخطاب الأميركي الذي حملها مسؤولية فشل مؤتمر لوزان للسلام، حرصت الحكومة الإسرائيلية على أن تنهي ردها على الخطاب الأميركي بعبارات ودية تعبر عن اهتمام إسرائيل ((بصداقة شعب وحكومة الولايات المتحدة كمصدر قوة في علاقات إسرائيل الخارجية لا يمكن أن تقاربه فيه دولة أخرى))[82].(/50)
وفي صيف العام 1966 قضى ((دايان)) عدة أسابيع في فيتنام لمتابعة الحرب هناك عن كثب وعاد مقتنعا بأن الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، لما رآه من قوة عسكرية واقتصادية هائلة تستخدمها هناك، وهو الذي دفعه للقول بأن الولايات المتحدة يجب أن تلعب مثل هذا الدور في المستقبل في الشرق الأوسط[83]. وحتى في المرات التي رأت فيها إسرائيل أن مصالحهما تتعارض بشكل واضح مع المشروعات والخطط والسياسات الغربية، فإنها كانت تحاول بقدر الإمكان أن تجنب نفسها الدخول في مواجهة حاسمة مع الولايات المتحدة والغرب، بل على العكس فإنها كانت تحاول إيجاد طريق بديل للاستمرار في تدعيم علاقتها بالغرب وخاصة بالولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، فإنه بينما قبلت إسرائيل الإعلان الثلاثي الصادر في أيار (مايو) 1950، فإنها لم تنظر بعين الارتياح لإنشاء منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط تضم الدول العربية إلى جانب إسرائيل، وتؤدي ضمن ما تؤدي إليه إلى تقوية الجيوش العربية، ولكن إسرائيل لم تورط نفسها في معارضة هذا المشروع معارضة حازمة، إنما تركت هذه المهمة للاتحاد السوفياتي والدول العربية حيث أدت معارضتهم للمشروع. إلى تعطيل تنفيذه[84]. أيضاً فقد عارضت إسرائيل مشروع معاهدة حلف بغداد على أساس أن انضمام الدول العربية مع الغرب في حلف واحد سوف يؤدي إلى تقوية العرب في مواجهة إسرائيل، لذلك حاولت دفع أنصارها في الولايات المتحدة لمعارضة المعاهدة. ولما فشلت في ذلك، وأصبحت المعاهدة أمراً واقعاً بتوقيع العراق عليها، حاولت إسرائيل دعم علاقاتها الأميركية بطلب الانضمام لحلف ((الناتو))، فلما فشلت في الحصول على إجابة لهذا الطلب، دعت الولايات المتحدة لتوقيع معاهدة دفاع مشترك، وهو الذي رفضته أميركا خشية تعريض مصالحها في الوطن العربي للخطر[85]. لقد لخص الباحث الأميركي ((جيمس ريتشاردر)) في كتابه ((الإله الأميركي)) الموقف بقوله: "لقد كانت(/51)
إسرائيل تبحث عن دور، وكنا نحن – الولايات المتحدة – نبحث عمن يقوم بهذا الدور"[86].
فقد كان موقع إسرائيل في إطار السياسة والاستراتيجية الأميركية في العالم العربي والشرق الأوسط، يتزايد تدريجياً، وكان هذا التزايد يتم عادة على حساب علاقات الولايات المتحدة – العربية، ودعم من هذا الاتجاه، وصول الرئيس ((جونسون)) إلى الحكم بعد اغتيال ((جون كيندي)) في العام 1963، وكان ((جونسون)) معروفاً بتعاطفه مع إسرائيل منذ كان عضواً بمجلس الشيوخ ورئيساً للكتلة الديمقراطية فيه، وكان أبرز المواقف التي تولى فيها ((جونسون)) الدفاع عن المصالح الإسرائيلية هو معارضته للتهديد الذي وجهه الرئيس ((إيزنهاور)) لإسرائيل بفرض عقوبات عليها إذا لم تنسحب من سيناء وقطاع غزة في العام 1957. وقال ((جونسون)) في تلك المناسبة: "إن الحكومة الأميركية فيما يبدو قد نسيت أن اليهود لم يفعلوا شيئاً أكثر من الدفاع عن النفس ضد ما أسماه بتهديد العرب لإسرائيل عن طريق غزوات الفدائيين والإبقاء على حالة الحرب ضدها"[87].(/52)
وفي عهد ((جونسون)) حصلت إسرائيل ولأول مرة على صفقة أسلحة أميركية ذات أهمية كبيرة. ففي شباط (فبراير) 1965 وأثناء زيارة ((فريل هاريمان)) نائب رئيس الولايات المتحدة لإسرائيل، وافقت الولايات المتحدة على تزويد إسرائيل بدبابات من طراز ((باتون))، وطائرات من طراز ((سكاي هوك)). وقد وصف ((بيريس)) هذه الصفقة بأنها قد وضعت حداً نهائياً للسياسة القائلة بأن أميركا لا ترغب في أن تصبح المصدر الرئيسي للسلاح إلى الشرق الأوسط[88]. وكان ((جوسمون)) قد أبلغ ((ليفي أشكول)) أثناء زيارته للولايات المتحدة في منتصف العام 1964 إن الولايات المتحدة ستساند إسرائيل بكل قوة، وإنها لن تقف مكتوفة الأيدي إذا تعرضت إسرائيل لأي هجوم[89]. كما أعلن ((ليفي أشكول)) في حزيران (يونيه) 1966 أنه تلقى تأكيداً بأن الولايات المتحدة ستحافظ على توازن القوى في الشرق الأوسط، وأن ذلك يشكل ثورة في التفكير الأميركي[90]. ويرى ((بيريس)) أن هناك عنصرين مباشرين فرضا التبدل الذي أصاب السياسة الأميركية في ميدان تصدير السلاح لإسرائيل:
الأول: هو انضمام الأردن للقيادة العربية المشتركة، وما ترتب عليه من اتفاق على تزويدهما بالسلاح ومن ثم رغبة أميركا في موازنة أثر هذا المتغير.
والثاني: هو العقدات التي عرقلت المساعي الإسرائيلية للحصول على دبابات من ألمانيا بعد أن اضطرت بون للخضوع للضغوط العربية فأوقفت شحنات السلاح التي كانت ترسلها إلى إسرائيل[91]. وكان هذا التحول يمثل انتصاراً هاماً للسياسة الإسرائيلية التي استهدفت منذ زمن طويل اجتذاب الولايات المتحدة إلى دائرة موردي السلاح إلى إسرائيل، وخاصة منذ حرب 1956 التي خرجت إسرائيل منها بدرس هام فحواه أن حصول إسرائيل على السلاح الأميركي هو أمر هام للغاية ليس فقط لأهميته العسكرية ولكن أيضاً بسبب قيمته السياسية في الصراع ضد العرب.(/53)
لقد تأكد هذا التحول بعد ذلك في أعقاب حرب حزيران (يونيه) 1967، وهو ما أظهرته نتائج الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي ((ليفي أشكول)) للولايات المتحدة في الفترة 4 – 7 كانون الثاني (يناير) 1968. وبرغم أن البيان المشترك الصادر في أعقاب الزيارة لم يشر بشكل واضح إلى أكثر من أن الولايات المتحدة سوف تضع حاجات إسرائيل موضع الاعتبار، وإلى حرصها على الحفاظ على ميزان القوى في الشرق الأوسط وعلى التزامها بالحفاظ على أمن إسرائيل. وقد أجادت المصادر الإسرائيلية فهم مضمون هذا البيان وهو ما عبرت عنه صحفها. فكتبت ((دافار)) إن ما يبرر قيمة البيان ليس فقط ما تضمنه، ولكن أيضاً جوهر المباحثات التي صدرت في أعقابها، والجو الودي الذي تمت فيه هذه المباحثات فكل ذلك له مغزى سياسي سيفهم جيداً في الأماكن التي يجب أن يفهم فيها. واتفقت ((دافار)) و((هتسوفيه)) على أن أهمية البيان تظهر في أنه أوضح أن أكبر دولة في العالم الحر ستحافظ على أمن إسرائيل. أما صحيفة ((سفاريم)) فقد كانت أكثر الصحف الإسرائيلية عمقاً وبعد نظر عندما كتبت تقول إن البيان قد أوضح أن تقوية إسرائيل هي الطريق الوحيد أمام الولايات المتحدة لإقناع الاتحاد السوفياتي بأنه لا فائدة من تسليح الدول العربية[92]. وقد أصبحت هذه النبوءة للصحيفة الإسرائيلية، غير المشهورة، عنواناً لمرحلة كاملة من السياسة الأميركية والشرق الأوسط لا تزال ممتدة حتى يومنا هذا. وعلى العكس من ذلك فهمت المصادر الغربية البيان الأميركي – الإسرائيلي بصورة أكثر استاتيكية. فقالت صحيفة ((الأسكوتسمان)) إن ((جونسون)) سيوازن بين طلب إسرائيل للأسلحة ورغبة الولايات المتحدة في عدم تعميق الصدام بينها وبين الدول العربية. وهو ما أكدته أيضاً صحيفة ((الموند)) وأضافت إليه أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لمنع إسرائيل كل ما تطلبه[93]. وواضح أن تعليقات الصحف الغربية كانت أكثر تأثراً باتجاهات(/54)
السياسة الأميركية في الفترة السابقة على الحرب ودون أن تعطي وزناً كبيراً للأثر الذي تركته الحرب على توجهات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
تحول السياسة الأميركية تجاه إسرائيل والمنطقة في فترة حرب 1967م
قلنا إن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط منذ إنشاء إسرائيل وحتى النصف الأول من الستينيات، كانت تقوم على مبدأ تجنب العنف انطلاقاً من تصور مؤداه أن الخطر الأساسي على المصالح الأميركية في المنطقة يأتي من اشتعال العنف فيها، خاصة بين العرب وإسرائيل. ورأينا أن الولايات المتحدة حاولت حتى العام 1950 دفع إسرائيل لتقديم بعض التنازلات التي تصورت الولايات المتحدة أنها ضرورية لتهدئة العرب ولمنع تجدد أعمال العنف بين العرب وإسرائيل. ولما اقترن التعنت الإسرائيلي في رفضه المطالب الأميركية بعدم الجدية العربية في الاستعداد لمواجهة إسرائيل، تضاءل تقدير جهاز صنع السياسة الأميركي للخطر الكامن في استمرار الأمر الواقع، وتحولت السياسة الأميركية تحولاً محدوداً، إذ توقفت عن مطالبة إسرائيل بتقديم التنازلات وإن تمسكت بمبدأ تجنب العنف كطريق وحيد للحفاظ على مصالحها في المنطقة، وترتب على ذلك التزامها بسياسة تهدف إلى الحفاظ على توازن القوى بين العرب وإسرائيل بما لا يغري أياً من الطرفين بمهاجمة الآخر. وفي هذا السياق كان الموقف الأميركي ضد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956. لقد تصور صناع السياسة الأميركية أنه بناء على حجم ترسانة الأسلحة الهائلة المكدسة لدى طرفي المواجهة، وحجم الجيش الذي يمتلكه كل منهما، فإن حرباً بينهما قد تمتد لوقت طويل، وتهدد بالانتشار على رقعة واسعة من أرض المنطقة، بما يضر إضراراً بالغاً بالمصالح الأميركية الاستراتيجية والاقتصادية. ولكن بعض التطورات التي حدثت في النصف الأول من الستينيات دفعت الأميركيين تدريجياً للاعتقاد بغير ذلك.(/55)
فعندما قامت الثورة اليمنية في أيلول (سبتمبر) 1962، اعترفت الولايات المتحدة بالجمهورية الجديدة ضد رغبة ومصالح حليفتها بريطانيا التي اعتبرت الثورة انقلاباً من تدبير المخابرات المصرية. ورأت فيه مقدمة لتساقط منطقة الجزيرة والخليج قطعة بعد أخرى تحت سيطرة عبدالناصر، وعلى العكس من ذلك رأت الولايات المتحدة في الثورة تطوراً داخلياً أصيلاً، وقدرت أن الخطر الحقيقي يكمن في محاولة التصدي للثورة بالعنف، بما قد يدفع عبدالناصر لزيادة تواجد، هناك، والذي يؤدي بدوره إلى اتساع رقعة المواجهة والعنف، وهو ما رأت فيه الولايات المتحدة مصدر الخطر الرئيسي على المصالح الأميركية في المنطقة، أي أن الولايات المتحدة تصرفت في بادئ الأمر بطريقة تهدف إلى تجنب استفزاز عبدالناصر، وتجنب مواجهة مسلحة تهدد بالاتساع في كامل المنطقة. ولكن نشوب المواجهة واستمرارها في اليمن كشف للولايات المتحدة أمرين جديدين:(/56)
الأول: هو أن الجيش المصري ليس بالقوة التي تخيلتها، وانه غير قادر على حسم المعارك في اليمن لصالحه بصورة تتناسب مع فارق الكم والكيف الذي يحوزه الجيش المصري. أما الأمر الثاني: فهو أن الخطر الذي تصوره صانعو السياسة الأميركية مترتباً على اشتعال المواجهة المسلحة لم يتحقق، فالحرب في اليمن استمرت لعدة سنوات دون أن يتمكن أي طرف من حسمها بصورة نهائية لصالحه، ودون أن يترتب عليها تداعيات تضر بالمصالح الأميركية في المنطقة. الأكثر من ذلك أن الحرب في اليمن تحولت إلى مستنقع راح كل من الجيش والاقتصاد المصري يغرق فيه تدريجياً، فكان أن اتبعت الولايات المتحدة خطة تستهدف مزيداً من التورط المصري في اليمن، لإنهاك عبدالناصر وجيشه واقتصاد بلاده طالما أن ذلك لا يضر بالمصالح الأميركية. لقد بلور عضو مجلس الشيوخ ((جوزيف س. كلارك)) الاستنتاج الأميركي بشأن قدرة الجيش المصري عندما كتب يقول في النصف الأول من العام 1967: "إن الجيش وسلاح الطيران المصريين لم يثبتا بعد أن لهما قدرة ذات بال على القتال والهجوم. وليس هناك ما يشير – سواء خلال أزمة السويس أو في اليمن – إلى أن قوات ناصر ستصمد وتقاتل ضد معارضة ذات تصميم"[94].(/57)
إذا، لقد خيبت النتائج العملية لحرب اليمن توقعات الولايات المتحدة الأولية عن قدرة الجيش المصري المتطورة، ومن ثم تعدلت وجهة نظر الولايات المتحدة بدرجة محسوسة تجاه ميزان القوى في المنطقة. الأكثر من ذلك إن الكفاءة المتواضعة للجيش المصري في حرب اليمن أخذت تغري الولايات المتحدة بالعمل على دفع ميزان القوى بين العرب وإسرائيل نحو الاختلال، خاصة بعد أن احتل عبدالناصر، بلا منازع، مكانة العدو الأول للمصالح الأميركية في المنطقة، كما أظهرت التحولات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في مصر منذ العام 1961. ومنذ راحت جهود عبدالناصر المعادية للمصالح الأميركية تنتشر على رقعة واسعة قي أفريقيا والعالم، كما بينت أحداث الكونغو وغيرها. وزاد الأمور سوءاً تولي الرئيس جونسون – ذو الميول الصهيونية القوية – دفة الأمور في الولايات المتحدة.لقد أغرى ضعف الجيش المصري – كما بيَنته معارك اليمن – خصوم عبدالناصر في الإدارة الأميركية لانتهاج سياسة أكثر عدا ة في مواجهته. وهو الذي عكس نفسه في صفقات السلاح الضخمة إلى إسرائيل التي تمت خلال عامي 1965 و 1966. كما عكس نفسه في السلوك الأميركي العدواني خلال أزمة أيار (مايو) وحرب حزيران (يونيه) 1967. فقد توصل خصوم عبدالناصر إلى استنتاج نهائي مؤداه أن اختفاء عبدالناصر عن المسرح هو الطريق الوحيد لتنفيذ المشروعات الأمريكية في المنطقة[95]. وقصة التواطؤ الأميركي في حرب حزيران (يونيه) أشهر من أن تحكى ثانية، فالولايات المتحدة كانت متأكدة من تفوق الجيش الإسرائيلي، ووفقاً لتقرير تلقاه الرئيس ((جونسون)) من ((إيدل وهلر)) رئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة الأميركية، أصبح على ثقة من أن الإسرائيليين سيربحون الحرب خلال 3 أو 4 أيام إذا هم بدؤوا الهجوم الجوي[96]. ولم تورط الولايات المتحدة نفسها في خطة مشتركة للحرب مع إسرائيل مثل الخطة التي خاضت بها بريطانيا وفرنسا و إسرائيل حرب 1956. ولكن(/58)
بناءً على معلوماتها الدقيقة عن مدى تفوق واستعداد الجيش الإسرائيلي، اكتفت الولايات المتحدة بأن أعطت لإسرائيل الضوء الأخضر لبدء العمليات. ففي 30 أيار (مايو) 1967 قام ((مائير عميت)) مدير المخابرات الإسرائيلية بزيارة إلى واشنطن خرج منها – بعد أن التقى بكل من روبرت ماكنمارا وزير الدفاع، وهيلمز مدير المخابرات الأميركية – بانطباع مؤداه ((أنه إذا تمكنت إسرائيل من إحراز انتصار بنفسها، فان أحداً في واشنطن لن يزعجه ذلك))[97] ويروي، ((ولبور إيفلاند)) المستشار السابق لوكالة المخابرات المركزية رواية أخرى مفادها أنه قد أقيمت قناة اتصال خاصة بين ((إفرايم أفرون)) المستشار بالسفارة الإسرائيلية في واشنطن، و((جيمس انجلتون)) من وكالة المخابرات المركزية بغرض تخطي القنوات الدبلوماسية العادية. ويقول ((إيفلاند)) أن الرئيس ((جونسون)) أذن ((لانجلتون)) بأن يبلغ الآخرين أن الولايات المتحدة تفضل أن تقوم إسرائيل بجهود لتخفيف حدة التوتر، ولكنها لن تتدخل لوقف هجوم على مصر[98].(/59)
وبقدر ما يعكس السلوك الأميركي في هذه المناسبة تحولاً في السياسة الأميركية تجاه المنطقة، وتجاه الصراع العربي الإسرائيلي بوجه خاص، حيث انتقلت من موقف تجنب العنف بقدر الإمكان إلى إعطاء إسرائيل الضوء الأخضر لتشن هجوماً على مصر، فإنه يبين بالقدر نفسه كيف أن الولايات المتحدة كانت تتقدم على هذا الطريق بخطوات حذرة، بحيث أنها لم تشأ أن تورط نفسها في مساندة إسرائيل بشكل مباشر مما يعكس درجة محدودة من ثقة الولايات المتحدة في الاختيار الجديد كطريق لتحقيق المصالح الأميركية في المنطقة. ويبدو هذا واضحاً من التصريح الذي أعلنه مساعد وزير الخارجية الأميركي ((روبرت ماكلوسكي)) بعد ساعات قليلة من بدء القتال والذي جاء فيه، ((إن الولايات المتحدة تلتزم موقف الحياد في هذه الحرب)). وتعكس التطورات التي أعقبت هذا التصريح طبيعة وحجم العوامل المتداخلة التي ساهمت طوال السنوات الماضية في صياغة وتشكيل العلاقات الأميركية الإسرائيلية، إذ انتقد عدد من أعضاء الكونغرس هذا التصريح مؤكدين على الروابط التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل مما اضطر ((جورج كريستيان)) السكرتير الصحفي للرئيس ((جونسون)) أن يذيع تصريحاً آخر اعتذر فيه عن لفظ الحياد الوارد في تصريح ((ماكلوسكي)). إذ صرح بأن عبارة ((ماكلوسكي)) لم تكن إعلاناً رسمياً للحياد. ثم عقد ((دين راسك)) وزير الخارجية الأميركي مؤتمراً صحفياً في البيت الأبيض أعلن فيه إن الحياد في القانون الدولي يعني أن الولايات المتحدة ليست طرفاً في الحرب، دون أن يعني بذلك عدم اهتمامها بما يجري هناك[99]. وليعكس هذا الحدث مدى تردد الحكومة الأميركية في المراهنة على الجانب الإسرائيلي من ناحية، كما يعكس من ناحية أخرى، أهمية الدور الذي يؤديه الكونغرس في دفع الحكومة الأميركية للسير بخطى أسرع على طريق تدعيم روابطها بإسرائيل. كما يبين عمق التواجد الإسرائيلي في قلب عملية صنع السياسة الأميركية(/60)
ذاتها عبر التأثير الذي تمارسه على مجموعة هامة من رجال الكونغرس، وهو ما يبين أيضاً حجم الاتصالات التي أجرتها إسرائيل مع الولايات المتحدة منذ بداية أزمة أيار (مايو) 1967 والتي ترتب عليها درجة أعلى من التورط الأميركي في صنع الأزمة. فقد استهدفت إسرائيل من هذه الاتصالات وضع صانع السياسة الأميركي في قلب الأحداث ودفعه للشعور بحجم متزايد من المسؤولية تجاه إسرائيل، وهو ما يشير إليه الأستاذ محمد حسنين هيكل عندما يميز بين العلاقات المصرية – السوفيتية، من ناحية، والعلاقات الأميركية – الإسرائيلية من ناحية أخرى، فيقول إن إسرائيل هي التي زودت الولايات المتحدة بروايات مثيرة للقلق كجزء من عملية الاستمرار في إشراك الأميركيين في مصيرها، بينما كان الاتحاد السوفيتي هو الذي يزود مصر بأخبار مثيرة للقلق بشأن الأزمة. وكانت علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل – إذا صح التعبير – تدار من الداخل، في حين أن علاقة الاتحاد السوفيتي بالعرب كالت تدار من الخارج. وكان العرب يصرَوا دائماً على استقلالهم تجاه الاتحاد السوفيتي في حين فضَل الإسرائيليون تأكيد اعتمادهم المتبادل الوثيق على الولايات المتحدة[100]. لقد أسفرت الحرب عن نجاح واضح للسياسة الأميركية الجديدة ومن ثم فلم يكن هناك مبرر للتراجع أو حتى للتردد في الالتزام بها، وإن كان الكونغرس الأميركي أكثر اندفاعاً في تشجيع مثل هده السياسة، وهو ما أثبتته الأحداث بعد ذلك، فكلما كانت الإدارة تتردد في شحن مزيد من الأسلحة إلى إسرائيل، فإنها كانت تضطر تحت ضغط الكونغرس أن تذعن للمطالب الإسرائيلية. فعلى سبيل المثال، التقى ثمانية من الشيوخ الأميركيين – بعد انتهاء الحرب – مع وزير الخارجية ((روجرز)) وحثوه على استئناف شحن الأسلحة إلى إسرائيل، ولكن ((روجرز)) رفض الإذعان لهذا الطلب على اعتبار أنه قد يعرقل جهود السلام ويزيد تدهور الوضع في المنطقة. لكن مجلس الشيوخ اجتمع ووافق(/61)
بأغلبية 82 صوتاً ضد 4 أصوات على مخصصات عسكرية جديدة لإسرائيل بقيمة 500 مليون دولار. ومع نهاية كانون الأول (ديسمبر) قررت الإدارة من حيث المبدأ استئناف تصدير ((الفانتوم)) إلى إسرائيل. وفي العام 1970 كان هناك طلب إسرائيلي آخر للحصول على مزيد من الطائرات المقاتلة، لكن الإدارة لم تكن مستعدة للالتزام بالاستجابة إلى الطلب الإسرائيلي. فأدخل الكونغرس تعديلات على قانون مبيعات الأسلحة للخارج بحيث يطلب من الرئيس عملياً تأمين أية مساعدة عسكرية تحتاجها إسرائيل بحيث نص القانون على ((تأمين إمدادات السلاح والاعتمادات إلى إسرائيل والدول الصديقة إلى الحد الذي يجد فيه الرئيس أن هذه المساعدة ضرورية لمواجهة التهديدات الموجهة إلى أمن واستقلال هذه الدول. و إذا ما أثبت التعديل الذي أدخل على قانون مبيعات السلاح للخارج، أن الصلاحية غير كافية لوضع هذه السياسة موضع التنفيذ، فإن على الرئيس أن يقدم فوراً إلى الكونغرس طلباً للحصول على الصلاحيات المناسبة))[101].(/62)
ويظهر تأخر الإدارة عن الكونغرس في مجال دعم العلاقات مع إسرائيل في الإجابة التي قدمتها وزارة الخارجية على تساؤل الشيخ ((وليم فولبرايت)) في أعقاب حرب 1967. فعندما اتضح حجم الدعم الأميركي الذي تتلقاه إسرائيل، تساءل ((فولبرايت)) عما إذا كان للولايات المتحدة أي التزام قوي لتقديم الدعم والمساعدة العسكرية لإسرائيل، أو أي بلد عربي، في حالة عدوان خارجي أو اضطرابات داخلية. فأجابته الخارجية بأن الرئيس ((جونسون)) والرؤساء الأميركيون الثلاثة الذين سبقوه قد اتفقوا على أن للولايات المتحدة مصلحة واهتماماً بدعم الاستقلال السياسي والتكامل الإقليمي لدول الشرق الأوسط. وهذا لا يعدو أن يكون إقراراً لسياسة معينة، وليس التزاماً باتخاذ إجراءات محددة في ظروف معينة[102]. وقد تطور هذا الموقف تدريجياً وراحت مظاهر ذلك التطور تظهر على السطح، فمن إنكار الخارجية الأميركية لوجود أي التزام تجاه إسرائيلي أو غيرها، برر الرئيس ((نيكسون)) في تموز (يوليو) 1972 المساعدات الأميركية لليونان وتركيا بأهميتها لتمكين الولايات المتحدة من إنقاذ إسرائيل[103]. ومن دعوة إسرائيل لتقديم بعض التنازلات الإقليمية للدول العربية في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات إلى دعوة الدول العربية للقبول بتعديلات للحدود بعد حرب 1967[104].(/63)
وقد بلور كل من ((برينجيسكي)) مستشار الأمن القومي للرئيس السابق ((كارتر))، و((واينبرغر)) وزير الدفاع الأميركي الحالي، سياسة الولايات المتحدة الحالية تجاه إسرائيل في عبارتين بالغتي الدلالة. يقول ((برينجيسكي)): "أن العرب يجب أن يفهموا أن العلاقات الأميركية – الإسرائيلية لا يمكن أن تكون متوازنة مع العلاقات الأميركية – العربية، لأن العلاقات الأميركية – الإسرائيلية علاقات حميمة مبنية على التراث التاريخي، والوحي الذي يتعزز باستمرار بواسطة النشاط السياسي لليهود الأميركيين، بينما العلاقات الأميركية – العربية لا تحتوي أي عامل من هذه العوامل"[105].
وقال ((واينبرغر)): "أن الولايات المتحدة لا تعتزم إرغام إسرائيل على تقديم تنازلات".
وقال: "إن الكثيرين في الشرق الأوسط يعتقدون أننا نستطيع فرض سيطرتنا على حكومة إسرائيل، وهذا خطأ تماماً".
وأضاف: "أننا نعتبر أن إسرائيل حليفاً هاماً وضرورياً ونعتقد أنه من الأهمية بمكان الإبقاء على هذه العلاقة، وأن وجود تهديدات سيلحق الضرر بها "[106].(/64)
وبالإمكان تلخيص مجمل التطورات التي لحقت بالعلاقات الإسرائيلية – الأميركية بالقول إن الولايات المتحدة قد قررت نهائياً وضع كل البيض في السلة الإسرائيلية، وإعلان دعمهما الكامل والعلني لإسرائيل، متفقين في هذا مع ما ذهب إليه أحد الباحثين العرب عندما استنتج أن السياسة الأميركية في المنطقة قد تبلورت وخاصة بعد العام 1969 – أي مع قدوم الثنائي كيسنجر/ نيكسون إلى الحكم – في سياسة إمداد إسرائيل بكل ما تحتاجه من السلاح لكي تظل متفوقة. وبشكل ظاهر على كل الدول العربية المحيطة بها. وحيث أن هدف هذه السياسة كان ردع العرب عن مجرد التفكير في الحرب، فلأن الولايات المتحدة توقفت عن ممارسة الصفقات السرية، أو من خلال طرف ثالث كما كانت تفعل في الماضي. لقد كان مجرد الإعلان عن كل صفقة جديدة من السلاح الأميركي إلى إسرائيل، هو بأهمية تسليم السلاح نفسه لإسرائيل، فالغرض هو تخويف العرب وردعهم عن البدء بأي قتال ولو كان محدوداً[107].
استنتاجات عامة
من تتبعنا لمسار العلاقات الإسرائيلية – الأميركية يتبين أن عدداً من العناصر قد لعبت دوراً مؤثراً في صياغتها وتوجيهها إلى المسار الذي سلكته:(/65)
أولاً: العوامل الثقافية والقيمية: فعدى خلاف الحال بين العرب والولايات المتحدة، فإننا نجد عناصر كثيرة متماثلة في كل من البناء الثقافي والقيمي لدى الأميركيين والإسرائيليين، وهو ما يوفر أرضية ملائمة للتفاهم والتعاطف بين الطرفين. برغم أن اليهود الشرقيين يمثلون الأغلبية بين سكان إسرائيل، إلاَّ إن النخبة من اليهود ذوي الأصول الغربية هي التي أخذت على عاتقها بشكل كامل تقريباً، مسؤولية تنفيذ المشروع الصهيوني، فالقوام الأساسي للمهاجرين اليهود إلى فلسطين حتى قيام إسرائيل هو من يهود أوروبا، وخاصة من يهود وسط وشرق أوروبا. وقد أتى هؤلاء عاملين معهم تراث الثقافة الغربية الحديثة، القومي، العلمي، العقلاني، النفعي (العلماني، الديمقراطي)، ومن ثم فقد كان وضع قواعد الدولة اليهودية في فلسطين يجري على أسس تتفق بدرجة كبيرة مع الأسس نفسها التي تقوم عليها الدولة في المجتمعات المتقدمة في أوروبا وأميركا. أما اليهود الشرقيون فقد هاجر أغلبهم إلى إسرائيل في فترة لاحقة لقيامها. إذ لم يعانوا في بلادهم الأصلية بقدر المعاناة التي تعرض لها اليهود الأوروبيين، مما يعني أن عوامل الجذب والإغراء التي مثلتها الدولة اليهودية بعد قيامها كانت أقوى من عوامل الطرد التي تعرض لها اليهود الشرقيين في أوطانهم الأصلية، ومن ثم كانت أقوى في دفع هؤلاء للهجرة إلى إسرائيل. وبالتالي فقد أتى هؤلاء بعد أن كان اليهود الغربيون قد أرسوا جذور المجتمع والدولة بما يعني أنهم لم يكونوا قادرين على التأثير بفعالية في صياغة شكل ونمط المجتمع والدولة في إسرائيل. وإلى اليوم فإنه برغم التفوق العددي لليهود الشرقيين بين سكان إسرائيل إلا أن مساهمتهم المحدودة في إدارة الدولة والمجتمع بسبب ما ترسخ لليهود الغربيين من حقوق ومكانة في السنوات الأولى لقيام الدولة، تجعل الطابع الغربي هو السائد في إدارة مجالات الحياة المختلفة في إسرائيل. وبين إسرائيل(/66)
والولايات المتحدة بالتحديد من بين كل البلاد الغربية عناصر ثقافية مشتركة عديدة، فإسرائيل مثل الولايات المتحدة مجتمع مهاجرين تتكون ثقافته وقيمه بناءً على انصهار المهاجرين القادمين من كل أنحاء العالم في بوتقة واحدة. وفي كلا المجتمعين يقوم أحد العناصر الثقافية والعرقية بالدور القائد في عملية الصهر الثقافي والاجتماعي هذه. الانجلوساكسون البروتستانت في الولايات المتحد ة والأشكنازيم في إسرائيل. وبالرغم من المفهوم الضيق لمصطلح الاشكنازيم في الأصل التاريخي له – حيث يشير تحديداً إلى يهود روسيا وبولندا – فإنه يستخدم اليوم للدلالة على اليهود الغربيين عموماً، بما يعني أن هناك مساحة واسعة مشتركة بين العنصر القائد في عملية الصهر الاجتماعي والسياسي في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. إن مواطناً أو مسؤولاً أميركيا واحداً زار إسرائيل لم يرجع لبلاده دون أن يشيده، باليهود الذين زرعوا الصحراء. وانبهار الأميركيين بهذا العنصر بالتحديد من عناصر التجربة الصهيونية، يعكس نوعاً من الاعتزاز بالتاريخ والتجربة الأميركية التي قامت على إعمار واستزراع مساحات لم يسبق أن كانت عامرة من قبل. بل إننا نستطيع القول أن التعاطف المحدود الذي أبداه الأميركيون تجاه الشعب الفلسطيني يرجع جانب منه إلى أن الأميركيين لا يقيمون وزناً لمثل هذه الأمور، فالتاريخ الأميركي ذاته هو تاريخ طرد الشعب الهندي من وطنه بل وإبادته، ومن ثم فإن الأميركيين ليس لديهم غير استعداد قليل للتعاطف مع الشعب الفلسطيني وتفهم مطالبه وإلا كان ذلك نوعاًَ من الإدانة الضمنية لتاريخ الولايات المتحدة ذاته وفي عبارة موجزة وبليغة لخص الرئيس الأميركي السابق ((ليندون جونسون)) كل هذه المعاني عندما قال ((إن إسرائيل تذكرني بطفولة الولايات المتحدة)).(/67)
وبمراجعة سريعة لتاريخ الدولة لصهيونية يكفي أن نقف على حجم الإنجاز الكبير الذي حققه الصهاينة خلال خمسة وثلاثين عاماً فقط، وحمو الإنجاز الذي جسد نفسه في مسار الصراع العربي – الإسرائيلي بالذات. ولدى الأميركيين أن تنجز شيئاً ما، فهذا هو عين المطلوب، فلديهم يصير الإنجاز في حد ذاته قيمة يسعى الفرد للحصول عليها بغض النظر عن التبريرات الفلسفية والقيمية التي تقف وراء هذا الإنجاز. فليس المهم لدى العقل الأميركي أن يكون الحق معك، ولكن المهم أن تكون لديك القدرة على الإنجاز باتجاه تحقيق أهدافك. وعندهم فإن التبريرات الفلسفية والنظرية التي تقدم لتبرير عمل أو سلوك ما تكتسب مصداقيتها من قدرة صاحبها على إنجاز الخطوات والأعمال المترتبة على قوله بهذه التبريرات، فإذا فشل في الإنجاز فإن تبريراته الفلسفية والنظرية هي بالتأكيد خاطئة. أيضاً فإن الشكل الديمقراطي الذي يميز العملية السياسية في إسرائيل هو بالتأكيد عنصر هام يجعل الأميركيين أكثر تعاطفاً مع إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك فإن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن التوراة التي هي الكتاب المقدس الذي يلعب دوراً محورياً في تجميع وتوحيد المستوطنين الصهاينة، هو في الوقت نفسه كتاب مقدس لدى المسيحيين عموماً وخاصة عند البروتستانت الذين يمثلون القوم الأساسي للمجتمع الأميركي. فنجد تياراً واسعاً من المسيحيين الغربيين والمعروف بالصهيونيين الأغيار – قد تولى التمهيد للدعوة الصهيونية حتى قبل تبني اليهود لها.(/68)
وقد ترك كل هذا أثراً واضحاً على الصورة التي كونها الأميركيون عن إسرائيل. ففي الدراسة التي قام بها ((موريس سميت)) على عدد من الأسر الأميركية في العام 1967، توصل إلى أن الأميركيين يرون أن إسرائيل حولت الصحراء إلى جنة، وأن الإسرائيلي شجاع ومتحضر ويتمتع بحيوية بالغة، وهو ليبرالي التفكير، والمرأة الإسرائيلية متحررة وشجاعة وتعملي على الدبابة والجرار وترقص وتجمع البرتقال وتمسك بالسلاح في اليد الأخرى.، وعلى النقيض من ذلك كانت الرؤية الأميركية للعرب، فقبل العام 1967 وصف العرب، في الدراسة الأميركية المذكورة بنعوت ((الجبن)) و((التردد)) و((الشهوانية)). وبعد الحرب وصف العرب بأنهم ((غير مقاتلين)) خسروا حتى أحذيتهم، وأنهم متعصبون يريدون إلقاء إسرائيل في البحر، وأنهم ((إرهابيون برابرة))[108].
ثانياً: قوى الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة: فعملية صنع السياسة في الولايات المتحدة هي في جانب منها محصلة للصراع الدائر بين جماعات الضغط ذات المصالح المتعارضة. وبالنسبة للشرق الأوسط فقد نجحت إسرائيل في بناء جماعة ضغط صهيونية قوية ومنظمة في الولايات المتحدة، وقد لعبت هده الجماعة دوراً هاماً منذ ما قبل إنشاء إسرائيل، ولكنها أخذت شكلها الحالي مند منتصف الخمسينيات عندما تأسس في آذار (مارس) 1955 (مؤتمر المنظمات اليهودية الأميركية الرئيسية) من أجل ((فحص الموضوعات المتعلقة بإسرائيل والمصلحة العامة والاهتمام الخاص للمجتمع اليهودي في الولايات المتحدة)). وفي العام 1970 أصبح مؤتمراً لرؤساء منظمة كبرى تشرف على العمل في 30 منظمة يهودية مختلفة. وكانت لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية – الأميركية التي تأسست في العام 1954 لكي تعمل من أجل سياسات أميركية أكثر تأثيراً في الشرق الأدنى من أجل تحقيق تسوية سلمية للصراع العربي – الإسرائيلي، كان قد تم تسجيلها في الكونغرس الأميركي وفقأ لقانون جماعات الضغط – اللوبي – المحلية.(/69)
وقد وصف عالم السياسة المعروف ((جابرييل ألموند)) اليهود في أميركا ((بأنهم أكثر الجماعات العرقية نشاط فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية)). وفي دراسة نشرت مؤخراً من قبل لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، فإن جماعات المصالح المؤيدة لإسرائيل اعتبرت ((أكثر جماعات الضغط العرقية تأثيراً في مجال السياسة الخارجية على الكونغرس الأميركي))[109].
ثالثاً: المصالح الأميركية في الوطن العربي: المصالح الأميركية في الوطن العربي كثيرة ومتنوعة ويمكننا عموماً أن نصنفها في فئتين:
1 – المصالح الاقتصادية والتجارية، والتي تدور أساساً حول النفط والعائدات النفطية والاستثمارية الأميركية في الوطن العربي بالإضافة إلى الصادرات الأميركية إلى المنطقة.
2 – المصالح الإستراتيجية، هي المصالح الناتجة عن مركز الوطن العربي الجيوستراتيجي حيث يحتل مكانة هامة كمحور للمواصلات العالمية بحكم موقعه المتوسط بين قارات العالم القديم، كما يمثل موقعه القريب من المناطق الجنوبية للأجزاء الغربية من الاتحاد السوفيتي، ميزة إستراتيجية هامة بالنسبة للولايات المتحدة. بالإضافة إلى أن النفط العربي، في الوقت الذي يمثل فيه مصلحة اقتصادية للولايات المتحدة والوطن الغربي عموماً، فإنه يمثل أيضاً مصلحة إستراتيجية هامة إذ يمثل – حتى الآن – مصدر الطاقة الرئيسي للعالم الغربي، وخاصة أن الآلة العسكرية لحلف الأطلسي في أوروبا تعتمد على النفط العربي كمصدر للطاقة، وقد أدى الحجم الهائل للمصالح الأميركية في الوطن العربي إلى حرص أميركي شديد على تحقيق هذه المصالح والحفاظ عليها، ومن ثم إلى درجة عالية من الحساسية تجاه المنطقة والعوامل المؤثرة على المصالح الأميركية فيها، ولاقتناص وتوظيف البدائل المتاحة طالما تؤدي إلى تحقيق المصالح الأميركية في المنطقة.(/70)
وبشكل عام فإننا نستطير تحديد ثلاثة بدائل أو خيارات إستراتيجية أساسية يعد كل منها طريقاً لتحقيق المصالح الأميركية في الشرق الأوسط:
البديل الأول: هو التواجد العسكري الأميركي المباشر في الوطن العربي عبر الوجود الإكراهي أو الاختياري في شكل القواعد وغيرها من أشكال التواجد المباشر. وهو بديل يتميز بارتفاع تكلفته الاقتصادية، وبوجود بعض القيود الداخلية في المجتمع الأميركي ذاته، والتي تحد من القدرة على إتباع ذلك البديل، بالإضافة إلى احتمالات تصعيد المواجهة العالمية المترتبة على ذلك الاختيار.
البديل الثاني: الحفاظ على علاقات صداقة قوية مع الأنظمة العربية، وتقوية هذه الأنظمة بما يمكنها من الدفاع عن نفسها وعن المنطقة في مواجهة الضغوط الخارجية. وتأتي القيود على هذا البديل من داخل البنية الاجتماعية والسياسية للأنظمة والمجتمعات العربية، فانخفاض مستويات التعليم والخبرة الفنية والتخلف الاجتماعي عموماً يحذ من قدرة الأنظمة العربية على بناء جيوش قوية قادرة على أداء المهمات المطلوبة منها. أيضاً فإن الطبيعة غير المؤسسية للأنظمة السياسية العربية تقلل من فرص وإمكانات تبني سياسات واضحة وثابتة تستمر لمدى زمني مناسب يسمح للآخرين بالوثوق فيها ورسم سياستهم على أساس منها. أيضاً فإن الانتماء القومي الواحد للدول المكونة للوطن العربي يشكل قيداً هاماً في تحرك هذه الدول ضد بعضها البعض إذا استدعى الأمر، وهو قيد غير وارد في حالة الاعتماد على قوة غريبة عن المنطقة.(/71)
البديل الثالث: ويقوم على تقوية إسرائيل لتمكينها من القيام بدور نقطة التمركز أو الوثوب الإستراتيجية للمشاركة في أعمال الدفاع عن المنطقة في إطار الإستراتيجية الأميركية، والمشاركة في حماية الأنظمة الحالية للولايات المتحدة، وضمان استمرار تدفق النفط العربي للغرب. والقيد الأساسي على استخدام هذا البديل هو أنه يدخل في تناقض مباشر مع البديل الثاني – تقوية علاقات أميركا العربية، وهذا أمر هام، ذلك أن وجود بدائل مختلفة لا يعني بالضرورة أنها متناقضة، بل إنها في أحيان كثيرة تمثل نوعاً من الخطط المتكاملة، وخاصة في حالة الحديث عن الاستراتيجيات طويلة الأمد. وان كار هذا لا يظهر بوضوح في حالة اتخاذ قرارات محددة بغرض معالجة قضايا ذات طابع طارئ وعاجل. وفي حالة البديل الإسرائيلي، فإن هذا الاختيار يدخل في تناقض واضح مع البديل العربي، والخطير في الأمر – من وجهة نظر المصالح الأميركية – إن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط بالأساس مصالحها في البلاد العربية، ومن ثم فإن اختيار الولايات المتحدة للبديل الإسرائيلي قد يؤدي إلى دخولها في صدام مع الدول العربية بما يؤدي عملياً إلى الأضرار بمصالحها في المنطقة.(/72)
وكما حاولت هذه الدراسة أن تبين فإن إسرائيل لم تكن اختياراً أميركياً منذ اللحظة الأولى، وإنما راح البديل الإسرائيلي يتطور تبعاً لعملية رصدنا مراحلها ومنطقها. فمنذ فترة مبكرة كانت هناك داخل الجماعات الأميركية ذات النفوذ أصوات تنادي باتخاذ إسرائيل حليف استراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولكن هذه الأصوات كانت ضعيفة ولم يكن لها نفوذ هام على عملية صنع القرار الأميركي، ذلك أن الواقع المتحققة لم تكن بعد قد برهنت على أن لهذا البديل نصيباً كبيراً من النجاح. ففي العام 1949، وفي لقاء بين السفير الأميركي الأول في إسرائيل ((جيمس ماكدونالد))، و((لويس جونسون)) الذي أصبح بعد ذلك وزيراً للدفاع الولايات المتحدة قال ((جونسون)): "إن إسرائيل من الناحية الإستراتيجية هامة جداً بالنسبة للولايات المتحدة، ولكن عليها أن تقبل بعودة عدد أكبر من اللاجئين"[110].
وبقدر ما تبين هذه العبارة أن ((جونسون)) كان يعتقد بأهمية إسرائيل الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، فإنها تبين أيضاً أنه كان يشترط لتمكين إسرائيل من أداء ذلك الدور تقديمها لبعض التنازلات فيما يتعلق بالصراع مع العرب، ويبين ذلك أن البديل الإسرائيلي لم يكن قد تبلور بعد حتى في أذهان الأشخاص الذين تحمسوا له. كما يبين أنه لم يكن يمثل بالنسبة إليهم اختياراً مناقضاً للبديل العرب. وأخيرا فإنه يشير إلى حقيقة هامة في مجال العلاقات الدولية والظواهر الاجتماعية عموماً وهي أن الشكل النهائي الذي تتخذه إستراتيجية معينة يتوقف بالأساس على التطورات التي تحدث على أرض الواقع، وليس على الأفكار والنماذج التي يبنيها أصحابها في رؤوسهم.(/73)
وقد كان التيار الداعي لتبني الاختيار الإسرائيلي أكثر نفوذاً في الكونغرس منه في فروع الإدارة، فنجد السناتور ((جيفيتس)) يعلن في العام 1962 إن ((إسرائيل حليف فعال يمكن للعالم الحر أن يعتمد عليه في الشرق الأوسط)). كما أن السناتور ((كيتبغ)) على أن ((إسرائيل مصلحة أميركية ثابتة كما هو الحال بالنسبة لبرلين)) وكان وراء هذين الشيخين طابور طويل من أنصار البديل الإسرائيلي أمثال السناتور ((باستور)) من رود ايلند، و((كيسي)) من نيوجيرسي، و((جروينج)) من ألاسكا، و((سكوت)) و((همفري))[111].
ولكن الاختيار الإسرائيلي لم يكن ليلقى النجاح الذي صادفه لولا الأداء الإسرائيلي المتفوق في الصراع ضد العرب، والذي قابله على الجانب الآخر أداء عربي رديء في المضمار نفسه. فنجاح إسرائيل في صراعها ضد العرب وخاصة منذ حرب حزيران (يونيه)، وما ترتب عليها من نتائج كانت في أغلبها تحقيقاً للمصالح والأهداف الأميركية، وبدون أن تتحمل الولايات المتحدة في سبيل ذلك الشيء الكثير، مما شجع الولايات المتحدة على اختيار البديل الإسرائيلي خاصة وأن ذلك قد ارتبط بعناصر هامة أخرى ساعدت على دفع الولايات المتحدة إلى السير في هذا الاتجاه:
– وجود الرئيس ((جونسون)) باتجاهاته المؤيدة لإسرائيل والصهيونية على قمة الحكم في الولايات المتحدة، والذي كان عاملاً مساعداً على انتصار البديل الإسرائيلي دون عوائق هام، خاصة وأن البيروقراطية في وزارتي الخارجية والدفاع لم يكن من السهل أن تغير قناعاتها وسياستها في فترة قصيرة وبسبب حادث واحد مثل حرب حزيران (يونيه) 1967 مهما بلغت أهمية ذلك الحدث. فارتباط السياسة ببيروقراطية ومؤسسات راسخة يكسبها نوعاً من الاستمرارية التي لا ترتبط بالضرورة بجدوى أو فعالية هذه السياسة.(/74)
– تطور العلاقات بين الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية – خاصة مصر وسوريا – بسبب التوجهات الاجتماعية والسياسية للأنظمة الحاكمة في هذه البلاد، والدور الذي لعبته في مناصرة حركات التحرش الوطني في العالم، وما ترتب عليه من أضرار بالمصالح الأميركية. وقد أدى هذا المستوى المتدهور من العلاقات العربية الأميركية إلى أن الولايات المتحدة لم تعد تخشى كثيراً من تدهور علاقتها بالوطن العربي إذا ما اتبعت الخيار الإسرائيلي. ذلك أن علاقتها بجزء هام من الوطن العربي كانت قد تدهورت بالفعل، بحيث أنها تجاه هذا الجزء، لم يصبح أمامها سوى إتباع أساليب العقاب، والضغط التي أثبتت إسرائيل في حرب حزيران (يونيه) أنها أحسن أدوات تنفيذها.
وقد رصدنا قبل قليل، كما رصد اغلب الباحثين، التناقض الداخلي الكامن في البديل الإسرائيلي والمتضمن في محاولة حماية وتحقيق المصالح الأميركية في الوطن العربي بدعم إسرائيل عدو العرب الأول. وهذا التناقض هو الحجة التي اعتمد عليها ما يعرف بالمعتدلين العرب في دعوتهم للولايات المتحدة لكي تقلص من حجم تحالفها مع إسرائيل لحساب علاقاتها العربية حيث تكمن أهم المصالح الأميركية في المنطقة. فهذا التناقض هو مجرد تناقض ظاهري أو منطقي – بالمعنى الأرسطي – إذ لا يجد طريقة بالضرورة للتحقق في أرض الواقع. فالشرط اللازم لتحقق هذا التناقض هو أن يترتب على انحياز الولايات المتحدة الكامل لإسرائيل مزيد من العداء والتصلب العربي ضدهما. أما الشرط الآخر اللازم لاكتمال هذا التناقص فهو أن تجري ترجمة العداء العربي المتزايد لإسرائيل والولايات المتحدة لأكثر من مجرد العداء اللفظي، لكي يأخذ صورة الإنجاز الفعلي في ميادين الحرب والسياسة والاقتصاد في مواجهة المصالح الأميركية. وأيضاً بشرط أن يكون هذا الإنجاز من القوة والثقل بما لا قبل للولايات المتحدة باحتماله.(/75)
ولكن ما حدث هو العكس تماماً، فكل درجة جديدة من الدعم والانحياز الأميركي لإسرائيل كان يترتب عليها مزيد من الانصياع العربي للإرادة الأميركية، وعلى وجه الدقة فإنه كلما تدعمت قوة إسرائيل ووجهت ضربات أكثر قوة للعرب، كلما هرولت الأنظمة العربية لاستجداء العطف وتقديم التنازلات للولايات المتحدة لحثها على إيقاف إسرائيل. ولنقارن بين حجم الوجود الأميركي في الوطن العربي في منتصف الستينيات وبينه في بداية الثمانينيات وخاصة بعد الغزو الإسرائيلي للبنان لنختبر صحة هذه الفرضية.
فإسرائيل تتوجه إلى الرأي العام والنخبة الأميركية لتنقل لهما رسالة محددة فحواها هي المقارنة بين الإنجاز الأميركي في جنوب شرق أسيا، والإنجاز الإسرائيلي في الشرق الأوسط في علاقة ذلك بالمصالح الأميركية. فالولايات المتحدة حاربت لأكثر من عشر سنوات في جنوب شرق آسيا لتخرج من هناك مهزومة ومثخنة بالجراح، ولتسقط أغلب دول المنطقة في يد الأحزاب الشيوعية وثيقة الصلة بموسكو. بينما أدى الأداء الإسرائيلي في الشرق الأوسط إلى إخراج السوفيت من المنطقة، وحماية المصالح الأميركية فيها، وتدعيم علاقات أميركا العربية، بل وحصول الولايات المتحدة على وجود عسكري مباشر في بعض دول المنطقة. فحصر الخدمات التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة طول. ويكفي ما اكتسبته الأسلحة الأميركية من سمعة في الشرق الأوسط بسبب ما أنجزته إسرائيل باستخدامها في حروبها بالمنطقة، حتى أن وزارة الدفاع الأميركية أرسلت لنظيرتها الإسرائيلية رسالة شكر بسبب ((حسن استخدام إسرائيل للأسلحة الأميركية))[112].(/76)
ويمكن أن نستنتج من كل ما سبق أنه في ظل عدد من المتغيرات: المصالح الأميركية في الوطن العربي، وطبيعة ومسار العلاقات الأميركية – العربية، والأداء العربي الرديء في الصراع ضد إسرائيل، والنفوذ اليهودي في الولايات المتحدة. في ظل هذه المتغيرات قامت إسرائيل بدور حاسم في الوصول بعلاقتها بالولايات المتحدة إلى المستوى الذي وصلت إليه في بداية الثمانينيات، والذي بلغ ذروته بتوقيع اتفاق التعاون الاستراتيجي بين البلدين وفي هذا الاتجاه اعتمدت إسرائيل أساساً على مجموعتين من عناصر القوة: المجموعة الأولى: وهي المتمثلة في قوى الضغط الموالية لإسرائيل داخل الولايات المتحدة والمنتشرة في دوائر الصحافة والإعلام والمال والجامعات، والتي تلعب دوراً مزدوجاً بترويج الدعاية الملائمة للمصالح الإسرائيلية والتي يترتب عليها تكوين رأي عام مؤيد لإسرائيل يشكل بحد ذاته ضرورة لا غنى عنها لتحقيق المصالح الإسرائيلية في بلد يتميز نظامها السياسي بطابع ديمقراطي كالولايات المتحدة. ومن ناحية ثانية تقوم جماعات الضغط الصهيونية بإغراء رجال السياسة وخاصة رجال الكونغرس والضغط عليهم لدفعهم لتبني المطالب الإسرائيلية، حتى إن نفوذ جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة، أصبح مسلَمة من مسلَمات الحياة السياسية الأميركية. وقد كتبت إحدى النشرات الدورية التي يصدرها الكونغرس الأميركي تقول إن ((الضغوط التي يمكن لإدارة أميركية أن تمارسها على إسرائيل تحددها قوة الضغط التي يمارسها أنصار إسرائيل في الكونغرس والمهتمين بالأصوات اليهودية، وتمويل الحملات الانتخابية))[113].(/77)
المجموعة الثانية: والمتمثلة في الإنجاز الإسرائيلي المؤاتي للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط والذي احتلت إسرائيل بموجبه مكانة هامة بين حلفاء الولايات المتحدة في العالم حتى أن ((راي كلاين)) أحد المفكرين المقربين من إدارة ((ريغان)) كتب يقول: "أن هناك 10 دول فقط يمكن الاعتماد عليها في إطار تحالف عالمي جديد بقيادة الولايات المتحدة ومن: الولايات المتحدة، كندا، ألمانيا الغربية، بريطانيا، إيطاليا، إسرائيل، اليابان، تايوان، أستراليا"[114].
وبحكم فارق القوه الواضح بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن الأخيرة استخدمت هاتين المجموعتين من عناصر القوة ليس للضغط على الولايات المتحدة لتبني سياسة معينة، وإنما أساساً لخلق مجموعة من عوامل الجذب والإغراء في هذا الاتجاه. صحيح أن هذه العملية تشهد بعضاً غير قليل من ممارسات الضغط، إلا إنها لا يمكن أن تكون هكذا في هيكلها العام بحكم ميزان القوى بين الطرفين، فبينما تتمكن دولة كبرى من التأثير في السياسات التي تتبعها دولة صغرى بإدخال تعديلات جذرية حتى على الأهداف والمصالح التي تسعى الدولة الصغيرة لتحقيقها، ومن ثم على الاستراتيجيات والبدائل التي تتبعها، فأن دولة صغيرة لا يمكن بأي حال إرغام دولة كبرى على تعديل مصالحها التي تتميز غالباً بدرجة عالية من الثبات والاستقرار في حقبة زمنية ممتدة. وإنما كل ما تستطيعه دولة صغيرة هو أن تدفع بعوامل الإغراء والمكافأة في المقام الأول بهدف إدخال تعديل على البديل الذي تتبعه الدولة الكبرى لتحقيق مصالحها الثابتة لتختار من بين قائمة البدائل المتاحة، أو لتبلور بديلا جديداً يكون ملائماً لتحقيق مصالح الدولة الصغيرة، في الوقت نفسه لتحقيق لا يتعارض فيه مع مصالح الدولة الكبرى.و على الأقل إقناع النخبة المؤثرة وقطاع هام من الجمهور بذلك.
ملحق
المساعدات الأميركية لإسرائيل 1948 – 1982 (بملايين الدولارات)*(/78)
السنة ... مجموع المساعدات(1) الأمريكية ... مجموع المساعدات الأمريكية لإسرائيل ... قروض اقتصادية لإسرائيل ... منح اقتصادية لإسرائيل ... قروض عسكرية لإسرائيل ... منح عسكرية لإسرائيل ... مخصصات توطين اليهود السوفيت
1948 ... 3.017 ... – ... – ... – ... – ... – ... –
1949 ... 8.267 ... – ... – ... – ... – ... – ... –
1950 ... 4.850 ... – ... – ... – ... – ... – ... –
1951 ... 4.350 ... 0.1 ... – ... 0.1 ... – ... – ... –
1952 ... 3.839 ... 86.4 ... – ... 86.4 ... – ... – ... –
1953 ... 6.496 ... 73.6 ... – ... 73.6 ... – ... – ... –
1954 ... 5.793 ... 74.7 ... – ... 74.7 ... – ... – ... –
1955 ... 4.864 ... 52.7 ... 3.8 ... 21.9 ... – ... – ... –
1956 ... 5.402 ... 50.8 ... 35.2 ... 15.6 ... – ... – ... –
1957 ... 4.976 ... 40.9 ... 21.8 ... 19.1 ... – ... – ... –
1958 ... 4.832 ... 61.2 ... 49.9 ... 11.3 ... – ... – ... –
1959 ... 4.954 ... 50.3 ... 39.0 ... 10.9 ... 0.4 ... – ... –
1960 ... 4.804 ... 55.7 ... 41.8 ... 13.4 ... 0.5 ... – ... –
1961 ... 4.737 ... 48.1 ... 29.8 ... 18.3 ... –(2) ... – ... –
1962 ... 7.034 ... 83.9 ... 63.5 ... 7.2 ... 13.2 ... – ... –
1963 ... 6.314 ... 76.7 ... 57.4 ... 6.0 ... 13.3 ... – ... –
1964 ... 5.215 ... 37.0 ... 32.2 ... 4.8 ... – ... – ... –
1965 ... 5.310 ... 61.7 ... 43.9 ... 4.9 ... 12.9 ... – ... –
1966 ... 6.989 ... 126.8 ... 35.9 ... 0.9 ... 90.0 ... – ... –
1967 ... 6.440 ... 13.1 ... 5.5 ... 0.6 ... 7.0 ... – ... –
1968 ... 6.894 ... 76.8 ... 51.3 ... 0.5 ... 25.0 ... – ... –
1969 ... 6.791 ... 121.7 ... 36.1 ... 0.6 ... 85.0 ... – ... –
1970 ... 6.787 ... 71.1 ... 40.7 ... 0.4 ... 30.0 ... – ... –(/79)
1971 ... 8.078 ... 600.8 ... 55.5 ... 0.3 ... 545.0 ... – ... –
1972 ... 9.243 ... 404.2 ... 53.8 ... 50.4 ... 300.0 ... – ... –
1973 ... 9.875 ... 467.32 ... 59.4 ... 50.4 ... 30.7.5 ... – ... 50.0
1974 ... 8.79 ... 2.570.7 ... – ... 51.5 ... 982.7 ... 1.550 ... 36.5
1975 ... 7.239 ... 693.1 ... 8.6 ... 344.5 ... 200.0 ... 100.0 ... 40.0
1976 ... 6.413 ... 2.229.4 ... 239.4 ... 475.0 ... 750.0 ... 750 ... 15.0
1977 ... 7.784 ... 1.757 ... 252.0 ... 490.0 ... 500.0 ... 500.0 ... 15.0
1978 ... 9.014 ... 1.811.8 ... 266.8 ... 525.0 ... 500.0 ... 500.0 ... 20.0
1979 ... 13.845 ... 4.815.1 ... 265.1 ... 525.0 ... 2.700 ... 1.300 ... 25.0
1980 ... 9.694 ... 1.811 ... 261 ... 525 ... 500.0 ... 500.0 ... 25
1981 ... 10.549 ... 2.189 ... – ... 764 ... 900.0 ... 500.0 ... 25
1982 ... 8.993 ... 2.219.0 ... – ... 8.6(3) ... 850 ... 550 ... 13.0
1 - هذه البيانات لا تتضمن القروض التي تقدمها المصارف لعمليات الاستيراد والتصدير بين البلدين.
2 - أقل من 50.000 دولار.
3 - يضم هذا الرقم مبلغ 21 مليون دولار من برنامج المساعدات الأمريكية لإسرائيل في العام 1981.
ــــــــــــــــــــــــ
[1]
Michael Brecher, The Foreign Polley of Israel (London: Oxford University Press, 1972), p.12.
[2] د.خيرية قاسمية، ((الولايات المتحدة والوطن العربي في الفترة ما بين الحربين))، في ((السياسة الأميركية والعرب (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1982)، ص20.
[3]
“The Middle East U.S Pollcy, Israel, Oll, The Arabs”, Gongressional Quarterly, Fourth Edition, July 1979, p.35.
[4]
Harry S. Truman, Years of Trial and Hope 1946 – 1952, Memories (Garden City, N.Y: Doubleday & Company, INC., 1956), p.146.(/80)
[5] د.عاصم الدسوقي، ((أول لجنة أميركية في فلسطين))، الدوحة، عدد 85، كانون الثاني (يناير) 1973م، ص132 – 139.
[6] د.أحمد عبدالحليم مصطفى، ((الولايات المتحدة والمشرق العربي))، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نيسان (أبريل) 1978م، ص78.
[7] د.سعد الدين إبراهيم، الانتخابات الأميركية وأزمة الشرق الأوسط (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، كانون الأول/ ديسمبر 1976م)، ص45.
[8] Harry S. Truman, Op. Cit., p.144.
[9] Philip Baram, Department of State in the Middle East, p.261.
[10] Ibid., p.265.
[11] راجع في ذلك الدراسة القيمة التي نشرها مسلسلة د.عاصم الدسوقي في مجلة الدوحة. أعداد 82، 83، 84، تشرين الأول (أكتوبر)، تشرين الثاني (نوفمبر)، كانون الأول (ديسمبر) 1982م.
[12] Phillp Baram, Op. Cit, p265.
[13] Ibid, p265.
[14] Ibid, p263.
[15] Ibid, p283.
[16] .Ibid, p295
[17] .Harry S. Truman, Op. Cit, p153
[18] Phillp Baram, Op. Cit, p245.
[19] Ibid, p281.
[20] Ibid, p261.
[21] Ibid, p277.
[22] Ibid, 278.
[23] Ibid, p249.
[24] Ibid, p263.
[25] Ibid, p296.
[26] Harry S. Truman, Op, CIT, p162.
[27] Ibid, p.164.
[28] Ibid, p.164
[29] Ben Gurion Loks Back, Talks with Moshe Peariman (New york, 1965), p116.
[30] Harry S. Truman, Op, Cit, p153.
[31] حسن أبو طالب، ((اتجاهات السياسة الخارجية الأميركية إزاء إسرائيل))، السياسة الدولية، القاهرة، عدد 66، تشرين الأول (أكتوبر) 1981، ص87 – 92.
[32] Harry 5. Truman, Op. Cit, p168
[33] Ibid, p169.
[34] د. أحمد عبدالرحيم مصطفى، مصدر سابق، ص77.
[35] Harry S, Truman, Op, Cit, p163.
[36] د. أحمد عبدالرحيم مصطفى، مصدر سابق، ص78.
[37] المصدر السابق، ص80.
[38] المصدر السابق، ص83.(/81)
[39] د. عاصم الدسوقي، ((رؤية المخابرات الفلسطينية لمشكلة فلسطين))، الدوحة عدد 87، آذار (مارس) 1983، ص68 – 73.
[40] د. احمد عبدالرحيم مصطفى، مصدر سابق، ص87.
[41] Ben Gurion Looks Back, Op, Cit, p10.
[42] James G. Macdonald, My Mission In Israel (Londn: 1951), P107,113.
[43] Ibid, p165 – 175.
[44] Ibid, p166.
[45] Ibid, p170.
[46] Ibid, p163.
[47]
Reproduce from the Washington report on middle east affairs, vol,I, no 15, November 29, 1982, p5.
[48] Congressional Quarteriy, Op, Cit, p46.
[49]
Nadav safran, from war to war, the arab Israell confrontaion, 1948 – 1967 (New York: pegasus, 1969), p162.
[50] آي. جي. نايدو، ((التأثير اليهودي في السياسة الخارجية الأميركية))، دراسات استراتيجية، المجلد الأول (بيروت: مؤسسة الابحاث العربية، دراسة رقم 24، كانون الأول/ ديسمبر 1980)، ص9.
[51]
Shimon peres, David Sling: The arming of Israel (London: Welden – feld and Nicolson. 1970 ( , p88. (هيئة التحرير)
[52] أنظر في هذا الصدد:
– Kennett love, Suez: the twelee – fought war (London: Longman, 1969), p117 – 118.
– Nadav Safran Israel the Embattled Ally (U.S: the Belknap press of Harvard University press, 1978), p334. (هيئة التحرير ).
[53] عقيل هاشم، سعيد العظم، إسرائيل في أوروبا الغربية (بيروت: مركز الأبحاث، م.ت.ف، 1967)، ص178.
[54] تاديوس فالشونيسكي، إسرائيل وجمهورية ألمانيا الاتحادية (القاهرة: ترجمة ونشر هيئة الاستعلامات)، بدون تاريخ، ص37.
[55] Shimon peres, Op, Cit, p46.
[56] الأهرام، 5 أيار (مايو) 1960.
[57] هيثم كيلاني، المذهب العسكري (بيروت: مركز الأبحاث، م.ت.ف، 1969)، ص91.
[58] Shimo Peres, Op, Clt, p.88.
[59] Ibid, p98.
[60] The Middle East U.S. Policy, Op. Cit. P.46.(/82)
[61] حرب أم سلام في الشرق الأوسط، تقرير لجنة كلارك، (القاهرة: ترجمة ونشر هيئة الاستعلامات، نيسان/أبريل 1967)، ص38.
[62] الأهرام، 10 حزيران (يونيه) 1960.
[63] الأهرام، 3 أيا ر (مايو) 1960.
[64] Nadav Safran, Op. Cit, P136.
[65] الأهرام، 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963.
[66] الأهرام، 1 نيسان (أبريل) 1960.
[67]
Ernest Stock, Israel on the Road to sinal (New York: Lornell University Press, 1967, p38.
[68] Ibid, p47.
[69] Nadav Safran, Israel the Embattled Alley, Op. Cit, p338.
[70] Ernest Stock, Op. Cit, p39.
[71] محمد السعيد إدريس، الرؤية الأميركية لإسرائيل في ((السياسة الأميركية والعرب))، مجموعة من الكتاب (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1982)، ص312.
[72] آي. جي. نايدو، مصدر سابق، ص6.
[73] المصدر السابق، ص7.
[74] محمود عزمي، دراسات في الاستراتيجية الإسرائيلية (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979)، ص33.
[75] المصدر السابق، ص16.
[76] James Macdonald, Op. Cit, p35.
[77] Ibid, p206.
[78] Ibid, p204.
[79] نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، السنة الثانية عشرة، عدد 1، كانون الثاني/ يناير 1982، ص49 – 50.
[80] المصدر نفسه، ص52.
[81] تاديوس فالشينوسكي، مصدر سابق، ص61. وعقيل هاشم، سعيد العظم، مصدر سابق، ص169.
[82] James Macdonald, Op. Cit, p167.
[83]
David Limche/ Dan Bauly, The sand storm. The Arab Israel War of 1967: Prelude and Aftermath, New York 1968, p62 .
[84] Nadav Safran, Israel the Embattled Alley, Op. Cit, p339.
[85] Nadav Safran, from war to war, Op. Cit, p105.
[86] العميد الركن محمد وليد جلاد، ((إنعكاسات التحالف الأميركي الصهيوني على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية))، استراتيجياً، عدد 13، السنة الثانية، شباط (فبراير) 1983، ص35 – 37.(/83)
[87] حول زيارة أشكول للولايات المتحد ة (القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، 1968)، ص38.
[88] Shimon Peres, Op. Cit, p108.
[89] Ibid, p103.
[90] د. أحمد عبدالرحيم مصطفى، مصدر سابق، ص38.
[91] Shimon Peres, Op. Cit, p107.
[92] حول زيارة أشكول للولايات المتحدة، مصدر سابق، ص28.
[93] المصدر السابق، ص63.
[94] حرب أم سلام الشرق الأوسط، مصدر سابق، ص13.
[95] المصدر السابق، ص40.
[96] المقدم الهيثم الأيوبي، ((أضواء على الإستراتيجية الأميركية بالشرق الأوسط))، دراسات عربية، بيروت، السنة الرابعة، عدد 12، تشرين الأول/ أكتوبر 968 1، ص9.
[97]
William Quandt, Decisions, American policy Toward the Arab – Israeli conflict 1967 – 1976, (California university of California press 1977), p. 50.
[98] د. مروان بحيري، في السياسة الأمريكية والعرب، مصدر سابق، ص61.
[99] The Middle East U.S policy, OP.CIT., P.35.
[100] د. مروان بحيري، مصدر سابق، ص59.
[101] آي. جي. نايدو، مصدر سابق، ص7.
[102]The Middle East U.S policy, OP.CIT., P.35.
[103] د. سعد الدين إبراهيم، كيسنجر والصراع في الشرق الأوسط، (بيروت: دار الطليعة،1975)، ص159.
[104] يوجين ف. روستو، مشكلة الشرق الأوسط وأعماقها، كانون الثاني (يناير) 1968، ترجمة ونشر الهيئة العامة للاستعلامات، القاهرة، بدوى تاريخ، ص14.
[105] محمد السعيد إدريس، مصدر سابق، ص211.
[106] الأهرام، 30 أيلول (سبتمبر) 1983.
[107] د. سعد الدين إبراهيم، كيسنجر والصراع في الشرق الأوسط، مصدر سابق، ص، 14.
[108] محمد السعيد إدريس، مصدر سابق، ص332.
[109] د. عمد المنعم سعيد ((معركة واشنطن. المواجهة العربية الإسرائيلية في أميركا))، الموقف العربي، القاهرة، عدد 38، حزيران (يونيه) 983 1، ص131.
[110] James G. Macdonald, OP. Cit. p 172.
[111] محمد السعيد إدريس، مصدر سابق، ص314.(/84)
[112] الوطن الكويتية، 1 كانون الثاني (يناير) 1983.
[113] The Middle East U.S policy, OP.CIT., P.35.
[114] نهى تادرس، السياسة الخارجية لإدارة ريغان، الفكر الاستراتيجي العربي، بيروت، العدد الثاني، تشرين الأول (أكتوبر) 1981، ص40.
* المصدر:
Alie Hillal dessouki polities of strategic Imbalance, paper presented to the seminar of “comparative approaches to the settlement of the Arab Israeli conflict”, Cairo: Center for political and strategic studies , March 1983.(/85)
العنوان: العلاقة بين مستوى التدين والقلق العام
رقم المقالة: 840
صاحب المقالة: صالح بن إبراهيم الصنيع
-----------------------------------------
العلاقة بين مستوى التدين والقلق العام
لدى عينة من طلاب جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
ملخص البحث:
هدفت الدراسة الحالية إلى معرفة العلاقة بين التدين والقلق العام لدى عينة من طلاب جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وقد تكونت عينة الدراسة من مجموعتين من الطلاب، إحداهما طلاب كلية الشريعة وعددهم 119 طالباً متوسط عمرهم 21,40 سنة، و121 طالباً من كلية العلوم الاجتماعية متوسط عمرهم 22,97 سنة، والمجموع الكلي للعينة 240 طالبا. واستخدم مقياس التدين من إعداد صالح الصنيع، وهو مكون من ستين عبارة لكل عبارة ثلاثة خيارات، وحصل على معاملات صدق وثبات جيدة. وكذلك مقياس القلق العام للراشدين من إعداد محمد جمل الليل ومكون من ست وخمسين عبارة لكل عبارة خمسة خيارات، وحصل على معاملات صدق ثبات جيدة.
وانتهت الدراسة إلى نتائج تؤيد العلاقة العكسية بين التدين والقلق العام لدى عينتي الدراسة، كما أن طلاب كلية الشريعة حصلوا على متوسط درجات أعلى من طلاب كلية العلوم الاجتماعية على مقياس التدين، بينما على مقياس القلق العام حصل طلاب كلية العلوم الاجتماعية على متوسط أعلى من طلاب كلية الشريعة.
وانتهى الباحث إلى عدد من التوصيات التي تدعو إلى دعم الجانب الديني لدى الطلاب وزيادة حصة المقررات الشرعية في خطط الأقسام العلمية في الجامعات والمدارس، لما لها من أثر إيجابي على الصحة النفسية للطلاب وإبعادهم عن الاضطرابات النفسية.
المقدمة
الدين أهم أساس من أسس الحياة الدنيا للإنسان بحيث لا يمكن أن يستغني عنه بحال من الأحوال، وعندما يغفل الإنسان الدين في أي جانب من جوانب الحياة تجد هذا الجانب ينحرف عن تحقيق أهدافه التي يجب أن يحققها في هذه الحياة الدنيا.(/1)
والدراسات النفسية الغريبة الحديثة لم تعط الدين المكانة التي يستحقها أثناء دراستها للسلوك الإنساني، بل وجد من الدراسات من أهملته كلياً وفريق آخر ربطه بالجوانب السلبية للسلوك (كالاضطرابات النفسية مثل القلق)، والقليل منها بين أثره الإيجابي على السلوك (1، ص ص 187 - 190؛ 2، ص ص 12- 24).
والقلق أشهر الاضطرابات النفسية وأكثرها دراسة وشيوعاً، ففي مجلة الملخصات النفسية الصادرة عن الجمعية الأمريكية لعلم النفس APA في فترة خمس سنوات (1970 – 1974 م)، نشر حوالي 2064 بحثاً ومقالة وكتابا عن القلق، مما يدل على زيادة الاهتمام بموضوع القلق وأثره على جوانب السلوك الإنساني، وهذا ليس بالأمر الغريب، لأن القلق كما يقول عالم النفس ماي Mayهو العرض السائد في جميع الأمراض النفسجسمية Psychosomatic diseases (3، ص17). ولكن هذه الدراسات تناولت القلق وعلاقته بكثير من الجوانب النفسية وأهملت جانباً هاماً في حياة الإنسان لم ينل ما يستحقه من الدراسة ألا وهو الدين حيث ظل هذا الجانب مهمشاً أو مستبعداً من قبل الباحثين الغربيين لأسباب تعود لتاريخ الدين في المجتمعات الغربية (2؛4). ولكن الأمر المستغرب هو ندوة الدراسات النفسية التي تناولت عامل الدين ضمن متغيراتها في المجتمعات الإسلامية، ويتضح ذلك من الإطلاع على عناوين البحوث، والكتب، والرسائل العلمية التي نشرت في البلاد الإسلامية، وقد يعزى السبب في جانب منه إلى أن الباحثين المسلمين درسوا في غالبهم على باحثين غربيين فساروا على نفس نهجهم. وقد ساعد هذا على تأخير ظهور جهود التأصيل الإسلامي للدارسات النفسية التي أعطت الدين الإسلامي المنزلة التي يستحقها في مجال الدراسة النفسية النظرية والتطبيقية [4]. ولهذا كانت هذه الدراسة مساهمة من الباحث في تلك الجهود.
مشكلة الدراسة:(/2)
تتفاوت نظرة الباحثين النفسيين لأثر الدين على صحة الأفراد النفسية تبعاً للموقف الذي يتبناه ذلك الباحث تجاه الدين ودوره في حياة الأفراد، ويمكن تلخيص أبرز الاتجاهات في اتجاهين متضادين لتفسير أثر الدين على حياة الأفراد لدى الباحثين النفسيين.
1- اتجاه العلاقة الطردية (الموقف من الدين إيجابي):
حيث يرى القائلون به أن تمسك الفرد بتعاليم دينه يزيد من مستوى صحته النفسية ويساعده على التغلب على كثير من مشكلاته النفسية، كما أن تركه لتلك التعاليم أو ضعفه في الالتزام بها يؤدي به للوقوع فريسة لكثير من تلك المشكلات. ومن أشهر علماء هذا الاتجاه عالم التحليل النفسي كارل يونج (5)، وصاحب نظرية العلاج بالمعنى فيكتور فرانكل (6)، وزعيم المدرسة الإنسانية إبراهام ماسلو (7).
2- اتجاه العلاقة العكسية (الموقف من الدين سلبي):
حيث يرى القائلون بهذا الاتجاه أن التمسك بتعاليم الدين سبب للإصابة بالمشكلات النفسية، وهذا واضح لدى زعيم مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد، ومن يقرأ كتابيه" قلق في الحضارة" و"مستقبل وهم" يرى هذا الاتجاه بارزا في ثناياهما. ومفهوم هؤلاء للدين قائم على واقع المجتمعات الغربية التي حرفت فيها الأديان وأدخلت عليها كثير من الانحرافات التي أبعدت الدين عن أصوله الصحيحة، وظهرت فيها الكثير من التناقضات، مما أفقد الناس الثقة في ما يورده رجال الدين. إضافة إلى ما هو معروف عن فرويد من آراء لم تجد القبول لدى السواد الأعظم من الباحثين النفسيين لبعدهما عن العلمية والواقعية (2، ص ص 12 – 19).(/3)
والدراسة الحالية يتشابه موقفها مع موقف الاتجاه الأول وترى أنه الصحيح خصوصاً إذا كنا نتحدث عن أن الدين الذي نريد أن نرى أثره هو دين الإسلام الخالد والمحفوظ من التحريف والتغيير. ويمكن صياغة مشكلة الدراسة في التساؤل التالي: ما العلاقة بين مستوى التدين والقلق العام لدى طلاب الجامعة؟ وما نوعها؟ وهل لتخصص الطالب في العلوم الشرعية أو العلوم الاجتماعية علاقة بذلك؟
أهمية الدراسة:
تنبع أهمية الدراسة الحالية من أهمية المتغيرات المدروسة فيها، حيث يعتبر القلق من أكثر الموضوعات النفسية انتشاراً وأهمية، حيث يربط بكل مشكلة نفسية يتعرض لها الأفراد في حياتهم الدنيا، كما أن الدين أهم ما لدى الإنسان المسلم في هذه الحياة. ولذا لا يخلو جانب من جوانب حياة المسلم إلا وللإسلام أثر فيه، ومن ذلك حياته النفسية. وتبرز أهمية الدراسة في الجانبين التاليين:
1- الأهمية النظرية:
من خلال دراسة علاقة الالتزام بتعاليم الإسلام على الصحة النفسية لدى الطلاب المسلمين، وما يتوقع من أن الطالب الملتزم بتلك التعاليم من أبعد الناس عن الوقوع في الأمراض النفسية ومنها القلق.
2- الأهمية التطبيقية:
وتظهر في محاولة الباحث التعرف على مدى ارتفاع مستوى التدين لدى طلاب الجامعة وعلاقته بمدى انخفاض مستوى القلق لديهم. مما يعزز الدعوة لرفع مستوى التدين لدى الطلاب، لما له من آثار إيجابية على صحتهم النفسية. وهذا من مزايا دين الإسلام الذي جاء بخيري الدنيا والآخرة للبشرية جمعاء متى ما التزمت ما جاء به من شريعة سمحة.
وتسعى الدراسة الحالية لمعرفة العلاقة بين التدين والقلق لدى طلاب الجامعة وأثر تخصص الطالب على هذه العلاقة.
مصطلحات الدراسة:
نعرض في هذه الفقرة أهم مصطلحين في الدراسة وهما التدين والقلق:
1- التدين:(/4)
في اللغة ورد في قاموس المنجد: " تدين: أخذ ديناً " (8، ص 231). يعرف التدين لدى الغربيين بأنه صفة للشخصية تعود إلى توجهات عقلية (معرفية) عن الحقيقة الواقعة وراء نطاق الخبرة والمعرفة، وعن علاقة الفرد بهذه الحقيقة. والتوجهات موجهة ضمناً لكي تؤثر على الحياة الدنيوية اليومية للفرد، وذلك بمشاركته في تطبيق الشعائر الدينية " (9، ص 137).
وفي الإسلام حتى يكون الفرد متديناً يجب أن يجمع بين الاعتقاد الصحيح، والقول، والعمل كما قال الله تعالى في محكم التنزيل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]. قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: "قال الماوردي: وفيه: وإن كان الرسول عالماً بالله - ثلاثة أوجه: يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. والثاني - ما علمته استدلالاً فأعلمه خبراً يقيناً. الثالث - يعني فاذكر أن لا اله إلا الله؛ فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه. وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} فأمر بالعمل بعد العلم (10، جـ 16، ص ص 241 - 242).
وعلى هذا نعرف التدين بأنه: التزام المسلم بعقيدة الإيمان الصحيح وظهور ذلك على سلوكه بممارسة ما أمر الله به والانتهاء عن إتيان ما نهى الله عنه.
ويعرف مستوى التدين إجرائياً في هذه الدراسة بأنه: مجموع الدرجات التي يحصل الطالب عليها من خلال إجاباته عن فقرات مقياس التدين المستخدم في الدراسة.
2- القلق:
في اللغة ورد في المعجم الوسط: " قلق الشيء - قلقاً: حركه... والقلق: حالة انفعالية تتميز بالخوف مما قد يحدث " (11، جـ 2، ص 756).
وهناك تعريفات كثيرة للقلق يصعب حصرها ولعلنا نكتفي بما يلي:(/5)
- حالة من الخوف الغامض الشديد، الذي يمتلك الإنسان ويسبب له كثيراً من الكدر والضيق.
- شعور عام غامض غير سار مملوء بالتوقع، والخوف، والتحفز، والتوتر، مصحوب عادة ببعض الإحساسات الجسمية، يأتي في نوبات تكرر من نفس الفرد (12، ص ص 57 – 58).
ويعرف القلق العام الذي هو موضوع الدراسة الحالية بأنه: التغيرات الجسمية، والعقلية الانفعالية، السلوكية التي تنشأ عن تعرض الفرد لخطر يهدده داخليا أو خارجياً، سواء أكان الخطر معلوماً أو مجهولاً، مع مصاحبة ذلك بالتشاؤم مع استمرار ذلك مدة لا تقل عن شهر واحد (13، ص 314).
ويعرف مستوى القلق العام إجرائياً في هذه الدراسة بأنه: مجموع الدرجات التي يحصل عليها الطالب بعد تصحيح إجاباته عن مقياس القلق العام المستخدم في الدراسة الحالية.
الإطار النظري:
يتفاوت تعريف الباحثين الغربيين لمفهوم الدين، ولكن يمكن إيراد تعريف للدين تتكرر مفرداته في كثير من تعاريفهم، وهو أن الدين: اعتقاد بوجود قوة عظمى تحكم الكون، كما أنه يوضح علاقة الإنسان الشخصية بهذه القوة (14، ص 147) وهذا على خلاف تعريف المسلمين للدين الذي هو الإيمان بوجود الله وأحقيته بالعبادة دون سواه، وتنفيذ الشريعة التي أرسل بها رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، في كافة جوانب الحياة، لما فيه خير الإنسان في الدنيا والآخرة.
وعلى هذا يجب أن يفهم ما يطرحه الباحثون الغربيون عن أثر الدين في السلوك على أنه جانب جزئي منفصل عن جوانب الحياة الأخرى، وهذا لا يرقى إلى المفهوم الشامل للدين كما هو في المنظور الإسلامي.
والدين الإسلامي هو آخر الأديان السماوية التي أرسل الله بها الرسل لأهل الأرض، ولكونه الدين الخاتم فقد جاء كاملاً شاملا لكل ما يمكن أن يحتاجه الإنسان حتى قيام الساعة، ومن ذلك الاحتياج ما يوجه حياته النفسية نحو سعادتها ووقايتها من الانحرافات السيئة وطرق معالجة المشكلات النفسية التي قد يقع في شيء منها.(/6)
وقد تواترت نصوص الكتاب والسنة على تأكيد حقيقة أن الإيمان الصحيح عصمة للمؤمن من سائر ما يمكن أن يصيبه في هذه الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [الأنعام:82]. قال الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية: " الأمن من المخاوف، والعذاب والشقاء،والهداية إلى الصراط المستقيم. فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقاً، لا بشرك، ولا بمعاصي، حصل لهم الأمن التام والهداية التامة " (15، ص 224). والمؤمن المواظب على ذكر الله وطاعته ودائم التوكل على الله في جميع شؤونه لا يأتيه الخوف والحزن لأنه في حفظ الله ورعايته، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. قال الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية: "أي: يعتمدن في قلوبهم على ربهم، في جلب مصالحهم، ودفع مضارهم الدينية، والدنيوية، ويثقون بأن الله تعالى سيفعل ذلك. والتوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا به" (15، ص 277).(/7)
والعبادات بكافة أنواعها من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وعمرة، وغيرها، سواء ما كان منها فرضاً أو نفلا كلها تفيد في زيادة إيمان المسلم وتعمل على وقايته من الاضطرابات النفسية بكافة أشكالها، والأدلة من القرآن والسنة على ذلك أكثر من أن تحصى. وعلى سبيل المثال نجد القرآن الكريم يأمر المؤمنين بالاستعانة بالصلاة عند الحاجة للعون من الله، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، وقد كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد عليه أمر من الأمور يلجأ إلى الصلاة فيجد فيها الراحة والطمأنينة. فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن رجل من أسلم أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)) (16) كما روى الإمام أبو داود في سننه عن حذيفة رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى)) (17). وهذا فيه دلالة على أن الصلاة تذهب القلق الذي يصيب الإنسان المسلم عندما تشتد عليه مصاعب الحياة اليومية.(/8)
وقد اهتم الباحثون الغربيون بالصلاة وأثرها الإيجابي على صحة الإنسان النفسية، ومن ذلك ما قاله ألكسيس كاريل عن أهمية الصلاة حيث يقول: " فالصلاة، كما يجب أن تفهم، ليست مجرد ترديد آلي للطقوس، ولكنها ارتفاع لا يدركه العقل، أنها استغراق الشعور في تأمل مبدأ يخترق عالمنا ويسمو عليه. ومثل هذه الحالة السيكولوجية ليس عقلية. إن الفلاسفة والعلماء لا يفهمونها، كما أنها صعبة المنال عليهم. ولكن يبدو أن الشخص المتجرد من حب متاع الدنيا يشعر بالله بمثل السهولة التي يشعر بها بحرارة الشمس" (18، ص 118). كما يقول عالم النفس سيرل بيرت عن الصلاة: "الصلاة كلمة يستعملها الكتاب الدينيون في معنى اصطلاحي واسع، فهي لا تعني مجرد دعاء لفظي، ولا مجرد تعبير عن الحمد والثناء، فتلك ليست إلا أمثلة محدودة من الحالة العقلية العامة التي تفسرها كلمة الصلاة أما الخاصة الحقيقة فهي إحساس بهيج عن الإشراق الروحي.. والثمرة الرئيسية للصلاة، كما يؤكد المتعبدون أنفسهم، ليست في أن الدعوة الخاصة قد حققت بمعجزة، ولكن في أن المصلى نفسه يحس عزاء وقوة بعد تجربته، فالصلاة - ولو لم تنتج أثراً مادياً - قد تحدث تغييراً روحياً " (19، ص ص 22- 24).
ومعلوم الفرق الكبير بين الصلاة عند الغربيين القائمة على الحضور للكنسية وقت محدد من يوم الأحد كل أسبوع وترديد بعض الأدعية والاستماع لموعظة القسيس وحسب. بينما في الإسلام هي عبادة عظيمة ملازمة للمسلم كل يوم خمس مرات، ومتضمنة لأقوال وأفعال محددة، وهي صلة للمسلم بخالقه حيث يدعوه ويطلب عونه ومساعدته، كما أنها تطهر النفس وتجلب السكون والطمأنينة. ومن هنا يتبين لنا الفرق بين الصلاة عند المسلمين والمسيحيين.(/9)
كما أن الزكاة لها أثر إيجابي على نفس المسلم المؤدي لها على العكس من ذلك الذي لا يؤدي الزكاة، وقد وصف القرآن الكريم هذه المقارنة في الايات التالية، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] قال سيد قطب حول تفسير هذه الآيات: "والذي يعطي ويتقي ويتصدق بالحسنى يكون قد بذل أقصى ما في وسعه ليزكي نفسه ويهديها. عندئذ يستحق عون الله وتوفيقه الذي أوجبه - سبحانه - على نفسه بإرادته ومشيئته. والذي بدونه لا يكون شيء، ولا يقدر الإنسان على شيء.
ومن يسره الله لليسرى فقد وصل.. وصل في يسر وفي رفق وفي هوادة.. وصل وهو بعد في هذه الأرض. وعاش في يسر. يفيض اليسر من نفسه على كل ما حوله وعلى كل من حوله. اليسر في خطوه. واليسر في طريقه. واليسر في تناوله للأمور كلها. والتوفيق الهادئ المطمئن في كلياتها وجزئياتها.
... والذي يبخل بنفسه وماله، ويستغني عن ربه وهداه، ويكذب بدعوته ودينه.. يبلغ أقصى ما يبلغه إنسان بنفسه من تعريضها للفساد، ويستحق أن يعسر الله عليه كل شيء، فييسره للعسرى، ويوفقه إلى كل عورة ! ويحرمه كل تيسير! ويجعل في كل خطوة من خطاه مشقة وحرجاً، وينحرف عن طريق الرشاد. ويصعد في طريق الشقاوة (20، جـ 6، ص 3922).
والصيام عبادة عظيمة فيها تزكية وتقوى لنفس الصائم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. وهكذا المتصدق يذهب عنه العسر والقلق والمشقة التي عادة ما تصاحب المال، فتأتي الصدقة فتدفع عنه كل ذلك.(/10)
وللصيام فوائد كثيرة منها ما ذكره نجيب الكيلاني حيث يقول: "من الواضح أن الصوم مدرسة أخلاقية إلى جانب فوائده الصحية المختلفة، لكن الانضباط النفسي والأخلاقي هو الدرس الأول والهام في هذه المدرسة المقدسة.. هناك دور هام يلعبه الصوم بالنسبة للكيان النفسي في الإنسان... ولا شك أن الصائم يعيش في ظل مبادئ وأجواء روحية مريحة، مشبعة بالثقة والإيمان، والتزام الصائم بالامتناع عن الطعام والشراب وشهوات الجسد، يقوى فيه الإرادة، ويجعله صلباً قوياً في مجابهة مشاكل الحياة وصعابها، ومن ثم تمتلئ نفسه باليقين والرضى، وتدريجيا تذهب عن نفسه الوساوس، وتزايله الأوهام، وتنمحي المخاوف والهواجس، ويجد دائماً الله إلى جواره فيركن إليه، ويزداد تشبثاً به، وعندما يستطيع الصائم أن يصل إلى هذه الدرجة، بعبادته وصلاته وقراءته للقرآن، يكون قد وصل إلى بر الأمان " (21، ص ص 41 - 52). فالصيام يجلب لنفس المسلم الراحة، ويبعد عنها القلق والضيق، ويعود النفس على الصبر على ما يقابها من مشاق الحياة مما يجعلها أقدر على التصدي لمسببات القلق مقاومتها وعدم الخضوع لها والوقوع في شراكها.
ولعل في هذه الأمثلة كفاية للدلالة على أهمية العبادات في الصحة النفسية للمسلم وكوقاية له من الاضطرابات النفسية.(/11)
ويرى كثير من الباحثين الغربيين أن الدين له أثر إيجابي على صحة الفرد النفسية، ومن ذلك ما ذكره فيكتور فرانكل زعيم مدرسة العلاج بالمعنى عن دور الدين في تخليص الفرد من قلقه واضطراباته حيث يقول: "ويمكن أن نقول أن اهتمام الإنسان بالحياة وقلقه بشأن جدارتها وحتى يأسه منها لا يخرج أحياناً عن كونه ضيقاً معنوياً روحياً وليس بالضرورة أن يكون مرضاً نفسياً بحال من الأحوال. وهنا يكون تفسير هذا الضيق المعنوي أو الروحي على أنه مرض نفسي هو ما يدفع الطبيب إلى أن يدفن اليأس الوجودي عند مريضه تحت كومة من العقاقير المهدئة، ولكن مهمته هي بالأحرى أن يقود المريض من خلال أزماته الوجودية إلى النمو والارتقاء " (6، ص 138). ويقول كذلك: "حينما يكن المريض واقفاً على أرض صلبة من الاعتقاد الديني، فلا يمكن أن يكون هناك اعتراض بشأن الاستفادة من التأثير العلاجي لمعتقداته الدينية مما ينبع من المصادر الروحية ويعتمد عليها " (6، ص 157).(/12)
كما أن هناك باحثين آخرين جمعوا عدداً من الدراسات الميدانية التي درست العلاقة بين التدين وبعض الاضطرابات النفسية وخرجوا بنتيجة عامة تفيد الارتباط العكسي بين هذين المتغيرين، ومن ذلك دراسة برسمان pressman، وليونس Lyons، ولارسون Larson، جارتنر Gartner، حيث درسوا عدداً كبيراً من الدراسات الميدانية التي درست العلاقة بين التدين وكل من القلق والخوف من الموت، وخرجوا بنتيجة عامة من خلال نتائج تلك الدراسات تميل إلى تأييد الارتباط العكسي بين التدين وكل من القلق والخوف من الموت (22، ص ص 98 - 105). كما قام يعقوب Jacobs بدراسة استعرض فيها عدداً من الدراسات التي تناولت العلاقة بين ممارسة الشعائر الدينية والصحة النفسية ضمن الثقافات المتعددة الموجودة في المجتمع الأمريكي. وخرج بنتيجة عامة تؤكد الدور الإيجابي لممارسة الشعائر الدينية في تخليص الأفراد من الاضطرابات النفسية مثل القلق والعزلة، وتعزيز مظاهر الصحة النفسية مثل المودة والتعاون (22، ص ص 292- 298).
وقد أجرى العديد من الباحثين المسلمين دراسات ميدانية لعلاقة الالتزام بالإسلام بالقلق. وكانت النتيجة العامة لهذه الدراسات على قسمين. قسم وجد أن الالتزام بتعاليم الإسلام يعالج القلق (1؛ 25). القسم الآخر وجد ارتباطاً عكسياً بين الالتزام بالإسلام والقلق (24 - 28).
ونتائج الدراسة التي ذكرناها تؤيد العلاقة بين التدين والقلق النفسي لدى الأفراد، مما يعني الأثر الايجابي للتدين على صحة الأفراد النفسية، وهذا ما يتوقعه الباحث في دراسته الحالية.
الدراسات السابقة:
هناك الكثير من الدراسات التي أجريت على القلق أو التدين مع متغيرات أخرى، إلا أن ما يهمنا هو الدراسات التي أجريت على التدين وعلاقته بالقلق، سواء كان القلق متغيراً لوحده أو ضمن متغيرات أخرى، وسنقتصر في عرضنا على الدراسات التي أجريت في السنوات العشر الأخيرة (والتي استطاع الباحث الحصول عليها).(/13)
أجري روس Ross دراسة حول التدين والاضطراب النفسي على عينة مكونة من 401 فرد من سكان مدينة شيكاغو وما جاورها. وقاس الاضطراب النفسي عن طريق قياس أعراض الاكتئاب والقلق، حيث استخدم مقياس (لانجز) المكون من ثماني عبارات تقيس متغيري الاكتئاب والقلق، أما الدين فتم قياسة في ثلاثة مجالات: الانتساب الديني (الديانة)، وقوة الاعتقاد الديني، ومحتوى الاعتقاد الديني. وأهم ما خرجت به الدراسة أن الأفراد ذوي الاعتقاد الديني القوي كانت مستويات الاضطراب النفسي لديهم منخفضة بوضوح قياساً بالأفراد ذوي الاعتقاد الديني المنخفض الذين ارتفع لديهم مستوى الاضطراب النفسي (23).
قام محمد السيد حوالة بدراسة حول القلق الأخلاقي وعلاقته بالقيم والمفاهيم الدينية، وتكونت عينة الدراسة من 100 طالب من كلية اصول الدين في جامعة الأزهر و100 طالب من كلية التربية في جامعة قناة السويس، وكان مدى أعمار العينة من 22 - 26 سنة. واستخدم الباحث أربعة اختبارات هي: اختبار تحديد القضايا "لقياس النمو الأخلاقي"، واختبار حالة وسمة القلق للكبار، واختبار روتر لتكملة الجمل، واختبار القلق الأخلاقي من إعداد الباحث. ومن أهم نتائج الدراسة وجود علاقة عكسية دالة إحصائياً بين القلق الأخلاقي (الذي يعكس ارتفاعاً في مستوى التدين) وبين قلق الحالة وقلق السمة لدى عينتي الدراسة، كما خرج الباحث بنتيجة مفادها أن دراسة العلوم الدينية "طلاب كلية أصول الدين" تخفض مستوى التوتر النفسي لدى الطالب (24).(/14)
درست الباحثة إسعاد عبد العظيم البنا دور الأدعية والأذكار في علاج القلق كإحدى طرق العلاج النفسي الديني. وتكونت عينة الدراسة من 20 طالبة من طالبات كلية التربية بالمنصورة ممن حصلن على أعلى الدرجات على مقياس القلق الصريح لتيلور من عينة أكبر قوامها 149 طالبة. واستخدمت الباحثة برنامجاً علاجياً على شكل جلسات استخدمت فيها قراءة القرآن الكريم وبعض الأدعية والاذكار الدينية. وكان من نتيجة هذا البرنامج انخفاض مستوى القلق لدى عينة الدراسة بفرق دال إحصائياً قبل وبعد تطبيق البرنامج (25).
أجرى محمود غلاب ومحمد الدسوقي دراسة نفسية مقارنة بين بعض المتدينين جوهرياً والمتدينين ظاهرياً في الاتجاه نحو العنف وبعض خصائص الشخصية. وتكونت عينة الدراسة من 454 طالباً وطالبة من جامعتي عين شمس والمنيا، منهم 236 ذكراً و218 أنثى؛ ومن حيث الديانة منهم 273 من المسلمين و181 من المسيحيين، وتراوحت أعمارهم ما بين 18 - 22 سنة بمتوسط عمري مقداره 19,6 سنة واستخدم تسعة مقاييس لقياس التوجه الديني الظاهري، والجوهري لكل ديانة، والاتجاه نحو العنف، وقائمة إيزنك للشخصية، والجمود، والسيطرة، وتأكيد الذات، وروتر لوجهة الضبط، وسمة القلق للكبار. ويهمنا من نتائج الدراسة النتيجة التالية: وجد ارتباط موجب دال إحصائياً بين التوجه الديني الظاهري والقلق لدى عينتي الدراسة، بينما كان هذا الارتباط ضعيفاً وغير دال بين التوجه الديني الجوهري والقلق لدى عينتي الدراسة (26).(/15)
أجرى محمد درويش محمد دراسة حول مدى فعالية العلاج الديني في تخفيض القلق لدى طلاب الجامعة، وتكونت العينة من 20 طالباً من كلية التربية بجامعة عين شمس ممن حصلوا على درجات الإرباعي الأعلى على مقياس القلق، وقسموا إلى مجموعتين إحداهما تجريبية (عشرة طلاب) تعرضت للمعالجة الدينية، والأخرى ضابطة (عشرة طلاب) لم تتعرض لأي معالجة، ومتوسط عمر العينة 20,32 سنة. واستخدم مقياس القلق من إعداد الباحث، وطبق برنامج علاجي للمجموعة التجريبية استغرق 150 جلسة طبقت بطريقة فردية. وكانت نتيجة الدراسة وجود فروق دالة إحصائياً في انخفاض درجات القلق بين المجموعتين التجريبية والضابطة بعد انتهاء البرنامج العلاجي لصالح المجموعة التجريبية (1).
ودرست طريفة الشويعر الإيمان بالقضاء والقدر وأثره على القلق النفسي، حيث كانت العينة مكونة من 200 طالبة من كلية التربية للبنات بجدة، واستخدمت مقياس الإيمان بالقضاء والقدر من إعداد الباحثة ومقياس القلق من إعداد كاتل وترجمة سمية فهمي. وكان من أهم نتائج الدراسة وجود علاقة ارتباطية سالبة دالة إحصائياً بين الإيمان بالقضاء والقدر ومستوى القلق لدى عينة الدراسة كما وجدت فروقاً دالة إحصائياً في درجة القلق النفسي بين الطالبات الأكثر إيماناً بالقضاء والقدر والطالبات الأقل إيماناً به لصالح المجموعة الثانية (27).
كما قامت طريفة الشويعر بدراسة أخرى حول الالتزام الديني وعلاقته بقلق الموت، على عينة من 287 فرداً منهم 142 من الذكور و145 من الإناث العاملين والعاملات في القطاع التعليمي في مدينتي مكة المكرمة وجدة. واستخدمت مقياسي الالتزام الديني وقلق الموت وهما من إعداد الباحثة. وكان من أهم النتائج وجود علاقة سالبة دالة إحصائياً بين مستوى الالتزام الديني ومستوى قلق الموت لدى عينة الدراسة الذكور وعلى العكس كانت النتيجة لدى عينة الإناث (28).
ونخلص من مراجعة الدراسات السابقة إلى الحقائق التالية:(/16)
- وجود ارتباط سالب دال إحصائياً بين التدين والقلق (27؛ 28).
- العلاج الديني يخفض مستوى القلق لدى الأفراد (1؛ 25).
- دراسة العلوم الدينية يخفض الاضطرابات النفسية ومنها القلق (24).
- التدين الجوهري والتدين المرتفع يرتبط سلبياً مع الاضطرابات النفسية ومنها القلق (23؛ 26).
وبناء على ما سبق ذكره أعلاه يتوقع الباحث وجود علاقة عكسية بين التدين والقلق لدى عينة الدراسة الحالية.
فروض الدراسة:
بناء على ما سبق أن ورد في الإطار النظري ونتائج الدراسات السابقة يمكن صياغة الفروض التالية:
الفرض الأول:
توجد علاقة سالبة دالة إحصائياً بين متوسط درجات التدين والقلق العام لدى أفراد عينتي الدراسة كما يقاسان بمقياس الدراسة الحالية.
الفرض الثاني:
توجد علاقة سالبة دالة إحصائيا بين متوسط درجات التدين والقلق العام لدى عينة طلاب كلية الشريعة كما يقاسان بمقياسي الدراسة الحالية.
الفرض الثالث:
لا توجد علاقة ذات دلالة إحصائية بين درجات التدين والقلق العام لدى عينة طلاب كلية العلوم الاجتماعية كما يقاسان بمقياسي الدراسة الحالية.
الفرض الرابع:
توجد فروق ذات دلالة احصائية بين متوسط الدرجات التي يحصل عليها طلاب عينتي الدراسة على مقياس التدين لصالح عينة طلاب كلية الشريعة.
الفرص الخامس:
توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين متوسط الدرجات التي يحصل عليها طلاب عينتي الدراسة على مقياس القلق العام لصالح عينة طلاب كلية العلوم الاجتماعية.
الفرض السادس:
توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين مستويات القلق (المرتفع، والمتوسط، والمنخفض) ونوع الكلية على درجات مقياس القلق.
الفرض السابع:
توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين مستويات القلق (المرتفع، والمتوسط، والمنخفض) ونوع الكلية على درجات مقياس التدين.
إجراءات الدراسة
منهج الدراسة:(/17)
استخدمت الطريقة الارتباطية من المنهج الوصفي في ضوء الهدف من الدراسة الحالية القائم على دراسة العلاقة بين متغيرين.
الأساليب الإحصائية:
تم استخدام الاساليب الإحصائية التالية:
- اختبارات "ت" لدلالة المتوسطات ذو الطرف الواحد وذو الطرفين.
- اختبار تحليل التباين الثنائي.
وجرى اختيار هذين الأسلوبين الإحصائيين لأنهما أنسب الأساليب الإحصائية لاختبار صحة الفروض المطروحة في الدراسة الحالية.
عينة الدراسة:
تكونت عينة الدراسة الحالية من 240 طالباً من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، منهم 119 طالباً من كلية الشريعة الإسلامية (المستوى الرابع) متوسط عمرهم 21,04 سنة، 121 طالباً من كلية العلوم الاجتماعية (المستوى الرابع) متوسط عمرهم 22,97 سنة وجميعهم من السعوديين، وسبب اختيار هذه العينة لافتراض وجود اختلاف بين المجموعتين (طلاب قسم الشريعة بكلية الشريعة وطلاب أقسام كلية العلوم الاجتماعية) في كل من متغيري التدين والقلق لاختلاف كم المعلومات الدينية الذي تدرسه كل مجموعة في خطة الدراسة، حيث تمثل مقررات العلوم الشرعية في قسم الشريعة ما يزيد على 80% من إجمالي عدد الساعات المطلوبة للتخرج، بينما في أقسام كلية العلوم الاجتماعية لا تزيد نسبة عدد ساعات مقررات العلوم الشرعية على 20% من إجمالي عدد ساعات التخرج (29). وسبب اختيار طلاب المستوى الرابع لأن أحد مقياسي الدراسة (القلق العام) يشترط أن يكون المطبق عليه المقياس فوق 18 سنة، فلو أخذت العينة من المستوى الأول فقد يكون في ذلك تجاوز لهذا الشرط لأن هناك من طلاب المستوى الأول من عمره لا يزيد عن 18 سنة، إضافة إلى أن هذا المستوى هو منتصف الدراسة الجامعية ومن خلاله يمكن أن نرى أثر المعلومات على سلوك الطالب. وجدول رقم 1 يبين العدد، ومتوسط العمر، والانحراف المعياري لكل مجموعة من مجموعتي عينة الدراسة.(/18)
جدول رقم 1: متوسط العمر والانحراف المعياري لدى عينتي الدراسة:
المجموعة ... العدد ... المتوسط ... الانحراف المعياري
طلاب الشريعة ... 119 ... 21,04 ... 2,63
طلاب ع. الاجتماعية ... 121 ... 22,97 ... 1,97
مقاييس الدراسة:
استخدمت في الدراسة الحالية المقاييس التالية:
مقياس التدين:
من إعداد صالح الصنيع ويتكون من ستين عبارة لكل عبارة ثلاثة خيارات، وقائمة موضوعات المقياس تشمل ما يلي:
1- أركان الإيمان 6 عبارات
2- أركان الإسلام 9 عبارات
3- واجبات 18 عبارة
4- منهيات 27 عبارة
وقد تم بناء المقياس بعد مراجعة شاملة للمقاييس الموجودة في الساحة العلمية. وحسب صدق المقياس بطريقتين هما: صدق المحكمين، وصدق الاتساق الداخلي وحصل على معدلات صدق مقبولة. كما تم حساب الثبات بطريقتين هما:طريقة إعادة التطبيق وكان معامل الارتباط 0,89، وطريقة التجزئة النصفية وكان معامل الارتباط 0,94 وهي معاملات ثبات عالية. كما تم استخراج الثبات على العينة الحالية بطريقة معامل ارتباط ألفا وكانت قيمته 0,91.
مقياس القلق العام للراشدين:
من إعداد محمد جمل الليل بعد مراجعته للمقاييس المستخدمة في الميدان، وهو مكون من ست وخمسين عبارة، لكل عبارة خمسة خيارات موزعة بطريقة ليكرت. ووزعت عبارات المقياس على أربعة أبعاد هي: البعد الانفعالي وله 27 عبارة، والبعد العقلي وله 8 عبارات، والبعد الجسمي وله 20 عبارة، والبعد السلوكي وله 11 عبارة.
وحسب الصدق بأربع طرق هي: صدق المحكمين وصدق التكوين الفرضي، وصدق المفردات والصدق التمييزي، وكانت معدلات الصدق مقبولة، كما حسب الثبات بطريقة الاتساق الداخلي للمقياس من معادلة ألفا كرونباخ، وكان المعامل يساوي 0,94 ويعكس درجة ثبات عالية (30). كما تم استخراج الثبات على العينة الحالية بطريقة معامل ارتباط ألفا وكانت قيمته 0,93.
التطبيق:(/19)
قام الباحث بتطبيق مقياسي الدراسة على جميع أفراد العينة بالتنسيق مع أساتذة المستوى الرابع في كليتي الشريعة والعلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وذلك خلال الفصل الدراسي الثاني من العام الجامعي 1419/ 1420 هـ.
تحليل وتفسير النتائج
ما يلي أبرز ما انتهت إليه الدراسة الحالية:
الفرض الأول:
توجد علاقة سالبة دالة إحصائيا بين متوسط درجات التدين والقلق العام لدى أفراد عينتي الدراسة كما يقاسان بمقياسي الدراسة الحالية.
للتحقق من صحة هذا الفرض استخدم اختبار "ت" وكانت النتيجة تحقق صحة الفرض كما هو ظاهر في جدول رقم 2.
جدول رقم 2: التحقق م صحة الفرض الأول
المتغير ... المتوسط ... الانحراف المعياري ... قيمة " ت " ... مستوى الدلالة
التدين ... 145,35 ... 14,72 ... -0,330 ... 0,01
القلق ... 130,91 ... 29,79 ... ...
ومن هنا يتبين صحة الفرض وهو يعني أن الفرد الذي يرتفع لديه مستوى التدين سينخفض لديه بالمقابل مستوى القلق. وهذه النتيجة تماثل ما انتهت إليه دراستا طريفة الشويعر (27؛ 28) من أن الإيمان بالقضاء والقدر ارتبط سلبياً مع مستوى القلق، كما أن مستوى الالتزام الديني المرتفع ارتبط سلبياً مع مستوى قلق الموت. وكذلك دراسة محمد السيد حوالة (24) حيث ارتبط ارتفاع مستوى التدين عكسياً مع قلق الحالة وقلق السمة لدى عينتي الدراسة. وهذا مما يدعو الأولياء والمعلمين لحث الأبناء والطلاب على التزام الطاعات بكافة أنواعها من عبادات كالصلاة، والزكاة، والصدقات، والصيام، وغيرها من الطاعات، مما يرفع من مستوى الإيمان لديهم ويكون سبباً - بإذن الله - في وقايتهم من الأمراض النفسية كالقلق وغيره.
الفرض الثاني:
توجد علاقة سالبة دالة إحصائياً بين متوسط درجات التدين والقلق العام لدى عينة طلاب كلية الشريعة كما يقاسان بمقياسي الدراسة الحالية.(/20)
للتحقق من حصة الفرض استخدم اختبار "ت "، وكانت النتيجة تحقق صحة الفرض كما يظهر في جدول رقم 3.
جدول رقم 3: التحقق م صحة الفرض الثاني
المتغير ... المتوسط ... الانحراف المعياري ... قيمة " ت " ... مستوى الدلالة
التدين ... 151,36 ... 13,27 ... -0,2046 ... 0.05
القلق ... 127,32 ... 26,20 ... ...
وهكذا تدعم هذه النتيجة صحة الفرض وهو يعني أن عينة طلاب كلية الشريعة الذين ارتفع مستوى التدين لديهم قد انخفض مستوى القلق لديهم بدرجة دالة إحصائياً، وهذه النتيجة مقاربة لما ظهر في دراسة محمد السيد حوالة (24) والتي خرجت بنتيجة مفادها أن دراسة العلوم الدينية تخفض مستوى التوتر النفسي لدى الطالب. كما تقارب ما خرجت به دراسة محمد درويش محمد (1) من أن المعالجة الدينية خفضت القلق لدى المجموعة التي تعرضت لتلك المعالجة.
الفرض الثالث:
لا توجد علاقة ذات دلالة إحصائياً بين درجات التدين والقلق لدى عينة طلاب كلية العلوم الاجتماعية كما يقاسان بمقياسي الدراسة الحالية.
وللتحقق من صحة الفرض استخدم اختبار "ت" وكانت النتيجة عدم صحة الفرض حيث وجدت علاقة سالبة دالة إحصائياً كما يظهر في جدول رقم 4:
جدول رقم 4: التحقق من صحة الفرض الثالث:
المتغير ... المتوسط ... الانحراف المعياري ... قيمة " ت " ... مستوى الدلالة
التدين ... 139,25 ... 13,66 ... -0,393 ... 0,01
القلق ... 134,44 ... 32,67 ... ...
وقد كان سبب افتراض عدم وجود علاقة كون طلاب كلية العلوم الاجتماعية أقل حظاً في عدد مقررات العلوم الشرعية قياساً بطلاب كلية الشريعة مما قد يعني انخفاضاً في مستوى تدينهم، ولكن هذه النتيجة تدل على أن طلاب جامعة الإمام بغض النظر عن الكلية التي يدرسون فيها يتمتعون بمستوى تدين مرتفع بصورة عامة، وتتسق هذه النتيجة مع ما جاء في دراسة محمود غلاب ومحمد الدسوقي (26) من أن أصحاب التدين الجوهري كان الارتباط لديهم ضعيفاً مع القلق.(/21)
الفرض الرابع:
توجد فرق ذات دلالة إحصائية بين متوسط الدرجات التي يحصل عليها طلاب عينتي الدراسة على مقياس التدين لصالح عينة طلاب كلية الشريعة.
وللتحقق من حصة الفرض استخدم اختبار "ت" ذي الطرفين، وقد تحققت صحة الفرض كما ظهر في جدول رقم 5.
جدول رقم 5: التحقق من صحة الفرض الرابع
الكلية ... المتوسط ... الانحراف المعياري ... قيمة " ت " ... اتجاه الفروق
الشريعة ... 151,36 ... 13,27 ... 6,96* ... الفروق لصالحهم
ع. الاجتماعية ... 139,25 ... 13,66 ... ...
* مستوى الدلالة = 0.001
وهذه النتيجة تؤكد أن دراسة العلوم الشرعية ترفع من مستوى التدين لدى طلابها قياساً بطلاب التخصصات الأخرى، وتوافق هذه النتيجة ما جاء في دراسة محمد السيد حوالة (24) من أن دراسة العلوم الدينية تخفض مستوى التوتر النفسي لدى الطالب لارتفاع مستوى تدينه.
الفرض الخامس:
توجد فروق ذات دلالة احصائية بين متوسط الدرجات التي يحصل عليها طلاب عينتي الدراسة على مقياس القلق العام لصالح عينة طلاب كلية العلوم الاجتماعية.
وللتحقق من صحة الفرض استخدم اختبار "ت" ذي الطرفين، وقد تحققت صحة الفرض كما يظهر في جدول رقم 6.
جدول رقم 6: التحقق م صحة الفرض الخامس
الكلية ... المتوسط ... الانحراف المعياري ... قيمة " ت " ... اتجاه الفروق
ع. الاجتماعية ... 134,44 ... 32,67 ... 1,86* ... الفروق لصالحهم
الشريعة ... 127,32 ... 26,20 ... ...
* مستوى الدلالة = 0.06(/22)
ويلاحظ أن مستوى الدلالة كان 0,06 وهو مستوى ضعيف حيث جرت العادة في البحوث قبول أحد المستويين (0,01) أو (0,05)، وإن كان الناظر في المتوسطات والانحرافات المعيارية في الجدول يتأكد له وجود فروق واضحة لصالح عينة طلاب العلوم الاجتماعية كما نص على ذلك الفرض الخامس. وهذه النتيجة تقارب ما خرج به روس (23) من أن الأفراد ذوي الاعتقاد الديني المرتفع كانت مستويات الاضطراب النفسي لديهم منخفضة قياساً بالأفراد ذوي الاعتقاد الديني المنخفض الذين ارتفع لديهم مستوى الاضطراب النفسي. كما توافق ما جاء في نتيجة دراسة محمد السيد حوالة (24) من أن طلاب كلية أصول الدين كان مستوى التوتر النفسي لديهم منخفضاً قياساً بطلاب كلية التربية.
الفرض السادس:
توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين مستويات التدين (المرتفع، والمتوسط، والمنخفض) ونوع الكلية على درجات مقياس القلق.
وللتحقق من صحة الفرض استخدم تحليل التباين الثنائي، وقد تحققت صحة الفرض كما يظهر في جدول رقم 7.
جدول رقم 7: التحقق من صحة الفرض السادس:
مصدر التباين ... مجموع المربعات ... درجة الحرية ... متوسط المربعات ... قيمة" ف "
بين المجموعات ... 42764,56 ... 2 ... 21382,28 ... 563,52*
داخل المجموعات ... 8992,69 ... 237 ... 37,94 ...
المجموع ... 51757,25 ... 239 ... ...
* مستوى الدلالة = 0,001
وهذا يعني أن متوسطات التدين الثلاثة (المرتفع، والمتوسط، والمنخفض) لدى طلاب كل كلية كان بينها فروق ذات دلالة إحصائية مما يعني أن أصحاب التدين المرتفع في كل كلية كانت الفروق بينهم وبين أصحاب التدين المتوسط والمنخفض ذات دلالة إحصائية، وفي هذا تأكيد جزئي لما ورد في الفرض الرابع.
الفرض السابع:
توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين مستويات القلق الثلاثة (المرتفع، والمتوسط، والمنخفض) ونوع الكلية على درجات مقياس القلق.(/23)
وللتحقق من صحة الفرض استخدم تحليل التباين الثنائي، وقد تحققت صحة الفرض كما يظهر في جدول رقم 8.
جدول رقم 8: التحقق من صحة الفرض السابع:
مصدر التباين ... مجموع المربعات ... درجة الحرية ... متوسط المربعات ... قيمة" ف "
بين المجموعات ... 24316,14 ... 2 ... 12158,07 ... 15,33*
داخل المجموعات ... 187868,18 ... 237 ... 792,69 ...
المجموع ... 212184,33 ... 239 ... ...
* مستوى الدلالة = 0,001
وهذا يعني أن متوسطات القلق الثلاثة (المرتفع، والمتوسط، والمنخفض) لدى طلاب كل كلية كان بينها فروق ذات دلالة إحصائية مما يعني أن أصحاب القلق المرتفع في كل كلية كانت الفروق بينهم وبين أصحاب القلق المتوسط والمنخفض ذات دلالة إحصائية، وفي هذا تأكيد جزئي لما ورد في الفرض الخامس.
التوصيات والدراسات المقترحة
تبين لنا من خلال نتائج هذه الدراسة أن هناك علاقة عكسية بين التدين والقلق، كما تبين أن طلاب التخصصات الشرعية أكثر تدينا وأقل قلقا من طلاب التخصصات الاجتماعية. وبناء على نتائج الدراسة الحالية يقدم الباحث التوصيات التالية:
- أن يحرص واضعوا المناهج في الجامعات والمدارس على زيادة نصيب المواد الشرعية لما لها من اثر إيجابي على رفع مستوى تدين الطلاب وعلي خفض مستويات القلق لديهم. ويتم ذلك بالحث على أداء العبادات سواء الواجب منها والنافلة، والإكثار منها، واتباع هدى رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في جميع أمور الدنيا والآخرة.
- أن يحرص الأساتذة على زيادة مستوى الإيمان لدى طلابهم بالطرق المناسبة لما لذلك من نواتج حسنة على صحتهم النفسية. ومن ذلك حثهم على حفظ القرآن الكريم والمداومة على تلاوته، لما فيه من الخير العظيم، فذلك عبادة، وهو شفاء لما في الصدرو.
- حث أفراد المجتمع على الحرص على زيادة مستوى إيمانهم وتدينهم لأن في ذلك خير لهم في الدنيا بالبعد عن الاضطراب النفسي، وبالأجر والمثوبة من الله في الآخرة.(/24)
دراسات مقترحة
من خلال الدراسة الحالية ونتائجها يوصي الباحث بالدراسات المقترحة التالية:
- دراسة العلاقة بين التدين والقلق لدى طالبات الجامعة.
- دراسة العلاقة بين التدين والقلق لدى طلاب وطالبات الجامعة (دراسة مقارنة).
- دراسة العلاقة بين التدين والقلق لدى طلاب الجامعة السعوديين وغير السعوديين.
المراجع
1- محمد، درويش محمد. "مدى فعالية العلاج الديني في تخفيض القلق لدى طلاب الجامعة."، التربية، جامعة الأزهر، 51 (ربيع أول 1416 هـ)، 186 - 212.
2- الصنيع، صالح بن إبراهيم. " التدين والصحة النفسية ". بحث غير منشور، 1420هـ.
3- مرسي، كمال إبراهيم. القلق وعلاقته بالشخصية في مرحلة المراهقة: دراسة تجريبية. القاهرة: دار النهضة العربية، 1979 م.
4- الصنيع، صالح بن إبراهيم. دراسات في التأصيل الإسلامي لعلم النفس. الرياض: دار عالم الكتب، 1416 هـ.
5- Jung, C. G. psychology and religion: West and East. 2nd ed. London: Routedge & Kegan Paul , 1969.
6- فرانكل، فيكتور. الإنسان يبحث عن معنى: مقدمة في العلاج بالمعنى، التسامي بالنفس. ترجمة طلعت منصور. ط1. الكويت: دار القلم، 1402 هـ.
7- سيفرين، فرانك. علم النفس الإنساني. ترجمة طلعت منصور، وعادل عز الدين، وفيولا الببلاوي. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1978 م.
8- معلوف، لويس. المنجد في اللغة والأدب والعلوم. بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1966 م.
9- Rohrbaugh, J., and Richard Jessar. " Religiosity in Youth: A personal Control against Deviant Behaviour. "Journal of presonalty, 43, No. 1 (March 1975), 136 -55.
10 - القرطبي، محمد. الجامع لأحكام القرآن. ط1. بيروت: دار الفكر، 1407هـ.
11 - مصطفى، أحمد، وأحمد الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد النجار. المعجم الوسيط. استانبول: المكتبة الإسلامية، د. ت.(/25)
12 - الفيومي، محمد إبراهيم. القلق الإنساني: مصادره، تياراته، علاج الدين له. القاهرة: دار الفكر العربي، 1405 هـ.
13 - جمل الليل، محمد جعفر. مقياس القلق العام للراشدين: دراسة استطلاعية في المملكة العربية السعودية ". التقويم والقياس النفسي والتربوي، 4 (ربيع أول 1415هـ)، 313 - 329.
14 - الصنيع، صالح بن إبراهيم. التدين علاج الجريمة. ط 2. الرياض: مكتبة الرشد، 1419 هـ.
15 – السعدي، عبد الرحمن: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. ط4. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1417 هـ.
16 - حنبل، أحمد. المسند. ط 5. بيروت: الكتيب الإسلامي، 1405 هـ.
17 - أبو داود، سليمان. سنن أبي داود. ط1. بيروت: دار الحديث، 1394، حديث رقم 1319، 2: 78.
18 - كاريل، الكسيس. الإنسان ذلك المجهول. ترجمة عادل شفيق. القاهرة. الهيئة العامة للكتاب، 1973م.
19 – بيرت، سيريل. علم النفس الديني. ط 1. ترجمة سمير عبده. بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1405 هـ.
20- قطب. سيد. في ظلال القرآن. ط 12. جدة: دار العلم، 1406 هـ.
21- الكيلاني، نجيب. الصوم والصحة. ط 5. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1406هـ.
22 – Schumaker , J. F., ed Religion and mental health. New York: Oxford University press, 1992.
23- Ross, C. E. "Religion and Psychological Distress." Journal for the scientific study of Religion, 29, No. 2 (1990), 236 -45.
24- حوالة، محمد السيد. "القلق الأخلاقي وعلاقته بالقيم والمفاهيم الدينية لدى شرائح من الشباب المصري الجامعي: دراسة ميدانية. " رسالة ماجستير غير منشورة، كلية البنات، جامعة عين شمس، 1990 م.
25- البنا، إسعاد عبد العظيم. " دور الأدعية والأذكار في علاج القلق كأحد طرق العلاج النفسي الديني ". المؤتمر السنوي السادس لعلم النفس في مصر. القاهرة: الجمعية المصرية للدراسات النفسية، 1990 م، 51 – 68.(/26)
26- غلاب، محمود عبد الرحيم، ومحمد إبراهيم الدسوقي. " دراسة نفسية مقارنة بين المتدينين جوهرياً والمتدينين ظاهرياً في الاتجاه نحو العنف وبعض خصائص الشخصية. " دراسة نفسية، 4، ع 3 (يوليو 1994 م)، 337 - 375.
27 – الشويعر، طريفة. الإيمان بالقضاء والقدر وأثره على القلق النفسي: جدة: دار البيان العربي، 1408 هـ.
28- الشويعر، طريفة. " الالتزام الديني في الإسلام وعلاقته بقلق الموت. "رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية للبنات بجدة، 1409 هـ.
29- دليل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الرياض: إدارة الدراسات والمعلومات، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1415 هـ.
30- جمل الليل، محمد. مقياس القلق العام للراشدين: دراسة استطلاعية في المملكة العربية السعودية. الرياض: د. ت، 1416 هـ.(/27)
العنوان: العلامة إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ
رقم المقالة: 1099
صاحب المقالة: زياد بن عمر التكلة
-----------------------------------------
العلامة إسحاقُ بنُ عبدِ الرحمن آل الشيخ
(1276-1319)
هو الشيخُ الإمام، العالم، المحدّث، الرُّحْلة، إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي الحنبلي الأثري.
مولده ونشأته:
وُلد -رحمه الله- في الرياض سنة 1276 على المشهور -وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين- في بيت الإمامة والعلم والصلاح، ولما بلغ سنَّ التمييز أدخله والدُه -العالم المشهور- الكتّابَ، فقرأ القرآن، ثم حفظه كاملاً، وشرع في حفظ بعض المختصرات، وتوفي والدُه وهو صغير سنة 1285، فتولى رعايتَه والوصاية عليه أخوه الشيخ عبد اللطيف.
طلبه للعلم:
بعد وفاة والده؛ لازم أخاه عالمَ نجد الشيخَ عبدَ اللطيف، كما قرأ على ابن أخيه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف في جميع الفنون، وكذا قرأ على الشيخ حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن محمود، والشيخ عبد الله بن حسين المخضوب، والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد، وبرع في العلوم الشرعية.
ثم إن المترجَم سمت همَّتُه للاستزادة والتوسع في العلم، فارتحل إلى مكة في حدود سنة 1304، وسكن في رباطٍ عند باب دريبة، واستفاد من علمائها، ومن أشهرهم أحمد بن إبراهيم بن عيسى، والمحدّث المعمَّر محمد بن عبد الرحمن الأنصاري السهارنفوري الأثري (ت1308)، وكان هناك زميلاً وشيخاً للشيخين سعد بن عتيق وصالح القاضي.
رحلته إلى الهند ومقروءاتُه فيها[1]:
كانت الهند في ذلك الوقت قِبلة علم الحديث، وكانت مقصِدَ جماعة من علماء نجد، ممن ارتحل قبل المترجم، مثل الشيخين علي أبو وادي وسعد بن عتيق، فلما اضطربت الأمورُ في نجد؛ ارتحل المترجم إليها لطلب الحديث، في همة وشوق كبيرين، وذلك في رجب سنة 1309، وكان أول ما وصل ميناء بومبي، وفيها يقول المترجم:(/1)
(حضرت مجالس تحتوي على الأدب والغزل وشيء من فنون اللغة، والقلبُ إذ ذاك متوقِّد إلى لقاء علماء الحديث الأفاضل، ومشتاق إلى مجالسة الفحول الأماثل، فقلت:
وبرّأَني ذكرَى الرَّبابِ وزينبٍ ومن نَدْبِ أطلال الحِمى والمُحَصَّبِ
ومن مدح أيام الجَوَى وتغزُّلٍ بوصفِ غزال أَلْعَسِ الثَّغْرِ أشنبِ
وما وصفُك الحَسْنا يَهيجُ صَبابتي وما كان ذكراها وإنْ رقَّ مَطلبي
غَرامي بأصحاب الحديث وغيرُهم غَريمٌ إذا فارقْتُهم لذَّ مشربي!
سلامي عليهم ما حييتُ لأنهم شِفائي وتِرياقي وجملةُ مَطْلبي)
إلخ الأبيات.
فلم يلبث هناك إلا يسيراً، ويمم وجهه تلقاء العاصمة دِهْلي، حيث محدّث عصره الإمام السلفي نذير حسين الدِّهْلوي (ت1320) فوصل إليه في الشهر المذكور، وكتب له الإجازة، وقرأ عليه "شرح نخبة الفكر" قراءة شرح وتحقيق، ثم شرع في قراءة الصحيحين، فقرأ عليه أطرافاً من الستة، والموطأ، ومشكاة المصابيح، وتفسير الجلالين، وبلوغ المرام -كما في الإجازة المذكورة- وكتب فيها: (فعليه أن يشتغل بإقراء هذه الكتب وتدريسها، فإنه أهلها وأحق بها)[2].
واتفق أن قدم إلى دهلي تلك الأيام العلامةُ حسين بن محسن الأنصاري اليماني (ت1327)، فاستفاد منه المترجم شيئاً، ثم ارتحل إليه في "بهوبال" في شهر رمضان من السنة المذكورة، ويقول: (حصل لي منه الإقبالُ والقَبول، وقرأت عليه في الفروع والأصول، وحصل لي منه القراءة والإجازة).
كما سمع منه المسلسل بالأولية بشرطه، وكتب له إجازة مختصرة، ثم كتب له بعد مدة إجازةً مطولة، وذلك في السابعَ عشرَ من شعبان سنة 1315، ومما جاء فيها أنه أخذ من علم الحديث بحظ وافر.
قال المترجم: (قدمت بلد "مجلي شهر" وافداً على الشيخ العالم العامل المحدّث الشيخ محمد الهاشمي الجعفري القاضي الزينبي [ت1320هـ] لطلب الحديث، فأول حديث سمعته منه الحديث المسلسل بالأولية..).
وقرأ عليه أولَ بلوغ المرام، ورواه عنه مناولة، مع الإجازة العامة.(/2)
ثم في دهلي؛ التقى المترجم العلامةَ سلامة الله الجَيراجفوري (ت1322)، فقرأ عليه في المعقولات، وسنن ابن ماجه وغيرها، وحصل على إجازته.
وفيها التقى أيضاً العلامة المصنف وحيد الزمان (ت1338)، قاضي حيدر آباد، فسمع منه المسلسل بالأولية بشرطه، وقرأ عليه أوائل الصحيحين.
وذكر ابن قاسم والبسام والقاضي أن المترجم أخذ عن العلامة محمد بشير السهسواني (ت1326)، وهو ممن درّس في بهوبال ودهلي.
وكما أن المترجم حلَّ في الهند متعلماً مستفيداً فقد كان معلّماً مفيداً، وأخذ منه بعضُ علمائها، ومنهم العلامة يوسف الخانْفوري، الذي قرأ على المترجم في الحديث وأجيز منه في دهلي (كما في نزهة الخواطر 8/552).
كما طُبع للمترجم في الهند أرجوزةٌ مفيدة في التوحيد، وذلك سنة 1310، ويظهر أن رسالته الأخرى في الدفاع عن دعوة جدّه الإمام محمد بن عبد الوهاب؛ ألّفها إجابة لسائلٍ هناك.
وكان -مع دراسته- متواصلاً مع علماء بلده وغيرها، بالمكاتبة نثراً وشعراً، من ذلك ما بينه وبين صاحبه الشيخ سليمان بن سحمان (كما يظهر ذلك في ديوانه)، وممن راسلهم: عالم العراق الشيخ النعمان الآلوسي، والشيخ إبراهيم بن عبد الملك آل الشيخ، والشيخ عبد الله بن أحمد، والشيخ صالح القاضي، وغيرهم.
ومن أخباره التي رواها في الهند ما حدَّثَناه الشيخُ عبد الله بن حمود التويجري، قال: سمعت والدي يقول: حدثنا الشيخ عبد الله العنقري، قال: أخبرنا الشيخ إسحاق: (أنه لما كان في بهوبال حصل خلاف بين مملكتي إنجلترا وبهوبال، فأرسلت ملكة بهوبال هدية لترضية ملكة الإنجليز، متمثلة بنخلة جِذْعُها من ذهب، وثمارها من الأحجار الكريمة النادرة)!
ما بعد العودة من الهند:
تقدم أن المترجم سافر من الهند إلى مصر سنة 1312 أو بعدها، وتلقى عن علماء الأزهر، وقال العلامة البسَّام: (إنه بقي هناك مدة طويلة، واجتمع بابن أخيه أحمد بن عبد اللطيف، ورغّبه في الخروج معه إلى نجد، ولكنه امتنع.(/3)
وعاد من مصر إلى مكة المكرمة، واستفاد من علمائها ثانية، ثم عاد بعد هذه الرحلات العلمية الغنية إلى بلده الرياض في حدود سنة 1314هـ، وقد تضلع من العلوم والفنون، فجلس للتدريس والإفتاء، ورحل إليه الطلبة من أنحاء نجد، ولازموه واستفادوا منه.
تلاميذه:
منهم: ابنه الشيخ عبد الرحمن، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ فالح الصغير، والشيخ فوزان السابق، والشيخ صالح العثمان القاضي، والشيخ سعد بن عتيق -أخذا عنه بمكة- والشيخ يوسف الخانفوري الهندي، والشيخ عبد العزيز بن عتيق، والشيخ عبد الله بن فيصل، والشيخ سالم الحناكي، والشيخ عبد الله السياري، والشيخ عبد الرحمن بن داود، والشيخ مبارك بن عبد المحسن آل باز، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله الشمري، والشيخ محمد بن فيصل آل مبارك، والشيخ حمد بن ناصر العسكر، والشيخ صالح بن سليمان السلوم، والشيخ عبد العزيز النمر، وآخرون.
رحمهم الله رحمة واسعة.
من صفاته:
كان -رحمه الله- حسن السَّمْت، دائم البِشْر، مستقيماً، غيوراً على العقيدة وأمور الدين، كما تشهد بذلك رسائله وأشعاره، وذُكر في ترجمته أنه كان صادعاً بالحق، لا يخاف في الله لومة لائم، ومع مكانته ومنزلته عند الخاصة والعامة؛ فقد كان لا يحب الشُّهرة، ورُشّح للقضاء مراراً فامتنع، وكان على جانب من الأخلاق الرفيعة، وكان حَسَن التعاهد لزملائه والمشايخ، يصلهم بالرسائل ويهديهم الكتب النادرة، وذكروا أنه كان كثير التحري فيما يورده، وتظهر جوانب من صفاته ضمن ثناءات العلماء عليه، رحمه الله تعالى.
من أقوال العلماء فيه:
تقدمت بعض شهادات مشايخه له بالمعرفة والأهلية في الحديث.
وقال العلامة النعمان الآلوسي في رسالة كتبها له سنة 1310هـ:
(إلى الأخ في الله، العالمِ الفاضلِ..).
وقال شيخه العلامةُ محمد بن عبد العزيز المجلي شهري في إجازته له على هامش بلوغ المرام:(/4)
(العالم الفاضل، سلالة الكرام، وبقية العظام، الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الوهاب النجدي).
وقال عنه شيخه عبد الله بن حسين المخضوب:
(الشيخ العلامة، والقدوة الفهامة).
كما أثنى عليه شيخه عبد الله بن عبد اللطيف وغيره من علماء نجد، كما تجد في تقريظهم للأجوبة السمعيات.
ومدحه زميله الشيخ سليمان بن سحمان بعدة أبيات في ديوانه، منها:
فتى ألمعيٌ لَوْذَعِيٌّ مُهَذّبٌ سُلالَةُ أمجادٍ كِرامٍ ذوي مجدِ
فيا مَن زَكَتْ أَعْرَاقُه وَتَأَلَّقَتْ مَحَامِدُهُ في مَحْتِدٍ ذِرْوةَ المجد
ِ
وقال فيه الشيخ إبراهيم بن عبد الملك آل الشيخ:
إلى شمس الهدى بدر الدَّيَاجي وحَلاَّلِ الأمورِ المُدْلَهِمَّهْ
وقال زميله وتلميذه الشيخ صالح القاضي في تاريخه (78):
(عالم بارز، قرأ على علماء الهند والحجاز والرياض).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في الدرر السنية (12/433):
(هو الإمام العلامة، الحبر الفهامة، المحدّث الفقيه، الواعظ المحقق النبيه، العامل الزاهد التقي، الشيخ الفاضل).
وقال الشيخ سليمان بن حمدان في تراجم لمتأخري الحنابلة (99):
(العالم العلامة، القدوة العمدة الفهامة، المحدّث الرُّحْلة، الفقيه النبيه الفاضل، سلالة الأئمة الأمجاد، ومُلحِق الأحفاد بالأجداد).
وقال الشيخ إبراهيم بن عبيد في تاريخه:
(الشيخ الإمام، العالم العلامة المتقي، العارف بأصول الدين، والمجاهد لأعداء الله الملحدين).
ونقل عن الشيخ عبد الله بن محمد بن سليم: أنه كان يمدح ويثني على الشيخ إسحاق، ويقول عنه:
(هذا كلامُ الشيخِ العارف العالم).. إلخ.
ومدحه الشيخ فوزان السابق بأبيات، منها:
وذاك الذي يُدعى بإسحاقَ مَن غَدَا لِعِلْمِ نُصُوصِ الوَحْي خَيرَ ممارسِ
وَقُدْوَةَ خَيرٍ للثِّقَاتِ أُولي التُّقى ذوي الجَرْحِ والتعديلِ من كل فارسِ
وقال الشيخ صالح بن سحمان في نظمه لأئمة الدعوة (المبتدأ والخبر 2/56):(/5)
كذا الشيخُ إسحاقُ؛ فلا تنسَ ذِكْرَهُ فَأكْرِمْ بِهِ مِنْ أَلْمَعِيٍّ مُنَاظِرِ!
لَهُ هِمَّةٌ عُلْيَا، وقد أَزْمَعَتْ بِهِ إلى الهندِ كي يحظى بعلمِ الأكابرِ
وقال الشيخ محمد بن عثمان القاضي في تاريخه:
(العالم الجليل، والمحقق المدقق، والشيخ الورع الزاهد).
وقال إبراهيم بن سيف في تاريخه:
(الشيخ العلامة، المحدّث الفقيه، المحقق النبيه، العامل الزاهد، التقي الفاضل.. نبغ في عصره، وبرع في فنون العلم: الأصول، والفروع، والنحو، وغيرها، حتى صار إماماً يُقتدى به).
وفاته:
يصف الشيخ سليمان بن حمدان أُخريات حياة المترجم فيقول:
(ثم إنه لمّا عاد إلى وطنه؛ اشتغل بالتدريس والإفادة، وقُصد من أطراف نجد للأخذ عنه، فنفع الله به، أقام على ذلك مدة إلى أن وافاه الأجل المقدَّرُ، وذلك في تاسع عشري[3] شهر رجب عام ألف وثلاث مئة وتسعة عشر، قال ذلك تلميذه شيخنا الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، قال: ... وازدحم الناس على نعشه، وكان الجمع كثيراً، وتأسف الناس لفقده، رحمه الله، وعفا عنه).
وهكذا قضى -رحمه الله- عمره ما بين طلب العلم وتعليمه، ورثاه الناس بِمَرَاثٍ، منها قصيدة الشيخ فوزان السابق، ومطلعها:
على الحَبْرِ بحرِ العِلْمِ بَدْرِ المَدَارِسِ وَشَمْسِ الهُدى فَلْيَبْكِ أهلُ التَّدَارُسِ
فَلا نَعِمَتْ عَينٌ تَشُحُّ بمائِها وَقَلْبٌ مِنَ الأشجانِ ليس ببَائِسِ
ساق بعضَها ابنُ قاسم وابن سيف، وتمامَها المرشديُّ في "مقدمة الأجوبة الروَّافيات".
رحمه الله رحمة واسعة، وأجزل له الأجر والجزاء.
آثاره:(/6)
نظراً لقصر مدة عطائه واستقراره في بلده؛ فلم يخلّف إلا القليل من الرسائل والفتاوى، أشهرها "الأجوبة السمعيات لحلّ الأسئلة الروّافيات"، و"الرد على أمين حنش العراقي"، و"إيضاح المحجة في حكم الإقامة عند الكفار وأهل الضلالة"، و"مسألة العذر بالجهل"، و"أرجوزة مفيدة في التوحيد"، و"رسالة في تبرئة جدّه الإمام محمد بن عبد الوهاب من بعض ما افتراه أعداؤه"، وبضعة عشر رسالة قصيرة وفتوى مضمّنة في "الدرر السنية في الأجوبة النجدية"[4].
إضافة إلى مراسلات مع العلماء وقصائد، وقد أشار إلى بعضها الشيخ سليمان بن سحمان في ديوانه.
وحدثني معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي أن عنده جملة مخطوطة من أشعار الشيخ إسحاق، كما حدثنا سماحة الشيخ عبد الله بن عقيل عن شيخه سماحة المفتي محمد بن إبراهيم أن للشيخ إسحاق قصيدةً في الشوق إلى نجد، ولاشتهارها كان يحفظها ويتناقلها حتى النساء والصغار.
وذكر القاضي أن له كتباً عند ابنه الشيخ عبد الرحمن، وأظنها آلت إلى ابنه شيخنا محمد بن عبد الرحمن بن إسحاق، حفظه الله.
وأعلن الأخ الشيخ عادل بن بادي المرشدي عن جمعه لرسائل وآثار المترجم وإعدادها للطبع، يسّر الله ذلك.
ذريته:
خلّف المترجم ابنين -محمد وعبد الرحمن- وبنتاً.
فأما محمد؛ فتوفي بعد أبيه بسنوات، وأما عبد الرحمن فهو قديم المولد، وُلد سنة 1299 أو قبلها، وطلب العلم وأدرك، وكان نائباً لرئيس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرياض، وعُمِّر حتى جاوز المئة، ممتَّعاً بعقله وحواسه، وتوفي سنة 1407، وخلّف ذرية فيهم من أهل العلم والوجاهة والمكانة، وعلى رأسهم ابنه شيخنا المعمَّر الشيخ محمد، أمد الله عمره على الطاعة والعافية والإفادة، المولود سنة 1330، وشيخنا حفظه الله مُسْنِدُ نجد الآن، وآخر من علمناه يروي عن الشيخ سعد بن عتيق؛ قرين الشيخ إسحاق في جل شيوخ الرواية.
أهم مصادر ترجمته:(/7)
- ديوان سليمان بن سحمان (254، و255، و267-270، و331-332)، طبع الهند، سنة 1337هـ.
- وتاريخ نجد وحوادثها، لصالح القاضي، (78).
- والدرر السنية (16/433)، ط3.
- وتراجم متأخري الحنابلة (99).
- والأعلام (1/295).
- ومشاهير علماء نجد (122).
- ومعجم المؤلفين (1/341).
- وتسهيل السابلة (3/1734).
- وعلماء نجد (1/557).
- وتذكرة أولي النهى والعرفان (1/302 و339).
- والبيان الواضح (14).
- والمبتدأ والخبر (1/170).
- وروضة الناظرين (1/74 و109 و156 و157).
- والموسوعة في تاريخ نجد (127).
- ومعجم مصنفات الحنابلة (6/204).
- وجهود مخلصة (165).
- وموسوعة أعلام القرن الرابع عشر والخامس عشر (3/830).
- وموسوعة أسبار (1/196).
- إضافة إلى "مقدمة الأجوبة السمعيات" التي أخرجها أخيراً الأخ الشيخ عادل بن بادي المرشدي، وفقه الله، وفيها فوائد.
- وكذا "مقدمة الأرجوزة المفيدة في التوحيد"، بتقديم فضيلة الشيخ إسماعيل بن عتيق، حفظه الله تعالى.
كما سبق لي -منذ سنتين- أن ترجمتُ الشيخ إسحاق ترجمة مختصرة جداً، وذلك في مقدمة تحقيقي لرسالة النعمان الآلوسي له، التي ألحقتها بثبت النعمان، ضمن مشاركتي في لقاء العشر الأواخر في المسجد الحرام، وقد تابعت فيها المصادر، دون التدقيق في دراسة تواريخ رحلاته، فحصل لي بعض وهم، فاقتضى التنويه، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قلت: أفاد الشيخ سليمان بن حمدان: أنه رأى -بخط الشيخ إسحاق- على بعض كتبه جملةً من أخبار رحلته إلى الهند، ونقل معلومات مهمة، فاعتمدتُ عليها في هذا المبحث، مع إصلاح بعض التصحيفات في الأسماء والأماكن.
وللتنبيه؛ فقد ذكر في أحد المصادر: أن المترجَم سافر إلى الهند برفقة الشيخ علي أبو وادي وغيره، والصحيح أن رحلة الشيخ أبو وادي كانت سنة 1299، كما حدثنا مراراً خاتمةُ أصحابه في الرواية شيخُنا العلامة عبدُ الله بن عقيل، حفظه الله تعالى.(/8)
[2] نظراً لشح المصادر المتوفرة عن رحلة المترجم؛ فيُحتاج إلى الاجتهاد في ترتيب رحلته حسب التواريخ الموجودة.
فجاء النص على أنه تزامل مع سعد بن عتيق في مكة، وثبت أن حج ابن عتيق كان سنة 1304، كما توفي شيخهما محمد الأنصاري نزيل مكة سنة 1308.
ووصل المترجم بومبي، ثم دهلي في رجب سنة 1309، ثم رحل إلى بهوبال في رمضان من السنة المذكورة، مع النص أنه أقام عند نذير حسين تسعة أشهر في دهلي.
كما وصل مجلي شهر في خامس جمادى الآخرة سنة 1310، وكان في بهوبال سنة1310 (كما تدل رسالة النعمان الآلوسي له في غرة جمادى الآخرة منها).
وسافر من الهند إلى مصر سنة 1312 أو بعدها (كما يُستفاد من ديوان ابن سحمان 268)، ودرس على علماء الأزهر حيناً، وعاد منها إلى مكة، وأقام وتدارس العلم هناك.
ثم عاد قبيل وفاته إلى بلده الرياض، وكان فيها في حدود سنة 1314 كما هو تاريخ نسخ كتابه الأجوبة السمعيات، والتقاريظ عليه تشير إلى أنه موجود وقتها هناك.
فيظهر لي أن ترتيب أسفاره: إلى مكة سنة 1304 وبعدها، ثم العودة إلى نجد، ثم الرحلة لبمبي ودهلي في رجب 1309، ومكث فيها شهرين، ليرحل في رمضان إلى بهوبال، ومنها أرسل رسالة إلى الإمام عبد الرحمن الفيصل في قطر بتاريخ 8/4/1310، ثم كان المترجم في بلدة مجلي شهر في الخامس من جمادى الآخرة سنة 1310.
ويظهر لي أنه رجع من هناك إلى دهلي ليكمل سبعة أشهر عند نذير حسين، ويلتقي بغيره من العلماء؛ بدليل قراءته فيها بعض المعقولات، وهذا لعله من نصيحة النعمان الآلوسي له في رسالته السابقة، إذ استنصحه المترجم في قراءة هذه الكتب فأشار عليه بها، ثم لعله عاد إلى بهوبال، كما تفيد قصيدة ابن سحمان في معاتبة المترجم أنه رحل منها إلى مصر ليدرس في الأزهر، بعد أن كان أخبر أنه سيعود لموطنه سنة 1312.(/9)
ثم هل عاد بعدها للهند إلى بهوبال؟ عندنا تاريخ إجازة حسين بن محسن له في شعبان سنة 1315، لكن المصدر الناقل لها لا يدل أنه عاد إليها؛ ففيه أن المترجم التمس منه الإجازة المطولة بمعرفة بعض الأصحاب، فكتب له بالتاريخ المذكور، ولو كان ذهب إليه ما احتاج للواسطة، فضلاً عن الإشارة أنه كان في الرياض سنة 1314.
هذا ما أدى إليه اجتهادي، ضمن حدود اطلاعي، وأرجو أن تظهر مصادر أخرى تسعفنا أكثر، وبلغني من بعض الأصحاب مذاكرة أنه توجد نسختان من رحلة المترجم في مكتبة خاصة في نجد، فإذا ظهر النص كفانا الاجتهاد.
[3] كذا في المطبوع، وأراه تصحيفاً، فنقله غير واحد من المؤرخين كالعثيمين وابن عبيد والبسام عن المصدر ذاته: (التاسع والعشرين)، ولعله الصواب، وتوجد وثيقة نجدية مجهولة الكاتب للمرحلة ما بين سنتي (1285-1353) أرَّخت وفاة المترجم في شعبان، وهذا يُمكن الجمع بينه وبين النقل السابق أن الوفاة آخر رجب، والجنازة أول شعبان.
الموقع: هناك وجه آخر يقول: إن بعض المؤرخين كان يحذف نون (عشرين) عند إضافتها لما بعدها، فلا إشكال.
[4] أما ما ذكره أحد الأفاضل من أن له كتاباً ردّ فيه على أحمد زيني دحلان فأُراه وهماً؛ لأنه اعتمد على رسالة النعمان الآلوسي للمترجم، وفيها شكره على إرساله كتاباً في الرد على ابن دحلان، وليس فيها التصريح بأن الكتاب من تأليف المترجم، وأكاد أجزم أن المقصود كتاب العلامة محمد بشير السهسواني المسمى "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيح دحلان"، فهو الرد المشهور المطبوع وقتها، ومؤلِّفه من مشايخ المترجم، وكان في بهوبال التي حصلت منها مراسلة المترجم للعلامة الآلوسي، ومعروفٌ أن من عادة المترجم إهداء الكتب للمشايخ.(/10)
ومن القرائن أن الأستاذ مسعود الندوي -رحمه الله- نصّ في مراجع كتابه الحافل "محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه" (ص214 ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1404): أن النسخة التي رجع إليها من كتاب "صيانة الإنسان" للسهسواني هي النسخة التي كانت في يد الشيخ إسحاق، ولم يذكر هو ولا غيره في ترجمة وأخبار الشيخ إسحاق -ولا مَن نافح عن الدعوة السلفية النجدية وردّ على خصومها- أن للشيخ إسحاق تأليفاً أو ردّاً على ابن دحلان، الله أعلم.(/11)
العنوان: العلامة الأثري النعمان الآلوسي
رقم المقالة: 996
صاحب المقالة: محمد زياد بن عمر التكلة
-----------------------------------------
علامة العراق الأثري النعمان الآلوسي
(1252 - 1317هـ)
هو أحدُ أعلام المصلحين الذين انتشرت حسناتُهم ومؤلفاتهم في بلادهم وخارجها، وكان من العلماء الأذكياء المطّلعين المخلصين المتجردين للسنّة، من أسرة العلم الشهيرة.
موجز ترجمته:
هو خير الدين أبو البركات النعمان بن شهاب الدين أبي الثناء محمود بن عبد الله آلوسي زاده، الحسيني، البغدادي.
وُلد في يوم الجمعة ثانيَ عشرَ من المحرم سنة 1252، ونشأ في بيت أبيه عالمِ العراق صاحب التفسير الشهير "روح المعاني"، وقرأ القرآن الكريم، وحفظ ألفية ابن مالك، والرحبية، وغيرهما من المتون، وقرأ على والده: مغني اللبيب، وشرح الألفية لابن ناظمها، وكتباً في المنطق وغيره.
وبعد وفاة أبيه قرأ سائر العلوم النقلية والعقلية على علماء بغداد من تلامذة أبيه، مثل محمد أمين الواعظ السلفي، وغيره ممن ذكر في إجازته.
وبرع مبكراً، وساد، وألّف، ودرّس، ووعظ، وأفاد.
تولى القضاء في بلاد متعددة في شبابه - منها الحلّة - وحُمدت سيرته.
ثم ترك المناصب، وسافر إلى مصر سنة 1295 لأجل طبع تفسير والده، واتفق له أن رأى تفسير العلامة صديق حسن خان، فأُعجب بآرائه العلمية السلفية.
ثم حجَّ تلك السنة من هناك، والتقى بجمع من العلماء؛ منهم العلامة أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي، وتباحث معه في الكتب والعلم، وهو الذي دلّه على مصنفات وأحوال العلامة صديق حسن خان، ثم رجع إلى وطنه للتدريس والوعظ الذي برع فيه.
وسافر للشام سنة 1300 واجتمع بعلمائها وأخذوا عنه، واستجاز من بعضهم، وسافر منها للأناضول، ثم لعاصمة الخلافة إصطمبول لإعادة ما اغتصبته يد الجور إلى نِصابه، فعرَف له علماء تلك البلاد قدرَه، وقرر له الخليفة السلطان عبد الحميد الثاني مراتب عالية.(/1)
ثم عاد سنة 1302 إلى بغداد رئيساً للمدرسين في المدرسة المرجانية - وشرطُ واقفها أن يكون رئيسُها أعلمَ أهل البلد - فكان يدرّس فيها شتى الفنون من الصباح إلى المغرب، وحصر وقته في الإفادة والاستفادة، فتخرج على يده خلق، أجلُّهم ابنه علي علاء الدين، وابن أخيه محمود شكري الآلوسي، وعباس الشيخلي الملقب بأبي الصاعقة[1].
وكان يجلس في كل رمضان للوعظ في أحد المساجد الكبيرة، فيقصده الناس من أطراف البلد حتى يغَصّ المكان بالمستمعين، وقد وُصف بأنه جوزي زمانه في الوعظ.
وحج سنة 1311 واجتمع به العلماء، وأخذوا عنه، منهم العلامة شمس الحق العظيم آبادي.
وكان منذ صباه مشغوفاً بالمطالعة وميّالاً لجمع المخطوطات النادرة، وحصّل كتباً نفيسة لكبار الأئمة، ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ثم أوقف كتبه على المدرسة المرجانية قبل وفاته بعشر سنوات، وهي تزيد على ألفي كتاب نادر، أغلبها مخطوطات، وعمل لها ختماً خاصّاً، كما عيَّن لها محافظاً يتعهدها رجاء بقاء المنفعة، ووقف عليها داراً وأرضاً ودكاكين، ثم أوقف عليها بعده ولدُه (علاءُ الدين علي) مجموعةً من النفائس، فغدت المكتبة من أغنى خزائن العراق وأحفلها بالمخطوطات النادرة، وبقيت حسنةً جارية للمترجَم إلى يومنا هذا، وقد انتقلت المكتبة المرجانية إلى مكتبة الأوقاف العامة ببغداد.
وكان خطه رائقاً حسناً[2].
شيوخه:
ذكر العلامة النعمان في ثبته - الذي طبعه سنة 1301 - ثمانيةَ شيوخ بالإجازة، أحدهم أجازه بالطريقة القادرية، ثم حصلت له الإجازةُ بعد ذلك من غيرهم، فزاد في إجازته للقاسمي - التي كتبها قبل وفاته بسنة - شيخين بالإجازة، ولم يذكر بعضاً من شيوخه، وشيوخه هم:
1- والده مفتي العراق أبو الثناء محمود الآلوسي الحنفي صاحب التفسير المشهور (1217-1270) رحمه الله تعالى.(/2)
2- الأمير العالم المصنّف المكثر صِدِّيق حسن خان البُخاري القِنَّوجي نزيل بهوبال في الهند (1248-1307) رحمه الله تعالى[3].
3- الشيخ العلامة المؤرخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى الحنبلي (1253-1329) تدبَّجا في حج سنة 1295، رحمه الله تعالى.
4- الشيخ العلامة عيسى بن موسى البَنْدَنِيجي البغدادي الحنفي (ت1283) رحمه الله تعالى، ونص في إجازته للقاسمي أنه من شيوخه في الفقه الحنفي.
5- مفتي الشام ونقيب أشرافها السيد محمود بن نَسيب حمزة الحَمْزاوي الدمشقي الحنفي (1236 وقيل 1234-1305) أجازه في دمشق في 15 من شوال سنة 1300، رحمه الله تعالى.
6- الشيخ المعمَّر كاكه أحمد بن الشيخ معروف البرزنجي السليماني العلوي الشافعي (1207-1305) رحمه الله تعالى.
7- الشيخ عبد الغني الغُنيمي المَيْداني الدمشقي الحنفي (1222-1298) رحمه الله تعالى، وقد روى عنه كتابة كما قال عبد الستار الدهلوي.
8- والشيخ المحدّث العلامة حسين بن مُحْسن الأنصاري اليماني نزيل بهوبال في الهند (1245-1327) رحمه الله تعالى، والذي استجاز له منه تلميذه أحمد أبو الخير العطار كما ذكر في ثبته[4].
9- والشيخ حسين أفندي البشدري الكردي (1226-1322) رحمه الله تعالى.
فهؤلاء التسعة نص على إجازتهم العامة له.
10- السيد عبد الرحمن أفندي المحض القادري الكيلاني (1261-1345) رحمه الله تعالى، وهو أصغر من الشيخ سناً، وتوفي بعده، وقد نص العلامة النعمان أنه أجازه بالطريقة القادرية.
11- الملا عبد الرزاق بن محمد أمين البغدادي، نص أنه من شيوخه في الفقه الحنفي، وأنه أخذه عن العلامة ابن عابدين صاحب الحاشية، وعن الشيخ سعيد الحلبي، رحمهم الله تعالى.
12- أبو بكر بن محمد الهاشمي الكردي، نص الكتاني في فهرس الفهارس أن النعمان أخذ عنه الطريقة النقشبندية.(/3)
13- محمد أمين الواعظ السلفي، نصّ محمود شكري الآلوسي أنه تلقى عليه مختلف العلوم النقلية والعقلية، ولم أقف على إجازة للنعمان منه فيما اطلعت.
من ثناء أهل العلم عليه:
1- أطبق مترجموه على الثناء عليه، وأختار من كلام ثلاثة علماء، أعد كتابتَهم عيونَ تراجمه:
فقال عنه العلامة صديق حسن خان: "حِبِّي في الله ربي، أظهر الغيب المبرأ عن كل شين وعيب.. وبرع ، وساد، وألّف، وأفاد، حتى فاق - مع كونه شابّاً - الشيوخَ، وثبت له في كل علم أتم الرسوخ، وصنّف جملة صالحة من التصانيف، وحرر زبراً نافعة من التآليف.. وله نثر ونظم، يزري باللؤلؤ والنجم.. تفرد في الفحول بقوارع وعظه، وأذاب القلوب بزواجر لفظه". (من ترجمته في التاج المكلل).
وقال عنه ابنُ أخيه علامة العراق محمود شكري الآلوسي: "لم يُقبِل منه العِذار، إلا وقد جمع من الفضائل ما لا يسعه أسفار، ولم يبلغ سن العشرين، إلا وصار من الأساتذة المعتبرين.. له المحبة التامة بالعلم وذويه، والشغف الوافر بالفضل وحامليه، سيما ما كان عليه السلف الصالح، من الطريق المستقيم الواضح، فقد طوى قلبه على محبتهم، وسلك على منهجهم وطريقتهم، فأحيى ذكرهم بعد اندراسه، وأوقد مصباح هديهم بعد انطفاء نبراسه، سيف الحق المسلول على أهل البدع والأهواء، والبلاء المبرم على من خالف الشريعة الغراء، لا يجنح لتأويل، ولا يميل إلى زخرف الأقاويل، فهو سلفي العقيدة، ويا لها من عقيدة سديدة، آمرٌ بالمعروف ناهٍ عن المنكر، صادع بالحق كلما ظهر، فلذا كثُر معاندوه، وخصماؤه وحاسدوه، فإن الحق صعب على المغلوب، وترك مألوف العوائد مما تأباه القلوب..". (من ترجمته في المسك الأذفر).(/4)
وقال العلامة محمد بهجة الأثري: "العالم المصلح الكبير، العلامة.. من أولئك العلماء المصلحين الذين جمعوا بين الجرأة على الدعوة، والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة.. وحَسْبُ من نشأ في هذه البلاد في تلك الأيام الحالكة فخراً أن يكون مثل النعمان في استقلاله واعتداله، وجرأته على الدعوة ومجاهدة فريق الجمود والتقليد.. طالعتُ كتبه - وأكثرها في الجدل - فرأيت منه عالماً ضليعاً، وأديباً جليلاً، نزيه القلم، أديب النفس، معتصماً بحبوة الجِد، متنزهاً عن العبث، منصفاً وعدلاً في الحكم، واسع الحلم، شديد التحرِّي للحق، كما أخذتُ منها أن عقله كان أكبر من علمه، وعلمه أبلغ من إنشائه، وإنشاؤه أمتن من نظمه.
وحُدِّثت أنه كان جواداً معطاءً، يجود بنفسه لسائله، وفيّاً زكيّاً، تقيّاً نقيّاً، ورعاً زاهداً، يأخذ ما صفا، ويدع ما كدر، حفيّاً بالأهل وذوي القربى والأصحاب، منشطاً لأهل العلم، مستقيماً في العمل، حلو المفاكهة، لطيف المحاضرة، بشوش الوجه". (من ترجمته في أعلام العراق).
2- ومن الثناءات تلك التقريظات الكثيرة لمصنفات العلامة النعمان، مثل "جلاء العينين"، و"غالية المواعظ"، وأختار منها واحدةً لأخيه الشيخ أحمد شاكر الآلوسي، إذ قال في تقريظه للجلاء: "شقيقي وساعدي وعضدي، المولى الأعلم، والكهف الأعظم، وركن التقوى الأقوم، فخر السلف، وفخر الخلف، من نَشَر مطويَّ العلوم بالمنطوق والمفهوم، ذخري وسندي مولاي السيد نعمان خير الدين أفندي، لا برح محروساً من طوارق الزمن، مدفوعاً عنه جميعُ الإِحَن، ولا برح مشيداً لشريعة جده سيد المرسلين، ناشر لواء الفوائد من سيرة السلف الصالحين، نائلاً ما أمّله من المقاصد، قاهراً كل مسود معاند، آمين".
وممن أطنب في الثناء على العلامة النعمان: شيخ الصوفية في عصره أبو الهدى الصيّادي[5]، وذلك في تقريظه لغالية المواعظ، فتأمل!
3- وهذه ثناءات من مصادر مختلفة غير ما تقدم:(/5)
قال مفتي الشام ونقيبُ أشرافها الشيخ محمود بن نسيب الحمزاوي في إجازته المذكورة في هذا الثبت: "وإن ممن لاحظَتْه العناية، وشمله التوفيق والهداية، فسابق في ميدان العلوم، على طرف الذكاء والفهوم، وتحلَّى بتحرير درر المسائل، وغرر المقاصد والوسائل، بين كل باحث وسائل، الفاضل الكامل، والعالم العامل، عمدة العلماء المحققين، وقدوة الفضلاء المدققين، وناشر لواء الإفادة للطالبين، والاستفادة للسائلين، السيد الشريف الحسيب النسيب، سيدنا السيد نعمان أفندي ابن العلامة الشهير والمحقق النحرير السيد محمود أفندي الآلوسي مفتي العراق، أدام الله تعالى عليه أمداده، وتوفيقه وإسعاده، فإنه أفاد واستفاد، وتفنن وأجاد".
ووصفه العلامة الشهير محمد بشير السَّهْسَواني في "صيانة الإنسان" (185) بالعلامة، وكذلك وصفه الإمام المحدّث محمد ناصر الدين الألباني في مقدمة تحقيقه للآيات البينات (6).
وقال العلامة المحدّث شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود" (9/144 العلمية): شيخنا العلامة الفقيه خاتمة المحققين. ووصفه في "الوجازة في الإجازة" (42): بالشيخ العلامة الفهامة.
ونعته العلامة أحمد بن إبراهيم بن عيسى في إجازته له بالأخ البارع النبيل، والسيد الجليل، العالم العلامة، والحبر البحر الفهامة.
وحلاه علامة الشام جمال الدين القاسمي في سجل إجازاته (ص28) بفاضل الزَّوْراء.
وقال العلامة الأديب عبد الرزاق بن حسن البيطار: العلامة الفريد، ذو الرأي السديد، والقَدْر الوحيد، المرحوم نعمان أفندي. (في إجازته لعلي بن النعمان الآلوسي، التي ساقها أخونا الفاضل الشيخ محمد بن ناصر العجمي في كتابه: "أديب علماء دمشق الشيخ عبد الرزاق البيطار" ص78).
وقال علامة نجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ في رسالة بتاريخ 23/5/1306:(/6)
"من عبد الله بن عبد اللطيف إلى حضره الجِهبِذ الأجلّ الفهامة، والنبيل المحقق العلامة، من اقتفى أثر العلماء الأعلام، وارتقى إلى ذُِروة سَنام الدعوة إلى الدين والأعلام، واشتُهر في عصره ببيان ما اندرس من أصول الدين وحقائق الإيمان والإسلام، بعد انطماس أعلامه، وأفول شموسه، ونسيان آياته، وجهل الأكثرين له [..]، الإمام العَلَم المفخَّم، والباذخ المقدَّم، السيد خير الدين نعمان بن السيد شهاب الدين محمود الآلوسي، سلمه الله تعالى، وأطلع شمس توفيقه في سماء الهداية والدراية والرواية والتحقيق، وفتح عليه من حقائق المعارف ولطائف العلوم ما يُسْلا به عن أهل البلاء والتعويق، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فالموجب للكتاب إبلاغ حضرة السيد المبجَّل السلام الأعم والثناء الأتم..". (زهر الخمائل ص43 ط2).
وحلاَّه الشيخ النسابة المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى بالسيد الإمام، وذلك في إجازته للعلامة ابن سعدي (خ)، وإجازته لعلامة الكويت عبد الله بن خلف الدحيان، والتي أوردها صاحبنا الشيخ محمد بن ناصر العجمي في كتابه الحافل عنه (ص266).
ووصفه عالم جدة الشيخ محمد بن حسين الفقيه: بالإمام مفتي بغداد. (في الكشف المبدي لتمويه أبي الحسن السبكي تكملة الصارم المنكي ص176).
وقال الشيخ صالح بن دخيل الجار الله البُرَدي: شيخنا العلامة السيد نعمان آلوسي زاده. (من رسالة له للعلامة الدحيان، أوردها الشيخ العجمي في الكتاب السابق ص59).
ووصفه مسند عصره العلامة عبد الحي الكَتّاني بالعلامة الجليل. (في فهرس الفهارس والأثبات 2/672).
مؤلفاته:(/7)
1- جلاء العينين بمحاكمة الأحمدين، طُبع في بولاق سنة 1298 ثم تعدد طبعه وتصويره، وهو أجلّ كتبه وأشهرها، وأثنى عليه الكثيرُ من العلماء الأجلاء في شتى البلدان، منهم صديق حسن خان؛ ومحمود شكري الآلوسي؛ ومحمد بهجة الأثري في ترجمتهم للنعمان، ومنهم محمد بشير السهسواني في صيانة الإنسان (185)، ومسعود الندوي في كتابه: محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه (213).
2- الطارف والتالد في إكمال حاشية الوالد، وهي على القطر لابن هشام، طُبع في القدس سنة 1320، وأعيد تصويره بأخرة بدار البصائر.
3- غالية المواعظ، طُبع في بولاق سنة 1301، وأُعيد طبعه في مصر، ثم طُبع حديثاً بدار المنهاج في جُدة سنة 1425[6].
4- ثبته، وقد طُبع أول الكتاب السابق، وأعدتُ تحقيقه، وله أيضاً ثبتٌ كبير.
5- الأجوبة العقلية لأشرفية المحمدية، طُبع في مطبعة كلزار حسني في بمبي في الهند سنة 1314.
6- سلس الغانيات في ذوات الطرفين من الكلمات، طبع في المطبعة الأدبية في بيروت سنة 1319.
7- الحباء في الإيصاء، أو الحبايا في الوصايا، طبع في الآستانة، وأخبرني فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن جاسم الجنابي أنه حققه، وأرسل لي عمله مشكوراً.
8- الجواب الفسيح لما لفّقه عبد المسيح، طُبع في المطبعة الإسامية في لاهور سنة 1306 أو 1307.
9- الآيات البينات في عدم سماع الأموات، ألفه خلال يومين؛ وذلك بسبب إرجاف بعض الحشوية عليه في هذه المسألة وإثارتهم للغوغاء إثر درس له في رمضان سنة 1305، وطُبع الكتاب بتحقيق محدّث العصر الإمام الألباني في المكتب الإسلامي سنة 1398، ثم تكرر طبعه.
10- شقائق النعمان في رد شقاشق ابن سليمان، طُبع في مطبعة الفلاح في مصر سنة 1313.(/8)
16-11- ومن آثاره المخطوطة: صادق الفجرين في جواب البحرين: فيما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، والإصابة في منع النساء من الكتابة[7]، وحَور عيون الحُور، والأجوبة النعمانية عن الأسئلة الهندية، ومختصر ترجمة الإمام أحمد لابن الجوزي، وسؤال بَصْري حول مَنْ رفع الخمس من تمر عقارات الحكومة على نية الزكاة.
ويُنظر عن آثاره: أعلام العراق، ومقدمة الدر المنتثر (35)، وفهرس مكتبة الأوقاف العامة ببغداد (1-4).
17- إضافة إلى فتاويه ومكاتباته ومراسلاته الكثيرة مع علماء ومصلحي العالم الإسلامي، من أمثال العلامة صديق حسين خان، والشيخ إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ، والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ علي آل سليمان الكويتي، وغيرهم، ولو جُمعت هذه المراسلات لخرجت معلمة نفيسة عن تاريخ بدايات إحياء الدعوة السلفية المباركة في عصرنا الحديث، وقتَ ضيق الأحوال والمحاربة الشعواء لها[8]، فضلاً عن الفوائد العلمية الكثيرة.
وفاته:
توفي رحمه الله صبيحة الأربعاء 7 من المحرم سنة 1317 أيام الوالي نامق باشا الصغير، وشُيِّع جثمانه تشييعاً مهيباً إلى المدرسة المرجانية، حيث دُفن فيها.
وقد ولد له أربعة أولاد، واشتُهر منهم محمد ثابت، وعلي علاء الدين، رحم الله الجميع.
مصادر ترجمته:(/9)
التاج المكلل (513)، والدر المنتثر في رجال القرن الثاني عشر والثالث عشر (34)، والمسك الأذفر (110)، والوجازة في الإجازة (42)، وحلية البشر (3/1571)، والنفح المسكي (خ)، وتحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق (خ)، والعقد اللامع بآثار بغداد والمساجد والجوامع (370)، ومجلة المنار (2/206)، وتاريخ الأسر العلمية في بغداد (220)، وفيض الملك المتعالي لعبد الستار الدهلوي المكي (3/224)، وهدية العارفين (2/496)، ومجلة لغة العرب (4/343-346 و399-402)، وأعلام الفكر الإسلامي لتيمور (306)، وفهرس الفهارس والأثبات (2/672)، والأعلام (8/42)، ومعجم المؤلفين (4/34)، والأعلام الشرقية (1/419)، وأعلام العراق (60)، وتاريخ الأدب العربي في العراق (2/59، 144)، ونفحة البشام للقاياتي (32)، وتاريخ العراق بين احتلالين (8/134)، وتاريخ علماء بغداد في القرن الرابع عشر (695)، وحياة المحدث شمس الحق وأعماله (273)، ومعجم المعاجم والمشيخات (2/310)[9].
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وذكرت في تحقيقي لثبته جماعة ممن يروون عنه بالإجازة، وجملة من اتصالاتي به، وأعلاها عن شيخ الحديث في العراق صبحي البدري السامرائي - حفظه الله تعالى - إجازة، عن أبي الصاعقة، عنه.
[2] انظر مثاله في رسالته للشيخ إسحاق آل الشيخ، والأعلام (8/42)، وطُرة كتاب التحليل لشيخ الإسلام ابن تيمية (صورته في كتاب الرسائل المتبادلة بين القاسمي ومحمود شكري الآلوسي، باعتناء الأخ المفضال الشيخ محمد بن ناصر العجمي ص52)، ورسالة منه للشيخ علي آل سليمان (أوردها العجمي في مقدمته لروضة الأفراح ص64)، وكتاب الآيات البينات (ص45).(/10)
[3] كان بداية الاتصال بينهما لما زار العلامة النعمان مصر سنة 1295، فاطلع على تفسير القنوجي المسمى "فتح البيان" فأُعجب بعلمه ونَفَسه السلفي، فلما حج تلك السنة طفق يسأل عن الرجل ومؤلفاته، فوفقه الله لرجل خبير بأحواله، وهو العلامة أحمد بن إبراهيم ين عيسى النجدي، فزوّده من مؤلفاته ما زاده إكباراً له وشوقاً، فلما قفل إلى بغداد سنة 1296 أرسل إليه في الهند يستجيزه، فأجابه، بل تدبَّجا، وبقيت بينهما المراسلات والمساعي في طبع الكتب العلمية إلى أن فرَّق بينهما الحِمام، وبعد ذلك نرى في رسالته للعلامة إسحاق آل الشيخ ترحّماً على شيخه القنوجي وتتبعاً لمآل مصنفاته ومكتبه وأسرته، كما أن العلامة النعمان أوفد إليه ولده علي علاء الدين للهند سنة 1299 في مصلحة كتبه وكتب أبيه أبي الثناء، فبقي في ضيافته سبعة عشر يوماً معزَّزاً مكرَّماً، وقرأ عليه – مع انشغاله بأمور الحكم - وعلى شيخه العلامة حسين بن محسن الأنصاري، وحصل على إجازتهما.
ومن مراسلاتهما رسالة من النعمان في 5 من شعبان 1298 يسأل فيها عن حكم ما يسمِّيه الصوفية النقشبندية: "الرابطة الشريفة"، وصدَّرها بقوله: ما يقول مولانا الأمير السيد النحرير، النواب المفسر الشهير، مقتدى الأعاظم، ومن لا تأخذه في الله لومة لائم، متع الله المسلمين بطول بقاه، وقمع به البدع وأناله في الدارين مُناه.. الخ. (انظر الرسالة وجوابها في التاج المكلل 515-516).
وقد ترجم العلامة النعمان شيخه ترجمة عطرة في كتابه جلاء العينين (62-64 دار المدني)، كما أن العلامة القنوجي ترجم للنعمان ترجمة طيبة في التاج المكلل (512-515)، رحمهما الله تعالى، وجزاهما عن نصرتهما للسنة خيراً.(/11)
[4] أفادني بذلك الأخ الشيخ خالد السباعي المغربي وفقه الله وجزاه عني خيراً، ثم أرسل لي الأخ الشيخ أحمد عاشور تلخيصه للثبت المذكور، فاستفدت منه، وهو مصدر مهم في ترجمة العلامة النعمان، ولا سيما في مروياته وإجازاته.
[5] جمع ما كُتب فيه - مدحاً وقدحاً - الأستاذ البحَّاثة حسن السماحي سويدان في كتاب بعنوان: "أبو الهدى الصيادي في آثار معاصريه"، وهو كتاب مهم لمعرفة أسرار هذه الشخصية العجيبة.
[6] ومن المؤسف أن هذه الطبعة حُذف منها أمور، كما أُزيلت التقاريظ عدا تقريظ الصيادي!
[7] قال العلامة محمد بهجة الأثري: إن المترجَم ألّف هذا الكتاب وكتاب غالية المواعظ ولا يزال عنده بعض التأثر بمحيطه الجامد.
[8] ومن عرف ظروف الزمان والمكان علم قيمةَ أوائل المصلحين السلفيين في عصرنا - كالعلامة النعمان، والعلامة القاسمي - فبضدها تتميز الأشياء، واعتُذر لهم على ما في بعض كلامهم من عبارات وأفكار منتقدة أضحت أمورها جليّةً الآن، وعرف قيمةَ ذلك التحقيق الكثير والتجرُّد الذي كان عندهم في تلك الحقبة، وقدّر مجاهدتهم في سبيل التصفية والتنقية وتتبعهم المتزايد للسنّة إلى الممات، فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم خير الجزاء على جهدهم وجهادهم.
[9] ووقع خطأ في (تراجم الأعلام المعاصرين) لأنور الجندي رحمه الله، ص475، إذ وضع عنواناً للترجمة هكذا: "نعمان أبو الثناء الألوسي صاحب روح المعاني"، فاختلط عليه الأب صاحب التفسير بابنه النعمان المترجَم، والكلام هناك كله عن الأب.(/12)
العنوان: العلامة الإمام محمد بن صالح العثيمين
رقم المقالة: 1496
صاحب المقالة: محمد زياد بن عمر التكلة
-----------------------------------------
العلامة الإمام محمد بن صالح العثيمين
(1347-1421هـ)
هو سماحة الشيخ الإمام العلامة القدوة فقيه العصر، أبو عبدالله، محمد بن صالح بن سليمان بن عبدالرحمن بن عثمان (الملقب بـ عثيمين) بن عبدالله، من آل وهبة من تميم.
وأمه هي ابنة الشيخ الصالح عبدالرحمن بن سليمان آل دامغ، من أسرة معروفة بتعليم القرآن في عنيزة.
النشأة وطلب العلم:
وُلد رحمه الله في مدينة عنيزة في السابع والعشرين من رمضان سنة 1347، ونشأ في بيئة صالحة، فقرأ القرآن في الكتّاب على جده لأمه الشيخ عبدالرحمن الدامغ إمام مسجد الخريزة، وبعد هذه القراءة يقول المترجَم: "وبعد أن أنهيت هذه القراءة انتقلت إلى مدرسة أخرى، هي أيضاً يدرس فيها ابن عم جدي رحمه الله، واسمه عبدالعزيز بن صالح بن دامغ، يدرّس فيها القرآن، وشيئاً من الأدب، وشيئاً من علم الحساب، وبقيت هناك حتى أدركت منها ما شاء الله، ثم بدا لي أن أقرأ القرآن عن ظهر قلب، فدخلت مدرسة يدرّس فيها علي العبدالله الشحيتان أحد المدرسين في عنيزة، وحفظت القرآن فيها عن ظهر قلب"، وذكر أنه أتمَّ حفظه وعمره أحد عشر عاماً تقريباً.
وحبب الله إليه العلم مبكراً، فالتحق بتوجيه من والده بحلقة الشيخ محمد بن عبدالعزيز المطوع وقد ناهز الحلم، فدرس على يديه المتون المختصرة، مثل منهج السالكين ومختصر الواسطية كلاهما للعلامة ابن سعدي، والآجُرُّومية والألفية، وحفظهما، ويقول عن شيخه: "كان جيداً في علم العربية، أدركتُ منه كثيراً".
ثم ارتقى إلى حلقة علامة عنيزة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -وبينهما قرابة- وعمره 16 أو 17 سنة كما يقول، فلازمه ملازمة تامة، وبرَّز على أقرانه، وأدرك من سبقه، وبه تخرج.(/1)
يقول المترجم: "وهو الذي أدركت عليه العلم كثيراً، لأنه رحمه الله له طريقة خاصة في تدريسه، وهو أنه يجمع الطلبة على كتاب واحد، ثم يقوم بشرحه، أي مادة كانت، حتى أحياناً نقرأ عليه في التفسير فيفسر لنا القرآن الكريم، ما يعتمد على كتاب آخر، يفصِّله، ويحلل ألفاظه، ويستنبط ما يستنبط منه من فوائد، درسنا عليه رحمه الله، وكان مركّز دروسنا عليه في فن الفقه وقواعده وأصوله، وقد حصّلنا ولله الحمد عليه شيئاً كثيراً، بالإضافة إلى ذلك كان يدرّسنا في التوحيد، ويدرّسنا في النحو، وبقينا على هذا مدة معه رحمه الله، وفي الحقيقة أن له علي فضلاً كبيراً من الله سبحانه وتعالى، ذكر لي أن والدي رحمه الله وكان في الرياض -أول ما بدأ التطور في الرياض- أحب والدي أن أنضم إليه هناك، ولكن شيخنا رحمه الله عبدالرحمن بن سعدي كتب إليه يقول: دعوا لنا هذا يكون من نصيبنا، هذا الولد يكون من نصيبنا، فجزاه الله عني خيرا".
وقال الشيخ في مكان آخر: "والحقيقة أن انتقال والدي رحمه الله إلى الرياض كشف لي مدى الحب الذي يكنّه لي الشيخ السعدي رحمه الله، إذ أصر في طلب بقائي بجواره في عنيزة للاستزادة من العلم، وكاتب والدي فوافق، فبقيت بجوار الشيخ السعدي".
ثم يواصل الشيخ كلامه الأول قائلا: "بقيت عنده مدة، ثم انقطعتُ عن الدراسة لأنه حصل عند الناس نشاط في الأراضي في عمارتها في الغرس، في مكان يقال له الوادي، وكنا نحن من الذين اشتغلوا في ذلك مدة، ولكن الله سبحانه وتعالى منَّ بفضله فعدنا إلى الدراسة على الشيخ رحمه الله".
قلت: ذكر الشيخ علي الشبل أن هذا الانقطاع دام ثلاث سنوات، وأن عودة المترجَم للعلم كانت بسبب العلامة المربي ابن سعدي، حيث افتقده، فسأل والده عن سبب تخلفه عن الدراسة، فأعلمه بالسبب، فطلب العلامة ابن سعدي من والد المترجم أن يرجعه للحلقة، وكان ذلك ولله الحمد[1].(/2)
فكانت استفادته الكبرى من العلامة ابن سعدي، واستفاد كذلك من بعض مشايخ عنيزة، مثل قاضيها الشيخ عبدالرحمن بن عودان في الفقه والفرائض، والشيخ علي بن عبدالله الشحيتان في مبادئ العلوم كما تقدم، والشيخ علي بن حمد الصالحي، وشيخنا عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل، والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام.
وكان إلى ذلك كثير القراءة والمطالعة، ويستفيد ويستعير الكتب من مكتبات عنيزة، مثل مكتبة الجامع، ومكتبة قاضيها الشيخ عبدالله بن مانع رحمه الله، ومكتبة قاضيها شيخنا ابن عقيل، فقد رأيت في مكتبته بعض المطبوعات القديمة كتب على غلافها استعارة المترجَم لها.
وكانت له عناية خاصة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، رحم الله الجميع[2].
وأخبرني شيخنا العلامة عبدالله بن عقيل أنه كان إبان توليه قضاء عنيزة (سنة 1370 وما بعدها) ينفرد كل ليلة مع المترجَم لتحضير دروس شيخهما العلامة ابن سعدي من الغد ومراجعتها، كما أخبرني أن الشيخ المترجَم كان متوقد الذكاء جيد الذهن نجيباً منذ صغره، معروفاً بذلك عند مشايخه وأقرانه.(/3)
ومع تقدم الشيخ ابن عثيمين في العلم لم تقف همته عند ما استفاده في بلده، بل كان أفقه أسمى من ذلك، يقول رحمه الله: "وفي عام 1372 للهجرة أشار علينا بعض الإخوان[3] أن نلتحق بالمعاهد العلمية التي فُتحت بالرياض، واستشرت شيخنا عبدالرحمن في ذلك، وأشار عليّ أن أدرس فيها، وافق على ذهابي لأنني سأذهب إلى طلب العلم.. وفعلاً ذهبت إلى هناك، ودرست في المعهد، واتصلت بشيخنا الثاني عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وكان لي عليه دروس في بيته خاصة، وكذلك أيضاً في المسجد، قرأنا عليه في علم الحديث، لأنه كان -وفقه الله وأمد في حياته على خير الإسلام والمسلمين- كان له إلمام كبير في علم الحديث ورغبة أكيدة، وفتح لنا جزاه الله خيراً أبواباً جيدة في هذا الموضوع، فقرأنا عليه من صحيح البخاري، وقرأنا عليه أيضاً في مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولا يحضرني الآن كل ما قرأت عليه[4]، المهم أنني انتفعت بقراءتي عليه من حيث التوجيه والانتقال من العكوف على الكتب الفقهية وتمحيص الأقوال وتلخيصها؛ انتقلت من هذه المرحلة إلى مرحلة الحديث، ولست من الذين يصح أن يُنسبوا إلى علم الحديث، ولكني اتجهت إلى علم الحديث.
في الرياض ما اتصلتُ بغيره، وكان الأثر المباشر من الشيخ نفسه، وأيضاً الإنسان إذا تذوق العلم وعرف فائدته يكون له حافز من نفسه".
ويقول: "كان تأثري بالشيخ عبدالعزيز لعنايته بالحديث، وأخلاقه الفاضلة، وبسط نفسه للناس".(/4)
ويقول: "بقيت في الرياض إلى سنة 1373.. أتممنا الدراسة في المعهد لأننا درسنا من السنة الثانية، وفي ذلك الوقت كان نظام القفز، أن الطالب يدرس في الفترة الصيفية دروس السنة المستقبلة، ثم يمتحن فيها في الدور الثاني، ويرتقي إلى السنة الثالثة، فأنا قفزت، قرأت الثانية وتخرجت منها طبيعيا، ثم قفزت، وأدركت الثالثة، ثم أخذت الرابعة سنة 74 بالانتساب، لأن المعهد العلمي كان قد فُتح في عنيزة، وكان محتاجاً إلى المدرسين، فرجعت في عام 74 إلى عنيزة، وابتدأت التدريس في معهد عنيزة من عام 1374، وأخذت السنة الرابعة بعد ذلك بالانتساب، وبقيت هكذا منتسباً؛ حتى أتممت ولله الحمد كلية الشريعة".
قلت: وكان تخرجه سنة 1377 مع الدفعة الثانية من الكلية، وكان يذهب للرياض للاختبار نهاية كل سنة دراسية.
ومن مشايخه في الدراسة بالرياض: العلامة محمد الأمين الشنقيطي، -وكان المترجَم يقول عنه: إنه من جهابذة العلماء وفحولهم-، والشيخ عبدالرزاق العفيفي، والشيخ مناع القطان، وغيرهم.
ويقول الشيخ عبدالله الداود عضو الإفتاء: إن الشيخ عندما قدم الرياض كان مميزاً بالعلم والفهم، وكان يشير إليه الطلاب بالتميّز.
وهكذا نجد أن المترجَم تأصّل علماً وتربية على يد إمامين كبيرين، فتأثر بشيخه ابن سعدي في التوسع والترجيح في الفقه، وتأثر بابن باز في الحديث والتجرد له، وكان أثرهما فيه واضحاً، فجمع بين منهج الفقه ومنهج الحديث.
مرحلة التدريس والإفادة:
بعد التضلُّع من العلوم استقر المترجَم في عنيزة مطلع سنة 1374 مدرّساً في المعهد العلمي، ثم إماماً وخطيباً ومدرساً في الجامع الكبير سنة 1376، فاستفاد منه أهلها.
وذُكر أن الشيخ درّس في الجامع سنتين في حياة الشيخ ابن سعدي[5].
كما درّس في جامع الضليعة بعنيزة مدة، من سنة 1390 إلى 1406 تقريباً.(/5)
وكان سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ قد أصدر أمراً بتعيين المترجَم رئيساً لمحكمة الأحساء، ولكنه بذل الجهود والمساعي لإعفائه، فتم له ذلك، ولم يتولَّ القضاء.
وبقي الشيخ ابن عثيمين مدرساً في المعهد العلمي إلى أواخر سنة 1395 حيث فُرِّغ سنتين لأجل إعداد المقررات والمناهج، ثم في نهاية 1397 عيّن مدرساً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم ببريدة[6]، واستمر فيها إلى وفاته، فيكون مجموع ما درّس يزيد على سبع وأربعين سنة، فحصرُ تلامذته متعذر، ولا سيما أنه كان كثير التدريس في الحرمين، ويتنقل بين المناطق لإلقاء الدروس والمحاضرات والمؤتمرات.
وآتاه الله بياناً عجيباً في تدريسه وتقريره وفتاويه، فهو ييسِّر المسائل ويسهلها، ويبيّن الدليل والتعليل والترجيح بأسلوب واضح يفهمه معظم الناس، ولذلك قيل فيه إنه كسر طوق الفقهاء في عباراتهم وطرائقهم، بل كثيراً ما سمعت شيخنا العلامة عبدالله بن عقيل حفظه الله يضرب فيه المثل بأنه أُلين له الفقه، كما سمعت شيخي العلامة عبدالكريم الخضير يثني ثناء عالياً على فقهه.
وكان رحمه الله في تدريس طلبته يعتني بحفظ المتون، ويعد من لا يحفظ أصولها ليس بطالب علم، كما كان يتابع طلبته، ويراجعهم، ويمتحنهم في الدرس، ويبذل لهم الجوائز المحفزة.
أذكر في أحد دروس الشيخ عبدالله الطيار حفظه الله -وهو من أبرز أصحاب المترجَم- في شرح المناسك من العمدة بمكة أنه سأل الحضور سؤالاً فيه صعوبة، وأخرج خمسين ريالاً، وضحك، وقال: كان شيخنا ابن عثيمين يُخرج خمس مئة ريال لمن يجيب، ولكن ذاك ابن عثيمين! فمن يجب يأخذ الخمسين!
وقد تخرّج على يد الشيخ المترجَم أجيال من المشايخ وطلبة العلم البارزين، من القصيم وغيرها، نفع الله بهم.(/6)
ونفع الله بدروس الشيخ –المسجَّلة- بعد وفاته نفعاً عظيماً، مع أنها لم تسجَّل بانتظام إلا في آخر حياته؛ فتداولها طلبة العلم في الداخل والخارج؛ لوضوحها مع ما تحتويه من علم جمٍّ، وفُرِّغ كثير منها وطبعت، وانتشرت كذلك عبر الأقراص الحاسوبية وعلى المواقع الإسلامية على الشابكة (الإنترنت)، وعمَّ بها النفع، وبقيت حسنات جارية له إن شاء الله.
وكذلك نفع الله به عبر إذاعة القرآن الكريم، ووصل صيته ونفعه إلى مختلف البلدان، ولا سيما برنامجَي الفتاوى: نور على الدرب، وسؤال على الهاتف -الذي بدأ سنة 1409- وبرنامج أحكام القرآن -بدأ سنة 1408-، مع أحاديث أخرى غير ثابتة في الإذاعة، وشارك في الرائي (التلفاز) ببرنامج دين ودنيا بالصوت دون الصورة.
ناهيك عن فتاوى المترجَم ورسائله المطبوعة في حياته، والتي انتشرت في كل مكان، وكثر طبعها وتوزيعها.
وكان له نشاط في وسائل الإعلام المقروءة والمجلات في الفتاوى والإرشادات والنصح.
وكان المترجَم ممن حباه الله قبولاً واسعاً في العالم الإسلامي، وكانت فتواه مصدر ثقة واطمئنان لخلق كثير، بل إذا عُدّ كبار علماء الأمة عند الخاصة والعامة في وقتنا كانت الأصابع تتجه إلى عدد منهم: سماحة الشيخ ابن باز، والإمام الألباني، والمترجَم -رحمهم الله جميعاً، وجزاهم عن السنّة وأهلها خيراً- بل إن عامة الناس في نجد وما حولها يسألون: ماذا قال ابن باز وابن عثيمين في هذه المسألة؟ وإذا سمعوا فتوى لأحدهما يقنعون بها ولا يكادون يجاوزون لغيرها، قَبولٌ غريب!
وحدثني شيخي الحافظ ثناء الله بن عيسى خان المدني -مفتي أهل الحديث في باكستان الآن- غير مرة في الرياض والكويت أنه كثير المراجعة لفتاوى الشيخين ابن باز وابن عثيمين.
محطات من حياة المترجم:(/7)
- في 11/7/1407 صدر القرار السامي بتعيين الشيخ ابن عثيمين عضواً في هيئة كبار العلماء بالسعودية، وبقي فيها إلى وفاته، وكان من أبرز أعضاء الهيئة، بل كان المرجعَ بعد وفاة سماحة الشيخ ابن باز.
- وكان للشيخ جهود عظيمة في شتى مجالات العمل الخيري، فكانت توكل إليه الصدقات والزكوات والإعانات، ويتحرى في إيصالها لمستحقيها، ويدعم الجمعيات والمؤسسات الخيرية ويتعاون معها، مثل مؤسسة الحرمين، ومن مآثره في هذا الباب تأسيس صندوق الزواج في مدينة عنيزة، ناهيك عن شفاعاته الكثيرة لمن يحتاج إليها في شتى المجالات.
إضافة إلى أنه كان يُنفق على طلبة العلم الذين تفرغوا للدراسة عنده، ويؤمِّن لهم السكن وخلافه، وكان عنده في السكن طلبة من مختلف دول العالم.
- وكان رحمه الله غيوراً على الحرمات، منكراً للمنكرات، وله رسائل في ذلك، كما كان مناصراً لقضايا المسلمين -بالكلمة والجاه والمال- في شتى بقاع العالم، مثل فلسطين، وأفغانستان، والشيشان، والبوسنة، وله مواقف وكلمات معروفة في هذا، بل إن رئيس المحاكم الشرعية ومفتي المجاهدين في الشيشان كان أحدَ تلامذته، وله مقال منشور عن دور الشيخ في دعم قضايا المسلمين هناك.
- وكان له جهود عظيمة في الدعوة إلى الله، ويستغل جميع أوقاته لذلك، ففضلاً عن الدروس والإذاعة كان يحاضر ويشارك في الندوات والمناشط العلمية في شتى أنحاء المملكة، حتى في مرضِ وفاته، وكان يُلقي المحاضرات أواخر عمره لأوربا وأمريكا وغيرهما عبر الهاتف[7]، إضافة إلى نشاطه في توزيع الكتب والأشرطة في الداخل والخارج عبر تلامذته.
وأما في موسم الحج فكان الشيخ عجباً في إفادة الناس ونفعهم والصبر عليهم وعلى الزحام.
وللمناسبة: فقد حج المترجَم للمرة الأولى سنة 1367، وواصل الحج من سنة 1392 إلى 1420، ولم ينقطع عن ذلك إلا عاماً واحداً، فمجموع حجاته إحدى وثلاثون حجة.(/8)
- ومن جهود الشيخ الدعوية مساهمته في تأسيس جماعة تحفيظ القرآن الكريم في عنيزة سنة 1405، وكان الداعم الأول لها، ويُشرف على مناشطها وأمورها التنظيمية والعملية، وبسبب المترجم كثر التبرع للجماعة والوقف لها، ومن ثمارها أن حفظ القرآن كاملاً أكثر من مئة وستين حافظاً هناك.
- كذلك كان المترجَم المشرف الرسمي لمكتب دعوة الجاليات في عنيزة، وذلك سنة 1407، وكانت له جهود في دعم المكتب والقائمين عليه، ومن نتاج ذلك هداية مئات الناس إلى الإسلام، جزى الله هؤلاء الدعاة خيراً.
- وكان الشيخ اجتماعياً، يجيب دعوات الناس ومناسباتهم، ولا يرضى أن يمر المجلس بلا فائدة، ولست أنسى عندما تشرفت بزيارة الشيخ مع بعض الزملاء في منزل أخيه بالرياض، قبيل وفاته بأشهر، فكان وهو في شدة مرضه يبادر بإفادة الحضور، ويتخلل المجلس رنين الهاتف للفتاوى، فإذا كان المتصل رجلاً جعل صوت الهاتف مسموعاً للجميع لنشر الفائدة، وإذا كانت امرأة رفع السماعة وأجابها عن سؤالها، ثم إذا انتهت المكالمة بادر مرة أخرى بإفادة الحضور، ويجيب عن أسئلتهم، ولما طال المجلس وقلّت الاتصالات قال الشيخ مراراً: ما أحد عنده سؤال؟ أو إشكال؟ اسألوا.. استفيدوا.. لا يريد أن يضيع شيء من المجلس إلا في فائدة ونفع، مع مرضه وتعبه.
وإنني على كثرة من لقيت من المشايخ -بحمد الله تعالى ومنّه- قلّ أن رأيت من يحفظ مجلسه هكذا، ولعلي أذكر ممن تميز في هذا الباب: سماحة الشيخ ابن باز، وفضيلة الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط، رحمهما الله تعالى، وفضيلة المربي الشيخ عبدالرحمن الباني حفظه الله وأطال عمره على الخير والعافية.
- وإضافة للمجالس العامة اهتمَّ المترجَم بالمجالس الخاصة لبعض الشرائح، ففي سنة 1407 ابتدأ بعقد مجلس خاص لقضاة القصيم، تكون فيه قراءة لكتب تهمهم، ويجيب عن أسئلتهم واستفساراتهم، واستمر المجلس إلى 29/4/1421.(/9)
- وكان للشيخ مجالس أخرى، أحدها خاص لكبار طلابه، ومنها مجلس خاص بأعضاء هيئة التدريس بقسم العقيدة في الجامعة، وآخر للدعاة في بريدة، وآخر لخطباء عنيزة، وآخر لأعضاء الحسبة، وآخر لطلاب السكن، وآخر لطلاب المعهد العلمي.
- صلى الشيخ إماماً للتراويح في المسجد الحرام في العشر الأواخر من رمضان سنة 1403، ونبّه في مكبر الصوت على عدم جواز تكرار الوتر في الليلة الواحدة كما كان يحصل سابقاً، ويوجد تسجيل متداول لمقطع من قراءته في الحرم.
- أول صلاة صلاها إماماً في جامع عنيزة صلاة الظهر يوم الأحد 26/6/1376، وآخر صلاة كانت للاستسقاء بتاريخ 3/8/1421، وأول خطبة جمعة ألقاها في الجامع في غرة رجب 1376 وآخر خطبة في 30 رجب 1421.
- في سنة 1404 أثير بعض الكلام عن تقرير الشيخ في مسألة المعية، مما جعله يؤلف رسالة مختصرة نافعة في العقيدة، وقرَّظها سماحة الشيخ ابن باز مؤيداً لها، وقد نفع الله بهذه الرسالة، وشرحها كبار المشايخ، منهم شيخنا عبدالله بن جبرين حفظه الله.
- في سنة 1414 مُنح المترجَم جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، اعترافاً بفضله وتكريماً لجهوده، ولم يحضر الحفل، بل أرسل نائباً عنه.
- وبعد وفاة الشيخ عمر بن محمد فلاتة رحمه الله في 19/11/1419 مدير دار الحديث في المدينة وناظرها الشرعي، تشكل مجلس استشاري من العلماء يتولى النظر في شؤونها، وكان المترجَم من بينهم.
- لم يكن الشيخ رحمه الله معتنياً بالرواية والإجازات -تبعاً لشيخيه ابن سعدي وابن باز[8]- بل كان يعتني بالأهم وهو الدراية، ولا أعلم له رواية عامة أو إجازة حديثية من أحد من شيوخه، لكن وقعت له رواية مسلسل المد بالوجادة، كما ذكر في كتابه الشرح الممتع.
قصص وعبر من شمائله:(/10)
الحكايات والمواقف ذات العبر عن المترجَم كثيرة ومشتهرة، ولا تزال بين طلابه وعارفيه ومحبيه غضة طرية، وأفرد شيئاً منها بالجمع بعض المشايخ، وأسوق فيما يلي ما تيسر منها على عجالة، للدلالة عبرها على بعض خصاله رحمه الله.
في الإخلاص:
ذكر معالي الشيخ عبدالله التركي أنه لما كان مديراً لجامعة الإمام صدر نظام للجامعة بشأن تصنيف المدرسين وترفيعهم حسب الأبحاث والدراسات، فكان الشيخ ابن عثيمين لا يقدّم شيئاً، وحينما فوتح في ذلك قال: إن العالم لا ينبغي أن يستشرف للرتب والترقيات، وأن أهل العلم ينبغي لهم الاحتساب والعمل لوجه الله، وما يجيء تبعاً فلا بأس به.
وذكر الشيخ وليد الحسين أنه قُدِّم للمترجَم مبلغ من المال مقابل محاضرات ألقاها في كلية التربية للبنات في عنيزة، فرفض وقال للمحاسب: هل تريدني أن أتقاضى راتباً إزاء واجباتي تجاه بناتي وأخواتي في الدين؟
وذكر الدكتور عبدالله الموسى أن المترجَم أخذه مرة إلى مختصر في بيته، وقال له: يا عبدالله! أنا وأنت هنا، ولا يرانا إلا الله، خذ هذا المال -يقول: وكان المبلغ كبيراً- وهو من مالي الخاص، واشتر به مصاحف، ووزعها على المحتاجين في السجون الأمريكية، وأنت مسؤول عن الشراء وعن التوزيع، وأسألك بالله ألا تبلغ بهذا أحداً. يقول الموسى: ولم أبلغ بهذا أحداً منذ وقته إلى الآن، أما وقت انتقل الشيخ إلى الرفيق الأعلى فلا أرى بأساً أن أذكر أنه كان من المنفقين في السراء والضراء، وكان لا يريد علم الناس بذلك.
في الورع:
ذُكر عن الشيخ أنه كان قبل أن يخرج من الجامعة يفرّغ قلمه من الحبر، ويقول: هذا الحبر للجامعة وأمورها، ولا يحق لي استخدامه في أموري الخاصة خارجها.(/11)
ومن صور ورعه ما اشتُهر عنه أنه كان إذا غاب عن التدريس أو الإمامة، يحسب نسبة الانقطاع ويخصمه من راتبه، ولا يقبل أخذه، مهما كان الغياب أو الانقطاع قصيراً! بل كان إذا تأخر عن الدوام في المعهد بضع دقائق أثبت ذلك في سجل الحضور، وكتب أمامه: بغير عذر!
ويذكر الشيخ عبدالرحمن النهابي أنه وصل لجمعية تحفيظ القرآن بعنيزة مبلغ مئة ألف ريال من الزكاة، فأمر الشيخ بردّ المبلغ ومراجعة أصحابه، لأنه يفتي بعدم جواز صرف الزكاة لجمعيات التحفيظ.
في الزهد:
قال الوزير السابق الدكتور محمد عبده يماني: "كنا نلاحظ عفة الرجل وترفعه عن الدنيا، فلم يكتب في طلب لجاه أو مال، فعندما عرض عليه الملك خالد رحمه الله أن يشتري له منزلا اعتذر، وفضّل أن يبقى في منزله قانعاً محتسباً، واستأذن أن يدفع المال لبناء المسجد إلى جانب مرفق خيري، كمكتبة في جوار المسجد بدلاً من أن يبني منزلا".
ومنزل الشيخ القديم متواضع جداً مبني من الطين، زاره فيه الملوك، منهم الملك سعود، والملك خالد، والملك فهد، ولم ينتقل منه إلا بإلحاح شديد من أبنائه، وبيته الجديد كان (فيلا) من النوع السكني المعتاد، ومجلسه متواضع، وزاره فيه الملك عبدالله -عندما كان ولياً للعهد-، والأمير سلطان، وكبار المسؤولين، ومع زيارة الملوك والكبار له في بيته ما كان يطلب شيئاً خاصاً لنفسه، بل يطلب ما فيه منفعة لعموم الناس في دينهم ودنياهم، مع المناصحة الخاصة والطاعة بالمعروف.
ومرة أهدى له أمير القصيم سيارة أمريكية جديدة، فشكره الشيخ، ثم ردّها إليه قائلا: إنه لا حاجة له بها، وإن سيارته القديمة -وهي من النوع الرخيص- تفي بأغراضه، وكان يمشي دائماً من بيته لمسجده لجميع الفروض ولا يركب سيارة، مع أن المسافة نحو ألف متر، ويجعل طريقه لمراجعة القرآن وللأوراد والأذكار وإلقاء السلام، وأحياناً يُقرأ عليه في الطريق.
في تحري السنّة والالتزام بها:(/12)
حدثني شيخي المحدّث سعد الحميّد، قال: كنا مرة في أحد المجالس بالرياض، وكنت أنا الأول من جهة اليمين في المجلس، والشيخ في صدره، فلما أعطوه فنجان القهوة أصر أن آخذ أنا أولاً بحكم أني الأول من جهة اليمين، فأبيت أن آخذ قبل شيخنا؛ لأنه الأكبر علماً وقدراً وسنّاً، فاستدل بالأحاديث الواردة في فضل الأيمن، ومنها حديث أنه أعطى مَن على يمينه، فقلت له: لكن النبي صلى الله عليه وسلم أُعطي أولاً مع أنه لم يكن هو الأول في المجلس، فقال: إنما بُدئ به لأنه الطالب للشراب. فقلت: هما حديثان أحدهما فيه أنه طلب الشراب، وليس في الآخر أنه طلب، وأنا أعني حديث أنس في الصحيح: أَتَانَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في دَارِنَا هذه فَاسْتَسْقَى فَحَلَبْنَا له شَاةً لنا ثُمَّ شُبْتُهُ من مَاءِ بِئْرِنَا هذه فَأَعْطَيْتُهُ وأبو بَكْرٍ عن يَسَارِهِ وَعُمَرُ تُجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عن يَمِينِهِ فلما فَرَغَ قال عُمَرُ هذا أبو بَكْرٍ فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ ثُمَّ قال الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ ألا فَيَمِّنُوا قال أَنَسٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
والحديث الآخر: حديث سَهْلِ بن سَعْدٍ رضي الله عنه قال أُتِيَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ هو أَحْدَثُ الْقَوْمِ وَالْأَشْيَاخُ عن يَسَارِهِ قال يا غُلَامُ أَتَأْذَنُ لي أَنْ أُعْطِيَ الْأَشْيَاخَ فقال ما كنت لِأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا يا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ .
فحديث أنس فيه أنه صلى الله عليه وسلم طلب السقيا (استسقى)، وأما حديث سهل فقد أتي صلى الله عليه وسلم بالشراب، ولم يُذكر فيه أنه طلبه.(/13)
يقول شيخي الحميد: لم تنته القصة هنا، فلما رجع الشيخ لعنيزة اتصلت به كعادتي للاستفادة منه، فعرفني، وقال: انتظر! فإذا به أعد العدة، وأحضر فتح الباري وقرأ الموضع، وقال: اسمع ما يقول الحافظ. وكان الموضع يدعم وجهة نظره، والشاهد: حرصه رحمه الله على السنّة والفائدة.
في تحري العدل:
ذكر الشيخ القاضي أحمد بن سليمان العريني أن الشيخ المترجَم لما درّسهم مادة العقيدة في كلية الشريعة بالقصيم: أجرى لهم امتحان أعمال السنة، وبعد أيام جاء بالأوراق مصححة، وسلّم الأوراق للطلاب الذين يزيدون على الثمانين، وقال لهم: اقرؤوها، ومن وجد أني ظلمته في شيء من الدرجات عند التصحيح فليراجعني. يقول: فأذكر أن أحد الزملاء راجعه في نصف درجة فأضافها له!
في الدقة والأمانة:
تدل عليها القصة السابقة، ويقول الشيخ عقيل بن عبدالعزيز العقيل: سلمني الشيخ كيسا كبيرا فيه أموال جُمعت لصالح المسلمين خارج المملكة، ولما خرجت من بيته وأردت أن أركب السيارة؛ إذا بالشيخ يُقبل علينا قائلاً: في الكيس نصف ريال، انتبهوا إليه لئلا يقع!
في عفة اللسان:
اشتهر أن الشيخ رحمه الله لم يكن يرضى بالغيبة في مجلسه لا تصريحاً ولا تلميحاً، يقول الشيخ أحمد العريني: في يوم من الأيام كنا في درسه في الجامع الكبير بعنيزة، فقام أحد الطلاب الخليجيين يسأل الشيخ، فذكر في سؤاله أن أناساً في جامعة كذا في دولة كذا يفعلون كذا. وقبل أن يكمل سؤاله قاطعه الشيخ وزجره، وقال له: لولا أنك غريب علينا ولا تعرف منهجنا لأخرجناك من الدرس، ولكن لا تعد لمثل هذا.
في الحرص على نفع الناس:
إن الناظر إلى جدول المترجَم اليومي والأسبوعي يعجب من أنه يشغل وقته كله من الفجر إلى الليل في منفعة الناس، وإذا كان في بيته يستقبل الفتاوى على الهاتف، إذا كان في الطريق فهو في خير وعلم وذكر..(/14)
تقول زوجته: إن نومه المتصل كان ثلاث أو أربع ساعات، ومجموع نومه في اليوم لا يصل إلى ست ساعات، هذا جدوله العادي، فكيف في أيام المواسم؟ لقد كان ينشط في رمضان والحج أكثر من سائر العام، ولا يبالي بمشقة الصيام والحج في سبيل الدعوة إلى الله وإفادة الناس.
ففي رمضان ذكر تلامذته أنه لا ينام إلا أربع ساعات فقط من كثرة اجتهاده في العبادة والخير والفتوى والتدريس.
أما في الحج فهذه قصة حدثنيها شيخي د. سعد الحميّد، فقال لي: أكثر ما شدني في الشيخ صبره وحرصه على تعليم الناس وتربيتهم، لاحظته سنة 1404 في المركز رقم (1) من مراكز التوعية في الحج، منذ أن نزلنا من الحافلة وقبل أن ندخل الخيام توجه الشيخ إلى المصلى وأمسك بمكبر الصوت، وجلس للناس، وابتدأ الحديث، واجتمع عليه الناس، وأخذ في الفتوى والتذكير، ولم يزل هذا ديدنه أكثر الوقت، ونحن نرى أن له حقاً في الراحة، لكنه رحمه الله كانت راحته في نفع الناس، ولا شك أن المشاركين في مخيم التوعية ما أتوا إلا لهذا الغرض، لكن الشيخ فاقهم بصبره وجَلَده وتضحيته براحته، فكنا إذا تعبنا نرتاح في الخيام، وما يزال صوت الشيخ يجلجل في الآفاق، فنعجب من قوة صبره وتحمله الساعات الطويلة التي لا يستطيعها الشباب!
وذكر الشيخ عبدالمحسن العباد أشياء من حرص الشيخ في توعية الحج، وذكر من حرصه أنه خصص أوقاتاً للإفتاء عبر الهاتف وهو في منزله بعنيزة، وإذا سافر جعل تسجيلاً على الهاتف يُرشد لرقم الهاتف في البلد الذي سافر له.
وذكر الأستاذ عبدالكريم المقرن -المذيع المعروف- أنه في إحدى مرات تسجيل فتاوى نور على الدرب أحس الشيخ بالنعاس، وبدأ يدافعه، ثم أوقف التسجيل، وطلب أن يمد سلك اللاقط ليجيب عن الأسئلة وهو واقف، وبعدها بدأ يجيب ويفتي وهو يمشي في المجلس ذهاباً وإياباً ليطرد النوم، حتى أكمل تسجيل الحلقات.(/15)
ويقول: اتصل بي في صيف 1419 ليخبرني أنه في المدينة المنورة، وزودني برقم الهاتف حتى نتمكن من الاتصال به عبر برنامج سؤال على الهاتف في وقته المحدد، كي لا تفوت الفائدة.
وحقاًً.. لم يشعر الناس بعظم المهمة التي كان يسدها المترجَم هو وشيخه ابن باز في الإفتاء إلا بعد وفاتهما!
في الحرص على دقائق أعمال الخير:
ذكر الأستاذ عبدالكريم المقرن أنه في إحدى مرات تسجيله لبرنامج نور على الدرب كان للشيخ محاضرة في فرع الجامعة ببريدة، فطلب الشيخ منه أن يذهب في سيارته بعد التسجيل للمحاضرة، فلما ركب في السيارة حاول الشيخ إنزال زجاج النافذة بجانبه، يقول: فأخبرت الشيخ أن الزجاج به خلل ولا ينزل، فقال الشيخ رحمه الله: لا بد من إنزاله يا عبدالكريم، لأنني أريد أن أسلم على من أقابله من الناس. فرأيت من حرص الشيخ وتحمسه، فحاولت إنزال شيء من زجاج السيارة الذي عن يمين الشيخ، ثم فتحت زجاج السيارة الخلفي، فكنا أثناء مرورنا عند الإشارة والسوق كان يرفع صوته بالسلام على الصغير والكبير والماشي والقاعد، ثم قال: يا عبدالكريم لا تحرمنا من الأجر!
ويذكر المقرن أنه كان يرى الشيخ إذا تناول معه الغداء بعد التسجيل يلعق الصحفة، ويشرب ثلاثاً، ويحرص على كل ما فيه تطبيق للسنة.
وحدثني الشيخ عمر الحفيان: أن الشيخ لما صار يزور مبنى إدارة مكتبة العبيكان لأجل طبع كتابه الشرح الممتع حان وقت الصلاة، فسأل عن المسجد، فقيل له: هنا مصلى يصلي فيه العاملون في الإدارة، وهم جماعة كبيرة، فسألهم: هل تُصلى فيه جميع الفروض؟ فقالوا: إلا الفجر، فقال: لا حاجة لي في الصلاة فيه، دلوني على أقرب مسجد، فصار يمشي للمسجد كعادته على قدميه.
في مدى النفع والقَبول:(/16)
ذكر الشيخ الداعية أحمد بن عبدالعزيز الحمدان أنه رافق المترجَم سنة 1416 في سلامه المعتاد على الحجاج القادمين إلى مطار جُدة، ودخلوا صالة استقبال كانت تضم حجاجاً من بعض جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت تحت الحكم الشيوعي الروسي، وكان جميع الحجاج من المسنين فوق الستين، ثم بدأ الشيخ يتكلم عبر مكبر الصوت ويترجم لهم مرشد الحملة وهو الشاب الوحيد، فلما فرغ الشيخ من حديثه جاء المرشد ليسلم عليه، فأُخبر أنه الشيخ ابن عثيمين، فإذا بالشاب ينظر للشيخ باستغراب وقد اتسعت حدقتا عينيه، وقال: الشيخ محمد بن صالح العثيمين؟! فقالوا: نعم. فإذا به يحتضن الشيخ وعيناه تدمعان، ويكرر اسم الشيخ فرحاً، ثم أخذ مكبر الصوت، ونادى في أفراد الحملة بكلام -يقول الراوي:- لم نفهم منه سوى ترديده لاسم الشيخ، وكانت المفاجأة الكبرى عندما أخذ أفراد الحملة يبكون، وارتفعت أصواتهم وهم يرددون اسم الشيخ العثيمين، فقال الشاب: يا شيخ هؤلاء كلهم طلابك! هؤلاء كانوا يدرسون كتبك في الأقباء تحت الأرض لما كان تعليم الإسلام ممنوعاً عندنا، وهم في شوق للسلام عليك، فهل تأذن لهم؟ فأذن لهم الشيخ، فأقبلوا يقبّلون رأسه ويديه وهم يبكون ويرددون اسمه. قال الراوي: فكان من أشد المواقف تأثيراً، وما أعلم من بقي في ذلك المكان إلا وبكى تأثراً بما رأى وسمع.(/17)
وقال الشيخ محمد بن عبدالجواد الصاوي -أحد مرافقي الشيخ وقارئ الأسئلة عليه في المسجد الحرام-: في إحدى المرات كان ذاهباً فيها إلى البيت من الحرم بعد إلقاء دروسه، وكنت كما هي العادة أذهب معه وأوصله إلى البيت: استوقف أحدَ المدخنين وهو يمسك دخينته، ونصحه بلطف وهدوء حتى رمى هذا المدخن الدخينة من يده لما رآه من هيبة هذا الرجل الذي نصحه، ورأى الناس خلفه بأعداد هائلة كلهم يريد سؤاله واستفتاءه، فسألني وأنا أسير خلف الشيخ: من هذا؟ فقلت له: الشيخ محمد بن عثيمين، فلم أكمل كلمتي إلا وصرخ من شدة دهشته للموقف، وقال: والله لا أشرب الدخان بعد هذه المرة أبداً!
في التواضع:
يذكر الأستاذ محمد المشوح أنه لما استضاف المترجَم في برنامجه الإذاعي المعروف: "في موكب الدعوة" صدّر اللقاء بتقديم مختصر، يقول: أثنيت فيه على الشيخ رحمه الله بما هو أهل له من الأوصاف العلمية والمديح الصادق، فأوقفني وأوقف التسجيل، وطلب حذف تلك المقدمة، والاكتفاء بالاسم مجرداً من أي مديح أو إطراء وثناء.
وفي لقاء آخر في الإذاعة بدأ المذيع في الثناء على الشيخ، قائلا: "فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، من أبناء عنيزة، ومن علماء المملكة، لكم تاريخه المعروف"، فما كان من الشيخ إلا أن قال بصوت ظهر في التسجيل: "أستغفر الله وأتوب إليه".
وكان الشيخ رحمه الله يكره أن يُمدح، ولا يرضى أن تُضفى الألقاب على اسمه، وحدثني الشيخ عمر بن سليمان الحفيان أنه لما أراد طبع المجلد الأول من الشرح الممتع قام الشيخ وشطب بيده الألقاب من صفحة العنوان، وأبقى اسمه مجرداً، وقال: هكذا تطبعونه.
وهناك مقطع متداول للشيخ يمنع فيه أحد الطلبة بإصرار من أن يكمل قراءة قصيدة فيها مدح له.(/18)
وذكرت أم إبراهيم أنها وقفت في طريق الشيخ في الحرم أواخر حياته لتسأله عن فتوى، فوقف مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف حوله جمع غفير من الرجال يسمعون فتواه، فقالت له: لا أستطيع الكلام وهؤلاء يحيطون بنا. فالتفت إليهم وأمرهم بالانصراف، تقول: ثم انضم إلي مجموعة من النساء، فاستمع الشيخ إلى استفتاءاتهن حتى فرغن.
وحدثني الشيخ عمر الحفيان أنه خرج مع الشيخ مشياً إلى المسجد القريب من مكتبة العبيكان في الرياض، فمر في طريقه ببعض عمال النظافة، فاقترب منهم، وصافحهم مسلّماً عليهم بوجه بشوش، وسألهم عن أحوالهم، ويقول: لم يترك أحداً في طريقه إلا ويسلم عليه، وكان يسلم على الأطفال الذين يلعبون الكرة في الشارع، ويرشدهم بلطف للذهاب إلى المسجد!
وذكر الأستاذ سامي العزيّر أن ابنه أحمد وعمره ثمان سنوات قام بسحب الشيخ من بين تلاميذه إلى خارج المسجد قائلاً له: تعال سلّم على بابا سامي! يقول: وكنت خارج المسجد، فرأيت الشيخ الجليل يخرج مع ابني أحمد بهيبته وهو يبتسم، فقبّلت رأسه، وشكرته، واعتذرت منه على تصرف الولد، ولكنه كان مسروراً جداً، ولم يبد أي تضايق!
في عدم التكلُّف:
كان الشيخ رحمه الله مجانباً للتكلف في ملبسه ومظهره، وكان مشلحه (البشت) من الأنواع العادية الرخيصة، ويبتعد عن الأبَّهة والمظاهر، كما كان سهلاً ليناً في تعامله، ومن هنا توجد قصص كثيرة وطريفة عن عدم معرفة بعض الناس له، وعدم توقعهم أن يكون هذا الشيخ ذو المظهر العادي هو الشيخ ابن عثيمين!
ومن أغرب هذه المواقف أن المترجَم كان عائداً من المسجد إلى بيته مشياً كالعادة، فإذا حشد من الناس وطوق من الجنود حول منزله يمنعون أي شخص من الاقتراب، فأراد الشيخ أن يخترق الجموع ليصل إلى منزله، فمنعه الجنود بحجة أن الملك فهد يقوم بزيارة الشيخ ابن عثيمين! فقال لهم: أنا ابن عثيمين! وأكّد لهم ذلك؛ حتى وافقوا على دخوله منزله، ليجد الملك ينتظره في المجلس!(/19)
في رقة القلب:
ذكر الشيخ خالد الحمودي أنه قُبيل وفاة الشيخ كان في مجلس وتليت قصيدة فيها ذكر الموت، فبكى الشيخ بكاء شديداً، وهو يسأل الله قائلاً: اللهم أعنّا على الموت.. اللهم أعنا على الموت!
في الصبر على الأقدار:
تقول زوجة الشيخ أنه لما علم بإصابته بمرض السرطان تلقى الخبر بالصبر والاحتساب، وتقول: حتى إنه رحمه الله حمل همّ تلقينا نحن للخبر، وقد ذكر لي أحد أبنائي بعد ذلك بأن الوالد رحمه الله طلب منهم عدم ذكر شيء لوالدتكم وأخواتكم، واتركوا ذلك لي، وقد قام رحمه الله بنقل الخبر لنا بالتدريج، نسأل الله تعالى أن يغفر له ويسكنه فسيح جناته.
وتقول: أما صور صبره رحمه الله فقد تجلت أثناء مرضه، فقد كنت أعلم أنه يعاني آلاماً شديدة، وقد كان الألم يوقظه من نومه عدة مرات في الليل، ولكنه عندما يُسأل عن الألم كان يرد بوجود ألم، ولكنه يضيف: بأنني أقول ذلك من باب الإخبار، وليس من باب الشكوى، لأنه رحمه الله يعرف جزاء الصابرين.
في العبادة:
ذكر الشيخ حمد العثمان الكويتي -أحد أصحاب المترجَم- أن الشيخ كان لا يترك قيام الليل حتى في السفر، ومرة سافر مع الشيخ للعمرة بالسيارة، وعند العودة استسلم الجميع للنوم لشدة التعب، يقول: واستيقظت من النوم في منتصف الليل، وإذا بالشيخ قائم يصلي، فقلت في نفسي: يا سبحان الله! أنا شاب أستسلم للنوم، وهذا شيخ كبير يستسلم للصلاة والعبادة؟ فتوضأت ثم شرعت في الصلاة اقتداء بالشيخ، فحاولتُ أن أصارع النعاس وأغالبه، فلم أتمكن من ذلك حتى صرعني النعاس، فخلدت إلى النوم، وتركت الشيخ يصلي!
في الرحمة:(/20)
ذكر الشيخ أيمن أبانمي حادثة شهدها فيها عبرة وطرفة، قال: كان في أحد دروسه في سطح الحرم، فأتت هرة بين الصفوف، والشيخ كان يلقي الدرس، فأوقف الشيخ الدرس وقال: ماذا تريد هذه الهرة؟ لعلها تريد ماء، اسقوها ماء. فسقوها، ثم ذكر الشيخ فائدة عن حكم سؤر الهرة، ثم قال بعد ذلك: هذه فائدة بمناسبة حضور الهرة! فضحك الجميع.
في إنكار المنكر:
يقول الدكتور سعود مختار: من مواقفه التي لا أنساها أنه دعي إلى إلقاء محاضرة في إحدى المؤسسات الرسمية، وكانت ثمة صور كبيرة في المنصة بشكل فيه تعظيم لا يليق، فأمر الشيخُ مسؤولَ المؤسسة أن ينزلها، فأبى، فأصر ورفض أن يبدأ محاضرته قبل إنزال الصور، ولما رفض هذا المسؤول أخذ الشيخُ طلابه الذين كانوا بالآلاف وانتقل بهم إلى مسجد قريب، حيث أقام المحاضرة! مما اضطر هذا المسؤول للحاق به والاعتذار.
وذكر الشيخ ناصر القفاري أن المترجَم لما سمع بمظاهرة بعض النسوة في الرياض لأجل قيادة المرأة للسيارة وبعض المطالب التغريبية: اتصل الشيخ بأمير الرياض في منزله، فأخبروه أنه نائم، فطلب إيقاظه وأن يبلَّغ أن ابن عثيمين يريده في أمر ضروري، فلما كلمه أخبره الشيخ بما حصل، وأوصاه أن يتدخل بنفسه في وضع حد لذلك.
ومن الجدير بالذكر أن منهج الشيخ في إنكار المنكرات العامة كان عبر مناصحة المسؤولين بالإسرار ما استطاع، بعد التأني والتثبت ورؤية الطريقة الأنسب، وكان يُنكر الأساليب غير المنضبطة مثل التشهير والتهييج العام.
في دقة المواعيد والمحافظة على الأوقات:(/21)
يذكر الشيخ عبدالله الطيار وفقه الله موقفا عجيباً، يقول: إن الشيخ دعاه دعوةً خاصة للغداء أواخر سنة 1403 ودعا معه عميد كلية الشريعة ووكيلها فقط، وطلب منه الحضور الساعة الثانية ظهراً، وأكّد عليه بعدم التأخر. ويقول: إنه تأخر في الخروج مع العميد لبعض الأشغال في الكلية ووصلا بعد عشر دقائق (فقط!) من الموعد، يقول: فتفاجأنا بأن الشيخ راكب في سيارته! فنزلت وقلت له: أين تذهب يا شيخ؟ فقال: الأولاد عندكم تغدوا معهم! فقلت له: ما جئنا من أجل الغداء، جئنا لنجلس معك، ووالله إن ذهبت لن ندخل! فضحك الشيخ، وقال: لا بأس، بشرط ألا تتأخر مرة أخرى! فقلت: إن شاء الله، ولكن السبب كذا وكذا. فأعطانا الشيخ درساً عملياً في دقة المواعيد والاهتمام بها والحرص عليها.
ومن أجلى صور محافظة الشيخ على وقته أن عدداً من المتون قرئت عليه في طريقه وممشاه الدائم من بيته لمسجده، وكذا صححت عليه مجموعة من المذكرات، وكانت الجموعُ تمشي معه وتستفتيه.
وذكر الشيخ وليد الحسين أن الشيخ كان يجيب على الفتاوى وهو يأكل طعامه، يقول: وكان يغتنم الوقت في سفره، فكنت كثيراً ما أراجع معه مذكرات الدروس التي كتبتها عنه، وإذا كان السفر بالسيارة مسافات بعيدة تزيد على خمس ساعات يملأ الطريق فائدة ما بين قراءة للقرآن أو مراجعات أو قراءة في كتاب، أو يخلو بنفسه في مراجعته.
ولما سئلت زوجة الشيخ: لماذا لم يكن الشيخ يحنِّي لحيته أجابت: لم يكن لديه الوقت!
في سعيه في منفعة الناس:(/22)
لن أتكلم عن شفاعته ومساعدته للمحتاجين أو مساعيه الخيرية، ولا سعيه لنفع الناس في دينهم، فكل ذلك كثير مشتهر، ولكني أتناول سعيه في مساعدة الناس في أمورهم الدنيوية، يحكي الشيخ عبدالرحمن النهابي أن الشيخ كان يتحدث كثيراً مع من يزوره من المسؤولين في مختلف الموضوعات والمشاريع التي تهم عامة البلد وتنفعه، ومن ذلك لما عانى أهل عنيزة نقص المياه سعى لدى المسؤولين لإيجاد حل، ولما علم أن من الأسباب حاجة المدينة إلى مزيد من الآبار شجع الأهالي لزيادتها، وقال إنه سيتولى جمع المبلغ المتبقي لاستكمال التكلفة المتوقعة، وفعلاً استطاع جمع مليوني ريال قبيل مرضه، وحصل النفع والصدقة الجارية بإذن الله على بلده.
ويذكر الأستاذ عبدالكريم المقرن أن الشيخ كانت تأتيه مهاتفات للسلام والاطمئنان عليه من بعض مناطق المملكة، فكان يسألهم أيام المواسم عن هطل الأمطار، وكان يسر بسماع خبر وفرتها، ويحمد الله ويشكره.
في عنايته بأسرته وصلة أرحامه:
مع ازدحام وقت الشيخ بالأعمال الجليلة يذكر ابنه الأستاذ عبدالرحمن أن أباه خصص ليلة الجمعة كل أسبوع لزيارة عمته في عنيزة، وكان حريصاً ألا يفوّت فرصة زيارتها.
وتقول زوجة الشيخ: كان للعائلة رحلة أسبوعية وهي يوم الجمعة بعد الصلاة، حيث نخرج إلى منطقة برية قريبة ونتناول طعام الغداء، وكان يستغل ذلك الوقت في مشاركة أبنائه في بعض المسابقات، كالجري، وحل الألغاز، وكان يصطحب معه بندقية صغيرة، ويتبارى مع أبنائه في الرماية، وغير ذلك.(/23)
وتقول: إن سعادته في منزله كانت تتجلى في جلساته مع أبنائه كباراً وصغاراً، وبعد ذلك كنت تلحظ علامة السعادة والفرح عند استقباله لأحفاده، فكان رحمه الله يفتح عباءته (بشته)، ثم يدخلهم، ويبدأ بالسؤال عنهم، ثم يفتح (بشته)، ويكرر ذلك عدة مرات، بعدها يأخذهم إلى مكتبته، وكان يحتفظ بها بنوع معين من الحلوى كنا نحرص على ألا يجدوه إلا عنده رحمه الله، فيعطيهم منها، وكانوا يسمونها: "حلاوة أبوي"، كما كان رحمه الله برغم مشاغله يعودهم في منازلهم إذا سمع بمرض أحدهم، وكذلك يذهب لزيارتهم في المستشفى إن كانوا هناك، وكان لذلك أكبر الأثر في نفوس الأحفاد وآبائهم وأمهاتهم.
وقالت: وكان رحمه الله ينظم وقته ويهتم بذلك كثيراً، فللتدريس والفتوى والدعوة وقت، وللعبادة أوقات، وللأسرة والأبناء وقت، وكذلك للالتزامات العائلية وصلة الرحم أيضاً وقت، وكان رحمه الله عندما لا يستطيع الوفاء بالالتزامات الأسرية حضورياً كان يحرص على المشاركة ولو هاتفياً، حتى لو تغيب رحمه الله عن المنزل سواءً في ارتباطاته العلمية والتدريسية داخل عنيزة أو إذا كان مسافراً: كان رحمه الله متابعاً لأبنائه، بالسؤال عنهم هاتفياً، وكذلك بتفقدهم عند عودته، ودوري لا يُذكر، فقد كان حسه معنا دائماً، وفي العموم كنت أُشعر الأبناء بأن والدهم مسؤولياته كبيرة وأعماله كثيرة، وأصبّرهم بذلك، وكان رحمه الله يعوضهم عن ذلك حال عودته.
في حسن الخلق:
القصص في حسن خلق الشيخ كثيرة جداً، من ذلك ما يحكيه الأستاذ عبدالله بن إبراهيم السلوم: أن أحد فنيي الكهرباء الهنود من غير المسلمين كان عمل في منزل الشيخ مدة، يقول: ثم عمل عندي، وقال لي: أسلمت. فقلت له: كيف؟ فقال: أسلمت بسبب تعامل الشيخ اللطيف معي. ويقول السلوم: كان يتعامل مع الجميع بالحسنى.(/24)
ومرة كان الشيخ عائداً من المسجد الحرام إلى مقر إقامته، فإذا ثلة من الشباب يلعبون الكرة وقد انشغلوا عن الصلاة، فوقف الشيخ ينصحهم ويذكرهم، ولم يعرفوه، فقام أحدهم ورفع صوته على الشيخ وجعل يسبّه، فأخذ الشيخ يلاطفه، وقال له: تفضل معي إلى السكن لنتحدث، وأقنع من بجانب الشيخ الشاب أن يسمع كلام الشيخ، فلما دخل مقره استضافه، ثم غاب عن المجلس لدقائق، فقال الحاضرون للشاب: هل تعرف من هو هذا الشيخ؟ فقال: لا! فقالوا: هذا الشيخ ابن عثيمين.. فتغير وجه الشاب، فما إن دخل الشيخ حتى قام إليه الشاب منكباً على رأسه يقبله وهو يبكي، وكان هذا الموقف سبباً في هداية هذا الشاب واستقامته.
في الديانة والورع في الفتوى:
كان الشيخ رحمه الله لا يستنكف عن التراجع عن رأيه إن ترجح له خلافه، ولهذا تراجع عن عدد من المسائل، منها ما أخبرني الشيخ عمر الحفيان أنه راجع المترجَم في مسألة كون الحيض ينقطع في الحمل ليكون غذاء للجنين كما ذكر بعض الفقهاء، وأحضر له مراجع طبية، فرجع عن القول بذلك.
وذكر الأستاذ عبدالكريم المقرن أنه في أثناء تسجيل برنامج سؤال على الهاتف مع المترجَم جاءه سؤال عن صحة حديث، فتوقف وقال: الله أعلم، وأرجو أن تحيلوا هذا السؤال بخصوص هذا الحديث إلى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز.
كما ذكر أن الشيخ كان يقول في برنامج نور على الدرب: أرجو من الأخ السائل ألا يطرح السؤال بهذه الصيغة: ما حكم الشرع في المسألة الفلانية، بل يجب أن يصحح سؤاله ويقول: ما حكم الشرع في نظركم في المسألة الفلانية، أو: ما رأيكم في المسألة الفلانية؟ لأن العالم قد يُخطئ، فيُنسب القول إلى الشرع، والأمر خلاف ذلك.
مؤلفاته:(/25)
كان الشيخ محباً للتأليف، يقول: إنه تشجع عليه لأمرين، أولهما: "أن المؤلف يحرص غاية الحرص أن يتعمق في المادة التي يريد التأليف فيها، فهذه فائدة عظيمة للمؤلف، أضف إلى ذلك أنه تعمق فيها وقيّد ما تعمق به في هذه المؤلفات، فستمكث في نفسه أكثر"، والأمر الآخر لتشجيع شيخه ابن سعدي كما تقدم.
ولكن نظراً لانهماك الشيخ في التدريس والفتوى والإرشاد غالب وقته لم يتمكن من الإكثار في التأليف، فكانت غالب مؤلفاته التي حررها إما من المذكرات الدراسية، أو رسائل ضئيلة الحجم غالباً، لكنها محررة ومفيدة[9]، وجُلّ آثاره التي بين أيدي الناس الآن هي مما فرّغه وجمعه تلامذته ومحبّوه من الدروس والفتاوى.
وقد نهض الشيخ آخر عمره لتحرير بعض كتبه المهمة ومراجعتها، وعلى رأسها كتابه العظيم: الشرح الممتع، ولكن توفي دون إتمامه، فتولى الأمر بعض تلامذته وغيرهم، والغالب خرج بإشراف اللجنة العلمية لكتب سماحته.
وساق الشيخ وليد الحسين أكثر من مئة عنوان من تآليف المترجم، غالبها كتيبات صغيرة وفتاوى، وأما كتبه الكبيرة المطبوعة فمن أهمها:
مجموع الفتاوى، في بضع وعشرين مجلداً.
الشرح الممتع على زاد المستقنع.
شرح رياض الصالحين.
شرح كتاب التوحيد.
شرح الواسطية.
شرح عمدة الأحكام.
شرح بلوغ المرام.
لقاء الباب المفتوح.
فتح رب البرية بتلخيص الحموية، وهو من أقدم مؤلفاته، طبع سنة 1380.
تفسير القرآن.
شرح البخاري.
ونظراً لحسن تآليفه درّس بعضها كبار المشايخ، وفيهم من مشايخ المترجم، مثل سماحة الشيخ ابن باز، وشيخنا عبدالله بن عقيل، وكذلك بعض أقرانه، مثل شيخنا ابن جبرين، وأما من بعدهم فكثير، وأما كتابه مجالس رمضان فلا تُحصى المساجد التي قرئ فيها هذا الكتاب النافع.
وتُرجمت بعض رسائله لعدد من اللغات، وطبع منها نسخ كثيرة على نفقة المحسنين.
مرضه ووفاته:(/26)
كانت سنة 1420 سنة وفاة العلماء الكبار، وعلى رأسهم ابن باز والألباني، وكنت كغيري من محبي أهل العلم نعقد الآمال بأن يكون في بقاء الشيخ المترجَم عوض وجبران لفقد أولئك.
ولكن قدر الله غير ذلك، ففي تلك السنة بدأ الإعياء يظهر في سماحة الشيخ، وفي سنة 1421 تبين أنه مصاب بسرطان القولون، وبدأ يسري في جسده ويفتك به سريعاً.
ولما علم الشيخ بمرضه صبر واحتسب، ولم يغيّر شيئاً من نشاطه في التعليم والفتوى والخير، ثم لما علم ولاة الأمر بما أصابه ألحوّا عليه بالسفر إلى أمريكا للعلاج، فوافق الشيخ على طلبهم، وسافر.
وكانت أيام الشيخ العشرة التي قضاها في أمريكا عجيبة من حرصه على الوقت والإفادة لجموع المسلمين هناك.
رجع الشيخ إلى بلده للعلاج، ولم يتوانَ برغم المرض والتعب والنصب عن أمور الخير والإفادة، ذكر الأستاذ عبدالكريم المقرن أن الشيخ واصل تسجيل حلقات سؤال على الهاتف وهو في سرير المستشفى، وذهب في رمضان إلى مكة، وواصل دروسه، إلى أن اشتد عليه التعب في التاسع والعشرين منه، وقال في ختام درسه ذلك اليوم: لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا. فذرفت العيون.
ومن الدرس نُقل الشيخ للعناية المركزة في جُدة، وما إن شعر ببعض التحسن حتى عاد ليلقي الدرس في الحرم عبر مكبر الصوت، وهو محمول وجهاز الأكسجين على فمه، ثم صلى العيد في الحرم، وبعد الظهر رجع للعناية المركزة، وقال الأطباء الذين أشرفوا عليه إنه كان كثير الصلاة، ولا ينقطع عن الذكر والدعاء حتى دخل في غيبوبة الموت، وتوفي رحمه الله تعالى عصر الأربعاء 15 شوال 1421 في المستشفى التخصصي بجدة.
وكانت وفاته مصيبة عظيمة حلّت بالمسلمين وأصابهم من جرائها من الحزن والأسى ما أصابهم، وصدر بيان من الديوان الملكي بوفاته، وتحديد الصلاة عليه في الحرم المكي عصر الخميس 16 من شوال.(/27)
وكانت الجنازة عظيمة مشهودة قدم لها الناس من مختلف مناطق المملكة، بل من خارجها أيضاً، وقُدّر المشيعون بنصف مليون إنسان، يتقدمهم كبار العلماء والمسؤولين، وصلى عليه الشيخ محمد السبيّل، ودُفن الفقيد في مقبرة العدل بجوار شيخه سماحة الإمام عبدالعزيز بن باز، رحم الله الجميع.
وصُلِّي على الشيخ صلاة الغائب في جميع أنحاء المملكة يوم الجمعة 17 من شوال، وفي عدد من البلدان، وفي عامة المراكز الإسلامية في أوربا وأمريكا.
وصارت وفاته حديثَ الناس والإعلام مدة، وكُتب عنه ورثي بالكثير والكثير، مما كان له أكبر الدلالة على ما حباه الله من قبول.
رحمه الله تعالى، وأخلف في المسلمين أمثاله، ونفع بعلومه.
من ثناء العلماء عليه:
قال شيخه سماحة الشيخ ابن باز في تقريظه لرسالة المترجَم في العقيدة: "أخونا العلامة فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين". ومضى الكلام على تقديره له، وتلقيبه له بسماحة الشيخ.
ولما سئل الإمام الألباني: من تعرف من العلماء الفقهاء المجتهدين في هذا الزمان؟ بدأ بسماحة الشيخ ابن باز، ثم ذكر ابن عثيمين، وشمس الحق العظيم آبادي، والمباركفوري، ولم يسمِّ غيرهم، وهذا مسجَّل متداول.
أما شيخنا عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل فقد سمعت منه ثناء كثيراً على المترجم، فسمعته يصفه بالشيخ العلامة، ويستشهد ببعض اختياراته وفتاويه، ويضرب به المثل بالفقه قائلاً: أُلين لعبدالرحمن العثيمين التاريخ والتراجم كما ألين لابن عمه الفقه.
ولما سألته عن تلمذة المترجَم عليه قال لي: من جهة أنا شيخ له، ومن جهة هو شيخ لي، فقد كنا نجتمع ونتباحث كل ليلة للتحضير لدروس شيخنا ابن سعدي، فأفيده ويفيدني، وهو كان ذكيا نبيهاً منذ صغره.
وسمعت شيخنا لما سئل عمن ينصح بالقراءة له من المعاصرين نصح بأربعة من كبار العلماء: ابن سعدي، وابن باز، وابن عثيمين، والألباني.(/28)
وقال سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ: "الشيخ محمد غفر الله لنا وله لا تخفى على الجميع مكانته وآثاره العلمية.. كان نعم الزميل، فقد كان رجلاً ذا علم وفضل ومناقشة وعدم اعتداد بالرأي إذا رأى الصواب".
وقال شيخي سماحة الشيخ عبدالله بن جبرين: "نرجع نحن وغيرنا إلى مؤلفاته القيمة التي تعب فيها وحققها وجمع فيها كل ما حضر إليه، وكل مسألة كتبها تدل على عمق اختياره".
وقال الشيخ عبدالمحسن العباد: "عَلَم من أعلام العالم الإسلامي، له جهود كبيرة في العناية بالعلم ونشره وبذله وإفادة طلبة العلم، ألا وهو الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين.. والشيخ ابن عثيمين رحمه الله قد أخذ من العلم بحظ وافر، وبذل جهوداً عظيمة في نشره وإفادة طلاب العلم".
وقال: إنه لما كان يأتي المسجد النبوي ويلقي الدروس.."كان الطلاب يطلبون مني أن أوقف الدرس ليحضروا دروسه، فكنت أوقفها ليتمكنوا من الاستفادة منه، وكنت أحضر دروسه معهم في بعض الأحيان".
وقال: "للشيخ رحمه الله مكانة مرموقة ومنزلة رفيعة، فقد رُزق القبول، وأحبه الناس، وحرصوا على سماع دروسه وفتاويه، واقتناء آثاره العلمية، وأشرطة دروسه ومحاضراته، وهو عالم كبير، وفقيه متمكن، وهو محل التوقير والإجلال من الولاة والعلماء وطلبة العلم، وكان من تقدير الولاة في هذه البلاد له أنهم عندما يزورون القصيم يزورونه في منزله، فقد زاره الملك خالد، والملك فهد، والأمير عبدالله، والأمير سلطان، وهو أهل للتوقير والاحترام، وهو مع ذلك من أشد الناس تواضعاً، ومحبة للخير، ونفعاً للناس، وإشفاقاً على الطلبة، وحرصاً على إفادتهم وتحصيلهم للعلم، وجمعهم العلم والعمل".
وهذا ضمن محاضرة مفردة عن حياة المترجم.(/29)
ويذكر الشيخ أحمد بن عبدالعزيز الحمدان أن جماعة من الشباب ذهبوا إلى مصر في مهمة رسمية، واختلفوا بينهم في بعض المسائل، فذهبوا إلى الشيخ عبدالحميد كشك رحمه الله، يقول: "فلما عرف أنهم من السعودية قال لهم: تسألونني وعندكم الشيخ محمد العثيمين؟! قالوا: يا شيخ تعرفه؟ قال: أنا أستمتع بسماع تأصيله العلمي في دروسه".
وقال الشيخ يوسف القرضاوي: "رحل عن عالمنا العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وقد شيعتُ جنازته مع الوفد الذي أوفدته دولة قطر، وكان رحمه الله من كبار علماء المملكة العربية السعودية، وكان له دوره في الإفتاء والتعليم والدعوة والإرشاد، وكان منهجه رحمه الله اتباع الدليل من الكتاب والسنة، وفقاً لمنهج السلف الصالح، سواء في أمور العقيدة، أم في أمور الشريعة.. وعرفت فيه حسن الخلق، وسماحة النفس، وتواضع أهل العلم.. إن وفاة الشيخ العثيمين يمثل خسارة كبيرة للعلم والعلماء في هذه المرحلة التي فقدت فيها الأمة عدداً من الأعلام، ابتداء بالعلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وقد ختمت اليوم بالشيخ محمد بن صالح العثيمين، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يعوض هذه الأمة الإسلامية عامة، والمملكة العربية السعودية خاصة عن هذا العالم الكبير، الذي نسأل الله له المغفرة والرحمة والرضوان، وأن يجزيه عن العلم والإسلام والمسلمين خير ما يجزي به العلماء العالمين والدعاة الصادقين".(/30)
وقال أيضاً: "الأمس ودعت المملكة العربية السعودية أحد علمائها الكبار، بل هو أكبر عالم فيها، وهو الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، عضو هيئة كبار العلماء، وأحد رجال العلم والفتوى المعدودين في عصرنا، وقد ذهب وفد من قطر شاركتُ فيه لتقديم العزاء لأسرة الفقيد وللمشايخ وللعلماء وللحكومة السعودية، وصلينا عليه في المسجد الحرام وتجاه الكعبة المشرفة، فرحم الله الشيخ ابن عثيمين، لقد عاش هذا الرجل للعلم وللدين، لم يجر وراء المناصب، بل عاش مدرّساً ومعلماً ومفتياً ومرشداً".
وسمعت شيخي الحافظ ثناء الله بن عيسى خان، مفتي أهل الحديث في باكستان، في محفل ختم صحيح البخاري في الكويت سنة 1428، بعد أن تطرق لحديث: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن ينزعه بقبض العلماء، فقال بعده عبارة أثرت في كثير من الحضور: "أين ابن باز؟ أين الألباني؟ أين ابن عثيمين؟ أين شيخنا الحافظ عبدالله الروبري؟ كان عديم النظير في زمانه؟ أين الحافظ الغوندلوي؟ أين حماد الأنصاري؟ لقد صار العلماء كما قال الحافظ الذهبي: كدت ألا أراهم إلا في كتاب أو تحت التراب". هذا أو معناه.(/31)
وقال الشيخ عبدالمجيد الزنداني: "رأيت عالماً متمسكاً بالكتاب والسنة، حريصاً على الدليل بسيطاً مع تلاميذه، حريصاً على إفهام الفكرة وتوضيحها، محباً للناس الخير.. كنا نجد الشيخ ابن عثيمين متابعاً لقضايا الأمة، متفهماً للصور المستجدة في عصرنا لقضايا الناس، خبيراً في إعادة الأمور إلى أصولها الشرعية، ولذلك كان يفتي الناس عن علم بحقائق الأمور التي هم عليها، وعلى علم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعُرف عنه الصدق، وفعل الخير، والشجاعة، والحمد لله كان محل ثناء وتقدير من أبناء الأمة وعلمائها، كان الدليل حاضراً معه، وكذلك كان يستحضر أقوال العلماء وما وصلوا إليه، وكان يسير على منهج سليم في إعادة الأمور إلى كتاب الله وسنة رسوله، وكان لفتاواه أثر كبير خارج إطار المملكة العربية السعودية.. أرى أن الشيخ ابن عثيمين كان يكن كل محبة لعلماء عصره، ويتعاون معهم". وذكر أنه حضر دروسه في الحرم.
ووصفه شيخي د. سعد بن عبدالله الحميّد، وهو تلميذه، بقوله: هو الإمام، شيخ الإسلام، فقيه هذا الزمان، الورع، العابد، الزاهد.(/32)
وقال الشيخ عبدالرحمن السديس -إمام المسجد الحرام وخطيبه- ضمن كلام طويل عال ومؤثر: "العلامة الجهبذ.. إنه أنموذج شامخ في التقوى والصلاح والزهد والورع، وعلم بارز في السنة، وقمة سامقة في العلم، وآية وحجة من حجج الزمان، وأئمة هذا العصر والأوان بفقده وأمثاله تنقص الأرض من أطرافها كما قال حبر الأمة ابن عباس.. لقد كان الشيخ رحمه الله مرجعية عالمية في الفقه والفتوى والنوازل، ولقد شهدت ذلك عن كثب إبان زياراتي الدعوية المتواضعة لأمريكا وأوربا، فقد كتب الله له القبول.. يعد الشيخ رحمه الله من بقية السلف الصالح، وإماماً من أئمة أهل السنة والجماعة، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، فهو ممن قل نظيره، وممن جل أن ترى العيون مثله بلا مبالغة، لما حباه الله عز وجل، فهو موسوعة علمية وأخلاقية ودعوية ومنهجية يقل نظيرها، فهو أئمة في إمام، وأمة وحده، ونسيج بمفرده، وطراز مستقل، طالما نفع الله به، وذاع صيته وعلا قدره، واستفاد منه القاصي والداني، متميز المنهج، فذ العبقرية، معتدل الرؤى، متماسك الشخصية، متوازن النظرة".
هذه بعض النصوص المختارة في الثناء عليه.
ذريته وعقبه:
تزوج المترجَم ثلاث مرات، الأولى ابنة عمه، توفيت على إثر ولادة، ثم تزوج ابنة الشيخ عبدالرحمن الزامل العفيسان، لكن لم يستمر الزواج، ولم تنجب منه، وتزوج بعدها أم عبدالله بنت إبراهيم التركي، وأنجبت له خمسة من البنين، كما أن له ثلاث بنات.
وأبناؤه: عبدالله، وعبدالرحمن، وإبراهيم، وعبدالعزيز، وعبدالرحيم.
وزوّج ثنتين من بناته لطالبين من أبرز أصحابه، وهما الشيخ سامي الصقير، والشيخ خالد المصلح.
نسأل الله أن يبارك في ذريته، ويصلحهم، آمين.
من مصادر ترجمته:
أذكر فيما يلي أهم المصادر التي رجعت إليها في هذه الترجمة:
1) لقاء مع المترجَم في الإذاعة سنة 1403، وأعده أهم المصادر في الترجمة.(/33)
2) برنامج مرئي في القناة السعودية الأولى عن حياة المترجم، ومقابلات مع بعض تلامذته وعارفيه.
3) محاضرة للشيخ عبدالمحسن العباد -من أقران المترجم-، وطُبعت في كتيب بعنوان: "الشيخ محمد بن صالح العثيمين من العلماء الربانيين".
4) الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين: للشيخ وليد الحسين -من أصحاب المترجم- ولعله أجود ما قرأته عن الشيخ، واستفدت منه الكثير، وفي آخره جمعٌ حافل للمراثي التي قيلت فيه.
5) ابن عثيمين الإمام الزاهد: للشيخ الدكتور ناصر بن مسفر الزهراني، ويمتاز بجمع كثير من المقالات التي كتبت في المترجم، وبعضها متميز ومهم، استفدت منها كثيراً، إضافة لجمع المراثي.
6) مواقف وذكريت مع كبار العلماء: للأستاذ عبدالكريم بن صالح المقرن.
7) لقاء مطول مع أم عبدالله زوج الشيخ، في مجلة المتميزة العدد 45 سنة 1427.
8) لقاء مع المترجم ضمن سلسلة: "على طريق الدعوة"، من إنتاج تسجيلات التقوى، والفائدة المتعلقة بالترجمة فيه قليلة.
وهناك كتب استفدت منها فوائد عارضة، مثل:
9) جوانب من سيرة الإمام ابن باز.
10) مراسلات العلماء مع ابن باز.
11) في وداع الأعلام: للشيخ يوسف القرضاوي.
12) وسام الكرم في تراجم أئمة وخطباء الحرم: للشيخ يوسف الصبحي.
إضافة إلى المشافهات والمذكرات الشخصية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قلت: ومن صور العناية الخاصة من العلامة ابن سعدي ما ذكره المترجَم قائلا: "مما شجعني على التأليف: أنه في حياة شيخنا عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله كنا نقرأ عليه في العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكنت أكتب -كطالب- أكتب عليها شرحاً للآيات وللأحاديث ولكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأظن أنني كتبت أربعة دفاتر، ولكني ما كملتها، إلا أنني إذا كتبت شيئاً عرضتُه على الشيخ عبدالرحمن رحمه الله، وكان يشجعني على ذلك كثيراً، ويأمرني بأن أستمر، ويرغّبني في هذا، ولذلك من ذلكم الحين أنا أحب أن أؤلف".(/34)
[2] عن ذلك قال المترجَم في لقاء له: "والذي أرى أن يتأثر القارئ بكتبه: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه له تأثير قوي بالنسبة لإيمان العبد ومعرفته بأسرار الشريعة، وبالنسبة لقوة الحجة والإقناع والدفاع، ولهذا أنا أنصح كل من يريد الوصول إلى الحق من منبعه الصافي أن يقرأ في كتب هذا الإمام، لأنه بحق إمام، رحمه الله وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
وكذلك أيضاً تلميذه ابن القيم أسلوبه مؤثر جيد، أسلوبه وإقناعه أيضاً، لكني أنا قد أتأثر بكلام الشيخ أكثر منه من تأثري بكلام ابن القيم..
كذلك أيضاً تأثرت بتلميذه ابن مفلح رحمه الله صاحب كتاب الفروع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، لأن له توجيهات طيبة جداً في الفقه، تدل على عمق معرفته بأسرار الشريعة.
وتأثرت أيضاً بمنهاج الشيخ محمد رشيد رضا، لأنه رحمه الله جيد في عرض المسائل وفي تحرره الفكري، وإن كان عنده أخطاء، ولا أحد يسلم إلا المعصوم، ولكن على كل حال له أثر في منهجي في تحقيق المسائل أو ما أشبه ذلك".
وقال في مقابلة أخرى أنه لما كثرت مشاغله قلّت قراءته لكتب المعاصرين، إلا في المراجعة للحديث، وأظنه يعني في ذلك كتب الإمام الألباني بالدرجة الأولى.
وقال في مقابلة أخرى أنه لما كثرت مشاغله قلّت قراءته لكتب المعاصرين، إلا في المراجعة للحديث، وأظنه يعني في ذلك كتب الإمام الألباني بالدرجة الأولى.
[3] ذكر الشيخ في بعض المواطن أنه الشيخ علي بن حمد الصالحي رحمه الله.
[4] قلت: ذكر المترجَم في مقابلة أخرى أنه قرأ على شيخه ابن باز صحيح البخاري، وبعض كتب الفقه ورسائل شيخ الإسلام.(/35)
وقال في موضع آخر: "كانت لي معه رحمه الله دروس خاصة، حيث كنت آتيه بعد صلاة الفجر وأدرس عليه، ومن جملة ما درست عليه مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، كما وأننا في بعض الأحيان كنا نخرج بعد العصر لنخيلٍ بالرياض يسمى: نخيل الريّس، وقرأتُ عليه رسالة تسمى: (إقناع النفوس بإلحاق عملة الأنواط بعملة الفلوس)، وهذا كان عام 1373".
ويحسن أن نذكر بعض العلاقة بين الإمامين سماحة الشيخ ابن باز، وتلميذه المترجَم، فقد ربطت بينهما آصرة الحب في الله والتقدير المتبادل والتعاون على البر والتقوى، وكان ابن عثيمين شديد التقدير لشيخه، ويقول له في رسالة بتاريخ 25/4/1381: "والحقيقة يا شيخ أنني أحب الاتصال بكم، لأن اتصالي بك يزيدني علماً وإيماناً، أقول ذلك لأنني جربتُه ولله الحمد".
وقال فيه بعد وفاته: "إن سماحة الشيخ رحمه الله لا يحتاج إلى تعريف، لأن أفعاله تنطق بما قدَّم.. وهو من أعلم الناس بالحديث والتوحيد والفقه"، وكان في حياته إذا سئل عن بعض المسائل واستشكلها يقول: أراجع فيها شيخي ابن باز، وإذا خاطبه في مراسلاته يصدّرها بقوله: من الابن فلان إلى سماحة الوالد أو إلى شيخنا المكرم فلان.
ويقول الشيخ محمد الموسى: "ومن العلماء الذين لهم حظوة ومنزلة وتقريب عند سماحته: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، فلقد كان سماحة الشيخ عبدالعزيز رحمه الله محبًّا للشيخ محمد، عالماً بفضله، وكان يلقبه بسماحة الشيخ، وكان يشرح بعض كتبه؛ ككتاب مجالس رمضان، وكان يقدّم له بعض كتبه، ويقرأ له، ويستمع لفتاواه، وكان يقول للشيخ محمد: أودُّ أن تكون فتوانا واحدة، وألّا تختلف قدر الإمكان. وإذا خالفه الشيخ محمد في مسألة قدَّر له سماحة الشيخ رأيه واجتهاده، وكان كثير الحفاوة به.. وكان سماحة الشيخ محمد محباً لشيخه سماحة الشيخ عبدالعزيز، معترفاً له بالفضل عليه وعلى الأمة، وكان يلقبه بسماحة الوالد".(/36)
وذكر أن سماحة الشيخ ابن باز كان يفرح كثيراً إذا قدم المترجَم للرياض أو الطائف، ويستضيفه ويحتفي به، ويستقبله بنفسه.
ويقول الشيخ أحمد بن باز: "كان والدي الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله يثني عليه وينزله منزلة خاصة، لما كان عليه رحمه الله من علم وتقى وزهد".
وذكر الأستاذ عبدالرحيم ابن المترجم أنه كان يرافق أباه في اجتماعات هيئة كبار العلماء في الطائف، يقول: فكنا إذا وصلنا يقول الوالد: هل سيارة سماحة الشيخ ابن باز موجودة؟ فإن كانت نزل ليسلم عليه، وإلا انتظر حتى يصل شيخه أولاً ثم ينزل.
وهكذا اجتمع هذان الإمامان في الله، وتفرقا عليه، نحسبهما كذلك، وكان دفن الشيخ ابن باز بحضور تلميذه المترجَم، ثم شاء الله أن يُدفن هو بجوار شيخه ابن باز في مقبرة العدل بمكة المكرمة، نسأل الله أن ينفع بعلومهما، وأن يُعلي درجتهما، ويجزيهما عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
[5] ورد في بعض كلام المترجَم ما قد يفيد ذلك دون تحديد المدة، وذكره الشيخ وليد الحسين أحد أبرز من ترجم له، وحدد البداية سنة 1371.
وفي المقابل لم يذكره عامة من ترجم له وكتب عنه، وسألت شيخنا العلامة عبدالله العقيل فنفى أن يكون درّس في الجامع في تلك السنة، وقال: كان يدْرُس معنا آنذاك، ثم ذهب للرياض، وفي مدة ولايتي قضاء عنيزة (1370-1375) لا أذكر هذا.
قلت: ربما كان ذلك آخر سنتين من حياة العلامة السعدي إبان التدريس بالمعهد، والمسألة تحتاج إلى استيضاح أكثر ممن عاصر المترجَم قديماً في بلده مثل الشيخ المؤرخ محمد العثمان القاضي، والله أعلم.(/37)
[6] يقول المترجم: "بقيت مدرساً في معهد عنيزة، ولما افتتح فرع الجامعة في القصيم صرت أدرّس فيها في السنة الثانية من فتحها، جامعة الإمام محمد بن سعود، درّست فيها أول سنة على ملاك المعهد، مادة التفسير، ثم صرت فيها مدرساً أصلياً، وصار عندي تدريس في التوحيد، وتدريس في الفقه، وما زال الآن عندي التدريس في الفقه، السنة الثانية والثالثة والرابعة من كلية أصول الدين". وهذا الكلام سنة 1403.
[7] ولمعرفة قدر النفع في هذه المحاضرات أنقل ما ذكره الشيخ علي بن عبدالله السلطان من أن المسجد الرئيس الذي خصص له الشيخ ابن عثيمين محاضرةً شهرية -وهو مسجد التوحيد بمدينة ديترويت الأمريكية- كان في بعض الأحيان يرتبط معه أكثر من مئة مسجد أو مركز أو تجمع، وذلك من أمريكا وكندا وأوربا في وقت واحد، كما ذكر.
[8] على أنهما أُجيزا وأجازا، لكن بندرة.
[9] يقول الشيخ عبدالمحسن العباد: "للشيخ مؤلفات كثيرة، وغالبها رسائل صغيرة، لكنها عظيمة النفع، كبيرة الفائدة".(/38)
العنوان: العلامة السلفي محمد نذير حسين الدهلوي
رقم المقالة: 956
صاحب المقالة: محمد زياد بن عمر التكلة
-----------------------------------------
العلامة المحدث السلفي
محمد نذير حسين الدهلوي
(1220-1320هـ)
هو الإمامُ العلامة الجليل، مجددُ وناشر السنَّة في الديار الهندية، بل شيخُ الحديث في عصره، ورئيسُ العلماء المحققين في وقته، أحدُ من اجتمعت فيه خصال الخير.
اسمه ونسبه ومولده:
هو محمد نذير حسين بن جواد علي بن عظمة الله بن إله بخش بن محمد الرضوي الحسيني البِهاري ثم الدِّهْلَوي، وبين المترجَم وبين الحسين بن علي رضي الله عنهما ثلاثون أباً، وكذلك العدد من جهة أمه، كما ساقه تلميذُه فضل حسين في كتابه "الحياة بعد الممات".
وُلد رحمه الله في سورج كره بولاية بِهار شرقي الهند سنة 1220 على الصحيح، ونشأ فيها، وقرأ القرآن، وأخذ مبادئ العلم والكتابة في بلدته ونواحيها.
رحلته في الطلب وشيوخه:
ارتحل المترجَم لطلب العلم سنة 1236 إلى عظيم آباد (بتنه)، فأخذ عن المجاهدَين الشهيرَين إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي السلفي صاحب "تقوية الإيمان"، وأحمد بن عرفان، الملقب كل منهما بالشهيد، وكذا أخذ عن عبد الحي بن هبة الله البدهانوي.
ثم عرَّج على غازي فور، وبَنارس، ووصل مدينة إله آباد، وقرأ على أعيان علمائها المختصرات في فنون شتى، مثل: مراح الأرواح، والزنجاني، ونقود الصرف، والجزولي، وشرح مئة عامل، وهداية النحو، وغير ذلك.
ثم ارتحل إلى عاصمة السلطنة الإسلامية دِهْلي سنة اثنتين - وقيل ثلاث - وأربعين، فوجد عالمها الشاه عبد العزيز بن ولي الله قد توفي، وكان مقصودَه في الرحلة أساساً، فأقام بالمسجد الأورنك آبادي، وقرأ الكتب الدراسية المتداولة على العلماء، ومن ذلك: الكافية، وشرح الشمسية، ونور الأنوار، والحسامي، ومختصر المعاني، وشرح الوقاية، قرأها على الشيخ عبد الخالق الدهلوي.(/1)
وقرأ الأصول الكبرى، وشرح الكافية للجامي، مع حاشيته لعبد الغفور، والزواهد الثلاثة، والشمس البازغة على شير محمد القندهاري.
وقرأ شرح السلَّم لحمد الله، وشرح القاضي مبارك، وشرح المطالع، على الفلسفي المتبحر المولوي جلال الدين الهروي.
وقرأ المطول، والتوضيح والتلويح، ومسلَّم الثبوت، وتفسير البيضاوي، وتفسير الكشاف إلى سورة النساء؛ على كرامة علي الإسرائيلي مؤلف "السيرة الأحمدية".
وقرأ خلاصة الحساب والقوشجي لبهاء الدين الآملي، وتشريح الأفلاك، وشرح الجغميني، على مهندس عصره المولوي محمد بخش الشهير بتربيت خان.
وقرأ مقامات الحريري والحميدي وشيئا من ديوان المتنبي؛ على عبد القادر الرامفوري.
وفرغ من الدراسة المذكورة في خمس سنين، وبرع في العلم.
بعد ذلك لازَمَ محدِّثَ عصره الشاه محمد إسحاق الدهلوي السلفي ملازمة تامة ثلاثة عشر عاماً، قرأ عليه أمَّات كتب الحديث كاملةً قراءةَ رواية ودراية وضبط وتحقيق، كالكتب الستة، والموطأ، والمشكاة، وغيرها كثير، كالجامع الصغير، وكنز العمال، وتفسير البيضاوي، وتفسير الجلالين، والأَمَم للكُوراني، وبعض رسائل الشاه ولي الله، كالمسلسلات وغيرها.
وكان المترجَم أخصَّ تلامذة شيخه المذكور، وأخذ عنه ما لم يأخذه غيرُه، وبه تخرَّج، وهو الذي تولى عقد قران المترجم على ابنة شيخه عبد الخالق الدهلوي سنة 1246، وكان يجعله يفتي ويقضي بين الناس بحضرته، ويمتحنه كثيراً بالمشكلات ويجيبه، وأجازه غير مرة، ثم استخلفه على مسند تدريسه لما ارتحل للحجاز سنة 1258 وأعاد كتابة الإجازة له، ولُقِّب نذير حسين بميان صاحب، وهو لقب علماء أسرة الشاه ولي الله الدهلوي.
والشيخ محمد إسحاق أخذ بالقراءة والسماع والإجازة عن جده لأمه الشاه عبد العزيز الدهلوي، وهو كذلك عن أبيه الشاه ولي الله الدهلوي صاحب "حجة الله البالغة"، وأسانيده مشهورة مبسوطة.
عودة لشيوخ نذير حسين:(/2)
ذكر تلميذُه العلامة الخانفوري في ثبته "الجوائز والصلات" (مخطوط) أن شيخه يروي عن ثمانية شيوخ بالإجازة الخاصة، وأربعة بالعامة لأهل العصر، ويهمنا القسم الأول، وهم:
1- الشاه محمد إسحاق، بروايته عن جده كما سبق، وعن عمر بن عبد الكريم العطار المكي.
2- شير محمد القندهاري، عن عبد القادر الدهلوي، عن أبيه ولي الله.
3- محمد بخش.
4- كرامت علي الإسرائيلي، كلاهما عن محمد رفيع الدين، عن ولي الله الدهلوي.
5- عبد الخالق الدهلوي، عن محمد إسحاق.
6- جلال الدين الهراني.
7- عبد القادر الرامفوري، ولم يذكر شيوخهما.
8- محمد إسماعيل الشهيد، عن أبيه عبد الغني، وعمه عبد العزيز كلاهما عن أبيهما ولي الله.
وأما شيوخ الإجازة العامة لأهل العصر فذكر عبد الرحمن الأهدل، وعبد الرحمن الكزبري، ومحمد عابد السندي، وعبد اللطيف بن فتح الله البيروتي.
فهذا ما وقفتُ عليه من أسامي شيوخه، وقد كان المترجَم غالبا ما يقتصر في إجازته على عمدته الشاه محمد إسحاق لإكثاره عنه قراءة وسماعاً، واستغنائه به عن غيره.
الإفادة والتدريس:
تصدَّر المترجَم للتدريس والتذكير والإفتاء مكانَ شيخه الشاه محمد إسحاق، ودرَّس جميع الفنون - ولا سيما الفقه وأصوله - إلى سنة 1270، وكان له ذوقٌ عظيم في الفقه الحنفي كما قال العلامة عبد الحي الحسني الحنفي، وأضاف العلامة العظيم آبادي: كان كلُّ مسائله بين عينيه؛ يأخذُ ما يريد ويدَعُ ما يريد.
ثم غلَب عليه حبُّ القرآن والحديث، فترك الاشتغالَ بما سواهما إلا الفقه.(/3)
وكان رحمه الله يدرِّس ليلاً ونهاراً، وكل وقته مقسم ما بين التدريس والإفتاء والعبادة، وكان له مجلس للوعظ بعد صلاة الفجر يحضرُه جمعٌ غفير، واشتُهر بتدريس كتب الحديث رواية ودراية، وكان على نهج السلف أهل الحديث اعتقاداً وعملاً، وآتاه الله قَبُولاً عظيماً، حتى ارتحل إليه الطلبةُ من سائر أنحاء الهند، بل تعدى صيتُه إلى ديار العرب، فارتحل إليه عددٌ من علمائها، وكثر طلبته بحيث لا يحصيهم إلا الله تعالى، حتى قال تلميذُه العظيم آبادي: "وقد نفع الله تعالى بعلومه خلقَه، وله منَّة عظيمة على خلق الله تعالى، أمَا رأيت كيف أنه أشاع علمَ الحديث، وكيف روَّج علم السُّنن، وما ترى من آثار السنَّة النبوية إلا أنها من أنوار فيوضاته - وإن كان غيره من النبلاء الأتقياء المحققين مشاركاً فيها - ليس في بلاد الهند بلدٌ بل ولا قرية إلا بلغت فيضانه، وتلاميذه موجودة فيها، يروون الأحاديث، وبروِّجون السنن، ويطهِّرون الناس عن اعتقاد الشركيات والبدعيات والمنكرات والمُحْدَثات، والله يتم نوره ولو كره الكارهون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وليس انحصارُ تلاميذه ببلاد الهند، بل انتشرت تلاميذُه في الآفاق من العرب والعجم والهند..".
هذا قوله قبل وفاة شيخه بستة عشر عاماً، وبقي يدرِّس إلى وفاته، وقال العلامة عبد الحي الحسني: "وأما تلاميذه فعلى طبقات؛ فمنهم العالمون الناقدون المعروفون، فلعلهم يبلغون إلى ألف نفس، ومنهم المقاربون بالطبقة الأولى في بعض الأوصاف، ومنهم من يلي الطبقة الثانية، وأهل هاتين الطبقتين يبلغون إلى الآلاف... وخلق لا يُحصون".
قلت: وقد أحصى القائمون على مدرسة الشيخ[1] الطلبةَ الذين سكنوها في مدة سبع سنوات، فبلغوا اثني عشر ألفاً، هذا سوى الذين كانوا يحضرون ولا يقيمون في المدرسة!
ولهذا أقول: ما علمتُ عالماً تخرَّج عليه عددٌ يضاهي من تخرج على يدي المترجم، وقد درَّس بضعاً وستين سنة.(/4)
ونظراً لكثرة تلاميذه، وطول مدة تدريسه لُقِّب بشيخ الكل في الكل، أي: شيخ كل العلماء في كل العلوم.
وكان إلى جانب تدريسه العلمي يربي سلوكيّاً وعمليّاً بسَمْته وهديه، وله قصص ومواقف ذات عبرة، منها ما رواه الكاتب الشهير غلام رسول مهر في كتابه "يوميات رحلة إلى الحجاز" (ص37 الترجمة العربية، طبع دارة الملك عبد العزيز) عن رفيقه الحافظ محمد صدِّيق الملتاني أحد تلامذة المترجَم، قال: "ذات يوم في المساء هطلت أمطارٌ غزيرة، وامتلأت الأسواقُ والشوارع بالمياه، كان الفصلُ فصلَ الشتاء، وكان العالِمُ الجليل قد رجَع إلى بيته بعد صلاة المغرب، إلا أن جميع الطلبة ظلوا في داخل المسجد، ولم يستطيعوا تدبير أمر الطعام، واستمر المطر يَهْطِلُ حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً، وسمع من في المسجد طَرَقات على باب المسجد، ولما فتحوا الباب وجدوا العالم الجليل ميان نذير حسين واقفاً وقد حمل جميع ما في بيته من طعام حتى لا يموت الطلابُ جوعاً، الله أكبر! أين نجد اليوم مثل هؤلاء العلماء الأجلاء"[2]؟
أشهر تلاميذه:
يحار الكاتب في الاختيار بين تلامذته الكبار، ولكن أقتصر على بعضهم، فمنهم: ابنه شريف حسين المتوفى في حياة والده، وعبد الله الغزنوي، وأبناؤه محمد وعبد الجبار وعبد الواحد وعبد الله، ومحمد بشير السهسواني، وعبد المنان الوزير آبادي، ومحمد حسين البتالوي، وعبد الله الغازيفوري، وشمس الحق العظيم آبادي، وعبد الرحمن المباركفوري، وأحمد الله البرتابكرهي ثم الدهلوي، وعبد السلام المباركفوري، وأبو المكارم محمد علي المووي، وأحمد بن حسام الدين المووي، وأبو القاسم البنارسي، وثناء الله الأمرتسري، ومحمد نعمان الأعظمي، ويوسف الخانفوري - وهو أحد من نشر علم الحديث في العراق - وأبو سعيد شرف الدين البنجابي.(/5)
ومن بلاد العرب: إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ، وسعد بن حمد بن عتيق، وعلي بن ناصر أبو وادي، وفوزان السابق، وأبو بكر خوقير، وعبد الله بن إدريس السنوسي المغربي، وغيرهم كثير.
وقد سرد تلميذه فضل حسين آخرَ كتابه "الحياة بعد الممات" أسامي خمس مئة عالم من تلامذته.
محنته بسبب دعوته للسنَّة:
نظراً لما كان عليه المترجَم من اتِّباع ودعوة لمنهج السلف، واشتهار وكثرة في التلاميذ، فقد أصابه ما أصاب غيره من المصلحين، فأوذي وعودي من المخالفين والمتعصبة (وما أكثرَهم هناك!) والحاسدين، وابتُلي في ذات الله غير مرة، واستطال عليه أعداؤه استعانة بالمحتل الإنكليزي! -كما فعلوا مع العلامة صدِّيق حسن خان - واتهموه بالخروج على الولاة والاعتزال عن السنَّة، فسجنه الإنكليز سنة 1280 تقريباً في روالبندي سنةً كاملة، ولما أُطلق رجع إلى التدريس والإفادة كعادته، ولما حج سنة 1300 سبقه كيد أعدائه وسعيهم عند والي مكة واتهموه بما هو بريء منه، فسجنه، وأراد به سوءاً، ثم أطلقه.
ويقول العلامة عبد الحي الحسني الحنفي: "ثم إنه لما عاد إلى الهند بدَّعوه وكفَّروه، كما كفَّر الناسُ في الزمان السالف كبارَ العلماء من الأئمة المجتهدين، والله سبحانه وتعالى مجازيهم في ذلك، فإن الشيخ كان آية ظاهرة، ونعمة باهرة من الله سبحانه في التقوى والديانة، والزهد والعلم والعمل، والقناعة والعفاف، والتوكل والاستغناء عن الناس، والصدق وقول الحق، والخشية من الله – سبحانه -، والمحبة له ولرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - اتفق الناس ممن رزقه الله سبحانه حظاً من علم القرآن والحديث على جلالته في ذلك"، وقال العلامة العظيم آبادي: "امتُحن وأوذي مرات، وكم من حاسد افترَوا عليه بالأباطيل والأكاذيب، وكم من معاند له تقوَّلوا عليه بما لم يقل به، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون، لكن هو لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يخاف إلا الله".(/6)
قلت: وكان من صنيع المتعصبة أن صدُّوا كثيراً من طلبة العلم عن تعلم الحديث، ومن عباراتهم: "إن الطالب إذا قرأ الحديث في دهلي يتزلزل ذهنه ويميل إلى ترك ما كان عليه السلف (!) من تقليد أحد الأئمة ويسيء الظن بالأئمة المجتهدين"[3]!! فضلاً عن التكفير والتضليل والعياذ بالله، أما هو فكان حليماً صبوراً، لا يحسُد ولا يحقِد على أحد، رحمه الله تعالى.
مؤلفاته:
قال عبد الحي الحسني: "ولم يكن للسيد نذير حسين كثرةُ اشتغال بتأليف، ولو أراد ذلك لكان له في الحديث ما لا يقدر عليه غيرُه، وله رسائل عديدة.. وأما الفتاوى المتفرقة التي شاعت في البلاد فلا تكاد أن تحصر، وظني أنها لو جمعت لبلغت إلى مجلدات ضخام".
وقال العظيم آبادي: "أما مؤلفاته التي هي موسومة بأساميها فلم نرَ منها إلا "معيار الحق"، وهذا كتاب لم يؤلَّف مثله في بابه، و"واقعة الفتوى ودافعة البلوى"، و"ثبوت الحق الحقيق"، و"رسالة في تحلي النساء بالذهب"، و"المسائل الأربعة"، وكلها بالهندية، و"فَلاح الولي باتباع النبي"، ومجموعة بعض الفتاوى، وهاتان الرسالتان بالفارسية، و"رسالة في إبطال عمل المولد" بالعربية، أما الفتاوى المتفرقة التي شاعت في البلاد والقرى وانتفع بها خلق الله فكثيرة، ما بين مطوَّل ومتوسط ومختصر، بالألسنة الثلاثة المذكورة، يعسر عدُّها، وظني أنها لو جمعت لبلغت إلى مجلدات ضخام، وإن سُمِّيت فتاواه على نمط رسائل الحافظ السيوطي وجُعلت رسائل مستقلة في كل باب بلغت إلى مئتين".
وقال شيخي الدكتور عبد الرحمن الفريوائي في كتابه "جهود مخلصة" (ص105): "رَتَّب بعض تلاميذه فتاواه في جزأين كبيرين باسم الفتاوى النذيرية، ولو رتب أبحاثه وفتاواه كلها لكانت في مجلدات ضخام، وله كتاب جليل في مباحث الاجتهاد والتقليد "معيار الحق"، وقد ذكر مؤلف "الحياة بعد الممات" سبعة ثلاثين بحثاً أو كتاباً له".(/7)
قلت: وللأسف الشديد فإن هذه الرسائل طبعت قديماً ولم تجدَّد، وقد مضى على وفاة هذا الإمام قرن وزيادة، ومن واجب علماء تلك البلاد إعادةُ إحياء تراثه وإخراجه من جديد .
من ثناء العلماء عليه:
قال عنه العلامة المتفنن صِدّيق حَسَن خان القِنَّوجي: ((شيخُ الإسلام، ومركزُ علوم الاستجازة والإجازة، والعالمُ الخبيرُ حقيقةَ ذلك ومَجازَه، ومن المثل السائر: لا يُفتى ومالكٌ في المدينة، ولا يسند والحاكم ببغداد)). (الحياة بعد الممات ص303).
وقال العلامة المحدّث حسين بن مُحْسِن الأنصاري اليماني: ((إن الذي أعلمه وأعتقده وأتحققه في مولانا السيد الإمام، والفرد الهمام: نَذير حسين الدِّهْلَوي أنه فَرْدُ زمانه، ومُسنِدُ وقته وأوانه، ومن أجلِّ علماء العصر، بل لا ثاني له في إقليم الهند في علمه وحلمه وتقواه، وأنه من الهادين والمُرْشِدين إلى العمل بالكتاب والسنة والمعلِّمين لهما، بل أجلُّ علماء هذا العصر المحققين في أرض الهند أكثرُهم من تلاميذه، وعقيدتُه موافقةٌ لعقيدة السَّلَف؛ الموافقة للكتاب والسنّة، وفي رؤية الشمس ما يغنيك عن زحل..)) الخ. (الحياة بعد الممات ص310).
وقال العلامة القاضي المؤرِّخ الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النَّجْدي - رحمه الله تعالى - في رسالة بتاريخ 5 من ربيع الأول 1312: ((حضرة العالم العلامة، المحدّث الفهامة، قدوة أهل الاستقامة: السيد محمد نَذير حسين)). (الحياة بعد الممات ص298).(/8)
وقال المحدّث العلامة الشيخ شمسُ الحقّ العَظيم آبادي عن نَذير حسين في "غاية المقصود شرح سنن أبي داود" (1/54-55): ((وإني صاحبْتُه ولازمتُه قريباً من ثلاث سنين، واستفضتُ منه فيوضاً كثيرة، ووجدته إماماً في التفسير والحديث والفقه، عاملاً بما فيها، حَسَن العقيدة، ملازماً لتدريس القرآن والحديث ليلاً ونهاراً، كثير الصلاة والتلاوة والتخشع والبكاء، حسن الخُلُق، كثير التودد، لا يحسد ولا يحقد، منكسر النفس، ولم أر في زمننا من أ هل العلم أكثر عبادة منه، وكان يطيل الصلاة جدا، ويمدّ ركوعها وسجودها، وكان يعظ الناس كل يوم بعد صلاة الصبح بالمسجد، ويجتمع في مجلسه خَلق كثير، ولو حلفت بين الركن والمقام أني ما رأيتُ بعيني مثله ولا رأى هو مثلَ نفسه في العلم والعبادة والزهد والصبر والكرم والخُلق والحلم، ما حنثت، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أرَ في معناه مثله، شيخ الإسلام، مفتي الأنام، محدّث العصر، فقيه الدهر، رئيس الأتقياء، قدوة النجباء، الإمام الأجل الأكرم، شيخ العرب والعجم، عمدة المفسرين، زبدة الناسكين، ذو الكرامات الظاهرة والمقامات الفاخرة)).
وقال أيضاً (1/57): ((قال بعضُ أفاضل العَصْر وأماثل الدَّهر [في الحاشية: هو المولوي وَحيد الزمان] في ترجمته للعقيدة الصابونية: (إنَّ من علامات أهل السنّة أن يُحِبَّ أهلَ الحديث وناصِريهم، كالأئمة الستّة، والأئمة الأربعة، وغيرهم من متقدميهم ومتأخريهم - وعدَّ أسماء بعضهم، وقال في آخره -: ومنهم شيخُ الهند حضرة سيدي مولانا نَذير حسين الدِّهْلَوي). فوالله نِعْمَ ما قال هذا الفاضل الصالح، وإني أقول: إن حُبَّه من علامات أهل السنّة، وإنه لا يبغضه إلا مبتدعٌ معاند للحق)).
وترجمته في هذا الكتاب حافلة (1/51-67)، وقد ألَّفه في حياة شيخه.(/9)
وقال أيضاً في عون المعبود - الذي ألّفه في حياة شيخه أيضاً - عند ذكره للمجدِّدين عبر القرون (11/266 ط. العلمية): ((وعلى رأس الثالثة عشرة شيخُنا العلاَّمة النبيل، والفهّامة الجليل، نِبْراسُ العلماء الأعلام، سامي المجد الأثيل والمقام، ذو القدر المحمود، والفخر المشهود، حَسَنُ الاسم والصفات، ربُّ الفضائل والمَكْرُمات، المحدِّث الفقيه المفسِّر، التقيُّ الوَرِعُ النَّبيه، الشيخ الأكمل الأسعد، السيِّد الأجلُّ الأمجد، رُحْلةُ الآفاق، شيخُ العَرَب والعَجَم بالاتفاق، صاحبُ كمالات الباطن والظاهر، مُلْحِقُ الأصاغر بالأكابر، شيخُنا وبركتنا، السيد نَذير حسين، جعله الله تعالى ممن يُؤتَى أَجْرَه مرَّتين، ولا زالت أنوارُ معارفه مدى الأيام لامعة، وشموسُ عوارفه في فَلَكِ المعالي ساطعة، وحماه الله من حوادث الأزمان ونَكَباتها، وأعزَّ محله في الجنان بأعلى درجاتها)).
ولا يأتي ذكرُه في عون المعبود إلا مقروناً بالتبجيل والثناء، ومنه قوله (1/124): ((إمامُ عَصْرِه، وأستاذ دَهْرِه، العلاَّمة المحدِّث الفقيه المفسِّر، شيخنا ومعلِّمنا السيد محمد نَذير حسين الدِّهْلَوي)).
وقوله (1/220): ((سمعتُ شيخنا العلامة المحدِّث الفقيه سلطان العلماء السيد محمد نَذير حسين أدام الله بركاته علينا يَقول به)).
وقال أيضاً في التعليق المُغْني على سنن الدّارَقُطْني (1/11): ((قرأتُ بعض السنن على رئيس المحدِّثين في عصره، عمدة المحققين في دهره، مُسْنِدِ الوقت، شيخِ الإسلام، جمال الملة والدين، السيد محمد نَذير حسين الدِّهْلَوي..)).
وقال أيضاً (4/49): ((.. واختيار شيخنا العلامة الرُّحْلة، إمام عصره، فريد دهره، السيد محمد نَذير حسين المحدث الدِّهْلَوي، أدام الله بركاته علينا)).(/10)
وقال أيضاً في "الوجازة في الإجازة" (ص28) معدداً شيوخه: ((أوَّلُهم وأَشْرَفُهم وأقدَمُهم: السيّد العلاَّمة، زَيْنُ أهل الاستقامة، المحدِّث، المفسِّر، الفقيه، الكامل، النَّبيه، الوَرِعُ، الزاهد، مُلْحِقُ الأحفاد بالأجداد، الذي لم تَرَ مثلَه العُيون، ومُلئت المشارق والمغارب بتلاميذه، الإمامُ الهمام.. السيد محمد نَذير حسين، جعله الله ممن يُؤتَى أَجْرَه مَرَّتين)).
وقال مؤرِّخ الهند العلامة عبد الحي الحَسَني - والد مجيزنا العلاَّمة أبي الحسن النَّدْوي - في "نزهة الخواطر" (8/523-527): ((شيخنا السيد نَذير حُسين الدِّهْلَوي، الشيخ الإمام العالم الكبير المحدِّث العلاَّمة.. المتفق على جلالته ونَبالته في العلم والحديث.. انتهت إليه رئاسةُ الحديث في بلاد الهند، وكان رحمه الله ممن أوذي في ذات الله سبحانه غير مرة.. كان آيةً ظاهرة، ونعمةً باهرة من الله سبحانه في التقوى والدِّيانة، والزُّهد والعِلْم والعَمَل، والقناعة والعفاف، والتوكل والاستغناء عن الناس، والصِّدق وقول الحق، والخشية من الله سبحانه، والمحبة له ولرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - اتفق الناس - ممن رزقه الله سبحانه حظًّا من علم القرآن والحديث - على جلالته في ذلك.. ولم يكن للسيد نَذير حُسين كثرةُ اشتغال بتأليف، ولو أراد ذلك لكان له في الحديث ما لا يَقدر عليه غيرُه.. وأما تلامذته فعلى طبقات، فمنهم العالمون الناقدون المعروفون، فلعلهم يبلغون إلى ألف نفس، ومنهم المقاربون بالطبقة الأولى في بعض الأوصاف، ومنهم من يلي الطبقة الثانية، وأهل هاتين الطبقتين يبلغون إلى الآلاف)). وترجَمَه ترجمةً حافلة.
وقال العلامة الشيخ أبو بكر خُوقِير المَكّي في ثَبْت الأثبات الشهيرة (ص37 الغفيلي، ص55 حاتم العوني): ((شيخنا السيد نَذير حسين عالم دِهْلي المُحَدِّثُ الشهير)).(/11)
وقال تلميذه الشيخ سعد بن حَمَد بن عتيق رحمه الله تعالى: ((وممن حضرتُ عليهم؛ وسمعتُ منهم؛ وأخذتُ عنهم من العلماء الأعلام المحدِّثين الكرام: الشيخُ الفاضل النِّحرير، والعالِمُ الكامل الشهير، حاملُ لواء أهل الحديث بلا نزاع، وحليةُ أهل الدِّراية والرواية والسماع: السيد نَذير حسين الدِّهْلَوي، رفع الله درجاته، وبارك في حسناته)). (إجازة الشيخ سعد بن عتيق للشيخ عبد الله العَنْقَري بتحقيقي ص74، ومثله في إجازته للشيخ محمد بن عبد اللطيف ص33، وعنه: إتحاف النُّبلاء بالرواية عن الأعلام الفضلاء ص5).
وقال ابن عَتيق أيضاً: ((العالمُ النِّحرير، الذي ليس له في عصره نَظير، السيد محمد نَذير)). (إجازة لعبد العزيز بن عبد الله بن عبد الوهاب، المذكورة في مقدمة المجموع المفيد من رسائل وفتاوى الشيخ سعد بن حمد بن عتيق ص15).
وقال شيخ السنّة في المغرب العلامة عبد الله بن إدريس السنوسي في إحدى رسائله: "والِدُنا العلامة المحدِّث الفهامة السيد محمد نذير حسين". (الحياة بعد الممات 298)(/12)
وقال العلاَّمة المحدِّث الشيخ عبد الرحمن المُبارَكْفُوري في مقدمة "تحفة الأحوذي" (1/52-53 ط.السلفية) عند كلامه على الشاه محمد إسحاق الدِّهْلَوي: ((ثم إنه هاجر إلى مكة المكرمة، واستخلف من هو فَرْدُ زمانه وقُطْبُ أوانه، رُحْلة الآفاق، شيخ العرب والعجم بالاتفاق، المجدِّدُ على رأس المئة الثالثة عشرة، أعني المحدِّث المفسِّر الفقيه شيخنا الأجل السيد: محمد نَذير حسين الدِّهْلَوي؛ في إشاعة العلوم الحديثيَّة، فولي التدريس والإفادة والإفتاء والوعظ والتذكير، ودرَّس الكتب من جميع العلوم المتداولة ثنتي عشرة سنة، ثم غَلَبَ عليه حُبُّ تدريس القرآن والحديث، فترك اشتغاله بما سواهما إلا الفقه، فاشتغل بتدريس هذه العلوم الثلاثة إلى آخر عمره، أي من سنة سبعين بعد الألف ومئتين إلى سنة عشرين بعد الألف وثلاث مئة، فجميع مدة اشتغاله بتدريس هذه العلوم الثلاثة اثنتان وستون سنة، أفاد شيخنا بعلومه ونفع بإفاضته خَلْقاً كثيراً لا يُحصى عددهم، فأنارت بأنوار فيوضه البلاد، وأضاءت بأضواء علومه الأمصار، انتشر تلامذته في جميع أقطار الأرض، من الهند والعرب وغيرهما، فليس من بلدة ولا قرية إلا وقد بَلَّغ بها نفحاته المِسْكِيَّة، ووَصَّل إليها فوحاته العلمية، سيقت إليه المَطايا؛ وشُدَّتْ نحوه الرِّحال ليُقْتَبس من أنوار معرفته، ويُغترف من بحار علومه، ويُتلقى من مكارم أخلاقه وشمائله، ويُستمسك بمحاسن آدابه وفضائله، فَلَهُ على رقاب الناس مِنَنٌ عظيمة، وأيادٍ جسيمة، أفنى عمره العزيز في إشاعة الدين، وصَرَفَ متاعه ومالَه في نشر العلوم الدينية وترويج السنن السنيّة، لم يوجد مثله في زمانه ولا بعده في عِلْمِه وفضله، وخُلُقه وحِلْمه، وَجُودِه وتواضعه، وكَرَمه وعفوه، وكثرة عبادته لربه، وخشيته له واتقائه، وورعه وزهده، وجميع الخصال الحميدة، والشِّيَم المَرْضِيَّة، والصفات الجميلة، والسِّمات الحسنة.(/13)
وصنَّف تصانيفَ مفيدة تشهد له بطول الباع في العلوم والاطلاع على الكتب، وتدلُّ على تبحره، وسعة نظره، وكثرة مطالعته، وجودة حفظه، ودقَّة فهمه، وإصابة فكره، حصل له من الشرف والفضل ما لم يحصل لأحد ممن عاصره، وبلغ من العُلى والرِّفعة ما لم يبلغ غيره من المعاصرين)).
وقال شيخ الحديث في دهلي العلامة الشيخ أحمد الله بن أمير الدِّهْلَوي في إجازته للشيخ عبد الله القَرْعاوي رحمهما الله (ق1/ب): ((أخذتُ قراءة وسماعاً وإجازةً عن مشايخ أجلاء أعلام، وسادة كرام، من أجلِّهم شيخُنا الشريف الإمام الهمام المدقِّق سيدنا نَذير حسين الدِّهْلَوي رحمه الله)).
وقال العلامة المحدث الشيخ يوسف حُسين الهَزارَوي الخانْفُوري الأثري في ثَبْته ((الجوائز والصِّلات في أسانيد الكتب والأثبات)) (ص8): ((شيخنا ومولانا، شيخ الإسلام والمسلمين، رئيس العلماء المحققين، بقيَّة السَّلَف، حُجَّة الخَلَف، مجدد القرن الثاني عشر، معلِّم بني الأسود والأصفر والأحمر، المجتهد المطلق، الحاوي على كل ما جلَّ من العلوم الشريفة وما دقّ، الفارس الأسبق في ميدان البَراعة فلا يُلحق، المحدِّث المفسِّر الحافظ الفقيه الأصوليُّ النَّحْوِيُّ المقرئ، السيد محمد نَذير حسين، الشيخ الإمام العابد الزاهد، الثقةُ الثقةُ الثقةُ، العَدْلُ العدلُ العدلُ، الضابط المُتْقِن، ناصر السنّة، قامع البدعة، سلالة أهل بيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فِلْذَةُ كَبِدِ البَتول، قُرَّةُ عين أسد الله الغالب أبي الحسن علي بن أبي طالب، عليهم الصلاة والسلام إلى يوم القيامة)).
وقال أيضاً (ص24): ((السيِّد الإمام المجتهد المُطْلَق، المحقق الأسبق في ميدان الإرشاد والتعليم بحيث لا يُلْحَق، شيخنا الحافظ الحجّة محمد نَذير حسين المحدث الدِّهْلَوي)).
وقال أيضاً (ص47): ((شيخُ الإسلام محمد نَذير حسين الدِّهْلَوي، الإمام الحجة الحافظ الضابط)).(/14)
وقال (ص49): ((الحافظ الضابط الحجَّة الإمام المجتهد الفقيه الأصوليّ شيخ الإسلام السيد محمد نَذير حسين الدِّهْلَوي المحدِّث)).
وقال الشيخُ العلامة أبو القاسم محمد بن محمد سعيد البَنَارِسي في إجازته للشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ (ص77): ((شيخُ الكُلِّ في الكُلّ، مولانا السيِّد.. فخر المحدِّثين، تاج المُفَسِّرين، شيخنا وسيّدنا محمد نَذير حُسين المحدِّث الدِّهْلَوي)).
وقال الشيخ محمد أبو ذر النِّظامي الهِنْدي نزيل حِمْص في إجازته للشيخ سليمان الصنيع: ((العلامة الفهامة، خاتم المحدثين، محيي السنّة، مولانا الشيخ نذير حسين المحدّث الدِّهْلَوي)).
وقال العلامة الرُّحْلة المؤرّخ عبد الحفيظ الفِهْري الفاسي في "استنزال السَّكينة الرحمانية" (ص27 رقم 19): ((الشيخ نَذير حسين بن جواد علي الرِّضَوي العَظيم آبادي الدِّهْلَوي من أشهر العلماء الأثريين بالهند، ورسائله تدل على تبحُّره في علم الحديث)).
وقال شيخُنا العلاَّمة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عَقيل حفظه الله تعالى: ((الشيخ نَذير حسين إليه المنتهى والمرجع في وقته في الحديث، ونروي عنه من جانبين، من جانب شيخنا أبو وادي، ومن جانب شيخ القرعاوي: أحمد الله)).
وقال أيضاً في مقدمة "النوافح المسكية" (ص6): ((شيخ الحديث والمحدّثين في عصره، الإمام السلفي الشهير نَذير حسين الدِّهْلَوي)).
وقال لي أيضاً: ((كان شيخنا علي أبو وادي يعظم شيخه نذير حسين كثيراً، ويثني عليه، ولا سيما في الحديث)).
وقال مجيزنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله في تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي (260): ((المحدّث الكبير الشهير، المحقق الناقد، الضابط المتقن، الشيخ نذير حسين)).(/15)
ومن شاء التوسع في ثناء العلماء ولا سيما الهنود فليراجع كتاب "الحياة بعد الممات"، فقد سجل كلام الكبار، مثل محمد بشير القِنَّوجي، وعبد الحي اللكنوي الحنفي، وفضل الرحمن الكنج مراد آبادي الحنفي، وأحمد علي السهارنفوري الحنفي، وعبد الله الغازيفوري، وغيرهم.
وأُنشدت قصائد كثيرة في مدحه ورثائه، منها قصيدة محمد عبد الرحمن بقا الغازيفوري، ابن أخت العلامة عبد الله الغازيفوري، ومطلعها:
ظَعَنَتْ سُليمى فالسرورُ قبيحُ والعين تذرِفُ والفؤاد جريحُ
والصبر في يوم الفِراق محرَّمٌ أوَ ما ترى وُرْقَ الأراكِ تنوحُ
وله أيضاً:
أيا من يُضيعُ العمرَ في طول غفلةٍ أتحسَبُ أن المرءَ في الدهرِ خالدُ
ومنها قصيدة علي نعمت الفلواروي، مطلعها:
الحبُّ لا يستطيع الصَّبُّ يكتمُهُ حلَّ الغرامُ به ودمعُه دمُهُ
وقلبُه حَزِنٌ والعينُ باكيةٌ تَفيضُ في الخدِّ هتَّاناً وتسجمُه
وله فيه ميميةٌ مطلعها:
أسقى على طَلَلٍ دَرَسنَ معالمُه مُذ هاجَرَت هِنداتُه وفَواطِمُه
طَوراً أحنُّ وتارةً أبكي إذا تَبكي لهنَّ بذي الأراكِ حَمائمُه
وغيرها من القصائد بالعربية والأُردية، تنظر في كتاب "الحياة بعد الممات"، ومقدمة "غاية المقصود".
وفاته:
عاش رحمه الله مئة سنة، حتى ألحق الأحفاد بالأجداد، وكان ارتحالُه من الدنيا يوم الإثنين لعشر ليال مضين من رجب سنة 1320 في دهلي، رحمه الله - تعالى - وجزاه عن السنّة وأهلها خيراً[4].
وأرَّخ وفاته المولوي الحكيم مختار أحمد بقصيدة بديعة من عشرين بيتاً، كل شطر منها يؤرِّخ سنة وفاته، وساقها صاحب الحياة بعد الممات (264)، ومطلعها:
فاتَ نور الفرقة السُّبْحانيَهْ إنه أحيا الأصول الغاليهْ
ربَّنا أكرِم بهذا وافيا أنت مُعطي العافيات العاليهْ
أهم مصادر ترجمته:(/16)
وقد أفرد ترجمةَ السيد محمد نَذير حسين تلميذُه الشيخ فضل حُسين المُظَفَّرْفُوري في كتاب حافل بالأُرْدية اسمه ((الحياة بعد الممات))، طبع في الهند قديماً، وجُدِّد طبعُه حديثاً، وله ترجمة في مقدمة "غاية المقصود" (1/51)، و"نزهة الخواطر" (8/523)، و"فهرس الفهارس" (2/593)، و"يوميات رحلة في الحجاز" (37)، و"مشاهير علماء نجد وغيرهم" (ص458)، و"معجم المؤلفين" (3/749)، و"علماء العرب في شبه القارة الهندية" (ص875)، و"جهود مخلصة" (ص103)، و"معجم المعاجم والمشيخات" (2/313)، و"زهر البساتين من مواقف العلماء والربانيين" لسيِّد العفاني (2/191)، وانظر بقية مصادر ترجمته باللغتين العربية والأردية في حاشية كتاب ((حياة المحدّث شمس الحق وأعماله)) لمحمد عُزَير شَمْس (ص270).
اتصالي به:
لعل من دلائل قَبول هذا الإمام أن جعله الله متفرداً بعلو اتصال أمَّات كتب السنّة بالسماع في عصره وبعده، فمن أراد سماعَها بعلوٍّ فلا بد أن يرويَها من طريقه، وبفضل الله تعالى فقد اتصلت لي الأَّمات عنه سماعاً بواسطتين - وهو أعلى ما يكون - فأكثر، وكل ذلك من طريق مدرسته من أهل الحديث السلفيين، وإنما أردفت هذا بترجمته لأتمثَّل بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في حق شيخه القدوة الفخر علي بن أحمد المقدسي المعروف بابن البخاري، إذ قال: ينشرح صدري إذا أدخلتُه بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأكتفي بطرف إسناد كتاب واحد من طريقه، وهو صحيح الإمام البخاري:
فأخبرنا بالصحيح من أولِه إلى آخره الشيخان المسندان: الحافظُ ثناء الله بن عيسى خان المدني، وعبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي، بقراءتي مع غيري عليهما معاً في الجامع الكبير بالكويت.
قال الأول: أخبرنا شيخنا الحافظ عبد الله الرُّوبْري قراءة عليه لجميعه غير مرة، أخبرنا عبد الجبار بن عبد الله الغزنوي. (ح)(/17)
وقال الثاني: أخبرنا بجميعه والدي غير مرة، قال: أخبرنا جماعة، منهم محمد حسين البتالوي قراءة عليه لجميعه. (ح)
وقرأت قطعة من أوله على شيخي الفقيه عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم في أبها والرياض وما حولهما، وأجازني، قال: أخبرنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز قراءة عليه لجميعه غير مرة، أخبرنا عبد الحق بن عبد الواحد الهاشمي قراءة عليه لبعضه وإجازة. (ح)
وقرأته عالياً من أوله إلى آخره على شيخي العلامة عبد القيوم بن زين الله الرحماني في الهند، وبقراءتي عليه لأوله وثلاثياته مرة أخرى في منزل شيخنا عبد الله بن عقيل قرب المسجد الحرام بمكة المكرمة، قال: أخبرنا بجميعه أحمد الله المحدّث الدهلوي في المدرسة الرحمانية بدهلي. (ح)
وأخبرنا بقطعة صالحة من أوله مع ثلاثياته شيخي العلامة الجليل عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل في منزله بالرياض وأجازني سائره، قال: قرأته كله على شيخنا الضرير عبد الله بن محمد المطرودي - قال: وكان يحفظ البخاري سنداً ومتناً كالفاتحة - قال: أخبرنا علي بن ناصر أبو وادي قراءة عليه.
قال شيخنا ابن عقيل: وقرأت قطعة من أوله عالياً على شيخنا المعمر علي بن ناصر أبو وادي في مسجده بعُنيزة، وأجازني سائره، وناولنيه. (ح)
وأخبرنا بقطعة من أوله مع ثلاثياته كذلك الشيخ المعمر محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ في الرياض، وأجاز سائره، قال: قرأت ثلثيه على الشيخ سعد بن حمد بن عتيق وأجازني. (ح)
قال خمستهم: أخبرنا السيد نذير حسين الدهلوي قراءة لجميعه في دهلي، أخبرنا الشاه محمد إسحاق الدهلوي قراءة لجميعه، أخبرنا جدي الشاه عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي قراءة لجميعه.
وباقي السند السماعي حرّرتُه في كتابي "فتح الجليل"، فلا أطيل به.
والحمد لله أولا وآخراً.
ــــــــــــــــــــــــ(/18)
[1] وقد يسَّر الله لي زيارة المدرسة التي كان يدرِّس فيها المترجَم، وهي في دهلي القديمة، تتكون من مبنى متواضع من ثلاثة أدوار ضيقة في وسطها فناء، وأسفلها مسجد صغير كانت دروسه فيه، فتعجبت من البركة التي طرحها الله في هذا الشيخ وتلامذته وذلك المكان المتواضع، وتأثرت لما أخبروني أن بيت هذا الإمام الكبير كان غرفة صغيرة رأيتها تحت الدرج المؤدي للدورين العلويين حيث يسكن الطلاب.
ومن نافلة القول أن المدرسة استمرت في العطاء بعد وفاة الشيخ، وتولى التدريس فيها تلميذه العلامة محمد بشير السهسواني وغيره، وبقيت تنشر السنّة إلى أن حلّت نكبة المسلمين بتقسيم الهند سنة 1366، فأُغلقت المدرسة أسوة بغيرها، إلى أن أحياها بعض المحتسبين من مدة قريبة، ولكنها ضعيفة الموارد وتحتاج إلى الدعم.
[2] وهناك قصة أخرى عقبها في المصدر السابق أذكرها استطراداً؛ لما فيها من إضاءة لجانب آخر في المترجَم، قال: "وقال الحافظ محمد صدّيق: إنه كان يصلي خلفه الفجر كل يوم، وكان في نهاية حياته يتلو عادة سورة المرسلات، وحين يأتي إلى قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} يتغير صوته فيكون مؤثراً جداً، حتى أن عيني الحافظ تغرورقان بالدموع، وأردف قائلاً: إنه لا يمكن أن يجد مثل هذه اللذة وهو يصلي خلف إمام آخر".
ويأتي كلام العظيم آبادي الذي فيه: "كان..كثير الصلاة والتلاوة والتخشع والبكاء.. ولم أر في زمننا من أهل العلم أكثر عبادة منه، وكان يطيل الصلاة جداً، ويمدّ ركوعها وسجودها".
[3] انظر حاشية العناقيد الغالية (47).
كما أن بعض هؤلاء حاولوا يائسين دفن حسنات وجهود هذا الإمام ومدرسته في إشاعة السنّة ونشرها في ديار الهند، فتجاهلوا ذكرها في الكتابات المتعلقة بذلك، ولكن هيهات! فلهذا الإمام وطلبته الدور الأكبر في طبع أمّات كتب السنّة وخدمتها، وسبقوا في ذلك العرب أنفسهم، شهد بذلك القاصي والداني.(/19)
[4] وهنا فائدة ذكرها العلامة السلفي عبد العزيز الميمني الراجكوتي رحمه الله في مقال له (ضمن مجموع بحوث وتحقيقات له، جمعها محمد عزير شمس) فقال (1/18): "ولعل أكثر العلماء يعرفون الشاه ولي الله، وولده الشاه عبد العزيز، ثم شاه إسماعيل الشهيد، يُعرفون بجنوحهم إلى طريقة السلف، من دون التقيد بمذهب من المذاهب، ثم في زمن الثورة الهندية وبعدها زادت هذه الرغبة، ونشأ منهم شاه محمد إسحاق، ثم تلميذه السيد نذير حسين، الذي رأيتُه من سوء حظي ميتاً في الرابع عشر من عمري، واشتركتُ في غسله".
قلت: وأخبرني الشيخ عبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي في الكويت أن الذي تولى غسل نذير حسين هو تلميذه وخادمه الشيخ عثمان حسين العظيم آبادي، والد شيخنا ومجيزنا الشيخ يحيى المدرس في المسجد الحرام، حفظه الله تعالى.(/20)
العنوان: العلامة المفكر عبدالرحمن حبنكة الميداني
رقم المقالة: 545
صاحب المقالة: أيمن بن أحمد ذوالغنى
-----------------------------------------
وُلدَ فضيلة الشيخ العلاَّمة عبد الرحمن حَبَنَّكَة المَيداني الدِّمشقي سنة 1345هـ (1927م)، في أحد أعرق أحياء دمشقَ، حيِّ المَيدان، لأُسرة علمٍ ودعوة وجهاد؛ فأبوه العلاَّمةُ المربِّي المجاهد حاملُ لواء الدَّعوة في الشام، الإمامُ حسن حَبَنَّكَة المَيداني، عضوُ المجلس التأسيسيِّ لرابطة العالم الإسلاميِّ، وتَرجعُ أُصولُ أسرة الشيخ إلى عَرَب بني خالد الذين تمتدُّ منازلُهم إلى بادية حَماة من أرض الشام.
نشأ فقيدُنا في بيت أبيه الذي كان دارَةَ علمٍ وتوجيه، ومَجْمَعَ فقهٍ وفَتوى، وتَرَعرَعَ في أكناف والده، يَحوطُه بعنايته ورعايته، ويُعدُّه ليكونَ خليفةً له في العلم والدَّعوة.
تلقى الشيخُ العلمَ في المدرسة الشَّرعيَّة النَّموذجيَّة التي أسَّسها أبوه الإمامُ وسمَّاها: معهدَ التوجيه الإسلاميِّ، وهي مدرسةٌ داخليَّة مجانيَّة، كان نظامُ التعليم فيها فريدًا مُتميِّزًا، على طريقة علماء المسلمينَ المتقدِّمينَ، والدراسةُ فيها دراسةً موسوعيَّة أصيلة، يتدرَّجُ فيها الطلاَّبُ من مبادئ العلوم إلى أعلى المستَويات.
وكان الشيخُ حسن يدرِّب طلاَّبَه - ومنهم ابنُه عبد الرحمن - على إعداد خُطَب ودُروس ومُحاضَرات، وإلقائها، وهم لا يزالون حَديثي الأسنان، مما كان له أعظمُ الأثر في تمكُّنهم من الخَطابة والوعظ والتعليم، وفي تكوين شخصيَّاتهم العلميَّة والدَّعَويَّة.
تخرَّجَ المُترجَم في معهد أبيه سنة 1367هـ (1947م)، وكان أبوه عَهِدَ إليه بالتدريس في معهده وهو ابنُ 15 سنة، ثم أسنَدَ إليه بعد تخرُّجه تدريسَ عدد من العلوم، منها: الفقه، والأُصول، والتوحيد، والمنطِق، والبلاغة.(/1)
وفي سنة 1370هـ التحقَ بكُلِّية الشريعة في الأزهر الشَّريف، وحازَ منها الإجازةَ العاليةَ (ليسانس في الشريعة)، ثم حازَ شهادةَ العالِميَّة مع إجازةٍ في التدريس (ماجستير في التَّربية وعلم النفس).
بعد تخرُّجه في الأزهر عملَ مُدرِّسًا في ثانويات دمشقَ الشرعيَّةِ والعامَّةِ، إضافةً إلى التدريس في معهد أبيه رحمه الله.
وتولَّى مُديريَّةَ التعليم الشرعيِّ التابعةَ لوِزارَة الأوقاف، وكان في إدارَته حكيمًا رَشيدًا، يعملُ بهمَّةٍ وصمتٍ، ومن أهمِّ ما أنجزَهُ في إبَّان إدارته: تأسيسُ عددٍ من المدارس الشرعيَّة في بعض المحافظات السوريَّة، منها ثانويةٌ شرعيَّة للإناث بدمشقَ، وأُخرى بحلبَ.
في سنة 1387هـ (1967م) انتقلَ إلى الرياض أستاذًا في جامعة الإمام محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة، قضى فيها سنتين، ثم انتقل إلى مكَّةَ المكرَّمَةِ فعمل أستاذًا في جامعة أمِّ القُرى زُهاءَ ثلاثين عامًا، حتى بلغَ السبعين.
اختيرَ الشيخُ عبد الرحمن عضوًا في المجلس التأسيسيِّ لرابطة العالم الإسلاميِّ في مكَّةَ المكرَّمَةِ، وعضوًا في مجلس هيئة الإغاثة الإسلاميَّة العالميَّة.
وكان له الكثيرُ من المشاركات في المؤتمرات والنَّدوات، منها: مؤتمرُ التعليم الإسلاميِّ، ومؤتمرُ الاقتصاد الإسلاميِّ، اللذان عُقِدا في مكَّةَ المكرَّمَةِ، ومؤتمرُ الأدب الإسلاميِّ الذي عُقِد في (لكهنو) الهند، ومؤتمرُ الدعوة والدُّعاة الذي عُقِدَ في المدينة المنوَّرَة على ساكنها أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم.
وله مشاركاتٌ كثيرةٌ في إلقاء المحاضَرات العامَّة، والأُمسيَّات، والنَّدوات العلميَّة، ضمن الأنشطة الثقافيَّة داخلَ جامعة أمِّ القُرى وخارجَها.
وله إسهاماتٌ تلفازيَّة وإذاعيَّة، وقد استمرَّ في تقديم أحاديثَ إذاعيَّةٍ يوميَّة أو أُسبوعيَّة ما يزيدُ على 30 عامًا.(/2)
كان الشيخُ رحمه الله شديدَ الحرص على وقته، فلا يكادُ يُرى إلا قارئًا أو كاتبًا، أو محاضرًا أو مناقشًا، وكان ذا دَأَبٍ وجَلَدٍ على العلم والعمل المتواصل، وكان موسوعيَّ الثقافة، واسعَ الاطِّلاع.
تميَّز نتاجُه العلميُّ بالغَزارة مع العُمق والشُّمول، وقد جمعَ في كتاباته بين القديم والحديث، وبين التخصُّص الشرعيِّ الدقيق والعلوم الدنيويَّة العصريَّة.
من نتاجه المطبوع:
أولاً - سلسلةُ في طريق الإسلام، منها:
1 - العقيدةُ الإسلاميَّة وأُسُسُها.
2 - الأخلاقُ الإسلاميَّة وأُسُسُها.
3 - الحضارةُ الإسلاميَّة وأُسُسُها ووَسائلُها.
4 - الأمَّةُ الربانيَّة الواحدَة.
5 - فقهُ الدَّعوة إلى الله، وفقهُ النُّصْح والإرشاد.
ثانيًا - دراساتٌ قرآنيَّة، منها:
1 - قواعدُ التدبُّر الأمثَل لكتاب الله عزَّ وجلَّ.
2 - مَعارجُ التفكُّر ودقائقُ التدبُّر (وهو تفسير بديع للقرآن الكريم في 15 مجلداً).
3 - أمثالُ القرآن وصُوَرٌ من أدبه الرَّفيع.
ثالثاً - سلسلةُ أعداء الإسلام، منها:
1 - مَكايدُ يهوديَّةٌ عبرَ التاريخ.
2 - صراعٌ مع الملاحِدَة حتى العَظْم.
3 - أجنحَةُ المكر الثلاثةُ وخَوافيها (التبشير، الاستشراق، الاستعمار).
4 - الكَيدُ الأحمرُ (دراسة واعية للشيوعيَّة).
5 - غَزوٌ في الصَّميم.
6 - كَواشِفُ زُيوفٍ في المذاهب الفكريَّة المعاصرَة.
7 - ظاهرةُ النفاق وخَبائثُ المنافقين في التاريخ.
رابعًا - سلسلةُ من أدب الدَّعوة الإسلاميَّة، منها:
1 - مبادئُ في الأدب والدَّعوة.
2 - البلاغةُ العربيَّة (أُسُسُها وعُلومُها وصُوَرٌ من تَطبيقاتها).
3 - ديوانُ ترنيمات إسلاميَّة (شعر).
4 - ديوانُ آمَنتُ بالله (شعر).
خامسًا - كتبٌ متنوِّعَة:
1 - ضَوابطُ المعرفة وأصولُ الاستدلال والمناظَرة.
2 - بَصائرُ للمسلم المعاصِر.
3 - الوالدُ الداعيةُ المربِّي الشيخُ حسن حَبَنَّكَة المَيداني (قصَّة عالم مجاهد حَكيم شُجاع).(/3)
4 - التحريف المعاصر (ردٌّ على كتاب د.محمد شحرور: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة).
ولزوجته الدَّاعية المربِّية عائدة راغب الجرَّاح الأستاذة بجامعة أمِّ القُرى سابقًا – رحمها الله تعالى (توفِّيت قبل الشيخ بزُهاء سنتين) - كتاب: عبدُ الرَّحمن حَبَنَّكَة المَيدانيُّ العالم المفكِّر المفسِّر (زوجي كما عرفته)، صدرَ عن دار القلم بدمشقَ، ضمن سلسلة: علماء ومفكِّرون معاصرون، لمحاتٌ من حياتهم، وتعريفٌ بمؤلَّفاتهم.
في ليلة الأربعاء 25 من جُمادى الآخرة 1425هـ قضى الله قضاءه الحقَّ بوفاة الشيخ عبد الرحمن حَبَنَّكَة المَيداني، عن 80 سنة، في إثْر مرض خَبيث ألمَّ به.
شُيِّعَت جِنازةُ الشيخ عصرَ يوم الأربعاء، وكانت جِنازةً حافلةً مشهودةً، خرجَ فيها آلافُ المشيِّعينَ من العلماء والكُبَراء والعامَّة، تملؤُهم الحسرةُ وتَمُضُّهُم الأحزان، وصُلِّي عليه في جامع الأمير مَنْجَك في حيِّ المَيدان، وأبَّنَهُ عقِبَ الصَّلاة شيخُ قرَّاء الشام فضيلةُ الشَّيخ محمد كريِّم راجح، وألقى ولدُه الدكتور وائل قصيدةً في رثائه، ثم وُوريَ في مثواهُ الأخير من دار الدُّنيا بمقبرة الجُورَة في المَيدان.
رحمَ الله الشيخَ رحمةً واسعة، وجَزاهُ عن دَعوته وجهاده خيرَ ما يجزي المحسنينَ، وأخلفَ في الأمَّة أمثاله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العَليِّ العظيم.(/4)
العنوان: العلامة سعد بن حمد بن عتيق
رقم المقالة: 873
صاحب المقالة: محمد زياد بن عمر التكلة
-----------------------------------------
العلامة الشيخ سعد بن حمد بن عتيق
(1267-1349هـ)
نسبه ونشأته:
هو سعد بن حَمَد بن علي بن محمد بن عَتيق بن راشد بن حميضة، النَّجْدي الحَنْبَلي السَّلَفي، اشتُهر كوالده بابن عَتيق، وأصلهم من (ثادِق)، ثم (الزُّلْفي)، من بُلدان نَجْد.
اختُلف في مكان مولده وتاريخه، وصوَّب لي قريبُه فضيلة الشيخ إسماعيل بن سعد العتيق -في رسالة خاصة- أنه وُلد في بلدة (الحلوة) من قرى (حوطة بني تميم) عام سبعة وستين ومئتين وألف للهجرة (1267هـ).
ونشأ في كَنَف والده الشيخ حَمَد؛ الذي كان من القضاة والعلماء في نَجْد، وله منزلة عالية، فطَلَب العلم على يديه، وحفظ على يديه القرآن، وأخذ عنه قدراً وافراً من المُتون والفُنون.
كما كانت والدته من الصالحات وحافظات كتاب الله، وهي سارة بنت الشيخ سعد آل كسران، وكان لها أثرٌ بيِّن في تربيته وتعليمه.
الرحلة في طلب العلم:
كانت الرياض المحطة الأولى للمترجَم في طلب العلم، فقرأ على عُلمائها، وتأهَّل في العلم وأدرك.
ثم رغب في الرِّحلة للاستزادة، وحُبِّب إليه علم الحديث، وكانت الهند قبلةَ هذا الفن في ذلك الوقت، فتكبَّد المشاقَّ والأخطار وسافر إليها سنة 1301هـ، كما كتب بخطِّه[1]، وذلك قبل ثلاثة أشهر من وفاة والده الصالح، الذي زوَّده بالوصايا والدعوات الصالحة، فقرأ على كبار العُلماء من أَهْلِ الحَديث السَّلفيين هناك، وأشهرُهم نَذير حُسين الدِّهْلَوي، وحُسين بن مُحْسِن الأَنْصاري، وصِدِّيق حَسَن خان، وبقي هناك ثلاث سنوات على الصحيح، استفاد فيها أيما استفادة، وعُرف فضله وصلاحه بين شيوخه وأصحابه.(/1)
واستغلَّ فُرْصَةَ وُجوده هناك في استنساخ الكتب أيضاً، فنقل إلى بلاده عدداً من كتب السَّلف، وتُراث شيخ الإسلام ابن تيميَّة ومدرسته، كما بدأ التأليف هناك، فكتب سنة 1302 رسالته النافعة: (عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية).
وبعد عَوْدَتِه من الهِنْد توجَّه إلى مكة المكرمة سنة 1304 للحَجِّ، وبقي فيها ستة أشهر، وسكن في رباطٍ بجوار (باب دريبة) مع الشيخ صالح القاضي، فقرأ فيها على مشايخها في الفقه والعربية، ونسخ عدداً من الكتب والرسائل المهمَّة، ثم عاد سنة 1305 إلى موطنه.
وبعد مدَّة عزم على السفر للهند مرَّة أخرى للتزوُّد من العلم، فشدَّ رحاله، ولما بلغ الأحساء أصابه مرضٌ في عينه اضطرَّه إلى العودة.
مشايخه:
1- والده: قرأ عليه في التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والنحو، وغير ذلك.
2- العلامة عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهَّاب[2].
3- العلامة محمد بن إبراهيم بن محمود: قرأ عليهما في الرياض.
4- الإمام المحدِّث محمد نذير حسين الدِّهْلَوي: أقام عنده سنة كاملة في (دِهْلي)، وقرأ عليه في الحديث قراءة شرح وتحقيق، فأخذ عنه الصحيحين بكمالهما، وأكثر سنن أبي داود، وبعض السنن الثلاثة والموطأ، وكتب له الإجازة بقلمه.
وكان الشيخ سعد يقدِّم شيخه نذيراً على سائر شيوخه، وينعته بأعلى الأوصاف - على وَرَعه وتحرُّزه المشهور- فيقول عنه (كما في إجازته للعنقري ص74): "الشيخ الفاضل النِّحرير، والعالم الكامل الشهير، حامل لواء أهل الحديث بلا نزاع، وحلية أهل الدراية والرواية والسماع". وقال أيضاً (ص86): "شيخنا البدر المنير نذير حسين". وقال (ص91): "شيخنا العلامة نذير". وقال في إجازته للشيخ عبد العزيز النمر (ضمن مقدمة رسائل سعد بن عتيق ص15): "العالم النحرير الذي ليس له في عصره نظير: السيد محمد نذير".(/2)
قلت: وحدثني الشيخ الفاضل أبو القاسم عبد العظيم المدني؛ أمين جمعية أهل الحديث في (مَوُو) بها، قال: كنت في المسجد الحرام أوائل سنة 1400 ولقيتُ شيخاً هنديًّا كبيراً من تلامذة المترجَم، فقال لي: كان شيخنا سعد بن عتيق يقول: "الناس هنا يقولون: سعد بن عتيق شيخٌ كبير! - ورفع يده إلى مستوى صدره - ولكن شيخنا نذير حسين هو الشيخ الكبير"، ورفع يده فوق رأسه كثيراً.
5- الشيخ شريف حسين، ابن نذير حسين شيخه السابق: نعته في إجازته للعنقري: بالفاضل، وله منه إجازة.
6- العلامة الأمير صِدِّيق حسن خان: قرأ عليه في (بهوبال) بعد مغادرته (دهلي)، ووصفه بالعلامة الفاضل، وكتب له الإجازة بقلمه، وكانت بينه وبين والد المترجم مراسلات.
7- العلامة المحدِّث حسين بن مُحْسِن الأنصاري اليماني: قرأ وسمع عليه في (بهوبال) بعض كتب الحديث، ونعته بـ(الشيخ الفاضل البدر الساري)، وله منه إجازة.
8- العلامة محمد بشير السهسواني: أخذ عنه في (بهوبال)، وأجازه، ونعته المترجم بـ(العلامة الفاضل).
9- الشيخ سلامة الله الجَيْراجْفوري: أخذ عنه في (بهوبال) كذلك، وأجازه، ووصفه بـ(الشيخ الفاضل).
10- الشيخ القاضي محمد بن عبد العزيز الجعفري الزينبي المجلي شهري: سمع منه المترجم الحديث المسلسل بالأولية بشرطه، بسماعه له بشرطه من أبي عبد الحق المحمدي البَنارسي، وهو كذلك من العلامة محمد بن علي الشوكاني بسنده المشهور، وأجاز للشيخ سعد إجازة عامة، وذلك في صفر سنة 1303.
11- العلامة أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي: قرأ عليه المترجم في مكة الروض المربع بكماله، وغيره، قال ابن عبيد في تذكرة أولي النهى والعرفان (3/243): ((قرأ عليه كثيراً من الكتب النافعة، لا سيما ما يتعلق منها بالحديث)). وأجازه إجازة عامة.(/3)
12-14- قال المترجم في إجازته للعنقري (ص75): ((وأخذتُ عن جماعة من علماء أهل مكة المشرفة، منهم: الشيخ حسب الله الهندي، والشيخ عبد الله الزواوي، والشيخ أحمد أبو الخيور، وغيرهم، فإني أقمت بمكة المشرفة ستةَ أشهر، وأخذت بها ما أخذت، وسمعت من الفقه والعربية)).
15- الشيخ عبد الله بن شلوان في الرياض.
16- الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأنصاري الهندي في مكة.
17- الشيخ محمد بن عبد الرحمن المرزوقي في مكة.
18- الشيخ العلامة المحدِّث إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ: ذكره والثلاثةَ قبلَه الشيخُ محمد العثمان القاضي، وقال: إن الشيخ إسحاق كان سكنه في مكة بجوار سكن جدِّه صالح القاضي مع المترجم، فكان الشيخ إسحاق زميلاً وشيخاً لهما، ويراجعون ويبحثون ويتناقشون على قراءتهم.
فهذا ما وقفتُ عليه من تسمية مشايخه، ولم يستوعب ذكرَ مشايخه في إجازاته المعروفة[3].
أعماله:
بعد عودته من الرحلة إلى بلده الأفلاج عيَّنه الإمام عبدالله الفيصل آل سُعود في قضائها مكان أبيه، ولمّا تولى محمد بن رَشيد حكم نَجْد أقرَّه، وكان المترجم يتردَّد إلى حائل، وبقي إلى أن دخل الملك عبدالعزيز آل سعود الأفلاج، فلما رآه الملك قال عبارته المشهورة: ((وجدتُ دُرَّةً في بيتٍ خَرِب))، فنقله سنة 1329 إلى الرياض قاضياً على الجنايات، وعلى البادية، والوافدين إلى الرياض، كما عيَّنه إماماً للفروض الخمسة (دون الخطابة والعيدين) للجامع الكبير، وبقي على ذلك حتى وفاته رحمه الله.
وقال حمد الجاسر في مذكراته 1/184: إن المترجَم كان يتولى فصل الخصومات في المسجد الجامع، أوقات الضحى أو بعد الصلوات غالباً، فلم يكن هناك مكانٌ مخصص للقضاء.
من صفاته ومناقبه:(/4)
وَفَّق الله المترجَم لأُمورٍ اجْتَمَعتْ فيه، من أَبرزها: ما وَهَبَه الله من ذَكاءٍ وحِرْص، وتَبْكيره بالطلب على والده العالِم الصالح في بيئة سُنِّيَّة سَلَفيَّة، ورِحلته إلى أكثر من جِهة، ووَفْرة مَشْيَخَته، وتَنَوُّع عُلومهم ومَذاهبهم، وطُول مُدَّة تحصيله، كلُّ هذا ساهَمَ في تَمَيُّزه في العِلْمِ وتَفَوُّقه على الأقران.
ثم أُوتي فَوْقَ ذلك غَيرةً محمودة على الدِّين، وصَلابةً في السُّنَّة، وصلاحاً وزُهْداً وتَقْوى، وصَبْراً على التدريس والدَّعوة، فانتشر صِيْتُه ونَفْعُه في نَجْدٍ كلها، وتخرَّج عليه طبقاتٌ عدة، فيهم من كبار العُلماء.
ومما يُذكر أن المترجم كانت عنده بعض الحدَّة والشدَّة في الطبع، مع تواضع واحتقار للذات، ومن ذلك ما قاله في بعض رسائله (ضمن مجموع رسائله ص115): ((فاعلم وفَّقني الله وإياك أن الحاجةَ إلى سؤال مثلي وكلامِه في المباحث العلمية أعظمُ شاهدٍ على انقراض العلم وذهاب أهلِه، ولا يسعني إلا الجوابُ؛ على قُصور علمي وقلة إدراكي وفهمي)). وتقدم خبرُ تواضعه وتقديمه لشيخه نذير حسين.(/5)
وكان لا يَتكلَّفُ في مَلبَسِهِ، تُذَكِّرُ رُؤيتُه بالسَّلَفِ الصالح، ومع تواضعه للعامة كان عزيزاً مرتفعاً عند الأمراء والملوك، وله قصصٌ مشهورة، منها هذه القصة العجيبة التي تذكرنا بعلماء السلف، وخلاصتها: لما زار بعضُ المبعوثين الأجانب - وهم من النصارى - الملكَ عبد العزيز - رحمه الله - ومكثوا في قصره؛ تكلم المترجَمُ في درسه، وأخذ في بيان الولاء والبراء، وتأسف على الزمان وأهله، فتناقل الناس ذلك، وكثر الكلام، ووصل إلى الملك، فغضب، وأمره بالمكوث في بيته، وأرسل من يحرس بابه لئلا يزداد الكلام، ثم ذهب الملك إلى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وأخبره بما وقع من المترجَم وإثارته للناس، فقال الشيخ عبد الله: الذي عند ابن عتيق هو ما عندي، ولكن ابن عتيق قال الحقَّ وبرَّأ ذمته، أما أنا فقد داريتُك يا عبد العزيز! فوالله لو خرج ابن عتيق من الرياض لخرجتُ معه، ولتركنا لك الرياض! فقال الملك: سأبعث إليه لأستسمحه. قال الشيخ عبد الله: لا! اذهب إليه أنت في منزله، واعتذر عمَّا حصل منك، لأن الخطأ منك، وليس الخطأ منه[4].
وقد ذكر الشيخ إسماعيل العتيق عدة قصص دارت بين المترجَم والملك عبد العزيز - رحمهما الله - دلَّت على وَرَع المترجم، وقوته في الحق، وصدعه به، ونصحه الخاص للملك، وتقدير الملك له، ونجد في رسائل الشيخ سعد عدةَ رسائل موجهة للملك، فيها النصح البليغ، ترى فيها عزَّة العالِم، وأداءه لأمانته، مع دعائه وولائه وطاعته لولي الأمر بالمعروف.
وذكر الدكتور سعود الدريب قصة عجيبة حصلت للمترجم مع الملك عبد العزيز - رحمهما الله - عندما أجلسه مع خصمه للقضاء، فليراجعها من أراد في كتاب: الدعوة في عهد الملك عبد العزيز (1/66).(/6)
ومن مناقب المترجم عبادته، فكان ملازماً لقيام الليل حتى وفاته، واشتُهر بكثرة دعائه والتجائه إلى الله، يذكر سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم قصةً شهدها معه، يقول: إن بعض أهل (ضرما) دعوه إلى وليمة مع الشيخ سعد بن حمد بن عتيق - رحمه الله - وبعض الإخوة، فلما رجعوا وتجاوزوا عقبة (القدية)؛ يقول: أردنا أن ننام، فقيَّدنا الرواحل، ولم نعقِلها؛ حتى تستطيع الرعي ولا تبتعد عنا، فلما أصبحنا ذهب الذين معنا للبحث عن الرواحل، فوجدوها كلها إلا راحلة الشيخ سعد، فتفرقوا للبحث عنها، وكان الشيخ سعد في هذه الأثناء يدعو الله أن يأتيَه براحلته، فأتى الذين ذهبوا للبحث عنها ولم يجدوها، قال: فأتى إلينا رجلٌ من بعيد، وهو يسوق راحلة الشيخ سعد، حتى وصلت إلينا، ثم اختفى ولا ندري من هو، وكان الذين ذهبوا للبحث عنها كلُّ واحد منهم يحسب أن الآخر هو الذي يسوقها، حتى أتوا وسأل بعضهم بعضاً فأنكر كلُّ واحد ذلك، وهذه من كرامات الشيخ سعد[5].
أما صفته الخَلقية فذكر تلميذه الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - في مذكراته 1/182 أنه كان رَبْعَةً من الرجال، تغلب السُّمرة على لونه، في صوته خنَّة.
وذكر سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله - في بعض المواطن - أن صوتَ شيخه المترجم كان ضعيفاً عندما أدركه، وذلك في آخر عمره.
التدريس ونشر العلم:
لما تولى المترجم إمامةَ الجامع الكبير سنة 1329؛ عقد فيه حلقتين للتدريس: بعد الفجر، وبعد الظهر[6]، كما كان يُقرأ عليه في بيته بعض الدروس الخاصة، ومن أبرز من خصَّص له دروساً سماحة المفتي محمد بن إبراهيم آل الشيخ.(/7)
فمِنْ أَبْرَز الآخذين عنه من أَهل العِلم: محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، وعبد الله وعُمر ابنا حَسَن آل الشيخ، ومحمد وعبد اللطيف ابنا إبراهيم آل الشيخ، ومحمد بن عثمان الشَّاوي، وعبد الله العَنْقَري، وعبد الرحمن بن عَوْدان، وفيصل المُبارَك، وسُعود بن رُشود، وعبد الرحمن ابن قاسم، وسليمان بن حَمْدان، وعبد العزيز بن رَشيد، وعبد العزيز بن مَرْشَد، ومحمد بن أحمد بن سَعيد، رحمهم الله جميعاً.
وبَقِيَ يُدَرِّس حتى في مَرَضِهِ آخرَ عُمُرِه، قال تلميذُه مجيزنا الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ: ((كنا نَذْهَب أنا والشيخ ابنُ باز والشيخ عبد الله بن حُميد إلى الشيخ سَعَد بن عَتيق، فندخلُ بيته، ونَنْزلُ درجةً هناك، ونَقْرَأُ عليه وهو مريضٌ على الفِراش)).
قلت: وكان المترجَمُ يحضِّرُ ويُراجِعُ لدَرْسِهِ الشروحَ والحواشيَ، ويُحَرِّرُه، ويُشبِع الكلام فيه، وإذا مرَّ إشكالٌ فلا يتجاوزُهُ حتى يَزول، وبَعَثَ في إحضار الكُتُب، فإذا انحلَّ الإشكالُ وإلا أَوْقَفَ الدَّرْسَ ليُراجعَه.
ومع كونه حَنْبَليّاً فقد كان متجرِّداً للدليل[7]، كما قال في نَظْم الزاد:
وبعدُ فالزادُ الَّذي قَدْ حَرَّرَهْ موسى الفَقيهُ الحَنْبَليُّ اخْتَصَرَهْ
مِنْ مُقْنِعِ المُوَفَّقِ المُمَجَّدِ أَرَدْتُ أنْ أَنْظِمَهُ لِوَلَدِيْ
ولِانْتِفاعي وانْتِفاعِ مَنْ رَغِبْ في الفِقْهِ والعِلْمِ الشَّريفِ مُحْتَسِبْ
ومَعَ ذا فَلَسْتُ بِالمُعْتَمِدِ إلا عَلَى ما صَحَّ عَنْ مُحَمَّدِ
صَلَّى عَلَيْهِ اللهُ ثُمَّ سَلَّما ما دامَتِ الأَرْضُ ودامَتِ السَّما(/8)
وكان - رحمه الله - قَليلَ الكَلام، يَحْتَرِزُ من اللَّحْن، وكان يربِّي تلامذته على الجدِّ، والمثابرة، واليقظة، وحفظ المتون.. يقول الجاسر في مذكراته 1/182: إنه كان في خُلُقه بعض الشدة على طلابه، فلا يَعذِر من تأخر عن درس، أو لم يُجِدْ حفظه عن ظهر قلب، أو قصَّر في الإجابة عند إلقاء الأسئلة. ويأتي نحو ذلك من كلام الشيخ ابن عودان.
تراثه العلمي:
صَرَفَ الشيخُ ابنُ عَتيق عُمُرَهُ في الدَّعوةِ والتَّعليمِ والتَّصَدِّي لأُمور الناس الدِّينيَّة، ولم يُكثر من التَّأليف مع قُدرَتِه، وله رسالَةٌ اسمُها عقيدةُ الطائفة النَّجْدية، وأُخرى حُجَّةُ التَّحريض في النَّهْي عن الذَّبْح للمَريض، ورسائلُ أُخرى وفَتاوى مُفيدة...
جمع كلَّ ما سَبَق فضيلةُ الشيخ إسماعيل بن عَتيق بعنوان: ((المجموع المفيد من رسائل وفتاوى سعد بن حمد بن عتيق))، وفيه أربعون رسالة، وهو مطبوع.
وبعض رسائله طُبعت ضمن الرَّسائل والمسائل النَّجْديَّة.
وله نَظْمٌ غالبُه فقهي، مثل نَظْمِ زاد المُستَقْنِع (لم يكمل، وطُبع مع إكمال قَريبِه مجيزِنا الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سَحْمان حفظه الله)، ونَظْمِ المفاتيح لابن القَيِّم، ونَظْمِ نَواقضِ الإسلام العشرة، وله قصائد في مناسبات، منها قصيدته في تهنئة الملك عبد العزيز بفتح الأحساء والقطيف، وكبت الرافضة، وإعلاء السنّة في ديارهم.
إجازاته:
وله - رحمه الله - عدة إجازات علمية لتلامذته، منها:
1) إجازتان للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الوهَّاب النمر، مفتي الجهاد (ت1337)[8].
2) وإجازته للشيخ عبد الله بن عبد العزيز العَنْقَري، طبعت بتحقيقي، ضمن لقاء العشر الأواخر 1425، بدار البشائر الإسلامية.
3) إجازته للشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، طبعت بتحقيق الأخ الشيخ بدر بن علي بن طامي العتيبي، ضمن لقاء العشر الأواخر 1426.(/9)
4) إجازته للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وهي مفقودةٌ فيما بَلَغَني.
5) إجازته للشيخ عبد العزيز بن مَرْشَد، وهي مفقودة.
وأجاز جماعة غيرهم.
كما أن له مراسلات مع بعض أهل العلم، مثل زميله عالم عُنيزة الشيخ صالح القاضي.
من ثناء العلماء عليه:
سجَّلت لنا بعضُ المصادر ثناءات مبكرة على المترجم وهو ما يزال طالباً، من ذلك ثناء والده عليه في مراسلاته مع العلامة صدِّيق حسن خان بأنه طالبُ علم متشبثٌ بالطلب ويتوق للتخرج بكم، وأنه أهلٌ للكتب والاستفادة منها.
وكذلك وَصْفُ شيخه القاضي المجلي شهري له في إجازته بالأخ الصالح. وكذا وَصْفُ العلامة شمس الحق العظيم آبادي له بالفاضل، وعدَّه من مشاهير الآخذين عن نذير حسين، وذلك في مقدمة غاية المقصود 1/60 الذي كتبه في حياة السيد نذير.
وقال عنه زميله صالح العثمان القاضي: ((الجَليلُ الفَقيهُ المُحَدِّثُ الشيخ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض.. له تلامذةٌ لا يَحْصُرُهم العَدّ، ونَفَعَ الله به، وأخذ عُلومه في نَجْد والهِنْد والحِجاز)). (تاريخ نجد وحوادثها 86).
ومدحه الشيخ سليمان بن سحمان بأبيات كثيرة في عدة مناسبات، منها قوله لما رجع من رحلته العلميَّة إلى بلده:
على بلد الأفلاج أشرقَ سعدُه فآبتْ لها الألطافُ من كل جانبِ
هنيئاً لكم أهلَ العَمار بمَن له مآثرُ تَزهو كالنُّجوم الثَّواقبِ
هنيئاً لكُم هذا القُدومُ بعالِمٍ سُلالةِ حَبْرٍ فاضلٍ ذي مناقبِ
وقال عنه تلميذه سليمان بن حَمْدان: ((شيخُنا العالم العلّامة، الحَبْرُ، البَحْرُ، القُدْوَة، الفَهّامَة، الزاهِدُ، الوَرِع، التَّقِيُّ، النَّقِيّ، وَحيدُ دَهْرِه، وفَريدُ عَصْرِه، الفَقيهُ النَّبيه، المُحَدِّثُ الرُّحَلَة)). (تراجم متأخري الحنابلة 106).(/10)
وكان تلميذه الشيخ عبد الرحمن بن عودان كثير الثَّناء عليه، ويَصِفُهُ بأنَّه ((..وَحيدُ زَمانِه، وبأنَّه يَمْتَحِنُ الطَّلَبَةَ لِيَخْتَبِرَ أَذْهانَهم، وربَّما عَتَبَ عليهم إذا رأى منهم إعراضاً أو عَدَمَ إلقاءِ بال، وقال: إنه افْتَقَدَ بَصَرَهُ آخرَ حياته حينما أَرْهَقَتْهُ الشَّيْخُوخَة، وتَجَرَّدَ للعِبادة، ولازَمَ المسجدَ، وله حِزْبٌ من اللَّيل لا يَتْرُكُه)). ثم يَتَرَحَّمُ عليه. (نقله محمد بن عثمان القاضي في روضة الناظرين 1/110).
وقال تلميذه الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم: ((هو الإمام العالِمُ العلّامة، الحَبْرُ، البَحْرُ، الفَهّامة، الحافظُ الثقةُ، المحدِّث المجتهد، المُفتي المُدَرِّس، الوَرِعُ الزاهد، بَدْرُ زمانه، وسَعْدُ أوانه.. بَرَعَ حتى أدرك من العُلومِ حَظًّا وافراً، وفاق أهلَ زمانه محصولاً، وسَمَقَ حتى كان حُجَّةً حافظاً، وكان كاملَ العَقْل، شديدَ التثبُّت، حَسَنَ السَّمْت، حسن الخُلُق، له اليدُ الطُّولى في الأصول والفروع، تامَّ المعرفة في الحديث ورِجاله، وكان من العلماء العامِلين، واشتُهر ذِكْرُه في العالَمين، وأثنتْ عليه أَلْسُنُ الناطقين.. ولو تَتَبَّعْنا مناقبه وفضائله لَطال.. أوقع الله محبَّتَه في القلوب، وأمدَّه بسعة العِلم، وكان كثيرَ الدعاء والابتهال، متواضعاً عند العامَّة، مرتفعاً عند الملوك، مَجالسُه معمورةٌ بالعلماء، مشحونة بالفقهاء والمحدِّثين، مشتغلاً بنفسه، وبإلقاء الدروس المفيدة على أصحابه)). (الدرر السنيّة 16/453-455).
وقال الشيخ صالح بن سليمان بن سحمان في نظمه لوَفَيات آل عَتيق[9]:
وحسبُك من سَعدٍ أخي العلم والتُّقى فلِلَّهِ من حَبْرٍ أبِيٍّ وعالمِ
طَوى الله فيه الخيرَ والدِّينَ والهُدى وعلَّمَهُ العِلمَ الشَّريفَ لِرائمِِ
مَضى بعدَما أدَّى مَواجيبَ رَبِّه عَليهِ إلى رَبٍّ كَريمٍ وراحمِ(/11)
شَفى الناسَ عن جَهلٍ وعَلَّمَ راغِباً وكانَ كريماً ذا نَدىً في العَوالمِ
غَذى وشَفى عِلمَ الحديثِ جَهابِذاً يعلِّمُ علماً لا لِكَسبِ الدراهمِ
وقال أيضاً في مدحه لأئمَّة الدعوة[10]:
وكالشيخ سعدٍ مَن سَما بفِعالِهِ وكان فَريداًً في حديثِ المشاهِرِ
تضلَّعَ مَعْ علمِ الحديث ونَشْرِه فأَكْرِمْ به مِن ألمعيٍّ وماهِرِ
وقال تلميذه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: ((كان عالماً فاضلاً جليلاً، قدَّس الله روحَه، وأصلح ذريَّته)). (مقابلة في شريط بعنوان: على طريق الدعوة).
وقال تلميذه الشيخ محمد بن أحمد بن سَعيد: ((شيخُنا العَلّامة سعد بن عَتيق.. كانت مكتبتُه صغيرةً، ولكن العلمَ كان في صَدْرِهِ، وكان لا يخافُ في الله لَوْمَةَ لائم، وكان يَهابه الأُمَراء)). (حدثني هذا عنه قريبُه الأخ الشيخ رياض بن عبد المحسن بن سَعيد).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: ((العلّامة الوَرِعُ الزاهد.. العالِمُ العامِلُ الفاضِل)). (مشاهير علماء نجد 323 و328).
وقال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عُثيمين: ((استفدتُّ برؤيته قبل أن أسمعَ كلامَه، ولم أَرَ مثله فيمن تقدَّمه أو عاصَرَه، ولأهلِ الرِّياض خُصوصاً - ونَجْد عُموماً - فيه اعتقادٌ يَفوق الحَدَّ، ثم وَرَدَ الخَبَرُ بوفاته علينا، وأنا في بُريدة القَصيم.. فكان لخبَر وَفاته وَقْعٌ في النُّفوس، وأَثَرٌ عظيمٌ لا يكاد يوصَف، وحُقَّ ذلك، لأنَّ بموت مِثْلِهِ قد هُدَّ رُكْنٌ من أركان العِلْمِ في نَجْد، هيهات أن يُسَدَّ في زَمَنٍ قليل، فإنه هو الحُجَّةُ الثِّقَةُ الثَّبْتُ بها، والمُحَدِّثُ والفَقيه المُحَقِّق، المُحَرِّرُ المُدَقِّق، المُفَسِّرُ الكبير، المَرْجوعُ إليه في المُعْضِلات رحمه الله)). (تسهيل السابلة 3/1793-1794).(/12)
وأطنب في مدحه مجيزُنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في كتابه (تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي 260-262)، ومما قال: ((العلامة المحقق اللامع، المفسر المحدِّث المتقن، الفقيه الضليع، النحوي البارع.. كان فحلاً من من فحول العلم الكبار، متمكناً من جملة علوم من علوم الشريعة، كعلم التوحيد، والتفسير، والحديث، والرجال، والمصطلح، والفقه، والأصول، والنحو، وكان في الحديث الشريف وعلومه من كبار أهله.. العالِم الثَّبْت، والمحقق الأَفِيق، الفقيه الأصولي، المتفنن النَّحْوي)).
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البَسّام: ((الشيخ الزاهد العالِم.. بَلَغَ في العِلْمِ مَبْلَغاً كبيراً، وصار من عِداد كبار العُلماء المُشار إليهم بالبَنان، كما وَرِثَ عن والده الغَيْرَةَ الشديدةَ في الدِّين، والصَّلابَةَ في العَقيدة، فاشتُهر بسعَةِ العِلْمِ، والتُّقى والصَّلاح، وجَدَّ واجتهد في نَشْرِ الدَّعوة السَّلَفية، حتى نَفَعَ الله باجتهاده وبَرَكَةِ دَعْوَتِهِ خَلْقاً كثيراً.. وكتاباتُه وفَتاواه تَدُلُّ على غَزارةِ عِلْمِهِ، وسَعَةِ اطلاعه، وحُسْنِ تَصَوُّرِهِ.. والمُترجَم في عِدادِ كبارِ عُلماء نَجْدٍ المُشار إليهم، فهو مُقَرَّبٌ من المَلِكِ عبد العزيز، ويَعْتَمِدُ عليه في مَهام الأُمور الدِّينية، وهو مُعَزَّزٌ مُحْتَرَمٌ عند عُلماء الدَّعوة، فيُجِلُّونه ويُقَدِّرونَه، ويَعرفون له حَقَّهُ ومَكانتَه العِلْمِيَّة ونشاطَه في الدَّعوة ومُوالاةِ أَهْلِها)). (عُلماء نَجْد 2/220-225).
وحدثني الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل: ((كان شيخنا محمد بن إبراهيم - رحمه الله - متشبِّعاً بعلوم الشيخ سعد، ويثني عليه، ويحدِّثنا عنه بحكايات كثيرة، وكان يقدِّره، وكان يحترم آراءه، ويرى أنه الشيخُ الوحيد، وأنه صاحب اتِّزان، وصاحب ثبات، وله الأجوبة والفتاوى)).(/13)
وحدثنا أيضاً ضمن محاضرته عن قصته في طلب العلم، فقال: ((الشيخ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض - حمه الله - كان في غاية ما يكون من العلم، والعقل، والتواضع، والهيبة، له هيبة عند المشايخ وعند ولي الأمر، له قيمته، كلمته لها قيمتها)).
وقال الشيخ محمد بن عثمان القاضي: ((العالِمُ الجَليل، الصّادِعُ بكَلِمَةِ الحَقّ، المُحَقِّقُ المُدَقِّق.. كان واسِعَ الاطِّلاع في فُنونٍ عَديدة، ومُتَبَحِّراً في عِلْمِ الحَديث ورِجالِه، ويَحْفَظُ مُتوناً كثيرةً في الحَديث ومُصْطَلَحِهِ، وجَلَسَ للتَّدْريسِ في مُدُنٍ كثيرةٍ مِنْ أَطْوِلها الرِّياض.. أَفْنَى عُمُرَه ما بين التَّعَلُّمِ والتَّعليم ونَفْعِ الخَلْقِ، وكان حَسَنَ التَّعْليم، مُسَدَّداً في أَقْضِيَتِهِ، نَزيهاً حازِماً في كل شُؤونه، حَليماً، ذا عَقْلٍ راجِحٍ، وذا أَناة، وكان يَصْدَعُ بكَلِمَةِ الحَقِّ، ذا غَيْرَةٍ شَديدة عندما تُنْتَهَكُ المَحارِم، شديداً في الأمر بالمعروف والنَّهْيِ عن المُنْكَر، لا يَخاف في الله لَوْمَةَ لائم، مُهْتَمّاً بدُرُوسه، وله فِراسَةٌ في الأحكام عَجيبةٌ، وكان يَجْمَعُ الفقهاء ويَسْتَشيرُهم فيما يُشْكِلُ عليه تَوَرُّعاً منه، ويحبُّ إصلاحَ ذات البَيْن، ويُناصِحُ المُلوكَ والأُمَراء، ويَتَفَقَّدُ أَحْوالَ النّاس ليُزْجي الضَّعيف، ويَنْصَحُ المُتَخَلِّفين عن الصَّلاة، ويُرْشِدُ أَدْبارَ الصَّلَوات في كُلِّ مُناسبة)). (رَوْضَةُ النّاظِرين 1/107-111).
وقال شيخنا العلامة عبد الله بن جبرين: ((كان نابغةَ وقته وإمامَ وقته)). (محاضرة: سيرة الإمام ابن باز).
وفاته:(/14)
كان - رحمه الله - قد كُفَّ بَصَرُهُ آخرَ حياته، وتجرَّدَ للعِبادة، ولازَمَ المَسْجِدَ في شيخوخته، وتوفي - رحمه الله - في الرِّياض، بعد عَصْرِ الإثنين، ثالث عشر جمادى الأولى سنة 1349هـ، وصَلَّى عليه في الجامع الكبير تلميذُه الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، ودُفن في مقبرة العَوْد، وصُلِّيَ عليه صلاةَ الغائبِ في الحَرَمين، وحَزِنَ النّاسُ عليه.
وكان أملى عند وفاته على تلميذه عبد العزيز بن صالح بن مَرْشَد هذه الأبيات:
يا حيُّ يا قيُّومُ يا خَلَّاقُ يا رَزَّاقُ يا ذا الفَضْلِ والإحسانِ
بيَدَيْكَ أنْفاسيْ ورِزْقي كلُّهُ وكذا تَقَلُّبُ مُقْلَتي وجَناني
يا رَبِّ هَبْ لي رَحْمَةً تَهْدي بها قَلْبي وتَعْصِمُنيْ من الشَّيطانِ
ومن الضَّلالِ عن الطَّريقِ القَيِّمِ ال مُفْضِي بصاحِبِهِ إلى الرِّضْوان
دينِ النبيِّ محمدٍ وصِحابِهِ والتابعينَ لهمْ على الإحْسانِ
وقِنيْ إلهي فتنةً أشقى بها بهوىً يُضِلُّ وبالحُطامِ الفاني
فأنا الضَّعيفُ المستجيرُ بخالقي المستعيذُ به من الخِذلانِ
وأنا العظيمُ الذَّنْبِ فاغْفِرْ زَلَّتي يا واسعَ الإحسانِ والغُفرانِ
رحمه الله رحمة واسعة.
قلت: ورَثاه جماعةٌ، منهم تلميذه الشيخ سعود بن رشود، والشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد المحسن بن عبيد، والشيخ صالح بن محمد الشثري.
وأنْشَدَنا ابنُ أخي المترجم الشيخُ الصالحُ إبراهيم بن عبد الله بن حمد بن عَتيق - وعيناه تَذْرِفان - مَرْثِيَّةَ شاعِرِ نَجْد محمد بن عبد الله بن عُثيمين فيه، ومَطْلَعُها:
أهكذا البَدْرُ تُخفِي نُورَهُ الحُفَرُ؟ ويُفقَدُ العِلْمُ لا عَيْنٌ ولا أَثَرُ؟!
خَبَتْ مَصابيحُ كُنَّا نَسْتَضيءُ بها وطَوَّحَتْ للمَغيبِ الأَنْجُمُ الزُّهُرُ
واستَحْكَمَتْ غُرْبَةُ الإسلامِ فانْكَسَفَتْ شَمْسُ العُلومِ التي يُهْدَى بها البَشَرُ(/15)
تَخَرَّم الصَّالحونَ المُقْتَدَى بِهِمُ وقام مِنْهُمْ مَقامَ المُبْتَدَا الَخَبرُ
فَلَسْتَ تَسْمَعُ إلا كان ثُمَّ مَضَى ويَلْحَقُ الفارِطَ الباقيْ كَما غَبَرُوا
إلى آخر الأبيات.
وخلَّف المترجَم ثلاثة أبناء: وهم محمد (ت1370)، وعبد العزيز (ت1405)، وحمد (ت1407)، وثلاثتهم من أهل الفضل وممن طلب العلم.
رحم الله الشيخ سعداً، وبارك في علمه وذريته.
أبرز مصادر ترجمته:
تاريخ نجد وحوادثها (86)، والدرر السنية (16/452-457 العاصمة، أو 12/93-96 الإفتاء)، وتراجم لمتأخري الحنابلة (106)، والأعلام (3/84)، ومشاهير علماء نجد وغيرهم (323)، ومعجم المؤلفين (1/756)، وتسهيل السابلة (3/1791)، وتراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي (260-262)، والتعليقات الجِياد على كتاب الإرشاد (الترجمة السابعة)، وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (2/220)، وتذكرة أولي النهى والعرفان (3/241-247)، وروضة الناظرين (1/107)، والمبتدأ والخبر (1/368)، ومعجم مصنفات الحنابلة (6/296).
إضافة إلى كتابات فضيلة الشيخ إسماعيل بن سعد بن إسماعيل بن عَتيق حفظه الله، مثل: سجل التحقيق (17-35 ضمن مجموع: المسيرة الأسرية لآل عتيق، وأَوْرَدَ فيه جملةً طيبة من الحِكاياتِ والأَخبار عنه)، ثم طُبع التحقيق مفرداً، وترجمة الشيخ سعد فيه مزيدة (ص38-59)، إضافة إلى مقدمته للطبعة الرابعة من مجموع رسائل الشيخ سعد بن عتيق (9-27).
ــــــــــــــــــــــــ
[1] نقل الشيخ إبراهيم بن عبيد في (تذكرة أولي النهى والعرفان) 3/242-243 قطعةً مما كتبه الشيخ سعد بن عتيق في وصف رحلته، كما نقله غيرُ واحد.
[2] هكذا ذكر الشيخ سليمان بن حمدان (تلميذ المترجَم) وغيره، ويرى الشيخ إسماعيل بن عتيق أن صوابه: الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن؛ لأن الشيخ عبد الله من أقران المترجَم.(/16)
قلت: ذكر المترجمُ الشيخَ عبدَ اللطيف في رسائله مراراً دون أن يقول: شيخنا، بل صرَّح المترجم في إحداها (ضمن مجموع رسائله ص110) قائلاً: شيخ مشايخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله. ثم إن الشيخ ابن محمود الآتي من طبقة أقران الشيخ عبد الله كذلك، ومعلومٌ أن الشيخ عبد الله قديمُ التصدر للتدريس في الرياض.
[3] ذكر العلامة البسام أن المترجَم تلقى عن العلامة أبي شعيب الدكالي المغربي في مكة، وفي ذلك نظر، فدراسة المترجم في مكة كانت آخر سنة 1304 وأول 1305، وحينها كان الدكالي في العاشرة من العمر! نعم، قدم الدكالي الحجاز ودرَّس فيه، ولكن بعد عقد من التاريخ المذكور، والله أعلم.
[4] ذكر القصة الشيخ إسماعيل العتيق في التحقيق (45)، وقال: هذا الحادث اشتهر وذاع حتى تناقل الرواة أكثر من صيغة له، بعضها فيه مبالغة وفيه زيادة كلام، ولكن ما كتبته هو خلاصة ما سمعته مراراً من تلميذيه: عبد العزيز الشقري والشيخ عبد العزيز المرشد، وهما من خواص تلامذته ومحبيه.
[5] ذكر القصة الشيخ حمد بن حميّن في ترجمته للشيخ محمد بن إبراهيم (46)، وذكر أنه سمعها من الشيخ محمد، كما نقل الشيخ إسماعيل العتيق نحوها في كتابه التحقيق (45) عن شيخنا الصالح إبراهيم بن عبد الله بن حمد بن عتيق عن الشيخ محمد بن إبراهيم، وفيها مغايرة في الموضع، لكنه أحال على الشيخ الحميّن، فاعتمدتُ سياقه.
[6] هكذا ذكر الأكثرون، وزاد بعضهم درساً ثالثاً بعد العصر.
[7] وانظر نقولاً مماثلة عن حنابلة نجد في كتابي فتح الجليل (181-183).
[8] حققتُ إحداهما مع إجازة المترجم للعنقري، ولم تسعفني المصادر في معرفة المُجاز بادئ الأمر، ثم عرَّفني به الشيخ إسماعيل العتيق حفظه الله، والبحاثة راشد العساكر وفقه الله، فاستدركتُ خبره قبل طباعة الكتاب، ولكن لم يتيسر إدراج التصحيح من قبل الناشر برغم الوعد، ولله الأمر من قبل ومن بعد!(/17)
وأما الإجازة الثانية فقد نشرها فضيلة الشيخ إسماعيل، في مقدمة الطبعة الرابعة من مجموع رسائل الشيخ سعد (ص15-16)، وزوّدني مشكوراً بصورة الأصل.
[9] ذكرها في التحقيق (20).
[10] المبتدأ والخبر (2/59).(/18)
العنوان: العلامة عبدالعزيز بن باز
رقم المقالة: 795
صاحب المقالة: محمد زياد بن عمر التكلة
-----------------------------------------
تمهيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه سلسلة مقالات في تراجم أعلام السنَّة في العصور المتأخرة، أسأل الله تعالى أن يعينني على إكمالها، وأن يرزقني الإخلاص والتوفيق والنفع والقبول، إنه خير مسؤول.
ولا أرى المقام يناسب التطويل، فأهمية الموضوع وضرورته لا تخفى على ذوي العرفان، وقد توخيت في التراجم التوسط مع الشمول قدر الإمكان.
وأفتتح بأحد الأئمة الأعيان، بل شيخ الإسلام في هذا الزمان، إنه:
سماحة الشيخ العلامة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رحمه الله تعالى (1330-1420هـ)
اسمه ونسبه:
هو أبو عبد الله، عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن سعد بن حسين آل باز.
وفي بعض المصادر بدل (سعد بن حسين): (عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز)؛ اعتماداً على مصدر شفوي قريب في الأسرة، لكن ما ذكرتُه اعتمدت فيه على تصحيح الباحثين في الأسرة؛ اعتماداً على مخطوطة - عُثر عليها بأَخَرَة - بخط الشيخ محمد آل باز (الجد الثاني لسماحة الشيخ) ورفع نسبه كما أثبتُّه.
ويذكر أعيان الأسرة القدماء وباحثوها أنهم يرجعون للأشراف في الحجاز، وأن أجدادهم نزحوا من المدينة النبوية إلى الدِّرعية أيام الدولة السعودية الأولى، ثم صار للأسرة فرعان رئيسان في بلدتَي الحلوة والرياض، وسماحةُ الشيخ من فرع الرياض.
أسرته:
ظهر في أسرته عدد من العلماء والقضاة والأعيان، وعمل غالب أفرادها في الزراعة والتجارة.(/1)
أما والد الشيخ فتوفي في ذي القعدة سنة 1333هـ، وأمُّه (أم الوالد): هي منيرة بنت حمد بن عبد الرحمن بن قاسم، من آل قاسم أهل الدِّرعيَّة ثم الرياض.
وأما والدته فهي: هيا بنت عثمان بن عبد الله بن حُزَيم، توفيت سنة 1356هـ.
وللشيخ أخ من الأب اسمه عبد الرحمن (وُلد قبل 1320- وتوفي 1384هـ)، وشقيق اسمه محمد (1325-1426هـ)، وأخ من الأم، وهو: إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن سيف، وأخت من الأم، وهي: منيرة بنت فهد بن مضحي، وكلهم أكبر سنًّا من سماحته.
مولده ونشأته:
وُلد سماحة الشيخ في مدينة الرياض، في الثاني عشر من ذي الحجة سنة1330هـ.
ونشأ ضعيف الجسم، لا تكاد تحمله رجلاه، ولم يستطع المشي إلا بعد بلوغه الثالثة من عمره، وفي هذه السن المبكرة توفي أبوه، فنشأ يتيماً في كنف والدته الصالحة.
وحدثنا الشيخ الصالح المعمَّر محمد بن أحمد بن سعيد رحمه الله - وهو يكبر سماحة الشيخ قرابة عشر سنوات- أن الأولاد الصغار كانوا يبتعدون عنه في صغره ولا يخالطونه، فكانت أمُّه ترحمُه، وتغسِّله في طست، وتعتني به، وتُكثر الدعاء له جدًّا.
وهكذا كانت بداية سماحته في ظروف صعبة، وكان أخواه إبراهيم ومحمد يقومان بشؤون البيت ورعاية والدتهم الصالحة، التي دفعته وهو في حدود العاشرة لحفظ القرآن وطلب العلم الشرعي، فدخل كتّاب الشيخ عبد الله بن ناصر بن مفيريج رحمه الله (1267-1350هـ)، وأتم الحفظ مبكراً، وسيأتي الحديث عن طلبه للعلم.
فقده البصر:
ولما بلغ سماحته السادسة عشرة أصيب بضعف في البصر، وأخذ يزداد تدريجياً، إلى أن فقد البصرَ تماماً مستهل سنة 1350هـ، وحزنت والدته لذلك أشد الحزن.(/2)
حدثنا الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن باز، قال: حدثني الشيخ المعمَّر سعد بن عبد المحسن بن باز، قال: كان لوالدة الشيخ عبد العزيز جارة صالحة، ولما أُصيبت عيناه شَقَّ ذلك على والدته، فقالت هذه الجارة الصالحة: لا تحزني، ولكن ادعي الله له بعد كفِّ بصره أن يعوِّضه البصيرة، فدعت له، وأخذت تلحُّ في الدعاء له.
وأخبرني بتفصيل أكثر الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم، قال: حدثنا الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن جابر رحمه الله، أن جارة بيت سماحة الشيخ بحي دُخنة -واسمها نورة بنت عبد العزيز آل مبدّل وهي زوج الأمير عبد العزيز بن تركي آل سعود- دخلت على أم الشيخ وهي تبكي على ابنها، وهو جالس إلى جوارها، فسألتها: لماذا تبكين؟ فأجابتها أن عبد العزيز فقد بصره، فمَن يقوم بشؤونه؟ فقالت لها: البكاء ما يرد شيئاً، ولكن استعيني بالله وتوضئي وصلي، واسألي الله كما أخذ بصره أن يعطيه علماً ينفعه وينفع المسلمين.
قلت: لعل دعاء هذه الوالدة الصالحة المشفقة استُجيب في هذا الغلام اليتيم الضعيف، فصار عالم الأمة ومجدد العصر، فلا يعجزن أحد عن الدعاء.
وكان سماحة الشيخ أول نشأته يعمل مع شقيقه محمد في سوق الحراج، يبيع العباءات و المشالح (البشوت) الرجالية ونحوها تجولاً في السوق، مع تردده على الكتَّاب لحفظ القرآن، ثم ترك العمل وتفرغ كليًّا للطلب.
طلبه للعلم وأشياخه:
نشأ سماحة الشيخ في عبادة الله وطاعته، يقول قريبه المعمَّر الشيخ سعد بن عبد المحسن آل باز: إن سماحةَ الشيخ منذ نعومة أظفاره كان سبَّاقاً إلى أفعال الخير، وإن مكانه دائماً في روضة المسجد، وعمره ثلاثةَ عشرَ عاماً.
وأتم حفظ القرآن الكريم مبكراً كما سبق، وصلى بالناس التراويح سنة 1345هـ، وشرع في طلب العلم قبل البلوغ، في همة عالية، وذكاء وحافظة واستعداد وتوفيق، وقد تلقى العلم على عدد من العلماء والأشياخ منهم:(/3)
1- الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حُسين بن محمد بن عبد الوهَّاب (ت1372هـ)، قاضي الرياض، وكان إمامَ الجامع القريب من بيت سماحته (مسجد ابن شلوان)، فكان أول أشياخه، يقرأ عليه في بيته بعد الظهر كتبَ جدِّه الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب، مثل: ثلاثة الأصول، والتوحيد، وكشف الشبهات، وقرأ عليه الأربعين النووية، وعمدة الحديث، والواسطية، وزاد المستقنع، وغيرها، ومدة قراءته عليه ثلاثَ عشرةَ سنة تقريبا، وكان لهذا الشيخ أثر كبير فيه، وحصلت بينهما قصة قال سماحة الشيخ إنه بسببها لم يَفُته الصف الأول بعدها أبداً، رحمهما الله تعالى.
2- الشيخ حمد بن فارس (ت1345هـ)، وكيل بيت المال، قرأ عليه قبيل وفاته في الآجُرُّوميَّة في النحو، وكان سماحة الشيخ ما يزال مبصراً، وقال إنه كتب بعض التعليقات في حاشية نسخته.
3- الشيخ العلامة سعد بن حمد بن عتيق (ت1349هـ)، قاضي الرياض للبادية، وإمام الجامع الكبير، قرأ عليه في جامعه أبواباً من كتاب التوحيد، ولم يكمل لمرض الشيخ وضعف صوته، وحدثنا الشيخ المعمَّر محمد بن عبد الرحمن بن إسحاق آل الشيخ أنه كان يذهبُ مع سماحة الشيخ وهو ما يزال مبصراً، ومع الشيخ ابن حميد للقراءة على الشيخ سعد في بيته وهو مريض.
4- الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهَّاب (ت1367هـ): قرأ عليه في بيته في العقيدة كتاب التوحيد وغيرَه من الكتب.(/4)
5- سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهَّاب (ت1389)، مفتي الديار السعودية، وكبير علمائها، لازمه الشيخ ابن باز ملازمة تامة من سنة 1347 - أو قبلها بسنة - إلى سنة 1357هـ، وهو شيخُ تخرُّجِه، فقرأ وسمع عليه من جميع العلوم الدينية، ومن الكتب التي حضرها عنده: التوحيد، وثلاثة الأصول، وكشف الشبهات، ومختصر السيرة، وأصول الإيمان والإسلام، والواسطية، وبلوغ المرام، وزاد المستقنع، والرحبية، والكتب الستة، والآجُرُّوميَّة، وقطر الندى، وألفية ابن مالك، وبعض المطولات، وجملة من مدارج السالكين، ومن معالم السنن للخطابي، وعمدة الحديث، وشرح نخبة الفكر، والورقات، والحموية، وملحة الإعراب، وغيرها.
وقال سماحته إنه لازم شيخه في جميع أوقات دروسه، سواء في المسجد أو البيت، حتى توليه قضاء الخرج سنة 1357هـ.
ولم تنقطع استفادته من شيخه ورجوعه إليه حتى وفاته سنة 1389هـ، وكان كثير الإشادة به، ويصرح أنه أعلم مشايخه وأفضلهم، وما أكثر ما كان يبكي عند تذكره، رحمهما الله تعالى.
6- الشيخ سعد وقاص البخاري، أحد علماء مكة المكرمة، ممن وقَّع البيان الشهير بين علماء مكة وعلماء نجد في الاتفاق على أصول العقائد، قرأ عليه سوراً كثيرة من القرآن، وتلقى عنه التجويد في دكانه بمكة، في شوال وذي القعدة سنة 1355هـ.
فهؤلاء هم أبرز شيوخه ممن تلقى عنهم العلم، وإلا فقد كان له استفادة من الشيخ سليمان بن سحمان (1349هـ) – على ما حدثنا شيخُنا ابن جبرين - وكذا من بعض أقرانه كمحمد الأمين الشنقيطي (1393هـ)، وعبد الرزاق العفيفي (1415هـ)، رحم الله الجميع.
وأما في الرواية فله شيخان:(/5)
أولهما: الشيخ العلامة عبد الحق بن عبد الواحد الهاشمي الهندي ثم المكي (1302-1392هـ)، محدِّث الحجاز، كانت بينهما صلة ومحبة، وسمع عليه أطرافاً من كتب السنة في الصحيحين وغيرهما، وطلب منه الإجازة في الرواية، فأجازه بخطِّه إجازة حافلة بتاريخ 25/12/1375هـ.
وثانيهما: الشيخ المفتي محمد شفيع الديوبندي (1314-1396هـ)، استجازه سماحة الشيخ في المدينة النبوية بعد الحج، أوائل سنة 1384هـ، فأجازه إجازة عامة، وقد حققتُ (بالمشاركة) إجازة كلٍّ منهما لسماحة الشيخ ، ولعلهما يُطبعان قريباً.
ولم تمض سنوات على طلبه للعلم في الرياض حتى ذاع صيتُه، واشتُهر بالعلم والفضل، فكلَّفه شيخه سماحة المفتي بمساعدته في التدريس بمسجده، ورأيتُ وثيقة أملاها الشيخ عبد العزيز بن بشر (ت1359هـ) قاضي الرياض بتاريخ 9/4/1357هـ جاء فيها: "وقد وكَّلنا عبد العزيز بن عبد الله آل باز على تعمير الأوقاف وتأجيرها، الموجب: أن الأخ عبد العزيز من مستحقي الأوقاف، وفيما أتحققه أنا وغيري أنه أحقُّ بالوكالة لعدالته باطناً وظاهراً".
وفي تلك السنة رشَّحه شيخه المفتي محمد بن إبراهيم لتولي القضاء، لما تميَّز به من علم وعمل، فصدر أمر الملك عبد العزيز رحمه الله أن يتولى قضاء الدِّلَم.
عملُه في القضاء في الدِّلَم (1357-1371هـ):
تقع الدِّلَم جنوبي شرق الرياض على مسافة 95 كيلاً، وصلها سماحة الشيخ يوم الخميس، في شعبان سنة 1357هـ، وخطب خُطبة بيَّن فيها أنه لا يحبُّ القضاء، وأنه ما تولاه إلا سمعاً وطاعة لولي الأمر، وذكَّر الناس ونصحهم.
وكانت أيام سماحته في الدلم أيام نهضة دينية ودنيوية معاً، فالتفَّ أهلها حوله وأحبوه لما عاينوا من ديانته وفضله، وأنشأ للمحكمة مبنى خاصاً، ونظَّم أمورها وسجلاتها، وكان قويًّا في أحكامه، وينفِّذها بنفسه، حتى على أمراء القرى والوجهاء والأثرياء، وكانت له هيبة عند الجميع.(/6)
كما قام سماحته بمصالح الناس العامَّة خير قيام، وشاركهم في أمورهم وهمومهم، فعايشهم، وأفادهم، حتى قال تلميذه وكاتبه في الدِّلَم الشيخ راشد بن خنين:
ليالٍٍ قد مَضَت والشيخُ فينا يَبثُّ العلمَ ينهَضُ بالحياةِ
فيَرعى الدِّينَ والدُّنيا جَميعاً ويَسعى جاهِداً في المكرُماتِ
وكان سماحته كالحاكم في البلد؛ بتأييد من الملك، نظراً لصعوبة المواصلات والاتصالات آنذاك.
ومن أعماله هناك: بناء المساجد، ولا سيما إعادة بناء الجامع الكبير القديم في الدلم، وإنشاء المدارس، فأُسِّست بتوجيهه وإشرافه وتشجيعه خمسُ مدارس في منطقته من أصل 35 مدرسة في سائر نجد ذلك الوقت، ومن أعماله شقُّ الطرق وتوسيعها، ومشاركته الناس في مكافحة آثار السيول غير مرَّة، ومكافحة الجراد سنة 1364هـ، ومساعدة المزارعين وجلب المكائن لهم، فضلاً عن الاحتساب في السوق والشوارع، والشفاعة للمحتاجين، والسعي للفقراء، وزيارة المرضى، وحضور الجنائز، وإكرام الضيوف، وحل مشاكل الناس، فلا عجب أن تعلق به الناس وأحبوه، ومن أدلَّة ذلك: لما افتُتح المعهد العلمي في الرياض سنة 1370هـ وطلب سماحةُ المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم من الملك عبد العزيز نقلَ الشيخ ابن باز للتدريس فيه لينتفع أكبر عدد من الطلاب، ما إن علم أهالي الدِّلَم بالخبر حتى أوفدوا أعيانهم للملك مطالبين ببقاء الشيخ عندهم، فقال لهم الملك: كلكم تحبونه؟ قالوا: نعم، نحبه في الله، فوعدهم خيراً، وأبقاه أزيد على سنة.(/7)
عوداً إلى أعمال سماحته: فمن أهم ذلك التدريس، حيث خصص غرفاًَ خاصة لطلبة العلم في الجامع، وتوافد إليه الطلبة من أنحاء نجد، بل من خارجها، كفلسطين واليمن والعراق ومصر والسودان، وسعى سماحته في مساعدتهم شهرياً من الحكومة ومن المحسنين، وكان يدرِّس من بعد الفجر إلى أواسط الضحى في المسجد ثم البيت، وكذلك بعد العصر إلى منتصفه، وبعد المغرب إلى العشاء، كل ذلك في المسجد، وبعد العشاء يحضِّر لدروس الغد مع بعض طلبته.
فأخذ عنه هناك جماعةٌ من العلماء، كالشيخ راشد بن خنين، والشيخ صالح الهليِّل، والشيخ عبدالله بن قعود، والشيخ محدم بن سليمان، والشيخ عبد الرحمن بن جلّال، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، والشيخ صالح العلي العراقي، والشيخ محمد بن سليمان الأشقر، وغيرهم كثير.
وكان سماحته حريصاًُ على تربية طلابه إلى جانب تعليمهم، ويأخذهم إلى البَرِّ للنزهة والمسابقة بينهم في الجري والرمي والسباحة.
وفي هذه المرحلة ابتدأ سماحته في التأليف والكتابة في الصحف والمجلات داخل المملكة وخارجها، وكان له اتصال بالعلماء لقاءً ومكاتبة، ولا سيما مشايخ الرياض والواردين إليها، أو في الحجِّ، فممَّن لقي من علماء ومشايخ البلدان: مسعود عالم الندوي الهندي، ومحمد بهجة البَيطار، وحامد التقي الدمشقي، ومحمد حامد الفقي المصري، وحسن البنا، وغيرهم.
وكان بعض العلماء يقصد زيارته في الدلم، مثل الشيخ فيصل المبارك، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله العقيل، وغيرهم.
كما كان الناس يفدون إلى الدلم من أجل الفتوى، ولا سيما في مسائل الطلاق التي اشتُهر بها سماحة الشيخ، وحدثني شيخي العلامة عبد الله العقيل قال: لم تكن فنادقُ في الدلم، فكان سماحة الشيخ يفتيهم ويضيفهم.(/8)
ولسماحة الشيخ أخبار عجيبة في الدلم، لا تفي بها هذه العجالة، وأحيل من أراد التوسع على ثلاثة مصادر رئيسة، وهي: لقاء مع الشيخ عبد الرحمن بن جلّال، ولقاء مع أعيان الدلم، وهما شريطان من إصدار تسجيلات التقوى بالرياض، وكتاب: ابن باز في الدلم قاضياً ومعلِّماً، لعبد العزيز بن ناصر البرَّاك، وهو كتابٌ قُرئت طبعته الأولى على سماحته وأقرَّه.
عمله في التدريس والتعليم:
1- في الرياض (1371-1381هـ):
في نهاية سنة 1371هـ وبإلحاح من سماحة المفتي محمد بن إبراهيم نُقِل الشيخ ابن باز إلى الرياض بأمر ملكي، وخيَّم الحزن على أهالي الدِّلَم الذين فاجأهم الخبر، وأنشؤوا القصائدَ الحزينة في ذلك.
ومع بداية سنة 1372هـ تولى الشيخ ابن باز تدريسَ العقيدة في المعهد العلمي، ثم انتقل إلى كلية الشريعة لدى افتتاحها سنة 1373هـ، وبقي يدرِّس فيها علومَ التوحيد والحديث والفقه إلى نهاية سنة 1380هـ، كما درَّس في كلية اللغة العربية أول افتتاحها سنة 1384هـ.
وعُرف سماحتُه بعدم الاكتفاء بالمناهج المقرَّرة بالكلية، وأخبرنا الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن باز: كان سماحة الشيخ ابن باز وفضيلة الشيخ الشنقيطي يتوسعان ويفيدان أكثر من المقرر بكثير.
ولما توفي قاضي الرياض وإمام الفروض في جامعها الكبير الشيخُ عبد الرحمن بن عودان رحمه الله في 12/3/1374هـ كلَّف سماحة المفتي ابن إبراهيم الشيخَ ابن باز بإمامة الجامع عقبه.
وإلى جانب التدريس في الكلية، كان الشيخ يدرس في الجامع الكبير، وفي المسجد القريب من بيته، وفي البيت، ويلقي المحاضرات الكثيرة، والكلمات المتنوعة في المناسبات المختلفة، إضافة إلى بعض الدروس الخاصة، كما ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنه كان يخرج معه بعض الأحيان إلى نخيل يقال له: نخيل الريِّس، فقرأ عليه إحدى الرسائل، وذلك سنة 1373هـ.(/9)
ولما تولى سماحته الجامع الكبير طبَّق السنَّة في صلاة التراويح بأدائها إحدى عشرة ركعة - وكان سبق تطبيقه لذلك في الدِّلَم - وكان السائدَ في نجد أداؤها عشرين ركعة، وانتشرت هذه السنَّة على يد سماحة الشيخ حتى أضحَت الغالبة على البلاد.
وكان لسماحته صلات واجتماعات كثيرة مع العلماء، وكانت الرياض وقتها منارةَ علم متميزة، سواء من أهلها، أو الواردين إليها للتدريس وغيره، فأخبرني شيخي العلامة عبد الله العقيل: أنه كانت للمشايخ اجتماعات ومجالس دائمة، من أبرز مَن يحضرها: محمد الأمين الشنقيطي، وعبد الرزاق عفيفي، وحماد الأنصاري، وعبد العزيز أبو حبيب الشثري، وعبد الله بن صالح الخليفي، وصالح بن هليل، ويحصل فيها قراءة، وغالباً ما يتولى التعليقَ الشيخ ابن باز.
وحدثنا شيخنا عبد الله بن جبرين أن المشايخ رتبوا كل ليلة جمعة مجلساً عند الشيخ الشثري، وكان يفد إليه الشيخ ابن باز، ومحمد مختار الشنقيطي، وعبد الرزاق عفيفي، فكنت أقرأ عليهم حديثاً من صحيح البخاري، فتارة يشرحه الشيخ ابن باز، وتارة الشيخ العفيفي، وكان شرح سماحة الشيخ عجباً ولا سيما في الاهتمام بأسماء الرجال والرواة وضبطها.
وتعدى اتصال سماحته بالعلماء إلى المكاتبة والمراسلة، فالناظر في مراسلاته مع العلماء يجد تواصلاً وتباحثاً علمياً رفيعاً مع بعضهم تلك المدة، كالشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني، وغيره.
وفي هذه المرحلة أخذ عنه جماعة كبيرة، صاروا فيما بعد كبار العلماء في البلاد، ومنهم المشايخ: ابن عثيمين، وسماحة المفتي الحالي عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، وابن جبرين، وابن غديان، والفريان، واللحيدان، وابن منيع، وابن قعود، والفوزان، والعباد، والسدلان، وغيرهم.(/10)
وأخبرنا شيخنا عبد الله العقيل أن المفتي كلفه سنة 1379هـ مع الشيخين ابن باز وعبد اللطيف بن إبراهيم باستعراض مناهج التعليم في وزارة المعارف وأنظمتها وقراءتها قراءة دقيقة، ورفع تقرير بالملاحظات عليها مادة مادة، فتم ذلك بعد اجتماعات عديدة، ونفع الله بذلك نفعاً عظيماً.
وفي هذه المرحلة أيضا ظهرت لسماحة الشيخ عدةُ رسائل وردود ومشاركات في الصحف والمجلات الداخلية والخارجية، ولعل من أهم أعماله إشرافه وتعليقه على قطعة كبيرة من أوائل فتح الباري للحافظ ابن حجر، تلك الطبعة التي أخرجتها المكتبة السلفية لمحب الدين الخطيب سنة 1380هـ وذاعت وشاعت في العالم الإسلامي، ومن رأى كتاب الرسائل المتبادلة بين الشيخ ابن باز والعلماء رأى عجباً من اهتمام الشيخ بهذا الكتاب، حتى عرض العمل فيه على الشيخين المعلمي والألباني وغيرهما، وانظر للاستزادة: (ص77 و91-127 و155-159 و195-197 و469 و623).
ثم بسببٍ مباشر من سماحة الشيخ أُسِّست الجامعة الإسلامية في المدينة، لتبدأ مرحلة جديدة.
2- في المدينة (1381-1395هـ):
طلب سماحته من الملك سعود فتح جامعة علمية مخصصة لأبناء المسلمين في شتى بلدان العالم، تتكفَّل باستقدامهم وتعليمهم والإنفاق عليهم خلال الدراسة، فلبَّى الملك طلبه، وفُتحت الجامعة سنة 1381هـ، وعُهدت رئاستها إلى سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم، وعين المترجَمَ نائباً له، وكان ابتداء عمله فيها في العاشر من ربيع الأول من السنة المذكورة.(/11)
باشر ابن باز أعمال الجامعة بهمَّة عظيمة، وكان من أهم أعماله استقدام كبار العلماء للجامعة، سواء من المدرسين في الرياض، أو من خارج المملكة، فكان من أشهر المدرسين في الجامعة في عهده المشايخ العلماء: محمد الأمين الشنقيطي، ومحمد ناصر الدين الألباني، ومحمد تقي الدين الهلالي، ومحمد الجوندلوي، وعبد الغفار الرحماني، ومحمد المختار الشنقيطي، وحماد الأنصاري، وعبد المحسن العباد، وعمر فلاته، وعبد الله الغنيمان، وعبد الفتاح القاضي، ومحمد أمين المصري، ومحمد سعيد المولوي، وعبدالعزيز رباح، وآخرون.
واستُقدم الطلبة من جميع أنحاء العالم، ونفع الله بهذه الجامعة في مشارق الأرض ومغاربها، حيث صار أولئك المتخرجون فيها منارات لنشر السنَّة والعلم، وبعضهم صار ممن يُشار إليه بالبنان، ومن أشهر الطلبة في تلك المرحلة: إحسان إلهي ظهير، وثناء الله بن عيسى خان الكلسوي، وعلي بن ناصر فقيهي، ومحمد لقمان السلفي، وربيع بن هادي المدخلي، وعبد الرحمن عبد الخالق، ووصي الله عباس، وغيرهم.
وقد أحسن الشيخ محمد المجذوب رحمه الله في وصف جهود نشاطات سماحة الشيخ ابن باز في الجامعة وخارجها، وذلك في ترجمته له في كتابه القيم "علماء ومفكرون عرفتهم"، فليراجعه من أراد التوسع.
من مناشِطه وأعماله:
وعدا تدريسه في الجامعة والدعوة فيها، كانت له دروس دائمة في المسجد النبوي بين المغرب والعشاء إلا ليلة الثلاثاء، إضافة إلى المحاضرات والكلمات، والكتابة في الصحف والمجلات، ولقاءات الطلاب.
ومن ذلك الجلوس للناس، فقد كان بابه مفتوحاً كل يوم بعد العصر، يجلس للطلاب، والمستفتين، وذوي الحاجات، وغيرهم.(/12)
وكان له أثر كبير في محاربة الشركيات وإزالة البدع في المدينة، وقد حدثنا الشيخ نعمان الزبير - أحد مرافقي سماحته هناك - عن مواقفَ قوية جريئة من سماحته في هذا، وكان يُعينه أمير المدينة عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود، والشيخ عبد العزيز بن صالح رحم الله الجميع.
وكان سماحته يسافر إلى الرياض بالطائرة ليلقي المحاضرات في المعهد العالي للقضاء عند افتتاحه سنة 1386هـ، حيث كان أستاذ الفقه فيه، وكان حال وجوده في الرياض يؤمُّ الناس في الجامع الكبير، ويُلقي المحاضرات والكلمات في الجامع، وفي دار العلم، وغيرهما.
كما تولى سماحته الإشراف على أوقاف الجامع الكبير بعد وفاة شيخه المفتي محمد بن إبراهيم، إلى أن طلب تحويل الإشراف إلى وزارة الحج والأوقاف سنة 1391هـ.
وكان للشيخ نشاط في وسائل الإعلام المختلفة، وألَّف وطبع عدة رسائل، وكان بدء برنامجه الشهير (نور على الدرب) سنة 1392هـ، واستمر حتى وفاته.
ومن نشاطاته بناء المساجد، وإرسال الدعاة إلى المناطق النائية وبلدان العالم، ومتابعة أحوال المسلمين في أنحاء العالم، ومناصحة حكام المسلمين لتحكيم الشريعة.
ومن ذلك الاجتماع بعلماء المسلمين الواردين إلى المدينة أو للحج، والسعي في نشر كتب السلف.
ومن نشاطاته مساعدة الفقراء والمحتاجين والشفاعة الحسنة، وله قصص عطرة في هذا الباب، ومن ذلك ما حدثناه الشيخ نعمان الزبير، قال: كان بيت الشيخ مفتوحاً على عادته، وحضر الغداء وعنده جماعة من الفقراء الأفارقة، فأتوا على اللحم، حتى تخاطفوه من الصحفة التي أمام الشيخ، فكان الشيخ يتلمس بيده ولا يجد شيئاً، ونحن نراه، وهنا هبَّ أحد مَن في البيت ونهرهم بصوت مرتفع: ما تركتونا حتى في بيتنا وعلى مائدتنا؟! فقال الشيخ: مَن المتكلم؟ قلنا: فلان، فقال له: هؤلاء ضيوفي وليسوا ضيوفك، ولا تتغدَّ معنا ثانية!(/13)
ومن قصصه في المدينة ما حدثناه الشيخ نعمان قال: لما عرف الملك فيصل أن على سماحة الشيخ ديوناً من كثرة إنفاقه ومساعداته أرسل إليه مع وزير المالية مئةَ ألف ريال، فلما جاءه الوزير اعتذر سماحتُه عن رفضها بشدة، فأصرَّ الوزير، وأعلم سماحته بما سيصيبه من حَرَج أمام الملك إن ردَّها، ومع الإلحاح اشترط سماحته أن تكون دَيناً، فيُحسم من راتبه ألفا ريال شهريًّا، فراجع الوزير الملك بذلك، فوافق، وعندها أخذ المبلغ.
بقي الشيخ في المدينة كالأب الرحيم للطلبة والمحتاجين، حتى أصدر الملك خالد أمره بتعيينه رئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في 14 من شوال 1395هـ، وكان قرار الفراق مفاجئاً لمحبِّيه وطلابه في المدينة، وقد صوَّره الشيخ محمد المجذوب بقلمه البليغ في كتابه تحت عنوان: مشهد لا يُنسى، فذكر فيه مدى التأثر الذي أصاب مَن في الجامعة، وبكاء الجميع عند وداع الشيخ لهم وهذا يدل على مدى الترابط الروحي الصادق، والأخوة المتينة، والعاطفة الإسلامية الجيَّاشة، رحم الله الجميع.
الاستقرار في الرياض، والمنزلة التي تبوَّأها (1395-1420هـ):
كان سماحة الشيخ في المدينة قد برز على مستوى العالم الإسلامي واشتُهر، ولما استقر في الرياض أضحى بما حباه الله من علم وفضل وإخلاص - نحسبه على ذلك والله حسيبه - المرجع الأول للمسلمين فيها، في النواحي العلمية، وفي الهيئات والمجامع الدولية، وفي الملمات والنوازل، وغيرها.
تولى سماحة الشيخ أعمالاً كثيرة، من أبرزها:
1- الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد منذ 14 من شوال 1395هـ.
2- وفي 14 من المحرم 1414هـ صدر الأمر الملكي رقم (أ/4) بتعيينه مفتياً عامًّا للمملكة، ورئيساً لهيئة كبار العلماء، ورئيساً لإدارة البحوث العلمية والإفتاء.(/14)
3- عضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وكان سماحته يرأس اجتماعاتها عند غياب رئيسها الأعلى خادم الحرمين الشريفين.
4- عضوية الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في المملكة.
5- رئاسة المجلس الأعلى لدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة منذ عام 1405هـ.
6- إمامة الجامع الكبير (جامع الإمام تركي بن عبد الله) في الرياض، دون الخطابة، وذلك منذ استقراره فيها إلى هدم الجامع لغرض توسعته سنة 1408هـ، ثم اعتذر سماحته عن الإمامة، ورشح لها فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ حفظه الله.
7- رئاسة جمعية إعانة المتزوجين منذ تأسيسها سنة 1401هـ.
فضلاً عن مشاركاته الكثيرة بمختلف المؤتمرات والمناسبات ووسائل الإعلام وسائر أعمال الخير.
هذا على الصعيد الداخلي في البلاد، أما على مستوى العالم الإسلامي فقد كان سماحته:
8- رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.
9- رئيس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع للرابطة.
10- رئيس المجلس الأعلى العالمي للمساجد.
11- عضو المجلس الاستشاري للندوة العالمية للشباب الإسلامي.
12- عضو الصندوق الإسلامي للتنمية الشبابية.
هذه أبرز الأعمال الوظيفية، ومن أعماله الكثيرة: التعاون مع أهل العلم في كل مكان في سبيل نشر الدين الصافي، والتحذير من البدع والخرافات، والسعي في طباعة الكتب النافعة باللغة العربية وبغيرها، وإرسال الدعاة إلى شتى البلدان وكفالتهم، ودعم الجهاد الإسلامي في شتى صوره بكل مكان، والتدريس، ونشر العلم والردود في وسائل الإعلام، والتصدي لمشاكل الناس ومساعدتهم والشفاعة لهم، وإصلاح ذات البين، وإعمار المساجد، ودعم المراكز والمدارس والجمعيات الإسلامية في كل مكان، وغير ذلك، مما يأتي بعضه مفصَّلاً.(/15)
وكان ينهض بكل ذلك بهمَّة عظيمة، ونفعٍ واضحٍ ملموس، وإن بعض ذلك لا يقوى عليه الأشداء من الرجال، في حين يتولى ذلك كله وهو في سنٍّ متقدمة، وما ذاك إلا ببركة عظيمة وهبه الله إياها، والله ذو الفضل العظيم.
أما الدروس العلمية فقد كان سماحته متصدياً لها، حتى تخرَّج به جماعة من العلماء، واستفاد منه جمع كبير، إضافة إلى المحاضرات العامة، والندوات والمؤتمرات، والتعليق على الندوة الأسبوعية في الجامع الكبير ثم جامع الملك خالد، والإجابة عن الأسئلة.
وأوقات دروسه في آخر أيامه رحمه الله: بعد الفجر إلى ما بعد الإشراق أيام الأحد والإثنين والأربعاء والخميس، وذلك في الجامع الكبير.
وبعد العصر طَوال الأسبوع في مسجد اليحيى.
وبعد المغرب يومي الأحد والأربعاء في جامع سارة.
وبعد المغرب يوم الخميس يحضر ندوة الجامع الكبير للتعليق عليها.
وبين أذاني صلاة العشاء أيام السبت والإثنين والثلاثاء والجمعة في مسجد اليحيى.
وبعد صلاة الجمعة في المنزل.
وكان يعتني بهذه الدروس عناية شديدة في التحضير وغيره، وإذا سافر في الصيف إلى الطائف تتوقف دروسه في الرياض ويستأنف دروساً أخرى في الطائف، وكذلك الحال عندما يكون في الحج، ولا تتوقف دروس سماحته الرئيسة إلا في رمضان، وفيه تكون قراءة بعد صلاة العصر وبعد أذان العشاء في أحكام رمضان ومسائله.
وكانت دروسه تشتمل على العلم المحرَّر المقترن بالدليل الصحيح والترجيح دائماً، إضافة إلى المواقف التربوية، وما أكثر ما تتحدر دموع سماحته في أثناء الدروس، ولا سيما في دروس السيرة النبوية الشريفة.
وأما وسائل الإعلام فقد أولاها سماحته اهتماماً ووقتاً، واستغلها في الدعوة والفتوى والنصح، وكان برنامجه (نور على الدرب) من أشهر البرامج الإذاعية التي يتابعها الملايين في أنحاء العالم، إضافة إلى برنامجه في شرح (منتقى الأخبار) آخر حياته، ولم يكمل شرح الكتاب.(/16)
وأما الصحف والمجلات المحلية والخارجية فقد كانت تزخر بفتاويه ونصائحه، وأحصى بعض تلامذته أكثرَ من ثلاثين مجلة وصحيفة كان سماحته ينشر فيها إفاداته.
وانتشرت فتاويه ورسائله في الدنيا، ولقيت قبولا عظيماً، وغني عن القول أن سماحته كان لا يتقاضى على كل ذلك أجراً، بل يحتسب في جميع ذلك، وإذا جاءه شيء ردَّه.
ولعل قائلاً يقول: أنَّى لرجل -كائناً من كان- أن يجمع كل هذه الأعباء والمسؤوليات، ويقوم بها جميعاً، مع شؤونه الخاصة؟ والجواب: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فقد كان الشيخ عظيم التوكل والالتجاء إلى الله، مع صدق نية، فبارك الله في أوقاته، ومن أراد التوسع ومعرفة جدول الشيخ اليومي التفصيلي وما فيه من عجائب فليرجع إلى كتاب "جوانب من سيرة الإمام" للموسى (ص61-64)، إضافة إلى ترتيب مجلسه (65-68)، وأعماله في المكتب (69-71).
أيامه الأخيرة، ووفاته:
وفي شعبان سنة 1419هـ بدأ الوهن والضعف يظهران على سماحة الشيخ، وبدأت صحته تتراجع باستمرار، حتى اضطر إلى الغياب عن الحج تلك السنة - وهو الذي حج 47 حجة متتالية، ومجموع حجاته 52 حجة- ومع ذلك لم يخفف من أعماله! والجدير بالذكر أنه لم يطلب إجازة ولا ليوم واحد منذ توليه القضاء سنة 1357هـ إلى قبيل وفاته.
غادر سماحته بلده الرياض في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة 1419هـ إلى مكة المكرمة للعمرة، ثم توجه في نهاية الشهر إلى الطائف، واستأنف دروسه المعهودة، وكان آخرها يوم الإثنين 17/1/1420هـ لمدة ثلاث ساعات، وكان يوم الثلاثاء التالي آخر أيام دوامه الرسمي.
وفي الأربعاء 19 من المحرم شعر سماحته بالإرهاق الشديد، ودخل المستشفى، وبقي إلى الثلاثاء 25 المحرم، وكانت المعاملات تُقرأ عليه وهو في المستشفى، والاتصالات والاستفتاءات لا تتوقف.(/17)
ويوم الثلاثاء طلب الخروج من المستشفى، وهو في غاية الإعياء، ويومها أخرج بيانه الشهير مع اللجنة الدائمة للإفتاء في الرد على المنادين بتغريب المرأة السعودية وإخراجها من بيتها، وقيادتها السيارة، وإثبات صورتها في البطاقة الشخصية، وغيرها من خطوات التغريب والفتنة، فكان بياناً قمع أولئك المنادين وقتها، ودفع الله به شراً عظيماً.
وفي يوم الأربعاء - آخر أيامه - قُرئت عليه 25 معاملة، منها معاملات طلاق، ومنها اعتماد بناء عدة مساجد، ومنها معاملة من هولندا بشأن تزكية الشيخ عدنان العُرعور وإنجاح لقاء إسلامي كبير، ثم تغدى الضيوف عنده على عادته، وبعد المغرب تزاحم الناس للسلام عليه في مجلسه، وبدأ باستعراض المعاملات كالمعتاد، ثم وعظ الحاضرين ودعا لهم، وأطال الدعاء، وأوصى الناس بالكتاب والسنة والتمسك بهما، وكانت هذا آخرَ وصاياه العامة، وفي هذا المجلس جاءه سائل فأعطاه، ثم استمر المجلس مع إجابة المتصلين، وخرج من المجلس بعد أذان العشاء، ليجلس مع أسرته وأقاربه القادمين من الرياض، إلى نحو الثانية عشرة، ثم انصرفوا لينام.
وذكرت زوجه وابنه الشيخ أحمد أنه أخذ يسبِّح الله ويذكره، وصلى ما شاء الله له، ثم نام، واستيقظ نحو الثانية والنصف أو الثالثة ليتوضأ دون مساعدة، ثم صلى واضطجع، ثم جلس، وتلفت يميناً وشمالاً، ثم ضحك، فاضطجع مرة أخرى وله نَفَس متزايد مسموع، عند ذلك جاء أبناؤه، وطلبوا الإسعاف، وحُمل سماحته إلى المستشفى، وعند حمله فاضت روحه إلى بارئها.
توفي سماحة الشيخ قبيل فجر الخميس 27 من المحرم 1420هـ بعد أن خُتم عمله بما سبق ذكره من التسبيح والذِّكر، وقيام الليل، والنوم على طهارة، وصلة الرحم، والوصية بالكتاب والسنة وتقوى الله، وفتيا الناس، وحلّ مشاكل المسلمين، وبناء المساجد، والصدقة، والاستبشار، فسبحان من جمع له كل ذلك في الساعات الأخيرة من عمره، كما أنه حديث عهد بعُمرة، ثم كان ما كان من جنازته العظيمة.(/18)
نُقل جثمان الشيخ إلى منزله بمكة لغسله وتكفينه، ورئي وقد اكتسى وجهه بعلامات من الضياء والنور الساطع، وكان بياضه شديداً كما يقول من شارك في الغسل، نسأل الله حسن الخاتمة، كما نسأله الرحمة والغفران للشيخ، وأن يُخلف في الأمة أمثاله.
وبعد وقت قصير من وفاته انتشر خبره في أقطار الدنيا، وأصيب المسلمون بحزن وأسى لا يعلمه إلا الله، وصدر بيان من الديوان الملكي بخبر وفاته وتحديد الصلاة عليه بعد صلاة الجمعة في المسجد الحرام، مع التوجيه بإقامة صلاة الغائب عليه في المسجد النبوي وسائر جوامع المملكة، وما إن عُلم مكان الجنازة ووقتها حتى توجَّه الناس - وكاتبُه منهم - من داخل البلاد وخارجها إلى مكة للصلاة عليه، واجتمع عدد عظيم في وقت قصير، قُدِّر بين المليون والمليونين، امتلأ بهم المسجد الحرام في مشهد لا يُنسى، وسُمع البكاء والنشيج من أرجاء المسجد الحرام.
وصلى على الجنازة الشيخ محمد السبيِّل، ودُفن في مقبرة العدل بمكة، وكُتب بعدها في سماحة الشيخ آلاف الكلمات والمقالات في شتى البلدان، ورُثي بمراثٍ كثيرة، قال شيخنا ابن جبرين: إن بعض المشايخ أحصى منها أكثر من ثمان مئة، ورُئيت فيه رؤى كثيرة مبشرة، رحمه الله تعالى.
وبعد!
فقد توفي سماحة الشيخ، وترك بعده من العلم النافع والحسنات الجارية الشيء الكثير، وإن كنا تكلمنا فيما مضى عن تأريخ حياته باختصار شديد، فما عسانا نكتب عن الجانب العملي من شخصيته الفريدة وقصصه العجيبة في شتى الأمور؟ حتى قال جماعة فيه: إنه كابن المبارك جُمعت فيه خصال الخير، وإنه كان قدوة ومدرسة سلفية علمية سلوكية متكاملة، وإنه كان كلمة إجماع عند الموافق والمخالف؟ حتى قال الشيخ القرضاوي: "لا أعرف أحداً يكره الشيخ ابن باز من أبناء الإسلام إلا أن يكون مدخولاً في دينه، أو مطعوناً في عقيدته، أو ملبوساً عليه".(/19)
ماذا نتحدث عن سخائه وكرمه منذ صغره، وبيته مفتوح يومياً للفقراء قبل غيرهم، حتى قال شيخنا محمد بن لطفي الصباغ وغيره: إن ابن باز أكرم دون شك من حاتم الطائي. وقال بعض المقربين منه: إنه لم يره يأكل وحده.
ماذا نتحدث عن مواقفه في الشفاعة وسد حاجات الناس وخدمتهم وكفالته وإنفاقه على بيوت كثيرة، فضلاً عن نحو ألفَي داعية في العالم، وكفالته نحو 800 حاج سنوياً من الطلبة والفقراء.
أم ماذا أكتب عن قصصه العجيبة في العبادة ومداومته قيام الليل إلى ليلة وفاته، وكثرة دعائه والتجائه لله تعالى، وكثرة بكائه ورقة قلبه.
وماذا عن أخلاقه العجيبة في التواضع واللين مع الناس وترك حظ النفس بالكلية، ومن ذلك ما أخبرني الشيخ عبد الرحمن الهرفي أنه سمع رجلاً يقول له: قد اغتبتك فحللني! فقال: ظهري حلال لكل مسلم.
وحدثني السيد الوجيه سعد آل تميم الدوسري - أمير القيصومة سابقاً، ووالد زميلنا الشيخ عايض الدوسري - قال: شهدت الشيخ ابن باز ورجلٌ يقول له: إن فلاناً يكفِّرك! فيجيبُه: الله يهديه.. الله يهديه. فيقول الرجل: هو يلعنك لعناً! فما زاد على قول: الله يهديه.. الله يهديه.
وقال: رأيتُه مرة خارجاً من الجامع الكبير قبل تجديده، وركب السيارة، فجاءته امرأة تريده في موضوع، فنبهه مَن معه، فنزل سماحته من السيارة، وجلس على الأرض (الإسفلت) ليسمع منها شكواها.
وماذا نتكلم عن زهده في الدنيا مع إقبالها إليه؟
بل ماذا نقول عن دعمه ونصرته لقضايا المسلمين، وقوته في ذلك، وإنكاره وعدم هيبته لبعض الزعماء الذين خالفوا الشريعة، ومناصحته الدائمة للحكام، وسعيه المتواصل والمثمر في تفريج كربات بعض العلماء والدعاة في شتى البلدان، ودعمه للجهاد والمجاهدين في كل مكان.
ثم هناك نقولات طويلة في ثناء العلماء الرفيع عليه من شتى البلدان من الموافق والمخالف، حتى استفاض إطلاق شيخ الإسلام عليه، وأنه إمام أهل السنة والجماعة في هذا العصر.(/20)
وكذلك الحديث عن منهجه العلمي والحديثي وحافظته النادرة أمرٌ يطول.
كل ذلك يُمكن إفاضة الكلام عليه بما لا تحتمله هذه المقالة المختصرة، فما علمتُ معاصراً جمع من المناقب وحب الناس مثله، وقد توسعتُ في ترجمة سماحته وذكر اخباره وأحواله في مجلد بالمشاركة، ولما يُطبع، ولم أُخلِ هذه المقالة ببعض زيادات عليها من الأخبار والمشافهات.
وأختم بكلمة لأحد كبار أصحاب سماحته، وهو معالي الشيخ عبد الله الزايد حفظه الله، إذ يقول عن شيخه: "هو أشهر من أن يعرَّف؛ سواء داخل المملكة العربية السعودية أو خارجها، وإذا ما أراد أحد أن يكتب عن هذا العالم إنما يستطيع أن يكتب نبذة بسيطة لا تعدو أن تكون محاولة متواضعة للتعريف ببعض جوانب حياته".
رحم الله الإمام ابن باز، وجمعنا به في دار كرامته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.(/21)
العنوان: العلامة محمد الطاهر ابن عاشور
رقم المقالة: 931
صاحب المقالة: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
محمد الطَّاهر ابن عاشُور
علَّامة الفِقه وأُصوله والتَّفسير وعُلومه
لمحات من حياته:
اسمه ونسبه:
هو محمد الطَّاهر بن محمد بن محمد الطَّاهر بن محمد بن محمد الشَّاذلي بن عبد القادر بن محمد (بفتح الميم) ابن عاشور، وهذا الأخير من أشراف الأندلس، قدِم إلى تونس واستقرَّ بها بعد خروج والده من الأندلس فارّاً من القهر والتَّنصير، وكان عالماً عاملاً صالحاً.
وقد برز في عائلة ابن عاشور جَدُّ المترجَم محمد الطَّاهر ابن عاشور الذي كان من فقهاء عصره، وتقلَّد مناصب هامَّة في القضاء والإفتاء والتَّدريس، إضافة إلى تولِّيه نقابة الأشراف، وله مؤلَّفات مطبوعة.
وأيضاً والد المترجَم محمد ابن عاشور، الذي تولى رئاسة مجلس دائرة جمعيَّة الأوقاف.
أما جَدُّه لأمِّه، فهو العالم الوزير محمد العزيز بُوعَتُّور (1240-1325هـ)، الذي تولَّى الوزارة الكبرى بعد مصطفى إسماعيل، وتحقَّقت على يديه إصلاحات نالت إعجابَ الوزراء وتقدير الأمراء.
مولده ونشأته:
ولد صاحب التَّرجمة في ضاحية المَرْسى، قرب العاصمة التونسيَّة، سنة 1296هـ = 1879م . ونشأ في رحاب العلم والجاه، فسلك تعلُّم القرآن الكريم في سنِّ السَّادسة، فقرأه وحفظه على المقرئ الشيخ محمد الخياري، ثم حفظ مجموعةً من المتون، وتلقَّى قواعد العربيَّة على الشيخ أحمد بن بدر الكافي.
زوجته وأبناؤه:
تزوَّج محمد الطَّاهر ابن عاشور السَّيِّدة الشَّريفة فاطمة بنت نقيب الأشراف بتونس السَّيَّد محمد محسن، فأنجبت له أربعة بنين واثنتين من البنات.(/1)
برز من أولاده السيِّد محمد الفاضل (1909-1970م) الذي تولى التدريس بجامع الزيتونة والقضاء، ثم عمادة الكلية الزيتونيَّة للشريعة وأصول الدين، وعُيِّن مفتياً للجمهورية التُّونسيَّة، وكان عضواً بمجمع اللَّغة العربية بالقاهرة، وله مجموعةٌ من الكتب المطبوعة والأبحاث.
وكذلك الأستاذ عبد الملك وكان موظفاً سامياً، وله بحوث وتحقيقات علميَّة نُشرت له بالمجلَّات التُّونسية.
وللشيخ محمد الطاهر أحفادٌ بررة أساتذة جامعيُّون، منهم الأستاذ الدُّكتور المؤرِّخ محمد العزيز بن عبد الملك، والأستاذ الدُّكتور الحقوقيُّ عياض بن محمد الفاضل الذي رأَس الجامعة التونسية.
نشأته العلميَّة:
التحق الشابُّ محمد الطاهر بجامع الزيتونة سنة 1310هـ = 1893م، وقرأ فيه علوم القرآن والقراءات، والحديث، والفقه المالكي وأصوله، والفرائض، والسِّيرة، والتَّاريخ، والنَّحو واللُّغة والأدب والبلاغة، وعلم المنطق.
كما تعلم الفرنسيَّة على يد أستاذه الخاصِّ أحمد بن ونَّاس المحمودي.
حصل المترجَم على شهادة التَّطويع - انتهاء التَّعليم الثانوي- من الجامع الأعظم سنة 1317هـ=1899م، وعاد بعدها إلى حضور دروس شيوخه، فقرأ على الشيخ محمد النخلي الوُسطى في العقيدة، وشرح المحلِّي في أصول الفقه، والمطوَّل في البلاغة، والأشموني في النحو، وعلى الأستاذ عمر ابن الشيخ تفسير البيضاوي، وعلى الشيخ سالم بوحاجب البخاري والموطَّأ بشرحيهما.
شيوخه:
تحمَّل الطاهر بن عاشور العلم عن أعيان علماء تونس وشيوخ جامع الزيتونة، ومنهم:(/2)
الشيخ أحمد بن بدر الكافي، والشيخ أحمد جمال الدين، والعلامة الشيخ سالم بوحاجب (1244-1342م)، وله منه إجازة، والشيخ محمد صالح الشريف (1285-1338هـ)، والشيخ عبد القادر التميمي، الفقيه المتكلِّم الشيخ عمر ابن الشيخ (1239-1329هـ)، وله منه إجازة، والشيخ عمر ابن عاشور، والشيخ المقرئ محمد الخياري، والشيخ محمد صالح الشاهد، والشيخ محمد طاهر جعفر، والشيخ محمد العربي الدرعي، والعالم الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتُّور، وله منه إجازة، والشيخ محمد بن عثمان النجار، والشيخ محمد النَّخلي، والشيخ محمود ابن الخوجه، وله منه إجازة.
تدريسه وتلامذته:
درَّس الشيخ محمد الطَّاهر ابن عاشور كتباً عالية في جامع الزيتونة، كأسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز للجُرجاني، ومقدمة ابن خلدون، وموطَّأ الإمام مالك، وكان أول من درَّس (ديوان الحماسة) فيه. كما كان يقوم بتدريس الحديث النبوي الشَّريف في ليالي رمضان.
وقد أدخل الشيخُ بعض الإصلاحات على التعليم الزيتوني، كتقسيم التعليم إلى المراحل الثلاث المعروفة الآن، وتحديد زمن الحصَّة، وتعيين مواد الدراسة، والشيخَ المدرِّس لها في كل فصل، مع بيان أوقات الدَّرس لكل مادة.
أما تلامذته، فقد تحمَّل عنه العلم جمٌّ غفير من أهل تونس والجزائر ممَّن كان يقصد الزيتونة، فكان منهم الأديب والفقيه والمؤرِّخ والصِّحافي والاقتصادي، وكبار الوزراء والكتَّاب، وممَّن عُرف بالتأليف منهم أذكر:
محمد الصَّادق ابن الحاج محمود المعروف بـ (بسِّيس) (1332-1398هـ)، ومحمد الصَّادق الشطِّي (1312-1364هـ)، وأبو الحسن ابن شعبان (1315-1383هـ)، ومحمد الفاضل ابن المترجَم (1327-1390هـ)، وعلي بن محمد البوديلمي، ومحمد العيد آل خليفة (1323-1399هـ)، وأحمد كريِّم (1243-1347هـ)، ومحمد الشاذلي النَّيفر (1330-1418هـ) رحمهم الله جميعاً.
وظائفه:
تولَّى ابن عاشور مناصب علميَّة وإداريَّة بارزة، وهاهي مرتَّبة تاريخيّاً:(/3)
1317هـ: بدأ بالتَّدريس في جامع الزيتونة.
1320هـ: نجح في مناظرة الطَّبقة الثانية ليتولى التَّدريس رسميّاً بالجامع الأعظم.
1321هـ: انتُدب للتَّدريس بالمدرسة الصادقيَّة.
1323هـ: عُيِّن عضواً بمجلس إدارة الجمعيَّة الخلدونيَّة، وفي نفس العام شارك باللَّجنة المكلَّفة بوضع فهرس للمكتبة الصادقيَّة.
1324هـ: شارك في مناظرة التَّدريس للطَّبقة الأولى بالزيتونة، وفي نفس السنة عيِّن عضواً في هيئة إدارة الجمعيَّة الخلدونيَّة.
1325هـ: عُيِّن نائباً أول للحكومة لدى النَّظارة العلميَّة بجامع الزيتونة.
1326هـ: سُمِّي عضواً في لجنة تنقيح برامج التَّعليم.
1327هـ: ترأَّس لجنة فهرسة المكتبة الصادقيَّة.
1328هـ: عُيِّن عضواً بمجلس الأوقاف الأعلى، وفي نفس السنة اختير حاكماً بالمجلس العقاري.
1331هـ: عُيِّن قاضياً مالكياً للجماعة بالمجلس الشرعي، وفي نفس السنة عُيِّن مفتياً.
1341هـ: سُمِّي مفتياً نائباً عن الشيخ باش مفتي، وبعدها بعام عُيِّن بمنصب رئيس المفتين.
1346هـ: رُقِّي إلى منصب كبير أهل الشُّورى.
1351هـ: تسلَّم منصب شيخ الإسلام المالكي، و عُيِّن شيخاً للجامع الأعظم وفروعه، وفُصل من هذا المنصب -ويُقال: استقال- بعد سنة ونصف، ليعودَ إليه سنة 1364هـ وبقي في هذا المنصِب إلى 1372هـ.
1367هـ: عُيِّن عميداً للجامعة الزيتونية إثر استقلال البلاد، وبقي فيه حتى سنة 1380هـ.
كما انتُخب الشيخ عضواً مراسلاً في المجمع العلمي العربي ( مجمع اللُّغة العربيَّة بدمشق حالياً) وذلك في سنة 1375هـ.
محمد الخضر حسين وابن عاشور:
كان من أعزِّ أقران الشيخ إليه الشيخ الإمام محمد الخضر حسين الذي زامله في الزيتونة دراسة، وتوجُّهاً فكرياً، إذ انعقدت بينهما صداقةٌ بدأت سنة 1317هـ، بلغت في صفائها ومتانتها -على حدِّ قول الإمام- الغايةَ التي ليس بعدها غاية.(/4)
وكان في محطَّات حياة الشيخين كثيرٌ من التَّشابه، فالشيخ محمد الطاهر تولى مشيخة الجامع الزيتوني، في حين تولى الشيخ محمد الخضر حسين مشيخة الجامع الأزهر، وكان كلاهما من المعتنين بالأدب إلى جانب العلوم الشَّرعية، وتولى الاثنان الردَّ على الشيخ علي عبد الرزَّاق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم).
وهذه العلاقة جسَّدها الرجلان بقصائدَ ومراسلات، منها: أنه لمَّا تولى الشيخ محمد الطَّاهر التَّدريس بجامع الزيتونة، هنَّأه الشيخ محمد الخضر بقصيدة مطلعها:
مَساعي الوَرى شَتَّى وكلٌّ لهُ مَرمى ومَسعى ابنِ عاشُورٍ لهُ الأَمَدُ الأَسْمى
فَتًى آنَسَ الآدابَ أَوَّلَ نَشئِهِ فكانَت لهُ رُوحاً وكان لها جِسْما
وبعد هجرة الشيخ محمد الخضر حسين إلى دمشق، بعث صديقُه قاضي القضاة بتونس وقتئذ الشيخ محمد الطاَّهر رسالةً مصدَّرةً بأبيات منها:
بَعُدتَ ونفسي في لِقاكَ تَصيدُ فلم يُغنِ عنها في الحنانِ قَصيدُ
وخَلَّفتَ ما بينَ الجوانحِ غصَّةً لها بينَ أحشاءِ الضُّلوعِ وَقودُ
فأجابه الشيخ محمد الخضر بقصيدة مطلعها:
أَيَنعَمُ لي بالٌ وأنتَ بعيدُ وأَسلو بطَيفٍ والمنامُ شَريدُ؟
إذا أَجَّجَت ذِكراكَ شَوقيَ أَخضَلَت لَعَمري -بدَمعِ المُقلَتَينِ- خُدودُ
بَعُدتُ بجُثماني ورُوحي رَهينةٌ لدَيكَ ولِلوُدِّ الصَّميمِ قُيودُ
أوليَّاته:
للشيخ محمد الطَّاهر ابن عاشور أوليَّات تمثِّل مظهراً من مظاهر تميُّزه رحمه الله وهي:
• أوَّل من فسَّر القرآن كاملاً في إفريقيَّة، وذلك في كتابه (التَّحرير والتَّنوير).
• وهو أوَّل من جمع بين منصب شيخ الإسلام المالكي وشيخ الجامع الأعظم (الزيتونة). وأول من سمِّي شيخاً للجامع الأعظم.
• وأوَّل من تقلَّد جائزة الدولة التقديريَّة للدولة التونسيَّة، ونال وسام الاستحقاق الثَّقافي سنة 1968م.
• وهو أوَّل من أحيا التَّصانيف في مقاصد الشَّريعة في العصر الحديث بعد العز بن عبدالسلام (660هـ) والشاطبي (790هـ).(/5)
• وأوَّل من أدخل إصلاحات تعليميَّة وتنظيميَّة في الجامع الزيتوني، في إطار منظومة تربويَّة فكريَّة.
أخلاقه وشمائله:
كان الشيخ رحمه الله رجلاً تزيِّنه أخلاقٌ رضيَّةٌ وتواضعٌ جمٌّ، اشتُهر بالصبر وعلوِّ الهمَّة، والاعتزاز بالنَّفس، عفيف القلم، حلو المحاضرة، طيب المعاشرة.
يقول زميلُه في الطَّلَب وصديقه المقرَّب الشيخ محمد الخضر حسين: "شبَّ الأستاذ على ذكاء فائق، وألمعيَّة وقَّادة، فلم يلبث أن ظهر نبوغُه بين أهل العلم". وقال فيه: "وللأستاذ فصاحةُ منطق وبراعة بيان، بالإضافة إلى غزارة العلم وقوَّة النَّظر وصفاء الذَّوق وسعة الاطِّلاع في آداب اللغة".
وقد وصَفَه أحدُهم فقال: رأيت فيه شيخاً مَهيباً يمثِّل امتداداً للسَّلف الصَّالح في سَمْتِه، ودخل في عقده العاشر ولم تنل منه السُّنون شيئاً.. قامةٌ سمهريًّة خفيفة اللَّحم، وعقليَّةٌ شابَّةٌ ثريَّةٌ بحصيلتها، وقلبٌ حافظٌ أصاب من علوم القدماء والمحدَثين، ولسانٌ لافظٌ يقدر عل الخوض في كل شيء من المعارف، وذهنٌ متفتحٌ يشقِّق الحديث روافدَ مع وقارٍ يزيِّنه وفضلٍ يبيِّنه، وأخلاقٌ وشمائلُ حسنةٌ تهشُّ للأضياف وترحِّب بالوارد، وتعطي في عُمق لمن يريد الاغترافَ من بحر كثُرت مياهُه وقد ازدحمت العلومُ فيه.
وكان في مناقشاته العلميَّة لا يجرح أحداً ولا يحطُّ من قدره، فإذا لاحظ تهافتاً في الفكر لمَّح إلى ذلك تلميحاً، وبرغم الحملات التي شُنَّت ضده لم ينزل عن المستوى الخُلُقي الذي يتَّصف به العلماء، بل لم يُشِر إلى خصومه، ولم يَشكُ منهم قطُّ.(/6)
ويقول فيه الدُّكتور محمد الحبيب بلخوجه: "هو نمطٌ فريد من الأشياخ، لم نعرف مثلَه بين معاصريه أو طلَّابه أو من كان في درجتهم من أهل العلم.. وقد وهبه الله متانةَ علم، وسعة ثقافة، وعمق نظر، وقدرة لا تفتُر على التَّدوين والنَّشر، ومَلَكات نقديَّة يتَّضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتعريفات، وما يلحق بها من ابتداعات وتصرُّفات".
قال فيه الشَّاعر التُّونُسي محمد الحليوي:
عَلَمٌ
يَعِزُّ نَظيرُه في دَهرِهِ هَيهاتَ ، ليسَ نَظيرُه بمُتاحِ
عَلَمٌ تجمَّع عِلمُهُ في شَخصِهِ كتَجَمُّع الأَضواءِ في المِصباحِ
ما ضَرَّ مَن أضحى يَعيشُ بعَصرِهِ إنْ لم يُشاهِد (مالكاً) في السَّاحِ
وفاته:
تُوفِّي محمد الطَّاهر ابن عاشور عن أربع وتسعين سنة في ضاحية المَرْسَى قرب تونُس العاصمة، يوم الأحد 13 من رجب سنة 1394هـ الموافق 12 من آب (أغسطس) 1973م. ووُري الثَّرى بمقبرة الزّلَّاج.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنَّاته.
تعريف بمؤلفاته:
تنوَّعت آثار الشيخ رحمه الله تعالى من حيث موضوعاتُها، فألَّف في التفسير، والحديث، والأصول، والأدب، واللُّغة، والتَّاريخ والتَّراجم، والدِّراسات الإسلاميَّة. وقد اتَّسمت بنُضج الفكرة وعُمق التَّحليل والمعالجة العلميَّة، وبلاغة الأسلوب.
ونخصُّ منها بالتعريف تفسيرَه للقرآن، وكتابه في الأصول (مقاصد الشَّريعة)، وكتابه في إصلاح التعليم، لشهرتها وتفرُّده بها في زمانه.
التعريف بالتفسير:(/7)
تفسير التَّحرير والتَّنوير الذي سمَّاه مؤلفه: (تحرير المعنى السَّديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد). وقد قدَّم له بتمهيدٍ وافٍ ذكر فيه مُراده من هذا التفسير، وقال: "فجعلت حقّاً عليَّ أن أبدي في تفسير القرآن نُكتاً لم أرَ من سبقني إليها، وأن أقفَ موقف الحكم بين طوائف المفسِّرين تارةً لها وآونةً عليها، فإنِّ الاقتصار على الحديث المعاد، تعطيلٌ لفيض القرآن الذي ماله من نَفاد، ولقد رأيت النَّاس حول كلام الأقدَمين أحدَ رجلين: رجل معتكف فيما شادَه الأقدمون، وآخر آخذٌ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي تلك الحالتين ضررٌ كثير، وهنالك حالةٌ أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمِدَ إلى ما أشاده الأقدمون فنهذِّبه ونزيده وحاشا أن ننقضه أو نبيده، علماً بأنَّ غمط فضلهم كُفْرانٌ للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حَميد خصال الأمَّة".
ثمَّ قال: "وقد ميَّزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه، وما أجلبه من المسائل العلميَّة مما لا يذكره المفسِّرون، وإنَّما حَسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يديَّ من التفاسير في تلك الآية خاصَّة، ولست أدَّعي انفرادي به في نفس الأمر، فكم من كلام تُنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلِّم، وكم من فهم تستظهره وقد تقدَّمك إليه متفهِّم".
كما وضَّح أن فن البلاغة لم يخصَّه أحد من المفسِّرين بكتابٍ كما خصُّوا أفانين القرآن الأخرى، ومن أجل ذلك التزم ألا يغفل التنبيه على ما يَلوح له منه كلَّما ألهمه الله تعالى ذلك بحسب مبلغ الفهم وطاقة التَّدبر. واهتمَّ أيضًا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، أمَّا البحث عن تناسب مواقع السُّور فلا يراه حقّاً على المفسِّر.(/8)
وتفسير التَّحرير والتَّنوير يعد في الجملة تفسيراً بلاغياً بياناً لغوياً عقلانياً لا يغفل المأثور ويهتم بالقراءات، حَفَل بضروب من التأويل والفهم لمقاصد الشَّريعة ما يعزُّ وجوده في غيره، ويتفرَّد به عن غيره. وطريقة مؤلِّفه فيه أن يذكر مقطعاً من السُّورة ثم يشرع في تفسيره مبتدئاً بذكر المناسبة، ثم لغويَّات المقطع، ثم التَّفسير الإجمالي، ويتعرَّض فيه للقراءات والفقهيَّات ... وهو يقدم عرضاً تفصيليّاً لما في السُّورة ويتحدَّث عن ارتباط آياتها وتناسبها، فهو لم يغادر سورة إلا بيَّن ما أُحيط بها من أغراضها، لئلَّا يكون النَّاظر في تفسير القرآن -كما يقول ابن عاشور- مقصوراً على بيان مفرداته ومعاني جُمَله،كأنها فِقرٌ متفرِّقةٌ تصرِفه عن روعة انسجامه وتحجُب عنه روائع جَماله.
ومما قاله المصنِّف في تقديمه لكتابه: "وقد اهتممتُ في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونُكَت البلاغة العربيَّة وأساليب الاستعمال"، وقال: "واهتممتُ بتبيين معاني المفردات في اللُّغة بضبطٍ وتحقيقٍ مما خلت عن ضبطِ وتحقيق كثيرٍ منه قواميس اللُّغة". وهو كما قال فعلاً حيث خرج من التَّفسير إلى إضافة قاموس لغوي لمفردات القرآن الكريم.
وأخيرًا هو يمتدح كتابه بقوله: "ففيه أحسنُ ما في التَّفاسير، وفيه أحسن ممَّا في التَّفاسير".
ومدَّة تأليف التَّفسير زهاء أربعين سنة، بدأ به في سنة 1341هـ وانتهى منه في رجب سنة 1380هـ، وبدأ بنشره على حلقات في (المجلَّة الزيتونيَّة)، ثم طُبع مراراً.
التعريف بكتاب (مقاصد الشَّريعة الإسلامية):
يعدُّ هذا الكتاب من أشهر كتب ابن عاشور.
كان تأليفه استجابة للأُمنية التي أعرب عنها الشَّيخ محمد العزيز جُعَيط المفتي المالكي (1303-1389هـ)، يوم أن كتب في (المجلَّة الزيتونيَّة) أنه لم يعثر في تلك الثَّروة العلميَّة الهائلة على كتابٍ جامعٍ، يجمع في مطاويه شَمْل المقاصد الشَّرعية، ويُفصح عن أسرار التَّشريع.(/9)
فكان هدف ابن عاشور من تصنيفه -كما قال- ليكون: "مرجعاً بين المتفقِّهين في الدِّين عند اختلاف الأنظار وتبدُّل الأَعصار، وتوسُّلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودُربةً لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض، عند تَطاير شرر الخلاف، حتى يستتبَّ بذلك ما أردنا من نبذ التعصُّب والفَيْئَة إلى الحقِّ".
والذي دعاه إلى صرف الهمَّة إليه ما رأى من "عُسر الاحتجاج بين المختلفِين في مسائل الشَّريعة، إذ كانوا لا يَنتهون في حِجاجهم إلى أدلَّة ضرورية أو قريبة منها يُذعن إليها المكابِر، ويَهتدي بها المشبَّهُ عليه، كما ينتهي أهل العلوم العقليَّة في حِجاجِهم المنطقيِّ والفلسفيِّ إلى الأدلَّة الضَّروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة، فينقطع بين الجميع الحِجاج، ويرتفع من أهل الجدل ما هم فيه من لجاج".
وقد قسَّم المؤلِّف كتابه إلى ثلاثة أقسام، فجعل القسم الأول في إثبات أنَّ للشَّريعة مقاصدَ من التشريع، عالج فيه القواعد المعرِّفة لهذا العلم، وجعل القسمَ الثاني في مقاصد التشريع العامَّة، أي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، والقسم الثالث في مقاصد التشريع الخاصَّة بأنواع المعاملات، فبحث في توجُّه الأحكام إلى مرتبتين: مقاصد ووسائل، وبيَّن أن مقصد الشَّريعة في المعاملات تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقِّيها. وقد طُبع الكتاب مراراً، آخرها بتحقيق الدكتور محمد الحبيب بلخوجة صدر عن دار القلم بدمشق.
التعريف بكتاب (أليس الصُّبح بقريب؟ التَّعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخيَّة وآراء إصلاحيَّة):(/10)
يعدُّ هذا الكتاب من أهم الكتب التي كُتبت في عصر ابن عاشور، اعتنى به مؤلِّفه بنقد التعليم ومناهج التأليف السائدة؛ فتكلَّم عن أوضاع التعليم وأسباب ضعفه، وأحوال البيئة الزيتونية ومبادرات إصلاح التعليم فيه، قال في مقدمته: "قد كان حَدا بي حادي الآمال وأملى عليَّ ضميري، من عام واحد وعشرين وثلاث مئة وألف، للتَّفكير في طرق إصلاح تعليمنا العربيِّ والإسلاميِّ، الذي أشعرَتني مدةُ مزاولته، متعلِّماً ومعلِّماً، بوافر حاجته إلى الإصلاح الواسع النِّطاق، فعقدت العزمَ على تحرير كتاب في الدَّعوة إلى ذلك وبيان أسبابه".
بحث المؤلِّف في كتابه أسباب تأخُّر التَّعليم، وعزاه إلى انعدام خُطَّة تربويَّة متطوِّرة، وإهمال الضَّبط للدروس والمقرَّرات، والبعد عن التَّربية الأصيلة.
ونقَد كذلك مستويات التَّعليم، الابتدائيِّ والثانويِّ والعالي، وبيَّن عيوبَها، ثم تكلَّم على العلوم وأحوالها و إصلاحها وأسباب تأخُّرها.
وكان الشيخ جريئاً في نقده، مجدِّداً، بصيراً بعيوب العلوم التي عرضَها، يطغى على نقده الطَّابع التَّربوي، إذ كان يُظهر هنَات العلوم، وينبِّه على مواطن الخلل فيها، لاسيَّما ما يعسُر فهمه على الطَّالب، ونبَّه في جرأة أثارت حفيظةَ خصومه على العراقيل المصطنعة التي أثارها أعداء التطوُّر الواقفين في وجه كل إصلاح علميٍّ تربوي.
يقول: "غير أني لم أدَع فرصةً إلا سعيت إلى إصلاح التعليم فيها بما ينطبِق على كثير مما تضمَّنه هذا الكتاب، فاستتبَّ العمل بكثير من ذلك، وبقي كثير، بحسب ما سمحَت به الظُّروف، وما تيسَّر من مقاومة صانعِ منكَرٍ ومانعِ معروف".(/11)
لقد كان المؤلِّف في كتابه هذا مؤرِّخاً للعلوم وطرق تدريسها منذ انتشار العلم في بلاد الإسلام وامتداده إلى الأندلس، فبحث في أطوار التعليم العربيِّ عند ظهور الإسلام، ونقل العلوم الفارسية والهندية واليونانية، ووَصَف التعليم الإسلاميَّ وأساليبه ومناهجه، كما بحث في صفة الدُّروس والطَّريقة في معرفة أهليَّة المتصدِّي للتعليم، ومواضع التعليم، وظهور الكتاتيب وتعليم المرأة، وانبعاث العلوم الإسلاميَّة في الأقطار، ثم تكلَّم على مواضع التعليم في إفريقيَّة والمغرب، وأسلوب التعليم فيها، ثم خصَّ التعليم في تونس، فتحدَّث عن مواضع التعليم فيها وأسباب تأخُّره، ونظره في إصلاحها وترقية أفكار التَّلامذة. وأرَّخ بعد ذلك للتأليف وأسبابه، وبحث في كل علمٍ يدرسه طالب العلم، وطرق إصلاح تعليمه.
وقد طُبع الكتاب مرَّتين.
وللمترجَم غير الكتب التي ذُكرت نحوٌ من أربعين كتاباً تأليفاً وتحقيقاً، شطرها لم يُطبع بعد، منها:
1 - تعليقات وتحقيق على حديث أمِّ زرع – مخطوط.
2 - النظر الفَسيح عند مَضيق الأنظار في الجامع الصَّحيح – مطبوع.
3 - كشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطَّا – مطبوع.
4 - آراءٌ اجتهادية – مخطوط.
5 - الأمالي على مختصر خليل – مخطوط.
6 - حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب (التنقيح على شرح تنقيح الفصول في الأصول) – مطبوع.
7 - قضايا وأحكام شرعيَّة – مخطوط.
8 - الوقف وآثاره في الإسلام – مطبوع.
9 - أصول التقدُّم في الإسلام – مخطوط.
10 - أصول النِّظام الاجتماعي في الإسلام – مطبوع.
11 - تحقيقات وأنظار في الكتاب والسُّنَّة. – مطبوع.
12 - نقدٌ علميٌّ لكتاب الإسلام وأصول الحكام لعلي عبد الرزَّاق – مطبوع.
13 - أصول الإنشاء والخطابة – مطبوع.
14 - الأمالي على دلائل الإعجاز للجرجاني – مخطوط.
15 - تحقيق لشرح القرشي على ديوان المتنبي – مخطوط.
16 - ديوان بشار بن برد – مطبوع.(/12)
17 - ديوان النابغة الذبياني – مخطوط.
18 - شرح ديوان الحماسة – مخطوط.
19 - شرح معلَّقة امرئ القيس – مخطوط.
20 - سرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن بسَّام النحوي– مطبوع.
21 - شرح المقدمة الأدبية لشرح الإمام المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام – نُشرت مقالات في مجلة مجمع اللُّغة العربية بدمشق.
22 - قصيدة الأعشى الأكبر في مدح المحلَّق – مطبوع.
23 - الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم الأصبهاني – مطبوع.
24 - قصَّة المولد النَّبوي الشَّريف – مطبوع.
25 - قلائد العقيان ومحاسن الأعيان لأبي نصر الفتح ابن خاقان – مخطوط.
المرجع:
كتاب (محمد الطَّاهر ابن عاشُور، علَّامة الفِقه وأُصوله والتَّفسير وعُلومه)، تأليف: إياد خالد الطَّباع، وهو الكتاب رقم (26) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم) التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1426هـ - 2005م.(/13)
العنوان: العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ
رقم المقالة: 825
صاحب المقالة: محمد زياد بن عمر التكلة
-----------------------------------------
سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
رحمه الله تعالى (1311-1389)
اسمه ونسبه:
هو أبو عبد العزيز، محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي، من آل مشرف، أحد أفخاذ الوَهَبَة، من بني تميم.
أسرته:
وهو من بيت علم وشرف رفيع، كان غير واحد من أفراده إمامَ السنّة في عصره، فهي أشهر الأسر العلمية في العصور المتأخِّرة، وقد ذكر التاريخُ عدة أسر عريقة بقيت على مدى قرون تخرِّج الأئمة وكبار أهل العلم، كآل منده، وآل قدامة، وآل مفلح، وآل عبد الهادي، ثم جاءت هذه الأسرة السلفية التي استمرَّ فيها العلم من زهاء أربعة قرون إلى الآن، فكان الشيخ سليمان بن علي عالمَ نجد في زمانه، وابنه عبد الوهاب كان عالماً تولى القضاء مراراً، وابنه محمد كان مجددَ الدعوة إلى السنّة وشيخَ الإسلام في وقته، وابنه حسن قُتل شابّاً فلم يُشتهر خبره، وابنه عبد الرحمن كان من كبار العلماء، بل هو إمام السنّة في عصره، وكذا ابنه عبد اللطيف، ثم ابنه إبراهيم من كبار علماء نجد، وكان قاضيَ الرياض، وابنه محمد - المترجَم - هو وريثُ أجداده في العلم والإمامة والفضل، وتعداد العلماء في هذه الأسرة يطول، رحم الله الأموات منهم، وبارك في الأحياء.
أما والدة المترجَم فهي الجوهرة بنت عبد العزيز الهلالي، وأبوها أمير بلدة عرقة غربي الرياض، ويُنسب للمزاريع من بني عمرو من تميم.
مولده ونشأته:(/1)
وُلد الشيخ محمد بن إبراهيم في مدينة الرياض يوم الإثنين الموافق 17 من المحرَّم من عام 1311هـ، ونشأ في كنف والده العالم، ووالدته الصالحة، وأسرته العلمية، فكان لهذه البيئة الخيِّرة، مع ما وهبه الله من ذكاء ومواهبَ فذةٍ وتبكير في الطلب؛ كان لكلِّ ذلك الأثر الكبير في حياة الشيخ..
ومن عجيب قصص ذكائه ما نقله عنه تلميذه الشيخ عبد الله بن منيع، أنه قال له: كنتُ في آخر العام الثاني من ولادتي، فدخلتْ والدتي غرفةَ نومها، فرأيتها تبحث عن شيء، فظننتُ أن ذلك الشيء الذي تبحث عنه مُكْحُلَتُها، فأشرت بيدي إليها أن المُكْحُلَة في طاق الغرفة، ففرحت بإشارتي، وضمَّتني ضمَّةً لا أزال أتذكرها إلى يومي هذا.
قلت: دخل المترجَم كتَّاب الشيخ عبد الرحمن بن مفيريج رحمه الله في حي دُخنة، فحفظ القرآن مبكِّراً، وتعلم القراءة والكتابة، وشرع في طلب العلم بهمَّة عظيمة، وأكثر من حفظ المتون ومن المطالعة، وكان رفيقَه في الطلب الشيخ الصالح المعمَّر عبد العزيز بن مرشد رحمه الله تعالى.
فقده البصر:
وأصابه مرض في عينيه وهو في حدود السادسةَ عشرة لمدة سنة تقريباً، فقد على أثره البصرَ، ولكن عوَّضه الله البصيرة النافذة، والحافظة النادرة، حتى ذكر بعضُهم أنه كان يحفظ المتنَ من القراءة الثانية أو الثالثة.
وقال الشيخ حمد الحمين: لا أذكر مرة خلال 18 سنة قضيتُها معه أنه ردَّ عليه أحد في أثناء قراءته للقرآن في صلاة الجماعة.
شيوخه:
1- قرأ سماحته القرآن على الشيخ عبد الرحمن بن مفيريج كما تقدم، وكان يصفه بقوله: إنه آية في حفظه لكتاب الله وفي ضبطه للإعراب.
2- وطلب العلم على والده العلامة الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف (1280- 1329هـ) قاضي الرياض، قرأ عليه مختصرات أئمة الدعوة في نجد، حفظاً عليه وشرحاً، كما قرأ عليه في الفرائض.(/2)
3- وقرأ على عمه علامة نجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف (1265- 1339هـ)، ولازمه ملازمةً، وتخرَّج به، فقرأ عليه كتب العقائد، مثل كتاب التوحيد وكشف الشبهات وثلاثة الأصول وبقية كتب أئمة الدعوة، والواسطية والحموية، وغيرها، وحفظ بلوغ المرام وقريباً من نصف منتقى الأخبار للمجد، وقرأهما عليه، وقرأ عليه سوى ذلك من الفنون، وكان عمّه محبًّا له، عارفاً لفضله، ويقدمه في المجلس، ويُذكر أنه أوصى به صهرَه الملك عبد العزيز ليخلفه بعده.
4- العلامة محدِّث نجد الشيخ سعد بن حمد بن عتيق (ت1349هـ)، كرَّر قراءة بلوغ المرام عليه، وقرأ عليه ألفية العراقي، وفي الفقه وغيره، وله منه إجازة مطوَّلة، وكان إذا ذكره قال: شيخنا الشيخ الكبير والعالم الشهير. وحدثني شيخي العلامة عبد الله بن عقيل حفظه الله، قال: "كان شيخنا محمد بن إبراهيم رحمه الله متشبِّعاً بعلوم الشيخ سعد، ويثني عليه، ويحدثنا عنه بحكايات كثيرة، وكان يقدِّره، وكان يحترم آراءه، ويرى أنه الشيخ الوحيد، وأنه صاحب اتِّزان، وصاحب ثبات، وله الأجوبة والفتاوى".
5- العلامة الشيخ محمد بن محمود (1250- 1333هـ) قرأ عليه في الفقه.
6- العلامة الشيخ حمد بن فارس (1263- 1345هـ)، حفظ وقرأ عليه زاد المستقنع، وتخرج به في اللغة، فقرأ عليه الآجُرُّومِيَّة، ومُلحة الإعراب، وقطر الندى، والألفية.
7- الشيخ عبد الله بن راشد بن جُلعود (ت1339هـ) قرأ عليه الفرائضَ بتوسُّع، وكان يقول: إنه آية فيه.
8- الشيخ عبد العزيز النمر (ت1337هـ) أخبرني شيخي العلامة عبد الله بن عقيل أن الشيخ محمد بن إبراهيم أخبره أنه من شيوخه، وأنه قرأ عليه في سطح المسجد، وكان يصفه بالشدَّة والحدَّة في الطبع.
9- الشيخ عبد الله العَنقَري (ت1373هـ) أجازه إجازة رائقة، وعندي صورة من مُسوَّدتها ومُبيَّضتها، وأثنى فيها عليه ثناء عالياً.
10- الشيخ عبد الستار الدهلوي، أجازه في الحديث إجازةً عامة.(/3)
11- الشيخ عبد الحق بن عبد الواحد الهاشمي (ت1392هـ) أجازه إجازةً عامة، وأخبرني ابنُه الشيخ عبد الوكيل أن الشيخَ محمد بن إبراهيم أرسل إلى أبيه يسأله عن تخريج بعض الأحاديث الغرائب.
12- وذكر أحد القريبين من الشيخ أنه ذكر العلامة محمد بن عبد العزيز بن مانع (ت1385هـ) من شيوخه، وسألت تلميذَهما شيخنا ابن عقيل عن ذلك فنفاه، ولعل الشيخَ ذكر أنه في منزلة شيوخه وأنه أكبر منه سنًّا، والله أعلم.
وذُكر من مشايخه أيضاً: الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ، وحسين بن محسن الأنصاري، وكلا ذلك وهم.
التعليم و تربية الطلاب:
بعد أن تضلَّع سماحة الشيخ من العلوم، وشاع نبوغُه واشتُهر فضلُه، لفت عمُّه علامة نجد الشيخ عبدالله بن عبد اللطيف نظرَ الملك إليه، وأثنى على علمه وبُعد نظره وحسن إدراكه، ولما مرض كان يُنيبه في مسجده، فلما توفي الشيخ عبد الله سنة 1339هـ أُسندت مهامه لابن أخيه المترجَم وهو في الثامنة والعشرين من العمر، ويذكر الأستاذ صالح الحيدر أن الملكَ عبد العزيز كلَّف المترجَم بذلك في مقبرة العود بعد دفن عمه، قائلاً له: عمُّك الشيخ عبد الله انتقل إلى رحمة ربه، وأنت إن شاء الله خيرُ خلف لخير سلف في مكان عمك الشيخ عبد الله في الإفتاء والإمامة وتدريس طلبة العلم مثلما كان الشيخ عبد الله.
فعكف المترجَم على التدريس والإفتاء والإمامة والخطابة، في الوقت الذي ما يزال بعضُ كبار شيوخه على قيد الحياة، فالتفَّ حوله الطلبة، وكانت دروسه في مختلِف الفنون، في البيت وفي جامع دُخنة؛ المسمى أخيراً مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم - لأنه إمامه - كما كان خطيباً في الجامع الكبير (جامع تركي بن عبد الله) في الرياض.
وفي سنة 1345هـ عُيِّن قاضياً لمدة ستة أشهر في ناحية الغطغط لحلِّ مسألة "الإخوان".(/4)
ولما توفي شيخه العلامة سعد بن عتيق سنة 1349هـ تفرَّد المترجَم بالرئاسة العلمية في نجد، وصار المرجعَ الأولَ في العلم والإفتاء والقضاء، وتخرَّج به عدد من كبار العلماء.
وكان في تدريسه يقسم الطلبة إلى مستويات، ويهتم كثيراً بحفظهم للمتون، ولا يرضى بغياب الطلاب، ويحضِّر لدروسه، وحول ذلك يخبرنا شيخنا عبد الله بن عقيل حفظه الله عن درس الفجر، قائلاً: "إذا انتهت الصلاة بادر الطلبةُ إلى مجالسهم في الحلقة شرقي المسجد - مسجد الشيخ بدُخْنَة، فيأتي الشيخ، ويجلس على الأرض دون فراش، ويتكئ على مركأ من الحجر على يساره، وربما جمع أطراف مشلحه يتكئ عليه، ويبقى في مجلسه هذا حتى يلقيَ ستة دروس أو سبعة: الألفية في النحو، والقَطْر، والآجُرُّوميَّة، وبلوغ المرام، وزاد المستقنع، وتارة الرحبية، وتارة الورقات، وربما قام قبل استكمالها، وذلك كل يوم عدا يوم الجمعة، وربما في بعض الأيام ترك الجلسة، وهذا إذا لم يحضِّر للدروس قبل ذلك؛ لأنه بعد صلاة العشاء يستعرض دروس الغد ويراجع عليها بعض الشروح.." إلخ.
وكانت دروسه أولَ أمره خمسة أوقات، كما قال سماحة الشيخ ابن باز - الذي درس عليه بين سنتي 1347 و1357هـ - وهي: بعد الفجر، والضحى، وبعد الظهر، وبعد العصر، وبعد المغرب.
ثم مع ازدياد المسؤوليات تقلَّصت الدروس إلى ثلاثة؛ في الفجر والضحى والعصر، وأحياناً يجلس الظهر، وبقي كذلك إلى سنة 1380هـ، حيث ترك الدروس عدا درس الفقه وبلوغ المرام بعد الفجر، واستمرَّ إلى أن حبسه المرض، فاقتصر على إقراء تفسير ابن جرير الطبري قبل صلاة العشاء، وبهذا امتدَّ تدريس هذا الإمام نصف قرن من الزمان.
من أشهر طلابه:(/5)
وخلال هذه المدة الطويلة من التدريس المنهجي التربوي الفريد تخرَّج به جماعاتٌ من العلماء والقضاة والدعاة، من أشهرهم: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وسماحة الشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ عبد الرحمن بن قاسم، وابنه محمد، والشيخ عبد الله بن دهيش، والشيخ عبد الله بن عقيل، والشيخ عبد الله بن جبرين، والشيخ عبد الله القرعاوي، والشيخ عبد العزيز بن رشيد، والشيخ صالح اللحيدان، وغيرهم.
أعماله ومناشطه وإنجازاته:
عاصر سماحته التطور الحضاري الذي عاشته هذه البلاد، فكان بفضل الله وما هيّأه له مواكباً لهذا التغيير، فلم يكتفِ بالانطلاق من المسجد عبر التدريس والفتوى، بل امتدت آفاقه وجهوده ليؤسِّس مرحلة علمية جديدة، ويرتقي وينظّم الشؤون الدينية.
ففي سنة 1370هـ قام سماحتُه بتأسيس معهد الرياض العلمي، ليكونَ أول معهد شرعي في نجد بمناهجَ قوية تؤسِّس طالب العلم الجيد، ثم تلته معاهد متعددة في المملكة.
وفي سنة 1373هـ أُسِّست كلية الشريعة في الرياض، تلتها كلية اللغة العربية في السنة التالية، وكان سماحته رئيسَ الكليات والمعاهد العلمية، التي تحوَّلت فيما بعد إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وفي سنة 1374هـ أسَّس معهد إمام الدعوة في الرياض، وباشر التدريسَ فيه بنفسه، وكان مستوى التدريس قويّاً؛ كما أخبرنا شيخُنا عبد الله بن جبرين.
وفي شعبان من السنة نفسها أسَّس دار الإفتاء لتنظيم أمورها.
وفي سنة 1376هـ أسَّس رئاسةَ القضاة، وتولى أمورها في نجد والمنطقتين الشرقية والشمالية، في حين تولى سماحة الشيخ عبد الله بن حسن رئاسةَ القضاة في الحجاز، ولما توفي الأخير سنة 1378هـ توحَّدت رئاسةُ القضاة برئاسة المترجَم.
وفي سنة 1379هـ أُنشئ المجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي، فكان رئيساً له.
وفي السنة نفسها افتُتحت مدارس البنات، وتولى الإشرافَ عليها.(/6)
وفي سنة 1381هـ أُسِّست الجامعةُ الإسلامية في المدينة المنورة، فكان رئيساً لها.
وكذا تولى سماحتُه رئاسة المعهد العالي للقضاء منذ تأسيسه سنة 1386هـ، ورئاسةَ مجلس القضاء الأعلى، ورئاسةَ دور الأيتام، ورئاسةَ المكتبة السعودية..
إضافةً إلى إمامة جامعه في دُخنة، وخطابة الجامع الكبير والعيدين، ورئاسة المعهد الإسلامي في نيجيريا، ورئاسة مؤسسة الدعوة الصحفية، مع إشرافه على ترشيح الأئمة والمؤذنين، وتعيين الوعَّاظ والمرشدين.
وكان قد بدأ في تأسيس مجلس هيئة كبار العلماء سنة 1389هـ غير أنه توفي قبل مباشرة أعماله.
وهذه المهام والأعمال - كما لا يخفى - ينوء ببعضها العصبة أولو القوَّة من الرجال، ولكن وفَّقه الله للجمع بين كل ذلك بحزم وعزم كبيرين، فكان بحقٍّ أمّة وحدَه، وهيأ الله له من يساعده من الأكفياء المخلصين، ولا سيما أخيه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، رحم الله الجميع.
وقال تلميذه الشيخ عبد الله بن منيع لما سرد جدول أعماله اليومي: إنه كان يقضي ما لا يقل عن سبعَ عشرةَ ساعة في خدمة المسلمين، وبصفة دائمة ومستمرة، لا تقطعها إجازة، ولا يحول دون القيام بها أيُّ تعلل..
من صفاته:
كان رحمه الله تقيّاً عابداً.. ذكر تلميذُه الشيخ ابن قاسم رحمه الله أنه كان يقوم قريباً من ساعة ونصف آخرَ الليل، ويواظب عليها سفراً وحضراً. كما كان من أهل الخشية والذكر والاستغفار والبكاء، ولا يرضى بغيبة أحد في مجالسه.
وكان مع إقبال الدنيا عليه ورعاً زاهداً، وكان سماحته برغم أعماله الرئاسية الكثيرة لا يتقاضى عليها رواتب، إلا راتب رئاسة القضاة.
وكان رحمه الله مَهيباً قوياً في أمر الله، ومن طالعَ قراراته وأحكامَه في مجموع فتاويه رأى عجباً، كما أن له مواقفَ جريئة مشهورة في نُصرة طلبة العلم والدعاة وأهل الحسبة والوقوف بجانبهم.(/7)
ومما أخبرني به شيخي عبد الله بن عقيل من دلائل هيبته وعلوِّ مكانته عند العامَّة والخاصَّة قال: استدعاني الملكُ عبد العزيز لتعييني في قضاء السيح، فقلتُ له: أنا أرجوكم أن تبقوني عند الشيخ محمد بن إبراهيم أطلب عليه العلم، وإذا بلغتُ مبلغ القضاء فالسمع والطاعة، فالتفت إليَّ بعناية، وقال: محمد بن إبراهيم هذا أخٌ لي وولدٌ لي، شاوِرْهُ ولا تخرج عن رأيه، واستعن بالله.
وموقفه لما أعلن مبايعة الملك فيصل موقفٌ يدل على قوته وشجاعته.
وكان حازماً في أحكامه، حريصاً على توحيد الفتوى على الراجح، وجمع كلمة الناس وعدم تفرقهم.
ومع هيبته وحزمه كان على خلق عالٍ، أخبرنا شيخنا عبد الله بن عقيل، قال: "كان الشيخ محمد بن إبراهيم على جانب كبير من الأخلاق الفاضلة وإنصاف تلاميذه وجلسائه، فلم يُعرف عنه أن تكلَّم بكلمة نابية، ولا أنه أساء الأدبَ مع أحد، ولا مدَّ رجله أمام الناس".
وكان محبّاً للعلماء متواضعاً لهم، ولا سيما كبارهم، أخبرني شيخنا عبد الله بن عقيل أن الشيخ عبد العزيز ابن المترجَم أخبره، قال: لم يقُم والدي من مجلسه لأحد إلا لشيخين؛ ابن سعدي والعنقري. وقال الشيخ حمد الحمين: إنه رأى الشيخ يقوم من مجلسه للعلامة محمد بن مانع. كما كان يدعو العلماء ويكرمهم.
وكان فيه ذكاء وفِراسة وبديهة عجيبة، وله قصصٌ كثيرة في هذا، وله صفاتٌ أخرى كثيرة، ولكننا نكتفي بما سبق اختصاراً.
آثاره العلميَّة:
نظراً لانشغاله التام بالأعمال العظيمة فقد قل تصدِّيه للتأليف، ولكن قام أحد تلامذته الأبرار وهو الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم بجمع فتاويه ورسائله في 13 مجلداً، كما قيَّد تقريراته على عدد من المتون وأخرجها حواشيَ لها، وظهر فيه تحقيقه وتحريره الدقيق، ونفع الله بذلك نفعاً عظيماً.(/8)
وأخبرنا شيخنا عبد الله بن جبرين أنه كان قد كتب عن سماحة الشيخ شروحاً لعدد من الكتب، ولكنها عدمت في سيل دخل بيته قديماً، كما ذكر لنا أن أحدهم يمتلك تسجيلاً خاصّاً لشرح سماحته على كتاب التوحيد، ويصف الشرح بالنفاسة، ولكن الرجل لم يخرجه للناس، والله المستعان.
وللمترجَم كتاب مهم لم يُطبع بحسب علمي، اسمه: "تحفة الحفَّاظ ومرجع القضاة والمفتين والحفَّاظ"، ذكر حفيدُه معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز أنه في مجلد متوسط، ويحتوي على ألف حديث، وفرغ منه في مكة أواخر سنة 1373هـ، كما ذكر له نَظماً لمقدمة الإنصاف للمرداوي.
كما أن له قصائدَ وأشعاراً رائقة.
من أقوال أهل العلم فيه:
إن حصرَ ثناء العلماء عليه أمر يطول، وأقتطف بعضاً منها:
• أخبرني شيخنا عبد الله بن عقيل غير مرَّة أن شيخه العلامة عبد الرحمن بن سعديقال في بعض المناسبات: إن الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ عبدالله القَرعاوي: لا يوجد لهم مثيل في تصدِّيهم لنفع الناس ودعوتهم وإرشادهم.
• وقال الشيخ إبراهيم بن محمد السيف في تاريخه: حدثني الشيخ عبد الله الصانع الذي كان سكرتيراً للشيخ العلامة عبد الله العنقري، ومن تلاميذه أيضاً، قال: إنه سمع الشيخ عبد الله عدة مرات يدعو للشيخ محمد بعد صلاته آخر الليل، ويقول: إنني أرجو الله أن يبقيه لنصرة هذا الدين وحماية هذه الدعوة السلفية التي قام بها مجدد القرن الثاني عشر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.(/9)
• وقال أيضاً: كنت جالساً عند شيخنا قبل وفاته بأحدَ عشرَ يوماً، وعلى وجه التحديد في الساعة الرابعة من يوم 23 من المحرم 1373هـ، وقد اشتد به المرض رحمه الله، فتأوَّه وقال: إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد كادت تنمحي، ولكن نسأل الله أن يُبقي لها هذا الكهفَ الظليل، وهو الشيخ محمد بن إبراهيم لحمايتها والذود عن حياضها، ويجب على المسلمين عامةً وعلمائهم خاصَّة أن يدعوا له بالتثبيت والقوة.
• وقال العلامة العَنقري في إجازته للمترجَم: أخونا العلامة الأصيل، وكهف المجد الأثيل، حائز قصب السبق في المضمار، وأفق مجده قد أضاء بطالع سعده واستنار، الشيخ المحقق، والحبر المدقق، ذو الرأي الصائب، والفهم الثاقب: محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف.
• وقال العلامة محمد البشير الإبراهيمي مخاطباً إياه ضمن أرجوزة بعنوان "إلى علماء نجد" منها:
يا شيبةَ الحمدِ رئيسَ الرُّؤَسا
وواحِدَ العَصرِ الهُمامَ الكيِّسا
ومُفتيَ الدِّين الذي إن نَبَسا
حَسِبتَ في بُردَته شيخَ نَسا
• وقال شيخ المترجَم في الإجازة العلامة عبد الحق بن عبد الواحد الهاشمي: "..وأكرمني هؤلاء الأفاضلُ الأماجد الكرام نفع الله المسلمين بهم، وهم المفتي رئيس القضاة محمد بن إبراهيم، ورئيس الهيئات الآمرة بالحجاز الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والأخ الكريم الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز بن باز، فكلُّ هؤلاء من إخواني السلفيين قرابتي في الدين، وفئتي في السنة المطهَّرة، رزقهم الله تعالى من الحسنات في الدنيا والآخرة، آمين". كتبه في ربيع الآخر 1382هـ ضمن ترجمته الذاتية.(/10)
• وأما تلميذه الأجلّ سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فكثيراً ما كان يبكي إذا ذَكَره، وقال في بعض اللقاءات المسجَّلة المشهورة وهو يبكي: كان من أعلم الناس في زمانه، ومن أحسنهم تعليماً وتفقيهاً وعناية بالطالب وإلقاء الأسئلة وحرصاً على استنباط ما عند الطالب، وبيان الجواب، والتنبيه على الخطأ، وكان مَهيباً رحمه الله، قوياً في التعليم، وكان حريصاً على حفظ الطالب وتأديبه بالكلام الذي يناسب إذا حاد عن الطريق السوي، وجزاه الله خير الجزاء، ورحمه رحمة واسعة، له فضل كبير علينا -رحمة الله عليه- وعناية عظيمة بالطالب بتفقيهه وتوجيهه في جميع الأوقات، رحمه الله، وأصلح الله ذريته وإخوانه، واللهِ لا أعلم رأت عيناي قبل ذهاب البصر، ولا وقع في قلبي من هو أحسن منه تعليماً وأكثر فقهاً رحمة الله عليه.
• وقال أيضاً في كتابه تحفة الأعيان: وكان رحمه الله باذلاً وسعه - من حين مات عمُّه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف عام (1339هـ) - في التعليم والتوجيه والفتوى، وكان لديه حلقات كبيرة في مسجده وبيته في أنواع الفنون، وتخرَّج عليه جمعٌ كثير من العلماء من القُضاة وغيرهم، وكان ذا غيرة عظيمة، وهمَّة عالية رفيعة، وكان كهفاً منيعاً لأهل الحق من دعاة الهدى، وكان ذا حزم وصبر وقوة في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم.
ثم تولَّى رئاسة القضاء، والنظر في مشاكل الدولة والمسلمين، فلم يألُ جهداً في إجراء الأمور على السداد والخير، وبذل الوسع في حل المشاكل وإيصال الحق إلى مستحقه.
وقد أسندت إليه الحكومة الفتوى، فقام بأعبائها مع قيامه برئاسة القضاء، وكان قد قسم وقته بين محل رئاسة القضاء ودار الإفتاء، علاوة على ما ينظر فيه من المشاكل في البيت.(/11)
وكان يعتني بالدليل، ويرجِّح به ما اختلف فيه العلماء من المسائل، وكان ذا حكمة في توجيه الطلبة وتعليمهم، وكان يرفق بهم في محل الرفق، ويقوى عليهم في محل القوة، ويوجههم إلى الآداب الصالحة والأخلاق المرضية، فجزاه الله عن الجميع خيراً، وأكرم مثواه، ورفع منزلته في دار الكرامة، إنه جواد كريم.
• وقال شيخي بالإجازة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تراجم ستة من الفقهاء: هو سليل العلماء الأكابر، ومن بيت العلم المعروف، العلامة الحجة، والفقيه المحقق الحنبلي الضليع، الأصولي المتمكن، المحدّث المفسّر، المطّلع النسّابة البحّاثة، مفيد الطالبين، ومرجع القضاة والمفتين، وشيخ كبار العلماء في الديار السعودية غير منازع.
أيامه الأخيرة، ووفاته:
نسوق في ذلك ما أملاه أكبر تلامذته، وهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، فقال في كتابه تحفة الأعيان: "في ذي الحجة من عام (88) أو أواخر ذي القعدة أصيب شيخنا العلَّامة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، بمرض خفيف في الوجه يسمى اللَّقْوَة، وهو ميل الحنك الأسفل، وعالجه بعض العلاج المعتاد، وحضر الحجَّ هذا العام والمرض لم يزل، ثم رجع إلى الرياض، وفي المحرم (89) أشار عليه بعض الأعيان بالسفر إلى لندن للعلاج وإجراء بعض الفحوص، فسافر إليها وبصحبته ابنه الشيخ عبد العزيز، ومكث هناك قريباً من شهر، ثم رجع إلى الرياض من طريق جُدة في ليلة الثلاثاء (26) صفر وصحته متحسنة، ولم يبقَ من المرض إلا الشيء اليسير، وأجرى عملية جراحية هناك في المثانة، وقد نفع الله بها، وشُفي من المرض المشار إليه، أما أثر اللَّقْوة فلم يزل له بقية، ولكنها خفيفة، وقد واصل سيره إلى الرياض في الليلة المذكورة، ولم يُقم بجدة إلا مدة يسيرة أقل من ساعتين، أسبغ الله عليه لباس العافية. حرر 27/2 سنة 89".(/12)
ثم قال: "في شعبان من عام (89) ألَمَّ به رحمه الله مرض في المعدة، ولم يزل به حتى أُدخل المستشفى المركزي بالرياض للفحص والعلاج في أول رمضان، ثم في (4) منه سافر إلى لندن للعلاج، واشتدَّ به المرض هناك، ورأى الأطباء أنه لا مصلحه في إجراء العملية، فرجع إلى الرياض في ليلة الجمعة الموافق (19/9/89) وهو ثقيل جداً وضعيف الشعور، ولم يزل في غيبوبة إلى أن وافته المنية في ضحوة يوم الأربعاء الموافق (24/9/89)، رحمه الله رحمة واسعة.
وقد عُدْتُه يوم السبت الموافق (20) رمضان، وسلَّمتُ عليه، فردَّ عليَّ ردًّا ضعيفاً، ثم لم يزل في غيبوبة، وأخبرنا أخوه فضيلة الشيخ عبد الملك وابناه الفاضلان الشيخ عبد العزيز والشيخ إبراهيم أنه لم يزل في غيبوبة من حين وصل من لندن إلى أن توفِّي، إلا أنه قد يتكلَّم بكلمات قليلة مضمونها طلب المغفرة والعفو والمسامحة ونحو ذلك.
وكان لمرضه ثم موته رحمه الله الأثر العظيم في نفوس المسلمين في المملكة وغيرها، وقد حزن المسلمون عليه حزناً عظيماً، وصُلِّيَ عليه رحمه الله بعد صلاة الظهر من اليوم المذكور في الجامع الكبير، وكنت أنا الذي أممتهم في الصلاة عليه، وحضر الصلاة عليه جلالة الملك فيصل، والأعيان من الأمراء و العلماء وغيرهم، وامتلأ المسجد الجامع بالناس على سَعَته، وصَلَّى الناس عليه من خارج المسجد، وتبع جنازته إلى المقبرة الجمُّ الغفير.
نسأل الله أن يتغمَّده برحمته ورضوانه، ويُسكِنه فسيح جنانه، ويصلح عقبه، ويجبر مصيبة المسلمين فيه، ويحسن لهم الخلف".
قلت: وكُتبت عنه كتاباتٌ كثيرة في الصحف والمجلات، ورُثي بقصائد عدة، أفردها بعضهم بالجمع، ولعل من أجملها قصيدة شيخنا المعمَّر عبد الرحمن بن أبي بكر الملا الأحسائي في خمسة وثمانين بيتاً، وأقتطف أبياتاً منها أرويها عنه إجازة، فقال رحمه الله تعالى في مطلعها:
إلى الله ما نَشكُوهُ من نَكبةِ الدَّهرِ ومن فَجعةٍ هزَّت قُلوبَ ذَوي القَدرِ(/13)
وقال:
رُزئنا بفَقْد الشيخِ أعني محمَّداً وذا نَجلُ إبراهيمَ ذو المجدِ والفَخرِ
رُزئنا بفَقْد العالمِ العاملِ الَّذي به يَقتدي مَن وفَّق اللهُ للخَيرِ
رُزئنا بفَقْد الحَبرِ ذي الحِلمِ والتُّقى وبحرِ عُلومِ الدِّين حدِّث عن البَحرِ
نَعَم إنهُ بَحرٌ منَ العلمِ زاخِر وما كان يُمليهِ من اللفظِ كالدُّرِّ
إمامٌ هُمامٌ قُدوةٌ لمنِ اهتَدى حَليفٌ لتَقوى اللهِ في السرِّ والجهرِ
فضائلُه يَروي لها كلُّ صادِرٍ ومَجلِسُه في كلِّ حفلٍ منَ الصَّدرِ
إلى أن قال:
حَسيبٌ نَسيبٌ عاليَ الأصلِ والذُّرى ومَنْ جَدُّه ذاكَ المجدِّدُ والمُقْري
إلى آخر الأبيات.
وخلَّف رحمه الله أبناء من أهل العلم والفضل، وكلهم تبوَّأ مراكزَ عالية، وفي ذريته خيرٌ وبركة، نسأل الله لهم التوفيقَ في دينهم ودنياهم، وأن ينهَجوا نهج أجدادهم، وأن ينفع الله بهم.
رحم الله سماحة الشيخ رحمةً واسعة، وأخلف على المسلمين من أمثاله.
من مصادر ترجمته:
ممن أفرد ترجمته: الشيخ إسماعيل بن سعد بن عتيق، والشيخ محمد بن عبد الرحمن آل إسماعيل، ونبذة من إملاء الشيخ حمد بن حمين بن حمد الفهد على ولده ناصر، كما جمع الشيخ إسماعيل بن عتيق ديواناً في مراثي الشيخ، وجمع الأستاذ محمد الرشيد عدة مقالات في ترجمة الشيخ ورثائه، وكلها مطبوعة.
وللباحث الشيخ عبد الحميد بن عبدالعزيز الغليقة رسالةٌ جامعية في منهج الشيخ محمد بن إبراهيم في الدعوة إلى الله. ولحفيده: معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ محاضرة في سيرة جَدِّه، مسجلة في شريطين، وكذلك لشيخنا عبد الله بن جبرين محاضرتان عنه، كما أصدرت مكتبة الإبانة السمعية بجدة شريطاً في سيرته؛ تضمّن خطبتين بصوته رحمه الله.
وأصدرت قناة المجد الفضائية سنة 1428هـ برنامجاً مرئيًّا عن حياته ضمن سلسلة: "حياة إنسان".(/14)
وانظر: الأعلام (5/306)، ومعجم المؤلفين (3/32)، ومشاهير علماء نجد (169)، وتراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر (255-292)، والمجموع في ترجمة حماد الأنصاري (2/637 و815)، وتحفة الأعيان لابن باز (خ)، وجوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز (450)، وعلماء ومفكرون عرفتهم (2/247)، وذكريات علي الطنطاوي (8/183)، ومذكرات سائح في الشرق العربي (44)، ومقدمة فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/9)، والدرر السنية (16/475 الطبعة الثانية)، وعلماء نجد (1/242)، والبيان الواضح (ص10)، وروضة الناظرين (2/316)، والموسوعة في تاريخ نجد (159)، ومن أعلام الحركة الإسلامية (283)، والمبتدأ والخبر (5/74)، وأعلام وعلماء عايشتهم (19)، وقادة الفكر الإسلامي عبر القرون (403)، ومعجم مؤلفات الحنابلة (7/94)، والمنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة (540)، وتكملة النعت الأكمل (440)، ومن مشاهير علمائنا (ص7-55)، وتاريخ القضاء والقضاة (1/109)، وإتحاف النبلاء بسير العلماء (1/77)، ومعجم المعاجم والمشيخات (2/549)، وفرجة النظر (1/26)، وفتح الجليل (331)، وزهر البساتين من مواقف العلماء والربانيين (3/133)، وعلماء وأعلام وأعيان الزلفي (19)، ومقال للشيخ عبدالمحسن العباد في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (العدد 6، شوال 1389 ص7-10)، ورواد في تاريخنا الحديث: عدد تذكاري من مجلة الدارة (19)، والشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير: جوانب من سيرته الشخصية (ص67)، والدعوة الإصلاحية (284)، ولقاء في مجلة الدعوة مع فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع (27 المحرم 1425 عدد 1934)، والمقالات المنشورة (74)، ومن أعلام السلف (1/134)، والموسوعة الحركية (1/227)، ومعجم الكتاب والمؤلفين في السعودية (88)، والآثار المخطوطة لعلماء نجد (65)، وأعظم عظماء المسلمين في كل قرن (517)، وشذرات البلاتين من سير العلماء المعاصرين (7)، تراجم لتسعة من(/15)
الأعلام (369)، ومجلة العدل (1/207)، وموسوعة أسبار (3/952).(/16)
العنوان: العلكة اللذيذة – قصة للطفل
رقم المقالة: 1887
صاحب المقالة: ثناء صلال الحمود
-----------------------------------------
عادت غالية من المدرسة فاستقبلها أخواها تميمٌ ومحمد بحفاوة بالغة..
قالت غالية: لقد أحضرت لكما مفاجأة.
قال تميم: وما هي المفاجأة؟
أجابت غالية: علكة بطعم الموز اللذيذ.
سُرّ محمد وتميم، وشكرا غالية، ثمّ فتحا العلكة بسرعة لافتة للنظر، وأخذا يمضغانها بشهية.
بعد دقائق معدودة لاحظت الأم خلوّ فم محمد من العِلْك
فنادته قائلة: أين علكتُك يا محمد؟
قال محمد: لقد ذهب طعمُها الحلو يا أمي و لذلك ابتلعتُها
الأم: ياللمصيبة!! لقد ابتلعتَ العلكة!
محمد: نعم ولكن لماذا مصيبة يا أمي؟
الأم : إن الإكثار من ابتلاع العلك يؤذي المعدة، ويسبّب المغص.
على العموم سآخذك إلى الطبيب بعد الغداء لأطمئنَّ على صحّتك، وربما تحتاج إلى حُقنة...
انفجرَ محمد بالبكاء وقال: أرجوك يا أمي لا تأخذيني إلى الطبيب، لن ابتلع العلك بعد اليوم، وأنا سليم والحمد لله ومعدتي لا تؤلمني. أعدك أن هذه ستكون آخر مرة.
تبسمت الأم وقالت : لقد قبلت اعتذاركَ يا محمد، ولكن أين أخوك تميم؟
أشار محمد بإصبعه إلى غرفة النوم.
توجّهت الأم نحو غرفة النوم،
وكانت المفاجأة الكبيرة
لقد كان تميم يحاول نزعَ خيوط العلكة المتشابكة التي علقت بملابسه الزاهية،
بدت العلكة كخيوط العنكبوت ما إن يتخلّص من خيط حتى يفاجأ بخيط آخر..
وليت الأمر توقّف عند حدود الملابس.. لكنّه امتدّ ليصل إلى الوجه والشّعر...
لقد كان تميم في حالة لا يُحسد عليها أبداً.
راحت الأمُّ تساعد ولدها في التخلّص من العلكة وهي تقول: هداك الله يا بنيّ، لقد اشترى والدك لك هذه الملابس قبل أيام.
وعندما لم تتمكّن الأم من تخليص العلكة من شعره الكثيف اضطرّت لاستعمال المقصّ،
بينما كان تميم لا يفتأ يقول: أنا آسف.. آخر مرّة.. والله لن أعيدها...(/1)
التفتت الأم نحو غالية وقالت لها: وأنت يا غالية كان عليك أن تُحضري لإخوتك الحليب أو العصير بدلاً من العلك..
تأثّرت غالية كثيراً بسبب المشكلة التي سبّبتها علكتُها الشهيّة
وقالت: سوف لن أشتري العلك بعد اليوم.
تعليق (حضارة الكلمة):
الأخت الفاضلة / ثناء الحمود..
نشكر لك هذه القصة القيّمة المفيدة، وهذا التواصل مع قسم (حضارة الكلمة). ويسرنا استقبال الجديد من مشاركاتك الأدبية.
وفقكم الله.(/2)
العنوان: العلم والتعليم
رقم المقالة: 1396
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
ذم الجهل وأهله
الحمد لله {الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:4-5]، نحمده على نعمه، ونشكره على آلائه ومننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الأنعام:103].وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نقل الله تعالى به هذه الأمة الخاتمة من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن دركات الشر إلى درجات الخير {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:48].
أيها الناس: من حكمة الله تعالى في خلقه أنه سبحانه لما خلقهم علمهم ما ينفعهم وما يضرهم، فكل مخلوق منهم يجلب لنفسه النفع، ويدفع عنها الضر؛ رحمة من الله تعالى بهم، وهداية منه عز وجل لهم، ولما قال فرعون في مناظرته لموسى عليه السلام {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].(/1)
وفضل سبحانه وتعالى البشر على سائر الحيوان بما وهبهم من العقول التي فتحت لهم مغاليق العلوم، وسُخرت لهم بها كنوز الأرض ودوابها {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70].
والبشر ما كان لهم أن يعلموا شيئا لولا أن الله تعالى ركب فيهم الأسماع والأبصار والأفئدة التي هي وسائل تحصيل العلوم والمعارف {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
وأعظم علم ينفع الإنسان في عاجله وآجله هو العلم بالله تعالى وبما يرضيه، وذلك بتعلم كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والفقه فيهما؛ ليعبد ربه عز وجل على علم وبصيرة، ثم العلم بما يصلح للعبد دنياه؛ فإن الدنيا مطية الآخرة.
وأعظم الجهل وأشده وأشنعه الجهل بالله تعالى وبدينه الذي ارتضاه لعباده، ومن عطل عقله عن تحصيل ما ينفعه من العلوم الشرعية التي بها يقيم دينه، ويعبد ربه فهو من الجاهلين، ولو كان مبرزا في علوم الدنيا، والأمة التي ليس لها من علوم الشريعة أي حظ هي أمة جاهلة هالكة ولو اكتشفت الذرة، وشيدت العمران والحضارة، وصعدت إلى الفضاء حتى بلغت القمر؛ إذ إن أضر شيء على العباد أن يجهلوا ما ينفعهم وما يضرهم، وما يقربهم من الله تعالى وهو الإيمان به وطاعته، واتباع رسله؛ ولذلك امتدح الله تعالى العلم والعلماء، وذم الجهل وأهله، وأخبر أن أهل العلم وأهل الجهل لا يستويان أبدا {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزُّمر:9].(/2)
وكل حمد في القرآن والسنة للعلم والعلماء فإنه ينصرف إلى العلم الشرعي الذي يتوصل به إلى رضوان الله تعالى، وكل ذم في القرآن والسنة للجهل وأهله فهو منصرف إلى الجهل بدين الله تعالى.
وقد أخبر سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم لا يؤمنون بالآيات البينات بسبب جهلهم {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111].
والجهل سبب للإعراض عن الحق ومحاربته، ومنابذة أهله بالعداء، وهو أكثر داء في أهل الباطل {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:24]
والجهل بالله تعالى وبدينه يؤدي إلى الشرك به؛ ولذا وصف به نوح وهود ولوط عليهم السلام أقوامهم لما رفضوا دعواتهم، وأصروا على شركهم ومعصيتهم لله تعالى، فقال نوح عليه السلام {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:29]
وقال هود عليه السلام لقومه{إِنَّمَا العِلْمُ عِنْدَ الله وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23]
وقال لوط عليه السلام لقومه {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55](/3)
ولما طلبت بنو إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم مثل ما للمشركين من الأصنام أنكر موسى عليهم، وبين أن الحامل لهم على طلبهم هذا هو جهلهم بالله تعالى {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138].
ومع أن أنبياء الله تعالى قد عصموا من الجهل؛ لكمال عقولهم بالوحي الرباني، ومعرفتهم بالله تعالى؛ فإن الله تعالى وعظهم أن يكونوا في عداد الجاهلين، وهم عليهم السلام قد تعوذوا بالله تعالى من الجهل، وما ذاك إلا هداية للبشر أن يقتفوا أثر الأنبياء عليهم السلام.
سأل نوح عليه السلام ربه عز وجل أن ينجي ابنه المشرك من الطوفان فكان وحي الله تعالى له {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ} [هود:46] فقبل نوح عليه السلام موعظة الله تعالى له، واستعاذ به سبحانه من سلوك سبل أهل الجهل والضلال {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخَاسِرِينَ} [هود:47] وقال موسى عليه السلام {أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ} [البقرة:67].(/4)
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام لما أعرض أهل الجهل والضلال عن دعوته، وطالبوه بالآيات ثم لم يؤمنوا بها، وشق ذلك عليه؛ وعظه ربه عز وجل، وبين له أن الهداية منه سبحانه وليست لأحد من خلقه، وحذره من الجهل، فقال سبحانه {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] وأمره عز وجل بتبليغ الدعوة والإعراض عن أهل الضلال والجهل {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]
وأهل العلم والهدى لا يطاولون أهل الجهل في جهالاتهم، ولا يشاركونهم في مرائهم ومجادلاتهم، ولا يُجترون إلى معاركهم وخصوماتهم، وهي معارك جانبية تَشْغَلُ عن المعارك الكبرى للأمة، وغالب أهدافها الانتصار للنفس فحسب؛ وأهل العلم لا يجارون أهل السفه والجهل في ذلك؛ لأن همتهم أعلى من مجرد انتصارهم لأنفسهم، وإثبات ذواهم؛ ولأنهم يعلمون أن أهل الجهل بجهالاتهم ومجادلاتهم إنما يستنزفون جهدهم، ويضيعون أوقاتهم فيما لا طائل منه، فيعرضون عنهم لاشتغالهم بما هو أهم وأعلى، وقد امتدح الله تعالى هذا الأسلوب منهم في التعامل مع الجاهلين {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} [القصص:55] وجعل من صفات المؤمنين المفلحين تجنب مجادلة أهل الجهل {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] وفي آية أخرى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63].(/5)
ومن حال جهله بينه وبين بلوغ الحق وهو دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده فقد عطل ما وهبه الله تعالى من وسائل تحصيل العلم والمعرفة؛ ولذا وصف الله تعالى من هذه حالهم بالعمى والصمم ونفى عنهم صفة العقل؛ لأنهم لم يعقلوا الحق ولم يبصروه ولم يسمعوه، فهم شر الخليقة عند الله تعالى، والآيات القرآنية الواردة في ذلك لا يتسع مقام كهذا لعرضها كلها، ففي سورة البقرة {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] وفي المائدة {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة:103] وفي الأنعام {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] وفي الأنفال {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ الله الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22] وفي يونس {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس:100] وفي الحج {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
ولأنهم عطلوا ما رزقهم الله تعالى من وسائل تحصيل العلوم فكفروا به سبحانه وقد كان أولى بهم أن يعرفوا ربهم فلا يجحدوه، ويوحدوه فلا يكفروه؛ فإنه عز وجل قد حكم عليهم بأنهم شر خلقه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ} [البيِّنة:6].(/6)
وقَدْرُهم في دين الله تعالى أقل من قدر الأنعام لتي لا تعقل {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف:179] وفي آية أخرى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]
فحري بكل مؤمن أن يدرك قدر نعمة العلم بالله تعالى، والإيمان به، وأن يشكر الله تعالى على ذلك ويسأله الثبات، فكم من البشر قد أعرضوا عن الحق جهلا أو استكبارا!! {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: كثير من الناس في هذا العصر قد فتنوا بحضارة الغرب، وما قدمته للبشرية من إنجازات عظيمة في أنواع العلوم والمعارف الدنيوية حتى سموها حضارة النور والعلم والمعرفة، ووسموا دولها بدول العالم الأول، ووصموا غيرها بالدول النامية ودول العالم الثالث، والدول الجاهلة والمتخلفة، واستقرت هذه التسميات في عقول الناس، وسلموا بها للغربيين.(/7)
ولئن صح ذلك في علوم الدنيا فلا يصح في علوم الدين التي نفعها أعظم من نفع علوم الدنيا وأبقى، وهي التي يجب أن تقدم عليها في التصنيف والتفضيل، فما قيمة علوم الدنيا مهما بلغت مع الجهل بالله تعالى وبدينه الحنيف، وبالدار الآخرة، والله تعالى يقول في شأن الدنيا والآخرة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص:60] وفي آية أخرى {وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].
ولا يحل لمسلم أن يُسلم للحضارة الغربية بهذه الأوصاف المطلقة من النور والعلم والمعرفة ونحو ذلك، بل لا بد أن تقيد هذه الأوصاف فيهم بعلوم الدنيا؛ لأن حضارة الغرب وإن أبدعت في علوم الدنيا فإنها جهلت علوم الدين، وهي من شر الأمم انحطاطا في هذا الجانب، ومن أشدها كفرا بالله تعالى، وما زادتهم علومهم الدنيوية إلا استكبارا عن قبول الحق، واستنكافا عن العبودية لله تعالى، واتباع رسله، وتصديق كتبه، ويصدق فيهم قول الله تعالى {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الرُّوم:7].
والعلم بالوحي الرباني المتضمن للعلم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر هو العلم الحقيقي، وهو الروح للإنسان كما قال الله تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشُّورى:52].(/8)
ومن جهل به فهو ميت وإن كان في الأحياء {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].
وكلما بعد الناس عن زمن الوحي قل فيهم العلم، وزاد فيهم الجهل كما دلت على ذلك الأحاديث:
فعن ابن مسعود وَأَبِي مُوسَى رضي الله عنهما قَالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ بين يَدَيْ السَّاعَةِ لأيَّامًا يَنْزِلُ فيها الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فيها الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فيها الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ)رواه البخاري.
وانتشار الجهل بدين الله تعالى من أشراط الساعة المؤذنة بقرب قيامها؛ كما في حديث أَنَسِ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ من أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا)متفق عليه. وفي لفظ للبخاري (إِنَّ من أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ وَيَكْثُرَ الزِّنَا وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ).
أيها الإخوة: وفي زمننا هذا كثر إلحاح كثير من الصحفيين ومن يسمون أنفسهم بالمفكرين على التهوين من شأن العلوم الدينية، ويطالبون بتقليصها في مناهج التعليم، ودمج بعضها في بعض، مع مطالبتهم بتوسيع العلوم الدنيوية على حسابها؛ زاعمين أن ذلك سبيل التقدم والازدهار.
يقولون ذلك وهم يرون كثيرا من الدول لعربية والإسلامية التي أقصت التعليم الديني، وقضت على مدارسه وجامعاته ومنهاجه منذ عقود ترفل في الفقر والتخلف والانحطاط والتبعية، وما نفعها شيئا القضاء على مؤسسات التعليم الديني ومناهجه، بل أضر بشعوبها ضررا بالغا؛ فلا أصلحوا للناس دنياهم، ولا أبقوا لهم دينهم.(/9)
ولذا فإنه يجب على الغيورين أن يقفوا أمام محاولات المنافقين والتغريبيين العبثية التخريبية التي تستهدف عقول أولادنا، ومدارسنا وجامعاتنا، ومناهج تعليمنا، وتحاول طمس أنوار العلوم الشرعية منها، ومسخها لتكون كالعقول الغربية في تمردها على الله تعالى وعلى أنبيائه وشرائعه.
إننا ما رأينا هؤلاء المنحرفين عن شريعة الله تعالى يجيدون شيئا سوى الثرثرة في فضائياتهم وصحفهم، فلم يصنعوا للأمة مجدا، ولم يعيدوا لها حقا، ولم يخترعوا شيئا، ولم يسهموا في رقي الأمة وتقدمها، بل هم سبب رئيس في تخلفها وتقهقرها بدعواتهم المشبوهة لنبذ الدين، ومطالباتهم المكرورة بالتبعية للغرب، والانصهار في مناهجه المحرفة لتفقد الأمة ما ميزها الله تعالى به من هذا الدين العظيم {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
وصلوا وسلموا على نبيكم...(/10)
العنوان: العلم والتعليم
رقم المقالة: 1979
صاحب المقالة: الشيخ صالح الونيان
-----------------------------------------
العلم والتّعليم
ملخَّص الخطبة:
1- الأمر بالعِلْم مقدَّم على الأمر بالعمل.
2- فضل العِلْم والإخلاص في طَلَبِه، وصفات طالب العِلْم.
3- أحوال النَّاس تجاه العِلْم.
4- مسؤولية الجميع في رعاية أبناء أمَّتنا (الطلاب).
5- دور المعلِّم في البناء.
• • • • •
الخطبة الأولى
أما بعد أيُّها المسلمون:
اتَّقوا الله تعالى، وتعلَّموا أحكام دينكم، وتفقَّهوا فيه؛ لأنَّ هذا طريق الخير؛ فمن يُرِدِ الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين.
واعلموا أنَّ الله - تعالى - رفع شأن العلماء العاملين:
فقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [الزمر: 9].
عباد الله:
لقد أمر الله - تعالى - بتعلُّم العِلْم قبل القَوْل والعمل؛ قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [المجادلة: 11].
وبوَّب البخاريُّ - رحمه الله - في "صحيحه": "باب: العلم قبل القَوْل والعمل".
ولقد بيَّن النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - فضل العلماء العاملين؛ حيث قال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((وإنَّ العالِم لَيستغفر له مَنْ في السَّماوات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العِلْم؛ فمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بحظٍّ وافرٍ)).(/1)
وقال بعض العلماء: "تعلَّم العِلْم؛ فإنه يقوِّمكَ ويسدِّدك صغيرًا، ويقدِّمكَ ويسوِّدكَ كبيرًا، ويصلح زيغكَ وفسادكَ، ويرغم عدوَّكَ وحاسِدكَ، ويقوِّم عِوَجَكَ ومَيْلَكَ، ويحقِّقَ هِمَّتَكَ وأَمَلَكَ.
ليس يجهل فضل العِلْم إلا أهل الجهل؛ لأنَّ فضل العِلْم إنما يُعرَف بالعِلْم، فلمَّا عدم الجُهَّال العِلْمَ الذي به يتوصَّلون إلى فضل العِلْم؛ جهلوا فضله، واسترذلوا أَهْلَه، وتوهَّموا أنَّ ما تميل إليه نفوسهم من الأموال المُقتناة والطُّرق المُشتهاة أوْلَى أن يكون إقبالهم عليها، وأحرى أن يكون اشتغالهم بها".
وقد بيَّن عليُّ بن أبي طالب - رضيَ الله عنه - فضل ما بين العِلْم والمال؛ فقال: "العِلْمُ خيرٌ من المال، العِلْم يحرسكَ وأنت تحرس المال، العِلْم حاكمٌ و المال محكومٌ، مات خزَّان الأموال وبقيَ خزَّان العلم، أعيانهم مفقودة، وأشخاصهم في القلوب موجودة".
وربما امتنع بعض الناس عن طلب العِلْم لكِبَر سنِّه، واستحيائه من تقصيره في صِغَرِه أن يتعلَّم في كِبَرِه، فرضيَ بالجهل أن يكون موسومًا به، وآثره على العِلْم أن يصير مبتدئًا فيه، وهذا من خدع الجهل وغرور الكسل؛ لأن العِلْم إذا كان فضيلةً؛ فرغبة ذوي الأسنان فيه أوْلَى، والابتداء بالفضيلة فضيلة، ولأَنْ يكون شيخًا متعلِّمًا أوْلَى من أن يكون شيخًا جاهلاً.
عباد الله:
وتعلُّم العِلْم على نوعَيْن:
النَّوع الأوَّل: واجبٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمة، ولا يَقْدِرٌ أحدٌ على تَرْكِه، وهو تعلُّم ما يستقيم به دِينه؛ كأحكام العقيدة، والطَّهارة، والصَّلاة، والزَّكاة، والصَّوم، والحجّ، على الوجه الذي يتمكَّن به من أداء هذه العبادة على وجهها الصَّحيح.(/2)
ولكنَّ بعض النَّاس فرَّط في هذا، فتراه يؤدِّي العبادة بطريقة خاطئة، ومع ذلك لم يحاول تعلُّم أحكامها، بينما تجده حريصًا على دنياه، يطلبها من كلِّ وجهٍ، ومن هذا عمله؛ سيسأله الله على تفريطه؛ فليُعِدَّ للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا.
والنَّوع الثَّاني من تعلُّم العِلْم: ما زاد عن ذلك؛ مِنْ تعلُّم بقيَّة أحكام الشَّريعة في المعاملات والتفقُّه في أمور العبادات؛ فهذا واجبٌ على الكِفاية، إذا قام به مَنْ يكفي من المسلمين؛ سقط الإثم عن الباقين، وإن تَرَكَه الكلُّ؛ أثموا.
عباد الله:
وفي هذه الأيام يستعدُّ الطلاَّب والطالبات لاستقبال عامٍّ دراسيٍّ جديد، يبتدئونه يوم غدٍ؛ يقضون هذا العام بين أوراق المدارس والمعاهد والكليَّات؛ لينهلوا من مناهل العِلْم والمعرفة على حسب مستوياتهم واتجاهاتهم، ويشجِّعهم ويدفعهم إلى ذلك أولياء أمورهم، وهذا شيءٌ طيِّبٌ، وقد تقدَّم التَّرغيب في طلب العِلْم.
ولقد حثَّ النبيُّ أصحابه على القراءة والتفقُّه في الدِّين، وخير مثال ضربه لنا في هذا المجال كان في إطلاقه لأسرى بدر، بعد أن اشترط عليهم أن يعلِّم كلُّ واحدٍ منهم نفرًا من المسلمين القراءةَ والكتابة.
معاشر طلاَّب العِلْم:
لابدَّ أن يكون طَلَبُ العِلْم خالصًا لوجه الله تعالى، لا يُراد به عَرَضٌ من الدُّنيا، وذلك ليعمَّ نفعُه، ويُؤْجَر صاحبه، وكذلك إذا أحاط طالب العِلْم عِلْمًا بالمسألة؛ فالواجب عليه أن يطبِّقها على نفسه ويعمل بها؛ ليكون عِلْمَه نافعًا؛ فإن العِلْم النَّافع ما طبَّقه الإنسان عمليًّا، والعمل بالعِلْم هو ثمرة العِلْم، والجاهل خيرٌ من عالِم لم ينتفع بعِلْمه ولم يعمل به؛ فإن العِلْم سلاحٌ: فإمَّا أن يكون سلاحًا لكَ على عدوِّكَ، وإمَّا أن يكون سلاحًا موجَّهًا إلى صاحبه.
عباد الله:(/3)
قولوا لي بربِّكم: ما فائدة العِلْم بلا عمل؟ أرأيتم لو أنَّ إنسانًا درس الطبَّ وأصبح ماهرًا ولم يعالج نفسه ولا غيره؛ فما فائدة عِلْمِه وتَعَبِه؟!
عباد الله:
وإنَّ القلب لَيعتصره الألمُ حينما نرى بعضَ من طرقوا أبواب العِلْم الشَّرعي أو انتقلوا في مراحل التعليم، ولكنَّ أخلاقهم على خلاف ما تعلَّموا؛ تعلَّموا من الأحكام الشيءَ الكثير، ولكنَّ الأثر مفقودٌ، تجد الواحد منهم يَعلَم حكم إسبال الثياب ويُسبِل ثيابَه، ويعلم حكم حلق اللِّحى ويقارفه، ويعلم حكم موالاة الكفَّار ويستقْدِمَهم، ويعلم حكم الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، ويعلم حكم الرِّبا ويتعامل به أو يتحايل عليه، ويعلم حكم خُلوةَ الرَّجل الأجنبيِّ بالمرأة الأجنبيَّة واستقدم سائقًا ويضعه مع محارمه يخلو بهنَّ، أو هو يخلو بالخادمة أو غيرها من النساء الأجنبيَّات، ويعلم أنَّ مصافحة الرَّجل الأجنبيِّ للمرأة الأجنبيَّة لا يجوز ومع ذلك يصافح النِّساء الأجنبيَّات؛ فمَنْ هذه حالُه؛ فعِلْمُه وبالٌ وحُجَّةٌ عليه، نسأل الله السلامة والعافية. وكم من جامعٍ للكتب من كلِّ مذهبٍ يزيد مع الأيام في جَمْعه عمًى!!
فإذا تعلَّم وطبق؛ فعليه أن يدعو إلى ذلك.
معاشر طلاَّب العِلْم:
وهناك شروطٌ يتوفَّر بها عِلْم الطَّالب، وينتهي معها كمال الرَّاغب، مع ما يُلاحظ به من التَّوفيق ويُمَدُّ به من العَوْن:
أوَّلها: العقل الذي يدرك به حقائق الأمور.
الثَّاني: الفِطْنَة التي يتصوَّر بها غوامض العلوم.
والثَّالث: الذَّكاء الذي يستقرُّ به حفظ ما تصوَّره وفهم ما عَلِمَه.
الرَّابع: الرَّغبة التي يدوم بها الطَّلَب، ولا يُسرع إليها الملل.
والخامس: الاكتفاء بمادَّة تُغنيه عن كلف الطَّلب.
والسَّادس: الفراغ الذي يكون معه التوفُّر ويحصل به الاستكثار.
السَّابع: عدم القواطع المُذهِلَة من هموم وأشغال.(/4)
الثَّامن: الظَّفْر بعالِمٍ سَمْحٍ بعِلْمِه، مُتأنٍّ في تعليمه.
فإذا استكمل هذه الشروط؛ فهو أسعد طالب، وأنجح متعلِّم، وكذلك عليه أن يتأدَّب مع معلِّمه ويوقِّره ويحترمه ويعترف بفضله. قال بعض العلماء: "مَنْ لم يتحمَّل ذلَّ التعلُّم ساعةً؛ بقيَ في ذلِّ الجهل أبدًا".
وقال بعض الشُّعراء مبيِّنًا مَغَبَّة ازدراء المعلِّم:
إِنَّ الْمُعَلِّمَ وَالطَّبِيبَ كِلَيْهِمَا لا يَنْصَحَانِ إِذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا
فَاصْبِرْ لِدَائِكَ إِنْ أَهَنْتَ طَبِيبَهُ وَاصْبِرْ لِجَهْلِكَ إِنْ جَفَوْتَ مُعَلِّمَا
عباد الله:
فإذا تعلَّم الإنسان وحصَّل قدرًا من العِلْم؛ فليَعْلَم أنَّه قليلٌ بجانب ما جهل، وعليه ألاَّ يدخله العُجْب، وليعلم أنَّه لا سبيل إلى الإحاطة بالعِلْم كلِّه؛ فلا عار أن يجهل بعضه، وعليه أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم. ولا ينبغي أن يجهل من نفسه مبلغ علمها، ولا أن يتجاوز بها قَدْرَ حقِّها، وقد قسَّم الخليل بن أحمد أحوال الإنسان، فقال:
"الرِّجال أربعةٌ:
رجلٌ يدري ويدري أنه يدري؛ فذلك عالمٌ؛ فاسألوه.
ورجلٌ يدري ولا يدرى أنه يدري؛ فذلك ناسٍٍ؛ فذكِّروه.
ورجلٌ لا يدري ويدري أنه لا يدري؛ فذلك مُسْتَرْشِدٌ؛ فأرشدوه.
ورجلٌ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ فذلك جاهلٌ؛ فارفضوه"
اللهم إنَّا نعوذ بك من فتنه القَوْل كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلُّف لما لا نُحسِن، ونعوذ بك من العُجْب بما نُحْسِن.
أقول هذا القَوْل، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب؛ فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله ربِّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا.
أمَّا بعد أيُّها المسلمون:(/5)
اتقوا الله تعالى، وراقبوه، واعلموا أنَّ كلاًّ منكم على ثَغْرٍ من ثغور الإسلام؛ فحذار أن يُؤتى الإسلامُ من قِبَلِه.
عباد الله، إخوتي أولياء أمور الطلاَّب، إخوتي أساتذة أبناء المسلمين:
ممَّا لا يخفى على الجميع: أنَّ أبناء اليوم رجال الغد، وهم الذين سيتولُّون في المستقبل توجيه سفينة المجتمع وإدارة شؤونه؛ فإذا قُمنا اليوم بتوجيههم الوِجْهَة الصَّالحة التي أمر بها ديننا الحنيف؛ تخلَّصت مجتمعاتنا تحت إدارة هذه الصَّفوة من الشَّباب الطيِّب من أمراضٍ اجتماعيَّةٍ متفشِّية في المجتمعات؛ مثل النفاق، والوساطة، وأَكْل السُّحْت .. وغيرها.
وأولياء أمور الطلاَّب والطَّالبات والمدرِّسين والمدرِّسات يقع عليهم العبءُ الأكبر؛ لأنهم يقضون معظم أوقاتهم مع الطلاَّب؛ الأب مع أبنائه في البيت، والمدرِّس مع طلاَّبه في المدرسة؛ فينبغي أن يكون كلٌّ منهم متفهِّمًا لرسالة الآخَر.
ويبلغ التأثير أعلاه حينما يكون الأب والمدرِّس كلٌّ منهما ملتزمٌ بأحكام الإسلام في العبادات والمعاملات والأخلاق؛ فإذا كان الأب والمدرِّس كلٌّ منهما ملتزمًا بأحكام الإسلام، معتزًّا بإسلامه، شاعرًا بواجبه في الدَّعوة إلى الله والتَّوجيه؛ أفاض على مَنْ يقوم بتربيته من نور هذا الإيمان الذي يحمله بين جنبَيْه ويمشي به في النَّاس.
فليَكُنْ شعارُك أخي المدرِّس: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصِّلت: 33].
وليعلم كلٌّ من المدرِّس ووليِّ أمر الطلاَّب والطَّالبات: أنَّه راعٍ فيهم، ومسؤولٌ عنهم، ومطلوبٌ منه النُّصح لهم.
وليعلم أنَّه: ((ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيَّةً، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لها؛ إلا حرَّم الله عليه الجنَّة)).(/6)
وليعلم أنَّه إن ترك هذه البراعم الغضَّة؛ فإن رياح الشهوات ستعصف بها، وإنَّ أعداء الإسلام سيجلبون عليها بقَضِّهم وقَضِيضِهم، حتى يسلخوهم من الدِّين، فيعودوا حربًا عليه:
لِمِثْلِ هَذَا يَذُوبُ الْقَلْبُ مِنْ كَمَدٍ إِنْ كَانَ فِي الْقَلْبِ إِسْلامٌ وَإِيمَانُ
وليعلم كلُّ مَنِ اشتغل بالتَّدريس: أنَّ أقلَّ ما يُنتظَر من المدرِّس المسلم أن يكون مظهره إسلاميًّا، وأن يتَّفق قوله وفعله وسلوكه مع روح الإسلام ومبادئه.
فمثلاً: إذا دخل على طلاَّبه؛ قابلهم بوجه طَلْقٍ، كما علَّمه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تَلْقَ أخاك بوجه طَلْقٍ))، وحيَّاهم بتحيَّة الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لا بتحية العَوَام: صباح الخير، أو: مساء الخير!! وليبدأ حديثه بحمد الله والصَّلاة على رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فـ: ((كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بحمد الله؛ فهو أَقْطَعٌ))، إلى غير ذلك من الأمور التي تغرس في نفوس الصغار الأخلاق الحميدة.
عباد الله:
وتَختلُّ الموازين حينما يتولَّى التَّدريس مدرِّسٌ غير ملتزمٍ بأحكام الإسلام، متهاونٌ في أوامر الله، قد استحوذ عليه الشَّيطان؛ لأنَّ المطلوب منه الإرشاد إلى كلِّ خُلُقٍ حسن، والتَّحذير من كلِّ خُلُقٍ ذميمٍ، ولكنَّ فاقِد الشَّيء لا يُعطيه!!
فَالطَّالب الذي يرى مدرِّسه في حالةٍ من المُيوعة والتَّسيُّب؛ كيف يتعلَّم الفضيلة؟!
والطَّالب الذي يسمع من مدرِّسه كلمات السبِّ والشَّتْم؛ كيف يتعلَّم حلاوة المَنْطِق؟!
والطَّالب الذي يرى مدرِّسه يتعاطى الدُّخان؛ سيَسْهُل عليه هذا الأمر!!
والطَّالبة التي مدرِّستها تسير خلف ما يصدِّره لها الأعداء من أزياء فاضحة وأخلاق سافلة؛ كيف تتعلَّم الفضيلة؟!
والطالبة التي ترى مدرستها متبرجة، كيف تلتزم بالحجاب؟!(/7)
والطَّالبة التي ترى مدرِّستها تركب مع السَّائق وحدها؛ كيف تبتعد عن الاختلاط بالأجانب والخُلْوَة بهم؟!
وقِسْ على هذه الأمور غيرَها.
عباد الله:
هذا وإنَّ بعض الآباء قد أغمضوا أعينهم عن أخلاق أبنائهم وبناتهم، ولم ينظروا في قدوتهم؛ هل هي حسنةٌ أم سيئةٌ؟! وهذا أمرٌ قد يُنذِر بالخطر.
بل إنَّ بعض الآباء - هداهم الله - إذا وفق أبناؤهم بأساتذة صالحين مُصلِحين؛ تجدهم ينسفون ما تعلَّم أبناؤهم من أساتذتهم من أفكار صالحة.
فالابن في المدرسة يتعلَّم أنَّ الغناء من المحرَّمات، ولكنَّ والده يجلب له آلات اللهو، وبأغلى الأثمان، ويخلِّي بينه وبينها!!
وكذلك الولد يتعلَّم أنَّ الخُلْوَة بالأجنبيَّة حرامٌ، ووالده يناقِض ذلك، ويجلب له امرأةً أجنبيَّةً باسم الخِدْمَة، ويترك الأبناء ينظرون إليها وهي سافرةٌ لا يأمرها بالحجاب!!
والبنت في المدرسة تتعلَّم أنَّ الخُلْوَة بالأجانب حرامٌ، ووالدها يجلب لها سائقًا أجنبيًّا، ويدعه يذهب بها وحدها إلى المدرسة أو غيرها!!
مَتَى يَبْلُغُ الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ إِذَا كُنْتَ تَبْنِيهِ وَغَيْرُكَ يَهْدِمُ؟!
هذا؛ والواقع الذي ذكرته ليس على سبيل التَّعميم؛ فهناك أساتذة أكْفَاء، على مستوى من الخُلُق والدِّين، وكذلك الحال بالنسبة للآباء، ويظهر أثر ذلك جليًّا على أخلاق الناشئين؛ فيوم أن ترى الشباب ملتزمًا وذا خُلُقٍ فاضل؛ تعلم أنَّه قد وفِّق بمَنْ أحسن توجيهه، وتضافرت الجهود من المدرسة والبيت على ذلك، ويوم أن ترى قُطعانًا من الشَّباب يهيمون في كلِّ بقعة، ويجتمعون فيتكلَّمون في بعض الأحيان وقد علا الشَّتْم مجالسهم، ويسخرون بمَنْ يأمرهم بالمعروف؛ تعرف أنه قد تُرِكَ لهم الحبل على الغارِب حتى شبُّوا وتفلَّتوا، وإذا زال الحياء من الله ومن عباده، فحدِّث ولا حرج.
فَلا وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ وَلا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ(/8)
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ(/9)
العنوان: العلم والتعليم
رقم المقالة: 2020
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
العلماء الربانيون أمان للأمة
الحمد لله رب العالمين؛ فضَّل هذه الأمة على سائر الأمم، وجعلها شاهدة لأنبيائهم عليهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، ونستغفره لخطايانا؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الخير بيديه، والشر ليس إليه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أخرجنا الله تعالى به من الضلال إلى الهدى، ومن الجهل إلى العلم {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطَّلاق:11] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واتبعوا ما أَنزل من الهدى، واحذروا مضلات الفتن واتباع الهوى؛ فإن الفتن تعمي عن السنن، وإن الهوى يهوي بأهله في نار جهنم {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ} [آل عمران:31-32].
أيها الناس: اختار الله تعالى دينَ الإسلام قاضيا على كل الأديان والشرائع، واختار سبحانه رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام خاتما للرسالات والنبوات، واختار القرآن كتابا لأهل الحق والهدى يبقى إلى آخر الزمان؛ فلا دينَ بعد الإسلام، ولا نبيَ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا كتابَ بعد القرآن.(/1)
وقد قضى الله تعالى بحفظ دين الإسلام وكتابه القرآن من التحريف والتبديل والضياع {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وجعل سبحانه وتعالى لهذا الحفظ أسبابا قدرية وأسبابا شرعية:
فمن الأسباب الشرعية: تحذيرُ المسلمين من الابتداع في الدين، ونهيهم عن التشبه بالكافرين؛ لأن الابتداع والتشبه يُدخلان في الدين ما ليس منه، وإذا أُدخل فيه ما ليس منه، خرج ما هو منه، فحصل التحريف والتبديل.
ومن الأسباب القدرية: أن الله تعالى جعل في كل زمان للحق أنصارا يذودون عن الدين، ويحفظونه من جهل الجاهلين، وينفون عنه تحريف المحرفين، ويصبرون في سبيل ذلك على أذى المؤذين، وظلم الظالمين؛ كما في حديث مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قال: سمعت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ الله لَا يَضُرُّهُمْ من خَذَلَهُمْ أو خَالَفَهُمْ حتى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وَهُمْ ظَاهِرُونَ على الناس).
وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ ولا تَزَالُ عِصَابَةٌ من الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ على الْحَقِّ ظَاهِرِينَ على من نَاوَأَهُمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم.
ومن نظر في تاريخ المسلمين منذ وفاة النبي عليه الصلاة والسلام استبان له أن على رأسِ هذه الطائفة المنصورة العلماءَ الربانيين، فهم الذين يبلغون الحق خلفا عن سلف، وهم الذين يدرءون عن الدين شبهات المضلين، وهم الذين يُقوِّمون اعوجاج الأمة إذا اعوجت، ويتصدون للفساد والمفسدين، وينصحون العامة والخاصة، فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويصدعون بالحق لا يخافون في الله تعالى لومة لائم. وفي حال المحن والفتن واختلاط الأمر يؤوب الناس إليهم لاستجلاء الأمر، واتخاذ المواقف المناسبة.(/2)
لقد حفظ الله تعالى الأمة من الانحراف والضياع بالعلماء الربانيين، وبهم حفظ دينه، ولقد كان الصديق أبو بكر رضي الله عنه أعلم الصحابة بملازمته للنبي عليه الصلاة والسلام، وبعلمه وثباته حفظ الله تعالى الأمة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام حين صُدم الناس بوفاته، ثم حفظ به الأمة مرة أخرى لما ارتد المرتدون، فثبت ثباتا عظيما قُضي بسببه على المرتدين، وسلمت به الأمة من الفتنة في أول عهدها.
ثم لما أُحدث في الأمة بدعةُ الجهمية والمعتزلة، وانتحلها ثلاثة من خلفاء بني العباس تصدى لها الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى، وثبت ثباتا عجيبا ما ظَفِر المبتدعة منه بشيء حتى قال علي بن المديني رحمه الله تعالى: إن الله أيَّد هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة. وقال إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى: لولا أحمدُ وبذلُ نفسه لذهب الإسلام.
ولما احتلت الجيوش الصليبيةُ بيت المقدس في القرن الخامس نهض العلماء بواجبهم، يربون الأمة، ويردونها إلى دينها، ويحولون بين الناس وبين المعاصي والشهوات، فيخطبون في الناس، ويلقون الدروس والمواعظ التي تستنهض العزائم، وتشحذ الهمم، ويحثونهم على جهاد الصليبيين، ويبثون الحمية الدينية في قلوبهم؛ حتى تهيأت الأمة في عهد نور الدين رحمه الله تعالى وقد أعلى من شأن العلماء في دولته وأدناهم، وخلَّى بينهم وبين الناس في بيان الحق والصدع به.
ثم خلفه على سيرته الحسنة صلاحُ الدين رحمه الله تعالى، فاتخذ من العلماء العاملين بطانة له، وكان بعضهم لا يفارقه في حضر ولا سفر، ولا حرب ولا سلم، كالقاضي ابن شداد الذي لازمه ربع قرن فكتب سيرته، وبإدناء العلماء، والتخلية بينهم وبين الناس؛ تهيأت الأمة على أيدي العلماء الصادقين لكسر جيوش الصليبيين، وإخراجهم من بيت المقدس أذلة صاغرين، وتم ذلك بعد تسعين سنة من احتلالها.(/3)
ولما وطئ التتر بلاد المسلمين، وأسقطوا دولة بني العباس، وعاثوا فسادا في العراق والشام هيأ الله تعالى القائد سيف الدين قُطُز الذي تربى في مجالس العلماء، فقاد الأمة وما كان يقطع برأي في الإعداد لمواجهة التتر وجهادهم حتى يراجع العلماء، ويأخذ بمشورتهم، ولا سيما الشيخ عز الدين ابن عبد السلام والقاضي بدر الدين السنجاري.
ولما جبن بعض الأمراء والقادة عن مواجهة التتر، وهابوا الخروج إليهم قال العز بن عبد السلام: أخرجوا وأنا أضمن لكم على الله تعالى النصر، واتفق مع السلطان قطز على إخراج ما في خزائنه من أموال، وكذلك خزائن الأمراء لتجهيز الجيوش، فانتصر المسلمون، وكسر الله تعالى على أيديهم التتر في عين جالوت، فلم تقم لهم قائمة بعدها.
وكان لعلماء الأندلس الفضلُ بعد الله تعالى في تأخر سقوطها قرنين وزيادة، وذلك بالسعي في الصلح بين الحكام المتناحرين، واستنهاض همم الناس للجهاد في سبيل الله تعالى، ولما تدهورت أحوال المسلمين، وعظم الاختلاف والتناحر بين ملوكهم، وغلب النصارى على كثير من الأمصار؛ سافر جماعة من علماء الأندلس إلى يوسف بن تاشفين في المغرب، وعبروا البحر لأجل ذلك، فكان في رحلتهم تلك إنقاذٌ لكثير من ممالك الأندلس من السقوط في أيدي النصارى؛ إذ عبر إليهم ابن تاشفين بجيوشه، وكسر النصارى في معركة الزلاقة، وكان الفضل في ذلك بعد الله تعالى لعلماء الأندلس وفقهائه.(/4)
وأما جهاد العلماء للمنافقين والمرتدين بأقلامهم، وذبهم عن الشريعة، وحمايتهم للأمة من الضلال والانحراف فأكثر من أن يحصر، لا قديما ولا حديثا، حتى إن من العلماء من اشتغل حياته كلها بذلك كابن تيمية وابن القيم الذي قال: والجهاد بالحجة واللسان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان؛ ولهذا أمر به تعالى في السور المكية حيث لا جهاد باليد؛ إنذارا وتعذيرا فقال تعالى {فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم مع كونهم بين أظهر المسلمين في المقام والمسير فقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ} [التوبة:73] فالجهاد بالعلم والحجة جهاد أنبيائه ورسله وخاصته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق.اهـ
ولما عاب بعض الناس على ابن المُنَيِّر قعوده عن الغزو قال: ولا أجد في تأخري عن حضور الغزاة عُذرا إلا صرفَ الهمة للتحذير من هذا المصنف -يعني كشاف الزمخشري المعتزلي- والرد على أقواله التي تمثل رأي المعتزلة..اهـ
وقد لقي العلماءُ الربانيون من أهل السوء والفساد والإفساد أنواعا من الأذى كالضرب والحبس والقتل، وما ردَّهم ذلك عن بذل النصح، والصدع بالحق، والقيام بأمر الله تعالى.
والملاحظ في حوادث التاريخ، وسير الملوك والعلماء أنه متى اتفقت سياسة السلاطين مع كلمة العلماء، وتواصوا بالحق فيما بينهم، وتعاونوا على البر والتقوى، وكانت بطانة السلاطين من العلماء الناصحين؛ صلحت أحوال الرعية، واستقرت الممالك، وبقيت هيبة السلاطين والعلماء محفورة في قلوب الناس.(/5)
ومتى وُجد انفصام بين العلماء الربانيين المخلصين وبين السلاطين فسدت أحوال الرعية، واضطربت الممالك، وسقطت مهابة السلاطين والعلماء على حدٍ سواء، وفي ذلك من الشر والفتن واضطراب الأحوال ما لا يخفى.
إن العلماء دعاة بألسنتهم، وأصحاب السلطان دعاة بألسنتهم وسلطانهم، وباتفاق العلماء وأصحاب السلطان وتعاونهم تتقدم الأمة، ويصلح أمر البلاد والعباد؛ فالعلماء ورثوا العلم من مقام النبوة، وأهل السلطان ورثوا القوة من مقام النبوة، والعدل أساس الملك، والتقوى أساس العلم، فبالعدل والتقوى تبنى الأمم وتزدهر، ويسود الأمن والرضا، وبغير ذلك يكون الخراب والدمار.
نعوذ بالله تعالى من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله أن يصلح أحوال المسلمين أجمعين إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور: 52].
أيها المسلمون: موت العلماء الربانيين خسارة عظيمة للأمة التي تعرف قيمتهم، وتدرك أهميتهم، وتعلم ما يترتب على فقدهم، وكان الناس -ولا يزالون- يبكون العلماء الربانيين. ولما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال أبو هريرة رضي الله عنه: مات اليوم حبر هذه الأمة ولعل الله يجعل في ابن عباس منه خلفا.(/6)
وبقي ابن عباس رضي الله عنهما عالما للأمة وإماما لها سنوات طويلة فلما مات صفق جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بإحدى يديه على الأخرى وقال: مات أعلم الناس وأحلم الناس ولقد أصيبت به هذه الأمة مصيبة لا ترتق.
وإنما كان موت العلماء الربانيين مصيبة عظيمة لأنه من نقص الأرض بنقص الدين والعلم فيها {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] قال عطاء رحمه الله تعالى في معنى نقصها: هو ذهابُ فقهائها وخيارِ أهلها.
وبتوافرِ العلماء الربانيين صلاحُ الدين والدنيا، وبفقدهم فسادهما؛ كما قال الإمامُ الزُّهْرِيُّ رحمه الله تعالى: كان من مَضَى من عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ، وَالْعِلْمُ يُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا، فَنَعْشُ الْعِلْمِ ثَبَاتُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وفي ذَهَابِ الْعِلْمِ ذَهَابُ ذلك كُلِّهِ.
وقال الْحَسَنِ رحمه الله تعالى: كَانُوا يَقُولُونَ: مَوْتُ الْعَالِمِ ثُلْمَةٌ في الْإِسْلَامِ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ ما اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
وسُئل سعيدُ بن جبير رحمه الله تعالى: ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم.
والعلم إنما يزول من الأرض بموت العلماء، فَيَحِلُّ محلهم أهل الجهل والهوى، فيكون في ذلك تجهيل الناس وإضلالهم؛ كما جاء في حديث عبد الله بن عَمْرِو رضي الله عنهما قال: سمعت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حتى إذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ الناس رؤوسا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) متفق عليه.(/7)
وفي رواية لأحمد: (إن اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ الْعِلْمَ مِنَ الناس بَعْدَ أن يُعْطِيَهُمْ إِيَّاهُ وَلَكِنْ يَذْهَبُ بِالْعُلَمَاءِ كُلَّمَا ذَهَبَ عَالِمٌ ذَهَبَ بِمَا معه مِنَ الْعِلْمِ حتى يَبْقَى من لاَ يَعْلَمُ فَيَتَّخِذَ الناس رُؤَسَاءَ جُهَّالاً فَيُسْتَفْتَوْا فَيُفْتُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّوا وَيُضِلُّوا).
ولقد رزئت الأمة في هذا العقد الثالث من المئة الخامسة بعد الألف بكوكبة من العلماء الربانيين تلاحقوا في سنوات قلائل؛ فَفُتِح على الناس بابٌ من الشر والفتن عريض، وكَثُر الاختلاف، واستنسر أهل الشر والفساد، وحقَّقُوا كثيرا من مآربهم الخبيثة، واستطاعوا في بضع سنوات تحقيق ما عنه عجزوا في خمسين سنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجبر الله تعالى مصاب المسلمين في علمائهم، وجعل في الخلف منهم عوضا عن السلف، والحمد لله على كل حال {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة:157].
وصلوا وسلموا على نبيكم.....(/8)
العنوان: العلم والعمل طريق التنمية وعلينا أن نختار!!
رقم المقالة: 217
صاحب المقالة: د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
-----------------------------------------
إن النظر إلى التخطيط على أنه منهج للعمل الإنساني يستهدف اتخاذ إجراءات في الحاضر لجني ثمار مستهدفة في المستقبل ليست نظرة حديثة, وإنما ظهرت مع بداية الفكر الإنسان, كما أن ديننا الإسلامي يؤكد على مكانة التخطيط في الحياة الإنسانية الإسلامية, ومع ذلك لم يستخدم مفهوم التخطيط بصورة شائعة في كتابات رجال الاقتصاد أو الاجتماع أو الإدارة وحتى التربية إلا منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
وإذا أردنا أن نحدد ملامح التخطيط الذي ذهبوا إليه نجدها تتمحور حول مفهوم يربط العمل بالعلم, فالتخطيط هو عملية منظمة ومرتبة تتضح من خلالها هجمات المخطط وقدراته في اختيار أحسن الحلول الممكنة واستغلال الإمكانيات المتاحة للوصول إلى تحقيق هدف معين. فهذه العملية تستهدف إمداد القوى العاملة - باعتبارها عنصراً إنتاجياً - بالعلم والمعرفة والمهارات والقيم من خلال نظم التعليم والتدريب, والتي كلما زادت ونمت في المجتمع زادت معدلات النمو الاقتصادي فيه ، وتبلورت العلاقة بين التنمية الاقتصادية وتنمية الموارد البشرية ، فالبعد النوعي لعنصر الإنتاج البشري يؤثر تأثيراً أكبر من البعد الكمي في مستوى إنتاجية الفرد ودخله أيضًا ومن ثم في التنمية الاقتصادية.
وقد نصت الأهداف العامة والأسس الإستراتيجية لخطط التنمية السعودية لا سيما السابعة منها بضرورة تنمية القوى البشرية, والتأكيد المستمر من زيادة مشاركتها ورفع كفاءتها عن طريق التأهيل والتدريب لتلبية متطلبات الاقتصاد الوطني وإحلال القوى العاملة السعودية محل العمالة الوافدة.(/1)
وهذا يتطلب منا ضرورة اتخاذ قرارات وإجراءات تمهد الطرق للاستثمار في الموارد البشرية ، ذلك أن مستوى المهارة والمستوى الثقافي والفكري للفرد العامل هي من المحددات الأساسية للطاقة البشرية ، كما تتيح لصاحبها القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة وتجديد المهارات حيث أن التعليم والتدريب يرفعان مستوى إنتاجية القوى العاملة ومن ثم يسهم في عمليات النمو والتنمية الاقتصادية.
ونخلص مما سبق إلى القول أن التطور الاقتصادي والتكنولوجي يجعل من الضروري الاهتمام بالكيف والكم معًا وخصوصًا في المراحل الأول للتنمية, فقد آن الأوان لنتوجه نجو إعداد المؤهلين والمدربين وأن نعتبر ذلك استثماراً سننجي نتائجه مستقبلاً, وعلى كل منا أن يختار!!(/2)
العنوان: العلمانية والدولة اليهودية ... عناق واتفاق
رقم المقالة: 813
صاحب المقالة: أسامة إبراهيم سعد الدين
-----------------------------------------
العلاقة وطيدةٌ بين دخول العلمانية بلادنا، وبين الاستيطان اليهودي لأرضنا، وهذه العلاقة مرتبطة بقدوم العلمانية إلينا, ولعل من أهم أسبابها أن العلمانية هي المسؤولة عن تغييب الوعي الإسلامي الصحيح، وإبعاده تماماً عن إدراك خطورة قبول اليهود كشريك شرعي في أرضنا (فلسطين), فقد كانت أداةً في يد الغرب، استطاع أن يزيح بها الإسلام، وينحيه جانباً عن دائرة الصراع بين المسلمين واليهود في قضية فلسطين، ومظاهر هذه العلاقة كالتالي:
1- العلمانية فكرةٌ غربيةٌ، غريبةٌ عن العقل والفكر الإسلامي, والكيان اليهودي نبتةٌ غريبةٌ عن تربة بلادنا، أو قُلْ: إنهما أشبه بمرض السرطان؛ حيث العلمانية ورمٌ سرطانيٌّ أصاب مخ الأمة؛ فأضعف مناعتها وقوتها، ومهَّد للإصابة بورم سرطاني آخر – (الكيان الصهيوني) - أصاب جسم الأمة.
2- ارتباطهما الوثيق بالقوى الصليبية الغربية.
3- وجود مرحِّبين ومشجعين للفكرتين في العالم الإسلامي - (دعاةُ التَّطبيع).
ولتوضيح ما سبق؛ نوجز تاريخ العلمانية في العالم الإسلامي، الذي ارتبط به تاريخ الدولة اليهودية ونشأتها، فقد مرت العلمانية بثلاث مراحل:
* الولادة، (منشأ الفكرة، وبدايات التطبيق).
* الفتوة والشباب، (الاستعمار في القرنين الثامن والتاسع عشر - الاستقلال في الدول الإسلامية).
* الشيخوخة والاحتضار، (الحملة الصليبية الأخيرة على أفغانستان والعراق).
المرحلة الأولى: الولادة (منشأ الفكرة وبدايات التطبيق)(/1)
يُرجع كثيرٌ من الباحثين بدايات فكرة العلمانية إلى الحملة الصليبية السابعة، بقيادة (لويس التاسع) ملك فرنسا؛ فهو من وضع الفكرة - فكرة الغزو الفكري - ثم جاء (لويس الرابع عشر) بعد أربعة قرون من الزمان ليجعل من تلك الفكرة هدفاً قابلاً للتحقيق, فعمل هو ووزيره (كولبير) على تجنيد العديد من الجواسيس، من الرهبان والقساوسة والسفراء؛ بهدف دراسة أحوال المجتمعات الإسلامية، ودراسة الفكر الإسلامي، وبخاصةً فكر (الإرجاء) و(التصوف)[1], وبعد ظهور الفكرة، وتحديد الهدف، وتعبيد الطريق لتنفيذه, نرى بدايات التطبيق على يد (نابليون بونابرت) في حملته الصليبية الغاشمة على مصر وبلاد الشام، سنة 1798م، فيما عُرف في كتب التاريخ باسم (الحملة الفرنسية)، وقد كانت تلك الحملة متعددة الأهداف والغايات، من أهدافها:
1- التوسع الإمبراطوري الفرنسي، واستغلال خيرات الشرق.
2- نقل المدنيَّة الغربيَّة (العلمانيَّة) إلى البلاد الإسلامية، وكسر الطوق العثماني عن بلاد مصر والشام.
3- إحداث صدمة نفسية لدى المسلمين تتولد من رهبتهم الشديدة من العسكرية الغربية، وتتحول بعدها إلى رغبة عاتية في تلك المدنية الغربية، التي كانت سبباً في قوة الآلة العسكرية. 4- توطين اليهود فلسطين، وهو ما عمل لأجله نابليون؛ فقد أراد إقامة وطن قومي لليهود في الشرق, يقوم اليهود فيه بإثارة الفتن والقلاقل والحوادث في الدولة العثمانية؛ انظر إليه وهو يناديهم: "يا ورثة فلسطين الشرعيين, إن فرنسا تناديكم الآن للعمل على إعادة احتلال وطنكم، واسترجاع ما فُقد منكم, أسرعوا؛ فإن هذه اللحظة لن تعوَّض قبل آلاف السنين, للمطالبة بإسترجاع حقوقكم المدنية بين شعوب العالم"[2].
والحمد لله؛ فقد انتهت الحملة ولم تحقِّق أهدافها, إلا أنها استطاعت إحداث تلك الصدمة في نفوس المسلمين، تلك الصدمة التي أعدَّتهم نفسيّاً لتقبُّل العلمانية والتغريب.(/2)
ثم جاء بعد ذلك (محمد علي وأبناؤه)، فواصلوا مسيرة التغريب والعلمانية (بتبعيَّة عمياء)، وبطريقة أكبر، تفوقت على ما كان في عقل وخاطر نابليون, فجاء الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882م؛ كنتيجة طبيعية لسياساتهم الخاطئة.
المرحلة الثانية: الفتوَّة والشباب
كانت الحملات الصليبية – الاستعمار في القرنين الثامن والتاسع عشر - أكثر وعياً، وأوفر حظّاً، وأشدَّ تأثيراً عن سابقاتها للأسباب الآتية:
1- ضعف الحَمِيَّة والغيرة في نفوس المسلمين، وإحساسهم بالانكسار والضعف والهزيمة النفسية.
2- غياب القيادات الربانية، التي تعمل على صلاح الأمة ونصرتها.
3-القدرة على إقصاء الشريعة من الحكم.
4- القدرة على تغريب التعليم والثقافة، وإيجاد طبقة من المثقفين والأدباء تدعو لذلك - (دعاة التبعية الفكرية للغرب).
5- القدرة على إنهاء الخلافة الإسلامية نهائياً؛ ذلك الرابط الذي يجمع المسلمين كوحدة واحدة من مشارق الأرض إلى مغاربها.
وفي ظل هذا (السطو العلماني المسلح) نرى (وعد بلفور) المشؤوم سنة 1917م، الذي جعل من فلسطين موطناً لليهود, وليس ذلك فقط؛ بل تدعم بريطانيا وأخواتها العصابات الصهيونية القذرة في حربها ضد أهل فلسطين المسالمين، ويتوالى الدعم الغربى لليهود, فنرى القوى الغربية الصليبية الداعمة لتغريب وعلمانية بلادنا - مرة أخرى - وهي تحارب الجيوش العربية، وتعمل على توطيد الوجود اليهودي على أرضنا الإسلامية الطاهرة عام 1948م، ورأينا كيف كانت الهزيمة المريرة للأمة (النكبة العربية)؛ لأنها حاربت بعيدةً عن عقيدتها، منتهجةً نهجاً علمانيّاً جاهليّاً، هو (القومية العربية).
ثم رحل الاحتلال الصليبي العلماني عن بلادنا بعد أن وطَّد ومكَّن لليهود في فلسطين.(/3)
سارت الأمة خطواتٍ وخطواتٍ، وأوغلت في وحل العلمانية والتغريب، وكان السير هذه المرة تحت شعار آخر، هو: (القومية العربية)، ولم تستطع إزاحة هذا الوجود اليهودي اللعين وإخراجه من أرضها, وكيف لها ذلك وهي تحاربه بعلمانية هي في الأصل توءم هذا الوجود اليهودي، فهما (صنوان لايفترقان)؟! بل زاد الطين بِلَّةً أن أصبح هذا الوجود اليهودي دولةً ذات سيادة وسط بلادنا، وهرولت إليه الدول العربية والإسلامية؛ لتقيم معه علاقات واتفاقيات تقوِّي من شأنه, وتعلي من قدره, كل ذلك والعلمانية تستشري في بلادنا تحت مسميات عديدة: (ليبرالية - قومية - اشتراكية - وطنية)، وكلها مسمَّيات جاهلية بالية، لم تحرِّك ساكناً.
لقد رأينا في هذه المرحلة قسوة الكيان الصهيوني معنا، واستباحته المعهودة لأموالنا، ودمائنا، وأبنائنا، وأعراضنا، وإعراضه عن كل المواثيق التي عقدناها معه, ورأينا تلك العلمانية الخبيثة وقد عجزت عن تقديم الحل لنا، بعد أن غيَّبت عقلنا، وانحرفت بفكرنا عن ديننا، فظللنا نتقلب في ظلمات جهلها سنين وسنين.
المرحلة الثالثة: الشيخوخة والاحتضار
والآن، وبعد دخول أمريكا أفغانستان والعراق، وبعد كل ما أحدثته من قتل، ودمار، وإشعال للفتن والحروب، وبعد ما عرفنا أن احتلالها هذَيْن البلدَيْن كان مخطَّطاً له منذ زمن طويل، وبعد أن سقطت ادعاءاتها التي روَّج لها العلمانيون السذَّج - كنشر الديمقراطية، والسلام، وإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، ومحاربة الإرهاب - وبعد أن ارتفعت راية الجهاد وانتصرت؛ نرى العلمانية الآن تحتضر، بعد أن شاخت وذبلت في بلادنا، ونرى الكيان الصهيوني ترتعد فرائصه من الجهاد في العراق وفلسطين.
قديماً قال (بن جوريون): "نحن لا نخشى الثوريات، ولا الديموقراطيات، ولا الاشتراكيات في هذه المنطقة! نحن نخشى الإسلام فقط, هذا العملاق الذي طال نومه, ثم بدأ يتململ من جديد!!"[3].
وكلمة أخيرة:(/4)
مرت علينا خمسون عاماً منذ رحيل الحملات الصليبية، ضللنا فيها الطريق عن ديننا الذي هو غاية أمرنا؛ فعجزنا عن النصر، ووقفنا دهشين تائهين، يتخبط بعضنا بعضاً, ننظر لحصاد تلك السنين بحسرة وأسى, وننظر إلى ماضينا المجيد، وكم كنا أسياد هذا العالم بالعقيدة القوية التي لا تضعف، والإيمان الصادق الذي لا يكذب، والهمَّة الفتيَّة التي لا تفتر، فيعتصرنا الألم والحزن, إلى أن جاءت الحملة الصليبية الأخيرة على أفغانستان والعراق, ووجدناها حرباً دينيةً قبل كل شيء, لا تختلف عن سابقاتها, أعادت لنا ماضينا، وذكَّرتنا بأحداثه، كما ذكرتنا بأن خلاصنا ونهضتنا في ديننا، وفي التمسُّك به، والعمل لأجله.
والآن .. وبعد كل هذه السنين، ألم يحن الوقت لأن نقول للعلمانيين: فلتصمتوا أبد الدهر؛ فقد فشلتم وتنازعتم أمركم بينكم، وتاهت وضاعت هُوِيَّة الأمة معكم؟!
ألم يحن الوقت لأن نقول للعلمانية: فلترحلي عن عقولنا وفكرنا؟ وأن نقول لليهود: فلترحلوا عن أرضنا؟!
ــــــــــــــــــــ
[1] جذور العلمانية والتغريب، الأستاذ: خالد أبو الفتوح، مجلة البيان.
[2] الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام، الأستاذ: عبدالله التل.
[3] نقاط على الحروف في الصراع العربي الصهيوني، (ص68).(/5)
العنوان: العلمانيون والتطاول الفج على الإسلام والذات الإلهية
رقم المقالة: 527
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
* الأزهر يقاضي نوال السعداوي بسبب أفكارها وكتاباتها المسيئة للذات الإلهية والقرآن والأديان السماوية.
* مجمع البحوث الإسلامية رفض تداول روايتها "سقوط الإمام" لما تضمّنته من سخرية وتهكم من كل مفردات التعاليم الإسلامية عقيدة وشريعة.
* أعلنت رفضها لنظام الزواج في الإسلام، وتعده كارثة ومؤسسة عبودية، وتزعم أن التزام المرأة بالقيم الإسلامية ردة حضارية.
* الجمعيات النسائية المشبوهة تعادي النظم الإسلامية وتدعو للخروج على سنن الفطرة، وتتبنى دعوات هدم المرأة والأسرة المسلمة.
* السعداوي تزعم أنه لا علاقة للحجاب بالإسلام، وأنه عادة عبودية، وتعارض نظام المواريث في الإسلام وتطالب بتعديله.
* * *
سئم المجتمع الإسلامي من تلك الأبواق الفارغة من العلمانيين والماركسيين الذين يملؤون الدنيا صراخاً وعويلاً بين الحين والآخر حول صروح الإسلام وثوابته الراسخة ، تحت دعوى حرية الفكر والرأي والتعبير، وهم في الحقيقة: يطعنون في الدين، ويتطاولون على الذات الإلهية، ويبيحون لأنفسهم حرية الكفر والإلحاد، ويهدمون الثوابت التي يقوم عليها المجتمع المسلم.
واليوم تطل برأسها فتنةٌ أخرى -ليست جديدة- في نفس مسلسل الطعن في الدين ومعارضة أحكامه وثوابته، وصاحبة هذه الزوبعة دكتورة وكاتبة ماركسية مشهورة بعدائها الصريح للإسلام ودعوتها للخروج على تعاليمه، وترويجها للإباحية الأخلاقية بكل صورها، وهي الدكتورة/ نوال السعداوي رئيسة جمعية تضامن المرأة العربية التي قامت الحكومة بحلِّها منذ سنوات لنشاطها المشبوه.(/1)
ففي تطور جديد للحرب المعلنة من السعداوي على الإسلام وثوابته وأخلاقيّاته، وافق شيخ الأزهر الدكتور/ محمد سيد طنطاوي على مقاضاتها بتهمة "الإساءة للذّات الإلهية والقرآن"، وقرّر - عقب اجتماع طارئ مع أعضاء مجمع البحوث الإسلامية في نهاية فبراير الماضي - التقدم ببلاغ للمستشار عبد المجيد محمود - النائب العام - ضد نوال السعداوي بسبب أفكارها المسيئة للذات الإلهية والقرآن والأديان السماوية.
وناقش أعضاء المجمع برئاسة طنطاوي، مسرحية السعداوي الأخيرة المثيرة للجدل "الإله يقدم استقالته"، وأعدّوا تقريراً عن المسرحية التي طبعتها إحدى دور النشر ووزعت منها أعداداً محدودة، وأكد التقرير إساءتها للذات الإلهية والقرآن الكريم والملائكة وجميع الأديان السماوية.
واتفق العلماء - في اجتماعهم المطول - على التقدم ببلاغ للنائب العام؛ للمطالبة بالتحقيق الفوري مع نوال السعداوي - الموجودة حالياً في بلجيكا - لتعمُّدها الإساءة للذات الإلهية، وتكرار هذه الإساءات في أعمالها الأخيرة.
وكانت السعداوي قد كتبت هذه المسرحية قبل عدة سنوات، ولكنها دفعت بها إلى دار النشر قبل أسابيع قليلة، وتوقعت أن تتسبب لها في أزمة مع الرقابة والأزهر والمحامين الذين يستخدمون دعاوى الحسبة لمواجهة الأفكار الجريئة أو المتحررة، لكن الناشر سحب الكتاب من تلقاء نفسه بعد ملاحظات أبداها له صحفيون وأدباء، بأن السعداوي تجسد الذات الإلهية والملائكة والأنبياء وإبليس في هيئة شخصيات تؤدي أدوارها على المسرح، وغاب الكتاب عن معرض القاهرة الدولي للكتاب، لكنَّ نسخاً معدودة منه وصلت إلى بعض الصحف.
الطعن وسيلة للشهرة:(/2)
ويبدو أن هذه الدكتورة التي بلغت من الكبر عِتِيّاً -77 عاماً- أرادت أن تُحَقِّق لنفسها شهرة واسعة، فلم تجد لذلك وسيلة إلا الطعن في الدين، وهو نفس الطريق الذي سلكه من قبلها سلمان رشدي، وتسليمه نسرين، وفرج فودة، ونصر أبو زيد، وعلاء حامد، فكلهم دخَلوا خندقاً واحداً؛ بعد أن أصبح الطعن في الدين الوسيلة الأسرع للشهرة في هذا العصر الذي كثر فيه المرتدون والعلمانيون، الذين يحملون أسماء إسلامية ويعيشون بيننا ويحاربون ديننا وعقيدتنا. فالدكتورة نوال السعداوي لجأت إلى إثارة الزوابع حول أفكارها الشاذة؛ لتصبح حديث وسائل الإعلام بعد أن أَفَل نجمها.
السيرة الذاتية تَفُكُّ الألغاز:
ولعل معرفة السيرة الشخصية للسعداوي يحل الكثير من الألغاز المحيطة بآرائها الغريبة عن مجتمعنا الإسلامي: فهي واحدة من رموز حركة تحرير المرأة التي تموَّل من قبل مؤسسة "فورد كونديشن" التي افتُضح أمرها على يد أعضاء هذه الحركة أنفسهن داخل أروقة المؤتمر الذي عُقد سنة 1986م، حيث تساءلن عن تمويل المؤتمر، فاعترفت نوال السعداوي بأنَّ مؤسسة "فورد كونديشن" الأمريكية، وكذا هيئة المعونة الأمريكية بالقاهرة، وجمعية نوفيل الهولندية، ومكتب اكستوان بالقاهرة، هي التي مَوَّلت المؤتمر.
وُلدت نوال السعداوي بقرية "كفر طلحة" إحدى قرى صعيد مصر، عام 1930م، ودرست الطبّ في جامعة القاهرة، ثمَّ حصلت على الماجستير من جامعة "كولومبيا" في الولايات المتحدة، وبعد عودتها عملت في مستشفى القصر العيني، إلى أن عُيِّنت مديرة للصحة العامة في مصر.
وفي سنة 1972م، نَشرت نوال السعداوي كتابها "المرأة والجنس" وهو كتاب يعِجُّ بالشذوذ، والخروج على طبيعة العلاقة الشرعية المنضبطة بين الرجل والمرأة خروجاً وقحاً، ويهزَأ بالشرف وعذرية الفتيات، وقد طُرِدت على إثره من وظيفتها في وزارة الصحة، وتركت عملها محرِّرة في مجلة "الصحة"، ومساعدة السكرتير العام لنقابة الأطباء.(/3)
وفي عام 1973م، بدأت مرحلة جديدة في حياة السعداوي أكثر تخطيطاً والتصاقاً بالمنظمات المشبوهة، وعملت في أثنائها باحثة في كلية الطبّ بجامعة عين شمس حتى عام 1976م، قامت خلالها بعمل دراسة عن المشاكل النفسية التي تعانيها المرأة، لم يختلف فيها الطرح كثيراً عمّا قالته في "المرأة والجنس".
ولمع نجمها وارتفعت أسهمها حينما أعلنت تمرُّدها ورفضها للشريعة الإسلامية؛ إذ نادت بأعلى صوتها: " أنا ضِدُّ المهر، أنا ضِدُّ تعدُّد الزوجات، أنا مع المرأة المتحرّرة، الزواج بغاء مقنَّع، إذا كان الله قال منذ 14 قرناً مضت؛ فالأوضاع قد تغيّرت، الحجاب مفهوم عبودي أرفضه"، وهذه الصيحات المعادية للإسلام وللفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وغيرها الكثير جعلها جديرة بالعمل مستشارة للأمم المتحدة في أفريقيا والشرق الأوسط، من عام 1979م، حتى 1980م.
وفي عام 1980م، اعتُقلت نوال السعداوي مدة قصيرة، استثمرتها فيما بعد - كدأب الشيوعيين والعلمانيين - في الترويج لنفسها والتسويق على أنّها من حملة ألوية الحقوق والحريات والدفاع عن المرأة، فأسَّست منظمة أسمتها: منظمة المرأة العربية الجديدة.
وفي عام 1999م، شاركت في مؤتمر ومظاهرة نسوية - نظَّمها المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة - سبقت إخراج مشروع قانون الأحوال الشخصية، في ذكرى الاحتفال بمرور مئة سنة على صدور كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" الذي صدر عام 1899م.
وفي هذا المؤتمر طالبت السعداوي مع غيرها بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وبحقِّ المرأة المُطلقة في الحرية بجسدها، وبحقِّها في كسر أيّ قيود للرجل عليها، والتخلص ممَّا أسموه: القيود الدينية التي تعيق المرأة عن التقدُّم!
سموم ضد الإسلام:(/4)
وقد بدأت الضجة بشأن أفكارها التي تمثّل خروجاً صريحاً على مقتضى الدين وطعناً في ثوابته، منذ سنوات، عندما أدلت بحديث لجريدة "الميدان المصرية" نفثت فيه سمومها ضد الإسلام وأحكامه وشرائعه، فزَعَمت أنه لا علاقة للحجاب بالإسلام وهو عادة عبودية انعكست عن اليهودية، وعارضت نظام المواريث في الإسلام وطالبت بتعديله، حتى تتحقق المساواة بين الرجل والمرأة، وهو النظام الذي وضعه ربُّ العزة وحدد أنصبته بنفسه. وقالت: "إن الحج وتقبيل الحجر وثنية". وأعلنت رفضها لنظام الزواج وقالت: "الزواج كارثة، وهو مؤسسة عبودية، والرجل يحترم خطيبته ويحبها وعندما يتزوجها ينتهي الحب".
وبعد نشر هذا الحوار قام المحامي المصري "نبيه الوحش" بتقديم بلاغ للنائب العام ضد السعداوي؛ لأنها أهانت الإسلام والمسلمين والشعب المصري بصفة عامة ... وقال الوحش: "أنا لست ضد حرية الإبداع الفكري، ومع فتح باب الاجتهاد في الدين الإسلامي، ولكن إذا وصل الأمر للتطاول على أركان الإسلام وأحكام الشريعة الإسلامية فهنا يجب أن يكون لأي مواطن غيور على دينه موقف حاسم، ولقد قرأت حديث الدكتورة نوال للصحف، واستفزني ما قرأته وشعرت بالخوف على ديني، واستشعرت مدى الهدم لقيم وشرائع وتعاليم الله في القرآن الكريم، وتقدمت فوراً ببلاغ إلى النائب العام ضد الدكتورة/ نوال السعداوي، استندت فيه إلى أنها دأبت على الخروج على قواعد الأخلاق والآداب والتقاليد التي يمتاز بها مجتمعنا الشرقي، والتي نبعت من أدياننا السماوية.
دعوى الحِسْبَة:(/5)
وقد استند المحامي في بلاغه إلى أن المشرع المصري قد نظم قضايا الحسبة، ولم يلغها كما يعتقد البعض؛ حيث لا يستطيع أي فرد أو أي مؤسسة في الدولة إلغاءها؛ لأنها جزء من النظام الإسلامي، وإنما قصرها على أخذ الإذن من ولي الأمر؛ "لذا قمت برفع دعوى الحسبة المتمثلة في دعوى تفريق بين المشكو في حقها وزوجها باعتبارها خارجة عن دائرة الإسلام، خاصة أنها لم تراجع نفسها، ولم تستتب حتى الآن منذ أن دأبت على بث هذه الأفكار الهدامة التي تؤدي في النهاية إلى إفساد المجتمع بأسره".
ولاشك أن قيام الوحش برفع دعوى الحسبة هذه قد رفع الحرج عن سائر المجتمع؛ حيث إن الحسبة من الفروض الكفائية التي إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وإذا لم يقم بها أحد أثم الجميع.
هدم الثوابت الدينية:
وإذا وقفنا مع الأفكار التي أثارتها السعداوي في كتبها ورواياتها وفي حوارها الصحفي، والتي استند إليها المحامي في إقامة دعوى الردة والتفريق بينها وبين زوجها، نجدها تهدم الثوابت الدينية التي استقر عليها المجتمع المسلم؛ ففي معارضتها للحجاب تقول: "حسب ما فهمت من الدين الإسلامي عن أبي، وقراءتي للقرآن أربعين مرة ... لا علاقة للحجاب بالإسلام، وهو عادة عبودية انعكست عن اليهودية التي تقول: شعر المرأة العاري مثل جسدها العاري، وفي المسيحية الفاتيكان وفي الكنائس النساء يرتدين الحجاب وترتدي الراهبات الحجاب؛ فلماذا يلصقون الإسلام بالحجاب؟".
تقبيل الحجر الأسود وثنية:
وعندما سئلت السعداوي عن كون العبادات لا تُقبل بغير حجاب لله؛ قالت: يرحم الله رابعة العدوية ... لم تكن تحج ولا تصلي ولا تصوم، وكانت ضد الشعائر مع ابن عربي، والصوفية كلهم ضد العبادات، وكانت تقول : الله هو الحب، إنما الله مش أروح الكعبة؛ أبوس الحجر الأسود وألبس حجاب وأطوف، هذه وثنية الحج، هو بقايا الوثنية "!!(/6)
وقالت السعداوي : "أنا عارفة إني بافتح النار ... لازم الناس تعرف أن الحج وتقبيل الحجر وثنية، والصوفية رفضوا يقبلوا الحجر الأسود ... إيه ده؟ مين قال كده؟ أنا عقلي لا يسمح!! وأبويا عقله لا يسمح بهذا، وعاوزه أقول: إن الأخلاق لا علاقة لها بالملابس ... وفيه نساء أوروبيات على رأسهم برانيط وأخلاقهم كويسة".
معارضة نظام المواريث:
وتعارض السعداوي نظام المواريث في الإسلام وتطالب بتعديله قائلة: "إن آية: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} ينبغي إيقافها مثلما أُوقِفت آيات الرق، فأكثر من 25% من الأسر المصرية تعولها المرأة، و25% يعولها الرجال والنساء، أي أن المرأة تسهم في رعاية الأسرة بنسبة 50%، وعندنا 5% من النساء ينفقن على أزواجهن، فالمرأة الآن تَعُول، وحكمة الإسلام في إعطائه للذكر مثل المرأة مرتين؛ لأن الرجل كان هو الذي ينفق، لكن عندما أصبحت المرأة مسؤولة عن الإنفاق أصبح من حقّها أن تَرِث ... وهكذا فالدين هو العقل ... وهناك بُلدان إسلاميّة سبقتنا في ذلك مثل تونس والمغرب".
نقل الأعضاء التناسلية:
وتحدثت نوال السعداوي بشأن نقل الأعضاء التناسلية وردود الأفعال على ذلك فقالت: "في رأيي أن بعض المشايخ عندهم لوثة بخصوص التناسل والجنس، ما الفرق بين عضو تناسلي وعضو آخر، أنا بوصفي طبيبة اقترحت نقل الأعضاء التناسلية والمخ والقلب من إنسان لآخر؛ فلا فرق عندي بين القلب والجهاز التناسلي؛ فكلها أعضاء تمرض، وتحتاج لقطع غيار، فلماذا يفرقون بين عضو في النصف الأسفل من الجسم وعضو في النصف الأعلى؟ وهؤلاء الذين يحرمون نقل الأعضاء التناسلية شوهوا الإسلام، أنا والدي تخرج في الأزهر ودار العلوم والقضاء الشرعي ... ثلاث مدارس كبرى في الدين، وعلمني الدين الإسلامي الصحيح الذي يعتمد على العقل".
الزواج كارثة!!(/7)
وفي تعليقها على الزواج قالت السعداوي: "الزواج كارثة وهو مؤسسة عبودية، والرجل يحترم خطيبته ويحبها، وعندما يتزوجها ينتهي الحب؛ لأن الرجل يتصور أنه وصي على المرأة فلا تسافر إلا بإذنه، ويطلقها كيف يشاء، ويتزوج عليها كيف يشاء أربعة، أما هي فلا تستطيع ... من يقبل هذا، ولا يمكن قبوله؛ ولذلك أنا كنت ساذجة عندما تزوجت، والحمد لله أني قدرت أخلع اثنين، لكن في الزواج الثالث كنت حريصة جدّاً مع "شريف"، وشعرت أن ورقة الزواج لا قيمة لها وعملناها علشان أولادنا يبقوا شرعيين أمام القانون ورميناها".
وطالبت السعداوي بنسبة الولد لأمه وأبيه وقالت: "ثلاثة أرباع العالم يفعلون ذلك، وإن دعوة القرآن لدعوة الأبناء لآبائهم حالة معينة، فلا ينبغي أن نَأْخُذ نصف الآية ونترك نصفها".
رواية "سقوط الإمام"
وإذا ما وقفنا عند روايتها "سقوط الإمام" التي رفض مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر تداولها منذ مدة، نجد أنها تتضمن اقتباسات عديدة يجمعها عنوان واحد هو "السخرية والتهكم" من كل مفردات التعاليم الإسلامية عقيدة وشريعة.
فقد أكد المجمع أنه لا يحسن أن تكون الرواية في متناول القراء؛ حفاظاً على الروح الدينية من الضعف والابتذال، وقال في تقريره: "إن الرواية قائمة على عدة أحداث خياليّة، البطل فيها شخصية محورية أشير إليه بكلمة "الإمام"، ومن خلال الأحداث تقوم هذه الشخصية بأفعال لا تتفق مع القيم والأخلاق، ومن هنا جاءت كلمة "سقوط" التي أضيفت إلى كلمة "الإمام" في عنوان الرواية، والمؤلفة أوردت كثيراً من الأفكار التي تنحو نحو الإساءة إلى الإسلام وإلى تعاليمه وثوابته، ويبدو ذلك من خلال الاقتباسات العديدة التي تضمنتها الرواية.(/8)
وأوضح المجمع أن عنوان الرواية "سقوط الإمام" فيه دلالة على فكرة تريد الكاتبة أن ترسلها للقارئ الذي تعلم أن لديه خلفية من الإجلال لكلمة "الإمام" حيثما أطلقت ... وهذه الفكرة هي عدم الثقة في أولئك الذين تطلَق عليهم هذه الكلمة في المصطلحات الإسلامية، وأن يكون الشك في سلوكهم هو الأساس؛ ومن ثَمَّ يكون الانصراف وعدم التلقي عنهم.
وأورد تقرير المجمع عن الرواية نماذج من النصوص التي تحمل سخرية وتهكُّماً بالثوابت والتعاليم الإسلامية، ففي صفحة (18) تقول المؤلفة: "الموت البطيء هو الرعب الحقيقي، يربطونني بالحبال داخل حفرة في الأرض، يقذفونني بالحجارة حجراً وراء حجر، يوماً وراء يوم ... إن مات جسمي فلن تستسلم روحي، يرهقهم الرجم بالأحجار قبل أن أموت ... يتحول جسدي إلى صخرة يرتد عنها الحجر..." وهي هنا تريد أن تشير إلى "حد الرجم" في الإسلام.
وقد وردت نفس الإشارة من المؤلفة في صفحة (27) حيث تقول: "تبدأ حصة الدين .. يسأل: ما عقاب السرقة؟ .. يهتف الأطفال في نفس واحد: قطع الذراع .. وما عقاب الزنا؟ ويرن صوتنا في الفناء : الرجم بالحجارة حتى الموت .. ويدب الصمت حتى يسمع كل منا أنفاس الآخر".
وفي صفحة (96) تقول : "لكل مشكلة حل، والحل الوحيد هو العودة إلى حظيرة الدين والإيمان بالله والرسول، قالوا: والإشعاع النووي ما علاجه؟ قلت: الصلاة وصوم رمضان .. قالوا: ومشكلة الغلاء والجوع؟ قلت: قطع يد السارق وتحجيب النساء" .. والتهكم واضح بالفرائض والحدود وتستُّر النساء.(/9)
وفي صفحة (123) جاء في الرواية : " قال : لا يجتمع رجل وامرأة في خلوة غير شرعية إلا والشيطان ثالثهما، قالت: إنه أخي، قال : أنت أخته في الرضاع وحبكما حرام، قالت: لم يكن لنا أم ولا مرضعة وشربنا لبن الجاموسة معاً في بيت الأطفال، قال: جاموسة أو امرأة سيان فهي ترضع، ولها أثداء ، وهو أخوك في الرضاع بأمر الإمام، وعقابك الرجم حتى الموت.." فهل بعد ذلك من تهكم واستهزاء؟
وهكذا تصر السعداوي على إثارة الزوابع حول أفكارها الشاذة؛ لتصبح حديث وسائل الإعلام بعد أن أَفَل نجمُها، وعندما ينساها المجتمع ويتغافل أفكارَها ويغيب ذكرها عن ساحة الفكر في البلدان العربية والإسلامية سرعان ما تخرج من جديد لتثير الزوابع حول الثوابت الإسلامية وتهاجم الحجاب وتعدد الزوجات ونظم المواريث، كما حدث منذ مدة في حوارها مع موقع "إيلاف" على الشابكة (الإنترنت) الذي هذت فيه هذياناً كبيراً، وتجرأت على العلماء والأدباء وكبار المفكرين. فقالت بالنص : "أنا أهم من العقاد وطه حسين، وأعلم في القرآن من الشيخ الشعراوي، وكتبي تجاوزت قاسم أمين"، "الحجاب مفروض للجواري، ولا أدري لم لا أتزوج أربعة"، "الدين ليس نصّاً ... والله ليس كتاباً يخرج من المطبعة"، "(ربنا) لا دخل له بالسياسة؛ لأنني لا أستطيع أن أعارضه" ، "يجب ألا نمشي خلف الرسول في الخطأ" ، "(الحج) و(الصلاة) بالطريقة الحالية (غلط) ... وتقبيل الحجر الأسود (وثنية) …" إلى آخر الأباطيل التي هَذت بها في الحوار الطويل.
فهل ما تقوله هذه السعداوي يدخل في باب حرية الفكر والرأي؟ أو أنه خروج صريح على تعاليم الإسلام وطعن في ثوابته؟(/10)
إن الفرق كبير بين حرية الفكر والإبداع، وبين حرية الإسفاف والدعارة الفكرية، فمن قال: إن تحقير الأديان والمقدسات الدينية بما في ذلك ذات الله سبحانه وتعالى، والرسول - صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، واليوم الآخر، والقيم الدينية ... إبداعٌ، فإنه كفر وزندقة، وليس هذا كلامنا - حتى لا نتهم بتكفير أحد - بل كلام علماء الأمة وإجماع فقهائها منذ العهد النبوي وإلى الآن، وما ورد في أفكار السعداوي من استخفاف بالقرآن الكريم، وتطاول على ربِّ العزة، والدعوة إلى الإباحية الجنسية، ومعاداة نظام الزواج ليس إبداعًا، لكنه إسفاف وزندقة، ونوع من الدعارة الفكرية من أسوأ ما يتخيله إنسان منحطّ.
الإسلام وحرية الفكر:
إن ما تروِّج له الدكتورة نوال من أفكار -كما قال الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق- يعد خروجاً عمّا هو معلوم من الدين بالضرورة، وينتهك المقدسات الدينية، والشرائع السماوية، والآداب العامة، والقيم القومية، ويثير الفتن ويزعزع تماسك وحدة الأمة التي هي الركيزة الأساسية لبناء الدولة. فمَن مِن البشر يُقِرّ ازدراء الأديان والتطاول على الذات الإلهية تحت مسمى الإبداع الأدبي؟!(/11)
وقال د. واصل : "هذه السيدة تحتاج أن أناقشها فيما نُسِب إليها وما قالته؛ لأُبَيِّن لها الحلال والحرام فيما قالت به، ولأرشدها إلى ضرورة التخلي عن هذا الكلام الفارغ الذي لا يقول به عاقل أو أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب ... وهي إن أصرت معتقدة ما تقول فقد كفرت بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أنها أنكرت حقائق الإسلام المستقرة، وأما لو كان الخلاف حول قضايا تتعلق بالمعاملات أو قضايا فرعية لقبلناه منها ... ثم لماذا تدخلت الدكتورة فيما لا يعنيها؟ ولماذا حشرت نفسها في زمرة العلماء المجتهدين في الدين؟ أنا لا أسمح لنفسي أن أجتهد في الطب بدلاً عن الطبيب، ولا تطاوعني نفسي أن أجتهد في الزراعة عوضاً عن الفلاح؛ فالأشغال والأعمال تخصص وخبرة ومعرفة وعلم، وأولى للدكتورة أن تفتح كتب الطب لتنظر في أمر داء يفتك بالبشرية لعلها تكتشف علاجاً له، أما أن تلبس قميص الاجتهاد تحت زعم حرية الفكر وحرية الاعتقاد فهذا محض تخريف وهُراء".
فهناك فرق بين الطعن في الدين وبين حرية الفكر، ونحن نؤمن بحرية الفكر ونُقَدّر الحوار والمناقشات؛ فلا قيد على حرية التفكير، ولا حجر على اختيار الآراء والأفكار إلا إذا كانت خارجة على الشرعية الدينية أو القانونية، وهذه هي ديمقراطية الإسلام {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}.
أما الطعن في الدين فهو واضح بَيِّن ... والطاعن يَرُدّ على الله أمره ويتهم الله بالجهل، وما قالت به الدكتورة نوال فهو خروج على الآداب العامة وينبئ عن سوء الخلق وقِصَر النظر وضحالة الفكر والبعد عن الموضوعية وعدم فهم مقاصد الدين الحنيف.
وفي النهاية نؤكد أن الشعوب المسلمة والشعبالمصري بجميع طوائفه في خندق الرافضين لازدِراء الأديان في الكتابات الصحفية والأعمال الروائية والثقافية؛ فهو شعب يَغَار على دينه وعقيدته .(/12)
ونحن لا نريد للزوبعة التي أقامتها السعداوي حول أفكارها البالية أن تَتَّسِع عن الحد المطلوب لها؛ حتى لا تصبح جنازة حارّة لميت مجهول يلفظ المجتمع أفكاره، فالشعب يفرق بين الرأي الحر النزيه وبين الإسفاف والدعارة الفكرية التي تخترِق كل الخطوط الحمراء، وتتطاول على الذات الإلهية، وتَسُبّ الأديان، وتعتبر الإسلام تخلُّفاً ورجعية.(/13)
العنوان: العناية بالصلاة والخشوع فيها
رقم المقالة: 690
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي فرض على عباده الصلوات لحكم بالغة وأسرار، وجعلها صلة بين العبد وبين ربه ليستنير بذلك قلبه، ويحصل له المطلوب في الدنيا ودار القرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الغفار، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار، وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى؛ وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين حافظوا على الصلوات بأداء أركانها وشروطها وواجباتها، ثم كملوها بفعل مستحباتها، فإن الصلاة عمود الدين، ولا دين لمن لا صلاة له. أيها المسلمون لقد فرضت الصلاة على نبيكم من الله تعالى إليه بلا واسطة، وفرضت فوق السماوات العلى، وفرضت خمسين صلاة حتى خفضت إلى خمس صلوات بالفعل، وخمسين بالميزان ألم يكن هذا أكبر دليل على فضلها والعناية بها. الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، يقف بين يديه مكبراً معظماً يتلو كتابه ويسبحه ويعظمه ويسأله من حاجات دينه ودنياه ما شاء جدير بمن كان متصلاً بربه أن ينسى كل شيء دونه، وأن يكون حين هذه الصلة خاشعاً قانتاً معظماً مستريحاً، ولذلك كانت الصلاة قرة أعين العارفين، وراحة قلوبهم لما يجدون فيها من اللذة والأنس بربهم ومعبودهم ومحبوبهم جدير بمن اتصل بربه أن يخرج من صلاته بقلب غير القلب الذي دخلها فيه أن يخرج منها مملوءاً قلبه فرحاً وسروراً وإنابة إلى ربه وإيماناً، ولذلك كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما يحصل للقلب منها من النور والإيمان والإنابة جدير بمن عرف حقيقة الصلاة وفائدتها وثمراتها أن تكون أكبر همه وأن يكون منتظراً إليها مشتاقاً إليها ينتظر تلك الساعة بغاية الشوق حتى إذا بلغها ظفر بمطلوبه، واتصل اتصالاً كاملاً بمحبوبه.(/2)
أيها المسلمون: إن كثيراً من المصلين لا يعرفون فائدة الصلاة حقيقة، ولا يقدرونها حق قدرها، ولذلك ثقلت الصلاة عليهم، ولم تكن قرة لأعينهم، ولا راحة لأنفسهم، ولا نورا لقلوبهم، ترى كثيراً منهم ينقرون الصلاة نقر الغراب لا يطمئنون فيها، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلاً، وهؤلاء لا صلاة لهم، ولو صلوا ألف مرة؛ لأن الطمأنينة في الصلاة ركن من أركانها، ولذلك ((قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي كان لا يطمئن في صلاته: (ارجع فصل، فإنك لم تصل). فصلى عدة مرات، وكل مرة يقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع فصل، فإنك لم تصل، حتى علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالطمأنينة))، وتجد كثيراً من الناس إن لم يكن أكثر الناس يصلي بجسمه لا بقلبه جسمه في المصلى، وقلبه في كل واد، فليس في قلبه خشوع؛ لأنه يجول، ويفكر في كل شيء، حتى في الأمور التي لا مصلحة له منها، وهذا ينقص الصلاة نقصاً كبيراً، وهو الذي يجعلها قليلة الفائدة للقلب بحيث يخرج هذا المصلي من صلاته، وهي لم تزده إيماناً ولا نوراً، وقد فشاً هذا الأمر أعني الهواجيس في الصلاة، ولكن الذي يعين على إزالته هو أن يفتقر العبد إلى ربه، ويسأله دائماً أن يعينه على إحسان العمل، وأن يستحضر عند دخوله في الصلاة أنه سيقف بين يدي ربه وخالقه الذي يعلم سره ونجواه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وأن يعتقد بأنه إذا أقبل على ربه بقلبه أقبل الله عليه، وإن أعرض أعرض الله عنه، وأن يؤمن بأن روح الصلاة ولبها هو الخشوع فيها وحضور القلب، وأن الصلاة بلا خشوع القلب كالجسم بلا روح، وكالقشور بلا لب، ومن الأمور التي تستوجب حضور القلب أن يستحضر معنى ما يقول، وما يفعل في صلاته، وأنه إذا كبر، ورفع يديه، فهو تعظيم لله، وإذا وضع اليمنى على اليسرى، فهو ذل بين يديه، وإذا ركع، فهو تعظيم لله، وإذا سجد، فهو تطامن أمام علو الله، وأنه إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ(/3)
الْعَالَمِينَ} أجابه الله من فوق عرشه قائلا: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، هكذا يجيبك مولاك من فوق سبع سموات، فاستحضر ذلك، وإنك إذا قلت: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، وإن كنت تقولها بصوت خفي، فإن الله تعالى يسمع ذلك، وهو فوق عرشه، فما ظنك إذ آمنت بأن الله تعالى يقبل عليك إذا أقبلت عليه في الصلاة، وإنه يسمع كل قول تقوله، وإن كان خفياً، ويرى كل فعل تفعله، وإن كان صغيراً، ويعلم كل ما تفكر فيه، وإن كان يسيراً، إذا نظرت إلى موضع سجودك، فالله يراك، وإن أشرت بأصبعك عند ذكر الله في التشهد، فإنه تعالى يرى إشارتك، فهو تعالى المحيط بعبده علماً وقدرة وتدبيراً وسمعاً وبصراً، وغير ذلك من معاني ربوبيته. فاتقوا الله تعالى، أيها المسلمون، وأقيموا صلاتكم، وحافظوا عليها، واخشعوا فيها، فقد قال ربكم في كتابه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}{إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(/4)
العنوان: العنوسة خطر يهدد المجتمعات الإسلامية
رقم المقالة: 786
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
- زيادة كبيرة في عدد العوانس ببعض الدول العربية، مثل: العراق، ولبنان، وسوريا، وتونس، والسعودية، والكويت، واليمن، وليبيا، وقطر، والبحرين، والإمارات.
- البطالة، والفقر، وضعف المستوى الاقتصادي، وأزمة الإسكان، والمغالاة في المهور.. عقباتٌ تقف دون زواج ملايين الشباب والفتيات.
- لجوء الفتيات إلى تقديم أنفسهن للزواج عبر الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، بوضع صورهن وأعمارهن، والشروط المتوافرة لديهن، ومواصفات الشخص المطلوب للزواج.
- الأمم المتحدة تعلن الحرب على الزواج المبكِّر، وتعده عنفاً موجهاً ضد المرأة!!
- انهيار القيم التقليدية، مثل تقديس العائلة, وغياب المفهوم الصحيح للزواج، كالسكن والمودة والرحمة .
- تغيرات اجتماعية عميقة حدثت في القيم والأعراف السائدة في المجتمع العربي، مثل: اللامبالاة، وعدم الرغبة في تحمل المسؤولية، والإحباط العام.
- الإسلام ييسر سُبُل الزواج، وينهى عن المغالاة في المهور، ويحضُّ على الإحصان والعفاف.
* * *
الإحصائيات التي نقرأها بين الحين والآخر عن عنوسة الرجال والنساء في الدول العربية تثير المخاوف، وتنذر بخطر داهم من تفشِّي هذه الظاهرة الاجتماعية، التي تعد من أمراض المجتمع التي يجب مواجهتها والحدّ من انتشارها، والبحث عن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والدينية التي أدَّت إليها، خاصةً وأن الإسلام يحضُّ على الزواج، وينهى عن الرهبنة والتبتُّل، ويشجع على العفاف وتكوين الأُسَر القوية، التي تعدُّ اللَّبِنَات الأولى في بناء المجتمع القوي المتماسك.(/1)
فقد أشارت أحدث إحصائية صادرة عن (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء) في مصر إلى وجود 9 ملايين شاب وفتاة فوق سن الخامسة والثلاثين لم يتزوجوا بعد, من بينهم 3 ملايين و 636 ألفاً و 631 امرأة, في حين وصل عدد الرجال إلى 5 ملايين و 246 ألفاً و 237 رجل.
وقالت الإحصائيات إن معدل العنوسة في مصر في تزايد مستمر، وتختلف النسبة من محافظة لأخرى , فالمحافظات الحدودية تبلغ النسبة فيها 30% ، أما مجتمع الحضر فالنسبة فيه 38% ، والوجه البحري 27.8% ، كما أن نسبة العنوسة في الوجه القِبْلي هي الأقل؛ حيث تصل إلى 25%.
كما أن عقود الزواج بلغت 63 ألف عقد فقط في عام 2005, هذا في الوقت الذي وصل فيه عدد حالات الطلاق إلى 78 ألف حالة , ووصل عدد الفتيات اللاتي تجاوزن سن 35 سنة دون زواج 35% ، و 20% منهن يتزوجن ما بين 35 و 40 سنة .
ولقد نشرت صحيفة "لاستامبا" الإيطالية قريباً دراسةً بعنوان "الفتيات العربيات والبحث عن زوج"، شملت جوانب عديدة من حياة الفتاة العربية بصفة عامة، أوضحت أن نسبة الفتيات اللاتي تقدم بهن سن الزواج في الوطن العربي في ارتفاع مطَّرد، مقارنةً بالعشر سنوات الماضية، مشيرةً إلى الزيادة الكبيرة في عدد العوانس ببعض الدول العربية، كالسعودية، والكويت، واليمن، وليبيا التي وصلت النسبة بها إلى 30% وفق ما جاء في الدراسة.
ولفتت الدراسة الأنظار إلى أن مصر - التي يوجد بها قرابة 35 مليون سيدة من أصل عدد السكان البالغ 75 مليون نسمة - زادت بها أعداد الفتيات غير المتزوجات؛ نتيجة ارتفاع البطالة بين الرجال، وتزايد الأعباء المادية لتوفير وتجهيز مسكن الزواج، فضلاً عن ارتفاع نسبة التعليم الجامعي بين الفتيات.(/2)
وقدَّرت الدراسة عدد الفتيات اللاتي لم يتزوجن في المرحلة العمرية من 18 إلى 20 عامًا بزهاء مليوني فتاة، ومن 20 إلى 25 بما يقارب المليون ومائة ألف فتاة، ومن 25 إلى 30 بما وصل إلى 800 ألف فتاة، ومن 30 إلى ما فوقها بما يزيد عن 400 ألف فتاة وسيدة، هم من الفاقدات لأزواجهن والمطلقات.
وأضافت أن نسبة غير المتزوجات في مصر تصل إلى قرابة 4 ملايين فتاة وسيدة، مشيرةً إلى لجوء الفتيات المصريات إلى تقديم أنفسهنَّ للزواج عبر الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، بوضع صورهنَّ وأعمارهنَّ، والشروط المتوافرة لديهنَّ، ومواصفات الشخص المطلوب للزواج.
وأكَّدت أن هناك نسبةً أخرى تعلن عن نفسها في الصحف وبعض مكاتب الزواج في مصر، وتوقعت أن تزيد نسبة الفتيات غير المتزوجات في الخمس سنوات القادمة؛ لتصبح ما بين 50 إلى 55%.
العنوسة في العالم العربي
وليست مصر وحدها التي تكتوي بنار العنوسة؛ بل تنتشر الظاهرة في العديد من الدول العربية والإسلامية بنسب مختلفة، طبقاً لظروف كل دولة، فالإحصاءات الرسمية تؤكد أيضاً أن العزوبية فرضت نفسها بقوة على واقعنا العربي، وأصبحت ظاهرةً تستحق التوقف عندها ودراستها جيداً؛ لإيجاد الحلول لها .
والأرقام تشير إلى انخفاض نسبة الزواج بدرجة كبيرة في الدول العربية, فالظاهرة تعدت مصر ونالت من أرجاء الوطن العربي؛ حيث كشفت دراسة حديثة أن 35% من الفتيات في كلٍّ من الكويت وقطر والبحرين والإمارات بلغْنَ مرحلة العنوسة, كما أن 50% من الشباب السوري رافضٌ للزواج , وأيضاً ثلث سكان الجزائر عوانس وعزاب , ولكن انخفضت هذه النسبة في كلٍّ من السعودية واليمن وليبيا لتصل إلى 30% ، بينما بلغت 20% في كلٍّ من السودان والصومال، و 10% في سلطنة عمان والمغرب, وكانت في أدنى مستوياتها في فلسطين ؛ حيث مثَّلت نسبة الفتيات اللواتي فاتهنَّ قطار الزواج 1% فقط! وكانت أعلى نسبة قد تحققت في العراق وهي 85%!!(/3)
وفي دولة مثل لبنان؛ نجد الأزمة الاقتصادية تلقي بثقلها الكبير على الأحوال التي تعيشها الأسرة اللبنانية؛ فترفع من حالات الطلاق، وترفع سنَّ الزواج، وتحوِّل الإقدام على هذا الارتباط الطبيعي الذي لا تستمر من دونه المجتمعات الإنسانية إلى ما يشبه المغامرة غير المأمونة العواقب.
ويرتفع سن الزواج حاليًا في لبنان بصورة ملفتة، وحسب المناطق؛ ففي بيروت - مثلاً - سن الزواج لدى الذكور هو 32 عاماً تقريباً، وهو قرابة 29 سنة في محافظتَي لبنان الشمالي ولبنان الجنوبي، والوضع مماثل لدى النساء فيما يتعلق بالفروقات العُمْريَّة؛ فسن الزواج الأول للنساء هو أقل من 26 سنة في لبنان الشمالي، وقرابة 29 سنة في لبنان الجنوبي، ويعود سببها إلى المستوى الثقافي للذكور والإناث، وقد يرتبط ببعض العادات والتقاليد.
وفي تونس كشف مسح للسكان أجري منذ سنوات تأخُّر سن الزواج؛ حيث تبين أن نسبة الرجال غير المتزوجين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 سنة قد زادت من 71 % في عام 1994م، إلى نسبة 81.1 % عام 2000م، أما في صفوف النساء؛ فقد بدا الأمر للبعض مثيرًا أكثر للقلق؛ حيث قفزت نسبة الإناث غير المتزوجات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 20 و24 سنة إلى حدود 79.7 % من مجموع هذه الفئة العُمْريَّة. أما الإناث اللاتي يتراوح سنهن بين 25 و29 عامًا؛ فقد بلغت نسبة العازبات منهن 47.3 % من المجموع الإجمالي لهذه الشريحة، ويتبين من نتائج المسح أن هذه النسبة لم تتجاوز في عام 1994م معدل 37.7 %، أي أنه في ست سنوات فقط تعززت ظاهرة العنوسة بإضافة 10 % من الفتيات التونسيات، وتأخر سن الزواج عند الشبان إلى حدود 32 عاماً، وعند الإناث إلى 29 عاماً؛ لهذا عبَّر البعض عن قلقه ومخاوفه من الانعكاسات السلبية التي يمكن أن تنتج عن هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة.(/4)
وهكذا يتأكَّد لنا أن ظاهرة العنوسة تتفشَّى في مجتمعنا العربي والإسلامي بصورة مخيفة، نتيجةً للعديد من الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تقف عقبةً دون زواج ملايين الشباب والفتيات، مثل البطالة، والفقر، وضعف المستوى الاقتصادي، وأزمة المساكن، ومغالاة العديد من الأسر في المهور ومتطلبات الزواج؛ مما يرهق كاهل الشباب، ويدفعهم إلى العزوف عن الزواج.
الزواج العرفي والسري
ولقد ترتب على انتشار هذه الظاهرة البحث عن طرق خفية وسهلة للزواج بين الشباب، مثل الزواج السري والعرفي، الذي بدأ يستشري بين طلبة الجامعات في مواجهة تعقيدات الزواج الرسمي ومتطلباته الكثيرة، فقد كشفت دراسة إحصائية أجراها (المجلس القومي للسكان في مصر) عن تفشِّي ظاهرة الزواج السري، خاصةً بين طالبات الجامعات المصرية، وبيَّنت الإحصاءات وجود 400 ألف حالة زواج سري، وأن أغلب الحالات بين الشباب والفتيات الذين تراوح أعمارهم ما بين 18 - 30 سنة، وأن نسبة الزواج السري بين طالبات الجامعة تمثٍّل 6% من مجموع الطالبات المصريات، وكشفت دراسة أخرى للمركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر عن وجود 30 ألف حالة زواج عرفي بين أصحاب الشركات وسكرتيراتهم.
الأمم المتحدة والعنوسة
وفي الوقت الذي تكتوي فيه الدول العربية والإسلامية بنار العنوسة وسلبياتها، نجد (الأمم المتحدة) تسعى الى نشر مبادئ تتنافى مع تعاليم الإسلام، وتحارب عفة الرجال والنساء، فهي تعلن الحرب على الزواج المبكر، وتعده عنفاً موجهاً ضد المرأة، وفعلاً مذموماً ينبغي القضاء عليه نهائياً، وفى نفس الوقت تسعى لنشر الإباحية، والتأكيد على حق النساء فى إشباع احتياجاتهن الجنسية بالصورة التي يرينها، وفى الوقت الذى تقتضيه الحاجة؛ بغضِّ النظر عن المرحلة العُمْريَّة التي يمررن بها.(/5)
فعلى الرغم من أن متوسط سنّ الزواج فى دولة مثل ليبيا 32 سنة للذكور و29 سنة للإناث، وفى مصر 30 سنة للذكور و26 سنة للإناث، وفى سوريا 30 سنة للذكور و25 سنة للإناث؛ فإن الأمم المتحدة ترى أن الزواج المبكر يعوق تعليم المرأة وعملها، ومن ثمَّ على الفتاة أن تقدِّم تعليمها وعملها على الزواج، فالمادة (93) من (التقرير العالمى للمرأة) الذى عقد فى العاصمة الصينية بكين عام 1995م، وتعقد له مؤتمرات تقييمية دورية، تنصُّ تلك المادة على أن الزواج المبكر والأمومة المبكِّرة للشابَّات يمكن أن يحدَّ بدرجة كبيرة من فرص التعليم والعمل، ومن المرجح أن يترك أثراً ضارّاً طويل الأجل على حياتهنَّ وحياة أطفالهنَّ.
ونحن كمسلمين نقف من برنامج الأمم المتحدة الخاص بالمرأة موقفاً قوياً وثابتاً وشجاعاً، من منطلق قيم الإسلام العظيمة، وتشريعاته القويمة الخاصة بالمرأة والأسرة؛ فالبرامج التي تُطرح دائماً في المؤتمرات العالمية للمرأة تحمل العديد من الأفكار الهدَّامة، التي تعصف بالأسرة والمرأة والمجتمع بأسره؛ حيث يغفَل الدين في برنامج (هيئة الأمم المتحدة)، وأن ما يحتويه البرنامج من أفكار سيئة ومبادئ هدامة وخطيرة على الإنسانية بصفة عامة، وعلى البلاد النامية بصفة خاصة، والإسلامية منها بصفة أخص، هي التي قد أثارت عواصف الاعتراضات على مؤتمرات الأمم المتحدة، وساعدت على كشف الحجم الهائل من الشرور والمضارِّ التي حملتها برامجها الخاصة بالأسرة والمرأة، وخالفت بها الأديان السماوية عامة، والدين الإسلامي خاصة.
كما أن برامج الأمم المتحدة تشجع الأطفال والمراهقين والشباب - وخاصة الشابات - على مواصلة تعليمهم؛ لتهيئتهم لحياة أفضل، وزيادة إمكاناتهم البشرية؛ للمساعدة في الحيلولة دون حدوث الزيجات المبكرة، كما يدعو إلى أن تعمل البلدان على إيجاد بيئة (اجتماعية – اقتصادية) تفضي إلى إزالة الترغيب عن الزواج المبكر.(/6)
وهذا يعني أن البرنامج يدعو إلى رفع سن الراغبين في الزواج، عن طريق محاربة الزواج المبكر لدى الشباب من الجنسين، وفي هذا معارضة صريحة لتعاليم الإسلام، التي تدعو إلى الزواج وتحثُّ عليه، ما دامت القدرة عليه قد تحققت، والاستطاعة قد تيسَّرت؛ وفي ذلك يقول تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قدر على أن ينكح فلم ينكح؛ فليس منا))!!
وكان هذا الموقف للشريعة الإسلامية من منطلق الحرص على صلاح المجتمع، وإعلاء راية العفة والطهارة في ربوعه، وسد منافذ الفساد، وإغلاق الثغرات التي يتولد منها الشذوذ الجنسي، ولن يكون ذلك إلا بالعمل على تقليل عدد العزَّاب والعوانس بين أفراد مجتمع المسلمين، كما أن تأخيره يؤدي إلى شيوع الفاحشة، ومن ثمَّ زيادة الأطفال اللقطاء، أو إباحة الإجهاض، وضياع الحقوق، وتوقف عجلة الإنتاج، وتفاقم المخاطر والمشكلات في المجتمع.
أسباب متعددة للعنوسة
وبغضِّ النظر عن الأفكار والبرامج التي تسعى (الأمم المتحدة) إلى نشرها على مستوى العالم، التي تتعارض في معظمها مع أخلاقنا وشريعتنا الإسلامية وتعاليم ديننا؛ فإن هناك مجموعة من الأسباب أدت إلى انتشار ظاهرة العنوسة، يتحدث عنها الدكتور (يوسف القرضاوي) فيقول: "لا شك أن العنوسة هي إحدى المشكلات الكبيرة التي تعانيها مجتمعاتنا العربية والإسلامية عامة، وهي مكمِّلة لمشكلة أخرى، هي مشكلة العزوبة عند الرجال؛ فهما مشكلة واحدة، تعني تأخر الزواج بالنسبة للفتاة والفتى.(/7)
والواقع أن هذه الظاهرة لها أسبابٌ كثيرة، منها أن الزواج أصبح يكلِّف كثيراً جدّاً، وهو ما يرهق الشاب، خاصةً في بداية حياته العمليَّة، فمن أين يأتي بتكاليف الزواج الباهظة وهو يخطو الخطوات الأولى في السلم الوظيفي؟! فلابد أن يكون هناك من يساعده على تحمل أعباء الزواج.
والواقع يؤكد أن الناس هم الذين عسَّروا ما يسَّر الله - عزَّ وجلَّ - وعقَّدوا ما سهَّله الشرع؛ فالزواج في الشرع أمرٌ سهلٌ ويسير، ولكنَّ الناس هم الذين عسَّروه وصعَّبوه بما وضعوا من عقبات، وما وضعوا من تكاليف، فأصبح الشاب لا يستطيع تحمل كل نفقات الزواج؛ فيتأخر دوره في عملية الزواج وإقامة أسرة جديدة، وربما فكر في الزواج من خارج البلاد؛ حتى لا يتحمل هذه المشاق، ويجد من تسانده في تحمل الصعاب!!
كما نجد تشدد الآباء في أمور الزواج؛ فالواقع أن بعض الآباء يتشدَّدون في اختيار شريك حياة ابنتهم، فهو يشترط شروطاً معينة، وكثيراً ما يأتي الخُطَّاب لابنته ويردُّهم، هذا لأنه من طبقة دون طبقته، أو قبيلة غير قبيلته، وهو ما لم يقرُّه ديننا الإسلامي الحنيف؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض)).
وهناك أسباب متعلقة بالأعراف والتقاليد، ومنها أن الفتاة يجب عليها أن تتزوج من ابن عمها، وأحياناً يكون ابن العم غير مستعد للزواج في هذا التوقيت، فتظل الفتاة محجوزةً له فقط، وهو لا يريدها، وهي لا تريده، وهذا التقليد موجودٌ في بلاد كثيرة.
وهناك أسباب تتعلق بتعليم المرأة؛ حيث يعدُّ إكمال الدراسة من الأسباب الرئيسة التي ساهمت في ظهور العنوسة وتأخُّر زواج الفتيات؛ حيث إن بعض الفتيات يُرِدْنَ إكمال تعليمهنَّ والالتحاق بوظيفة أولاً، وهو ما يؤدي بدوره إلى بقائها في منزل أهلها دون زواج لمدة طويلة".(/8)
"وكل ما أودُّ قوله – وما زال الكلام للدكتور (القرضاوي) - هو أن الأهل يجب عليهم الالتزام بتعاليم الدين الحنيف في تيسير عملية الزواج على الشباب؛ فلا يرهقوا الشاب بما لا يتحمله، فالحياة هينة وسهلة، ولا تستحق كل التعقيدات التي يضعها الأهل في طريق الشاب المقبل على الزواج؛ فقد حثَّنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على النظر للدين؛ فالرجل المتدين هو الذي يرعى الله في زوجته وأهله؛ فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض))، وهذا يعني أن الالتزام بتعاليم الدين هي أهم صفة يجب النظر إليها عند اختيار شريك حياة الفتاة.
فالزواج سكنٌ ورحمةٌ ومودَّةٌ بين الزوجين، وليس مالاً وجاهاً ومركزاً مرموقاً؛ فقد قال الله – تعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، فكلام الله - تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يوجب علينا الالتزام به، حتى نصل بأبنائنا إلى الطريق المستقيم؛ ليحيوا حياةً طيبةً".
التغيرات الاجتماعية
وإلى جانب الأسباب التي ذكرها الدكتور (القرضاوي)، نجد أن بعض خبراء الاجتماع يُرجع انتشار العنوسة إلى التغيرات الاجتماعية العميقة التي حدثت في القيم والأعراف السائدة في المجتمع العربي في السنوات الأخيرة، مثل اللامبالاة، وعدم الرغبة في تحمل المسؤولية، والإحباط العام، وفقدان الشعور بالأمن والثقة في المستقبل, وهذه العوامل تأتي قبل العامل الاقتصادي، الذي يتمثل في الدخل المتدنِّي، وندرة فرص العمل، والبطالة المتزايدة .(/9)
والبعض الآخر يرجعها إلى انهيار القيم التقليدية، ومنها تقديس العائلة, وإلى مجموعة القيم الاستهلاكية التي طفت على السطح؛ بحيث أصبح الفرد يقاس بما يملك أو بما يدفع ، إضافةً إلى غياب المفهوم الصحيح للزواج كالسكن والمودة والرحمة ، وغياب دور الأسرة في توعية أبنائها وتربيتهم علي تحمل المسؤولية وتفهُّم معني الزواج، وإعداد أبنائها وبناتها للقيام بهذا الدور .
كما أن هناك منظومةً من القيم الضاغطة في الأسرة، تتمثل في التباهي بقيمة (الشَّبْكَة) و(المؤخَّر) و(جهاز العروسة)، وإقامة الأفراح في الأماكن اللائقة بمستوى الأسرة، مما أدَّى إلى ارتفاع تكاليف الزواج وصعوبته هذه الأيام، وبالتالي أدَّى إلى انتشار الزواج العرفي، وجرائم الاغتصاب , والشذوذ، والأزمات النفسية .
الإسلام والعنوسة
والإسلام ينظر إلى ظاهرة العنوسة باعتبارها تعطِّل مقصداً هامّاً من مقاصده؛ فقد شرع الإسلام الزواج لمقاصد سامية، منها أنه وسيلة من وسائل العفاف والإحصان والعفَّة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاء))، كما أنه سببٌ لبقاء النوع البشري، ووسيلة إيجابية لتحقيق الأمومة والأبوَّة، وإقامة مجتمع مسلم.(/10)
ولا شك أن الإسلام قد وضع الحلول القويمة لمواجهة (غول) العنوسة، الذي يلتهم الشباب والفتيات دون استثناء، وذلك عندما دعا إلى تيسير الزواج وعدم المغالاة في المهور، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ فإن لم تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير))، وحضَّ القرآن الكريم على الزواج؛ لما فيه من مودَّة وسكن ورحمة؛ في قوله تعالي : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، ولكننا خالفنا هذه التعاليم النبوية؛ فوقعت الفتنة والفساد الكبير، المتمثل في العنوسة، والزواج السري والعرفي، والعلاقات المحرمة.(/11)
ولقد بدأنا ندرك اليوم عظمة ديننا الحنيف مع تزايد طوابير العانسات والمطلقات والأرامل في المجتمع العربي والإسلامي، وبدأ البعض يفكر في سُنَّة تعدُّد الزوجات في مواجهة العنوسة، وينادي بها، وظهرت جمعيات في بعض الدول العربية تتبني سنة التعدُّد، مثل جمعية (الحق في الحياة) في مصر، والتي أسستها وترأسها صحفيَّة مصرية، وهي ترفع شعار ((زوجة واحدة لا تكفي)) – وهذا كلام قد يغضب الكثير من النساء! - فعندما أباح الإسلام تعدد الزوجات لم يُبِحْهُ عبثاً، وإنما لحكمة عظيمة، يعلمها كل من يفكر في أحوال المجتمع البشري وطبائع الرجال والنساء، فالرجل لا يلجأ إلى التعدد إلا لتحقيق بعض المصالح والمنافع التي قد لا توفرها له الزوجة الواحدة، ويكون التعدد في هذه الحالة لتحقيق مصلحة كبيرة، تحمي الزوج من اتخاذ الخليلة أو العشيقة، والوقوع في الحرام والمحظور؛ بل قد يحقق التعدُّد للمرأة - في كثير من الأحيان - مصلحةً اجتماعيةً كبيرةً، حتى لا تعيش عانساً أو أرملةً أو مطلقةً دون زوج، ولأن ترضى بنصف أو ربع زوج، خيرٌ لها من أن تعيش وحيدةً بلا رجل على الإطلاق.
ولقد بدأ المجتمع الغربي نفسة يدرك أهمية تعدد الزوجات في الحفاظ على المجتمع من الانحرافات الخُلُقية والاجتماعية؛ يقول الكاتب الإنجليزي (برتراند رسل): "إن نظام الزواج بامرأة واحدة، وتطبيقه تطبيقاً صارماً، قائمٌ على افتراض أن عدد أعضاء الجنسين متساوٍ تقريباً، وما دامت الحالة ليست كذلك؛ فإن في بقائه قسوةً بالغةً لأولئك اللاتي تضطرهن الظروف إلى البقاء عانسات".
ومما لا شك فيه أن تيسير سبل الزواج، والأخذ بسُنَّة التعدُّد هو أقوم الطرق وأعدلها لمواجهة المشكلات الاجتماعية المترتبة على انتشار ظاهرة العنوسة ووجود عدد كبير من المطلقات والأرامل؛ فلم يشرع الإسلام التعدُّد إلا لصالح المجتمع وصالح الأسرة، ومعالجة ما قد يصيب المجتمع من أمراض.
المراجع(/12)
1- الأمم المتحدة وصناعة العنوسة. الهيثم زعفان، موقع (اللجنة الإسلامية الدولية للمرأة والطفل)، 5 مارس 2007م.
2- 5.5 مليون رجل عانس في مصر ! رانيا حفني، الأهرام، 23 فبراير 2007م.
3- أربعة ملايين فتاة غير متزوجة في مصر! حسين عودة، جريدة المصريون الألكترونية، 30 يناير 2007م.
4- العنوسة مشكلة العصر. عزيزة محمود، موقع محيط، 28 أبريل 2001م.
5- في لبنان: العُنوسَة تهدِّد النساء. سالم مشكور، الإسلام على (الإنترنت)، 21 مايو 2000م.
6- في تونس: العنوسة ظاهرة اجتماعية. صلاح الدين الجورشي، الإسلام على (الإنترنت)، 21 مايو 2000م.(/13)
العنوان: العوامل الأسرية للجريمة - دراسة ميدانية
رقم المقالة: 269
صاحب المقالة: عبدالله مرقس رابي
-----------------------------------------
مقدمة
تناولت عدة دراسات ظاهرة الإجرام من مختلف جوانبه، من حيث أسبابه وضبطه، وتمتد هذه الدراسات إلى ما يقارب قرناً من الزمن، منذ أن فتح العالم الإيطالي المعروف (لومبروزو) باب العلم لدراسة المجرم ودون الاقتصار على دراسة الجريمة فقط، فكثرت البحوث لتشخيص الأسباب المؤدية إلى الإجرام، ومنها ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية التي تتضمن العوامل الأسرية، سواء للبالغين من المجرمين أو الأحداث الجانحين.
وفي قطرنا تركزت البحوث حول العوامل الأسرية لجنوح الأحداث فقط، وانعدمت في محافظة نينوى تقريباً بإستثناء دراسة (الدكتور فخري الدباغ) عن جنوح الأحداث بصورة عامة. فكان هذا الدافع الأساسي الذي جعل الباحث يقوم بإجراء البحث عن المجرمين البالغين. الذي تضمن محاولة لدراسة الحالة الأسرية الأصلية لهم، والحالة الأسرية للمتزوجين منهم، وذلك عن طريق التعرف على بعض المواقف الإجتماعية والنفسية التي تعرضوا لها منذ الطفولة في أسرهم، ويتألف البحث من ثلاثة مباحث الأول يتناول جانباً نظرياً، والثاني إجراءات البحث، وتضمن الثالث تحليل ومناقشة نتائج البحث.
المبحث الأول
الإطار النظري
أهمية البحث والهدف منه:
تبدو أهمية البحث واضحة في أنه يبحث أهم العوامل الاجتماعية التي تدفع الفرد لارتكاب الجريمة التي تتفاقم يوماً بعد آخر في مختلف المجتمعات، وهي العوامل الأسرية، وتأتي أهميته من جهة أخرى في أنه يبحث في هذه العوامل ضمن محافظة نينوى التي تفتقر إلى هذه الدراسات. وقد يخرج أيضاً ببعض المقترحات التي نستفيد منها للحد من إنتشار الجريمة.
أما الهدف من البحث فهو التعرف على العلاقة بين الحالة الأسرية وإرتكاب الأفراد للجريمة.
الأسرة وعلاقتها بالجريمة:(/1)
إن الاهتمام بالعوامل الأسرية وعلاقتها بالجريمة امتداد للأفكار التي نظرت إلى الجريمة كظاهرة اجتماعية، حيث يعد الوسط الاجتماعي الأسري من العوامل الاجتماعية المهمة التي تدفع الفرد لإرتكاب الجريمة، فليس هناك شك في أن وجود الأسرة في حد ذاته يعد عاملاً من العوامل المهمة للتنشئة الاجتماعية السوية. لأن وجود الأسرة هو الذي يسمح للفرد بالتدرب على الحياة الاجتماعية[1]. لأن ما يضعه المجتمع من معايير وقواعد أخلاقية يتم نقلها إلى الأفراد عن طريق التنشئة الاجتماعية، فهذه القواعد تضبط بشكل فاعل السلوك الفردي لصالح المجتمع[2]. إذ تبدأ علاقة الأسرة مع الأبناء منذ ميلادهم، حيث تؤكد الدراسات الاجتماعية والنفسية أن تجارب التعلم الأولى للأطفال في التنشئة المبكرة تؤسس أنماط سلوك وعادات وتصورات تتسم بالديمومة، والتأثير في استجابات الفرد عند النضج[3].
وبهذا تكون الأسرة الوحدة الاجتماعية الأولى التي تحدد وتصقل شخصية الفرد طالما أنها تلعب دوراً هاماً وبارزاً في تقرير النماذج السلوكية للفرد[4].
ولعل هذا هو السبب الرئيس في أن نسبة كبيرة من البحوث ومدارس الفكر في علم الإجرام خلال هذا القرن قد اهتمت بالعلاقة بين الحالة الأسرية والجريمة[5]. إذ أنها أحياناً لا تعدو أن تكون إحدى الجماعات العديدة التي قد ترتبط بالسلوك المنحرف، سواء كان هذا الارتباط في ضوء المعايير أو في ضوء العلاقات الاجتماعية[6]. ويتبين بوضوح دور الأسرة المؤثر والفعال بالجريمة في المجتمع المعاصر، إذ أن المتغيرات الجديدة كالتحضر، والتصنيع، والحراك الاجتماعي وشبكات الاتصال المعقدة، وانساق القيم المتغيرة، كان لها الشأن في الأثر على بناء الأسرة وأداء وظائفها، فحولت بعض الأسر إلى حالة التصدع.(/2)
ففي دراسة لكل من (شلدون جلوك) و(اليانور جلوك) سنة 1939م – 1949م على (500) نزيل في إصلاحية (ماستثوسس) ظهران حوالي 60% من النزلاء جاءوا من أسر متصدعة[7]. وفي دراسة أخرى لكل من (شو) و(ماكاي) حول الوضع الأسري لمجموعة من المنحرفين وجد أن 42.5% منهم جاءوا من أسر متصدعة بالمقارنة مع مجموعة ضابطة حيث أن 36.1% كانوا من الأسر غير المتصدعة[8]. وفي ألمانيا توصل (بون هوبر) من دراسة (110) من المجرمين الخطيرين الذين حكم عليهم، أن 45% قد أحاطت بهم ظروف أسرية سيئة[9].
وما يتعلق بالتعامل بين الوالدين والأبناء، فقد وجد (هيلي وبرونر) في دراستهما على (4000) حالة أن 40% منهم قد جاءوا من أسر ينعدم فيها التقويم وتسود النشئة الخاطئة[10].
وبالنسبة إلى الحرمان العاطفي، فقد وجد (هير تزول وستوريا) بفحصهما عدداً من الدراسات حول الموضوع، بأن هناك علاقة بين الجريمة والحرمان العاطفي للأبناء بسبب فقدان أحد الوالدين[11].
أما ما يتعلق بالحالة الاقتصادية للأسرة، فيرى فريق من العلماء من أشهرهم العالم الهولندي (وليم بونجيه) و(كولاني) و(توراني) وجود علاقة بين سوء الأحوال الاقتصادية للأسرة وإرتكاب أفرادها للجريمة[12].
وتبين أن للظروف السكنية علاقة بدفع الفرد للجريمة[13]. وظهر كذلك وجود علاقة بين المستويات التعليمية لأفراد الأسرة وإرتكابهم للجريمة[14].
وللقيم الاجتماعية التي تعتقد بها الأسرة كأن تكون ريفية أو حضرية تأثير على الفرد وتدفع به إلى الجريمة. إذ تكبر جرائم القتل للثأر وغسل العار في الريف وتقل في الحضر، وعلى الأغلب تمتاز الجريمة في الريف بدافع الانتقام حتى لو كانت السرقة أحياناً[15].
المبحث الثاني
إجراءات البحث
أولاً: تحديد المفاهيم:
وردت مفاهيم أساسية في البحث وفيما يأتي المقصود بها لأغراض هذا البحث فقط:(/3)
1 - الجريمة: تعرف الجريمة قانوناً. هي كل فعل يقرر له النظام القانوني عقوبة جنائية. وتعرف اجتماعياً: تلك الأفعال التي تمثل خطراً على المجتمع أو تجعل من المستحيل تحقيق التعايش والتعاون بين الأفراد والذين يكونونه[16].
2 - المجرم: وهو الشخص الذي يرتكب الفعل الإجرامي متى أسند إليه ذلك بشكل جدي[17].
3 - الأسرة: تشير إلى مجموعة من المكانات والأدوار المكتسبة عن طريق الزواج والولادة، وتتكون من الأب والإبن والأم والأبناء وبعض الأقرباء[18].
4 - الحالة الأسرية: تشير إلى الظروف الاجتماعية – بما فيها نمط العلاقات الاجتماعية والعواطف والظروف الاقتصادية والثقافية – للأسرة.
5 - العلاقات الاجتماعية: هي أي اتصال أو تفاعل أو تجاوب يقوم بين شخصين أو أكثر لغرض إشباع الحاجات الأساسية والثانوية للأشخاص الذي يكونون العلاقة، ويدخلون ضمن حدودها[19].
6 - الحرمان العاطفي: يستعمل هذا المصطلح لتغطية عدد من حالات الاضطراب (رابطة التعلق) والتي تؤثر سلباً في الطفل عندما يفقد أحد الأبوين بسبب الوفاة أو الطلاق أو النزول في المستشفى[20].
7 - القيم: تمثل مبادئ تحتضنها أعداد كبيرة من أعضاء المجتمع وتتصف بكونها مرغوبة ومقبولة وأنها تتغلغل في كافة أقسام وعناصر حضارة المجتمع[21].
ثانياً: فرضيات البحث:
1 - كلما زادت العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة سوءاً، إزداد احتمال إرتكاب الفرد للجريمة.
2 - كلما زاد الحرمان العاطفي لأبناء الأسرة، إزداد احتمال إرتكاب الفرد للجريمة.
3 - كلما زادت الحالة الاقتصادية للأسرة سوءاً، إزداد احتمال إرتكاب الفرد للجريمة.
4 - كلما زاد تمسك الأسرة بالقيم الريفية، إزداد احتمال إرتكاب الفرد للجرائم الانتقامية.
5 - كلما ارتفع المستوى التعليمي قلت الجرائم المرتكبة بين أفراد الأسرة.
ثالثاً: عينة البحث:(/4)
شملت عينة البحث (150) نزيلاً من قسم الإصلاح الاجتماعي للكبار في نينوى، وقد تم اختيارهم عن طريق العينة العشوائية البسيطة.
رابعاً: أداة البحث:
وضع استبيان يتكون من مجموعة أسئلة تتعلق بالفرضيات، ولغرض تحقيق صدق الاستبيان الظاهري، فقد عرض على مجموعة من الخبراء*.
خامساً: مجالات البحث:
امتدت فترة إجراء البحث من 1/9/1987م لغاية 31/10/1987م وينحصر المجال البشري للبحث بنزلاء قسم الإصلاح الاجتماعي للكبار في نينوى، والذي يشكل المجال المكاني للبحث أيضاً.
سادساً: منهج البحث:
يعد البحث من البحوث الوصفية التحليلية، والمنهج المتبع هو المسح الاجتماعي عن طريق العينة واستخدم الباحث النسبة المئوية والوسيط كوسائل إحصائية لتحليل البيانات.
المبحث الثالث
تحليل النتائج ومناقشتها
لغرض مناقشة النتائج سندرجها وفقاً لفرضيات البحث وكما يأتي:
الفرضية الأولى: العلاقات الاجتماعية.
إن الأسرة هي المدخل الأساسي للتواصل مع المجتمع فإذا كانت علاقة الأفراد في الأسرة غير مرضية فيحدث رد فعل من بعضهم للظرف السائد من العلاقات، فقد يؤدي ذلك إلى الإنحراف السلوكي أحياناً[22].
ولغرض التعرف على نمط العلاقات الاجتماعية السائدة في أسر المبحوثين فقد تناول الباحث ما يأتي:
1 – العلاقة بين المبحوثين والوالدين:(/5)
العلاقة الاجتماعية بين الوالدين والأبناء من أهم العوامل التي تؤثر في نوع المعاملة التي يتلقاها الأبناء من آبائهم. كما أنها تؤثر تأثيراً كبيراً على البيئة السائدة في الأسرة، ومن ثم في بناء شخصية الأبناء، وقد تبين من نتائج البحث أن 50% من المبحوثين ذكروا بأن طبيعة معاملة الآباء لهم تقوم على الإهمال. و23.3% عوملوا بقسوة، في حين أن 26.7% فقط كانت طبيعة معاملة الآباء لهم تتسم بالحب والعطف، أما معاملة الأمهات فإختلفت عن معاملة الآباء، حيث ذكر 65.3% من المبحوثين أنهم تلقوا الحب والعطف من الأمهات و24.7% أهملتهم أمهاتهم، في حين أن 10% فقط كانت معاملة الأمهات لهم تتسم بالقسوة.
2 – العلاقة بين الوالدين:
إن نمط العلاقة الاجتماعية بين الوالدين هي الأخرى تؤثر في بناء شخصية الأبناء، حيث عندما تسود العلاقة السيئة تزيد من الاضطرابات، فينشغل الوالدان في مشاكلهم، مما يضطر الأبناء أحياناً إلى الهروب من هذا الواقع الأليم، ومن ملاحظة نتائج البحث تبين أن 40% من المبحوثين كانت علاقة والديهم ببعضهم اعتيادية. وإن 21.3% كانت علاقة والديهم ببعضهم سيئة، و38.7% أجابوا بأنها كانت جيدة.
وتبين أن 30.7% من المبحوثين أشاروا إلى وجود المشاجرات بين الوالدين، و20% أجابوا بأن المشاجرات تظهر أحياناً، في حين أشار 49.3% إلى قلة حدوثها.
3 – العلاقة بين المبحوثين وزوجاتهم:
وتبين من نتائج البحث أن 62.6% من المبحوثين متزوجون، لذا يتطلب التعرف على طبيعة العلاقة بين المبحوث وزوجته، إذ لها تأثير كبير في عملية التكيف للحياة الزوجية، ومن ثم الاستقرار الأسري أو عكسه. وقد تبين من الجدول (5) أن 45.9% منهم كانت علاقتهم اعتيادية، و14.39% منهم علاقاتهم مع زوجاتهم سيئة.
4 – تناول المسكرات:(/6)
لا شك أن الإدمان على المسكرات يعد أحد العوامل التي تؤكد صلته بالجريمة. وقد تبين من بعض الدراسات بأن 95% من الآباء الذين يعاملون أبناءهم معاملة سيئة من مدمني الخمر[23]. ومن جهة أخرى تعد عاملاً مهماً لاضطراب العلاقة بين الزوجين وبالتالي تسيء العلاقة بين أفراد الأسرة عموماً.
لقد تبين أن 21.3% من المبحوثين أشاروا إلى أن آباءهم كانوا يتناولون المسكرات، و12.7% منهم يتناولونها أحياناً، في حين أن 66% لم يذكر ذلك. وتبين أن 42% من المبحوثين يتناولون المسكرات، و27.3% يتناولونها أحياناً و30.7% لم يتناولوها إطلاقاً.
5 – تبين من نتائج البحث أن 56.7% من المبحوثين ذكروا وتعبيراً من وجهة نظرهم بأن سوء المعاملة الأسرية لهم كانت سبباً رئيساً دفعهم لإرتكاب الجريمة.
إذن في ضوء هذه النتائج نستطيع القول أن سوء العلاقات الأسرية باتجاهاتها المختلفة تساهم في دفع الفرد إلى إرتكاب الجريمة وبهذا نقف على صحة الفرضية الأولى.
الفرضية الثانية: الحرمان العاطفي.
قد تخفق بعض الأسر في تدريب الأبناء على التعامل مع أوضاع المجتمع بطريقة تحترم القانون، وقد يرجع ذلك إلى إهمال التهذيب بسبب غياب أحد الوالدين[24]. وهذه الحالة تسبب الحرمان العاطفي للأبناء، ويؤثر هذا الحرمان بأشكاله على تجارب الفرد السابقة واللاحقة، وقد توصل (برتون) و(وايتنك) إلى دليل مفاده إن الأبناء الذين يترعرعون في ثقافات حيث يكون الأب غائباً كثيراً ما يتعرضون إلى حالات إزدواجية وتناقض بخصوص دورهم الجنسي. ويظهرون أشكالاً مبالغاً بها من السلوك الذكري، وبهذا الخصوص توصل بعض الباحثين في دراساتهم إلى أن الإجرام يزداد بين أبناء الأسر الخالية من الآباء[25]. وذلك لطغيان الميول العدوانية عند هؤلاء وتستمر معهم أثناء البلوغ[26]. ولأجل التوقف على صحة هذه الفرضية فقد تناول الباحث ما يأتي:
1 – فقدان أحد الوالدين:
أ – الوفاة:(/7)
تبين من بيانات البحث أن 44% من آباء المبحوثين متوفون و32.7% أمهاتهم متوفيات. وللتعرف على مدى تأثير وفاة أحد الوالدين في الأبناء حاولنا معرفة فيما إذا كان المبحوث طفلاً أو بالغاً أثناء الوفاة. فقد تبين أن 31.3% من المبحوثين كانوا أطفالاً عند وفاة أحد الوالدين، و18.8% منهم كانوا في فترة المراهقة، أي أن نسبتهم بلغت قبل البلوغ 50.1% في الوقت الذي يضطلع الآباء بدور كبير في بناء شخصية الأبناء، وخصوصاً في فترة الطفولة والمراهقة. وقد بلغ متوسط أعمارهم (15.8) سنة.
ب – الطلاق:
تبين من نتائج البحث أن 14.7% من المبحوثين ذكروا وجود حالة الطلاق بين الوالدين، التي تؤدي إلى تعرض الأبناء لوضع غير طبيعي، فبعد أن كانوا يشعرون بالضمان والمحبة بين والديهم يجدون أنفسهم فجأة موزعين بين الولاء للأم أو للأب، وهذا يخلق عدم الضمان العاطفي والنفسي والخوف والضياع، فيتكون لديهم عقد نفسية أهمها الشعور بالنقص وقلة الضمان العاطفي، وقد يسبب ذلك فشلهم في الحياة الاجتماعية وبالتالي يتعرضون إلى نتائج وخيمة، وقد تصل إلى الإنحراف السلوكي[27].
2 – التنشئة الاجتماعية للأبناء:
تبين من بيانات البحث بأن 38.7% من المبحوثين ذكروا بأن التنشئة الاجتماعية في أسرهم كانت مقتصرة على الأم فقط، و33% اقتصرت على الأب، أي أن ثلثي أفراد العينة تعرضوا إلى تنشئة اجتماعية غير سليمة، وقد يرجع السبب إلى وفاة أحد الوالدين أو الطلاق، وأحياناً يكون السبب تعدد الزوجات، فيكون تركيز واهتمام الأب على أبناء زوجة معينة دون الأخريات حيث تبين بأن 34.7% من آباء المبحوثين متزوجون لأكثر من مرة واحدة.
3 – التمييز في المعاملة:(/8)
يميز بعض الآباء في تعاملهم مع أبنائهم، فقد يخلق ذلك التمييز آثاراً نفسية في حياتهم الاجتماعية تؤدي إلى الاضطراب السلوكي، وبهذا الصدد تبين من نتائج البحث بأن 37.3% من المبحوثين تعرضوا للتمييز في المعاملة من قبل الوالدين بينهم وبين إخوتهم، وأن 64.7% منهم لم يتعرضوا لذلك. ومن جهة أخرى تبين أن 41.3% من المبحوثين تعرضوا إلى المعاناة في طفولتهم وأن 58.7% منهم لم يتعرضوا.
نستنتج مما سبق بأن هذه الحالات جميعها وبتداخلها مؤشرات توضح بأن كثيراً من المبحوثين تعرضوا إلى حالة الحرمان العاطفي في طفولتهم فانعكست على حياتهم المستقبلية، وبهذا نستطيع الوقوف على صحة الفرضية.
الفرضية الثالثة: الحالة الاقتصادية.
إن الفقر والفاقة ونقص الموارد اللازمة لإشباع الإنسان من كل ما يعتقد أن له الحق فيه، عوامل من الممكن أن تصبح أسباباً للجريمة[28].
فقد توصلت الدراسات الاجتماعية في أميركا إلى أن الانتماء الطبقي للأسر له أثر كبير في اختلاف الجرائم التي يرتكبها الأفراد[29]. وللبحث في هذه العلاقة تناولنا ما يأتي:
1 – المهنة:
حاولنا التعرف على طبيعة مهن المبحوثين من جهة وعلى مهن الوالدين من جهة أخرى لتشكل مؤشراً للظروف الاقتصادية التي عاشها المبحوثين قديماً وحديثاً، حيث تبين من بيانات البحث أن 48.7% من المبحوثين عسكريون، و25.3% منهم عمال غير مهرة، وتأتي مهن أخرى متفرقة وبنسب متفاوتة.
أما آخر مهنة لآبائهم فكانت كما تبين في نتائج البحث أعمال غير مهرة، وبنسبة 44.7%، و21.3% فلاحون، و20% مهن فنية حرة، و9.3% موظفون وبهذا نستنتج أن أغلبية مهن الآباء كانت ذات مردودات مالية منخفضة، مما يشير إلى مستوى اقتصادي متدن لأسرهم. وكذلك الغالبية العظمى من أمهات المبحوثين هن ربات البيوت، وبنسبة 97.3%.
2 – المدخولات الشهرية لأسر المبحوثين:(/9)
من أهم المعايير التي بواسطتها نستطيع قياس المستوى الاقتصادي هو مجموع المدخولات الشهرية لأسر المبحوثين، فتبين من نتائج البحث أن 62.7% من أفراد العينة مدخولات أسرهم متدنية حيث تراوحت بين (50 – 100) دينار، و22.7% منهم تراوحت مدخولات أسرهم من (101 – 150) دينار، و14.6% فقط كانت مدخولات أسرهم أكثر من (151) ديناراً شهرياً. وبلغ متوسط دخل الأسرة (90.8) ديناراً شهرياً، وتبين من نتائج البحث إن أغلبية المبحوثين ليس لهم مورد من مصادر أخرى غير الراتب الشهري وبنسبة 90.7%.
3 – حجم أسر المبحوثين:
من الطبيعي أن المبحوثين عاشوا في أسر أصلية متباينة في حجمها، وقد توصل كل من (بوسارد واليانور) في دراستهما إلى أن الأسر الكبيرة في بعض الأحوال أكثر عرضة للتصدع والإنهيار لأن معظمها تمر بأزمات إقتصادية تؤدي إلى الحرمان الإقتصادي لأفرادها[30].
وقد تبين من بيانات البحث بأن 45.3% من المبحوثين عاشوا ضمن أسر يتراوح عدد أفرادها من (6 – 9). 41.4% بلغ عدد أفرادها أكثر من (10). في حين من كان عدد أفراد أسرهم أقل من (6) بلغت نسبتهم 13.3% فقط. وبهذا نستنتج أن أغلبية المبحوثين عاشوا ضمن أسر كبيرة الحجم. حيث بلغ متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة (3و9) أشخاص. الأمر الذي حرم كثيراً من هؤلاء في إشباع احتياجاتهم الضرورية قبل بلوغهم، حيث أجاب 41.3% منهم بأنهم قد حرموا من إشباع احتياجاتهم كثيراً، 32% منهم أحياناً.
وفيما يتعلق بالأسر التي كان المبحوثين مسؤولين عنها بعد الزواج يتبين أن 69.1% من المبحوثين المتزوجين عدد أفراد أسرهم أكثر من (6) أفراد، و34.1% منهم أكثر من (10) أفراد، وبلغ وسيط عدد أفراد الأسرة الواحدة (8.1) شخصاً.
4 – طبيعة المسكن والمحلة:
تشير الدراسات السابقة إلى أن المستوى الاقتصادي للأسرة يؤثر في إقبالها على الإقامة في مسكن حديث وصحي، أو في مسكن ضيق ورخيص غير صحي[31].(/10)
وللتعرف على طبيعة المسكن لأسر المبحوثين تناولنا ما يأتي:
أ – عائدية المسكن:
تبين من نتائج البحث بأن 53.3% من المبحوثين عائدية مسكنهم ملك صرف، و40.7% منهم إيجار، وأن 6% تعود مساكنهم للدولة.
ب – عدد غرف المسكن:
ظهر من نتائج البحث بأن 3.31% من أفراد العينة تعيش أسرهم في مساكن تتكون من غرفة أو غرفتين. و48.7% منهم تعيش أسرهم في مساكن تتكون من (3 – 4) غرف، وبلغ متوسط غرف المسكن الواحد (3.7) غرفة.
جـ – نوعية المسكن*:
تبين من بيانات البحث أن 50% منهم يعيشون في مساكن رديئة و30% في مساكن متوسطة الجودة، في حين أن 20% منهم فقط يعيشون في مسكن جيد.
د – طبيعة المحلة:
كشفت الدراسات السابقة عن وجود علاقة بين المناطق السكنية والسلوك الإجرامي، فتبين ارتفاع معدلات الجريمة في المناطق المتخلفة بالمدينة. تلك المناطق التي تحيط بالمناطق التجارية والصناعية، ووسط المدينة، وتكون مكتضة بالسكان، وأحياناً تعيش أسرة كاملة في غرفة واحدة[32].
وقد تبين أن 54% من المبحوثين تقع مساكنهم في محلات رديئة، و34.7% في محلات متوسطة الجودة، في حين 11.3% تقع مساكنهم في محلات جيدة.
وفي ضوء ما تقدم نستطيع الوقوف على صحة الفرضية.
الفرضية الرابعة: التمسك بالقيم الريفية.(/11)
تزداد معدلات الجريمة في المدينة وتتناسب مع سعتها وهي تضاهي الجريمة في الريف (5 – 10) مرات في نسبتها حيث تتعدد أنواع الجريمة في المدينة وتكون محدودة في الريف[33]. وهذا الإختلاف يرجع إلى جملة من العوامل أهمها: العلاقات الاجتماعية العميقة والمتبادلة بين سكان الريف، إذ تضطلع بدور مهم في حل خلافاتهم، فضلاً عن اختلاف طبيعة الريف والمهن السائدة فيه عما هو في المدينة[34]. وكذلك الإختلاف في المعتقدات السائدة في البيئة الاجتماعية المحيطة بالأسرة فتكون عاملاً مساعداً على إرتكاب الجريمة[35]. فغالباً ما تكون الجريمة بين أفراد الريف بدافع الانتقام لشرف الأسرة ورد اعتبارها وهيبتها بين الأسر الأخرى. وذلك لسبب حكم بنائها وتكوينها وخضوعها للقيم التقليدية[36] التي تكون الرغبات والأهداف المتفق عليها اجتماعياً والتي تدخل في عمليات التعلم والتنشئة الاجتماعية[37].
وعموماً فالجرائم الناجمة بدافع القيم الاجتماعية تشمل القتل أخذاً للثأر والتي تعد عملية انتقام يقوم بها فرد أو أكثر. ويعد الأخذ بالثأر نشاطاً عاطفياً تحكمه قواعد اجتماعية معينة تؤثر في الحالة الإدراكية للجاني مما يؤدي به إلى التفكير جدياً في الإعداد والترتيب للقتل[38] وللتعرف على دور القيم في دفع الفرد لإرتكاب الجريمة تناولنا ما يأتي:
1 – محل الولادة والإقامة الحالية:(/12)
نلاحظ من نتائج البحث أن 46.6% من المبحوثين ولادتهم في الريف وأن 22.7% منهم في مركز المحافظة. و20% في مركز قضاء، و10.7% في مركز الناحية. أما الإقامة الحالية للمبحوثين فقد تبين أن 57.3% منهم يسكنون المدينة، و21.3% في القرية، و16% في مركز القضاء و4.7% في مركز الناحية، ولهذا تبين من بيانات البحث أن 21.3% من المبحوثين أجابوا بأن القيم الأسرية دفعت بهم إلى إرتكاب جريمتهم مقابل 78.7% لم يذكر ذلك ومن ملاحظة بيانات البحث تبين بأن 23.3% أجابوا بأن أحد أفراد الأسرة دفع بهم إلى إرتكاب الجريمة مقابل 76.7% أجابوا بأن أحد أفراد الأسرة دفع بهم إلى ارتكاب الجريمة مقابل 76.7% لم يذكر ذلك.
2 – تبين بأن 56.3% من الجرائم التي ارتكبت تأثراً بالقيم الاجتماعية كانت في القرية، ويليها 21.9% في مركز الناحية، ومن ثم 15.6% في مركز القضاء، وفي مركز المحافظة 6.2%.
نستنتج من البيانات المذكورة بأنه كلما ابتعدنا عن المدينة إزدادت الجرائم المرتكبة تأثراً بالقيم الاجتماعية بسبب الزيادة في قوة تأثير هذه القيم على الفرد في الريف، وضعف تأثيرها على الأفراد في المدينة، ومن جهة أخرى أتضح من بيانات البحث أن 20% من المبحوثين أجابوا بأن الدفاع عن الشرف كان السبب الرئيس لإرتكابهم الجريمة.
وبهذا نستطيع أن نقف على صحة الفرضية.
الفرضية الخامسة: المستوى التعليمي.
تشير الدراسات السابقة إلى وجود تلازم بين الأمية والإجرام، إذ لوحظ أن الجرائم تكثر نسبتها عند الأميين، وأنهم أكثر عدداً في السجون من المتعلمين[39]، وللتعرف على المستوى التعليمي وعلاقته بإرتكاب الجريمة، تناولنا المستويات التعليمية للوالدين ومن ثم للمبحوثين.
1 – المستوى التعليمي للوالدين:(/13)
تبين من نتائج البحث إن أكثرية آباء المبحوثين أميون، وكذلك الحال بالنسبة للأمهات، وبنسبة 70%، 98.3% على التوالي، في حين بلغت نسبة من أنهى الإعدادية والجامعة 3.4% من الآباء وانعدمت عند الأمهات.
2 – المستوى التعليمي للمبحوثين:
تبين بأن 32% من المبحوثين أميون، في حين من أنهى التعليم الإعدادي بلغت نسبتهم 14.7%، ومن هنا نستنتج بأنه كلما ارتفع المستوى التعليمي قلت نسبة الجريمة، وبهذا نستطيع الوقوف على صحة الفرضية.
التوصيات
في ضوء النتائج يوصي الباحث بما يأتي:
1 - إلقاء المحاضرات وإجراء الندوات للآباء عن طريق مجالس الشعب ومجالس الآباء والأمهات في المدارس ويشخص فيها ما يأتي:
أ – أفضل الطرق للتعامل مع أبنائهم.
ب – مضار سوء العلاقات الاجتماعية بين الوالدين وتأثيرها على الأبناء.
ج – مضار تناول المسكرات وآثارها على البيئة الأسرية.
د – آثار الطلاق على الأبناء.
2 - تحديث المناطق القديمة في المدينة.
3 - مساهمة الدولة في توفير المساكن الصحية للمواطنين.
4 - تشديد الرقابة على المناطق القديمة في المدينة.
5 - تغير إتجاهات الأسر الريفية التي تؤمن بالقيم السلبية كظاهرة الثأر وغسل العار والتركيز على الشباب، وإبداء التوعية بأن القانون يأخذ حقوقهم.
6 - التوعية بأحكام القوانين لمختلف شرائح المجتمع، وبمختلف قنوات الإتصال ذات العلاقة المباشرة بالمواطنين.
7 - التوعية بمضار وآثار الجريمة على الأسرة والمجتمع.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] الدكتور محمد زكي أبو عامر، دراسة في علم الإجرام والعقاب، مصدر سابق، ص210.
[2] سونيا هانت وجينيفر هيلتز، نمو شخصية الفرد والخبرة الاجتماعية، ترجمة الدكتور قيس النوري. دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988م، ص166.
[3] نفس المصدر السابق، ص115.
[4] آدوين، هـ. سذرلاند، مبادئ علم الإجرام، مصدر سابق، ص227.
[5] نفس المصدر السابق، ص217.(/14)
[6] الدكتور محمد الجوهري وآخرون، ميادين علم الاجتماع، دار المعارف، القاهرة، 1984م، ص280.
[7] الدكتور سعد جلال، أسس علم النفس الجنائي، مصدر سابق ص236.
[8] الدكتور سعد المغربي، السيد أحمد الليثي، المجرمون، مصدر سابق، ص193.
[9] السيد رمضان، الجريمة والانحراف من المنظور الاجتماعي، المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية، 1985م، ص162.
[10] نفس المصدر السابق، ص163.
[11] نفس المصدر السابق، ص161.
[12] عبدالجبار عريم، نظريات علم الإجرام، مصدر سابق، ص88 – 89.
[13] الدكتور محمد زكي أبو عامر، دراسة في علم الإجرام والعقاب، مصدر سابق، ص213.
[14] المصدر السابق، ص212.
[15] السيد رمضان، الجريمة والانحراف، مصدر سابق، ص148.
[16] الدكتور محمد إبراهيم زيد، مقدمة في علم الإجرام والسلوك الاجتماعي، 1978م، ص38.
[17] الدكتور محمد زكي أبو عامر، دراسة علم الإجرام والعقاب، مصدر سابق، ص51.
[18] الدكتور محمد الجوهري وآخرون، ميادين علم الاجتماع، مصدر سابق، ص239.
[19] الدكتور محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979م، ص437.
[20] سونيا هانت وجنيفر هيلين، نمو شخصية الفرد والخبرة الاجتماعية، مصدر سابق، ص123.
[21] الدكتور قيس النوري، الحضارة والشخصية، مطبعة جامعة الوصل، ص1981م، ص41.
* عرض الاستبيان إلى السيد سعد الدين خضر معاون المدير العام لدائرة الإصلاح الإجتماعي للكبار والدكتور سطام محمد الجبوري.
[22] الدكتور السيد علي شتا، علم الاجتماع الجنائي، دار الاصطلاح، السعودية، الدمام، 1984م، ص92.
[23] الدكتور محمد زكي أبو عامر، دراسة في علم الإجرام والعقاب، مصدر سابق، ص199.
[24] آدوين هـ. سذرلاند، مبادئ علم الإجرام، مصدر سابق، ص238.
[25] سونيا هانت، نمو شخصية الفرد والخبرة الاجتماعية، مصدر سابق، ص129.(/15)
[26] صباح حنا هرمز، يوسف حنا إبراهيم، علم النفس التكويني، الطفولة والمراهقة مطبعة جامعة الموصل، 1988م، ص193.
[27] السيد محمد بدوي، مدخل إلى علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1984م، ص82.
[28] محمود التوني، علم الإجرام الحديث، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1960م، ص171.
[29] Donald Gilbert, Mckenley, Social and Family life, the Free press, New york, Second printing 1966, p.267.
[30] الدكتور سناء الخولي، الأسرة والحياة العائلية، مركز الكتب الثقافية، مصر، 1984م، ص230.
[31] السيد رمضان، الجريمة والإنحراف، مصدر سابق، ص143.
* تم التعرف على نوعية المسكن والمحلة حسب تقدير المبحوث نفسه.
[32] الدكتور محمد عاطف غيث، المشكلات الاجتماعية والانحراف السلوكي.
[33] Keith Davis and Robert L. Blomskrom, Busines and Socity Environment and Responssibility. Third Edition, Mc Graw, Hill Koga Kusha, I.T.D Tosho printing, Tokyo, Japan, p. 364.
[34] الدكتور محمد زكي أبو عامر، دراسة علم الاجتماع والعقاب، مصدر سابق، ص224.
[35] الدكتور رمسيس بهنام، علم الاجرام، مصدر سابق، ص140.
[36] السيد علي شتا، علم الاجتماع الجنائي، مصدر سابق، ص114.
[37] الدكتور غريب محمد سيد أحمد، علم الاجتماع الريفي، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1984م، ص271.
[38] الدكتور محمد إبراهيم زيد، مقدمة في علم الإجرام والسلوك الإجرامي، مصدر سابق، ص253.
[39] الدكتور رمسيس بهنام، علم الإجرام، مصدر سابق، ص150. لم تنشر جداول البحث لأغراض تتعلق بالطبع والنشر.(/16)
العنوان: العودة إلى باهية
رقم المقالة: 916
صاحب المقالة: د. حسن بن أحمد النعمي
-----------------------------------------
تاريخ المسلمين في ولاية باهية:
نكاد لا نعرف شيئاً عن تاريخ الأفارقة الذين اقتُلِعوا من أوطانهم وحقولهم؛ ليُباعوا في سوق النِّخاسة ويلاقوا صنوف العذاب والإرهاب، وربما يُعَدّ كتاب "الجذور" لألكس هالي، الذي حصل إخراجه على صورة مسلسل تلفازي جزءاً من الحقيقة التي تصف رحلة العذاب والألم الطويلة منذ لحظة الاختطاف مروراً بالأقفاص الخشبية التي كان يُحجَز فيها الأفارقة قرب السواحل قبل شحنهم بالسفن، ثم الرحلة الشّاقة الرهيبة عبر الأطلسي حيث يوضَعون في مقر السفينة ويُربَطون بالسلاسل الحديدية.
وتشير العديد من المصادر إلى أن أعداداً كبيرة منهم لاقَوا حتفهم بسبب إصابتهم بمرض الكوليرا، أو الحمى الصفراء، ولقد أُلقِي العديد من هؤلاء المرضى في قاع المحيط بعد أن خاف البرتغاليون من انتشار الوباء بينهم، وإذا وصلوا إلى ساحل البرازيل وُضِعوا في مخابئ أرضية.
لقد تم ترحيل الأفارقة من إفريقيا الغربية إلى البرازيل في أوائل القرن السادس عشر بواسطة المستعمرين البرتغال؛ للعمل كعبيد في المزارع والمصانع، وبالرغم من انتشارهم في أنحاء البرازيل كافة إلا أن الأغلبية الساحقة منهم تقطن شَمال شرق البرازيل لاسيما في ولاتي باهية، ورسيفي.
ثورتهم ضد المستعمرين والغزاة:
لم تنته رحلة العذاب في البواخر، بل تواصلت عبر السنين، وعلى أرض البرازيل؛ لتثمر قهراً وحسرة في قلوب المسلمين، أو تنصراً وكفراً في نفوس إخوانهم وأبنائهم، وقد تمسك بعضهم بإسلامهم بالرغم من بعدهم عن أرض الإسلام ومنابعه.(/1)
وبالرغم من العذاب والمشقة رأى الأفارقة أنهم فقدوا حريتهم الدينية والعقائدية، وحينها بدؤوا في تنظيم صفوفهم، والعمل على الحفاظ على مبادئهم الإسلامية، وتعليم أبنائهم القرآن والكتابة العربية، أضف إلى ذلك التخلص من قيد العبودية، والعودة إلى وطنهم الأم إفريقيا.
وقد قام هؤلاء المسلمون الأفارقة بثورات عديدة ضد هؤلاء المتسلطين الإقطاعيين، وأسسوا في إحدى تلك الثورات مملكة تحاكي ما هو معروف من الممالك الإسلامية في غرب إفريقية.
وتلك المملكة الإفريقية يسميها البرازيليون اليوم بـ "المملكة الزنجية"[1]، وقد بلغ عدد الأفارقة المستعبدين في باهية وما حولها أرقاماً كبيرة، فقد ذكر مؤرخ اسمه ملت برني، أنه في عام 1855م كان عدد سكان البرازيل (7,677,000) نسمة منهم ثلاثة ملايين من الزنوج، ومليونان من الخلاسين وهم المختلطون الذين ألوانهم بين السواد والبياض.
فإذا أضيف إليهم عدد السكان الأصليين الذين يُسَمَّون الهنود الأمريكيين، أو الحمر آنذاك، وهو أربع مئة ألف نسمة - صارت نسبة ذوي الأصول الإفريقية حوالي 40%.
ويقول المؤرخون: إن الأفارقة أنشؤوا لهم كِياناً برئاسة ملك له خلافة وراثية في منطقة بلمارس، واسمه (الملك زومبي)، وأعلن أن دولته حرة مستقلة، ووضع دستوراً لبلاده في مادته الأولى: احترام الحرية الشخصية لكل من يشاء العيش في دولته.
فكان المستعمرون البرتغاليون يحاربون بلا هوادة، وكانت أولى المعارك الكبيرة بين الطرفين في عام 1643م.
ثم توسعت دولة "زومبي" واحتلت أكثر من عشرين موقعاً من النواحي القريبة منها، وموقعها الآن في ولاية "الأقواس" الملاصقة لولاية باهية.
وظلت الحرب بين دولة السود المسلمين الأفارقة ودولة البرتغال بإمكاناتها الكبيرة من الرجال والعتاد بعد ذلك لمدة خمس سنوات بدون أن يكون لدى الأفارقة شيء من ذلك إلا تضحية رجالهم المتسلحين بأسلحة خفيفة.(/2)
وقد سجل المؤرخون البرتغاليون: أن الجيش البرتغالي كان يقضي على أسرى السود بدون شفقة؛ سواء أكانوا رجالاً أم نساء، وسواء أكانوا شيوخاً أم أطفالاً.
وفي 21 يونيو 1678م جرى صلح بين ملك السود وبين البرتغالي لم ترض عنه أكثرية السود، فتتابعت الحرب إلى عام 1678م.
وقد أبدى السود المسلمون فنوناً من التضحيات الجليلة جعلتهم يصمدون أمام البرتغاليين الذين حشدوا كل قواتهم في البرازيل مع معدات الحرب الحديثة المتوافرة في ذلك الوقت، وحاصروا المسلمين مدة ثلاث سنوات حتى عام 1695م حيث تمكنوا من القضاء عليهم وهلك الملك "زومبي" فيمن هلك.
وقام بعد ذلك البرتغاليون بمطاردة المسلمين الأفارقة، وتعقبهم، ففر كثير منهم بدينهم إلى الغابات والأدغال، والكثير منهم أجبر على اعتناق النصرانية.
صورة للكنائس، وقصة بنائها:
مشاهد:
وقد أجبر البرتغاليون المسلمين الأفارقة على بناء الكنائس، ومنعوهم من بناء المساجد، فعمد المسلمون إلى بناء الكنائس من الخارج، ومن الداخل صممت على صورة مساجد، بها منابر ومحاريب، وكتب على جدرانها وأسقفها الآيات القرآنية، والأدعية باللغة العربية.
حفظت المكتبات العامة والأرشيف الوطني في باهية وثائقَ المسلمين الأفارقة، وأوراق منفرطة كتبت عليها سور وآيات من القرآن الكريم وغيرها تثبت انتمائهم الإسلامي.
ومن المفاجآت العجيبة أنه مازال إلى الآن هناك من يعيش في تلك الأدغال ويعتنق الإسلام ولكن إسلام مختلط ببعض الخرافات والعادات الإفريقية.(/3)
وفي عام 1992م/ 1412هـ أقيم مؤتمر في مدينة سلفادور - عاصمة ولاية باهية - شارك فيه المسلمون، إضافة إلى بعض الجامعات البرازيلية التي تهتم بتاريخ الأفارقة المسلمين لاسيما الجامعة الفدرالية بولاية باهية، فقد ظهرت في ذلك المؤتمر سيدة عرَّفت نفسَها بأنها حفيدة "جبريل"[2]، جاءت تحمل مسبحة عملاقة ورِثتها عن جدها منذ أكثر من مئة عام، وبعضَ الوثائق؛ لتقدمها للحاضرين، إضافة إلى صور لأفراد عائلتها بحجاب إسلامي، ولجدها بثوب وعمامة إسلامية.
وكانت المفاجأة العظيمة هو امتلاكها لما تعتبره شرفاً عظيماً ألا وهو القرآن الكريم، كتب بالعربية بخط مغربي منذ مئات السنين، تعد ذلك اليوم تاريخياً في حياتها.
وقد التيقنا بالمؤرخ الكبير سيد تيشيرا وأخبر أنه تعرَّف على جدها جبريل، وعلى والدها، وأنه كان يعلم بأن أحد أبنائه مازال على قيد الحياة فكانت تلك السيدة.
وفي تلك المدينة انطفأ نور الإسلام بسبب التعسفات والمصائب التي تعرض لها المسلمون في بداية القرن التاسع عشر، حيث عاشوا مدة من القهر الجماعي مما أدى إلى هجرة معاكسة إلى البلدان الإفريقية.
أما اليوم فقد عاد نور الإسلام من جديد.
وها هم اليوم يتذكرون تاريخهم، وبدؤوا يبحثون عن تراثهم وأصلهم ودينهم الذي كانوا عليه. فهل نساعدهم على ذلك؟! لاسيما في ظل العلاقة الوثيقة، والصداقة، والاحترام المبتادَل بين حكومة البرازيل والعالم الإسلامي.
حقائق:
يعتقد أهل ولاية باهية - عاصمتها مدينة سلفادور - أنهم جزء من إفريقيا، وأنهم لا يفصلهم عنها سوى المحيط، ولذا تجد أن عاداتِهم، وطرائقَ لبسهم، ومعيشتهم، مطابقة تماماً لما هو سائد في إفريقيا، حتى معروضات أسواقهم وتحفهم ولوحاتهم الجدارية تحتفي بكل ما هو إفريقي.
المركز الإسلامي:(/4)
يوجد بالمدينة مركز إسلامي ثقافي متواضع، أنشأته رابطة العالم الإسلامي، يقوم بجهود مشكورة ولكنها محدودة، والمسلمون هنا بحاجة إلى مراكز كبيرة، وإمكانيات كثيرة تعيد لهم مجدهم، وتدعو غيرهم إلى الدين الإسلامي، وتعرف به من كان يوماً من الأيام من أهله.
مناشط الندوة العالمية للشباب الإسلامي:
قامت الندوة العالمية للشباب الإسلامي في صيف هذا العام بمخيم تربوي - هو الأول من نوعه في هذه المنطقة - شارك فيه الكثير من أهل باهية، وريسيفي: وحضره كثير من غير المسلمين، وأثنى عليه الإعلام الرسمي في باهية.
تحية الإسلام:
عندما تسير في شوارع مدينة سلفادور عاصمة ولاية باهية تجد الناس يسلمون عليك ويبادرونك بتحية الإسلام - السلام عليكم - وينطقونها بعربية واضحة، وإذا سألتهم هل أنتم مسلمون؟ يقولون: لا، لسنا مسلمين، ولكن هذه التحية هي تحيتنا في بيوتنا ورثناها عن آبائنا وأجدادنا.
فلا مسجد أناجيك فيه:
لا يوجد في هذه الولاية الكبيرة - ذات التاريخ الإسلامي العريق - أي مسجد يؤدي فيه المسلمون عباداتهم، وقد أشار إلى ذلك الشاعر الكبير محمد عبد الغني حسن الذي كان يزور أبناءه النازحين إلى البرازيل كل سنة، فقد أغفى إغفاءة طويلة على ربوة تشرف على المحيط الأطلسي في ثغر سلفادور، وقال معبراً عن حزنه وحسرته:
هُناكَ عَلى الرَّبْوَةِ العالِيَهْ فَقَدْتُ المَواسِيَ والآسِيَهْ
فَيارَبِّ عفواً فَلا مَسْجِدٌ أُناجِيكَ فِيهِ، وَلا زاوِيَهْ
هذه الأبيات قالها سنة 1400هـ قبل أربع وعشرين سنة وما زال الوضع إلى الآن على ما هو عليه.
احتياجات عاجلة:
هناك احتياجات ماسة وعاجلة:
- كفالة الدعاة.
- إنشاء مدرسةٍ تعلِّم أبناء المسلمين.
- تفريغ أناس متخصصين في إعادة كتابة التاريخ؛ ليوثقوا تاريخ المسلمين في باهية.
- بناء مسجد.
- إنشاء ثلاثة مراكز إسلامية في ثلاث مدن كبيرة هي:سلفادور، رسيفي، أراكاجو.
ــــــــــــــــــــــــ(/5)
[1] وهم في الحقيقة ليسوا زنوجاً في عرفنا، ولا في لغتنا ولا في اصطلاح المؤرخين من بني قومنا. فالزنوج: أقوام تقع بلادهم في ساحل أفريقية الشرقية فيما يعرف الآن بشواطئ كينيا وتنزانيا، وكانت تسمى "بر الزنج" وبقيت بقية من اسمها في الجزيرة التي تسمى الآن "زنجبار" بمعنى بر الزنج.
[2] أحد الخلفاء السملمين السود هو من نسل الملك زمبي.(/6)
العنوان: العودة من الأرشيف
رقم المقالة: 606
صاحب المقالة: يمنى سلام
-----------------------------------------
العودة من الأرشيف
كلمات.. من القلب
يقول الدكتور مصطفى محمود في كتابه "الأحلام" أنه ذهب في زيارة لأرشيف إحدى المجلات القديمة التي صدرت قبل عشرات السنين؛ فوجد عالماً غريباً تنقل فيه، كأنه تنقل في منطقة أثرية.
ويستطرد: كل شيء غريب، حتى براويز الإعلانات: "اليوم في أكبر دور عرض سينمائي تعرض مسرحية "الذبائح" تأليف أنطوان يزبك، الرواية العظيمة التي تستدر البكاء وتحرك التشنجات". هل سمعت عن أنطوان يزبك، محرك التشنجات ومدر الدموع هذا؟
صورة كبيرة لأحمد شوقي لا بمناسبة ذكراه ولا وفاته، إنه بلحمه ودمه في عنفوان حياته يمسك بيده سيجار ماركة أمون ويقول: "سيجارة أمون لتدخينها لذة لا يعرفها إلا كل خبير في الدخان"! هذا هو شوقي بكل ما يحيطه من ضجة إعلامية مرسوم على علبة سجائر!
وصور لأهل الفن لا نكاد نعرف منهم أحد ولو بالسماع، ومقال بليغ عن وفاة السيدة توحيده المغنية في ختامه هذه الجملة المؤثرة: "وبوفاة المطربة العظيمة السيدة توحيده؛ طويت صفحة رائعة من تاريخ الغناء لمعت فيه أسماء خالدة مثل ... ، ...".
عالم بنجومه وكواكبه ووزرائه وحكامه انطوى كما تنطوي صفحة كتاب، ولم يترك أثراً ولا شبحاً باهتاً في الذاكرة، تبخر الناس كالكحول ولم يتركوا حتى رائحة.
هل كان المطرب الشهير اللامع سيد شطا الذي كان يغنى في أحد المسارح يعلم أنه هو والمسرح والجمهور والصحف التي كتبت عنه مجرد فقاعة تنتفخ وتنتفخ ثم تنفجر ولا شيء، وهذا الكاتب أنطوان يزبك محرك التشنجات ومدر الدموع، وهو يكتب ليحرك ليصنع الخلود، خلود ماذا؟!
أنا أضحك - وأنا يزبك آخر – وأذكر ذلك الإنسان الذي كان يبدو متأكداً من كل كلمة يقولها، وكان يغضب ويصرخ لمجرد أنك اختلفت معه، ذلك الإنسان الذي كان يتزاحم ليدخل التاريخ، ولا تاريخ هناك.(/1)
كنت أشعر في تلك اللحظة بوحدة مطلقة، كنت كالعائد لا إلى نفسه ولا إلى بلده ولكن إلى منطقة أثرية أخرى.
وعاد الدكتور مصطفى محمود من الأرشيف إلى منطقته الأثرية، وعدت أنا إلى منطقتي الأثرية الخاصة، كنت كمن كان نائماً واستيقظ فجأة، كمن كان يظن نفسه حياً واكتشف أنه ميت.
لقد نعتنا الله بوصف "ميتون" قال تعالى في سورة الزمر: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وبالبحث فى تفسير الآية وجدت أن المحكوم عليه بالموت يسمى ميتا (بالشدة) أما من مات فعلا فهو ميت: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].
سوف يأتي يوم تقرأ فيه هذه الآية وعندها أكون ميتة وليس ميتة (بالشدة)! وهى لحظة قد تكون الآن أو بعد ساعة أو بعد سنوات، لكنها آتية لا محالة؛ يقول عمر بن عبد العزيز: "إنما الدنيا حلم والآخرة يقظة".
الشعور بأني أعيش في منطقة أثرية لا يزال يساورنى كثيراً، منطقة أثرية بكل من وما فيها، إن رثاء إحدى مغنيات الفيديو كليب، التي تنقطع أنفاس البعض عند رؤيتها، إذا قرئ بعد وفاتها بعدة سنوات، لن يكون أقل سخرية من رثاء السيدة توحيده المغنية؛ فإن جلائل أعمال كلتاهما متقاربة كثيراً، حتى الأشياء: هذه القصور الفاخرة، هذه المنازل الأنيقة، هذا الأثاث الفاخر بعد فترة طالت أو قصرت لن يختلف عن أي قصر مهمل ومتهدم، لن يختلف هذا الأثاث عن قطع "الروبابيكيا" التي لا نكترث لها كثيراً، ونتعجب من ذوق من اشتروها منذ عشرات السنين.(/2)
كما قال د. مصطفى محمود لا يبقى إلا "لا إله إلا الله"، إن الوقوف على أعلى برج في مدينتك، والنظر إلى آلاف البشر، وتخيل أنهم جميعا منذ مائة عام لم يكونوا، وبعد مائة عام لن يكونوا؛ شعور يدفع للجنون، إلا إذا تمسكت بـ"لا إله إلا الله"، لا حي حقيقي إلا الله، فمن أسمائه "الحي"، نحن أحياء لكن حياتنا وهمية، قد يشترك العبد مع الله في صفة لكنه – سبحانه - ليس كمثله شيء؛ فصفات الله مطلقة وصفات الإنسان نسبية؛ لذلك قال الدكتور محمد راتب النابلسي في كتابه "أسماء الله الحسنى": "إن القاضي إذا عرضت عليه ألف قضية وحكم في 999بالعدل وأخطأ في واحدة يسمى عادلاً، أما الله عز وجل فعادل عدل مطلق، فلو فرضنا أنه على الأرض الآن 6 آلاف مليون إنسان؛ فمنذ زمن آدم – عليه السلام - إلى يوم القيامة كم إنسانٍ عاش على الأرض! لا يجوز أن يُظلم واحدٌ منهم؛ لأن الله تعالى هو العدل.
إذا أيقنت أن الله وحده هو الحي؛ فمن الذكاء أن تربط نفسك بالحي الذي لا يموت. لذلك روى الإمام الرازي أنه مات لأحدهم ولدٌ؛ فبكى عليه حتى عمى فقال بعضهم له: الذنب ذنبك لأنك أحببت حيا يموت، ولو أحببت حيا لا يموت لما وقعت في هذا الحزن.
لذلك قالوا كل محبة لغير الله عذاب، فقد تُحِب ولا تُحَب، قد تحب وتفترق عمن تحب، وقد تحب وتتألم لألم من تحب، وقد يكون حبك لإنسان سبباً لهلاكك والعياذ بالله إذا كان حباً مع الله؛ فالحب مع الله هو عين الشرك، ومعناه أن تحب إنساناً حتى يكون رضاه أغلى عندك من رضا الله عز وجل.
لقد تغيرت الأمور كثيراً بعد العودة من الأرشيف، قال الرافعي: "إن الذي عاش مترقباً النهاية يعيش معداً لها"، وأعتقد أنني بعد العودة من الأرشيف أصبحت أكثر ترقباً للنهاية، وأسأل الله الكريم أن نحسن الإعداد لها.(/3)
العنوان: العيدُ.. بين الابتسام والآلام
رقم المقالة: 1524
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
في ليلةِ العيد تتعانقُ الكواكبُ في السماء، وتذرفُ الدموعَ السّجام على رحيلِ زينةِ الشهور، ودرّة الأزمان، وتسلّمُ جداولُ النور المتدفّقة على أهدابِ السّحر الخجولة المكحّلة بالطّهر، والمزدانةِ بالرّحمة، ويعانقُ الفجرُ سنا الشّمسِ السّاطعة التي تُبادرُ السحبَ بالتحيّة والمباركات، فتردّ السّحبُ التحيّةَ، وتغادرُ الأفق ليتمتّعَ الفائزون بصفاء السماء...
ما أروعَ تلك الليلةَ حيث تبدو الأرضُ باقةَ زهر شذيّة، ويبدو الأفقُ باسماً وضيئاً من صدى دعاء المخلصين، وصِدق مناجاة قائمي الليل.
في ليلة العيد، ترقُّ القلوبُ لتنسجَ من نبضاتها أناشيدَ المحبّة، ومن شرايينها المتدفّقة حبالَ الودّ، ومن شُغُفِها الطريّة ثيابَ الصّفاء...
في ليلة العيد تمتلئُ وسائدُ الأطفال بالأحلام المزركشة، وتُصبح أسرّتهم مروجاً من الزّهور والأعشاب الطريّة...
فالعيدُ جنّةُ الأطفال، وما العيد بنظرهم إلا أكواماً من السكاكر الملوّنة، وجيوباً ممتلئةً بالنقود... وسُحباً تنثُرُ الثّلج الأبيض على شعورهم وملابسهم.
وماذا عن صباحِ العيد، حيث يخشعُ المدى والآفاق، وتهتزُّ الجبال الراسيات، وتطربُ الأرضُ والسماءُ لجلال وبهاء نداءات التكبير التي تنبعثُ من المآذن العامرة مضمّخةً بذكر الخالق...
صباحُ العيد شلاّل من الفرح يتدفّق في قلوب المسلمين الذين فازوا بالجائزة الغالية، فتصبحُ مشاعرهم الرّهيفة أكثر بياضاً من الثّلج، وتصبح أحاسيسهم الشّفيفة أغصاناً مثمرة تملأُ النفس عطراً وجمالاً وروعة...(/1)
تتزيّنُ اللغةُ بسحر البيان، وتكتسي بحلّةَ البهاء، وتغتسلُ بقوافي الشعر وبحوره، ليفترَّ ثغرها عن مباركات لطيفة وأمانيّ واعدة من الآباء للأبناء، ومن المتعلّمين للمعلّمين ومن الأصدقاء للأصدقاء، ومن المسلمين للغرباء...
صبيحةَ العيد تجوبُ العصافيرُ الفضاءَ، ويُنشدُ الكروان، وتهدلُ أسرابُ الحمائم، وتغرّد البلابل بأمان، فتصفّقُ الأمواجُ، وتقتربُ الأسماك من الشاطئ لتلقي التحيّة على الأطفال الأبرياء، وتُصغي إلى أغاريد طيور النّورس المحبّبة...
العيدُ ساعةُ صُلح وتراحم بين القلوب والقلوب، بين العتاب والودّ، بين الزنابق والبنادق، وبين السكاكين والرياحين... وبين الحدود والورود...
العيدُ مبادىءٌ تُصافحُ قيماً، وتسامحٌ يسكنُ أفئدةً، ولقاءٌ يمحو جفاءً...العيد أرواحٌ تطيرُ كأسراب الحمائم البيض، ونفوسٌ تُشرقُ بنقاءٍ أروعَ من يقظة الفجر.
ماذا يبقى من روعة العيد عندما تنحسرُ معانيه في توفير صنوف الحَلْوَيات الفاخرة، والألبسة ذات الماركات الفخمة..!!!!!
ماذا يبقى من مقاصد العيد السّامية عندما نزيّنُ سماء المدن بالألعاب النّاريّة، ولا نزيّن القلوب بالتسامح والمحبة والصّفح؟؟؟
أيّهما أنبل؟ أن نتسابقَ على أبواب الملاهي السّاحرة، والمطاعم الفاخرة، أم أن نتسابق على أبواب الأمهات والآباء فنقبّل الأيادي والرؤوس، ونسكبُ في آذانهم أحلى وأرقّ التعابير، ونُودِعَ في أيديهم أغلى وأحلى الهدايا... وليس كثيراً.. لأنّ من يضحّي بعمره وشبابه حتى يربّي، أعظم ممّن يضحّي بوقته وبعض النقود ثمنَ هديّة ليؤدي واجباً قد يبدو ثقيلاً بعض الأحيان؟؟؟
وماذا عن يوم العيد أيضاً؟(/2)
عندما ترفُّ أجنحةُ الفرح محلقةً في فضاءات النفوس، فإنّ مشاعرَ الحزن تتملّكها الغيرةُ، فتململُ من مكامنها وتحرّكُ مواجعَ القلوب الجريحة، فتسيلُ الدموعُ على الخدود حُزناً على زوجٍ فارقَ الحياة، وخلّف وراءه قلوباً غضّة بحاجة إلى الرعاية، وضفائرَ حالمة تحتاجُ من يشمّ عطرها..وحزناً على زوجة رحلت، ورحلَ معها الحنان والدفء.. وحزناً على فِلذةِ كبدٍ تركَ حقيبته الحالمة، وفارق أقرانه الذين يكبرون، وتكبر ذكراه معهم...
وماذا عن الأسرِ التي تقضي يوم العيد في المستشفيات مع أبنائها الذين يعانون الأمراض المزمنة... لقد حبَسهم المرضُ في مساحة ضيقة فوق سريرٍ أبيض، وحرمهم اللعبَ في الزحاليق والأراجيح مع أقرانهم؟؟؟
وماذا عن أولئك الذين ليس لديهم ثياباً جديدة يفرحون بها، ولا ألعاب يتمتّعون بها؟؟
علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كيف نعيشُ العيد سعادةً وفرحاً، ونحكيه مواساة للحزانى، وتعاطفاً مع المنكوبين والمجروحين والغرباء...
علّمنا كيف نمسحُ على رؤوس الأيتام، ونبعث شفاههم الحزينة على الابتسام...
علّمنا كيف نزرعُ الفرح في قلوب الآباء والأمهات وسائر الأرحام، والجيران...
علّمنا كيف نتفقّد الفقراء والمساكين...
علّمنا كيف نجعلُ من يوم العيد ذكرى صفاء وإصلاح ولقاء...
فيا ساعات العيد الباسمة، انُثُري دقائقك وثوانيك مطراً على روابينا المشتاقة للقَطْر...
ويا شمسه السّاطعة، انسُجي من خيوطك السنيّة ثياباً زاهية، وأرسليها للأطفال الذين يَلبسون الخوف في الليل، والدموع في النهار...
ويا نجوم العيد.. أرسلي لنا بسمةً تلوّن شفاهنا لتتوحّد مشاعرنا...(/3)
العنوان: ألفاظ النصر والتمكين في القرآن الكريم – دراسة دلالية –
رقم المقالة: 438
صاحب المقالة: د. عبدالوهاب محمد علي العدواني وعماد عبد يحيى
-----------------------------------------
إنَّ النصر الذي وعد الله المؤمنين به ليس سهلاً، بيد أنّه يتحقق للذين يستحقونه بإخلاصهم لعقيدتهم وثباتهم عليها وجهادهم في سبيلها. فثمرة هذا الجهاد الطويل كما بيّن القرآن نصر من الله وفتح قريب[1]، وتمكين في الأرض واستخلاف لمن ثبت على البأساء والضرّاء[2]، ويقابل هذا خذلان وانتكاس لأهل الباطل في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وقد تضافرت ألفاظ عديدة في القرآن الكريم لتدل على أنّ النصر والتمكين للمؤمنين في الحياة الدنيا مترتبان على ما يبذله المؤمنون في سبيل عقيدتهم، وهذا الأمر يجعلنا نعد هذه الألفاظ مستعملة للدلالة على الثواب الدنيوي في جانب من جوانبه. ويأتي جذر: (ن، ص، ر) في مقدمة المواد اللغوية في هذه المجموعة من الألفاظ.
ولهذا الجذر في اللغة دلالات حسية تلقى ظلالها على الاستعمال القرآني، ومن ذلك: نَصر المَطرُ أو الغَيْثُ الأرض: سقاها وغاثها، وَنُصَرَتِ الأرضُ: إذا مُطِرَت[3]. وسُمِّيَ المطر نَصراً، كما سُمِّيَ: فَتْحنا، وقيل: ومدت الوادي النواصر: وهي المسايل التي تأتي بالماء من بعيد[4]. والنّصر أيضاً: الرزق[5]، أو العطاء[6]. وحكي أنَّ سائلاً وقف على قوم، فقال: انصروني، نصركم الله، يريد: اعطوني، أعطاكم الله[7]. وهو مستعار من نصر الأرض[8]. والنصر: التأييد[9] والعون[10].
ومما لاشك فيه أَنّ العلاقة واضحة بين المعنى الحسي والدلالة المعنوية للنصر، وقد أدرك العربي عمق هذه العلاقة لأنّه يعرف أهمية الغيث في حياته الصحراوية الظامئة الصعبة.(/1)
والنصر – كما بيّن القرآن الكريم – يكون دنيوياً وأخروياً، فقد قال الله – سبحانه وتعالى –: {مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ ينصَرَهُ الله في الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السماء، ثمَّ لْيَقْطَعْ، فَلْيَنْظُرْ هل يُذْهِبَنَّ كيدُهُ ما يَغيظُ}[11]، ويكون النصر في الدنيا بإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، ويكون في الآخرة بإعلاء الدرجة والمنزلة في الجنة[12]، قال – تعالى –: {إنا لنَنْصُرُ رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدّنيا ويَوْمَ يقومُ الأشهادُ}[13]، والنصر في الدنيا قد يكون بالحجة وبأخذ الظالمين[14]، ولهذا اللفظ في القرآن الكريم أربعة وجوه[15]:
الأول: النصر بمعنى: المنع، قال – تعالى –: {ولا يُؤْخذُ منها عَدْلٌ ولا هُمْ يُنْصَرونَ}[16]، ويعني: ولا هُم يمنعون من العذاب، ويقابل ذلك إثبات النصرة للمؤمنين، وهي النجاة من العذاب كما مر بنا في عرضنا المبسوط لألفاظ النجاة[17].
الثاني: النصر بمعنى: العون، ومن ذلك قوله – تعالى –: {يا أَيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم}[18] فنصرة العبد لله ((هو نصرته لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده واعتناق احكامه واجتناب (مناهيه)[19]، ويترتب على هذا الجهد من العبد نصر الله وهو عونه لعبده، وكذلك قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}[20]. وذهب أبو هلال العسكري إلى أنَّ هناك فرقاً بين النصرة والإعانة، وذلك ((أَنَّ النصرة لا تكون إلا على المنازع المغالب والخصم المناوئ المشاغب، والإعانة تكون على ذلك وعلى غيره، يقول: أَعانه على من غالبه، ونازعه، ونصر عليه، واعانه على فقره: إذا اعطاه ما يعينه، وأعانه على الأحمال، ولا يقال: نصره على ذلك، فالإعانة عامة والنصرة خاصة))[21].(/2)
وهذا الفرق الدلالي ليس مُطرداً، فقد ورد النصر بمعنى: طلب العطاء، ولكن يمكن القول: إنَّ القرآن خصص دلالة النصر في استعماله بأن تكون على الخصم، وهذا التخصيص يجعل اللفظ منصرفاً إلى عون الله للعبد وتقويته على الجهاد[22]، ومما لاشك فيه أَنَّ النصر – هنا – غير مقيد بالغلبة الظاهرة ((لأن المغلوب إذا كان مستحقاً للثواب فهو المنصور والغالب إذا كان من أهل العقاب، فهو مخذول غير منصور))[23]، ((والغلبة على المؤمن لا تخرجه عن كونه المنصور لأنّه المحمود العاقبة))[24].
الوجه الثالث: النصر بمعنى: الظفر، وذلك قوله: {وما النَّصرُ إلاّ منْ عِندِ اللهِ}[25] ، وقد خص القرآن النصر بأنه من عند الله لكي يكون توكلهم على الله لا على الملائكة الذين وعدم الله بإمدادهم بها[26].
والوجه الرابع: النصر بمعنى: الانتقام، وذلك قوله: {ولو شاء الله لانتصر منهم}[27].
– وقد يعبر القرآن عن النصر ((بالروح)) كما في قوله: {أولئك كَتَبَ في قُلوبهِمُ الإيمانَ وأيدهُمْ بروح منهُ}[28]، فالروح ((ههنا هو: النصر والغلبة والإظهار والدولة، وقد يعبر عن ذلك بالريح، والروح والريح كلاهما يرجعان إلى معنى واحد، وقال – سبحانه –: {ولا تَنازَعوا فتَفْشَلوا وتَذهبَ ريحُكُمْ}[29] أي: دولتكم واستظهاركم))[30].
وقد عبر القرآن الكريم عن النصر والغنيمة أيضاً بلفظ.
– الحسنة: وقد عبر بها عن كل ما يسر من نعمة، تنالُ الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله، والسيئة ضدها[31]، ومن ذلك قوله: {وإنْ تُصِبهُم حسَنَةٌ يقولوا هذه من عند الله وإنْ تُصِبهُم سَيّئة يقولوا مِنْ عِنْدكَ}[32] وقوله:(/3)
{ما أصابَكَ مِنْ حَسنة فَمِنَ الله وما أصابك منْ سيئة فَمنْ نفسك}[33] فالحسنة هنا تعني: النصر والغنيمة، يوم بدر، والسيئة تعني: القتل والهزيمة يوم احد وهو تفسير اسماعيل بن عبدالرحمن السدي[34] ومقاتل[35] والذي يرجح تخصيص دلالة اللفظ هنا بالنصر هو السياق، لأنه يتحدث عن القتال في سبيل الله[36].
وقد خص لفظ ((الحسنة)) بدلالة معينة في كل سياق ورد فيه، فمن ذلك: الرخاء والخصب[37] في قوله – تعالى –: {ثُمَّ بدَّلْنا مَكَان السيئةِ الحسَنَة}[38]، والذكر الطيب والثناء الجميل[39] في قوله – تعالى –: {وأَتيناهُ في الدُّنْيا حسنةً}[40]، إلى غير ذلك من الدلالات كالنبوة ولسان الصدق واجتماع الملل على ولايته، والصلاة عليه، والأولاد الأبرار على الكبر[41].
وقد يستعمل القرآن لفظ:
– الفرقان: للدلالة على النصر أو ماله علاقة التزامية به. الفَرْقُ في اللغة: ((يقارب الفَلْق، لكَّن الفَلْق يُقال اعتباراً بالانشقاق والفَرْق يقال اعتباراً بالانفصال))[42]. والفَرْق، مصدر فَرَقت الشعر[43]. والمِفْرِقُ والمَفْرَقُ: وسط الرأس، وكذلك: مَفْرِقُ الطريق ومَفْرَقَه، للموضع الذي يتشعب منه طريق آخر[44]. والفَرْقُ أنْ تفرق بين الحق والباطل فَرْقاً وفُرْقاناً[45]. والفَرَقُ بالتحريك: الخوف، والفَرقُ أيضاً تباعد مابين الثنيتين، ... وفي الخيل: إشراف إحدى الوركين على الأخرى... والفِرْقُ[46]: الفِلْقُ من الشّيء إذا انفلق، ومنه قوله – تعالى –: {فانْفَلَقَ فكانَ كْلُّ فِرْقٍ كالطّودِ العظيم}[47].
والفرقان: القرآن، وكل ما فرَق به بين الحق والباطل، فهو فرقان[48].
وأوجه الفرقان في القرآن ثلاثة[49]:
الأول: النصر وذلك قوله: {وإذْ آتينا مْوُسى الكتابَ والفُرْقان}[50] يعني: النصر، فرق الله بين الحق والباطل، فنصر موسى وأهلك عدوه.(/4)
الثاني: المخرج، وذلك قوله: {وَبَيّناتٍ منَ الهُدى والفُرقان}[51]، يعني: المخرج في الدين من الشبهة والضلالة.
الثالث: القرآن، وذلك قوله: {تَباركَ الذي نَزَّل الفرْقانَ}[52].
أما قوله – عز وجل –: {يا أَيها الذين آمنوا إنْ تتقُوا الله يجعَل لكم فُرقاناً}[53] فقد اختلف أهل اللغة والتفسير في تحديد دلالته، فقالوا:
- المخرج، وهو قول مجاهد.
- النجاة، وهو قول ابن عباس وعكرمة وابن زيد والسدي.
- الفصل بين الحق والباطل، وهو قول ابن اسحاق[54].
- الفتح والنصر وهو قول الفرّاء[55].
- النور والتوفيق على قلوب المؤمنين، يفرق بين الحق والباطل، فكان الفرقان كالسكينة والروح في غيره، وهو قول الراغب[56].
- النصر، لأنّه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله وهو قول الزمخشري[57].
والبادي لنا: أَنَّ الفرقان جعل جزاء مترتباً على التقوى كما جعل تكفير السيئات والمغفرة، ولفظ ((فرقان)) مطلق يمكن أَنْ يحمل على جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين والكفار في الدنيا والآخرة، ومن ذلك: أَنّ الله يخص المسلمين بالعلو والفتح والنصر والظفر في الدنيا، وبالثواب والمنافع الدائمة في الآخرة[58].
ومن الألفاظ التي اقترنت بالنصر لفظ:
- يؤيد: والتأييد في اللغة، هو التقوية، يقال: آدَ الرجل يَئيد أَيْداً: اشتَدَّ وقَويَ. قال العجاج[59].
مِنْ أَنْ تَبدَّلْتُ بِآدي آذا لَمْ يَكُ يَنْآد فأمسى آنْآدا
يعني: بشبابي قوة المشيب.
وقال الأعشى[60]:
قَطَعْتُ إذا خَبَّ رَيْعانُها بِعْرفاء تَنْهَضُ في آدِها
ورجل أَيْد أي: قَوِّي[61].
ومن الدلالات الحسية لجذر (أ، ي، د): الأيادُ: وهو تراب يجعل هو الحوض أو الخباء، يقوّى به، أو يمنع ماء المطر. قال ذو الرمة يصف الظليم[62]:
ذَعَرْناهُ عَنْ بيضٍ حِسانِ بأجْرَعِ حَوى حَولَها مِنْ تٌربهِ بإيادِ(/5)
وسئل عبدالله بن عباس عن قوله - تعالى -: {والله يْؤيدُ بنصرهِ مَنْ يشاءُ}[63]، فقال: يقوي، ونبه على أَنَّ العرب تعرف ذلك واستشهد بقول حسان بن ثابت[64]:
برجال لَسْتُم أَمْثالَهمْ أُيِدُّوا جِبْريَل نَصْراً فَنَزَلْ
والتّأييد من الله - عز وجل - يكون بضروب من الألطاف: كإمداد المؤمنين بالملائكة، أو بأن يخطر ببالهم ما أعدّ لهم من نعيم الجَنّة، فتقوى بذلك أنفسهم، أو بأن يلقي الخوف في قلوب أعدائهم، فيكون ذلك سبباً لتمكينهم[65].
والملاحظ أَنَّ هذه المادة قد استعملت في سياق الحديث عن النصر والجهاد في خمس سور مدنية[66]، وجاءت بالصيغة الماضية، لأنها في سياق التذكير بألطاف الله في حوادث معينة، كقوله – تعالى –:{فأَنْزَل اللهُ سكينَتَهُ عليْه وأَيّده بجنود لَمْ تَروها}[67]، ما عدا قوله – تعالى –: {والله يُؤيّدُ بنصره منْ يَشاء}[68].
فقد جاءت فيه بصيغة المضارع، لأن مقصود هذه الآية هو بيان حقيقة، أنّ النصر والظفر من الله، ومما لاشك فيه أَن بناء الفعل المضارع في العربية يفيد الحدوث والتجدد والاستمرار[69] مما يشير إلى أَنَّ التأييد من الله للمؤمنين ملازم لحالة الجهاد ما دامت قائمة.
ويلاحظ – كذلك – أَنها جاءت بصيغة ((فعّل)). الدالة على الكثرة والقوة الشديدة[70].
إنَّ تأييد الله المؤمنين بالنصر كان مسبوقاً بفضل آخر في الدنيا ذلكم هو – الإيواء: فقال – سبحانه – {واذْكروا إذْ أَنْتْم قَليل مُسْتَضْعَفونَ في الأرض تَخافونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ الناسُ فَآواكُمْ وأَيدكمْ بنصره}[71]. والمأوى: كل مكان يأوي إليه شيئ ليلاً أو نهاراً[72]. وفيه معنى: الجمع والضم[73]، فقوله – تعالى –: (فآواكم) يعني: ضمكم إلى المدينة[74]. وذكر مقاتل ويحيى بن سلام وجهاً آخر للفظ، وهو الانتهاء إلى الشيء[75] كقوله – تعالى –:{فأووا إلى الكهف}[76].
وما اقترن بالنصر أيضاً مادة:(/6)
– ثبت: والثبات في اللغة ضد الزوال، يقال: يَثْبتُ الشيء ثَباتاً وثْبوتاً، وَأَثّبَتَهُ غيره وثَبّتَهُ غيره وثَبّتُهُ، بمعنى واحد[77]، والمُثْبَتُ هو الذي قد ثقل وأثبت فلا يبرح الفراش[78]. ويقال: أثبته السُّقم إذا لم يفارقه[79].
والثَّبْتُ والتَّثْبيتُ: هو الفارس الذي لا يُصْرَع، ولم يزلّ في خصام أو قتال، قال العجاج[80]:
وَمِنْ قُرَيْشٍ كُلُّ مَشْبوبٍ أَعَزُّ مُعاوِدُ الإقدامِ قدْ كرَّ وكَرْ
في الغمَراتِ بَعْدَ ما فرَّ وفر ثَبْتٍ إذا ما صيح بالقومِ وَقَر
ومن الدلالات الحسية لجذر (ث، ب، ت) الثِباتُ وهو سير يُشَدُّ به الرحْلُ والمُثْبَتُ هو الرحل المشدود به[81].(/7)
ويستشف من هذه الدلالات معنى: القوة[82]، وهذا المعنى يلمح في استعمال القرآن الكريم لهذه المادة؛ ومن ذلك قوله – تعالى – {إذْ يُغَشّيكُمُ النُّعاسُ أَمَنَةً مِنه ويُنزِّلُ عليكم منَ السماء ماءً ليطهرَكُمْ بهِ ويُذهبَ عنكمُ رِجْزَ الشيطان وَليربطَ على قلوبكُم ويُثبت به الأقدام. إذْ يوحي ربك إلى الملائكة أَنّي معكم فثبتوا الذين آمنوا سَأُلقي في قُلوبِ الذينَ كَفروا الرعبَ فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كُلَّ بَنان}[83]، تثبيت الأقدام مترتب على قوة القلوب في جهاد العدو، ولا يتم ذلك إلا حينما يكون الثبات على الدين[84]، وعلى هذا ((يكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب))[85]. وهي على حد قول استاذنا محيي الدين توفيق: ((كتابة عن الصمود في وجه الأعداء والصبر على مقارعتهم والانتصار عليهم))[86]. وفيما يتعلق بسياق النص فقد لمح استاذنا كاصد الزيدي ملمحاً لطيفاً في نعمة الماء المنزل الذي له منفعة مادية متمثلة بتطهير الأجسام. ومنفعة معنوية تتمثل في الربط على القلوب وتثبيت الأقدام، فأشار إلى أنهما ((عنصران نفسيان لأنهما يقترنان بالطمأنينة والثقة النفسيتين، ولاسيما أَنَّ المسلمين كانوا في مجال حرب، وهم بأشد الحاجة إلى ما يثبتهم، ويقوي معنوياتهم، بعد أَنْ عدموا الماء لنزولهم في كثيب أَعفر تسوخ فيه الأقدام))[87].
وأما تثبيت الملائكة للمؤمنين فهو بُشْرَى لهم بالنصر، أو قتال معهم، أو حضور بهيئة الرجال يمدونهم بالنصر، وفي ذلك كله قوة للمسلمين[88].
ويلاحظ أيضاً أن لفظ:
– يربط: كان مستعملاً في الآيات التي تتحدث عن النصر والجهاد. ولجذر (ر، ب، ط) في اللغة دلالات حسية، منها:
رَبَطْتُ الشيء أَربِطُهُ، وأَرْبُطُهُ، : شددته، والموضع مْربَط ومَرْبِطٌ.... ويقال: نعم الربيّط هذا، لما يرتبط من الخيل... والرباط ما تشد به القربة والدابة وغيرهما والجمع رُبُطٌ. قال الأخطل[89]:(/8)
تموتُ طَوراً وتحيا في أَسِرَّتِها كما تُقَّلبُ في الرُّبْطِ المَراويدُ
وفيهم رباط الخيل: حبسها واقتناؤها، قال الشاعر[90]:
فينا رِباطُ جياد الخيلِ مُعْلَمَةً وفي كُلْيب رِباطُ اللُّؤْمِ والعارِ
وأعدوا رباط الخيل وهي ما يرتبط منها، ومن التطور الدلالي للمادة:
رابط الجيش: أقام في الثغر، والأصل أن يربط هؤلاء وهؤلاء خيلهم، ثم سميت الإقامة في الثغر مرابطة ورباطاً، والغزاة في مرابطهم ومرابطاتهم، وهي مواضع المرابطة، ووقف ماله على المرابطة، وهي الجماعة التي رابطت[91]. ويلاحظ أَنَّ هذه الدلالات وجدت بعد الإسلام وتوسع الفتوح، واستقرار الفاتحين في الثغور.
ومن الدلالات الحسية للمادة – أيضاً – قولهم: ترابط الماء في مكان كذا، إذا لم يخرج من مجتمعه وركد فيه، ومنه ماء مترابط؛ قال الشاعر يصف سحاباً[92]:
تَرى الماءَ منْهُ مُلْتَقٍ مُتَرابِطٌ وَمُنْجَرِدٌ ضاقت بهِ الأرضُ سائحُ
واستعملت هذه المادة في القرآن الكريم خمس مرات، وجاءت مقترنة بالقلب ثلاث مرات، وذلك في قوله – تعالى –: {إنْ كادَت لَتُبْدي به لولا أَنْ رَبَطنا على قَلبِها لتكونَ منَ المؤمنين}[93]. وهذا لطف من الله إذْ أَلهمها الصبر كما يربط الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن[94]. وقوله: {ورَبَطنا على قُلوبِهم إذْ قاموا، فقالوا: رَبٌّنا رَبُّ السمواتِ والأرضِ لَنْ ندعوَ منْ دونه إلهاً لقد قُلنا إذاً شططاً}[95]. والربط هنا ((عبارة عن شدة عزم وقوة صبر اعطاها الله لهم... ولما كان الفزع والخور يشبه بالتناسب الانحلال، حسن في شدة النفس وقوة التصميم أَنْ يشبه الربط))[96]. وقوله {وليربِطَ على قلوبِكم، ويُثَبت به الأقدام}[97]، المراد: أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم، وزال الخوف والفزع عنهم، ويقال لكل من صبر على أمر: ربط قلبه عليه، كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب))[98]. والقى استعمال حرف الجر (على) الذي يفيد الاستعلاء ظلّه على دلالة اللفظ[99].(/9)
فكأَنَّ المعنى: ((أن القلوب أمتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفَع فوقها))[100].
وَأَمّا قوله – تعالى –: {يا أَيُّها الّذين آمَنوا اصْبِروا وصَابروا وَرابطوا}[101]، ((فمعناه عند الجمهور: رابطوا أعداءكم الخيل، أي:
ارتبطوها، كما يرتبطها أعداؤكم))[102]. وكذلك – قوله – تعالى –: {وَأَعدّوا لَهْمْ مااسْتَطَعْتْمْ منْ قُوةٍ وَمنْ رِباطِ الخيْلِ}[103]، وذكر الراغب أن المرابطة ضربان:
1 - مرابطة في ثغور المسلمين وهي كمرابطة النفس البدن فإنّها كمن أقيم في ثغر وفوّض إليه مراعاته، فيحتاج أن يراعيه غير مخل به وذلك كالمجاهدة قال – عليه السلام –: ((من الرِّباطِ انتظارُ الصّلاة))[104].
2 - ومرابطة بمعنى: قوة القلب، قال – تعالى –: {وَرَبّطْنا على قُلوبهمْ}[105] وبنحو هذا قيل: فلان رابط الجأش[106].
وقد عبّر القرآن عن الربط بلفظ آخر هو:
– الختم: وذلك في قوله – تعالى –: {فَإنْ يَشَأِ اللهُ يَخْتمْ على قَلْبِكَ}[107]، أي: يحفظه ويربطه[108]، قال مجاهد يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم: إنّه مفتر كذّاب[109]. وهذا المعنى فيه صلة بالدلالة اللغوية للمادة، إذ الختم ضد الفتح[110]. وهو التغطية والاستيثاق من أَنْ لا يدخله شيء[111]، وفي ذلك حفظ القلب من أي مداخلة تشق عليه.
ومن أَلْطاف الله – سبحانه وتعالى – وتأييده للمؤمنين في الدنيا إمدادهم بالملائكة: وقد جاء ذلك في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم:
– {فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنّي مُمدٌّكُمْ بأَلْفٍ منَ المَلائكَةِ مْرُدِفينَ}[112].(/10)
– {إذْ تَقولُ للمُؤْمنينَ ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمدَّكُمْ رَبُّكُمْ بثَلاثَةِ آلاف منَ الملائكَةِ مُنْزَلينَ. بَلَى إنْ تَصْبروا وَتَتَقوا وَيَأْتوكُمْ منْ فَوْرِهمْ هَذا يْمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخَمْسَةِ آلاف منَ المَلائكَةِ مْسَوِّمين}[113] ونلحظ أَنّ الإمداد بالملائكة مترتب على الصبر والتقوى، وثمة فرق في دلالة هذه المادة اللغوية، فإذا كانت من: مدّ النهر، فالفعل لازم بمعنى: زاد أو طما، أَو زخر، وأَمّا الذي يتعدى كقولهم: مَدَّهُ نَهْر آخر وأَمْدَدْتُ الجيشَ بمَدَد فمعناه: كَثَّرَ غيره وقوّاه ووصله، كقول العجاج[114]:
ماءُ قَرِيٍّ مَدَّهُ قَرِىُّ
وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب كما في الآيات السابقة، والمّدُّ في المكروه[115]، كقوله – تعالى –: {كَلاّ سَنََكْتُبُ ما يَقولُ ونَمْدُّ لَهُ منَ العَذابِ مَدّاً}[116].
والمدّ في القرآن على خمسة أوجه[117]، وذكر يحيى بن سلام ستة[118]: فما كان من الرباعي جاء بمعنى: العطاء، كقوله – تعالى –: {وَيُمْدِدْكُمْ بأَمْوال وَبَنين}[119]، وكالآيات التي جاء فيها ذكر الإمداد بالملائكة. وقد جعَل لها يحيى بن سلام وجهاً آخر، بمعنى: التقوية[120]. وما جاء من الثلاثي فيأتي يَمُدُّهم، بمعنى: يَلِجُهمْ كقوله – تعالى –: {وَيَمُددُّهُمْ في طْغْيانهمْ}[121]، أو بمعنى المد الذي لا انقطاع له، كقوله: {وَظلٍّ مَمْدود}[122]، أو البسط كقوله: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}[123]، أو مدّت يعني: سَوّيت كقوله: {وإذا الأرضُ مُدَّتْ}[124] وإذا كان إمداد المؤمنين بالملائكة بشرى لهم كما أنه يلقي الاطمئنان في قلوبهم. فمن هنا يعدّ:(/11)
– الاطمئنان: من ألطاف الله بالمؤمنين في الدنيا فقد قال – سبحانه – {ومَا جََعَلَهُ اللهُ إلاّ بْشْرى لَكُمْ وَلتَطْمَئنَّ قُلوبُكُم بهِ}[125]. وأصل الاطمئنان من قولهم: أَرض مطمئنّة ومتطامنة، أي: منخفضة. واطمأَنّ بالمكان، ووتّد الله الأرض بالجبال فأطمأنت[126]. واطمأنَّ الرجل اطمئناناً وطمأنينة، أَي: سكن[127] بعد انزعاج[128]. وهذا المعنى هو وجه من الأوجه التي وردت في القرآن الكريم لهذه المادة، فقوله: (ولتطمئن قلوبكم به) يعني: ولتسكن به قلوبكم[129].
وللمادة وجهان آخران هما:
– الرضا: كقوله – تعالى –: {فَإنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمأَنَّ به}[130] أي رضي به.
– و الإقامة، كقوله: {فإن اطمأننتم}[131]، يعني فإذا أَقَمتم[132] ومن ألطاف الله بالمؤمنين حينما يصيبهم الفزع أَن ينزل عليهم: السكينة، والسكينة، والسكون في اللغة: الاستقرار والثبات بعد تحرك، يقال: سَكَن الشيء سكوناً: استقرّ وثبت، وسكّنه غيره تسكيناً[133]. والمَسْكنُ والّمسْكنُ والّمسْكَنُ[134] المنزل والبيت[135]. والسّكَنُ: ما سكنت إليه[136]. قال الله – عز وجل – {وَجّعّلَ الليْلَ سَكَناً}[137] ، والسَكّنُ أَيضاً: النّار[138] قال الراجز[139]:
أَقامَها بسَكَنٍ وَأَدْهانْ
أي: ثقّفها بالنار والدهن. وقال[140]:
ألجأَني الليلُ وريح بلّه إلى سواد إبل وَثُلّه[141]
وسَكَنٍ توقَدُ في مِظَلّهْ
وسميت النار بذلك، لأنّها يسكن بها وهذا مجاز[142].
والسّكْنُ: أَهْلُ الدار، قال ذو الرمة[143]:
فَيا أَكْرَمَ السّكْنِ الذين تَحَمّلوا عَنِ الدارِ والمُسّتَخْلَفِ المُتبدَّلِ(/12)
ومن المجاز قولك: ((هي السكينة في الوقارِ))[144]. وقد فرّق أَبو هلال العسكري بين السكينة والوقار، فقال: "إنَّ الوقار هو الهدوء وسكون الأطراف وقلّة الحركة في المجلس، ويقع – أيضاً – على مفارقة الطيش عند الغضب مأخوذ من الوقر: وهو الحمل، والسكينة: مفارقة الاضطراب عند الغضب والخوف، وأكثر ما جاء في الخوف ألا ترى إلى قوله – تعالى –: {فأَنْزَل اللهُ سَكينَتَهُ عليه}[145]، وقال: {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ على رَسولهِ وَعَلى المْؤْمنينَ}[146]، ويضاف إلى القلب كما قال – تعالى –: {هُوَ الّذي أَنْزَلَ السّكينَةَ في قلوبِ المُؤمِنينَ}[147] فيكون هيبة وغير هيبة، والوقار لا يكون إلاّ هيبة"[148].
والمراد بإنزال السكينة في قلوب المؤمنين: ((أَنّه سكّن قلوبهم وآمنهم من العدو، فمن حيث فعل ذلك كان منزلاً للسكينة في قلوبهم، ليزدادوا إيماناً، ويقووا على الجهاد، ويطلبوا الظفر، ومتى حمل الكلام على ما ذكرنا كان للكلام على الحقيقة، لأنّ الأمر الذي تأولناه عليه من فعله – تعالى))[149] وأشار برجشتراسر إلى أَنَّ الكلمة الآرامية (Skinta) – وهي مصدر في أصلها بمعنى: السكون والنزول في محل – قريبة من لفظ (سكينة) وقد تخصص دلالتها بالسكينة المضافة إلى الله – سبحانه –[150].
وورد جذر (س، ك، ن) في القرآن الكريم على أربعة أوجه[151]:
– القرار، كقوله – تعالى: {اللهُ الّذي جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ لِتسْكنوا فيه}[152]، يعني: لتستقروا فيه من التعب.
– النزول، كقوله – تعالى –: {وَقْلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنّةَ}[153]، يعني: انزلها أنت وزوجك.
– الإستئناس، كقوله: {وَمنْ آياتهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ منْ أَنفسكمْ أَزْواجاً لتَسْكُنوا إلَيْها}[154].
– الطمأنينة، كقوله: {فَأَنْزََلَ السّكَينَةَ عَلَيْهِمْ}[155]، يعني: الطمأنينة في قلوبهم[156].
وورد لفظ السكينة في القرآن ست مرات في أقواله – تعالى –:(/13)
– {إنَّ آيَةَ مْلْكهِ أَنْ يَأْتيَكُمُ التّابوتُ فيهِ سَكينَة منْ ربكم}[157] وقال الرّاغب فيها: "زوال الرعب... وما ذكر أنّه شيء، كرأس الهرّ فما أراه قولاً صحيحاً"[158].
– {هْوَ الّذي أَنْزَلَ السّكينَةَ في قُلوبِ المُؤمنينَ ليَزْدادو إيماناً}[159].
– {فََعَلِم ما في قُلوبهم فَأَنْزَلَ السّكينَةَ عَلَيْهمْ وأَثابَهُمْ فَتْحاً قَريباً}[160].
– {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكينََتَهُ على رَسولهِ وَعَلى المُؤْمنينَ}[161].
– {ثْمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ عَلى رَسولهِ وَعَلى المُؤْمنينَ}[162].
– {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ عَلَيْهِ وأيَّدهُ بجنود لم تروها}[163].
والملاحظ أنَّ هذا اللفظ قد استعمل في القرآن في مواضع القلق والاضطراب التي انتابت الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين كالذي حدث في يوم الغار، ويوم حنين ونحوهما، فأوجبت زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات[164] وإذا ما تحقّقّت الطمأنينة والسكينة في نفوس المؤمنين يكونون أَقدر على إنجاز المهمات الجهادية فَيَمُنّ الله عليهم بالفتح.
– ولفظ الفتح: غزير بدلالاته اللغوية ومتنوع في استعمالاته القرآنية ومن الدلالات الحسية لجذر (ف، ت، ح)، قولهم: ناقة فتوح: للواسعة الأحاليل[165].
والفُتوح: واحدها فتح، وهو أول مطر الوسمي، لأنّه يفتتح الشهر بالمطر[166]. قال الراجز[167]:
كَأَنَّ تحتي مُخْلفاً قروحاً يَرْعى غُيوثَ العَهْدِ والفُتوحا
والفِتاح: مخر الأرضي ثم حرثها[168]. والفَتْحُ: الماء يجري من عين أو غيرها[169].
ويلاحظ أَنَّ هذه الاستعمالات تحمل دلالة الخصب والعطاء، حتى إنهم قالوا إذا ما ظهرت أمارات الخصب: ما أحسن ما افتتح عامنا به[170].
والفتح فيه دلالة السعة – أيضاً –، فقولهم: باب فُتُحُ أي: واسع مفتوح، وقارورة فُتُحُ، أي: واسعة الرأس[171].
ويقال: هي الفِتاحة والفِتاحة، من المفاتحة، وهي: المحاكمة، وأنشد ابن السكيت وهو للأسعر الجعفي[172]:(/14)
الا أَبْلغْ بني عمراً ورسولاً فإنّي عن فُتاحَتكُمْ غنيُّ
والفتّاح: الحاكم[173]. والفَتْحُ: أن تحكم بين قوم يختصمون إليك[174]. وقال الأعرابي لآخر ينازعه: بيني وبينك الفتّاح، يعني: الحاكم، وقال الفرّاء: أهل عُمان يسمون القاضي الفتّاح[175]، وقال ابن عباس في قوله – تعالى –: {إنّا فَتَحْنا لكَ فَتْحاً مُبيناً}[176]: كنت أقرؤها، ولا أدري ما هي حتى تزوجت بنت مشرح، فقالت: فتح الله بيني وبينك، أي: حكم الله بيني وبينك[177]. وعلى هذا فالفتح هو إزالة الإغلاق والإشكال[178].
واستعمل أوجه القرآن الفتح على أربعة أوجه[179]:
– القضاء: وذلك كقوله – تعالى –: {ربّنا افْتَح بيْننا وبَيْنَ قَوْمنا بالحَقِ وأنت خَيْرُ الفاتحينَ}[180].
– الارسال: كقوله: {ما يَفْتَح اللهُ للنّاس منْ رحمة فلا ممْسكَ لَها}[181].
– الفتح بعينه: كقوله: {حتى إذا جاءوها وفُتحَت أَبوابُها}[182].
– النصر: لأنّ الله يفتح به أمراً مغلقاً[183]، كقوله: {فَعَسى اللهٌ أَنْ يأتيَ بالفَتْحِ أَو أَمْر منْ عندهِ}[184]، وقوله: {إنْ تَستفتحوا فقَدْ جَاءكُمُ الفَتْحُ}[185]، أي: النصر[186].
والملاحظ أن لفظ ((الفتح)) فيه دلالة الفصل بين الشيئين ليظهر ما وراءهما[187] فالنصر إذا كان بمعنى: الظفر والغلبة، فالفتح يحمل – فضلاً عن هذا – دلالة الفصل بين الحق والباطل وظهور ذلك للبصر والبصيرة، وسياق الآيات يوضح ذلك، فقد قال – سبحانه وتعالى –: {فَتَرى الذين في قُلوبهمْ مَرض يُسارعون فيهمْ يَقولون نَخشى أَنْ تُصيبنا دائرة فعسى اللهُ أن يأتَي بالفَتْح أَو أَمْر منْ عنْده، فَيُصبحوا على ما أَسَروا في أَنْفسهمْ نادمين}[188]، فالمنافقون كانوا يشكّون في أَمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويحدثون أَنفسهم قائلين: لا نظنّ أَنّه يتم له أمره، والأظهر أن تصير الدَّولة والغلبة لأعدائه.(/15)
فوعد الله – سبحانه – أن يأتي بالفتح لرسوله – صلى الله عليه وسلم – على أعدائه ليظهر المسلمين بالحق على أعدائهم، ويقطع دابر اليهود، فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم[189].
ومما يكشف عن الدلالة التي ذكرناها – أيضاً – في سبب النزول، قوله – تعالى –: {إن تستفتحوا فقدْ جاءكم الفتح}[190]، فقد روى الحاكم عن عبدالله بن ثعلبة بن صغير أَنه قال: كان المستفتح أبا جهل، فإنّه قال حين التقى القوم: اللّهم أَيُّنا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف فَأحْنهِ: (فأملكه) الغداة. وكان ذلك استفتاحاً، فأنزل الله: {إنْ تَسْتفْتحوا فقَدْ جاءكم الفتح} إلى قوله: {وأَنَّ اللهَ مع الصابرين}[191]. والبادي من هذه الرواية أَنَّ أبا جهل كان لا يعرف الحق من الباطل مكابرة، فاستعمل القرآن لفظ ((الفتح)) ليدل على معنى الفصل بين الحق والباطل وظهور ذلك للعيان من خلال انتصار المسلمين، والمعنى: ((إنْ تَسْتنْصروا لأَهْدى الفئتين وأكرم الحزبين فقد جاءكم النصر))[192]. مظهراً أهل الحق مركساً أهل الباطل.
وإذا ما تم الفتح فقد تحقق وعد الله الذي وعد به عباده المؤمنين وهو الاستخلاف والتمكين والأمن، وذلك في قوله – تعالى –: {وَعَدَ اللهُ الذين آمنوا منكمْ وعَملوا الصّالحاتِ ليستخْلفَنّهمْ في الأرضِ كَما استَخلفَ الّذينَ منْ قبلهمْ وليمكننَّ لهمْ دينهمُ الذي ارْتضى لهم وليبدلنهم منْ بعدِ خوفهمْ أَمناً يعبدونَني لا يُشْرِكونَ بي شيئاً ومنْ كفرَ بعدَ ذلكَ فأُولئكَ همُ الفاسقونَ}[193].
– ولجذر (خ، ل، ف) في اللغة دلالات عديدة، منها: الخَلْفُ: نقيض القدّام.
والخَلْفُ: القرن بعد القرن[194]. ويقال: هذا خَلْفُ سوء لناس لاحقين بناس أكثر منهم، قال لبيد[195]:
ذَهَبَ الذينَ يُعاشُ في أَكْنافهم وبقيتُ في خَلْف كجلدِ الأجربِ(/16)
والخَلْفُ: الرَّديُّ من القول، ويقال في مَثَلٍ: ((سكتَ ألفْاً ونطقَ خَلْفاً)) للرجل يطيل الصمت فإذا تكلم تكلم بالخطأ[196].
والخَلْفُ. الاستقاء، قال الحطيئة[197]:
لِزُغب كأوْلادِ القطا راث خلْقُها على عاجزات النَهضِ حُمْرٍ حواصِلُهْ
والْمسْتَخْلِف: الذي يحملُ الماء من بعد إلى أهله[198].
والخَلْفُ: أقصر أضلاع الجنب، ومنه قول طرفة بن العبد[199]:
وطَيِّ مَحالٍ كالحَنيِّ خُلوفُهُ وأَجرِتَةٌ لُزَّتْ بِدَأْيٍ مْنّضَدِ
والخَلْفُ الخَلَفْ: ما جاء من بَعْدُ، يُقال: هو خَلْفُ سوء من أبيه، وَخَلَفُ صدْق من أبيه... إذا قام مقامه[200]. والخَلَفُ أَيْضاً:
ما استخلفته من شيء[201]. والخِلْفُ: واحد الأخْلاف، وهو: موضع يد الحالب من ضرع الناقة[202]. والخِلْفُ أيضاً: المخاض، وهي: الحوامل من النوق الواحدة خَلِفَةُ[203] والخُلْفُ بالضم: الاسم من الإخلاف، وهو في المستقبل كالكذب في الماضي[204].
والاستخلاف في الآية الخامسة والخمسين من سورة النور: {وَعدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكمْ وعملوا الصالحاتِ لَيَسْتَخْلِفنَهُمْ في الأرض}، هو النيابة تشريفاً للمستخلف[205]، ولهذا ذهب المفسرون إلى أَنّ قوله – تعالى – (ليستخلفنهم) يعني: ليورثنّهم الأرض فيجعلهم ملوكها وساستها، والقول عام يشمل استخلاف الجمهور ما تحقق فيهم الإسمان والعمل الصالح[206]، المفسر بقوله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئاً).
– وأما التمكين فالمَكْنُ في اللغة: بيض الضب، وقد وردت إشارة في شعر أبي الهندي (ت 180هـ)، إلى أَنّه من طعام العرب، فقال[207]:
ومَكْنُ الضِباب طَعامُ العُريب ولا تَشتهيهِ نُفوسُ العَجَمْ
قال ذلك مفتخراً على العجم، وقالوا: وهذه مَكْنَةُ الضبة ومَكِنَةُ الضبة ومَكِناتُها: مقارُّها[208]. وعلى هذا فالمكن والمكان عند أهل اللغة: الموضع الحاوي للشيء[209].(/17)
وتمكين الدين في الآية الخامسة والخمسين من سورة النور استعارة من هذا المعنى. قال الطبري في قوله: (ليمكنن لهم دينهم): لوطئّنَّ[210].
وفسر الزمخشري: بالتثبيت[211]، وقال الرازي: هو أن يؤيدهم بالنصر والإعزاز[212]، وقال عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي هو التثبيت والتعضيد[213]، ودلالة التمكين على التوطئة والتثبيت دلالة تضمنية، ودلالته على التأييد دلالة التزامية. والملاحظ أَنَّ التمكين متضمن الآلة والمكان الذي يتمكن فيه. وتمكين الله الدين للمؤمنين فيه دلالة على إعطاء ما يصح به الفعل كائناً ما كان من الآلات والعدد والقوى، كما أنّ التمكين فيه دلالة على عدم امتلاك ما حازه[214] المرء، لأنَّ التمكين من الدين يكون على وفق ما أراد الله – سبحانه – من تنفيذ شريعته، لا على وفق ما يريده، الممكَن له في الأرض.
– وأَمّا الأمن؛ فمن دلالاته الحسية؛ قولهم: ناقة أمون: للموثقة الخلق التي أمنت أن تكون ضعيفة[215]. وفرس أمين القوي[216].
والأمن: ضد الخوف[217]، فإذا زال الخوف واطمأنت النفس كان الأمن[218] وتلقي أسباب النزول ضوءاً على دلالات هذه الألفاظ، فقد ((أخرج الحاكم والطبراني عن أبي بن كعب قوله: لمّا قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلاّ بالسلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا: ترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت: {وَعَدَ الله الذين آمنوا منكم... الآية} وعن... البراء (بن عازب) قال: فينا نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد))[219].
وعلى هذا فالآية تبيّن ((جزاء الطاعة المخلصة، والإيمان العامل، في هذه الأرض قبل يوم الحساب))[220].(/18)
والملاحظ أَن أَلفاظ: (ليستخلفنهم، وليمكنن، وليبدلنهم) قد جاء كل منها مؤكداً بالنون، داخلة عليه اللام. وهذه اللام إنّما جاءت لتحقيق الأمر وإثباته في نفوس المؤمنين وانه كائن لا محالة[221].
ومن الألفاظ التي دارت على معنى له علاقة بالاستخلاف لفظ:
– أورث: ذلك أَنّ الورث هو: الأصل والبقية، قال الشاعر[222]:
فَلينْظُر في صُحُفٍ كالرِّباطِ فيهنَّ إرثُ كتاب مُحي
والوراثه والإرث: انتقال قُنْيَة إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك المنتقل عن الميّت، فيقال للقنية الموروثة ميراث وإرث[223]. وحقيقة الميراث في الشرع: ((هو ما انتقل إلى الإنسان عن ملك الغير بعد موته على وجه الاستحقاق))[224].
واستعمل القرآن هذا اللفظ – في قوله – تعالى –: {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الّذينَ كانوا يُسْتَضْعَفونَ مَشارِقَ الأرْضِ وَمَغارِبها الّتي بارَكْنا فيها وَتَمّتْ كَلمَةُ رَبّكَ الحُسْنى على بني إسْرائيلَ بما صَبَروا ودَمّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وما كانوا يَعْرِشونَ}[225] في نزول قوم ديار قوم بعدهم بما صبروا، وجاءت هذه الآية مقابلة لقول موسى: {قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلفَكُمْ في الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعمَلون}[226]، فلمّا بين الله – تعالى – إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بيّن ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه – تعالى – أوْرَثهم أرضهم وديارهم، فتحقق الوعد بالاستخلاف[227]. وورد اللفظ – أيضاً – في قوله – عز وجل –: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأوها وكانَ اللهُ على كُلّ شَيء قَديراً}[228]. للدلالة على أخذ المؤمنين أموال بني قريظة بعد حربهم وَإجلائهم عن المدينة المنورة.(/19)
– وإذا كان الله – سبحانه – قد جعل المستضعفين يرثون الأرض فقد منّ عليهم بأَنْ جعلهم أئمّة في قوله: {وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الّذين اسْتُضْعفوا في الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارِثينَ}[229]. والأمُّ في اللغة: القصد. يُقال أمَمْتُهُ أَؤُمُّهُ أَمّاً: إذا قصدت له[230]. ومن الدلالات الحسية لهذه المادة؛ الإمام: لخشبة البنّاء التي يُسوى عليها البناء، قال الشاعر[231]:
وخَلّقْتُهُ حتى إذا تَمَّ واستوى كُمخةِ ساق أو كَمَتْنِ إمامَ
قَرنْت بِحَقْوَيهِ ثلاثاً فَلَم يَزغْ عَنِ القَصدِ حتى بُصِّرَتْ بدِمام
والإمام: الصقع من الأرض، والطريق... والإمام الذي يقتدى به[232].
وفي هذا المعنى ورد لفظ ((أئمة)) في الآية، قال قتادة: وتجعلهم أئمة، أَي: ولاة أمر[233]. وعن مجاهد: دعاة إلى الخير[234]. وذهب الزمخشري والرازي إلى: أنهم المقدمون في الدين و الدنيا، واقتران لفظ أئمة بلفظي ((الوارثين ونمكّن)) يقوى هذه الدلالة، لأن من لوازم تمكين الله لهم أنْ ينفذ أمرهم ويطلق أيديهم[235].
إنَّ الوصول إلى الاستخلاف في الأرض والتمكين يتم عن طريق الجهاد، وقد قال – سبحانه وتعالى –: {يُجاهِدونَ في سَبيلِ الله ولا يَخافونَ لَومةَ لائِم ذلك فَضْلُ الله يُؤتيه مَنْ يَشاء}[236]، وهذه دلالة الفضل، إذ بيّن – تعالى – أنّ جهادهم على هذا الوجه فضل من الله من حيث يوفق لذلك، ومن حيث يؤديهم إلى النعم العظيمة من الثواب[237].
إنَّ الجهاد في الإسلام حياة كاملة ممتدة، فقد قال – سبحانه – {يا أَيّها اللذَين آمنَوا اسْتَجيبوا لله وللرَّسول إذا دَعاكُمْ لِما يُحْييكُمْ واعلموا أَنَّ الله يَحولُ بَيْنَ المَرءِ وقلبِهِ وأَنَّهُ إليه تُحشرونَ}[238].(/20)
– ولفظ ((يحييكم)) له دلالته اللغوية الخاصة عند العرب، فقد قالوا: اخصب القوم وأحيوا. والحيا... كثرة الغيث[239]. ومن دلالات جذر (ح، ى، ى) الحياة ضد الموت[240]. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أَنَّ سورة الأنْفال بجملتها نزلت في غزوة بدر[241] ترجح لدينا أَنَّ هذه الدعوة تختص بالدعاء إلى الجهاد وقتال العدو، وقد أعلمهم الله – سبحانه –: ((أَنَّ ذلك يحييهم من حيث كان فيه قهر المشركين، وتقليل لعددهم، وفلّ لحدهم وحسم لأطماعهم))[242] … ويجري ذلك مجرى قوله – عز وجل –: {ولكُمْ في القِصاص حياة}[243]. إنَّ تعبير القرآن عن الجهاد بلفظ ((يحييكم)) إنّما هو دلالة على أنَّ الجهاد دعوة إلى عقيدة، تحيي القلوب والعقول وشريعة، تحرر الإنسان وتكرمه، ومنهج للفكر يحقق القوة والعزة والاستعلاء[244].
إنَّ النصر الذي يحرزه المؤمنون بجهادهم لا تتخلف عنه يد القدرة، فولاية الله لهم دائمة، وفي ذلك – يقول – تعالى –: {واللهُ أعْلَمُ بأعْدائكُمْ وكفى باللهِ وليّاً، وكفى باللهِ نَصيراً}[245].
– والولي في اللغة: القْربُ والدُّنْو، يقال: تباعد بعد وَلْي[246]، وقال ساعدة بن جؤيّة الهذلي[247]:
هَجَرَتْ غَضوبُ وَحُبَّ مَنْ يَتَحَبّبُ وعَدَتْ عَوادٍ دون وَلْيِكَ تَشْعبُ
ومن الدلالات الحسية لجذر (و، ل، ي) الوَليُّ: المطر بعد الوسْميّ سُمِّيَ ولَيّاً لأنه يلي الوسمي[248]، والوسمي: مطر الربيع الأول عند إقبال الشتاء[249]. وعلى هذا ((فالولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد))[250]، ولذا صحّ أن تقال الوِلاية والوَلاية في النُّصْرَةِ[251]، مع ملاحظة دلالة الدنو والقرب فيها.(/21)
وقد ترتب على نصرة المؤمن لله ورسوله والمؤمنين الغلبة، وذلك في قوله تعالى –: {وَمَنْ يَتَولَّ اللهَ وَرَسولَهُ والّذينَ آمَنوا فَإنَ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغالبونَ}[252]. قال الرازي: ((قوله: (فإنّ حزب الله هم الغالبون).
جملة واقعة موقع خبر المبتدأ، والعائد غير مذكور لكونه معلوماً، والتقدير فهو غالب لكونه من جند الله وأنصاره))[253].
وجذر (غ، ل، ب) في اللغة له دلالات حسية كثيرة، منها قولهم: ((رجل أَغْلَب: بين الغَلَب، إذا غلظت عنقه حتى لا يمكنه أن يلتفت وبذلك سمي الأسد: اغلب))[254].
وهضبة غلباء، وعزّة غلباء... وحديقة غلباء: متلفة، وحدائق غُلْب. واغلولب العشب: بلغ والتف[255].
والغَلَبَةُ: القهر والاستيلاء، قيل: وأصل غَلَبَ: أن تناول وتصيب غلب رقبته[256].
ونلحظ من هذه الدلالات الحسية أَنَّ في الغلبة قوة ناتجة عن الالتفاف والعظم ولهذا استعملها القرآن في مواضع الجهاد، وتحقيق النصر كقوله – عز وجل –:
- {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَليلةٍ غَلَبَتْ فئةً كثيرةً بإذن اللهِ}[257]، وقوله: {إنْ يكن منكم عشرون صابرون يَغْلبوا مئتين وإنْ يكُنْ منكم مئة يَغْلبوا الفاً منَ الذين كفروا بأنهُم قوم لا يفقهون}[258]. كما استعملها في مواضع بيان قدرة الله وهيمنته كقوله – جلّت قدرته –: {قُلْ للذين كفروا سَتُغلبونَ وتُحشرون إلى جَهَنّم وبئس المهادُ}[259]، وقوله: {واللهُ غالب على أَمره ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعلَمونَ}[260]، وقوله: {أفلا يَرونَ أَنّا نأتي الأرضَ ننْقُصها منْ أطرافها أَفَهُمُ الغالبون}[261].(/22)
إنَّ تحقيق الغلبة والانتصار للمؤمنين له منافع في الدنيا، فقد قال – سبحانه – {قاتلوهُمْ يْعَذِّبُهُمُ اللهُ بأَيْديكُمْ وَيُخْزِهمْ وَيَنْصُرْكمْ عَلَيْهمْ وَيَشْفِ صُدورَ قَوْم مُؤمنينَ وَيُذْهبْ غَيْظَ قُلوبهمْ وَيتوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ واللهُ عَليم حكيم}[262]. وهذه المنافع هي: القتل والأسر والذل والهوان حيث شاهد الكفار أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ويقابل ذلك نصر المؤمنين وشفاء صدورهم، وإذهاب غيظ قلوبهم. وهذه المنافع ((ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضبية، وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ – ولم يذكر – تعالى – فيها وجدان الأموال والفوز والمطاعم والمشارب، وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة فرغّبهم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم))[263].
ومما لاشك فيه أَنَّ هذه الصفات قد وُجِّهَتْ في الإسلام وجهة تخدم العقيدة والفكرة، فكانت قوة الغضب والحميّة والأنفة لأجْل الدين وعلوّه.
– واختيار القرآن للفظ ((يشفي)) للتعبير عن إدراك الثأر له دلالته، إذْ أَنَّ من الدلالات الحسية لجذر (ش، ف، ي) قولهم: شفا البئرِ وغيرِها حَرفْهُ، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك[264]. وذكر ابن السكيت أنه يقال للرجل عند موته، وللقمر عند امِّحاقهِ، وللشمس عند غروبها: ما بقي من فلان إلاّ قليل، وما بقي إلاّ شفا، وكذلك ما بقي من القمر إلاّ شَفَا، وما بقي من الشمس إلاّ شفّا))[265]. قال العجاج[266]:
وَمَرْبَإِ عالٍ لِمَنْ تَشَرَّفا أَشْرَفْتُه قَبْلَ شَفاً أَو بشفا
ويقال: أشاف على كذا وكذا، يشيف إشافَة، وأَشفى يشْفي إشفاءً: إذا اشرف عليه، ويقال: قد شاف الشيء يشوفه شوفاً: إذا جلاه[267]. وحُكي: أَشفني عَسَلاً، أي: اجعله لي شفاءً وقد شفيتُه مما به أشفيه شفاء[268].(/23)
والملاحظ أنَّ لهذه المادة دلالة ضدية، وهي نوع من الانتقال المجازي للتفاؤل فالأصل: القرب من الهلاك، ثم انتقل بها إلى الدلالة على البرء والسلامة. والقرآن الكريم قد استعمل الدلالتين المذكورتين.
فمن الأولى: قوله – تعالى –: {وكُنتم على شَفا حُفرة منَ النار فأنقذَكُمْ منها}[269].
ومن الثانية: قوله: {ويَشفِ صدورَ قَوم مُؤمنين}[270].
إنَّ النصر الذي ناله المؤمنون في الدنيا قد بشر به الله – سبحانه وتعالى – وأكد دفاعه عن المؤمنين منذ اللحظة الأولى من المواجهة المسلحة بين معسكر الإسلام ومعسكر الشرك، فقال: {إنَّ اللهَ يُدافع عَن الذين آمنوا إنَّ اللهَ لا يُحب كلَّ خَوّان كفور. أُذِنَ للذين يُقاتلون بأنهم ظُلموا وإنَّ الله على نَصرهمْ لقدير}[271].
– فما دلالة لفظ ((يدافع)) في هذه الآية؟:
ولجذر (د، ف، ع) في اللغة دلالات حسية، منها قولهم: الدُّفعةُ من المطر وغيره... مثل الدَّفْقَة، والدَّفْقةُ بالفتح: المرة الواحدة... والدّافع: الشاة أو الناقة التي تدفع اللبَأ في ضرعها قبيل النتاج[272].
وبعير مدفّع كريم على أهله إذا قَرَّبَ للحمل ردّ ضَنّأً به، قال ذو الرمة[273]:
وَقَرَّبْنَ للأظْعانِ في كُلِّ مُدَفَّع منَ البُزْلِ يوفي بالحويّة غارِبُه
والمدفع: واحد مدافع المياه التي تجري فيها.. والدُّفّاع بالضم والتشديد: السيل العظيم[274]. وتدافع السيل، قال زهير[275]:
إليكَ من الغَوْرِ اليَماني تَدافَعَتْ يَداها وَنِسْعا غَرْضِها قَلِقانِ
وهذه الدلالات ترتبط بمعاني الخير والخصب.
ومن دلالات المادة السرعة، يقال: دفعت الرجل فاندفع، واندفع الفرسُ أَي: أسرع في سيره[276].(/24)
((والدفع إذا عُدّي بإلى اقتضى معنى: الإنالة، نحو قوله – تعالى –: {فادفعوا إليهم أموالهم}[277]، وإذا عدّى بعَنْ اقتضى معنى: الحماية))[278] نحو قوله: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}[279]، وهذه الدلالة لاتنفك عن معناها الحسيّ بما فيه من السرعة والخير، إذ النصر خير من عند الله، وللمؤمنين أَنْ يطمئنوا إلى حماية الله لهم ونصره إيّاهم وهم يجاهدون في سبيله.
المصادر والمراجع
1 - الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، القاهرة 1951.
2 - أدب الكاتب، ابن قتيبة، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، القاهرة 1963.
3 - أساس البلاغة، الزمخشري، بيروت 1965.
4 - الأشباه والنظائر في القرآن الكريم، مقاتل بن سليمان، تحقيق الدكتور عبدالله محمود شحاتة، القاهرة 1975.
5 - الاشتقاق، ابن دريد، تحقيق عبدالسلام هارون، بغداد 1979.
6 - الاشتقاق أسماء الله، الزجاجي، تحقيق الدكتور عبدالحسين المبارك، النجف الأشرف 1974.
7 - إصلاح المنطق، إبن السكيت، تحقيق أحمد محمد شاكر وعبدالسلام هارون، القاهرة 1970.
8 - الإعجاز اللغوي في القصة القرآنية، محمود السيد حسن مصطفى، الاسكندرية 1981.
9 - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد سيد كيلاني، القاهرة 1961.
10 - الأفعال، ابن القوطية، تحقيق علي فودة، القاهرة 1952.
11 - أمالي الزجاجي، الزجاجي، تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة 1382هـ.
12 - أمالي المرتضى، غرر الفوائد ودرر القلائد، الشريف المرتضى، القاهرة 1954.
13 - البحر المحيط، أبو حيان الاندلسي، القاهرة 1328هـ.
14 - بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، مجد الدين الفيروزآبادي، جـ 1 – 4، تحقيق محمد علي النجار، القاهرة 1964 ت جـ 5 – 6 تحقيق عبدالعليم الطحاوي، القاهرة 1970، 1973.
15 - التصاريف، تفسير القرآن مما اشتبهت اسماؤه وتصرفت معانيه – يحي بن سلام، تحقيق هند شلبي، تونس 1980.(/25)
16 - تصحيح الفصيح، ابن درستويه، تحقيق الدكتور عبدالله الجبوري، بغداد 1975.
17 - التطور النحوي للغة العربية – محاضرات ألقاها برجشتراسر في الجامعة المصرية 1929، ترجمة الدكتور رمضان عبدالتواب، الرياض 1982.
18 - التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، صورة لطبعة طهران (د.ت).
19 - تفسير مجاهد، تحقيق عبدالرحمن الطاهر بن محمد السورتي، قطر 1976.
20 - تفسير النسفي المسمى: مدار التنزيل وحقائق التأويل، القاهرة (د.ت).
21 - تلخيص البيان في مجازات القرآن، الشريف الرضي، بغداد 1955.
22 - تنزيه القرآن عن المطاعن، القاضي عبدالجبار المعتزلي، بيروت (د.ت).
23 - جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري، بيروت 1978.
24 - الجامع لأحكام القرآن القرطبي، تصحيح أحمد عبدالعليم البردوني، وآخرين، بيروت 1967.
25 - جواهر الحسان في تفسير القرآن، عبدالرحمن بن محمد الثعالبي، المعروف بتفسير الثعالبي، بيروت (د.ت).
26 - الجنى الداني في حروف المعاني، حسن بن القاسم المرادي، تحقيق طه محسن، الموصل 1976.
27 - حقائق التأويل في متشابه التنزيل، الشريف الرضي، شرح محمد الرضا آل كاشف الغطاء، النجف 1936.
28 - دلائل الاعجاز في علم المعاني، عبدالقاهر الجرجاني، تصحيح الإمام محمد عبده والشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، وتعليق محمد رشيد رضا، بيروت 1981.
29 - ديوان أبي الهندي وأخباره، صنعة عبدالله الجبوري، النجف الأشرف 1970.
30 - ديوان الأخطل، برواية أبي عبدالله محمد بن العباس اليزيدي عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الاعرابي، بعناية الأب انطوان صالحاني اليسوعي، بيروت (د.ت).
31 - ديوان الاعشى الكبير، شرح الدكتور محمد محمد حسين، القاهرة 1950.
32 - ديوان حسان بن ثابت، تحقيق الدكتور وليد عرفات، لندن 1970.
33 - ديوان الحطيئة، برواية ابن حبيب عن ابن الاعرابي وأبي عمرو الشيباني، شرح ابي سعيد السكري، بيروت 1967.(/26)
34 - ديوان الحطيئة، بشرح ابن السكيت والسكري والسجستاني، تحقيق نعمان امين طه، القاهرة (د.ت).
35 - ديوان شعر ذي الرمة، بعناية كارليل هنري هيس، كمبردج 1919.
36 - ديوان طرفة بن العبد، بيروت 1960.
37 - ديوان العجاج، رواية عبدالملك بن قُريب الاصمعي، تحقيق الدكتور عزت حسن، بيروت 1971.
38 - ديوان لبيد بن ربيعة العامري، بيروت 1966.
39 - ديوان الهذليين، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، القاهرة 1965.
40 - زاد المسير في علم التفسير، أبو الفرج ابن الجوزي، دمشق 1964.
41 - الزاهر في معاني كلمات الناس، ابن الانباري، تحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن، بغداد 1979.
42 - سؤلات نافع بن الأزرق، ضمن كتاب: الاتقان للسيوطي، القاهرة 1951.
43 - شرح ديوان زهير بن ابي سلمى، صنعة أبي العباس أحمد بن يحيى ابن يزيد الشيباني، ثعلب، القاهرة 1964.
44 - الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربي – الجوهري، تحقيق أحمد عبدالغفور عطار، بيروت 1984.
45 - الطبيعة في القرآن الكريم، الدكتور كاصد ياسر الزيدي، بغداد 1980.
46 - العربية بين أمسها وحاضرها، الدكتور ابراهيم السامرائي، بغداد 1978.
47 - الفاضل، المبرد، تحقيق عبدالعزيز الميمني، القاهرة 1956.
48 - الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، تحقيق حسام الدين القدسي، بيروت 1981.
49 - الفعل زمانه وأبنيته، الدكتور ابراهيم السامرائي، بغداد 1966.
50 - فقه اللغة وسر العربية، الثعالبي، تحقيق مصطفى السقا، وآخرين، القاهرة 1972.
51 - في ظلال القرآن، سيد قطب، بيروت 1967.
52 - في النحو العربي، مهدي المخزومي، بيروت 1964.
53 - القاموس المحيط، الفيروزآبادي، نشر محمد عبداللطيف الخطيب، القاهرة (د.ت).
54 - كتاب الفرق، ثابت بن أبي ثابت، تحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن، مجلة المورد، المجلد الثالث عشر، العدد الأول، بغداد 1984.(/27)
55 - كتاب القرطين أو كتابا: مشكل القرآن وغريبه لابن قتيبة، ابن مطرف الكناني القرطبي، القاهرة 1355هـ.
56 - كتاب الموطأ، مالك بن أنس، تقديم فاروق سعد، بيروت 1979.
57 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري، طهران (د.ت).
58 - كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر، ابن العماد، تحقيق الدكتور فؤاد عبدالمنعم أحمد، تقديم ومراجعة الدكتور محمد سليمان داود، الاسكندرية 1977.
59 - كنز الحفاظ من كتاب تهذيب الالفاظ، ابن السكيت، ضبط الاب لويس شيخو اليسوعي، بيروت 1985.
60 - لباب النقول في أسباب النزول، السيوطي، تونس 1984.
61 - لسان العرب، ابن منظور، بيروت 1956.
62 - متشابه القرآن، القاضي عبدالجبار المعتزلي، تحقيق الدكتور عدنان محمد زرزور، القاهرة 1969.
63 - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الاثير، جـ1 – 2، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، القاهرة 1939، جـ3 – 4 تحقيق الدكتور أحمد الحوفي والدكتور بدوي بطانة، القاهرة 1962.
64 - المحيط في اللغة، الصاحب بن عباد، تحقيق محمد حسن آل ياسين، بغداد 1981.
65 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل، النسفي، القاهرة (د.ت).
66 - المستقصى في أمثال العرب، الزمخشري، حيدرآباد، 1962.
67 - المصطلح اللغوي في القرآن الكريم، الدكتور محيي الدين توفيق، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الرابع، العدد السابع والثلاثون، بغداد 1986.
68 - معاني الأبنية في العربية، الدكتور فاضل السامرائي، بغداد 1981.
69 - معاني القرآن، الفراء، تحقيق محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي، بيروت 1983.
70 - معجم الأفعال المتعدية واللازمة، الدكتور هاشم طه شلاش، مجلة المورد، المجلد الثالث عشر، العدد الثاني، بغداد 1984.
71 - معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة 1970، بيروت 1979.(/28)
72 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الانباري، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، القاهرة (د.ت).
73 - المفردات في غريب القرآن، الراغب الاصفهاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، بيروت (د.ت).
74 - منتخب قرة العيون النواظر في الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، ابن الجوزي، تحقيق محمد السيد الصفطاوي، الدكتور فؤاد عبدالمنعم أحمد، الاسكندرية (د.ت).
75 - المنجّد في اللغة، كراع الهنائي، تحقيق الدكتور أحمد مختار عمر وضاحي عبدالقادر، القاهرة 1967.
ــــــــــــــــــــ
[1] تنظر: الصف – 13.
[2] تنظر: النور – 55.
[3] الأفعال: 263 // الصحاح: 2/ 829 // المفردات: 495.
[4] أساس البلاغة: 635، وينظر: القاموس المحيط: 2/ 148.
[5] الأفعال: 263.
[6] الصحاح: 2/ 829.
[7] أساس البلاغة: 635.
[8] المفردات: 495.
[9] الأفعال: 263.
[10] المفردات: 495 // القاموس المحيط: 2/ 148.
[11] الحج – 15.
[12] ينظر: التفسير الكبير: 23/ 15– 16.
[13] المؤمن – 51.
[14] ينظر: التفسير الكبير: 27/ 76 // الجامع لأحكام القرآن: 15/ 322.
[15] الأشباه والأنظار: 239 – 241.
[16] البقرة – 48.
[17] تنظر: الص 315.
[18] محمد – 7.
[19] المفردات: 495.
[20] الحج – 40.
[21] الفروق اللغوية: 156.
[22] ينظر: التفسير الكبير: 23/ 41، 28/ 49.
[23] تنزيه القرآن عن المطاعن: 389.
[24] م. ن: 273، وينظر: ص235.
[25] آل عمران – 126.
[26] ينظر: التفسير الكبير: 8/ 216.
[27] محمد – 4.
[28] المجادلة – 22.
[29] الأنفال – 46.
[30] تلخيص البيان: 244.
[31] المفردات: 118.
[32] النساء: 78.
[33] النساء – 79.
[34] التصاريف: 125.
[35] الأشباه والنظائر: 108 – 109.
[36] تنظر: النساء – 71 – 79.
[37] تفسير مجاهد: 240 // الاشباه والنظائر: 109 – 110.
[38] الأعراف – 95.
[39] أمالي الزجاجي: 2.
[40] النحل – 122.
[41] ينظر: أمالي المرتضى: 1/ 160 // زاد المسير: 4/ 504.(/29)
[42] المفردات: 377.
[43] إصلاح المنطق: 7، 45، 277.
[44] الصحاح: 4/ 1541.
[45] إصلاح المنطق: 45، 237.
[46] الصحاح: 4/ 1531 – 1542.
[47] الشعراء – 63.
[48] الصحاح: 4/ 1541.
[49] ينظر: التصاريف: 139 – 140 // منتخب قرة العيون النواظر: 185.
[50] البقرة – 53.
[51] البقرة – 185.
[52] الفرقان – 1.
[53] الأنفال – 29.
[54] جامع البيان: 9/ 148 // الجامع لأحكام القرآن: 7/ 396.
[55] معاني القرآن: 1/ 408، وينظر الجامع لأحكام القرآن: 7/ 396.
[56] المفردات: 378، وينظر: إغاثة اللهفان: 2/ 183هـ.
[57] الكشاف: 2/154.
[58] ينظر التفسير الكبير: 15/ 153 – 154.
[59] لم أجده في ديوانه الذي حققه عزة حسن.
وورد في: إصلاح المنطق: 9 // الصحاح: 2/ 443.
[60] ديوانه: القصيد: 8، البيت: 27، ص71، وينظر: إصلاح المنطق: 94.
[61] الصحاح: 2/ 443 // أساس البلاغة: 26.
[62] ديوان شعر ذي الرمة: تحـ/ كارليل: القصيد: 18، البيت: 16، ص41، وينظر: الصحاح: 2/ 443، وفيه: دفعناه.
[63] آل عمران – 13.
[64] ديوانه: القصيدة: 11، البيت: 12، ص67، وينظر: سؤالات نافع بن الأزرق في الإتقان: 1/ 122.
[65] حقائق التأويل: 5/ 47 // متشابه القرآن: 1/ 142، 157، 158 // البحر المحيط 2/ 396.
[66] تنظر: الأنفال – 26 – 62 // آل عمران – 13 // المجادلة – 22 // الصف – 14 التوبة – 40.
[67] التوبة – 40.
[68] آل عمران – 13.
[69] ينظر: دلائل الإعجاز: 133 // مهدي المخزومي، في النحو العربي: 41/ ابراهيم السامرائي، الفعل زمانه وأبنيته: 204 – 205 // العربية بين أمسها وحاضرها: 110/ الإعجاز اللغوي في القصة القرآنية: 343 // فاضل السامرائي، معناي الأبنية في العربية 9.
[70] المفردات: 30.
[71] الأنفال – 26.
[72] الصحاح: 6/ 2274.
[73] م.ن: الصفحة نفسها، وينظر: المفردات: 34 // الجامع لأحكام القرآن: 7/ 394.
[74] الأشباه والنظائر: 289 // التصاريف: 231.(/30)
[75] م.ن: الصفحة نفسها التصاريف: 231.
[76] الكهف – 16.
[77] الصحاح: 1/ 245 // المفردات: 78.
[78] تهذيب الألفاظ: 111.
[79] الصحاح: 1/ 245.
[80] ديوانه: القصيدة: الأولى، البيت: 84، 91، 92، 93، ص32، 33، 34 نفسها، وينظر: تهذيب الألفاظ: 175 // الصحاح: 1/ 245 // أساس البلاغة: 69.
[81] القاموس المحيط: 1/ 150.
[82] المفردات: 78.
[83] الأنفال – 11 – 13.
[84] ينظر: جامع البيان: 2/ 396 // زاد المسير: 1/ 299، 473.
[85] الجامع لأحكام القرآن: 7/ 377.
[86] المصطلح اللغوي في القرآن الكريم، مجلة المجتمع العلمي العراقي، الجزء الرابع، المجلد السابع والثلاثون، بغداد 1986، ص17.
[87] الطبيعة في القرآن الكريم: 77.
[88] ينظر: التفسير الكبير: 15/ 134 // الجامع لأحكام القرآن: 7/ 378.
[89] ديوانه: القصيدة: 25، البيت: 41، ص150، وينظر: الصحاح: 3/ 1127.
[90] أساس البلاغة: 216.
[91] أساس البلاغة: 216 – 217.
[92] م.ن: 217.
[93] القصص – 10.
[94] ينظر: التفسير الكبير: 24/ 230.
[95] الكهف – 14.
[96] الجامع لأحكام القرآن: 10/ 395.
[97] الأنفال – 11.
[98] التفسير الكبير: 15/ 134.
[99] ينظر: الجنى الداني: 444 // مغني اللبيب: 1/ 143.
[100] التفسير الكبير: 15/ 134.
[101] آل عمران – 200.
[102] جواهر الحسان: 1/ 344.
[103] الأنفال – 60.
[104] ينظر: الموطأ: الحديث: 233 م ص137، وفيه: ((... انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط)).
[105] الكهف – 14.
[106] المفردات: 186.
[107] الشورى – 24.
[108] منتخب قرة العيون النواظر: 105.
[109] التفسير الكبير: 27/ 167.
[110] الصحاح: 5/ 1908.
[111] المصطلح اللغوي في القرآن الكريم، مجلة المجتمع العلمي العراقي، الجزء الرابع، المجلد السابع والثلاثون، بغداد 1986، ص13.
[112] الأنفال – 9.
[113] آل عمران – 124 – 125.(/31)
[114] ديوانه: القصيدة: 25، البيت: 61، ص318، 1 وينظر: تصحيح الفصيح: 1/ 312 هاشم طه شلاش، معجم الأفعال المتعدية اللازمة، القسم السابع، مجلة المورد المجلد الثالث عشر، العدد الثاني، بغداد 1984، ص57.
[115] المفردات: 465 // بصائر ذوي التمييز: 4/ 489.
[116] مريم – 79.
[117] ينظر: الأشباه والنظائر: 219 – 221.
[118] ينظر: التصاريف: 270 – 271.
[119] نوح – 13.
[120] التصاريف: 270.
[121] البقرة: – 15.
[122] الواقعة – 30.
[123] الفرقان – 45.
[124] الانشقاق – 3.
[125] آل عمران – 126.
[126] أساس البلاغة: 396.
[127] الصحاح: 6/ 2158.
[128] المفردات: 307.
[129] الأشباه والنظائر: 1/ 122.
[130] الحج – 11.
[131] النساء – 103.
[132] ينظر: الأشباه والنظائر،: 122 – 123 // التصاريف: 217 – 218 // كشف السرائر: 157.
[133] الصحاح: 5/ 2136.
[134] إصلاح المنطق: 121، 220.
[135] الصحاح: 5/ 2136.
[136] إصلاح المنطق: 55 // الصحاح: 5/ 2137.
[137] الأنعام – 16.
[138] الصحاح: 5/ 2136.
[139] إصلاح المنطق: 55، وينظر: مقاييس اللغة: 3/ 88، وفيه: قد قومت بسكن وأدهان.
[140] م.ن: 55 – 56 // الصحاح: 5/ 2136، وفيه: الجأها.
[141] ينظر: المفردات: 237.
[142] ينظر: أساس البلاغة: 304.
[143] ديوان شعر ذي الرمة: تحـ / كارليل: القصيدة: 67، البيت، 21، ص506، وينظر: الصحاح: 5/ 2136، وفيه: فيا كرم.
[144] إصلاح المنطق: 180، وينظر: أساس البلاغة: 304.
[145] التوبة – 40.
[146] الفتح – 26.
[147] الفتح – 4.
[148] الفروق اللغوية: 166.
[149] متشابه القرآن: 2/ 620.
[150] ينظر: التطور النحوي: 225.
[151] ينظر: الأشباه والنظائر: 319 – 320.
[152] المؤمن – 61.
[153] البقرة – 35.
[154] الروم – 21.
[155] الفتح – 18.
[156] ينظر: الأشباه والنظائر: 320 // كتاب القرطين: 2/ 133 // البحر المحيط: 5/ 25، 43.
[157] البقرة – 248.
[158] المفردات – 237.(/32)
[159] الفتح – 4.
[160] الفتح – 18.
[161] الفتح – 2.
[162] التوبة – 26.
[163] التوبة – 40.
[164] ينظر: بصائر ذوي التمييز: 3/ 238 – 239.
[165] المنجد: 282.
[166] م.ن: 281، وينظر: المحيط في اللغة: 3/ 273.
[167] م.ن: الصفحة نفسها.
[168] المحيط في اللغة: 3/ 273.
[169] الصحاح: 1/ 389.
[170] أساس البلاغة: 462.
[171] الصحاح: 1/ 389.
[172] إصلاح المنطق: 112، وينظر: الزاهر: 1/ 189 // مقاييس اللغة: 4/ 469 // أساس البلاغة: 462 // اللسان: مادة فتح وفيه (ألا من مبلغ عمراً رسولاً).
[173] المنجد: 281 // الزاهر: 1/ 189 // اشتقاق أسماء الله: 326.
[174] المحيط في اللغة: 3/ 273.
[175] معاني القرآن: 1/ 385 // الزاهر: 1/ 89.
[176] الفتح – 1.
[177] تأويل مشكل القرآن: 492 – 493، وينظر: المبرد، الفاضل: 113، والخبر فيه بغير هذه الصيغة.
[178] المفردات: 370.
[179] ينظر: الأشباه والنظائر: 204 – 305 // التصاريف: 249 – 250 // منتخب قرة العيون والنواظر: 185 – 186.
[180] الأعراف – 89.
[181] فاطر – 2.
[182] الزمر – 73.
[183] تأويل مشكل القرآن: 492.
[184] المائدة – 52.
[185] الأنفال – 19.
[186] المنجد: 282.
[187] الفروق اللغوية: 123.
[188] المائدة – 52.
[189] التفسير الكبير: 12/ 16 – 17.
[190] الأنفال – 19.
[191] لباب النقول في أسباب النزول: 127 – 128.
[192] التفسير الكبير: 15/ 142.
[193] النور – 55.
[194] الصحاح: 4/ 1353 – 1354.
[195] شرح ديوانه: القصيدة: 5، البيت 2 وينظر: إصلاح المنطق 13، 66 // الصحاح 4/ 1354.
[196] الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب: المثل: 415، 2/ 119، وينظر إصلاح المنطق: 12، 66 // الصحاح: 4/1354.
[197] ديوان: القصيدة: 12، البيت: 15، ص80، وينظر: إصلاح المنطق: 13، 66 الصحاح: 4/ 1354.
[198] إصلاح المنطق: 13.
[199] ديوانه: القصيدة: 8، البيت: 20، ص24، وينظر: الصحاح: 4/ 1354.(/33)
[200] الصحاح: 4/ 1354.
[201] م.ن: الصفحة نفسها.
[202] كتاب: الفرق، المورد–مج 13، العدد الأول، بغداد 1984، ص89.
[203] م.ن: الصفحة نفسها.
[204] م.ن: الصفحة نفسها.
[205] المفردات: 156.
[206] ينظر: جامع البيان: 18/ 122 // الكشاف: 3/73 // التفسير الكبير: 24/ 24 // الجامع لأحكام القرآن: 12/ 297 – 300 // مدارك التنزيل وحقائق التأويل: 3/ 152 // جواهر الحسان: 3/ 126 // الوجيز في تفسير القرآن على هامش كتاب مراح لبيد: 2/ 88.
[207] ديوان أبي الهندي وأخباره: القصيدة 33، البيت: 8، ص52، وينظر: الصحاح: 6/ 2205 // أساس البلاغة: 601.
[208] الصحاح: 6/ 2206 // أساس البلاغة: 601.
[209] المفردات: 471.
[210] جامع البيان: 18/ 122.
[211] الكشاف: 3/ 73.
[212] التفسير الكبير: 24/ 24.
[213] مدارك التنزيل وحقائق التأويل: 3/ 152.
[214] الفروق اللغوية: 90، 155.
[215] الصحاح: 5/ 2072.
[216] أساس البلاغة: 22.
[217] الصحاح: 5/ 2071.
[218] المفردات: 25، وينظر: كتاب القرطين: 1/ 107.
[219] لباب المنقول في أسباب النزول: 202.
[220] في ظلال القرآن: 6/ 118.
[221] ينظر: المثل السائر: 2/ 55 – 57.
[222] المفردات: 518.
[223] المصدر السابق: 518.
[224] تلخيص البيان: 44.
[225] الأعراف – 137.
[226] الأعراف – 129.
[227] ينظر: التفسير الكبير: 14/ 212 – 221.
[228] الأحزاب – 27.
[229] القصص – 5.
[230] إصلاح المنطق: 61.
[231] الصحاح: 5/ 1865، وينظر: أساس البلاغة: 21.
[232] م.ن: الصفحة نفسها، وينظر: المفردات: 24.
[233] جامع البيان: 20/ 19.
[234] التفسير الكبير: 24/ 226.
[235] ينظر الكشاف: 3/ 165 // التفسير الكبير: 24/ 226.
[236] المائدة – 54.
[237] تنزيه القرآن عن المطاعن: 119، وينظر: بصائر ذوي التمييز: 4/ 197.
[238] الأنفال – 24.
[239] تهذيب الألفاظ: 13، وينظر: الصحاح: 6/ 2324.
[240] الصحاح: 6/ 2323.(/34)
[241] ينظر: لباب النقول في أسباب النزول: 125 وما بعدها.
[242] أمالي المرتضى: 1/ 528 – 529.
[243] البقرة – 179.
[244] ينظر: في ظلال القرآن: 3/ 833 – 834.
[245] النساء – 45.
[246] الصحاح: 6/ 2528.
[247] ديوان الهذليين: 1: 167، وينظر: الصحاح: 6/ 2528 وفيه: وحب من يتجنب.
[248] الصحاح: 6/ 2529 // فقه اللغة وسر العربية: 277.
[249] أدب الكاتب: 76.
[250] المفردات: 533، وقد ذكرتها كتب الوجوه والنظائر مفصلاً ينظر: الأشباه والنظائر: 195 – 198 // التصاريف: 235 – 238.
[251] إصلاح المنطق: 111.
[252] المائدة: 56.
[253] التفسير الكبير: 12/ 32، وينظر: مدارك التنزيل وحقائق التأويل: 1/ 289.
[254] الاشتقاق: 1/ 25، وينظر: 2/ 346 // الصحاح: 1/ 195.
[255] الصحاح: 1/ 195، وينظر: أساس البلاغة: 453.
[256] المفردات: 363 – 364.
[257] البقرة – 249.
[258] الأنفال – 65، وتنظر الآية: 66.
[259] آل عمران – 12.
[260] يوسف – 21.
[261] الأنبياء – 44.
[262] التوبة – 44.
[263] التفسير الكبير: 15/ 4.
[264] المفردات: 264.
[265] إصلاح المنطق: 409.
[266] ديوانه: القصيدة: 44، البيت: 26، 27، ص493، وينظر: إصلاح المنطق: 409 // الصحاح: 6/ 2393 وفيه: بلا شفا.
[267] إصلاح المنطق: 259، وينظر: الصحاح: 6/ 2394.
[268] م.ن: 270، وينظر: الصحاح: 6/ 2394.
[269] آل عمران – 103.
[270] التوبة: من الآية 14.
[271] الحج – 38 – 39.
[272] الصحاح: 3/ 1208.
[273] ديوان شعر ذي الرمة، تحـ/ كارليال: القصيدة، البيت، 17، ص42، وينظر: أساس البلاغة: 190.
[274] الصحاح: 3/ 1208.
[275] شرح ديوان زهير: القصيدة: 50، البيت: 12، ص362، وينظر: أساس البلاغة 190.
[276] الصحاح: 3/ 1208.
[277] النساء – 6.
[278] المفردات: 170.
[279] الحج – 38.(/35)
العنوان: الفتاةُ المراهقة.. مشاكلُ وحلول
رقم المقالة: 1117
صاحب المقالة: مروة يوسف
-----------------------------------------
المراهق:
يعرَّف المراهق بأنه الشخص الذي تجاوز مرحلةَ الطفولة ولم يبلغ الحلم بعد، وتَعُد معظمُ المجتمعات الشخصَ مراهقا ابتداء من سن 13 إلى 18 سنة على الأقل.
وتعُد جميع المجتمعات تقريبا الفتيانَ والفتياتِ قد تجاوزوا مرحلة الطفولة عندما تبدأ مرحلة النضج الجنسي, ولكن العمر الذي يتوقع الشخص أن يسمح له بممارسة مسؤوليته الكاملة على أنه شخص راشد يختلفُ كثيرا من مجتمع لآخر، ومن بيئة لأخرى، وأيضا يختلف بحسب الجو الأسري والظروف التي تلم بالأسرة.
تغيرات كثيرة:
من المعلوم أن الفتاة تبلغ في سن أصغرَ من الفتى إلى حد كبير؛ فقد تبدأ علامات قرب البلوغ على بعض الفتيات في سن العاشرة، وربما التاسعة، في حين يتأخر الفتيان عن هذا العمر, فتبدأ معظم الفتيات في مرحلة نمو جسدي سريع ما بين 9 إلى 12 عاما، ويثقل وزنها إلى حد ما، ومن ثم تختلفُ كمياتُ الطعام التي تحتاجها، وربما لا تدرك الأم ذلك فتصاب بالضيق وتغفُل احتياجَ فتاتها لكميات مختلفة من الغذاء عما كانت عليه في الأعوام السابقة, وأغلب الفتيات تظهر لديها مشاكل وإن كانت تبدو لدى الكبار مشاكل سهلة وسطحية, لكنها تكون عظيمة أمام ناظري تلك الفتاة الصغيرة, فالنتيجة في أغلب الأحوال -لاختلاف وجهات النظر بين الأم وابنتها في هذه المدة الحرجة- تكون سلبية؛ وذلك إما بأن تعكف الفتاةُ على نفسها وتصبح انطوائية، أو تتعرف صديقاتِ السوء، أو من يمكنه أن يتفهم تلك التغيرات التي تحدث لها!!(/1)
ونتيجة لهذه التغيرات الجسمية التي تحدث في هذه السن تفاجأ الأم أيضا بسلوكيات غريبة نوعا ما, لم تكن تعهدها في ابنتها المطيعة الهادئة, كأن تسمع منها جملا غير مرغوبة مثل: لا أقتنع بهذا، ولا يعجبني فعل كذا, أو أنا حرة, أو شيء يخصني وحدي, وغيرها من تلك الاعتراضات التي لا تعلم لها الأم سببا مقنعا!!
وغيرها من السلوكيات التي تثير قلق الأمهات، وتذهب بهن الظنون في بناتهن، وأنها ربما تعرفت رفقة سوء، أو ربما أثر فيها بعضهم, في حين إن الفتاة ترى أنها أصبحت ناضجة أو أوشكت ويجب أن تُعامَل من قبل جميع أفراد العائلة كمعاملة الكبار, فتظن أنه يجب طاعة أوامرها من إخوتها الصغار تماما كما كانت هي تطيع أمها, وأيضا يجب أن تعاملها الأمُّ معاملةً مختلفة وكذلك الأبُ, فلا تقبل الأوامر كما كانت تقبلها من قبل، ولا تفضل طرق الوعظ التي تعدها خاصة بالصغار, ولا تناسب امرأة ناضجة مثلها, كما تعتقد.
احتياجات الفتاة لتجتاز هذه المدة الحرجة بسلام:
- ابتداءً ينبغي لكل أمّ أن تغرس في ابنتها الثقةَ في أن هذا الدين هو ناصرُ المرأة، وهو الذي حررها من رق الجاهلية، ومما كان المجتمع ينظر إليها من نظرات احتقار وامتهان, وتعلمها أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في فضل تربية البنات، وأنهن لسن عبئا على الأهل، وأن الإنسان قد يدخل الجنة بسبب حسن تربيتها وغير ذلك من الأمور التي تُشعِر الفتاة بأنها مطلوبة ومهمة في المجتمع, وتقوي الوازع الديني في نفسها إجمالا وتنشئها على خوف الله وحب الطاعات والرغبة فيما عند الله .
- على كل أم أن تحاول الوصول إلى قلب ابنتها، وأن تتكون بينهما صداقة قوية أساسها الثقةُ، فتخبرها دائما أنها محل ثقتها، وأنها تأمُل فيها آمالا طيبة، وغير ذلك من الكلمات التشجيعية التي تسعد قلبها وتزيد من ثقتها في نفسها.(/2)
- العاطفة من أهم ما تحتاجه الفتاةُ المراهقة، وفي ذروة انشغال الأسرة قد يقل ذلك؛ فالأم مشغولة إما بعملها أو بصويحباتها أو غير ذلك من الاهتمامات التي توليها اهتماما زائدا لا حاجة له, في حين تفتقد القتاةُ العطف والحب, فكثير من الأمهات تعد الفتاة قد كبرت ولا تحتاج لضمها إلى صدرها بحنان وعطف, ولا تسمعها من الكلمات الطيبة ما تتمناه نفسها, وقد نسيت نفسها في مثل عمرها لطول الوقت, فلا شيء يمنع الأم من أن تعطف على ابنتها وتشعرها بالأمن والحب وأنها محل اهتمامها ولها في قلبها نصيب كبير.
- الفتاة بطبعها في أي مرحلة عمرية تحب الإطراء والثناء والتشجيع، وتحب أن تتجمل وتكون في أحسن مظهر, وفي أحوال كثيرة تختار الفتاة في هذه السن طرقا غير مناسبة للتزين، وقد تكون غير متناسقة مثلا, وهنا تحدث مصيبة إن ظهر على أوجه أفراد الأسرة سخرية أو انتقاد لاذع يثير في نفسها شجونا لا تتخيلها الأم ولا تقدر عظم حجم المأساة التي تعانيها الفتاة من أثر تلك الكلمات, فيظهر هنا دور الأم الواعية في الثناء أولا على حسن اختيار الفتاة وحسن تنظيمها ثم بأسلوب لين طيب تخبرها الأم على سبيل الاقتراح: ما رأيك لو غيرنا هذا إلى غيره؟ فقد يراه الناس أفضل وستكونين في مظهر أجمل.
- تتعجب الأم من أن بعض الفتيات تحب تحمل المسؤولية وإن كانت أكبر من قدراتها, ولكن لا مانع من التجربة, فتفضل أن تتركها الأم مثلا في البيت مخبرة أنها هي ستقوم مكانها لمدة ما حتى تعود هي, فتمانع الأم في هذا الأمر ظنا منها أن الفتاة قد تضجر من ذلك وتتعب, في حين إن هذا يسعدها كثيرا؛ إذ إنها تعلم أنها أصبحت بالفعل -وليس بمجرد الكلام- محلَّ ثقة الأسرة، وأنها قادرة على فعل الكثير.
- حاوري فتاتكِ كثيرا، وأكثري من أخذ رأيها ولو في أمور هينة؛ مثلا في اختيار لون ملابسكِ أو في تنسيق البيت أو غير ذلك, وتحب كثيرا كلمة: ما رأيك؟ فلغة الحوار بينكما مفتاح كل خير.(/3)
- لا مانع أن تحدثي ابنتكِ بكل صراحة عن تلك المرحلة التي تمر بها، وأنها مرحلة عادية كغيرها من مراحل العمر، ولكن تحتاج منها إلى تفطن لبعض الأمور التي تعينها على فهم كل ما يحدث دون حزن أو قلق أو خوف من المستقبل؛ فمثلا: بعض الفتيات اللاتي يعانين من ظهور حب الشباب يضقن ذرعا بتلك المشكلة ويصبن بالإحباط والخجل من منظرها, في حين إنه لو احتوتها الأم وأخبرتها أنها ظاهرة عادية تعانيها أغلب الفتيات في هذا العمر وتقترح معها بعض الحلول لعلاجها ببساطة وسلاسة من وضع أقنعة مغذية وتناول الغذاء الصحي المتوازن وغير ذلك مع إخبارها أنها هي أيضا قد مرت بمثل هذا والأمر لم يدم طويلا فلا داعي لأن تولي الأمر اهتماما أكبر مما يحتاج.(/4)
العنوان: حركتنا النقدية بين عوائق الداخل وتهميش المراكز
رقم المقالة: 147
صاحب المقالة: د. محمد بن خالد الفاضل
-----------------------------------------
تشكو الحركة النقدية في العالم العربي من ركود عام وضعف في المستوى، بسبب غياب القمم والرموز من جيل الرواد.
وبسبب آخر أهم من ذلك وهو: أن منابر الإعلام والثقافة والأدب في العالم العربي يكاد يسيطر عليها ويتحكم فيها توجه وتيار واحد أحادي النزعة، عنيف الخصومة.
وهذا التيار الحاقد على الأصالة والقيم والتراث والثوابت هو التيار المستغرب الذي يدعي الحداثة والتطور والتجديد، وهو خاو "وخال" من كل ذلك، وإنما قصاراه التسول والتلصص على موائد الغرب وترجمة إبداعاتهم الأدبية والنقدية ونسبتها إليه زورًا وبهتانًا، وكل يوم يفاجئنا بعض الباحثين المحايدين بكشف بعض هذه التعديات. وقصة (الثابت والمتحول) الذي يعدونه دستورهم ليست عنا ببعيد، مع أنها ليست الأولى، ولا الأخيرة.(/1)
هذه المقدمة أراها ضرورية قبل الدخول في الحديث عن الحركة النقدية المحلية، لأن هذه الحركة مرتبطة بالجو العربي العام، وقد نالها شيء من ذلك الداء الخبيث، داء التصنيف والتهميش والتلميع، تلميع ذوي التيار المخدوم، وتهميش ذوي التيار المهضوم، ولذلك ارتفعت أسماء لا يعني ارتفاعها أنها الأفضل، وغيبت أسماء لا يعني تغييبها وتهميشها أنها الأدنى أو الأسوأ، وإنما هي لعبة الإعلام والأضواء، وإن أردت البينة على ذلك – مع أنه كالشمس – فانظر إلى بعض الملاحق الأدبية والصفحات الثقافية في بعض صحفنا، وسترى أنها تكاد تكون وقفًا أو حكرًا على أفراد معينين سعوديين وغير سعوديين، وكأنهم ملكوها بصك شرعي، ولا يكاد يسمح لغيرهم – ولديّ شواهد وشهود على ذلك، وقد اعترف به الدكتور سعيد السريحي في مكاشفته مع جريدة البلاد. وانظر للمؤتمرات والندوات الأدبية والحوارات التي تدار على هامش معارض الكتب في العالم العربي وكذا الأمسيات الشعرية ومهرجانات الشعر، وانظر إلى أغلب الجوائز العربية الأدبية، واستعرض لجانها ومستشاريها ومحكميها والفائزين بها، وسترى دليل ذلك باستثناء جائزة الملك فيصل العالمية تلك الجائزة العظيمة الأصيلة الرائعة التي سلمت منهم ومن تسلطهم. ولعل صلابة رئيس لجنتها سمو الأمير خالد الفيصل ومعرفته الحقيقية بهم وبخطرهم كانت وراء نظافة هذه الجائزة وسلامتها وحيادها، ولا أغمط بعض الجوائز الأخرى هنا وهناك مما لا تحضرني أسماؤها الآن، وانظر إلى بعض مشروعات منظمة اليونسكو الصحفية وغيرها التي ضخمت فسميت مشروعات، وهي أشبه بالصحف الحائطية الطلابية التي تقوم على طريقة (القص واللصق) من كتب مطبوعة منذ سنين، واستعرض لجانها ومستشاريها وموضوعاتها المطروحة فسترى أن أغلبهم من هذه الفئة العنصرية التي تضيق ذرعًا بكل ما تشم منه رائحة الإسلام وتصفه بالظلامية والجمود والتأخر، مع أن منظمة اليونسكو منظمة دولية ذات صبغة حكومية يفترض(/2)
فيها الإنصاف والحياد وعدم الانحياز. وإذا تأملت في هذه النماذج التي ذكرت لك فسترى فيها قاسمًا مشتركًا يجمع بينها، وقد يبدو لك أن الأمر كبير وخطير، وأن ثمة أصابع خفية تدير هذه المعركة الموجهة – بلا شك – إلى هوية الأمة وعقيدتها وقيمها وثوابتها، وأن أولئك المخططين قد فطنوا إلى أن الأمة العربية والإسلامية أمة إبداع تحتفي بالشعر والأدب وتعده ديوانها تسجل فيه مآثرها ومفاخرها، وتفزع إليه في الملمات في أفراحها وأتراحها، وتثبت فيه همومها وأشجانها وآلامها وآمالها، وتنشر به رسالتها وقيمها رسالة الخير والمحبة والسلام، فأرادوا أن يجردوها من هذا السلاح فحاربوا الشعر الأصيل المؤثر، ونشروا ما يسمى بقصيدة النثر التي تقوم على الغموض والطلاسم والرموز الوثنية، وجعلوها حمالة أوزار لما يريدون تسريبه عبرها من هدم للقيم وزعزعة للثوابت وترويج للرموز الوثنية والطائفية المعروفة بمروقها على امتداد التاريخ الإسلامي، جاعلين من الغموض ستارًا كالليل الذي لا يتحرك المشبوهون إلا فيه، ولأن اللغة العربية جزء من كيان الإسلام ومقدساته وهي وعاؤه وإناؤه فإنها لم تسلم من تلاعبهم وتخريبهم، فوجهوا لها شيئًا من معاولهم ونادوا بما يعرف بتفجير اللغة والتمرد على بنائها محاولين تكسير هذا الوعاء، وإنك لتلحظ ذلك لأول وهلة في اسم قصيدتهم التي سموها بقصيدة النثر، وهو اسم يهدم آخره أوله – كما يقول الأستاذ الأديب عبدالله إدريس – فالقصيدة مصطلح عربي عرف واستقر منذ مئات السنين، وتعبر عن فن مخالف للنثر ومقابل له، ويعد قسيمًا له، فعلماء اللغة والأدب على امتداد التاريخ العربي يقولون: الكلام نوعان: شعر ونثر وجاء هؤلاء "ليخبصوا" النوعين ويخرجوا منهما سلطة تعرف بقصيدة النثر.(/3)
وبسبب نفوذ هؤلاء وتحكمهم في أغلب منابر النشر والإبداع في العالم العربي انحسر مَدُّ القصيدة العربية الأصيلة بسبب محاصرتهم لها ومحاربة أربابها، وارتفع مدّ قصيدتهم قصيدة الهلوسة، وفتن بها الشباب والناشئون الذين خطف بريق الشهرة والأضواء والإعلام أبصارهم، فهجروا القصيدة الأصيلة وقلَّ الإبداع بها، ولأن القصيدة العربية الأصيلة هي عماد النقد العربي الأصيل فقد انحسر النقد وضعف النقاد، وأعني بهم نقاد الأصالة، وكثر النقاد في الجانب الآخر لأن السوق سوقهم والصولة والجولة لهم، ومع أن الصورة تكاد تبدو معتمة فإن الساحة المحلية لم تخل من النقاد الكبار المعدودين من أمثال: الأستاذ الدكتور ناصر ابن سعد الرشيد، والدكتور حسن بن فهد الهويمل، والأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين، والأستاذ الدكتور محمد الهدلق، والأستاذ الدكتور محمد السديس، والأستاذ الدكتور محمد بن مريسي الحارثي، والأستاذ الدكتور منصور الحازمي، والأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي الذي بدأ يحاول الإمساك بالعصا من النصف، والدكتور عبدالعزيز السبيل، والدكتور عبدالله المعطاني، وغيرهم كثيرون. وما هذه الأسماء إلا نماذج فقط وقد نسيت كثيرين أكفاء فمعذرة.(/4)
كما أن الساحة العربية والمحلية قد شهدت منذ عدة سنوات ولادة نظرية، ومنهج جديد وأصيل في النقد وهو المعروف بمنهج الأدب الإسلامي، وقد نضج واستوى على سوقه وصار يدرس في عدد من الأقسام والكليات داخل المملكة وخارجها، وكتب فيه عدد من المؤلفات، وعقدت حوله عدد من المؤتمرات والندوات في الرياض والقاهرة والمغرب وتركيا والهند وغيرها، وتوج نجاحه وازدهاره بإنشاء رابطة عالمية ترعاه وهي "رابطة الأدب الإسلامي العالمية" التي تضم في عضويتها المئات من النقاد والأدباء والشعراء والمبدعين في أنحاء العالم، وقد كان لهذه البلاد المباركة وجامعاتها وكلياتها قصب السبق في دعم هذا الأدب، ودعم رابطته واحتضان مكتبها الإقليمي، لكن الرابطة وأعضاءها تعاني مما يعانيه كل أصحاب الأصالة وروادها في الساحة العربية والإسلامية وهو محاربتهم من قبل ذلك التيار المتنفذ والتعتيم على أخبارهم وأنشطتهم وإغلاق منافذ النشر في وجوههم، وهذه غمة لن تطول – بحول الله – فجولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة. وكما شهدت الأمة صحوة إسلامية عامة في كل مجال، فستشهد – بإذن الله – صحوة أدبية عاقلة راشدة تطيح بهذه القشور، وتسد منافذ التغريب والتخريب في الأدب، وتنطلق من تراث الأسلاف لتعيد القاطرة إلى مسارها، وليس ذلك على الله ببعيد.(/5)
العنوان: الفَتَّاش على القَشَّاش براءة من الكذَّابين والوضَّاعين
رقم المقالة: 868
صاحب المقالة: د. جمال عزون
-----------------------------------------
الفَتَّاش على القَشَّاش
لجَلالِ الدِّينِ السُّيوطيِّ 911هـ
وبَراءَةٌ عامَّةٌ منَ الكَذَّابِينَ والوَضَّاعِينَ
تبقى ظاهرة وضع الأحاديث والكذب على سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم مشكلةً قائمة في الأمَّة ما دام ثمَّةَ مَن ينسب إليه صلى الله عليه وسلم كلاماً لم يتحقَّق من ثبوته، وقولاً لم يستوثق من صحَّته، وخبراً لم يُراجع فيه أهل التّخصُّص الذين يميِّزون بين الثَّابت والموضوع، والصَّحيح والمصنوع.
والمتصفِّح في عصرنا هذا وسائلَ الإعلام المختلِفة يسمع أحاديثَ كثيرةً على ألسنة المتكلِّمين، ويقرأ أخباراً تُعزى إلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهي موضوعةٌ مكذوبة أو مُنكرة أو ضعيفة جدّاً أو لا أصلَ لها في كتب الحديث، وكثيرٌ من أولئك المستدلِّين بتلك الأحاديث الموردينها في ثنايا كلمهم أعلامٌ يُسمع قولهم في فنِّهم، ويُرجَع إليهم في تخصُّصهم، وذلك كلُّه يطمئن السَّامع والقارىء فتتلقَّف ذاكرتُه تلك الأحاديثَ المكذوبة وتَجري على لسانه كما جرت على من استدلَّ بها دون تمحيص وتدقيق، ونشرها بين الناس وهو لا يشعر بخطورة عَزو الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كذبٌ في أصله باطلٌ عند أهل التخصُّص من المحدِّثين الذين بذلوا جهوداً رائعة قديماً وحديثاً حصروا من خِلالها الأحاديثَ الموضوعة والأخبار المصنوعة، وبيَّنوا عللَ أسانيدها ونكارةَ متونها، وحذَّروا من أثرها السيِّئ في الأمَّة في تشويه معتقداتهم، وإحداث أمورٍ في عباداتهم لا أصلَ لها في الكتاب والسُّنَّة.(/1)
وإنَّما كان نشرُ الموضوعات بهذه الخطورة؛ لأنَّ فيه نسبةَ كلامٍ إلى نبيٍّ هو المبلِّغ عن الله شرعَه، والموضِّح للنَّاس أعظمَ كتاب وهو القرآن الكريم، فتكون نسبةُ الأحاديث إلى مبلِّغ الشَّرع الكريم نسبةً إلى الشَّارع الحكيم، وهو من جنس ما كان يفعلُه أحبار اليهود وقساوسةُ النّصارى من تحريفِ كتب الله المنزَّلة وعَزوِها إلى الله تعالى، وقد قرَّر ربُّنا سبحانه هذه الحقيقةَ في كتابه الكريم: {فَوَيلٌ للَّذينَ يكتُبونَ الكِتابَ بأَيديهِم ثمَّ يَقولونَ هَذا من عِندِ اللهِ لِيَشتَروا بهِ ثَمناً قليلاً، فَوَيلٌ لهُم مِمَّا كَتَبَت أَيديهِم ووَيلٌ لهُم ممَّا يَكسِبونَ} [البقرة: 79]، فأيُّ فرقٍ بين من يحرِّف كلاماً ويقول: هذا كلامُ الله، ومَن يختلق خبراً موضوعاً ويقول: هذا كلامُ رسول الله، ولهذا أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته أن الكذبَ عليه ليس كالكذب على سائر النّاس: ((إنّ كَذِباً عليَّ ليس ككَذِبٍ على أَحَد، من كَذَبَ عليَّ مُتعمِّداً فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَه منَ النَّار))[1] ، كما أنبأ الله نبيَّه محمَّداً عن أناس في آخر الزَّمان يَختلقون الأحاديثَ المكذوبة: ((يكونُ في آخرِ الزَّمان كذَّابونَ يأتونكُم من الأحاديثِ بما لم تَسمَعوا أنتُم ولا آباؤُكم فإيَّاكم وإيَّاهم، لا يضلُّونَكم ولا يفتنوكم))[2] ، والأحاديثُ في التحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ، وهي تُرشد إلى خُطورة التساهُل في اختلاق الأحاديث ونسبتها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتُنبِّه كلَّ كاتبٍ في فنِّه أن يَحذرَ غايةَ الحذر من الاستدلال بحديثٍ دون التحقُّق من ثُبوته عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.(/2)
أمّا كتابنا ((الفتَّاش على القشَّاش))[3] للحافظ المشهور جلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أبي بكر السُّيوطي (849 - 911هـ) فهو مقامةٌ لطيفة من مقاماته الممتعة، شهَّر فيها بقَصَّاص يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأباطيلَ ويختلق المكذوبات، وأعلن فيها السُّيوطي براءته إلى الله تعالى وإلى جميع خلقه من عمل هذا القَصَّاص.
والفتَّاش: هو وصفُ مبالغةٍ على وزن فعَّال بمعنى شديد التّفتيش والبحث، والمراد به الذي يُكثر تتبُّع أمور النَّاس.
والقشَّاش: الذي يَلتقطُ أرذل الطَّعام الذي لا خيرَ فيه من المزابل ليأكُلَه ولا يَتوقَّى قَذَرَه[4].
والسُّيوطي يلمِّح بهذا العنوان إلى حال هذا القَصَّاص الذي يلتقط الأحاديثَ الموضوعة والأخبارَ المكذوبة وينشرها في مجالسه دون تثبُّت، فهو أشبهُ بالقشَّاش الذي يلتقط أراذلَ الطَّعام من المزابل ليأكلَها دون توقٍّ من عُفونتها وقَذارتها.(/3)
وقد صنَّف السُّيوطي عدَّة كتب في بيان الأحاديث الموضوعة، أشهرها ((اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة))، و((النُّكَت البديعات في التعليق على الموضوعات))، و((تحذير الخواصِّ من أكاذيب القُصَّاص))[5] الذي كتبه إثر استفتاءٍ جاءه عن هذا القاصِّ نفسه الذي كان يورد في مجالسه أحاديثَ مكذوبةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفتى السُّيوطي سائليه بعدم جواز هذا الصَّنيع، وبيَّن أنَّ الواجبَ عليه أن يراجعَ أهل الحديث المختصِّين بمعرفة الصَّحيح والموضوع، ويعرض عليهم ما جمع ليمحِّصوه، فلمَّا علم القاصُّ بالفتوى استشاط غضباً وقام وقعد وادَّعى أن مثله لا يحتاجُ إلى مراجعة شيوخ الحديث وأنه أعلمُ أهل الأرض بهذا الفنِّ، ولم يكتفِ بهذا الادِّعاء حتَّى أغرى العوامَّ وغَوغاء الناس فتكلَّموا في السُّيوطي وآذَوه بألسنتهم، بل توعَّدوه بالقتل والرَّجم، فازداد السيوطيُّ إصراراً على موقفه، وأضاف على فَتواه الأُولى أنّ القاصَّ المذكورَ إذا لم يُراجع مشايخ الحديث لمعرفة الصحيح من الموضوع وعاد إلى روايتها بعد أن بيَّنوا له بطلانها، واستمرَّ مُصرّاً على نقل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسوف يُفتي بضربه سِياطاً تعزيراً له، فازداد القاصُّ حدَّة، ((وتزايد الأمرُ من عُصبة العوامِّ شدَّة، وثاروا ثورةً كبرى، وجاؤوا شيئاً إمراً)).
وألَّف السيوطي حينئذ كتابه ((تحذير الخواصّ من أكاذيب القُصّاص))[6]، كما انتقد القاصَّ المذكور ومن انتهج سبيله في مقامتيه ((الدَّوَران الفَلَكي)) و((طرز العِمامَة))، وأطال النَّفَس في مقامة ((الفَتَّاش على القَشَّاش))[7] موضوع مقالنا هذا.(/4)
وقد أبهم السيوطي اسمَه في ((المقامة الفلكيَّة)) وحشَره في زمرة الذين يَروون الأكاذيبَ والأباطيل، ويتَّخذونها سببا للشِّحاتة وقال: ((قد ورد في هذا العامّ ِرجلٌ قَصَّاص يلفُّ الحِلَق، ويُقدم على رواية الأحاديث فيكثر الزَّلل والزَّلَق...فقلتُ: إن سكتُّ عن هذا ظنَّ النّاسُ صحَّة هذه الأخبار، وتناقلوا بألسنتهم ما يأتي به من الكذب على الاستمرار، وذلك لأن نقَّادَ الحديث قليل، والطَّرْفُ من كلِّ الناس عن تمييز الصحيح من السَّقيم كليل، فإذا رأَوا أهل الفنِّ ساكتين عن الإنكار، سَرى ظنُّ صِحَّتها إلى الأذهان منهم والأفكار))[8].
ونراه في ((طرز العِمامة)) يذكر تخبُّط هذا القاصِّ فيما أورده من أحاديثَ باطلة وينبِّه على ضرورة التثبُّت ممَّا في الكتب: ((ليس كلُّ ما في الكتب من الأحاديث بثابتٍ وَصلُهْ، ولا بجائز نَقلُهْ، ولا أنت من صيارفة الحديث ونقَّادِهْ، ولا من رجاله الذينَ هم رجالُ إسنادِهْ، وقد خبطتَ في الأحاديث الثابتة التي رويتَها، وخلطتَ في ألفاظها وما سوَّيتَها، فما يسعك من الله أن تنقل حرفاً من حديث أو أثرْ، حتَّى تصحِّحَه على حافظٍ من نقَّاد الفنِّ فيرشدكَ إلى ما تأتي وتَذَرْ))[9].
أمّا في مقامة ((الفتَّاش على القَشَّاش)) فقد أطال السيوطي فيها النَّفَس، وصرَّح فيها باسم القاصِّ المردود عليه، واشتدَّ عليه للغاية، وحذَّر من ظاهرة الوضع والكذب وعدم التثبُّت من الأحاديث حين نقلها والاستدلال بها، وأعلن في المقدِّمة براءةً عامَّة من الوضَّاعين والكذَّابين:(/5)
((براءةٌ إلى الملكِ الجليلْ، وإلى المصطفى المختارِ للتنزيلْ، وإلى الرُّوح الأمين جبريلْ، وإلى كلِّ رسولٍ مرسَلْ، وإلى كلِّ نبيٍّ عليه وحي مُنزَلْ، وإلى كلِّ مقرَّب ومَلَكْ، وإلى كلِّ من تضمُّه الأفلاك فَلَكًا بعد فلَكْ، وإلى كلِّ صحابيٍّ وصديقْ، وإلى كلِّ تابع بإحسانٍ على التحقيقْ، وإلى السَّلَف الصالحْ، وإلى الخَلَف الذين عقلُهم راجِحْ[10]، وإلى الأئمَّة الأربعة أصحابِ المذاهبْ، وإلى سائرِ المجتهدين من أربابِ المواهبْ، وإلى كلِّ مُقرىء ذي تيسيرْ، وإلى كلِّ قائم بالتفسيرْ، وإلى كلِّ ذي تأويلٍ أصفى من الذَّهَب الإكسيرْ، وإلى كلِّ حافظ للحديثْ، ناقدٍ لزَيفه في القديم والحديثْ، بصيرٍ بعِلَلِه خبيرْ، مجتهدٍ في ردِّ الكذب والتزويرْ، ساعٍ في تبييض وجهه عند الله ورسولهْ، وداعٍ إلى الحقِّ موقن ببلوغ أربه وسُولهْ، وإلى كلِّ أصوليٍّ وفقيهْ، وإلى كلِّ خلافيٍّ وجَدَليٍّ نَبيهْ، وإلى كلِّ صوفيٍّ[11] عن الأعراضِ والأغراض نزيهْ، وإلى كلِّ فَرَضيٍّ باهرْ، وإلى كلِّ حاسب ماهرْ، وإلى كلِّ لغويٍّ له باعٌ مَديدْ، وإلى كلِّ نحويٍّ ومعرب مُجيدْ، وإلى كلِّ صَرفيٍّ يميز النّاقصَ من المزيدْ، وإلى كلِّ مَن له قدم راسخٌ في علوم الفَصاحةِ والبلاغةِ والبراعَة، وإلى كلِّ كاتب وناثرْ، وإلى كلِّ عَروضيٍّ وشاعرْ، وإلى كلِّ هندسيٍّ وطَبيبْ، وإلى كلِّ حَليم ولبيبْ، وإلى كلِّ قاصٍّ صَدوقْ، مُبرَّأ من الفُجور والعُقوقْ، مُؤَدٍّ لما يلزمه من الحقوقْ، قاصدٍ بوَعظه وجه الله والدَّارَ الآخرَةْ، بعيدٍ عن جمع الحُطامْ وهَذَر الكلامْ، وعن الكذب والمكابرَةْ، وإلى كلِّ ذي رُتبةٍ مُنيفةْ، وإلى كلِّ إمام وخَليفَةْ، وإلى كلِّ ملِك وسُلطان ذي إنافةٍ شَريفَةْ، وإلى كلِّ وزير وأمير، وإلى كلِّ مُستشار ومُشير، وإلى كلِّ مُفتٍ ومُدرِّس وقاضْ، وإلى كلِّ حاكم حكمهُ على الخليقَة ماضْ، وإلى كلِّ نائبٍ في المملكة وحاجِبْ، وإلى كلِّ(/6)
والٍ فُوِّض إليه شيءٌ من المناصبْ، وإلى كلِّ عاقد وشاهدْ، وإلى كلِّ مَن دعي في مَشهدٍ من المشاهدْ، وإلى كلِّ إمام بَرّْ، وإلى كلِّ خطيبٍ على منبَرْ، وإلى كلِّ مؤذِّن يقولُ في كلِّ وقت: الله أكبَرْ، وإلى كلِّ مؤدِّبِ مكتَبْ، وإلى كلِّ من أَرصَدَ لأمرٍ من الدِّين أو الدُّنيا مرتَّبْ، وإلى كلِّ جنديٍّ عَلا في القتال أعلامُهْ، وإلى كلِّ عامِّيٍّ عرف إيمانَه وإسلامَهْ، وإلى كلِّ جليلٍ وحَقيرْ، وإلى كلِّ كبيرٍ وصغيرْ، وإلى كلِّ مَخدومٍ وخَدَمْ، وإلى كلِّ ساعٍ بقَدَمْ، ...)) إلى آخر ما سجع، وفرَّق فيه وجمع.
ثمّ أعلن نصَّ البراءة قائلاً :
((بَرئتُ إلى هؤلاء مِمَّن كذبَ على المصطفى وجِبريل وربِّ العِزَّةْ، وأُرشِد إلى الصَّواب فأَنِفَ ولم تَهزَّه في الله هزَّةْ، ورامَ أن يَعتزَّ على ذلك بالعوامِّ والسُّوقَة ولله العِزَّةْ، لا لمن أَزَّهُ أَزَّهْ)).
ثمَّ استطرد إلى موضوع حفظ السنَّة النبويَّة وأوصى باجتنباب روايةِ الموضوعات، وأورد الأحاديثَ المحذِّرة من مَغبَّة الكذب على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأرشد إلى هَدي الصحابة في التَّوقِّي من كثرة الرِّواية خوفاً من الوقوع في الكذب، وأتبعَ ذلك بأقوال الأئمَّة في معاقبة الكذَّابين، وأردفَه بخبر هذا القاصِّ الذي كتب من أجل صنيعه ما كتب، والذي كان يَرجو توبته وتوقُّفه عن بثِّ الواهِيات في مجالسه القصصيَّة: ((كنتُ مترقِّباً إذا بلغَه ذلك أن يبادرَ بالتَّوبَةْ، والاستغفارِ من هذه الحَوبَةْ، ويقولَ: سمعاً لأمر الشَّرع وطاعَةْ، وامتِثالاً لقول أهل السنَّة والجَماعَةْ، ويدعو لي مع ذلك إذ نَبَّهتُه وأرشدتُّه ونَصرتُهْ، بمنعه من الكذبِ على الأنبياء والرُّسل وأفدتُّهْ، ويتردَّد إلى مَشايخ الحديث خاضعا، ويستفيدُ منهم عِلماً في الدِّين والدُّنيا نافِعا)).(/7)
لكنَّ القاصَّ لم يقبل نصيحةَ السيوطي وفَتواه التي أيَّده فيها عددٌ من الأعلام بقصائدَ شعريَّة احتفظ لنا بها المؤلِّف في ((فتَّاشه))[12].
وبعدُ: فهذه هي قصَّة مقامتنا الأدبيَّة ((الفتَّاش على القشَّاش))، التي أعلن فيها السيوطي براءةً عامَّة من ظاهرة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرشد إلى الاحتياط والتثبُّت من صحَّة الأحاديث النبويَّة عند الاحتجاج بها، وهي درسٌ عامٌّ لكلِّ كاتبٍ في عصرنا الحاضر أيّاً كان تخصُّصه أن يتثبَّت فيما ينقل، ويراجعَ أهل الاختصاص فيما يكتُب، ويجتنب ما استطاع الاستدلالَ بالأحاديث الموضوعة والأخبار المصنوعة حتَّى لا يقعَ في وعيد الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم، والله الهادي إلى سواء السَّبيل.
خطّ المؤلّف
جلال الدّين السّيوطي نقلا عن أعلام الزِّرِكْلي 3/301
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] البخاري رقم : 1229 من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
[2] مسلم رقم : 7 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] ذكره عدد من الأعلام أقدمهم تلميذ السُّيوطي عبد القادر الشّاذلي في (بهجة النّاظرين بترجمة حافظ العصر جلال الدّين) رقم: 242، 246، وهو مضمّن في شرح مقامات السّيوطي 2/856 - 886 بتحقيق: سمير محمود الدّروبي - وفّقه الله تعالى - ضمن منشورات مؤسّسة الرّسالة.
[4] انظر لسان العرب والمعجم الوسيط مادّة ( قشش ).
[5] ومع ما بذله السّيوطي - رحمه الله تعالى - من جهد في هذا المقام انتُقدَ كثيراً في رمزه لأحاديثَ كثيرة في جامعه الصّغير بالصّحة أو الحسن وهي من قبيل الموضوعات والواهيات المتروكات، وتعقُّبات الألباني عليه في هذا الباب أشهر من أن تُذكر.
[6] مقدّمة تحذير الخواصّ من أكاذيب القصّاص 1 - 6.
[7] انظر مقدّمة شرح المقامات 1/51 لسمير محمود الدّروبي.
[8] شرح مقامات السّيوطي - مقامة الدّوران الفلكي 1/412 - 413.
[9] شرح مقامات السّيوطي - مقامة طرز العمامة 2/719 - 720.(/8)
[10] يعني جيّد مُحكَم، ولا يُفهم منه تفضيل عقولهم على عقول السَّلَف؛ فالسَّلَف هم أصفى النّاس عقولاً، وأهذبهم نفوساً.
[11] لا يخفى أثر الصوفيَّة في نشر الموضوعات، وبثِّ الأباطيل والواهيات.
[12] ثمّة تفاصيل كثيرة عن أحوال السّيوطي مع هذا القاصّ لا يتّسع المقام لذكرها، والمقصود أخذ العبرة والاستفادة من هذه المقامة في تنبيه المتساهلين في نشر الأخبار الموضوعة.(/9)
العنوان: الفتح الأول لبيت المقدس
رقم المقالة: 1596
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هَادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن التزم سنتهم، وسار على هديهم إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [الحشر: 18 – 19].
أيها المُؤْمِنُون: قراءة الحوادث، والإلمامُ بالتواريخ، والاطِّلاعُ على أحوال الدول، ومصير الأمم؛ يقود إلى الاعتبار والادِّكَار، ويكون سببًا للزُّهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة؛ لأنَّ العبد يرى فيما يقرأ أشخاصًا تملَّكوا ثم مُلكوا، وأممًا عزت ثم ذلت، ودولاً أقبلت ثم أدبرت، ولا يبقى إلا وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام: {لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} [غافر: 16].
ومما سجله التاريخُ: ما وقع في شهر ربيع[1] من فتح بيت المقدس، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - ثُمَّ كان مَسْرَى خاتم النبيين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إذ جمع له فيه الأنبياءُ كلّهم - عليهم الصلاة والسلام - فأمّهم في محلتهم ودارهم[2].(/1)
كان هذا الفتحُ العظيمُ في عهدِ الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولكن بشائره كانتْ زمنَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تدين له العرب، وقبل أن تفتح على يده مكَّة. كانت تلك البِشَارةُ حينما قابل هِرَقلُ الروم أبا سفيانَ، وكفار قريش وسألهم جملة من الأسئلة عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت تلك المقابلةُ بإيلياء؛ أي (بيت الله) الذي هو بيت المقدس.
فما أن انتهى هرقلُ من أسئلته، والمشركون من إجابة تلك الأسئلة، حتى أطلق هرقلُ تلك البشارة التي أَذْهَلَتْ كفار مكة. قالها وهو يتحسَّر على ملكه، ونفسُه يتنازع فيها داعي الإسلام وداعي الملك، وقلبُه يضطرب بين حظّ الدنيا وفوزِ الآخرة؛ لكنه في نهاية المطاف اختار الملك والدنيا؛ فخسر الملك والدنيا والآخرة.
قال هرقلُ لأبي سفيان - رضي الله عنه -: "فإن كان ما تقولُ حقًّا فسيملك موضعَ قدميَّ هاتَيْن، وقد كنتُ أعلمُ أنَّه خارج، لم أكن أظنّ أنه منكم، فلو أعلمُ أني أخلصُ إليه لتجشَّمتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلتُ عن قدمه"[3].
إنها آيةٌ بينة، وبشارةٌ مُتَقَدِّمَة، بشارةٌ بفتح بيت المقدس، وإزالة عرش الرومان، وكانت تلك البشارةُ قبل أن تُفْتَح مكَّة، فما أعظمها من آية !! وما أطيبها من بشارة!!(/2)
ودار التاريخ دورته، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كمل به الدين، وتَمَّتْ به النِّعْمَة، ثم تَوَلَّى خليفتُه الصديقُ الأول فقضى على الرِّدَّة، وأرسى دعائم المِلَّة، ثم انسابَتْ جُيُوشُه الفاتحة صوبَ الشَّام تحقيقًا للبِشَارة، ومات الصِّدّيقُ - رضي الله عنه - وجيوشُ الإسلام قاب قَوْسَيْن أو أدنى من تحقيق البشارة، وخَلَفه الفاروقُ عُمرُ، وجيوشُ الحق تواصل فتحها؛ حتى بلغت بيت المقدس، فحاصر المُسْلِمُون أهلها، ثم تصالحوا بعد الحصار، وقيل: بعد القتال[4] على أن يقدم الخليفة عمرُ - رضي الله عنه - من المدينة ليباشرَ الصلح بنفسه؛ لما علموا من سيرته وعدله.
فكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بشرطِ أهل إيلياء، فشاور عمرُ أصحابه في الخروج، ثم انشرح صدرُه إلى القدوم على بيت المقدس، واستخلف عليًّا على المدينة[5]، وسار إلى حيثُ مدينة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وكتب إلى أُمَراء الأجناد أن يستخلفوا على أعمالهم ويوافوه بالجابية، وفي رواية أخرى: أنه وافاهم عند بيت المقدس[6].
فلما بلغ الجابية من أعمال الشام نزل بها، وخطب خطبة بليغة طويلة مشهورة كان منها قوله - رضي الله عنه -: "أيها الناس، أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكمُ تُكْفَوْا أمر دنياكم، واعلموا أنَّ رجلاً ليس بينه وبين آدم أب، ولا بينه وبين الله هوادة، فمن أراد لَحْبَ وجه الجنة - أي طريقها - فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد..." إلخ خطبته البليغة[7].
وجاءه رجل من يهود دِمَشْق فقال له: "السلام عليك يا فاروق، أنت صاحبُ إيلياء لا والله لا ترجعُ حتى يفتحَ اللهُ إيلياء"[8].(/3)
وصالح عمرُ أهل الجابية ثم سار وقادته إلى بيت المقدس، وكان - رضي الله عنه - في غايةِ التواضع والاستكانة والذّلَّة لِله رب العالمين، قال أبو الغادية المزني : "قدم علينا عمرُ الجابية، وهو على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه عمامةٌ ولا قلنسوة، بين عُودَيْن، وطَاؤه فرو كبْش نجدي، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبتُه شملةٌ أو نَمِرةٌ مَحْشوةٌ ليفًا وهي وسادته، عليه قميص قدِ انخرق بعضه، ودَسَم جيبُه"[9].
هكذا نقلوا في وصف مركبه وملبسه، وهيئته وعُدَّتِه، ولو أراد - رضي الله عنه - للبس الحرير، ومشى على الديباج، وركب أصيلات الخيل. ولو شاء لحمل معه المتاع الكثير، ولأحاطت به المراكب، وحفّت به المواكب؛ ولكنه - رضي الله عنه - علم قيمة الدنيا فأعطاها مُستحقها، وعلم قدر الآخرة ففرغ قلبه لها، وعمل عملها، وسعى لها سعيها.
وقد حاول أمراءُ الجيش أن يُحسِّنوا من هيئته المتواضعة أمام الأعداء؛ ولكن مَنْ يقدرُ على مَنْ؟ أيقدرون على عمرَ الذي كان كبيرُ الشياطين يخافُه، ويسلكُ فجًّا غير فجّهِ؟!
قال له أبو عبيدة - رضي الله عنه -:"يا أمير المؤمنين، لو ألقيت عنك هذا الصوف، ولبست البياض من الثياب، لكان أهيبَ لك في قلوب هؤلاء الكفار، فقال عمر - رضي الله عنه -: "لا أحب أن أُعَوّد نفسي ما لم تعتده، فعليكم معشر المسلمين بالقصد"[10].(/4)
وباءت مُحَاولة أبي عبيدة بالفشل فحاول يزيدُ بنُ أبي سفيان - رضي الله عنهما - فقال: "يا أمير المؤمنين، إنَّا في بلد الخَصْب والدعة، والسعر عندنا بحمد الله رخيص، والخيرُ عندنا كثير من الأموال والدوابّ والعيش الرفيع، وحالُ المسلمين كما تحب، فالبس ثيابًا بيضًا واكسُها الناس، واركب الخيل واحمل الناس عليها؛ فإنه أعظم لك في عيون الكفار، وألْقِ عنك هذا الصوف؛ فإنَّه إذا رآك العدوّ على هذه الحال ازدراك، فقال عمر - رضي الله عنه -: "يا يزيد ما أُريد أن أتزيَّا للنَّاس بما يَشِينُني عند الله - عزَّ وجلَّ - ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس، ويصغر عند الله - عز وجل - فلا ترادّني بعدها في شيء من هذا الكلام"[11].
وواصل عمر - رضي الله عنه - مسيره إلى بيت المقدس على تلك الحال المُتَواضِعَة؛ فعرضت له مخاضة طين فَنَزل عن بعيره، ونزع نَعْلَيْه فأمسكها بيدٍ وخاض الماء ومعه بعيرُه، فقال له أبو عبيدة: "قد صنعت اليوم صُنعًا عظيمًا عند أهلِ الأرض، صنعت كذا وكذا، قال: فصكَّ في صدره وقال: أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذلَّ النَّاس، وأحقر النَّاس، وأقلَّ النَّاس، فأعزَّكم الله بالإسلام فَمَهْمَا تَطْلُبوا العزَّ بغيره يذلكم الله"[12].(/5)
فلما بلغ بيت المقدس خرجَ إليه بطْريَرْكها صفرونيوس وكتب عمر - رضي الله عنه - لهم الأمانَ لأنفسهم وأموالهم وكنائسم وصلبانهم، ولا ينتقص شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم في مقابل أن يعطوا الجزية للمسلمين[13]، وسلَّم البَطْريَرْك مفاتيح القُدس لعمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - ثُمَّ بَكَى البَطْريرك فقال له عمر: "لا تحزن، هَوِّنْ عليك، فالدنيا دواليك، يومٌ لك ويومٌ عليك"، فقال البطريرك: "أظننتني على ضياع الملك بكيت، والله ما لهذا بكيت، وإنما بكيتُ لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية، ترق ولا تنقطع، فدولةُ الظلم ساعة، ودولةُ العدلِ إلى قيام الساعة، وكنت حسبتها دولة فاتحين تمر ثم تنقرض مع السنين"[14].
وتَمَّ الفَتْحُ، ودخل عمر بيت المقدس من الباب الذي دخل منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، وصَلَّى فيه مستقبلاً القبلة، وجعل يزيح بردائه الأقذار التي رماها النصارى في قبلته. ولما رأى المسلمون فعْلَ عمرَ أخذوا في تنظيف المسجد من أقذار النصارى[15]، ثم بعد الفتح عاد - رضي الله عنه - إلى المدينة على ذات الجمل الذي قدم عليه، وعلى نفس الهيئة التي كان عليها قبل الفتح؛ لأنَّ اهتمامه - رضي الله عنه - ما كان بالشكليات والمظاهر، وإنما كان بأصول الشيء ومعانيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7 - 8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمدلله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.(/6)
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله – تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: ظل بيتُ المقدس عبر تاريخه الطويل حافلاً بالأحداث العظيمة منذ أن سكنه خليلُ الرحمن إلى يومنا هذا، وسيستمر حافلاً بالأحداث الكبرى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ إذ إن الأحداث العظام في آخر الزمان ستكون على أرضه كما صحت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
افْتَتَحَ بيتَ المقدس عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - في السنة الخامسة أو السادسة عشرة للهجرة[16]، وظَلَّ تحت حكم المسلمين خمسة قرون؛ حتى استولى عليه الصليبيون في أثناء حكم العبيديين الباطنيين حينما حكموا الشام، ومكث في أيدي الصليبيين قريبًا من تِسْعينَ سنةً، ثُمَّ استردَّه المسلمون في حكم الأيوبيين، وظل في حوزة المسلمين أَكْثَرَ من ثمانية قرون، إلى أن جاء الاستعمارُ الظالم فاستولى عليه وسلّمه لليهود في أواسط القرن الهجري الماضي.
إنَّ الملاحظ - أيها الإخوة - أنَّ المسلمين لما فتحوا بيتَ المقدسِ تحت إمرة عمر - رضي الله عنه - ما استلموا مفاتيحه من اليهود وإنما من النصارى؛ بل اشترط النصارى على عمر - رضي الله عنه - أن لا يسمح لليهود بدخوله؛ لأنَّهُمْ قَتَلَةُ المسيح حسب زعم النصارى، فكيف يسكنون بلد المسيح عليه السلام؟! ووافق عمر على هذا الشرط. وفي العهد الأموي تسلَّل إلى بيت المقدس عشرة يهود، واشتغلوا فيه خدمًا فَطَرَدَهُم عمرُ بن عبدالعزيز لما تَوَلَّى[17]، ولما استولى الصليبيون عليه أبادوا من كان به من اليهود، وأحرقوا عليهم دورهم[18]. ثم فجأة إذا بالاستعمار النصرانيّ يُسلّم القدس لليهود، فلماذا هذا التغير؟ وما الذي دهى النصارى؟!(/7)
لقد لعِبتِ العصاباتُ الصِّهْيَوْنِيَّة الإنجيلية النصرانية لعبتها، وقذفت في روعِ النصارى أن نُزول المخلصِ عيسى - عليه الصلاة والسلام - الذي سيخلصهم من المسلمين حسب زعمهم لن يكون إلا باستيلاء اليهود على القدس، وتجمعهم فيها، وجعلها عاصمة لليهود، وأنَّ الحروب الصليبيَّة لن تتوقف إلا بذلك؛ فوافقت هذه الفكرةُ هوًى في نفوس النصارى خاصَّةً بعد أن أنهكوا من جراء الحروب مع المسلمين، وبعد أن فَشِلَتْ مساعي الاستعمار الحديث بالمقاومة الصَّامدة من قِبَلِ الشُّعوب الإسلامية المستعمرة؛ فتآزرت الصِّهْيَوْنِيَّة النصرانية مع الصِّهْيَوْنِيَّة اليهودية في هذا السبيل؛ تحقيقًا للعقيدة الألفية التي أصلها عقيدة يهودية[19].
وملاحظةٌ أخرى جديرة بالتأمل وهي: أن اليهود ما حاربوا عبر تاريخهم الطويل ولو مرَّةً واحدة من أجل الاستيلاء على بيت المقدس؛ ففي تاريخهم الحديث سلّمهم النصارى بيتَ المقدس، وفي تاريخهم القديم دعاهم موسى - عليه الصلاة والسلام - لمحاربة الكنعانيين ودخولها فامتنعوا ورفضوا[20].
فمتى كان اليهود أهل حرب ومبادأة بها؟ أيوم قال لهم موسى - عليه الصلاة والسلام -: قاتلوا، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] أم يوم دعاهم - عليه الصلاة والسلام - إلى الفتح وقد مهَّد الله لهم أسبابه، وفتح لهم بابه؛ فارتجفوا كالشياه المذعورة وقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22].
هذه بطولات اليهود! يريدون من يحارب عنهم، ويُخرجُ لهم العدو من القلعة ليدخلوها فاتحين، وما تبدَّلت حالهم. إنَّهُمْ كما كانوا من قبل يقاتلون بسلاح سواهم، ويُلوحون بقوةِ غيرهم[21].(/8)
فليس بلاءُ المسلمين من قُوَّة اليهود؛ وإنَّما من ضعفِ المسلمين أنفسهم، حينما انتشرت فيهم العقائد المنحرفة، والأخلاقُ الفاسدة. حينما اعتمدوا على حولهم وطولهم، واغترّوا بعددهم وكثرتهم؛ فوكلهم الله إلى أنفسهم. حينما تخلَّوْا عن هدى الله، وركنوا إلى الذين ظلموا، في عصبيَّاتٍ جاهليَّة، وأحزابٍ ضالَّة، وقوميَّات ضيِّقة، ينفخ فيها دعاةُ كنعان، ودعاةُ العروبة، ودعاةُ التراب والوطن، فما زادهم ذلك إلا ذُلاًّ وانهزامًا.
أما آن للأمة أن تستفيد من تلك النتائج المرَّة، التي أفرزتها التجارب المخزية، فتعود - أفرادًا وجماعات - إلى كتاب ربها، وسنةِ نبيها بفَهْم سَلَفِها قولاً وعملاً؟! وبذلك سيكونُ النصر والخير، والصلاح في الدنيا والآخرة، ولن يَصلُحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صلَحَ به أولها.
ألا وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم بذلك رب العزة والجلال.
---
[1] قيل: كان فتحه في ربيع الأول، وذكر الطبري أنه كان في ربيع الآخر، وأما سنته فذكره كل من الطبري وابن الجوزي وابن كثير في حوادث سنة (15هـ)، وذكره الذهبي في حوادث سنة (16هـ)، وهو قول ذكره الطبري أيضًا، وذكر البلاذري أنه كان في سنة (17هـ)، وانظر: "تاريخ الطبري" (2/45)، و"المنتظم" (4/193)، و"البداية والنهاية" (7/45)، و"تاريخ الإسلام" للذهبي (3/162)، و"فتوح البلدان" للبلاذري (144)، و"فتوح الشام" المنسوب للواقدي (1/228).
[2] حديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في بيت المقدس مُخَرج في "مسند الإمام أحمد" (1/257)، وصححه ابن كثير في "تفسيره" فقال: إسناده صحيح ولم يخرجوه (3/25)، عند تفسير أول سورة الإسراء، وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر في "شرح المسند" (2324).(/9)
[3] قصة هرقل مع أبي سفيان مُخَرَّجة في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أخرجها البخاري في بدء الوحي باب (7) حديث (6)، وانظر: "فتح الباري" (1/42-44)، ومسلم في الجهاد باب كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1773)، والترمذي في الاستئذان باب ما جاء كيف يكتب لأهل الشرك (2718).
[4] والراجح أنه لم يحصل قتال؛ بل حاصرهم المسلمون فاشترطوا أن يقدم عليهم عمر حتى يباشر الصلح بنفسه لما علموا من عدله - رضي الله عنه - وقيل: "إن صفة من ينتزع بيت المقدس موجودة في كتبهم؛ فأرادوا قبل تسليمه التحقق من كون الوصف الذي جاءت به كتبهم منطبقًا على عمر فكان كذلك فسلموه. انظر: "تاريخ الطبري" (2/449)، و"البداية والنهاية" (7/45).
[5] انظر: "الفتوح" لابن أعثم (1/224-225)، و"تاريخ الطبري" (2/449)، و"البداية والنهاية" (7/45 - 46)
[6] وقيل: بل إن أبا عبيدة والقادة لما بلغهم مقدم عمر ذهبوا يستقبلونه حال دخوله الشام، وانظر: "الفتوح" لابن أعثم (1/226)، و"البداية والنهاية" (7/46) .
[7] "البداية والنهاية" (7/46)، قال الذهبي: "وقدم إلى الجابية - وهي قصبة حوران - فخطب بها خطبة مشهورة متواترة عنه" انظر: "تاريخ الإسلام" (3/162)، و"معجم البلدان" لياقوت (2/91).
[8] "تاريخ الطبري" (2/448)، و"المنتظم" (4/192).
[9] "تاريخ الإسلام" (3/162)، وانظر: "الفتوح" لابن أعثم (1/226)، و"البداية والنهاية"، وفيه أطول مما ذكرت، وعزاه لابن أبي الدنيا (7/49).
[10] "الفتوح" لابن أعثم (1/226) .
[11] "الفتوح" لابن أعثم (1/227) .
[12] "البداية والنهاية" (7/49)، وقصة خَوْضِه - رَضِي الله عنه - في الطين أخرجها الحاكم بسياق أطول وصححها، وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. انظر: "المستدرك" (1/61 - 62) برقم (207).
[13] انظر كتابة الصلح في: "تاريخ الطبري" بأطول مما ذكرت (2/449).(/10)
[14] لم أعثر على هذا فيما وقفت عليه من كتب التاريخ وقد ذكره عبدالله التل في: "خطر اليهودية على الإسلام والمسيحية" (129)، وانظر: "بيت المقدس وما حوله" للدكتور محمد عثمان شبير (44).
[15] "البداية والنهاية" وعزاه ابن كثير للإمام أحمد وللضياء المقدسي، وقال: "وهذا إسناده جيد" (7/48).
[16] انظر: هامش (1) في "تاريخ فتح بيت المقدس".
[17] انظر: "القدس مدينة الله"، للدكتور حسن ظاظا (97) .
[18] المصدر السابق (99)
[19] وملخص هذه العقيدة الألفية اليهودية: أن اليهود ينتظرون منتظرًا من نسل داود يخرج في آخر الزمان؛ ليحكم العالم ألف سنة يسمى "ملك السلام"، وانسحبت هذه العقيدة على الأصوليين الإنجيليين الذي يحاولون إقناع سائر النصارى بها.
[20] انظر: "محاسن التأويل" للقاسمي (3/92-93)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (6/161-166) عند تفسير الآيات (22-26) من سورة المائدة.
[21] بتصرف من: قصتنا مع اليهود للشيخ علي الطنطاوي (37).(/11)
العنوان: الفتوى: ضوابطها وآثارها - قضية للبحث
رقم المقالة: 358
صاحب المقالة: د. عبدالرحمن بن حسن النفيسه
-----------------------------------------
ربما لا تجد أمة في إطار تسييرها قضية أخطر من تفسير القواعد والمناهج التي تؤمن أو تلتزم بها لحكم شئونها. وفي هذا الإطار ربما لا تهتم بأمر بقدر ما تهتم بقدرة وكفاية المسئول عن تفسير هذه القواعد، ولهذا يحتل تفسير الدساتير والنظم الأساسية في البلدان ذات النظم الوضعية المنزلة الأولى من الاهتمام.
وليس في هذا غرابة إذا علمنا أن تسيير الإنسان وأنماط حياته وسلوكه محكوم بالقواعد والمناهج السائدة في حياته، وإذا علمنا كذلك أن هذه القواعد تتحكم في نشاطه وقوته وضعفه وفي هذا قيل إن قائد الإنجليز في الحرب العالمية الثانية لم يهتم بسير المعارك الحربية مع الألمان بقدر ما كان يهتم بالقضاء وسلامته ونزاهته في بلاده لإدراكه أن سلامة البناء الداخلي في القضاء، وفي غيره أساس في حماية بلاده من الهزيمة.
وفي ضوء اهتمام الإنسان بهذه القواعد حرص على سلامة تفسيرها لكي يضمن سلامة تطبيقها وربما جاء جهده في وضع مذاهب التفسير أكثر من جهده في إيجاد القواعد والمناهج نفسها وهو بهذا يحدد للمُفَسِّر دوراً ينأى به عن الهوى والشطط، بنفس القدر الذي ينأى به عن الجهل والخطأ.
قُلْتُ: وهذا الاهتمام الذي نراه في تفسير القواعد والمناهج الوضعية لا يرقى إلى ما وضعته شريعة الإسلام من أسس لحماية قواعدها وصيانتها من العبث والمحافظة عليها من الزلل.
ومن هذه الأسس وضع علمائنا الضوابط والقواعد العلمية والمنهجية لعلم التفسير، وعلم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث.(/1)
قُلْتُ: وفي هذا الإطار نعرض لقضية هامة ينبغي طرحها للبحث والاهتمام وهي تفشي ظاهرة الإفتاء بين كثير من المسلمين، وما ينتج عنها من آثار ومخاطر؛ فالمتتبع لهذه الظاهرة يَفْزَعُ وهو يشهد تسارعاً محموماً إلى الإفتاء في مسائل تمس جوهر العقيدة وقواعدها من قبل أشخاص لم يبلغوا من العلم مَبْلَغاً يؤهلهم للفتيا. وهم في هذه الظاهرة على صنفين: الأول – أشخاص مؤمنون بعقيدتهم ملتزمون بها، ومن هذا الالتزام يظنون أنهم مؤهلون للإفتاء في كل مسألة تعرض لهم، أو يسألون عنها.
وأصحاب هذه الظاهرة عدد من الشبان المسلمين الذين يدرسون في البلاد الغربية، وربما نجد هذه الظاهرة أسباب عدة، منها: حماس هؤلاء الشبان كما ذكرنا، ومنها قلة المفتين المؤهلين هناك أو بالأحرى ندرتهم، ومنها كثرة المستفتين سواء من المسلمين المقيمين هناك أو من المعتنقين حديثاً للدين الإسلامي. ولقد شاهدت طالباً في الولايات المتحدة الأمريكية يفتي في مسائل الصيام وغيرها بأسلوب لا تردد فيه رغم عدم أهليته لذلك، ولربما أنه وبحسن نية منه حَرَّم ما أحل الله، وخلط في أمور كثيرة كان في غنى عن الخوض فيها لو تورع عن الفتيا، ومثل هذا كثير مما لا يمكن قبوله أو التسامح فيه، خاصة إذا كانت الفتوى في أمور جوهرية يترتب عليها أمر ونهي، وتحليل وتحريم، أو كانت موجهة للمسلمين حديثاً مما يؤدي إلى فساد اعتقادهم، ويشوّه صورة الإسلام وحقائقه في نفوسهم.
الصنف الثاني: صنف يعتقد أهليته المطلقة للفتيا، وينطلق في هذا الاعتقاد من قاعدة زعامته لحزب أو فئة أو مذهب ديني، أو انتمائه لهذا أو ذاك، وقد لا تكون رغبته من العلم وحصيلته منه إلا بقدر ما يساعده في صفات الزعامة أو الانتماء وأخطر ما في هذا توجيه فتاواه وتكريسها لخدمة هذه الصفات.(/2)
ومع أن التاريخ الإسلامي قد شهد في فتراته المتتابعة طوائف وفرقاً كثيرة اتخذت لنفسها واتباعها فتاوى شذت بها عن القواعد الشرعية الصحيحة ثم ما لبثت أن تضاءلت وزالت وأصبحت في علم التاريخ، مع هذا فإن أصحاب هذا الصنف يمثلون مثل هذا الدور ولكن بأسلوب وطريقة مغايرة.
وإذا كان أصحاب الصنف الأول من الشبان الطيبين المجتهدين لا يمثلون خطراً مستديماً وذلك بسبب عودتهم لبلادهم أو تراجعهم بعد إدراكهم لمخاطر اجتهادهم فإن أصحاب الصنف الثاني أكثر خطراً لأن فتاواهم ستكون تكريساً لخدمة أغراضهم وصفاتهم والغايات التي يتغيونها مما ينتج عنه تحكيم الهوى، والبعد عن الحق، واعتساف النصوص وتفسيرها على غير حقائقها.
ولقد عكس المؤتمر الذي عُقِد في بغداد أثناء احتلال الكويت صورة واضحة لهذا الصنف من المفتين، فمع أن الإسلام في مبادئه العامة وقواعده الواضحة التي يعرفها ويؤمن بها عامة المسلمين حرم الظلم والاعتداء، وشدد على حرمة النفس والمال والعرض وعلى حقوق المسلم وكرامته، إلا أن المؤتمرين تجاهلوا ذلك وأعرضوا عنه، وبحكم انتمائاتهم ومنافعهم وخدمة غاياتهم أيدوا المعتدي وساندوه وشجعوه، فكانوا بذلك يفتون بما لا يَحِلُّ لمسلم أن يفتي به، وفي ذلك إساءة للإسلام ومبادئه وشريعته وحضارته وقيمه.
قُلْتُ: إن أخطر ما ينتج عن فقدان الضوابط في الفتوى القول على الله بغير علم وقد عظّم الله ذلك وحرّمه على عباده وجعله أعلى مراتب الجرائم وأشد تحريماً من الشرك به قال تعالى مبتدأ بالاخف من الجرائم: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}[1].(/3)
والقول على الله بغير علم يشمل كل قول أو فعل يخالف أوامره أو نواهيه سواء كان هذا القول ناتجاً عن علم بالفعل المخالف لهذه الأوامر والنواهي، أو كان ناتجاً عن جهل من القائل كما يشمل كل تأويل أو تفسير أو تحريف أو تتبع للشبه مما يكون فيه مخالفة للقواعد التي وضعها الله لعباده، وأمرهم بالإلتزام بها.
وحتى تقوم الحجة من الله على عباده نهاهم عن الكذب عليه بتحليل ما حَرَّمه وتحريم ما أحَلَّه، وتوعد من فعل ذلك منهم بالعقاب فقال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}[2] {متاع قليل ولهم عذاب أليم}[3].
كما نهاهم عن إتباع الهوى لما يؤدي إليه من الضلال والانحراف عن طريق الحق والهدى قال تعالى: {اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون}[4] ثم ذكر نهيه لنبيه داود عن اتباع الهوى في قوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}[5].
وكما حرم الله الكذب والقول عليه بغير علم فقد حذر رسوله صلى الله عليه وسلم من الكذب المتعمد عليه فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ((من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار))[6].(/4)
وكما عَظَّم أمر الكذب عليه عَظَّم أمر الجرأة على الفتيا فقال: ((أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار))[7] وكان صحابة رسول الله على عظم قدرهم، وسعة علمهم، ومعرفتهم بما صدر عن رسول الله من قول أو فعل أكثر حذراً وأشدَّ خوفاً في مسائل الفتيا فكان الواحد منهم يتمنى ألا يُسْأَلَ عن مسألة ولو كان يعلمها وإذا سُئِلَ عنها تمنَّى أن يقوم بالإجابة عليها من يرى أنه أقدر منه عليها، وفي ذلك قال عبدالله بن المبارك: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – أراه قال في المسجد – فما كان منهم محدث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت إلاّ ودّ أن أخاه كفاه الفتيا. وقد روي عن ابن عباس وابن مسعود – وهما من أغزر صحابة رسول الله علماً وفقهاً – قولهما إن كل من أفتى الناس في ما يسألونه عنه لمجنون[8].
ومثلهم في هذا فقهاء التابعين والأئمة وأتباعهم فقد روى أبو داود في مسائله أنه ما أحصى ما سمع عن الإمام أحمد بن حنبل حين سُئِلَ عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول لا أدري، قال: وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه كان أهون عليه أن يقول لا أدري، وكان الإمام أحمد كثيراً ما يقول لسائله سل غيري فإن قيل له من نسأل قال: سلوا العلماء، وعندما سُئِلَ الإمام مالك عن مسألة وقال فيها لا أدري، وقال له السائل: يا أبا عبدالله تقول لا أدري؟ قال: نعم مَنْ ورائك إني لا أدري[9].
وروي عن ابن سيرين قوله: قال حذيفة: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة رجل يعلم ناسخ القرآن ومنسوخه، وأمير لا يجد بداً، وأحمق متكلف. قال ابن سيرين: فأنا لست أحد هذين وأرجو ألا أكون الأحمق المتكلف[10].(/5)
وقد وضع الفقهاء شروطاً لمن يحق له الإفتاء وأفاضوا في هذه الشروط، ومنهم من شدد في ذلك تعظيماً للفتوى وحرصاً على ألا يقوم بها إلا من هو أهل لها، ومن هؤلاء الإمام أحمد، فعندما سُئِلَ عما إذا كان الرجل يكون فقيهاً بحفظه مائة ألف حديث كان يقول لا وهكذا بالنسبة لمائتي ألف وثلاثمائة ألف وعندما قال له السائل فأربعمائة قال بيده هكذا وحركها.
وأهم هذه الشروط علم المفتي بكتاب الله الكريم، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والفقه فيهما، والعلم بالأسانيد الصحيحة، وباللغة وآدابها إضافة إلى عدالته وثقته ونيته للإِرشاد، ونشر الأحكام الشرعية. وقد أجمل الإمام الشافعي هذه الشروط بقوله: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة بصيراً بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة بعد هذا فإذا كان هكذا فله أن يتكلم في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي"[11].(/6)
وأضاف أبو بكر الحافظ أبو بكر أحمد الخطيب البغدادي إلى هذه الشروط إضافات أخرى أوجب توفرها في المفتي، وقد فصلها بقوله: "وينبغي أن يكون قوي الاستنباط جيد الملاحظة. رصين الفكر. صحيح الاعتبار. صاحب أناة وتؤدة. وأخا استثبات وترك عجلة. بصيراً بما فيه المصلحة مستوقفاً بالمشاورة. حافظاً لدينه مشفقاً على أهل ملته مواظباً على مروءته حريصاً على استطابة مأكله، فإن ذلك أول أسباب التوفيق، متورعاً عن الشبهات صادقاً عن فاسد التأويلات صليباً في الحق، دائم الاشتغال بمعادن الفتوى وطرق الاجتهاد، ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة واعتوره دوام السهر، ولا موصوفاً بقلة الضبط منعوتاً بنقص الفهم معروفاً بالإختلال يجيب عما يسنح له ويفتي بما يخفى عليه"[12].
ويستخلص من هذا تعظيم أمر الفتيا وشأنها وما يؤدي إليه التسرع فيها من آثار تمس جوهر العقيدة ومن ثم تمتد إلى الملتزمين بها فتفسد عليهم دينهم ثم يتتابع هذا الفساد ويتسارع إلى أجيالهم.
وفي تاريخنا الإسلاامي شواهد وحقائق، فضلالات الفرق القديمة التي شهدها هذا التاريخ وعانى منها الإسلام في كثير من فتراته كانت عبارة عن فتاوى فرضها أصحاب هذه الفرق على مجتمعاتهم، إمَّا عن جهل بحقائق الدين الإسلامي، أو عن قصد فرضه الصراع الحضاري عبر تغلغل أصحابه في الصفوف، واختراق الحواجز عبر نقاط الضعف في المجتمعات الإسلامية التي وُجدوا فيها.
لقد كانت هذه الفرق ستحقق مقاصدها، ولكن الضوابط والقواعد التي وضعها الفقهاء والحفاظ، والعلماء المسلمون للدفاع عن جوهر العقيدة الإسلامية أضعفت حجج هذه الفرق، وأفسدت خططها إلى أن تلاشت، ولكن هذه الحوادث لم تنته بنهاية الأزمنة التي وُجِدَتْ فيها بل استمرت إلى عصرنا هذا وفق ترتيب وأسلوب جديدين، فالقاديانية والبهائية وغيرها من الفرق التي نسمع عنها ما بين وقت وآخر ما هما إلا نتاج لفتاوى قام أساسها على الجهل أو الصراع الحضاري كما ذكر.(/7)
ومن هنا تظل قضية الفتيا هامة وإذا حافظ المسلمون على ما وضعه فقهاء الإسلام من الشروط والقواعد والضوابط لها فإن ذلك كفيل بحماية الشربعة من العبث من قبل متعمد بَعُدَ عن الحق بعد أن أعماه الهوى، أو من قبل غافل يجيب عن كل ما يُسأل وما لا يُسأل عنه وهو لا يدري ما تؤدي إليه فتاواه من آثار.
والله المستعان
ــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الأعراف الآية 33.
[2] سورة النحل الآية 116.
[3] سورة النحل الآية 117.
[4] سورة الأعراف آية 3.
[5] سورة ص آية 26.
[6] مسند الإمام أحمد ج16 ص316.
[7] سنن الدارمي ج1 ص57.
[8] اعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن القيم ج1 ص34.
[9] اعلام الموقعين المرجع السابق ص33.
[10] نفس المرجع السابق 36.
[11] انظر هذا في كتاب الفقيه والمتفقه للبغدادي ج2 ص157 – 158.
[12] انظر هذا في كتاب الفقيه والمتفقه للبغدادي ج2 ص157 – 158.(/8)
العنوان: الفتياتُ بين عواصف المراهقة.. وتعامل الأهل
رقم المقالة: 1354
صاحب المقالة: تحقيق: هيفاء الوتيد
-----------------------------------------
حياةٌ ثائرة.. وأعصابٌ منفلتة.. أعاصيرُ تنتابُ أمزجتَهن.. فرحٌ وأملٌ.. ينقلبُ في لحظة إلى حزن ويأس..!!
شعارُهن في هذه الحياة "لا أحد يفهمنا".
إنها المراهقة.. مرحلة حرجة جدا.. وخطيرة.. ربما لا يحسن الأهل التعامل فيها مع الأبناء.. أو لا يُعِيرون هذه المرحلة أيَّ اهتمام.. فينحدر الأبناء نحو الهاوية..!!
وفي هذا التحقيق ركزت على الفتيات المراهقات.. وكيفية تعامل الأهل معهن.. فبسم الله نبدأ:
الشك.. وعدم الثقة:
في البدء سألتُ شريحة من المرحلة المتوسطة والثانوية.. عن أكثر ما يضايقهن في تعامل أهلهن:
تقول إحداهن - وقد سمت نفسها "المهمومة" وعمرها 17 سنة -: يعاملونني وكأني طفلة صغيرة مع أني الأخت الكبرى.
"خفيفة الظل" - وسنها 14 سنة - تقول: أكثر شيء يضايقني أنهم يعاتبونني على أشياء تافهة جدا، ولا يعرفون التعامل معي أبدا وكل شيء "طقاق".
"حنين" - وسنها 14 سنة – تقول: ما يفهمونني، ودائما يرون الأشياء السلبية في، ولا يرون إيجابياتي.
وتقول أخرى – وسنها 15 سنة -: دائما ما يشكون في ويعاتبونني على كل شيء وعلى أسباب تافهة، ولا يعطونني الفرصة، إني أفهم السبب.
أما منار السهلي، فأكثر ما يضايقها التدخل في الخصوصيات وعدم الثقة والشك.
وتقول إحداهن - لم تذكر اسمها وعمرها 17 سنة -: أكثر شيء يضايقني أنهم يرفضون أشياء أطلبها منهم دون أسباب أو مسوغات.
وهكذا تركزت أغلب الإجابات في عدم الثقة والشك.
الحب والحنان..
وعن كيفية التعامل التي تريدها المراهقات من أهلهن:
قالت المهمومة: أن يعاملوني على أني الأخت الكبرى، ويحسسوني بهذا الشيء، ويعاملوني بلطف وهدوء "مو كل شيء بصراخ"!(/1)
أما خفيفة الظل فقالت: أريد منهم أن يقولوا لي كلمات حلوة مثل "يا حياتي" و"يا قلبي" حتى أحس أني بين أهلي ويحبوني.
وتقول أخرى: إنهم يعاتبونني قبل أن يعطوني فرصة أتكلم فيها، ويبعدون عنهم الشك في، وإذا طلبت منهم شيء ما يقولون لا.
وتقول نورة الدوسري – وسنها 14 سنة -: أريد منهم أنهم ما يصرخون في ويمشون أخطائي "مو كل شيء يوقفوني عليه".
أما أثير فتقول: أريد منهم ألا يفرقوا بيني وبين إخوتي.
بيني وبين أمي حواجز..!!
هل تُفشِي المراهقات أسرارهن لأمهاتهن؟؟
من عجيب الأمر أن كل الإجابات كانت "لا"؛ فتقول إحداهن: من أبعد المستحيلات أن أفشي أسراري لأمي؛ لأن بيني وبينها حواجزَ، وتقول: إن لزم الأمر قلت لأختي؛ لأنها تقريبا في المستوى والتفكير نفسه، وتتفهم المواضيع.
أما خفيفة الظل فقالت: لا أفشي أسراري لأمي، بل لصديقتي؛ لأنها تحس بمشكلتي وتعطيني الحلول، أما أمي فغير ذلك، ووافقَتْها في الرأي "نوني" - وسنها 17 سنة – وأضافت: أمي مشغولة دائما..!
وتقول إحداهن - وسنها 17 سنة -: على حسب حجم السر أو نوعه؛ أشياء ممكن أقولها لأمي، وأشياء لم أفكر يوما أن أقولها لها، والأغلب أقولها لصديقتي؛ لوجود اختلاف في التفكير ووجهات النظر بيني وبين أمي بحكم العمر.
وهكذا كانت الإجابات.. مسافات بعيدة بين الأم وابنتها، وعدم ثقة.
الأسرة.. وابنتهم المراهقة..
عن كيفية المعاملة التي تعامل بها المراهقات كان لنا لقاء مع الإخصائية الاجتماعية "الجوهرة المشيطي" فقالت:(/2)
إن على الوالدين مسؤوليةً تجاه أبنائهم؛ وخصوصا في مرحلة المراهقة؛ حيث إن هذه المدة التي يمر بها الإنسان بعد مرحلة الطفولة يعتمد فيها اعتمادا كليا على الوالدين ويدخل بعدها الإنسان في مرحلة جديدة هي مرحلة المراهقة؛ حيث يحتاج المراهق إلى معاملة خاصة من حيث التوجيه والإرشاد والمتابعة، ونذكر على سبيل المثال بعضَ الطرق لكيفية التعامل مع المراهق؛ ومنها: أنه يجب على الوالدين وخصوصا الأم التي تتعامل مع ابنتها المراهقة أن تأخذ بعين الاعتبار أنها تحتاج خلال هذه المرحلة معاملة خاصة من حيث التوجيه والإرشاد، وأن تكوّن علاقة مع ابنتها؛ حتى تتقرب منها، وتفهم شخصيتها بهذه المرحلة، من خلال الحوار المستمر معها، والسؤال عن المشاكل التي تواجهها، بعيدا عن الاستهزاء أو النقد للمشكلة التي تطرحها على الأم، بل تحرص على مشاركة ابنتها في إيجاد حل للمشكلة التي تعانيها، من خلال مشاركتها في الأفكار والتعاون معها.
كما بجب على الأم أن تكون قريبة من ابنتها خلال هذه المرحلة من خلال تعرف صديقاتها، وأن لا تقلل من أي شخصية أو صفة تتصف بها صديقتها بل تتحاور معها بخصوص هذه الصديقة وتوضيح حسناتها وسيئاتها من خلال الحوار الهادئ وأن يكون للأم دور في متابعة الزيارات الخارجية من خلال مرافقة ابنتها للزيارات الخارجية إذا كان الأمر يستدعي ذلك.
كما عليك أيتها الأم أن تقومي بالتوجيه بعيدا عن إشعارها بعدم الثقة بها، وأن تكوني قريبة من ابنتك حتى لو كان ما تفكر به مستحيلا، بل تحاورينها بأسلوب الإقناع، بعيدا عن فرض الرأي المباشر، وجعل البنت تشعر أن لها رأيا في اتخاذ القرارات الخاصة بها مع الشورى.
كما يجب على الأم أن لا تشعر البنت بأنها لا تستطيع أن تعرف مصلحتها، وأنها اندفاعية وغير متزنة، حتى لو لاحظت ذلك.
كما يجب على الأم أن لا ترفض أي رأي مباشرة، بل تحاول أن تتفهم المطلوب حتى تقف على المشكلة التي تعانيها البنت.(/3)
كوني محل ثقة ابنتك، واحتفظي بأي معلومة تخبرك ابنتك بها، حتى لا تفقدي ثقة البنت بك؛ إذ إن الثقة بين الأم وابنتها في هذه المرحلة شيء أساسي.
كما يجب على الأم شغل وقت ابنتها دون أن تشعرها بذلك؛ من خلال الأعمال داخل المنزل، وأن تحاول بقدر الإمكان شغل وقت الفراغ لها، ولا مانع من استقبال صديقاتها في البيت إذا كانت الظروف تسمح بذلك.
أعطي أفراد الأسرة الثقة بالبنت المراهقة داخل المنزل من خلال أخذ رأيها واستشارتها في الأمور العائلية التي تهم البنت مع أفراد أسرتها وتحميل البنت المسؤولية داخل المنزل من خلال تكليفها بالقيام في متابعة أفراد الأسرة الذين هم أصغر منها سنا، كما يجب على الأم عدم التجاهل للاضطرابات التي تصاحب هذه المرحلة مثل العناد وحب فرض الرأي على الآخرين وحب لفت الانتباه من حولها من أفراد الأسرة أو القرابة أو الزميلات، والبعد عن الشك في أي تصرفات من قبل البنت من خلال هذه المرحلة وعدم إشعارها بذلك، وأن تكون المراقبة بعيدة وغير واضحة، فقد يسبب لها خلافُ ذلك عدمَ الثقة بنفسها، فيسبب ذلك اضطرابا في شخصيتها وعلاقتها مع الآخرين.
وأخيراً: المراهق يحتاج في هذه المرحلة إلى:
حب، عطف، حماية، ثقة، نصح، توجيه، متابعة، تكليف، علاقة استقرار وحزم مع اللين.
خصائص المراهقة النفسية:(/4)
ذكرت الدكتورة فاطمة موسى - أستاذة الطب النفسي - أمورا ينبغي التنبه لها، وهي الفوارق بين الخصائص الجسمية الظاهرية للمراهقة - والتي تتسم بالنضج - والخصائص النفسية العقلية لها - التي لم يكتمل نضجها بعد - إذ تتسم سلوكياتها بالاندفاع ومحاولة إثبات الذات والخجل من التغيرات التي حدثت في شكلها، وتقلد أمها في جميع سلوكياتها، وهناك تذبذب وتردد في عواطفها؛ فعواطفها لم تنضج بعد، فهي تغضب بسرعة وتصفو بسرعة، وتميل لتكوين صداقات، ويبدأ ما يسمى بقصص الحب، ومن هنا تحدث المشاكل؛ فالأم يجب أن تكون قريبة من ابنتها لكي تطلعها على كل ما يحدث لها ومن ثم تستطيع أن تقوم بدور الناصح، والأم يجب أن تتسم بالنصح والتفهم وسعة الأفق وتستوعب أي سلوك يصدر من ابنتها فلو أخطأت الابنة فلا داعي للعقاب الشديد المباشر حتي لا تنفر منها.
وتحذر د. فاطمة الأم من انشغالها عن الأبناء والطباع الحادة التي تخلو من العاطفة والتفرقة بين الأبناء أو الغيرة المرضية بين الأم وابنتها، والعنف مع الأبناء، أو كثرة الخلافات الزوجية أمامهم؛ لأن كل ذلك يحول دون تكوين علاقة صداقة وحب وتفاهم بينهما.
ولكي تكسب الأم ود ابنتها تقول د. فاطمة: يجب أن يكون هناك تقارب بينهما وتبادل للرأي والمشورة؛ فتقدم الأم لابنتها الخبرات التي تعدها أماً للمستقبل ويجب أن تتعرف الأم صديقات ابنتها وأسرهن وتعطي للابنة قدراً من حرية الاختيار، وإذا حدث خلاف تتناقش معها بود وتقنعها بأسلوب منطقي وتشركها معها في الأعمال المنزلية وتشاركها في هوايتها.
لنتعامل مع أبنائنا بفن..
فن التعامل مع الأبناء "المراهقين" فن لا يتقنه إلا القلة القليلة من الآباء؛ لذا يحدث الصراع بين الآباء والأبناء.. وحتى نتجنب هذا الصراع.. إليكم هذه النصائح أيها المربون:(/5)
- إعطاء الأبناء قواعد واضحة: ينبغى أن تكون هناك قواعد محددة يضعها الآباء لكي يلتزم بها الأبناء بصفة مطلقة، ولابد من الإصرار عليها، ولكن في نفس الوقت على الآباء احترام آراء أبنائهم، على أن تتوفر لديهم الرغبة في مناقشة قراراتهم معهم، ولا يأتي ذلك إلا بالتزام الأبناء، واحترام هذه العادات المطلقة.
- عدم المغالاة في ردود الافعال: لابد من الصبر، والصبر هو قبول الآباء لمشاعر أبنائهم كما يعني الاستماع إليهم بالقلب إلى جانب الأذن، وأن تفتح الباب لآرائهم. وغالبا ما ينتاب الآباءَ القلقُ على أبنائهم؛ فلذلك يلجؤون إلى العقاب عند الخروج عن القواعد المرسومة لهم، والعقاب مطلوب، لكنه لا يعطى المراهق الفرصة للسيطرة على تصرفاته.
- تشجيع الأبناء: لابد من التشجيع لا السيطرة، والاهتمام بنشاطاتهم، وإظهار الاهتمام بأصدقائهم، مع توجيه اهتمام خاص إذا كانت هناك مشكلة ما.
- التدقيق في الأمور الهامة فقط: ويعنى ذلك إهمال الأمور الصغيرة أو التافهة مثل (الملابس والموضة مع الالتزام بالحدود المسموح بها)؛ لأنه إذا دقق الآباء في كل الأمور سيولد ذلك شعورا بالتمرد عند الأبناء.
- عدم معاملة الأبناء على أنهم أطفال: لا تعاملهم بصيغة الأمر فلا تستعمل أمثال الكلمات التالية (أنت لا تأكل على ما يرام، لابد أن تنام مبكرا).
- تشجيع استقلاليتهم: الاستقلال والانفصال وتحقيق الهوية هو ما يسعى المراهق لتحقيقه، ويبدأ ذلك منذ سن الطفولة عندما يبدأ الطفل بالزحف والبعد عن أمه، ثم تظهر عند تصميمه على عمل بعض الأشياء بنفسه. أعط لهم الفرصة للخطأ لكي يتوصلوا إلى كل ما هو صحيح.(/6)
العنوان: الفرح: دراسة قرآنية تربوية
رقم المقالة: 515
صاحب المقالة: زيد عمر عبد الله
-----------------------------------------
ملخص البحث: عنوان هذا البحث "الفرح: دراسة قرآنية تربوية" عرض فيه الباحث للفرح في ضوء القرآن الكريم، ودلالة آياته، وهداياتها، التي تحدثت عن الفرح، مستعيناً بالدراسات الإنسانية في هذا المجال. ذكر البحث أن الإنسان غيرُ متَّزن تجاه انفعالاته، والفرحُ واحد منها؛ ولهذا حرص القرآن الكريم على توجيه هذه الانفعالات وضبطها؛ لتؤدي دورها الإيجابي في حياة الإنسان، وقد تبيّن من خلال هذه الدراسة القرآنية أن الفرح ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المحمود، وهو ما يتعلق بأمور الدين، ولهذا القسم صوره وآثاره الإيجابية، عرض لها الباحث.
والقسم الثاني: هو المذموم، تحدث عنه البحث في ضوء حديث القرآن عنه، فذكر صوراً منه صدرت عن اليهود والمنافقين والكافرين والمترفين، ثم ذكر آثاره السلبية الكثيرة.
كان الفرح المباح هو القسمَ الثالث من أقسام الفرح، وبيّن البحث: أن هذا القسم ينسجم مع الطبيعة السوية للنفس البشرية، مع ضرورة الاحتراز منه؛ لكيلا يؤدي التساهل في شأنه إلى عواقبَ غيرِ محمودة.
وقد ظهر للباحث تميّز المنهج القرآني بشأن الانفعالات في الحكم، والضبط، والتوجيه، مع وجود قواسم مشتركة بينه وبين بعض ما ورد عن مدارس الفلسفة وعلم النفس في هذا المجال، وقد قصد الباحث من هذه الدراسة أن تكون خطوةً في مجال الدراسة في التفسير الموضوعي.
المقدمة:
بسم الله، له الحمد، سبحانه عزَّ من قائل: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43].
الإنسان ... هذا المجموعة من الانفعالات، لا يخلو - وهو يمضي في رحلته الدنيوية - من أن يكون فرحاً أو حزيناً، والفرح هو الأصل؛ لأنه الأنسب إلى طبيعة النفس السليمة التي فُطر عليها.(/1)
بَيْدَ أن الأحوالَ قُلَّب، والأيامَ دول، فتارة تبشُّ الدنيا للإنسان فيفرح، وتداعب منه العواطف، ثم بعدُ، حين تعصف به العواصف، وهو بذلك بين مفرحتين، قاعد بين سلامة وحَيْن.
المفرحات كثيرة، وكلٌّ يسعى إليها، والمحزنات كذلك، وكُثْرٌ يهربون منها، ولكن لنا أن نتساءل كما تساءل الفلاسفة من قبلُ: لِمَ يقعُ الناس في الشقاء وهم يهربون منه؟ ولِمَ تَفُوتُهم السعادة والكل يحرص عليها؟
هذا الاضطراب أو الخلل، أيعود إلى سوء استعمالنا لهذه الانفعالات؟ فنفرح فيما لا ينبغي، على الوجه الذي لا ينبغي! أم أن فقدان الضوابط أدَّى إلى طغيانها – أي: الانفعالات –؟ فغدا عدم الاتزان سمةًَ بارزةً في الحياة الإنسانية، حتى صرتَ ترى من الناس - والحالة هذه - من يألم من اللمس، ويجفل من الهمس، وعلى صعيدٍ آخر أناس غلاظ الأكباد، لا انسجام مع دواعي الفرح ولا انقياد.
أم أن لخفاء بعض المعالم أثراً في عدم تمايز أقسام الفرح، المحمود منها والمذموم، ثم المباح، فأدَّى هذا التداخل إلى سلبيات وانحرافات؟.
تساؤلات ومفارقات تضافرت؛ فكانت هذه الدراسة القرآنية التربوية للفرح، تهدف إلى جَمْعِ مُتفرِّقه، ولَمِّ شعثه؛ لتنتظم في صعيد واحد، تتضح فيه معالمه، وقد قيل: "كم من منفرد حِيلَ بينه وبين أخيه، ونازحٍ عن أمه وأبيه، ومنفصلٍ عن فصيلته التي تؤويه".
لقد شجع على هذه الدراسة أني لم أجد - بعد طول بحث ونظر - من كتب عن الفرح كتابة مستقلة، وهذا مبلغ علمي في ذلك.
جاءت هذه الدراسة في ضوء القرآن الكريم، وكان مِحْوَرَها، واستعنت بالدراسات الإنسانية؛ لعلها تكون خطوةً في الاتجاه السليم نحو تأصيلٍ لانفعال الفرح بخاصة، والانفعالات الأخرى بعامة، وهي من جهة أخرى: محاولة لتقديم دراسة تطبيقية لموضوع قرآني، في ضوء خطوات التفسير الموضوعي.
تمهيد:(/2)
الفرح واحد من عدة انفعالات تشكل بمجموعها - عند بعض علماء النفس - الانفعالات الأصلية أو الأساسية [1، ص50] للنفس البشرية، وهي: الفرح، والحزن، والحب، والكره، والرغبة، والتعجب [1، ص51].
ينبثق عنها ما سمي بالانفعالات الخاصة، وهي تربو على الثلاثين عند "ديكارت" [1، ص51]، ومنها: التكبر، والحسد، والشماتة، والندم، والرأفة؛ لكنَّ هذه وأشباهَها عند آخرين بعضُ أنواع الانفعالات الأصلية، ويبدو هذا التقسيم فنيّاً [2، ص34].
إن الفرح الذي يَعنينا في هذه الدراسة ذاك الفرحُ الفطري المعروف، وهو كغيره من الانفعالات التي خلقت مع الإنسان، وجُبِلَتْ عليها النفس، فما من إنسان إلا وهو يفرح ويحزن كما قال علماء النفس [2، ص34]، وسبقهم السلف إلى هذا المعنى بعبارة أكمل نُقِلت عن ابن عباس، ونسبها بعضهم إلى تلميذه عكرمة، جاء فيها: "ليس من أحدٍ إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبتَه صبراً، وغنيمتَه شكراً" [3، جـ17، ص258].
قيل: إن الفرح ليس خاصاً بالإنسان؛ فإن الحيوانات تفرح، وتعبر عن فرحها بالضحك [4، ص83] باعتباره أهم الإشارات الدالة على الفرح [1، ص51]، والغالب أنها تعبر عن فرحها بحركات قد يعرفها من يُعْنى بشؤونها.
قد لا يقبل "المَنَاطِقَةُ" هذا الرأي، وهم الذين يُعَرِّفون الإنسان بأنه حيوان ضاحك؛ تمييزاً له عن سائر المخلوقات، وهي دعوة لإعادة النظر في هذا التعريف، في ضوء تطور الدراسات التي تُعْنى بشؤون الطيور والحيوانات، والتي بلغت شأواً يستحق التأمل.
إن الفرح - من حيث هو انفعالٌ طبيعي، وشعور وجداني - شيءٌ جميل، وحسبنا دليلاً أنه مشروع في أصله، وهو صفة كمال [5، جـ3، ص464]، وجاء النص الصحيح في إثباته لله تعالى، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لَلَّهُ أَفْرَحُ بتوبة عبده من أحدكم؛ سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة))[1].(/3)
لقد أثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفرحَ لله تعالى، ونحن نثبت لله تعالى هذه الصفة كما أثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكما أثبت الله تعالى لنفسه مثيلاتها من الصفات، كالغضب والحب، إثباتاً يليق بجلاله، ويناسب ذاتَه الْعَلِيَّة.
ولا يُلْتَفَت إلى ما ذكره بعض شُرَّاح الحديث [7، جـ1، ص84] في هذا المقام من تأويل الفرح بالرضا؛ بحجة أن الله تعالى منزَّه عن الفرح؛ لأنه اعتزاز وطرب، يجده الإنسان من نفسه عند ظفره بغرضٍ يستكمل به نقصانه، أو يسد به خَلَّتَه، أو يدفع به عن نفسه ضرراً أو نقصاً.
ولا يتعذَّر على منصف أن يثبت لله هذه الصفات، مع تنزيهه - سبحانه - عن المشابهة والمماثلة، في ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فالرب - سبحانه - يوصف بالفرح اللائقِ بذاته، والمباينِ لفرح الخلق - [9، ص308]، وفى هذا إشارة إلى إيجابية الفرح كما ذكرنا، فهو قِوام تمتع النفس بالخير، الذي تُصَوِّره لها انطباعاتُ الدماغ على أنها تملك خيراً معيناً [1، ص62]، يستحق أن يقابل بهذا التأثر المبهج، وهو الفرح.
كثير من متع الحياة تتوقف على الفرح؛ لأن الانفعالاتِ - في ذاتها - جزءٌ من تكوين الإنسان السَّوي، والسوء إنما يأتي الفرح من خارجه [1، ص10]، فيحيله إلى شيء مذموم ومضر، يؤدي بالإنسان إلى الخسران.
لقد أدرك الفلاسفة وعلماء النفس هذا الأمر، فنبَّهوا إلى أثر الإرادة في تهذيب الفرح [1، ص410] باعتباره انفعالاً، وعبّر بعضهم عنها بقوة الأعصاب [1، ص64]، أو بضرورة ممارسة الفضيلة؛ لتجنب الآثار السلبية للفرح على النفس [1، ص9]، ومنهم من ربط بين الفرح كونه انفعالاً وبين قوة التفكير [10، ص ص261-263؛ 11، ص201]، وآخرون وصفوا الضابط الذي يُجنّب الإنسان سلبيات الفرح بالمكابدة [12، ص150].(/4)
للقرآن في هذا المجال منهج متميز، سيكون محورَ هذه الدراسة - إن شاء الله - بخاصة أن القرآن الكريم يتضمن اثنتين وعشرين آية عرضت للفرح صراحةً، بالإضافة إلى آيات أُخَرَ ألقت بظلالها على هذا الموضوع، يضاف إليها أحاديث نبوية أسهمت في التأصيل الشرعي للفرح.
حمل خلقُ الله تعالى لأبى البشر آدم - عليه السلام - كثيراً من مظاهر التكريم له؛ فقد خلقه الله تعالى بيديه الكريمتين، قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ } [ص:75].
ونفخ الله تعالى في آدم من رُوحه، وأمر الملائكة أجمعين أن يسجدوا له: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29]، إضافةً إلى كثير من مظاهر التكريم، والتي عرض لها القرآن، ليس هذا مقامَ ذكرها.
لقد صاحب مظاهرَ التكريم هذه تلبُّسُ الإنسان ببعض الصفات السلبية، جعلها الله تعالى في النفس البشرية؛ لحكم أرادها سبحانه وتعالى، منها: تأكيد حاجة الإنسان لعناية ربه وهديه ورحمته، فكان أن تلبَّس الإنسان [13، ج29، ص169] أشد التلبس بصفات: كالضعف، والعجلة، وجعلت في قالب أنه جُبِلَ عليها وخلق منها؛ إمعاناً في إبراز تأصيلها في نفسه.
خُلق الإنسان عجولاً، يقول تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، ولازمته صفة الضعف: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28]، ومن الضعف والعجلة نشأت صفة عدم التوازن.
إن الإنسان - بصفة عامة - غيرُ متَّزن تجاه انفعالاته، وما يَعْرض له، وأكد القرآن الكريم هذه الصفة في مواضع منها: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [ المعارج:19-21]، والهلع: قلة إمساك النفس عند اعتراء ما يحزنها أو ما يسرها، أو عند توقع ذلك والإشفاق منه [13، جـ29، ص 167].(/5)
والفرح: انفعال جُِبل عليه الإنسان وتلبَّس به، ومن الخذلان بقاء النفس على ما جُبِلَت عليه [5، جـ3، ص479]، فلابد - والحالة هذه - من مقابلة هذا الفرح الفطري بشيء مكتسب؛ ليضبط هذا الانفعال، وهذا متوافر في توجيهات الشرع، وهي تؤدي هذه المهمة خيرَ أداء، هذه المهمة التي أوكلها الفلاسفة وعلماء النفس إلى الإرادة، أو المكابدة، أو قوة التفكير - كما أسلفنا - وإن كنا نرى أن هذه كلها إلى التفاهم أقرب منها إلى التصادم في القيام بمهمة ضبط الفرح، مع تميز المنهج الإسلامي في هذا المقام.
حرص الإسلام على تهذيب الفرح وتوجيهه؛ لإبراز الجانب الإيجابي منه، ولاستثماره بما يعود على النفس بالخير والسعادة، خلافاً لبعض المدارس الفلسفية التي ترى ضرورة استئصال الانفعالات - والفرح واحد منها - لأنها أمراض حقيقية.
كلمة في التعريف:
الفرح - الانفعال في النفس، والآثار على الجسم - شيء معروف مألوف لدى الناس، لا يختلفون في استحضاره في الذهن ولا في تصوره، وإن تباينت أسبابه، وآثاره، ووسائل التعبير عنه.
إن الشيءَ الذي يُفرح الرجل، غيرُ الشيء الذي يُفرح الطفل، وما يُفرح المرأة غير ما يُفرح مَنْ سواها، وقد تختلف تبعاً لذلك آثارُ هذا الفرح ووسائل التعبير عنه، ولكن لا اختلاف في أن ما يشعر به كل واحد منهم من لذة وسعادة وابتهاج - يُسمى فرحاً.
وقد يبدو الباحث في تعريف الفرح في موقف يُمْلي عليه شيئاً من الاحتياط، فيكون حديثه إلى تحليلِ مفهوم أقرب منه إلى توضيحِ معلوم.
لأهل اللغة في تعريف الفرح كلمة تُلقي بظلالها على دلالته، فالفرح من كلمات الأضداد عندهم، تحدث ابن فارس عن هذه اللفظة فذكر لها أصلين، أحدهما: المعنى المتبادر، وهو ما كان ضد الحزن، والثاني: المُفْرَح بسكون الفاء وفتح الراء، بمعنى المثقَل بالدين [14، جـ4، ص500؛ 15، جـ5، ص20].(/6)
وجاء في القاموس المحيط [16، جـ3، ص462]: المفرَح - بفتح الراء - المحتاج المغلوب الفقير، الذي لا يعرف له نسب ولا ولاء، والقتيل يوجد بين الفريقين، وخلص الراغب من هذا فقال: "فكأن الإفراح يستعمل في جلب الفرح، وإزالة الفرح" [17، ص228] .
وأنشد القرطبي المفسر لبشر بن عبد الله قوله:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدِّي أَمَانَةً وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْكَ الْوَدَائِعُ
ثم قال: "أي: أفسدك؛ لأنها تثقله فتحزنه" [ 3، ج13، ص ص313 - 314].
وكون كلمة الإفراح من الأضداد وضعاً له أصل معتبر، فالفرح الحاصل من لذة الشبع يسبقه ألم الجوع، ويتبعه حزن خوفاً من عودته [ 18، ص166]؛ فإنه لا توجد لذة بدنية إلا والحزن يتقدَّمها، وكثيراً ما يتعقَّبها، ولقد لمح المتنبي هذا التلازم، فقال [19، جـ25، ص16]:
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
هناك مطلوبات كثيرة يشتهي الإنسان الحصول عليها، والتمتع بها، والفرح بلذاتها، فإذا لم يحصل عليها، أصابه الغم والحزن [12، ص57]. وحُقَّ للعرب أن تقول: "المرء بين مفرحتين، قاعد بين سلامة وحَيْن"، وقريب منه قولهم: "أفرحَتْنِي الدنيا ثم أفرحتني [20، جـ4، ص 178]، أي: سرتني ثم أحزنتني.
وفي ضوء ما تقدم يتبين ضعف قول من قال [21، ص48]: "ولا ضدِّيةَ للفرح وضعاً، وإنما جُعِل المدينُ مفرحاً على سُنَّة العرب في التفاؤل، فالتعبير مجازي أدبي، أصبح عرفاً لغوياً".(/7)
لا يخلو الفرح من آثار سلبية، بخاصة إذا بُني علي أساس غير صحيح، يقول "ديكارت" [1، ص86]: "إن انفعالَي الفرحِ والحزن حين يكونان متساويين في الاستناد إلى أساس خاطئ؛ فإن الفرح في العادة يكون أشدَّ ضرراً من الحزن". ويعلل هذا قائلاً: "لأن هذا الأخير – يعنى: الحزن - حين يلزمنا جانب التحفُّظ والتخوُّف يعدنا بطريقة ما إلى الحيطة والحذر، في حين أن الآخر - الفرح - يجعل الذين يستسلمون له جسورين وغير مبالين".
وقد أبدع أحمد بن يحيي "ثعلب" حين فسّر الفرح بأنه: "خفة في النفس [22، جـ2، ص541]، والخفة في انفعال النفس مظنة أن يتجاوز الفرح حدوده، وما قصة الرجل الذي وجد راحلته، التي عليها طعامه وشرابه، بعد أن يئس منها، واستسلم للموت عنا ببعيدة؛ فإنه حين وجدها واقفة فوق رأسه، قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ هذا الخطأ الشنيع من شدة الفرح"[2].
وقد لحظ "أفلاطون" هذا الشيء؛ فقال: "إن اللذة المفرطة تجعل الإنسان هائم العقل مضطرباً، مثل ما يفعل به الحزن في الغالب" [12، ص144].
لعل ما تقدم يفسر لنا: لِمَ كانت العرب تعدُّ تركَ الفرح منقبةً تُمْدح بها؟ كما قال شاعرهم [23، جـ20، ص112؛ 24، جـ7، ص133]:
وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إِذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي وَلاَ جَازِعٍ عَنْ صَرْفِهِ الْمُتَقَلِّبِ
وقول الآخر أيضاً [23، جـ20، ص112]:
إِنْ تُلاَقِ مُنْفِساً لاَ تَلْقَنَا فُرُحَ الخَيْرِ وَلاَ نَكْبُو بِضُرّ
وكأن الدافع إلى هذا الموقف تجنب أن يوصف أحدهم بالخفة والطيش.
ويُسهِّل فهمَ تفسير ثعلب للفرح بأنه خفة في النفس - ما ذكره العلم الحديث: من أن الإنسان الفرح يسرع نبضه؛ لأن الأوردة المتجهة إلى القلب تتوسع، ويكون الدم فيها ساعة الفرح سائلاً جداً ورقيقاً [1، ص ص66، 77]، ويتناسب مع هذا قول العرب في وصف الشخص (الفَرِح) بقولهم: "يكاد يطير من الفرح".(/8)
وأكثر من هذا؛ فإن الفرح قد يؤدي إلى الموت، بخاصة أن الفرح يأتي فجأة [1، ص77]، وفى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الجنة ما يُعِين على تفهُّم هذا الرأي، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - في وصف فرح أهل الجنة: ((فلولا أن الله قضى لأهل الجنة الحياة فيها والبقاء، لماتوا فرحاً))[3].
وعلى الرغم من هذه الملابسات، التي تصاحب الفرح أحياناً، فلا خلاف في أن الفرح إذا أُطْلق، فإنه انشراح الصدر بلذة عاجلة [17، ص228]، وأوسع منه قولهم: انفعال نفسي بنعمة حسِّية أو معنوية، يُلِذُّ القلبَ ويشرح الصدر [26، جـ11، ص406]. وجاء في "المعجم الفلسفي" [27، جـ1، ص654]: السرور، والفرح، والحبور: حالة ملائمة للنفس تنتشر في جوانبها كلها.
ثَمَّةَ فرحٌ آخر، وهو الفرح العقلاني كما يسميه الفلاسفة وعلماء النفس [1، ص ص62، 63؛ 11، ص143]، ويسميه علماء السلوك فرح القلب [28، ص297]، وهو المقابل للفرح الذي هو انفعال النفس، الناتج عن مؤثر خارجي حسي أو معنوي [1، ص62]، في حين أن الفرح العقلاني يأتي النفس من فعل النفس وحده، ولا يعني هذا أن بينهما انفكاكاً.
يرى الفلاسفة الأقدمون أن الفرح العقلاني أكملُ من الفرح الجسماني؛ لأن الأخير تشوبه شوائب، وللذته ضدٌّ، كلذة الشبع، فإنه يقابلها ألم الجوع، بخلاف لذة المعرفة؛ فليس للذتها ضدٌّ [12، ص143]؛ وفي القرآن الكريم من الآيات، التي عرضت للفرح ما يشير في ضوء هداياتها ومقاصدها إلى هذا النوع من الفرح.
الفرح والسرور:
إن ثمَّةَ صلةً بين الفرح والسرور، تحسن الإشارة إليها في معرض الحديث عن تعريف الفرح؛ استكمالاً لجوانب هذه المسألة، فيرى بعض العلماء أن الفرح والسرور متقاربان [29، ص508]، وبهما تسمى تلك الحالة التي تتولد من لذة القلب بإدراك المحبوب ونيل المشتهى [5، جـ3، ص454]، ويرى ابن عاشور أن: الفرح "شدة السرور" [13، جـ11، ص204].(/9)
وقيل: السرور أصفى؛ لأنه خالص من الكدر، بخلاف الفرح، فلربما شابَهُ حذر وكدر [16، جـ3، ص464]، واستعمل السرور في الشيء المحمود، وذم الفرح؛ لأنه يورث أَشَراً وبَطَراً، كما في قوله تعالى: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [ القصص: 76].
يبدو أن هذه الفروق لا تَسْلم من النقد؛ فإن السرور كالفرح، من حيث إن كِلَيهما قد لا ينجو صاحبُه من الكدر؛ وحسبنا دليلاً سرور الكافر بين أهله في الدنيا، كما قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [الانشقاق: 13]، وهو سرور مملوء بالكدر؛ لأنه جَلَبَ لصاحبه عذاباً شديداً في الآخرة، ولم ينل من حقيقة السرور في الدنيا إلا القشور، وكم صادف في دروبها من شرور.
وحَصْرُ السرور في الأمور المحمودة بحجة أنه ورد في أمر الآخرة - ليس منضبطاً، نعمْ ورد قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:7-9]، وورد كذلك قوله تعالى في شأن أهل الجنة: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11]، ولكن ورد السرور في مقام الذم في حديث القرآن عن أهل النار- كما أشرنا-: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق: 10- 13].
والقول نفسه ينال الفرح، فإنه ليس محصوراً في مقام الذم؛ فقد ورد الأمر به في قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58]، وفي قوله تعالي: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]، فلا حجة في الآيات القرآنية لمن مال إلى هذا التفريق.
يوجَّه النقد أيضاً لمن يرى [20، ص49] أن: الأصل في السرور أن مادته من إخفاء الشيء في الصدر وكتمانه، والسرور شعور جوَّاني لا تظهر آثاره بخلاف الفرح.(/10)
ذلك أن الآيات المتقدمة - والتي عرضت للسرور - تدل علي خلاف هذا، فسرور الكافر في أهله ظاهر في اللهو والتقلب في الملذات الحسية، وسرور المؤمن بين أهله في الجنة ظاهر، فهو يزداد نضارةً وجمالاً وشباباً، ويتقلب في نعيم الجنة الحسي، ويبدو أن لا فرق بينهما وضعاً، بيدَ أن الفرح أكملُ وصفاً؛ لأن الرب - تبارك وتعالى - يُوصَف به دون السرور؛ فدل ذلك على أن معناه أكمل من معنى السرور" [9، ص308].
والصلة ظاهرة بين الفرح والاستبشار؛ فكلاهما مرتبط باللذة، فالفرح بالعاجلة، والاستبشار بالآجلة، بخاصة إذا جاءت على لسان الشرع؛ فإنها تكون في حكم العاجلة من حيث تحقُّقُ الحصول.
جاء في "المعجم الوسيط" [30، جـ2، ص704]: الفرحة: المسرَّة والبشرى.
وفى "أساس البلاغة" [31، ص337]: لك عندي فُرْحة - بضم الفاء - أي: بشرى، ويقال: لك عندي فرحة إذا كنت صادقاً [32، جـ2، ص601].
فالفرح يكون بالمحبوب بعد حصوله، ويكون كذلك قبل حصوله، إذا كان على ثقة من تحققه، وهذا هو الاستبشار، ومنه قوله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} [آل عمران:170]، فجمع الله لهم في الآية مسرَّتين: المسرة بأنفسهم، والمسرة بمن بقي من إخوانهم [13، جـ4، ص166].
أقسام الفرح:
الفرح يُمْدح ويُذم بحسب تعلقه، وهذا يعني أن للفرح أقساماً بهذا الاعتبار، وفي سبيل تمييز الممدوح منه والمذموم نظر بعض المفسرين إلى الفرح في ضوء وروده مقيداً أو مطلقاً في القرآن الكريم.(/11)
إذا جاء الفرح مطلقاً فهو مذموم - في نظر هؤلاء - كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]، نقل هذا ابن القيم [5، ص455]، وقال الآلوسي: "وأكثر ما ورد الفرح في القرآن للذم، فإن قُصِد المدح قُيِّد" [23، جـ12، ص16]، ومثّل للأخير صاحب "البحر المحيط" [24، ج5، ص17] بقوله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} [آل عمران:170].
يبدو أن ما ذُكر محل نظر، وليس بمُطَّرِد، فقد جاء الفرح مقيَّداً في مقام الذم: {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، وقوله تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26].
وهذا ما تنبه له ابن عطية حين قال [32، جـ7، ص 284]: "ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحاً؛ إلا إذا قيد أنه في الخير"، فقيد التقييد الذي أطلقه غيره؛ ليجعل الفرح الممدوح ما قيد بالخير، فيكون المذموم ما قيد بنقيضه أو ترك.
سار على هذا ابن القيم [5، ص456] حين جعل الفرح المقيد نوعين: مقيد في الدنيا يُنسي صاحبَه فضلَ الله ومنته، ومثّل له بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} [الأنعام: 44]، والثاني مقيد بفضل الله ورحمته ومثّل له بقوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58].
هذا كلام مستقيم، بيدَ أنه لا يسوغ التسليم بهذا التقسيم؛ فالآيات التي ورد فيها ذكر الفرح في القرآن الكريم اثنتان وعشرون آية، مقيدة صراحةً بذكر المتعلق، سواء أكانت في الفرح المحمود أو المذموم.(/12)
يستثنى من ذلك ثلاث آيات ظاهرها أنها مطلقة، لكن سياقها القرآني مقيد لها لمن تأملها، ففي قوله تعالى حكايةً عن قوم قارون: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] هذا الإطلاق مقيد بالفرح المبالغ فيه في زخارف الدنيا، والسياق القرآني ناطق بهذا.
وفي قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10]ظاهره مطلق، وحقيقة الأمر أنه مقيد بالفرح بالنعمة، وعدم التوازن في الانفعال تجاهها.
ومما يعين على تفهم التقييد في هذه الآية آية أخري مشابهة لها ورد فيها الفرح مقيداً، وهي قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48].
والآية الثالثة وردت في معرض ذم المنافقين، وهي قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة: 50]، فرحون بسلامتهم وبمصيبة المسلمين، وهذا ينبئ عنه السياق، فالتقييد ظاهر.
يتَّسق هذا الذي ذكرنا مع ما سبق من أن الفرح بذاته لا يتوجه له مدح ولا ذم - باعتباره انفعالاً جبلت النفس عليه - وإنما يكون هذا بالنظر إلى متعلِّقه، فتارةً يكون الفرح محموداً إذا أمر به، وتعلق بأمر شرعي، كالفرح بالإسلام، وتارة أخرى يكون الفرح مذموماً، كفرح المنافقين بمصائب المسلمين، ويكون مباحاً إذا تعلق بأمر دنيوي مباح.
وخلاصة القول: إن الفرح الذي عرض له القرآن الكريم ثلاثة أقسام: فرح محمود، وفرح مذموم، وفرح مباح، وهي الأقسام التي سنعرض لها في ضوء الآيات القرآنية، نكشف عن مقاصدها، ونبين هداياتها في حدود سعة المقام، وإسعاف المقال.(/13)
بين يَدَيْ هذه الأقسام أسطر نوجز فيها جانباً من موقف الإسلام من الانفعالات، فقد حرص الإسلام على ضبط الانفعالات بعامة، بعد أن اعترف بها، خلافاً لبعض المدارس الفلسفية التي ترى ضرورة استئصال الانفعالات؛ لأنها أمراض حقيقية، كالمدرسة الرواقية [1، ص15، الهامش]، في حين يرى الإسلام توجيهها؛ توظيفاً لمنافعها، ودفعاً لمضارِّها، وهذا يتلخص في أن يكون الانفعال فيما ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، وعلى الوجه الذي ينبغي، وهذا جماع الاعتدال وعينُه.
هذا الذي ذُكر ليس خاصاً بالفرح، وإنما هو للانفعالات بعامة كما أشرنا، فإن الحزن انفعال، وقد يقتل، وكم من شخص مات غماً وحزناً، وفى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أهل النار - والذي تقدم مثله في أهل الجنة - ما يسوِّغ تقبُّل إمكانية حصوله، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فلولا أن قضى الله لأهل النار الحياة فيها، لماتوا ترحا))[4].
إذا هُذِّبَ الحزن، سُرِّيَ عن صاحبه، وخُفِّفَ عنه، فقد حزن الرسول - صلى الله عليه وسلم - على موت ابنه إبراهيم، وكان حزنه منضبطاً بالشرع حين قال: ((إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا))[5].
وقد يبلغ الحزن بالمؤمن مداه، ولكنه لا يؤثر على صلته بالله، ولا يخرجه عن الجادَّة، فقد حزن يعقوب - عليه السلام - على يوسف حتى ابيضَّت عيناه من الحزن، ولكنه لم يقطع رجاءه بالله، ولم ييأس من رحمته، وقال - وهو على تلك الحالة من الحزن -: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
ومثل ذلك الغضب، فهو انفعال كذلك، الإفراط فيه مذموم، ولهذا عَدَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان[6]، وأوصى رجلاً، فقال له مراراً: ((لا تغضب))[7].(/14)
والتفريط في الغضب، وانعدامه في النفس - مذمومٌ؛ لأنه لا يبقي فيها حميَّة ولا غَيْرَةً، وحين أمر الله تعالى ملائكة العذاب أن تهلك أهل قرية، أمرها أن تبدأ بعابد من أهل هذه القرية؛ لأن وجهه لم يتمعَّر بسبب انتهاك حرمات الله، ولم يغضب في الله أبداً.
وقد تمثلت الفضيلة بأسمى صورها في سلوك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يغضب من أجل أمور الدنيا العابرة، فإذا انتُهكت حرمة من حرمات الله، اشتد غضبه[8].
إن بين الفرح - هذا الانفعال الفطري الذي يتساوى الناس في أصله - وبين توجيهات الشرع المكتسبة الواردة في شان الفرح، والانفعالات بعامة، والتي يتفاوت موقف الناس تجاهها، إن بينهما - مسافةً بعيدة، ودرجات عديدة، كافية هذه وتلك لإبراز الفروق بين سلوك الناس في هذا الميدان.
سعى الإسلام - ابتداءً - إلى تصحيح معتقد الناس تجاه ما يجري في هذه الحياة الدنيا، حين أعاد الأمر كله لله تعالى؛ مُلْكاً وخَلْقاً، ومشيئةً وقضاءً، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد : 22-23].
إن الله تعالى - وهو يربي عباده ويقوِّم سلوكهم - يبين لهم أنه - تعالى – قدَّر مقادير الخلق قبل أن يخلق الأرض، أو قبل أن يخلق النفس، على اختلاف في عود الضمير في قوله تعالى: {نبرأها} [24، جـ5، ص224؛ 3، جـ17، ص257] أهو عائد على الأرض؟ أم على النفس؟، فما في الأرض من قحط، وجدب، وما شابهَ ذلك مما يُلْحق بالنفس الهم والغم، فإنه مقدَّر في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الخلائق بخمسين ألف سنة[9].(/15)
وما أصاب النفس من ألم، أو مصيبة، أو نقص في الأموال، وفوات الملذات، فإنه مقدَّر كذلك، وفي ذلك تسلية للمسلمين وتربية [23، جـ27، ص409]، حين علموا أن ذلك مما اقتضاه ارتباط أسباب الحوادث بعضها ببعض، على ما سيَّرها عليه نظام جميع الكائنات في هذا العالم.
إذا علم المؤمن ذلك وآمن به، أيقن أن هذا المقدَّر لا يدفعه تسخُّط، ولا ينجي منه جزع، عندها يضبط انفعالاته بضابط الشرع، سواء فيما اتصل بحزنه كما تقدم، أو في فرحه الذي أشارت إليه بقية الآية بطريق الإيماء [23، ج27، ص186]؛ ذلك أن القرآن الكريم استغنى بذكر المصيبة عن ذكر المسرة من باب الاكتفاء، وبدلالة قوله في الآية نفسها: {وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}.
وربما كان الاستغناء باعتبار الأصل اللغوي للمصيبة؛ فهي مشتركة في المصيبة والمسرة، فإن أصلها من الرمية، وهي [23، جـ27، ص186] من: أصاب السهم إذا وصل المرمى بالصواب، وقيل: أصلها في الخير من الصوب، وهو المطر، وفي الشر من إصابة السهم.
وأياً ما كان التوجيه، فما يقال في أمر المصيبة المحزنة، يقال في أمر النعمة المفرحة؛ فالمسلم المتَّزن - في ضوء توجيهات الآية السابقة - لا يحزن حزن القانط من رحمة الله، ولا يفرح فرح البطر المنسي لشكر الله.(/16)
يقول صاحب "التحرير والتنوير" عند تفسير الآية المتقدمة [13، جـ27، ص411]: "والمعنى أخبرتكم بذلك؛ لتكونوا حكماء بصراء، فتعلموا أن لجميع ذلك أسباباً وعللاً، وأن للعالم نظاماً مرتبطاً بعضه ببعض، وأن الآثار حاصلة عقب مؤثراتها لا محالة، وإنَّ إفضاءَها إليها - بعضُه خارجٌ عن طوق البشر، ومتجاوزٌ حدَّ معالجته ومحاولته، وفعل الفوات مُشْعِرٌ بأن الفائت قد سعى المفوَّت عليه في تحصيله، ثم غلب علي نواله بخروجه عن مكانته، فإذا رسخ في علم أحد، لم يحزن على ما فاته مما لا يستطيع دفعه، ولم يغفل عن ترقُّب زوال ما يَسرُّه، إذا كان مما يسرّه، ومن لم يتخلَّق بخلق الإسلام، يتخبط في الجزع إذا أصابه مصاب، ويستطار خيلاً وتطاولاً إذا ناله أمر محبوب؛ فيخرج عن الحكمة في الحالين".
إن الإسلام بهذا التأصيل - الذي يؤدي إلى الاتِّزان والاعتدال - يكون قد حفظ الضرورات الخمس - الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض - من غلواء الانفعالات وجموحها، ومن ثَمَّ تهذيبها؛ للإفادة من إيجابياتها.
الفرح المحمود:
الفرح - من حيث هو انفعال فطري - يتساوى فيه الناس جميعاً، يُمدح ويُذم بحسب متعلِّقه، ومحله القلب، وما يُفْرح الإنسان أمر مكتسب، وهو محل التباين، ومن هنا تأتي عناية الإسلام؛ لتجعل هذا الفرحَ محموداً.
ومثل الفرح بقية الانفعالات في صلتها بالمدح والذم، فما [36، ص17] حب الدين وكل ما يتعلق به إلا ذاك الحب العادي، الذي يمارسه الناس جميعاً، بيدَ أنه موجَّهٌ إلى حب الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} [البقرة : 165].(/17)
لقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أن الفرح بالإسلام هو أسمى درجات الفرح وأفضلُها، فأمر به وأثاب عليه، وعرَّض بمن أعرض عنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس : 57-58].
تفضل الله على الناس فأنزل كتاباً كريماً، جعله موعظة بما فيه من تذكير بما ينفع، وتحذير مما يضر، ووصفه بأنه شفاء لما في الصدور من داء وشقاء، لمن وفِّق إلى الإفادة منه، وهو – أيضاً - كتاب هداية، وجالبُ رحمةٍ للمؤمنين.
ولئن تعددت عبارات المفسرين في بيان المراد بفضل الله وبرحمته، والتي أمر الله بالفرح بهما، فإن مدارها واحد، وهي إلى تفسير التنوع أقرب.
في "الكشَّاف" [37، جـ2، ص353]: عن أبيّ بن كعب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} [يونس:58]، فقال: بكتاب الله، والإسلامُ فضله، ورحمته ما وعد عليه.
عقَّب عليه أبو حيَّان [24، جـ5، ص169] بقوله: "لو صحَّ هذا الحديث، لم يمكن خلافه".
وعن أنسٍ مرفوعاً: ((أن فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله وأتباعه)). ونُقل القول نفسه عن أبي سعيد موقوفاً، وهو الأصح [38، جـ7، ص87]، وأورد الطبري [38، جـ15، ص ص106-107] هذه الآثار كلها بأسانيدها.
أوضح ابن القيم [5، ص454] كلام أبي سعيد قائلاً: "يريد بذلك أمرين؛ الأول: الفضل في نفسه، والثاني: استعداد المحل لقبوله، كالغيث يقع على الأرض القابلة للنبات، فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له".
"وهذا الذي يقتضيه اللفظ؛ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة"، قاله صاحب "التحرير" [13، جـ11، ص205] وأصله لصاحب "المحرر" [32، جـ3، ص126].(/18)
فَهِم جَمْعٌ من المفسرين أن أسلوب الآية يفيد الحصر، في قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ}، فيرى الرازي أن قوله {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} يفيد الحصر [19، جـ17، ص ص123-124]؛ فيجب أن لا يفرح الإنسان إلا بذلك، ثم ساق ستة وجوه؛ لترجيح ما ذهب إليه، وحكم بعدها، قائلا: "فثبت أن الفرح باللذات الجسمانية فرح باطل".
ورد في "تفسير المنار" [ 26، جـ11، ص406] ما يؤكد معنى الاختصاص ويشرحه: "فالتعبير في الآية غاية في البلاغة؛ لما فيه من التأكيد والمبالغة في التقرير؛ فإن أصل المعنى بدونهما: قل ليفرحوا بفضل الله وبرحمته، فأخَّر الأمر وقدَّم متعلِّقة؛ لإفادة الاختصاص، كأنه قال: إن كان في الدنيا شيء يستحق أن يُفرح به؛ فهو فضل الله ورحمته".
بيد أن صاحب "المنار" وإن وافق الرازي وغيره بالقول بإفادة أسلوب الآية للحصر؛ إلا أنه لم يرتضِ توجيه الرازي، الذي جعل الفرح بشيء من أمور الدنيا باطلاً.
وأَدَعُ صاحب المنار يبيِّن وجهة نظره، فيقول [26، جـ11، ص407]: "إن الفرح
بفضل الله وبرحمته أفضل وأنفع لهم مما يجمعونه من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، وسائر متاع الدنيا مع فقدهما، لا لأنه سبب سعادة الآخرة الباقية المفضلة على الحياة الدنيا الفانية - كما اشتهر فيما خطته الأقلام ولاكته الألسنة - بل لأنه هو الذي يجمع بين سعادة الدارين، كما حصل بالفعل؛ إذ كانت هدايةُ الإسلام بفضل الله وبرحمته سبباً لما ناله المسلمون في العصور الأولى من الملك الواسع، والمال الكثير، مع الصلاح والإصلاح، والعدل والإحسان، والفوز الكبير، فلما صار جمعُ المال، ومتاع الدنيا، وفرح البطر به هو المقصودَ لهم بالذات، وتركوا هداية الدين في إنفاقه والشكر عليه؛ ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أيدي أعدائهم".(/19)
إن استحضار الجو العام، الذي نزلت فيه هذه الآيات يُعِين على تفهُّم الآراء المتقدمة - والتي قد تبدو متعارضة - فقد نزلت في العهد المكي، وقد اشتد النزاع بين المسلمين والكفار، وكان عامة المسلمين فقراء ضعفاء، في حين كان الكفار يتفاخرون بكثرة أموالهم ومتاعهم، وأولادهم أيضاً.
لقد ذكر لنا القرآن الكريم نماذج من هؤلاء الكفار المعجبين بما لديهم من متاع، يقول عن الوليد بن المغيرة: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:14-15]، وأنموذج آخر، قال عنه القرآن الكريم: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج : 18]، وجمع المال والتفاخر به يصاحبه في العادة فرح.
جاء كلام الرازي - فيما يبدو - في إطار الجو العام الذي نزلت فيه هذه الآيات، فرأى أن هذا الفرح - وهو صفة للكفار - فرحٌ باطل، فأفرده بالذكر، ثم عمم الحكم على من كانت هذه حالَه.
واحتاط الآلوسي لنفسه حين قال [ 23، جـ12، ص112]: "إن الفرح بمتاع الدنيا (لذَاتِه) باطل؛ فقُيِّد"؛ تجنباً للنقد الذي وجِّه لتعميم الرازي.
جاء كلام صاحب "المنار" - راعى الإصلاح الاجتماعي في عصره - متأثراً بالجو العام الذي يعيشه المسلمون اليوم، وكأني به قد رأى في مسلمي هذا العصر بعض صفات مسلمي العهد المكي من الضعف والفقر، ورأى فيهم - أيضاً - بعض صفات مشركي العرب، من الإعراض عن الدين، وعدم الفرح به، فقال مقالته - معاتباً ومذكراً - بأن الفرح بالدنيا والآخرة حصل بالفعل للمسلمين الأُوَل، حين كان تمسكهم بالدين وفرحهم به سبباً لأن تَفْتح عليهم الدنيا أبوابَ نعيمها وزينتها؛ وهذا مبعث فرح وابتهاج.
إن الآيات هدفت أول ما هدفت إلى التنويه بالقيمة العليا لهذا الدين، الذي أخرج مَنْ آمن به من عالم الأموات إلى عالم الأحياء، وجعلهم يدركون أن للحياة معنى أسمى وأعظم مما يتصوره الكافرون الجامعون لمتاعها.(/20)
لقد جاءت عبارة "الظلال": [39، جـ3، ص180] عند تفسير هذه الآيات كاشفةً عن شيء من مقاصدها، متضمنةً المعاني السابقة: "فبهذا الفضل الذي آتاه الله عباده، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان، فبذلك - وحده - فليفرحوا، فهذا هو الذي يستحق الفرح، لا المال، ولا أعراض هذه الحياة، إن ذلك هو الفرح العلوي، الذي يطلق النفس من المطامع الأرضية والأعراض الزائلة، فيجعل هذه الأعراض خادمة لا مخدومة، ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها، لا عبداً خاضعاً لها".
بهذا يظهر الفرح المحمود في أبهى صوره، فرحٌ خالصٌ سامٍ بالإسلام، لا يعدله شيء، يورث صاحبَه حسنَ تقدير للدنيا، فيفرح بها في إطار الاتِّزان الذي تكون فيه الآخرة سيدةً، يَخطب ودَّها، والدنيا تابعةٌ لها.
لقد تحققت هذه المعاني السامية في نفوس المسلمين الأوائل، فهم، وإن كانوا يفرحون بما تفرح به كل نفس سوية؛ كونَ الفرحِ انفعالاً فطرياً جُبِلَتْ عليه النفس - إلا أنهم - ما كانوا يفرحون بشيء أكثر من فرحهم بهذا الدين، ولا قدَّموا عليه شيئاً مما يُفرح به في العادة.
بين أيدينا أطراف من أحاديث، تؤكد استحضار الصحابة الكرام لهذا المعنى على الدوام، وحرصهم على الاحتياط لأنفسهم في عباراتهم في هذا المقام، فهذا أنس بن مالك يقول عن الصحابة، بعد أن سمعوا قول الرسول – صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله عن الساعة: ((أنت مع من أحببت))، يقول أنس: "فما رأيت فرح المسلمين بعد الإسلام فرحهم أشد مما فرحوا به"[10]، وفى حديث آخر جاء قوله: "فما فرحنا بشيء بعد الإسلام فرحنا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: ((أنت مع من أحببت))[11]، وعندما بشر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنساً بفضل انتظاره لصلاة العشاء؛ قال: "فما فرحت بعد الإسلام فرحي به"[12].(/21)
يدل هذا الاستدراك في كلام أنس: على أن الصحابة ما كانوا يفرحون بشيء - مهما كان يستحق الفرح - أكثر من فرحهم بالإسلام؛ شعوراً منهم بالنقلة الهائلة التي نقلهم الإسلام إليها حين أخرجهم من الظلمات إلى النور.
ذكر المفسرون عند تفسير الآية السابقة: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} محاورةً تسهم في الكشف عن مقاصدها، وعن حسن فهم الصحابة لها:
عن عقبة بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، قال: سمعت أَيْفَعَ بنَ عَبْدٍ الكَلاَعِي يقول: لمّا قدم خَرَاج العراق إلى عمر - رضي الله عنه - خرج عمر ومولًى له، فجعل عمر يعد الإبل، فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل عمر يقول: "الحمد لله تعالى" ويقول مولاه: "هذا والله من فضل الله ورحمته"، فقال عمر: "كذبت، ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس : 58] [40، جـ2، ص436].
إن ما جُمع من مال بين يدي عمر صعب عليه إحصاؤه يستدعي الفرح ولا شك، لكنه مهما كان لا يرقى بحال إلى أن يفرح به كفرحه بالإسلام، الذي كان سبباً في هذا الخير، وفى غيره مما يضيق المقام عن ذكره.
الفرح بالقرآن، وبالإسلام، وبالرحمة فرحٌ محمود؛ لأن هذه الأمور {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، أي: يجمع الكافرون من متاع وضِيَاع، وهم في غيِّهم سامدون.
وخيرٌ كذلك مما تجمعون أنتم أيها المسلمون، ولعل هذا ما يشير إليه قول عمر - رضي الله عنه - والقراءات الواردة في الآية تحتمل المعنيين، فإن قوله تعالى {يجمعون} قُرئت بالياء على ضمير الغائب، والمقصود بها الكفار، وقرأها جماعة من السلف (تجمعون) بالتاء؛ خطاباً للمسلمين [24، جـ5، ص170].(/22)
لم يرتضِ صاحب "التحرير والتنوير" هذا التوجيه، وقال [12, جـ11, ص200]: "لا يناسب جعل الخطاب للمسلمين؛ إذ ليس من شأنهم ما تقدم؛ ولأنه لا يظهر منه معنى التفضيل إلا بالاعتبار؛ لأن المسلمين قد نالوا الفضل والرحمة, فإذا نالوا معهما المال، لم ينتقص ذلك من كمالهم بالفضل والرحمة". وقوله: "إلا بالاعتبار" استدراك جيد، أغنى عن الاستدراك عليه.
لقد سبقت الآيةَ التي تضمنت الأمر بالفرح بالإسلام {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} آيةٌ أشارت إلى أن هذا الإسلام من عند الله، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}.
إن التنويه بمصدر هذا الفضل, وهو الإسلام - النعمة العظمى - يقتضي أن يكون الفرح به - وبالنعم بعامة - من حيث هي نعم من الله تعالى وتفضُّل منه, لا أن يكون الفرح بالنعم من حيث هي نعم وحسب, والبَوْن شاسع بين التصورَيْن.
لقد تنبه الرازي أكثر من غيره إلى هذا المعنى؛ فقال [19, جـ17, ص124]: "يجب على العاقل أن لا يفرح بها - النعمة - من حيث هي هي؛ بل يجب أن يفرح بها من حيث إنها من الله تعالى, وبفضل الله وبرحمته, فلهذا السبب قال الصديقون: من فرح بنعمة الله من حيث إنها تلك نعمة؛ فهو مشرك, وأما من فرح بنعمة الله من حيث إنها من الله؛ كان فرحه بالله, وذلك هو غاية الكمال ونهاية السعادة".
للفلاسفة [11, ص126] منحى - غير هذا - مخالف, يذهبون فيه إلى أن الفرح بالشيء الجميل إنما يكون لذاته، دونما اعتبار لأي شيء خارجي, ولهذه النظرة سلبيات سنورد بعضها عند الحديث عن آثار الفرح المذموم.
إن الربط بين النعمة والمنعِم، واستحضار هذا المعنى عند الفرح المحمود، الذي يكون بالإسلام وما يتصل به - يجعل لهذا الفرح آثاراً إيجابية, نذكر أهمها بإيجاز؛ إتماماً للمعنى:
1- إن الفرح بالإسلام يقتضي الفرح بمن أنزله، وتفضَّل به على خلقه, ولهذا يفرح المسلمون بالله, وتطمئن قلوبهم بذكره وتأنس.(/23)
ويفرح المسلمون أيضاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي حمل لهم الإسلام من الله, ففي البخاري من حديث البَرَاء بن عَازِب عن الهجرة، قوله: "ثم جاء رسول الله، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به"[13].
2- يحمد المسلمون الله تعالي؛ لأنه أنعم عليهم بما يُفرحهم, والله تعالي يحب المدح والحمد, روي البخاري: ((لا شيء أحب إليه المدح من الله))[14], فيثاب المسلمون على فرحهم، ويثابون على حمدهم لله.
3- رضا المسلم بما رضي الله له, والرضا من ثمرات الفرح؛ لأن الفرح بالشيء فوق الرضا به, فإن الرضا [5, ص456] طمأنينة وسكون وانشراح, والفرح لذة وبهجة وسرور, فكل فَرِحٍ راضٍ، وليس كلُّ راضٍ فَرِحاً, والرضا عند علماء النفس [1, ص113] أعذب أنواع الفرح.
4- الفرح بالدين يعني: الحرص على الامتثال لما جاء به وتعظيمه؛ قال ابن القيم [5, ص ص 455-456]: "الفرح بالعلم والإيمان والسُنَّة دليل على تعظيمه عند صاحبه, ومحبته له, وإيثاره له على غيره, فإن فرح العبد بالشيء - عند حصوله له - على قَدْر محبته له ورغبته فيه, فمَنْ ليس له رغبة في الشيء، لا يفرحه حصوله له, ولا يحزنه فواته؛ فالفرح تابع للمحبة والرغبة".
5- الفرح بالشيء يعدُّ سبباً مباشراً للحرص عليه؛ لأن الفرح كونه انفعالاً [1, ص25] يقوي الأفكار، ويطيل بقاءها في النفس، والدفاع عنه, والانشغال به, والتضحية من أجله, وقد تمثّلت هذه المعاني كلها في سيرة الصحابة الكرام.
يناسب الحديث عن الآثار والثمار الحديث عن فرح أهل الكتاب بالإسلام, وهو الفرح الذي أشار إليه قول الله تعالي: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36].
والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - فظاهر الآية يفيد أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بالقرآن والإسلام, فمَن المقصود بأهل الكتاب في هذا المقام؟ وهل هذا الفرح على حقيقته؟ وهل له آثار وثمار؟(/24)
أسئلة نسعى للإجابة عنها بما يتسع له المقام, وذلك بإيجاز أقوال المفسرين في هذه الآية.
يرى بعض المفسرين [38, جـ16, ص474؛ 3, جـ9, ص325؛ 23، جـ13, ص 166] أن المراد بأهل الكتاب - الوارد ذكرهم في الآية - مَن أسلم منهم, كعبدالله بن سلام - رضي الله عنه- قال ابن سعدي في "تفسيره" [41, جـ2 , ص342]: "الشهادة والفرح إذا أضيف إلى طائفة أو أهل مذهب، فإنما يتناول العدول والصادقين منهم؛ لأن الفرح دليل الصدق والإيمان, فكان هذا ممن آمنوا".
وعلى هذا التفسير تكون الآية موافقةً في هديها للآية التي نحن بصدد الحديث عنها, والتي تضمنت الأمر للمسلمين بالفرح {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ}, وتكون تسمية عبدالله بن سلام وأمثاله ممن أسلموا بأهل الكتاب باعتبار ما كان, وفيه تعريض بكفار قريش العرب، الذي أحجموا عن الإسلام، وأقبل عليه بعض اليهود والنصارى.
ولا يعكر هذا التفسيرَ كونُ السورةِ مكيةً؛ فإن مجيء آيات مدنية في سور مكية - والعكس - أمر لا تناكر فيه.
القول الثاني: إن المراد بهم اليهود والنصارى [32, جـ8, ص179]، وذلك أنهم لهم فرح بما ينزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - من تصديق بشرائعهم، وذكر أوائلهم, وكانوا من قبل يستفتحون على العرب, فلما نزل القرآن فرحوا به، بخاصة أنهم ظنوا – ابتداءً - أنه خاص بالعرب, فلما علموا أنه للناس كافة كفروا به.
ويُفهَم من كلام ابن القيم أنه حمل الآية على ظاهرها [28, ص397] حين قال: "فإذا كان أهل الكتاب يفرحون بالوحي، فأولياء الله وأتباع رسوله أحقُّ بالفرح به".
هذا التفسير يلقي بظلاله على سر التعبير القرآني بـ(يفرحون) دون (يؤمنون), فقد فرح أهل الكتاب بالقرآن في وقت ما؛ لحاجة ما، دون أن يصاحب ذلك إيمان.(/25)
وليس ببعيد عن فرح هؤلاء فرح أولئك الذين ينتسبون للعروبة، ويعجبون بالإسلام ويفرحون به؛ لأنه جعل للأمة العربية ذكراً بين الأمم, وجعل لغتها العربية لغةً عالميةً، دون أن يصاحب هذا إيمان والتزام.
إنه إعجاب يعود على صاحبه بالتَّبَاب، وفرح مآله إلى ترح؛ لأن هؤلاء عرفوا وانحرفوا, وليس بشيء ما ذهب إليه الرازي [19, جـ12, ص121] في تفسيره لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [طه : 113], حين قال: "إنا أنزلنا القرآن؛ ليتقوا، فإن لم يحصل ذلك، فلا أقل من أن يُحْدِثَ القرآن لهم ذكراً وشرفاً وصيتاً حسناً".
وثمَّةَ قولٌ ثالث في فهم فرح أهل الكتاب, يرى أصحابه [39, جـ22, ص121]: أن المعنيين بالأمر هم اليهودُ والنصارى الصادقون في التمسك بأصول كتبهم، فهذا الفريق يجد في القرآن الكريم مصداق القواعد الأساسية في عقيدة التوحيد, كما يجد الاعتراف بالديانات التي سبقته وكتبها, وعرض لها مع الإكبار والتقدير, وتصور الآصرة الواحدة التي تربط المؤمنين بالله جميعاً؛ فمِنْ ثَمَّ يفرحون, ثُمَّ يؤمنون.
والفرح هنا حقيقة نفسية في القلوب الصافية, وهو فرح الالتقاء على الحق، وزيادة اليقين بصحة ما لديهم، ومؤازرة الكتاب الجديد له.
وهو قول معتبر، تنبه أصحابه إلى ما ورد في القولين السابقين, فأزال ما قد يعلق في الذهن من إشكال في فهم الآية, وأخذ بعين الاعتبار كذلك سياق الآية ودلالة مفرادتها.
الفرح بنصر الله:
النظر إلى نصر الله تعالى للحق وأهله - في ضوء ما سبق بيانه من الآثار والثمار - يشير بجلاء: أن الفرح بهذا النصر فرح محمود, وهو متفرِّع عن أصل الانتماء لهذا الحق.(/26)
قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:2-5].
يوم أن كان الصراع على أَشُدِّهُ في مكة بين المسلمين والمشركين، حصل قتال بين الفرس - وكانوا عَبَدَةَ نارٍ، لا كتاب لهم - وبين الروم - النصارى - وكان النصر في هذه المعركة للفرس، ففرح المشركون في مكة بهذا النصر [37, جـ3, ص197]، وقالوا للمسلمين: "أنتم والروم والنصارى أهل الكتاب, ونحن والفرس أميِّون لا كتاب لنا, وقد أظهر الله إخواننا على إخوانكم، ولَنَظْهَرَنَّ عليكم".
أنزل الله تعالى هذه الآياتِ مشيرةً إلى هزيمة الروم, ومؤكدةً أن الفرس سيُهزمون في معركتهم القادمة مع الروم, وسيكون هذا بعد عدة سنوات, وعندها سيفرح المسلمون بنصر الله, وقد تحقق وعد الله.
الذي يعنينا في هذا المقام قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ}، وصلته بالسياق الوارد فيه, فالمعنى المتبادر: أن يكون فرح المسلمين هذا كان بسبب انتصار الروم على الفرس؛ ردّاً على فرح كفار قريش بانتصار الفرس على الروم, ويحتمل أن يكون هذا الفرح ناشئاً عن ظهور حجة القرآن الكريم، الذي أخبر عن هذا النصر قبل عدة سنوات من حصوله [ 37, جـ 3, ص197], وهذا يؤكد مصدريَّة القرآن الكريم, وإبطال قول كفار مكة فيه.
وقد ورد أن هذا النصر تزامن مع غزوة بدر؛ فتكون الإشارة إلى فرح المسلمين بالانتصار على كفار مكة, وهي بشرى بفرح آجل, وقد تحقق، وهذا يجعل فرح المسلمين مضاعفاً, حين فرحوا بانتصارهم على كفار مكة، ثم فرحوا بانتصار الروم على الفرس.(/27)
وثمَّةَ فرحٌ رابع ناشئ عن تناقص الأمتين؛ الروم في الواقعة الأولى, ثم الفرس في الواقعة الثانية, وفي هذا التناقص والضعف قوةٌ للإسلام وأهله؛ لأن المسلمين قاتلوا الفرس والروم فيما بعدُ، وانتصروا عليهم.
ذكر الزمخشري وأبو حيان [37,جـ3, ص197؛ 24, جـ7, ص 161] أن قوله تعالى: {غُلِبَت} قُرئت بالفتح على البناء للمعلوم، والروم فاعل, وقُرئت (سيُغلبون) بالمبني للمجهول, أي: سيغلبهم المسلمون فيما بعد, ويفرحون بهذا النصر.
وإذا كانت النكت - كما يقال - لا تتزاحم, فإن صور الفرح المذكورة لا تتزاحم أيضاً، وكلها محتمل في ضوء المناسبة والسياق.
جماع الأمر هنا: أن المسلم مأمور بأن يفرح، حين ينتصر الحق على الباطل، في أيٍّ من ميادين الصراع, وهو فرح محمود يثاب عليه, بل إن الفيروزآبادي حصر الفرح فيه، فقال: "ما أذن الله تعالى في شيء من الفرح إلا في هذا المقام", وأراد قوله: {بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ}، وفي قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [42, جـ4, ص178], ولعله أراد إبراز هذا النوع من الفرح لا حصره فيه.
إن بين الفرح بالإسلام والفرح بنصرته وأهله صوراً متعددة من الفرح المحمود, لا تكاد تحصى, أسماها [28, ص 397] منزلةً: الفرح بالله تعالى، وبأسمائه وصفاته, والفرح بالعبودية له سبحانه, والفرح كذلك بكلامه وأحكامه, والفرح برسوله – صلى الله عليه وسلم - وهذا أفضل ما يُعطاه العبد, وبها يبتهج القلب.
ولا شك أن دوام هذا - وما شاكلَه - إنما يكون بالتمكين للدين، وبزوال ما يضاده, وبانتصار أهله, ولهذا كان الفرح به محموداً, ويوازيه الفرح بانقطاع دابر الكافرين, وهو الفرح الذي يعبر عنه بحمد الله تعالى على هلاك أهل الشرك؛ لأن في هلاكهم تمكيناً للدين الحق, وهو أمر يفرح به أهل الإسلام، بمقابلة فرح أهل الكفر بالدنيا، ونسيان أمر الآخرة والكفر بها.(/28)
يتضح ما تقدم في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45], ففي الآية تنبيهٌ [13, جـ8, ص232] على أنه يحق الحمد لله عند هلاك الظَّلَمَة؛ لأن هلاكهم صلاح للناس, والصلاح أعظم النعم, وشكر النعمة واجب.
وفي فرح الظَّلَمَة المعرضين عن الله فتنةٌ للناس في حياتهم, وتعطيل للعمل بالشريعة, وانتشار للفوضى؛ فكان الخلاص منهم مدعاةً للفرح، أوجب حمد الله عليه.
إن الفرح المحمود - الذي سبق الحديث عنه - إنما يكون في الدنيا، وله امتداد في الآخرة, يظهر في صور نعرض لها بما يتناسب مع الحديث عن العالم الآخر.
لقد ذكر القرآن الكريم فرح الشهداء، وهم أولئك الذين فرحوا بالإسلام في الدنيا؛ فهانت عليهم أرواحهم في سبيله؛ فماتوا من أجله؛ فامتد فرحهم في الآخرة؛ يقول الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران : 169-170].
إنه فرح متميز لفئة مخصوصة بالتكريم, تفرح عند ربها فرحاً يليق بهم في مقامهم ذاك, وقد أومأت السُّنَّة إلى بعض مظاهره، حين ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة، تروح وتغدو أينما شاءت، تتمتع بنعيم الجنة, يفرحون بما آلت إليه حالهم بفضل الله تعالى, ويستبشرون بما ستؤول إليه أحوال إخوانهم الذين يطمعون أن يرزقوا الشهادة، وينتظرون اللحوق بإخوانهم.(/29)
إن فرح المؤمن بلقاء الله يفوق الوصف, حين يقال له: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر : 27-30] [24, ص 399] فلو لم يكن إلا هذه الفرحة وحدها، لكان العقل يأمر بإيثارها، فكيف ومن بعدها أنواعٌ من الفرح؟.
ذكر ابن القيم [28, ص399] منها: "حين يلقى المؤمن أهله وأصحابه، فيفرحون به ويفرح بهم، فرحَ الغائب يقدم على أهله, وهذا كله قبل الفرح الأكبر، يوم حشر الأجساد، بجلوسه في ظل العرش، وشربه من الحوض".
بعد ذلك فرحٌ آخر لا يقدَّر قدره, ولا يعبَّر عنه, تتلاشى هذه الأفراح كلها عنده, إنه الفرح برؤية وجه الله تبارك وتعالى.
إن هذا الفرح المحمود بذاته, والطيب بآثاره, والمُثاب صاحبه، تخلو صوره كلها - ما ذكرنا منها وما لم نذكر - من المكدرات والشوائب [43, ص347]، ومن المزاحمات, أبوابها متسعة للمتواردين عليها, فلا شحناء بينهم ولا تحاسد.
فرح الدنيا - المذموم منه والمباح - مزدحمة أبوابه، كثيرة شوائبه, كلٌّ يضيق بصاحبه, وحسبنا هذا المثال الحسي الذي يختصر البيان, فإن أماكن العبادة كثيراً ما تزدحم، حتى لا يجد المرء فيها موضع قدم, ورغم هذا لا يسعه أمام هذا المشهد إلا أن يقول: ما شاء الله، وهو يشعر بسعادة وانشراح في الصدر، قد لا يتفطَّن له في تلك اللحظات, ولا يجد في نفسه شيئاً على الذين سبقوه إلى هذه الأماكن أو زاحموه عليها.
لو وقف الشخص نفسه في مكان، فيه من متع الدنيا وزينتها ما يبعث الفرح في النفوس, ثم زاحمه عدد من الأشخاص - لَشَعَرَ بشيء من التذمر والكدر.
إن في الفرح المحمود - بكل صوره - سرّاً, وله حلاوة حق لمن تذوقها ألا يلقي بالاً لغيرها, وحق لهذا الفرح المحمود أن يكون أسمى أقسام الفرح وأكملها.
الفرح المذموم:(/30)
ذكرنا - سابقاً -: أنه ما من إنسان إلا وهو يفرح ويحزن, فإذا وجّه الفرح إلى شيء محمود، صرف القلب عن ضده, وشغل عنه, وإلا وجد الفرح المذموم إلى القلب سبيلاً, بخاصة إذا كان في القلب مرض شبهة أو مرض شهوة.
عرض القرآن الكريم إلى الفرح المذموم, فذكر منه صوراً، أسندها إلى طوائف صدروا عنها في كثير من تصرفاتهم, وكان لهذا الفرح المذموم أسبابُه ودوافعه ابتداءً، ثم آثاره لاحقاً.
المتأمل في الآيات - التي تحدثت عن هذا الفرح - يجد المتلبسين به هم اليهودَ والمنافقين والكافرين والمترفين, ولعل من المناسب الحديث عن صور هذا الفرح من خلال هذه الطوائف:
اليهود والفرح المذموم:
إن الكذب جريمة أخلاقية, توجب على من وقعت منه أن يتوارى خجلاً, لكن أن يصبح الكذب مبعثَ فرح في النفوس، ويطلب مَنْ صدر منهم هذا الكذب الحمد والثناء عليه, فهذا ما لا يُتَصَوّر إلا من أناس، نفوسُهم خسيسة, وأغراضهم رخيصة, واليهود أَوْلى الناس بهذه الصفات، وهم من تمثّلت بهم, قال تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188].
كان اليهود يخالطون الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة أحياناً, وحدث مرة أن سألهم الرسول – صلى الله عليه وسلم - سؤالَ اختبارٍ وكشفِ نيّاتٍ, فكذبوا عليه، ثم فرحوا بهذا الكذب, ثم أشعروا الرسول – صلى الله عليه وسلم - أنهم يستحقون منه المدح والثناء على تجاوبهم.
أنزل الله تعالى هذه الآية، وضمَّنها وعيداً وتهديداً لهؤلاء اليهود؛ على فرحهم المذموم الذي أبدوه، وعلى الحمد الذي طلبوه.(/31)
قرأ هذه الآية مروان بن الحكم، وكان قد غفل عن سبب نزولها؛ فالتبس عليه معناها, ورأى أن فيها وعيداً وتهديداً لمن يفرح ويحب الثناء, وعلى هذا لن ينجو أحد من العذاب؛ فكل الناس يفرحون كما ذكرنا.
روى البخاري ومسلم[15]: "أن مروان بن الحكم، قال لبوَّابه: اذهب - يا رافعُ - إلى ابن عباس، فقل: لئن كان كل امرئ فَرِحَ بما أُتِيَ, وأحبَّ أن يُحْمد بما لم يفعل معذباً، لنُعَذَّبنَّ أجمعون!! أجاب ابن عباس: ما لكم ولهذه, إنما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يهوداً، فسألهم عن شيء، فأخبروه بغيره, فأَرَوْهُ أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه, وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم".
جاءت هذه الآية تُشَنِّع على اليهود فرحَهم المذموم, وحرصهم المحموم على الثناء بالكذب والخداع, فهي فيهم، وفي كل مَنْ سلك مسلكهم من الناس؛ لاتحاد جنسِ الحكم والعلةِ فيه؛ فإنه لا ينجو من وعيدها [13, جـ4, ص194] من يفعل الشر والخسة، ثم لا يقف عند حد الانكسار لما فعل، أو تطلب الستر على شنعته؛ بل يرتقي، فيترقب ثناء الناس على سوء صنعه، ويتطلب المحمدة عليه.
كشفت هذه الآية عن الصلة بين الكذب والفرح المذموم, فكل صفة تغري بالأخرى, وقد توعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مَنْ يكذب؛ من أجل أن يُضحك الناس، ويُدخل الفرح إلى قلوبهم[16]، فالكاذب يفرح؛ لأنه استطاع أن يُضحك الناس, وهم يضحكون ويفرحون بما يسمعون.
المنافقون والفرح المذموم:
ليس يصعُب - إدراكُ الصلة الوثيقة بين المنافقين واليهود؛ فإن اليهود احتضنوا بِذْرة النفاق ورعَوها، وكان منهم منافقون.
إن الكذب أبرزُ صفة في المنافقين، وهو الذي يميزهم عن أهل الكفر الصريح, وكان عندهم منهجَ حياة؛ فلا غرو أن يكون أولُ وعيدٍ للمنافقين على كذبهم: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة : 10].(/32)
يمكن - في ضوء ما ذكرنا - تفهُّمُ ما رواه البخاري ومسلم أيضاً[17]، عن أبي سعيد الخدري: ((أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو، تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله, فإذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزو اعتذروا إليه, وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا, فنزلت: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آل عمران:188].
لا يبعد في ضوء هدايات سورة آل عمران, وهي التي تتحدث عن اليهود والمنافقين, وفيها وردت الآية موضع البحث, لا يبعد أن يراد بها المنافقون أيضاً، إضافةً إلى اليهود، الذين كانوا قدوة للمنافقين في شنائعهم, وعبارات السلف في شأن أسباب النزول تستوعب ما ذكرنا.
ثمَّةَ آياتٌ صريحةٌ في الحديث عن فرح المنافقين المذموم, والذي ظهر منهم في تخلفهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
تخلف المنافقون عن مشاركة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام في الخروج للغزو, ثم جاؤوا يعتذرون, فأعذرهم الرسول – صلى الله عليه وسلم - إهمالاً لهم، وتقليلاً من شأنهم, ففرحوا حينئذٍ بعدم الخروج، وفرحوا بإعذار الرسول – صلى الله عليه وسلم - لهم.(/33)
كشف هذا الفرح عن كذب المنافقين, وكشف كذلك عن كراهيتهم لهذا الدين؛ إذ لو كان في قلوبهم إيمان، لبكوا بسبب تخلفهم عن الغزو مع الرسول – صلى الله عليه وسلم - كما حصل لذاك النفر: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92].
إن البكاء من هؤلاء بسبب عدم الخروج علامةُ صدق وإيمان، كما كان الفرحُ من أولئك للسبب نفسه - وهو عدم الخروج - علامةَ كفر ونفاق, وقد توعدهم الله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة : 82], والضحك هنا كناية عن الفرح, أو أريد ضحكهم فرحاً؛ لاعتقادهم ترويج حيلتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم.
جمع المنافقون إلى الفرح - الدال على الجبن, والحرص على السلامة مهما كان الثمن - الشماتةَ، وهي لا تنفك عن الفرح المذموم؛ فإن الشماتة - كما قرر علماء النفس [1, ص194] -: الفرح بشرٍّ ينال الغير، ولا تصدر عن فاضل قط.
يفرح المنافقون، إذا مسَّ المسلمين قَرْح, أو نزلت بهم نكسة, وتبدو عليهم مظاهر الإعجاب؛ لأنهم احتاطوا لأنفسهم، فنجوا وأصيب غيرهم: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50].
بئس الفرح هذا الممزوج بالعُجْب والشماتة, والذي ينم عن عدم إيمان بالقضاء والقدر, وعن حقد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام, وعن تمني الهلاك لهم, وكلُّ هذه القبائح كشف عنها الفرح المذموم في هذه المواطن.(/34)
وقد أظهر اليهود كذلك الفرح بمصائب المسلمين, ذكر هذا القرآن الكريم في سياق حديثه عن قبائح أهل الكتاب: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:120].
إنَّ تشابُهَ المشاعر بين اليهود والمنافقين ليس بمستغرب؛ فالكفر ملة واحدة, فقد قرر القرآن الكريم أن الطائفتين تفرحان بمصاب المسلمين, وليس ببعيد عنا فرحُ كفار قريش بانتصار الفرس على الروم، مع أنه لم تكن هناك مودة[18] أو تعاون بينهما.
إن ضحكةً متبادلةً, أو فرحةً مشتركةً كفيلةٌ بأن تكشف المحبة القائمة بين أعداء الإسلام, والقواسم المشتركة في عداوة الجميع لهذا الدين وأهله, فحَرِيٌّ بالمسلمين أن يجمعهم الفرح المحمود وميادينه، كما جمع الفرح المذموم أعداءهم.
الكافرون والفرح المذموم:
أبرز ما يُلْحظ في حديث القرآن الكريم عن فرح الكافر: أنه فرح غير متَّزن؛ لأن الكافر زائغ القلب, ليس لانفعالاته ضابط من شرع, أو موجِّه من دين؛ فهو لا يؤمن بشيء من ذلك, ولا يرفع به رأساً, أو يدفع به بأساً, ولهذا أُوكِلَ إلى نفسه, فظهر عدم اتزانه, بخلاف المؤمن كما سبق بيان هذا.
عرض القرآن الكريم لهذا الاضطراب في فرح الكافرين في أكثر من آية, منها قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود : 9-10](/35)
وعلى الرغم من الاختلاف القائم بين المفسرين في تعيين المراد بالإنسان في هذه الآية, وفي مثيلاتها كقوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم : 36], وقوله تعالى أيضاً: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى : 48].
أقول: على الرغم من هذا الاختلاف[19]، فإن الكافر يدخل فيها دخولاً أوّلياً, فإن أريد هنا جنس الإنسان بعامةٍ - باعتبار أنه جُبِل على عدم الاتزان, وهو قول كثير من المفسرين، كالطبري والخطيب [38, جـ 7, ص 6؛ 44, جـ25, ص 84] - فإن الكافر أبرز أفراد النوع الإنساني في هذا المجال؛ لأن هذا الخُلُق - وهو عدم التوازن [12, جـ25, ص ص 34-135] لا يزيله إلا الإسلام؛ فالذين لم يسلموا باقون عليه.
وإن أريد بالإنسان في هذه الآيات الكافر بخاصة - وهو ما ذهب إليه جمع من المفسرين، كالقرطبي [3, جـ9, ص10] - فقولٌ ظاهر ويؤيده السياق, حيث وُصف الإنسان في الآيتين بأنه كفور, وهو وصف خاص, وقد يعكر صفو هذا القول أن وصف الكفور يشمل الكفر بالله وكفران النعمة, والإنسان بعامة متلبِّس بالوصف الثاني, وإن كان مجيء وصف كفور على صيغة المبالغة يؤيد التوجه الثاني، وعلى كلٍّ؛ فإن الكفر بالله وكفران النعمة بينهما تلازم في أغلب الحالات.
لقد كان لعدم توازن الكافر في انفعالاته مظاهر وآثار منها: أن فرحه محصور في الدنيا, ولا يلتفت إلى نداء الآخرة. يقول الله تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } [الرعد:26].(/36)
إن في الدنيا أشياء مفرحة تغري بالإنسان، ويبشُّ لها؛ ولكنها قليلة زائلة, يخالطها الكدر والشوائب, وهي لا شيء إذا ما قيست بما في الآخرة من نعيم مقيم يُفرح, وقد أومأت الآية إلى هذا المعنى, وتقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن كتب الله الخلود على أهل الجنة، لماتوا فرحاً)).
إن فرح الكافر قاصر مذموم, حين حصره في الدنيا على حساب الآخرة, وما نعيم الدنيا إلا مجرد ذوق, كما أشارت الآيتان السابقتان {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ} [23, جـ22, ص15]، وأصل الذوق: أخذ شيء يسير للمعاينة فقط, ولا شك أن نعيم الدنيا كله لا يعدو أن يكون ذوقاً بالنسبة لنعيم الآخرة.
إن فرح الكافر بهذا الذوق، وقناعته به مؤشرٌ على دنوِّ همَّته, وضيق أفقه, فقد رضي أن يكون حظُّه من النعيم هذا الذوقَ وحسب, بخلاف المؤمن؛ لما ذاق فأُعْجِب, تعلقت همَّته بالآخرة محل النعيم المقيم؛ فصار الذوق للمؤمن وسيلة؛ لأنه يسعى إلى سعادة عظمى, والكافر لا يرجو بعد الدنيا سعادةً ولا فرحاً؛ فصار ما في الدنيا غاية عنده.
في قصة سليمان - عليه السلام - مع ملكة سبأ, صورتان متقابلتان لفرح المؤمن وفرح الكافر: لقد فرح أهل سبأ بهديتهم التي حُملت إلى سليمان, وهي شيء تافه إذا ما قيست حتى بنعيم الدنيا, وقد ظنوا أن نبي الله سليمان سيفرح بالهدية كما فرحوا: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:35-36].
أجابهم سليمان بكل استعلاء: أنتم وحدكم الذين تفرحون بمثل هذه التوافه, أما نحن، فإنَّا نفرح بما آتانا الله من إيمان؛ فهو مصدر الفرح الحق.(/37)
وثمَّةَ وجهٌ آخر مذموم في فرح الكافر, وهو أنه يفرح بالنعمة من حيث هي نعمة، دونما التفات إلى مصدرها؛ فهو فرح يتعلق بالنعمة نفسها, وليس لكونها من الله تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} وحدها.
ذكر الرازي [19, جـ25, ص108] مثالا حسيّاً قرَّب به هذا المعنى، فقال: "لو أن ملكاً وضع أمام أحد الأمراء رغيفاً, أو أمر الخادم أن يضع أمام هذا الأمير زبدية طعام؛ فإن الأمير يفرح بهذا، ولو قدم الملك إلى فقيرٍ رغيفاً, أو زبدية طعام غير ملتفت إليه؛ فإن الفقير يفرح, لكن فرح الأمير يكون بهذا الشيء اليسير من يد الملك, أو بأمره, أما فرح الفقير الغافل، فإنه يكون بالرغيف والزبدية, وشتَّان بين الفرحَيْن, مع أن ما فرحا به شيء واحد".
إن الفرق ظاهر بين حال الكافر في فرحه وحال المؤمن، فارتباط فرح الكافر بالنعمة ذاتها يفسر عدم توازنه؛ لأنه يفرح بها فرح البَطَر إذا أقبلت, ويحزن حزناً شديداً إذا فقدها؛ لافتقاره للضابط المكتسب، الذي يكبح جماع انفعالاته.
أما المؤمن، فإنه حين ترتبط النعمة عنده بالله تعالى؛ فإنه يفرح بها فرح المقرِّ بفضل الله الوهاب لها, فلا يبطر؛ لأن المعطي فوقه يرقب فعله, وإن نزعت منه النعمة, أو فاته الحصول عليها يصبر؛ لاعتقاده أن ما حصل كان بقضاء الله وقدره, وقد تعود إليه, ويظفر بها مرة أخرى ما دام أمرها بيد الله تعالى.
هذا التوازن هو الذي يفتقر إليه الكافر؛ إعجاباً منه بما هو عليه, وتجاهلاً لأي صوت آخر؛ ولهذا كان فرحه فيما لا ينبغي, وعلى الوجه الذي لا ينبغي.(/38)
إن هذا المسلك الذي ارتضاه الكافرون أغرى بهم, فجعلهم يُعْرِضون عن دعوة الرسل فرحاً بما عندهم وقناعةً به, وزهداً بما وراءه، {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } [غافر : 83].
إنها مجموعة من التصورات والأوهام، ظنها الكافرون علماً يرسم لهم منهج حياة؛ ففرحوا بها، إعجاباً وإيماناً؛ فأدَّى هذا إلى الاستهزاء بما عداها، حتى لو جاءت به الرسل.
هذا هو الفرح المذموم بعينه, حين يؤدي إلى الكفر بالحق، والإعراض عنه، والازدراء بمَنْ جاء به؛ فيحرم هذا الفرح الكافرينَ من خير الدنيا بهذا الإعراض, ومن نعيم الآخرة.
إن هذه الأوهام، التي يفرح بها الكافرون متنوعةٌ ومتعددة, فقد تكون عقائدَ جاهلية متوارثة، ظنها أهلها شيئاً, وربما تكون بقايا دين محرَّف, وقد تكون مبادئ بشرية, ونُظُماً وضعية, لكنها - ورغم الاختلاف بينها - يجمعها أنها مبعث فرح في نفوس أصحابها, وفيهم يقول الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53].
ويلحظ في الآية المتقدمة قوله تعالى:{فَرِحُوا بما عِنْدَهُمْ}، وفي الآية الثانية {بِمَا لَدَيهم فرحون}، فهذا الذي يفرحون به من بدعهم هم, أو مما توارثوه واعتادوا عليه, وهو لا يغني من الحق شيئا، أما المؤمنون فإنهم يفرحون بما جاءهم من عند الله؛ فهو الرحمة والشفاء.
ناسب أن يأتي بعدُ قولُه تعالى: {فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:54] [13, جـ18, ص ص 73- 74], وذلك تمثيل لحال اشتغالهم بما هم فيه من الازدهار وترف العيش, عن التدبر فيما يدعوهم إليه الرسول – صلى الله عليه وسلم - لينجيهم من العقاب بحال قوم غمرهم الماء, فأوشكوا على الغرق, وهو يحسبون أنهم يسبحون.(/39)
ويظل الفرح المذموم صارفاً لهؤلاء عن الجادة, في الحياة الدنيا، حتى تأتيهم آجالهم، وهم على حالهم, ثم يوم القيامة تتكشَّف لهم الحقائق، فيعلمون أن فرحهم أوردهم النار: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ*إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ*ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ*مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ *ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ *ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [غافر70-76].
ذلكم العذاب, الذي ورد في الآيات طرفٌ منه بسبب الفرح في الدنيا بغير الحق, وفي هذا إيماء إلى أن الذم متوجه إلى كون الفرح بغير الحق, لا إلى مطلق الفرح, وقد سبقت الإشارة إلى هذا المعنى بشيء من التفصيل.
من مظاهر فرح الكافرين في الدنيا ما صاحَبَه من مرح - ذكرته الآية - وكان إلى جانب الفرح سبباً لما هم فيه من عذاب, والمرح هو: الترجمة الحسية للفرح الباطل كالضحك, والإعراض, والسخرية بالفئة الْمُتَدَيّنة, والتطاول على الناس, وتتبع الملذات من مأكل ومركب, والإعجاب بهذا وأمثاله, والرضا عنه, والحرص عليه؛ فاجتمع في الكافرين فرح القلب ومرح الجوارح، وكلاهما على غير هدى.
إنها أبواب من التِّيهِ والخسران, فُتحت على الكافرين في الدنيا والآخرة, كان مفتاحها الفرحَ الباطل المذموم.
فرح المترفين:
عند الحديث عن فرح المترفين - الحال والمآل - لا نجد أوضح مثالاً من قارون، وقصتُه عَرَض لها القرآن الكريم بشيء من التفصيل؛ لما فيها من عبر وآيات.(/40)
إن ترف قارون ومرحه جعله أنموذجاً لكل الأصناف، التي صدرت منها صور من الفرح المذموم؛ فقارون من اليهود الذين عُرف عنهم حب المال وعبادته, وتقديم الفرح به على كل شيء.
أظهر قارون النفاق أيضاً, نقل القرطبي [3, جـ13, ص113] عن قتادة قوله: "كان قارون قد قطع البحر مع موسى, وكان يسمى "المنوِّر"؛ من حسن صوته في التوراة, ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري".
وفي القرآن الكريم أكثر من إشارة إلى كفر قارون, منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ*إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } [غافر:23-24]، كُفْرُ قارون عند القاسمي المفسِّرِ ظاهرٌ، لا إشكالَ فيه؛ لأنه في نَظَره من القبط قومِ فرعون, جاء في تفسيره [45, جـ13, ص4725]: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَومِ مُوسَى} [القصص:76]: "مِن شاكلتهم في الكفر والطغيان, وقومُ موسى جماعته الذين أرسل إليهم، وهم القبط"، وسياق الآيات التي تتحدث عن قارون تأبى ما ذهب إليه القاسمي؛ فإن السياق يشير إلى أن قارون من بني إسرائيل.
قد يبدو من خلال المحاورة بين قارون وقومه أنه كان مؤمناً، كقولهم له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] إلى غير هذا من إيحاءات.
ليس فيما ذكر تعارض, فالذي يظهر - والله أعلم - أن قارون تنقل - بسبب فرحه ومرحه - من حالة إلى أخرى أسوأ منها, وهذا من آثار الفرح المذموم، الذي يستدرج صاحبه، ويُغري به حتى يورده النار.(/41)
إن قارون كان من بني إسرائيل, قومِ موسى, فآتاه الله تعالى مالاً كثيراً, فرح به فرحاً جعله يتجاوز الحد, فتطاول على قومه, وأعرض عن الاعتراف بفضل الله, وتجاهل الحقوق الواجبة عليه, فاستحق بذلك ما استحق.
هذا التوجيه أوْلى بالصواب من قول الخطيب [44, جـ2, ص383]: "إن قارون بغى على قومه، وانحاز إلى فرعون, فاستدرجه الله تعالى بأن آتاه مالاً كثيراً, فلمّا فُتِن به وفرح، أهلكه الله".
وقد شجع الخطيب وغيرَه على هذا الفهم تقديمُ البغي على الإيتاء؛ مما يومئ بأن البغي سابق: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، بيدَ أن تقديم البغي في الآية لا يعني تقدُّمَه في الوجود على الإيتاء, وإنما قُدّم البغي؛ لأنه الوصف الذي توجه إليه الذم, وكان سبباً في هلاك قارون, فكان مناسباً أن يقدم؛ لإبرازه والعناية به؛ إذ الفرح بالإيتاء من حيث هو أمر مباح، إذا شكر صاحبه واعترف بالفضل, وإن نشأ عنه بغي، كان عاقبة صاحبه كعاقبة قارون.
آتى الله تعالى قارون مالاً, ففرح وبغى, فانقسم قومه تجاه مسلكه إلى فئتين:(/42)
الأولى: كانت الفئةَ المؤمنة، التي لا تشغلها زخارف الدنيا ولا الفرح بها عن القيم العليا والدار الآخرة, فانبرت هذه الفئة إلى قارون ومن فُتِن به واعظةً ومحذرة: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، والفَرِح بكسر الراء: مَن أكثر من الفرَح، وتخلَّق به على الدوام [32, جـ2, ص 299 بتصرف], حتى يصير خُلُقاً فيه, فينقلب من انفعال نفسي معفوٍّ عنه إلى صفة مذمومة بآثارها.
فرّق بعض العلماء - كالفراء [46, جـ2,ص 311] - بين الفرِح والفارح بما يدل على أن الفرِح أكثر تلبُّساً في الفعل, فهو صفة مبالغة [44, جـ2, ص385], ونقل الآلوسي [23,جـ19, ص 112؛ 24, جـ7, ص 133] عن عيسى بن سليمان الحجازي أنه قرأ (الفارحين) بالألف؛ مما يدل على أن للتفريق أصلاً معتبراً.
إن عامة المفسرين، وإن لم يشيروا إلى هذا الفرق, إلا أنهم فسروا لفظة "الفرِح" في الآية بما يتسق مع التفريق المتقدم.
ذكر الطبري [38, جـ20,ص 70] عن ابن عباس: "الفرحين: المرحين", وعن مجاهد: "المتبذخين، الأشرين، البطرين", وعند القرطبي [3, جـ31, ص413] عن مجاهد: "الباغين", وعن ابن بحر: "لا تبخل؛ إن الله لا يحب الباخلين", وعن بشر بن عبد الله: "لا تفرح: لا تفسد".
إن موعظة القوم لقارون كانت معتدلةً متزنة, فإنه لم يُنْهَ عن الفرح المعتدل، الذي لا يُنسي الشكر, وإنما وُجّه النهي إلى الفرح المبالغ فيه، والذي يُفضي إلى الفساد والبطر, وهو ما عبر عنه المفسرون بعبارات متنوعة.
إن هذا المعنى ينتظم مع التوجه العام للقرآن في حديثه عن الفرح, حين لم يذمَّ القرآن الفرح لذاته؛ وإنما لمتعلقه، كما هو الشأن في قصة قارون.(/43)
إن قارون لم يبتغ فيما آتاه الله الدار الآخرة, وإنما كان همه الدنيا فقط, ولم يحسن إلى الناس كما أحسن الله إليه, ودفعه فرحه المذموم إلى البخل, فوعظه قومه في هذه الأمور؛ لكنه لم يُلقِ لهم بالاً, وحمله فرحه إلى العُجْب بنفسه {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص:78].
الثانية: الفئة المفتونة: كانت الموعظة من الفئة المؤمنة إلى أولئك الذين فتنوا بكنوز قارون، وتمنوا شيئا منها {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[القصص:79]، يُنْسب لأرسطوطاليس كلامٌ يناسب هذا الموقف, والحكمةُ ضالة المؤمن, جاء في كلامه: "العلة في ميل الناس إلى اللذات الجسمية, وفي هربهم من اللذات المعنوية؛ لأنهم مع هذه اللذات ينمون وإياها يألفون, وإنهم ظنوا أنها الأَوْلى في الاختيار؛ لأنها بنظرهم تدفع الحزن... وقال: إن الأكثر منهم لم يذوقوا لذة المعرفة، فيعرفونها، ومن عرف لذة المعرفة، يصبر على ما هو أمامها من الكد والتعب والخطر حتى يصل إليها... ثم قال: فإنه لا سبيل إلى لذة المعرفة من غير رفض كثير من الشهوات واللذات, ومن غير هجران لذة الراحة والخرافات, وليس بهيّنٍ رفضُ هذه اللذات وهجرانها" [12, ص ص142-143].
ويختصر هذه المعاني كلها قوله تعالى في سياق قصة قارون: {وَلا يُلَقَّاهَا إلاَّالصَّابِرُونَ} [القصص:80].
إن أصحاب الفرح الباطلِ والمرح - قارون وأمثاله - فتنةٌ لغيرهم من الناس, بخاصة أولئك الذين تعلقت نفوسهم بالدنيا ومتاعها, فكانوا بحاجة إلى تقريع يعيد لهم صوابهم, وهو ما قامت به الفئة المؤمنة، التي تستحق الوصف بالوصف المتقدم, قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [القصص:80].(/44)
إن الصبر المكتسب والمأمور به شرعاً خيرُ ضابط لانفعالات الإنسان, وأفضل معين على زينة الدنيا وفتنتها, والصبر أكمل وأكثر نفعاً من الضوابط التي وضعها الفلاسفة وعلماء النفس, والتي سبقت الإشارة إليها: كالمكابدة, وقوة الإرادة, وقوة التفكير, مع الإقرار بأن الصبر يتضمنها.
{فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ في زِينَتِهِ} [القصص:79], والتعبير بعلى يتضمن معنى التكبر والتطاول, حمله فرحه على المرح، فأظهر ماله, وعرض زينته, وصاحب هذا ازدراءٌ لقومه؛ لأنهم لا يملكون ما يملك.
عاجل الله تعالى قارون - وهو على هذه الحالة - بعقوبة عجيبة مخيفة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]، وهو نص يلقي ظلالُه رهبةً في النفوس, فيحسن أن نتركه دون تفصيل, خلافاً لجمع من المفسرين، أتوا في هذا المقام بكلام لا خطام له ولا زمام, خسف به وبدراه الأرض وكفى؛ لأنه أنموذج خطر على المجتمعات، وفتنة ظاهرة كان في هلاكه تقويم لمفاهيم كاد يعصف بها الفرح المذموم, لولا أن عاجَلَ الله قارون بالخسف, وخسف معه هذه التصورات الباطلة.
لقد ظهر هذا في تراجع الفئة التي فتنت بقارون حين أمسوا مفتونين، وأصبحوا نادمين {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]، ذُكرت قصة قارون في سورة مكية, تلاها المسلمون في مكة، يوم أن كان الصراع على أشده, فكانت مناسبةً لما كان عليه بعض كفار قريش - كالوليد بن المغيرة - من تطاولٍ على الرسول والرسالة, وسخرية بالمسلمين بسبب كثرة ماله وعياله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ*إِذَا تُتْلَى عَلَيهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:14-15].(/45)
جاء ذكر هلاك قارون مؤذناً بأن المال لا ينجي من عذاب الله تعالى, وكان في هلاكه وعيد شديد, لمن هم على شاكلته من أهل قريش, ومن بعدهم من المترفين المنحرفين, وتسلية للمؤمنين, ومبعث فرح لهم بأنهم على خير وإلى خير بفضل الله.
نهاية قارون دليل واضح على أن الإيتاء لا يدل على الرضا من المعطي, ولا على إكرام, ولا كان هذا العطاء مانعاً من العذاب, بل قد يكون العطاء طريقاً للهلاك, ومؤشراً على قربه {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، ولمّا غابت هذه الحقيقة عن المترفين، صارت أموالهم مدعاةً للفرح والبطر, بدلاً من أن تكون فرصةً للتأمل والمراجعة.
مر بنا عند الحديث عن الفرح المذموم شيء من آثاره السلبية, وقد يكون بعض هذه الآثار توارى في ثنايا الحديث، فيحسن بنا - والحالة هذه - أن نوجز ذكرها؛ لإبرازها:
1- الفرح المذموم يجعل صاحبه يسيء الظن بالله؛ لأنه يخشى أن ينزع الله منه الأشياء المفرحة, والفرح المذموم - الذي لا ضابط له - يؤدي إلى حزن مذموم لا ضوابط له عند فوات نعمة, أو حصول نقمة, وهذا الشعور يفضي إلى التسخط، وعدم الرضا بالقضاء والقدر؛ وهذا هو الخسران بعينه.
2- الفرح المذموم يلهي عن شكر المنعم؛ لانشغال صاحبه بالفرح وآثاره المتمثلة بالمرح بأنواعه, ولاعتقاده بأن لا فضل لأحد عليه, ولقد قالها قارون من قبلُ حين دُعي إلى الشكر: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي}، إن عدم الشكر سبب مباشر لنزع النعم، ولعذاب الله {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
3- من آثار الفرح المذموم الركون إلى الدنيا، والرضا بها, والحرص عليها؛ خشيةَ أن يفوته بعض ما فيها من وسائل الفرح ودواعيه, وهذا يشغله - ولا شك - عن الآخرة والعمل لها.(/46)
إن من كانت هذه حالَه، يفتقر إلى التعقل والاتزان؛ لأنه يعيش للشهوات وفيها, وهذا يذكِّر بقول أرسطو: "ليس بين اللذات الجسمية وبين التعقل مشاركة؛ والدليل أن اللذة المفرطة تجعل الإنسان هائم العقل مضطرباً، وإنما تكون المشاركة بينها وبين السفه والغلمه" [12, ص144].
4- الفرح المذموم يدفع صاحبه إلى البخل، ويرغِّبه فيه؛ لأن من طبيعة الإنسان أن يحرص على ما يجلب له الفرح [44, جـ27, ص884]، ويتفنن في طرق جمعه, ولا يقتصر الأمر على البخل؛ بل يتعدى إلى الأمر به, والحث عليه؛ ليكثر حزب المترفين البخلاء بإزاء حزب الفقراء, وحتى لا يكون هذا البخيل وحيداً.
لقد نبه القرآن الكريم على هذا التلازم, فقد جاء بعد الآية التي تنهى عن الفرح المفرط في سورة الحديد - ذمُّ البخل والذين يأمرون به, في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد:24].
وقد ناسب أن يأتي بعد آية سورة الروم:{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} [الروم: 36] الأمرُ بإعطاء الحقوق لأهلها, والنهي عن الربا؛ لأن الفرح مظنَّة أن يبخل الإنسان، فلا يجود بالحقوق, وهو كذلك مظنَّة أن يحرص الإنسان على جمع المال دون ضوابط, ولهذا أعقب الآية السابقة قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الروم:38], ثم قوله تعالى {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} [الروم:39].
5- يورث الفرح المذموم صاحبه العُجْبَ؛ بسبب حصوله على ما يفرح, والعُجْبُ مدعاة للاستهزاء بالآخرين, والبغي عليهم، كما فعل قارون, والسخريةُ والاستهزاء [1, ص108] نوع من أنواع الفرح.
6- الشماتة: هي الفرح بشرٍّ ينال الآخرين؛ فهي من آثاره المذمومة, فمن نجا بنفسه، فرح وشمت بمن أصيب, ومن نجح من هؤلاء في أمر، فرح وشمت بمن فشل.(/47)
7- الإنسان الفرِح المرح بالباطل فتنة للناس, وخطر على المُثُل العليا, وقد تؤدي ظاهرة انتشار الفرح المذموم إلى اختلال الموازين في المجتمع, وإلى الخطأ في تقدير الأشياء والحكم عليها.
8- أصحاب الفرح المذموم يُعْرضون عن دعوات الخير والصلاح, ويناصبون أهلها العداوة, إما فرحاً بما اعتادوا عليه وألفوه, وإما لأن هذه الدعوات تدعو إلى الاتزان والتوسُّط, والفرح يشرق بهذه المعاني السامية.
الفرح المباح:
إن بين الفرح المحمود والفرح المذموم قسماً ثالثاً يمكن أن يسمى بالفرح المباح, ومن رامَ أن يلحقه بالقسم الأول، فلن تعجزه حجة.
وقد مضى في البحث إشارات إلى الفرح المباح، لا أخالها خفيت على القارئ, بيدَ أنّ لَمَّ شعث هذا الفرح؛ لينتظم في صعيد واحد - أحرى أن تتضح معالمه.
الفرح - هذا الانفعال الفطري - لا تكاد تخلو منه نفس بشرية؛ فإنها تفرح, وتُبدي سرورها ورضاها، حين تباشر ما من شأنه أن يفرحها في العادة، على اختلاف في الأشياء المفرحة بين إنسان وآخر, فقد يطير إنسان ما فرحاً بشيء, لا يحرك هذا الشيء نفسُه ساكناً عند آخر, ولا عجب, فإن المفرحاتِ أشياءُ مكتسبة، بخلاف الفرح نفسه, هذا مع الإقرار بوجود أشياء يفرح عامة الناس بها؛ كالمال, والنجاح, والحياة, والتميز, وما شابه ذلك.
إن الحياة من حيث هي مبعث فرح في النفس, فالله تعالى سمى الموت مصيبة:{فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106], وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول حين استيقاظه: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا))[20].
لقد ظهر لنا - مما تقدم في البحث - أن الفرح على البراءة الأصلية، مباح، معفو عنه؛ كونه انفعالاً, ما لم يطرأ عليه مؤثر خارجي يحيله إلى فرح محمود, أو مذموم, ومن هنا وجّه الشرع عنايته إلى تهذيب الفرح وضبطه.
إن المسلم أَوْلى الناس بهذا الفرح؛ فإن فيه إظهاراً لنعمة الله تعالى, وانسجاماً مع طبيعة النفس السوية.(/48)
لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يضحك ضحك الفرح عندما يرى ما يسره, وكان يضحك مما يضحك الناس, وكان يتعجب مما يُتَعَجّب من مثله, ويستغرب وقوعه [47, جـ1, ص46].
وقدم جعفر بن أبى طالب - رضي الله عنه - من الحبشة إلى المدينة، يوم أن فتح الرسول - صلى الله عليه وسلم - خيبر, فتلقاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقَبَّل جبهته، وقال: ((والله ما أدري بأيّهما أفرح: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟)) [47, جـ2, ص 144].
ها هو - صلى الله عليه وسلم - يفرح, ويسعى؛ ليفرح أصحابه معه, فقد جاء في حديث الدجال قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لكن تميماً أتاني، فأخبرني خبراً منعني القيلولة ؛من الفرح وقرة العين, فأحببت أن أنشر عليكم فرح نبيكم))[21]، وكان الصحابة الكرام إذا رأوا الغيم، فرحوا[22]؛ استبشاراً بنزول المطر وإنبات الأرض, وما يتبع ذلك من خيرات تتمناها النفس، وتفرح بها.
في ضوء ما تقدم، لا نتفق مع صاحب "روح البيان" في قوله [49, جـ7, ص38]: "أهل المحبة والإرادة - سواء نالوا ما يلائم الطبع أو فات عنهم ذلك - فإنهم لا يفرحون، ولا يحزنون؛ كما قال الله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]"، ولو قيَّد الفرح بما يخرجه عن حد المباح، وكذا الحزن، لأصاب؛ لأنه الذي تدل عليه الآية التي استند إليها؛ بل إنه لأمرٌ متعذر أن لا يفرح الإنسان ولا يحزن, والمطالبة بهذا المسلك مثالية، تتجاهل طبيعة الإنسان, وقد رأينا مثل هذا التوجه عند بعض الفلاسفة، مثل سقراط، ومن تبعه مثل الكندي [50, ص ص 168- 170]، حيث يرى هؤلاء: أنه لا ينبغي للإنسان أن يقتني أشياء مفرحة؛ لأنه إذا فقدها حزن, وقد كان هؤلاء يروجون للفرح العقلاني الذي لا ضد له, وشتان بين الدعوة إلى التجاهل والدعوة إلى الاتزان.(/49)
إن شرع الله أحكم، وهديَه - سبحانه – أكمل، حين أباح الفرح بما يُفرح باعتدال، ورغَّب في الشكر عليه, وأباح الحزن على ما يُحزن باعتدال أيضاً, ورغَّب في الصبر, وهو ما ينسجم مع طبيعة النفس السوية .
إن توبيخَ الله تعالى للكافرين بقوله: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ} [غافر:75] - دليلٌ على أن الفرح بالحق - وهو المحمود والمباح - جائز.
وفي حديث التوبة المشهور دلالة واضحة على إباحة الفرح في أمور الدنيا؛ لأن فرح الله تعالى شُبِّه به - مع نفي المماثلة والمشابهة - ولا يشبه فرح الله إلا بمباح، ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة".
وفي رواية ذكرها صاحب "دليل الفالحين" نقلاً عن ابن عساكر في أماليه، عن أبي هريرة مرفوعاً: ((لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضال الواجد, ومن الظمآن الوارد" [6, جـ1, ص86], وهذه كلها صور لفرح في أمور الدنيا.
يبد أن الفرح المباح ينبغي أن يحترز منه, لا خوفاً من أن يتجاوز الحد، فيصبحَ مذموماً, فهذه مسألة سبق الحديث عنها, وتحديد معالمها, ولكنّ ثمةَ مسألةً أخرى: وهي أن الفرح المباح قد يشتد، فيوقع صاحبه في أخطاء غير مقصودة، في أثناء تعبيره عن هذا الفرح.
في حديث التوبة المتقدم ما يؤكد هذا الأمر, فقد قال - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل الذي فقد بعيره ثم وجده: ((ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)), والأمر ما قال علماء النفس في هذا المجال: بأن الانفعالات الهائجة لا تكاد تنجو النفس من آثارها الضارة بالوظائف الفعلية؛ فالانفعال العنيف يُشوّه الإدراك، ويعطل التفكير المنظم, والقدرة على حل المشكلات, ويضعف القدرة على التذكر والتعليم، ويشل سيطرة الإدراك [50, ص167].(/50)
قال بعض شرَّاح الحديث [6, جـ1, ص86]: "أي: تجاوَزَ الصواب، وهو قوله: أنت ربي وأنا عبدك، إلى ما قاله من الخطأ من شدة الفرح؛ لما تقرر من أنه ربما اشتد حتى منع صاحبه هذا من إدراك البدهيات، فضلاً عن غيرها".
لقد وضع هذا الحديث قاعدة جليلة طالما دفع الثمن غالياً من جهلها أو تجاهلها, ذلك أن الفرح - كما يقول ديكارت [1, ص68] - يجعل الذين يستسلمون له جسورين وغير مبالين, وهذا ما يجعل الفرح في العادة أشد ضرراً على النفس من الحزن, ومن قبلُ قال أفلاطون [12, ص144]: "إن اللذة المفرطة تجعل الإنسان هائم العقل مضطرباً".
وأكمل من هذا وذاك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين جعل شدة الفرح مظنة للوقوع في الخطأ, وكأن بينهما تلازماً, وقد يكون الخطأ في القول، أو الفعل، أو في تقدير الأمور, ولهذه الجوانب صور لا حصر لها.
لا تكاد تخلو الذاكرة من حادثة - أو حوادث - مؤسفة سُمعت أو شوهدت, أعقبت فرحاً,فأعقبها حزن - كالتهور في قيادة السيارات مثلاً - كان القصد منها التعبيرَ عن الفرح؛ فأدت إلى حالات وفاة, أو إعاقة دائمة تظل ماثلة أمام الناس, ومن العجب أنها نشأت بسبب التعبير عن الفرح, يقول ديكارت [1, ص83]: "إن دفع الأشياء التي تضر، ويمكنها أن تهدم أهمُّ من اكتساب الأشياء التي تضيف كمالاً، نستطيع أن نستمر في الحياة بدونه".
وقد سبق الشرع الحكيم إلى هذا المعنى في القاعدة المشهورة التي تقول: "دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة".
وليس ببعيد عن هذا التجاوزاتُ غيرُ الشرعية في المبالغة في المباحات، أو التهاون في المفروضات, عن قصد أو من دون قصد؛ ومَرَدُّ ذلك كله شدة الفرح المباح في أصله.
الخاتمة:
وختاماً: أرى - لزاماً - أن أوجز - في فقرات معدودة - أبرز ما تضمنه هذا البحث؛ إتماماً للفائدة, ومتابعة للعادة السائدة:(/51)
1- الإنسان - من حيث هو بانفعالاته وصفاته التي جبل عليها - غيرُ متزن, وقد تكفّلت النصوص الشرعية بالضبط والتوجيه؛ ليتمكن هذا الإنسان من التعامل والتفاعل مع ما حوله على الوجه الحسن.
2- الفرح انفعال ظاهر في النفس البشرية, لا يلحقه مدح أو ذم - من حيث هو - وإنما يكون المدح والذم بحسب متعلقه.
3- عُني القرآن الكريم بالفرح في آيات كثيرة, عرضت له بطريقة مباشرة و غير مباشرة, منثورة في سوره الكريمة, يستفاد من هداياتها مجتمعة أن الفرح ثلاثة أقسام: محمود, ومذموم, ومباح.
4- ذكر القرآن الكريم الفرح المحمود, المتمثل بالفرح في الدين الإسلامي, وبكل ما يتصل به, فأمر الله به, وأعلى من شأنه, وعرَّض بمن أعرض عنه؛ لما لهذا الفرح من فوائد حميدة، وآثار مفيدة.
5- للفرح المذموم صور متنوعة, أسندها القرآن الكريم إلى طوائف مذمومة, وهي اليهود, والمنافقون, والكافرون, والمترفون, تحدَّث من خلالها عن دوافع الفرح المذموم، وآثاره السلبية بما يكفي؛ للتبصير والتحذير لكل حريص متأمل.
6- الفرح المباح ينسجم مع الطبيعة السوية للنفس البشرية, مع ضرورة الاحتراز منه؛ لأن للتساهل في شأنه، أو المبالغة فيه عواقبَ غيرَ محمودة.
7- تَمَيُّز المنهج القرآني بشأن الانفعالات - في الحكم والضبط والتوجيه - مع وجود قواسم مشتركة بينه وبين بعض ما ورد عن مدارس الفلسفة، وعلم النفس في هذا المجال.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.
المراجع:
[1] ديكارت، رينيه (ت1561م) . "انفعالات النفس"، ترجمة وتقويم وتعليق: جورج زيناتي، ط1، بيروت: دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، 1413هـ.
[2] سبيعي، عدنان. "المدخل إلى عالم النفس الإسلامي"، ط1، دمشق: دار قتيبة، 1411هـ.
[3] القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد (ت671هـ). "الجامع لأحكام القرآن"، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1405هـ.(/52)
[4] عطية الله، أحمد. "سيكولوجية الضحك"، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1947م.
[5] ابن القيم، محمد بن أبي بكر (ت751هـ). "الضوء المنير على التفسير"، جَمَعه علي الحمد الصالحي، الرياض: مؤسسة النور، د.ت.
[6] الزبيدي، زين الدين أحمد. "مختصر صحيح البخاري"، المسمى: "التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح"، تحقيق إبراهيم بركة، ط4، بيروت: دار النفائس، 1409هـ.
[7] الصديقي، محمد بن علان (ت1057هـ). "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين"، بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت.
[8] ابن حجر، أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852هـ). "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، د.م: دار الفكر للطباعة والنشر، د.ت.
[9] ابن القيم، محمد بن أبى بكر (ت 751هـ). "التفسير القيم"، جَمعه محمد أوس الندوي، تحقيق محمد حامد الفقي، مكة المكرمة: مطبعة السنة المحمدية، 1949م.
[10] عثمان، عبد الكريم محمد. "الدراسات النفسية عند المسلمين والغزالي بوجه خاص"، ط2، القاهرة: مكتبة وهبة، 1401هـ.
[11] عبد الله، حسن إبراهيم. "مقدمة في فلسفة التربية الإسلامية من التربية الطبيعية الإنسانية"، الرياض: دار عالم الكتب، 1405هـ.
[12] العامري، أبو الحسن محمد بن يوسف ( ت 381هـ). "السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية"، دراسة وتحقيق أحمد عبد الحليم عطية، القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، د.ت.
[13] ابن عاشور، محمد الطاهر. "تفسير التحرير والتنوير"، د.م: د.ن، د.ت.
[14] ابن فارس، أبو الحسن أحمد (ت 395هـ). "مقاييس اللغة"، تحقيق عبد السلام هارون، ط 2، القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، 1319هـ.
[15] الأزهري، أبو منصور بن أحمد (ت 282هـ). "تهذيب اللغة"، تحقيق عبدالله درويش، ومراجعة محمد النجار،القاهرة: دار الكتب المصرية للتأليف، د.ت.
[16] الزاوي، الطاهر أحمد. "ترتيب القاموس المحيط"، بيروت: دار الكتب العلمية، 1399هـ.(/53)
[17] الراغب، أبو القاسم حسين بن محمد (ت 502هـ). "المفردات في غريب القرآن"، تحقيق محمد سيد كيلانى، بيروت: دار المعرفة، د.ت.
[18] ربيع، محمد شحاتة. "التراث النفسي عند علماء المسلمين"، د.م، دار المعرفة الجامعية، 1993م.
[19] الرازي، فخر الدين محمد بن عمر (ت 606هـ). "التفسير الكبير"، د.م، دار الفكر، 1410هـ.
[20] الفيزوزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817هـ). "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز"، القاهرة: لجنة إحياء التراث الإسلامي، 1383هـ.
[21] مجلة "الفيصل"، ع 251، مقالة الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل.
[22] ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم (ت 711هـ). "لسان العرب"، بيروت: دار صادر، د.ت.
[23] الآلوسي، شهاب الدين محمود (ت 1270هـ). "روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني"، بيروت: دار إدارة الطباعة المنيرية، د.ت.
[24] أبو حيان، محمد بن يوسف بن علي ( ت 754هـ). "البحر المحيط"، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1413هـ، ودمشق: دار الفكر، 1398هـ.
[25] الترمذي، محمد بن عيسى (ت 279هـ). "جامع الترمذي"، ط2، الرياض: دار السلام للنشر والتوزيع، 1421هـ.
[26] رضا، محمد رشيد. "تفسير القرآن الحكيم"، الشهير بـ"تفسير المنار"،ط2، بيروت: دار المعرفة، د.ت.
[27] صليبا، جميل. "المعجم الفلسفي"، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1971م.
[28] ابن القيم، محمد بن أبي بكر (ت 751هـ). "الروح"، تحقيق أحمد أنيس عبادة، ومحمد فهمي السرحاني، د.م: مكتبة نصير، د.ت.
[29] الكنوي، أيوب بن موسى الحسيني (ت 1094هـ). "الكليات"، تحقيق عدنان درويش، ومحمد المصري، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1976م.
[30] أنيس، إبراهيم وزملاؤه. "المعجم الوسيط"، القاهرة: دار المعارف، 1393هـ.
[31] الزمخشري، محمود بن عمر (ت 538هـ). "أساس البلاغة"، ط2، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985م.(/54)
[32] ابن عطية، أبو محمد عبد الحق (ت 541هـ). "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1413هـ.
[33] السهارنفوري، خليل أحمد (ت 1346هـ). "بذل المجهود في حل أبي داود"، ط2، الرياض: دار اللواء، د.ت.
[34] اليحصبي، مالك بن أنس. "الموطأ"، شرح وتعليق أحمد عرموس، بيروت: دار النفائس، 1390هـ.
[35] المنذري، الحافظ زكي الدين عبد العظيم الدمشقي (ت 656هـ). "مختصر صحيح مسلم". تحقيق ناصر الدين الألباني، ط6، بيروت: المكتب الإسلامي، 1407هـ.
[36] المليجي، عبد المنعم عبد العزيز. "تطور الشعور الديني عند الطفل المراهق" ط1، القاهرة: دار المعارف، 1955م.
[37] الزمخشري، محمود بن عمر (ت 538هـ). "الكشاف عن خصائص التنزيل"، بيروت: دار المعارف، د.ت.
[38] الطبري، محمد بن جرير (ت 310هـ). "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، القاهرة: دار الحديث، 1407هـ.
[39] قطب، سيد إبراهيم (ت 1386هـ). "في ظلال القرآن"، ط12، جدة: دار العلم بالتعاون مع دار الشروق، 1406هـ.
[40] ابن كثير، إسماعيل الدمشقي (ت 774هـ). "تفسير القرآن العظيم"، بيروت، دار المعرفة، د.ت.
[41]ابن سعدي، عبد الرحمن بن ناصر. "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، بيروت: دار عالم الكتب، 1988م.
[42] الفيزوزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817هـ). "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز"، القاهرة: لجنة أحياء التراث الإسلامي، 1383هـ.
[43] ابن قدامة، احمد بن محمد المقدسي (742هـ). "مختصر منهاج القاصدين"، تحقيق زهير الشاويش، ط7، بيروت: المكتب الإسلامي، 1406هـ.
[44] الخطيب، عبد الكريم. "التفسير القرآني للقرآن"، د.م: دار الفكر العربي، د.ت.
[45] القاسمي، محمد جمال الدين (ت 1332هـ). "محاسن التأويل"، ط1، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، 1397هـ.(/55)
[46] الفراء، محمد أبو بكر (ت 207هـ). "معاني القرآن"، تحقيق ومراجعة محمد علي النجار، القاهرة: الدار المصرية للتأليف والنشر، د. ت. 1966م.
[47] ابن القيم، محمد بن أبي بكر (ت 751هـ). "زاد المعاد في هدى خير العباد"، القاهرة: دار الفكر للطباعة، د.ت.
[48] القزويني، أبو عبد الله محمد بن يزيد (ت 273هـ). "سنن ابن ماجه"، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، ط 1، الرياض: د.ت.، 1403هـ.
[49] البرسوي، إسماعيل حقي (ت 1137هـ). "تفسير روح البيان"، بغداد: مكتبة المثنى، د.ت.
[50] راجح، أحمد عزت. "أصول علم النفس"، ط 1، الإسكندرية: د.ن، 1976م.
ــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري [6، ج1، ص475].
[2] معنى حديث رواه كثيرون منهم البخاري كما تقدم [6، ج1، ص475].
[3] أخرجه الترمذي [25، ج8، ص603].
[4] أخرجه الترمذي [25، ج4، ص597].
[5] أخرجه أبو داود [33، ج14، ص93]. وفي هذا الحديث دليل على أن الانفعالات محلها القلب، ويؤكد هذا قوله تعالى: {سَنُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران:151]، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27]، وعلى هذا الفلاسفة الأقدمون، وخالف في ذلك ديكارت [1، ص31]، والقول ما قال الشرع بنصوصه الصريحة.
[6] أخرجه أبو داود [33، ج19، ص41].
[7] رواه مالك [34] ص652].
[8] رواه مالك [34، ص650].
[9] رواه مسلم [35، ص486].
[10] أخرجه الترمذي [25، ج4، ص22].
[11] رواه البخاري [6، ج2، ص25].
[12] أخرجه أبو داود [33، ج4، ص147].
[13] رواه البخاري [6، ج1، ص361].
[14] رواه البخاري [6، ج1، ص210].
[15] رواه البخاري [6، ج1، ص204] ورواه مسلم [35، ص565].
[16] أخرجه الترمذي [25, جـ4, ص 483].
[17] أخرجه البخاري [6, جـ1, ص 204] ومسلم [35, ص 565].
[18] لسيد قطب [39, جـ5, ص 2757] كلام نفيس في ظلال هذه الآية .(/56)
[19] للرازي [19, جـ22, ص 121] تفصيل لطيف في هذه المسألة، ساق فيها مسوغات الفريقين فيما ذهبا إليه كلها معتبرة، ويبقى الترجيح للسياق.
[20] أخرجه أبو داود [33، ج7، ص319].
[21] أخرجه ابن ماجه [48, جـ2, ص 397].
[22] رواه البخاري في كتاب التفسير [6, جـ1, ص 415].(/57)
العنوان: الفرق بين مواطن جواز الغيبة والإساءة القبيحة
رقم المقالة: 1605
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
إنَّ إساءة الأدب بالبذاء والفحش، أو السب والشتم، كلها خصال مذمومة، وفي صحيح ابن حبان عن أبي الدرداء، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أثقل ما وضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء"[1].
ويخطئ بعضهم حينما يظن أن ما سوَّغ فيه العلماءُ ذكر المرء بحق يكرهه، يتسع ليشمل الفحشَ أو الشتم والسب، أو الإقذاع والبذاء، وليس كذلك، فذكر المرء بما يكره، ليس بالضرورة يكون سباً، ثم إن ذكر المرء بما يكرهه مما هو فيه مقيد بالمصلحة في مواطن، جمعها بعضُهم فقال:
القدحُ ليس بغِيبة في ستةٍ متظلمٍ ومُعَرِّفٍ ومحذرِ
ولمظهر فسقاً ومستفتٍ ومَن طلب الإعانة في إزالة منكرِ
وأدلةُ جواز الغيبة في هذه المواطن معروفة، والجمهور على جوازها، وفي بعضها نزاع حاول تحريرَه العلامة الشوكاني في رسالته (دفع الريبة عما يجوز وما لا يجوز من الغيبة).
وإذا كانت هذه الأمور تجوز في غيبته لداعي المصلحة، فجوازها في حضرته إن تحققت المصلحة كذلك، بل هو أولى؛ لأن ذكر المرء بما هو فيه في وجهه أخف من الغيبة التي عدها بعضُ أهل العلم من كبائر الذنوب، غير أنه ليس من لازم ذكره -في هذه المواطن- بما يكره السب، فكيف بالإقذاع والبذاء.(/1)
ومن المواطن التي يقع فيها اللبس أو التلبيس بداعي الهوى: دعوى الجرح والتعديل، وموطن المناظرة والرد، أما الجرح والتعديل فللوقوف معه مقامات لا يتسع لها هذا المقال، ولعل الحديث عنه يُفرد في مقالة، وأما الرد العلمي فكثيراً -ولا سيما في الأعصار المتأخرة- ما يخرج الراد عن حد بيان الخطأ وتصحيح النظر، فيتعدى ذلك إلى نوع من القدح لا يسوغه له مقام بيان الصواب، ورد الخطأ، وأهل العلم قد بينوا أنه لا يجوز في معرض الرد على المخالف إساءة الأدب، فكيف بالفحش والبذاءة.
قال الحافظ ابن رجب في (التحرير في الفرق بين النصح والتعيير)، مقرراً جواز الرد وبيان غلط المخطئ ما لم يقصد به الخصم تنقص المردود عليه، قال: "اعلم أن ذكر الإنسان بما يكره إنما يكون محرماً إذا كان المقصود منه مجرد الذم والعيب والتنقيص, فأما إن كان فيه مصلحة عامة للمسلمين، أو خاصة لبعضهم، وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة، فليس بمحرم، بل هو مندوب إليه".
قال: "وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل, وذكروا الفرق بين جرح الرواة والغيبة, وردوا على من سوّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه, ولا فرق بين الطعن في رواة ألفاظ الحديث، والتمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل, وبين تبين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة، وتأول شيئاً منهما على غير تأويله، أو تمسك منهما بما لا يتمسك به، ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ به".
قال: "وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضاً".
قال الحافظ: "ولهذا تجد كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية من التفسير وشروح الحديث والفقه واختلاف العلماء وغير ذلك ممتلئة من المناظرات ورد أقوالِ من تضعفُ أقوالُه من أئمة السلف والخلف، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم, ولم ينكر ذلك أحدٌ من أهل العلم ولا ادعي أن فيه طعناً على من رد عليه قوله، ولا ذماً ولا تنقيصاً".(/2)
قال: "اللهم إلا أن يكون المصنف يفحش في الكلام، يسيء الأدب في العبارة، فينكر عليه إفحاشه وإساءته، دون أصل رده"[2]، وهذا الذي ذكره هو موطنُ التنبيه؛ إذ ليس أحدٌ من أهل العلم يدعو إلى ترك الرد وبيان الحق، وتزييف الباطل، بل بعض ذلك يجب حتى في حق المخطئ من المجتهدين بالنظر إلى اعتقاده وما يدين الله به، وليس هو حكراً على خصم دون الآخر، ما لم يعتقد بطلان ما ينصره، وإنما الممنوع الخروج عن حد الأدب في ذلك.
ومن المواطن التي يجوز فيها التبكيت: اللومُ والتقريع على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو مطلق النصح؛ قال ابن حزم: "ولا يحل بلا خلاف أذى المسلم بغير ما أمر الله تعالى أن يؤذى به. فصح من هذا أن من سب مسلماً بزنا كان منه, أو بسرقة كانت منه, أو معصية كانت منه, وكان ذلك على سبيل الأذى -لا على سبيل الوعظ والتذكير الجميل سراً: لزمه الأدب; لأنه منكر ... فمن بكت آخر بما فعل على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو محسن, ومن ذكره على غير هذا الوجه فقد أتى منكراً- ففرض على الناس تغييره; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام)[3]، فصح أن عرض كل أحد حرام إلا حيث أباحه النص أو الإجماع, وسواء عرض العاصي وغيره - وبالله تعالى التوفيق"[4].
وما أشار إليه رحمه الله من التبكيت على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب يدلف منه كثير من سيئ الأخلاق، فيدخلون منه ولا يراعون ضوابطه التي منها -على ما تقرر- ألا يحدث الإنكار منكراً فوقه، وهذا إنما يتأتى لأصحاب الولايات، ومن كان في مقامهم عند المخاطب، أما غيرهم فكثير من الناس لا يرضى منهم التبكيت، فلا سبيل للاحتساب عليهم بغير الكلمة الطيبة إذا كان غرض المنكر شرعياً حقاً.
وقد يغضي عن التأنيب والتبكيت بعضُ المنصفين المتجردين للحق، وهؤلاء الأدب معهم هو الواجب.(/3)
والذي يُرى في كثير من الساحات تسرعُ بعض طلاب العلم في التعنيف والانتقاص، فيتجاوزون حدود رد الباطل وبيان الحق، إلى إساءة الأدب مع المخالف، وهذا لا ينبغي، بل لا ينبغي لكثير منهم التبكيت –ولو لم يتضمن سوء أدب أو استطالة باللسان- على سبيل الإنكار أو الوعظ، فليس هم ممن يؤتسى بهم إن بكتوا الخصم منكرين، وليس المُغلَظُ له في الغالب ممن ينصلح حاله بتبكيت أمثالهم، بل قد يتمادى، بل قد يتعاطف العوام معه في باطله بحجة أنه قد أُغلِظَ له.
فكيف إذا كان المتناظران متقاربين في الدرجة، ومع المُنْكَرِ عليه من الحجج ما يجعله في عداد المتأولة إن كان مخطئاً، وهذا النمط كثير بين أهل السنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] 12/506 (5693) وانظر (5695)، ورواه الترمذي وصححه.
[2] منقول عن السفاريني في غذاء الألباب 1/107-108.
[3] صحيح البخاري 6/2593 (6667).
[4] المحلى 12/246.(/4)
العنوان: الفرقد
رقم المقالة: 824
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
أنا أَحْرُفٌ في صَفْحَةٍ
أزْهارُها درٌّ مُنَضَّد
وحمامةٌ وَرقاءُ تهتِفُ
فوقَ أغْصانٍ تنهَّد
وقصيدةٌ أوزانُها
أصداءُ أشواقٍ ترَدَّدْ
أنا همسُ ساقيةٍ
إذا ما البلبلُ
المشتاقُ فوق الدَّوح غَرَّدْ
ونداءُ مئذنةٍ يعانقُ
عِشْقَ أفئدةٍ تَوقََّد
بشَغافها القرآنُ أورقَ
والتُّقى في الوَجهِ وَرَّدْ
أنا بسمةٌ نَشوى
ولهفةُ عاشِقٍ كَلِفٍ توجَّد
بعُيونهِ الآمالُ تَبرُقُ
كالسَّنا في خَدِّ عَسْجَدْ
كالحُسْنِ في عِقدٍ جميلٍ
باسمٍٍ في جِيدِ فَرْقَدْ
أنا نَسمةٌ مملوءَةٌ
عِطراً وألحاناً تُزَغْرِد
وسحائبٌ مَلأى حَناناً
تُفرِحُ الرَّوضَ المُسَهَّد
ما أجملَ الدُّنيا إذا
نَبضُ المدى
في الكَونِ وَحَّدْ
الفَخرُ يملأُ خافِقي
أني أنا مِن أُمَّةٍ مِنها مُحَمَّد.(/1)
العنوان: الفساد المالي والإداري (1)
رقم المقالة: 1562
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
غلول العمال
الحمد لله؛ شرع لعباده ما ينفعهم، ومنعهم مما يضرهم؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم، وإحسانا إليهم؛ فله الحمد كما ينبغي له أن يحمد، وله الشكر فلا أحد أحق بالشكر منه عز وجل، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلق الخلق ورزقهم، وكلف الجن والإنس وهداهم، فمنهم من قبل هداه فاهتدى، ومنهم من أعرض عنه فردى (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، ووضع عنا الأغلال والآصار التي كانت على من قبلنا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه حق التقوى، واعلموا أن الدنيا وإن طال أمل الإنسان فيها فهو مفارقها، وإن طاب عيشه فيها فهو ينساها، ولا دار إلا الدار الآخرة؛ فأعدوا لها عدتها، واسعوا لها سعيها واعملوا بعمل الفائزين فيها (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا).
أيها الناس: إذا صلح الزمان صلحت الذمم والأخلاق، وإذا فسد الزمان فسدت الذمم والأخلاق، حتى ترفع الأمانة، وتكثر الخيانة، وتنتشر الأخلاق الرديئة من الكذب والزور والرشوة والظلم، ويعم الفساد جميع مناحي الحياة، وإنما يصلح الزمان والحال أو يفسدان بصلاح الناس أو فسادهم، ويبلغ الفساد بالناس حدا يعجز أكثرهم عن أداء الواجبات ولو كان أداؤها يسيرا، ولا ينتهون عن المحرمات بل والموبقات، ولو كان البديل حلالا؛ وما ذاك إلا لضعف النفوس، وتسلط الشياطين، وغلبة الشهوات.(/1)
ومن أكثر ما تساهل الناس فيه في هذا العصر مع أنه من كبائر الذنوب: غلول العمال، وهو أن يأخذ الإنسان من الأموال العامة ما ليس له، أو يسخر أدوات وظيفته أو نفوذه لنفع نفسه وقرابته، لا لخدمة الناس وهو ما أجلس على كرسيه إلا لأجلهم، وهذا من الظلم العظيم، الذي يجر المجتمع إلى فساد عريض، وصاحبه متوعد بالعقوبة الشديد في الكتاب والسنة.
فمن غل شيئا لا حق له فيه دون المسلمين جاء يحمله على ظهره يوم القيامة ليحاسب عليه (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) قال أبو هريرة رضي الله عنه: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: لا أُلْفِين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح-أي الرقيق- فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق- أي الثياب ونحوها- فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت-أي الذهب والفضة- فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك) رواه الشيخان[1].(/2)
إنه تحذير شديد أكده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، أي: هي حالة شنيعة ولا ينبغي لكم أن أراكم عليها يوم القيامة[2]، ومعناه لا تعملوا عملا أجدكم بسببه على هذه الصفة[3]، ثم عدد أنواع المال وأخبر أن غالها يحمل ما غل منها على رقبته يوم القيامة، ويؤاخذ به، نسأل الله تعالى السلامة والتخفيف.
وعلى عظم قدر الجهاد في الشريعة، ورفعة منزلة المجاهدين عند الله تعالى، حتى جاء في الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال عند الله تعالى، ومع ذلك فإن من غل شيئا من المغانم فمتوعد بالعذاب في قبره، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد ممن غلوا في زمنه أنهم يعذبون في قبورهم بما غلت أيديهم.
ولو كان ما غلوه قليلا كعباءة يلبسها أحدهم، أو كساء يكتسيه، أو شملة يتزرها، أو سيرا يجعلها في نعله؛ كما روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (كان على ثَقَل النبي صلى الله عليه وسلم- أي على متاعه -رجل يقال له كَرْكِرَة فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها)[4].
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبا ولا فضة إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القُرى ومعه عبد له يقال له مِدْعَم أهداه له أحد بني الِضباب فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد فقال الناس هنيئا له الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين فقال هذا شيء كنت أصبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شراك أو شراكان من نار)[5].(/3)
والشراك سير النعل على ظهر القدم، فإذا كان الغال يؤاخذ بسير النعل الذي لا يساوي شيئا فكيف بما فوقه من المال والمتاع العظيم ؟! فيا ويل من استحلوا الأموال العظيمة بمجرد وصولهم إليها، وائتمانهم عليها، ويلهم،ماذا سيحملون يوم القيامة على رقابهم؟ وما جوابهم لربهم حين يسألهم؛ إذا كان سبحانه قد عذب أشخاصا في قبورهم في شملة وعباءة، وسير نعل، فما أعظم الأمر - أيها الإخوة - وقد تساهل الناس به، وما أكثر الواقعين فيه، نسأل الله تعالى الهداية والنجاة لهم ولأنفسنا ولجميع المسلمين آمين آمين.
وفي حديث آخر أكد عليه الصلاة والسلام على وجوب أداء الكثير والقليل، وعدم احتقار الشيء مهما كانت قلته ووضاعته في نفس آخذه ما دام أن لغيره فيه حقا، فقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وَبَرَة بين أنملتيه فقال: إن هذه من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخُمْس والخمس مردود عليكم فأدوا الخَيْط والمَخِيْط وأكبر من ذلك وأصغر ولا تغلوا فإن الغُلُول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة) رواه أحمد[6].
ولما قال رجل لسلمان رضي الله عنه : إني أخذت خيطاً من الغنيمة فخطت به ثوبي قال : كل شيء وقدره [7].
إن القضية ليست في شملة أو عباءة، أو سير نعل، أو خيط أو ما سواه مما يحتقر في العادة، ولكن القضية قضية دين يدين الناس به لربهم، وخلق يتخلقونه، وأمانة يؤدونها، ومن أخذ ما يحتقر أخذ ما فوقه، ومن امتدت يده إلى سير نعل امتدت إلى جام ذهب أو فضة، ومن فتن بقليل المال فاستحله من غير حله، ففتنته بكثيره أحرى وأولى.(/4)
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على صاحب الغلول مع أنه ما غل إلا شيئا يسيرا لا يكاد يذكر؛ كما في حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه يحدث (أن رجلا من المسلمين توفي بخيبر وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوا على صاحبكم قال فتغيرت وجوه القوم لذلك، فلما رأى الذي بهم قال:إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوي درهمين) رواه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم[8].
ومن تربيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه، وتأديب المخالف منهم، وتعظيم أمر الغلول في نفوسهم:أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يقبل ممن غل إرجاع ما غل بعد قيام الحجة وانتفاء العذر؛ كما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوز بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا كان مما أصبناه من الغنيمة، فقال: أسمعت بلالا ينادي ثلاثا، قال: نعم قال فما منعك أن تجيء؟ فاعتذر إليه،فقال عليه الصلاة والسلام:كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك) رواه أحمد[9].
وأعظم من ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام كان مرة في مؤخرة الجيش والناس جوعى، فاجتهد بعض من كانوا في مقدمة الجيش، فذبحوا شياها من الغنائم وطبخوها للجيش، فما قبل عليه الصلاة والسلام اجتهادهم، وأنكر فعلهم أشد الإنكار؛ كما روى البخاري عن رافع بن خديج رضي الله عنه فقال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصاب الناس جوع وأصبنا إبلا وغنما وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس فعجلوا فنصبوا القدور فأمر بالقدور فأكفئت)[10].(/5)
وفي رواية لأبي داود عن رجل من الأنصار قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد وأصابوا غنما فانتهبوها فإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة)[11] فجعل صلى الله عليه وسلم فعلهم نهبة انتهبوها من الغنيمة قبل قسمتها، وأكفأ قدورهم إنكارا عليهم، مع جوعهم وحاجتهم، وأخبرهم أن الميتة أحل من فعلهم.
ولما علم بعض الصحابة رضي الله عنهم ما في الغلول من الإثم العظيم، والعقوبة الشديدة، والفضيحة في الدنيا الآخرة؛ استعفوا من الولاية، واعتذروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبولها؛ خوفا من أن يلحقهم شيء من الغلول، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذرهم، وأعفاهم من وظائفهم، كان منهم سعد بن عبادة رضي الله عنه وقصته في صحيح مسلم من حديث عدي بن عميرة الكندي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة قال: فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله اقبل عني عملك، قال: ومالك؟ قال:سمعتك تقول كذا وكذا، قال عليه الصلاة والسلام: وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم على عمل فليجيء بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نهى عنه انتهى) وفي رواية للحاكم قال عليه الصلاة والسلام: (يا سعد إياك أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء، قال: لا آخذه ولا أجيء به فأعفاه)[12].
وممن استعفى من الوظيفة خوفا من الغلول أبو مسعود الأنصاري الذي قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيا ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال: إذا لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذا لا أكرهك) رواه أبو داود[13].(/6)
وأعظم الغلول غلول الجار أو الشريك؛ لما فيه من خيانته وقد أمنه، روى الإمام أحمد من حديث أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا فإذا اقتطعه طوقه من سبع ارضين إلى يوم القيامة) وفي رواية: (أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع من أرض يكون بين الرجلين أو بين الشريكين للدار فيقتسمان فيسرق أحدهما من صاحبه ذراعا من أرض فيطوقه من سبع أرضين)[14].
أسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه إنه سميع مجيب، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى؛ عم فضله وإحسانه كل الورى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،العبد المجتبى، والنبي المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أهل البر والتقى، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب النهار والدجى.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.(/7)
أيها المسلمون: إذا انتشر الغلول بين الناس، ولم يجد أحدهم حرجا من امتداد يده إلى ما ليس له؛ لضعف ديانته، وفساد خلقه، وجشع نفسه، مع غياب المراقبة والمحاسبة والعقاب؛ فإن أخلاقا رديئة تنتشر في الناس، يأخذ بعضها برقاب بعض، وكل خلق سيء منها يدعو إلى خلق آخر أسوأ منه في سلسلة لا تنتهي من فساد الضمائر والأخلاق، والأنانية والجشع، مما يكون سببا في الظلم والبغي، وينتج عنه الضغائن والأحقاد التي تودي بالناس إلى النزاع والشقاق، ولا سيما عند اتساع الدنيا، وكثرة الموارد؛ ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعفة اليد، وخطب في الناس عقب غنمهم لغنائم حنين محذرا إياهم من الافتتان بما يرون من أموال قد تكون سببا في الغلول فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه) رواه أبو داود وفي رواية للبيهقي: (ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم)[15].
وتأملو -أيها الإخوة - قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه) وقارنوه مع حال كثير من المتنفذين في الدوائر الحكومية والشركات والمؤسسات؛ إذ يستحلون ما لا يحل لهم من السيارات وغيرها ويقسمونها في أولادهم وإخوانهم، وكأنها ملك آبائهم، ويعملون بها ما لا يعملون بسياراتهم وأمتعتهم، حتى إذا ما خلقت أو تلفت أعادوها مرة أخرى، وأخذوا بدلا عنها بلا وازع يزعهم، ولا عقاب يردعهم.
ولقد كان المسك يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فيأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين، ما ضرك إن وجدت ريحه؟ فقال رحمه الله تعالى:وهل ينتفع من هذا إلا بريحه؟![16].(/8)
إن الفساد الإداري والمالي قد ضرب أطنابه في أكثر بلاد المسلمين، وأدى بهم إلى ما ترون من التخلف والانحطاط، والفقر والحاجة، وضعف الديانة وفساد الأخلاق؛ حتى إن عفيف اليد في بعض المجتمعات المعاصرة غريب بين أقرانه، ولربما قطعت يده أو كفت عن العمل لعفتها، وغاب السؤال المشهور: من أين لك هذا؟ وحل مكانه: فلان ضيع على نفسه الفرصة بمثاليته، ولو كنت مكانه لأصبحت من أثرياء الناس، وأضحى كثير من هؤلاء الذين ضعف دينهم، ومرجت عهودهم، وفسدت ذممهم، هم سراة الناس وقدوتهم بما يملكون من مال وجاه، وكبروا أربعا على مجتمعات يكون أهل القدوة فيهم هم السراق والنهاب، وأكلة الحرام، وأهل الغلول.
وأدى هذا الفساد العظيم إلى تعطيل مصالح العباد في كثير من ديار أهل الإسلام، وظلمهم بغير وجه حق، فمن يملك الوظائف يغلها فيحبسها على بنيه وقرابته، وأهل عشيرته وقبيلته، ولو كان في الناس من هم أولى بها منهم، ومن كانت مقاعد القبول في الجامعات والكليات بيده غلها وحرم منها أكفاء أولاد المسلمين؛ ليحجزها لمن لا يستحقها، ودواليك في أكثر حاجات الناس ومصالحهم.(/9)
ألا فتقوا الله ربكم - أيها المسلمون - وأدوا ما حملتم من أمانات، وإياكم والغلول فإنه عار في الدنيا والآخرة، ومن أخذ شيئا ليس له فيه حق من أموال المسلمين حمله على رقبته يوم القيامة، وحوسب به، ولا تحتقروا القليل مما ليس لكم كقلم وورقة ومكالمة هاتفية ونحوها؛ فإن العبد يحاسب على القليل والكثير، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والقليل مع القليل يصير كثيرا، ومن عود نفسه على الورع والمحاسبة أعتادت ذلك، وإن من الغبن العظيم، والخسران الكبير أن يجمع المرء مالا عظيما من طرق محرمة ثم يخلفها لوارثه، وحسابها على ظهره، فخسارة له، وخسارة لمن باع آخرته بدنياه، وأشد خسارة منه من باع آخرته بدنيا غيره، وما أكثرهم في الناس وهم لا يشعرون بخطر ما يفعلون بسبب تمكن لدنيا من قلوبهم، وغلبة الشهوات عليهم، فاحذروا - عباد الله - أن تكونوا منهم وأنتم لا تعلمون، أو تتشبهوا بهم، أو تتمنوا أفعالهم، وليكن قدوتكم في عفة اليد، وطيب المطعم، وأداء الأمانة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام رضي الله عنهم، والصالحين من المؤمنين...
وصلوا وسلموا على أفضل الرسل، وخير البشر....
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري (29.8) ومسلم واللفظ له (1831).
[2] فتح الباري لابن حجر (6\186).
[3] شرح النووي على مسلم (12\216).
[4] رواه البخاري (29.9).
[5] رواه البخاري (3993) ومسلم (115).
[6] رواه أحمد (5\316- 326) وحسنه ابن كثير في تفسيره (2\312)، وله شاهد من حديث عمرو بشعيب عن أبيه عن جده عند النسائي (6\262).
[7] رواه ابن أبي شيبة (6\422).
[8] رواه مالك (2\458) وأبو داود (271.) والنسائي (4\64) وابن ماجه (2848) وصححه ابن حبان (4853) والحاكم وقال: على شرط الشيخين، وأقره الذهبي (2\138).
[9] رواه أبو داود (2712) وأحمد (2\213) وصححه ابن حبان (48.9) والحاكم وأقره الذهبي (2\138).
[10] رواه البخاري (2356).(/10)
[11] رواه أبو داود (27.5) بسند صحيح.
[12] رواه مسلم (1833) وأبو داود (3581) والرواية الثانية للحاكم (1\556).
[13] رواه أبو داود (2947) بسند حسن.
[14] رواه أحمد (4\14). والرواية الثانية له أيضا (5\344) وحسنه الحافظ في الفتح (5\1.5) والهيثمي في الزوائد (4\174).
[15] رواه أبو داود (27.8) والدارمي (2488) وصححه ابن حبان (485.) وحسنه الحافظ في الفتح (6\256).
[16] رواه البيهقي في الزهد الكبير (919) ونحوه عند أبي نعيم في الحلية (5\326).(/11)
العنوان: الفساد المالي والإداري (2)
رقم المقالة: 1561
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
هدايا الموظفين
الحمد لله وحده {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك؛ الخير بيديه، والشر ليس إليه {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغنا رسالات ربنا، ونصح لنا؛ فلا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه.. تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أيها الناس: كلما تقادم عهد النبوة، واقترب الناس من القيامة؛ قلَّ الدين في الناس، وفسدت الأخلاق، ومرجت العهود، وضُيعت الأمانات، ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ) رواه البخاري. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة.
وإذا فقدت الأمانة بين الناس ضاعت الحقوق، واضمحل العدل، وانتشر الظلم، وحينئذ يرفع الأمن، ويسود الخوف.(/1)
والشريعة الربانية قد أكدت على وجوب أداء الأمانة، وحرمت الخيانة، وسدَّت كلَّ الطرق المفضية إليها؛ حتى إنها منعت ما هو مندوب في الأصل إذا أفضى إلى محرم تفسد به الذمم، وتقتطع الحقوق، ويعطى من لا يستحق، ويمنع المستحق؛ كما حرمت الشريعة الهدية لذوي الولايات والوظائف، إذا بذلت لهم لأجل مناصبهم ووظائفهم وجعلتها رشوة، مع أن الهدية مأمور بها شرعا، ومندوب إليها، وفي الحديث: (تَهَادَوْا فإن الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَغَرَ الصَّدْرِ) رواه أحمد. والرشوة ملعون دافعها وآخذها والساعي بينهما؛ إذ (لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي) رواه أبو داود.
فما أبعد ما بين الهدية المأمور بها، والرشوة الممنوع منها، ومع ذلك كانت الهدية رشوة في المواضع التي تكون سببا لفساد الذمم، وضياع الأمانة، وإهدار الحقوق.
وأصحاب الولايات كالأمراء والوزراء والمحافظين والقضاة والمديرين ووكلائهم والموظفين تحت ولاياتهم صغروا أم كبروا، ممن يحتاج الناس إليهم؛ إنما نُصِبوا في ولاياتهم لخدمة الناس، وإدارة شؤونهم، ورعاية مصالحهم، وإقامة العدل فيهم، ورفع الظلم عنهم، ويأخذون أجورهم على أعمالهم من بيت المال.
وهكذا من يعملون في الشركات والمؤسسات وغيرها إنما يخدمون من شَغَّلَوهم فيها، ويتقاضون أجورهم منهم، فلا بدَّ أن يبذلوا النصح في أعمالهم، ويحقوا الحق، ويؤدوا الأمانة، مراقبين الله تعالى في وظائفهم.(/2)
ولما كان الناس محتاجين إلى ذوي الولايات والمناصب والوظائف في قضاء حاجاتهم؛ فإن كثيرا منهم يتوددون لهم، ويتزلفون إليهم، وربما بذلوا في سبيل ذلك الوسائط من الهدايا والأموال والولائم والخدمات وغيرها؛ لنيل حقوقهم منهم، أو للحصول على ما لا حق لهم فيه، أو لتقديمهم على غيرهم، حتى إن بعض أهل المناصب والوظائف يملكون في زمن قليل ثروات طائلة لو استغرقوا أعمارهم كلها في جمعها من أرزاقهم ما جمعوها، ولكنها هدايا الناس وصِلَاتُهم التي لولا مناصبهم ووظائفهم ما ظفروا بشيء منها.
وأضحى الخبيرين في هذا الباب يدلون غيرهم على مفاتيح من لهم حاجة عندهم، وكيف تقضى حاجاتهم، وما يناسب بذله لهم من أجل ذلك.
وهذه الهدايا التي تبذل لهؤلاء الموظفين لأجل وظائفهم قد منعت الشريعة منها سواء كانت مالا أم متاعا أم ولائم أم خدمات أم غيرها، ولا حق لهم فيها؛ إذ لولا وظائفهم ما بذلت لهم، فحُرِّم بذلها على الباذلين، كما حُرِّم أخذها على العاملين، ولا يحل لموظف صغيرا كان أم كبيرا أن يماطل في حقوق الناس، أو يؤخر معاملاتهم؛ لأجل أن يبذلوا له شيئا، أو يتقربوا إليه بصنيعة.
كما لا يحل له أن يقبل هدية بذلت إليه ممن له مصلحة عنده ولو لم يشارطه عليها؛ لأنها تؤثر في قلبه، فيقدمه على غيره، أو يتجاوز عن نقص أو خلل في معاملته لأجل هديته؛ وذلك من تضييع الأمانة وغش المسلمين.(/3)
والأصل في منع هدايا الموظفين وتحريمها حديثُ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قال: (اسْتَعْمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلًا على صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى بن الْلَّتَبِيَّةِ، فلما جاء حَاسَبَهُ، قال: هذا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حتى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إن كُنْتَ صَادِقًا؟! ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه، ثُمَّ قال: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي استعمل الرَّجُلَ مِنْكُمْ على الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي الله فَيَأْتِي فيقول هذا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لي أَفَلَا جَلَسَ في بَيْتِ أبيه وَأُمِّهِ حتى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ؟! والله لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شيئا بِغَيْرِ حَقِّهِ إلا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يوم الْقِيَامَةِ فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ أو بَقَرَةً لها خُوَارٌ أو شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتى روي بَيَاضُ إِبْطِهِ يقول: اللهم هل بَلَّغْتُ) رواه الشيخان.
وروى بُرَيْدَةُ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اسْتَعْمَلْنَاهُ على عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فما أَخَذَ بَعْدَ ذلك فَهُوَ غُلُولٌ) رواه أبو داود.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: (في هذا بيان أن هدايا العمال سحت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة، وإنما يهدى إليه للمحاباة، وليخفف عن المهدي، ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله).اهـ. معالم السنن بحاشية أبي داود3/355.(/4)
هذا؛ وقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يتورعون عن قبول الهدايا؛ خوفاً من الشبهة، وخصوصاً إذا تقلد أحدهم عملاً من أعمال المسلمين، كما عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باباً لذلك قال فيه: (باب من لم يقبل الهدية لعلة) ثم ساق البخاري قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: (كانت الهدية في زمن رسول الله هدية، واليوم رشوة).
وقصة ذلك ما روى عمرو بن مهاجر رحمه الله تعالى قال: (اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحا فقال: لو كان عندنا شيء من تفاح فإنه طيب الريح طيب الطعم، فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحا، فلما جاء به الرسول قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه! ارفعه يا غلام، وأقرئ فلانا السلام، وقل له: إن هديتك وقعت عندنا بحيث نحب، قال عمرو بن مهاجر: فقلت له: يا أمير المؤمنين، ابن عمك ورجل من أهل بيتك وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة! فقال: ويحك! إن الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية وهي لنا اليوم رشوة).
فإن كانت الهدية لمن يحكم بين الناس كالقاضي ونحوه فالإثم أكبر، والخطر أشد؛ لما يلحقه من تهمة تغيير أحكام الله تعالى، ورفضه للعدل، وإقراره للظلم بسبب ما أهدي إليه.(/5)
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: (وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْهَدَايَا التي تُهْدَى لِلْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ هِيَ نَوْعٌ من الرِّشْوَةِ؛ لِأَنَّ الْمُهْدِيَ إذَا لم يَكُنْ مُعْتَادًا لِلْإِهْدَاءِ إلَى الْقَاضِي قبل وِلايَتِهِ لا يُهْدِي إلَيْهِ إلَّا لِغَرَضٍ وهو: إمَّا التَّقَوِّي بِهِ على بَاطِلِهِ، أو التَّوَصُّلُ لِهَدِيَّتِهِ له إلَى حَقِّهِ، وَالْكُلُّ حَرَامٌ، وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِقُرْبِهِ من الْحَاكِمِ وَتَعْظِيمِهِ وَنُفُوذِ كَلامِهِ وَلا غَرَضَ له بِذَلِكَ إلَّا الاسْتِطَالَةَ على خُصُومِهِ، أو الْأَمْنَ من مُطَالَبَتِهِمْ له، فَيَحْتَشِمُهُ من له حَقٌّ عليه، وَيَخَافُهُ من لا يَخَافُهُ قبل ذلك، وَهَذِهِ الْأَغْرَاضُ كُلُّهَا تؤول إلَى ما آلَتْ إلَيْهِ الرِّشْوَةُ، فَلْيَحْذَرْ الْحَاكِمُ الْمُتَحَفِّظُ لِدِينِهِ، الْمُسْتَعِدُّ لِلْوُقُوفِ بين يَدَيْ رَبِّهِ من قَبُولِ هَدَايَا من أَهْدَى إلَيْهِ بَعْدَ تَوَلِّيهِ لِلْقَضَاءِ؛ فإن لِلْإِحْسَانِ تَأْثِيرًا في طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ على حُبِّ من أَحْسَنَ إلَيْهَا، فَرُبَّمَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى الْمُهْدِي إلَيْهِ مَيْلًا يُؤَثِّرُ الْمَيْلُ عن الْحَقِّ عِنْدَ عُرُوضِ الْمُخَاصَمَةِ بين الْمُهْدِي وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْقَاضِي لا يَشْعُرُ بِذَلِكَ وَيَظُنُّ أَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن الصَّوَابِ بِسَبَبِ ما قد زَرَعَهُ الْإِحْسَانُ في قَلْبِهِ وَالرِّشْوَةُ لا تَفْعَلُ زِيَادَةً على هذا) .اهـ.(/6)
ألا فليتق الله تعالى كل عبد ولي ولاية صغيرة كانت أم كبيرة، وليؤد الأمانة في ولايته، وليحذر من بخس الحقوق، واستحلال الرشاوى باسم الهدايا؛ فإن العبرة بالمعاني لا بالمسميات، قال أصحاب جندب بن عبد الله رضي الله عنه له: أوصنا، فقال رضي الله عنه: (إِنَّ أَوَّلَ ما يُنْتِنُ من الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ) رواه البخاري.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه -عباد الله- واعلموا أن كل جسد نبت من سحت في النار أولى به {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].
أيها المسلمون: إذا أُهدي للموظف هديةٌ لأجل وظيفته فيجب عليه ردها وعدم قبولها، كما يجب عليه أن ينكر على باذلها، ويبين له أنها رشوة لا يحل بذلها ولا أخذها. فإن لم يستطع الإنكار عليه؛ لقوته ونفوذه وقد يضره فلا يقبلها ولا يحابيه من أجلها، بل يحق الحق ويبطل الباطل، فإن لم يقدر على ذلك استعفى من البت في معاملته لتحال على غيره، وذلك أقل ما يجب عليه لاجتناب الوقوع في الإثم.(/7)
فإن قبل الموظفُ هدية أهديت إليه لأجل وظيفته؛ جهلا بالحكم، أو تهاونا بالتحريم؛ فلا يستحلها، ولا يتصرف فيها بل يردها إلى بيت المال؛ لأنها ليست ملكا له دون سائر المسلمين، ويتوب إلى الله تعالى من قبول ما أُهدي إليه لأجل منصبه أو وظيفته؛ لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ على عَمَلٍ فليجيء بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ) رواه مسلم.
وروى مَالِكٌ في الموطأ عن زَيْدِ بن أسلم عن أبيه أنه قال: (خَرَجَ عبدُ الله وَعُبَيْدُ الله ابْنَا عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ في جَيْشٍ إلى الْعِرَاقِ فلما قَفَلاَ مَرَّا على أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وهو أَمِيرُ الْبَصْرَةِ فَرَحَّبَ بِهِمَا وَسَهَّلَ، ثُمَّ قال: لو أقدر لَكُمَا على أَمْرٍ أنفعكما بِهِ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ قال: بَلَى، هَا هُنَا مَالٌ من مَالِ الله أُرِيدُ أن أبعث بِهِ إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأُسْلِفُكُمَاهُ فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعًا من مَتَاعِ الْعِرَاقِ ثُمَّ تَبِيعَانِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ الْمَالِ إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَكُمَا، فَقَالاَ: وَدِدْنَا ذلك، فَفَعَلَ وَكَتَبَ إلى عُمَرَ بن الْخَطَّابِ أن يَأْخُذَ مِنْهُمَا الْمَالَ، فلما قَدِمَا بَاعَا فَأُرْبِحَا، فلما دَفَعَا ذلك إلى عُمَرَ قال: أَكُلُّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ ما أسلفكما؟ قَالاَ: لاَ، فقال عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا، أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ، فَأَمَّا عبدُ الله فَسَكَتَ وأما عُبَيْدُ الله فقال: ما ينبغي لك يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هذا، لو نَقَصَ هذا الْمَالُ أو هَلَكَ لَضَمِنَّاهُ، فقال عُمَرُ: أَدِّيَاهُ، فَسَكَتَ عبدُ الله وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ الله، فقال رَجُلٌ من جُلَسَاءِ عُمَرَ: يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو جَعَلْتَهُ قِرَاضًا، فقال عُمَرُ: قد(/8)
جَعَلْتُهُ قِرَاضًا، فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَنِصْفَ رِبْحِهِ، وَأَخَذَ عبدُ الله وَعُبَيْدُ الله ابْنَا عُمَرَ بن الْخَطَّابِ نِصْفَ رِبْحِ الْمَالِ).
أيها الإخوة: لقد استهان كثير من الناس بهذا الباب الخطير، وهو سبب فساد الذمم، وشراء الضمائر، والمماطلة في الحق، والتقاعس عن أداء الواجب إلا برشوة أو هدية يبذلها صاحب الحق.
وتالله إن ذلك لمن أهم أسباب تخلف المسلمين وانحطاطهم؛ إذ لما عمت هذه الأخلاق الرديئة كثيرا من بلدان المسلمين توقف نماؤها، واستشرى فسادها، وخربت إداراتها، وتعطلت مصالحها، وصار المرء يعمل لنفسه لا لبلده وأمته، ويسعى في ملئ خزائنه بالمال، ولو كان في ذلك انتهاك الشريعة ومخالفة النظام، ولو كان فيه خراب الديار والعمران، وعمَّ ذلك مجتمعات المسلمين أو يكاد، ولم يسلم منه قادر عليه صغيرا كان أم كبيرا، إلا من سلمه الله تعالى، وقليل ما هم.
وبسبب ذلك ساد في كثير من الديار السفلة والأراذل الذين يفسدون ولا يصلحون، سادوا بما جمعوا من أموال محرمة جلبت لهم جاها لا يستحقونه، فخربت البلدان بسببهم، وانزوى الأمناءُ المصلحون الناصحون، وخمل ذكرهم؛ لأن البيئات المتلوثة بالرشوة والغش والسحت وأكل الحرام وممارسته وتسويغه لا مكان فيها للأمناء والمصلحين الناصحين.
وما تقدمت بلاد الغرب على بلاد المسلمين بذكاء في عقول أبنائها، ولا بفساد أخلاقها وأعراضها، وتحرر نسائها؛ كما يقول أهل الغش والتدليس والتغريب من دعاة الفساد والإفساد، ولكنها تقدمت بأنظمة صارمة تجاه الغش والرشوة وجميع أنواع الفساد الإداري والمالي، لا محاباة فيها لأحد، ويؤاخذ بها الكبير والصغير على حدٍ سواء.(/9)
ولا سبيل لنجاة الفرد من عذاب الله تعالى إلا بمراقبته في السر والعلن، والخوف منه، قبل الخوف من الجهات الرقابية، ولا سبيل لنهضة الأمة وتقدمها، وانتشالها من الجهل والتخلف إلا بإقامة العدل، ورفع الظلم، واستعمال الأمين، وإقصاء الخائن، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء، ومحاسبة المقصر، وعدم محاباة أحد في ذلك، كبيرا كان أم صغيرا، وإلا كان المزيد من التخلف والانحطاط والذل والتبعية، ولن يكون حالنا إلا كحال بني إسرائيل من قبل: إذا سرق فيهم الشريف قطعوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- وراقبوه في وظائفكم ومكاتبكم؛ فإنه مطلع على سركم وعلانيتكم، ومحاسبكم على أعمالكم {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقَّة:18].
فأعدوا لما ستسألون عنه جوابا، وإنكم لمسئولون عن أموالكم من أين اكتسبتموها، وأين أنفقتموها، ولا تنظروا إلى من تخوضوا في المال الحرام كم جمعوا؛ فإنهم زائلون عن جمعهم، وأموالهم تثقل ظهورهم، ومن اغتصب شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين فاحذروا ثم احذروا.
وصلوا وسلموا على نبيكم....(/10)
العنوان: الفقه الإسلامي تعريفه وتطوره ومكانته
رقم المقالة: 400
صاحب المقالة: عبدالله شيخ محفوظ بن بيِّه
-----------------------------------------
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين القائل ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فهذا بحث ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل. حول تعريف الفقه وتطوره ومكانته، لا يدعي اقتناص الشوارد ولا قيد الأوابد، لكنه يكتفي بإيضاح بعض المقاصد.
فأقول وبالله التوفيق، وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق الفقه لغة: هو مصدر من فقه بكسر عين الفعل في الماضي يفقه بفتح عينه في المضارع، وفيه لغة أخرى هي فقه بالضم في الماضي والمضارع وهي تشير إلى رسوخ ملكة الفقه في النفس حتى تصير كالطبع والسجية[1].
وزاد الحافظ بن حجر في فتح الباري لغة ثالثة هي: فقه بالفتح إذا سبق في الفهم[2]، وهذه اللغة لم تذكرها المعاجم المشهورة فعلى هذا تكون فقه مثلثة عين الماضي، مثناة عين المضارع إذ ليس في مضارعها إلا يفقه بالفتح ويفقه بالضم.
والفقه مصدر غير مقيس، وإنما أصله السماع، ويرجع في أصله إلى معنيين بالنظر إلى اختلاف ((تعبير علماء اللغة)) في التفسير الأوليِّ لمادة فقه.
أولهما: الفهم والفطنة والإدراك والعلم. وهذا الأصل اقتصرت عليه أكثر المعاجم كالجوهري في صحاحه والمجد في قاموسه، والفيومي في مصباحه.
وهذا الأصل هو الذي عليه أكثر الأئمة الأوائل، ولنذكر مثالاً واحداً نكتفي به من كلامهم:
فيقول أحمد بن فارس المتوفي سنة 395هـ. "فقه الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح يدل على إدراك الشيء والعلم به، تقول فقهت الحديث أفقهه، وكل علم بشيء فهو فقه، يقولون لا يفقه ولا ينقه، ثم اختص بذلك علم الشريعة فقيل لكل عالم بالحلال والحرام فقيه، وأفقهتك الشيء إذا بينته لك"[3].(/1)
ثانيهما: أن أصل معناه يرجع إلى الشق والفتح، وهذا ما ذهب إليه الزمخشري من الفائق في غريب الحديث وأبو السعادات ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث أيضاً[4].
ونكتفي بنقل كلام الزمخشري هنا: "سلمان رضي الله عنه نزل على نبطية بالعراق، فقال لها هل هنا مكان نظيف أصلي فيه، فقالت: طهر قلبك وصل حيث شئت، فقال سلمان: فقهت، أي فطنت وارتأت الصواب"[5].
والفقه حقيقة الشق والفتح، والفقيه العالم الذي يشق الأحكام، ويفتش عن حقائقها، ويفتح ما استغلق منها، وما وقعت من العربية فاؤه فاء عينه قافاً جله دال على هذا المعنى نحو قولهم: تفقاً شحماً، وفقح الجرو وفقر للغسيل وفقصت البيضة، عن الفرخ، وتفقعت الأرض عن الطرثوث[6].
قلت: وما ذهب إليه الزمخشري وأبو السعادات من أن الفقه في أصل اللغة يرجع إلى الشق والفتح ليس ظاهراً.
أولاً: لمخالفته لكلام الأئمة والأرسخ قدماً والأسبق زمناً.
ثانياً: اعتماد الزمخشري على القياس عن طريق ما يسمَّى بالاشتقاق الأكبر وهو ما فيه مناسبة في بعض الأحرف الأصلية فقط.
يعتبر ضعيفاً وغير مقيس، قال أبو حيان: "لم يقل بالاشتقاق الأكبر من النحاة إلا أبو الفتح وكان ابن الباذش يأنس به[7]".
وذكر ذلك صاحب المراقي عند قوله:
الجذب والجبذ كبير وبري للأكبر الثلم وثلبا من درى
وزيادة على هذا فإن مذهب الجمهور هو: أن اللغة لا تثبت بالقياس، وهو الراجح عند ابن الحاجب إذ اللغة تقل محض[8].
ونكتفي بذكر هذين الاتجاهين في التعريف اللغوي للفقه.
ولكن لابد من الإشارة إلى أن بعض علماء الأصول حاول التوسع في المعنى اللغوي فقال القرافي: إن الفقه على الشعر والطب، وتبعه بعض علماء الأصول فقالوا: الفقه لغة الفهم والشعر والطب[9].(/2)
ولعل هذا الكلام من باب المجاز اللغوي، لأن الشعر والطب يحتاجان إلى فهم وفطنة فهو تعبير بالملزوم عن اللازم. فالعرب ما كانت تسمى الفقه طباً، وإن سمع عنه فحل طب بالضراب أي حاذق، في معرفة الحامل من الحائل، أي أنه يعرف الناقة ذات الضبع وهي التي تشتهي الفحل، ولا يراد به الطب الذي هو علاج الجسم أو النفس.
وذهب العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين إلى أن الفقه أخص من الفهم لأن الفقه هو فهم مراد المتكلم من كلامه وهو قدر زائد على مجرد فهم ما وضع له اللفظ[10].
أما القرافيُّ فنقل عن أبي إسحق الشيرازي أنه إدراك للأشياء الخفية، فنقول: فقهت كلامك ولا تقول فقهت السماء والأرض[11].
وهذه الخلاصة ما ذكره العلماء للمعنى اللغوي لكلمة الفقه.
مقدمة في تطور كلمة الفقه قبل الحديث عن اصطلاح الأصوليين
كلمة الفقه كانت معروفة في الجاهلية، بمعنى الفهم لا بمعنى العلم المخصوص، وما كانوا يستعملون لفظ فقيه أو عالم فيما استعملا فيه بعد الإسلام.
هذا ما يقوله محمد بن الحسن الثعالبي الفاسي (في كتابه) الفطر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي...
ولكني أرى أنه لم يكن شايعاً بينهم بالمعنى المخصوص وإنما الذي سجل عن العرب قولهم – كما رأينا سابقاً – جمل فقيه أي فطين بأحوال الشوق، لأن اللغة العربية كانت تميل إلى التعبير عن المحسوسات قبل النقلة التي شهدتها بمجيء الإسلام ونزول القرآن الكريم، فلم يكونوا يعرفون مثلاً الفاسق كما نقله الأصبهاني عن ابن الأعرابي ونص كلام ابن الأعرابي على ما نقله الجوهريُّ.
لم يسمع الفاسق في وصف الإنسان في كلام العرب، وإنما قالوا:
فسقت الرطبة خرجت عن قشرها.
قال ابن الأعرابي: "لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا شعرهم فاسق"...(/3)
نقل شيخ مرتضى: عن بعض فقهاء اللغة أن الفسق من الألفاظ الإسلامية لا يعرف إطلاقها على هذا المعنى قبل الإسلام، وإن كان أصل معناها، الخروج، فهي من الحقائق الشرعية التي صارت في معناها حقيقة عرفية في الشرع، وقد بسطه – الخفاجي في العناية[12] ومثل هذا كثير فإن كلمة الأدب ما كانت شائعة قبل الإسلام وإنما كانت العربُ تعرف الآدب الذي يدعو إلى المأدبة وهي طعام يصنع للجماعة، قال طرفه:...
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر
والجفلى هي الدعوة العامة، والنقرى الدعوة الخاصة..
ثم تطورت كلمة الأدب إلى أن أصبحت تعني الأخلاق الفاضلة وأصبحت بعد ذلك تطلق على علم خاص.
قال: الخفاجي في العناية نقلاً عن الجوالقيِّ في شرح أدب الكاتب: "الأدب في اللغة حسن الأخلاق وفعل المكارم، وإطلاقه على علوم العربية مولد حديث في الإسلام"[13]
والفقه من هذه الألفاظ التي تطورت تطوراً ملموساً منذ ظهور الإسلام ففي الصدر الأول استعملت كلمة الفقه في النصوص الشرعية لمعنيين:
أولُهما: الفهم الذي ينصف به الشخص.
وثانيهما: النصوص الشَرْعِيَّة.
فمن الأول قوله تعالى: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول}[14].
ومن {ولكن لا تفقهون تسبيحهم}[15]...
ومنه {أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}[16].
ومن السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين..)) الحديث، متفق عليه[17].
فهو محتمل للمعنيين أي معنى الفهم ومعنى العلم بنصُوص الشريعة...
ومن المعنى الأول قول علي رضي الله عنه لابن الكوَّاء وقد سأله عن قوله تعالى: {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا} قال له: ويحك اسأل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً[18]...
ثانيهما: النصوص الشرعيَّة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))[19]، وهو جزءٌ من حديث أخرجه أحمد في المسند والترمذي وقال صحيح.
وابن حبان وصححه، والحاكم وصححه..(/4)
ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((تفقهوا قبل أن تسوَّدوا))[20].
قال أبو عبدالله – البخاري –: "وبعد أن تسودوا وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد كبر سنهم".
بعد هذه المقدمة القصيرة عن معنى الفقه في القرآن والسنة، نستنتج أن الفقه بمعنى المعلوم، كانت تغطى علوم الدين كلها من عقيدة وأحكام عبادات ومعاملات، وحدود، كما تغطى أدلتها من كتاب وسنة، كل ذلك يعتبر فقهاً، لأن متعلقه الدين، والدين كما هو معروف إذا أطلق فإنه يدل على الإسلام والإيمان والإحسان، ومع ذلك فنحن نلاحظ استعمال كلمة الفقه، في بعض الآثار الواردة عن بعض السلف في عصر الصحابة، بجانب الكتاب والسنة، مما يشير إلى شيء خاص وليس حَتْماً منافياً ولكنه على كل حال زائد على حرفية النص، فمن ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: أفضل الجهاد من بنى مسجداً يعلم فيه القرآن والفقه والسنة[21]. رواه شريك عن ليث ابن سليم بن يحيى ابن أبي كثير عن علي الأزدي، قال: أردت الجهاد فأتيت ابن عباس فقال لي: ((ألا أدلك على ما هو خير تأتي مسجداً فتقرأ فيه القرآن وتعلم فيه الفقه))[22].
وهذا يدل على أن الفقه بدأ في تمثيل مصطلح خاص متميز في أيام الصحابة، وذلك راجع إلى ظهور مسائل اجتهادية، كمسألة ميراث الجد مع الأخوة، ومسألة أراضي العراق وغيرها من أرض الخراج ومسألة درء الحد عمن ولدت لستة أشهر، وغيرها من المسائل التي تستدعي الاجتهاد وأعمال النظر، وظهور هذه المسائل كان نتيجة لتلاحق التطورات في المجتمع الإسلامي الذي اتسعت رقعته، وتنوعت عناصر مكوناته، وكان القرآن الكريم الذي جمع جمعاً أولياً على عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق وجمعاً نهائياً على عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وعن الخلفاء الراشدين جميعاً.. والذي جمع الناس على مصحف واحد ووزعه على الآفاق وألغى ما سواه وكان ذلك بمحضر الملأ من الصحابة ومشورتهم.(/5)
وكان العامل الأساسي في المحافظة على وحدة العقيدة والشريعة جمع الناس على مصحف واحد...
إلاّ أن الصحابة وهم حملة السنة قد تفرقوا في الأقطار والأصقاع كل واحد يحمل معه من السنة ما وعي، ليفتي ويقضي حسب ما سمع وبقدر ما فهم فاختلفت بعض الآراء في المسائل الفقهية، إلا أنهم حفظوا من الاختلاف في مسائل العقيدة. فبرزت الحاجة للنظر في المصدرالثاني من مصادر الشريعة وهو السنة، فكان أول جمع لها بأمر أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز في نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني حيث كتب إلى عامله في المدينة المنورة، أن يجمع السنة ثم تبارى العلماء في جمع الحديث وتصحيحه وتنقيحه.
فمن أوائل الكتب التي وصلت من السلف إلى الخلف صحيفة همام ابن منبه المتوفي سنة 132هـ ومسند أبي حنيفة ت150هـ وموطأ مالك بن أنس سنة 179هـ ومسند أبي داود الطيالسي المتوفي 204هـ. ومسند الشافعي المتوفي 204هـ وهكذا توالت كتب الحديث من جوامع وسنن ومسانيد ومستخرجات ومستدركات.
وفي نفس الوقت تقريباً، اهتم العلماء باستخراج المسائل الفقهية وتجريدها بعد تحرير الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد، فتكونت مدارس فقهية في الحجاز والعراق ومصر وكثرت الآراء واتسعت القضايا وتباينت الفتوى، وظهرت مسائل استنباطية معزوة إلى أصحابها الذين لم يعودوا مجرد مفتين، وإنما مؤسسو مدارس يشار إليهم بالبنان، نظراً لرسوخ أقدامهم في العلم ودقة مداركهم في الفهم، فألفت المدونات، كمدونة ابن القاسم التي نقلها عن مالك، وكتاب الأم للشافعي، وغيرهما من الكتب التي تعتني بالمسائل الفقهية الاستنباطية، وكان الأمر يقتضي وضع قواعد، ومناهج ليسلكها السالكون في التعامل مع النصوص، واستنباط المسائل منها.
وسميت هذه المسائل الجديدة فقهاً، وأخذت القواعد التي تحكم كيفية الاستنباط والتعامل مع النصوص اسم أصول الفقه.(/6)
هذه الأطوار التي مرت بها الشريعة من عهد الصحابة الذين جمعوا القرآن الكريم وجمعوا الناس على مصحف واحد، وعهد التابعين الذين بدأوا مسيرة جمع السنة، والذين من بعدهم من الأئمة الذين اجتهدوا في استخراج المسائل واستنباطها، كل ذلك قد أثر في تطور معنى كلمة فقه، وبدون شك فإن هذا قد خلف ظلالاً على تعامل العلماء من بعدهم، مع تعريف هذه الكلمة وتحديد مفهومها الدقيق، وذلك ما سنراه بعد هذه المقدمة.
تعريف الأصوليين للفقه
اختلف الأصوليون في تعريف الفقه، على ضوء ما ذكرنا في مقدمة هذا البحث:
1 - فذهب بعضهم إلى أن الفقه مرادف للعلم بالشريعة أي أنه شامل للعلم بالأحكام الثابتة بالنصوص القطعية، أو تلك الثابتة بالطرق الظنية.
2 - وذهب بعضهم إلى أنه الثابت بالنصوص القطعية فقط.
3 - وذهب الجمعور إلى أنه العلم بالأحكام المستفادة عن طريق الاستنباط والاجتهاد.
4 - وذهب فريق رابع إلى أنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب عن طريق الأدلة التفصيلية.
فهذه أربع طرق يمثل الأولى منها – وهي التي ترى أنه شامل للأحكام القطعية والظنية، من العلماء:
البزدوري الحنفي، وقد نقل ابن عباس في رد المحتار عن شرح التحرير أنّ التعميم قد مضى غير واحد من المتأخرين على أنه الحق، وعليه عمل السلف والخلف[23].
أما المذهب الذي يقول بأنه الثابت بالنصوص القطعية فمن الذاهبين إليه إمام الحرمين في البرهان، حيث يقول: "فإن قيل في الفقه؟ قلنا: هو في اصطلاح الشريعة: العلم بأحكام التكليف. فإن قيل معظم متضمن ما سئل الشريعة ظنون. قلنا: ليست الظنون فقهاً وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون".
وذكر بعد ذلك قوله: قد ذكرنا أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية.(/7)
وما ذكره إمام الحرمين[24] ذكر مثله ابن الهمام الحنفي في التحرير.. بقوله: إن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية القطعية لا الظنية. وأن الظن ليس من الفقه، والأحكام المظنونة ليست مما يسمى العلم بها فقهاً[25].
أما المذهب الثالث: فقد قال به أيضاً كثير من العلماء، حيث تخصص الفقه بالمسائل المظنونة. قال علاء الدين شمس النظر الحنفي – 539هـ في كتابه المسمى ميزان الأصول في نتائج العقول: "وأما العلم السمعى نوعان: أحدهما ثابن بطريق القطع واليقين، وهو ما ثبت بالنص المفَسَّر من الكتاب والخبر المتواتر والمشهور والإجماع.
والثاني: ثابت بطريق الظاهر بناء على غالب الرأي وأكبر الظن، وهو ما ثبت بظواهر الكتاب والسنة المتواترة، وما ثبت بخبر الواحد والقياس الشرعي. وهذا النوع بقسميه يسمى علم الشرائع والأحكام، ويسمى علم الفقه في عرف الفقهاء وأهل الكلام، وإن كان اسم الفقه لغة وحقيقة لا اختصاص له بهذا النوع من العلم بل هو إسم للوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به علم يحتاج فيه إلى النظر والاستدلال مطلقاً، كعلم النحو واللغة والطب ونحوهما، يقال فلان فقيه في النحو والطب واللغة إذا كان قادراً على الاستنباط والاستخراج في ذلك"[26].
فيفهم من هذا الكلام أن الفقه إنما يطلق على العلم بالمسائل الظنية لأنه إنما أطلقه على النوع الثاني بقسميه وهما:
1 - ما ثبت عن طريق الظواهر وغالب الرأي والظن من جهة.
2 - أو ما ثبت عن طريق خبر الآحاد والقياس من جهة أخرى – فهذا بيان كلامه.
وأكثر علماء الأصول لا يبتعدون كثيراً عن هذا التعريف الأخير، فإنهم يعرفون الفقه بأنه: معرفة الأحكام الشرعية العملية، التي طريقها الاجتهاد كما قال: الشيرازي في اللمع، فيخرج العلم بالذوات والعلم بالأحكام العقلية والحسية والوضعية كالحساب والهندسة والنحو والصرف[27] إلى آخره.(/8)
وفي شرح أحمد بن قاسم العبَّادي الشافعي، على ورقات إمام الحرمين، ممزوجاً بكلام المؤلف وتعليق جلال الدين المحلي ما يلي: "الفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة، وأن الوتر مندوب، وأن النية من الليل شرط في صحة صوم رمضان، وأن القتل بمثقل يوجب القصاص ونحو ذلك من مسائل الخلاف، ثم أنهم اشترطوا أن يكون العلم حاصلاً عن طريق الاجتهاد للمنصف به، ليخرج علم المقلد بهذه المسائل، وكذلك ليخرج العلم بضروبات الدين كوجوب الصلوات الخمس، وحرمة الفاحشة فهذه لا تسمى فقهاً على حد هذا التعريف[28]، هامش إرشاد الفحول شرح أحمد بن قاسم لورقات إمام الحرمين".
أما المذهب الرابع: فلم يفصل بين قطع ولا ظن، ولم يشترط الاجتهاد بالنص، إلا أنه قال: إن العلم بهذه الأحكام الشرعية يجب أن يكون مكتسباً من أدلتها التفصيلية، وهذا ما ذهب إلي السبكي في جمع الجوامع.
ونظمه سيدي عبدالله بن الحاج ابراهيم الشنقيطي.
في نظمه المسمى بمراقي السعود:
الفقه هو العلم بالأحكام بالشرع والفعل نماها النامي
أدلة التفصيل منها مكتسب والعلم بالصلاح فيما قد ذهب
قال في شرحه نشر البنود: "والفقه اصطلاحاً هو العلم بجميع الأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية والمراد بالأحكام النسب التامة التي هي ثبوت أمر لآخر إيجاباً أو سلباً احترازاً عن العلم بالذوات والصفات والأفعال"[29].
وهذا العلامة الزركشي ينقل في كتابه المنثور في القواعد عن جلة من علماء الأصول تعريف الفقه فيقول: فصل:
قال القاضي حسين: "الفقه افتتاح علم الحوادث على الإنسان أو افتتاح شعب أحكام الحوادث على الإنسان".
حكاه عنه البغوي في تعليقه....
وقال ابن سراقة في كتابه في الأصول: "حقيقة الفقه عندي الاستنباط.. قال تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}".(/9)
بعد الطرائق الأربع في تعريف الفقه عند الأصوليين، والقاسم المشترك بين هذه التعريفات هو أنه نقلت الفقه عن أصله اللغوي وهو الفهم، إلى معنى مجاور هو العلم الذي ليس بمعنى المعلوم، وإنما بمعناه المصدري الذي هو حصول العلم أو الملكة الراسخة في النفس.
فالفقه في هذه التعريفات هو علم الإنسان بالشيء إلاّ أنَّ بعض العلماء الآخرين وإن كانو قد أخذوا بعض الآراء السالفة بعين الاعتبار إلا أنهم قدموا تعريفات أخرى تنظر إلى الفقه كعلم بمعنى شيء مستقل عن كونه صفة للمجتهد.
فمن هؤلاء الإمام الغزالي والزركشي من الشافعية، فالغزالي اهتم به من حيث علاقته بتزكية النفوس، فخصصه قائلاً: في الألفاظ التي صرفت عن أصلها الذي كانت عليه عند السلف الصالح: "اللفظ الأول الفقه، فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغربية في الفتوى، والوقوف على دقائق علمها واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقاً وأكثر اشتغالاً بها يقال: هو الأفقه، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول يطلق على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب"[30]..
وكما يلاحظ فإن أبا حامد رحمه الله تعالى جعل الفقه علماً خاصاً بغض النظر عن المتصف به، خلافاًً لمصطلح الأصوليين، إلا أنه وقع في التخصيص بدلاً من أن يتركه على عمومه، الذي يدل عليه إضافته للدين وهو كل ما يطلب من العباد (من إسلام وإيمان واحسان كما ورد في الحديث الصحيح، هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم....
وكما يدل عليه قوله تعالى {فأقم وجهك للدين....ْ}، الآية.
أما الزركشي، فذكر تعريفات عدة بعضها يقارب تعريف الأصوليين، وبعضها يجانبه، ولأهمية كلامه ننقل أكثره ونصه: في (أ)، ص17.
وكذلك قال السمعاني في القواطع: "هو استنباط حكم المشكل من الواضح".(/10)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب حامل فقه غير فقيه)) أي غير مستنبط، ومعناه: أنه يحمل الرواية من غير أن يكون له استدلال واستنباط منها.
قال: "وما أشبه الفقيه إلا بغواص في بحر در كلما غاص في بحر فطنته استخرج دراً وغيره يستخرج أجراً".
ومن المحاسن قول الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها.
وقال الإمام في الغياثي: "أهم المطالب في الفقه التدرب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، وهو الذي يسمى فقه النفس، وهو أنفس صفات علماء الشريعة".
واعلم أن الفقه أنواع:
أحدهما: معرفة أحكام الحوادث نصاً واستنباطاً، وعليه صنف الأصحاب تعاليقهم المبسوطة على مختصر المزنى.
والثاني: معرفة الجمع والفرق، وعليه جل مناظرات السلف حتى قال بعضهم: الفقه فرق وجمع، ومن أحسن ما وصف فيه كتاب الشيخ أبي محمد الجويني، وأبي الخير بن جماعة المقدسي، وكل فرق بين مسألتين مؤثر ما لم يغلب على الظن أن الجامع أظهر.
قال الإمام رحمه الله: "ولا يكتفي بالخيالات في الفروق، بل وإن كان اجتماع مسألتين أظهر في الظن من افتراقهما – وجب القضاء باجتماعهما، وأن انقدح فرق علي بعد".
إلى أن قال: فائدة:
كان بعض المشايخ يقول: "العلوم ثلاثة علم نضج وما احترق وهو علم الأصول والنحو، وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق وهو علم الفقه والحديث".
وكان الشيخ صدر الدين بن المرحل – رحمه الله – يقول: "ينبغي للإنسان أن يكون في الفقه قيماً، وفي الأصول راجحاً، وفي بقية العلوم مشاركاً"[31].
((تطور الفقه))(/11)
من المعلوم أن الأصل الأول للفقه هو القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}... {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}. والأصل الثاني هو السنة النبوية وهي مجموعة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، فهذان الأصلان لا خلاف فيهما[32].
وكل الأصول الأخرى راجعة إليهما من اجماع وقياس واستدلال – وهو كما يقول علماء الأصول دليل ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس كاستصحاب الحال، وشرع من قبلنا والاستحسان عند الحنفية والمالكية والمصالح المرسلة[33].
وأنواع هذا الدليل ليست موضع اتفاق بين العلماء، ذكرنا هذه المصادر كتوطئة لتطور الفقه، لأن التطور الزمني للفقه كان نتيجة لتسلسل ظهور هذه الأدلة وبروزها، والمكانة التي أخذتها في التشريع.
فالطور الأول: – هو طور نزول الوحي وحياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو طور تأسيس الشريعة، وكمال العقيدة، واقرار أصول الحلال والحرام {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي...} الآية.
((وإن الحلال بين وإن الحرام بين...)) الحديث.
فهذا الطور من مبعث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وفاته، وهي فترة الوحي أي نزول القرآن الكريم، وتلقى السنة المطهرة عنه صلى الله عليه وسلم. ثم جاء عصر الصحابة رضي الله عنهم الذي امتد ما يناهز القرن، وانتشر الإسلام، وتفرق الصحابة في شتى الأقطار والأصقاع ينشرون الإسلام بين أقوام مختلف الأعراق والأعراف والطباع فاعترضتهم قضايا فقهية بعضها يمس أنظمة الدولة الإدارية والمالية كقضايا الأراضي المفتوحة – والتي أصبحت فيما بعد خراجية – ومشكلات دون ذلك كميراث الجد مع الأخوة.(/12)
إلا أن مركز الدولة واهتمام الخليفة شخصياً بالقضاء والفتوى سهل الإجماع في كثير من المسائل، حيث يجمع الصحابة عند النازلة فيستشيرهم فيجمعون على أمر، فيصبح إجماعهم امراً لا معقب له وحجة على القرون من بعدهم.
وقد لا يجمعون فيظل باب الإجتهاد مفتوحاً في وجه من بعدهم، وبروز أهمية الإجماع في التشريع يُمثل الطور الثاني من أطوار الفقه وما كان لهذا التطور أن يحدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الإجماع في عهده غير ممكن لنزول الوحي فالحجة في حياته صلى الله عليه وسلم هي القرآن والسنة، فالمرجع الوحيد في النوازل هو النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الطور الثاني الذي يمثله عهد الصحابة رضوان الله عليهم برز القياس وظهرت بوادره الأولى في قياس الشارب على القاذف عند من أثبته. إلى غير ذلك من المسائل التي احتاج الصحابة فيها إلى إعمال أوجه الرأي، وتقليب أوجه النظر، كحادثة الوباء في الشام – الطاعون – التي وقع فيها الحوار بين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة رضي الله عنهما – واختلف الصحابة عليهما، فأيدت طائفة رأي عمر، وأيدت أخرى رأي أبي عبيدة حيث قال لعمر: أفراراً من قدر الله؟ فقال له عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة: نعم: فراراً من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل في واد له عدوتان إحداها خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ وإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله[34].
ولم ينكر أحد عليهما استعمال الرأي والقياس.
وكان ذلك قبل أن يأتي عبدالرحمن بن عوف بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(/13)
وتنامى القياس في عصر التابعين، وتابعي التابعين، فظهر أئمة الفتوى في هذا العصر، ونضجت الآراء التي نقلت عن الصحابة، وتكونت مدارس متعددة على هدى الاجتهادات، المختلفة، وتباينت هذه المدارس لا في الفروع فقط ولكن أيضاً في نظرتها إلى الأصوال التي تؤخذ منها الأحكام، هذا التباين ليس ناشئاً فقط عن تفاوت أصحابها في فهم القرآن والاطلاع على السنة، فهم متفاوتون فعلاً في ذلك، فقد يطلع بعضهم على ما لم يطلع عليه غيره، ويصح عنده ما لم يثبت عند غيره. ولا بسبب اختلافهم في تفسير النصوص من الناحية اللغوية فحسب. فقد اختلفوا في ذلك ولكن الاختلاف قد ينشأ بسبب تقدير بعضهم لأهمية دليل على حساب آخر، مما يوجد اختلافاً في ترتيب الأدلة من إمام إلى آخر، فيحكم هذا برجحان دليل يحكم غيره بكونه مرجوحاً، فعلى سبيل المثال أبو حنيفة النعمان بن ثابت يمنع العمل بخبر الآحاد في قضايا عموم البلوى، وهي القضايا التي يحتاج إليها كل الناس حاجة ماسة تقتضي السؤال عنها لكثرة تكررها، وقضاء العادة بنقل الخبر فيها متواتراً كما نقل الكمال بن الهمام[35] وخالفه الجمهور فسميت مدرسة أبي حنيفة بمدرسة الرأي.
وعلى العكس من ذلك فإن الإمام أحمد يفضل الحديث الضعيف على الرأي، ويجب أن نشير إلى أن هذا الضعف يجب ألا يصل درجة البطلان أو النكارة، فهذا لا يحتج به الإمام أحمد كما يقول الإمام ابن القيم[36].
مما جعل مدرسته تسمى مدرسة أهل الحديث..
والإمامان مالك والشافعي أقرب إلى مدرسة أهل الحديث مع إختلاف أيضاً بين مالك وغيره في تقديم عمل أهل المدينة على خير الواحد في القضايا التي تدعو الحاجة إلى انتشارها بين الناس[37]. وكذلك فإن مذهبه عرف عنه الأخذ بالمصالح المرسلة، وسد الذرائع وإعطاء الوسائل في كثير من الحالات حكم المقاصد.(/14)
وهذا هو الطور الثالث الذي انتهى إليه تطور التعامل مع النصوص، وكان من نتيجته ميلاد أصول الفقه، التي تهدف إلى وضع ضوابط من شأنها أن تؤصل كيفية التعامل مع الكتاب والسنة، في استنباط الأحكام واستخراج المسائل، فاهتمت بدلالات الألفاظ الشرعية وتعريف الأحكام والمفاهيم وتعريف الأدلة الأصلية والفرعية، والتعادل والتراجيح[38].
أما الطور الرابع: فهو اقتصار كثير من الفقهاء على تقليد مذهب معين لا يجيزون لأنفسهم الخروج عنه، ولا الاقتباس من خارجه مما عطل نمو الفقه بمعنى الاستنباط، والتعامل مع المشكلات المتجددة في ضوء النصوص الشرعية، والأقيسة المطابقة للمعايير المقررة.
فقد آثرت أن أقسم تطور الفقه على ضوء تطور التعامل مع النصوص وبروز نوع من الأدلة بشكل أكثر ظهوراً في فترة معينة لأن ذلك هو حقيقة التطور الذي على ضوئه يمكن تقويم الحركة الفقهية بشكل أكثر وضوحاً.
وقد تعرض بعض المؤلفين في هذا العصر لأطوار الفقه فقسمها تقسيماً مشابهاً إلا أنه ليس مماثلاً في منطلقاته تماماً للتقسيم الذي ذكرته آنفاً.
فمن هؤلاء على سبيل المثال محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، في كتابه الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي.
وكذلك المستشرقة: بوجينا غيانة في كتابها تاريخ التشريع الإسلامي، فقد قسم الفاسي أطوار الفقه إلى أربعة أطوار:
الأول – طور طفولة الفقه وهو من أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته.
والثاني – سماه طور الشباب وهو زمن الخلفاء الراشدين إلى آخر القرن الثاني.
والثالث – سماه طور الكهولة إلى آخر القرن الرابع.
والرابع – سماه طور الشيخوخة والهرم وهو ما بعد القرن الرابع إلى زمانه مبيناً الأسباب الموجبة لتلك التطورات، مقدماً أمام كل قسم ملخص التاريخ السياسي لتلك المدة في الأمم الإسلامية بالإجمال[39].(/15)
هذا كلامه في مقدمته وهو كلام قد يكون مقبولاً لولا وصفه لطور النبي صلى الله عليه وسلم بطور الطفولة، فهو خطأ في العبارة وغلط في المضمون، فلو أطلق عليه كما أطلقنا طور التأسيس والكمال لكان أولى وأحق.
وأما المستشرقة بوجينا غيانا في كتابها تاريخ التشريع الإسلامي فقد تعرضت للأطوار الأربعة بشكل يختلف قليلاً عن سابقه إلا أنها في نهاية التقسيم وصلت إلى ستة أطوار:
فتقول:
في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان المرجع الأول، والأخير في أمور الدين...
ثم ذكرت الطور الثاني.
وهو ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الاجماع والقياس...
وذكرت جماعة من الصحابة ممن اشتهر بالفقه كالخلفاء الأربعة وذكرت الطور الثالث وهو عهد التابعين.
وذكرت الطور الرابع وهو طور التقليد، وطور الشيخوخة إلا أنها أوضحت أن بعض العلماء لم يرضخوا للتقليد ودعوا إلى الاجتهاد والتجديد وسمت ثلاثة منهم: العلامة ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية/ والشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله تعالى وأثنت على دعوتهم.
إلا أنها وصلت في النهاية إلى ستة أطوار:
1 - التشريع في عهده عليه الصلاة والسلام.
2 - في عهد الخلفاء الأربعة.
3 - بعد هذا العهد إلى أوائل القرن الثاني.
4 - من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع.
5 - من منتصف القرن الرابع إلى سقوط بغداد 656هـ.
6 - التشريع من سقوط بغداد إلى الآن.
هذا التقسيم أخذته من الشيخ محمد الخضري بك في كتابه تاريخ التشريع الإسلامي وأخذت تقسيمها الرباعي من الحجوي والأستاذ عبدالوهاب خلاف تاريخ التشريع الإسلامي لبوجينا من ص24 إلى ص33.(/16)
وفي العصر الحديث ظهرت بوادر مشجعة تشير إلى تنامي الوعي الفقهي، وظهور روح اجتهادية شوروية تعتمد على المجامع الفقهية التي أنشئت هنا وهناك وبدون أن أعلن تسمية ما يصدر عنها بإجماع فإنه يمكن أن يسمى بفقه جماعي، أو أن أطلق عليه فقه الشورى انطلاقاً من الأمر بالشورى الوارد في القرآن وما ورد في الخبر الذي رواه الطبراني بسنده يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه كيف نفعل في أمر لم نجده في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال: سلوا الصالحين واجعلوه شورى[40].
وفيه عبدالله بن كيسان وضعفه الجمهور، والضعيف يحتج به عند بعضهم في فضائل الأعمال بشروط والشورى من فضائل الأعمال.
وكذلك فإن ظهور موسوعات فقهية بدأت بمحاولة في الشام صدر قرار إنشائها سنة 1956م.
وبعدها الموسوعة المصرية، والموسوعة الكويتية وهي في طور التحرير والموسوعة الأردنية في طور النشوء وغيرها.
وكذلك قامت دعوات إلى تدريس في الفقه في الجامعات القانونية صادرة من مؤتمرات قانونية، كتلك الصادرة عن الندوة الأولى لعمداء كليات الحقوق بالجامعات العربية التي انعقدت في أبريل سنة 1973م، ببيروت.
أو الندوة الثانية لعمداء كليات الحقوق في العالم العربي التي انعقدت في بغداد سنة 1974م.
إلى غير ذلك من المؤتمرات كمؤتمر وزراء الداخلية والعدل، في الجامعة العربية.
هذه كلها مؤشرات للتطور الحديث الذي تشهده ساحة العودة إلى الفقه متمثلة في المجامع والموسوعات والندوات والمؤتمرات، وإذا ساعده ظهور بعض الدوريات والمجلات فإن من شأن ذلك أن يقدم ثروة لا يمكن تقديرها لفائدة فقهنا الإسلامي.
((مكانة الفقه))
مكانة الفقه بمختلف معانيه السابقة، مكانة منيفة ومنزلة شريفة، ولقد ذكرنا من الأحاديث عند كلامنا على معناه ما فيه كفاية، إلا أننا نضيف هنا بعض الإشارات إلى أهمية تعلم الفقه:(/17)
أولاً: قوله تعالى في سورة التوبة: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين...} الآية.
ففي هذه الآية إشارتان لطيفتان:
الأولى: إن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} الآية.
وهي تحض على النفير للجهاد، ثم قوبلت بآية تحض على النفير للتفقه في الدين، أو القعود عن النفير للتفقه حسب أوجه التفسير المعروفة في الآية.
وهذا يدل على أن طلب العلم والتفقه في الدين فرض كفاية.
الثانية: كلمة التفقه تدل على بذل الجهد، والتكلف والوسع في طلب الفقه كما يدل على فضل طلب الفقه.
حديث: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))[41].
وفي الحديث: ((ما عبدالله بشيء أفضل من فقه في دين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه)).
والحديث ((خير دينكم أيسره، وأفضل العبادة الفقه)) أخرجه بن عبدالبر من حديث أنس بسند ضعيف[42].
والحديث: ((إنكم أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه، قليل معطوه كثير سائلوه، العلم فيه خير من العمل))[43]... رواه الطبراني من حديث حزام بن حكيم عن عمه وقيل عن أبيه وإسناده ضعيف... وأخرجه أبو عمر بن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله.
وأخرج أبو عمر موقوفاً على ابن هريرة: لأن أجلس ساعة فافقه في ديني أحب إلي من أن أحيي ليلة إلى الصباح.
وروى عبدالرزاق عن معمر عن الزهري قال: ما عبدالله بمثل الفقه[44].
ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم[45].
ففضائل الفقه لا تحصى، ومزاياه لا تعد.
قال الحجوي: "الأمة الإسلامية لا حياة لها بدون الفقه، ولا جامعة تجمعها سوى رابطة الفقه وعقيدة الإسلام، ولا تتعصب لأي جنس فهي دائمة بدوام الفقه، ومضمحلة باضمحلاله".(/18)
إلى أن يقول: "فالفقه الإسلامي من مفاخر الأمة الإسلامية، كيف لا... وهو مؤسس على روح العدل والمساواة واحترام الملك لذوبه... وإحترام النواميس الطبيعية، وقد اعتبر درء المفاسد، كمقدمة على جلب المصالح، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، ولا ضرر ولا ضرار، وتقديم الأهم على المهم[46] وبنيت أحكامه على مصالح العباد وعلى التسهيل والتيسير {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} الآية".
الخلاصة
بعد استعراضنا أقوال العلماء حول تعريف الفقه لغة واصطلاحاً وتطور الفقه سواء من الناحية المصطلحية أو من ناحية المضمون ومكانة الفقه يمكن أن نستخلص ما يلي:
أولاً: كلمة الفقه في اللغة تعني الفهم والفطنة والإدراك، والعلم عند أكثر علماء اللغة وهي معان متقاربة ومتجاورة بعضها بالأصالة وبعضها بالتبعية.
فالفهم هو الأصل والعلم بالتبع من باب التعبير عن اللازم بالملزوم، فالعلم يلزم منه الفهم والفقه أيضاً هو فهم خفايا الأمور وخباياها.
والفقه يرجع في أصل معناه إلى الشق والفتح عند بعض اللغويين وهو قول تعرضنا له بالنقد والتمحيص.
كلمة الفقه تطورت من أصل في الجاهلية: هو فحل فقيه أي فطن يميز النوق الحوامل من الحوائل. إلى رجل فقيه أي فطن في الدين عالم بأسراره وفقيه أي مجتهد مستنبط للأحكام.
وأخيراً إلى فقيه حافظ لبعض المسائل الفقهية ولو لم يكن مجتهداً للفقه عند أكثر الأصوليين معنى قائم بالفقيه وهو العلم الحاصل له بأحكام الشريعة عامة منصوصة أو مستنبطة وهو قول جيد رجحه ابن عابدين.
علم حاصل عن طريق الأدلة القطعية وهو قول الكمال بن الهمام وقول إمام الحرمين في البرهان.
علم حاصل عن طريق الاستنباط والاجتهاد وهو قول السمرقندي وإمام الحرمين في الورقات وشارحاه العبادي والمحلي.(/19)
علم بالأحكام الشرعية العملية مكتسب من طريق الأدلة التفصيلية وهو قول تاج الدين بن السبكي وشروحه والغزالي في المستصفى والسمة المشتركة بين هؤلاء جميعاً أن الفقه هو صفة للفقيه وليس شيئاً مستقلاً عنه.
علم قائم بذاته وليس وصفاً قائماً بالمجتهد وهو علم من علوم الشريعة من عبادات ومعاملات وحدود، فالفقه هو نفس الأحكام وليس مجرد العلم بها على حد تعبير الشيخ مصطفى الزرقاء[47].
الفقه علم شامل للعقيدة والمعاملات والعبادات مرادف لعلم الدين، وهذا إطلاق كثير في كلام المتقدمين وهو الحقيقة الشرعية للفقه وهو الذي يجب المصير إليه وهو الحق إن شاء الله، فالحديث يقول: ... ورب حامل فقه ... وهو عام في الكتاب والسنة فقد يكون المحمول عقيدة كما قد يكون أحكاماً عملية فتخصيصه ببعض أفراده إنما هو تخصيص عرفي مصطلحي وقد نبه العبادي على أن هذا التخصيص ليس، مصطلحاً شرعياً وإنما هو مصطلح أصولي على أنه تردد في آخر كلامه.
وإنما تصرف الأصوليون في كلمة الفقه بالتخصيص ليصلوا بذلك إلى تعريف الفقيه وهو المجتهد الذي يتصف بالملكة الراسخة والفهم الصائب الذي ينفذ من خلاله إلى أغوار الشريعة فيدرك حكمها ومراميها يحمل النظير على النظير ويعرف حكم المفهوم من المنطوق، بصيراً بموارد الشريعة ومقاصد الشارع.
فهذا الذي يوصف بأنه فقيه أهل للاستنباط وعلمه القائم به هو الذي يوصف بأنه فقه وكأنهم أخذوا ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم ((رب حامل فقه غير فقيه))، فإنه يدل على أن الفقيه الكامل لابد أن يتصف بوصف زائد على التحمل كما يدل من جهة أخرى على إطلاق الفقه على رواية سائر علوم الدين.(/20)
وفي الختام فإن الفقه قد مر بأدوار وأطوار اقتضتها طبيعة الزمان وضرورة الأوان فخرج منها منتصراً وعلى مشاكلها مقتدراً وهو علم له منزلة رفيعة في معارج علوم الشريعة من أوسعها وأكثرها فائدة وأغناها وأطيبها مائدة فهو بحر لا يدرك له ساحل ومعين لا ينضب وفيه حل لكل مشاكل المعاملات ومسائلها يحافظ على الثوابت ويستوعب المتغيرات مرونة في غير ميوعه وثباتاً في غير جمود. دائم العطاء متسع الأرجاء فكيف وأصله الذي يستمد منه مادته وينال بفضله ديمومته كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسنة نبيه الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...
ــــــــــــــــــــ
[1] تاج العروس للزبيدي، جـ9، ص402.
[2] الفتح/ 1/ ص165.
[3] مقاييس اللغة 4/442 جـ21 تحقيق عبدالسلام محمد هارون، مصطفى البابي الحلبي.
[4] الزمخشري، الفائق، البابي الحلبي، جـ3، ص134.
[5] (تاج العروس) للزبيدي جـ9 – ص402.
[6] الزمخشري، الفائق، البابي الحلبي، جـ3، ص134.
[7] عن نشر البنود على مراقي السعود للشنقيطي 1/115.
[8] نفسه ص111.
[9] المرجع السابق ص19، ويراجع إرشاد الفحول للشوكاني ص16.
[10] إعلام الموقعين 1/219.
[11] موسوعة الفقه المصرية.
[12] التاج 7/49.
[13] التاج 1/144.
[14] هود الآية 91.
[15] الإسراء الآية 44.
[16] الإنعام من الآية 65.
[17] الفتح 1/164 – 165.
[18] الموافقات للشاطبي 1/5 إلى آخر القصة.
[19] فيض القدير على الجامع الصغير – المناوي جـ6.
[20] الفتح 1/164 – 165.
[21] القرطبي 8/296.
[22] نفسه...
[23] الموسوعة المصرية 1/11 مع تصرف.
[24] البرهان 1/85 – 86.
[25] الموسوعة المصرية، ص11 وما بعدها.
[26] ميزان الأصول – قطر، ص9 – 10.
[27] الموسوعة المصرية، 1/60.
[28] إرشاد الفحول – 12، 13، 14 – انتهى منقولاً بالمعنى وباختصار شديد.(/21)
[29] نشر البنود 1/19 ومن المعلوم أن الشنقيطي يعتمد في نظمه غالباً على جمع الجوامع لابن السبكي، ولفظ جمع الجوامع (والفقه العلم بالإحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية) جـ1، ص32 – 33 بشرح المحلي وحاشية البنان.
[30] إحياء علوم الدين. جـ1، ص28.
[31] بدر الدين الزركشي، المنثور في القواعد، تحقيق الدكتور: تيسير فاتق أحمد محمود، ط1، 1402هـ، نشر: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت، جـ1، ص67 – 72.
[32] يرجع إلى مقدمات ابن رشد الكبير، ص14.
[33] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، محمد بن حسن الثعالبي الفاسي، ص22.
[34] المقدمات الكبرى لابن رشد، ص20 – 21.
[35] التحرير والتحرير 2/295.
[36] إعلام الموقعين 1/31، 77.
[37] المدارك للقاضي عياص 1/68 و71.
[38] يراجع في هذا المحلى على جمع الجوامع للسبكي 1/ص23، وما بعدها.
[39] محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، مقدمة كتابه السابق الذكر.
[40] الغزالي – إحياء علوم الدين، تعليقات الزين العراق على الأحياء. جـ1 ص20 مطبعة دار الكتب الكبرى.
[41] يراجع في ذلك كله: القرطبي – في التفسير 8/294 – 295، والتحرير والتنوير لابن عاشور 11/61 – 62.
[42] الطبراني في الأسطب، وأبو بكر الآجري في فضل العلم، وأبو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف الزين العراقي على الإحياء ص7.
[43] نفسه.
[44] جامع بيان العلم وفضله: 24.
[45] التحرير والتنوير 11/62.
[46] الحجوي ص14.
[47] المدخل الفقهي جـ1، ص60.(/22)
العنوان: الفقه الإسلامي ودوره الرائد
رقم المقالة: 401
صاحب المقالة: عثمان العياري
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
الفقه لغة: الفهم، ومنه الآية الكريمة "وطبع على قلوبهم فهم لا يفهمون"[1].
وأما في الاصطلاح، فقد خص بالفقه علم فروع الشريعة.
وسمى العالم به فقيهاً.
والفقه عند الفقهاء هو ((العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المكتسب من أدلتها التفصيلية)).
1 - الفقه ((علماً)) استعمل الفقهاء أحياناً كلمة العلم بمعنى الفهم والمعرفة. ولكن لا ريب أيضاً في أنهم درسوا الفقه على أنه ذو موضوع خاص وقواعد خاصة، بوجه نسبتين منه أنهم اعتبروه علماً بالمعنى الذي نعرفه اليوم. وهذا موافق للرأي الحديث السائد. وموضوع هذا العلم، يتلون بالآراء الاجتماعية، ويتأثر بظروف البيئة وبمظاهر الحياة الإنسانية، فلهذا اعتبره بعض القدماء فناً..
2 - الفقه علم ((بالأحكام الشرعية)) والحكم الشرعي: هو ((خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية)). وبعبارة أخرى، هو عند الأصوليين: ما خاطب به الشارع الناس المكلفين من طلب، أو تخيير، أو وضع، يتعلق بأفعالهم. أو هو القاعدة التي نص عليها الشرع في مسألة من المسائل.
وأن الحكم الشرعي يفترض وجود الحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه. فالحاكم معناه الشارع، وهو الله عز وجل لأنه مصدر الأحكام الأول في الشرع الإسلامي. والمحكوم فيه: هو الفعل الذي يتعلق به الحكم الشرعي. والمحكوم عليه هو الإنسان المكلف بالحكم الشرعي.
ويشترط أن يكون عاقلاً أهلاً للتكليف. وثمة عوارض تؤثر على أهلية التكليف. وهي إما سماوية، تقع من دون اختبار الإنسان، كالصغر والجنون والعته والنوم والمرض والموت والنسيان، وإما مكتسبة بفعل الإنسان كالسكر والهزل والسفه والتبذير والخطأ والجهل والسفر والإكراه.(/1)
ثم إن الحكم الشرعي نوعان: تكليفي ووضعي. فالتكليفي: هو ما كان أثره يتعلق بالاقتضاء والتخيير. وتقسم الأفعال من هذه الناحية إلى واجب ومندوب ومباح ومكروه وحرام. فالواجب: هو المطلوب فعله شرعاً مع الذم على تركه.
ثم الحرام: هو المطلوب تركه شرعاً مع الذم على فعله.
ثم المندوب: هو المطلوب فعله شرعاً من غير ذم على تركه مطلقاً.
ثم المكروه: هو المطلوب تركه من غير ذم على فعله.
وأخيراً المباح: هو ما كان المرء مخيراً فيه بين الفعل والترك من غير بدل. مثلاً الآية الكريمة "وأحل الله البيع وحرم الربوا"[2].
فالبيع: حكم تكليفي مباح، والربا: حكم تكليفي حرام أو محظور وهكذا.
أما الحكم الوضعي، فهو ما كان موضوعاً كسبب أو شرط أو مانع للأفعال أو ما يترتب على هذه الأفعال من صحة أو بطلان أو رخصة أو عزيمة.
وأمثلة توضح ذلك:
يقال: إن القتل سبب القصاص، ومعناه أن القصاص هو الحكم الوضعي لفعل القتل، لأنه سبب له. وكذلك يعتبر تسليم المبيع شرطاً في عقد البيع لأنه من شروط إيفاء العقد. ويعد خيار العيب في المجلة مانعاً من لزوم البيع، لأن العيب في المبيع، أي الصفات التي تنقص قيمته، لما كانت تعطى المشتري حق فسخه، فهي تمنع من اعتبار البيع لازماً. ثم ان بيع الراشد صحيح، وان بيع المجنون باطل، بإذن حكم الأول الوضعي هو الصحة، وحكم الثاني: البطلان ثم من أمثلة الرخصة الضرورات، فحكمها الترخيص وإباحة المحظورات وأخيراً، العزيمة هي ما جوز في الأصل من الأحكام، كما نرى في العقود المشروعة مثلاً. أما كلمة ((الفرعية)) في التعريف: فيقصد بها أن الأحكام الفقهية تتعلق بالمسائل العملية الناتجة من أفعال المكلفين في معاملاتهم اليومية. ولذا سميت أحكام هذه المسائل بالفروع لتفريقها عن الأصول، وهي الأدلة الشرعية موضوع علم أصول الفقه.(/2)
3 - إن علم الفقه ((مكتسب من أدلة الأحكام التفصيلية)) ومعناه أن على الفقيه أن يسند الأحكام الشرعية بالنظر والاستدلال إلى مآخذها والمصار التي تؤيدها وتثبتها. فلذا سمي المصدر في الاصطلاح الشرعي دليلاً أو أصلاً.
إن الشريعة أو الشرع عند المسلمين: هو ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الآية الكريمة "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى"[3].
"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً"[4].
"ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون"[5].
فالشارع الأول إذن هو الله (عز وجل) الذي أنزل مبادئ الشريعة الإسلامية بما فيها من دين ومن قضاء. فكان طبيعياً أن يبحث علم الفقه أو علم فروع الشريعة في العبادات وفي المعاملات جميعاً وأن يعد الأصوليون هذا العلم من العلوم الدينية.
وكان طبيعياً أيضاً أن ترتبط أمور المعاملات بالدين في أصولها ومآخذها وفي أحكام التفسير والاجتهاد، وما إلى ذلك من مناهج التفكير والتحري والاستدلال.
والحاصل أن الشريعة الإسلامية شريعة إلاهية بمصادرها وأحكامها الأولى.
وتنقسم مسائل علم الفقه الإسلامي إلى قسمين كبيرين. أحدهما: قسم العبادات: وهو حق الله تعالى الذي يتعلق بأمور الآخرة، من إيمان وصلاة وزكاة وصيام وحج.. والقسم الثاني: حق العباد الذي يتعلق بأمور الدنيا، وهو ينقسم بدوره إلى عدة أقسام أشهرها: العقوبات والمناكحات والمعاملات. وزاد الغزالي قسماً ثالثاً لعلم الفروع، وهو علم الأخلاق الذي يتعلق بحق النفس. ولكن هذا القسم لم يبحث فيه الفقهاء في كتب الفقه العامة، بل بحثوا فيه على حدة، كما فعل الغزالي نفسه في كتاب إحياء علوم الدين:
فقسم العقوبات يبحث في الجنايات والجرائم، كالقتل والسرقة والزنا وشرب الخمر والقذف، وفي عقوباتها ومتفرعاتها، كالقصاص والحدود والديات.(/3)
ثم قسم المناكحات يشمل الزواج والطلاق وما تفرع عنهما، كالعدة والنسب والنفقة والحضانة والولادة والوصاية والإرث وغيرها.
ثم قسم المعاملات أخيراً يبحث في الأموال وما يتعلق بها من حقوق والتزامات وعقود، كأحكام البيوع والإجارة والهبة والإعارة والوديعة والكفالة والحوالة والشركة والصلح والغصب والإتلاف وما شابه ذلك.
وقَسَّم بعضهم المسائل الفقهية إلى ثلاث: العبادات والعقوبات والمعاملات. ثم قسموا مسائل المعاملات إلى مناكحات، ومعاوضات مالية، وأمانات، ومخاصمات.
ومن يتصفح الكتب الفقهية الإسلامية يجدها متشابهة في أسلوبها وتبويبها بوجه عام. فهي جميعاً تبتدئ بقسم العبادات. ثم تنتقل إلى باقي الأقسام، من عقوبات ومناكحات ومعاملات، فتبحث في أبوابها المتعددة على ترتيب يختلف أحياناً باختلاف المؤلفين ولكنه على كل حال ليس فيه التفريق الواضح بين أبواب هذه الأقسام الثلاثة. وفوق هذه الأقسام، نجد في الكتب الفقهية أقساماً أخرى أهمها المخاصمات والسير والأحكام السلطانية. فيشمل القسم الأول مسائل القضاء والدعاوي والبينات. ويبحث قسم السير (جمع سيرة) في أحكام الجهاد والغنائم والأمان وعقد الذمة واختلاف الدين واختلاف الدارين، أي أحكام الحرب والسلم واختلاف الجنسيات وأخيراً يبحث قسم الأحكام السلطانية في الخلافة والسلطات العامة والوزارة والولاة والجيش والضرائب، كالجزية والعشر والخراج.
والدور الأول في تاريخ التشريع الإسلامي هو عصر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد بدأ ببداية رسالة النبي سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم سنة 610م وانتهى بوفاته صلى الله عليه وسلم سنة 632م.(/4)
وفي هذا الدور كان الكتاب، أي القرآن الكريم، مصدر التشريع الأساسي. وهو وحي من الله تعالى لهداية الناس أجمعين. وكانت مدة تنزيل القرآن الكريم اثنتين وعشرين سنة ونيف، منها اثنتا عشر سنة تقريباً في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية، والباقي في المدينة المنورة بعد هجرة النبي إليها صلى الله عليه وسلم.
وإلى جانب هذا المصدر الأساسي للتشريع، أضيف في هذا الدور مصدر آخر هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أي ما صدر عنه من حديث أو فعل أو تقرير.
وقد وضع القرآن الكريم والسنة أساس الدين والتشريع الإسلامي.
فنصَّا على مبادئ الإيمان والعبادات، وعلى قواعد الدعوة الإسلامية، ونظام العائلة، والمعاملات، والعقوبات. ومن أهم هذه المبادئ ما يلي:
أولاً: وجوب تقيد الحاكم بالمصلحة العامة وبالنصوص المقدسة.
ثانياً: الأمر بالعدل والإحسان، والمساواة، والأخوة الإنسانية.
ثالثاً: منع الحرب الاعتدائية وإباحة الحرب الدفاعية، والحض على السلم.
رابعاً: تحسين حالة المرأة والقاصرين.
خامساً: حرمة الملكية الفردية، وواجب الوفاء بالعقود، ومنع الغش والاحتيال.
سادساً: التفريق بين حق الله أو الحق العام، وحق العباد أو الحق الشخصي في مسائل العقوبات.
هذه بعض المبادئ العامة، التي أدخلها الإسلام على عادات العرب القديمة.
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بقي أهل الفتيا من الصحابة يُفْنُون ويحكمون فيما يعرض عليهم من الحوادث والقضايا على حسب القرآن والسنة.(/5)
وكانوا في ذلك يتشاورون فيما بينهم، ويأخذون بالإجماع أو القياس عند عدم النهي. فنشأ من ثم الإجماع والقياس كمصدرين إضافيين للتشريع. على جانب الكتاب والسنة. وبذلك صارت المصادر الرئيسية المعروفة أربعة، وقد قام أولاً بالفتيا والقضاء الخلفاء الراشدون، أبو بكر الصديق وعمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وأخص بالذكر منهم عمر الفاروق، الذي كان المؤسس الأكبر للدولة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وسلم والذي نظر إلى روح الشريعة الحقيقية، ونفَّذها بحزم وقوة، وعدل إحسان، ونَظَّم الدولة والدواوين وفق حاجات الزمن وتطوره.
وفي عصر الصحابة والتابعين، تفرق بعض هؤلاء في الأمصار الإسلامية المختلفة. فاشتهر منهم كثيرون أمثال عبدالله بن عباس في مكة، وزيد بن ثابت وعبدالله بن عمر في المدينة، وعبدالله بن مسعود في الكوفة، وعبدالله بن عمرو بن العاص في مصر. وقد غلب على كل بلد فتاوي من كان فيه من الصحابة أو التابعين.
وقد جمع القرآن الكريم في هذا الدور زيد بن ثابت بأمر أبي بكر الصديق. ثم جمع في عهد عثمان بن عفان عام 650م على قراءة واحدة ومصحف واحد. أما السنة فإنها لم تجمع في هذا الدور، بل لقيت تنقل برواية المحدثين من دون تدوين.
وقد انتهى هذا الدور الثاني من تاريخ التشريع الإسلامي في أوائل القرن الثاني للهجرة (الثامن للميلاد). وهذا الدور الثاني من تاريخ التشريع الإسلامي هو عصر الخلفاء الراشدين والأمويين.
وابتدأ دور العصر الذهبي العباسي في أوائل القرن الثاني للهجرة، (الثامن للميلاد) وانتهى في منتصف القرن الرابع (العاشر للميلاد). وهو العصر الذهبي في الدولة العباسية.(/6)
ففي هذا العصر ازدهرت الدولة في جميع النواحي الاقتصادية والعلمية فازدهر علم الفقه، وتعددت المذاهب الفقهية، فانقرض بعضها بزوال أتباعها، وبقي البعض الآخر وذاع شيئاً فشيئاً. واشتهر من المذاهب السنية أربعة، وهي الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.
وكذلك جمع الحديث في هذا الدور، ودونت المجموعات الشهيرة وكتبت تفاسير القرآن الكريم، وصنفت الكتب العديدة في فروع الفقه وأصوله. وهكذا درس الفقه على أساس علمي في علوم عديدة هي علم التفسير وعلم مصطلح الحديث وعلم الأصول وعلم الفروع.
وعلى الجملة، انقسم الفقهاء عند أهل السنة طائفتين كبيرتين.
أحداهما: طائفة أهل الرأي في العراق برئاسة أبي حنيفة النعمان.
والثانية: طائفة أهل الحديث في الحجاز برئاسة مالك بن أنس.
وقد اشتهر بذهب الحديث بالتمسك بالسنة النبوية، وبالنفور عن الرأي والاجتهاد. وسببه أن البلاد الحجازية كانت مهد السنة وموطن الصحابة. فكان فقهاؤها أعلم بها من غيرهم. هذا إلى أن أهلها كانوا لا يزالون على بساطة من العيش. فكانت الفتيا المستمدة من النصوص الشرعية، ومن إجماع الفقهاء كافية للفصل في منازعاتهم.
ولم يكن بالتالي من احتياج إلى التوسع في الاجتهاد والاستنباط. أما في العراق، فكان الأمر على العكس من هذا. فكانت هناك مشكلات عديدة، ووقائع متجددة. وكان الفقهاء لا يأخذون من الأحاديث إلا قليلها، بسبب بعدهم عن أرض الحديث، وما يتبع ذلك من تفشي الكذب في روايته. وكانوا يرجعون في كثير من المسائل الفقهية إلى تحكيم العقل والرأي، وإلى الاجتهاد بالقياس والاستحسان.
وقد توسعوا في ذلك وأفرطوا في التوسع، حتى تعرضوا لمسائل فرضية محضة.(/7)
منذ أواخر الدولة العباسية، توقف ازدهار علم الفقه، واكتفى الفقهاء بتدوين المذاهب، وبحصر اجتهادهم في المسائل الفرعية. ومنذ أوائل القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد) أجمع الفقهاء السنيون إجماعاً ضمنياً على سد باب الاجتهاد، خوفاً من الاضطهاد، وعلى الاكتفاء بالمذاهب الأربعة المعروفة.
ثم تقهقرت المدنية العربية شيئاً فشيئاً، وأصابها الجمود في جميع نواحيهاً، فاستتبع ذلك تفشي التقليد، وتوقف الاجتهاد في الفقه. واكتفى الفقهاء باختصار الكتب الشرعية، ثم بشرح هذه المختصرات، وبتدوين كتب الفتاوي، لا سيما في المذهب الحنفي.
ولكن على الرغم من ذلك، فقد ترك المتأخرون بعض الكتب الفقهية القيمة، وحفظوا كثيراً من تراث الأئمة الأولين.
وفي عصر التقليد الذي مر معنا، كثر انتشار البدع والخرفات المبنية على الوهم والجهل، وجمد الناس في تفكيرهم، حتى أنهم تقيدوا باجتهاد بعض الأولين، تاركين روح الشريعة الأصلية.
لذلك كان من الفقهاء المسلمين من لم يقبل بهذا التقليد، فقاموا يعلنون لزوم الاجتهاد، والرجوع إلى مصادر التشريع الأصلية أي القرآن الكريم والسنة وحدهما. فلذا سمي مذهبهما بمذهب السلف الصالح.
ومن هؤلاء المجددين: تقي الدين بن تيمية، وابن قيم الجوزية، من الفقهاء الحنابلة في القرن الثامن للهجرة (الرابع عشر للميلاد).
ثم سار على خطتها في القرن الثاني عشر للهجرة (الثامن عشر الميلادي) محمد بن عبدالوهاب في الجزيرة العربية.
وأخيراً قام في القرن التاسع عشر جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده وتلامذتهما، ودعوا إلى نبذ التقليد، وإلى توحيد المذاهب، والرجوع إلى مصادر الشريعة الأصلية، والابتعاد عن البدع والخرافات. وكانت نتيجة ذلك دراسة الشرع الإسلامي على ضوء نصوصه الأصلية، وعلى ضوء حاجات المدنية العصرية.(/8)
بعد هذه النبذة المختصرة عن تطور التشريع الإسلامي، لابد لنا من كلمة في الأسلوب الذي اتبعه الفقهاء في دراساتهم الشرعية.
فالخلاف الظاهر من هذه الناحية كان بين طريقة أهل الرأي وطريقة أهل الحديث. ومثل يوضح نوع هذا الخلاف، وهو يتعلق بتفسير الحديث الشريف: "لا تبيعوا التمر حتى يبدو صلاحه". فقال أهل الحديث: إن الصلاح معناه ظهور النضج وبدو الحلاوة، وأنه من ثم لا يجوز بيع ما سيبرز من الثمار مع ما برز تبعاً له. أما عند أهل الرأي، فهذا بيع جائز، لأن الصلاح عندهم معناه أمن العاهة والفساد.
وإذا أردنا سرد المذاهب السنية بالقياس إلى درجة توسعها في الرأي، وجب وضع المذهب الحنفي في المركز الأول، ووضع المذهب الظاهري في الطرف الأخير، ثم وجب ترتيب باقي المذاهب السنية المعروفة كما يلي:
الشافعي فالمالكي ثم الحنبلي. ولابد من الإشارة إلى أن هذا الترتيب ليس إلا تقرباً إجمالياً. إذ برغم ذلك، ليس من النادر أن نرى هذا الترتيب معكوساً، أو مختلفاً في بعض المسائل مثاله: سنرى في مسألة قبول الشاهد الواحد أن المذاهب الحنبلي أكثر توسعاً من المذهب الحنفي. وهكذا.(/9)
غير أن هذا التباين بين أئمة المذاهب المختلفة لم يدم على هذا النحو بين تلامذتهم. إذ أن كثيرين من تلامذة الإمام الواحد قد رحلوا إلى الأمصار الأخرى، واتصلوا بالأئمة الآخرين وبتلامذتهم وأخذ كل فريق عن الفريق الآخر الشيء الكثير. وكان بينهم جدال وحوار ومناظرات فأسفر ذلك كله عن اتجاه جديد يرمي إلى تقريب النظريات المتعارضة، وإلى مزج طريقة أهل الحديث بطريقة أهل الرأي. فاستتبع هذا الاتجاه ظهور أئمة وتلامذة من الطريقتين معتدلين ومتوسطين، كما تلمس في مذهب الإمام الشافعي الجديد، وفي فتاوي أبي يوسف الطحاوي وغيرهم. حتى أننا نرى في الكتب الحنفية أحاديث عديدة لم يقبل بها أهل الحديث، ونرى في مذاهب أهل الحديث توسعاً ظاهراً في الاجتهاد كدليل المصالح المرسلة عند المالكيين، وكالاتجاه العقلي الملموس عند مجددي المذهب الحنبلي، أمثال بن تيمية وابن قيم الجوزية.
ومن الأمور الظاهرة في تعدد المذاهب الإسلامية أن الطريقة التي اتبعها الفقهاء في اجتهادهم واستدلالهم هي الطريقة التحليلية فيما يتعلق بالنصوص، والطريقة الاستقرائية فيما لا نص عليه. أي أن الفقهاء كانوا يأخذون النص كقاعدة، ثم يفسرونه ويحللونه ويستخرجون منه النتائج والفروع. أما إذا لم يكن من نص في المسألة، فإنهم كانوا حذرين يقظين، خائفين في البدأ من وضع القواعد العامة، لئلا يصطدموا بالنصوص المقدسة. فكانوا يدرسون القضية التي تعرض عليهم، أو التي كانوا يستعرضونها أثناء أبحاثهم ويجتهدون في استنباط الحل اللازم بالقياس أو الإجماع أو غير ذلك من الأدلة الشرعية. فكان اجتهادهم مبنياً على الاستقراء والخبرة وعلى التأني والحذر. وهذا هو السبب في أن الفقهاء المسلمين بوجه عام درسوا نظرية الجرم ونظرية العقد في أبواب الجرائم والعقود المختلفة. ولكن هذا لم يمنع المتأخرين منهم عن استخلاص القواعد الحقوقية الأساسية ودرسها درساً علمياً مستفيضاً.(/10)
وعلى الإجمال، لم يكن الخلاف بين المذاهب المختلفة خلافاً على المبادئ والتعاليم الأساسية، بل كان بوجه عام واقعاً على الفروع بمناسبة تطبيق المبادئ على القضايا العملية، فإذن، بوجه عام يعتبر اختلاف المذاهب شبيهاً باختلاف المحاكم اليوم في تفسير بعض النصوص أو القواعد عند تطبيقها على الدعاوى المعروضة عليهم.
ونحن نورد مثلاً على ذلك لنرى نوع الخلاف في هذا الأمر فقد اتفق الفقهاء على أن غاصب الشيء يلزمه أن يرده عيناً، وعلى أنه إذا استهلك الغاصب الشيء أو تلف أو ضاع، كان عليه إعطاء مثله إن أمكن وإلا فإعطاء قيمته. ولكن، لما كانت القيم والأسعار تتقلب مع الزمان والأمكنة، وجب تحديد الوقت والمكان اللذين ينظر إليهما عند تعيين قيمة المغصوب. فقال الحنفيون أن ينظر في ذلك إلى زمان حصول الغصب ومكانه. واعتمد الحنبليون وقت حصول التلف ومكانه. أما في المذهب الشافعي، فيضمن الغاصب المغصوب بأقصى قيمته من وقت الغصب إلى التلف. هذا مَثَلٌ عن اختلاف المذاهب. فالجميع متفقون على أن الغاصب يلزمه دفع القيمة عند تعذر أداء المثل، ولكنهم اختلفوا في التفصيلات المتعلقة بطريقة تقدير هذه القيمة ليس إلا.
وهكذا نرى أن اختلاف المذاهب، بوجه عام، كان اختلافاً في تطبيق القاعدة على القضايا العملية، شبيهاً باختلاف المحاكم اليوم في اجتهادهم القضائي.
قُلْتُ بوجه عام، لأن الاختلاف وقع على المبادئ أيضاً في بعض المستثنيات القليلة.
وأنه ليجدر بنا الوقوف لحظات وقفة عبرة وتأمل، وإلقاء نظرة خاطفة على هذا التراث العظيم الذي خلفه لنا فقهاء الإسلام في فجر انبعاث حركة التأليف، وانتشار المذاهب الفقهية، وما صنف فيها من مصنفات جليلة دلت على عظمة هذا المنتوج الذهني المستمد من تشريع سماوي مصدره الأول القرآن الكريم، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام.(/11)
والتاريخ يحدثنا أن حركة التأليف في التشريع لم يكن لها وجود في العصر الأول للإسلام، أي عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان القرآن ينزل منجماً فيدون، أما السنة فتحفظ.
ثم كان الناس يجتهدون ويقيسون الأحكام، وما لم يوجد فيه نص صريح من قرآن أو سنة، وقع الرجوع فيه إلى إعمال الرأي، والاستنتاج والاستنباط.
ولما فتح المسلمون عدة أقطار، وانتشر الإسلام، وقع الاحتياج إلى التدوين والتصنيف، وبرز عدة فقهاء ألفوا عدة كتب، نذكر منهم بالأخص أبا بكر عمر بن حزم الأنصاري، المتوفي سنة 120هـ. ومحمد بن محمد بن مسلم بن عبيدالله ابن شهاب، المتوفي سنة 124هـ.
ثم لما كثرت تفاريع التشريع، ونمت ملكة التفقه بسبب حركة الفتوحات، والتبسط في العمران، واختلاف البيئات والمجتمعات والنمو الاقتصادي، كان لزاماً أن تحدث الخلافات في الرأي وفي الاستنباط، واحتيج إلى توحيد العمل، وإلى تدوين الفتوى، وإرساء نظام خاص لقواعد القضاء، ونادى المنادي يوضع الكتب لهذه الغايات إجتناباً للفتنة، وحرصاً على عدم الانقسام، فكتب مثلاً ((ابن المقفع رسالته المشهورة إلى الخليفة ((أبي جعفر المنصور)) يقول فيها: "فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية رأيه، ونهى عن القضاء بخلافه وكتب في ذلك كتاباً جامعاً"... إلخ.
ولما حج ((أبو جعفر المنصور)) والتقى بالإمام ((مالك)) رحمه الله قال له: "يا مالك، لم يبق عالم غيري وغيرك. أما أنا فقد اشتغلت بالسياسة، وأما أنت فضع للناس كتاباً في السنة والفقه، تجنب فيه رخص ابن عباس، وتشديدات ابن عمر، وشواذ ابن مسعود، ووطئه توطئة".
فألف مالك ((الموطأ)) وكان أول ما ظهر للناس في الفقه قال فيه الإمام الشافعي رضي الله عنه ((ليس بعد كتاب الله أصح من كتاب الموطأ لمالك)).(/12)
وانطلقت حركة التأليف في الفقه الإسلامي بعد ذلك فألف ((أسد ابن الفرات)) كتاب ((الأسدية)) وهو مختصر لمدونه مالك. وألف عبدالسلام ((سحنون)) مدونته أيضاً، التي اختصرها عبدالله ((ابن أبي زيد)) النفزي وألف ((أبو حنيفة)) كتاب ((الفقه الأكبر)) وألف تلميذه ((أبو سيف)) عدة كتب ذكرها صاحب الفهرست، منها ((كتاب الحدود)) و((كتاب الوكالة)) و((كتاب الفرائض)) و((كتاب الوصايا)) ومن أشهر كتبه التي بقيت مرجعاً ممتازاً لكل الدارسين والباحثين ((كتاب الخراج)) في ضبط النظم الإدارية للدولة الإسلامية والضرائب.
وألف الشافعي ((كتاب الأم)) الذي حوى بحوثاً فنية اعتبرت بحق فتحاً في التأليف الفقهي.
ولقد كان لقطرنا التونسي الفخر كل الفخر، بظهور فقهاء الفوا في الفقه كتباً عزيزة خالدة، نذكر منها:
مدونة سحنون، وأسدية ابن الفرات، فاتح صقلية، وكتاب الفائق في معرفة القضاء والوثائق، لابن راشد القفصي، وشرح المدونة لابن ناجي القيرواني، وكتاب الأحكام للقاضي ابن عبد الرفيع وكتاب الإمام عمر بن عبدالسلام على جامع الأمهات لابن الحاجب وكتاب الحاوي للفتاوي للإمام البرزلي، وكتاب أحكام السوق ليحيى بن عمر دفين سوسة، الذي يتحدث فيه عن نظام الحسبة في الإسلام وكتاب أحكام السماسرة لتلميذه محمد الأبياني.
ولقد كان لهذا البلد الكريم الفخر والمجد بأن أخرج فحولاً من الفقهاء يشار إليهم بالبنان، وسجل التاريخ أسماءهم بأحرف من نور. نخص منهم بالذكر الإمام المازري: أبا عبدالله محمد بن علي بن عمر التميمي. أصله من مازرة من بلاد صقلية، نزل المهدية من الجمهورية التونسية. وهو من أكبر علماء المالكية، وصل إلى مرتبة الاجتهاد، وكان – إلى جانب تفقهه في التشريع – أديباً وعالماً بالطب، يفزع إليه في علم الأبدان، وفي علم الأديان.(/13)
قال في الديباج: يحكى أن سبب تعلمه الطب، ونظره فيه، أنه مرض فكان يطببه حكيم من اليهود، قال له يوماً: "لا أجد قربة أتقرب بها في ديني مثل أن أسعى إلى أن يفقدك المسلمون".
فسعى الإمام من وقتها في تعلم الطب. وكان قلمه في العلم أبلغ وأفصح من لسانه، ألف في الفقه والأصول، وشرح صحيح الإمام مسلم شرحاً سماه: ((المعلم، بشرح مسلم)) وشرح كتاب القاضي عبدالوهاب في الأصول، وبشرح البرهان، في الأصول أيضاً، وسماه: ((إيضاح المحصول من برهان الأصول)).
وتوفي في ربيع الأول من سنة، 536هـ، وقد نيف على الثمانين وكانت وفاته بالمهدية ومنها نقل إلى المنستير ودفت بمقبرتها، ثم لما امتد البحر وكاد أن يغمر المقبرة، نقل جثمانه إلى مكانه الآن داخل مدينة المنستير.
وقد ترجم له ((ابن فرحون)) المالكي[6].
كما ترجم له الشيخ مخلوف في كتاب شجرة النور الذكية.
وذكره ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى أثناء ترجمة الإمام الغزالي وأثنى عليه.
كما ذكر أيضاً من فقهاء المنستير: الشيخ أبا الحسن حسن بن محمد الخولاني الكانشي، المتوفي بالمنستير سنة 347هـ.
ومن علماء وأدباء المنستير الشيخ محمد زيتونة، المولود بالمنتسير سنة 1081، ومنها انتقل إلى تونس العاصمة، فأخذ العلم عن علماء عصره وتبحر في علمي المعقول والمنقول، ودخل المشرق، وباشر التدريس هناك، ثم رجع إلى تونس، وولي مشيخه المدرسة المرادية بعد مناظرة مع منافسيه. وله تآليف كثيرة، منها: حاشية على الوسطى في جزأين، وشرح على ((البيقونية)) في مصطلح الحديث وشرح على ((السلم)) في المنطق.
توفي بتونس سنة 1138هـ، ودفن بمقبرة الزلاج. وقد ترجم له الشيخ ((محمد النيفر))[7].
ومن العلماء الادباء المتأخرين أيضاً من أبناء المنستير، نذكر الشيخ أبا عبدالله محمد بن عمر سعادة.(/14)
ولد بالمنستير سنة 1088هـ، وبها نشأ، ثم قدم إلى تونس فأخذ من فقهائها، ومنها هاجر إلى القاهرة، وتتلمذ بالأزهر على عدة شيوخ، منهم محمد الزرقاني ومنصور المنوفي..
وكان فقيهاً أصولياً، ولي قضاء الحاضرة، والفتوى على المذهب المالكي. وكان أيضاً أديباً، شاعراً ناثراً.. قرض شرح ((التسهيل)) لعلي باشا الأول نثراً ونظماً، وله تآليف منها: حاشية على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، وله نظم بديع في مناسك الحج.. توفي سنة 1171هـ وترجم له الشيخ النيفر[8].
ومن فقهاء المنستير المعاصرين نذكر الشيخ ((محمد مخلوف)) قاضي المنستير، المتوفي منذ أعوام قليلة. ولعل الكثير من كهول البلاد فضلاً عن الشيوخ يعرفونه، وهو مؤلف كتاب التراجم الشهير: ((شجرة النور الزكية)) وذيلها وهما مطبوعان.
وبالجملة فإن مادة الفقه الإسلامي قد كان لها شأنها ووزنها، في صدر الإسلام، وفي شبابه وأيام انتشاره وشمول حكمه لعدة أقطار وأن هذه المادة كانت تحكم تلكم البلاد، بما سنته من قواعد، وضبطته من أحكام، وأن علماء الإسلام اشتغلوا بها، وألفوا فيها المؤلفات الضخمة التي أصبحت فيما بعد مرجعاً يرجع إليه، ومصدراً يعتمد عليه.(/15)
وعسى أن نجد من همم رجالات الإسلام وفقهائه عناية كبرى بإبراز تلكم المادة الخام، وإظهارها للناس، وإجراء المقارنات بينها وبين هذه القوانين العصرية، ليعلم الكل مدى صلوحية فقهنا لعصرنا ولكل العصور، وليعلم الكل مدى ما أخذت عنه تلكم القوانين الوضعية من أحكام وقواعد، مغفلة النسبة، متحاشية ذكره، لغرض في النفس وحتى نتمكن بعد الدراسة والتمحيص من الوقوف أمام التحديات المعاصرة وحل كافة المشاكل الحاضرة في ظل ذلك التشريع الحنيف – ونذكر باعتزاز وفخر، أن فقهنا الإسلامي تأثرت به عدة تشريعات، واقتبست منه عدة قوانين، ومن أهمها: القانون الفرنسي، الذي كان الفضل فيه لرجوع ((نابليون بونابرت)) من حملته على مصر، واطلاعه على الفقه الإسلامي هناك، واشتغاله بتدوين أحكامه، حتى ظهرت آثار ذلك فيما سن من تشريع بعد ذلك.
وقد اعترف بهذه الحقيقة شاهد من أهلها. يقول الفقيه الفرنسي ((لامبار)): "تعتبر نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي أشد ما تكون حزماً وشمولاً".
وأن غالب التشريعات العصرية اقتبست عن الفقه الإسلامي نظرية سوء استعمال الحق، التي لا يعرف الرومان عنها شيئاً.
ـــــــــــــــــــ
[1] سورة التوبة الآية 87.
[2] البقرة الآية 275.
[3] الشورى الآية 13.
[4] المائدة الآية 48.
[5] الجاثية الآية 18.
[6] انظر الديباج المذهب في أعيان علماء المذهب صفحة 279 وما بعدها.
[7] انظر عنوان الأريب صفحة 9 وما بعدها ج2.
[8] عنوان الأريب جزء 2 صفحة 75 وما بعدها.(/16)
العنوان: الفكر الغربي بين الحَراك والجموح
رقم المقالة: 623
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
يكمن البَهَر الذي يحمله الفكر الغربيُّ في ذلك الطُّموح الدائم، والسَّعي الدؤوب للمضيِّ إلى الأمام، إنه في ذلك التجديد المستمرِّ، ورفض الجمود والثبات، إنه فكرٌ يتحرَّك باستمرار، لا يعرف الركودَ ولا التوقُّف.
ولا شكَّ أن هذا من مميِّزات الفكر الغربيِّ، ومن إنجازاته الرائعة، إنه في هذا السعي المِلحاح إلى تجاوز الواقع الراهن، وإلى الخُروج على المألوف السائد الذي قد يكون أَسَنَ وتعفَّن من كثرة الاجترار والتكرار..
صحيحٌ أن هذا الفكرَ يشتطُّ ويتطرَّف، ويَجمَح ويرمَح، حتى يبلغ الغلوُّ به الرغبةَ في تحطيم كلِّ قديم لمجرَّد أنه قديم، والخروجَ على كلِّ تراث، ونسفَ كلِّ عُرف، غيرَ متوقِّف في هذه الرغبة الجامحة عند حدٍّ. انعدمت فيه الثوابت، وتهاوت اليقينيَّات، وتحطمت تحت مِطرقة التجاوز أيةُ معرفة ذات قَداسة، أو عصمة، أو قطعيَّة، واستوى البشريُّ مع الإلهي، والوحيُ مع آراء الناس، إن بقي ثمةَ إيمانٌ بما هو وحيٌ أو إلهي، أقول: صحيحٌ هذا الشططُ الذي انحدر إليه الفكر الغربيُّ، حتى تحوَّل إلى مجزرة يذبح فيها الآباءُ الأجدادَ، والأحفادُ الآباءَ، في سلسلة لا تنتهي من المجازر والمذابح، ولكن تبقى في هذا الفكر – بعد أن نجتنبَ فيه هذا الجموحَ الكارثيَّ – آليَّةٌ هامَّة فعَّالة، هي آليةُ الحرص على المضيِّ إلى الأمام، حتى إنه ليقدِّم باستمرار مناهجَ جديدة للتعامل، ويُفَعِّل – من غير توقُّف – وسائلَ النقد والنقد المضاد.
إننا – نحن العربَ والمسلمين على وجه الخصوص – محتاجونَ إلى أن نستعيرَ من الفكر الغربيِّ هذا الطُّموح الوثَّاب، أن نتعلَّم – والحكمةُ ضالَّة المؤمن – السعيَ الجادَّ وراء الجديد المفيد، وتطويرَ المناهج والطرائق والآليَّات نحو الحسن النافع.(/1)
إننا الآن أمةٌ – على عكس ما يأمر دينُنا: قرآناً وسنةً – قد استكانت منذ عهد بعيد إلى الدَّعَة والكَسَل، استَنامَت إلى الأرض، واعتمدَت على الآخَر: سواء أكان هذا الآخرُ تراثاً قديماً جاهزاً، أم بضاعةً غربيَّةً مُستورَدة، نحن أمةٌ يتوازعُها اليوم اتِّجاهان كلاهما نِتاج الكسل، والاسترخاء، وإيثار الاعتماد على المُعَدِّ الجاهز، وهذان الاتِّجاهان الكسولان هما:
1 – اتجاهُ قوم ناموا في أحضان القديم، هَجَعوا في حَرَم التراث وحدَه، لا يريدون أن يتجاوزوه؛ ليُعلوا بُنيانه، ويرفعوا أساسَه، ويطوِّروه حتى يخرجوا به إلى آفاقٍ أرحبَ وأجدَّ.
2 – اتجاهُ قوم ارتَمَوا في أحضان فكر الآخَر، فكر الغرب القويِّ المهيمن، بعُجَره وبُجَره، بصالحه وطالحه، لم يحاوروه أو ينقدوه، أو يستنطقوه، أرادوه جُملةً واحدة، ظانِّين في هذا الاتجاه الحلَّ للخروج من قاع التخلُّف إلى ذُرا التقدُّم والازدهار.
إن هؤلاء القومَ يأتَسون بما سبق أن أعلنَه طه حسين ذات يوم في كتابه ((مستقبل الثقافة في مصر)) حيث قال: ((علينا أن نسيرَ سيرةَ الأوروبِّيين، ونسلكَ طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاءَ في الحضارة: خيرها وشرِّها، وحلوها ومرِّها، وما يُحَبُّ منها وما يُكرَه، وما يُحمَد منها وما يُعاب.. وأن نُشْعِر الأوروبيَّ بأننا نرى الأشياءَ كما يراها، ونقوِّم الأمورَ كما يقوِّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها[1]..)).
وكلا الفريقين – كما قلتُ – على خطأ بيِّن، وهو كسول متقاعس، يعتمد على المنجَز الجاهز، سواء في التراث أو في الحداثة، وكلاهما ليسا من صُنعه، ولا يدَ له في صياغة أحدهما، وكلاهما مما يُبطل العقلَ العربيَّ والعقل المسلم، ويشلُّه عن الإبداع والتجديد؛ لأنه تقليدٌ، ولا أصالةَ في التقليد.(/2)
إن التراث وحدَه لا يصنع لنا مشروعاً حضارياً؛ لأنه يتحدَّث عن زمن فات، وعن جيل غير جيلنا، وعن قضايا غير قضايانا اليوم، وإن الفكرَ الغربيَّ وحدَه – بكلِّ ما حقَّق من إنجازات باهرة، وقفزات خياليَّة في عالم الفكر والأدب والعلم – لا يصنعُ لنا هذا المشروعَ المنشود كذلك، لأنه انطلق من قيم غير قيمنا، ومن حضارة غير حضارتنا، ومن أمَّة مرَّت بظروف غير ظروفنا، ومن إنسان عاش ما لم نعش، وعرف ما لم نعرف.
علينا أن نستوعبَ تراثنا جيداً، أن نقرأَه بوعي وعُمق، من غير تقديس ولا جُمود، وعلينا كذلك أن نجتهدَ اجتهاداً دؤوباً مخلصاً في فهم ما يُنتجه الغرب، غيرَ هيَّابين ولا وَجِلين، وأن نوجدَ الآليَّات الصحيحةَ للتعامل معه سلباً أو إيجاباً.
وما هذا علينا بجديد، لقد كان هو منهجَ أسلافنا عندما انفتحوا على ثقافات الأمم الأُخرى في العصرين الأمويِّ والعباسيِّ وما تلاهما من عصور.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] انظر ((مستقبل الثقافة في مصر)) طه حسين (مصر: 1938م).(/3)
العنوان: الفلسفة البراجماتية
رقم المقالة: 313
صاحب المقالة: محمد بن سليمان العريني
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
بعد أن خفت صوت العلمانية ولم يكن له بريق أخاذ كما كان في الماضي نظراً لانتشار الوعي الثقافي للصحوة الإسلامية.
خرج لنا صوت آخر وهو يستند على قاعدة العمل بأخف الضررين حتى فتحوا الباب على مصراعيه في كل شيء.
فمتى لا يضطر المسلم إلى متابعة القنوات ذات المضامين المنحلة؛ فلا بأس من مشاهدة بعض الشر عملاً بتلك القاعدة وكذا أن تنادي بأن التمكين في الأرض واستخلافها لا يمانع في بعض الربا إذا ما أدى إلى انتعاش موارد الأمة وقوة اقتصادها.
ونظراً لأهمية الموضوع فقد رأيت أن أبحث فيه في مادة الفلسفة المعاصرة بإشراف الشيخ الدكتور محمود مزروعة وفقه الله لبيان هذا الفكر وبيان خطره.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تعريف الفلسفة البراجماتية: عرف قاموس ويبستر العالمي كلمة البراجماتية بأنها تيار فلسفي أنشأه بيرس ويليام يدعو إلى حقيقة أن كل المفاهيم لا تثبت إلا بالتجربة[1].
من أهم الفلاسفة الذين وضعوا تياري الفلسفة البراجماتية وأسهموا فيها (تشارلز بيرس) و (وليم جيمس) و (جون ديوي).
وكان محور اهتمامهم بالنتائج لا المبادئ وبالغايات لا المقدمات وبالعمل لا المثل لكن رغم هذه الأسس المشتركة في الفلسفة البراجماتية إلا أنه لكل واحد منهم ما يميز فكره عن الآخر.
تعريف البراجماتية:
أولاً: (تعريف تشارلز بيرس)(/1)
لقد عرَّف تشارلز بيرس كلمة براجماتية من خلال دراسته للفيلسوف الألماني (كانت Kant) ففي كتاب (ميتافيزيقا الأخلاق) ميَّز (كانت) بين ما هو براجماتي وما هو عملي فالعملي ينطبق على القوانين الأخلاقية التي يعتبرها أولية (قبلية) بينما البراجماتي ينطبق على قواعد الفن وأسلوب التناول اللذين يعتمدان على الخبرة ويطبقان في مجالها.
إن فلسفة بيرس البراجماتية هي فلسفة ذات نظرية منطقية، تهتم بمشكلات الحقيقة وتتضمن نظرة معينة في محاولة الوصول إلى معرفتها فإن أساس معنى البراجماتية لدى بيرس يكمن في معنى الحقيقة التي تتكون من مجموعة فروض حيث يعتبر خاطئاً إن رفضته التجربة وصحيحاً إن لم ترفضه"(الصراف، 1982، ص257).
ثانياً: (تعريف وليم جيمس):
أما وليم جيمس فإنه يرى أن كلمة براجماتية مشتقة من الكلمة اليونانية Pragma وتعني مزاولة أو عملي.
إن طابع النفع هو الطابع الغالب الذي ألبسه وليم جيمس للبراجماتية يقول إن الوفاء والجزاء والأرباح التي تجلبها الأفكار الصحيحة هي العلة الوحيدة لواجبنا في إتباعها واقتفاء أثرها، فأفكارنا ومعتقداتنا تصرف ما دام لا يتحداها شيء مثلما تصرف أوراق النقد طالما لا يرفضها أحد، والأفكار الصحيحة التي يتسنى لنا تأييدها هي التي نقيم عليها الدليل بينما الأفكار الباطلة على العكس من ذلك هي التي لا يتسنى لنا تحقيقها (جيمس، 1965، ص245).
ثالثاً: تعريف (جون ديوي):(/2)
أما جون ديوي فإن نظرته إلى الفلسفة البراجماتية نظرة توسع لا تقيد فهي أداة للبناء والنقد الاجتماعي ففي كتابه (بناء جديد في الفلسفة) يرى أن عمل فلسفة المستقبل هو بناء المجتمع بناءً يطابق ظروف أفراده من النواحي الاجتماعية والثقافية وبذلك يمكن أن توصف البراجماتية عنده بأنها فلسفة واقعية تجريبية لا تستند إلى تفكير ميتافيزيقي بل إلى تفكير علمي وتهدف إلى بناء وتغيير المجتمع ويحاول ديوي أن يطبق منهجه على الحياة اليومية لأن هدف الفلسفة البراجماتية كما يراها هو حل المشكلات الاجتماعية ولذلك يعتقد أنه إذا وجد الإنسان في مجتمع ذي تقاليد اجتماعية ضارة تحتم عليه ضرورة التغيير (صراف، 1982، ص 261-262).
ويقول أيضاً معرفاً البراجماتية: "وفحوى ذلك كله أن البراجماتية تعني الهواء الطلق وليس لها أي عقائد جزمية يقينية أو أي مذاهب أو مبادئ وهي ضد الوثوقية والتعسفية واليقينية الحازمة وإدعاء النهائية في الحقيقة بإغلاق باب البحث والاجتهاد استناداً إلى مبدأ العلة النهائية". [2]
ومما سبق يتضح أن البراجماتية ترى أنه لا توجد في العقل معرفة أولية تستنبط منها نتائج صحيحة بل الأمر كله مرهون بنتائج التجربة العلمية التي تقع مظان الاشتباه[3].
من خلال ما سبق يتبين لنا أمور ثلاثة:(/3)
الأول: أن برنامج المذهب يرب الفكرة بنتائجها العملية أكثر مما يربطها بمعيارها القيمي والتفقه العلمي لمضمونها، أي أنه يعدل عن الأفكار المجردة والمعاني النظرية ويحصر هذه الأفكار والمعاني في آثارها فالفكرة هي خطة للعمل والنشاط وليست حقيقة في ذاتها، فعندي مثلاً فكرة عن نفير السيارة التي تسير في الشارع، لا معنى لأن أبحث في حقيقة هذه الفكرة: أصلها ومنشؤها هل هي حقيقة أم من خلق العقل ؟ وهل هي من عمل الأذن والجهاز العصبي أم من عمل النفير أو السيارة أو غيرهما ؟ وإنما يجب أن يكون معناها الانحراف يميناً أو يساراً وإفساح الطريق للسيارة وراكبها، معناها أن أشرع في تغيير خطة سيري والتوجه إلى جهة غير التي كانت أسير فيها ومن هذا تزعم البراجماتية أن الفكرة هي مشروع للعمل أو خطة للتأثير في البيئة وهي خطوة في سبيل العمل لها ما بعدها. [4]
الثاني: أن صواب الفكرة لا يتوقف على الضرورات المنطقية لها أو على قيمتها الذاتية ومضمونها الواعي؛ وإنما يتوقف على صلاحية هذه الفكرة في حياتنا الراهنة ومدى ما تحققه من نفع مادي في تصرفاتنا اليومية في اختباراتنا... فإذا كانت هذه الفكرة تؤدي إلى نتائج مرضية ومنافع علمية في الحياة فهي صحيحة وصائبة وإلا فلا. [5]
الثالث: أنه لما كانت الفكرة تقاس بنتائجها وكانت النتائج محصورة في المنفعة فإن المنفعة الظاهرة بذلك تصبح وحدها المحكمة لا في قبول الأشياء أو رفضها فقط، بل أيضاً في تصور وجودها أو عدمها، وقد لا تبدو خطورة المذهب من خلال تأمل النقطة الأولى وإن كانت تولد نوعاً من السطحية وعدم العمق في الأمور.(/4)
إلا أن الخطورة تكمن عندما نتابع هذه الفلسفة في نتائجها البعيدة فنجد من خلال تأملنا للنقطة الثانية أنها تؤدي في النهاية إلى جحد الألوهية وإن كان هذا ما صرح به فلاسفة البراجماتزم.. لأننا حين نسير مع فلسفة هذه النقطة إلى النهاية نجد أن قيمة الفكرة فيما تولده من منافع ظاهرة في الحياة المادية ولما كانت "الفكرة عن الله" في نظر هؤلاء قد يأتي عليها حين لا تؤدي وظيفة ظاهرة في الحياة المادية فعندئذ تنبذ الفكرة أساسها لأنها لا تدير آلة ولا تحرك جهازاً. [6]
وبذلك يكون الكفران والضلال، فإذا تابعنا النظر إلى النقطة الثالثة وجدنا أن النفع المادي العاجل هو وحده المسيطر على اتجاه فلسفة هذا المذهب أي أن أي فكرة عمل أو عمل البراجماتيين إنما يقاس صلاحه وفساده وخيره وشره بما يحققه من نفع مادي عاجل، وسيطرة مثل هذه النزعة على سلوك الناس في الحياة يحولهم إلى ذئاب ذوي أظفار وأنياب لا يتعاملون إلا بالمادة ولا يتواصلون إلا حيث يكون نفع، ويوم تكون المنفعة غاية لكل حركة وهدفاً لكل علاقة فما أشقى الحياة يومئذٍ لأن تلك مرحلة تفقد فيها البشرية كل مقوماتها الكريمة وعناصرها الإنسانية ويستوي فيها الإنسان بالآلات وتغيب جميع مبادئ البر والعطف والرحمة والمواساة وسائر الأمور المعنوية التي تهذب الحياة وترطب جفافها ويخلو كيان الإنسان من العواطف والمشاعر والإنسانية من الحب والود، ولا أريد أن استرسل أكثر من ذلك في مناقشة هذه الفلسفة وبيان عوارها وفسادها ومناقضتها لمبادئ الإسلام العادلة الرحيمة بعد أن عرفنا موقف هذه الفلسفة من الدين فما دام الأصل منهاراً...فكل بناء بعده لا قيمة له.
تاريخ الفلسفة البراجماتية:(/5)
إن كل فلسفة لها جذور وامتدادات تاريخية ورواد ممهدون يعتبرون أساتذة لهذه الفلسفة أو تلك، والفلسفة البراجماتية لا تخرج عن هذا التطور فهناك فلاسفة ساهموا في إرساء قواعدها بدءاً من العصر اليوناني، وأول من تحدث عن هذه الفلسفة– هو (هيرقليطيس) وهو فيلسوف يوناني عاش من سنة 535-475 قبل الميلاد فقد آمن هذا الفيلسوف بفكرة التغير المستمر، وبأن الحقائق الثابتة المطلقة لا وجود لها كما أن الإنسان يضيع وقته وجهده في البحث عنها، وقوله هذه يمثل أحد أركان الفلسفة البراجماتية، ثم جاء بعده، كوينتليان المدرس والخطيب الروماني والذي عاش من سنة 35-95 الميلادي فقد آمن بأن الممارسة العملية هي التعلم، مخالفاً بذلك الفلسفة المثالية القائلة بأنه من خلال الإيحاء يصل إلى الحقائق والمعرفة، وبالرغم من أن مفهوم البراجماتية قد ظهر لدى هذين الفيلسوفين وغيرهما إلا أن البراجماتية المعاصرة حديثة الأصل قال (بتلر): "إن البراجماتية فلسفة أمريكية معاصرة حديثة المولد" (عبد الرحمن، 1967، ص70).
وقد ظهرت الأفكار البراجماتية واضحة في أمريكا بدءاً من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وأهم من ساهم في ذلك (تشارلز بيرس)، و (وليم جيمس ) و(جون ديوي) الأول في مقاله (كيف نوضح أفكارنا) وقد تأثر بالتقدم العلمي في زمنه مما دفعه إلى البحث عن طريقة ليتأكد من صدق المعرفة التي يتوصل إليها، كما أنه اهتم بمشكلة التعبيرات اللفظية وقال إنها لا تعطي معنى واضحاً ثابتاً إلا من خلال موقف عملي، قال تشارلز بيرس: "لكي تحدد معنى أي فكرة ضعها في موقف عملي وعندها تحدد نتائجها معناها" (عبد الرحمن، 1967م، ص71).(/6)
أما الثالث (جون ديوي) فيعزى إليه تطوير الفلسفة البراجماتية إلى فلسفة كاملة وتطبيق مبادئها في كل مجالات الخبرات الإنسانية، فقد عارض الفلسفات التقليدية، وسعى إلى بناء مجتمع أفضل على أساس راسخ من الاستقصاء العلمي فعمليات التغيير الطبيعي الإنساني المستمرة تستحث الإنسان لكي يعيد تشكيل الأفكار والمؤسسات الاجتماعية باستمرار، وأنه من غير الممكن في زمننا هذا الوصول إلى حقائق مطلقة ثابتة وأن اختيار الفروض عن طريق التجربة هو خير وسيلة للوصول إلى المعرفة الصادقة. (عبد الرحمن، 1967، ص74).
التعريف برموز الفلسفة البراجماتية:
1- تشارلز بيرس:
لقد كان بيرس فيلسوفاً رياضياً عالج الكثير من المشكلات الفلسفية ابتداء من المنطق والعلم والميتافيزيقيا حتى القيم، ويذكر (جون ديوى) أن (بيرس) أخذ لفظ البراجماتية عن الفيلسوف (كانْت)، وبيرس في نظر ديوي هو المؤسس الأول للفلسفة البراجماتية أو الفلسفة الوسيلية، ويقول إن بيرس اطلع على فلسفة (كانْت) ففي كتابه ميتافيزيقيا الأخلاق، كان (كانْت) يميز بين ما هو براجماتي وبين ما هو عملي، فالعملي ينطبق على القوانين الأخلاقية الأولية، بينما البراجماتي ينطبق على قواعد الفن وأسلوب التناول الذي يعتمد على الخبرة ويطبق في مجال الخبرة.
ونظرة بيرس تقوم على أساس أن المدلول العقلي لكلمة من الكلمات أو عبارة من العبارات إنما يكون في تأثيرها المقصود في مجرى الحياة، لذا فإن الشيء إذا لم يكن ناتجاً عن تجربة فإنه لا يمكن أن يكون له تأثير مباشر على السلوك فالبراجماتية في رأي (تشارلز بيرس) ليست مجرد أداة لنفع خاص أو فائدة معينة وهي لا تمجد العمل لذاته، وإنما تعني أننا لكي نفهم المدركات العقلية فلابد أن نكون قادرين على تطبيقها (مرسي، 1988، ص97).
2- وليم جيمس:(/7)
أما (وليم جيمس، 1482 – 1920م) فقد كانت فلسفته تجريبية وقد كان جل اهتمامه بتحديد المشكلات الفلسفية وأراد أن يحدد ما إذا كانت هناك مشكلات فلسفية معينة لها معنى حيوي يقيني أو أنها مجرد لغو وشقشقة لفظية، ومذهب (وليم جيمس) مذهب عملي يقوم على التغير والصيرورة والتعدد فالعالم في نظره عبارة عن حقيقة مرنة غير ناضجة يمكن وصفها بالتغير والحركة المستمرة، ومن ثم فإن فلسفته تجعل المستقبل مفتوحاً دائماً لا مستقبلاً جامداً ثابتاً.
والفيلسوف البراجماتي في رأي (جيمس) هو الذي يشاهد الأشياء عن قرب ويراها من حيث الوشائج التي تربط بينها، وكيف تتشكل هذه الأشياء بأشكال مختلفة، ومن خلال الروابط، والفكرة تكمن في النتيجة التي تترتب عليها، والنتيجة في رأي (جيمس) معنيان مختلفان:
المعنى الأول: ويقصد به أن أية قضية عبارة عن نتائجها المباشرة التي يمكن التحقق منها بالتجربة.
المعنى الثاني: يقصد به النتائج غير المباشرة التي تترتب على الإيمان بفكرة أو التمسك بمبدأ.
ومن حيث انتهي (بيرس) بدأ (جيمس) وانتهي إلى تغيير نظرة (بيرس) عندما جعل النتائج الخاصة لفكرة من الأفكار هي مقياس صدقها بدلاً من نتائجها العامة، إلا أنه زاد في نظريته بحيث شملت كل الأفكار وبخاصة المعتقدات الدينية (مرسي، 1988، ص 98- 99).
3- جون ديوي:(/8)
أما (جون ديوي، 1859 -1952م) فيعد المؤسس الأول في تحديد معالم الفلسفة البراجماتية الحديثة، ويعد من أبرز فلاسفة العصر الحاضر لا في أمريكا فحسب بل في جميع أنحاء العالم، فهو فيلسوف أمريكا المعبر عن اتجاهاتها العقلية يقول عنه الأستاذ (ويكهويرن) تعتمد شهرة (جون ديوي) في أساسها على مساهماته البارزة في عالم الأفكار فهو أحد كبار الفلاسفة الحقيقيين في القرن الحاضر وهو أبرز المفكرين التربويين في أمريكا وقد امتد أثر فلسفته إلى ميادين شتى في البحث كعلم النفس، والعلوم السياسية، والاقتصاد السياسي، وعلم الاجتماع، والدين، والتربية بحيث تأثرت جميعها بقوة فكره وأصالته، "وإذا كان هناك من جديد قد أضافه (جون ديوى) على البراجماتية، كما عرفت لدى بيرس وجيمس فهو أنه قد جعل من البراجماتية منهجاً علمياً تجريبياً محدداً، ينظر إلى التصورات والنظريات والأفكار على أنها فروض توجهنا نحو إجراء تجارب معينة وملاحظات تجريبية، فالبراجماتية اتجاه لا يقتصر فقط على مجال العلوم الطبيعية بل يمتد ليشمل كافة العلوم الإنسانية كالتاريخ والسياسة والاقتصاد والاجتماع، كما أنه جعل منها أداة منطقية في تحديد المعاني، وصدق في الأفكار لا يرتبط بالرغبة أو النفور أو اللذة والألم وإنما يرتبط بالتفكير العلمي " (مرسي، 1988، ص100).
المبادئ الأساسية للنظرية البراجماتية:
للفلسفة البراجماتية معالمها البارزة التي تحدد هويتها وتميزها عن غيرها من الفلسفات التربوية الحديثة وأهم المبادئ الأساسية للفلسفة البراجماتية:-
أولاً: مبدأ التغير:(/9)
تؤمن الفلسفة البراجماتية بأنه في حدود العالم الذي نعيش فيه يستحيل على الإنسان أن يصل إلى حقيقة ثابتة وأنه يمكن للتجربة والبحث العلمي أن يوصلنا إلى ما هو أفضل، وترى البراجماتية أن التغير جوهر الواقع وأنه يجب علينا أن نكون مستعدين لتغيير الطريقة التي بها نصنع الأشياء وأن تكون غايات التربية ووسائلها مرنة وقابلة للتغير.
ثانياً: إن طبيعة الإنسان في جوهرها اجتماعية وبيولوجية:
"فالفلسفة البراجماتية تنظر إلى الإنسان كلاً متكاملاً فعقله وجسمه ومشاعره ليست أجزاء منفصلة بل هي خصائص لعضو متكامل وأن كل فرد له خصائصه الفردية وقدراته الخاصة به وأنه له وجوده الخاص ضمن العنصر الإنساني العام وهذه النظرة إلى الإنسان على أنه فرد من نوع تجعل من الفرد شيئاً ثميناً يستحق العناية " [عبد الرحمن، 1967، ص77].
ثالثاً: نسبية القيم:
ترى الفلسفة البراجماتية أن القيم في المجتمع ولدى الأفراد أيضاً قيم نسبية تؤثر في أعمالهم وسلوكهم وفي الاحتمالات التي يضعونها لحل المشكلات التي تواجههم، وهي لا تؤمن بوجود قوانين أخلاقية مطلقة بل يجب أن تبقى خاضعة للتغير، فليست هناك قوانين أخلاقية أو قيمية يفرضها واقع معين، كما هو الحال في الفلسفة المثالية، فالأحكام التي نصدرها على شيء ما تعتمد على نتيجة هذا الشيء. [ عبد الرحمن، 1967، ص80].
"ويحث البراجماتيون على اختبار جدوى قيمنا على نحو ما نختبر صدق أفكارنا، فيجب أن ننظر في مشكلات الأحوال البشرية بنزاهة وبأسلوب علمي ونختبر القيم التي يبدو من الأرجح أنها تحلها، وينبغي ألا تفرض هذه القيم علينا من سلطة عليا، بل يتم الاتفاق عليها بعد نقاش مفتوح مستنير قائم على أدلة موضوعية" [نيلر 1971، ص44]. الأخلاق عند البراجماتزم:(/10)
تنظر البراجماتية إلى الأخلاق نظرة مادية بحتة؛ فالأخلاق والقواعد التي تضبطها من صنع الناس وحدهم، وهي تجريبية متطورة من آن لآخر على مر الزمن، ولا ثبات لها ولا يقين على الإطلاق، وهي تتغير كلما تغيرت متطلبات الجماعات ورغائبها، والقانون الحق، هو ما يعتقد الرأي العام ولذلك فإن معيار الصواب والصدق بالنسبة للأخلاق وقواعدها هو الرأي العام، ولذلك فهي قابلة للتغيير كلما تغير الرأي العام.
يقول جيمس: "إن علم الأخلاق فيما يتعلق بالناحية المعيارية مثل العلوم الطبيعية في أنه لا يمكن استنباطه كله مرة من مبادئ ذهنية، بل لابد أن يخضع للزمن وأن يكون مستعداً لأن يغير نتائجه من آن لآخر، والآراء الذائعة حق، وأن القانون المعياري الحق هو ما يعتقده الرأي العام[7].
موقف البراجماتية من الدين:
يكفينا هنا لنعرف موقف البراجماتية من الدين أن نتذكر البيان الذي صدر في أمريكا سنة 1933 ووقعه جون ديوي وآخرون والذي سبق ذكر أهم نقاطه عند الحديث عن الفلسفة الوضعية ومنه يتضح لنا فكرة البرجماتزم عن الأديان المنزلة، ومن النقاط المذكورة في هذا البيان:
1- الكون موجود بذاته وليس مخلوقاً.
2- الإنسان جزء من الطبيعة وهو نتيجة عمليات مستمرة فيها.
3- ثقافة الإنسان الدينية ليست إلا نتاج التطور التدريجي الناشئ من التفاعل بين الإنسان والبيئة الطبيعية والوراثة الاجتماعية.
4- لقد ولى الزمن الذي كان يعتقد الناس فيه بالدين وبالله.
5- يتركب الدين من الأفعال والتجارب والأهداف التي لها دلالات في نظر الإنسان ومن هنا زال التمييز بين المقدس والمادي.
ولعلك بهذا تقف على أن البرجماتية بمبادئها تلك التي تعمل على تطبيقها في جوانب التربية والدين والأخلاق تعتبر من العوامل الأساسية في انهيار المجتمعات التي تطبق فيها.
نظرة الفلسفة البراجماتية للكون والحياة:(/11)
لعل من أبرز الأفكار البراجماتية المتصلة بطبيعة الكون هو الاعتقاد بأن العالم ليس ثابتاً Static ولا نظاماً مغلقاً ولكنه عبارة عن عملية ديناميكية في التغير والتطور المستمر والميزة الأساسية للحياة في نظر الفلسفة البراجماتية هي التغير وأن الحياة على هذه الأرض في تطور وتغير مستمرين لا تكاد أن تكون سوى عملية مستمرة من التكيف التجريبي للظروف المتغيرة والمتجددة. [الشيباني، 1987 م، ص 239].
"وليس للعالم معنى إلا بمقدار ما يطالع الإنسان فيه من معنى وإن كان للكون نفسه غرضه فهذا الغرض محجوب عن الإنسان وما لا يستطيع الإنسان أن يختبره لا يمكن أن يكون واقعياً بالنسبة له". [نيلر، 1971، ص18].
وهذا ما يعتقده أصحاب الفلسفة البراجماتية عن الكون ولاشك أن هذه النظرة تخالف نظرة المسلم نحو الكون فالكون مخلوق لله عز وجل وخلقه إنما كان لهدف وغاية معينة كما قال تعالى: { مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} [الأحقاف: 3].
نظرة الفلسفة البراجماتية للمعرفة والقيم:
من أبرز وأظهر الأفكار المتصلة بنظرة الفلسفة البراجماتية للمعرفة والقيم أن مصدرهما هو الخبرة والنشاط الذاتي والتجربة، وهذا يعني أن المعرفة والقيم عند البراجماتيين هما نتيجة اجتهاد الإنسان في تتابع الخبرات وقدرته على استخلاص نتائج التفاعلات المختلفة في هذه الخبرات، أما العقل عند الفلاسفة البراجماتيين فهو لا يعتبر ميزة موروثة عند الإنسان وليس صفحة بيضاء، وإنما هو عبارة عن قوة داخل الإنسان تترعرع في سياق الخبرة، أي في سياق التفاعل المستمر بين الإنسان ومواقف الحياة التي يواجهها.(/12)
أما الذكاء فهو عبارة عن قدرة الإنسان على استعمال المعاني في المواقف لتوجيه هذه المواقف توجيهاً يصل به إلى الأفضل، وأهم ميزة يتميز بها الذكاء عند البراجماتين أنه يخضع للتجربة حيث تجرب الأفكار في كل موقف أو مشكلة؛ ليحصل على أحسن وأفضل نتيجة؛ ولذلك كانوا ينادون بتطبيق الطريقة العلمية ويحثون عليها.
نظرة الفلسفة البراجماتية للإنسان:
الإنسان في نظر الفلسفة البراجماتية كل متكامل لا تنفصل قواه العقلية والجسمية بعضها عن بعض، هذه النظرة إلى الإنسان تجعل منه شيئاً ثميناً يستحق العناية والنمو.
وهي نظرة مادية قد أغفلت جانب الروح وقطعت أية علاقة أو ارتباط بينه وبين خالقه في حين تنظر التربية الإسلامية إلى الإنسان على أنه ذلك الكائن الذي كرمه الله وجعله في أحسن تقويم وسخر له ما في السماوات والأرض جميعاً وهيأه بما حباه من نعمة العقل والتدبير لإعمار الأرض واستخراج كنوزها وإقامة شرع الله فيها، وهو كيان مزدوج التركيب فيه الجانب المادي والجانب المعنوي وقد أعلت التربية الإسلامية من قيمة الجانب المعنوي (روحه وفطرته) ولم تغفل الجانب المادي (جسمه وأعضاءه) خلافاً للفلسفة البراجماتية التي ركزت على الجانب المادي وحده واستصغرت حقيقة الروح وارتباطها بالنشاط الإنساني.
فالتربية الإسلامية توافق فطرة الإنسان السليمة وواقعه ومن ذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71-72].
وحين تحكم الروح هذا الكيان المترابط عندها يأخذ الإنسان وضعه الطبيعي الذي ينسجم مع نشأته فهو لا يكبت الجسد ونشاطه ولا يغلب المادة على حساب الروح وبهذا يكون الإنسان مهيئاً لسلوك أحد الطريقين طريق الخير أو طريق الشر قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
تقييم الفلسفة البراجماتية:(/13)
إننا نعيش اليوم في عصر يشهد صراعاً محتدماً في شتى فروع المعرفة الإنسانية بين الأمم والشعوب القوية منها والضعيفة، وتحاول كل أمة أن تطرح فكرها ومعطاياتها الحضارية للناس في محاولة منها لإثبات وجودها ومقدرتها على الثبات والتحدي.
وفي هذا الخضم تبرز الفلسفة البراجماتية كإحدى الفلسفات المعاصرة التي اجتذبت – إليها اهتمام كثير من الدارسين لما حققته من نجاح في المجتمعات التي نشأت فيها كالمجتمع الأمريكي، رأينا أن نعرض ما نراه من إيجابيات لهذه الفلسفة كما نعرض لأبرز المآخذ والسلبيات التي نراها متعارضة مع وجهة نظر التربية الإسلامية.
أولاً: إيجابيات الفلسفة البراجماتية:
1- أولت الفلسفة البراجماتية أهمية قصوى لشخصية الطفل، باعتباره شخصية مستقلة وفاعلة وذات دور مهم في صنع الحضارة الإنسانية.
2- بينت الفلسفة البراجماتية مدى أهمية الوسط الاجتماعي، ودوره في تكوين سلوك الفرد وهي هنا تتفق مع دين الإسلام حيث إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))[8].
3- اعتنت الفلسفة البراجماتية بالتفاعل المستمر بين الفرد وبيئته.
4- اهتمت الفلسفة البراجماتية بالخبرة، فالإنسان يستطيع أن يتوصل إلى المهارة والحذق عن طريق الخبرة والمران.
5- أكدت الفلسفة البراجماتية على طريقة المشروع في التدريس والتي تفرض وجود مشاكل عملية في الحياة تضعها أمام الطفل تتحدى تفكيره ويشرع في إيجاد أفضل السبل لحلها بطريقة عملية.
6- اهتمت الفلسفة البراجماتية بالفروق الفردية.
ثانياً: سلبيات الفلسفة البراجماتية:(/14)
إن من أخطر القضايا في الفلسفة البراجماتية نظرتها إلى الفكرة من خلال نتائجها العملية فالنتائج هي برهان صحة الفكرة لديها فإذا كانت الفكرة وسيلة والعمل نتيجة أو غاية فإن الغاية تبرر الوسيلة ولذلك يطلق على هذه الفلسفة النفعية أو الذرائعية أو الوسائلية وتأخذ الفلسفة من ذلك أنه لا ثبات لشيء من القيم والأخلاق في دنيا الناس، ومعيار الحقيقة نجاح الفكرة يقول جون ديوي: "إني أؤكد على سبيل الجزم أن لفظ البراجماتي لا يعني إلا قاعدة إرجاع كل تفكير وكل الاعتبارات التأملية إلى نتائجها للمعنى النهائي والاختبار على محل التجربة". [واين رالف، 1964م، ص45].
وأهم سلبيات هذه الفلسفة:
أولاً: إن برنامج الفلسفة البراجماتية يربط الفكرة بنتائجها العملية أكثر مما يربطها بمعيارها القيمي والتفقد العلمي لمضمونها أي أنه يعدل عن الأفكار المجردة والمعاني النظرية ويحصر هذه الأفكار والمعنى في آثارها فالفكرة هي خطة العمل والنشاط، وليست حقيقة في ذاتها ومن هنا تزعم الفلسفة البراجماتية أن الفكرة هي مشروع للعمل أو خطة التأثير في البيئة وهي خطوة في سبيل العمل لها ما بعدها.
ثانياً: إن صواب الفكرة لا يوقف على الضرورات المنطقية لها أو على قيمتها الذاتية ومضمونها الواعي وإنما يتوقف على صلاحية هذه الفكرة في حياتنا الراهنة ومدى ما تحققه من نفع مادي في تصرفاتنا اليومية في اختباراتنا فإذا كانت هذه الفكرة تؤدي إلى نتائج مرضية ومنافع عملية في الحياة فهي صحيحة وصائبة وإلا فلا.
ثالثاً: إنه لما كانت الفكرة تقاس بنتائجها وكانت النتائج محصورة في المنفعة فإن المنفعة الظاهرة تصبح وحدها المحكمة لا في قبول الأشياء أو رفضها فقط بل أيضاً في تصور وجودها أو عدمها.
نقد البراجماتية مع بيان موقف الإسلام من مبادئها:
أولاً: الشريعة الإسلامية جاءت لخير الناس ونفعهم:(/15)
إذا كان الفكر الغربي قد حاول أن يعالج مشاكل البيئة والإنسان عنده ويرسم لذلك خططاً للفكر والسلوك فقد عالج ذلك بأسلوب بعيد عن أنوار الوحي وحقائق التنزيل، ولذلك أتى في هذا الجانب بنظريات وحلول مستوحاة من عوامل البيئة هناك كلها تخبط واضطراب ثم أخذ يخدع أمم الشرق بكلمات خادعة وعناوين براقة لا تنطلي إلا على الأغرار والسذج مثل القول بالحرية والمنفعة والواقعية وغير ذلك.
والبراجماتية من المذاهب التي اتخذت لها راية تلوح بها لتوقع الناس في شركها وهو القول بالنفعية أو الحرص على مصلحة الإنسان وتلك غاية تهفوا إليها نفوس كثيرة، ولكن أية مصلحة تلك التي تنادي بها البراجماتية ؟
لقد سبق أن رأيت البراجماتية فوق أنها تجحد الألوهية والرسالة تجعل النفع المادي العاجل هو أساس تقويم أية فكرة أو عمل وتسوق الإنسان إلى أن يجعل مصلحته فوق مصالح الآخرين..ولو أضر ذلك بهم أي أنه هو وحده وليكن بعده الطوفان، ومثل هذا السلوك لا يتناسب حتى مع عالم الحيوان.
أما الإسلام فقد جاء لخير كل الناس ومصالح كل الناس ونفع كل الناس خير لا شر فيه ومصالح لا جور فيها ونفع يسوده الإيثار والمحبة وطهارة الوسيلة والغاية.
ولقد أثبت الاستقراء أن أحكام الشريعة الإسلامية إنما تقوم على المصلحة الإنسانية.
ثانياً: نصوص لبعض مفكري الإسلام تؤكد أن الشريعة تراعي المصلحة:
يقول الشاطبي: "إن أحكام الشريعة الإسلامية ما شرعت إلا لمصالح الناس وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله".[9]
كما يقول ابن القيم: "إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه".[10](/16)
وفي عبارة أخرى لابن القيم عن الشريعة الإسلامية يقول: "إن مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه".[11]
وقال العز بن عبد السلام: "إن الشريعة كلها مصالح إما درء المفاسد أو جلب مصالح". [12]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها"[13]
وقرر علماء الأصول أن الأحكام التكليفية في الشريعة ترتبط بالمصلحة ارتباطاً وثيقاً، ومراتب التكليف نفسها تختلف باختلاف ما فيها من مصالح، فالأمر الذي تتيقن المصلحة فيه يكون طلبه حتمياً، ثم يتفاوت الطلب وجوباً وندباً وإباحة تبعاً لتفاوت المصلحة فيه... كذلك ما يكون الضرر فيه مؤكداً يكون محرماً، ثم يختلف التحريم قوة وضعفاً باختلاف قوة الضرر... ومن ثم كان المحرم والمكروه متفاوتاً أيضاً فالمكروه تحريماً والمكروه تنزيهاً..وهكذا..
قال أبو حامد الغزالي في المستصفي: "إن جلب المنفعة ودفع المضار مقاصد مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يضمن هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في المصالح[14]. هذا الجانب.
ثالثاً: نصوص من القرآن والسنة أيضاً:
وجانب آخر، وهو أن الإسلام الذي جاء لخير الناس ونفع الناس طلب أن يشيع هذا الخير بين الجميع، وألا يتحرك المسلم من منطلق مادي.. خذ وهات فأين الإيثار إذن ؟.. وأين التعاون وبذل الفضل ؟(/17)
لقد دفع الإسلام أتباعه إلى صنائع المعروف وعمل الخير وطلب منهم ألا ينتظروا الأجر إلا ممن لا تضيع عنده الصنائع: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. [15]
{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}[16]، {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَات}[17]، {َمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}[18]، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً}[19] ،{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[20].
ولقد جهد الأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم لإشاعة الخير والإيمان في جنبات الأرض دون انتظار عون من أحد إلا من الله وحده، وأسمع كل واحد منهم قومه هذه العبارة {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}[21]، وجاء خاتمهم محمد – صلى الله عليه وسلم – ليؤكد هذه المعاني في دنيا الناس: ((من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له))[22]
(( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق))[23]
((صنائع المعروف تقي مصارع السوء))[24]
((...وتعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعة صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطرق صدقة))[25](/18)
((بينما رجل يمشى بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له))[26]، ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفة ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله فغفر له، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل رطبة أجر))[27].
رابعاً: مبدأ الغاية تبرر الوسيلة في مذاهب البراجماتية وموقف الإسلام:
وهكذا يتعلم المسلم من دينه تقديم النفع للآخرين ابتغاء ما عند الله بعيداً عن سياسة تبادل المنافع؛ فتسود المحبة والأخوة بين الناس.
لم يتخذ الإسلام مثل هذه الأخلاق تدبيراً من تدابير السياسة أو حيلة يلجأ إليها الناس عند الحاجة ويتخلون عنها عند الطاقة والمقدرة.
كلاً...لقد أمر الإسلام أن يكون ذلك خلقاً ملزماً في الوسائل والغايات فلا يجوز الوصول إلى الغاية الشريفة بالوسائل الخسيسة، ولا مكان في تعاليم الإسلام للمبدأ الخبيث الذي تقول به البراجمانية "الغاية تبرر الوسيلة" وإليك هذا الدليل على ضرورة مشروعية الوسيلة وعدم تبريرها مهما كانت الظروف والأسباب.
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[28].
كان المؤمنون في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – أربعة أصناف:
1- المهاجرون الأولون.
2- الأنصار.
3- الذين لم يهاجروا.(/19)
4- الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
والآية التي معنا خاصة بالصنف الثالث وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا، فالآية توجب على المسلمين نصرتهم إذا ظلموا قياماً بحق الأخوة الإيمانية، لكن إذا كانت هذه النصرة تؤدي إلا الإخلال بعهد من العهود المبرمة بين المسلمين والكفار لم تجز النصرة لأن وسيلتها هو الخيانة ونقض العهد، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}[الأنفال: من الآية58] ودليل آخر.
عندما كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يعرض نفسه على القبائل قبل الهجرة قال له البعض: أنؤمن لك ويكون لنا الأمر من بعدك؟ ومع أنه كان يمكن نظراً لشرف الغاية ونبل المقصد أن يوافقهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – حتى يدخلوا في الإسلام فتتبدد كل هذه الأحلام.
إلا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – رفض هذا المسلك وقال: ((الأمر لله يضعه حيث يشاء، حتى تكون جميع الأمور وسيلة وغاية واضحة))، وهذا هو القرآن الكريم يطلب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في صراحة باقية: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}[29]، فينفي كل أسباب الخداع في الدعوة إلى دينه فأين ظلام الجاهلية من نور الإسلام ؟.
المراجع
1- أثر البراجمانية على سلوك المسلم. د. أحمد الشميميري
2- نوابع الفكر الغربية – وليم جيمس. محمود زيدان.
3- المنطق البراجماني عند تشارلز بيرس. د. حامد خليل.
4- الفلسفة البراجمانية في مجال التربية. د. عبد الله علي الزيلعي.
5- قاموس جو ديوي للتربية. محمد علي العريان.
6- فلسفة التربية. محمد منير مرسي.
7- البراجماتزم. يعقوب فام.
---
[1] انظر قاموس ويستر ص 1118 (1974).
[2] مناقشة للأفكار العلمانية لوليام جيمس، رسالة ماجستير مقدمة لجامعة أم القرى، ص71.
[3] مناقشة للأفكار العلمية لوليام جيمس ص47.(/20)
[4] العادات الاجتماعية: 258 نقلاً عن البراجماتزم أو فلسفة الذرائع، د. يعقوب فام.
[5] المرجع السابق.
[6] العادات الاجتماعية: 258 نقلاً عن البراجماتزم أو فلسفة الذرائع، د. يعقوب فام.
[7] إرادة الاعتقاد – وليم جيمس: 101.
[8] أخرجه البخارى في كتاب الجنائز (4/197) ومسلم في باب القدر (1/265).
[9] الموافقات ج2/6.
[10] الطرق الحكمية.
[11] أعلام الموقعين ج3/1.
[12] القواعد للعز بن عبد السلام ج1/9.
[13] منهاج السنة النبوية 1/174 – ج/118.
[14] الكتاب المذكور.
[15] سورة الشورى: 36.
[16] سورة النساء: 114.
[17] سورة البقرة: 148.
[18] سورة البقرة: 272.
[19] سورة الإنسان: 8، 9.
[20] سورة آل عمران: 92.
[21] سورة الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180.
[22] مسلم: 2626.س.
[23] مسلم: 1728.
[24] الحاكم، عن أنس والطبرانى في الأوسط عن أم سلمة، انظر الجامع الكبيرة ج1/560 وكشف الخفا ج1/38.
[25] البخارى: 2/116، مسلم: 4/2021 برقم 1914.
[26] البخارى: 5/226، 6/63، مسلم: 1009، 1007.
[27] البخارى: 5/31، 36- مسلم 2244.
[28] سورة الأنفال: 72.
[29] سورة الأنعام: 50.(/21)
العنوان: الفن للفن
رقم المقالة: 555
صاحب المقالة: وائل بن يوسف العريني
-----------------------------------------
المبحث الأول:
نظرية الفن للفن، ما هي وما جذورها؟
أولاً: مفهوم نظرية الفن للفن
هي نظرية للفن عموماً، وهي نظرية تجرد الفن من أي ملابسات فكرية أو فلسفية أو دينية (أيدلوجية)، وتنشد من الفنِّ الفنَّ فقط والجمال، ويطلق أصحاب النظرية على ذلك بأنه تخليص الأدب من النفعية والغائية.
ثم إن هذه النظرية شاعت في الأدب، إذ ترى أن الأدب يجب أن يتحرر من أي قيمة يمكن أن يحتويه الكلام إلا قيمة الجمال، وألا يُنظر فيه إلى معايير خلقية أو دينية أو قيم نفعية، "فمهمة الأدب نحت الجمال، ورسم الصور والأخيلة الباهرة، من أجل بعث المتعة والسرور في النفس، فليست مهمة الأدب أن يخدم الأخلاق، ولا أن يُسخَّر لقيم الخير أو المجتمع، إنه هدف في حد ذاته، ولا يُبحث له بالتالي عن أي هدف خُلقي أو غير خلقي، فحسبه بناء الجمال ليكون بمثابة واحة خضراء يُستظلُّ بها من عناء الحياة"[1].
إن الفن للفن ضربٌ من الفلسفة اللادينية القائمة على نبذ القديم – بما في ذلك الدين والأخلاق – وعدم التقيد به في الأدب، وهو مذهب ثائر على (الرومانسية) التي تذهب إلى أن الأدب والشعر خاصة فن ذاتي يعرض للعواطف والانفعالات الإنسانية والتعبير عنها من خلال الأدب، فالرومانسية تعتبر الأدب وسيلة للتعبير عن الذات، والفن للفن مذهب الجمال، الذي يرى الفن والأدب غاية في حد ذاته ومطلوباً لذاته[2].
(الفن للفن) مذهب يهدف إلى جعل الشعر والأدب فناً موضوعياً في ذاته، همه استخراج الجمال ونحته من مظاهر الطبيعة، أو خلعه على تلك المظاهر.
يهدف المذهب أيضاً إلى التحلل – مقدماً – من أي عقيدة أو فكر أو أخلاق موروثة، وعدم انعكاس ذلك على العمل الأدبي أو لمح ذلك فيه[3].
ثانياً: الجذور والأصول لنظرية الفن للفن:(/1)
بُحثت قضية الفن وغرضه في القديم والحديث، وكثر الجدل بشأنها، واختلفت الآراء في تلك الوظيفة، وأهم الآراء وأساسها رأيان هما:
1-رأي يذهب إلى أن الأدب وظيفته ومهمته الأساس هي التهذيب والتربية والتعليم، وهي غاية تُلحظ في اصطلاح: (أدب) و (تأديب) و (مؤدِّب) التي يدور معناها حول: التهذيب.
وهو رأي غالب في ثقافتنا العربية، أو حتى عند الأمم الأخرى في القديم وحتى العصر الحديث.
2-ويرى آخرون أن الأدب والفن نوع من الترفيه والتسلية، وهو بهذا المفهوم لا يحتمل أن يقوم بوظيفة، ولا يطيق أو يقوى على حمل رسالة أو توجيه، فهو ضرب من النشاط المطلوب لذاته، وجنس يقوم على الجمال ويقوم له وينعقد من أجله.
وهو مع هذا لا يناقض بالضرورة العقائد ولا القيم، وقد يسير أحياناً مع القيم الرفيعة والأهداف النبيلة، وقد لا يسير، فليس ذلك شرطاً فيه ولا مطلوباً منه[4].
وهذا الرأي على غرابته في التراث العربي، فإنه وجد، وممن نص عليه قدامة بن جعفر (ت 337هـ) في كتابه: (نقد الشعر)، إذ يرى أن للشاعر أن يضرب في أي فجٍّ من فجاج المعاني، وأن يسلك أي سبيل من سبل الأغراض حميدها ومذمومها إذا ما التزم بشرط الصياغة، واعتنى بتجويد شعره حتى يقبله الجمهور ويذيع في الآفاق[5].
وجذور هذه النظرية - أعني الفن للفن - تضرب في أعماق التاريخ، وتغوص في تراث الأمم، فهذا أرسطو يرفع من شأن الشعراء ويجعلهم عباقرة يقبل ما يقولون دون مراجعة، مناقضاً بذلك أفلاطون الذي هاجم الشعراء ولم يبق منهم إلا من يعنون بالتهذيب وتمجيد الآلهة ومدحهم.
وحين سقطت الإمبراطورية اليونانية الوثنية، وقامت على أنقاضها الإمبراطورية الرومانية النصرانية، سيطرت الكنيسة على شتى أنواع النشاطات الإنسانية ومنها الأدب، وجعلتها خادمة للنصرانية وقيمها الفكرية والأخلاقية، وشددت النكير والعذاب على من خالف تلك السياسة أو حاول معارضتها.(/2)
وفي ظل تلك السيطرة ظهرت إشارات ذليلة، وإشادات صامته بما للأدب من قيمة جمالية، وأن تلك القيمة كبيرة الأثر عظيمة الفائدة، ومن أولئك القديس (أوغسطيوس) في كتابه (النظرية المسيحية)، حيث أشار إلى المتعة الفنية التي تذوقها في اللغة التي كتبت بها نسخ الإنجيل.
وحين جاء القرن السابع عشر، وتخلص الأوربيون من بعض سيطرة الكنيسة، ظهرت أصوات تشيد بالفن من حيث هو مجال الجمال وموطن المتعة، فقد أشار (بيركورتي) بأن الهدف الأساسي في الشعر المسرحي هو المتعة الفنية[6].
ونظر كانت (kant) (ت 1804م) إلى أن الفن عمل يهدف إلى المتعة الجمالية الخالصة، أي أنه حر، لا غاية وراءه سوى اللذة الفنية، دون ما قد يتلبَّس به من أفكار وفلسفات أو أخلاق أو قيم اجتماعية أخرى[7].
ومع مرور الزمن زادت حدة الانتقادات، وعلت أصوات الرفض للخدمة التي يقدمها الأدب للمجتمع تثقيفاً وتعليماً وتهذيباً، وممن هاجموا تلك الوظيفة الأدبية والفنية: الشاعر (شيلي ت1822م) و(ورد زورث ت1850م)، وكذلك رواد المدرسة الرمزية أمثال: (بودلير ت 1867م) و (مالا راميه ت1898م).
وفي مطلع القرن العشرين أيد النقاد هذه النظرية، وجعلوها ضرباً من الدفاع المستميت للوقوف أمام استخدام الأدب خادماً لأغراض أخرى نفعية مؤقتة[8].
وقد قام هذا المذهب في أوربا - شأنه في ذلك شأن المذاهب الأدبية الأخرى - وبدأ في فرنسا ومنها رحل إلى بلدان أخرى مثل: ألمانيا وإيطاليا، ومن ثَم أمريكا وغيرها من دول العالم.
وسبب قيامه في فرنسا يعود - في أغلب الظن - إلى قيام العلمانية في فرنسا، وثورتها المبكرة في وجه الكنيسة، كما أن الثورة الصناعية سبب غير مباشر في ذلك.(/3)
وقد وجِّهت لهذا المذهب انتقادات حادة، وذلك لانحرافه عن العقل والوعي، وتعددت جهات التنديد والمعارضة، وممن انتقدها: ت.س. إليوت (ت 1965م) الذي اتهم أصحاب هذا المنهج بقصر النظر، وأنه لابد للشاعر والأديب من الالتزام، وأن غاية الشعر والنقد تُحتِّم على الشعر أن يُقدِّم للقارئ والمتلقي نفعاً اجتماعياً ما[9].
ثالثاً: أبرز أسماء هذه النظرية وأبرز دعاتها:
تسمى نظرية الفن للفن بـ(البرناسية)، وقيل في سبب تلك التسمية: إنها نسبة إلى جبل (البرناس) اليوناني، الذي تشير الأسطورة إلى أنه جبل تقطنه آلهة الشعر، ومن ثم أخذت التسمية الصبغة الأدبية[10].
كما قد يسمى المذهب بـ(التعبيري) أو المدرسة التعبيرية، بُعْداً بها عن الإشارة الأيدلوجية والارتباط الفلسفي، وهي تسمية شاعت في ألمانيا قبيل الحرب العالمية الأولى[11].
وممن أيد هذه النظرية وتحمس لها:
1- لو كانت دي ليل (kant ) ت1804م، وَيُعَدّ مؤسسَ المذهب، وتخلى عن نصرانيته واعتنق البوذية.
2- شارل بودلير (1821- 1867م) وهو فرنسي نادى بالفوضى الجنسية.
3- تيوفيل جوتييه (1811- 1872م).
4- مالا راميه (1842- 1898م) فرنسي، وهو من أشد المدافعين عن المذهب، ومن أعمدة المذهب الرمزي كما هو مواطنه بودلير[12].
إلا أن هذا المذهب أخيراً - ونتيجة للانتقاد الشديد - تقوقع على نفسه وتراجع وانحسر في زاوية ضيقة، وإن كانت أصوله وأفكاره شاعت في مذاهب الحداثة وما بعدها كما سيتضح في المبحث التالي.
المبحث الثاني:
ما فلسفة الفن للفن وما هي فروع النظرية؟
أولاً: الفلسفة والفكر الذي تتبناه نظرية الفن للفن:(/4)
إن أبرز ما قامت عليه نظرية الفن للفن هو فصل الفن - والأدب أحد أنواعه – عن الحياة، وبتر الصلة بين الفن والمجتمع وأفراده، يقول د / صلاح فضل[13]: "معنى هذا أن نظرية الأدب ابتداءً من البنيوية قد أصابها تحول جذري، لم تصبح نظرية في الحياة، وإنما أصبحت نظرية في ظواهر الإبداع الأدبي من منظورها اللغوي والفني والجمالي".
والبنيوية – كما سيأتي – أحد الأبناء غير الشرعيين لمدرسة الفن للفن، وأحد المذاهب الأدبية التي ولدت في أحضان الحداثة الغربية.
وينطلق الفكر الجمالي (الفن للفن) من منطلقات وأفكار هي:
1- الأدب فن مطلوب لذاته، وهو فن – كغيره من الفنون – مسوق لغرض الإمتاع وجلب التسلية، ولا وجه فيه للمنفعة والتهذيب، وهو إذ ذاك يستحق الدراسة لذاته لا لموضوعه[14].
يقول كروتشه (ت 1963م) عن العمل الفني: "لا يمكن أن يكون عملاً نفعياً... ليس الفنان – من حيث هو فنان – عالماً ولا فيلسوفاً ولا أخلاقياً... لا نستطيع أن نطلب منه إلا شيئاً واحداً هو: التكافؤ بين ما يُنتج وما يشعر به"[15].
2- استبعاد التعليم والتوجيه عن الشعر والفن عامة، والاهتمام بالشكل والتعبير الأدبي أكثر من الاهتمام بالمضامين الأدبية أو الفنية. أي أن المعايير التي يُحكم على النص من خلالها معايير شكلية دون معايير أخرى[16].
3- الاهتمام بالشكل في أي عمل أدبي: لفظاً وتركيباً وصورة وموسيقا وأسلوباً.. وغير ذلك من العناصر الشكلية التي تزيد نظراً لخصوصية كل فن أدبي[17].
4- إبراز النواحي الجمالية في الشكل الأدبي، ودراسة قيمة التعبيرية والشعورية، وبيان مدى قدرتها على نقل التجربة الفنية[18]. ويرى دعاة هذا المذهب والمدافعون عنه أن مجرد إيقاظ الحس الجمالي في نفوس الناس يعني أداء دور اجتماعي مهم، لأنه متى أيقظ فيهم مثل هذا الحس فقد حملهم على نِشدان حياة أفضل وأسمى، وممن تحمس لهذا الرأي العقاد[19].(/5)
5- الاحتكام إلى الشكل وحده في بيان ما إذا كان النص المدروس أدباً أم لا[20].
6- الأفكار في الأدب غير مهمة ولا يقينية[21].
7- تحطيم القديم وتدميره لبناء العالم الجديد الخالي من الضياع -حسب زعمهم-، والقديم في رأيهم هو كل ما ينطوي على العقائد والأخلاق والقيم[22].
8- يحقق الإنسان سعادته عن طريق الفن لا عن طريق العلم[23].
9- إن الحياة تقليد للفن، وليس العكس، وهذا نقض لرؤية أفلاطون وأرسطو في المحاكاة[24].
ويرى أصحاب هذا المنهج أنه تحقيق للحرية يوم أن سُلبت في المناهج الأخرى بفعل الالتزام كما هو الحال مع الماركسية والأدب الإسلامي والوجودية وغيرها من المناهج الأدبية الملتزمة بفكر وأيدلوجية معينة[25].
والحق أن هذا المذهب هو كالأعمى، ولا يريد أحد أن يحيا حياة الأعمى، إذ لا أمارات ولا علامات يسير عليها، على النقيض من الأدب الإسلامي - بوصفه المنجى والسلامة من بين المذاهب الأخرى – الذي يُعطي الإنسان ثوابت يسير وفقها، وطرقاً يسلكها، ثم هو بعد هذا يترك الأديب يطرق أي معنى بأي وسيلة وكيف شاء ما دام هو سائر في الطريق الصحيح ووفق المنهج المقبول.
كما أن مذهب الفن للفن يقوم على عقيدة وفلسفة إلحادية، يؤكدها اسم المذهب (البرناسية)، الذي تفوح منه رائحة العقائد الإغريقية القديمة، وكما أنه مذهب ودين لا ديني، وعقيدة نبذ العقيدة، فالمنطلق أن الأديب عقل يرتفع وينخفض، وهو كالتشريع لا يُحتمل أن يكذب كله ولا أن يصدق كله؛ إذ لا قطعية في الدلالة.
وهو مع ذلك مذهب يقوم على منابذة الأديان – وهي فكرة إلحادية إغريقية قديمة -، فليس صحيحاً إذن أنه مذهب ينادي بتخليص الأدب من التسييس والحفاظ عليه من أن يكون مركباً يُبلغ به إلى أغراض أخرى تحكمها أهواء أصحابها[26].(/6)
وحتى لا يكون الكلام عدائياً لأسباب غير موضوعة، أسوق هنا بعض شواهد أدب الحداثيين، وهم امتداد لمدرسة الفن للفن كما سيأتي، وسأقتصر على إيراد شواهد من كتابات (أدونيس[27]) رائد الحداثة العربية وأحد رموزها الكبار، يقول أدونيس[28]:
"سجيل،
أين وضعتَ صُراخ الماضي؟
أفي خوابٍ يسوسها الغيب؟
أتحت مطرقة قاضٍ سماوي لا يعرف أحد أين ولد ومتى".
إذ يُلحظ أن الشاعر يتعمد صدام العقيدة، بل تناول الذات الإلهية، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وهذا يدل دلالة قطعية على بطلان زعمهم عدم الاكتراث بعقيدة أو فلسفة، فالشاعر -وهو حداثي شكلي- ينطلق من الإلحاد فلسفة وفكراً، وليس باحثاً عن الجمال كما قد تُغطى تلك المذاهب وتزيف.
وحتى لا يكون الحكم متحيزاً جائراً أُورِدُ شاهداً آخر من كتابات هذا الشاعر، يقول ناقماً على القدر[29]:
"فلك من دمٍ
ألهبوط يد الغيب ممدودةٌ
لا أظن يد الغيب إلا دماً"
وها هو الشاعر يلمز الأديان ويتهمها بالدموية والهمجية في نشر الأديان بالسيف، وكيف أن الأديان تظهر خلاف ما تُبطن، والشاعر - كما هو ظاهر - ناقم على الحروب أو مدعٍ ذلك، يقول[30]:
"ما أمرَّ الحقيقةَ: تأتي النبوات في زهرةٍ
وتُبلَّغ في حربةٍ
الحضارة عجفاء. والأرض جبانة".
ويقول في نفس القصيدة:
"ما لهذي السماء
تتناسخ في خوذةٍ
من نُسائل، يا بحرنا المتوسط
سيناء في تيهها؟
أم خواتم أمر ونهي؟
أم دماً يتدفق من كُتُب الأنبياء"
ويظهر كذلك نقمة الشاعر من الأوامر والنواهي، وهي عقيدة الفن للفن، لا أوامر أو نواهي، ولا حسن أو قبيح، بل هو العقل واجتهاده ورؤيته.
وهكذا تسير كتابات أصحاب هذا المذهب، إن لم تتطاول على مقدس أو تنل من قيمة فهي لا يرجى منها نفع، وإن جاء فنافلة أو بدعة من الأمر لم ولن ترجى مرة أخرى.
ثانياً: مِنْ رَحِمِ الفنِّ للفن:(/7)
مع تقادم الزمن وتأخر الوقت وَمضِيّه أضحت (البرناسية) أو (الفن للفن) مذهباً كبيراً يلد مذاهب أخرى، وجوهراً تتعدد وجوهه، إذ تَعُدُّ (الفن للفن) أمًّا للحداثة وما بعد الحداثة التي تقوم على الشكل وحده وجعله أساساً للتفاضل بين الأعمال الأدبية، وجنساً جمالياً دون أي ملابسات أخرى قد تتصل به أو تُلحظ فيه.
فمن رحم (الفن للفن) ولدت مذاهب كثيرة منها:
1-الشكلانية:
وهو مذهب يُعلي من شأن الشكل في الأدب، ويجعله محوراً أساساً للإشادة أو القدح في العمل الأدبي.
وهو منهج نشأ أول ما نشأ في روسيا، ونادى إلى ما يسمى بـ(موت المؤلف)، وانتشر هذا المذهب في باقي العالم، وكسب التأييد والشواهد[31].
2- البنيوية:
وهو مذهب ينظر إلى الأدب بوصفه كياناً لغوياً، ومنظومة تركيبية، يدرس هذا المذهب الظواهر اللغوية في النص ويدير الحكم على تلك الظواهر وفق معايير لغوية محددة ونمط تعبيري منظَّر له مسبقاً.
وهذا المذهب انطلق أول أمره من أفكار اللغوي السويسري: (دي سوسير 1857 - 1913م).
واتخذ هذا المذهب بُعداً آخر مع مجيء الروسي: (رومان جاكوبسون ت1982م) حيث لعب دوراً كبيراً في التوفيق والربط بين الاتجاهات اللغوية المختلفة في العالم بفعل تنقلاته المتعددة في أوربا وأمريكا[32].
3-المنهج الأسلوبي:
وهو مذهب متداخل مع البنيوية، إذ إنهما ينطلقان من منطلق النظرة اللغوية للأدب، والحكم من خلاله على النصوص.
ويُعدُّ (تشارل بالي) المؤسس الرئيس للمذهب، وهو أحد تلاميذ (دي سوسير) مُنَظِّر البنيوية، وينظر هذا المذهب إلى الأساليب اللغوية وصلتها بالعاطفة والانفعال، وآثار ذلك في تشكيل الموقف الفني والرؤية الإبداعية للعمل الأدبي.
وعمل على بلورة هذا المنهج وإكمال الرؤية التنظيرية له عدة مدارس ومذاهب منها: الأسلوبية التعبيرية عند الفرنسيين، وأسلوبية الحَدْس عند المدرسة الألمانية، وكذلك الأسلوبية الإيطالية والأسبانية[33].
4- المنهج السيميولوجي:(/8)
ويسمى (السيميوتيك) أو (السيميوطيقا)، كما يسمى: (السيمياء) و (السيميائية)
وهي مدرسة تقوم على أن اللغة ما هي إلا إشارة إلى شيء ودلالة عليه، ويسمى اللفظ: الدال، والمشار إليه: المدلول عليه. كما قد يعني هذا المنهج الرمز وعلاقة الرمز بالمرموز به.
ونشأ هذا المذهب متكئاً على آراء (دي سوسير ت1804م) و(تشارل بيرس ت 1914م)[34].
5- التفكيكية:
وهي نظرية تقوم على توليد المعاني واستنطاق النص للوصول إلى فرضيات يحتملها النص ويشير إليها، دون أن يعني ذلك إلماح الأديب إلى تلك المعاني أو قصده لها.
والتفكيكية مذهب نشأ في أحضان البنيوية، وهو نقد لها ورفض لأكثر معاييرها وقيمها.
بدأت التفكيكية بآراء (رولان بارت ت1980م) وأسَّسَها بشكلها الحالي (جاك دريدا ت 2004م) ونَظَّر لها ووضع معاييرها.
وتقوم التفكيكية على اعتبار سلطة القراءة المطلقة، وإغفال السلطتين الأخريين وعدم اعتبارهما عند الحكم على النص وتقويمه[35].
المبحث الثالث:
نظرية الفن للفن إلى أين؟ وماذا قدمت للأدب؟
أولاً: إيجابيات النظرية:
إن نظرية الفن للفن من منظور إسلامي تقل إيجابياتها وتتضاءل، وهي محصورة في جانب الشكل، وذلك أن هذه النظرية اقتصرت على أحد عناصر الإبداع دون غيره من ملابسات النص ورؤاه.
ولعل أبرز إيجابيات النظرية الصرامة في الحكم على النص وأحقيته في دخول حظيرة الأدب وإيجاب تسميته إبداعاً، وهذا المنطلق من حيث هو أحد فلسفات النظرية وفكرها إذا ما طُبق كما قُرر، يعد إيجابية لصد الكم الهائل من هذه النصوص التي تمر على الناس ويطلعون عليها سماعاً وقراءة، وتلك النصوص فيها من المتردية والنطيحة، وفيها ما لا يستحق أن يسمى كلاماً لعدم فائدته فكيف له أن يسمى أدباً؟(/9)
إن طغيان الهرطقات والسفسطائيات واللافائدة على صفحات الأدب ودواوين الكلمة ليُعدُّ سمة ظاهرة من سمات المشهد الثقافي في العصر الحاضر، ومن هنا وجب الوقوف أمام تلك الترهات ونخلها وعجمها لتبين جيدها – إن وجد – ورمي الباقي تبتلعه سلة المهملات ولا كرامة، وهذا المذهب يعد في أحد أفكاره بنظرة إلى النص من ناحية الشكل هل يمكن أن يعد أدباً أم لا؟
ومما يُحمد لهذا المذهب إقراره تلمس المواطن الجمالية في العمل الأدبي، والوقوف أمام ظواهر الإبداع ومظاهر الإجادة في اللغة والصورة والموسيقا وغيرها من العناصر الشكلية.
وهذا المنطلق يحد -نوعاً ما- من طغيان الأدب المُسَيَّس والمقنَّن المفروض فرضاً على كتاب -وليسوا أدباء- ليسيروا على سياسة محددة وفلسفة معينة بُغية التسويق والتمرير والنشر لتلك الفلسفات، إذ إن هؤلاء اهتموا بالمضامين فقط ولم يعبؤوا بالشكل؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه.
تلك هي أبرز سمات المنهج الإيجابية، وهي - كما هو ظاهر - قليلة لاتخاذه النظرة الأحادية منهجاً في دراسة الأدب وتقويمه.
ثانياً: سلبيات النظرية:
إن أول ما يطالع القارئ في هذه النظرية ومنطلقاتها الفكرية إغفالها الجانب النفعي أو الذرائعي -كما يسمونه- حيث جعلته غير مهم ولا مطلوباً ولا تعويل عليه في النقد.
إن أدباً لا يحمل مضموناً لا يمكن أن يجد قبولاً، وكيف يُقبل كلام لا معنى له ولا فائدة من ورائه؟، فالقارئ لا يمكن أن يستمر في قراءة شيء لا يفيد أو يجذب وإن كان جميلاً.(/10)
يقول أحد شعراء الحداثة عن هذا المذهب (الفن للفن)[36]: "نرجع إلى ما قيل قديماً "الفن للفن" أم الفن للواقع وللإنسان. أنا ضد أن يكون الفن للفن. ليس هناك فن للفن إلا في عالم الخرافة والأوهام، وأحياناً في الكتابات الصوتية المتجرّدة، والشعر أولاً وأخيراً يجب أن يكون مرتبطاً بواقع الحياة الاجتماعية، وبالإنسان في عذاباته وطموحاته، وبالمستقبل والماضي، وبكل ما يتدفق من الروح الإنسانية المتوهّجة".
إن نِشدان الجمال والسعي وراءه لا يمنع من أن يصاحبه الجلال المعنوي والفائدة المضمونية، إذ يُشَبِّه بعضُ النقاد الأدب بالطائر؛ جناحاه الجمال والجلال أو الشكل والمضمون، ولا يمكن لطائر أن يرتفع بأحدهما، إلا أن المضمون مع ذلك مهم لا تكميلي أو ثانوي، وهذا ما ذهب إليه (سيدني) إذ فاضل بين فنون الأدب وأغراض الشعر بالنظر أولاً إلى أثره في المتلقِّي، وهل يُذَكّي فيه حب القيم الرفيعة؟ وهل يشجعه أو يحمله على طلب المعالي والسعي إليها؟[37].
يقول د / وليد قصاب[38]: "لماذا لا يجتمع في الأدب الأمران معاً؟ لماذا نُصرُّ أن نُبعد الأدب عن أي نشاط معرفي آخر كالدين أو السياسة أو الاجتماع أو النفس أو ما شاكل ذلك وأن نقصره على اللغة؟... الأدب مثلما هو فن جمالي يقوم على لغة باهرة خارجة عن المألوف تتسم بالطرافة والإدهاش، هو كذلك تجربة إنسانية عميقة، تحمل للمتلقي خبرات بشرية عظيمة، والناس لا يقرؤون الأدب لذاته فحسب، ولا يقرؤونه للمتعة وحدها، بل يقرؤونه للمتعة والفائدة معاً، وماذا يمنع!".(/11)
إن تركيز هذا المنهج على الجمال وجعله نُشدة وغاية ليعكس واقعاً مَرَّ بالغرب وتَلَظَّوْا به، وهو واقع الاستبداد الكنسي والحجر المعرفي الذي مورس عليهم، كما أنه من جهة أخرى يعكس الملابسات التي مرت وتمر بالفرد الغربي من ضيق العيش والفقر، ومن كدر وتقلبات نفسية ومزاجية تحيل حياتهم إلى جحيم ينتهي كثيراً بالانتحار أو الجنون أو الموت والانحطاط في براثن المخدرات والمسكرات في ظل غياب الوعي الديني أولاً، والدين الحق ثانياً، والعقل الراجح ثالثاً.
وحين اجتمعت تلك الأمور - إضافة إلى حروب تسلب الفرد مدخراته وأمواله وأهله وعائلته - نشأ هذا المذهب، وولدت تلك النظرية تريد أن تقدم للمجتمع – وإن أخفقت – خدمة بالحد من التوتر والمشكلات النفسية، والحد كذلك من ظاهرة التبرم بالحياة والضيق من العيش، والتطلع للخلاص منها ولو بالموت.
إن تلك الملابسات والظروف التي نشأ فيها هذا المذهب وغيره لتدل على أن هذا المذهب إقليمي ويجب أن يظل كذلك، ولابد أن يلائم ديننا وعقيدتنا الإسلامية التي ما حدَّت من العلم أو الصناعة، ولم تحجر على العقول أو تُلغي الاجتهاد إذا هو لم يتعارض مع ثابتة من الثوابت، أو قيمة من القيم.
ليس لهذا المنهج وجه أن يعيش في بيئة مسلمة، وبين قوم أمور معاشهم ومعادهم واضحة لا لبس فيها، كما أن المشاكل – وهي موجودة – طرق حلها متوافرة، وسبل إزالتها ظاهرة ومعروفة ليس من ضمنها الموسيقا والهرطقات الصوتية الفارغة عن أي مضمون وأي فائدة.
لابد للأدب من قضية يعالجها، أو موضوع يدور حوله، ليست اللفظية –وقد طغت– هي الأدب، بل الأدب موقف - كما عبر عنه أحد النقاد - وقضية أُدير ونوقش بألفاظ وتراكيب وصور حتى يصل ويتضح في الأذهان ويبلغ الأفهام.(/12)
يقول محمد الفيتوري أحد رواد الحداثة العربية[39]: "الشعر لابد أن يكون له قضية، الشعر لا ينبع من الفراغ والشعر لا ينبع من الأرض فقط، بل ينبع من الإنسان والتصاقه بالأرض والتراب، والشعر في هذا التصور ينبع من البحث في الشكل الشعري. وهناك نظرية تقول: إنه لا علاقة للشعر بالواقع ولا علاقة للشعر بالإنسان ولا علاقة للشعر بالأحداث التاريخية، هذه نظرية معروفة في التاريخ وأنا لا أؤمن بها، لكن أؤمن أنه لا يمكن أن يكون هناك شعر دون أن يكون هناك إنسان وراء هذا الشعر، ودون أن تكون هناك قضية وآثار تسهم في تدفق الإبداع وتوهجه".
نعم، الشعر تجربة وموقف وعاطفة وانفعال ورأي، كل ذلك يأتي مسبوكاً في لغة غير اعتيادية تقوم على التصوير والإيحاء والرمز، وفق وزن وقانون يحكم الشعر الرصين ويحد حدوده، وكذا سائر فنون الأدب.
وتلك الدعوة إذ تدعو إلى خلو الأدب من هذه المواقف والآراء، أو لا تعدها مهمة تجني على الأدب وتذبحه من الوريد إلى الوريد، وتُحيل الأدب إلى ما يشبه الإيقاعات الصوتية والموسيقا البشرية التي لا يتصور لعاقل أن يأبه بها فضلاً عن أن ينشده وتملك قلبه وتأسر لبه.
إن تلك الدعوة أحالت الأدب والأدباء إلى شخوص وألفاظ لا يُعبأ لها ولا يُنظر إليها، إن الأديب اليوم فَقَدَ مركزه وضيَّع سلطانه حين انجرَّ وراء تلك الدعوات الممسوخة والمذاهب الفارغة، حتى قال أحد الحداثيين مندداً بذلك الانحدار عن المكانة والأهمية[40]:
"الشاعر لم يعد ابن عصره. بل أمسى اليوم كأي معنى تافه وسخيف، يرقص أو يغنّي على إيقاعات سيقان راقصات، ويتطلع إلى أضواء ليست له على الإطلاق، الشعر العربي المعاصر ليس جوهر الشعر... نحن شعراء ساقطون كلنا".
وتجدر الإشارة إلى أن من عيوب هذه الدعوة، بل من أبرز عيوبها: النظرة الأحادية للأدب، والتركيز على جانب دون آخر، وهو عيب عمَّ وطمَّ وغزا النقد الأدبي الحديث في العالم كله، وغَرْبِه على وجه الخصوص.(/13)
إن النظر إلى أحد جناحي الأدب وهو الشكل، وترك الجناح الآخر وهو المضمون كسرٌ للعمل الأدبي، ومنعٌ له من السمو، فهلا يدب الوعي في أذهان نقاد العصر الحديث، ويقلعون عن تلك النظرة الاستبدادية الواحدة، ذلك ما يُرجى، وهو ما يُؤمَّل حتى لا ينحدر الأدب أكثر من ذلك، ويأتي اليوم الذي يفقد فيه الأدب وظيفته بالكلية ومكانته في النفوس وصلته بالحياة والكون والثقافة[41].
كما أن نظرية الفن للفن تبتر الصلة بين الأديب - بوصفه مُنشئاً للأدب - والأدب بوصفه نتاجاً فكرياً جمالياً وبين المجتمع وهمومه وآماله ومشكلاته، وبين الحياة مستقبلاً وحاضراً وماضياً...
إن الأدب والأديب لم يَحُلا تلك المنزلة عند الأمم جميعها نتيجة الانغلاق والتقوقع على الذات، أو الطلسمة والغموض والعبثية، وهذا واقع الأدباء في مختلف الثقافات يشهد على وظيفة الأديب تجاه مجتمعه، وشواهد ذلك كثيرة في أدب العرب من رثاء المدن ووصف الفقر والحرب وآثارها مما لا يتسع المقام لذكره.
وهذا شكسبير مثلاً عالج مشكلات مجتمعه وغيره من أدباء الغرب بداية من اليونان وفلسفتهم وانتهاءً بالأدب الملتزم في الغرب إلى اليوم.
وجعل الأدب غاية ومرمى ومقصداً في حد ذاته يُشيع الإلحاد واللادينية في الأدب، وهذا يؤدي بالمجتمع – المطلع على ذاك الأدب – إلى الانحلال والانحراف، وتهدم القيم وبروج الفضيلة، وينشأ جيل مسخ لا يعني له الدين شيئاً، ولا يردعه عن غيه أحد، حتى يصبح مجتمعٌ ما؛ غابة ينتصر فيها من يملك مقومات الانتصار وآلياته من القوة ونحوها، حيث تهان القناعة، ويضيع عن البال الطموح والشرف والغاية من الحياة وسبيل السعادة ونبل الأهداف وقيمة النجاح.(/14)
إن هذا المذهب ليعتوره الخلل الكبير والفساد العظيم، في ظلِّ غياب القدوة – الملغاة سلفاً بهدم القديم -، وغياب سلطة الأديان ليحل محل ذلك أدبٌ مكشوف منحرف يُرْدِي المجتمعات ويحط من قدر الإنسانية لتصل إلى الحيوانية ودَرَكِ البهيمية المنحط.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] د / وليد قصاب، في الأدب الإسلامي، دار القلم، دبي، ط 1، 1419هـ، ص 87.
[2] الندوة العالمية للشباب الإسلامي، بحث بعنوان: البرناسية (مذهب الفن للفن)، موقع صيد الفوائد:
http://saaid.net/feraq/mthahb/107.htm.
[3] المصدر نفسه.
[4] د/ وليد قصاب، في الأدب الإسلامي، ص 87.
[5] المصدر نفسه ص 96.
[6] الندوة العالمية للشباب الإسلامي: البرناسية (مذهب الفن للفن).
[7] د/ أحمد كمال زكي: النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته، دار النهضة العربية، بيروت، ص 76.
[8] الندوة العالمية للشباب الإسلامي، البرناسية.
[9] المرجع نفسه.
[10] المرجع السابق.
[11] د/ أحمد كمال زكي، النقد الأدبي الحديث ص 103.
[12] الندوة العالمية للشباب الإسلامي، البرناسية.
[13] مناهج النقد المعاصر، دار أطلس، القاهرة، ط 4، 2005 م، ص 65.
[14] البرناسية (مذهب الفن للفن)، و: د / وليد قصاب: مقالات في الأدب والنقد، دار البشائر، دمشق، ط 1، 1426هـ ص 16، 17.
[15] د/ وليد قصاب: في الأدب الإسلامي ص 87.
[16] د / وليد قصاب: مقالات في الأدب والنقد ص 16، 17، وكذلك بحث البرناسية (مذهب الفن للفن).
[17] د / وليد قصاب: مقالات في الأدب والنقد ص 16.
[18] المرجع نفسه.
[19] د/ وليد قصاب: في الأدب الإسلامي ص 87.
[20] د/ وليد قصاب: مقالات في الأدب الإسلامي ص 16، 17.
[21] المرجع نفسه.
[22] بحث: البرناسية (مذهب الفن للفن).
[23] المرجع نفسه.
[24] المرجع نفسه.
[25] د/ وليد قصاب: في الأدب الإسلامي ص 95.
[26] الندوة العالمية للشباب الإسلامي: بحث البرناسية (مذهب الفن للفن).(/15)
[27] مما يلاحظ أن أدونيس غير اسمه الحقيقي (علي أحمد سعيد) إلى أدونيس، وهذا الاسم أحد الرموز الدينية للشعر اليوناني، وهذا يؤكد النزعة الإلحادية للفن للفن وسلالتها الحداثية.
[28] ديوان: تنبه أيها الأعمى، دار الساقي، بيروت، ط 2، 2005 م، قصيدة سجيل ص 12.
[29] المصدر نفسه ص 38.
[30] المصدر نفسه.
[31] الشيخ سفر الحوالي، المدرسة الشكلية الروسية، موقع الشيخ على الشبكة العنكبوتية:
http://www.alhawali.com/index.cfm?method=home.SubContent&ContentID=286
[32] د/ صلاح فضل: مناهج النقد المعاصر ص 59 - 73.
[33] د/ صلاح فضل، المرجع السابق ص 74 - 80.
[34] المرجع نفسه ص 81 - 88.
[35] المرجع نفسه ص 89 - 96.
[36] هو محمد الفيتوري في لقاء له ببيروت، مجلة عربسات على الشبكة العنكبوتية:
http://www.arabesque-international.com/almajala/node/71
[37] د/ وليد قصاب: في الأدب الإسلامي ص 78.
[38] مقالات في الأدب والنقد ص 15.
[39] مجلة عربسات على الشبكة العنكبوتية:
http://www.arabesque-international.com/almajala/node/71
[40] محمد الفيتوري، المرجع السابق.
[41] د/ وليد قصاب: مقالات في الأدب والنقد ص 17.(/16)
العنوان: الفوائد والقواعد في النحو لأبي القاسم الثمانيني
رقم المقالة: 1927
صاحب المقالة: د. عبدالله عمر الحاج إبراهيم
-----------------------------------------
الفوائد والقواعد في النحو
لأبي القاسم عمر بن ثابت الثمانيني المتوفى سنة: (244هـ)
عبد الله بن عمر الحاج إبراهيم
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن – الظهران – المملكة العربية السعودية
• مقدمة
• تمهيد
• تنبيهات حول الكتاب المطبوع بعنوان (الفوائد والقواعد)
• الأدلة على أن هذا الكتاب هو (شرح اللمع)
• شيوخه وتلاميذه
• آثاره
• تنبيهات عامة في منهج التحقيق والدراسة
• خاتمة
• • • • •
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين, تفرد بالكمال, ونزه نفسه عن الخطأ والنسيان, والصلاة والسلام على سيدنا ولد عدنان سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه والتابعين لهم لإحسان, أما بعد:
فلقد أمدتنا المطابع في الأعوام الأخيرة ببعض الكتب التراثية التي تنشر لأول مرة, وكان من بينها كتاب في النحو لأبي القاسم عمر بن ثابت الثمانيني (المتوفى سنة 442هـ) باسم (الفوائد والقواعد), ومحقق الكتاب عبد الوهاب محمود كحلة, من مدينة الموصل في العراق، وقد بذل المحقق الفاضل في الكتاب جُهدًا مشكورًا من حيث إخراجُ النص بصورة جيدة, والتقدِمَةُ له بدراسة عن الكتاب وحياة المؤلف.
وقد انتابتني فرحة عامرة لما وقع نظري على هذا الكتاب, فاقتنيته وشرعت في قراءة مقدمته التي وضعها التي وضعها المحقق بين يدي النص, وبعد أن دققت النظر, وأعدت القراءة غير مرة, وقفت في كلامه على نقاطٍ رأيت من الواجب التعليق عليها والتنبيه إليها, وبيان وجهة نظري فيها, وأرجو أن يتسع لها صدرُهُ؛ فالهدف أولًا وآخِرًا هو الوصول إلى القول الحق, والله من وراء القصد.
تمهيد:
في ذكر نبذة عن الثمانيني[1]:(/1)
هو أبو القاسم عمر بن ثابت الثمانيني النحوي الضرير, والثمانيني نسبة إلى (ثمانين) بليدة صغيرة تقع في جزيرة ابن عمر بأرض الموصل شمالَ العراق, قيل: إنها أول مدينة بنيت بعد الطوفان, وسميت بذلك لأنهم زعموا أن الذين نجوا في السفينة مع نوح عليه السلام كانوا ثمانين آدميًا, نزلوا منطقة قردى وبازبدي, ثم وقع فيهم الوباء فهلكوا جميعًا إلا نوحًا وأولاده سامًا وحامًا ويافِثًا ونساءهم.
قال الصَّفَدِيُّ في "نكت الهميان": كان إمامًا فاضلاً كاملاً أديبًا, أخذ عن ابن جني المتوفى سنة (392هـ), وأبي القاسم الدقيقي المتوفى سنة (415هـ), وأخذ عنه الشريف يحيي بن طباطبا, وإسماعيل بن المؤمل الإسكافي, ومحمد بن عقيل الكاتب الدسكري, وغيرهم.
كان الثمانيني يسكن محلة الكرخ من بغداد, وكان من أشهر معاصريه ابن برهان, يسكن معه في الكرخ، وكان خواص الناس يقرؤون على ابن برهان، وعمومهم يقرؤون على الثمانيني, ولعل ذلك راجع إلى شراسة في خلق ابن برهان على من يقرأ عليه, وكان فيه تكبر على أولاد الرؤساء كما ذكر الدلجي[2].
شغف الثمانيني بكتب شيخه ابن جني وخاصة كتاب "اللمع" في النحو وكتاب "التصريف الملوكي" في الصرف, فوضع عليهما شرحين حسنين هما: شرح اللمع وشرح التصريف, وبهما اشتهر, وعنهما نقل كثير من العلماء.
توفي أبو القاسم الثمانيني في سنة 442هـ بالموصل, رحمه الله وغفر له.
تنبيهات حول الكتاب المطبوع بعنوان (الفوائد والقواعد):
أولاً: عنوان الكتاب:
عنون المحقق هذا الكتاب بـ (الفوائد والقواعد), وجعله أحد الكتب التي كانت من ميراث الثمانيني العلمي والتي أشار إليها المحقق في مبحث الآثار, وهي أربعة:
1- شرح اللمع.
2- شرح التصريف.
3- المفيد في النحو (أو المقيد).
4- الفوائد والقواعد.
ومن خلال مراجعتي لترجمة الرجل في كتب الأقدمين لم أقف له إلا على ثلاثة كتب هي:(/2)
1- شرح اللمع, وهو كتاب جليل القدر, عظيم النفع. أول كتاب يوضع من شروح اللمع التي بلغت بضعة وعشرين شرحًا, وشهرته واسعة لدى أهل العلم, أشادوا به, ونقلوا عنه في مؤلفاتهم, وقد أشار إليه أغلب من ترجم له كابن خلكان في "وفيات الأعيان" 3/443, وياقوت الحموي في "معجم الأدباء" 16/57, والصفدي في "نكت الهميان": 220, وغيرهم.
2- شرح التصريف الملوكي, وهذا الكتاب أيضًا ذو شهرة واسعة عند أهل العلم, نقلوا عنه, وقد أشار إليه كثير من أصحاب التراجم كابن الأنباري في "نزهة الألباء": 256, وياقوت الحموي في "معجم الأدباء" 16/57, والفيروز أبادي في "البلغة": 171 وغيرهم, وقد طبع هذا الكتاب محققًا في رسالة علمية, كما سأشير لاحقًا.
3- المفيد في النحو (وبعضهم ذكره بالقاف), وهو كتاب مجهول, لا نعلم عنه شيئًا, ولم أقف في كتب النحاة على نقول منه, ولعل السبب في ذلك يعود في رأيي إلى أنه كتاب مختصر في القواعد وضعه الثمانيني مبكرًا, ثم استغنى عنه بما وضعه في شرح اللمع حيث جاء وافيًا كافيًا, وبه حصلت شهرة الثمانيني, وعليه اعتمد كثير من النحاة الخالفين الذين أفادوا منه, ونقلوا عنه, ولم يلتفتوا إلى غيره من المختصرات. وإلى هذا الكتاب أشار كل من ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" 16/57, والصفدي في "نكت الهميان": 220, وغيرهما.
قلت: أما فيما يخص الكتاب الرابع فلم أقف حسب تتبعي لما كتب عن الثمانيني في كتب التراجم المتقدمة على من أشار إلى الكتاب المعنون بـ (الفوائد والقواعد), وأول من ذكره هو إسماعيل البغدادي في "هدية العارفين"[3] اعتمادًا – فيما أرجح – على النسخة التركية التي وقف عليها من كتاب شرح اللمع. وهي موجودة بمكتبة (نور عثمانية) تحت عنوان (الفوائد والقواعد), وعنه في غالب الظن أو عن النسخة التركية نقل بروكلمان في "تاريخ الأدب العربي"[4], وعن أحدهما نقل عمر رضا كحالة في "معجم المؤلفين"[5].(/3)
ولهذا فإنني لست مطمئنًا إلى نسبة كتاب بهذا الاسم إلى أبي القاسم الثمانيني ما لم يقم دليل يقطع بذلك من إشارة لأحد المترجمين القدامى, أو نقول صريحة عنه, أو غير ذلك, وهو غير قائم, ولو كان للثمانيني كتاب بهذا الاسم لاشتهر, كما اشتهر "شرح اللمع" و "شرح التصريف", أو حتى كتابة الصغير "المفيد" وذلك غير حاصل.
لقد بنى المحقق الفاضل آراءه على هذه المعلومات معتمدًا على النسخة التركية)؛ حيث جعلها أصله في تحقيق هذا الكتاب, فركن إليها, واطمأن لكل ما جاء فيها, وأثبت ما عليها, وهو العنوان الذي طبع به الكتاب, وكان بين الفينة والأخرى يكرر مقولته في أن المؤلف يترسم في هذا الكتاب خطا أستاذه ابن جني في اللمع, وليس بشارح له. استمع إليه وهو يشير إلى تأثر الثمانيني بشيخه ابن جني قائلاً[6]:
"وأجلى العلائق التي تمثل تأثره بشيخه هو كتاب اللمع, فاتبع ترتيبه في أبوابه, فظن القوم أنه شرح له, ولكن صنعه الكتاب تدل على أنه مصنف مستقل قائم برأسه ابتداءً؛ لأننا لا نحس بأي سبب يربط باللمع إلا نسق الأبواب, وما زيادته عليه بشرح له ...".
وقد لمست من خلال كلامه في مقدمته الكتاب عدم اطمئنانه بشكل تام إلى عنوانه, فالتناقض واضح في عباراته, حيث يختلج في نفسه أن الكتاب قد يكون شرح اللمع, لذا نراه يقول[7]: "ولسنا نقطع بأن هذا الكتاب هو شرح اللمع, وإن كان الراجل قد ترسم فيه أبواب اللمع".
ثم يكرر ذلك مرة أخرى مع ميله إلى أن كتاب (الفوائد والقواعد) هو (شرح اللمع) دون قطع بذلك فيقول[8]: "وقد أشرنا بأن (الفوائد) و (شرح اللمع) كتاب واحد, ولكننا لم نقطع بذلك".
ثم نراه يقطع في مكان آخر بان الكتاب مؤلف مستقل بنفسه وليس بشرح اللمع حين قال[9]: "ولكن صنعه الكتاب تدل على أنه مصنف مستقل قائم برأسه ابتداء".(/4)
ثم نراه يدلى باحتمال جديد لعنوان هذا الكتاب مضمونه: أن كتب التراجم قد ذكرت للثمانيني كتابًا واحدًا في النحو بحسب للدلالة الصريحة, ألا وهو (المفيد في النحو), وخلص المحقق من هذا إلى أن كتاب (الفوائد والقواعد) قد يكون كتاب (المفيد) السالف الذكر, فقال[10]: "وإذا صح أنه المفيد فهو قريب من الفوائد", وقال: "وبين المفيد والفوائد تقارب دلالي"
أقول بعد هذا: كيف يوفق المحقق بين هذه العبارات المتناقضة من كلامه؟! كان من المفروض أن يرجح رأياُ منها يدافع عنه ويركن إليه دون غيره.
- أدلة المحقق في أن الكتاب هو (الفوائد والقواعد) وليس (شرح اللمع), والرد عليها من منهج المؤلف:
دلل المحقق على صحة ما ذهب إليه من أن الكتاب ليس شرحًا لكتاب "اللمع" بل هو مؤلف مستقل اسمه (الفوائد والقواعد) بأدلة ملخصها:
1- أن كتاب الفوائد خلا من أية إشارة إلى أنه شرح على اللمع.
2- أنا لا نحس بأي سبب يربطه باللمع إلا نسق الأبواب, فنراه لا يقدم لشرحه بما لا يفيد ذلك كأن يبدأ بذكر النص المراد شرحه ثم يتبعه بالشرح, كما يفعل الشراح عادة, واستدل على ذلك بفعل السيرافي في شرح الكتاب, وابن يعيش في شرح المفصل والأشموني في شرح الألفية وغيرهم.
3- هناك نصوص وأبيات وردت في "اللمع" لم يرد لها ذكر في هذا الكتاب, فلو كان شرحًا له لورد ذكرها فيه بالضروة.
4- أنه كان مترسمًا منهج شيخه ابن جني في اللمع بدليل أنه بدأه وختمه بما يشبه ابتداء ابن جني لكتاب اللمع واختتامه له, وكذلك موافقته له في عرض الأبواب, قال الثمانيني في بداية الكتاب: "قال الشيخ أبو القاسم عمر بن ثابت الثمانيني رحمة الله عليه: اعلم أن الكلمة عند أهل اللغة تقع على القليل والكثير..", وقال ابن جني في مقدمة اللمع: "قال أبو الفتح عثمان بن جني رحمة الله: الكلام كله ثلاثة أضرب اسم وفعل وحرف جاء لمعنى...".(/5)
وقال الثمانيني في خاتمة كتابه: "وهذا القدر الذي ذكرته في باب الإمالة يستدل به على غيره, وهو كاف بإذن الله وتوفيقه". وجاء في خاتمة كتاب اللمع ما نصه: "فأمالوهما ما داما علمين, وذلك لكثرة الاستعمال لا غير".
أقول: إن ما ذهب إليه الباحث لا يقوى أمام الأدلة الدامغة التي تشير إلى أن الكتاب هو شرح اللمع لا غيره.
أما ما ذكره من عدم وجود إشارة في الكتاب تدل على أنه شرح على اللمع, فإني أقول: هل هذا سبب مقنع كاف في الدلالة على أن الكتاب ليس بشرح للمع, وأنه كتاب مستقل؟! فالكتاب كما يعلم المحقق خلا من خطبة يشرح فيها المؤلف منهجه ودواعيه لوضع الكتاب, كما هو شأن كثير من الكتب التي وصلت إلينا خلوًا من مقدماتها – ككتاب سيبوية والمقتضب وغيرهما - ومع أننا اعتدنا من أساليب الشراح تميز كلامهم عن المتن المشروح, إلا أننا نقول: إن عدم إحساسنا برابط قوي يربط الشرح بالمتن من ذكر للنص أولاً ثم إتباعه بالشرح ليس سببًا كافيًا لأن ننفي كون الكتاب شرحًا للمع.
وماذا سيكون رأي المحقق إذا ما علم بأن هذا الأمر وهو عدم وجود التمايز بين الشرح والمتن) هو ميزة اتسم بها منهج الثمانيني في مؤلفاته, ودليل ذلك أن الثمانيني في كتابه الآخر "شرح التصريف" يسير على النهج نفسه الذي سار عليه في كتابه هذا, فلا تمايز فيه بين الشرح والمتن أيضًا, ويخيل للقارئ بأن الثمانيني وضع كتابًا في التصريف مستقلاً, وليس له أي ارتباط بكتاب آخر لعدم وجود تلك الفوارق التي عناها المحقق.
فلو أن المحقق الفاضل اطلع على متاب الثمانيني "شرح التصريف", ووقف على منهجه فيه وطريقته لعلم يقينًا بأن الكتاب الذي قام بتحقيقه هو كتاب "شرح اللمع" وليس بكتاب "الفوائد والقواعد".(/6)
كما أن المنهج الثمانيني في تقدمة الكتابين واحد, فهو في "شرح التصريف" لم يقدم لشرحه بمقدمة, بل جاءت بداية الكتاب كما يلي: "اللهم يسر برحمتك, قال الشيخ أبو القاسم عمر بن ثابت الثمانيني رحمه الله: الكلام كله ثلاثة أقسام..", وهذا الافتتاح مشابه تمامًا لما في هذا الكتاب الذي كانت بدايته: "عونك اللهم, قال الشيخ أبو القاسم عمر بن ثابت الثمانيني النحوي رحمة الله عليه: اعلم أن الكلمة عند أهل اللغة تقع على القليل والكثير...".
كما يلحظ في الكتابين ظاهرة أخرى اشتركا فيها ألا وهي ظاهرة الجفاء التي اتسم بها أسلوب الثمانيني تجاه شيخه ابن جني؛ حيث إنه لم يذكره في كتابه "شرح التصريف" إلا مرةً واحدةً كما هو الحال في الكتاب الذي بين أيدينا فإنه لم يذكره صراحة إلا مرة واحدة, وكنايةً في موطنين اثنين قال في أحدهما: "قال صاحب هذا الكتاب", وقال في الآخر: "صاحب هذا المختصر"[11]. ولم يذكر آراءه, وقد لمح المحقق ذلك حيث قال: "ولكن من العجب أنه لا يذكر آراء شيخه ابن جني مع شدة اتصاله به, وقوة علاقته معه"[12], فأسلوب الثمانيني في الكتابين واحد, ومقدمة الكتابين واحدة, ومن ثم لا يحق لنا أن نتخذ أسلوبه في هذا الكتاب دليلاً على أنه كتاب مستقل وليس بشرح لكتاب اللمع, كما أكد المحقق ذلك مرارًا.
أما كونه بدأ بمقدمة تشبه مقدمة شيخه ابن جني وأن ذلك يد على أنه مترسم منهج شيخه في كتابه لا أنه شارح له, فليت شعري ما الذي يضير الثمانيني وهو يشرح كتاب شيخه أن يتيمن به فيبدأ بمقدمة مشابهة له, يختم بخاتمة مشابهة له؟!
لقد أخطأ الباحث في نظري خطًا مبينًا, وحاول جاهدًا أن يقدم المبرر الذي يسوغ إطلاق هذا العنوان على الكتاب, ولم يكن لديه في الحقيقة من الأدلة إلا ما أثبت خطًا على غلاف النسخة التركية التي اعتمدها أصلاً في التحقيق.(/7)
وبعد كل هذا وذاك أقول: إن هناك نصوصًا من داخل هذا الكتاب تشير بوضوح إلى أن الثمانيني يشرح كتاب اللمع, أرجئ الحديث عنها إلى الأدلة التي سوف أوردها بعد قليل. (ارجع إليها في الدليل الثالث).
الأدلة على أن هذا الكتاب هو (شرح اللمع):
أما الأدلة على صحة ما ذهبت إليه من أن الكتاب (شرح اللمع) فهي التالية:
الدليل الأول: نسخ الكتاب:
للكتاب ثلاث نسخ وقف عليها المحقق:
الأول هي نسخة مكتبة (نور عثمانية) التركية, وهي النسخة الوحيدة التي تحمل عنوان (الفوائد والقواعد), أما النسختان الأخريان فقد نصتا صراحةً على أن الكتاب هو شرح لكتاب اللمع:
1- أولاهما نسخة دار الكتب المصرية, وعنوانها: (التعليق على اللمع للمثانيني), وهي محفوظة فيها برقم (1570 نحو), وتاريخ نسخها هو سنة 1596هـ.
2- وثانيتهما النسخة المدينة, وعنوانها: (شرح اللمع), وهي محفوظة في مكتبة الشيخ محمد بن عبد الله آل عبد القادر الأنصاري بالمدينة النبوية, وتاريخ نسخها هو سنة 656هـ.
ولعمر الله إنه الصواب الساطع سطوع الشمس في رابعة النهار, ومع ذلك خفي على المحقق وجهه, وحاول بشيء من التكلف التوفيق بين العناوين المختلفة لنسخ الكتاب, فوقع في محذور أشد خطرًا مما ارتآه في عنوان الكتاب؛ حيث قال:
"ولعل أمر الاختلاف في حقيقة هذا الكتاب وفي عنوانه مرده – فيما نقدر – إلى حال متصلة بحياة مؤلفه, فمن المحتمل أنه كان قد أقل وضعه بين أيدي الناس فلم ينتشر ذكره, ولم يشع ذكره, ولم يشع عنوانه, وقد أسلفنا أن الرجل كان ملعمًا يأخذ على التعليم أجرًا, فلا عجب أن يحرص على كتابه الحرص كله لأنه معتمد تدريسه في معاشه وكسب رزقه".(/8)
لقد اتهم الباحث – فيما ظهر من كلامه السابق – المؤلف بأنه لما رأى عدم سيرورة هذا الكتاب الذي وضعه, وهو الذي يعتمد على التدريس في معاشه, أراد أن يشيع ذكر هذا الكتاب بين الناس فوسمه بشرح اللمع في نسخ بعد أن كان أسماه بـ "الفوائد والقواعد", وإلا فما معنى قوله قبل: "ولعل أمر الاختلاف في حقيقة هذا الكتاب وفي عنوانه مرده فيما نقدر إلى حال متصلة بحياة مؤلفه", هذا هو تفسير الخلاف كما أراد الباحث, وهذا مؤدى كلامه, لقد أراد أن يخرج من المأزق الأول وهو تعارض عناوين النسخ, فوقع في مأزق أكبر منه وهو اتهام المؤلف بتغييره اسم كتابه إلى "شرح اللمع" ليشيع ذكره بين الطلبة من أجل كسب الرزق. هذا منطق بعيد عن المنهج العلمي في إثبات حقيقة عنوان الكتاب التي لو أرادها المحقق لانقادت إليه طواعية من خلال النصوص التي مرت عليه فيه, دونما تكلف للتوفيق بين ما تعارض لديه من عنوانات نسخه.
ولو سلمنا جدلاً أن المؤلف غير اسم الكتاب لهدف ما – كما أشار المحقق وهو غير مقبول – فإنه أحرى بالاتباع مما انفردت به النسخة الثالثة التركية, حيث وجاهة الأدلة؟! اللهم إلا إذا كان المراد أن التغيير حصل بعد زمن المؤلف, فهذا ما لا يمكن قبوله.
ثم إني أقول: إذا كان المحقق قد استدل[13] على أن هذه النسخ كلها مأخوذة عن أصل واحد لاتفاقها في كثير من مواطن الوهم الحاصلة فيها, فإن اتفاق نسختين من الثلاث المأخوذة عن أصل واحد في اسم الكتاب أدعى إلى الاطمئنان مما انفردت به نسخة مكتبة (نور عثمانية) التركية!!
الدليل الثاني: نقول العلماء عنه:
شرح اللمع للثمانيني كتاب مشهور عند العلماء, وقد استفاض ذكره عند كثير منهم, حيث أفادوا منه ونقلوا عنه صراحة, وممن أكثر من النقل عنه مع التصريح باسمه القرافي في كتابه "الاستغناء في أحكام الاستثناء", وسأورد نصوصه كاملة لمقارنتها بما ورد في الكتاب من أجل الوقوف على مدى المطابقة بينهما.(/9)
وهناك من نقل عن الكتاب دون التصريح باسمه كابن الشجري في أماليه في ثلاثة مواضع, وابن الأنباري في أسرار العربية في موضعين, وابن القواس في شرح ألفية ابن معط في موضوع واحد, وأبو حيان في الارتشاف في موضعين والزركشي في البرهان في موضع واحد, والشيخ خالد الأزهري في موضوع واحد أيضًا وغيرهم.
- ما جاء في كتاب "الاستغناء" للقرافي (ت682هـ):
نقل القرافي في ثمانية مواضع من كتابه "الاستغناء في أحكام الاستثناء" عن الثمانيني في "شرح اللمع", وفي جميعها يقول القرافي قال الثمانيني في شرح اللمع وجميع النصوص موجودة في هذا الكتاب بلفظها, إلا فروقًا بسيطة في ألفاظ أو عبارات غالبًا ما تحدث في النقول.
- قال القرافي في النص الأول[14]:
"قال الثمانيني في شرح اللمع: لم امتنع دخول التأنيث في ليس ولا يكون إذا كان الخبر مؤنثًا؟ ولم امتنع تثنية الضمير الذي فيهما وجمعه إذا كان الخبر مثنى أو مجموعًا؟ ..." إلى آخر النص.
ونرى هذا النص عند الثمانيني كما يلي[15]:
"فإن قيل: لم امتنع دخول التأنيث في ليس ولا يكون إذا كان خبر مؤنثًا, ولم امتنع تثنية الضمير الذي فيهما وجمعه إذا كان الخبر مثنى أو مجموعًا؟ فعن هذا السؤال جوابان..".
- وقال في النص الثاني[16]:
"قال الثمانيني في شرح اللمع: الناصب ما قبل إلا من الفعل أو معنى الفعل و (إلا) قوت العامل المتقدم, فوصلته لما بعده, ومعنى الفعل كقولهم: القوم في الدار إلا زيدًا. فزيد مستثنى من الضمير الذي في الظرف, والضمير مرفوع بالظرف, والظرف ناصب المستثنى".(/10)
وفي هذا الكتاب جاء النص كما يلي[17]: "الناصب لزيد هو ما قبل إلا من الفعل أو معنى الفعل, و (إلا) قوت العامل الذي قبلها فأوصلته إلى ما بعدها تشبيهًا بالمفعول, وقد مثلت بالفعل, فأما معنى الفعل فقولك: القوم في الدار إلا زيدًا. فزيد مستثنى من الضمير الذي في الظرف, وهو الراجع إلى القوم, وذلك الضمير مرفوع بالظرف, والظرف هو الذي نصب المستثنى, لأن إلا قوته فأنقذتها إلى ما بعدها".
- وقال القرافي في النص الثالث[18]:
"قال الثمانيني في شرح اللمع: لا يجوز أن يتقدم الاستثناء على ناصبه؛ انه ليس بمفعول صحيح, فيجوز فيه ما جاز في المفعول؛ ألا ترى أن العامل لم يعمل فيه إلا أن قوي بـ (إلا), ولا يجوز أن يتقدم على (إلا)؛ لأن (إلا) قد صارت حرفًا من الحروف النواصب".
وجاء النص عند الثمانيني كما يلي[19]: "ولا يجوز أن يتقدم المستثنى على ناصبة لأنه ليس بمفعول صحيح فيجوز فيه ما جاز في المفعول, ألا ترى أن العامل لم يعمل فيه إلا أن قوى بـ (إلا), ولا يجوز أن يتقدم المستثنى على إلا, لأن (إلا) قد صارت بمنزلة حرف من حروف النصب".
- وقال القرافي في النص الرابع[20]:
"قال الثمانيني في شرح اللمع: يجوز النصب في الآية (إلا الله) على الاستثناء, وأنكره الشيخ ابن عمرون إنكارًا شديدًا".
والنص عند الثمانيني هو[21]: "ولو قرئ النصب إلا الله على الاستثناء لكان جائزًا وقال في النص الخامس[22] تعليقًا على نصب (غير) من قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}؛ حيث يجوز فيها الرفع والنصب والجر ما نصه:(/11)
"قال الثمانينيى في شرح اللمع: يجوز أن يكون حالاً من الضمير في (المؤمنين), فهو في صلة الألف واللام وناصبه (المؤمنين), فلا يجوز تقدميه على (المؤمنين)؛ لأن الصلة لا تتقدم على الموصول, ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في (القاعدين), فهو في صلة لام (القاعدين), وهو الناصب له, ويكون معنى الكلام: لا يستوي الذين قعدوا غير مضارين, فعلى هذا يجوز أن يتقدم على (المؤمنين), ولا يتقدم على (القاعدين)".
وجاء النص عن الثمانيني كما يلي[23]: "وإن جعلته حالاً جاز أن تكون حالاً من الضمير في (المؤمنين), وجاز أن تكون حالاً من الضمير في (القاعدون), فإن كان حالاً من الضمير في (المؤمنين) فهو في صلة الألف واللام, وناصبه (المؤمنين) فهو في صلة الألف واللام, فلا يجوز أن تتقدم على (المؤمنين)؛ لأن الصلة لا تتقدم على الوصول، وإن كان حالاً من الضمير في (القاعدون), فهو في صلة هذه الألف واللام, و(القاعدون) هو الناصب له, فكأنه قال: لا يستوي الذين قعدوا غير أولي الضرر, أي غير مضارين, فعلى هذا يجوز أن يتقدم على (المؤمنين)؛ لأنه ليس في صلتهم, فكنت تقول: لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر, ولا يجوز أن يتقدم على (القاعدون)؛ لأنه في صلته".
- وجاء النص السادس عند القرافي[24] ما نصبه:
"قال الثمانيني في شرح اللمع: لا تكون (إلا) و (غير) وصفين إلا لنكرة أو معرفة بالألف واللام, ولقد أجاز الأخفش أن تكون صفة للمضمر, واستشهد بالقراءة الشاذة في هذه الآية".
والنص عند الثمانيني[25]: "ولا يجوز أن تكون (غير) و(إلا) وصفين إلا لنكرة أو معرفة بالألف واللام, وقد أجاز الأخفش أن تكون وصفًا للمضمر, واستشهد بقراءة شاذة على جواز هذا, وهي قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ}, كما تقول: غير قليل منهم".
- وقال القرافي[26] في النص السابع – ونقل فيه مرتين – ما نصه:(/12)
"التاسع: قال الثمانيني في شرح اللمع لابن جني: إذا قلت: له عندي درهم غير صحيح, فمعناه: درهم يخالف الصحيح, فيجوز أن يكون مقطعًا, وهذا مستمر في (إلا) أيضًا ...
العاشر: قال الثمانيني: إذا قلت: له عندي درهم إلا قيراطًا, فمعناه: ينقص قيراطًا, وإن قال: له عندي درهم إلا قيراط بالرفع, فمعناه: له عندي درهم يخالف قيراطًا, فقد اعترف بدرهم كامل".
والنص الثمانيني كما يلي: "وإذا قال: عندي درهم غير صحيح, كأنه قال: عند درهم يخالف الصحيح, فيجوز أن يكون عنده قطع أو غلة, هذا مستمر في (إلا) و (غير)...
وإذا قال: عندي درهم إلا قيراطٌ, فكأنه قال: عندي درهم ينقص قيراطًا, وإذا قال: عندي درهم إلا قيراطًا, فمعناه: عندي درهم يخالف قيراطًا, فكأنه قال: عندي درهم كامل.
وإذا قال: عندي درهم غير قيراطٍ, فمعناه: عندي درهم ينقص قيراطًا, وإذا قال: عندي درهم غير قيراطٍ, فكأنه قال: درهم كامل".
هذه النصوص تؤكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك بأن الكتاب هو شرح اللمع لا الفوائد والقواعد.
ومن الغريب حقًا أن المحقق الفاضل وقف على هذه النصوص في دراسته للكتاب, ومع ذلك لم يكن ليقتنع بأن الكتاب هو شرح اللمع, بل يعود في أكثر من موضع من دراسته للكتاب ليؤكد لنا أنه مؤلف مستقل بنفسه, بعيد كل البعد عن أن يكون شرحًا لكتاب اللمع, لكنه ترسم خطاه, وسار على نهجه في ترتيب أبوابه وفصوله, إلا أن القوم ظنوا أنه شرح عليه, ثم يعلل لنا ذلك بأن كتاب اللمع كان بين يدي الثمانيني وهو يضع كتابه هذا, فحذا حذوه في ترتيب فصوله وترسم أبوابه فحسب, ولم يشرحه. استمع إليه يقول[27]: "وأجلى العلائق التي تمثل تأثره بشيخه هو كتاب اللمع, فأتبع ترتيبه في أبوابه, فظن القوم أنه شرح له, ولكن صنعه الكتاب تدل على أنه مصنف مستقل قائم برأسه ابتداء؛ لأننا لا نحس بأي سبب يربط باللمع إلا نسق الأبواب "وما زيادته عليه بشرح له...".
الدليل الثالث: نصوص من الكتاب:(/13)
ورد في هذا الكتاب خمسة نصوص مر عليها المحقق مرور الكرام, ولو أنه وقف عندها قليلاً لقادته إلى الرأي الصواب, وسأوردها بنصها ليقف القارئ معي على ما أردت بيانه:
- النص الأول: قال الثمانيني في باب إعراب الاسم الواحد:
"إنما قال: (إعراب الاسم الواحد) تحرزًا من إعراب التثنية والجمع؛ لأن للتثنية بابًا يذكر فيه إعرابها, وللجمع أبوابًا يذكر فيها إعرابه"[28].
واضح أن الثمانيني يعلل لعبارة شيخه ابن جني الواردة في اللمع, ولولا أنه يشرح الكتاب لما اضطر إلى تعليل العبارة, ولشرع مباشرة في الكلام على مفردات هذا الباب, كما فعل في باقي الأبواب, مع العلم بأن أسلوب الثمانيني اتسم بالجفاء نحو شيخه, فما كان يذكره ولا يشير إلى آرائه واختياراته, وهذا واضح منه في كتابيه المشهورين لدى جمهرة العلماء (شرح اللمع) وهو هذا الكتاب, و(شرح التصريف), وذلك أن تقف على مدى هذا الجفاء بأن تعلم أنه لم يذكر شيخه ابن جني إلا مرة واحدة صراحة في كل كتاب, وأشار إليه كناية مرتين في (هذا الكتاب), وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
فإن لا يذكر آراء شيخه ابن جني في المواطن التي يجب ذكره فيها, فما إشاراته إلى كلامه وألفاظه وتعبيراته في بعض الأبواب إلا دليل واضح على أنه يشرح العبارة لا أنه يترسم الطريقة.
- النص الثاني: قال الثمانيني قبل أن يشرع في باب المنقوص:(/14)
"واعلم أنه ذكر في الباب الأول (أقسام الكلام), وذكر في الثاني (المعرب من الأقسام والمبني), وذكر في الثالث (الإعراب والبناء), وفرق بينهما, ولما أراد أن يذكر المعرب – والمعرب قسمان: الاسم المتمكن والفعل المضارع – قدم الكلام في إعراب الاسم على الفعل؛ لأن الاسم هو الأصل والفعل فرع عليه, ولما أراد أن يتكلم في إعراب الاسم – وكان الاسم قد يكون مفردًا ومثنى ومجموعًا – قدم الكلام في المفرد لأنه الأصل للتثنية والجمع, فإذا فرغ من الآحاد ذكر إعراب التثنية لأنها فرع على الواحد, وإذا فرغ من التثنية ذكر إعراب الجمع؛ لأن الجمع فرع من التثنية.
ولما أراد إعراب الواحد – والواحد يكون صحيحًا ومعتلاً – قدم الكلام في إعراب الصحيح لأنه الأصل ويبرز الإعراب فيه إلى اللفظ, ولما كان المفرد الصحيح يكون منصرفًا وغير منصرف قدم الكلام في المنصرف لأنه الأصل, ولما تكلم في إعراب المنصرف تكلم في إعراب ما لا ينصرف, ثم تكلم في إعراب المضاف, وما فيه الألف واللام؛ لأنهما فرع على المنصرف وغير المنصرف.
ولما فرغ من إعراب الصحيح وأراد أن يتكلم في إعراب المعتل – وكان المعتل على ضربين: ضرب معتل على كل وجه, ومعتل يعتل على وجه ويصح على آخر قدم الكلام في القسم الذي يعتل على كل وجه, ولما كان هذا الذي يعتل على وجه ينقسم على قسمين: يظهر فيه بعض الإعراب ويقدر فيه بعض الإعراب, وقسم لا يظهر فيه شيء من الإعراب, فوجب أن يقدم الكلام في المعتل الذي يظهر فيه بعض الإعراب؛ لأنه أقرب إلى الصحيح وهو (المنقوص), وفي المعتل الذي لا يظهر فيه الإعراب وهو (المقصور). وإذا ذكر المقصود ذكر الممدود؛ لأنه ضد المقصور, وإذا ذكر الممدود ذكر المهموز؛ لأنه مثل الممدود في الهمز, ثم يذكر ما يصح في حالة من المعتلات"[29].(/15)
النص طويل, وكما هو ملاحظ يشرح الثمانيني طريقة شيخه ابن جني في عرضه للأبواب النحوية, ويعلل له, ويريد من ذلك التقدمة لشروعه في الكلام عن المعرب من الأسماء, وابتدائه بباب المنقوص أولاً, وما دفعه إلى هذا إلا أنه يقوم بشرح الكتاب, فهو مضطر للسير معه بالترتيب نفسه, وإلا ليس هناك داع إلى هذا الكلام كله لو كان المؤلف يضع كتابًا مستقلاً لا علاقة له باللمع.
ولو كان مترسمًا ترتيب الأبواب – كما ذهب إليه المحقق – لكان عليه أن يشرع في وضع الأبواب دون إشارة إلى ما فعله ابن جني في اللمع؛ إذ لا رابط يربطه به إذ ذاك, لكن حين كان الكتاب شرحًا على اللمع كان لزامًا على الثمانيني أن يسير على الطريقة التي سار عليها ابن جني من حيث ترتيب الأبواب النحوية نفسها, وحتى يكون ما عمد إليه ابن جني في هذا الترتيب متقبلاً لدى القارئ, كان الثمانيني يعلل في هذه المواطن ويذكر السبب المقنع في ترتيب شيخه لأبواب اللمع.
النص الثالث: قال الثمانيني في باب المبتدأ:
"قال صاحب هذا الكتاب: المبتدأ كل اسم ابتدأته وعربته [كذا في المطبوع والصحيح: عريته] من العوامل اللفظية, وعرضته لها, وجعلته أولاً لثان, يكون الثاني حديثًا عن الأول ومسنداُ إليه.
معنى قوله: (ابتدأته) أي: قدمته في لفظ أو في بيتك [كذا في المطبوع والصحيح، نيتك]، فمثال المقدم في اللفظ: زيد قائم، ومثال المقدم في النية : قائم زيد، ومعنى قوله: (عريته من العوامل اللفظية) يريد بالعوامل اللفظية كان وأخواتها، وإن وأخواتها، وظننت وأخواتها لأن هذه العوامل هي التي تدخل في المبتدأ وخبره.
ومعنى قوله: (عرضته لها): أي: يحسن دخولها عليه متى أردت ذلك، ومعنى قوله: (أولاً لثان) أي: يحسن دخولها عليه متى أردت ذلك، ومعنى قوله: (أولاً لثان) أي: جئت به لتسند الخبر إليه، لأن المخاطب يعرف المبتدأ، وإنما يستفيد الخبر، فأنت جئت بالمبتدأ لتسند هذا الخبر إليه.(/16)
واعلم أن هذا الفصل يشتمل على ثلاثة أشياء .."[30].
الدليل في هذا النص واضح غاية الوضوح، دال على ما نقصد إليه دلالة الصبح على الشمس ، فلولا أن الثمانيني يشرح كتاب شيخه لما عمد إلى إيراد نصه في تعريف المبتدأ دون غيره من العلماء، ثم قام بشرح مفردات هذا التعريف.
النص الرابع: جاء في أول باب المجرورات من هذا الكتاب:
"لما ابتدأ بالمرفوعات والرفع هو الضمة، والضمة من الواو ، والواو من ابتداء الفم، كان ينبغي أن يتلو المرفوعات بالمجرورات، لأن الجر هو الكسر، والكسرة من الياء، والياء من وسط الفم ثم يتلوا المجرورات بالمنصوبات: لأن النصب هو الفتحة، والفتحة من الألف، والألف من أقصى الحلق، فهي نقيضة الواو، إلا أنه تلا المرفوعات بالمنصوبات، لأن المنصوب أصل للمجرور: لأن المجرور منصوب في المعنى ومفعول، وقدم المنصوب في اللفظ على المجرور: لأن المجرور متأول، والمتأول فرع على ما بيرز في اللفظ"[31].
قصد الثمانيني بقوله: (لما ابتدأ شيخه ابن جني في كتاب اللمع الذي يشرحه هو، حيث أراد أن يبدي رأيه في الترتيب المنطقي الذي كان ينبغي أن يكون في كلام شيخه، فأشار إلى أنه كان على ابن جني أن يتلو المرفوعات بالمجرورات فالمنصوبات ، إلا أنه قدم المنصوبات على المجرورات، وعلل الثمانيني هذا التقديم بأن المجرور منصوب في المعنى وهو متأول، والمتأول فرع على البارز.
أقول هنا: إذا كان الثمانيني لا يشرح اللمع فلماذا إثارة مثل هذا الاعتراض منه على ترتيب الأبواب في اللمع، ثم إجابته عليها وتبريره موقف شيخه.
النص الخامس : قال الثمانيني في باب إعمال المصدر
"اعلم أن صاحب هذا المختصر أخر باب إعمال المصدر إلى أن ذكره في جملة الموصولات؛ لأنه في معنى (أن يفعل) و (أن فعل) لأنا قد بينا أن يكون الفعل والفاعل بعدها صلة لها وتمامًا، سواء كان الفعل لازمًا أو متعديًا"[32].(/17)
أقول بعد هذه النصوص التي قدمناها معضدة بما سبق: أليس في هذا مقنع يدلنا على أن الكتاب شرح على اللمع، وليس كتابًا مستقلاً؟!
ثانيا: شيوخه وتلاميذه:
قال المحقق في تقدمته للكتاب: "فكتب السير لا تذكر له إلا شيخًا واحدًا، وتلميذًا واحدًا، وقرينًا واحدًا ، أما شيخه فهو أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392هـ)، وأما تلميذه فهو أبو المعمر يحي بن طباطبا العلوي (ت 478هـ)، وأما قرينه فهو أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي (ت 456هت)"[33].
وهذا كلام فيه نظر، فقد ذكرت بعض التراجم أسماء أخرى، كما ذكر الثمانيني نفسه اسم أحد شيوخه في كتاب "شرح التصريف". ففيما يتلعق بشيوخ الثمانيني فإنا نقول : للثمانيني شيخان هما:
1- أبو الفتح عثمان بن جني (ت392هـ):
تلمذة الثمانيني لابن جني مشورة, ذكرها كل من ترجم للرجلين, فلا داعي للإفاضة في الحديث عنها, إلا أن أمرًا مهمًا يلفت النظر في كتب الثمانيني ألا وهو عدم ذكره لشيخه ابن جني صراحةً إلا مرة واحدة في هذا الكتاب[34], وكنى عنه مرتين, قال عنه في إحداهما: صاحب هذا المختصر, وقال في الأخرى: صاحب هذا الكتاب. كما أنه لم يذكره إلا مرة واحدة في شرحه على التصريف الملوكي.
وهذا أمر غريب حقًا من قبل عالم مشهور كالثمانيني شرح كتابين من كتب شيخه, وكان من ألمع تلاميذه, وهذا الجفاء أو الازورار قد فسره بعض الباحثين بأن له أكثر من احتمال:
- فقد يكون سجية من سجايا الثمانيني.
- وقد يكون خلافًا عقديًا؛ حيث ابن جني على مذهب شيخه الفارسي في الاعتزال, والأقرب أن يكون الثمانيني سنيًا, وأمارة ذلك أن اسمه عمر.
- أو قد يكون أخفي ذلك خوفًا من بطش الحنابلة الذين يحيطون بمحلة الكرخ حيث كان يقيم الثمانيني (والكرخ محلة الشيعة الإمامية في بغداد), فلعل الحنابلة إذا سمعوه يمجد ابن جني أو يمدحه آذوه أو صرفوا عنه الطلبة, وهو أمر لا يروق للثمانيني لأنه كان يتكسب بالتعليم[35].(/18)
قلت: وهذا الاحتمال بعيد؛ بدليل أن الثمانيني قد ذكر شيخ ابن جني أبا علي الفارسي وترحم عليه في هذا الكتاب حين قال عن الضمائر المتصلة بالفعل الذي ظهر فاعله[36]: "وكان أبو علي رحمة الله يقول: هذه حروف, والفاعل هو ما بعدها...", فلو كان المحذور هذا لتجنب الثمانيني ذكر أبي علي أيضًا.
2- علي بن عبيد الله بن الدقاق الدقيقي المتوفى سنة (415هـ):
أخذ الدقاق عن أبي علي الفارسي (المتوفى سنة 377هـ), وأبي سعيد السيرافي (المتوفى سنة 368هـ), وأبي علي الرماني (المتوفى سنة 384هـ) وغيرهم, وتخرج عليه خلق كثير.
وقد ذكره أبو القاسم الثمانيني في شرحه على التصريف الملوكي حيث قال:
"وأما قلب الياء من الواو إذا كانت الواو لامًا فقولهم: غاز, وهو من غزوت, ودان, وهو من دنوت, وعال, وهو من علوت, وأمثلة كثيرة.
سألت بعض النحويين عن قلب هذه الواو إلى الياء فقلت له: شرطتم بأن الواو تنقلب ياء إذ سكنت وانكسر ما قبلها, والأصل في هذا: غازو, فالواو متحركة, فقد نقص أحد الشرطين, وكان ينبغي أن تصح الواو ولا تنقلب, وليس يجوز أن يقال بأنا استثقلنا الخروج من ضم لازم إلى كسر لازم؛ لأن ضمة الواو إعراب, والإعراب ليس بلازم.
فقال لي: نوينا الوقف على الواو, فلما سكنت للوقف وقبلها كسرة غلبت عليها الكسرة فقلبتها ياء.
فقلت له: نحن نقول في المؤنث: غازية, فقد زال السكون؟
فقال لي: التأنيث طارئ على لفظ التذكير, فالتأنيث فرع والتذكير هو الأصل, فلما وجب القلب في الأصل حمل الفرع عليه. وهذا كله عن أبي القاسم الدقاق رحمه الله".
وفيما يتعلق بتلاميذ الثمانيني فإني أقول:
للثمانيني تلاميذ سوى ابن طباطبا ذكرهم المترجمون, وهم:
1- إسماعيل الإسكافي (ت448هـ):(/19)
وهو أبو غالب إسماعيل بن المؤمل بن الحسين بن إسماعيل الإسكافي الضرير النحوي, كان فاضلاً وأديبًا شاعرًا, روى عنه أبو القاسم عبد الله بن محمد بن باقياء الشاعر, وعبد المحسن بن علي التاجر, وغيرهما, توفي سنة (448هـ). قال عنه الوزير ابن المسلمة: لا أدري في النحو مفتوح العين إلا هذا المغمض العين[37].
2- الشريف العلوي (ابن طباطبا) (ت478هـ):
وهو أبو المعمر يحيي بن محمد بن القاسم بن طباطبا المتوفى سنة (478هـ). نقيب الطالبيين بمصر, وكان من أكابر رؤسائها, نحوي أديب فاضل. أخذ عن الربعي والثمانيني, وعنه أخذ ابن الشجري[38], توفي سنة (478هـ).
3- الحلواني (ت493هـ):
أبو عبد الله سليمان بن أبي طالب بن عبد الله الحلواني النهرواني, إمام في اللغة والنحو, أخذ عن أبي الخطاب الجبلي والثمانيني وابن ماكولا وغيرهم. من تصانيفه: التفسير على القراءات, والقانون في اللغة (عشرة مجلدات) قال ياقوت: لم يصنف مثله, وغيرها, كان شاعرًا مجيدًا, توفي سنة (493هـ)[39].
4- الدسكري (ت493هـ):
أبو سعد محمد بن عقيل بن عبد الواحد الدسكري الكاتب, ذكره ابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد" قال[40]: "أخبرني أبو سعد محمد بن عقيل بن عبد الواحد الدسكري ببغداد قال: أنشدني أبو القاسم عمر بن ثابت الثمانيني النحوي صاحب الشرح لسيدوك الشاعر الواسطي:
إِذَا مَا قَطَعْتُمُ لَيْلُكُمُ بِمُدَامِكُم وَأَفْنَيْتُمُ أَيَّامُكُمُ بِمَنَامِ
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْجُوكُمُ لِمُلِمَّةٍ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَغْشَاكُمُ لِسَلاَمِ
كَأَنَّكُم لَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ حَاتِمِ وَلَمْ تَمْلكُوا نَفْسًا كَنَفْسِ عِصَامِ
وَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ الْلِّسَانَ مُوَكَّلٌ بِمَدْحِ كِرَامٍ أَو بِذَمِّ لِئَامِ
أما معاصرو الثمانيني من العلماء فكثر منهم:
1- ابن برهان (ت654هـ)[41]:(/20)
أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن عمر بن برهان الأسدي العكبري, من أكابر النحويين, أخذ عن أبي القاسم الدقاق, وأبي الحسن السمسماني, وابن بطة العكبري وغيرهم, وعنه أخذ الخطيب البغدادي وغيره. وكان منقطعًا للتدريس في بغداد كالثمانيني, إلا أن ابن برهان كان يأتيه الخواص من الناس, والثمانيني يأتيه عوامهم.
2- الثعالبي (ت429هـ)[42]:
عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي, أديب فاضل فصيح, من تصانيفه يتيمة الدهر, وفرائد القلائد, وسر الأدب وغيرها. توفي سنة (429هـ).
3- الشريف المرتضى (ت436هـ)[43]:
علي بن الحسين المرتضى أخو الرضي, نقيب العلويين, نبغ في فنون كثيرة, توفي سنة 436هـ.
4- أبو العلاء المعري (ت449هـ)[44]:
أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري, فيلسوف الشعراء, أديب متضلع, علامة عصره, أخذ عنه الخطيب التبريزي وغيره, له التصانيف الكثيرة المشهورة والرسائل المأثورة, توفي سنة 449هـ بالمعرة.
5- النديم (ت438)[45]:
محمد بن إسحاق أبو الفرج بن أبي يعقوب النديم البغدادي, صاحب كتاب الفهرست, توفي سنة 438هـ.
هؤلاء من وقفت عليهم من معاصري الثمانيني في المشرق, وهناك علماء آخرون ممن عاصروه في بلاد الأندلس كأحمد بن عمار المهدوي المتوفى بعد سنة 430هـ, وابن التياني المتوفى سنة 436هـ, ومكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437هـ, وابن سيده المتوفى سنة 458هـ.
ثالثًا: آثاره:
قال المحقق في أثناء حديثه عن آثار الثمانيني: "وليس بين أيدينا من هذه الآثار إلا كتاب (الفوائد والقواعد), وحسبنا منه أنه قد كفانا في معرفة مؤلفه بقدر ما نحتاج إليه في هذه الإضاءة لسيرته...".
أقول: بل لدينا كتابًا آخر للثمانيني, بالغ الأهمية, وهو ثاني الكتابين اللذين اشتهر بهما, ألا وهو كتاب "شرح التصريف", وهو مطبوع منذ أربع سنوات في مكتبة الرشد بالرياض, بتحقيق إبراهيم البعيمي(في رسالة علمية) بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية.(/21)
واللوم واقع على المحقق الفاضل في أنه لم يبذل الجهد المطلوب لمعرفة ما إذا كانت هناك كتب أخرى للثمانيني مخطوطة أو مطبوعة, وكل الظن أنه لو بذل أدنى الجهد في ذلك لتوصل إلى ما يفيده في تحقيق كتابه هذا.
رابعًا: تنبيهات عامة في منهج التحقيق والدراسة:
هناك ملاحظات عامة وقفت عليها في منهج التحقيق أجملها في النقاط التالية:
1- جرت عادة المحققين أن يوردوا في صدر النص المحقق أو في آخر الكتاب صورًا للنسخ التي اعتمدت في تحقيق النص, ولم نر المحقق حقق شيئًا من ذلك, حيث إننا اضطررنا إلى النظر في صور تلك المخطوطات ولكن لم نعثر عليها في الكتاب؟!
2- سلك المحقق في ترقيم صفحات الدراسة مسلكًا غريبًا يلفه الإبهام البعد, فقد بدأ بترقيم الصفحات على أحرف (أبجد هوز حطي) ولكنه وقف عند حرف الياء, ولم يكمل باقي الأحرف (كلمن...), ثم أعقبها بآخر الحروف التي وقف عنده وهو الياء موردًا معه تلك الأحرف التي أوردها من قبل (أبجد هوز حطي), وهكذا, وبعد أن تنتهي هذه الأحرف يأتي بالحرف الذي بعد الياء وهو الكاف معيدًا معه أحرف (أبجد هوز حطي), وهكذا.
ولا أدري هل أعوزت الحيلة الباحث حتى يلجأ إلى هذا النمط من الترقيم الغريب العجيب الملبس؟!
1- ذكر المحقق في آخر مقدمته أنه صنع فهارس تدني الكتاب للباحثين حيث قال: "ثم في نهاية العمل أدنيت للقارئ قطوفه وجناه فذيلته بفهارس...", أقول: والكتاب ليس فيه سوى فهرس الآيات والأشعار وبعض الألفاظ الغريبة, ويعلم الباحث أن فهرس الأعلام من أهم الفهارس للوقوف على آراء العلماء في الكتب التراثية, ولكنه لم يتعب نفسه في صنع هذا الفهرس المهم.
2- حفل الكتاب من خلال تصفحي السريع على أخطاء لغوية وإن كان الأمر في كثير منها عائد إلى الطباعة إلا أن الباحث نفسه هو الذي يتحمل مسؤوليتها, ومن أمثلة ذلك:(/22)
- جاء في صحفة (158) قوله: "قال صاحب هذا الكتاب: المبتدأ كل اسم ابتدأته وعربته من العوامل اللفظية", والصحيح: "وعريته".
- وجاء في الصفحة نفسها قوله: "معنى قوله: ابتدأته أي: قدمته في لفظك أو في بيتك" والصحيح: "أو في نيتك".
- جاء في صفحة (509) قوله: "وفي الوقف: اسع وأخش" والصحيح: "اخش" بحذف الهمزة لأنها وصل.
3- الإحالة في أقوال النحاة إلى مصادر مختلفة, وعدم الرجوع إلى كتبهم وهي متوافرة, مثال ذلك ما جاء في صفحة (391) من تعليق الآية الكريمة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}, قال الثمانيني: "وقال أبو علي النحوي: ليس المعطوف على هذه الهاء ولا مجرورًا بهذه الباء, وإنما هو مجرور بباء أخرى حذفت لدلالة هذه المتقدمة عليها, وتقديره: به وبالأرحام".
وقد أشار أبو علي إلى هذا المعنى في كتابه المسائل البصريات 1/634 – 635, ولكن المحقق أشار إلى مصادر أخرى كالمقتصد والإنصاف وغيرهما.
خاتمة:
وبعد, فهذا ما أردت بيانه مما تبادر إلى ذهني بعد الإطلاع على هذا الكتاب, فإن أصبت فيما قلته فمن الله, وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان, وحسبي أني اجتهدت بغية الوصول إلى الحق في هذه النقاط التي أثرتها, والعلم رحم بين أهله, وما قصدت إلا إكمال النقص في هذا العمل الذي قام به المحقق الفاضل, وهو عمل يشكر عليه لما بذل فيه من جهد وصبر على إخراج هذا الكتاب الثمين إلى أهل العربية, والكمال لله وحده, له الحمد والشكر أولاً وآخرًا, إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت, وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
---
[1] انظر ترجمته في: وفيات الأعيان 3/443, ومعجم الأدباء 16/57, وذيل تاريخ بغداد لابن النجار 5/55, والعبر للذهبي: 2/281, ونكت الهميان: 220, بغية الوعاة 2/217.
[2] الفلاكة والمفلوكون: 153.
[3] هدية العارفين 1/781:
[4] تاريخ الأدب العربي 2/260.(/23)
[5] معجم المؤلفين 7/279.
[6] الصفحة: (يح).
[7] الصفحة: (ط).
[8] الصفحة: (يج), وانظر الصفحة: (يا).
[9] الصفحة: (يح).
[10] الصفحة: (ط) و (يج).
[11] انظر الصفحة: 158, و: 726.
[12] هدية العارفين 1/781.
[13] مقدمة (الفوائد) الصفحة: (يد).
[14] انظر الاستغناء ص: 130.
[15] انظر الفوائد: 328.
[16] انظر الاستغناء ص: 145.
[17] انظر الفوائد: 311.
[18] انظر الاستغناء ص: 217.
[19] انظر الفوائد: 318.
[20] انظر الاستغناء: 332.
[21] انظر الفوائد: 322.
[22] انظر الاستغناء: 341.
[23] انظر الفوائد: 325.
[24] انظر الاستغناء: 343.
[25] انظر الفوائد: 325.
[26] انظر الاستغناء: 730 – 731.
[27] الصفحة: (يح).
[28] الصفحة: 73.
[29] صفحة: 84.
[30] صفحة: 158.
[31] صفحة: 332.
[32] صفحة: 726.
[33] الفوائد والقواعد: (و).
[34] الفوائد والقواعد: 837.
[35] انظر مقدمة شرح التصريف ص: 74.
[36] الفوائد والقواعد: 183.
[37] انظر نكت الهميان: 119, وبغية الوعاة 1/454.
[38] انظر ترجمته في: نزهة الألباء: 269, ومعجم الأدباء 20/32, ووفيات الأعيان 1/129.
[39] أخباره في: معجم الأدباء 11/234, ونزهة الألباء: 268, والبلغة: 107, وبغية الوعاة 1/595.
[40] ذيل تاريخ بغداد 5/55.
[41] أخباره في: معجم الأدباء 14/78, وإنباه الرواة2/297, وبغية الوعاة 2/181.
[42] أخباره في: نزهة الألباء: 265, ووفيات الأعيان 3/178.
[43] أخباره في: معجم الأدباء 13/146, وبغية الوعاة 2/162.
[44] أخباره في: وفيات العيان 1/113, وبغية الوعاة 1/315.
[45] أخباره في: لسان الميزان 5/72.(/24)
العنوان: الفوضى الخلاقة.. ومعالم الانطلاقة
رقم المقالة: 966
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
الفوضى من أبرز صفاتِ المفسدين في الأرض، قال الله - تعالى - عن يأجوج ومأجوج: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف:99]، إن هذا وصفٌ قرآنيٌّ دقيقٌ لحالة الفوضى البشرية، التي تشبه - أحياناً - الأمواجَ في اضطرابِها وتلاطُمِها.
وبين الفساد والفوضى علاقةٌ وشيجةٌ وتناغمٌ تامٌّ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ فسادٌ معَ نظامٍ قائمٍ يُعطَى فيه كلُّ ذي حقٍّ حقَّهُ، ولذا فالمفسدون وَلِعُونََ بالفوضى، مُسَوِّغُون لها!
ولقد صرَّح (اليأجوجيون) في هذا الزمان بامتداح الفوضى، وزعموا أنها خلاَّقةٌ! فالفوضى هي مصنعُ الجرائم الذي يحرِصون على إنشائه في كل بلد اغتصبوه.
ولكن لمَّا كان خالِقُ هذا الكون - سبحانه - أراد له النظامَ، وأَسَّسَ عليه الحياةَ؛ {لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]؛ لم يكن للفوضى فيه إلا أن تكون ظَرْفاً طارئاً عارضاً، ثم يحلُّ النظامُ، ويرجع كل شيء إلى وضعه الطبيعي؛ إما بحدث كونيٍّ، كما فُعل بأقوامٍ مفسدين فوضويِّين، مثلُ قومِ عادٍ وثمودَ وأصحابِ الرَّسِّ وغيرِهم من مكذبي الرسل؛ أو بتدخُّلِ النِّظاميين من عِبادِ الله المُصلِحين، كمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه، ورحم اللهُ شوقيّاً إذ يقول:
أتيت والناسُ فوضى لا تَمُرُّ بِهِمْ إِلاَّ على صَنَمٍ قَد هَامَ في صَنَمِ
فَعَاهِلُ الرُّومِ يَطْغَى في رَعِيَّتِهِ وَعَاهِلُ الفُرْسِ مِن كِبْرٍ أَصَمُّ عَمِيْ
فما هو إلا زمانٌ يسيرٌ ثم تَستنهِضُ تلك الفوضى هممَ النظاميين، فينطلقونَ في ثباتٍ، يُبَدِّدُون بنورِ الحقِّ ظلامَ الباطل، ويحققون قَدَرَ اللهِ الشرعيَّ في إقامة النظام والعدل.(/1)
نعم! قد تكون الفوضى خلاقةً، لكن، خلاقةً لانطلاقةِ الجيوشِ النظامية لغزو فُلُولِ الفوضوية!
وليس ما أقول من نسج الأوهام، أو من التفاؤل غير المُسَوَّغِ؛ بل هو حقيقةٌ تاريخيةٌ، وواقعٌ مشاهدٌ، فلمّا جاء الهَمَجُ التتارُ يرفعون شعارَ الفوضى؛ ما لبثوا أن برزَ لهم قائدُ المسلمين (محبُّ النظام) سيفُ الدين (قُطُزٌ) مع إخوانه، فردوهم على أعقابهم خاسرين، وكان قد بلغ بهم العُتُوُّ والفوضى مبلغاً عظيماً، كانوا يقتلون، ويَسْبُون ويفسدون في البلاد، ويُرَوِّعُون العبادَ، وخلقوا فوضى قلَّ نظيرها إلا في زماننا هذا.
ولما شنَّ الصليبيون حمْلاتِهم الإجراميةَ الفوضويةَ، وما تركوا باباً من أبواب الفوضى إلا وَلَجُوهُ؛ برزَ لهم صلاحُ الدين الأيوبيُّ - رحمه الله - فأعادَ النظامَ، وأرجع الأمورَ إلى نصابها.
والتاريخ مليءٌ بتلك النماذج، بل لا أبالغُُ إن قلتُ: إنها قصةُ الحياة! صراعٌ بين الحق والباطل، يَنشُرُ فِئامٌ من الناس الفوضى في كل جانب، عقيدةً وسلوكاً ومنهجاً، ثم يقيض الله - تعالى - من يَحِلُّ النظامُ على يديه.
وفي زماننا هذا؛ فرح الفوضويون بالفوضى، وتشرَّفوا بكونهم صانعوها! ولم ينازعهم في هذا أحد؛ لأن ما قالوا غيرُ الحقيقة، ولكن بفضل الله - تعالى - بدتْ معالمُ الانطلاقة، انطلاقةِ محبي النظامِ وعودةِ سلطانه. لقد سأمَ الناسُ عيشاً يديرُ دَفَّتَه الفوضويون، وانكسر حاجزُ الخوف في نفوس أكثرِ الناس، وصار لسانُ حال الأكثرين:
فَمَا العَيْشُ - لاَ عِشْتُ - إِنْ لمْ أَكُنْ مَخُوفَ الجَنَابِ حَرَامَ الحِمَى
إن أولَ معالمِ تلك الانطلاقةِ كُرْهُ الفوضى، والاستعدادُ للتضحية، ولو بالغالي، من أجل إراحة العالَمِ منها، فلا بدَّ للكابوس أن ينزاحَ عنا، أو يُزاح.
إن معالم تلك الانطلاقةِ باتت باديةً للعِيان، نراها يومياً في حجارةِ أبناء فلسطينَ الأبية..(/2)
نراها في سُور إسرائيل الذي بَنَتْه لتحميَ نفسَها من هجمات النظاميين، الذين لا يملكون عُشر مِعشارِ آلتِها العسكرية..
نراها في تلك التوابيتِ الخشبيةِ، العائدة من بلادِ الرافدين إلى أرضِ الغزاة..
نراها في تلك الأعداد الغفيرة المُقبِلةِ على الإسلامِ؛ حتى صار الدِّينَ الأولَ - في العالم - الذي يَدخلُ فيه الناسُ، بعد أن يتركوا أديانَهم المنحرفة، بشهادة أعدائه.
إن تلك الفوضى - التي فرحَ بها صانِعُوها - هي التي تخلُقُ اليومَ الذي يجيء فيه الحقُّ، ويَزهَقَ فيه الباطلُ، ذلك اليومَ الذي انتظره النظاميون، وهم على يقينٍ من طلوعِ فجرِه، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ *بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4-5].(/3)
العنوان: القاديانية في خدمة الغرب وإسرائيل
رقم المقالة: 821
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
• ظهرت الحركة بتخطيط من الاستعمار الإنجليزي في القارة الهندية، بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم، وعن فريضة الجهاد بصورة خاصة.
• (غلام أحمد) زعم أنه المهدي المنتظر والمسيح الموعود، ثم ادَّعى النبوة، وزعم أنَّ نبوَّته أعلى وأرقى من نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم.
• يعتقد (القادياني) أن النبوة لم تختم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بل هي جارية، والله يرسل الرسول حسب الضرورة.
• (غلام أحمد) في نظرهم هو أفضل الأنبياء جميعاً، ويعتقدون أنه كان يوحى إليه، وأن إلهاماته كالقرآن.
• يعتقدون أنهم أصحاب دين جديد وشريعة مستقلة، وأن رفاق (الغلام) كالصحابة، وأن (قاديان) كالمدينة المنورة ومكة المكرمة؛ بل وأفضل منهما!! وأرضها حَرَمٌ، وهي قبلتهم، وإليها حجُّهم.
• نادوا بإلغاء الجهاد، وطالبوا بالطاعة العمياء للحكومة الإنجليزية؛ لأنها - حسب زعمهم - ولي الأمر بنصِّ القرآن، وكل مسلم عندهم كافر حتى يدخل في القاديانية.
• المملكة العربية السعودية تمنع دخولهم إلى أراضيها، بسبب فكرهم المنحرف وكفرهم البائن، وهذا ما أفتى به (مجمع الفقه الإسلامي) بمكة المكرمة.
* * *
لا أحد ينكر أن الفرق الضالة هي بمثابة مرض سرطاني خبيث في جسد الأمة الإسلامية، وخاصةً تلك الفرق التي ارتمت في أحضان الاستعمار، ونشأت وعملت تحت رعايته ومباركته ودعمه، وهي لا تزيد عن كونها (طابور خامس) في الأمة، وشر مستطير على العقيدة والدين وحاضر الأمة ومستقبلها.(/1)
ومن هذه الفرق (الطائفة القاديانية) التي تقبع في باكستان، وينتشر أفرادها في العديد من دول العالم، وخاصةً بريطانيا، وتعلن عن نفسها بين الحين والآخر، محاولةً القيام بعمليات تخريبية في العالم الإسلامي، ونشر أفكارها ومعتقداتها الضالة، وأذكر أننا قد سمعنا منذ عامين عن تلك المحاولات التي جرت قبل موسم الحج، وتمثلت في سعي 1700 من حملة الفكر القادياني لدخول المملكة العربية السعودية كحجاج؛ لنشر أفكارهم ومعتقداتهم بين جموع الحجيج، وهي المؤامرة التي دبرها قادة الفكر القادياني في باكستان بمساعدة من الحكومة الباكستانية.
والمؤامرة كانت تقضي بإلغاء الحكومة الباكستانية قبيل موسم الحج تحديد هُويَّة مذاهب مواطنيها بجوازات السفر؛ لكي يتمكن القاديانيون من دخول الأراضي المقدسة، ولكنها باءت بالفشل بعد أن كشفت عنها الصحف الباكستانية ذاتها؛ حيث إن جموع الشعب الباكستاني المسلم يرفضون الفكر القادياني، وسبق أن أصدر البرلمان الباكستاني قراراً في سبعينيات القرن العشرين باعتبار القاديانية فرقة خارجة عن الدين.
ومن المعروف أن الحكومة السعودية قد منعت - منعاً باتّاً - دخولَ القاديانيين إلى أراضيها؛ بسبب فكرهم المنحرف وكفرهم البائن، فقد أفتى المجمع الفقهي التابع لـ (رابطة العالم الإسلامي) بكفرهم؛ لفساد عقيدتهم، وإن تشابهت أسماؤهم مع أسماء المسلمين.
معتقدات فاسدة
والقاديانية: حركةٌ دينيةٌ نشأت عام 1900م بإقليم (البنجاب) بالهند - باكستان حالياً - وأُطلق عليها (الأحمدية) أيضاً، نسبةً إلى مؤسسها (ميرزا غلام أحمد)، وتسميتها بـ (القاديانية) نسبةً إلى (قاديان)، وهي قرية تقع بإقليم (البنجاب)، وتبعد بنحو ستين ميلاً عن (لاهور)، وهي التي ولد فيها مؤسس هذه الحركة عام 1839م.(/2)
وقد ظهرت هذه الحركة بتخطيط من الاستعمار الإنجليزي في القارة الهندية، بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم، وعن فريضة الجهاد بصورة خاصة، حتى لا يواجهوا الاستعمار باسم الإسلام، وكان لسان حال هذه الحركة هو "مجلة الأديان" التي تصدر باللغة الإنجليزية.
واعتُبر (مرزا غلام أحمد القادياني) أداة التنفيذ الأساسية لإيجاد القاديانية، وهو ينتمي إلى أسرة اشتهرت بخيانة الدين والوطن، ولذلك نشأ وفيّاً للاستعمار، مطيعاً له في كل حال، فاختير لدور المتنبئ؛ حتى يلتفَّ حوله المسلمون، وينشغلوا به عن جهاد الاستعمار الإنجليزي، وكان للحكومة البريطانية إحسانات كثيرة عليهم، فأظهروا الولاء لها، وكان (غلام أحمد) معروفاً عند أتباعه باختلال المزاج، وكثرة الأمراض، وإدمان المخدرات!
مؤامرة على الإسلام
وهذه الفرقة في حقيقتها مؤامرة دينية وسياسية على الإسلام، احتضنها الإنجليز عندما استعمروا الهند، وتغلغلت بين صفوف المسلمين، وبدأت توجِّه دعوتها إلى البلاد العربية؛ فظهرت في سوريا والعراق وأندونيسيا، وكانت تتمنى بإلحاح وجود مَنْ يصغي لها في الجزيرة العربية والخليج، ولم تستطع في ذلك الوقت، وبرزت القاديانية كعميل قوي للإنجليز باسم الإسلام.
لقد حققت بريطانيا بهذا المذهب فتناً عظيمةً بين المسلمين، لا يزال المسلمون يعانونها؛ حيث فرَّقت كلمتهم، وأوجدت عملاء في كل بلد إسلامي من أبناء ذلك البلد.
لقد وجدت بريطانيا أنَّ القاديانيين خير من يحقِّق مآربهم، ويخون أمته الإسلامية التي ينتسب إليها.(/3)
وسارت القاديانية على خُطا مرسومة لها من قبل الإنجليز، فها هو (القادياني) يقول: "لقد قضيتُ عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألَّفتُ في منع الجهاد ووجوب الطاعة لأولي الأمر الإنجليز من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جُمع بعضها على بعض لملأ خمسين خزانة!! وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي - دائماً - أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة، وأن تمحى من قلوبهم عاطفة الجهاد التي تفسد قلوب الحمقى"!!
وقال - أيضاً -: "لقد ظللتُ منذ حداثة سني - وقد ناهزتُ اليوم الستين - أجاهدُ بقلمي ولساني لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية، ولأُلغي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهَّالهم، التي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة، وأرى أن كتاباتي قد أثّرت في قلوب المسلمين، وأحدثت تحوُّلاً في مئات الآلاف منهم".
وكان (القادياني) شديد المقت لأهل السنة والجماعة؛ فقد رأى أن الثورات التي يقومون بها ضد المستعمرين من فعل العقول الجامدة والحماقة، وكان يثبِّطهم بكل ما لديه من قوة وحيلة لمنعهم من جهاد الغزاة، ويصيح فيهم: "إن الجهاد حرام، ويجب تركه والتسليم للحكومة التي أمر الله بطاعتها".
وقال – أيضاً -: "ووالله إنَّا رأينا تحت ظلِّها أمناً لا يُرجى من حكومة الإسلام في هذه الأيام، ولذلك لا يجوز عندنا أن يُرفع عليهم السيف بالجهاد، وحرامٌ على جميع المسلمين أن يحاربوهم؛ ذلك بأنهم أحسنوا إلينا بأنواع الامتنان".
ثم يهاجمون من يقول عنهم إنهم يلغون فكرة الجهاد، فيقولون: إن (القادياني) والقاديانيين لا يلغون فكرة الجهاد، وإن الجهاد الذي يزعمون إلغائه ليس هو جهاد الكفار، إنما ذلك الجهاد الذي يوحي أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان جباراً يقتل الناس؛ لأن الإسلام يلغي اعتناق الدين خوفاً وطمعاً؛ بل إن الإسلام هو أول دين يقرُّ حرية العقيدة".(/4)
ثم يقررون أنَّ الحروب الدينية لا تجوز إلا مع من يمنع المسلمين من قول ربنا الله، وأن مثل هذه الحروب لا تهدف لهدم المعابد والكنائس؛ بل ترمي للدفاع عن سائر الملل والأديان، والحفاظ على معابدها، وأن الجهاد لمحاربة من يرغم المسلمين على الارتداد عن الإسلام، فمحاربة أحد على غير هذه الجرائم لا يجوز مطلقاً.
إله (القادياني) إنجليزي!!
وإذا نظرنا إلى أفكار القاديانية ومعتقداتها الضالَّة، نجد أن (غلام أحمد) بدأ نشاطه كداعية إسلامي؛ حتى يلتفَّ حوله الأنصار، ثم ادَّعى أنَّه مجدِّدٌ ومُلهَمٌ من عند الله، ثم تدرَّج خطوةً أخرى؛ فادَّعى أنه المهدي المنتظر والمسيح الموعود، ثم ادَّعى النبوَّة، وزعم أنَّ نبوَّته أعلى وأرقى من نبوة سيدنا - محمد صلى الله عليه وسلم!!
ويعتقد القاديانيون أن الله يصوم ويصلي، وينام ويصحو، ويكتب ويخطئ ويجامع!!! - تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً - كما يعتقد القادياني أن إلهه إنجليزي؛ لأنه يخاطبه بالإنجليزية، وأن النبوة لم تختم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بل هي جاريةٌ، والله يرسل الرسول حسب الضرورة، وأن (غلام أحمد) هو أفضل الأنبياء جميعاً!!
ويعتقدون أن جبريل كان ينزل على (غلام أحمد)، وأنه كان يوحي إليه، وأن إلهاماته كالقرآن، ويقولون: لا قرآن إلا الذي قدمه المسيح الموعود (الغلام)، ولا حديث إلا ما يكون في ضوء تعاليمه، ولا نبي إلا تحت سيادة (غلام أحمد).(/5)
ويعتقدون أن كتابهم منزَّل، واسمه (الكتاب المبين)، وهو غير القرآن الكريم، وأنهم أصحاب دين جديد مستقل وشريعة مستقلة، وأن رفاق (الغلام) كالصحابة، وأن (قاديان) كالمدينة المنورة ومكة المكرمة؛ بل وأفضل منهما!! وأرضها حَرَمٌ، وهي قِبلتهم وإليها حجُّهم، ونادوا بإلغاء عقيدة الجهاد، كما طالبوا بالطاعة العمياء للحكومة الإنجليزية؛ لأنها - حسب زعمهم - ولي الأمر بنصِّ القرآن!! وكل مسلم عندهم كافر حتى يدخل في القاديانية، كما أن من زوَّج أو تزوَّج من غير القاديانيين فهو كافر، ويبيحون الخمر والأفيون والمخدرات والمسكرات!!!
وممن تصدى له ولدعوته الخبيثة: الشيخ (أبوالوفا ثناء الأمرتسري) أمير (جمعية أهل الحديث) في عموم الهند؛ حيث ناظره وأفحم حجَّته، وكشف خبث طويَّته، وكفر وانحراف نحلته، ولمَّا لم يرجع غلام أحمد إلى رشده؛ باهله الشيخ (أبوالوفا) على أن يموت الكاذب منهما في حياة الصادق، ولم تمر سوى أيام قلائل حتى هلك (المرزا غلام أحمد القادياني) في عام 1908م؛ مخلِّفاً أكثر من خمسين كتاب ونشرة ومقال، ومن أهم كتبه: "إزالة الأوهام"، "إعجاز أحمدي"، "براهين أحمدية"، "أنوار الإسلام"، "إعجاز المسيح"، "التبليغ"، "تجليات إلهية".
وبعد موت (ميرزا غلام أحمد) في 1908؛ خلفه في رئاسة الحركة (الحكيم نور الدين)، وهو الخليفة الأول للقاديانية؛ حيث وضع الإنجليز تاج الخلافة على رأسه؛ فتبعه المريدون، وقد قدَّم ترجمةً محرَّفةً للقرآن الكريم إلى الإنجليزية، ومن مؤلفاته "حقيقة الاختلاف"، "النبوة في الإسلام"، و"الدين الإسلامي" و"فصل الخطاب"، وبعده انقسمت الحركة إلى شعبتين:
الأولى: تزعمها "بشير الدين محمود بن غلام أحمد"، وهى شعبة (قاديان)، وقد حافظ المنتسبون إلى هذه الشعبة على أفكار (ميرزا غلام أحمد) وتشدَّدوا في تنفيذها حرفيّاً.
الثانية: تزعمها "محمد علي اللاهوري" وهي شعبة (لاهور)، وتعرف بـ (الأحمدية)، ومن معتقداتهم:(/6)
1- عدم إنكار إلهامات (ميرزا غلام أحمد)، إلا أنهم أنكروا ادعاءه النبوة، وفسروا ما ورد عنه من نصوص في هذا الصدد بأنها (تعبيرات مجازية).
2- تحاشوا تسمية المسلمين الذين لم يؤمنوا بدعوتهم كفاراً، ولكنهم أطلقوا عليهم اسم (الفاسقين).
ويطلق على هاتين الشعبتين (شعبة قاديان، شعبة لاهور) الحركة الأحمدية، ولهما نشاطٌ واسعٌ في كثير من أقطار الأرض، يتمثل في بناء المساجد، وإنشاء المراكز الثقافية.
ومن زعماء هذا المذهب الضالِّ – أيضاً -:
- محمد صادق: مفتي القاديانية، من مؤلفاته "خاتم النبيين".
- بشير أحمد بن الغلام: من مؤلفاته "سيرة المهدي"، "كلمة الفصل".
- محمود أحمد بن الغلام: ومن مؤلفاته "أنوار الخلافة"، و"تحفة الملوك"، "حقيقة النبوة".
وكان لتعيين (ظفر الله خان القادياني) كأول وزير للخارجية الباكستانية أثر كبير في دعم هذه الفرقة الضَّالة؛ حيث خصَّص لها بقعةً كبيرةً في إقليم (بنجاب)؛ لتكون مركزاً عالمياً لهذه الطائفة، وسموها (ربوة)؛ استعارة من نص الآية القرآنية: {وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50].
محاربة الفكر القادياني
والفرقة القاديانية فرقةٌ ضالةٌ بإجماع علماء المسلمين، وقد صدرت بذلك فتاوى متعددة من عدد من المجامع والهيئات الشرعية في العالم الإسلامي، ومنها: المجمع الفقهي التابع لـ (رابطة العالم الإسلامي)، و(مجمع الفقه الإسلامي) التابع لـ (منظمة المؤتمر الإسلامي)، و(هيئة كبار العلماء) بالمملكة العربية السعودية، هذا عدا ما صدر من فتاوى علماء مصر والشام والمغرب والهند وغيرها.
وقد تصدى المسلمون في باكستان لمحاربة الفكر القادياني وفضحه، ففي عام 1953م قامت ثورة شعبية في باكستان، طالبت بإقالة (ظفر الله خان) وزير الخارجية حينئذٍ، واعتبار الطائفة القاديانية أقليَّة غير مسلمة، وقد استشهد فيها زهاء العشرة آلاف من المسلمين، ونجحوا في إقالة الوزير القادياني.(/7)
وفي شهر ربيع الأول عام 1394هـ، الموافق أبريل 1974م، انعقد مؤتمر كبير بـ (رابطة العالم الإسلامي) في مكة المكرمة، وحضره ممثلون للمنظمات الإسلامية العالمية من جميع أنحاء العالم، وأعلن المؤتمر كفرَ هذه الطائفة وخروجها عن الإسلام، وطالب المسلمين بمقاومة خطرها، وعدم التعامل مع القاديانيين، وعدم دفن موتاهم في قبور المسلمين.
وقد جاء في قرارات (مجمع الفقه الإسلامي) ما يلي: "بعد أن نُظر في الاستفتاء المعروض من (مجلس الفقه الإسلامي) في (كيب تاون) بجنوب أفريقيا، بشأن الحكم في كلٍّ من (القاديانية) والفئة المتفرعة عنها التي تدعى (اللاهورية)، من حيث اعتبارهما في عداد المسلمين أو عدمه، وفي ضوء ما قُدِّم لأعضاء المجمع من أبحاث ومستندات في هذا الموضوع عن (ميرزا غلام أحمد القادياني)، الذي ظهر في الهند في القرن الماضي، وإليه تنسب نحلة القاديانية واللاهورية، وبعد التأمل فيما ذُكر من معلومات عن هاتين النحلتين، وبعد التأكد من أن (ميرزا غلام أحمد) قد ادعى النبوَّة بأنه نبي مرسل يوحى إليه، وثبت عنه هذا في مؤلفاته التي ادعى أن بعضها وحيٌ أُنزل عليه، وظل طيلة حياته ينشر هذه الدعوة، ويطلب إلى الناس في كتبه وأقواله الاعتقاد بنبوَّته ورسالته، كما ثبت عنه إنكار كثير مما علم من الدين بالضرورة كالجهاد.
وقرَّر المجمع: أن ما ادَّعاه (ميرزا غلام أحمد) من النبوة والرسالة ونزول الوحي عليه إنكارٌ صريحٌ لما ثبت من الدين بالضرورة، ثبوتاً قطعيّاً يقينياً من ختم الرسالة والنبوَّة بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا ينزل وحيٌ على أحد بعده، وهذه الدعوى من (ميرزا غلام أحمد) تجعله وسائر من يوافقونه عليها مرتدين خارجين عن الإسلام، وأما اللاهورية فإنهم كالقاديانية في الحكم عليهم بالردَّة، وما وصفهم (ميرزا غلام أحمد) بأنه ظلٌّ وبروزٌ لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم".(/8)
وقام مجلس الأمة في باكستان (البرلمان المركزي) بمناقشة زعيم الطائفة (مرزا ناصر أحمد)، والردِّ عليه من قِبَل الشيخ (مفتي محمود) - رحمه الله - وقد استمرَّت هذه المناقشة قرابة الثلاثين ساعة، عجز فيها (ناصر أحمد) عن الإجابة، وانكشف النقاب عن كفر هذا الطائفة؛ فأصدر المجلس قراراً باعتبار القاديانية أقليَّة غير مسلمة.
ومن موجبات كفر الميرزا غلام أحمد ما يلي:
1- ادِّعاؤه النبوة.
2- نسخه فريضة الجهاد خدمةً للاستعمار.
3- إلغاؤه الحج إلى مكة، وتحويله إيّاه إلى قاديان.
4- تشبيهه الله - تعالى – بالبشر.
5- إيمانه بعقيدة التناسخ والحلول.
6- نسبته الولد إلى الله - تعالى - وادعاؤه أنه ابن الإله.
7- إنكاره ختم النبوة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وفتح بابها لكل من هبَّ ودبَّ!!
موقف الأزهر الشريف
وكوَّن الأزهر الشريف لجنةً برئاسة الشيخ (عبدالمجيد اللبَّان) - أول عميد لكلية أصول الدين في ثلاثينيات القرن العشرين - قامت ببحث حالة طالبَيْن ينتسبان إلى هذه الجماعة، كانا يروِّجان لمذهبهما في مصر، وكان القرار الذي أصدرته هذه اللجنة ينصُّ على أن القاديانيين كافرون، كما قضت بفصل الطالبَيْن من الأزهر.
وقد بُنِي الحكم بكفر من يعتنق أفكار هذه الطائفة على أساس ما ادعاه مؤسسها (ميرزا غلام أحمد) من أنَّ المسيح لم يُرفع ببدنه إلى السماء؛ بل بروحه، أما بدنه فمدفونٌ في الهند، وكان هذا أول رأى خالف فيه جمهور المسلمين، ثم ادَّعى أن روح المسيح قد حلَّت فيه، فعودة المسيح التي يؤمن بها المسلمون قد تحققت بحلول روح المسيح في جسده، كما ادَّعى أنه المهدي المنتظر، فهو مرسلٌ ليجدد أمر الدين الإسلامى؛ فما يقوله هو الحق، وليس لأحد أن ينكره؛ إذ هو يتكلم عن الله - تعالى.(/9)
ولم يكتفِ بهذا؛ بل ادَّعى أن (اللاهوت) قد حلَّ في جسده، وأن المعجزات قد ظهرت على يديه؛ فهو رسولٌ من عند الله، ورسالته لا تتنافى مع كون محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين؛ فهو يفسر خاتم النبيين في قوله – تعالى -: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، بأن كل رسول يجيء من بعده يكون بخاتمه وإقراره، ويحيي شرعه ويجدِّده.
ومن آرائه المخالفة لتعاليم الإسلام:
1- ألغى فريضة الجهاد، معللاً ذلك بأنه قد استنفد أغراضه؛ فلا داعي إليه بعد أن زالت الفتنة في الدين.
2- عدم جواز صلاة الأحمدي خلف إمام غير الأحمدي.
3- الحكم على مَنْ لم يؤمن بدعوته بالكفر.
4- عدم جواز زواج الأحمدية بغير أحمدي.
القاديانية وإسرائيل
وللقاديانية علاقات وطيدة مع إسرائيل، وقد فتحت لهم إسرائيل المراكز والمدارس، ومكَّنتهم من إصدار مجلة تنطق باسمهم، وطبع الكتب والنشرات لتوزيعها في العالم، كما تأثَّرت القاديانية بالمسيحية واليهودية والحركات الباطنية في عقائدهم وسلوكهم، على الرغم من ادِّعائهم الإسلام ظاهريّاً.
ومعظم القاديانيين يعيشون الآن في الهند وباكستان، وقليلٌ منهم في إسرائيل والعالم العربي، ويسعون بمساعدة الاستعمار للحصول على المراكز الحسَّاسة في كل بلد يستقرُّون فيه، وللقاديانيين نشاطٌ كبيرٌ في أفريقيا وبعض الدول الغربية، ولهم في أفريقيا وحدها ما يزيد عن خمسة آلاف مرشد وداعية، متفرغين لدعوة الناس إلى القاديانية، ونشاطهم الواسع يؤكد دعم الجهات الاستعمارية لهم.(/10)
وتحتضن الحكومة الإنجليزية هذا المذهب، وتسهِّل لأتباعه التوظُّف بالدوائر الحكومية العالمية في إدارات الشركات والمفوَّضيات، وتتخذ منهم ضباطاً من رتب عالية في مخابراتها السرية، وينشط القاديانيون في الدعوة إلى مذهبهم بكافة الوسائل، وخصوصاً الثقافية منها؛ حيث إنهم مثقفون، ولديهم كثيرٌ من العلماء والمهندسين والأطباء، ويوجد في بريطانيا قناة فضائية باسم التلفزيون الإسلامي يديرها القاديانيون.
المراجع:
1- الأحمدية - د. محمد شامة - موسوعة المفاهيم الإسلامية - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - وزارة الأوقاف - مصر.
2- الموسوعة الميسرة في الأديان المذاهب والأحزاب المعاصرة - الدكتور: مانع بن حماد الجهني.
3- 1700 قادياني يتأهبون للدخول إلى المملكة لنشر الكفر بمساعدة الحكومة الباكستانية - إسلام أباد - موقع المسلم - 15/11/1425هـ.
4- القاديانية.. معتقداتها وانتشارها - مفكرة الإسلام على (الإنترنت) - 28 مايو 2000م.
5- القاديانية والبهائية؛ هل دخلت مجتمعنا بثوب جديد ؟ - عبد الرحمن بن عبدالله الغريب - موقع منبر التوحيد والجهاد - 15 ديسمبر 2004م.
6- رئيس الوزراء الباكستاني الجديد؛ هل ينتمي إلى الطائفة القاديانية؟ - مجلة المجتمع - العدد 1617 - 04/09/2004م.(/11)
العنوان: القبر
رقم المقالة: 1547
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أولا: القرآن الكريم
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18].
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61].
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].
{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 -100].(/1)
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 57].
{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11].
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 16].
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد [ق: 19 - 22].
{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 60].
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8].
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10].
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13].
{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 1 - 4].
{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات: 9].(/2)
{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17].
ثانيا: الحديث الشريف
الحديث الأول:
عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي وقال: ((يَا عَبْدَ اللَّهِ، كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَاعْدُدْ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ)).
الحديث الثاني:
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عَمْرَةَ حَدَّثَتْهُ: أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهَا: أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْهَا فَقَالَتْ: أَجَارَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ لَيُعَذَّبُونَ فِي الْقُبُورِ؟"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((عَائِذًا بِاللَّهِ))، قَالَتْ عَائِشَةُ: "إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مَخْرَجًا فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَخَرَجْنَا إِلَى الْحُجْرَةِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْنَا نِسَاءٌ، وَأَقْبَلَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ ضَحْوَةً، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلا، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَامَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ دُونَ رُكُوعِهِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ رُكُوعَهُ وَقِيَامَهُ دُونَ الرَّكْعَةِ الأُولَى، ثُمَّ سَجَدَ وَتَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ فِيمَا يَقُولُ: ((إِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ؛ كَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ)) قَالَتْ عَائِشَةُ: "كُنَّا نَسْمَعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".
الحديث الثالث:(/3)
ابْن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا)).
الحديث الرابع:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :زَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، وَقَالَ: ((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ)).
الحديث الخامس:
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ تَقُولُ: "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الْفِتْنَةَ الَّتِي يُفْتَنُ بِهَا الْمَرْءُ فِي قَبْرِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَفْهَمَ كَلامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا سَكَنَتْ ضَجَّتُهُمْ قُلْتُ لِرَجُلٍ قَرِيبٍ مِنِّي: "أَيْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ قَوْلِهِ"، قَالَ: ((قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ)).
الحديث السادس:(/4)
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، قُولُوا: ((اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ)).
الحديث السابع:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَتَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَتَا: "إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ"، فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا، فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَجُوزَتَيْنِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ قَالَتَا: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ" قَالَ: ((صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا))، فَمَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاةً إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
الحديث الثامن:
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لَوْلاَ أَنْ لاَ تَدَافَنُوا لَسَأَلْتُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ أَهْلِ الْقُبُورِ مَا أَسْمَعَنِي)).
الحديث التاسع:(/5)
عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابًّا، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ فَقَالُوا: "مَاتَ" قَالَ: ((أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي))، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ، فَقَالَ: ((دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ))، فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ)).
الحديث العاشر:
عنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".
الحديث الحادي عشر:
عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَقَالَ: ((نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ))، قَالَتْ عَائِشَةُ: "فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي صَلاةً بَعْدُ، إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ)).
الحديث الثاني عشر:(/6)
عَنْ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ))، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: "مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ"، فَقَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ)).
الحديث الثالث عشر:
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى جنَازَةٍ، يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا؛ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَقِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ)).
الحديث الرابع عشر:
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ: ((يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا)).
الحديث الخامس عشر:(/7)
عَنْ عَائِشَةَ دَخَلَتْ يَهُودِيَّةٌ عَلَيْهَا فَاسْتَوْهَبَتْهَا شَيْئًا، فَوَهَبَتْ لَهَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ: "أَجَارَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" قَالَتْ عَائِشَةُ: "فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ" فَقَالَ: ((إِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ)).
الحديث السادس عشر:
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْهَرَمِ، وَالْبُخْلِ، وَالْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ)).
الحديث السابع عشر:
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَكْثَرُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي الْمَوْقِفِ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ؛ كَالَّذِي نَقُولُ وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي، وَإِلَيْكَ مَآبِي، وَلَكَ رَبِّ تُرَاثِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتَاتِ الأَمْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَجِيءُ بِهِ الرِّيحُ)).
ثالثا: الشعر
قال الشاعر:
وَكُلُّ ابْنِ أُنْثَى لَوْ تَطَاوَلَ عُمْرُهُ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى فَلِلْقَبْرِ آيِلُ
وقال آخر:
غَيَّرْتُ مَوْضِعَ مَرْقَدِي يَوْمًا فَفَارَقَنِي السُّكُونْ
قُلْ لِي فَأَوَّلُ لَيْلَتِي فِي حُفْرَتِي أَنَّى أَكُونْ؟
وقال آخر:
أَتَيْتُ الْقُبُورَ فَنَادَيْتُهَا أَيْنَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُحْتَقَرْ
تَفَانَوْا جَمِيعًا فَمَا مُخْبِرٌ وَمَاتُوا جَمِيعًا وَمَاتَ الْخَبَرْ(/8)
تَرُوحُ وَتَغْدُو بَنَاتُ الثَّرَى فَتَمْحُو مَحَاسِنَ تِلْكَ الصُّوَرْ
فَيَاسَائِلِي عَنْ أُنَاسٍ مَضَوْا أَمَا لَكَ فِي مَا مَضَى مُعْتَبَرْ
وقال آخر:
وَاللهِ لَوْ عَاشَ الْفَتَى مِنْ عُمْرِهِ أَلْفًا مِنَ الأَعْوَامِ مَالِكَ أَمْرِهِ
مُتَنَعِّمًا فِيهَا بِكُلِّ نَفِيسَةٍ مُتَنَعِّمًا فِيهَا بِنُعْمَى عَصْرِهِ
لا يَعْتَرِيهِ الْهَمُّ طُولَ حَيَاتِهِ أَبَدًا وَلا تَجْرِي الْهُمُومُ بِبَالِهِ
مَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَنْ يَفِي بِمَبِيتِ أَوَّلِ لَيْلَةٍ فِي قَبْرِهِ
وقال آخر:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ الْقُلَلُ
وَاسْتُنْزِلُوا مِنْ أَعَالِي عِزِّ مَعْقِلِهِمْ فَأُسْكِنُوا حُفْرَةً يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا
فَإِذْ هُمُ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ مَا دُفِنُوا أَيْنَ الأَسِرَّةُ وَالتِّيجَانُ والْحُلَلُ؟
أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُحَجَّبَةً وَكَانَ مِنْ دُونِهَا الأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ
فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ تِلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ يَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْرًا وَمَا شَرِبُوا فَأَصْبَحُوا بَعْدَ ذَاكَ الأَكْلِ قَدْ أُكِلُ
وقال آخر:
يَا كَثِيرَ الرُّقَادِ وَالغَفَلاتِ كَثْرَةُ النَّوْمِ تُورِثُ الْحَسَرَاتِ
إِنَّ فِي الْقَبْرِ إِذْ نَزَلْتَ إِلَيْهِ لَرُقَادًا يَطُولُ بَعْدَ الْمَمَاتِ
أَأَمِنْتَ الثَّبَاتَ مِنْ مَلَكِ الْمَوْ تِ أَنَادَى الْمُنَادِ بِالْبَيِّنَاتِ
وقال آخر:
مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ كَلاَّ وَلا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِعُ
ولأبي العتاهية:
سَأَلْتُ الدَّارَ تُخْبِرُنِي عَنِ الأَحْبَابِ مَا فَعَلُوا
فَقَالَتْ لِي أَنَاخَ الْقَوْ مُ أَيَّامًا وَقَدْ رَحَلُوا(/9)
فَقُلْتُ فَأَيْنَ أَطْلُبُهُمْ؟ وَأَيَّ مَنَازِلٍ نَزَلُوا
فَقَالَتْ بِالْقُبُورِ وَقَدْ لَقُوْا وَاللَّهِ مَا فَعَلُوا
أُنَاسٌ غَرَّهُمْ أَمَلٌ فَبَادَرَهُمْ بِهِ الأَجَلُ
فَنُوا وَبَقِي عَلَى الأَيَّامِ مَا قَالُوا وَمَا عَمِلُوا
وَأُثْبِتَ فِي صَحَائِفِهِمْ قَبِيحُ الْفِعْلِ وَالزَّلَلُ
فَلا يُسْتَعْتَبُونَ وَلا لَهُمْ مَلْجَا وَلا حِيَلُ
نَدَامَى فِي قُبُورِهِمُ وَمَا يُغْنِي وَقَدْ حَصَلُوا
وقال آخر:
خَرَجْتُ مِنَ الدُّنْيَا وَقَامَتْ قِيَامَتِي غَدًا يُثْقِلُ الأَشْخَاصَ حَمْلُ جِنَازَتِي
وَتَضْحَكُ أَهْلِي حَوْلَ قَبْرِي وَصَيَّرُوا خُرُوجِي وَتَعْجِيلِي إِلَيْهِ كَرَامَتِي
كَأَنَّهُمُ لَمْ يَعْرِفُوا قَطُّ صُورَتِي عَلَيْهِمْ غَدًا يَأْتِي كَيَوْمِي وَسَاعَتِي
وقال آخر:
هَبَ انَّكَ قَدْ مَلَكْتَ الأَرْضَ طُرًّا وَدَانَ لَكَ الْعِبَادُ فَكَانَ مَاذَا؟
أَلَيْسَ إِذَنْ مَصِيرُكَ جَوْفَ قَبْرٍ ويَحْثُو التُّرْبَ هَذَا ثُمَّ هَذَا؟
ولبعضهم:
قِفْ بِالدِّيَارِ فَهَذِهِ آثَارُهُمْ تَبْكِي الأَحِبَّةَ حَسْرَةً وَتَشَوُّقَا
كَمْ قَدْ وَقَفْتُ بِهَا أُسَائِلُ أَهْلَهَا عَنْ حَالِهَا مُتَرَحِّمًا أَوْ مُشْفِقَا
فَأَجَابَنِي دَاعِي الْهَوَى فِي رَسْمِهَا فَارَقْتَ مَنْ تَهْوَى وَعَزَّ الْمُلْتَقَى
وقال آخر:
لاهٍ بِدُنْيَاهُ وَالأَيَّامُ تَنْعَاهُ وَالْقَبْرُ غاَيَتُهُ وَاللَّحْدُ مَثْوَاهُ
يَلْهُو وَلَوْ كَانَ يَدْرِي مَا أُعِدَّ لَهُ إِذًا لأَحْزَنَهُ مَا كَانَ أَلْهَاهُ
أَوْ مَا جَنَتْ يَدُهُ لَوْ كُنْتَ تَعْرِفُهُ وَيْلاهُ مِمَّا جَنَتْ كَفَّاهُ وَيْلاهُ
وقال آخر:
وَمَا هِيَ إِلاَّ لَيْلَةٌ ثُمَّ يَوْمُهَا وَيَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ وَشَهْرٌ إِلَى شَهْرِ
مَطَايَا يُقَرِّبْنَ الْجَدِيدَ إِلَى الْبِلَى وَيُدْنِينَ أَشْلاءَ الصَّحِيحِ إِلَى الْقَبْرِ(/10)
وَيَتْرُكْنَ أَزْوَاجَ الْغَيُورِ لِغَيْرِهِ وَيَقْسِمْنَ مَا يَحْوِي الشَّحِيحَ مِنَ الْوَفْرِ
وقال آخر:
قِفْ بِالْقُبُورِ وَقُلْ عَلَى سَاحَاتِهَا مَنْ مِنْكُمُ الْمَغْمُورُ فِي ظُلُمَاتِهَا
وَمَنِ الْمُكَرَّمُ مِنْكُمُ فِي قَعْرِهَا قَدْ ذَاقَ بَرْدَ الأَمْنِ مِنْ رَوْعَاتِهَا
أَمَّا السُّكُونُ لِذِي الْعُيُونِ فَوَاحِدٌ لا يَسْتَبِينُ الْفَضْلُ فِي دَرَجَاتِهَا
لَوْ جَاوَبُوكَ لأَخْبَرُوكَ بِأَلْسُنٍ تَصِفُ الْحَقَائِقَ بَعْدُ مِنْ حَالاتِهَا
أَمَّا الْمُطِيعُ فَنَازِلٌ فِي رَوْضَةٍ يُفْضِي إِلَى مَا شَاءَ مِنْ دَوْحَاتِهَا
وَالْمُجْرِمُ الطَّاغِي بِهَا مُتَقَلِّبٌ فِي حُفْرَةٍ يَأْوِي إِلَى حَيَّاتِهَا
وَعَقَارِبٌ تَسْعَى إِلَيْهِ فَرُوْحُهُ فِي شِدَّةِ التَّعْذِيبِ مِنْ لَدَغَاتِهَا(/11)
العنوان: القدس.. الاغتيال الصهيوني لمدينة الأنبياء
رقم المقالة: 792
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
• مخطط صهيوني رهيب، يسعى لتهويد المدينة المقدسة بأكملها وتغيير طابعها العربي والإسلامي.
• دخول اليهود المدينة المقدسة لم يكن إلا بعد وجودها بعشرين قرناً، وبعد أن تحضرت على يد أصحابها العرب اليبوسيين.
• التهويد الذي تمارسه إسرائيل في المدينة المقدسة يصل إلى كل المستويات السياسية والقانونية والعمرانية والسكانية والتعليمية والثقافية.
• القدس لم تكن أبداً مدينة عبرية يهودية إلا بالغزو والاحتلال، الذي لم يدم في المدينة إلا سنوات معدودة.
• عاشت القدس وأهلها في ظل الإسلام حياة آمنة مطمئنة، يشملها العدل والأمن والرحمة والتسامح الديني والحفاظ على حقوق الإنسان أيا كانت ديانته.
• جميع الحضارات التي غزت القدس وسيطرت عليها قبل الإسلام وبعده - سواء كانت عبرية أو آشورية أو بابلية أو رومانية أو صليبية أو يهودية - سامت أهل المدينة سوء العذاب وأشبعتهم قتلاً وتنكيلاً، وصادرت حرياتهم وعقائدهم.
• حكام القدس المسلمون هم الذين سمحوا لليهود بالعودة إلى المدينة والسكن فيها، بعد أن حرمها عليهم الرومان والصليبيون.
* * *
تتعرض القدس العربية اليوم، وعلى مدى أكثر من خمسين عاماً منذ وقوعها تحت سيطرة الاحتلال اليهودي - بشطريها الغربي عام 1948م، والشرقي عام 1967م - لمخطط صهيوني رهيب، يسعى لتهويد المدينة المقدسة بأكملها، وتغير طابعها العربي والإسلامي، الذي عاشت به قروناً طويلة، وتطويقها بسلسلة متصلة من المستوطنات اليهودية.(/1)
وهذا المخطط الرهيب يأتي في إطار ما تمارسه إسرائيل - منذ احتلت فلسطين - من حملات منظَّمة لتزييف تاريخ مدينة القدس، والزعم بأنها مدينة يهودية النشأة، والتاريخ يُكذِّب هذه المزاعم الصهيونية؛ فإنشاء القدس سبق الوجود اليهودي بآلاف السنين، ودخول اليهود المدينة المقدسة لم يكن إلا بعد وجودها بعشرين قرناً، وبعد أن تحضرت على يد أصحابها العرب اليبوسيين الذي نشؤوا في الجزيرة العربية.
والذي يقرأ التاريخ قراءة صحيحة يدرك كذب هذه الادعاءات الصهيونية، التي تستند عليها إسرائيل لاغتصاب الحقوق العربية والإسلامية في القدس، فوجود اليهود بمدينة القدس حدث واستمر كغزاة، تقوم العلاقة بينهم وبين أصحاب الأرض الأصليين على هذا الأساس، كما أن كيانهم السياسي لم يقم بهذه الأرض إلا في فترة متأخرة جدّاً، ولبضع سنوات لا تكاد تتجاوز خمسة وسبعين عاماً من بين خمسين قرناً عاش فيها العرب والمسلمون على هذه الأرض وهي مأهولة متحضرة.
تهويد على كل المستويات:
وما يجري اليوم وعلى مدى أكثر من خمسين عاماً، داخل القدس وحولها يمثل أعلى مراحل تهويد المدينة المقدسة، هذا التهويد الذي يصل إلى كل المستويات السياسية والقانونية والعمرانية والسكانية والتعليمية والثقافية، وخاصة بعد إن أعلنت إسرائيل عزمها على أقامة "القدس العظمى" التي تبتلع معظم أراضي الضفة الغربية، والتأكيد على جعلها عاصمة أبدية موحدة للدولة اليهودية.(/2)
وبرغم اعتراض المجتمع الدولي على الممارسات الإسرائيلية في القدس المحتلة، وصدور عشرات القرارات الدولية التي تدين إسرائيل، وتعتبر كل الإجراءات التي اتخذتها وتتخذها بشأن القدس باطلة وملغاة، إلا أن إسرائيل تمضي في مخطط التهويد على قدم وساق، مما يعرض المدينة وما بها من مقدسات إسلامية ومسيحية لأكبر الأخطار، خاصة وأن اليهود قد دنسوا المقدسات، واستولوا على العقارات والآثار الإسلامية، وبدؤوا حفرياتهم في الحرم القدسي منذ سنوات طويلة، ومازالت مستمرة الى اليوم، وغيروا الطابع الديموغرافي والسكاني للمدينة.
القدس عربية النشأة:
والقدس مدينة عربية النشأة بناها العرب الكنعانيون حوالي 3000 قبل الميلاد، وعمروها وأطلقوا عليها أسماء متعددة منها "سالم" و"أورسالم" و "يبوس"، وقد استمرت عربية إلى إن جاءها الغزو العبراني على يد داود - عليه السلام- عام 1000 قبل الميلاد وقامت فيها دولة عبرية انتهت بالغزو الأشوري في القرن الثامن قبل الميلاد، ثم بالغزو البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، فيما عرف باسم "السبي الأول " و"السبي الثاني" على يد الآشوريين والبابليين.
وعندما عاد اليهود إلى القدس في عهد الفرس عام 538 ق.م وخضعت المدينة لحكم الفرس، جاء الغزو الروماني للقدس عام 63 ق.م، واتخذ الرومان اليهود عبيداً لهم وحرَّموا عليهم دخول القدس أو السكن فيها، واستمر الحكم الروماني في القدس حتى جاء الفتح الإسلامي على يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عام 637م، لتعود إلى أصلها العربي والإسلامي، ولتظل تحت حكم المسلمين وسيطرتهم أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وحتى بداية الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1917 م.
التسامح الإسلامي:(/3)
فالقدس لم تكن مدينة عبرية يهودية قط إلا بالغزو والاحتلال الذي لم يدم في المدينة إلا سنوات معدودة، والتاريخ يشهد أن القدس وأهلها لم ينعموا بالأمن والأمان والاستقرار والتسامح الديني إلا في ظل الإسلام؛ فجميع الحضارات التي غزت القدس وسيطرت عليها قبل الإسلام وبعده - سواء كانت عبرية أو آشورية أو بابلية أو رومانية أو صليبية أو يهودية - قد سامت أهل المدينة سوء العذاب وأشبعتهم قتلاً وتنكيلاً، وصادرت حرياتهم وعقائدهم، وأهدرت حقوقهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وأقامت دولها في المدينة على القهر والعنف والإرهاب.
فالآشوريون والبابليون عندما غزوا القدس في القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد دمروا المدينة وقتلوا سكانها من العبرانيين وأخرجوهم منها وسبوهم فيما عرف "بالسبي الأول" و"السبي الثاني"، وحطموا الهيكل اليهودي واعتبروا الأسرى اليهود عبيدا لهم واستغلوهم في الخدمة والسخرة وأسوأ الأعمال وأحطها.
وكذلك فعل الرومان الذين غزوا القدس عام 63 ق. م، فاكتسحوا المدينة وهدموا أسوارها واستمر اضطهادهم لليهود حتى عام 70 م، وعندما وقف "تيطس" الروماني أمام أسوار القدس على رأس جيشه، وأخذ سكانها من اليهود يعانون أهوال الحصار، وسرت فيهم المجاعات، أُرغِموا على التسليم والخروج يزحفون على أيديهم وأرجلهم كالأشباح، وقام الجنود الرومان ببقر بطون الآلاف منهم بحثاً عن الذهب الذي قيل أنهم قد ابتلعوه في بطونهم، وساقوا الآلاف منهم مُكَبَّلِين لبناء المعابد الرومانية، وأصبحوا عبيداً للرومان يسخرونهم في أشق الأعمال وحرموا عليهم دخول القدس أو السكن فيها.
ولم يكتفِ الرومان بذلك، بل حوَّلوا القدس إلى مستعمرة رومانية وسموها "إيلياء"، واستمرت على هذا الوضع، واستمر الحظر المفروض على اليهود بعدم دخولها أو الإقامة فيها حتى الفتح الإسلامي لها عام 637م.
البطش الصليبي:(/4)
ونفس أسلوب البطش والتنكيل بالقدس وأهلها، اتبعه الصليبيون عندما غزوا القدس في العصر الفاطمي عام 1099م، فقد حاصروا المدينة أربعين يوماً، وعندما سقطت في أيديهم ساموا أهلها - من المسلمين وغيرهم - سوء العذاب، وأعملوا فيهم القتل والتنكيل، ولم يسلم من حقدهم وبطشهم رجل ولا امرأة ولا شيخ ولا طفل، وكانوا يمزقون بسيوفهم أجساد النساء، ويقطعون الأطفال حتى امتلأت الطرقات والساحات بجثث القتلى وأشلائهم.
وقد استمرت المذبحة الرهيبة لأهل القدس طوال يوم الدخول وليلته، واقتحموا المسجد الأقصى في صباح اليوم التالي، وأجهزوا على من احتموا به، حتى قال المؤرخون إن الصليبين قتلوا نحو سبعين ألفاً، وكان النظر لا يقع إلا على أكوام من الرؤوس والأيادي والأقدام المقطوعة في الطرقات والساحات، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل دَنَّسُوا المقدسات الإسلامية، وحولوا قبة الصخرة إلى كنيس مسيحي، واستعملوا المسجد الأقصى مرابط لخيولهم ومخازن لمعداتهم.
ولأن الكفر ملة واحدة، اتبع اليهود في احتلالهم للقدس عام 1948م و1967م نفس أسلوب من سبقهم من الآشوريين والبابليين والرومان والصليبيين؛ حيث قتلوا آلاف المسلمين العزل من أهل القدس، ووجهوا مدافعهم تجاه الأقصى ومن احتموا به من المسلمين، ومنذ ذلك الحين وهم يخربون في القدس، ويدنسون مقدساتها، ويقتلون أهلها لإرغامهم على الخروج منها.
أما العهود الإسلامية في القدس فقد اتسمت بروح الإسلام دين الرحمة والتسامح والأمن والأمان لجميع البشر، فعلى مدى أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان عاشت القدس وأهلها في ظل الإسلام حياة أمنة مطمئنة يشملها العدل والرحمة والتسامح الديني والحفاظ على حقوق الإنسان أياً كانت ديانته.(/5)
فقد فتح المسلمون القدس مرتين الأولى: فتحاً دون إراقة دماء في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والذي منح أهل المدينة من الرومان المسيحيين عهد أمان عرف باسم "العهدة العمرية"، التي أمنتهم على حياتهم ودينهم وأموالهم وشعائرهم.
والثانية كانت جهاداً وتحريراً من الصليبيين المغتصبين الغزاة على يد صلاح الدين الأيوبي، ولم يقتل جيش صلاح الدين فرداً واحداً من أهل القدس، بل أمّنهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ورفض هدم كنيسة القيامة، وسمح لليهود بدخول المدينة والسكن فيها، بعد أن كانت مُحَرَّمة عليهم في عهد الرومان المسيحيين.
القدس ميراث إسلامي:
وهذا كله يؤكد أن القدس ما عاشت طوال عصورها السابقة في أمن وأمان واستقرار كمدينة مقدسة احتضنت الرسل والأنبياء إلا في ظل الإسلام, والإسلام هو الحضارة الوحيدة الصالحة لرعاية هذه المدينة، والحفاظ على ما بها من مقدسات إسلامية وغير إسلامية.
وتاريخ القدس في الفترة الإسلامية يضم صفحات ناصعة من التسامح الإسلامي تجاه اليهود أنفسهم؛ فحكام القدس المسلمون هم الذين سمحوا لليهود بالعودة إلى المدينة والسكن فيها، بعد أن حرمها عليهم الرومان والصليبيون وهم الذين سمحوا لهم بالعودة إليها في العصور الحديثة بعد اضطهادهم في أوربا.
وفى ذلك يقول المؤرخ الإسرائيلي "زئيف فلنائي" في موسوعته المسماة "موسوعة أرض إسرائيل": "في كل مرة كانت القدس تخضع لحكم المسيحيين وسلطتهم لم يكن يسمح لليهود بالإقامة أو السكن فيها، ومن وجد منهم في أثناء حكمهم لها كان إما أن يُقْتَل أو يُطْرَد، في حين أنه عندما كان المسلمون يحكمون القدس، كان اليهود يستدعون إلى المدينة ويسمح لهم بالعيش فيها؛ فعاشوا فيها بسلام ".(/6)
ويقول الكاتب البريطاني "كولن ثيرون" في كتابه "القدس": "في القرون المبكرة كان المسلمون على العموم متسامحين مع اليهود، وعاشوا معهم بسلام، في الوقت الذي كانت فيه أوربا منغمسة انغماساً كاملاً في الاضطهاد".
والتاريخ يؤكد أن عدد السكان اليهود في القدس قد ازداد في فترات ثلاثة:
1) بعد الفتح الإسلامي للمدينة في القرن السابع الميلادي.
2) وبعد استرداد القدس من أيدي الصليبين عام 1187 م.
3) وبعد استيلاء العثمانيين على القدس عام 1516 م.
وقد كتب اليهودي "سلمان بن بروهان" عام 950م يقول: "كما هو معروف كانت القدس قد بقيت تحت حكم الروم أكثر من خمسمائة سنة، كان محظوراً خلالها على اليهود أن يدخلوا القدس، وكل من كان يكتشف منهم بداخلها كان يقتل وعندما غادرنا الروم برحمة من إله إسرائيل، وقامت مملكة إسماعيل - أي العرب - منح اليهود الإذن بدخول المدينة والإقامة فيها".
ولقد استمر التسامح الإسلامي مع اليهود في القدس طوال العهود الإسلامية بخلاف ما حدث لهم على يد المسيحيين الصليبيين، فعندما احتلوا القدس عام 1099م، جمعوا اليهود وأحرقوهم في كنيسهم، ولم يسمح لهم بالعيش في القدس مدة الاحتلال الصليبي "1099م- 1187م"، وعندما استرد صلاح الدين القدس، سمح لليهود بالعودة إليها.
وهذا التسامح الذي يعد سمة للعهود الإسلامية في القدس، يعود إلى روح الإسلام السمحة، وموقفه من أهل الكتاب , وتعظيمه للمدينة المقدسة مهبط الأنبياء والرسالات السماوية.
ولذلك نؤكد في النهاية، أنه لا حياة للقدس ولا أمن ولا استقرار لأهلها ومقدساتها إلا في ظل الإسلام، وخضوعها للاحتلال اليهودي يُعتبر خطراً كبيراً تعرضت وتتعرض له هذه المدينة المقدسة؛ فاليهود لا يعرفون تسامحاً ولا يراعون حقوقاً، ولا يحفظون مقدسات، بل يسعون لتهويد المدينة وطمس هويتها العربية والإسلامية، وتفريغها من سكانها العرب المسلمين.(/7)
العنوان: القذافي والممرضات البلغاريات
رقم المقالة: 1107
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
القذافي والممرضاتُ البلغاريات.. خسارة جديدة في النهائيات
من يضحك أخيراً يضحك كثيراً:
هذا هو حالُ الممرضات والطبيب البلغاريين الذين انتهت أزمتهم الدولية، بعد إطلاق سراحهم، وتبرئتهم برغم أنف طرابلس، لتبدأ معها أزمة جديدة للقذافي، تثير السخرية، عنوانها "الغرب يخدعنا"!.
فالوعود التي حاول الرئيسُ الليبي معمر القذافي أخذَها من الغرب، وعلى رأسهم بلغاريا، بسجن الممرضات والطبيب المتهمين، ذهبت أدراج الرياح، ليواجه القذافي سخط وسخرية الكثيرين، على رأسهم أهالي الأطفال الذين أصيبوا بالإيدز على يد الممرضات البلغاريات، حسبما أكد القضاء الليبي أكثر من مرتين.
الأطفال الذين يتساقطون الواحد تلو الآخر، صرعى دونما علاج مأمول لهم، لم يكن لهم دور في القضية، ولم يستطيعوا أن يحصلوا على جزء ولو يسير من حقوقهم التي طالب القذافي (رئيس الثورة والدولة) بها، فمن ذا الذين ينصفهم إذن؟!
النساء والمال ينهين الأزمة:
بعد 8 سنوات من بدء الأزمة، قرر القضاء الليبي خفضَ حكم الإعدام المقرّ مرتين، واستبدال السجن المؤبد به.. بعد اتفاقية أغرت القذافي بفتح الأبواب التي كانت موصدة في وجهه في أوروبا، وتقديم تعويضات مالية، لا توازن أبداً بالتعويضات التي دفعها لعائلات القتلى في حادثة طائرة لوكيربي.
القرار جاء على لسان المجلس الأعلى للقضاء الليبي. بعد ساعات من إعلان المتحدث باسم أسر الأطفال الليبيين الـ 426 المصابين بالإيدز، بأن عائلات الضحايا بدأت تتسلم التعويضات!
وكذلك بعيد إعلان إيفيلو كالفن (وزير الخارجية البلغاري) أن بلاده ستلغي جزءًا من ديونها على ليبيا، من غير أن يحدد المبلغ.(/1)
وبهذا تكون الصفقة التي جرى بموجبها تخفيض عقوبة الإعدام بحق البلغاريات الخمس والطبيب الفلسطيني (الذي حصل على الجنسية البلغارية قبل شهر)، صفقة مالية بامتياز.
الشق الأكبر والأهم الذي كان لا يزال يعد هاجساً للغرب، وخاصة صوفيا، هو إبقاء الممرضات والطبيب في السجون الليبية، وهو الأمر الذي أنهت أزمته نساء أوروبيات في قصر الرئيس الليبي بسهولة. خاصة وأن الزعيم الليبي يُعرف عنه حبه للنساء، وقربهن منه، عبر كتيبة نسائية كاملة تقوم بضمان حمايته الخاصة!
فخلال زيارة قامت بها سيسيليا ساركوزي (زوجة الرئيس الفرنسي الجديد نيكولاي ساركوزي)، وبينيتا فيريرو فالدنر (مفوضة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي) بتاريخ 24 من يوليو، استطاعت الأوروبيات اصطحاب المعتقلين كأبطال حقيقيين، ونقلهم عبر طائرة الرئاسة الفرنسية من مطار طرابلس الرسمي، أمام أعين القادة الليبيين، إلى العاصمة البلغارية صوفيا.
هكذا بكل بساطة، سحب الفرنسيون والبلغار البساط من تحت أقدام الرئيس الليبي، تاركيه يلوّح بالوعيد والنقمة على ما جرى!
تفاصيل الصفقة:
لم يشأ الرئيس الليبي أن يطلق سراح الممرضات والطبيب البلغاريين قبل أن يبدأ في الحصول على أموال التعويضات حقيقة، فالمال الذي يمكن أن يجنيه من الغرب على خلفية هذه القضية لم يكن مضموناً إلا بضمان إبقاء المعتقلين في السجون الليبية. لذلك فقد امتدت محاكمتهم 8 سنوات، تصاعدت خلال السنوات الأخيرة منها الأزمة بين ليبيا والغرب. وكانت طرابلس على ثقة بأن الأوراق بيدها، لذلك لم تكن متسرعة في شيء.
سيف الإسلام القذافي، الذي يُعتقد على نطاق واسع أنه ولي العهد الليبي، قاد عبر مؤسسته الخيرية حملة الوساطة بين الجانبين، هو جزء ربما من الصورة التي يريد أن يرسمها له والده قبل توليه الحكم. دور الرجل القادر على حل الأزمات، والقادر على مفاوضة الغرب، وإعطاء وعود قابلة للتنفيذ!(/2)
تركزت الوساطة على إنشاء صندوق تعويض الأطفال، الذي بقي فارغاً مدة من الزمن، قبل أن يكتمل فيه النصاب بمبلغ 400 مليون دولار.
وربما بسبب فوزه الجديد في الحكم، ومحاولته تقديم نفسه كقائد حقيقي ليس فقط في فرنسا، بل في أوروبا والعالم أيضاً. حمل الرئيس الفرنسي ساركوزي على عاتقه همَّ إنهاء الأزمة الليبية البغارية، فقام بفتح قناة اتصال دائمة مع الرئيس البلغاري بارفانوف، الذي أكد في بيان رسمي أن ساركوزي أكد التزامه بإيجاد حل للمشكلة التي يعانيها الفريق الطبي البلغاري، وتصميم باريس على مواصلة جهودها لتأمين عودته إلى صوفيا.
وعلى الطرف الآخر، وعد ساركوزي بزيارة تاريخية إلى طرابلس، ولقاء الرئيس الليبي فيها، وتوقيع اتفاقيات ثنائية بين البلدين، إذا أطلق القذافي سراح المعتقلين البلغاريين. وكتب موقع (الجزيرة) على الإنترنت يقول: "إن مسؤولين ليبيين طلبوا عدم كشف أسمائهم، قالوا: إن ساركوزي ربط المضي قدما في زيارة مزمعة إلى ليبيا, بتسليم الستة إلى بلغاريا".
وقد كتبت صحيفة الغارديان البريطانية، بتاريخ 25 من يوليو تقول: "سيحاول الرئيس الفرنسي، الذي يزعم أن الفضل يعود له في إنهاء أزمة الممرضات والطبيب البلغاريين، والتي استمرت ثماني سنوات، سيحاول تعزيز وضعه الدولي الذي كسبه، منذ انتخابه رئيسا لفرنسا في مايو الماضي."
ولم يكن الاتحاد الأوروبي بعيداً عن الصفقة، إذ أعلن أنه على استعداد لإقامة علاقات أفضل مع طرابلس إذا تم حل مصير المعتقلين، خاصة بعد تخفيف الحكم عليهم من الإعدام إلى المؤبد.
ونقلت وسائل الإعلام الغربية، ومن بينها شبكة البي بي سي والسي إن إن، عن مصدر دبلوماسي بالاتحاد قوله: "إذا انتهت هذه العملية كما نريدها أن تنتهي فإن تعزيز العلاقات مع ليبيا يصبح احتمالا كبيرا".(/3)
وأضاف أن الاتحاد الأوروبي المكون من 27 دولة سيرفع من مستوى العلاقات مع طرابلس إلى نفس مستوى التعاون مع الدول الأخرى بالشمال الأفريقي.
كل ذلك تم الإعلان عنه في حين كانت مؤسسة القذافي بقيادة سيف الإسلام تضع اللمسات الأخيرة على الصفقة. إذ صرّح سيف الإسلام أن اتفاقا لترحيل الممرضات والطبيب البلغاريين المدانين بنقل فيروس الإيدز إلى مئات الأطفال "على وشك الانتهاء"، مشيراً إلى أنه يأمُل أن تتزامن زيارة ساركوزي إلى طرابلس مع الانتهاء من تفاصيل ترحيل الممرضات والطبيب.
الاتفاق الثنائي بين الطرفين الليبي والأوروبي، كشف عنه عبد الرحمن شلقم (وزير الخارجية الليبي) الذي أكد أن اتفاقاً بالتعاون الكامل والشركة بين الجانبين، أنهى الأزمة القضائية. مشيراً إلى بعض التفاصيل في الصفقة، كتطوير مستشفى (الفاتح) في بنغازي الذي وقعت فيه العدوى بالإيدز في التسعينيات، وعلاج الأطفال المصابين، ودفع مبالغ التعويضات كاملة لأسر الضحايا.
وكان الجانب الأوروبي أكثر كرماً في تقديم المعلومات، إذ أعلنت فالدنر (مفوضة العلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي) أن الطريق الآن بات مفتوحاً لطرابلس أمام علاقة جديدة ووثيقة مع الاتحاد الأوروبي وليبيا.
وحسب مصادر ذكرتها قناة (الجزيرة) الفضائية، فإن مصدرا أوروبيًّا أكد أن المفوضة الأوروبية وقعت اتفاقا من صفحتين مع طرابلس، يحدد كيفية تعزيز العلاقات. مشيرة إلى أن الاتفاق يغطي كل شيء من التجارة، وتقديم العون للحفاظ على الآثار والهجرة غير المشروعة وحتى منح الطلاب تأشيرات الدخول.
كما أعلن بغدادي محمودي (رئيس الوزراء الليبي) من خلال مؤتمر صحفي عقد بعد أيام قليلة من إطلاق سراح المعتقلين البلغاريين، عن بعض تفاصيل المفاوضات التي جرت خلال أعوام مع بلغاريا والاتحاد الأوروبي.
وقال محمودي: "إن قضية الأطفال الليبيين مرت بمسارين قانوني وتفاوضي قامت به مؤسسة القذافي العالمية"!(/4)
وذكر أن المفاوضات تنقلت بين العاصمة الليبية طرابلس وبروكسل وفيينا ولندن وصوفيا، كما أشار إلى عدد من الوساطات التي قامت بها أطراف عربية ودولية، موضحا أن قطر لعبت دورا فيها لحل هذه القضية. وشكر المسؤول الليبي الجهات التي ساهمت في هذه الوساطات.
وقدم رئيس الوزراء عددا من الوثائق لسير المباحثات، وتحدث عن قيمة التعويضات لهؤلاء الأطفال الضحايا وأسرهم -التي بلغت مليون دولار لكل عائلة- وكيفية استمرار متابعة حالتهم الصحية، وقال: "إن الاتحاد الأوروبي التزم بمعالجة الأطفال مدى الحياة وعلاجهم" مؤكداً أن دول الاتحاد ستستقبل الأطفال المصابين"!
كما قال المحمودي: "إن فرنسا وعدت بتجهيز مستشفى بنغازي وتدريب طاقمه لمدة خمسة أعوام، كما وافقت باريس على تدريب 50 طبيبا ليبيا".
الصدمة:
لم يمكن توقع ما إذا كان الرئيس الليبي وقادة بلده على علم بنية الحكومة البلغارية بخصوص المعتقلين أم لا. فالنقل الذي تم من السجون الليبية إلى صوفيا عبر طائرة رئاسة فرنسية، لا يمكن أن ينتهي بسجن آخر، أو على الأقل هكذا بدا للبعض. برغم أن القذافي أعلن عن صدمته لما حصل بعد ذلك.
فالمعتقلون السابقون في السجون الليبية، والذين نصت المعاهدة بين البلدين على إبقائهم في السجون البلغارية لإنهاء مدة عقوبتهم؛ استقبلوا في صوفيا استقبال الأبطال، خاصة وأنهم برفقة سيدة فرنسا الأولى، ومفوضة العلاقات الخارجية الأوروبية، وقدموا على متن طائرة فرنسية رئاسية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل كان في استقبالهم الرئيس البلغاري نفسه، بالإضافة إلى عدد كبير من المسؤولين الحكوميين.
وعلى الفور، أصدر الرئيس بارفانوف مرسوماً رئاسياً، حصل بموجبه البلغاريين الستة على عفو عام، دون أن يقوم أحد باحتجازهم أو مساءلتهم ولو لثوانٍ.(/5)
على إثر ذلك، أطلقت طرابلس انتقادات شديدة اللهجة ضد صوفيا، واصفة ما قام به الرئيس البلغاري من عفو عنهم بأنها "خيانة" و"خرق للقوانين والاتفاقيات".
وقد شهدت اللهجة الليبية تحولاً مفاجئاً، بعد ما كانت تبديه من هدوء وثقة. إذ ظهر وزير الخارجية الليبي ممتعضاً على التلفاز، ليعلن بالقول: "إن الطريقة التي أطلقت بها بلغاريا سراح الممرضات احتفالية خرقت القوانين والاتفاقيات الدولية بيننا وبينهم"!
وهدد بأن ليبيا ستلاحق بلغاريا قانونيا. كما ستطلب من فرنسا التي ضمنت بلغاريا أن تلاحقها أيضا.
وذكر أن أوروبا "تضامنت مع مجرمين ورحبت وصفقت عندما أطلقنا سراحهم، وكذلك فعلت المنظمات العالمية الدولية. وكان الأحرى بهم أن ينتقدوننا لأننا أطلقنا سراح مجرمين قتلوا خمسين من أبنائنا، في حين يعاني أربع مئة منهم ويلات المرض".
كذلك غيّر رئيس الوزراء الليبي من أسلوبه في الخطاب، معرجاً على الأسلوب السابق الذي يحوّل كل ما في السياسة إلى "نصر" للقذافي، قائلاً: "إن حكومته حققت بهذا التفاوض مصالح ليبيا الاستراتيجية برغم كل الضغوط التي مورست ضدنا ولم نذعن، وحققنا مصالح أبنائنا لكن الذي خان هذا الاتفاق هو الطرف البلغاري"!!
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد دعت ليبيا الدول العربية لمعاقبة بلغاريا، واتخاذ خطوات ضدها، وطالبت بإعادة اعتقال الطاقم الطبي، وإعادتهم لطرابلس!!
الأمر الذي رفضته بلغاريا بشدة، قائلة: "إنه يوجد بند ينص على معاملة السجناء بموجب قانون الدولة المضيفة بمجرد نقلهم، وأن العفو تم بشكل قانوني، ولا توجد أي مشاكل قانونية".
وذكرت أنه "يمكن تفهم أن ليبيا تتصرف تحت ضغوط من أسر الأطفال المصابين"، حسبما نقلت وكالة بيتيايه البلغارية للأنباء، عن بوريس فيلتشيف (كبير المدعين البلغاريين).
حرب إعلامية:(/6)