- فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام، ثم أسلموا بعد زواله: مضت، ولم يؤمروا باستئنافها، لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فليس ما عقدوه بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء.
- قلنا: ليس كذلك، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به التقابض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ، لا قبل القبض ولا بعده، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده، لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاماً بنفسه، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها. كما أن نفس الوطء يوجب أحكاماً، وإن كان بغير نكاح. فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصوداً في نفسه – ولن يقترن بالآخر – أقرهم الشارع على ذلك. بخلاف الأموال، فإن المقصود بعقودها هو التقابض فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود.
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم لأنه لا يصححه إلا بتحليل.
- وأيضاً فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقوداً ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم – فيما أعلمه – يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد. ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله. فلو كان إذن الشارع الخاص شرطاً في صحة العقود: لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد، فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق.
وأما إن قيل: لابد من دليل شرعي يدل على حلها، سواء كان عاماً أو خاصاً، فعنه جوابان.
أحدهما: المنع كما تقدم.(/29)
والثاني: أن نقول: قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع. وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود.
- وَأمّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((أَيّما شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْط كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقْ))فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخرى. وكذلك الوعد والخلف. ومنه قولهم: درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا – والله أعلم – المشروط لا نفس التكلم. ولهذا قال: ((وإنْ كَانَ مائَةَ شرْط))أي: وإن كان قد شرط مائة شرط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط وإنما المراد تعديد الشرط. والدليل على ذلك قوله: ((كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق))أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط، وشرط الله أوثق منه. وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى.
- وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال: ((كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق))فيكون المعنى: من اشترط أمراً ليس في حكم الله ولا في كتابه، بواسطة وبغير واسطة: فهو باطل، لأنه لابد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله: أن الولاء لغير المعتق أبداً كان هذا المشروط – وهو ثبوت الولاء لغير المعتق – شرطاً ليس في كتاب الله. فانظر إلى المشروط إن كان أصلاً أو حكماً. فإن كان الله قد أباحه: جاز اشتراطه ووجب. وإن كان الله لم يبحه: لم يجز اشتراطه. فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته. فهذا المشروط في كتاب الله، لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها. فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطاً مباحاً في كتاب الله.(/30)
فمضمون الحديث: أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال: ليس في كتاب الله. أي: ليس في كتاب الله ففيه، كما قال: ((سَيَكُونُ أَقْوَامٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَعْرِفُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤكُمْ))أي: بما تعرفون خلافه. وإلا فما لا يعرف كثير.
ثم نقول إذا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء، لا إيجاب ولا تحريم، فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه، وسماه {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} ثم إنه أوجب به على من عاد: الكفارة، ومن لم يعد: جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد. وكذا النذر. فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال: ((إِنّهُ لا يأتي بِخْير))ثم أوجب الوفاء به، إذا كان طاعة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِه)).
فالعقد المحرم قد يكون سبباً لإيجاب أو تحريم. نعم لا يكون سبباً لإباحة، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر. وعن عقد الربا. وعن نكاح ذوات المحارم. ونحو ذلك لم يستفد المنهي بفعله، لما نهى عنه الاستباحة لأن المنهي عنه معصية. والأصل في المعاصي: أنها لا تكون سبباً لنعمة الله ورحمته، والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سبباً لعقوبة الله والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قَالَ تَعالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وإن كان قد يكون رحمة أيضاً، كما جاءت شريعتنا الحنيفة.(/31)
والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص: فهو عقد حرام، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه، وكلا المقدمتين ممنوعة، كما تقدم.
وقد يجاب على هذه الحجة بطريقة ثانية، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد الشروط التي لم يبحها، وإن كان لم يحرمها باطلة. فنقول:
قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموماً، وإن المقصود هو وجوب الوفاء بها. وعلى هذا التقدير. فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة. فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحه. وذلك لأن قوله: ((ليس في كتاب الله))إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه إنما ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه. فإنه في كتاب الله، لأن قولنا: هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم. وعلى هذا معنى قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}. وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} على قول من جعل الكتاب هو القرآن. وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ: فلا يجيء ههنا.
يدل على ذلك: أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع: صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله. وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه. ولكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين. فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار، لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار.
- يبقى أن يقال على هذا الجواب: فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموماً، فشرط الولاء داخل في العموم.(/32)
فيقال: العموم إنما يكون دالاً إذا لم ينفه دليل خاص. فإن الخاص يفسر العام. وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته. وقوله: ((مَن ادَّعَى إلى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِين))ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}. فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده، دون من تبناه. وحرم التبني، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخاه في الدين ومولاه، كما قَالَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدِ ابنِ حَارِثَه ((أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا))وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((إخْوَانُكُمْ خَوَلُكَمْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحَتَ يَدِهِ فَليُطْعِمْهُ مِمّا يَأكُلْ وَلْيَكْسِهِ مِمّا يَلْبَسْ)).
- فجعل سبحانه الولاء نظير النسب، وبين سبب الولاء في قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} فبين أن سبب الولاء: هو الإنعام بالإعتاق، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاء. فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالايلاد. فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالاعتاق لأنه في معناه، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره، فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره.(/33)
وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ((إنّما الْوَلاَءُ لِمنْ أَعْتَق)).
- وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه: لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها، لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يرد إلا المعنى الأول، وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله والتقدير: من اشترط شيئاً لم يبحه الله. فيكون المشروط قد حرمه، لأن كتاب الله قد أباح عموماً ولم يحرمه، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله، بدليل قوله: ((كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقْ))فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلين: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب، وانتفاء المحرم. فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة: هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا ؟(/34)
- أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفيَ الدليل الشرعي: فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام: أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك. فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله، مفسر لهذا الاستصحاب. فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذاك؛ وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة: فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضاً لا يجوز التمسك به، إلا بعد البحث عن تلك المسألة: هل هي من المستخرج، أو من المستبقي ؟ وهذا أيضاً لا خلاف فيه، وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينه فيه: هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له. فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما. وذكروا عن أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه: على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة، وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم. وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره. فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه. فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه. وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض، سواء جعل عدم المعارض جزءاً من الدليل، فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة – كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم، أو يجعل المعارض من باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر، لكن القرينة مانعة لدلالته، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي، أو إطلاق لفظي، أو اصطلاح جدلي، لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي.(/35)
فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها: مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع، فهي بأصول الفقه – التي هي الأدلة العامة – أشبه منها بقواعد الفقه، التي هي الأحكام العامة.
نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة. فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة.
فمن ذلك: ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عيناً من ملكه بمعاوضة، كالبيع والخلع أو تبرع كالوقف والعتق – أن يستثني بعض منافعها. فإن كان مما لا يصلح فيه القربة – كالبيع – فلابد أن يكون المستثني معلوماً. لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عَنْ جَابرٍ قَالَ: بِعْتُهُ – يَعْني بَعِيرَهُ – مِنَ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَرطْتُ حِمْلاَنَهُ إلى أَهْلِي)) وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف، فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده، أو عاش فلان، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف.
ومن ذلك: أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد: صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث بريرة، وإن كان عنهما قول بخلافه.
- ثم وهل يصير العتق واجباً على المشتري، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في البيع ؟ على وجهين في مذهبهما. ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجاً عن القياس، لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضى العقد فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقاً.(/36)
- قالوا: وإنما جوزته السنة؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره، ولذلك أوجب فيه السراية، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسرايه والنفوذ في ملك الغير لم يل…حق به غيره. فلا يجوز اشتراط غيره.
- وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره. قال ابن القاسم: قيل لأحمد: الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها ؟ فأجازه. فقيل له: فإن هؤلاء – يعني أصحاب أبي حنيفة – يقولون: لا يجوز البيع على هذا الشرط. قال: لم لا يجوز ؟ قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة، واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها، فلم لا يجوز هذا ؟ قال: وإنما هذا شرط واحد. والنهي إنما هو على شرطين قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز ؟ قال: لا يجوز.
- فقد نازع من منع منه، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر بعير جابر، وبحديث بريرة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع. وهو نقض لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق.
- فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره.
- وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان: سألت أبا عبدالله عمن اشترى مملوكاً واشترط هو حر بعد موتي ؟ قال: هذا مدبر، فجوز اشتراط التدبير كالعتق. ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف. صحح الرافعي أنه لا يصح.(/37)
- وكذلك جوز اشتراط التسري: فقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها، تكون نفيسة، يحب أهلها أن يتسرى بها، ولا تكون للخدمة ؟ قال: لا بأس به فلو كان التسري للبائع وللجارية فيه مقصود صحيح جوزه.
- وكذلك جوز أن يشترط البائع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول. كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب.
- وجماع ذلك: أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُها لِلْبَائِعِ إلاَّ أَن يَشْتَرِطَ المُبْتَاع))فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع. ويملكان اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع. ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كَمَا ((نَهَى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الثّنايا إلاَّ أَنْ تُعْلَمْ)) فدل على جوازها إذا علمت. وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة.
- وقد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع. مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر. مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها، أو الثياب إلا العبيد، أو الماشية التي قد رأياها، إلا شيئاً منها قد عيناه.(/38)
- واختلفوا في استثناء بعض المنفعة، كسكنى الدار شهراً، أو استخدام العبد شهراً، أو ركوب الدابة مدة معينة، أو إلى بلد بعينه، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة: على أن ذلك قد يقع. كما إذا اشترى أمة مزوجة. فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجه. لكن هي اشترتها بشرط العتق، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق والعتق لا ينافي نكاحها. فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو ممن روى حديث بريرة – يرى أن بيع الأمة طلاقها، مع طائفة من الصحابة تأويلاً لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه. فتباح له. ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج. واحتج بعض الفقهاء على ذلك: بحديث بريرة.
- فلم يرض أحمد هذه الحجة لأن ابن عباس رواه وخالفه. وذلك – والله أعلم – لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكاً مطلقاً.
- ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها – ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك. وكان مالكها معصوم الملك – لم يزل عنها ملك الزوج، وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع.
- ومن حجتهم: أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه، ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من ملك البائع، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه، بخلاف المسبيه، فإن فيها خلافاً ليس هذا موضعه، لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم. وكذلك ما ملكوا من الأبضاع.(/39)
- وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجراً قد بدا ثمره – كالنخل المؤبر – فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح. وكذلك بيع العين المؤجرة – كالدار والعبد – عامتهم يجوزه، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر.
- ففقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض العقد، كما في صور الوفاق. كاستثناء بعض أجزائه معيناً ومشاعاً، كذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معيناً، إذا كانت العادة جارية بفصله، كبيع الشاة واستثناء بعضها، سواء قطعها من الرأس والجلد والأكارع. وكذلك الإجارة. فإن العقد المطلق يقتضي نوعاً من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضاً للزرع، أو حانوتاً لتجارة فيه، أو صناعة أو أجيراً لخياطة، أو بناء ونحو ذلك. فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق، أو نقص عنه: فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء، فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر، إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل، وملكها للاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوباً أو عنيناً ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء والمشاهير ولو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفيء بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من يوجب عليه الوطء، وقسم الابتداء، بل يكتفي بالباعث الطبيعي، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد. فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار. وقيل: يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر، اعتباراً بالإيلاء ويجب أن يطأها بالمعروف. كما ينفق عليها بالمعروف، فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره.(/40)
- والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد، وعليه أكثر السلف: أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر، كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدار، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوف))وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده. كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق، فهو كتقدير الشافعي النفقة، إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد. وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء، بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار. والشافعي إنما قدره طرداً للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود، قياساً على المنع من بيع الغرر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة: طرداً لذلك. وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل.
- وكذلك يوجب العقد المطلق: سلامة الزوج من الجب والعنّة عند عامة الفقهاء وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من العيوب التي تمنع كماله، كخروج النجاسات منه أو منها أو نحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره، دون الجمال ونحو ذلك. وموجبه كفاءة الرجل أيضاً دون ما زاد على ذلك.
- ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك. صح ذلك، وملك المشترط الفسخ عند فواته، في أصح الروايتين عند أحمد، وأصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك. والرواية الأخرى: لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين. وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل، أو الرجل في المرأة. بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم. وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك: لا أصل له.(/41)
- وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد، مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة، صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء. فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع، كما ذكرته لك. فإن مذهب أبي حنيفة: أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح. وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق.
- كذلك يجوز أكثر السلف – أو كثير منهم – وفقهاء الحديث ومالك – في إحدى الروايتين – أن ينقص ملك الزوج، فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه[9] فلا يتزوج عليها ولا يتسرى، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى: لا يصح هذا الشرط، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر.
- والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز مالم يمنع من الشرع. فإذا كانت الزيادة في العين، أو المنفعة المعقود عليها، والنقص من ذلك على ما ذكرت. فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك. فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع أو غيره، أو أن يقضي بالعين ديناً عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك. فهو اشتراط تصرف مقصود. ومثله التبرع المفروض والتطوع.(/42)
- وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع فضعيف فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه. فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه، كما نص عليه أحمد. فإن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أعتقت جارية لها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ تَرَكْتِيهَا لأَخْوَالِكِ لَكَانَ خيْراً لَكِ))ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق. وما أعلم في هذا خلافاً، إنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم. فإن فيه عن أحمد روايتين:
- إحداهما: تجب. كقول طائفة من السلف والخلف.
- والثانية: لا يجب. كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم. ولو وصى لغيرهم دونهم: فهل تسرى تلك الوصية على أقاربه دون الموصي له، أو يعطي ثلثها للموصي له وثلثاها لأقاربه، كما تقسم التركه بين الورثة والموصي له ؟ على روايتين عن أحمد. وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه: هو القول بنفوذ الوصية. فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضلية.
- وأيضاً فقد يكون المشروط على المشتري أفضل، كما لو كان عليه دين لله من زكاة أو كفارة أو نذر أو دين لآدمي، فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع، أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك. فهذا أوكد من اشتراط العتق.
- وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية. وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري، لما في الشركة من الضرار. ونحن نقول: شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة. فإن أمكن قسمة العين، وإلا قسمتا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك. فتكميل العتق نوع من ذلك، إذ الشركة تزول بالقسمة تارة، وبالتكميل أخرى.(/43)
- وأصل ذلك: أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف، بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعاً. كما يثبت ذلك حساً. ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعاً، كما أن القدرة تتنوع أنواعاً فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة، ويورث عنه. ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية، أو المحرمات عليه بالرضاع، فلا يملك منهن الاستمتاع، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلاً، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين. ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم. وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد.
- ويملك المرهون ويجب عليه مؤونته، ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا بيع وهبه. وفي العتق خلاف مشهور.
- والعبد المنذور عتقه. والهدي، والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة، قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا ؟ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق. فمن قال: لم يزل ملكه عنه – كما قد يقوله أكثر أصحابنا – فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق، أو النسك، أو الصدقة. وهو نظير العبد المشتري بشرط العتق، أو الصدقة. أو الصلة، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم. ومن قال: زال ملكه عنه، فإنه يقول: هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به. وهو أيضاً خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع.
- وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين: هل يصير الموقوف ملكاً لله، أو ينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقياً على ملك الواقف ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.(/44)
- وعلى كل تقدير: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة، وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع، كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد: نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده.
- ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول: انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، كالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز. وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة، عند جميع المسلمين. فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه، وجنس الملك يجمعها. وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة.
- وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للإبن، بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الإبن ثابت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفاً مطلقاً.
- فإذا كان الملك يتنوع أنواعاً، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه: لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضاً إلى الإنسان، يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات مالا مصلحة له فيه. والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض. فإذا لم يكن فيه فساد، أو كان فساده مغموراً بالمصلحة لم يحظره أبداً. اهـ.(/45)
وقال ابن حزم: مسألة – وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما يرضى الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع أو بعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان. أو بالتخيير. أو في أحد الوقتين – يعني قبل العقد أو بعده – ولم يذكراه في حين عقد البيع فالبيع صحيح تام والشرط باطل لا يلزم[10]، فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع[11] فالبيع باطل مفسوخ والشرط باطل أي شرط كان لا تحاش شيئاً إلا سبعة شروط فقط فإنها لازمة والبيع صحيح إن شرطت في البيع وهي اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى. واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط أداء الثمن إلى الميسرة وإن لم يذكر أجلاً، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معاً ويتبايعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلابة وبيع العبد والأمة فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معيناً أو جزءاً منسوباً مشاعاً في جميعه سواء كان مالهما مجهولاً كله أو معلوماً كله أو معاً وما بعضه مجهولاً بعضه، أو بيع أصول نخل فيه ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده. فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءاً معيناً منها أو مسمى مشاعاً في جميعها. فهذه ولا مزيد وسائرها باطل كما قدمنا، كمن باع مملوكاً بشرط العتق أو أمة بشرط الإيلاد، أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة قلت أو كثرت أو إلى مكان مسمى قريب أو بعيد، أو داراً واشترط سكناها ساعة، فما فوقها أو غير ذلك من الشروط كلها.(/46)
- برهان ذلك ما رويناه من طريق مسلم بن حجاج نا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني لا أبو أسامة – هو حماد بن أسامة – لا هشام بن عروة عن أبيه قال: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أُمّ المُؤْمِنِينَ فَذَكَرَتْ حَدِيثاً قَالَتْ فِيهِ: ((إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النّاسَ فَحَمَدَ الله وَأثْنَى عَلَيْهِ ((بِمَا هُوَ أَهْلُهُ))[12] ثُمَّ قَالَ: ((أَمّا بَعْدُ فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُون شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ مَا مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَل فَهوَ بَاطِلٌ وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْط كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ)) )) وذكر باقي الخبر ومن طريق أبي داود حدثنا القعنبي. وقتيبة بن سعيد قالا جميعاً: نا الليث – هو ابن سعد – عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير قال: أن عائشة أم المؤمنين أخبرته ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَقَالَ: ((مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطَاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَلَيْسَ لَهُ وإنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ شَرْطُ اللهِ أَحَقُّ وأَوْثَق)) ))[13] فهذا الأثر كالشمس صحة وبياناً يرفع الإشكال كله: فلما كانت الشروط كلها باطلة غير ما ذكرنا كان كل عقد من بيع أو غيره عقد على شرط باطل باطلاً. ولابد لأنه عقد على أنه لا يصح[14] إلا بصحة الشرط والشرط لا صحة له فلا صحة لما عقد بأن لا صحة له إلا بصحة مالا يصح.(/47)
- قال أبو محمد: وأما تصحيحنا الشروط السبعة التي ذكرنا فإنها منصوص على صحتها، وكل ما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم[15] فهو في كتاب الله عز وجل قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} فأما[16] اشتراط الرهن في البيع إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وأما اشتراط الثمن إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} وأما اشتراط أن لا خلابة فقد ذكرنا الخبر في ذلك قبل هذا المكان بنحو أربع مسائل[17] وأما اشتراط الصفات التي يتبايعان عليها من السلامة: أو من أن لا خديعة ومن صناعة العبد، أو الأمة. أو سائر صفات المبيع فلقول الله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فنص تعالى على التراضي منهما والتراضي لا يكون إلا على صفات المبيع، وصفات الثمن ضرورة. أما اشتراط الثمن إلى الميسرة فلقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وروينا من طريق شعبة أخبرني عمارة ابن أبي حفصة عن عكرمة ((عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إلى يَهُودِيٍ قَدِمَتْ عَلَيْهِ ثِيَابُ ابْعَثْ إليَّ بِثَوْبَيْنِ إلى الْمَيْسَرَه وَذَكَرَ بَاقِي الْخَبَرْ)). وأما مال العبد. أو الأمة واشتراطه. واشتراط ثمر النخل المؤبر فلما روينا من طريق عبدالرزاق نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ بَاعَ عَبْداً وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبائِعِ إلاَّ إنِ اشْتَرَطَهُ المُبْتَاعُ(/48)
وَمَنْ بَاعَ نَخْلاً قَد أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُها لِلْبَائِعِ إلاَّ أَنْ يَشْترِطَ الْمبْتَاع)) )).
- قال أبو محمد: ولو وجدنا خبراً يصح في غير هذه الشروط باقياً غير منسوخ لقلنا به ولم نخالفه، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم هذين الشرطين إذ قد ذكرنا غيرهما والحمد لله رب العالمين، وقد ذكرنا رواية عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كل بيع فيه شرط فليس بيعاً.
- قال علي: فإن احتج معارض لنا بقول الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ} وبما روى: ((المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ))قلنا وبالله تعالى التوفيق[18]: أما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود لا يختلف اثنان في أنه ليس على عمومه ولا على ظاهره، وقد جاء القرآن بأن تجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه فمن عقد على معصية حرم عليه الوفاء بها فإذا لاشك في هذا فقد صح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل والباطل محرم فكل محرم فلا يحل الوفاء به، وكذلك قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ}.
- فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه وقد علمنا أن كل عهد نهى الله عنه فليس هو عهد الله تعالى بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل والباطل لا يحل الوفاء به.(/49)
- وأما الأثر في ذلك فإننا رويناه من طريق ابن وهب حدثني سليمان بن بلال نا كثير ابن زيد عن الوليد ابن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ))ورويناه أيضاً من طريق عبدالملك بن حبيب الأندلسي حدثني الحزامي عن محمد ابن عمر عن عبدالرحمن بن محمد ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبدالعزيز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ))ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن الحجاج بن أرطاة عن خالد بن محمد عن شيخ من بني كنانة سمعت عمر يقول: المسلم عند شرطه. ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن عيينه عن يزيد بن يزيد بن جابر عن اسماعيل بن عبيدالله عن عبدالرحمن بن غنم قال عمر بن الخطاب: ((إن مقاطع الحقوق عند الشروط)) ومن طريق ابن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: المسلمون عند شروطهم.(/50)
- قال أبو محمد: كثير بن زيد هو كثير بن عبدالله بن عمر[19] بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد ابن رباح مجهول، والآخر عبدالملك بن حبيب هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبدالرحمن بن محمد مجهول لا يعرف. ومرسل أيضاً، والثالث مرسل أيضاً، والذي من طريق عمر فيه الحجاج بن أرطاة وهو هالك، وخالد بن محمد مجهول وشيخ من بني كنانة، والآخر فيه اسماعيل بن عبيدالله ولا أعرفه، وخبر علي مرسل، ثم لو صح كل ما ذكرنا لكان حجة لنا وغير مخالف لقولنا لأن شروط المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم لا التي نهاهم عنها وأما التي نهوا عنها فليست شروط المسلمين، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط أو اشترط مائة مرة وأنه لا يصح لمن اشترطه، فصح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فباطل فليس هو من شروط المسلمين، فصح قولنا بيقين ثم أن الحنفيين. والمالكيين. والشافعيين أشد الناس اضطراباً وتناقضاً في ذلك لأنهم يجيزون شروطاً ويمنعون شروطاً كلها سواء في أنها باطلة ليست في كتاب الله عز وجل ويجيزون شروطاً ويمنعون شروطاً كلها سواء حق لأنها في كتاب الله تعالى، فالحنيفيون. والشافعيون يمنعون اشتراط المبتاع مال العبد. وثمر النخل المؤبر ولا يجيزون له ذلك البته إلا بالشراء على حكم البيوع. والمالكيون. والحنيفيون. والشافعيون لا يجيزون البيع إلا الميسرة ولا شرط قول: لا خلابة عند البيع وكلاهما في كتاب الله عز وجل لأمر النبي[20]صلى الله عليه وسلم بهما وينسون هاهنا[21]: ((المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهم))وكلهم يجيز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها بشرط القطع وهو شرط ليس في كتاب الله تعالى بل قد صح النهي عن هذا البيع جملة، ومثل هذا كثير.(/51)
قال أبو محمد: ولا يخلو كل شرط اشترط في بيع أو غيره من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما إباحة مال لم يجب في العقد. وأما إيجاب عمل. وإما المنع من عمل والعمل يكون بالبشرة أو بالمال فقط وكل ذلك حرام بالنص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَام))وأما المنع من العمل فإن الله تعالى يقول: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} فصح بطلان كل شرط جملة إلا شرطاً جاء النص من القرآن أو السنة بإباحته، وهاهنا أخبار نذكرها ونبينها إن شاء الله تعالى لئلا يعترض بها جاهل أو مشغب.(/52)
حدثني محمد بن اسماعيل العذري القاضي بسرقسطة نا محمد بن علي الرازي المطوعي نا محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري نا جعفر بن محمد الخلدي نا عبدالله بن أيوب بن زاذان الضرير نا محمد بن سليمان الذهلي نا عبدالوارث – هو ابن سعيد التنوري – قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة. وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعاً واشترط شرطاً ؟ فقال البيع باطل والشرط باطل، ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك ؟ فقال البيع جائز والشرط باطل، ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك ؟ فقال: البيع جائز والشرط جائز فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا – حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْط، الْبَيْعُ بَاطِلٌ والشّرْطُ بَاطِلْ، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا: فقال لا أدري ما قالا – حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إشْتَرِي بَرِيرَة وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَء الْبَيْعُ جَائِز والشّرْطُ بَاطِلٌ)) ))، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا نا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبدالله ((أنه باع من رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً واشترط ظهره إلى المدينة)) البيع جائز والشرط جائز، وهاهنا خبر رابع رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا زياد بن أيوب نا ابن علية نا أيوب السختياني نا عمرو بن شعيب حدثني أبي عن أبيه عن أبيه[22] حتى ذكر عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْع وَلاَ رِبْحُ مَالَمْ يُضْمَنْ))، وبه أخذ أحمد بن حنبل فيبطل البيع إذا كان فيه شرطان ويجيزه إذا كان فيه شرط واحد، وذهب أبو ثور إلى الأخذ بهذه الأحاديث كلها فقال: إن اشترط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله أو(/53)
خدمة العبد كذلك. أو ركوب الدابة كذلك أو لباس الثوب كذلك جاز البيع والشرط لأن الأصل له والمنافع له فباع ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل كالولاء ونحوه، وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو عمل المشتري فالبيع والشرط باطلان معاً.
قال أبو محمد: هذا خطأ من أبي ثور لأن منافع ما باع البائع من دار أو عبد. أو دابة أو ثوب أو غير ذلك فإنما هي له ما دام كل ذلك في ملكه فإذا خرج عن ملكه فمن الباطل والمحال أن يملك مالم يخلقه الله تعالى بعد من منافع ما باع، فإذا أحدثها الله تعالى فإنما أحدثها الله تعالى في ملك غيره فهي ملك لمن حدثت (عنده)[23] في ملكه فبطل توجيه أبي ثور، وكذلك باقي تقسيمه لأنه دعوى بلا برهان.(/54)
وأما قول أحمد فخطأ أيضاً لأن تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرطين[24] في بيع ليس مبيحاً لشرط واحد ولا محرماً له لكنه مسكوت عنه في هذا الخبر فوجب طلب حكمه في غيره فوجدنا قوله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ شَرطٍ ليْسَ فِي كِتَابِ الله فَهُوَ بَاطِل))فبطل الشرط الواحد وكل مالم يعقد إلا به وبالله تعالى التوفيق، وبقى حديث بريرة. وجابر في الجمل فنقول وبالله تعالى التوفيق: إننا روينا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج نا عبدالله بن جعفر ابن الورد نا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن عائشة قالت: ((جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ كَاتَبْتُ أَهْلِي عَليَ تِسْع أَوَاق كُلُّ عَامٍ أُوْقِيّه فَأَعِينِيني فَقَالَتْ عَائِشَة إنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ[25] أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَه وَيَكُونَ ليِ وَلاَؤُكِ فَعَلْتُ فَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِمْ فَأَبَوا إلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ[26] فَسَمعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَسَأَلَها فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ ((خُذِيهَا، واَشْتَرِطِي لَهُم الْوَلاَء فَإنّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ))فَفَعَلَتْ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيّةً فِي النّاسِ فَحَمِدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ: ((مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَل مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْط قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَق))وذكر باقي الخبر.(/55)
وأما طريق البخاري نا أبو نعيم نا عبدالواحد بن أيمن نا أبي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها[27] فقالت: دَخَلَتْ بَرِيرَةُ – وَهِيَ مُكَاتَبَه – وقَالَتْ إشْتَرِينِي وَأَعْتِقِينِي. قَالَتْ نَعَمْ قَالَتْ لاَ يَبِيعُونِي حَتّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِي، فَقَالَتْ عَائِشَة لاَ حَاجَةَ ليِ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اشْتَرِيهَا وَاَعْتِقِيهَا وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُونَ مَا شَاءُوا فَاشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ فَأَعْتَقَتْهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُها الْوَلاَءَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الْولاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْط.
قال أبو محمد: فالقول في هذا الخبر هو على ظاهره دون تزيد ولا ظن كاذب مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحريف اللفظ وهو أن اشترط الولاء على المشتري في المبيع للعتق كان لا يضر البيع شيئاً وكان البيع على هذا الشرط جائزاً حسناً مباحاً وإن كان الولاء مع ذلك للمعتق، وكان اشتراط البائع الولاء لنفسه مباحاً غير منهي عنه ثم نسخ الله عز وجل ذلك وأبطله إذ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ذكرنا فحينئذ حرم أن يشترط هذا الشرط أو غيره جملة إلا شرطاً في كتاب الله تعالى لا قبل ذلك أصلاً، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.(/56)
برهان ذلك أنه عليه السلام قد أباح ذلك وهو عليه السلام لا يبيح الباطل ولا يغر أحداً ولا يخدعه، فإن قيل: فهلا أجزتم البيع بشرط العتق في هذا الحديث ؟ قلنا ليس فيه اشتراطهم عتقها أصلاً[28] ولو كان لقلنا به، وقد يمكن أنهم اشترطوا ولاءها إن أعتقت يوماً ما أو أن أعتقها إذ إنما في الحديث أنهم اشترطوا ولاءها لأنفسهم فقط ولا يحل أن يزاد في الأخبار شيء لا لفظ ولا معنى فيكون من فعل ذلك كاذباً إلا أننا نقطع ونبت أن البيع بشرط العتق لو كان جائزاً لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه، فإذا لم يفعل فهو شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا فرق بين البيع بشرط العتق وبين بيعه بشرط الصدقه. أو بشرط الهبه. أو بشرط التدبير وكل ذلك لا يجوز.(/57)
ومن حديث جابر فإننا رويناه من طريق البخاري نا أبو نعيم نا زكريا سمعت عامراً الشعبي يقول: حَدَّثَنِي جَابِرُ بنُ عَبْدِاللهِ أنّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعيَا فَمَرَّ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَهُ فَدَعَا لَهُ فَسَارَ سَيْراً[29] لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ ثُمَّ قَالَ: ((بِعْنِيهِ بأوْقيّة))قُلْتُ لا ثُمَّ قَالَ: ((بِعْنِيهِ بأوُقِيّه))فَبِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ حِمْلاَنَهُ إلىَ أهْلي فَلَمّا قَدِمْنَا أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ وَنَقَدَني ثَمَنَهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَأرْسَلَ عَلى أثَرِي فَقَالَ: ((مَا كُنْتُ لآخُذَ جَمَلَكَ فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ فَهُو مَالُك))ومن طريق مسلم نا ابن نمير نا أبي زكريا – هو ابن أبي زائدة – عن عامر الشعبي حدثني جابر بن عبدالله فذكر هذا الخبر وفيه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: ((بِعْنِيِهِ فَبِعْتُهُ بِأُوْقِيّه وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حِمْلاَنَهُ إلَى أَهْلِي فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمنَهُ ثُمَّ رَجَعْتُ[30] فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَقَالَ أَتُرَاَنِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلكَ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَك))ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن العلاء نا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبدالله فذكر هذا الخبر وفيه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: ((مَا فَعَلَ الْجَمَلُ بِعْنِيهِ))قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بَلْ هُو لَك[31] قَالَ: ((لاَ بَلْ بِعْنِيهِ))قُلْتُ: لا بَلْ هُو لَكَ قَالَ: ))(لاَ بَل)[32] بِعْنِيهِ قَدْ أَخَذْتُهُ بِأوقيّة ارْكَبْهُ فَإذَا قَدِمْتَ الْمدِينَةَ فأتِنَا بِهِ فَلَمّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ جِئْتُهُ بِهِ فَقَالَ لِبِلاَلٍ (يَا بِلاَلُ)[33] زِنْ لَهُ أُوقِيّة وَزِدْهُ قِيرَاطاً))هَكَذَا رَوَيْنَاهُ مِنْ(/58)
طَرِيقِ عَطاء عَنْ جَابِرٍ.
- قال أبو محمد: روى هذا أن ركوب جابر لجمل كان تطوعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف فيه على الشعبي. وأبي الزبير فروى عنهما عن جابر أنه كان شرطاً من جابر، وروى عنهما أنه كان تطوعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نسلم لهم أنه كان شرطاً ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق: إنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد أخذته بأوقية، وصح عنه عليه السلام أنه قال: أتراني ماكستك لآخذ جملك ما كنت لآخذ جملك ذلك فهو مالك كما أوردنا آنفاً، فصح يقيناً أنهما أخذان، أحدهما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر لم يفعله بل انتفى منه ومن جعل كل ذلك أخذاً واحداً فقد كذَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه وهذا كفر محض فإذاً لابد من أنهما أخذان لأن الأخذ الذي أخبر به عليه السلام عن نفسه هو بلاشك غير الأخذ الذي انتفى عنه البته، فلا سبيل[34] إلى غير ما يُحمل عليه ظاهر الخبر وهو أنه عليه السلام أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك[35] أخذه، وصح أن في حال المماكسة كان ذلك أيضاً في نفسه عليه السلام لأنه عليه السلام أخبره أنه لم يماكسه ليأخذ جمله، فصح أن البيع لم يتم فيه قط فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط وهذا، هو مقتضى لفظ الأخبار إذا جمعت ألفاظها، فإذ قد صح أن ذلك البيع لم يتم ولم يوجد في شيء من ألفاظ ذلك الخبر أصلاً أن البيع تم بذلك الشرط فقد بطل أن يكون في هذا الخبر حجة في جواز بيع الدابه واستثناء ركوبها أصلاً وبالله تعالى التوفيق.(/59)
- فأما الحنيفيون، والشافعيون فلا يقولون بجواز هذا الشرط أصلاً، فإنما الكلام بيننا وبين المالكيين فيه فقط، وليس في هذا الخبر تحديد يوم ولا مسافة قليلة من كثيرة ومن ادعى ذلك فقد كذب، فمن أين خرج لهم تحديد مقدار دون مقدار ؟ ويلزمهم إذ لم يجيزوا بيع الدابة على شرط ركوبها شهراً ولا عشرة أيام، وأبطلوا هذا الشرط وأجازوا بيعها واشتراط ركوبها مسافة يسيرة أن يحدوا المقدار الذي يحرم به ما حرموه من ذلك المقدار الذي حللوه هذا فرض عليهم وإلا فقد تركوا من اتبعهم في سخنة عينه وفي مالا يدري لعله يأتي حراماً[36] أو يمنع حلالاً، وهذا ضلال مبين فإن حدوا في ذلك مقداراً ما سئلوا عن البرهان في ذلك إن كانوا صادقين. فلاح فساد هذا القول بيقين لاشك فيه، ومن الباطل المتيقن أن يحرم الله تعالى علينا ما لا يفصله لنا من أوله لآخره لنجتنبه ونأتي ما سواه، إذا كان تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا من أن نعلم الغيب وقد أمننا الله تعالى من ذلك (فإن قالوا): إن في بعض ألفاظ الخبران ذلك كان حين دنوا من المدينة قلنا: الدنو يختلف ولا يكون إلا بالاضافة فمن أتي من تبوك فكان من المدينه على ست مراحل أو خمس فقد دنا منها، ويكون الدنو أيضاً على ربع ميل وأقل أو أكثر فالسؤال باق عليكم بحسبه، وأيضاً فإن هذه اللفظة إنما هي في رواية سالم بن أبي الجعد وهو إنما روى أن ركوب جابر كان تطوعاً من النبي صلى الله عليه وسلم وشرطاً[37] وفي رواية المغيرة عن الشعبي عن جابر دليل على أن ذلك كان في مسيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزاة، وأيضاً فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك الشرط إلا في مثل تلك المسافة فإذ لم يقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات فلا تقيسوا على تلك الطريق سائر الطرق[38] ولا تقيسوا على اشتراط ذلك في ركوب جمل سائر الدواب، وإلا فأنتم متناقضون متحكمون بالباطل، وإذا قستم على تلك الطريق سائر الطرق، وعلى الجمل سائر(/60)
الدواب، فقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات، كما فعلتم في صلاته عليه السلام راكباً متوجهاً إلى خيبر إلى غير القبلة فقسم على تلك المسافة سائر المسافات فلاح أنهم لا متعلق لهم في هذا الخبر أصلاً وبالله تعالى التوفيق.
وقد جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم آثار في الشروط في البيع خالفوها، فمن ذلك ما روينا من طريق عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا لو أن عثمان بن عفان. وعبدالرحمن بن عوف قد تبايعا حتى ننظر[39] أيهما أعظم جَدًّا في التجارة فاشترى عبدالرحمن بن عوف من عثمان فرساً بأرض أخرى بأربعين ألفاً أو نحوها إن أدركتها الصفقة وهي سالمة ثم أجاز قليلاً ثم رجع فقال: أزيدك ستة آلاف إن وجدها رسولي سالمة قال: نعم فوجدها رسول عبدالرحمن قد هلكت وخرج منها بالشرط الآخر، قيل للزهري: فإن لم يشترط قال: فهي من البائع، فهذا عمل عثمان، وعبدالرحمن بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وعلمهم، لا مخالف لهم يعرف منهم ولم ينكر ذلك سعيد وصوبه الزهري فخالف الحنيفيون والمالكيون. والشافعيون كل هذا وقالوا: لعل الرسول يخطئ أو يبطئ أو يعرضه عارض فلا يدري متى يصل وهم يشنعون مثل هذا إذا خالف تقليدهم.(/61)
ومن طريق وكيع نا محمد بن قيس الأسدي عن عون بن عبدالله عن عتبه بن مسعود قال: إن تميماً الداري باع داره واشترط سكناها[40] حياته وقال: إنما مثلي مثل أم موسى رد عليها ولدها وأعطيت أجر رضاعها، ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة ابن شراحيل قال: باع صهيب داره من عثمان واشترط سكناها، وبه يأخذ أبو ثور فخالفوه ولا مخالف لذلك من الصحابة ممن يجيز الشرط في البيع، وقد ذكرنا قبل إبتياع نافع بن عبد الحرث داراً بمكة للسجن من صفوان بأربعة آلاف على إن رضي عمر فالبيع تام، فإن لم يرض فلصفوان أربعمائة فخالفوهم كلهم، ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيدالله بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر أنه اشترى بعيراً بأربعة أبعرة على أن يوفوه إياها بالربذة وليس فيه وقت ذكر الإيفاء فخالفوه، ومن طريق حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد قال: أصاب عمار بن ياسر مغنماً فقسم بعضه وكتب إلى عمر يشاوره فتبايع الناس إلى قدوم الراكب، وهذا عمل عمار والناس بحضرته فخالفوه وأما نحن فلا حجة عندنا في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق، وحكم علي بشرط الخلاص. وللحنيفيين والمالكيين. والشافعيين تناقض عظيم بما أجازوه من الشروط في البيع وما منعوا منه فيها قد ذكرنا بعضه ونذكر في مكان آخر إن شاء الله تعالى ما يسر الله تعالى بذكره، لأن الأمر أكثر من ذلك وبالله تعالى التوفيق. اهـ[41].
ضوابط الشروط المقترنة بالعقد:
هذا وقد نقل الدكتور عبدالرزاق السنهوري عن فقهاء الإسلام ضوابط للشروط المقترنة بالعقد صحيحها وفاسدها وذكر عنهم كثيراً من المسائل وأمثله للقسمين وقارن بين ما نقله عنهم فاستحسنت اللجنة نقله مع حذف ما يغني عنه غيره مما ذكره.
قال الدكتور عبدالرزاق ما نصه[42]:
1- الشرط الصحيح
متى يكون الشرط صحيحاً:
يتبين مما قدمناه أن الشرط المقترن بالعقد يكون صحيحاً، فيصح معه العقد، إذا كان:(/62)
(أ) شرطاً يقتضيه العقد.
(ب) أو شرطاً يلائم العقد.
(جـ) أو شرطاً جرى به التعامل بين الناس.
(أ) الشرط الذي يقتضيه العقد.
النصوص في البدائع (جزء 5 ص171): ((وأما الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب فساده، كما إذا اشترط أن يتملك المبيع، أو باع بشرط أن يتملك الثمن، أو باع بشرط أن يحبس المبيع حتى يقبض الثمن، أو اشترى على أن يسلم المبيع، أو اشترى جارية على أن تخدمه، أو دابة على أن يركبها، أو ثوباً على أن يلبسه، أو حنطة في سنبلها وشرط الحصاد على البائع، ونحو ذلك، فالبيع جائز، لأن البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط، فكان ذكرها في معرض الشرط تقريراً لمقتضى العقد، فلا توجب فساد العقد. اهـ.
وجاء في الخرشي (جزء 5 ص80): ((وبقى شرط يقتضيه العقد، وهو واضح الصحة، كشرط تسليم المبيع والقيام بالعيب ورد العوض عند انتقاض البيع. وهو لازم دون شرط، فشرطه تأكيد)). اهـ.
وجاء في المهذب (جزء أول ص268): ((إذا شرط في البيع شرطاً نظرت، فإن كان شرطاً يقتضيه البيع. كالتسليم والرد بالعيب وما أشبههما، لم يبطل العقد، لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد، فلم يبطله)). اهـ.
وجاء في المغني (جزء 4 ص285): ((والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام (أحدها) ماهو من مقتضى العقد، كاشتراط التسليم وخيار المجلس والتقابض في الحال، فهذا وجوده كعدمه لا يفيد حكماً ولا يؤثر في العقد)). اهـ.
صحة الشرط الذي يقتضيه العقد أمر بديهي:
ويتبين من النصوص المتقدمة الذكر أن الشرط الذي يقتضيه العقد لا خلاف في صحته، بل إن صحته أمرٌ بديهي، إذ هو محض تقرير لمقتضى العقد، ومقتضى العقد لازم دون شرط، فشرطه تأكيد وبيان.
الشرط الذي يلائم العقد:
النصوص:(/63)
جاء في البدائع (جزء 5 ص171): ((وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد، لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضاً، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكد إياه على ما نذكر إن شاء الله تعالى، فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد. وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهناً أو كفيلاً، والرهن معلوم، والكفيل حاضر فقبل. وجملة الكلام في البيع بشرط إعطاء الرهن أن الرهن لا يخلو إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً. فإن كان معلوماً فالبيع جائزٌ استحساناً، والقياس ألا يجوز، لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسداً، إلا أنا استحسنا الجواز، لأن هذا الشرط لو كان مخالفاً مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى، لأن الرهن بالثمن شرع توثيقاً للثمن وكذا الكفالة فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقرراً لمقتضى العقد معنىً، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا. ولو قبل المشتري المبيع على هذا الشرط ثم امتنع من تسليم الرهن، لا يجبر على التسليم عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر يجبر عليه. وجه قوله أن الرهن إذا شرط في البيع فقد صار حقاً من حقوقه، والجبر على التسليم من حقوق البيع فيجبر عليه. ولنا أن الرهن عقد تبرع في الأصل، واشتراطه في البيع لا يخرجه عن أن يكون تبرعاً، والجبر على التبرع ليس بمشروع، فلا يجبر عليه، ولكن يقال له إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو تؤدي الثمن أو يفسخ البائع البيع. لأن البائع لم يرض بزوال البيع عن ملكه إلا بوثيقة الرهن أو بقيمته لأن قيمته تقوم مقامه، ولأن الدين يستوفي من مالية الرهن وهي قيمته، وإذا أدى الثمن فقد حصل المقصود فلا معنى للفسخ، ولو امتنع المشتري من هذه الوجوه فللبائع أن يفسخ البيع لفوات الشرط والغرض. وإن كان الرهن مجهولاً فالبيع فاسد. لأن جواز هذا الشرط، مع أن(/64)
القياس يأباه، لكونه ملائماً للعقد، مقرراً لمقتضاه معنى، لحصول معنى التوثق والتأكد للثمن، ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول. ولو اتفقا على تعيين رهن في المجلس جاز البيع، لأن المانع هو جهالة الرهن وقد زال، فكأنه كان معلوماً معيناً من الابتداء، لأن المجلس له حكم حالة واحدة، وإن افترقا عن المجلس تقرر الفساد. وكذا إذا لم يتفقا على تعيين الرهن ولكن المشتري فقد الثمن، جاز البيع أيضاً، لأن المقصود من الرهن هو الوصول إلى الثمن وقد حصل فيسقط اعتبار الوثيقة. وكذلك البيع بشرط إعطاء الكفيل لأن الكفيل إن كان حاضراً في المجلس وقبل جاز البيع استحساناً، وإن كان غائباً فالبيع فاسد، وكذا إذا كان حاضراً ولم يقبل. لأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن، لما فيه من تقرير موجب العقد على ما بينا، فإذا كان الكفيل غائباً أو حاضراً ولم يقبل، لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثيق، فبقى الحكم على ما يقتضيه القياس. وكذا إذا كان الكفيل مجهولاً فالبيع فاسد، لأن كفالة المجهول لا تصح. ولو كان الكفيل معيناً وهو غائب. ثم حضر وقبل الكفالة في المجلس. جاز البيع، لأنه جازت الكفالة بالقبول في المجلس، وإذا حضر بعد الافتراق تأكد الفساد. ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه، أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع، فالبيع فاسد. لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده. والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائماً للعقد، بخلاف الكفالة والرهن. اهـ.(/65)
- وجاء في الحطاب (جزء 4 ص375- 376): ((قال في البيوع الفاسدة: منها وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه جاز، وعليه الثقة ورهن وحميل. وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليه إن امتنع. وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض. وكذلك إن تكفلت به على أن يعطيك عبده رهناً فإن امتنع من دفعه إليك أجبراه. قال اللخمي في كتاب الرهن: البيع على رهن غير معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد. والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلى ومالا يغاب عليه كالدور وما أشبهها، وليس العادة للعبيد والدواب وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقاً في تلفه لأن في حفظه مشقة وكلفة. وقال ابن الحاجب في باب الرهن: ويجبر البائع وشبهه في غير معين في التوضيح، يعني من باع سلعة بثمن مؤجل على شرط أن يأخذ منه رهناً به، فإن كان الرهن المشترط غير معين، وأبى المشتري دفعه. خير البائع وشبهه من وارث وموهوب له في فسخ البيع وإمضائه. وهكذا قال ابن الجلاب مقتصراً عليه. والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين: ابن عبدالسلام وهو المذهب)). اهـ.(/66)
- وجاء في شرح المنهاج للرملي (جزء 3 ص436- ص438): ((والرهن للحاجة إليه، لاسيما في معاملة من لا يعرف حاله. وشرطه العلم به. إما بالمشاهدة أو الوصف بصفات السلم. ثم الكلام هنا في وصف لم يرد على عين معينه. فهو مساو لما مر من أن الوصف لا يجزي عن الرؤية لأنه في معين لا موصوف في الذمة خلافاً لمن وهم فيه، وأن يكون غير البيع فلو شرط برهنه إياه ولو بعد قبضه فسد، لأنه لا يملكه إلا بعد البيع، فهو بمنزلة استثناء منفعة في البيع. فلو رهنه بعد قبضه بلا شرط مفسد صح والكفيل للحاجة إليه أيضاً، وشرطه العلم به بالمشاهدة.. أو باسمه ونسبه ولا يكفي وصفه بموسر ثقة، إذ الاحرار لا يمكن التزامهم في الذمة لانتفاء القدرة عليهم، بخلاف المرهون فإنه يثبت في الذمة. فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتي برهن غير المعين ولو أعلى قيمة منه، أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله وإن أقام المشتري ضامناً غيره ثقة، فللبائع الخيار. ولا يجبر من شرط عليه ذلك على القيام بالمشروط لزوال الضرر بالفسخ ويتخير أيضاً فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره. اهـ.
وجاء في الشرح الكبير للمقنع (جزء 4 ص48): ((الثاني شرط من مصلحة العقد. كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن أو الضمين أو الشهادة. أو صفة في المبيع مقصودة نحو كون العبد كاتباً أو خطيباً أو صانعاً أو مسلماً أو الأمة بكراً أو الدابة هملاجة أو الفهد صيوداً، فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به. فإن لم يف به فللمشتري الفسخ والرجوع بالثمن)). اهـ.
ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد:(/67)
الأمثلة التي وردت في النصوص المتقدمة عن الشرط الذي يلائم العقد هي: (1) شرط أخذ الرهن بالثمن (2) شرط أخذ الكفيل بالثمن (3) شرط الحوالة بالثمن. وكلها شروط تلائم العقد، فهي وإن كان العقد لا يقتضيها، إلا أنها لا تتعارض معه ولا تتنافى مع أحكامه، بل هي من مصلحة العقد، وتتعلق بها مصلحة العاقدين. والمذهب الحنفي يقتصر كما رأينا على القول بأن الشرط يلائم العقد، أما المذاهب الأخرى فالتعبير فيها أقل تحفظاً. تقول المالكية: الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وهو من مصلحته. وتقول أيضاً: لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحة ولا معارض له من جهة الشرع. وتقول الشافعية: شرط لا يقتضيه العقد ولكن فيه مصلحة وتدعو الحاجة إليه. وتقول الحنابلة: شرط من مصلحة العقد وتتعلق به مصلحة العاقدين.
على أن هذه المذاهب تختلف عندما تقرر ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد، فأضيقها في ذلك هو المذهب الحنفي، وأوسعها هو المذهب المالكي.
ففي المذهب الحنفي إذا كان الرهن الذي يتوثق الثمن به مجهولاً، أو كان الكفيل مجهولاً، أو كان غير حاضر في المجلس، أو كان حاضراً ولم يقبل الكفالة، فإن الشرط يكون فاسداً ويفسد معه البيع. أما في الرهن فلأن جواز هذا الشرط مع أن القياس يأباه. لكونه ملائماً للعقد، مقرراً لمقتضاه معني لحصول معنى التوثق والتأكد للثمن. ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول. وأما في الكفيل فلأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن لما فيه من تقرير موجب العقد.(/68)
فإذا كان الكفيل غائباً أو حاضراً ولم يقبل، لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثيق، فبقى الحكم على ما يقتضيه القياس. وكذا إذا كان الكفيل مجهولاً فالبيع فاسد لأن كفالة المجهول لا تصح، فلابد إذن لصحة الشرط الملائم للعقد أن يكون تاماً نافذ الأثر وقت العقد، فيقبل الكفالة بالثمن، ويسلم المشتري الرهن للبائع، وذلك كله قبل انفضاض مجلس العقد. على أنه يجوز أن يكون الرهن – لا الكفيل – غائباً عن المجلس ما دام معلوماً إذا كان عيناً معينة، أو ما دام يمكن ضبطه بالوصف إذا كان شيئاً غير معين إلا بالنوع، ففي هذه الحالة يصح شرط الرهن ويصح معه العقد، ويجب على المشتري تسليم الرهن أو قيمته إلى البائع بعد العقد، وإلا كان البائع بالخيار، إذا لم ينقد الثمن بين فسخ العقد أو إبقائه. ولكن لا يجبر المشتري على تسليم الرهن، خلافاً لقول زفر إذ يذهب إلى أن الرهن إذا شرط في العقد فقد صار حقاً من حقوقه ويجبر المشتري على تنفيذه، والفرق بين الكفالة والرهن في هذا الصدد، إذ يشترط حضور الكفيل وقبوله الكفالة ولا يشترط حضور الرهن على ما بينا ويوضحه صاحب فتح القدير إذ يقول: ((لأن وجوب الثمن في ذمة الكفيل يضاف إلى البيع فيصير الكفيل كالمشتري، فلابد من حضور العقد بخلاف الرهن لا تشترط حضرته، لكن مالم يسلم للبائع لا يثبت فيه حكم الرهن وإن انعقد عقد الرهن بذلك الكلام، فإن سلم معنى العقد على ما عقدا، وإن امتنع عن تسليمه لا يجبر عندنا، بل يؤمر بدفع الثمن، فإن لم يدفع الرهن ولا الثمن خير البائع في الفسخ)).(/69)
- والظاهر من النصوص أن الشافعيه والحنابلة كالحنفية في وجوب تعيين المرهون وتعيين الكفيل بالذات، فلا يكفي وصف الكفيل بموسر ثقة. ولكن يبدو أن الشافعية والحنابلة لا يتشددون تشدد الحنفيه في وجوب أن يكون الكفيل حاضراً في مجلس العقد، وأن يقبل الكفالة قبل انفضاض المجلس فيكفي أن يكون كل من الرهن والكفيل معيناً معلوماً على الوجه الذي قدمناه، فإن لم يسلم المشتري الرهن للبائع قبل العقد، أو لم يقبل الكفيل الكفالة أو مات قبل القبول. خير البائع إذا لم ينقذه المشتري الثمن. ويقول الرملي في هذا الصدد: فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتي برهن غير معين ولو أعلى قيمة منه. أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله وإن أقام المشتري ضامناً غيره ثقة، فللبائع الخيار... ولا يجبر من شرط عليه ذاك على القيام بالمشروط لزوال الضرر بالفسخ. ويتخير أيضاً فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره.(/70)
- أما المذهب المالكي فهو كما قدمنا، أوسع المذاهب في هذه المسألة. فعنده يصح الشرط حتى لو لم يكن الرهن أو الكفيل معيناً. ويقول الحطاب: ((وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه، جاز)). ليس هذا فحسب، بل أيضاً إذا عين الرهن بعد العقد وامتنع المشتري عن تسليمه، أجبر على ذلك، ولا يقتصر الأمر على إعطاء البائع حق الفسخ إذا لم ينقد الثمن. وإذا لم يعين الرهن أجبر المشتري على أن يعطي الصنف المعتاد: ثياباً أو حلياً أو داراً أو نحو ذلك، ولا يجبر البائع على قبول ما في حفظه مشقة وكلفة، كالعبيد والدواب. ويقول الحطاب أيضاً في ذلك: ((وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليك إن امتنع، وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض... والبيع على رهن غير معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد. والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلي ومالا يغاب عليه كالدور وما أشبهها. وليس العادة العبيد والدواب وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقاً في تلفه لأن في حفظه مشقة وكلفة.. والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين.. وهو المذهب.)).
ونرى من ذلك أن المذهب الحنفي لا يكتفي في صحة الشرط بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل. بل يجب أن يكون عقد الرهن أو عقد الكفالة قد انعقد مع انعقاد البيع. وتكتفي الشافعية والحنابلة بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل على أن يكون الرهن أو الكفيل معيناً وقت العقد. أما المالكية فيكتفون هم أيضاً بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل... ويزيدون على ذلك أنهم لا يشترطون أن يكون الرهن أو الكفيل معيناً وقت العقد، ثم إنهم في الرهن يجبرون المشتري على تسليمه إذا كان معيناً، أو على تسليم الصنف المعتاد إذا كان غير معين.(/71)
بقى شرط الحوالة، ونلاحظ أن كتب الحنفية قد تضاربت في صحة هذا الشرط. فقد جاء في البدائع كما رأينا. ((ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه. أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع، فالبيع فاسد، لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده، والحوالة ابراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائماً للعقد بخلاف الكفالة والرهن)). والفرض أن يرد الشرط في عقد البيع قاضياً بحوالة الثمن الذي في ذمة المشتري حوالة دين إلى ذمة شخص آخر قد يكون مديناً للمشتري (غريماً من غرمائه) فيصبح هذا المدين وقد تحمل الدين بالثمن نحو البائع وتبرأ ذمة المشتري من الثمن. هذا الشرط لا يقتضيه العقد. ثم هو يلائم العقد، لأن الحوالة إبراء لذمة المشتري من الثمن كما يقول صاحب البدائع. ولكن إذا كانت الحوالة إبراء عن الثمن وإسقاطاً له من وجه، فهي من وجه آخر تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له، فإن الإبراء لا يكون إلا عن شيء واجب. هذا إلى أن الحوالة ليست إبراء فحسب، إذ هي إبراء لذمة المحيل – إبراء غير كامل – وشغل لذمة المحال عليه، وفي هذا أيضاً تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له. ولا يختلف الأمر إذا ضمن المشتري الثمن لغريم من غرماء البائع أي لدائن من دائنيه ولو كان ذلك عن طريق حوالة الدين الذي في ذمة البائع لدائنه إلى ذمة المشتري. فإن المشتري بقبوله هذه الحوالة إنما تؤكد وجوب الثمن في ذمته وبدلاً من أن يدفعه للبائع يكون واجباً عليه أن يدفعه لدائن البائع. فالشرط كما نرى ملائم لمقتضى عقد البيع كل الملاءمة، ويعدل في ذلك شرط الرهن وشرط الكفالة. من أجل ذلك نرجح الأخذ بما جاء في فتح القدير من أن ((شرط الحوالة كالكفالة)) وبما جاء في المبسوط من أن ((شرط الحوالة في هذا كشرط الكفالة، لأنه لا ينافي وجود أصل الثمن في ذمة المشتري، فإن الحوالة(/72)
تحويل ولا يكون ذلك إلا بعد وجود الثمن في ذمة المشتري، بخلاف ما لو شرط وجوب الثمن ابتداء على غير المشتري بالعقد فإن ذلك ينافي موجب العقد فكان مفسداً للعقد)).
الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناؤه على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلاً في المذاهب الأخرى
لم تجز الحنفية الشرط الذي يلائم العقد إلا استثناء على سبيل الاستحسان، ملحقين إياه في المعنى بالشرط الذي يقتضيه العقد. وإلا فإن الشرط، ولو لاءم العقد ما دام العقد لا يقتضيه لا يجوز على مقتضى القياس عند الحنفية، فإن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد فيكون عقداً في عقد وهذا لا يجوز وإنما صح هذا الشرط على سبيل الاستحسان كما قدمنا، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى، مؤكد إياه، فاشتراط الرهن أو الكفالة بالثمن يؤكد وجوب استيفاء الثمن، واستيفاء الثمن ملائم للعقد، ومثل هذا الاشتراط يكون بمثابة اشتراط صفة الجودة في الثمن.(/73)
جاء في المبسوط (جزء 13 ص19): وإن شرط أن يرهنه المبتاع هذا بعينه، ففي القياس العقد. فاسد لما بينا أنه شرط عقد في عقد. وفي الاستحسان يجوز هذا العقد، لأن المقصود بالرهن الاستيفاء، فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء، وشرط استيفاء الثمن ملائم للعقد ثم الرهن بالثمن للتوثق، فاشتراط ما يتوثق به كاشتراط صفة الجودة في الثمن. وقد رأينا صاحب البدائع يقول في هذا المعنى: ((وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد، لكنه ملائم للعقد)) لا يوجب فساد العقد أيضاً، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكد إياه.. فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد، وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهناً فإن كان معلوماً فالبيع جائز استحساناً، والقياس ألا يجوز لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسداً، إلا أننا استحسنا الجواز لأن هذا الشرط لو كان مخالفاً مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى، لأن الرهن بالثمن شرع توثيقاً للثمن وكذا الكفالة فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقرراً لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة في الثمن وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا.
أما في المذهب الشافعي، فالظاهر أن الشرط الذي يلائم العقد يصح أصلاً لا استثناء، بخلاف المذهب الحنفي فالشرط فيه لا يصح إلا على سبيل الاستثناء كما قدمنا.(/74)
وأما المذهبان المالكي والحنبلي فيبدو أنهما يجيزان الشرط الملائم للعقد على اعتبار أن هذا الشرط إذا كان العقد لا يقتضيه فإنه لا ينافي مقتضى العقد وهو من مصلحته، وما لا ينافي مقتضى العقد وإن كان العقد لا يقتضيه فهو جائز مادامت فيه مصلحة للعقد وللمتعاقدين. ويظهر أن الفرق بين المذهب الحنفي وهذين المذهبين في هذا الصدد أن الحنفية يوجبون لصحة الشرط في الأصل أن يكون العقد يقتضيه، ثم هم يجيزون استثناء – على سبيل الاستحسان لا على سبيل القياس – الشرط الذي يلائم العقد، لأنه يشبه في المعنى الشرط الذي يقتضيه العقد، فيلحق به. أما المذهبان الآخران فعندهما أنه ليس من الضروري لصحة الشرط أن يكون العقد يقتضيه. بل يكفي أن يكون الشرط لا ينافي مقتضى العقد، فيصح الشرط الذي يقتضيه العقد، كما يصح الشرط الذي يلائم العقد لأنه لا ينافي ما يقتضيه، والصحة في هذا الشرط وفي ذاك إنما ترد على سبيل الأصل لا على سبيل الاستثناء. وقد رأينا الخرشي في المذهب المالكي يقول في هذا المعنى: ((ولما أنهى الكلام على الشرط المناقض، وترك المؤلف ذكر ما لا يقتضيه العقد لوضوحه، أخذ يذكر مالا يقتضيه ولا ينافيه وهو من مصلحته، بقوله مشبهاً له بالحكم قبله، وهو الصحة كشرط رهن وحميل وأجل، يعني أن البيع يصح مع اشتراط هذه الأمور. وليس في ذلك فساد ولا كراهيه، لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحته، ولا معارض له من جهة الشرع)). ثم رأينا ابن قدامة المقدسي في المذهب الحنبلي يقول في الشرح الكبير: ((الثاني شرط من مصلحة العقد.. فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به)).
الشرط الذي يجري به التعامل
النصوص
جاء في المبسوط (جزء 13 ص14): ((وإن كان شرطاً لا يقتضيه العقد وفيه عرف ظاهر، فذلك جائز أيضاً، كما لو اشترى نعلاً وشراكاً بشرط أن يحذوه البائع، لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجاً بيناً)).(/75)
وجاء في البدائع (جزء 5 ص172): ((كذلك إن كان مما لا يقتضيه العقد ولا يلائم العقد أيضاً، لكن للناس فيه تعامل، فالبيع جائز، كما إذا اشترى نعلاً على أن يحذوه البائع أو جراباً على أن يخرزه له خفاً، أو ينعل خفه والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله. وجه القياس أن هذا الشرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوباً بشرط أن يخيطه البائع له قميصاً ونحو ذلك. ولنا أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع)).
ولا يزال الشرط الذي يجري به التعامل إنما تثبت له الصحة في المذهب الحنفي على سبيل الاستحسان. أما في القياس فهو لا يجوز، لأن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد فيكون عقداً في عقد. وقد رأينا صاحب البدائع يقول: ((والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله. وجه القياس أن هذا شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوباً بشرط أن يخيطه البائع له قميصاً ونحو ذلك. ولنا أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس، كما سقط في الاستصناع)).
الشرط الفاسد
المذهب الحنفي والمذاهب الثلاثة الأخرى:
ولما كان المذهب الحنفي هو أضيق المذاهب في إباحة الشروط المقترنة بالعقد كما قدمنا، ومن ثم كان الشرط الفاسد في هذا المذهب واسع المدى، لذلك نبدأ ببحث المذهب الحنفي وحده، ثم نعقب بتأصيل هذا المذهب وتطور الفقه الإسلامي في المذاهب الثلاثة الأخرى وفي المذهب الحنفي نفسه، فهناك اتصال وثيق بين هاتين المسألتين.
أولاً – المذهب الحنفي
- التمييز بين حالتين:
يجب التمييز في المذهب الحنفي بين حالتين:
(أ) حالة فيها الشرط الفاسد يفسد العقد.
(ب) وحالة فيها الشرط الفاسد يلغو دون أن يفسد العقد، فيسقط الشرط ويبقى العقد.
1- شرط فاسد يفسد العقد
النصوص(/76)
جاء في المبسوط (جزء 13 ص15- ص18): ((وإن كان شرطاً لا يقتضيه العقد وليس فيه عرف ظاهر، فإن كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين فالبيع فاسد، لأن الشرط باطل في نفسه والمنتفع به غير راض بدونه، فتمكن المطالبة بينهما بهذا الشرط. فلهذا فسد به البيع. وكذلك إن كان فيه منفعة للمعقود عليه، وذلك نحو ما بينا أنه إذا اشترى عبداً على أنه لا يبيعه، فإن العبد يعجبه ألا تتناوله الأيدي، وتمام العقد بالمعقود عليه حتى لو زعم أنه حر كان البيع باطلاً، فاشتراط منفعته كاشتراط منفعة أحد المتعاقدين... قال إذا اشترى عبداً على أنه يعتقه فالبيع فاسد، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن البيع جائز بهذا الشرط، وهو قول الشافعي، لحديث بريرة رضي الله عنها فإنها جاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعينها في المكاتبة. قالت إن شئت عددتها لأهلك وأعتقك، فرضيت بذلك، فاشترتها وأعتقتها، وإنما اشترتها بشرط العتق وقد أجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.. ولأن العتق في المبيع قبض.. والقبض من أحكام العقد فاشتراطه في العقد يلائم العقد ولا يفسده. وحجتنا في ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ولأن في هذا الشرط منفعة للمعقود عليه والعقد لا يقتضيه فيفسد به العقد كما لو شرط ألا يبيع. يوضحه أنه لو شرط في الجارية أن يستولدها أو في العبد أن يدبره كان العقد فاسداً فإذا كان اشتراط حق العتق لها يفسد البيع فاشتراط حقيقة العتق أولى، ودعواه أن هذا الشرط يلائم العقد لا معنى له فإن البيع موجب للملك والعتق مبطل له فكيف يكون بينهما ملاءمة، ثم هذا الشرط يمنع استدامة الملك فيكون ضد ما هو المقصود بالعقد. وبيع العبد نسمة لا يكون بشرط العتق، بل يكون ذلك وعداً من المشتري ثم البيع بعقد مطلقاً وهو تأويل حديث عائشة رضي الله عنها فإنها اشترت بريرة رضي الله عنها مطلقاً ووعدت لها أن تعتقها لترضى هي بذلك فإن بيع المكاتبة لا يجوز بغير رضاها...(/77)
- وإذا اشتراه على أن يقرض له قرضاً أو يهب له هبه أو يتصدق عليه صدقة أو على أن يبيعه بكذا وكذا من الثمن، فالبيع في جميع ذلك فاسد، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة.. وإن اشترى شيئاً وشرط على البائع أن يحمله إلى منزله أو يطحن الحنطة أو يخيط الثوب فهو فاسد، لأن فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه، لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، وكذلك لو اشترى داراً على أن يسكنها البائع شهراً، فهذه إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، أو هذا شرط أجل في العين والعين لا تقبل الأجل)).(/78)
- وجاء في البدائع (جزء 5 ص169- ص173): ((ومنها شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو للمشتري أو للمبيع إن كان من بني آدم كالرقيق، وليس بملائم للعقد، ولا مما جرى به التعامل بين الناس، ونحو ما إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً ثم يسلمها إليه، أو أرضاً على أن يزرعها سنة، أو دابة على أن يركبها شهراً، أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً أو على أن يقرضه المشتري قرضاً. أو على أن يهب له هبة، أو يزوج ابنته منه، أو يبيع منه بكذا، ونحو ذلك، أو اشترى ثوباً على أن يخيطه البائع قميصاً، أو حنطة على أن يطحنها، أو ثمرة على أن يجذها، أو ربطة قائمة على الأرض على أن يجذها، أو شيئاً له حمل ومؤونة على أن يحمله البائع إلى منزله، ونحو ذلك. فالبيع في هذا كله فاسد، لأنه زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون رباً، لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الربا، والبيع الذي فيه الربا فاسد؛ أو فيه شبهة الربا، وأنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا وكذا لو باع جارية على أن يدبرها المشتري أو على أن يستولدها، فالبيع فاسد، لأنه شرط فيه منفعة للمبيع وأنه مفسد وكذا لو باعها بشرط أن يعتقها المشتري، فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه جائز، وبه أخذ الشافعي رحمه الله.. وكذا لو باع عبداً أو جارية بشرط ألا يبيعه وألا يهبه وألا يخرجه من ملكه، فالبيع فاسد، لأن هذا شرط ينتفع به العبد والجارية بالصيانة عن تداول الأيدي فيكون مفسداً للبيع... ولو اشترى شيئاً بشرط أن يوفيه في منزله، فهذا لا يخلو إما أن يكون المشتري والبائع بمنزلهما في المصر وإما أن يكون أحدهما في المصر والآخر خارج المصر، فإن كان كلاهما في المصر، فالبيع بهذا الشرط جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحساناً، إلا إذا كان في تصحيح الشرط تحقيق الربا، كما إذا تبايعا حنطة بحنطة وشرط أحدهما على صاحبه الإيفاء في منزله.(/79)
وعند محمد البيع بهذا الشرط فاسد وهو القياس، لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للمشتري فأشبه ما إذا اشترى بشرط الحمل إلى منزله أو بشرط الإيفاء في منزله وأحدهما في المصر والآخر خارج المصر. ولهما أن الناس تعاملوا البيع بهذا الشرط إذا كان المشتري في المصر، فتركنا القياس لتعامل الناس ولا تعامل فيما إذا لم يكونا في المصر، ولا في شرط الحمل إلى المنزل فعملنا بالقياس فيه... وأما بيع الثمر على الشجر بعد ظهوره وبيع الزرع في الأرض.. إن اشترى بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع، لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا، لأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطاً الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه.
ونستعرض استخلاصاً من النصوص المتقدمة، مسائل ثلاثاً:
(1) الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد.
(2) الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور.
(3) العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسداً العقد.
الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد
يمكن القول بوجه عام أن الشرط الفاسد الذي يفسد العقد هو الذي فيه منفعة لها صاحب يطالب بها. وهذه المنفعة إما أن تكون للمبيع إذا كان رقيقاً، أو للبائع، أو للمشتري، أو لأجنبي غير المتعاقدين.(/80)
فمثل المنفعة التي تكون للمبيع إذا كان رقيقاً: أن يشتري عبداً على ألا يبيعه أو يهبه أو يخرجه من ملكه بحال، أو على أن يبيعه من فلان دون غيره، أو على ألا يخرجه من بلد معين أو على أن يدبره أو يكاتبه، أو على أن يعتقه على خلاف بين المذاهب، أو يشتري أمة على أن يستولدها. ففي هذه الأمثله نرى الرقيق المبيع قد صارت له منفعة بعقد البيع يستوفيها من المشتري. فمن مصلحة الرقيق ألا يباع أو يخرج من ملك المشتري حتى لا تتداوله الأيدي أو في القليل ألا يباع إلا إلى شخص بالذات فيتحدد بذلك مجال التعامل فيه، أو أن يبقى في بلد معين له في الاستقرار فيه مصلحة ومن مصلحته أن يدبر أو يكاتب، أو يستولد إذا كان أمة، فهذا هو طريقه إلى العتق. ومن مصلحته بالأولى أن يشترط البائع عتقه.
والمنفعة التي تكون للبائع إما أن تكون منفعة تتعلق بالمبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يبيع عبداً ويشترط على المشتري أن يبقي في خدمته وقتاً من الزمن. أو يبيع داراً ويشترط أن يسكنها شهراً، أو يبيع أرضاً ويشترط أن يزرعها سنة، أو يبيع دابة ويشترط أن يركبها إلى مكان معين، أو يبيع ثوباً ويشترط أن يلبسه أسبوعاً. ونرى في هذه الأمثلة أن البيع يتضمن إجارة أو إعارة، فيتضمن إجارة إن كان للشرط مقابل من الثمن فإن لم يكن له مقابل فالبيع يتضمن إعارة. ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط البائع على المشتري أن يقرضه قرضاً، أو أن يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يشتري منه شيئاً آخر، أو أن يبيع له كما اشترى منه، أو أن يزوج منه ابنته، ونرى في هذه الأمثلة أن عقد البيع قد تضمن عقداً آخر: قرضاً أو هبة أو صدقة أو بيعاً أو زواجاً.(/81)
- والمنفعة التي تكون للمشتري تكون هي أيضاً إما منفعة تتعلق بالبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع. فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يشتري حنطة ويشترط على البائع أن يطحنها أو ثوباً ويشترط على البائع أن يخيطه، أو محصولاً ويشترط على البائع أن يحصده، أو يشترط أن يتركه في الأرض حتى ينضج، أو ربطة قائمة على الأرض ويشترط على البائع أن يجذها، أو يشتري ما له حمل ومؤونه ويشترط على البائع أن يحمل المبيع إلى منزله. وفي هذه الأمثلة نرى البيع قد اقترن بعقد آخر، هو في أغلبها إجارة عمل البائع. وهو إعارة الأرض أو إجارتها في شرط ترك المحصول في الأرض حتى ينضج. ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط المشتري على البائع أن يقرضه قرضاً، أو يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يبيع له شيئاً آخر، أو أن يشتري منه كما باع له، أو أن يتزوج ابنته. وهذه هي نفس الأمثلة التي أوردناها في منفعة البائع المستقلة عن المبيع، وإنما جعلناها هنا لمصلحة المشتري لا لمصلحة البائع.
وقد تكون المنفعة لأجنبي غير المتعاقدين، كما إذا باع ساحة على أن يبني المشتري فيها مسجداً، أو باع طعاماً على أن يتصدق به المشتري، أو باع داراً واشترط على المشتري أن يهبها لفلان أو يبيعها منه بكذا من الثمن ويلاحظ أن هذه الصورة في الفقه الإسلامي تعدل في الفقه الغربي صورة الاشتراط لمصلحة الغير، ولما كان الشرط فاسداً في هذه الحالة فقد أقفل باب الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الحنفي.
2 – الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور
وقد رأينا النصوص الفقهية المتقدمة تعلل فساد الشرط والعقد في هذه الصور بعلتين مختلفتين:
العلة الأولى: أن الشرط، يتضمن منفعة تجوز المطالبة بها، يكون زيادة منفعة مشروطة في عقد البيع، وهي زيادة لا يقابلها عوض، فهي رباً أو فيها شبهة الربا، والمبيع الذي فيه الربا أو شبهة الربا فاسد.(/82)
العلة الثانية: أن الشرط لا يقتضيه العقد حتى يصح قياساً، ولا هو ملائم للعقد أو يجري به التعامل حتى يصح استحساناً، وقد تضمن منفعة تجوز المطالبة بها، فصار في ذاته عقداً آخر – إجارة أو إعارة أو بيعاً أو قرضاً أو هبة أو غير ذلك – تضمنه عقد البيع. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن بيعتين في بيعة واحدة، وعن صفقتين في صفقة واحدة.. ومهما يكن من شأن صحة بعض هذه الأحاديث، فقد أخذ بها المذهب الحنفي. وقد رأينا صاحب المبسوط يقول في هذا المعنى إن الشرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه، لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطه في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع، وهو مفسد للعقد.. لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة، ورأينا صاحب البدائع يقول: ((إن اشترى بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع. لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا، ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطاً الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه)). ورأينا صاحب فتح القدير يقول: ((وكذلك لو باع عبداً على أن يستخدمه البائع شهراً أو داراً على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري دراهم، فهو فاسد، لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين وقد ورد في عين بعضها نهي خاص وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف أي قرض، ثم خص شرطي الاستخدام والسكنى بوجه معنوي، فقال: ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن بأن يعتبر المسمى ثمناً بإزاء المبيع وبإزاء أجرة الخدمة والسكنى يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه(/83)
وسلم عن صفقتين في صفقة)).
3 – العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسداً للعقد
والظاهر من نصوص فتح القدير التي قدمناها أن الشرط الفاسد لا يفسد العقد إلا إذا كان مبادلة مال بمال، كالبيع والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال[43] وقد ورد في المادة 333 من مرشد الحيران: ((كل ما كان مبادلة مال بمال، كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والمزارعة والمساقاة والقسمة والصلح عن مال، لا يصح اقترانه بالشرط الفاسد ولا تعليقه به، بل تفسد إذا اقترنت أو علقت به.. ومثل ذلك إجازة هذه العقود فإنها تفسد باقترانها بالشرط الفاسد وبتعليقها به)).
أما ما كان مبادلة مال بغير مال كالنكاح والخلع على مال، أو كان من التبرعات كالهبة والقرض، أو من التقييدات كعزل الوكيل والحجر على الصبي من التجارة، أو من الاسقاطات المحضة كالطلاق والعتاق وتسليم الشفعة بعد وجوبها، أو من الإطلاقات كالإذن للصبي بالتجارة وكذلك الإقالة والرهن والكفالة والحوالة والوكالة والإيصاء والوصية، ففي هذه التصرفات كلها إذا اقترن العقد بالشرط الفاسد، صح العقد ولغى الشرط (أنظر المواد 324- 326 من مرشد الحيران)..
ويتضح مما تقدم أن الشرط الفاسد إذا اقترن بعقد هو مبادلة مال بمال تغلغل في صلبه فأفسده معه. والسبب في ذلك أن الشرط لما كان فاسداً فقد سقط، ولما كان العاقد قد رضى بمبادلة مال بمال المتعاقد الآخر على هذا الشرط. وقد فات عليه، فيكون غير راض بالمبادلة، فيفسد العقد. وفي هذا يقول صاحب المبسوط: ((لأن الشرط باطل في نفسه. والمنتفع به غير راض بدونه)). وهذا السبب لا يقوم في التصرفات الأخرى ومن ثم يسقط الشرط لأنه فاسد، ولكن يبقى العقد على صحته.
شرط فاسد يسقط ويبقى العقد
النصوص(/84)
جاء في البدائع (جزء 5 ص170): ((إذا باع ثوباً على ألا يبيعه المشتري أو لا يهبه أو دابة على ألا يبيعها أو يهبها، أو طعاماً على ألا يأكله ولا يبيعه، ذكر في المزارعة ما يدل على جواز البيع، فإنه قال: لو شرط أحد المزارعين في الزراعة على ألا يبيع الآخر نصيبه ولا يهبه فالمزارعة جائزة والشرط باطل، وهكذا روى الحسن في المجرد عن أبي حنيفة رحمه الله. وفي الإملاء عن أبي يوسف أن البيع بهذا الشرط فاسد. ووجهه أنه شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا جرى به التعارف بين الناس، فيكون مفسداً كما في سائر الشرائط المفسدة. والصحيح ما ذكر في المزارعة لأن هذا شرط لا منفعة فيه لأحد فلا يوجبه الفساد، وهذا لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا وذلك بزيادة منفعة مشروطه في العقد لا يقابلها عوض. ولم يوجد في هذا الشرط لأنه لا منفعة فيه لأحد، إلا أنه شرط فاسد في نفسه لكنه لا يؤثر في العقد، فالعقد جائز والشرط باطل. ولو باع ثوباً على أنه يحرقه المشتري، أو داراً على أن يخربها، فالبيع جائز والشرط باطل لأن شرط المضرة لا يؤثر في البيع على ما ذكرنا.
وجاء في فتح القدير (جزء 5 ص215- ص216): ((أما لو كان المبيع ثوباً أو حيواناً غير آدمي، فقد خرج الجواز مما ذكرنا في المزارعة من أن أحد المزارعين إذا شرط في المزارعة ألا يبيع الآخر نصيبه أو يهبه أن المزارعة جائزة والشرط باطل: لأنه ليس لأحد العاملين فيه منفعة.. وكذا ذكر الحسن في المجرد، قال المصنف وهو الظاهر من المذهب، لأنه إذا لم يكن من أهل الاستحقاق انعدمت المطالبة والمنازعة، فلا يؤدي إلى الربا، وما أبطل الشرط الذي فيه المنفعة للبيع إلا لأنه يؤدي إليه، لأنه زيادة عارية عن العوض في عقد البيع وهو معنى الربا.
شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط(/85)
يتبين مما قدمناه من النصوص أن هناك شرطاً لا يقتضيه العقد ولا هو يلائم مقتضى العقد ولم يجربه التعامل، وهو مع ذلك لا منفعة فيه لأحد. ومن الأمثلة على هذا الشرط التي وردت في النصوص: يبيع ثوباً أو دابة أو حيواناً غير الرقيق ويشترط على المشتري ألا يبيع أو لا يهب ما اشتراه – يشترط أحد المزارعين على المزارع الآخر ألا يبيع أو لا يهب نصيبه من المزارعة – يبيع طعاماً ويشترط على المشتري ألا يأكله ولا يبيعه – يبيع ثوباً ويشترط على المشتري أن يحرقه – يبيع داراً ويشترط المشتري أن يخربها.
ففي هذه الأمثلة يذهب الفقه الحنفي إلى أن الشرط المقترن بعقد البيع لا منفعة فيه لأحد ولما كان هذا الشرط لا يقتضيه العقد، ولا هو يلائم مقتضى العقد، ولم يجر به التعامل، فليس ثمة ما يبرر تصحيحه، ومن ثم كان فاسداً فيسقط... ولكن العقد يبقى صحيحاً.
على أن هذا الشرط الفاسد الذي لا منفعة فيه لأحد، لما لم يكن له مطالب لانعدام منفعته والمطالبة إنما تتوجه بالمنفعة، فهو شرط لم يتمكن في صلب العقد حتى يسري فساده إلى العقد، ومن ثم يبقى العقد صحيحاً بالرغم من سقوط الشرط، فالشرط من حيث أنه فاسد يسقط ومن حيث أنه لا منفعة فيه لأحد يستبقى العقد صحيحاً. وهذا هو الظاهر في المذهب الحنفي.
ويذكر المذهب لهذا الحكم علتين:
العلة الأولى: أن الشرط الذي يفسد العقد إنما أفسده لأن فيه زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض إذ هو شرط فيه منفعة على النحو الذي بيناه، فكان في ذلك رباً أو شبهة الربا. والربا وشبهته يفسدان العقود. أما الشرط الذي نحن بصدده فليس فيه منفعة لأحد ولا مطالب له، فلم يوجد فيه معنى الزيادة التي يقابلها عوض، فانعدمت فيه شبهة الربا، فلم يعد هناك مبرر لفساد العقد، فيبقى العقد صحيحاً، مع سقوط الشرط لفساده.(/86)
العلة الثانية: أن الشرط الذي يفسد العقد إنما أفسده، من جهة أخرى، لأن فيه منفعة لها مطالب، فكان صفقة في صفقة أو عقداً تضمنه عقد آخر، وهذا لا يجوز. أما الشرط الذي لا منفعة فيه لأحد وليس له مطالب، فهو ليس بصفقة أو عقد، فلم يتضمن البيع باقترانه به صفقة أو صفقة أو عقداً في عقد، فارتفع سبب الفساد عن البيع، فبقى على صحته، مع سقوط الشرط لفساده...
ثانياً – تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي
أ – سبب فساد العقد في المذهب الحنفي.
ب – السبب الحقيقي في فساد العقد إذا اقترن بالشرط.
جـ - علتان تنتهيان إلى علة واحدة – تعدد الصفقة.
رأينا أن الفقه الحنفي يعلل كيف يفسد الشرط الفاسد العقد بعلتين: علة الربا وعلة تعدد الصفقة. وتكاد العلتان تتعادلان في كتب الفقهاء، بل لعل علة الربا هي التي ترجح كفتها.
ولكن المتأمل فيما يورد الفقهاء عادة من أمثلة للشروط الفاسدة يرى أن فكرة الربا إنما اتخذت تكثة لتعزيز فكرة تعدد الصفقة، وإن فكرة تعدد الصفقة هي التي يجب أن تقف عندها. ولكن لما كانت هذه الفكرة إنما تمت إلى محض الصناعة الفقهية. فإن تعليل فساد العقد بها يكاد يكون خفياً. وهو على كل حال لا يبلغ من الوضوح ما يبلغه التعليل بفكرة الربا، فإن الربا في الفقه الإسلامي لا يكاد يلقي ظله على شيء إلا ويفسده. ومن ثم كان الأيسر على الفقهاء أن يلجأوا في تعليل فساد العقد إلى فكرة الربا.(/87)
- والواقع من الأمر أن فكرة تعدد الصفقة هي الفكرة التي تسيطر على فساد العقد المقترن بالشرط، بل إن فكرة الربا نفسها – لو سلمنا بها جدلاً – تُرَدُّ في النهاية إلى فكرة تعدد الصفقة ذلك أن كل مثل تورده الفقهاء للشرط الفاسد الذي يفسد العقد يتضمن حتماً صفقتين في صفقة واحدة ولا يتحتم أن يتضمن فكرة الربا. فالشرط الفاسد هو في ذاته صفقة تضمنها عقد البيع، وقد يكون إجارة أو إعارة أو بيعاً آخر أو هبة أو صدقة أو زواجاً أو غير ذلك. فإذا ما اقترن البيع بهذا الشرط أصبح صفقتين في صفقة واحدة.
- والشرط الفاسد قد لا يكون له مقابل من الثمن أو يكون له هذا المقابل فإن لم يكن له مقابل من الثمن، فهنا تأتي فكرة الربا. إذ يقول الفقهاء: أن الشرط يكون زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض، فيفسد العقد للربا. ولكن إذا صح أن تقوم فكرة الربا هنا، فإنه مع ذلك يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة، ويمكن القول بأن العقد الذي تضمن هذه الزيادة المشروطة في المنفعة دون عوض إنما تضمن صفقة أخرى فأصبح صفقتين في صفقة.
- أما إذا كان الشرط له مقابل من الثمن، فإن فكرة الربا لا تقوم. إذ تصبح زيادة المنفعة المشروطة في العقد يقابلها عوض، فلا يمكن تعليل فساد العقد عندئذ إلا بفكرة تعدد الصفقة.
ومن هنا نتبين أن فكرة الربا لا تصلح لتعليل جميع الأحوال التي يفسد الشرط الفاسد فيها العقد، فقد رأيناها لا تصلح إلا لتعليل بعض هذه الأحوال، وحتى في هذا البعض يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة. أما فكرة تعدد الصفقة فتصلح تعليلاً لفساد العقد المقترن بالشرط الفاسد في جميع الأحوال دون استثناء.(/88)
- على أن هناك ما هو أبعد مدى من ذلك. فإن التعليل بالربا، حتى في بعض الأحوال دون بعض، قد لا يستقيم، فالربا لا يكون إلا في الأموال الربوية، وهي المكيلات والموزونات عند الحنفية فإذا كان البيع الذي اقترن بشرط فاسد لم يقع على مال ربوي، لم تقم علة الربا بشطريها وهما القدر والجنس. فلا يصح تعليل فساد العقد في هذه الحالة بفكرة الربا.
ففكرة تعدد الصفقة تَجُبُّ إذن فكرة الربا، وهي وحدها، في رأينا، التي ضيقت المذهب الحنفي، وجعلت العقد يفسد إذا اقترن بالشرط. ففي هذا المذهب لا يجوز أن يتضمن العقد الواحد أكثر من صفقة واحدة. فإذا أضيف إلى هذه الصفقة صفقة أخرى، ولو في صورة شرط فإن العقد يضيق بالصفقتين ويفسد، فتسقط الصفقتان معاً.
السبب في تحريم تعدد الصفقه – وحدة العقد
ويبقى بعد ذلك أن نسأل: ولماذا لا يجوز تعدد الصفقة في العقد الواحد ؟ هنا نجد نصوص المذهب الحنفي تتذرع بأحاديث كثيرة عن النبي عليه السلام، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع وشرط، وعن بيع وسلف.
على أنه فضلاً عن أن بعض هذه الأحاديث موقوفة، كالنهي عن صفقتين في صفقة وقد أمكن على كل حال تأويله على وجه آخر وكالنهي عن بيع وشرط، فإن هناك أحاديث أخرى صحت عن النبي عليه السلام تجيز اقتران الشرط بالعقد.
ونطالع هنا صفحة من المبسوط، ترددت في كتب كثيرة. نرى فيها كيف تعددت الأحاديث في هذه المسألة. وبعضها يجيز الشرط فيجيز معه العقد، وبعضها يسقط الشرط ويجيز العقد. وبعضها يسقط الشرط والعقد معاً.(/89)
قال السرخسي في المبسوط (جزء 13 ص13): ((حكى عن عبدالوارث بن سعيد قال: حججت فدخلت بمكة على أبي حنيفة وسألت عن البيع بالشرط، فقال باطل. فخرجت من عنده ودخلت على ابن أبي ليلى وسألته عن ذلك، فقال البيع جائز والشرط باطل. فدخلت على ابن شبرمة وسألته عن ذلك فقال البيع جائز والشرط جائز. فقلت هؤلاء من فقهاء الكوفة، وقد اختلفوا علي في هذه المسألة كل الاختلاف، فعجزني أن اسأل كل واحد منهم عن حجته. فدخلت على أبي حنيفة فأعدت السؤال عليه، فأعاد جوابه، فقلت إن صاحبيك يخالفانك، فقال لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْط.. فدخلت على ابن أبي ليلى فقلت له مثل ذلك، فقال: لا أدري ما قالا. حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها لما أرادت أن تشتري بريرة رضي الله عنها أبى مواليها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله عليه وسلامه: ((اشْتَرِي وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاء فإنَّ الوَلاء لمَنْ أَعْتَقَ))ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ في كِتَابِ اللهِ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَالوَلاء لمَنْ أَعْتَقَ))فدخلت على ابن شبرمة وقلت له مثل ذلك، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني محارب بن دثار عن أبي الزبير عن جابر ابن عبدالله الأنصاري رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه ناقة في بعض الغزوات وشرط له ظهرها إلى المدينة. اهـ.(/90)
فالأحاديث كما نرى مختلفة متضاربة. ولابد من التوفيق بينها. وكان من الممكن أن يكون هذا التوفيق لمصلحة اقتران الشرط بالعقد. لاسيما أن أدلة المانعين الكثيرة منها متكلف فما الذي جعل المذهب الحنفي يؤثر النهي عن الشرط، ويجعله هو المسيطر في هذه الحالة، ويدع الأحاديث الأخرى ؟.
والواقع من الأمر أن فكرة النهي عن تعدد الصفقة – فضلاً عن أنها وردت في أحاديث عن النبي عليه السلام – هي الفكرة الطبيعية التي تتفق مع تطور القانون. فهي الفكرة الأولى التي يقف عندها نظام قانوني ناشئ، في توخيه الدقة في التعاقد بتحري البساطة في العقد. وتكون وحدة العقد مبدأ جوهرياً من مبادئه، ومن ثم لا يجوز أن يتضمن العقد أكثر من صفقة واحدة وإلا أخل ذلك بوحدته. بل لعل الفقه الإسلامي استغنى بهذه الفكرة وأمثالها – كفكرة اللفظية وفكرة مجلس العقد – عن الشكلية في العقود. تلك الشكلية التي بدأت في القانون الروماني رسوماً وأوضاعاً ساذجة، وجاءت في الفقه الإسلامي ضرباً من الشكلية أكثر تهذيباً.
ولعل فكرة وحدة الصفقة في العقد الواحد لم يخلص منها أي نظام قانوني مهذب في مراحله الأولى من التطور، فإنها الفكرة التي تلائم العقل القانوني عندما يبدأ في تشييد صرح من النظم القانونية، فهو يتحرى لها الثبات والاستقرار عن طريق وحدة العقد، إذ أن حاجة القانون إلى الثبات والاستقرار تسبق في تاريخ تطوره حاجته إلى المرونة والتجدد. – إلى أن قال -:
تطور الفقه الإسلامي في الشروط المقترنة بالعقد
تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعة
على أن الفقه الإسلامي لم يلبث جامداً عند المرحلة الأولى للفكر القانوني بل خطا خطوات واسعة في طريق التطور. تطور في المذهب الحنفي نفسه وفي المذهب الشافعي، وتطور تطوراً أسرع في المذهبين المالكي والحنبلي.
1- تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنفي(/91)
رأينا مما قدمناه من نصوص الفقه الحنفي أن فقهاء هذا المذهب، بالرغم من أنهم يقررون كمبدأ عام وجوب وحدة الصفقة، يحدثون مع ذلك في هذا المبدأ ثغرات هامة، فيدفعون المذهب إلى طريق من التطور يوطئ أكنافه ويوسع ما ضاق منه، سداً لحاجات التعامل.
1 - فأول ما يقررونه – لا على سبيل الاستثناء من المبدأ بل مطاوعة لطبائع الأشياء – أن الشرط الذي يقتضيه العقد هو شرط صحيح يصح معه العقد. وبديهي أن ما يقررون من ذلك غني عن أن يذكر، فإن ما يقتضيه العقد صحيح معمول به سواء ذكر في صورة شرط أو لم يذكر أصلاً.
ولكنهم لا يقصدون من تقرير هذه القاعدة الحكم في ذاته، بل يقصدون التمهيد بذلك للاستثناءات الحقيقية. من مبدأ وحدة الصفقة، فيبنون على هذه القاعدة الأولى قاعدة أخرى.
2 - ومن ثم يقررون أن الشرط يلائم العقد، وإن لم يكن العقد يقتضيه صورة، هو من مقتضى العقد حقيقة، فيلحق بالشرط الذي يقتضيه العقد، ويكون استحساناً شرطاً صحيحاً يصح معه العقد، وقد سبق بسط هذه المسألة في تفصيلاتها وما ورد فيها من الأمثلة.
3 - ثم ينتقلون بعد ذلك إلى شرط جرى به التعامل، وهذا هو الباب الواسع الذي يدخل منه التطور السريع. فيجيزون شرطاً فيه منفعة مطلوبة، دون أن يقتضيه العقد ودون أن يلائم العقد إذا كان التعامل قد جرى به. فيصح الشرط في هذه الحالة استحساناً ويصح معه العقد.
4 - ثم يقررون أن الشرط الذي ليست فيه منفعة مطلوبة لا تتحقق فيه معنى الصفقة، ولا يجعل العقد ينطوي على صفقتين، ومن ثم يلغو الشرط لعدم إمكان المطالبة به، ولكن يبقى العقد صحيحاً.(/92)
5 - ثم إنهم في الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد ودون أن يلائم العقد – وهذا هو الشرط الفاسد الذي يجعل العقد متعدد الصفقة – ويميزون بين أنواع العقود المختلفة: فيقصرون تحريم الصفقتين في الصفقة الواحدة على عقود المعاوضات المالية دون التبرعات والاسقاطات والإطلاقات والتقييدات على ما قدمنا. ففي المعاوضات المالية يتحقق معنى تعدد الصفقة كاملاً، أما في غير المعاوضات المالية فالأمر يختلف، إذ يمكن إلغاء الشرط الفاسد دون أن يمس ذلك كيان العقد الأصلي. فيلغو الشرط ويصح العقد.
هذه هي حلقات متلاصقة في سلسلة من الاستثناءات أوردها المذهب الحنفي على مبدأ ضيق هو مبدأ وحدة الصفقة، فوسع فيه، وأنقذ كثيراً من ضروب التعامل، وخطا خطوات محسوسة في طريق التطور. وكل هذا باسم الاستحسان، هذا المصدر الخصب الذي كان من أهم أسباب تطور المذهب الحنفي.
2 - تطور الفقه الاسلامي في المذهب الشافعي
مذهب الشافعي يقرب كثيراً من المذهب الحنفي في الأصل الذي تمسك به وهو منع تعدد الصفقة، وفي الاستثناءات التي أوردها على الأصل.
- فالشرط الذي يقتضيه صحيح بداهة، لأنه معمول به من غير حاجة إلى أن يذكر.
والشرط الذي يلائم العقد، ويدعى في الفقه الشافعي بالشرط الذي فيه مصلحة للعقد أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة، صحيح أيضاً ويصح معه العقد، وليس ذلك سبيل الاستثناء كما هو الأمر في المذهب الحنفي. بل هو أصل يقوم بذاته، وقد تقدم بيان ذلك. ومن أمثلة الشرط الذي فيه مصلحة للعقد اشتراط الإشهاد على العقد واشتراط كتابته في صك، واشتراط الرهن أو الكفيل بالثمن.
ولعل الفقه الشافعي لا يميز بين الشرط الذي يلائم العقد والشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل، فهما عنده شيء واحد. إذ هو يتحدث عن الشرط الذي يلائم العقد تحت اسم الشرط الذي فيه مصلحة للعقد أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة، ولا يورد أمثلة خاصة للشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل.(/93)
- ثم إن الفقه الشافعي يذهب إلى أن الشرط الذي لا غرض فيه ولا منفعة منه يلغو ويصح العقد.
ويتمسك الفقه الشافعي بعد ذلك بالأصل المعروف، فيمنع البيع والشرط، ما دام الشرط فيه منفعة مطلوبة ولا يقتضيه العقد ولا يلائم مقتضى العقد. فلا يجوز أن يشتري زرعاً ويشترط على البائع أن يحصده، أو ثوباً ويشترط على البائع أن يخيطه، ولا يجوز أن يبيع داراً بألف على أن يقرضه المشتري قرضاً بمائة. ولا يجوز للعاقد أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد، فلا يجوز للراهن أن يشترط على المرتهن ألا يبيع العين المرهونه أصلاً.
أو ألا يبيعها حتى يمضي شهر من وقت حلول الدين، أو أن يكون المرتهن أسوة الغرماء، أو أن يضمن المرتهن هلاك العين كلها ولا يقتصر على ضمان ما زاد من قيمتها على الدين، ولا يجوز أن يشترط أحد الشركاء أن يكون له نصيب في الربح دون خسارة، أو أن يكون له مبلغ معين من الربح فقد تربح الشركة أكثر من هذا المبلغ أو قد لا تربح شيئاً، ولا يجوز أن يشترط رب المال في القراض أن يكون رأس المال في يده، أو أن يشترك مع العامل في التجارة، أو أن تكون يد العامل يد ضمان. ويمنع الفقه الشافعي البيعتين في بيعة، ويتأول الحديث الوارد في النهي عن ذلك على وجهين لا يجيز أياً منهما، فلا يصح أن يشتري بألف نقداً أو بألفين نسيئة، كما لا يصح أن يبيع العبد بألف على أن يبيع منه المشتري أو أجنبي الدار بألفين.
ويبدو أن الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد أو يلائم مقتضى العقد يبطل في مذهب الشافعي المعاوضات والتبرعات على السواء.
ويتبين مما تقدم أن مذهب الشافعي قد تطور على نحو يكاد يضاهي فيه المذهب الحنفي وإن كان يتسع عنه في جهة ويضيق دونه في جهة أخرى.
3- تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي(/94)
التطور في المذهب المالكي أبعد مدى من التطور في المذهب الحنفي وفي مذهب الشافعي: وقد تطور الفقه الإسلامي في مذهب مالك تطوراً أبعد مدى من تطوره في مذهبي أبي حنيفة والشافعي، فمالك يجيز من الشروط ما يجيزه المذهبان الآخران، ثم هو يجيز منها كثيراً مما لا يجيزانه.
وعنده أن الأصل في الشرط أن يكون صحيحاً ويصح معه العقد، وقد يقع الشرط فاسداً على سبيل الاستثناء.
ونستعرض في مذهبه الشرط الصحيح ثم الشرط الفاسد، وذلك في شيء من التنسيق والترتيب لا نجده عادة في كتب المذهب. فهذه تتعدد فيها التقسيمات ويتداخل بعضها في بعض وقد نوه بذلك ابن رشد في بداية المجتهد.
الشرط الصحيح في مذهب مالك
الشرط الصحيح في مذهب مالك أوسع بكثير من الشرط الصحيح في مذهب أبي حنيفة:
(أ) فكل شرط يقتضيه العقد صحيح، وفي هذا يتفق المذهبان، فيصح الشرط والعقد إذا اشترط البائع أن يدفع المشتري الثمن، أو اشترط المشتري أن يسلم البائع المبيع أو أن يضمن العيب، أو اشتراط الدائن المرتهن أن يكون له الحق في بيع العين المرهونة إذا لم يستوف الدين أو يكون مقدماً على سائر الغرماء، أو اشترطت الزوجة أن ينفق عليها الزوج وأن يكسوها.
(ب) ولا يصح فحسب، في مذهب مالك، كل شرط يقتضيه العقد، بل يصح أيضاً كل شرط لا يناقض مقتضى العقد. وفي هذا يتسع مذهب مالك عن مذهب أبي حنيفة، إذ يحل في حكم الصحة عند مالك الشرط الذي يلائم العقد والشرط الذي جرى به التعامل وهما صحيحان في مذهب أبي حنيفة، ويدخل أيضاً الشرط الذي فيه منفعة معقولة لأحد المتعاقدين ولو لم يكن العقد يقتضيه أو يلائمه مادام الشرط نفسه لا يناقض مقتضى العقد، ومثل هذا الشرط يفتح الباب واسعاً للتعامل، وهو كما رأينا صحيح عند مالك فاسد عند أبي حنيفة.
فيصح في المذهبين أن يشترط البائع على المشتري تقديم رهن أو كفيل أو محال عليه بالثمن، وهذا شرط يلائم مقتضى العقد ولا يقتصر على عدم مناقضته.(/95)
ويصح في مذهب مالك دون مذهب أبي حنيفة:
1 - أن يشترط البائع على المشتري أن يعتق العبد المبيع، أو يقف الأرض المبيعة، أو يبني فيها مسجداً، أو غير ذلك مما يتضمن إيقاع معنى في المبيع هو من معاني البر.
2 - أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه حتى يعطي الثمن المؤجل وفي هذا إيقاع معنى في المبيع لضمان حق البائع.
3 - أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة معقولة، أو الدابة ويشترط ركوبها ثلاثة أيام أو الوصول بها إلى مكان قريب، أو الثوب ويشترط عليه المشتري أن يخيطه، أو الحنطة ويشترط عليه أن يطحنها، وغير ذلك من الشروط التي فيها منفعة معقولة لأحد المتعاقدين.
الشرط الفاسد في مذهب مالك
ولا يكون الشرط فاسداً عند مالك إلا في موضعين:
إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد، كما إذا اشترط البائع على المشتري ألا يتصرف في المبيع، أو اشترط الزوج على الزوجة ألا ينفق عليها أو ألاَّ ترثه أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان الولاء للبائع. وسبب فساد الشرط هنا واضح، فإن العقد لا يسلم مع وجود الشرط مادام الشرط يناقض مقتضاه، أو كما يقول الحطاب وهو شرط ((لا يتم معه المقصود من العقد)).(/96)
إذا كان الشرط يخل بالثمن، وذلك كبيع وسلف أي بيع يتضمن قرضاً، وكبيع الثنيا وصورته أن يبتاع سلعة على أن البائع متى ما رد الثمن فالسلعة له (وهذا هو بيع الوفاء في القانون الحديث وهو بيع معلق على شرط لا مقترن بشرط) وكبيع يشترط البائع فيه أنه إذا باع المشتري السلعة فهو أحق بها بالثمن الذي باع به للمشتري. وسبب فساد الشرط هنا أنه اشترط لمصلحة البائع أو المشتري وقد روعي فيه نقص الثمن بقدر غير معلوم إذا كان لمصلحة البائع كما في بيع الثنيا، أو زيادة الثمن بقدر غير معلوم إذا كان الشرط لمصلحة المشتري كما في بيع وقرض للمشتري من البائع، وفي الحالتين تلحق الجهالة بالثمن أو كما يقول الخرِشي إن الشرط يعود جهله في الثمن إما بزيادة إن كان الشرط من المشتري، أو بنقص إن كان من البائع.
والشرط الفاسد يبطل في جميع الأحوال، ولا يعمل به. أما أثره في العقد:
(1) فتارة يبطله.
(2) وطوراً يبطل الشرط وحده ويبقى العقد.
(3) وثالثة يبطل الشرط والعقد معاً إلا إذا نزل المشترط عن الشرط فيسقط الشرط ويبقى العقد.
(1) أما أن الشرط الفاسد يبطل العقد فيقع ذلك عادة إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد، بحيث إذا أعمل الشرط كان لابد للعقد حتماً من أن يختل. فيبطل كل من الشرط والعقد إذا اشترط الواهب ألا يقبض الموهوب له الهبة، أو اشترط المقرض أن يرد له المقترض أحسن مما اقترض، أو اشترط الراهن أن يستبقي الرهن تحت يده أو أنه يخرج من الرهن بعد مدة معلومة أو أن الرهن لا يباع، أو اشترط رب المال في القراض أن يستبقي المال تحت يده أو أن يضمنه العامل أو أن يجعل مع العامل أميناً، أو يشترط الزوج ألا ينفق على الزوجة أو ألا ترثه، أو تشترط الزوجة أنها بالخيار إلى مدة معلومة أو أن الزوج إذا لم يأت بالمهر في مدة معلومة فلا زواج.(/97)
(2) وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو وحده ويبقى العقد، فيبدوا أن ذلك يقع إذا ناقض الشرط مقتضى العقد ولكن العقد لا يختل إذا أعمل الشرط. فما دام العقد لا يختل بالشرط أو بدونه فإنه يبقى.
أما الشرط فيسقط، لأنه شرط فاسد يناقض مقتضى العقد، فهو أقرب إلى أن يكون مخالفاً للنظام العام في لغة الفقه الغربي، فيبطل الشرط ويبقى العقد إذا اشترطت الزوجة على زوجها ألا يتزوج عليها أو ألا يطلقها أو ألا ينقلها من بلدها أو من دارها، أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان الولاء للبائع، أو اشترط البائع ألا حق للمشتري في حط جزء من الثمن إذا أصابت الثمار آفة، أو اشترط رب الوديعة على حافظها أن يضمن هلاكها.
(3) وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو والعقد معاً إلا إذا نزل عنه المشترط فيسقط ويبقى العقد، فإن ذلك يتحقق في حالة ما إذا كان الشرط يخل بالثمن كما رأينا في البيع والسلف وبيع الثنيا والبيع مع اشتراط البائع أنه أحق بالبيع إذا باعه المشتري. ويتحقق ذلك أيضاً فيما إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد عن طريق إيقاعه معنى في البيع ليس من معاني البر، وذلك كأن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه، وهذا إذا عمم أو استثني قليلاً كقوله: على ألا تبيعه جملة أو لا تبيعه إلا من فلان وأما إذا خصص ناساً قليلاً فيجوز الشرط ويصح البيع.
تقدير مذهب مالك
ولاشك في أن الفقه الإسلامي، فيما يتعلق باقتران العقد بالشرط، قد تطور في مذهب مالك تطوراً ملحوظاً نحو الإباحة. فالمذهب المالكي – خلافاً للمذهبين الحنفي والشافعي – يجيز الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة فيتخطى بهذه الإباحة العقبة التي ترجع في المذهبين الآخرين إلى مبدأ وحدة الصفقة.
ثم إن الشرط الفاسد عند مالك لا يجاوز في أكثر صوره منطقة معقولة، وهذا واضح في الشرط الفاسد الذي يبطل العقد والشرط الفاسد الذي يبطل وحده ويبقى العقد.(/98)
أما الشرط الفاسد الذي يبطل ويبطل العقد معه إلا إذا نزل عنه المشترط فهو في إحدى صورتيه، وهي صورة المنع من التصرف في البيع، لا يجاوز أيضاً حدوداً معتدله، إذ الشرط يصح إذا قيد بقيود معقولة كما إذا نهى البائع المشتري عن التصرف لناس قليلين وترك باب التصرف مفتوحاً لأكثر الناس، ويصح كذلك إذا كان له مسوغ مشروع كما إذا اشترط البائع ألا يتصرف المشتري في المبيع حتى يعطي الثمن المؤجل وكما إذا كان المنع من التصرف يتضمن إيقاع معنى في البيع هو من معاني البر.
وتبقى الصورة الأخرى لهذا الشرط الفاسد، وهي التي يخل بها الشرط بالثمن كما في بيع وسلف، ففي هذه نرى مذهب مالك قد وقف جامداً، ولم يتابع التطور إلى غايته. وكأنه اصطدم هنا بمبدأ وحدة الصفقة فلم يستطع أن يتخطاه في البيع والسلف، فإن العقد الذي يتضمن بيعاً وسلفاً، لا يتميز في الواقع من الأمر إلا بأنه عقد واحد تضمن صفقتين.
تطور الفقه الاسلامي في المذهب الحنبلي
المذهب الحنبلي أبعد المذاهب تطوراً في تصحيح الشروط
وأبعد تطور للفقه الإسلامي في المسألة اقتران الشرط بالعقد كان في مذهب أحمد بن حنبل، لاسيما إذا استكملنا هذا المذهب بما أضافه إليه ابن تيمية وهو من أكبر فقهائه.
فالمذهب الحنبلي، كالمذهب المالكي، تخطى مبدأ وحدة الصفقة، ولم يتقيد بهذا المبدأ كما تقيد به المذهبان الحنفي والشافعي، ومن ثم استطاع أن يسير أشواطاً بعيدة في طريق التطور.
والحنابلة، كالمالكية، الأصل عندهم في الشرط أن يكون صحيحاً ويصح معه العقد، بل هم يسيرون في هذا الأصل إلى مدى أبعد من المالكية في تصحيح الشروط، ويقع الشرط عند الحنابلة فاسداً، على سبيل الاستثناء، إذا كان ينافي مقتضى العقد، أو كان قد ورد بالنهي عنه نص خاص.
فنستعرض في المذهب الحنبلي الشرط الصحيح، ثم الشرط الفاسد، ثم ننظر ما أضاف ابن تيمية إلى المذهب من مزيد توسعة في تصحيح الشروط.
الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة(/99)
الأصل في مذهب الحنابلة، كما قدمنا هو أن يكون الشرط صحيحاً، ونساير صاحب المغني في الترتيب الذي جرى عليه في استعراض الشروط:
( أ ) فكل شرط يقتضيه العقد صحيح، وفي هذا تتفق المذاهب الأربعة. فيصح اشتراط المشتري التسليم على البائع، والتقابض في الحال، ويصح لكل من المتعاقدين أن يشترط خيار المجلس فكل هذه الشروط يقتضيها العقد، وهي معمول بها حتى لو لم تشترط.
(ب) ويصح أيضاً كل شرط يلائم العقد ويكون من مصلحته فتتعلق به مصلحة المتعاقدين كالرهن والضمين والشهادة. وفي هذا أيضاً تتفق المذاهب الأربعة.
(جـ) ويصح أخيراً الشرط الذي ليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته، ولكنه لا ينافي مقتضى العقد. وهنا نلحظ المدى البعيد من التطور الذي سار فيه المذهب الحنبلي كما لحظنا ذلك في مذهب مالك، وهذا خلافاً لمذهبي أبي حنيفة والشافعي، فما دام الشرط لا ينافي مقتضى العقد فهو في الأصل صحيح سواء كان العقد يقتضيه أو لا يقتضيه، وسواء لاءم مقتضى العقد أو لم يلائمه. والشرط صحيح حتى لو تضمن منفعة مطلوبة، وفي هذا يتخطى المذهب الحنبلي مبدأ وحدة الصفقة كما تخطاه المذهب المالكي، بل هو ينكر صحة الحديث الذي نهى عن بيع وشرط، ثم إنه لا حاجة في صحة الشرط إلى جريان التعامل به، خلافاً لما يذهب إليه الفقه الحنفي.(/100)
ومن ثم نرى المذهب الحنبلي، خلافاً لمذهبي أبي حنيفة والشافعي يصحح أكثر الشروط التي فيها منفعة لأحد المتعاقدين كما يصححها المذهب المالكي. ونورد ما جاء في هذا الصدد في الشرح الكبير على المقنع (جزء 4 ص49- ص51): ((والثالث أن يشترط نفعاً معلوماً في المبيع كسكنى الدار شهراً وحملان البعير إلى موضع معلوم، أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع كحمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة، مثل أن يبيع داراً ويستثني سكناها سنة، أو دابة ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم، أو عبداً ويستثني خدمته مدة معلومة، نص عليه أحمد، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر. وقال الشافعي وأصحاب الرأي لا يصح، لأنه رُوِيَ أنَّ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْط.. ولنا ما رَوَى جَابِرً أنّهُ بَاعَ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَلاً وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إلىَ المدِينَة.. ولم يصح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وإنما نهى عن شرطين في بيع فمفهومه إباحة الشرط الواحد.. ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع، مثل أن يشتري ثوباً ويشترط على بائعه خياطته قميصاً، أو بغلة ويشترط حذوها نعلاً، أو حزمة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم)).(/101)
ويتوسع المذهب الحنبلي في إباحة الشروط في عقد الزواج بوجه خاص، ويفوق في ذلك سائر المذاهب وفيها مذهب مالك نفسه. فيجوز في الزواج من الشروط ما يكون فيه للزوجين منفعة مقصودة ما دامت لا تعارض الشرع ولا تنافي المقصود من عقد الزواج، ويقول ابن تيمية (الفتاوى 3 ص327 وص332 – نظرية العقد ص155) في ذلك: ((ويجوز أحمد أيضاً في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح، لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ أحَقَّ الشُّرُوطِ أنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اَسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوج))فلا يقتصر مذهب أحمد على أن يكون لكل من الزوجين أن يشترط في الآخر صفة يصح قصدها، فيشترط الزوج في زوجته البكارة أو الجمال مثلاً، وتشترط الزوجة في زوجها المال أو حرفة معينة أو مورداً معيناً من العيش. ويكون للمشترط أن يفسخ الزواج إذا فات عليه ما اشترطه، ولا فرق في هذا أن يكون المشترط هو الرجل أو المرأة، وهذا هو أصح روايتي أحمد، وأصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك (ابن تيمية: الفتاوي 3 ص346 – نظرية العقد ص156- 157). بل يجوز أيضاً في مذهب أحمد أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها، أو لا يتسرى، أو ألا يتزوج عليها. فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج (نظرية العقد لابن تيمية ص16 وص34 وص161- ص162 والفتاوى 3 ص327). وقد رأينا أن هذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك.
الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة
ولا يكون الشرط فاسداً عند الحنابلة إلا في موضعين:(/102)
كان الشرط ينافي مقتضى العقد. مثل ذلك أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه، أو يشترط عليه إن أعتقه أن يكون الولاء للبائع. فهذه الشروط كلها تنافي مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد حرية المشتري في التصرف في المبيع بعد أن صار ملكه، يبيعه أو لا يبيعه ويهبه أو لا يهبه، وإذا كان رقيقاً فأعتقه فإن الولاء يكون له هو لا للبائع لأنه هو المعتق والولاء لمن أعتق. بقي أن يشترط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه، فهل يصح الشرط ؟ في المذهب روايتان، أحدهما الشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى العقد شأنه في ذلك شأن ما قدمناه من الشروط، والرواية الأخرى الشرط صحيح لحديث بريرة المعروف.
ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد عند الحنابلة أن يشترط المشتري إن أغضبه غاضب أن يرجع على البائع بالثمن. ومنها أن يشترط البائع أن يكون أحق بالمبيع بثمنه إن باعه المشتري، لأنه يكون بذلك قد اشترط ألا يبيعه من غيره إذا أعطاه ثمنه، فهو كما اشترط ألا يبيعه إلا من فلان، وهذا يقيد حرية المشتري في التصرف فينافي مقتضى العقد. وقيل أيضاً في مذهب أحمد أن هذا الشرط يتضمن شرطين، فيكون غير جائز على ما سنرى لأن البائع شرط أن يبيعه إياه وأن يبيعه بالثمن الأول، فهما شرطان (الشرح الكبير على المقنع 4 ص55). وقد رأينا أن هذا الشرط غير جائز في المذهب المالكي لأنه يخل الثمن.(/103)
ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد أيضاً ما جاء في الشرح الكبير على المقنع (جزء 4 ص58): ((وإذا قال بع عبدك من فلان بألف على أن علي خمسمائة فباعه بهذا الشرط، فالبيع فاسد لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح، لأنه لا يملك المبيع والثمن على غيره. ولا يشبه هذا ما لو قال: أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة لكون هذا عوضاً في مقابلة فك الزوجة ورقبة العبد ولذلك لم يجز في النكاح. أما في مسألتنا فإنه معاوضة في مقابلة نقل الملك، فلا يثبت لأن العوض على غيره. وإن كان هذا القول على وجه الضمان، صح البيع ولزم الضمان.
ولما كان الشرط الذي ينافي مقتضى العقد فاسداً، فإنه يبطل ولا يعمل به. أما حكم العقد الذي اقترن به الشرط ففيه روايتان: الأولى أن العقد صحيح، وهذا هو المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي، فيسقط الشرط ويبقى العقد، وللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن كان هو المشترط، ((لأن البائع إذا سمح بالبيع بهذا الثمن لما يحصل له من الغرض بالشرط، والمشتري إنما سمح له بزيادة الثمن من أجل شرطه، فإذا لم يحصل غرضه ينبغي أن يرجع بما سمح به كما لو وجده معيباً. ويحتمل أن يثبت الخيار ولا يرجع بشيء، كمن شرط رهناً أو ضميناً فامتنع الراهن والضمين، لأن ما ينقصه الشرط من الثمن مجهول فيصير الثمن مجهولاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشيء مع فساد الشرط وصحة البيع)) (الشرح الكبير على المقنع 4 ص55). والرواية الثانية أن الشرط الفاسد يبطل البيع.. لأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع[44] إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه، والمشتري كذلك إذا كان الشرط منه، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع من شرطه التراضي. (الشرح الكبير 4 المقنع 4 ص54).(/104)
- ونرى مما تقدم أن المذهب الحنبلي والمذهب المالكي لا يختلفان كثيراً في الشرط الذي ينافي مقتضى العقد ففي كلا المذهبين الشرط فاسد. ولكن مذهب مالك يتدرج في ترتيب الجزاء على هذا الشرط الفاسد، فتارة يبطل الشرط والعقد معاً، وطوراً يبطل الشرط ويستبقي العقد صحيحاً، وثالثه يبطل الشرط والعقد معاً إلا إذا نزل المشترط عن شرطه فيسقط الشرط ويبقى العقد، وقد مر ذكر ذلك.
(ب) ويكون الشرط فاسداً أيضاً إذا ورد في النهي عنه نص خاص. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وسلف، وقال عليه السلام: ((لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيعٌ، وَلا شَرْطَانِ فِي بَيْع، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ))فهناك إذن نص خاص في النهي عن الجمع بين شرطين في العقد، وفي النهي عن الجمع بين بيع وسلف.
- أما الجمع بين شرطين في العقد فممنوع في مذهب أحمد كما قدمنا. والشرطان المنهي عنهما هما الشرطان اللذان فيهما منفعة لأحد المتعاقدين دون أن يقتضيهما العقد أو يلائماه، ولو انفرد أي منهما كان صحيحاً. مثل ذلك من اشترى ثوباً واشترط على البائع خياطته وقصارته أو طعاماً واشترط طحنه وحمله، فاجتماع الشرطين في العقد يبطل الكل: الشرطان باطلان والعقد باطل. أما إن شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو مما يلائم العقد، مثل أن يبيعه بشرط الرهن أو الضمين وبشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن، فهذا لا يؤثر في العقد وإن كثر.(/105)
- وأما الجمع بين بيع وسلف فممنوع أيضاً. ومعناه في مذهب أحمد أن يشترط أحد المتعاقدين على المتعاقد الآخر عقداً ثانياً مستقلاً في مقابل العقد الأول، وليس معناه مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد، فقد قدمنا أن مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد يجوز كما إذا اشترط سكنى الدار أو حمل الحطب أو خياطة الثوب. وقد جاء في المغني (جزء 4 ص285): ((والثاني أن يشترط عقداً في عقد، نحو أن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً آخر أو يشتري منه أو يؤجره أو يزوجه أو يسلفه أو يصرف له الثمن أو غيره. فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع أو المشتري، ثم جاء في ص290- 291: ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه، أو شرط المشتري ذلك عليه، فهو محرم والبيع باطل. وهذا مذهب مالك والشافعي ولا أعلم فيه خلافاً إلا أن مالكاً قال: إن ترك مشترط السلفِ السلفَ صح البيع، ولنا ما روى عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ رِبْحِ مَالَمْ يُضْمَنْ وَعَنْ بَيْعِ مَالَمْ يُقْبَضْ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَه وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ)) أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وفي لفظ لا يحل بيع وسلف. ولأنه اشترط عقداً في عقد ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوضاً عن القرض وربحاً له وذلك رباً محرم، ففسد لو صرح به، ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحاً كما لو باع درهماً بدرهمين ثم ترك أحدهما، هذا ويحتمل أن يبطل الشرط وحده، ولكن المشهور في مذهب أحمد أن هذا الشرط الفاسد يبطل العقد.(/106)
ويبدو أن المذهب الحنبلي، في منعه الجمع بين شرطين في العقد والجمع بين بيع وسلف، إنما يحتفظ ببقايا من مبدأ وحدة الصفقة، كما فعل المذهب المالكي في منعه الجمع بين بيع وسلف. وإنما تخطى المذهبان الحنبلي والمالكي مبدأ وحدة الصفقة في البيع والشرط الواحد لأن خطب الشرط الواحد يسير وهو تابع للعقد ومتمم له. فلا يخل بوحدته إخلالاً جسيماً. أما إذا كان لتعدد الصفقة مظهر أوضح. بأن اجتمع في العقد شرطان لا شرط واحد عند أحمد أو بأن اجتمعت صفقتان متقابلتان في عقد واحد عند أحمد ومالك، فهذا تعدد جسيم في الصفقة لا يجوز احتماله، وما احتمل منه اليسير لا يحتمل منه الكثير.
فالمذهبان المالكي والحنبلي وقفا جامدين هنا، ولم يتخطيا مبدأ وحدة الصفقة تخطياً تاماً ولم يجيزا تعدد الصفقة في صورته السافرة. وننظر الآن ماذا فعل ابن تيمية.
استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية
يقول ابن تيمية، أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص أو قياس عند من يقول به، وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحاً للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحاً للشروط منه (فتاوى ابن تيمية 3 ص326 وص329 وما بعدها).(/107)
ويستدل ابن تيمية لصحة ما يقول بالنقل والعقل. أما النقل فلقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، ولقوله عليه السلام: ((والمُسْلِمُونَ عَلى شُرُوطهم. إلاَّ شَرْطاً حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً))وأما العقل فإنه يقول: ((إن العقود والشروط من باب الأفعال العادية – أي ليست من العبادات – والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم. كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} عام في الأعيان والأفعال. وإذا لم تكن حراماً لم تكن فاسدة، لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم. وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحه، (الفتاوى 3 ص334). فالوفاء بالشرط إذن واجب بالنقل والعقل، وبخاصة بعد أن رضيها المتعاقد مختاراً، فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، ونتيجتها هي ما أوجباه على نفسيهما بالتعاقد، لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سبب له. وإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق، فكذلك سائر التبرعات، قياساً بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن.
وكذلك قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك، فإذا تراضى المتعاقدان، أو طابت نفس المتبرع بتبرع، ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك (الفتاوى 3 ص336- 337).(/108)
- ويستخلص ابن تيمية من هذه المقدمات أن الأصل في الشرط أن يكون صحيحاً ويصحح معه العقد، سواء كان ذلك في المعاوضات أو في التبرعات، ففي المعاوضات يجوز للبائع أن يشترط منفعة المبيع كأن يسكن الدار شهراً أو ينتفع بزراعة الأرض سنة، ويجوز للمشتري أن يشترط على البائع أن يخيط له الثوب أو يحمل المبيع إلى داره أو يحصد الزرع، ويجوز أن يشترط البائع إذا باع الرقيق أن يعتقه المشتري، ولكن لا يجوز أن يشترط البائع أن يكون الولاء له عند الإعتاق لأن هذا شرط يحلل حراماً. وفي التبرعات يجوز لمن أعتق عبداً أن يشترط عليه أن يخدمه طول حياته، حياة العبد أو السيد، وقد ورد أن أم سلمة أعتقت عبدها سفينة واشترطت عليه أن يخدم الرسول صلى الله عليه وسلم ما عاش (الفتاوى 3 ص327). ويجوز للواهب أو الواقف أن يشترط لنفسه منفعة ما يهبه أو يقفه مدة معينة أو طول حياته (نظرية العقد لابن تيمية ص16 – الفتاوى 3 ص389- 390) بل يصح أن تكون المنفعة التي استثناها المتبرع وأضافها لنفسه منفعة غير معلومة إذ يجوز في التبرعات من الغرر مالا يجوز في المعاوضات كما تقدم القول. وفي هذا يقول ابن تيمية ((يجوز لكل من أخرج عيناً عن ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع، أو تبرع كالوقف والعتق، أن يستثني بعض منافعها. فإن كان مما لا يصح فيه الغرر كالبيع. فلابد أن يكون المستثني معلوماً لما روى عن جابر. وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف. فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش عبده أو عاش فلان، أو يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف)) (الفتاوى 3 ص342- ص343).
ويبني ابن تيمية على ما تقدم أن الشرط لا يفسد إلا على سبيل الاستثناء، وفي موضعين:(/109)
(الأول) إذا كان الشرط ينافي المقصود من العقد، مثل أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يؤجره. ذلك أن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، ثم شرط العاقد فيه ما ينافي هذا المقصود فقد جمع بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فمثل هذا الشرط باطل، ويقول ابن تيميه في تفسيره للمعنى المراد بالشرط الذي ينافي المقصود في العقد وفي تمييزه بين هذا الشرط والشرط الذي يناقض الشرع، ما يأتي: ((إن العقد له حالان، حال إطلاق وحال تقييد، ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود. فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك. وإنما يصح هذا إذا أتي في مقصود العقد. فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود، فقد جمع بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء. ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل للعقد عندنا. والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده فإن مقصوده الملك. والعتق قد يكون مقصوداً للعتق فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيراً، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوثَقُ)). فإذا كان الشرط منافياً لمقصود العقد كان العقد لغواً، وإذا كان منافياً لمقصود الشارع كان مخالفاً لله ورسوله. فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما. إذا لم يكن لغواً ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه بل الواجب حله. لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه. إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه(/110)
فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.
(الثاني) الشرط الذي يناقض الشرع فيحل الحرام، ويبدو أن ابن تيمية يبدأ بالتمييز بين منطقة الحرام ومنطقة المباح. فلا يستطيع الشرط في منطقة الحرام أن يجعل الحرام حلالاً، بل كل ما كان حراماً بدون الشرط فالشرط لا يبيحه، كالزنا وكثبوت الولاء لغير المعتق. وأما ما كان مباحاً بدون الشرط، كالزيادة في مهر المثل وكالتبرع برهن لتوثيق الثمن، فيصح أن يوجب الشرط فعله بعد أن كان تركه مباحاً، بل كان تركه هو الأصل المعمول به مادام الشرط الموجب لفعله لم يوجد، وليس في ذلك تحريم للحلال أو تحليل للحرام، فيكون الشرط الموجب لفعل المباح شرطاً مشروعاً، ومن ثم يكون صحيحاً. ويقول ابن تيمية في هذا المعنى ما يأتي:(/111)
فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله.. وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط مالم يكن واجباً بدونه، فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجباً ولا حراماً.. وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب مالم يكن واجباً.. وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهناً، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها، فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط مالم يكن كذلك. وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشرط، قالوا: لأنها إما أن تبيح حراماً أو تحرم حلالاً أو توجب ساقطاً أو تسقط واجباً، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع.. وليس كذلك، بل كل ما كان حراماً بدون الشرط فالشرط لا يبيحه، كالزنا وكالوطء في ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو يمين، فلو أراد رجل أن يُعِيرَ أمته للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز. وكذلك الولاء نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد.. فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط ما كان حراماً. وأما ما كان مباحاً بدون الشرط فالشرط يوجبه، كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والراهن.
ونرى من ذلك أن ابن تيمية لا يجعل الشرط فاسداً إلا إذا كان منافياً للمقصود من العقد وهذا طبيعي، وإلا إذا كان مناقضاً للشرع فيحل حراماً وهذا أشبه في الفقه الغربي بالشرط – الذي يخالف القانون أو النظام العام. ولم يعرض ابن تيمية لتحريم إجتماع الشرطين ولا لتحريم إجتماع البيعتين في بيعة أو اجتماع البيع والسلف. ومن ثم يكون تطور الفقه الإسلامي في تصحيح الشروط قد وصل على يد ابن تيمية إلى غاية تقرب مما وصل إليه الفقه الغربي الحديث.
مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد
مقارنة إجمالية
يتبين مما قدمناه أن المذاهب الأربعة من ناحية تصحيح الشروط المقترنة بالعقد، يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين:(/112)
1 - قسم يضيق في تصحيح الشروط ويلتزم مبدأ وحدة الصفقة، فلا يبيح إلا شرطاً اقتضاه العقد أو لاءم العقد أو جرى به التعامل، وهذان هما المذهب الحنفي والمذهب الشافعي.
2 - وقسم يتوسع في تصحيح الشروط ولا يلتزم مبدأ وحدة الصفقة، فيبيح الشروط مالم تكن منافية لمقتضى العقد أو مناقضة للشرع، وهذان هما المذهب المالكي والمذهب الحنبلي.
فتطور الفقه الإسلامي نحو تصحيح الشروط، ونبذ مبدأ وحدة الصفقة الذي كان أساساً من أسس الصناعة القانونية في المراحل الأولى من تطور القانون. أوضح وأبرز في القسم الثاني منه في القسم الأول. على أنه يبدو لنا أن المذهب الحنفي على ضيقه في تصحيح الشروط وتأخره في التطور من هذه الناحية، هو أكثر المذاهب تقدماً من ناحية تنسيق الصناعة القانونية، فنظريته في فساد العقد تفوق في وضوحها وتسلسلها المنطقي نظائرها في المذاهب الأخرى.
مقارنة تفصيلية
على أن هناك فروقاً تفصيلية ما بين المذهب الحنفي ومذهب الشافعي اللذين ينتظمهما القسم الأول، وكذلك ما بين المذهب المالكي والمذهب الحنبلي اللذين ينتظمهما القسم الثاني.(/113)
فالمذهب الحنفي ومذهب الشافعي يبيحان جميعاً الشرط الذي يقتضيه العقد ويبيحان كذلك الشرط الذي يلائم العقد، إلا أن المذهب الحنفي يبيحه استثناء على سبيل الاستحسان ومذهب الشافعي يبيحه أصلاً لا استثناء. ثم يتميز المذهب الحنفي على مذهب الشافعي بافساحه المجال للشرط الذي جرى به التعامل، ويبيحه استحساناً كذلك، فيدخل العرف من هذا الباب عنصراً مرناً يطور الفقه الإسلامي. أما المذهب الشافعي فلا تكاد تلمح فيه باب جريان التعامل مفتوحاً، إنما يتحدث المذهب عن شرط تدعو إليه الحاجة فهو شرط لمصلحة العقد، ويمزج بينه وبين الشرط الذي يلائم العقد. ولكن مذهب الشافعي، من جهة أخرى، يصحح شروطاً لا يصححها المذهب الحنفي، ومن ذلك اشتراط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه، ومن ذلك ما يشترط الزوج في زوجته من بكارة أو جمال أو غير ذلك، وما تشترط الزوجة في زوجها من مال أو حرفة أو مورد للعيش.
أما المذهبان المالكي والحنبلي فيصدران جميعاً عن مبدأ واحد، هو أن الأصل في الشروط الصحة، والفساد هو الاستثناء، فينبذان بذلك إلى حد كبير مبدأ وحدة الصفقة. وقد يزيد المذهب الحنبلي على المذهب المالكي في تصحيح الشروط، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية حين قال: ((وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحاً للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحاً للشروط منه)). فيجوز في مذهب أحمد مثلاً أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها، أو لا يتسرى أو ألا يتزوج عليها، فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج. وهذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك.(/114)
ولكن التميز الحقيقي للمذهب الحنبلي على المذهب المالكي ليس في الشروط الصحيحة، وإنما هو الشروط الفاسدة. على أننا إذا أخذنا المذهب الحنبلي كما كان قبل أن يجدد فيه ابن تيمية، لما كاد يتميز عن المذهب المالكي في ذلك. ففي المذهبين يفسد الشرط إذا كان مناقضاً لمقتضى العقد، أو كان صفقة أخرى تقابل الصفقة الأصلية كبيع وسلف، فيخل الشرط بالثمن كما يقول المذهب المالكي، أو ينهى عن الشرط نص خاص كما يقول المذهب الحنبلي. وفي هذا النوع الثاني من الشرط الفاسد نلمح في المذهبين أثراً لمبدأ وحدة الصفقة، فهما يستبقيان هذا المبدأ في صورة من صوره، بل أن المذهب الحنبلي يزيد على المذهب المالكي بتحريم اجتماع الشرطين في عقد واحد. أما إذا أخذنا المذهب الحنبلي بعد تجديد ابن تيمية، فإننا نراه يتقدم تقدماً كبيراً في التطور، فينبذ مبدأ وحدة الصفقة، ويضيق من منطقة الشروط الفاسدة، فلا يكون الشرط فاسداً إلا إذا كان منافياً لمقتضى العقد، أو إلا إذا كان مناقضاً للشرع[45]. اهـ..(/115)
ويمكننا على ضوء ما تقدم تقسيم الشروط في العقود إلى صحيح وفاسد أن ننظر هل الشرط الجزائي من الشروط الصحيحه في العقود أم من الفاسدة وفي حال القول بفساده هل ينحصر الفساد فيه أم يتعداه إلى العقد نفسه فيبطل ببطلانه، لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أن الشروط في العقود قسمان: صحيح وفاسد أما الصحيح فثلاثة أنواع: أحدها شرط يقتضيه العقد كالتقابض وحلول الثمن، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع لإمكان تحقق العقد بدونه. الثاني: شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الضمين به أو صفة في المثمن ككون العبد خصياً أو مسلماً والأمة بكراً والدابة هملاجه، وحكمه أنه صحيح وأن المشروط عليه إن وفى بالشرط لزم البيع وإن لم يف به فإن تعذر الوفاء تعين الأرش لصاحب الشرط، وإن لم يتعذر الوفاء به ففيه وجهان، الأول: أن صاحب الشرط مخير بين الفسخ والأرش وهو الصحيح من المذهب. والثاني: أنه ليس له إلا الفسخ.
- وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي من مصلحة العقد، لأنه حافز لمن شرط عليه أن ينجز لصاحب الشرط حقه ومساعد له على الوفاء بشرطه، فكان شبيهاً باشتراط الرهن والكفيل في الوفاء لصاحب الشرط بشرطه، وإذن يصح الشرط، ويلزم الوفاء به، فإن لم يف وتعذر استدراك ما فات تعين لمن اشترط شرطاً جزائياً الأرش، وقد اتفق عليه عند العقد بتراضيهما، وإن لم يتعذر الاستدراك فلصاحب الشرط الخيار بين فسخ العقد والأرش مع بقائه. الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته وليس منافياً لمقتضاه كاشتراط البائع سكنى الدار شهراً أو اشتراط المشتري خياطة الثوب وفي حكمه خلاف قيل يصح وقيل لا يصح ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط فهو مرتبط بالعقد حيث أنه تقدير للضرر المتوقع حصوله في حالة عدم الوفاء بالإلتزام.
- وأما الفاسدة فثلاثة أنواع:(/116)
- أحدها: أن يشترط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقداً آخر كبيع أو إجارة أو نحو ذلك فهذا الشرط غير صحيح، وهل يبطل العقد لبطلان الشرط أم يصح العقد ويبطل الشرط، قولان لأهل العلم أشهرها القول: ببطلان العقد لبطلان الشرط لكونه من قبيل بيعتين في بيعة، المنهي عنها، وفي القول بصحة العقد وبطلان الشرط رواية عن الإمام أحمد سنده فيها حديث عائشة حيث أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترط أهلها ولاءها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اشْتَرِيها واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاء فَإنَما الوَلاءُ لِمَن أعْتَقَ))متفق عليه. فصحح الشراء مع إبطال الشرط. ويمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي من هذه الشروط الفاسدة المترتب على فسادها على المشهور لدى بعض أهل العلم فساد العقود المشتملة عليها. وتوجيه ذلك أن الشرط الجزائي يعتبر عقد معاوضه مغايراً للعقد الأصلي فهو من مسائل بيعتين في بيعة المنهي عنها. ويمكن أن يرد هذا بأن الشرط الجزائي ليس مستقلاً عن العقد الأصلي وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر فليس من قبيل بعتك على أن تقرضني أو تزوجني أو تؤجرني لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلاً عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلاً. الثاني: من الشروط الفاسدة: شرط ينافي مقتضى العقد كأن يشترط في المبيع أن لا خسارة عليه أو ألا يبيع ولا يهب ولا يعتق فهذه الشروط باطلة وهل تبطل العقود المشتملة عليها قولان لأهل العلم وهما روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما لا يبطل العقد وهو المذهب اختاره في المغني ونصره في الشرح وجزم به في الوجيز وقدمه في الفروع لحديث بريرة وإذا ألغى الشرط لبطلانه كان لصاحبه الخيار بين الفسخ وما نقص من الثمن، وقيل ليس له إلا الفسخ أو الإمضاء ولا أرش له، ويمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط لأنه منافاة(/117)
بين نفاذه وبين العقد المشتمل عليه. الثالث من الشروط الفاسدة شرط يعلق به العقد كقوله: بعتك إن جئتني بكذا أو إن رضى فلان أو يقول الراهن إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك فلا يصح المبيع، وهذا هو المذهب لأن مقتضى العقد انعقاد البيع وهذا الشرط يمنعه وللإمام أحمد رحمه الله رواية في تصحيح البيع والشرط اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأنه لم يخالف نصاً. ويمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي من هذا النوع من الشروط باعتباره عقد معاوضه مستقلاً. وعلى هذا الاعتبار فهو عقد معاوضه معلق على حصول الإخلال بالتزام في العقد الأصلي فتجري فيه أحكام هذا النوع من الشروط إلا أن القول ببطلان العقد لبطلانه لا يأتي على العقد الأصلي المشتمل عليه لأن تحقق العقد الأصلي ليس مرهوناً بوجود الشرط وإنما يعتبر الشرط الجزائي عقد معاوضه مستقلاً معلقاً نفاذه على الإخلال بالعقد الأصلي ذلك لأن النص في عقد المقاوله مثلاً بعبارة: إن تأخر إكمالك العمل عن شهر كذا فعليك عن كل شهر تتأخر مبلغ كذا. يعتبر عقداً يشبه في الجمله عقد الرهن المتضمن قول الراهن: إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك. ويمكن أن يرد على هذا بأن الشرط الجزائي ليس مستقلاً عن العقد الأصلي وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر فليس من قبيل بعتك على أن تقرضني أو تؤجرني أو تزوجني لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلاً عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلاً.
- ونذكر جملة من العقود التي اقترن بها شرط، وكان ذلك مثار خلاف بين أئمة الفقهاء.
- أ – بيع العربون وهو: أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع مبلغاً من المال على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فهو للبائع.(/118)
وقد بحث علماء المذاهب الإسلامية المعتبرة هذا النوع من البيوع واختلفوا فيه على قولين: فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى القول بتصحيحه. قال أبو محمد ابن قدامة رحمه الله[46]: والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهماً أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فذلك للبائع يقال عربون واربون وعربان وأربان. قال أحمد لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر أنه أجازه وقال ابن سيرين: لا بأس به، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئاً، وقال أحمد هذا في معناه، واختار أبو الخطاب أنه لا يصح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون رواه ابن ماجه ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهماً وهذا هو القياس وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى فيه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا قال الأثرم: قلت لأحمد تذهب إليه قال أيَّ شيء أقول ؟ هذا عمر رضي الله عنه، وضعف الحديث المروي. روى هذه القصة الأثرم بإسناده.(/119)
- فأما إن دفع إليه قبل البيع درهماً وقال لا تبع هذه السلعة لغيري وإن لم اشترها منك فهذا الدرهم لك ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ وحسب الدرهم من الثمن صح لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشترى لعمر كان على هذا الوجه فيحمل عليه جمعاً بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس، والأئمة القائلين بفساد العربون وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه ولا يصح جعله عوضاً عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله لأنه لو كان عوضاً عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالمبيع لا تجوز المعاوضة عنه ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة. أهـ.
وقد لخص الدكتور السنهوري أدلة القولين ورد أدلة القائلين ببطلان بيع العربون فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة رحمه الله ما نصه[47]:
- ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي:
- إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن بيع العربون ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد ولأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهم.
- إن أحمد يجيز بيع العربون ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر وضعّف الحديث المروي في النهي عن بيع العربون وإلى القياس على صورة متفق على صحتها هي: أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئاً. قال أحمد: هذا في معناه.(/120)
- ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون – فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض إذ العوض هو الانتظار بالمبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع مع ذكر مدة معلومة إن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار. أهـ.
ويمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي يشبه بيع العربون في أن كلاً منهما شرط يوجب على من أخل بالشرط عقوبة مالية يجري تعيينها قبل حصول ذلك.
ونوقشت المقارنة والترجيح بما يأتي:
أولاً: في سند الأثر الذي فيه شراء نافع من صفوان دار السجن – عبدالرحمن بن فروخ السعد مولى عمر، وهو مجهول العين لأنه لم يرو عنه إلا عمرو بن دينار ولذا ترك مسلم الرواية عنه في صحيحه، ولم يرو عنه البخاري إلا في التعليقات اللهم إلا أن يقال: إن الشهرة تقوم مقام راوٍ آخر، ذكر معنى ذلك ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الحاكم.
ثانياً: هذا الأثر يحتمل متنه أن يكون عقد الشراء قد أبرم فعلاً بين نافع وصفوان، ويحتمل أن يكون مجرد وعد من نافع لصفوان بالشراء، ثم كان العقد بعد العرض على عمر ورضاه.
ثالثاً: دعوى الاتفاق على ما قاله ابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئاً تحتاج إلى إثبات حتى يتأتى قياس بيع العربون عليه، وإلا فمجرد قول ابن سيرين ليس بأصل يرجع إليه في الاستدلال، والإمام أحمد ليس بمجتهد مذهب حتى يقال أن هذا من باب التخريج على مسألة في المذهب بل هو مجتهد مطلق يرجع في اجتهاده إلى الأصول الشرعية.
رابعاً: ذكر الأستاذ السنهوري أن العربون عوض عن انتظار البائع أو عن تفويت فرصة البيع عليه، فهل الانتظار أو تفويت الفرصة مما يقوم بمال حتى يستحق البائع العربون عوضاً عنه هذا محل نظر، فالمخالف لا يوافقه على ذلك كما مر في النقل عن ابن قدامة رحمه الله.(/121)
خامساً: لم يذكر في تعريف بيع العربون تعيين مدة، فكان شبهة بالخيار المجهول ثابتاً.
ب – مسألة ما إذا أعطى الرجل الخياط ثوبه فقال له: إن خطته اليوم فبعشرة أو خطته غداً فبتسعة فهذه المسألة بحثها الفقهاء رحمهم الله ومنهم أبو الحسن المرداوي الحنبلي فقد قال ما نصه:
قوله: وإن قال إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم فهل يصح على روايتين. وأطلقهما في الهداية والمذهب والمستوعب والخلاصة والمغني والشرح والفائق وشرح ابن منجا والحاوي الصغير إحداهما لا يصح وهو المذهب والرواية الثانية يصح وقدمه في الرعايتين. اهـ[48].
جـ - مسألة ما إذا أكرى لأحد الناس دابة فقال: إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة وإن رددتها غداً فكراؤها عشرة. فقال أحمد في رواية عبدالله: لا بأس به قال في الفائق صح في أصح الروايتين وجزم في الوجيز والمذهب وقدمه في الرعايتين والخلاصة والحاوي الصغير والنظم[49].
فعلى رأي القائلين بصحة العقد في المسألتين – ب، جـ - يكونون قد صححوا اقتطاع جزء من كامل الأجرة جزاء التأخير وهذا يشبه الشرط الجزائي من حيث أن كلاً منهما يوجب على المتسبب في الإخلال بالاتفاق غرامة مالية يجري تقديرها سلفاً في مبدأ العقد. وقد يرد على ذلك بأن العقد في كلتا الصورتين ليس مشتملاً على شرط التنجيز بخياطة الثوب أو رد الدابة وإنما هو عقد تخييري لحالين، أي حال منهما يقع عليها الاختيار يتعين العقد بموجبها، وعليه فليس فيه اقتطاع جزء من كامل الأجرة.(/122)
د – مسألة ما إذا قال من خاط لي هذا الثوب في هذا اليوم فله كذا: فإذا خاطه في اليوم الثاني مثلاً فهل يستحق الجعل أو أجرة المثل أو لا يستحق شيئاً ؟ هذه المسألة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في المغني فقال في معرض تفريقه بين الإجارة والجعالة في حكم الجمع بين تقدير المدة والعمل، وإن علقه بمدة معلولة فقال: من رد لي عبدي من العراق إلى شهر فله دينار. أو من خاط قميصي هذا في اليوم فله درهم صح لأن المدة إذا جازت مجهولة فمع التقدير أولى – إلى أن قال – فإن العمل الذي يستحق به الجعل هو عمل مقيد بمدة إن أتي به فيها استحق الجعل ولا يلزمه شيء آخر، وإن لم يف به فيها فلا شيء له. اهـ[50].
- وذكرها البهوتي رحمه الله في الكشاف فقال:
ويصح الجمع بين تقدير العمل والمدة كأن يقول: من خاط لي هذا الثوب في يوم فله كذا فإن أتي به فيها استحق الجعل ولم يلزمه شيء آخر وإن لم يف به فيها فلا يلزمه شيء له. اهـ[51].
فعلى القول بأنه يستحق أجرة المثل إن لم يكن أكثر من الجعل ففي حال نقص أجرة المثل عن الجعل فإن الفرق بينهما في مقابلة التأخير، وعليه فيمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي يشبهه من حيث استحقاق الشرط الجزائي في مقابلة الإخلال بالالتزام ومنه التأخير.
هـ - المسألة التي حكم فيها القاضي شريح والتي سبق ذكرها في أول البحث ونصها: روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريه: أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح من شرط على نفسه طائعاً غير مكروه فهو عليه. أهـ.
فهذه المسألة صريحة في أنها من أنواع الشروط الجزائية.(/123)
ويمكن أن يقال: بتصحيح الشرط الجزائي بناء على اعتباره عقوبة مالية في مقابلة الاخلال بالالتزام حيث أن الاخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع ولأن في تصحيحه ووجوب الوفاء به سداً لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبباً من أسباب الحفز على الوفاء بالوعود والعهود تحقيقاً لقوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
هذا ومن الجدير بالذكر أن اللجنة بنت ما ذكرته من احتمالات في تطبيق الضوابط وفي الإلحاق بالنظائر على أوسع المذاهب في ذلك، وأقربها إلى قوة الدليل، فإن سلم ذلك وظهر الحكم فالحمد لله، وإلا فالشرط الجزائي أبعد عن الحكم فيه بالجواز إذا طبقت عليه ضوابط الشروط الصحيحة والفاسدة في المذاهب الفقهية الأخرى كمذهب الحنفي والشافعي، اللهم إلا أن ينظر إلى ما نقل عن الحنفية من اعتبار ما جرى به التعامل وتعارفه الناس في معاملاتهم وكان غير مناقض لمقتضى العقد، فبهذا يمكن أن يقال: أن الشرط الجزائي يتسع له هذا الضابط، فيعد من الشروط الصحيحة.
هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق.. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
ملخص قرار الهيئة
الحمد لله
بعد مداولة الرأي والمناقشة واستعراض المسائل التي يمكن أن يقاس عليها الشرط الجزائي ومناقشة توجيه قياسه على تلك المسائل والايراد عليه وتأمل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: ((المُسْلِمُونَ عَلىَ شُرُوطهِمْ إلاَّ شَرْطاً أحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً))ولقول عمر رضي الله عنه ((مقاطع الحقوق عند الشروط)) والاعتماد على القول الصحيح: من أن الأصل في الشروط الصحة وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصاً أو قياساً.
واستعراض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى صحيحة وفاسدة وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع:(/124)
أحداها شرط يقتضيه العقد: كاشتراط التقابض وحلول الثمن.
الثاني شرط من مصلحة العقد: كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الكفيل به أو صفة في المثمن ككون الأمة بكراً.
الثالث شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ولا منافياً لمقتضاه: كاشتراط البائع سكنى الدار شهراً.
وتقسيم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع.
أحداها اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقداً آخر: كبيع أو إجارة أو نحو ذلك.
الثاني اشتراط ما ينافي مقتضى العقد: كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق.(/125)
الثالث الشرط الذي يتعلق به العقد: كقوله: بعتك إن جاء فلان. وبتطبيق الشرط الجزائي عليها وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدود له، والاستئناس بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريه: أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه. وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلاً باع طعاماً وقال: إن لم آتيك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجيء فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه. وفضلاً عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث أن الاخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود تحقيقاً لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لذلك كله فإن المجلس يقرر بالاجماع: أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به مالم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعاً فيكون العذر مسقطاً لوجوبه حتى يزول. وإذا كان الشرط الجزائي كثيراً عرفاً بحيث يراد به التهديد المالي ويكون بعيداً عن مقتضى القواعد الشرعية فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من مضرة. ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر عملاً بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقوله سبحانه: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار))وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
ــــــــــــــــــــ(/126)
[1] المدخل الفقهي العام 713- 714 ف386.
[2] الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام 851 ف477.
[3] الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام 852 ف477.
[4] انظر ص107 نظام المناقصات.
[5] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ5 ص142.
[6] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ5 ص347.
[7] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ5 ص331.
[8] القواعد النورانية ص184- 220.
[9] كذا في المطبوع.
[10] في النسخة رقم 16 " فلم يلزم ".
[11] في النسخة رقم 16 ففي حال العقد.
[12] الزيادة من صحيح مسلم ج1 ص440.
[13] الحديث في سنن أبي داود مطولاً اختصره المؤلف.
[14] في النسخة رقم 14 ( لأنه عقد ما لا يصح ).
[15] سقط لفظ عليه من النسخة رقم 14.
[16] في النسخة رقم 14 ( وأما ).
[17] ذكر في ص376.
[18] الزيادة من النسخة الحلبية.
[19] في النسخة رقم 14 (ابن عمر) وهو غلط.
[20] في النسخة رقم 16 (أمر النبي).
[21] في النسخة رقم 14 هنا.
[22] سقط لفظ (عن أبيه) الثاني من سنن النسائي ج7 ص295.
[23] الزيادة من النسخه رقم 16.
[24] في النسخه رقم 14 ( الشرطين ).
[25] في النسخ كلها ( أن أحبوا أهلك ).
[26] في النسخة رقم 14 أن يكون لهم الولاء.
[27] الزيادة من صحيح البخاري ج3 ص304 والحديث فيه مطول اختصره المصنف.
[28] في النسخه رقم 14 عتقا أصلا.
[29] في صحيح البخاري ج4 ص30 فسار يسير.
[30] في النسخه رقم 16 ثم إني رجعت وما هنا مواق لما في صحيح مسلم ج1 ص470.
[31] في سنن النسائي ج7 ص299 قلت: بل هو لك يا رسول الله.
[32] الزيادة من سنن النسائي.
[33] الزيادة من سنن النسائي.
[34] في النسخة رقم 16 ( إذاً لا سبيل ).
[35] في النسخة رقم 14 ( وترك ).
[36] في النسخة رقم 14 ( يأتي محرماً ).
[37] كذا في الأصل ولعله – لا شرطاً.
[38] في النسخه رقم 16 ( سائر الطريق ).
[39] في النسخه 14 حتى نعلم.
[40] في النسخه 16 سكناه.
[41] المحلى ج8 ص412- 420 المطبعه المنيرية.(/127)
[42] مصادر الحق في الفقه الإسلامي ج3 ص117- 153 وص167- 194.
[43] اكتفي فيما تقدم عما في فتح القدير بما نقل عن المبسوط والبدائع لاشتمالهما عليه.
[44] بما ينقصه الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولاً ولأن البائع... ألخ.
[45] ملحوظة: نقلت اللجنة ما تقدم عن الدكتور السنهوري لما فيه من نصوص فقهية في الموضوع من المذاهب الأربعة مع مقارنة بينها، وفي هذا فوائد كثيرة، غير أنه وقع في حديثه من تطور الفقه الإسلامي بعض أخطاء، منها ظنه أن المالكيين والحنابلة انتهيا إلى عدم اعتبار وحدة الصفقة في صحة العقد، غير أنهما استبقياها في صور قليلة كبيع وسلف أو شرطين في عقد، ومنها ظنه أن ابن تيمية نبذ مبدأ وحدة الصفقة معلقاً في صحة العقد، وأنه بذلك طور مذهب الإمام أحمد ص63- 64- 67- 68- 71- 72.
[46] المغني جـ4 ص232- 233 طبعة المنار.
[47] مصادر الحق في الفقه الإسلامي الجزء الثاني ص101- 102.
[48] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف جـ6 ص18.
[49] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف جـ6 ص20.
[50] المغني جـ6 ص28 مطبعة الإمام.
[51] كشاف القناع عن متن الإقناع جـ4 ص173.(/128)
العنوان: الشرق الأوسط الجديد
رقم المقالة: 396
صاحب المقالة: ريتشارد.ن. هاس [مترجم]
-----------------------------------------
الكاتب: ريتشارد.ن. هاس.
ترجمة: موقع الألوكة.
ملخص: لقد انتهى عصر سيادة الولايات المتحدة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط وبدأت مرحلة جديدة لهذه المنطقة في التاريخ الحديث، وستتكوَّن هذه المرحلة بمؤدين جدد، وقوى جديدة تتنافس على النفوذ في المنطقة والسيطرة عليه، وستضطر واشنطن إلى الاعتماد على الدبلوماسية أكثر من اعتمادها على القوة العسكرية.
نهاية حقبة
على مدى أكثر من قرنين من الزمان منذ وصول نابليون إلى مصر والى الآن كان ذلك بمثابة بداية التأريخ لمجيء الشرق الأوسط الحديث، فبعد أكثر من 80 عامًا من سقوط الإمبراطورية العثمانية، و بعد 50 عامًا من انتهاء الاستعمار، و بعد عشرين عامًا على انتهاء الحرب الباردة تعتبر الحقبة الأمريكية هي الفترة الرابعة في التاريخ الحديث لمنطقة الشرق الأوسط، وهذه الفترة قد انتهت حالياً؛ حيث إن التصورات لمنطقة جديدة هادئة تشبه أوروبا تنعم بالازدهار والديمقراطية لن تتحقق، بل والأكثر من ذلك إن ظهور الشرق الأوسط الجديد سوف يضر بأمريكا نفسها والعالم.
وقد حُدِّدَت هذه الحقب بواسطة مدى التفاعل بين القوى المتصارعة سواء كانت هذه القوى داخل أو خارج المنطقة، وما تغير هو التوازن بين تأثيرات هذه القوى، فالحقبة الزمنية القادمة للشرق الأوسط تعد بأن يتواضع فيها تأثير القوى الخارجية وتكون القوى المحلية لها اليد الطولي، وفي هذه المرحلة؛ فإن القوى التي تكتسب النفوذ هي القوى المحلية التي تتمثل في الراديكاليين أو الأصوليين الذين ألزموا أنفسهم بتغيير الوضع الحالي، وستتزايد صعوبة تشكيل الشرق الأوسط الجديد من الخارج، وهناك أيضًا إدارة أسيا التي تتميز بالنشاط والحركة؛ حيث سَتُكَوِّن تحديًا رئيسًا للسياسة الخارجية للولايات المتحدة لعقود قادمة.(/1)
لقد ولِد الشرق الأوسط الحديث في أواخر القرن الثامن عشر، وطبقًا لما ذكره المؤرخون؛ فإن الحدث الأهم كان توقيع المعاهدة عام 1774، التي أنهت الحرب بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا، وهناك حدث آخر يوازيه في الأهمية، يتمثل في دخول نابليون السهل نسبيًا إلى مصر عام 1798، الذي أظهر للأوروبيين أن المنطقة نضجت ويمكن احتلالها؛ مما حث بدوره المفكرين العرب والمسلمين على السؤال - تمامًا كما يحدث منهم باستمرار الآن - عن أسباب سقوط حضارتهم أمام أوروبا المسيحية.
وقد ارتبط سقوط الدولة العثمانية باختراق أوروبي للمنطقة؛ مما أدى إلى ظهور سؤال في منطقة الشرق الأوسط عن كيفية التعامل مع نتائج سقوط الإمبراطورية العثمانية، وقد حاولت الأحزاب المختلفة الإجابة عن هذا السؤال بما يتفق مع مصلحة كل حزب منها.
قد انتهت الحقبة الأولى مع الحرب العالمية الأولى، وسقوط الإمبراطورية العثمانية، وظهور الجمهورية التركية، وتقسيم الغنائم بين الأوربيين المنتصرين في الحرب. وتبع ذلك عهد من الحكم الاستعماري سيطرت عليه فرنسا وانجلترا، وهذه الحقبة الثانية انتهت بعد أربعة عقود؛ حيث استنزفت الحرب العالمية الثانية الكثير من قوة الأوروبيين، ونشأت القومية العربية وبدأت القوتان العظميان في القتال، "من يحكم الشرق الأدنى يحكم العالم، ومن له مصالح في العالم لابد أن يربط نفسه بكل ماله علاقة بالشرق الأدنى"، كتب هذا التعليق المؤرخ ألبرت هوراني، الذي رأى في أزمة السويس عام 1956 مؤشرًا على نهاية الحقبة الاستعمارية وبداية حقبة الحرب الباردة في المنطقة.(/2)
وأثناء الحرب الباردة، وكما كان الحال من قبل؛ فقد لعبت القوى الخارجية دورًا رئيسًا في الشرق الأوسط، وطبيعة الصراع بين أمريكا وروسيا أعطت الدول المحلية دورًا أكبر في المناورة، ووصلت هذه الفترة إلى قمتها مع حرب أكتوبر 1973؛ حيث وَقَعَتْ الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي في ورطة؛ مما مهَّد لدبلوماسية طموحة، تشمل معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
ومع هذا فمن الخطأ أن نقول ببساطة أن الحقبة الثالثة هذه كانت فترة من الصراع الذي أُدِيْر بطريقة جيدة بين القوتين العظميين؛ فحرب يونيو 1967 غيرت من ميزان القوة في الشرق الأوسط، واستخدام النفط بوصفه سلاحًا اقتصاديًا وسياسيًا في عام 1973 ألقى الضوء على الضعف الأمريكي والعالمي من حيث نقص الإمدادات، وارتفاع أسعار الوقود، وحركة التوازن الناتجة عن الحرب الباردة خلقت نوعًا من الظروف المحيطة جعلت لدى القوى المحلية في الشرق الأوسط نوعًا من الاستقلال الذاتي مكنها من تتبع تنفيذ أجندتها الخاصة؛ فثورة عام 1979 في إيران التي أسقطت أحد أعمدة الولايات المتحدة في المنطقة، وأظهرت أن مَنْ في الخارج لا يمكنهم التحكم في الأحداث المحلية.
ولقد قاومت الدول العربية المحاولات الأمريكية لإقناعها بالانضمام للمشاريع المضادة للاتحاد السوفيتي، وأثمر احتلال إسرائيل للبنان عام 1982 عن إنشاء حزب الله في لبنان، وقد استنفدت الحرب العراقية الإيرانية طاقات البلدين تمامًا لمدة عقد كامل.
الرعاية الأمريكية
لقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة إلى نشوء الحقبة الرابعة في تاريخ المنطقة، وفي أثناء هذه الفترة تمتعت الولايات المتحدة الأمريكية بنفوذ غير مسبوق، وحرية في التصرف كيفما شاءت.(/3)
أحد أهم سمات هذه الحقبة الأمريكية تمثلت في تحرير الكويت، وبقاء القوات البرية والجوية الأمريكية لفترة طويلة على أرض شبه الجزيرة العربية، واهتمام دبلوماسي نشط بمسألة الصراع العربي الإسرائيلي، ومحاولة الوصول إلى حل نهائي وحاسم؛ "مما أدى إلى بذل إدارة كلينتون الكثير من الجهد، ولكن انتهى بجهد غير ناجح في كامب ديفيد"، وأكثر من أي مرحلة أخرى؛ فإن هذه الفترة مثلت مما يُعرف الآن "بالشرق الأوسط القديم".
فالمنطقة كانت لها بعض المعالم التي تميزها؛ مثل: العراق العدواني ولكنه محبط، وإيران الأصولية ولكنها مفككة وضعيفة نسبيًا، وإسرائيل وهي أقوى دولة في المنطقة والقوة النووية الوحيدة، وصعود وهبوط أسعار البترول، والأنظمة العربية الثقيلة التي تقمع شعوبها، والتعايش غير السلمي بين إسرائيل وكلٍ من الفلسطينيين والعرب، وبصفة عامة تميزت هذه الحقبة بالسيطرة الأمريكية.
وقد تسببت عديد من العوامل في إنهاء هذه الفترة بعد أقل من عقدين من الزمن، بعض من هذه العوامل له علاقة ببنية المنطقة والبعض الآخر ذاتي، وأحد أهم هذه العوامل تمثل في قرار إدارة بوش بمهاجمة العراق عام 2003، وما تبعه من العملية الحربية نفسها، وما نتج عن الاحتلال.(/4)
أحد ضحايا الحرب كان العراق، وهي الدولة ذات السيادة السنية التي كانت قوية ومؤهلة بطريقة كافية لتحقيق التوازن مع شيعة إيران؛ فالتوتر بين الشيعة والسنة كان كامنًا ولكنه ظهر إلى السطح خلال المنطقة، وقد اكتسب الإرهابيون قاعدة لهم في العراق، وطوروا مجموعة من الأساليب للمقاومة وصدورها لغيرهم، وفى معظم أنحاء المنطقة؛ فقد ارتبطت الديمقراطية بالشغب العام وانتهاء السيطرة السنية. وتعزز الشعور بالعداء والكراهية للأمريكان، ونظرًا لأن أمريكا حشدت الكثير من قواتها في المنطقة فقد أدى ذلك إلى تضاؤل نفوذها عالميًا. ولعل من سخرية الأقدار، أن الحرب الأولى في العراق كانت حربًا ضروريةً؛ حددت بداية الحقبة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، والحرب الثانية في العراق التي كانت حربًا من اختيارها هي التي شاركت في نهاية تلك المرحلة.
وهناك عوامل أخرى ذات صلة بذلك؛ منها: انهيار عملية السلام في الشرق الأوسط، واستمتاع أمريكا بقدرتها غير العادية على العمل مع كلٍ من العرب والإسرائيليين، ولكن حدود هذه القدرة ظهرت على حقيقتها في كامب ديفيد 2000، ومنذ ذلك الحين؛ فإن صعود حماس، وضعف من جاؤوا بعد ياسر عرفات، وتصميم إسرائيل على تنفيذ سياساتها بطريقة أحادية الجانب - أدى إلى استبعاد أمريكا. وهذا التغير في الموقف عززه الكراهية لإدارة بوش الحالية وكل ما تقوم به من دبلوماسية نشطة.
عامل آخر ساعد في نهاية الحقبة الأمريكية؛ تمثل في فشل الأنظمة العربية التقليدية في مواجهة الإعجاب بالإسلام الأصولي.
الناس في منطقة الشرق الأوسط واجههم خياران:
أولهما: ما لاحظوه من فساد القادة السياسيين الحاليين وبعدهم عن نبض الشعب.
والثاني: تمثل في القادة الإسلاميين المتحمسين؛ فلجأ الكثيرون إلى الخيار الثاني، وقد تسببت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أن يفتح قادة الولايات المتحدة الاتصال بمجتمعات وجماعات مغلقة والتعامل مع الأصوليين واحتضانهم.(/5)
وكان رد فعلهم الدفع الطائش لتلك الدول لإجراء انتخابات، ولم يرعوا انتباهًا للبيئة السياسية المحلية؛ مما أعطى للإرهابيين ومناصريهم فرصة أكبر من ذي قبل للتقدم.
في النهاية: فقد غيرت العولمة المنطقة؛ فليس من العسير الآن على الأصوليين أن يحصلوا على الدعم المالي والأسلحة والأفكار والأعضاء الجدد. ظهور وسائل الإعلام الجديدة أثر كثيرا فأكبر وسيلة مؤثرة على الناس هي القنوات التليفزيونية الفضائية؛ مما حول العالم العربي إلى قرية إقليمية وساهمت هذه القنوات في تسييس المنطقة. وأغلب المحتوى المعروض هو عبارة عن مشاهد من العنف والدمار في العراق، وصور لسوء معاملة المساجين المسلمين والعراقيين، والمعاناة في الضفة الغربية وغزة ولبنان الآن... هذا كله ساهم في نفور الكثير من الناس في الشرق الأوسط من أمريكا وكراهيتهم لها؛ ونتيجة لذلك فإن الحكومات في الشرق الأوسط تعاني الآن وقتًا عصيبًا في العمل بطريقة مفتوحة مع الولايات المتحدة، والنفوذ الأمريكي في المنطقة قد تضاءل جدًا.
ما سيحدث مستقبلاً
الخطوط النهائية للحقبة الخامسة للشرق الأوسط مازالت تتكون، ولكنها تبدأ من حيث انتهت الحقبة الأمريكية، اثنا عشر ملمحًا سوف تُكَوِّن السياق العام للأحداث اليومية.
أولاً: سوف تستمر الولايات المتحدة في الاستمتاع بنفوذها في المنطقة أكثر من أي قوة خارجية أخرى، ولكن نفوذها وتأثيرها سوف يقل عن ذي قبل. وهذا يُظهِر تنامي تأثير عدد من القوى الداخلية والخارجية، وهذا ملازم لما سببته حدود القوة الأمريكية، ونتائج خيارات الولايات المتحدة في المنطقة.(/6)
ثانيا: سوف تستمر القوى الخارجية الأخرى في تحدي سياسة الولايات المتحدة؛ فالاتحاد الأوروبي سوف يساهم بكيفية قليلة في مساعدة العراق وقد يدفع بالمسألة الفلسطينية إلى اتجاه آخر مختلف، وسوف تقاوم الصين الضغط على إيران، وسوف تسعى لضمان الحصول على إمدادات الطاقة، وروسيا أيضًا سوف تقاوم الأحداث التي تنادي بتوقيع عقوبات على إيران، وسوف تبحث عن فرص تثبت بها استقلالها عن أمريكا. كلٌ من روسيا والصين - ومعهم العديد من الدول الأوروبية - سوف ينأون بأنفسهم عن جهود الولايات المتحدة في تعزيز الإصلاح السياسي في الدول غير الديمقراطية في الشرق الأوسط.
ثالثا: إيران سوف تكون أحد أقوى دولتين في المنطقة؛ فهؤلاء الذين ظنوا أن إيران على حافة الدخول في تغيير درامي داخلي كانوا مخطئين؛ فإيران التي تستمتع بثروة عظمية تعد أكبر القوى الخارجية من حيث تأثيرها في العراق ولها نفوذ لا يستهان به على حزب الله وحركة حماس، فهي قوة استعمارية تقليدية لها طموحاتها وتهدف إلى إعادة صياغة المنطقة وفق رؤيتها الخاصة كما إن لها القدرة على ترجمة هذه الأهداف إلى واقع.
رابعًا: إسرائيل سوف تكون الدولة الأخرى القوية في المنطقة والدولة، ذات الاقتصاد الحديث القادرة على المنافسة عالميا؛ فهي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لها ترسانة نووية وتمثل أيضًا أكبر قوة عسكرية تقليدية في المنطقة، لكنها ما زالت تدفع فاتورة احتلالها للضفة الغربية، وتتعامل مع تحدٍ أمني متعدد الجبهات والأبعاد، وإذا تحدثنا بطريقة استراتيجية فإن إسرائيل اليوم في موقف أضعف عن ذي قبل؛ نظرًا للأزمة التي سببتها نتيجة الحرب مع لبنان، وموقفها وموقف الولايات المتحدة سوف يستمر في التدهور؛ إذا طورت إيران أسلحتها النووية.(/7)
خامسا: لا يمكن التنبؤ مستقبلاً باحتمال حدوث أي شيء يشبه عملية سلام قابلة للتطبيق في المنطقة؛ فنتيجة للعمليات العسكرية الإسرائيلية المثيرة للجدل في لبنان فإن حزب كاديما الحاكم في إسرائيل سوف يتأكد من أنه أضعف من أن يطلب أي دعم داخلي لأي سياسة يمكن ملاحظة أي نوع من المخاطرة فيها، أو ينتج عنها أي نوع من أنواع العدوان.
فالانسحاب الأحادي الجانب لا يمكن الوثوق به الآن، في ظل الهجمات التي تبعت الانسحاب من لبنان وغزة؛ فلا يوجد أي شريك واضح على الجانب الفلسطيني الآن قادر وراغب في الوصول إلى حل وسط، فهناك - إضافة إلى ذلك - من يقف عائقًا أمام فرص الوصول إلى المفاوضات، وقد فقدت الولايات المتحدة الكثير من موقفها بصفتها وسيط أمين وموثوق به - على الأقل في الوقت الراهن - في حين سوف تستكمل إسرائيل توسعاتها في إنشاء المستوطنات والطرق مما يعقد الدبلوماسية أكثر.
سادسًا: العراق، المركز التقليدي لقوة العرب، سوف يستمر في حالة من الفوضى لمدة طويلة بحكومة مركزية ضعيفة، ومجتمع مفكك، وعنف طائفي معتاد، وفي أسوأ الحالات؛ فإنها سوف تكون دولة فاشلة مدمرة بكل أنواع الحرب الأهلية التي سيتورط فيها جيرانها.
سابعًا: أسعار النفط سوف تستمر في الارتفاع؛ ونتيجة لذلك سيتزايد الطلب عليه من جانب الصين والهند، وسيكون هناك نجاح محدود في ضبط الاستهلاك في الولايات المتحدة، وهناك إمكانية في استمرار نقص الإمدادات منه، ومن المستبعد أن يتجاوز سعر البرميل حاجز المائة دولار أو يقل عن 40 دولار، وسوف تستفيد إيران والسعودية وباقي المنتجين ولكن بنسب متفاوتة.(/8)
ثامنا: ستستمر الميلشيات في الظهور؛ فالجيوش الخاصة في العراق ولبنان والمناطق الفلسطينية قد تنامت قوتها بالفعل حاليًا؛ فالميلشيات التي تعتبر نتيجةً وسببًا للدولة الضعيفة ستظهر في أي مكان يمكن ملاحظة وجود عجز حقيقي في قدرات أو سلطات الدولة، والقتال الذي حدث مؤخرًا في لبنان سوف يؤدي إلى تنامي هذه النزعة، وحيث إن حزب الله قد فاز بعدم معاناته جراء هزيمة منكرة وإسرائيل قد خسرت بعدم تحقيقها نصرًا تامًا؛ فالنتيجة سوف تتمثل في أن يتجرأ حزب الله ومن على شاكلته.
تاسعًا: الإرهاب، الذي عُرِّف بأنه الاستخدام الدولي للقوة ضد المدنيين لتحقيق أهداف سياسية، سوف يظل أحد ملامح المنطقة، وسيحدث الإرهاب في المجتمعات المنقسمة مثل العراق وفى المجتمعات التي تسعى فيها المجموعات الأصولية لإضعاف الحكومة والتشكيك في مصداقيتها. وسوف يظل الإرهاب ينمو بطريقة معقدة وسيظل أداة تستخدم في مواجهة إسرائيل وفي مواجهة الوجود الأمريكي وفي مواجهة أي قوى أخرى خارجية.
عاشرًا: الإسلام سوف يملأ بطريقة متزايدة الفراغ السياسي، والفكري في العالم العربي وسوف يقدم أساسًا لسياسة أغلبية سكان المنطقة.
فالقومية العربية والاشتراكية العربية هي أشياء من الماضي، والديمقراطية ستحقق في أفضل الأحوال في المستقبل البعيد، الوحدة العربية ستكون شعارًا وليس حقيقة؛ فتأثير إيران والمجموعات المرتبطة بها سيتعزز، والجهود الرامية إلى تحسين العلاقات بين الحكومات العربية وإسرائيل والولايات المتحدة ستتعقد.
في حين ستنمو التوترات بين السنة والشيعة في منطقة الشرق الأوسط؛ مسببة لمشاكل في الدول التي بها هاتين الطائفتين مثل: البحرين، لبنان، السعودية.
حادي عشر: من المحتمل أن تظل الأنظمة العربية فاشستية - يخضع الفرد وحقوقه لمصلحة الدولة - ومتعصبة دينياً وتعادي أمريكا.(/9)
فمصر التي توصف بأنها وحدها ثلث سكان العالم العربي، قد قدمت بعض الإصلاحات قد الاقتصادية البنَّاءة، ولكن سياستها فشلت في الاستمرار. وفي المقابل؛ فإن النظام القائم يبدو مصرًا على قمع مناوئيه من الليبراليين القلائل في البلد، وتخيير المصريين بين أصحاب السلطة الحالية وبين الإخوان المسلمين، والخطورة تكمن في أن المصرين قد يلجؤوا للخيار الثاني، ليس لأنهم من أنصاره ؛ بل لأنهم أصابهم الإعياء والتعب جراء حكم الأول، وبديلاً لذلك فإن النظام الحاكم قد يرتدي حُلة مناوئية الإسلاميين ويختار ما يوده الإسلاميون وهذا من شانه البعد تمامًا عن الولايات المتحدة.
وفي النهاية؛ فإن المؤسسات الإقليمية ستظل ضعيفة ومتخلفة عمن سبقوها في أماكن أخرى، وأشهر منظمة في الشرق الأوسط - الجامعة العربية - تستبعد أكبر قوتين في المنطقة إيران وإسرائيل، والصراع العربي الإسرائيلي سوف يستمر في الحيلولة دون مشاركة إسرائيل في أي علاقة إقليمية قد تعزز من موقفها، والتوتر بين إيران ومعظم الدول العربية سوف يحبط ظهور كيان إقليمي واحد، والتجارة داخل الشرق الأوسط سوف تظل متواضعة لأن عددًا قليلاً من الدول يقدم بضائع وخدمات يحتاج الآخرون لشرائها على نطاق واسع، والبضائع المتقدمة المصنعة سوف تستمر في المجيء من أماكن أخرى، وقليل من مميزات التكامل الاقتصادي العالمي سوف يأتي إلى هذا الجزء من العالم على الرغم من حاجتهم الماسة لها.
الأخطاء والفرص(/10)
على الرغم من أن الملامح الأساسية لهذه الحقبة الخاصة لمنطقة الشرق الأوسط الحديث قد تبدو - إلى حد كبير - غير جذابة، إلا أن ذلك لا يجب أن يكون سببًا للاستسلام للقدر؛ فالأمور إلى حد ما نسبية؛ فهناك فروق جوهرية بين الشرق الأوسط الذي تنقصه اتفاقيات السلام الرسمية، وبين ذلك الذين يُعَرِّفه الإرهاب والصراعات والحروب الأهلية. هناك فرق بين الشرق الأوسط الذي يأوي إيران القوية، وبين الذي تسيطر عليه إيران. وهناك فرق بين الشرق الأوسط الذي له علاقات غير مستقرة على الولايات المتحدة، وذلك الذي تملؤه الكراهية تجاهها.
والزمن أيضًا من شأنه التغيير فالحقب الزمنية في الشرق الأوسط يمكن أن تسمر لمدة قرن أو فقط لمدة عقد ونصف، ومن الواضح أنه من مصلحة الولايات المتحدة وأوروبا أن تستغرق هذه الحقبة أقصر فترة ممكنة، وسوف تأتي بعدها حقبة أفضل منها وأكثر اعتدالاً.
ولكي نؤكد على هذا، فصانعوا السياسية الأمريكية في احتياج أن يتفادوا خطأين وينتهزوا فرصتين:
الخطأ الأول هو الاعتماد المبالغ فيه على القوة العسكرية؛ فكما تعلمت أمريكا من الثمن الباهظ في العراق، وما تكبدته إسرائيل في لبنان؛ فالقوة العسكرية ليست حلا لجميع المشاكل؛ فهي ليست مجدية في تعاملها مع هذه الميلشيات غير المنظمة، وهؤلاء الإرهابيون ذوو التسلح الجيد، الذين لهم قبول في المجتمع المحلي، ومستعدون للموت من أجل هذه الغاية.
ولن يؤدي تنفيذ ضربة وقائية للقواعد النووية الإيرانية إلى شيء جيد؛ فقد تؤدي الهجمة إلى الفشل في تدمير كل المواقع؛ بل قد تؤدي إلى إعادة إنشاء إيران لبرنامجها النووي بصورة أكثر سرية، وقد تؤدي بالإيرانيين إلى أن يلتفوا حول نظامهم الحاكم ويؤيدوه ويقنعوا إيران بالثأر - في الأغلب عن طريق وكلاء أمريكا في المنطقة وذلك بتدمير مصالحهم - من الولايات المتحدة ومصالحها في أفغانستان والعراق، وربما مباشرة في أمريكا نفسها.(/11)
وقد يؤدي إلى تطرف العرب والمسلمين، وانحيازهم للأصولية؛ مما سيؤدي إلى مزيد من الإرهاب والمزيد من الأنشطة العدائية في مواجهة الولايات المتحدة، وأي تحرك عسكري في مواجهة إيران من شأنه أن يرفع أسعار البترول بطريقة كبيرة للغاية و من شأنه أيضًا أن يزيد من فرص وجود أزمة اقتصادية عالمية وانتكاسًا عالميًا.
لأجل كل هذه الأسباب؛ فالقوة العسكرية يجب أن تكون فقط هي الملاذ الأخير.
الخطأ الثاني يتمثل في الاعتماد على ظهور الديمقراطية لتهدئة المنطقة ومع أنه حقيقي أن الديمقراطيات الناضجة تميل إلى ألا تشن حربًا في مواجهة أخرى مثيلة لها، إلا أنه لسوء الحظ، فإن إيجاد ديمقراطيات ناضجة ليس بالمهمة السهلة، وحتى لو نجحت الجهود الساعية لتحقيق ذلك في النهاية فإن الأمر يتطلب عقودًا من ا لزمن، وفي خلال هذه الفترة يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تستمر في العمل مع العديد من الحكومات غير الديمقراطية، ولا تمثل الديمقراطية إجابة للإرهاب في الوقت ذاته، ومن المنطقي أن الشباب والشابات الذين يبلغون سن الرشد من غير المحتمل أن ينضموا للإرهابيين إذا انضموا للمجتمعات والجماعات التي تقدم لهم الفرص السياسة والاقتصادية. ولكن الأحداث الأخيرة أوضحت أن هؤلاء الذين نشئوا في ديمقراطيات ناضجة مثل المملكة المتحدة ليس لديهم مناعة في مواجهة الأصوليين، والحقيقة أن حزب الله وحماس نجحوا في الانتخابات ثم نفذوا هجمات عنيفة ليعززوا فكرة أن الإصلاح الديمقراطي لا يضمن الهدوء وإرساء الديمقراطية لا يعتبر ناجعًا عند التعامل مع أصوليين لا يوجد في برنامجهم أي أمل للحصول على تأييد الأغلبية.(/12)
والمبادرات الأكثر نفعًا تكون في الإجراءات التي تُتَّخَذ في إصلاح النظام التعليمي، وتشجيع التحرر الاقتصادي، وفتح الأسواق، وتشجيع السلطات العربية والإسلامية للتحدث، ونفي الشرعية عن الإرهاب، وإشعار مناصريه بالخزي، ومواجهة المظالم التي تجعل الشباب والشابات ينخرطون في الإرهاب.
أما بالنسبة للفرص التي يجب أن تستغل تتمثل في:
أولاً: التدخل في شؤون الشرق الأوسط بأدوات غير عسكرية - بالنسبة للعراق - فإضافة إلى إعادة انتشار القوات الأمريكية وتدريب قوات الجيش والشرطة العراقية فإن الولايات المتحدة يجب أن تؤسس منتدى إقليمي لجيران العراق - تركيا، والسعودية على وجه الخصوص- وبعض الأحزاب الأخرى ذات المصلحة، تمامًا مثل الذي حدث في أفغانستان من حيث اجتماع جيرانها للمساعدة في إيجاد حل لمشكلتها، بعد التدخل الأمريكي هناك عام 2001، وهذا من شأنه أن يغري سوريا وإيران بالحضور؛ فسوريا التي تستطيع أن تؤثر على حركة المقاومة في العراق - من حيث سماحها للمقاتلين بالعبور من حدودها، أو وصول أسلحة إلى لبنان - يجب أن تُقْنَع بأن تغلق حدودها في مقابل تحقيق منافع اقتصادية - من الحكومات العربية وأوروبا والولايات المتحدة - والالتزام بإعادة المحادثات بشأن هضبة الجولان في الشرق الأوسط الجديد، هناك خطر من أن تهتم سوريا بالعمل مع طهران أكثر منه مع واشنطن، لو أنها انضمت للتحالف التي قادته أمريكا في حرب الخليج الفارسي، أو أنها حضرت في مؤتمر السلام في مدريد عام 1991- لكان يمكن أن نقول أن هناك تلميحين إلى إمكانية فتح باب التعامل مع الولايات المتحدة في المستقبل.(/13)
إيران تعد حالة أكثر صعوبة، ولكن مع أن تغيير النظام الحاكم في طهران يعتبر مطمحًا قريب الأجل، إلا أن ضربات عسكرية على المواقع النووية في إيران سوف يكون خطيرًا، والردع قد لا يكون أكيدًا؛ فالدبلوماسية هي أفضل الخيارات المتاحة أمام واشنطن؛ فالحكومة الأمريكية يجب أن تفتح حوارات شاملة وبدون شروط مسبقة مع طهران، تواجهها ببرنامجها النووي، وبدعمها للإرهاب والميلشيات الخارجية، ويجب أن يقدم إلى إيران مجموعة من الحوافز الاقتصادية والسياسة والأمنية؛ فيمكن السماح لها ببرنامج محدود للغاية يسمح لها بالتعرف على المناطق الغنية باليورانيوم طالما قبلت بالتفتيش الدقيق لكل المواقع النووية، ومثل هذا العرض يمكن أن يكسب تأييدًا عالميًا واسعًا، ولكن إذا كان هناك مطلب أساسي إذا أرادت أمريكا دعمها لفرض عقوبات أو التصعيد لأجل خيارات أخرى؛ فهذه السياسة ستفشل.
صياغة شروط هذا العرض سيزيد من فرص نجاح الدبلوماسيين في النجاح، وسيعرف الإيرانيون الثمن الذي سيدفعونه جراء وقوفهم إلى جانب السياسة الخارجية المتطرفة لحكومتهم. ولأن الحكومة في إيران تهتم كثيرًا بأي رد فعل شعبي مناوئ لها؛ فمن المحتمل أن تقبل عرض الولايات المتحدة.(/14)
والدبلوماسية تحتاج إلى إعادة إحيائها في الصراع العربي الإسرائيلي، التي مازالت القضية التي تُكوِّن (وتزيد من أصولية) الرأي العام العربي في المنطقة، وليس الهدف من هذه النقطة هو مجيء الأحزاب إلى كامب ديفيد أو إلى أي مكان آخر ولكن البدء في خلق الظروف التي تحتها تتمكن الدبلوماسية من العمل مرة أخرى بطريقة مفيدة. والولايات المتحدة يجب أن توضح هذه المبادئ التي تعتقد أنها تكوِّن عناصر تسوية نهائية تشمل إعلان إنشاء دولة فلسطينية على حدود عام 1967. (وهذه الحدود سوف تعدل كي تحفظ الأمن لإسرائيل وتظهر التغيرات الديموغرافية. ويجب أن يُعَوَّض الفلسطينيون عن أي خسائر نتيجة هذه التعديلات) وكلما كانت الخطة أكثر كرمًا وأكثر تفصيلاً، كلما كان أصعب على حماس أن ترفض المفاوضات وتفضل المواجهة، واتساقًا مع هذا الاتجاه؛ فيجب على المسؤولين في الولايات المتحدة أن يجلسوا مع المسؤولين في حماس فترة أطول مما جلسوا مع قادة حزب "الشين فين" في ايرلندا وبعض من قادة هذا الحزب قادوا الجيش الجمهوري الأيرلندي، ومثل هذه المقايضات لا ينبغي أن ينظر إليها أنها مكافأة للتكتيكات الخاصة بالإرهابيين؛ ولكن كأدوات لها دورها في إضافة بُعْد سلوكي جنبًا إلى جنب مع سياسة الولايات المتحدة.(/15)
والفرصة الثانية: تتضمن عزل الولايات المتحدة نفسها بقدر ما تستطيع عن زعزعة الاستقرار في المنطقة، وهذا يعني أن تقلل الولايات المتحدة من استهلاكها للبترول، واعتمادها على موارد الطاقة الآتية من الشرق الأوسط، وهذه الأهداف يمكن تحقيقها كأحسن ما تكون عن طريق خفض الطلب على البترول - عن طريق؛ قل مثلاً: زيادة الضرائب على المضخات، ومعادلة ذلك بتقليل الضرائب على أشياء أخرى، وتشجيع السياسات التي تُعَجِّل من تقديم مصادر بديلة للطاقة - ويجب على واشنطن أيضًا أن تتخذ خطوات إيجابية لتقليل تعرضها للإرهاب؛ فالإرهاب مثل المرض لا يمكن إزالته تمامًا؛ ولكن يمكن بل يجب أن يُفْعَل الكثير لنقدم حماية أكبر لأرض لولايات المتحدة، وللإعداد بطريقة أكبر للفرص التي قد تتاح للإرهابيين حال نجاحهم.
تجنب هذه الأخطاء واستغلال هذه الفرص سوف يساعد إلى حد ما، ولكن من المهم أن نعرف أن لا توجد حلول سريعة أو سهلة للمشاكل التي أوجدتها الحقبة الجديدة في الشرق الأوسط، وسيظل الشرق الأوسط لعقود زمنية قادمة جزءًا من العالم به الكثير من الاضطرابات، ومثير لكثير من الاضطرابات، وهذا فيه ما يكفي كي يجعل الواحد منا يشعر بالحنين إلى الشرق الأوسط القديم.(/16)
العنوان: الشركات العائلية ودورها
في التنمية البشرية والاقتصادية
رقم المقالة: 734
صاحب المقالة: محمود حسين عيسى
-----------------------------------------
ينظر البعض إلى رؤوس الأموال الضخمة التي تمتلكها الشركات العائلية في دول العالم بصفة عامة، والدول العربية ودول الخليج منها بصفة خاصة، ويتساءل عمَّا ساهمت به هذه الشركات في تنمية بلدانها في المجالات البشرية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من المجالات، ويتساءل أيضاً عن ماهية الدور الذي يجب أن تقوم به هذه الشركات، وأيهما أفضل لاقتصاديات الدول: بقاء هذه الشركات العائلية على حالها، أو تحولها إلى شركات مساهمة، تكون قادرةً بصورة أفضل على المساهمة في برامج التنمية عامةً في بلدانها، وبرامج التنمية البشرية خاصةً؟
مما لا شك فيه أن الشركات العائلية تقوم بدور فعال وهام في بناء ودعم اقتصاديات الدول، وذلك منذ أمد بعيد، ومما لا شك فيه - أيضاً - أن الشركات العائلية سوف تستمر في القيام بهذا الدور الفعال.
وقبل أن نخوض في تبيان مساهمات الشركات العائلية في تنمية الموارد البشرية والاستثمار فيها، وهل هذه المساهمة كانت كافية أم لم تؤدي الغرض المطلوب أو المأمول منها، سوف نتحدث عن ماهيَّة الشركات العائلية، وعن حجمها الحقيقي في اقتصاديات الدول.
ماهيَّة الشركة العائلية:
الشركة العائلية - كما هو معروف تاريخياً - تنسب إلى اسم عائلة، أي إلى اسم شخص واحد، وهو عميد العائلة، أو إلى لقب العائلة، وقد تكتسب الشركة شهرتها من اسم العائلة، أو العكس؛ فقد تكتسب العائلة شهرتها من شهرة الشركة، وهناك حالات كثيرة تدلل على ذلك.(/1)
ومن صفات الشركة العائلية أنها – في أغلب الحالات - شركة مغلقة على مُلاكها فقط، وقد انحصر التصنيف القانوني للشركات العائلية في عدة مسميات؛ فقد تكون الشركة العائلية (شركة ذات توصية بالأسهم)؛ خاصة بأبناء العائلة فقط، أو (شركة تضامن)، أو (شركة ذات مسؤولية محدودة)، أو (شركة توصية محدودة).
الحجم الاقتصادي للشركات العائلية، ودورها في التنمية الاقتصادية:
لقد قامت الشركات العائلية – ولا تزال – بدور كبير في التنمية الاقتصادية الوطنية للبلدان التي تنتمي إليها، ولم يقلّ هذا الدور حتى في الدول المتقدمة صناعياً، ذات الشركات الضخمة! فلم يكن هناك تعارضٌ بين الشركات الكبيرة ذات رؤوس الأموال الضخمة والشركات العائلية؛ بل على العكس من ذلك؛ لم تستطع تلك الشركات الكبيرة أن تلغي أو تهمِّش دور الشركات العائلية، وإنما عملت على التعاون معها والاستفادة منها، وذلك بتوفير احتياجاتها الصغيرة والمتكررة الطلب عن طريق الشركات العائلية.
وتمثل الشركات العائلية مكانةً كبيرةً في اقتصاديات الكثير من دول العالم، بغضِّ النظر عن تنوع نهج هذه الدول الاقتصادي، ومكانتها على خريطة الاقتصاد العالمي؛ حيث تمثل الشركات العائلية النسبة الكبرى من إجمالي الشركات العاملة بالاقتصاديات الوطنية لهذه الدول، وتتضح هذه المكانة من هذه الإحصائيات:
- ففي دول الاتحاد الأوروبي: تتراوح نسبة الشركات العائلية ما بين 70- 95% من إجمالي الشركات العاملة بها، وتساهم هذه الشركات بما نسبته 70% من الناتج القومي.
- وفي الولايات المتحدة: يبلغ عدد الشركات العائلية المسجلة في أمريكا قرابة 20 مليون شركة! وتمثل 49% من الناتج القومي، وتوظف 59% من العمالة، وتستحدث زهاء 78% من فرص العمل الجديدة.
- وفي إيطاليا: يبلغ عدد الشركات العائلية المسجلة 95% من إجمالي الشركات العاملة.
-وفي بريطانيا: يبلغ عدد الشركات العائلية المسجلة 75% من إجمالي الشركات العاملة.(/2)
-وفي سويسرا: يبلغ عدد الشركات العائلية المسجلة 85% من إجمالي الشركات العاملة.
- وفي السويد: يبلغ عدد الشركات العائلية المسجلة 90% من إجمالي الشركات العاملة.
- وفي أسبانيا: يبلغ عدد الشركات العائلية المسجلة 80% من إجمالي الشركات العاملة.
- وفي البرتغال: يبلغ عدد الشركات العائلية المسجلة 70% من إجمالي الشركات العاملة.
- أما في الدول العربية: فتبلغ نسبة الشركات العائلية قرابة 95% من عدد الشركات العاملة، وفي المملكة العربية السعودية تبلغ نسبة الشركات العائلية قرابة 95% من عدد الشركات العاملة.
ومن هذه الإحصائيات يتضح لنا أهمية الدور الذي تقوم به هذه الشركات، ومدى تأثيرها في اقتصاديات الدول التي تنتمي إليها، ويتضح أهمية هذا الدور أكثر بإلقاء الضوء على حجم الاستثمارات الهائلة للشركات العائلية التي تعمل داخل الاقتصاد الوطني السعودي.
يقدر حجم الاستثمارات العائلية في الاقتصاد السعودي بقرابة 250 مليار ريال، وهناك 45 شركة عائلية تعد من ضمن أكبر 100 شركة في المملكة العربية السعودية، تجاوزت عائدات هذه الشركات 120 مليار ريال في عام 2003م، وتقوم بدور هام في عملية التنمية البشرية، وتسهم في العمل على الحدِّ من مشكلة البطالة بتوظيف العمالة السعودية، والعمالة الوافدة؛ حيث توظف هذه الشركات العائلية ما يقرب من 200 ألف شخص، وتعمل – عبر التوسعات في الأعمال والتطوير المستمر - على زيادة عدد الوظائف المتاحة، وهذا الدور يمثل قيمة اقتصادية واجتماعية كبيرة للمجتمع ككل.
والشركات العائلية السعودية لها نشاط تجاري كبير ومتَّسع، فالسوق التجاري السعودي سوق كبير وهام في منطقة الشرق الأوسط؛ بل يعد من الأسواق الكبيرة على المستوى الدولي، وتتضح ضخامة هذا السوق من خلال إحصائيات الواردات والصادرات.(/3)
تعتبر الشركات العائلية حجر الزاوية في العديد من أوجه النشاط الاقتصادي المختلفة، كما إن هذه الشركات قد سجلت على مدار عمرها العديد من النجاحات والنمو، وواكبت التطورات العصرية الهائلة على المستوى البشري، بتنمية مهاراته الإدارية والتقنية، وذلك عن طريق التخطيط الجيد والمدروس لبرامج التدريب الحديثة والمتقدمة، أو على مستوى مواكبة التطورات التكنولوجية والاستفادة القصوى منها، ونقلها إلى أوطان هذه الشركات العائلية.
وعلى الرغم من كل ذلك نجد أن هذا الدور الكبير والهام الذي تقوم به هذه الشركات – كما بيناه آنفاً - لا يسلم من وجود نقص هام وخطير يتعلق بالشركات العائلية ذاتها! ألا وهو إمكانية عدم استمرارية هذه الشركات؛ حيث إن من ضمن خصائصها أن عامل السلوك الإنساني والطبيعة البشرية قد يغلب على قرارات هذه الشركات في أوقات كثيرة، وقد ينتج عن مثل هذه القرارات المتأثرة بعامل السلوك الإنساني عدم الأخذ بوسائل الإدارة الحديثة، وعدم الاستفادة بأهل الخبرة من خارج نطاق العائلة، أو عدم الأخذ بمبدأ التدريب المستمر للعاملين المنتمين لهذه الشركة، أو عدم الأخذ بالوسائل التكنولوجية الحديثة في تطوير منتجات الشركة، تحت حجة تقليل النفقات! مما قد يعرِّض هذه الشركات إلى عدم مواكبة مثيلاتها، وعدم قدرتها على المنافسة، مفضياً في النهاية إلى انهيارها وخروجها من السوق!(/4)
وهذا ما دفع الباحثين في هذا الحقل إلى اللجوء للدراسات المتخصصة؛ من أجل تقدير الأعمار التقريبية للشركات العائلية؛ فتوصلوا إلى أن العمر الافتراضي لهذه الشركات هو 40 سنة تقريباً، وخلصت بعض الدراسات إلى أن واحداً من ثلاثة أنشطة عائلية يعيش حتى الجيل الثاني، ونحو واحد من عشرة أنشطة عائلية يستطيع المواصلة حتى الجيل الثالث! وفي دراسة أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية اتضح أن 30% من الشركات العائلية تستمر إلى الجيل الثاني، وتنخفض هذه النسبة إلى 5 – 12% للجيل الثالث، ثم 4% إلى الجيل الرابع، وأخيراً: يصل أقل من 1% إلى الجيل الخامس!! وفي بريطانيا لا يختلف الوضع كثيراً عنه في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تمكن ما نسبته 30% من الشركات العائلية العاملة في بريطانيا من الوصول إلى الجيل الثاني، وانخفضت النسبة إلى ما يقارب 18% من شركات تمكنت من الوصول إلى الجيل الثالث، وإلى الجيل الرابع بنفس النسبة 18% تقريباً، وبنسبة أقل من 1% إلى الجيل الخامس.
الشركات العائلية تقع بين فكرين أساسيين:
ولكل ما سبق؛ يرى العديد من الخبراء والمختصين والمهتمين بشؤون الشركات العائلية أن هذه الشركات تقع بين فكرين أساسيين:(/5)
الفكر الأول: يذهب الخبراء أصحاب هذا الفكر إلى أن إدارة الشركات العائلية - وهي المكونة من أفراد من داخل العائلة المالكة لهذه الشركات - ترى أن الشركات التي تديرها ستبقى قادرةً على أن تحافظ على وجودها؛ بل وازدهارها ونموها، وعلى تطوير نفسها إلى الأفضل في جميع أنشطتها، سواء كانت فنية، أو معلوماتية، أو تسويقية، أو إنتاجية، أو خدمية. وتعتقد تلك الإدارات - أيضاً - أن هذه الشركات ستكون قادرة على تجاوز المشكلات والعقبات التي تواجهها، سواء كانت عقبات من داخل الشركات ذاتها أو من خارجها، ويبنون اعتقادهم هذا على أن شركاتهم تتمتع بخبرات كبيرة، تكونت من خلال ممارسات عملية طيلة سنوات عديدة، وأن هناك عادات وتقاليد تحكم العائلة المالكة للشركة، هذه العادات تفرض على جميع أفراد العائلة المساهمين في الشركة السمع والطاعة للجيل الذي يتولى إدارة الشركة، وأن هذا الجيل هو المنوط بالتخطيط والإدارة والرقابة، وهو الذي يقود الشركة من نجاحات إلى نجاحات، وأنه سيورث الجيل التالي شركة ناجحة، وسيورثه أيضاً خبرات كبيرة تساعد على استمرار هذا النجاح.
الفكر الثاني: أما الخبراء أصحاب الفكر الثاني؛ فيرون أن مستقبل الشركات العائلية محفوف بالمخاطر والتحديات التي تجعلها مهددة بالانهيار، ومن ثمَّ التلاشي، وتشتمل هذه المخاطر على:
- مخاطر داخلية: تتعلق بالتنافس العائلي بين أفراد العائلة للوصول إلى إدارة الشركة، بحجة إدخال أفكار جديدة وطرق حديثة لإدارتها، وهذا يُقابَل من القائمين الحاليين على الإدارة بالمقاومة، بحجة توافر الخبرات العملية لديهم؛ مما يجعلهم أجدر بالقيام بعملية الإدارة. وقد تتعلق – أيضاً - بسيطرة التعامل بالأسلوب (الأبوي) في إدارة الشركة.(/6)
-مخاطر خارجية: تتعلق بعدم قدرة الشركة على التطوير والتجديد، والأخذ بالأساليب والطرق الحديثة في الإدارة، الأمر الذي سيترتب عليه الحاجة إلى تمويل كبير قد لا يتوافر من داخل العائلة، مما يدفعها للجوء إلى التمويل الخارجي، وما يسببه من إملاءات خارجية تؤدي إلى الاعتراض من جانب العائلة على مثل هذا التمويل.
وجوب الاستعانة بالمستشارين وأهل الخبرة:
ولكي تتجنب الشركات العائلية كل هذه المخاطر؛ عليها ألا تكابر وتعتز بآرائها دوماً؛ بل عليها اللجوء إلى أهل الخبرة والمستشارين المتخصصين، سواء أكانوا من داخل العائلة أو من خارجها.
وعليها أن تسعى إلى تدريب (كوادر) إدارية - من داخل العائلة ومن خارجها - على أحدث أساليب الإدارة الحديثة، وذلك للاستعانة بآرائهم وأفكارهم المبنية على أسس علمية سليمة، وألا تقصِّر الشركات العائلية في هذا الجانب بحجة عدم زيادة النفقات؛ حيث إن توافر مثل هذه (الكوادر) داخل الشركة يوفر الكثير من تكاليف الاستشارات الخارجية!
ويجب - أيضاً - على الشركات العائلية أن تميز - وبكيفية دقيقة - وتفصل ما بين الشؤون العائلية والشؤون الخاصة بالعمل، وألا تقوم بتعيين أفراد من داخل العائلة ليسوا من ذوي الخبرة، أو ممن ليسوا مؤهلين للقيام بالأعمال التي ستوكل إليهم؛ لأن مردود ذلك - بلا شك - سيعود بالسلب على الشركة في المدى البعيد، إن لم يكن في المدى القصير أيضاً.
التحديات والفرص التي تواجه الشركات العائلية:
وحريٌّ بنا أن نخصص جزءاً من هذه الدراسة للحديث عن الفرص والتحديات التي واجهت الشركات العائلية في دول الخليج العربي، وكيف استفادت هذه الشركات من الطفرات الهائلة التي حدثت من جراء ارتفاع أسعار البترول، التي صاحبها وجود خطط تنموية حكومية بعيدة المدى، وفرت بها تلك الدول العديد من أبواب الاستثمار أمام جميع شركات القطاع الخاص الذي تمثل الشركات العائلية القلب منه!(/7)
لقد شهدت دول الخليج العربي في المرحلة الزمنية الأخيرة ارتفاعاً كبيراً في عائدات البترول، مما أدى إلى زيادة دخلها القومي، ومن ثمَّ انعكست هذه الزيادة على الشركات، وأدَّت إلى مرورها بمراحل نمو كبيرة في حجم أنشطتها وأعمالها؛ فقد أدى ارتفاع المستوى المعيشي للمستهلكين - بسبب زيادة الدخل القومي لدولهم - إلى زيادة في طلب هؤلاء المستهلكين للسلع والخدمات المحلية والمستوردة، هذه الزيادة في الطلب أدت إلى انتعاش الأسواق، ومن ثمَّ زادت الشركات العائلية المستورِدة من حجم عملياتها.
وفي المقابل: تعرضت الشركات العائلية للعديد من الصعوبات والتحديات، كان من أهمها الظروف الصعبة التي مرت بها منطقة الخليج نتيجة غزو العراق للكويت، وما جلبه هذا الغزو على المنطقة من آثار سلبية، تمثلت في عدم استقرار أسعار البترول وتقلبها، وهو الذي يمثل الرافد الأساس لموازنات دول الخليج، مما أثر بدوره على خطط التنمية البشرية والاقتصادية، وهذا يؤثر بطريقة مباشر على الأسواق التي تعمل فيها الشركات العائلية.
مقترحات هامة للشركات العائلية:
(الشراكة الاستراتيجية، البرامج التدريبية، التحول إلى شركات مساهمة عامة):
لقد أسهمت العديد من الدراسات، وآراء الخبراء في تقديم عدة مقترحات لصناع القرار في الشركات العائلية في العالم العربي، نلخص بعضها في الآتي:(/8)
1- على الشركات العائلية – خاصةً ذات رؤوس الأموال الكبيرة – أن تجتهد في الدخول في شراكات استراتيجية مع الشركات التي أخذت منها توكيلاً تجارياً لتمثيلها - في دولة الشركة العائلية – وألا تكتفي بدور الممثل التجاري فقط؛ بل عليها أن تسعى إلى المساهمة في تطوير هذا المنتج المستورد، وأن تعمل على فتح أسواق جديدة، والأهم من ذلك أن تسعى الشركات العائلية إلى الاستثمار في الأفكار الجديدة، أو شراء (براءات الاختراع)؛ لكي تنتج سلعاً أو خدمات تحمل علامةً تجاريةً خاصةً بها، مع الأخذ في الاعتبار أن عملية الإنتاج الخاص - أو التطوير لمنتج قائم - تتطلب الكثير من التمويل، والعديد من الكفاءات البشرية، والإنفاق على البحث العلمي، وهو الأمر المفتقد حتى الآن – إلا قليلاً – في الشركات العائلية.
وهذه الشراكة الاستراتيجية بين الشركات العائلية والشركات العالمية المصدرِّة لها العديد من المزايا، أهمها نقل التكنولوجيا المتقدمة إلى بلداننا العربية من أجل التصنيع والتطوير، وهذا يؤدي إلى تدريب الأيدي العاملة المحلية على هذه التكنولوجيا المتطورة من أجل العمل بها، وهذا سيجعل من هذه العمالة عمالة ماهرة ومدربة، تكتسب الخبرات على أسس علمية سليمة، وتتنامى هذه الخبرات بالمزيد من البرامج التدريبية، وبنقل الخبرات المتوافرة في الشركات العالمية، وهو ما سيكون له آثاره الإيجابية على التنمية البشرية والاقتصادية، وسيكون أفضل من اكتفاء الشركات العائلية بدور الممثِّل التجاري للشركات العالمية. هذا من جانب، ومن جانب آخر - وهو الجانب الأهم - آثاره الإيجابية على الاقتصاد الوطني ككل.(/9)
وأقترح هنا على الشركات العائلية الكبيرة: ألا تكتفي باستخدام العمالة فقط؛ بل عليها أن تنشئ مراكز تدريبية داخل شركاتها لتدريب العمالة المتوافرة لديها، فضلاً عن فتح أبواب التدريب – بالتعاون مع الجامعات، والكليات التقنية، والمدارس الفنية - لطلاب الجامعات، كلٌّ في تخصصه.
على سبيل المثال: إذا كانت الشركة العائلية تعمل في مجال المقاولات، فبإمكانها أن توفر برامج تدريبية عملية لطلاب كلية الهندسة المدنية والمعمارية؛ ليضيفوا الجانب العملي إلى الجانب الأكاديمي، وبالمثل: توفير برامج تدريبية لطلاب كليات الإدارة والمحاسبة.. وهكذا.
وإذا لم تستطع الشركة العائلية الواحدة القيام بهذا الواجب تجاه منسوبيها ومجتمعها، فما المانع من أن تجتمع عدة شركات في حقل ما لكي تنشئ مثل هذه المراكز التدريبية، مساهمةً منها في برامج تأهيل الطلاب والشباب والعمالة الوطنية، كلٌّ حسب تخصصه؛ لكي تجعل منهم قوى عاملة حقيقية، تتمتع بالمهارة المطلوبة من قِبَل سوق العمل؟!!
وهذا الواجب الوطني من قِبَل الشركات العائلية ليس من سبيل فرض الكفاية، وإنما من سبيل فرض العين؛ حيث تنتشل بهذا الدور الكثير من الشباب من دمار البطالة، التي قد تتسبب في انحرافهم وعدم استفادة وطنهم منهم؛ فهم القوة الحقيقة للوطن، وليس من المنطقي أن تسخَّر هذه القوة لدماره، بدلاً من تسخيرها لحمايته ورفاهيته، ومن ثمَّ دمار الشركات العائلية؛ لأن الكل في مركب واحد؟!
فيجب أن لا تجعل الشركات العائلية عائق التمويل (شماعة) تعلق عليها تقاعسها عن القيام بمثل هذا الواجب.(/10)
ويجدر بنا في هذا المقام أن ننوه إلى وجود عدد قليل من الشركات العائلية لمست بحسِّها الوطني حقيقة ما ذكرناه آنفاً، وتعمل جاهدةً في تدريب الشباب وتأهيلهم، وإعدادهم لتحمل أعباء العمل، سواء بالاستفادة منهم في شركاتها، أو الاستفادة منهم في شركات أخرى، فالمهم هو استفادة الشباب أنفسهم، ومن ثمَّ استفادة وطنهم.
2- تحويل الشركات العائلية إلى شركات مساهمة عامة، إذا كانت تريد وترغب في الاستمرار - وبقوة - لمواجهة العديد من الصعاب والتحديات غير التقليدية؛ إلى جانب التحديات التقليدية المتمثلة في تفككها لأسباب تتعلق بخلافات الورثة، ويرى الخبراء أن هذا التحول صار حتميّاً في الوقت الراهن؛ لحماية الشركات العائلية الكبرى من الانهيار والتلاشي، وبنظرة إلى أوضاع العديد من الشركات العائلية الكبرى؛ نجد أنها قد أخذت فعليّاً في التحول.
ولهذا التحول - في رأي من ينادون به - العديد من المزايا، منها:
أ – دمج أنشطة وأعمال الشركات العائلية بصورة أوسع وأكبر مع عجلة التطور الاقتصادي المتنامي والسريع في الدول التي تنتمي إليها؛ حيث ستكون هذه الشركات جزءاً من الثروة الاقتصادية الوطنية المقيَّمة بموجب أسس ومعايير السوق، وستسعى هذه الشركات للالتزام بهذه المعايير، بنشر البيانات المالية الصحيحة والواقعية، والتعامل في الأوراق المالية، وخاصةً الأسهم.
ب – إدراج أسهم الشركات بالبورصة، يعني: إيجاد قيمة حقيقية وعادلة يومية لأسهم هذه الشركات، مما يسهل عملية نقل الملكية، سواء من حيث (تسعير الحصص)، أو من حيث (قانونية وإجراءات نقل الملكية) المعمول بها في سوق المال، عند وجود الضرورة لذلك، وهذا سوف يجنِّب الشركات العائلية الكثير من المشاكل والخلافات التي قد تنشأ عن نقل حصص الملكية بين أفراد العائلة.(/11)
ج – تهيئة الشركات العائلية لعصر العولمة وانفتاح السوق؛ حيث قد تواجه تلك الشركات في المستقبل المنظور أو البعيد - وفي ظل هذه التطورات الاقتصادية العالمية السريعة - خيارَ الدمج مع شركات وطنية محلية، أو مع شركاء أجانب، يحققون لها تكاملاً أفضل، ووجودا مميزاً وأقوى في الأسواق التي تعمل فيها. وبالتالي؛ فإن وجود قيمة عادلة لأسعار أسهم هذه الشركات، ووجود شفافية في البيانات الخاصة بأعمالها وأدائها ومركزها المالي الحقيقي، مع توافر السمعة المالية والاقتصادية المرموقة، التي لن تتوفر إلا من خلال إدراجها في سوق المال أو التحول إلى شركة مساهمة عامة، أي: شركة مفتوحة غير مغلقة.
وينادي آخرون بعدم تحول الشركات العائلية إلى شركات مساهمة؛ لأن هذا التحول سيؤدي إلى:
1 – ظهور أعباء مالية جديدة على الشركات العائلية؛ بسبب خضوعها لقوانين ولوائح جديدة – لوائح وقوانين سوق المال – تتطلب دقةً وتفصيلاً أكثر فيما تعرضه الشركة من بيانات ومعلومات مالية من تلك المطبقة على الشركات الخاصة، ويتطلب التحول - أيضاً - الإفصاح الدقيق عن معلومات مالية للشركة العائلية، تبين حقيقة أوضاعها المالية.
2 - على المؤسِّسين المساهمين القبول بفكرة التخلي عن جزء – أو أجزاء - من حقِّهم في ملكية شركتهم عند قبولهم بعملية التحويل من شركة عائلية إلى شركة مساهمة عامة.
3 – تحمل نفقات ومصاريف (دراسة جدوى التحول) إلى شركة مساهمة عامة، وكذلك مصاريف إعداد وإصدار نشرة الإصدار، فضلاً عن مصاريف مكاتب التدقيق والمحاسبة القانونية، ومصاريف التعامل مع البورصة... إلخ.
وأخيراً:
أودُّ أن أضع بين يَدَي المسؤولين عن اتخاذ القرارات في الشركات العائلية عدة أسئلة مهمة وضرورية، أرجو منهم عند الإجابة عليها تحرِّي عوامل الموضوعية والدقة والشفافية؛ فقد تكون هذه الإجابات أحد الوسائل المعينة على استمرارية شركاتهم.
ونوجز أهم هذه الأسئلة في الآتي:(/12)
1- هل مُلاك الشركات العائلية يأخذون بالتخطيط الاستراتيجي بعيد المدى لاستمرارية عملهم العائلي في المستقبل؟
2- هل مُلاك الشركات العائلية – ممن تتركز في أيديهم القرارات - يقومون بأعمال أخرى خاصة بكل منهم، ويعطونها جلَّ وقتهم، مما يوثر بالسلب على تقدم وتطور شركاتهم العائلية؟
3- هل مُلاك الشركات العائلية يختارون المسؤولين عن إدارة هذه الشركات من داخل العائلة تحت ضغط النفوذ أو الملكية الأكبر، ويتجاهلون الكفاءة العلمية والخبرة العملية التي يجب توافرها في هؤلاء المسؤولين؟!
4- ما هي معايير تقييم ومحاسبة المسؤولين عن الإدارة؟ وهل سيحاسب المقصِّر، بغضِّ النظر عن مكانته ونفوذه داخل العائلة؟!
5- هل العاطفة والعصبية تفرضان على ملاك الشركات العائلية توفير فرص عمل لأفراد العائلة، بغضِّ النظر عن مدى صلاحيتهم أو عدم صلاحيتهم لشغل هذه الوظائف؟! وهل سيتساوون في الحقوق والواجبات مع زملائهم في العمل من خارج أفراد العائلة؟!
6- هل يسعى مُلاك الشركات العائلية إلى العمل على تهيئة قيادات جديدة من داخل العائلة - مؤهلة بالشهادات العلمية، والخبرات العلمية، التي تكتسبها من برامج التدريب المتنوعة التي توفرها لهم الشركات – لتحمل القيادة في المستقبل، مما يساعد على تطور ونمو شركاتهم، فضلاً عن استمراريتها؟
7- ما مدى إمكانية توجيه النصح والاقتراحات من قِبَل أفراد العائلة للقائمين على الإدارة؟ وهل ستوضع معايير وقواعد ملزِمة للجميع، تهدف إلى عدم التدخل في شؤون مجلس الإدارة، إلا عن طريق الجمعية العمومية للعائلة أو مجلس العائلة... إلخ؟(/13)
8- هل وضعت اللوائح المنظِّمة لتوزيع الأسهم والأرباح بين أفراد العائلة الذين يملكون أسهماً ويعملون داخل الشركة، وأفراد العائلة الذي يملكون أسهماً ولا يعملون داخل الشركة؟ وهل سيحدَّد في اللوائح رواتب شهرية أو نسب سنوية من الربح للأفراد العاملين داخل الشركة، ثم يقسم الربح المتبقي بالنسب التي تنظمها تلك اللوائح... إلخ؟
9- هل هناك (آلية) واضحة وملزِمة لحلِّ النزاعات بين أفراد العائلة المالكة للشركة؟!
10- هل هناك (آلية) واضحة تنتهجها إدارة الشركة العائلية في حال أراد أحد أفراد العائلة بيع أسهمه في الشركة؟
11- ما مدى استعداد وتقبُّل مُلاك الشركة العائلية للاستعانة بأصحاب الكفاءة العلمية، والخبرة العملية من خارج أفراد العائلة لإدارة شركتهم؟
12- ماذا تقدم الشركات العائلية للمجتمع والوطن الذي تحيا بين جنباته؟
المراجع
1- إحصائيات مجلس الغرف التجارية الصناعية السعودية.
2- جون ورد (Ward, J.L) الشركات العائلية.. الازدهار والانهيار؛ ترجمة: مركز الخبرات المهنية للإدارة (بمبك)، القاهرة، 2004م.
3- Stevenson , H. "Defining corporate strengths and weaknesses". Sloan management review , spring 1976.
4- turtevant, F.D., Ginter, J.L., and Sawyer, A. G. Manager's conservatism and corporate performance .
"Strategic Management Journal, 17-36, 16, 1985.
5- Ward, J.L. "The Imp act of family business ownership on marketing strategy and performance ...Washington, D.C.: American Marketing Association, 1983.(/14)
العنوان: الشغل.. والفراغ
رقم المقالة: 800
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
إخوتي وأخواتي
أبنائي وبناتي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
هناك ناس مساكين يستغرقهم العمل للدنيا آناء الليل وأطراف النهار فلا يجد أحدهم ساعة، بل لا يجد دقيقة يمكن أن يلقى فيها أحدًا..
أو أن يلقى نفسه فيها.. فتراه يقوم من الصباح الباكر مسرعًا إلى العمل.. ويظل في معاناة مستمرة للعمل إلى أن يأتي المساء.. يختلس لحظات من وقته ليطعم لقيمات يقمن صلبه.
وعندما يعود إلى بيته قريبًا من منتصف الليل يلقي نفسه في الفراش هامداً[1]، لا يستطيع أن يتكلم.. أو أن يؤانس أحدًا.. أو أن يقرأ في كتاب، أو أن يقوم بأية قربة إلى الله.. ثم يغطّ في نوم عميق.. وهذا دأبه كل يوم.
ومن الطرائف أن واحدًا ممّن يستهلكهم العمل لقي صديقًا قديمًا عرضًا في الطريق فقال له هذا الصديق: مرحبًا بأخي إني أريد أن أراك، فقد مضى وقت طويل لم نلتق فيه. فقال له صاحبه وهو يحاوره: وأنا كذلك مشتاق إليك وكم ذكرتك وتمنيت أن أجلس إليك.. وإنني منذ حين أبحث عن ساعة في الأربع والعشرين ساعة أكون فيها فارغًا لأسعى إليك.. ولكنني لم أجد، وتمنيت أن لو كان هناك مجال من الزمن خارج الأربع والعشرين ساعة المعروفة إنني يا صاحبي مشغول في الليل وفي النهار.. ثم قطع حديثه ومضى مسرعًا ليقضي ما ينتظره من الشغل.
مسكين هذا الإنسان.. إنه مسكين حقًّا.
متى يحاسب نفسه؟ متى يهذب نفسه؟ متى يثقف نفسه؟ متي يقوِّم نفسه؟ متى يتفكر في ملكوت الله وخلقه ليعتبر ويتذكر؟
متى يجلس مع زوجه يخطّط معها المنهاج السديد لبناء الأسرة؟
متى يربّي أولاده على حبّ الله وحب رسوله وعلى الخير والإسلام؟(/1)
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن روح القدس نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)). رواه ابن ماجه برقم (2144)، وابن حبان "موادر الظمآن" برقم (1084)، والحاكم في "المستدرك" (2/4) وغيرهم.
الرزق مقسوم من الأزل، وقد صحّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((إنَّ أَحَدَكُم يُجمَعُ خلقُهُ في بطنِ أُمِّه أربعينَ يومًا نطفة، ثمَّ يكونُ عَلَقَةً مثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضْغَةً مثلَ ذلك، ثمَّ يُرْسَلُ إليه الْمَلَكُ فينفُخُ فيه الرُّوحَ، ويُؤمَرُ بأربَعِ كلِماتٍ: بِكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌّ أو سَعِيدٌ...)). رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643).
ولا يعني هذا الكلام أن يقعد المرء في بيته وينتظر مجيء الرزق إليه، وقد روي عن أمير المؤمنين الخليفة الثاني العظيم أنه قال: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة".
إنّ عليه أن يسعى بإجمال كما جاء في الحديث قال الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10].
إن عليه أن يبتغي من فضل الله وفق ما شرع؛ ففي ذلك قضاء حق أولاده الصغار، وقضاء حق أبويه الكبيرين إن كانا على قيد الحياة، وفي ذلك الغنى عن الناس.(/2)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه الصلاة والسلام كان يأكل من عمل يده)). رواه البخاري (2072). وقال صلوات الله عليه: ((لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه)). رواه البخاري برقم(1470)، ومسلم برقم (1042).
إن الرزق مقسوم – كما ذكرنا – فعلى المرء أن يطلبه بلطف. أما الانهماك في شؤون الدنيا فإنه لا يزيد في الرزق، فقد ورد أنَّ "من كانت الدنيا همّه، فرَّق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يؤته من الدنيا إلا ما كتب له".
إن المسلم صاحب رسالة يريد أن يؤديها، ومن كان في شغل دائم لا يستطيع أن يفعل شيئًا من ذلك.. إن عليه أن يوازن بين الواجبات والحقوق، فلا ينصرف إلى أمر واحد وينسى الأمور الواجبة الأخرى.
صحيح أن كسب الرزق الحلال واجب ليكفي نفسه ومن يعول، ولكن إلى جانب ذلك واجبات كثيرة: من أداء العبادات المفروضة، ومن صلة الأرحام، ومن تبليغ شرع الله، ومن القيام بحقوق الزوجة والأولاد، ومن رعاية جسمه وأعضائه.
فقد قال سَلمانُ لأبي الدَّرداءِ: ((إنَّ لربِّكَ عليكَ حقًّا، وإن لنفسِكَ عليكَ حقًّا، ولأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأَعْطِ كُلَّ ذي حَقٍّ حقَّهُ)). فأتى أبو الدَّرداء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)). رواه البخاري (1968).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعبد الله بن عمرو: ((صم وأفطر، ونم وقم، فإنَّ لجسدكِ عليكَ حقًّا، وإن لعَينَيكَ عليك حقًّا، وإن لزوجكِ عليكَ حقًّا، وإن لزَورِك عليكَ حقًّا...)). رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159).(/3)
ألا فليراجع كلٌّ منا نفسه، وليضبط تصرفاته بميزان الشرع، ولينظم وقته فإنه يستطيع بالتنظيم أن يوازن بين الأمور كلها. ولنعلم جميعًا أنّ الصحة والفراغ نعمتان من أكبر نعم الله، والسعيد السعيد من يغتنم نعم الله ويسخرها للخير ليزداد قربًا من الله.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اغتنم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرمِك، وصحتِكَ قبلَ سَقمِكَ، وغناكَ قبلَ فقرِكَ، وفراغَكَ قبلَ شُغلِكَ، وحياتَكَ قبلَ موتِكَ)). رواه الحاكم في "المستدرك" (4/306).
والحياة الدنيا دار غرور، وهي إلى الزوال صائرة، والعاقل من يسابق إلى مغفرة الله قبل أن يأتيه الأجل.
يقول الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد 20-21].
والحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــ
[1] همدت النار: إذا ذهب حرّها ولم يبق منه شيء, وهمد الثوب: بلي وينظر إليه الناظر يحسبه صحيحًا فإذا مسّه تناثر من البِلى.(/4)
العنوان: الشمس آية من آيات الله تعالى..
عظمتها ومنافعها ومصيرها
رقم المقالة: 1555
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، خلق كل شيء فقدره تقديرًا، وصرّفه فأحسنه تصريفًا وتدبيرًا، و{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61].
أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره؛ رفع السماء بغير عمد ترونها، وألقى في الأرض رواسِيَها، وذلَّلها للعباد فَمَشَوْا في مناكبها، واستخرج لهم نعمها وأرزاقها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رزق الطيرَ في وُكُناتها، والحوت في مائها، والزواحفَ في جحورها.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ رأى آيات ربه، وتأمل إبداعه في خلقه، فامتلأ قلبه بالله إيمانًا ويقينًا، فكان من أثره أن جهشت نفسه بخشوعها، وفاضت عيناه بدموعها، ونصبت أركانه بركوعها وسجودها لربها وخالقها وباريها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى - أيها المؤمنون - فإن آياته في خلقه عظيمة، وآلاءه على عباده كثيرة، وعقوبته لمن خالف أمره أليمة شديدة {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 -32].
أيها الإخوة: آياتُ الله – تعالى - في خلق الإنسان كثيرة عجيبة، في جسده وروحه، في قلبه وعقله، في حركته وسكونه، وحزنه وسروره، وفي أجزاء جسمه الكثيرة، وتعقيداتها الدقيقة.(/1)
والأرض فيها من الآيات والعجائب ما يعز على العد والحصر، من نباتها وجمادها وحيوانها، في برها وبحرها {وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 20-22].
والأرض ببحارها ومحيطاتها، وأنهارها وجبالها، وسهولها وصحاريها، وما فيها وما عليها من مخلوقات وعجائب لا تساوي ذرة في خلق الله – تعالى - ففي الكون من الأفلاك والمجرات، والأنجم والبروج والمجموعات ما يجعل الأرض - بضخامتها عند البشر - ذرة من الذرات الصغيرة في هذا الكون العامر.
وما لا يعلمه البشر من خلق الله – تعالى - أكثر وأعظم، فيالله ما أعظم خلقه! وما أدق صنعه!! وما عظمة المخلوق إلا أكبر برهانٍ على عظمة الخالق - تعالى وتقدس - {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
أيها الإخوة: وهذا حديث عن آية من الآيات العظيمة، سخرها الله – تعالى - لخدمة البشر، وفيها من المنافع لهم ما لا يعلمه إلا الله – تعالى - شرّفها الله – تعالى - فأقسم بها، وعظمها قومٌ من البشر فعبدوها من دون الله تبارك وتعالى!!
كانت هذه الآية موقع المُحاجّة، ومَعقِدَ المفاصلة، وبرهان المناظرة، الذي بهت الكافر فقطع مناظرته، ونصر النبي فأقام حجته.
إنها الشمس التي تشرق كل يوم، فلا أجمل من شروقها، وتغرب فلا أحسن من غروبها، ينفعنا في البرد دفؤها، وتؤذينا في الحر أشعتها، وما هي إلا جزء يسير من خلق الله - تعالى - {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33].(/2)
ولضخامتها[1] وعجيب ضوئها وما فيها من آيات استعظمها أقوام فعبدوها من دون الله – تعالى - كما قال الهدهدُ لسليمان - عليه الصلاة والسلام -: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 23-24].
وأخبر الله – تعالى - أنها من جملة آياته الكونية المخلوقة؛ فالحق أن يعبد خالقُها من دونها {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصِّلت: 37].
إنَّ حركة الشمس وضوءها، وإشعاعها ودفأها، وانتظامها في سيرها، وضخامة حجمها كان ولايزال - عند البشر - مثار الدهشة، وموضع الانبهار. وما عَبَدَها مَن عَبَدَها إلا من هذا القبيل، وكانت ولاتزال حجَّةً داحضةً، وآيةً ظاهرة على عظمة خالقها جل وعلا.
أنهى إبراهيم - عليه السلام - بذكرها فصول المناظرة، وقطع حجج المخاصمة، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ}. [الأنعام: 78-79][2].(/3)
وكثير من الكفَّار يعلمون أنَّ الشَّمس من خلق الله – تعالى - وما منعهم من عبادته إلا الكبر والعناد {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [العنكبوت: 61].
والشمس لم تتكبر على خالقها، كما تكبر بعض البشر على الرغم من عظمتها وضخامتها؛ فهي تسبح الله – تعالى - {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وتسجد له – سبحانه -: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]، وثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب))؟ قال: قلت: "الله ورسوله أعلم". قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويُوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلعُ من مغربها، فذلك قوله – تعالى -: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} [يس: 38]))[3].
ومن عجيب شأنها أنها لا تكاد تغرب على جزء من الأرض إلا وتشرق على جزءٍ آخر، ففي كل لحظة لها مشرق ومغرب؛ ولذلك أخبر الله – تعالى - أن لها مشارق ومغارب متعددة {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج: 40-41].(/4)
وعلى الرغم من عظمتها، وضخامة حجمها فإن الله – تعالى - جعلها مسخرة لخدمة هذا الإنسان الضعيف، الذي أولاه الله كل هذا التكريم {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل: 12] {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 33-34].
وهذا التسخير من الله – تعالى - جعل فيها من الفوائد والمنافع ما لا يعد ولا يحصى، فالوقت إنما ضُبِط على ضوء حركتها، فغروبها ليل، وشروقها نهار. وأوقات الصلوات عرفت بالظل وهي سببه {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان: 45].
تضيء النهار، وتبددُ الظلام، وتستيقظ على شروقها الأحياء في الأرض، من إنسان وطير وحيوان؛ فتسعى في رزقها، وتكتسبُ قوتها، وتعمُّ الحركة أرجاء الأرض على ضوئها ونورها. فإذا غربت خيم الظلام، وعم السبات، وخلدت الأحياء إلى الراحة استعدادًا ليوم جديد.(/5)
أرأيتم لو أنها أمسكت عن المغيب فلم تغب، كيف يرتاح الأحياء على الأرض؟! وكيف ينامون؟ ولو أمسكت عن الشروق فلم تشرق، كيف يعملون ويكتسبون؟ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 72- 73].
ولولا خلقُ الله – تعالى – الشمسَ، وتسخيرُها لنفع الأرض لما انتظمت الحياة فيها على هذا النظام البديع، فمن جرَّاء الشمس تحدثُ ظواهرُ في الأرض من تبخير المياه، وتحريك الرياح؛ مما يسبب هطول الأمطار وانتفاع الأرض، وبث الحياة فيها.
والحبوبُ والثمار والنبات تنضج بتأثيرها، وتستمد طاقتها من حرارتها، وتنتقل هذه الطاقة إلى الحيوان، ثم إلى الإنسان عبر سلسلة غذائية منتظمة. وتحرق الشمس بحرارتها ما لا يعلم من الفطريات والجراثيم، التي لولاها لانتشرت الأمراض والأوبئة فلا يبقى على الأرض حياة.(/6)
وحرارة الشمس تذكر العبد ضعفه وعجزه فلا يتكبر على عبادة الله وطاعته. خلقها الله – تعالى - وقدرها؛ فجعل مسافتها إلى الأرض تناسب إقامة الحياة على الأرض وعمارتها، فلو كانت أقرب مما هي عليه لأحرقت الأرض ومن عليها، ولو كانت أبعد لتجمدت الأرض ومن عليها[4]. ويظهر ذلك جليًّا للإنسان في شدة البرد وشدة الحر مع عدم خروج الشمس من فلكها، أو تخلخلها عن مدارها، فالله – تعالى - خلقها وقدر بعدها وقربها بما يجعلها مسخرة لخدمة أهل الأرض {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38- 40].
نعم والله إنه تقدير العزيز العليم الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]. بارك الله لكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].(/7)
أيها المؤمنون: للشمس وما يحدث منها من ظواهر ارتباط وثيق بيوم القيامة، فلأنها علامةٌ في الكون ظاهرة يراها كل البشر، كان اختلافُها واختلالُها عن نظامها علامةً على إيصاد باب التوبة، وآيةً على قيام الساعة، وذلك بطلوع الشمس من مغربها، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))؛ أخرجه أبو داود[5].
وفي عرصات القيامة للشمس دور كبير في ذلك اليوم؛ إذ تدنو من رؤوس الخلائق فيتأذون ويطلبون سرعة القضاء، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل؛ فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقْوَيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا))، "وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى فيه"؛ أخرجه مسلم[6]، وعنده في حديث آخر قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعًا، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس وآذانهم))[7]. ولا تستشكل - أيها المسلم - عدم إحراقها للناس في القيامة، وهي بهذا القرب مع أنها لو دنت من الأرض قليلاً لصهرتها وأحرقتها؛ لأن أحوال القيامة تختلف عن أحوال الدنيا فلا تقاس بها، ولو صحَّ أن تقاس بها لكان الموتُ أسرعَ من عرقِ الناس إلى آذانهم وأفواههم.(/8)
وأما مصير الشمس بعد انتهاء العالم، وانقضاء الدنيا، فإنها تُكَوَّر وتصاحب القمر إلى نار جهنم، كما أخبر الله عن تكويرها في القرآن، وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الشمس والقمر مُكوَّران يوم القيامة))[8]، وفي رواية للطحاوي والبزار: ((الشمس والقمر ثوران يكوران في النار يوم القيامة))، فقال الحسن: "وما ذنبهما؟" فقال أبو سلمة: "أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: وما ذنبهما"؟![9]، وفي حديث أنس عند أبي يعلى أن الحكمة من ذلك ((ليراهما من عبدهما))[10]، قال الخطابي: "ليس المرادُ بكونهما في النار تعذيبهما بذلك؛ ولكنه تبكيتٌ لمن كان يعبدُهما في الدنيا؛ ليعلموا أن عبادتهم لهما كانت باطلاً"[11]، وقيل: "إنهما من النار فأعيدا فيها"[12]، وقال الإسماعيلي: "لا يلزمُ من جعلهما في النار تعذيبهما؛ فإن لله - تعالى في النار - ملائكة وحجارةً وغيرها؛ لتكون لأهل النار عذابًا وآلةً من آلات العذاب، وما شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذبة"[13].
أيها الإخوة: كان تلك أجزاء من أخبار الشمس ومنافعها ومصيرها، تلك الشمس التي يهرب الناسُ من شدَّة حرها في الصيف، فهلا تذكَّرُوا حرارتها في الموقف حين تستخرج العرق من أجساد العباد، فتسيله في الأرض حتى يبلغ الآذان والأفواه! وهلا تذكَّروا ما هو أعظم من ذلك: حرارة جهنم، التي لا تقضي عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ} [النساء: 56].
إن حرَّ الدنيا يذكِّرُ بحرِّ الآخرة، وإن لهب الشمس اللافح يذكر بلهبها في عرصات القيامة، ولن ينجي من حرِّ ذلك اليوم سفرٌ ولا سياحة، ولن يُطفئ لهبَه تبريدٌ ولا ماء.(/9)
نعم! إنه لن ينجيَ من حرِّ ذلك اليوم، ولهبِ شمسه، ثم زفرة ناره إلا الإيمان والعملُ الصالح، والأخذ بالأسباب التي تجعلُ العبد في ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظلُه. وويل لمن كان في الدنيا منَعَّمًا. وفي الآخرة معذبًا، فاتقوا الله وأطيعوه، واحذروا الأسباب الموجبة للنار وشدة الحساب، فالسعيد من نجا في الآخرة. ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله...
---
[1] قد بينت الدراسات الفلكية الحديثة هذه الضخامة للشمس؛ فذكرت أن قطرها يبلغ نحو (865380) ميلاً بينما قطر الأرض (7913) ميلاً فهي أكبر من الأرض بنحو مليون وثلاثمائة ألف مرة، وكتلتها تعادل (333000) مرة كتلة الأرض، وتعادل جاذبيتها ضعف جاذبية الأرض ثمان وعشرين مرة، وتبعد عن الأرض نحوًا من (150) مليون كم، انظر: "القرآن وعلوم العصر الحديث" لإبراهيم فوزي، و"ظواهر كونية في القرآن" لمحمد فيض الله الحامدي.
ويذكر الفلكيون الغربيون أن الأرض كوكب صغير من تسعة كواكب تدور حول الشمس في مجموعتنا الشمسية، وشمسنا التي هي مركز مجموعتنا الشمسية، ليست إلا نجمًا من أربعمائة مليار نجم في مجرتنا، التي تسمى بالطريق اللبني أو درب التبانة، وتبعد عن مركزها الذي تدور حوله مسافة ثلاثين ألف سنة ضوئية. ومجرتنا ليست إلا واحدة من مائة مليار مجرة في هذا الكون، وكل مجرة من هذه المجرات فيها مائة مليار نجم أو شمس مثل شمسنا وأكبر منها.
ويذكرون أن الشمس تبعد عنا حوالي ثماني دقائق ضوئية، وسرعة الضوء: ثلاثمائة ألف كم في الثانية، وعليه فإن الدقيقة الضوئية ثمانية عشر مليون كم، وأقرب نجم إلينا بعد الشمس يبعد أربع سنوات ضوئية أي: تسعة ترليونات وأربعمائة وستين مليارًا وثمانمائة كم، إلى غير ذلك من الأرقام الهائلة.
وقد وقف الباحثون المسلمون من هذه الأرقام ونحوها ثلاثة مواقف:(/10)
الموقف الأول: من قبلها مطلقًا، وآمن بصحتها وجعلها دليلاً على عظمة الخالق - سبحانه وتعالى - لأن عظمة المخلوق دليل على عظمة الخالق - تبارك وتعالى - وحجتهم: أن علوم العصر الحديث، والتطور الهائل في المناظير والمراصد الفلكية، وصعود المركبات الفضائية وتحليقها في الفضاء، وتصويرها لهذه المجرات والأفلاك يؤكد حقيقة ذلك، وليس هناك مانع لا عقلي ولا شرعي يمنع من قبول ذلك.
ويستدل أصحاب هذا الاتجاه ببعض الآيات الدالة على عظمة الكون، وبعضهم حاول الاستدلال لكل نظرية كونية حديثة بآيات من القرآن! وفي كثير من استدلالاتهم تكلف ظاهر، وليٌّ لأعناق النصوص. ويستدلون أيضًا بأنَّ كثيرًا من المسلمين درسوا علوم الفلك، وبرعوا في ذلك، وهم يثبتون هذه المعلومات الفلكية، فليست مقصورة على إخبار أهل الكتاب بها؛ حتى تتطرق إليها الشكوك. ثم إن إجماع الفلكيين من مسلمين وغير مسلمين يدل على حقيقتها؛ إذ يستحيل تواطؤهم على الكذب.
الموقف الثاني: التوقف فيها فلا نصدّقها ولا نكذبها؛ لأنها من أخبار أهل الكتاب، وليس في شرعنا ما يؤيدها أو يعارضها؛ ولكن يشكل على هذا الموقف أن التوقف هو في أخبار أهل الكتاب الماضية، التي ليس لها ذكر في شرعنا، أما الأمور الحاضرة فيمكن معرفتها والقطع بصدقهم أو كذبهم فيها.
الموقف الثالث: رفضها وعدم قبولها وتكذيب الغربيين فيها لما يلي:(/11)
1- أن هذه الأرقام مبنية على نظريات إلحادية تجعل الكون فضاء لا نهاية له وتؤدي إلى إنكار الخالق - سبحانه وتعالى - قال الشيخ عبدالكريم بن صالح الحميد: "الفضاء محدود وله نهاية، وسعته مقدرة؛ فقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فذكر أن بين السماء والأرض مسيرة خمسمئة عام، يعني سماء الدنيا الذي هو سقف الأرض، وذلك بتقدير سير الإبل. وهذه المسافة تمكن معرفتها باصطلاح أهل الزمان؛ حيث يقيسون المسافات بالكيلومترات إذا عُلِم كم تسير الإبل باليوم من كيلومتر. وقد قدرت ذلك فوجدت مسافة ما بين السماء والأرض تقارب تسعة ملايين كم فقط، وهو الفضاء كله من كل جانب من الأرض، فأين هذا من خيال الملاحدة وفضائهم الذي لا نهاية له؟!" اهـ. انظر رسالته: "هداية الحيران في مسألة الدوران" (ص60).
2- أن هذه الأرقام الفلكية معارضة لنصوص من السنة، منها حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء الثالثة والتي تليها وبين الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله - عز وجل - فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه))؛ أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" برقم (279) والدارمي في "الرد على الجهمية" (ص21)، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص105)، والطبراني في الكبير (9/228) برقم (8987) والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص507) وقال الهيثمي في الزوائد: رجاله رجال الصحيح (1/86)، قلت: وقد جاء مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أصح، وله حكم الرفع، إذ ليس للرأي فيه مجال.(/12)
وقد ذكر الشيخ عبدالكريم الحميد في رسالته السابق ذكرها (ص64): أن المسافة بين الأرض وسطح السماء السابعة حوالي (126 مليون كم) باعتبار أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، وسمك كل سماء كذلك، والمسافة بين السماوات كذلك، وهذا كله أقل مما يقدرونه بين الأرض والشمس بحوالي 24 مليون كم. هذا الفرق في مجموعة واحدة فكيف بملايين الملايين التي تتكون فيها المجرات المزعومة، التي بينها مسافات هائلة؟! اهـ. والله أعلم بالصواب.
[2] آية البقرة جاءت في ذكر محاجَّة إبراهيم - عليه السلام - للذي كفر وهذا ظاهر. وأما آية الأنعام فاختلف المفسرون في مقامها؛ هل كان مقام نظر أم مناظرة؟ فنقل عن ابن عباس أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير. وقال آخرون: إنه مقام مناظرة، وإن إبراهيم كان يناظر قومه، وهو الأظهر، ورجحه ابن كثير بأدلة كثيرة منها: أدلة الخلق على الفطرة، وأن القرآن أخبر أن إبراهيم قد أوتي رشده، وبالسياق حيث جاء بعد ذلك قوله – تعالى -: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي الله وَقَدْ هَدَانِ} {الأنعام: 80} انظر: "جامع البيان" (7/247) وتفسير ابن كثير (2/242) عند تفسير الآية (78) من سورة الأنعام.
[3] أخرجه البخاري في بدء الخلق باب صفة الشمس والقمر (3199) وفي التفسير باب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} [يس: 38] (3802-4803) وفي التوحيد باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} [هود: 7] (7424)، وباب قول الله – تعالى - {تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. (7433) ومسلم في الإيمان باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (159) والترمذي في التفسير باب ومن سورة يس (3225).(/13)
وقد أشكل هذا الحديث على بعض العلماء؛ ولذلك قال ابن العربي: "أنكر قوم سجودها وهو صحيح ممكن، وتأوله قوم على ما هو عليه من التسخير الدائم" اهـ. وقال الخطابي: "قال أهل التفسير وأصحاب المعاني: فيه قولان؛ قال بعضهم: معناه أن الشمس تجري لمستقر لها أي لأجْلِ أجَلٍ أُجِّل لها وقَدَرٍ قُدِّر لها، يعني: انقطاع مدة بقاء العالم، وقال بعضهم: مستقرها: غاية ما تنتهي إليه في صعودها وارتفاعها لأطول يوم في الصيف، ثم تأخذ في النزول حتى تنتهي إلى أقصى مشارق الشتاء لأقصر يوم في السنة". اهـ وقد نقل هذين المعنيين ابن جرير وابن كثير، وقال الحافظ ابن حجر: "ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من الملائكة، أو تسجد بصورة الحال فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد والخضوع في ذلك" اهـ. وقد أحسن الخطابي - رحمه الله - إذ يقول في سجودها: "فلا ينكر أن يكون ذلك عند محاذاتها العرش في مسيرها، والخبر عن سجود الشمس والقمر لله – عز وجل - قد جاء في الكتاب... إلى أن قال: وليس في هذا إلا التصديق والتسليم، وليس في سجودها لربها تحت العرش ما يعوقها عن الدأب في سيرها والتصرف لما سخرت له" اهـ. وللمزيد: انظر: "أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري" للإمام الخطابي - رحمه الله تعالى - (3/1892 - 1894) الحديثان (940 - 941) و"جامع البيان" للطبري (23/5) و"زاد المسير" لابن الجوزي (7/17) وتفسير ابن كثير - رحمهم الله أجمعين - (3/910) عند تفسير الآية (38) من سورة يس، و"فتح الباري" للحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - (8/402) ومجلة المنار لرشيد رضا - رحمه الله تعالى - (32/773-791) وحاشية الأرناؤوط على "جامع الأصول" لابن الأثير (2/333).(/14)
[4] يذكر علماء الفلك أن للشمس نواة من الهليوم درجة حرارتها تتجاوز (25) مليون درجة مئوية، تحيط بها منطقة إشعاع درجة حرارتها (15) مليون درجة مئوية ودرجة حرارة سطح الشمس (10) ملايين درجة مئوية تقريبًا، وما يصل الأرض من أشعتها هو واحد من مليار فقط (1/1000000000) هكذا ذكر علماء الفلك وهي ـ والله أعلم ـ أرقام تقريبية وبعضها مبني على أسس علمية، وبعضها مجرد تخمينات، والله أعلم وانظر في ذلك: "القرآن وعلوم العصر الحديث" لإبراهيم فوزي، و"مع الله في السماء" لأحمد زكي، و"ظواهر كونيه في القرآن" للحامدي.
[5] أخرجه أحمد (1/192) وأبو داود في الجهاد باب في الهجرة هل انقطعت (2479) والدارمي في السير باب الهجرة لا تنقطع (2513) والطبراني في الكبير (19/387) قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات (5/251) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2166).
[6] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب في صفة يوم القيامة (2864) والترمذي في صفة القيامة باب (3) برقم (2423).
[7] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب صفة يوم القيامة (2863).
[8] أخرجه البخاري في بدء الخلق باب صفة الشمس والقمر (3200) والبغوي في شرح السنة (4307).
[9] أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (1/170) برقم (183) وعزاه الحافظ في الفتح للبزار (6/346) وعزاه الألباني في السلسلة الصحيحة للبيهقي في البعث والنشور وللبزار والإسماعيلي والخطابي (1/192) وقد صححه الألباني في الصحيحه وقال: على شرط البخاري (124) وانظر: "المطالب العالية" (1558).
[10] عزاه الحافظ في الفتح لأبي يعلى، ولم أجده في مسنده ولا في كتب الزوائد، والموجود في مسند أبي يعلى حديث أنس بلفظ ((الشمس والقمر ثوران عقيران في النار)) (7/4116)، وأما تلك الرواية فلم أعثر عليها، وذكر الألباني في السلسلة الصحيحة أنه أيضًا لم يرها في مسنده (1/194) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/346).(/15)
[11] ورجحه الألباني وقال: هو الأقرب إلى لفظ الحديث، انظر: السلسلة الصحيحة (1/194) و"فتح الباري" (6/346).
[12] فتح الباري (6/346).
[13] فتح الباري (6/346).
لمزيد من المعلومات عن عجائب الشمس وفوائدها انظر الكتب التالية:
1- "القرآن وعلوم العصر الحديث" لإبراهيم فوزي عراجي.
2- "مع الله في السماء" للدكتور أحمد زكي.
3- "ظواهر كونية في القرآن" لمحمد فيض الله الحامدي.
4- "القرآن إعجاز يتعاظم" لشاكر عبدالجبار.
5- "الكون والتكوين في آيات الكتاب المبين" لمحمد محمود عبدالله.
6-"من الإعجاز العلمي في القرآن في ضوء الدراسات الجغرافية الفلكية والطبيعية" لحسن أبو العينين.
7- مجلة المنار لرشيد رضا - رحمه الله تعالى - (32/773).
8- مجلة كنوز الفرقان عدد (7-8) شعبان ورمضان عام 1369هـ صفحة (23).
9- مجلة الفكر الإسلامي عدد (10) صفر 1407هـ صفحة (30).
10- مجلة الرسالة الإسلامية عدد (8) رجب 1394هـ صفحة (26).
11- مجلة الهداية عدد (174) شعبان1412هـ صفحة (25).
12- مجلة الأزهر عدد (8-9) شوال وذي القعدة 1384هـ صفحة (960).
13- المجلة العربية عدد (109) صفر 1407هـ صفحة (14) وعدد (110) ربيع الأول 1407هـ صفحة (14).
14- مجلة العربي عدد (5) رمضان 1378هـ صفحة (71).(/16)
العنوان: الشيخ ابن عثيمين
رقم المقالة: 1402
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخِيرَة، سبحان الله وتعالى عمَّا يشركون، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ لمَّا حَضَرَته الوفاة؛ كان بين يديه رِكْوَةٌ أو عُلْبَةٌ فيها ماءٌ، فجعل يُدخِلُ يديه في الماء، فيمسحُ بهما وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إنَّ للموت سكراتٌ))[1]، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فقد نزلت النوازلُ بالمسلمين، وعَظُمَتْ مصائبهم، وكَثُرَتْ أحزانهم، وأحاطَتْ بهم الفتنُ من جميع جوانبهم. تناقص علماؤهم، وكَثُرَ فسَّاقهم، وتمكَّن منهم أعداؤهم، وأطلع المنافقون قرونهم، وأظهروا شرورهم، ونشروا السُّوء بينهم.
فِتَنٌ جعلت الحليم حيران، لا يتصدَّى لها، ولا يكشفُ الحقَّ فيها إلا علماءُ ربَّانيون، يبيعون الدنيا بالآخِرة، ولا يبيعون العلم بالدُّنيا، كم بيَّنوا من حقٍّ التبس بباطل! وكم وقفوا في وجه مفسدٍ ومنافقٍ! كم أخمدوا من فتنةٍ عمياءَ! وجمعوا الناس على كلمة سواء!
علماء ربَّانيون، السلطانُ يطيعهم، والمنافقُ يخشاهم، والناس يتبعونهم، هم الثباتُ للدين، والحافظ للأمن بعد حفظ الله تعالى وتثبيته وتوفيقه.(/1)
ولا خير في أمَّةٍ ليس فيها من يُهاب في الدِّين، ومصداق ذلك ما قاله الصحابيُّ الجليلُ عبدالله بن بُسْرٍ - رضيَ الله عنه -: "لقد سمعت حديثًا منذ زمانٍ: إذا كنت في قومٍ - عشرين رجلاً، أو أقلَّ، أو أكثرَ - فتصفَّحت وجوَهَهم؛ فلم تَرَ فيهم رجلاً يُهاب في الله عزَّ وجلَّ؛ فاعلم أن الأمر قد رَقَّ"؛ رواه الإمام أحمد بسندٍ حَسَنٍ[2].
وقد بدأ الأمر يرقُّ في الآوِنَة الآخيرة، بموت العلماء الربَّانيين؛ فقد ودَّعتِ الأمَّةُ كوكبةً من الفقهاء والمحدِّثين، على رأسهم شيخ المجتهدين في عصره: أبو عبدالله بن باز، رحمه الله تعالى، ورأسُ المحدِّثين في زمنه: محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله تعالى، ثم هي الآن تحتسب على الله تعالى الإمام الفقيه المجتهِد: أبا عبدالله بن عثيمين، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، وأسكنه الفردوسَ الأعلى من الجنة، وأحسن الله عزاء المسلمين، وجَبَر مصابهم فيه.
عاش - رحمه الله تعالى - أربعًا وسبعين سنة، قضى جُلَّها في العلم والعبادة، والدَّعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
دَرَس ودرَّس، وتعلَّم فعلَّم، وفقَّه في الدين وأفتى وألَّف، حقَّق كثيرًا من المسائل، وحلَّ جمعًا من المعضِلات والنَّوازل.
اشتهر ذكره بين الناس، وعلا صِيته في الآفاق، كم من مستفتٍ انتفع بفتاويه! وكم من طالب علمٍ اهتدى إلى الحقِّ باختياراته وترجيحاته وتعليلاته!! وما نال هذا العلم الغزير إلا بجدٍّ في الطلب، وجَثْوٍ في مجالس العلم على الرُّكَب، وإدامةٍ للنَّظر في الكتب.
تأثر بشيخه ابن باز - رحمهما الله تعالى - في العناية بالسُّنة، والاهتمام بالحديث، وفَتْحِ أبوابه للسائلين، وبَسْطِ نفسه للمحتاجين؛ فأخذ عن شيخه العلم والحديث، كما أخذ عنه كريم الخُلُقِ وسَعَة الأفُق، فما كان - رحمه الله تعالى - يضيق بالناس؛ بل اتَّسع صدره لكلِّ ذي حاجةٍ.(/2)
لقد تميَّز - رحمه الله تعالى - بعلمٍ واسعٍ، وفقهٍ ثاقبٍ؛ فهو بحرٌ لم تكدره الدِّلاء، وكان ذا تَنَسُّكٍ وعبادة، وورعٍ وزهادة.
وورعه - رحمه الله - مشهورٌ بين الناس: يحاسب نفسه على القليل من المال، ويتحرَّى الكسب الحلال، ولو شاء - رحمه الله تعالى - لملك الكثير من الأموال كما فعل غيره؛ فقد أقبلتِ الدنيا عليه، وطلبته المناصبُ العالية؛ لكنَّه أعرض عنها، وحافظ على نفسه من فتنتها، وكلُّ الناس قد أجمعوا على اشتهاره بالورع والتوقِّي، ويكفي دليلاً على ذلك أنه هرب من القضاء، وخلَّص نفسه منه.
بدأ التَّأليف منذ أربعين سنة، وصنَّف عشرات الكتب والرَّسائل، وأملى كثيرًا منَ الدروس والمسائل، وقد اشتهرت مؤلفاته بوضوح العبارة، وحسن الترتيب، وقوة الحُجَّة، واستفاد من مؤلفاته واختياراته كبار العلماءِ، كما درَّسها وتعلَّمها أصاغر الطُّلاب.
وقد جعل الله تعالى لكتبه وفتاويه قبولاً بين علماء المسلمين وعامَّتهم، وتلك علامةُ خيرٍ ودليل قَبولٍ - إن شاء الله تعالى - فإن الله تعالى إذا أحبَّ عبدًا بَسَطَ له القَبول في الأرض، وسخَّر قلوب العباد لمحبَّته.
وهكذا نحسب الشيخ - رحمه الله تعالى - ونظن أنه من المقبولين، ولا نزكِّي على الله أحدًا؛ فكم فُجِع الناس لما تسامعوا بمرضه، ودعوا له بظهر الغيب، وتزاحموا على زيارته، وأكثروا السُّؤال عنه، وما كانوا يرجون منه مالاً ولا جاهًا، ولا يخافون منه سطوةً أو انتقامًا؛ ولكنها المحبة التي داخلت قلوبهم من غير اختيار منهم، وإلا لما فُجعوا به، وحزنوا عليه وبكوه، وقلوب العباد بيد الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء.(/3)
إن شيخنا الذي ودَّعنا إلى الدار الآخِرة لم يَنَلْ ما نال من منزلةٍ عند الناس بمالٍ اشترى به محبَّتهم؛ فما كان - رحمه الله - يملك الكثير من المال، وقد ملك غيرهُ الأموال الطَّائلة، وفرَّقوها على الناس، وما نالوا عشرَ مِعشار محبَّة الناس له، ولا حصل على تلك الرِّفعة بمنصبٍ كان الناسُ يرجون من ورائه نفعًا، وقد تبوَّأ غيره عاليَ المناصب، وما حصَّلوا ما حصَّل من رفعةٍ.
لم يكن شيخُنا الرَّاحلُ شخصيَّةً صنعها لنا إعلامٌ كاذبٌ، أو أظهرتها لنا صحافةٌ صفراء أو خضراء عوَّدتنا على الكذب والتزوير، ورفع أسافل الناس والمنحطِّين من ممثِّلين ومغنِّين وراقصات. كلا؛ بل إن شيخنا - رحمه الله تعالى - أكرمُ وأجلُّ من ذلك، ويستحقُّ ما صَرَفه الناس له من محبَّةٍ وزيادة، وهو جديرٌ بما قيل فيه، وأُثنيَ به عليه، ولا يفيه المسلمون حقَّه مهما قالوا فيه؛ إذ هو إمامٌ كانوا يأتمُّون به في العلم، وفقيهٌ كانوا يلجؤون إليه في السؤال عن أمور دينهم.
وإذا كان للأطباء حقٌّ في أن يُحترموا ويُوقروا؛ لأنَّ الناسَ يحتاجونَ إليهم في أبدانهم، ويستشيرونهم في أمراضهم، فمن الآكَدِ والأوْلى أن يوقَّر شيخنا وإخوانه من العلماء؛ لأنهم أصلحوا قلوبنا بمواعظهم ودروسهم وفتاويهم، وهدونا إلى الصراط المستقيم بالدَّلالة على طريق الجنة، المذكورة في الكتاب والسنة، وحفظونا - بعد حفظ الله تعالى - من الانحراف عن الإسلام ببيان حقيقته، وبيان ما يناقضه ويخالفه من أقوال وأعمال واعتقادات؛ وهذه هي مهمةُ الأنبياء عليهم السلام؛ كما قال الله تعالى مخاطبًا رسوله محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشُّورى: 52].(/4)
والعلماء ورثة الأنبياء، ورثوا الهدى الذي أُنزل عليهم، وورثوا تبليغ هذا الهدى للناس كما كان الأنبياء يفعلون؛ فحقٌّ على الأمَّة تبجيلهم وتوقيرهم، ورفع مكانتهم، والدُّعاء لهم؛ فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلَى أن يغفر لشيخنا، وأن يرفع ذِكره في الملأ الأعلى، وأن يُسْكِنَه الفردوس الأعلى من الجنة، إنه سميعٌ مجيبٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ} [الرعد: 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - واحذروا الفتن؛ فإن العلمَ يُرفع بموت العلماء، وحينئذٍ يَكْثُرُ الجهل، ويترأَّس الجهَّال الذين ليس عندهم علمٌ ولا حكمةٌ، ومن ثَمَّ تشتعلُ الفتن، نسأل الله العافية.
إن للناس حقًّا في أن يحزنوا على موت العلماء الربَّانيين، وأن يبكوا لفراقهم، وهم في هذا الزمن في تناقصٍ، وبتناقصهم يَكْثُر الجهَّال، ويظهر من يعلم ولا ينتفع بعلمه، ولا ينفع به الناس، كما يترأَّس مَنْ لا يعلم؛ فيفسدُ الزمان حينئذ.(/5)
قال ابن مسعود - رضيَ الله عنه -: "سيأتي على الناس زمانٌ تملح فيه عذوبةُ القلوب، فلا ينتفع بالعلم يومئذٍ عالِمُه ولا متعلِّمه؛ فتكون قلوب علمائهم مثل السِّباخ من ذوات المِلْح، ينزل عليها قَطْر السماء، فلا يوجد لها عذوبةٌ، وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حبِّ الدنيا وإيثارها على الآخِرة؛ فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة، ويطفئ مصابيح الهدى من قلوبهم، فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله تعالى بلسانه، والفجور ظاهرٌ في عمله، فما أخصب الألسنَ يومئذ! وما أجدب القلوب! فوالله الذي لا إله إلا هو، ما ذلك إلا لأن المعلِّمين علَّموا لغير الله تعالى، والمتعلِّمين تعلَّموا لغير الله تعالى. أهـ[3].
فالهلاكُ إذًا يكون بكثرة الجهل وترؤُّس الجهَّال، وبظهور مَنْ يريد بعلمه الدنيا، وهذه الظواهر لا تكون إلاَّ إذا ذهب العلماءُ الربَّانيون.
قال هلال بن خبَّاب: "قلتُ لسعيد بن جُبَيْر: ما علامةُ هلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم"[4].
ومرَّ أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - على جماعةٍ يتفقَّهون، فقال: "ألهم رأسٌ؟". قالوا: لا. قال: "إذن لا يفلحون"[5].
وقد فقدت أمَّة الإسلام في السَّنوات الأخيرة عددًا من الرؤوس الكبار في العلم والدَّعوة والعبادة، نسأل الله تعالى أن يَجْبُرَ مُصابَ المسلمين بهم، وأن يعوِّضهم عنهم، وأن يخلِفَ عليهم بخير.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على نبينا محمد، كما أمركم بذلك ربُّكم.
---
[1] جاء ذلك في حديث عائشة - رضيَ الله عنها - عند البخاري في المغازي باب مرض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ووفاته (9444).
[2] أخرجه أحمد (4/881) وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد للطبراني في الكبير وحسنه (1/381)، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (1/151) برقم (571) والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/251) برقم (401).
[3] إحياء علوم الدين (1/46).
[4] سير أعلام النبلاء (4/623).(/6)
[5] تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النظر في كتب الأماجد لأبي إسحاق الحويني (42).(/7)
العنوان: الشيخ الطنطاوي في عرفات
رقم المقالة: 1826
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
قبل أيام، عشنا مع الشيخ علي الطنطاوي -يرحمه الله- في الصحراء التي أحَبَّها كثيراً، في كتابه "مِنْ نفحات الحَرَم"..
واليوم، يحدّثنا الشيخ الأديب مِن عرفات..
عن آثار ذلك المشهد الإيماني العجيب، وعن أهمية ذلك التجمّع الإسلامي المَهيب، قائلاً:
وعرفات، إنها لن ترى عينُ البشر مَشهدًا آخَرَ مثله، هيهاتَ ما في الدنيا ثانٍ لهذا المشهد العَظيم، ولقد يجتمع في المعارض والألعاب الأولمبية، واحتفالات التتويج في بلاد الغرب حُشود من الناس وحشود؛ ولكن شتانَ ما بين الفريقينِ، أولئك جاؤوا للمتعة والفرجة والتجارة، وحملوا معهم دُنْياهم، وقصدوا بَلدًا زاخرًا بأسباب اللذة والتَّسلية، وهؤلاء خَلَّوْا دنياهم وراء ظُهُورهم، ونزعوها عن أجسادهم ومِنْ قلوبهم، وقصدوا بلدًا قَفْرًا مُجْدِبًا، صحراءَ ما فيها ظلٌّ، ولا ماء، لا يريدون إلا وَجْه الله.
مَشهدٌ لو كان يَجوز أن يشهده غير مسلم لاقْتَرَحْتُ أن تجعله هيئة الأمم المتحدة عيدها الأكبر، إذْ هنا أُعْلِنَتْ حقوق الإنسان، لا كما أُعْلِنَتْ في الثورة الفرنسية، ولا كميثاق الأطلنطي الذي كتب على الماء، أعلنت قبل ذلك بأكثر من ألف سنة، وطُبّقَتْ حقيقةً يوم قام سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فأعْلَن الحرية، والمساواة، وحُرْمة الدماء، والمساكن، ووصّى بالنساء، وقَرّر لهن من ذلك اليوم الاستقلال الشخصي والمالي، مع أنَّ أكثر قوانين الأرض المدنية، لا تقر للمتزوجة في أموالها هذا الحق، وكان هذا المشهد في كل سَنة دليلاً قائمًا يَمْلأ عُيون البشر وأسماعهم على أن ما قرَّرَه محمدٌ قد طُبّقَ أكمل التطبيق.(/1)
مشهد يهدم الفروق كلها، فروق الطبقات، وفروق الألوان، وفروق الأجناس، الناس كلهم إخوة لا ميزة لأحد على أحد إلا بالعمل الصالح، وإذا كان اللباس الرسمي في الحفلات والمواقف الرسمية ما تعرفون، فاللباس الرسمي هنا قطعتان من قماش فقط، لا خياطة، ولا أناقة، ولا زخرف، ولا يفترق في هذا المقام أكبرُ مَلِك عن أصغر شَحَّاذ.
إنه مشهد عجيب، إنه أُعْجُوبة الأعاجيب.
عشرات وعشرات من آلاف الخيام، تحتها أقوام من كل بُقْعة في الأرض، لا يجمعهم لون، ولا لسان، ولا بلد؛ ولكنهم لا يقفون ساعة حتى يحسّ كلٌّ أنه أخٌ للآخر، أعزُّ عليه من أخيه لأمه وأبيه، إخوان وحَّدتْهُمُ العقيدة، ووحدتهم القبلة، وربما عادى الأخ أخاه حقيقة إن لم يكن دينه من دينه، ومذهبه من مذهبه؛ لأن أُخُوَّةَ الدين والمذهب أقوى من أخوة النسب.
إنهم يَضِجُّون بكل لغة، يهتفون جميعًا، لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك، دَعَوْتَنَا فجئنا من أقاصي الدنيا، لم تمنعْنا الجبال، ولا القِفار، ولا البحار، ولم يُمسكنا حُبُّ الأهل والولد، دَعَوْتَنَا إلى القرآن لا قراءةً وترنيمًا وتغييبًا؛ بل عملاً وتطبيقًا، فقلنا: لبيك اللهم لبيك، دَعَوْتَنَا إلى العِزَّةِ والوَحْدَةِ والصدق في القول والعمل، فقلنا: لبيك اللهم لبيك، دَعَوْتَنَا إلى الجهاد، جهاد النفس، وجهاد الكافرين فقلنا: لبيك اللهم لبيك.
لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد لك، والملك لا شريك لك.
إن الحج هو الدَّوْرَةُ التدريبية الكبرى، التي تقوي الأجسام والأَرْوَاح، التي تُربِّي الأجساد والقلوب، التي تعد للحق جيشًا جُنده مُتمرِّسُون بالشدائد، حَمّالُون للمَصاعِب، سامُون بأرواحهم إلى حيث لا تستطيع أن تبلغ مداه روحٌ.
إن الحج عَيْشٌ في تاريخ المَجْد في سيرة الرسول، في سماء الإيمان، إنه النهر الذي يغسل أَوْضَار الناس، إنه الرئة التي تُصفِّي الدم، وتَردُّه أحمرَ نظيفًا مملوءًا بالصحة والحياة.(/2)
إنه المؤتمر الإسلامي الأكبر.
أسأل الله أن يكتبه لمن لم يَنعم به منكم، وأن يجعل لي ولمن حج مَعادًا إليه..
وأن يبارك لكم في عيدكم، ويُوَفِّقُكم فيه إلى كل ما يُرْضِيهِ.(/3)
العنوان: الشيخ رائد صلاح "رجل بأمة"
رقم المقالة: 489
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
لا أظنُّ أن أحدًا في وقتنا هذا دافع عن الأقصى والقدس مثلما دافع الشيخ رائد صلاح، فالرجل مذْ عرف الطريق الصحيح جعل همه الأول أولى القبلتين ومسرى النبي الكريم، هو ليس أول من دافع عن الأقصى غير أنه دافع عنه بكل ما أوتي من قوة؛ دافع عنه بلسانه، وقلمه، وجسده، وماله، أصابته الأمراض، وبات في العراء، وحجز في مراكز الشرطة، وقاد المظاهرات، وضُرب، وشُجَّ رأسه، وفرضت عليه الإقامة الجبرية، ومُنع من دخول القدس شهوراً، ودخل السجن مراتٍ عديدةً؛ من أجل الأقصى، والقدس، وفلسطين.
أول ما تعرفت الشيخ رائد صلاح كان عن طريق مقالاته في صحيفة "الصراط المستقيم" وذلك قبل زهاء ربع قرن، والتي أحضر بعضَ أعدادِها أحدُ حجَّاجِ بيتِ اللهِ الحرامِ القادمينَ إلى مكةَ من الأراضي المحتلَّة، فوجدت الصحيفة وكتابها غير ما كنا نعهده في الصِّحافة الفلسطينية، ولا سيما الصادرة في الداخل، بعدها صرت أتابع أخبار الرجل، وأتتبَّع مقالاته وأعماله.
ذات يومٍ قرأت مقابلة معه في مجلة "المجتمع الكويتية" بعد فوزه في انتخابات بلدية أم الفحم عام 1989، وما زلت أذكر رده على السؤال الذي يتكرر في أكثر اللقاءات مع الإسلاميين، وهو خوف الناس من وصول الإسلاميين للمراكز القيادية! فقال: أول اتصال بالتهنئة وصلني من مطران فلسطيني، من أم الفحم، أو من القرى المجاورة لها - لا أتذكر بالضبط - يهنئني من قلبه بالفوز، لما عرفه عن سيرة جيرانه الإسلاميين، بإخلاصهم، وتفانيهم بالعمل من أجل الآخرين، ورويدًا رويدًا صرتُ متعلِّقاً بالرجل أتابع أخباره وتصريحاته.(/1)
لم أنسَ اليوم الثاني من كانون الثاني من عام 1994، يوم كنتُ في مكةَ المكرمةِ منْ أجل أداء العمرة، ومن أجل رؤية شقيقتي وأولادها القادمين مع فوج من عرب 1948، من الناصرة، للغرض نفسه، وكانت هذه الطريقة الوحيدة لرؤية أهلنا هناك، كنا نَسمُر مع أهلنا في أحد الفنادق، يومها قال أحدهم: الشيخ رائد في الفندق الفلاني، قلت : منْ رائد هذا؟ قالوا: الشيخُ رائد صلاح رئيس بلدية أم الفحم، لم أصطبر طلبت منهم أن نزوره في الحال إن أمكن، فما كان منهم إلا أن استجابوا مشكورين، وفي أقل من نصف ساعة كنت ضيفَ الشيخِ، سلمتُ عليه ورد بأحسن من سلامي، وكأنَّه يعرفني من عشرات السنين، هو كما رسمته مخيلتي، شاب متواضع في منتصف العقد الرابع من عمره، كان لقاؤه يدل على كرم أخلاقه، هشَّ وبشَّ، وأهَّل وسهَّل، قام وحضَّر الشاي والضيافة بنفسه، بالرغم من وجود العديد من الشبان ممن يصغرونه سنًّا، إلا أنه أبى إلا أن يخدم ضيوفه بيديه، و تجاذبنا أطراف الحديث ما يقارب الساعة، وتحدث عن فلسطين، وأم الفحم، والصحوة الإسلامية، والانتفاضة المباركة، ولم ينس الأقصى والقدس، وغيرته على المحارم، والمقدسات، يومها زاد إعجابي بالرجل، وتمنيت من الله أن يجعل في أمتنا الآلاف من أمثاله، ودَّعتُه، على أمل اللقاء به في الأقصى، أمنيةً، وتفاؤلاً، أو في مكة المكرمة حقيقة.
طبعاً كلنا نتمنى أن يكون اللقاء في الأقصى بعد تحرير فلسطين إن شاء الله، وما ذلك على الله ببعيد، أما اللقاء في مكةَ فمقدورٌ منذ عدة سنوات عندما سُمحَ لعربِ فلسطينَ المرابطين في الأراضي المحتلَّة بالحج والعمرة، أما أن تقول لضيفك من عرب 1948 : إن شاء الله نلتقي في دمشق فإن ذلك من المستحيل، أو ضرب من الجنون، وتم اللقاء الثاني بدمشق!!(/2)
كان يوماً سعيداً على دمشق يوم استقبلت عشرات الشخصيات القادمة من الأراضي المحتلة، وذلك صيف 1997 بمساع من الوطني المخلص " د. عزمي بشارة "، وفي مخيم اليرموك بالذات احتشدت الجماهير الفلسطينية في جامع فلسطين، لاستقبال وفد عرب الأراضي المحتلة في زيارتهم الأولى لدمشق، لقد سارت الجماهير مع الوفد الفلسطيني إلى مقبرة الشهداء القديمة، حيث أقيم احتفال كبير، أُلقيت فيه الكلمات ترحيباً بالضيوف القادمين بعبق فلسطين، وبعد الاحتفال انقضَّ الأهالي على الزائرين، كل على من يعرف أنه من قريته، أو ممن يمت له بقربى؛ قريبة، أو بعيدة، أو بصداقة، عن طريق الآباء، والأجداد، انقض أهل الشجرة على الشيخ كمال الخطيب، والبدو على من قدم من النقب، ومحبو الشعر والأدب على سميح القاسم، وهكذا كلٌّ يريد أن يحظى بضيف أو أكثر، حاولت الانقضاض على الشيخ رائد صلاح، إلا أنني وجدت أهل أم الفحم قد حازوا المكرمة قبلي.(/3)
اكتملت الفرحة مساءً بلقاء الشيخ رائد عند آل" أبي شقرا" الذين لجؤوا من أم الفحم عام 48 وسكنوا المخيم، أذكر أن سطح منزل الأستاذ محمد امتلأ بمحبي الضيف العزيز، حيث كان الشيخ رائد صلاح يتوسطهم، آسرًا القلوب بأحاديثه الممتعة؛ عن الأقصى والقدس، وأم الفحم، وجامع سيدنا علي بن عليل، وجامع البحر، وجامع حسن باشا، و تدنيس قبر القسام،.. إلخ، ولكن أكثر ما شد الحضور روايته عن أم الفحم، وكيف تحولت لأم النور، قال الشيخ - مما أذكر -: لم تكن نكسة 1967 شريرة على الإطلاق، لقد كان فيها بوادر خير، لا سيما لعرب 1948 إذ خرجوا لأول مرة من السجن المغلق، الذي فرضته الإدارة الإسرائيلية على من تبقى من فلسطينيين، قال : كنا أطفالاً في ساحة القرية، إذ خرج من مسجدها الوحيد - الذي لم يكن يرتاده إلا كبار السن - شيخ مقعد، واتجه إلى ساحة البلدة، حيث كنا نلهو ونلعب، واجتمع الناس حوله، وأخذ يعظهم، ويحثهم على الصلاة، وتقوى الله، فاستجاب بعض الشباب لدعوته، وكرر الزيارة عدة مرات، ولم يكن أحد يعرف أن هذا الشيخ المقعد هو الشيخ أحمد ياسين، لقد كاد عرب 48 أن يضيعوا، وينسلخوا عن محيطهم العربي والإسلامي؛ بانتشار الأفكار اليسارية، بشقيها؛ العربي، واليهودي.
وتشجع الفتى رائد صلاح، وانتظم مع ثلة من أصحابه في المسجد، وتابع مراحل تعليمه ما قبل الجامعي في أم الفحم، وفي عام 1976 سافر للخليل، وفتح الله عليه بإكمال تعليمه الشرعي في مدينة أبي الأنبياء، إذ تخرج في كلية الشريعة، ونال قسطا من التعليم الشرعي، عرف من خلاله قداسة فلسطين، والقدس، والأقصى، والحرية، والجهاد، وبعدها كانت مسيرته الجهادية.(/4)
انتهى اللقاء مع الشيخ الشاب بعد أن أعطى الحضور الفحماويين صورة تفصيلية عن بلدهم، وأخبرهم أن اسمها صار أم النور، بعد أن منَّ الله عليها بالصحوة، وأن مسجد القرية الوحيد صار أربعة عشر مسجداً، يؤمها الشباب أكثر من الشياب، وبشرهم ببناء عشرات المراكز الإسلامية والجمعيات الخيرية، والفرق الرياضية، والمدارس ورياض الأطفال، والمكتبات، والكليات، وغيرها من المراكز الاقتصادية، التي تعمل من أجل من بقي مرابطا في البلاد.
سافر الشيخ إلى بلده، ولم تنقطع اللقاءات معه، فكما كان اللقاء الأول معه عن طريق المجلات والصحف صرت ألقاه عن طريق المحطات الفضائية، ولا سيما إن كانت الأخبار عن مآسي الأقصى، ولم يكن الشيخ يخرج في المحطات، رغبة في الظهور، بل كان يظهر خلال مطاردة جيش الاحتلال للمعتصمين، ومن خلال صور المصابين، والمطاردين في شوارع القدس.
يستحق الشيخ رائد صلاح مسمى شيخ الأقصى، لأن همه الأول والأخير صار المسجد الأقصى، فبعد أن استقال من رئاسة بلدية أم الفحم، وترك لغيره العمل، حمل في قلبه همًّا أكبر من أم الفحم، وبلديتها، حمل الأقصى في قلبه، ووضعه بين جوارحه، فما من مناسبة تحل بالأقصى إلا وتراه جندياً، في الصف الأول مدافعاً بكل ما أوتي من قوة، تحدى قوة الاحتلال فكان عرضة للسجن، والاعتقال، أكثر من مرة، بالرغم أنه عرف مرارة السجن قبل أن يصبح رئيساً للبلدية، فقد سجن في مطلع شبابه عام 1981، بتهمة الانتماء لأسرة الجهاد، ومكث سنين، ثم سجن عام 2003 ليلاً، فقد اقتاده الصهاينة من جنب أبيه الذي كان يُحتضر في المستشفى، ولم يرعوا بذلك إنسانية، ولا شفقة، اقتادوه بتهمة حبه الأقصى، ومكث في السجن سنوات، تعلم خلالها المزيد من حب فلسطين، والأقصى، والناس.(/5)
ففي نظرة سريعة لما قام به من أجل الأقصى نجد أن الرجل لا يكل ولا يمل، إنه أوقف حياته على الأقصى، ففي يومنا هذا والمنظمات تتصارع فيما بينها من أجل متاع السلطة نجده أمام باب المغاربة، مع الجموع الحاشدة، التي جعلت من أجسادها حائطاً بشرياً، من أجل منع الجرَّافات هدم باب المغاربة، وسوره الترابيِّ، وليست هذه المرة الأولى التي يدافع فيها عن مدينة السلام، والحرية، أنه العين الساهرة على الأقصى، فكم من مخطط صهيوني كشفه، وأحبطه، وكم من مسيرة تقدمها بجسده، في القدس وغيرها، وكم من ندوة عقدها، لفضح المخططات الصهيونية، في حفر الأنفاق، فهو أول من كشف المؤامرات الخبيثة في حفر الأنفاق تحت الأقصى، فقد كشف جريمة
الصهاينة بحفر نفق جديد، تحت حرم المسجد الأقصى المبارك عام 1996م، فيومها أيقن أنه لا بد أن يبذل كل ما يملك، من أجل المسجد الأقصى المبارك، ودفع كل خطر قد يتهدده، ومما زاد عنده هذا الإصرار دخوله لأول مرة إلى المصلى المرواني- وهو أحد أبنية المسجد الأقصى المبارك عام 1996م - فوجده يومها وقد كان مَجمعًا للأوساخ، وملتقى لطيور الحمام، التي عشَّشت فيه، وتركت على أرضيته طبقة من أوساخها.. على ضوء ذلك شمر عن سواعد العمل، وبدأ بمشروع إعمار المصلى المرواني، ثم إعمار الأقصى القديم، ثم مواصلة سلسلة الإعمار والإحياء، التي بدأت ولا تزال متواصلة حتى الآن، بفضل الله تعالى.
ومن هنا بدأت الصحوة المقدسية عند الشيخ رائد تتبلور، وبدأ بفكرة إنشاء المؤسسات، والمشاريع، والمهرجانات، خدمة للأقصى.(/6)
ففي عام 1996 أقيم مهرجان "الأقصى في خطر" الأول، ثم تواصل هذا المهرجان كل عام؛ حيث تحول إلى مهرجان عالمي، تحضره الفضائيات العربية والأجنبية، ويحضره عشرات الآلاف، من أهل فلسطين، وفي كل عام يقام ببلد غير البلد الأول، فمرة في الجليل، ومرة في النقب، ومرة في المثلث، وهكذا ولم يكتفِ الشيخ بالمهرجانات، بل أنشأ عدة مؤسسات، ومشاريع، خدمة للأقصى، منها مشروع "صندوق طفل الأقصى"، ومؤسسة "مسلمات من أجل الأقصى" وغيرها، فبالإضافة إلى الجمعيات التي كانت تهتم بشؤون الإغاثة، وكفالة الأيتام، وإعمار الأوقاف، والمقدسات عامةً، والمسجد الأقصى خاصةً، وإحياء الإعلام الإسلامي، والفن والأدب الإسلامي، وبالإضافة إلى كلية الدعوة والعلوم الإسلامية، وعشرات دور القرآن، والمراكز الإسلامية الثقافية، وعشرات الروضات، والمدارس، والعيادات.. بالإضافة إلى كل ذلك فقد بدأ يقيم جمعيات ومؤسسات تهتم بشؤون الأمومة، والطفولة، ودور المرأة، وواقع الأبناء، والشباب، وعالم الرياضة، وشؤون طلاب المدارس، وطلاب الجامعات، والسعي إلى بناء المستشفيات، والمدارس الأهلية، والاقتصاد الأهلي، والشركات الأهلية، وتعميق التواصل مع كل هموم مجتمع فلسطينيي 1948م في الجليل، والمثلث، والنقب، والمدن الساحلية؛ (عكا، وحيفا، ويافا، واللد، والرملة)، وتعميق التواصل مع كل مركبات هذا المجتمع؛ السياسية، والدينية.
وبالرغم من اهتمامه بالشؤون السياسية لم ينس الأدب والشعر، فهو أديب حساس، ذو ذوق رفيع، ملتزم بقضايا أمته، مدافع عن الحق، مندد بالباطل، نذر نفسه من أجل ذلك،
أصدر ديوان شعر " زغاريد السجون" في سجنه، تعرض فيه لمآسي الأمة، وخص بالذكر عشيقته القدس، أكثر من غيرها، ففي قصيدته « من يجيب القدس» يحث على إنقاذ المدينة من ذل الاحتلال، وهنا يبدو شيخنا داعية للثورة صراحة، بقوله:
القدسُ تسألنا أليس لعفَّتي حقٌّ عليكُم؟
أنا في المذَلَّة أرتمي يا حَسرتي ماذا لديكُم؟(/7)
أنا في المهانة غارقةْ حتى متى أَسَفي عليكُم؟
ومتى تثورُ زحوفُكُم وتُجيبُني جئنا إليكُم؟
يا عاركم من ذي التي عن نصرتي شلَّت يديكم
بدأ الشيخ زحفه حول الأقصى، مع أصحابه، لقد ضربوه، واعتقلوه، وبعد يوم أفرجوا عنه، لم يذهب لأم الفحم، ليستقبل المهنئين، منتشيا النصر المزيف، عاد إلى الأقصى يتابع مسيرته التي نذر نفسه من أجلها، وجهاده الذي لم ينقطع، وأخيرًا أصدرت قوات الاحتلال قراراً بمنعه من دخول القدس، لكنه لم ينفذ قرارهم الجائر، فهاهو الآن مرابط في شوارع القدس، وأزقتها تحت المطر، يندد ويستغيث، ويحرض ويدافع ويتصدى، فلو سار جُلُّ مشايخنا وعلمائنا سيرته لما تجرَّأ الصهاينة على تدنيسه، ولو خلت فلسطين من الشيخ وأمثاله، فلربما انتصب الهيكل مكان الأقصى!!(/8)
العنوان: الشيخ صالح الفرفور.. العالم العامل
رقم المقالة: 1868
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
إذا أردت أن تنظر إلى العِلم يكسوه إهابٌ من عَمَل، وإلى القول يتحول إلى جدٍّ وفعل، وإلى الحرف يغدو قصيدة من شعر، وإلى البيان يحول سحراً على اللسان، فانظر إلى شيخنا العلامة محمد صالح الفرفور رحمه الله وأعلى في الجنان مقامه.
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مَذِق الحديث يقولُ ما لا يفعلُ
ذلك الشيخ الجليل الذي بنى للعلم دولة، وأسس للخلق والتربية أمّة، ونفث في الأمة روح الدعوة، وربّى أجيالاً من طلاب العلم أصبحوا منارات يهتدي بها، وعلامات يعّول عليها، وجَذَوات يقبس منها.
فكان بحق مثلاً حياً لكل من عاهد فوفى، وعمل فعمل، وجاهد فصدق.
ولعله والله حسيبه من النخبة الخيّرة التي وصفها جل وعلا بقوله في محكم كتابه:
{مِنَ المؤمنينَ رِجالٌ صَدقوا ما عاهدُوا اللهَ عليهِ فمِنْهم مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومنهمْ مَن ينتظرُ وما بدّلوا تبدِيلاً}.
عاش ما عاش للعلم، وطلب العلم، ونشر العلم، و بناء صروح العلم، حتى استبدَّ العلم بكل اهتماماته، وغلب على جميع أمره، فما تكاد تراه إلا في مجلس علم حتى لو كان في بيته وبين ذويه وأهليه .
تفجّر العلم من عليا شمائله كما يسُحُّ بوسط الروض سلسالُ(/1)
ما أعلم رجلاً من رجالات الأمة فيما أدركت من زمن أخذ أهله بالعلم أخذاً حازماً لا يلين كما أخذ الشيخ صالح أهله وبيته، بل حتى بناته، لم يغادر منهم أحداً إلا صنعَه على عينه عالماً متضلعاً من علوم الشرع والأدب والعربية، وخطيباً مصقعاً لا تخبو له كلمة، ولا تلين له قناة، ومربياً داعيةً لا تأخذه في الله لومة لائم، بدءاً بأكبرهم أستاذنا وشيخنا الشيخ الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور ثم شيخنا الشيخ الدكتور حسام الفرفور، ومروراً بالشيخ الدكتور ولي الدين الفرفور والدكتور عبد الرحمن والدكتور نصر والدكتور عبد الله، وانتهاءً بأخينا الشيخ شهاب الدين الفرفور، دع عنك البنات الداعيات فاطمة ولطفية.
لقد كان حقاً من خير الناس لأهله، مؤتسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "خيرُكم خيرُكم لأهلِه وأنا خيرُكم لأهلي". وإذا لم تكن الخيرية بالعلم الذي رفع المولى سبحانه أصحابه فبم تكون؟!
ومن أولى الناس بالانتفاع بالعالم؟!
أليسوا أهله وذويه:
ومن ذا الذي ترجو الأباعد نفعَه إذا هو لم تصلُحْ عليه الأقاربُ
نشَّأهم جميعا على حب العلم، وطلب العلم، ومصاحبة أهل العلم. فترى الواحد منهم لا همّ له إلا العلم، فهو كلِِفٌ به، بل نهمٌ له، مغرمٌ فيه، لا يتغنى إلا به، ولا يتفاخر إلا بتحصيله، ولا يزهو إلا بمقدار ما اجتمع له منه.
وقد أخذوا عن والدهم خَلَّة لم تخطئ واحداً منهم، ألا وهي الثقة المطلقة بالله سبحانه ثم بما حصّلوا من علم، فهم لا يرون لأحد سبقاً عليهم في أي شأن من شؤون الحياة، لأن ماعندهم أغلى وأثمن، وأعلى وأبقى، وأعزُّ وأسمى.
وكأني بهم المثل الحي لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقّر ما عظمه الله" [رواه النووي في آداب حملة القرآن].(/2)
أما ما صنعه الشيخ بتلامذته وبمن حوله فأمر عجب، حول فيه الرمم إلى قمم، والجبناء إلى شجعان، والجهال إلى علماء، فتخرج به أفذاذ العلماء والخطباء والدعاة والمربين، وصاروا من بعده ملء العين والبصر والسمع والأذن، وعلى رأسهم شيخنا ريحانة الشام العلامة المقرئ عبد الرزاق الحلبي أمتع الله به، والشيخ رمزي البزم رحمه الله، والشيخ العلامة النظّار أديب الكلاس حفظه الله، والشيخ إبراهيم اليعقوبي رحمه الله، ومحدث الشام الشيخ عبد القادر الأرنؤوط رحمه الله، والشيخ العلامة المحدث المحقق شعيب الأرناؤوط حفظه الله، والشيخ أحمد رمضان حفظه الله، والشيخ عبد الفتاح البزم حفظه الله. ناهيك عن أولاده الذين سبق ذكرهم.
على أن همة الشيخ لم تتوقف عند طلابه المقربين وأحبابه المنتجبين الذين كان يخصهم بأكثر من عشرة دروس في اليوم الواحد، ولا ينقطع درسه لا في عطلة ولا في عيد، بل إن من طريف ما أثر عنه أنه لم يتغيب عن درسه حتى في فجر عرسه!
وقد حدثني شيخنا الشيخ شعيب-وكان من خُلّص أصحابه لزمه نحواً من خمسة عشر عاماً وأخذ عنه من العلوم والآداب والفنون مالا يحصيه إلا المتخصصون فيها-أن الشيخ صالحاً كان إلى كل خصاله الحميدة وعلومه المستفيضة يمتاز بمزيتين رفيعتين هما الكرم والشجاعة، فقد كان سخيا على تلامذته وطلابه يتعهدهم بعطاياه مع ما يتخولهم به من موعظة وما يقرئهم من علوم، وكان شجاعاً جريئاً لا تأخذه في الله لومة لائم.(/3)
ولم يقتصر نفعه وفضله على هؤلاء المقربين، وإنما امتدَّ ليشمل طلبة العلم من كل أصقاع الدنيا، وذلك حين أسس معهد الفتح الإسلامي الذي أصبح مهوى الأفئدة وملاذ طلاب العلم يجدون فيه كل ما يحتاجون إليه من علم وسكن وطعام وتربية، وقد عم نفعه وشاع أمره حتى جاوز عدد جنسيات الدارسين فيه المئة يدرسون فيه جميع العلوم الشرعية من قرآن وتجويد وتفسير وحديث ومصطلح وأصول وتوحيد وفرائض وغيرها، كما يدرسون فيه العلوم العربية بأنواعها كالنحو والصرف والبلاغة والأدب والعروض والخطابة، بل إن مايدرسونه من بعض علوم العربية يفوق مايدرسه المتخصصون في أقسام اللغة العربية، وقد بلوت ذلك بنفسي؛ إذ درَّست بعض علوم العربية في جامعة دمشق وفي معهد الفتح وقسم التخصص فيه، فوجدت البون شاسعا ًفي المادة العلمية المقررة، وفي تلقّي الطلبة لها، ومقدرتهم على فهمها، وحسن استجابتهم لكثير مما يُطرح عليهم فيها. ويكفي أن أذكر أن ثمة كتابين جليلين في علوم العربية يدَّرسان في معهد الفتح، لا يعرفهما كثير من خريجي أقسام اللغة العربية في جامعاتنا، بَلْهَ أن يدرسوهما، وهما دلائل الإعجاز للجرجاني والاقتراح في أصول النحو للسيوطي.
وشيخنا الشيخ صالح- برَّد الله مضجعه- حجة في علوم شتّى وبِدعٌ في فنون مختلفة، أتقن فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان حتى صار مرجعاً فيه، وحَذِق أصول الفقه حتى لكأنه شاطبي عصره، وولج باب التفسير بعد أن استتبَّت له علوم القرآن المختلفة فكان مدرسة تخَّرج بها الكثيرون ونهل منها العلماء والمتذوقون، حدثني غير واحد من تلامذته وأنجاله أنه كان يضع النص القرآني على السبورة ثم يلتفت إلى طلاب الحلقة يناقشهم فيه، فلا يدع فناً من فنون العربية واللغة والنحو والبلاغة والبيان والإعجاز والفقه والأصول إلا خاض فيه، حتى يدع النص وقد أوسعه دراسة وفهماً وتحليلاً وعلماً.(/4)
بل إنه تجاوز علوم الشرع واللغة إلى علوم الفلسفة والمنطق والفلك والحساب وغيرها... وله في الفلك وعمل الاصطرلاب جولات وجولات. بل إن له في علم التعمية – الشفرة - مشاركة لا يعلمها كثير من الناس, وعندما كنا نهيئ لإخراج الجزء الأول من كتابنا (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب- الشفرة وكسرها) راعني أن شيخنا يعلم الكثير عن هذا العلم - أعني التعمية- وتضم مكتبته العامرة رسائل مهمة فيه وعدني بالاطلاع على بعضها, وحالت حوائل المرض والبعد دون ذلك.
والشيخ إلى هذا وذاك أديب قد امتلك ناصية البيان، وخطيب مصقع ذرب اللسان، دانت له المنابر والمحافل في كل زمان ومكان، وشاعر مفلِق مطبوع يرقى شعره إلى مصاف الشعراء الفحول، ولا غرو فحبّ العربية عنده من الدين، وتعلمها وتعليمها لا يقل في نظره أهمية عن تعليم أي فن من فنون الشرع الحنيف إن لم تكن هي الأهم والأولى، لأنه كان يؤمن أنها الوسيلة التي لابد منها لتعلم علوم الشرع المختلفة، ومن فقدها فلا خير فيه ولا علم عنده ولا نفع يرتجى منه.
من أجل هذا ما أعطاها الشيخ رحمه الله وكده، ومنحها ذَوْبَ نفسه، فكان حفياً بها، محباً لها، كلفاً بدروسها، مفتنّاً في تعليمها على اختلاف فنونها. وله في ذلك مأثورات لا يتسع المجال لسردها في هذه العجالة.
وقد بلغ من حبِّه للغة، وشغفه بأصولها وفقهها، أن نسخ مخطوط سر صناعة الإعراب لابن جني في الخمسينيات من القرن الماضي، أي قبل يفكر أحد في تحقيق هذا السفر العظيم، وكان يعتزم تحقيقه مع شيخنا الأستاذ أحمد راتب النفاخ رحمه الله لكن صارفاً صرفه كما حدثني أستاذنا النفاخ رحمه الله وغفر له.(/5)
ومن آيات عنايته بهذا الفن من اللغة -أعني فقهها وأصول نحوها- أنه توفر على تدريسه في معهد الفتح الإسلامي لطلاب السنوات الأخيرة طول عمره، لم يدع أحداً يشركه في ذلك حتى وافته المنية، وكانت له عناية خاصة بالكتاب الذي قرره لهذه المادة وهو الاقتراح في أصول النحو للسيوطي حتى إنه وضع شرحاً له سماه "الإفصاح شرح كتاب الاقتراح" مازلت أتطلع إلى إخراجه وأحثّ أبناءه على ذلك، ولا سيما أني تشرفت بتدريس هذا الكتاب في المعهد نفسه لمدة تزيد على عشر سنوات (1987- 1999).
وإن أنسَ لا أنسَ مجلساً أدبياً أسبوعياً خصني الشيخ به مع ابنه الحبيب الشيخ الدكتور حسام الدين، قرأنا فيه على الشيخ فصولاً من كتاب الكامل للمبرّد وكتاب العمدة لابن رشيق القيرواني في بيته العامر بحي مسجد الأقصاب بدمشق الشام، فكنا نختلس من يد الدهر ساعات عشنا بها زمناً رغداً ما جاد الزمان بمثلها، نَجْتني من أدب الشيخ، وتقطف من جناه، ونحلّق في سماه، ونرتع في رياضه، ونحظى بدرره وبدائعه.
من ذلك مثلاً- والأمثلة كثيرة لا تحصى- أنه صحّح لنا بيت المتنبي المشهور:
وقيّدْتُ نفسي في ذراكَ محبّةً ومَنْ وجدَ الإحسانَ قيداً تقيّداً تقيّدا
فقال ذَراك بالفتح لا بالضم- خلافاً للشائع على ألسنة الكثيرين، لأن الذَرا هو الكَنَف. ولئن صدق هذا البيت في أحد ممن نعرف ليصدقَنَّ في شيخنا رحمه الله؛ فقد قيّدَنا بإحسانه، وأسرنا بمحبته، وأفنانا بجليل علمه وأدبه.
وكان حفيّاً بنا، يرعانا ويتفقّدنا، ويتخوّلنا بالموعظة في مسجد السادات، ويخصّنا بجلسات في غرفة الأذان، وبزيارات لبيت والدي رحمه الله وأحسن إليه. أذكر أنه زارنا في العيد مرة وبصحبته ابنه الشيخ حسام، ولما قدّمت له الضيافة لاحظ أني زدت له في صحنه من أقراص المعمول عن القدر المعتاد، فما كان منه إلا إن زاد قرصاً آخر وهو يقول: زد يابا زد هذا لا يكفي، فضحكنا جميعاً.(/6)
وكنت مرة في زيارته عام 1978 مع بعض الصحب والإخوة فأشار إليَّ قائلاً: تعال يا حجّي فاعترض أحد الصحب موضحاً بأنني لم أحجّ بعد، فابتدره الشيخ قائلاً إن من أساليب العربية في المجاز أن تطلق على الشيء اسم ما سيؤول إليه، كقوله تعالى {إني أراني أعصر خمراً} مع أنّه يعصر العنب الذي سيؤول إلى الخمر، وإن الشيخ دعاني بالحجي تفاؤلاً بأني سأحج إن شاء الله تعالى، فوالذي نفسي بيده لقد حججت في ذلك العام نفسه، وأنا أبعد ما أكون عن الاستعداد للحج أو التفكير به، فسبحان من ألهم شيخنا الصواب، وأجرى على لسانه حسن الجواب.
ولما علم أني مسافر إلى تركيا عام 1981م شرفني بتكليفي بشراء كتاب (حاشية شيخي زاده على تفسير البيضاوي) مع أن مكتبته عامرة بمختلف التفاسير، ولكنه طلب العلم الذي امتدّ من المهد إلى اللحد، وفرحت بهذا التكليف، وكان شراء الحاشية من أولى المهام التي أنجزتها في اصطنبول، وعدت بالمجلدات الأربعة، ليردّ لي الشيخ كل قرش دفعته ثمناً للحاشية، ولم تجدِ محاولاتي في صرفه عن ذلك.(/7)
وكان آخر مانعمت به من صحبة الشيخ- أجزل الله عطاءه- مجلس الأربعاء الذي كان ينعقد في بيته بعد العشاء، ويؤمّه نخبة من أهل العلم، يقدُمهم شيخان جليلان يكتنفان شيخنا الجليل، هما الشيخ عبد الرحمن الشاغوري رحمه الله وأسبغ عليه رضوانه، والعلامة الشيخ أديب الكلاس عافاه الله وأمتع به، ويُستهلُّ المجلس بآيات كريمات من كتاب الله عزوجل يرتلها ابن شيخنا الأصغر الشيخ شهاب الفرفور، ثم يبدأ الدرس وهو يشتمل على كتابين نفيسين الأول شرح الحكم العطائية والثاني نوادر الأصول للحكيم الترمذي، يقرأ الشيخ أديب ويعلّق شيخنا الجليل، ويشارك الشيخ الشاغوري بنثر بعض الفوائد والحكم وإنشاد بعض الأشعار والآثار، ثم إذا ما انتهى الدرس تشنفت الأسماع ببعض الأناشيد التي كان لي شرف المشاركة فيها مع شيخنا الشيخ حسام وأخينا الشيخ شهاب، ولابد بعد ذلك كله من القِِرى، وأيُّ قرى أطيب من قِرى شيخنا، إنه قِرى ابن جعفر الذي قال في حقه الشمّاخ:
إنك يا بن جعفرٍ خير فتىً وخيرهم لطارقٍ إذا أتى
وربَّ نِضوٍ طرق الحيُّ سُرى صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى
إن الحديث جانب من القِرى ولعل خير ما أختم به هذه الكلمة أبيات نظمها شيخنا الشيخ شعيب في وداع شيخه الشيخ صالح عندما ذهب إلى الحج في أواخر الخمسينيات، وهي تحكي لسان حالنا جميعا عندما فارقَنا الشيخ ملتحقاً بالرفيق الأعلى (عام 1986) يقول فيها:
يا راحلين إلى ربا عرفاتِ مستمطرين سحائب الرحماتِ
مهلاً فجلّقُ أصبحت مبهوتةً مذ بنتمُ يا خيرة الساداتِ
والمسجد المحزون بات لفقدكم قيدَ الجوانح واكفَ العبراتِ
وأصابَ قلبي لوعةٌ إذ قيل لي أزفَ الرحيل لموطن الرحماتِ
ما كنت قبل اليوم أعلم أنه شطُّ الحبائب أفدح النكباتِ
مهلاً نودع سيداً ذا منصب كانت محافلنا به نَضِراتِ(/8)
رحمك الله ياشيخنا الجليل، وأسبغ عليك رضوانه، وأعلى في الجنان مقامك، وجزاك عنا خير ما جزى عالماً عن تلامذته، ومصلحاً عن أمته، وراعياً عن صحبته. إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(/9)
العنوان: الشيخ عبد العزيز بن باز
رقم المقالة: 1401
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الناس:
اتقوا الله تعالى واعملوا صالحًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
أيها المؤمنون:
كلما تقادمت الأرض؛ كَثُرَ خرابها، وقلَّ صلاحها؛ حتى تقوم الساعة وما في الأرض مَنْ يقول: ربِّيَ الله! وخراب الأرض ليس خراب عمران، أو نقص موارد: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ} [الرعد: 41].
قال ابن عباس - رضيَ الله عنهما -: "خرابها بموت علمائها وفقائها، وأهل الخير منها"[1]، وقال مجاهدٌ - رحمه الله تعالى -: "هو موت العلماء"[2].
يزداد النقص فيها شيئًا فشيئًا؛ حتى يُرفع العلم، ويَثبت الجهل، وذلك من أشراط الساعة؛ كما أخبر بذلك رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم[3].
ولذهاب العلم كيفيةٌ ذكرها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقَبْض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا؛ اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علمٍ؛ فضلُّوا وأضلُّوا))؛ أخرجه البخاري ومسلم[4].
وقال ابن عباس لما مات زيد بن ثابت: "مَنْ سرَّه أن ينظر كيف ذهاب العلم؛ فهكذا ذهابه"[5].(/1)
وما من شكٍّ في أن العلم إذا ذهب بقَبْض العلماء كَثُرَ الجهل، وإذا كَثُرَ الجهل كَثُرَ الفساد، وقلَّ الصلاح؛ فلا يُؤمر بمعروف، ولا يُنهى عن منكر؛ قال النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض، فيبقى فيها عَجَاجَة لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا))؛ أخرجه الإمام أحمد[6].
وإذا وقع ذلك فلا تَسَلْ عن الفتن والمصائب؛ لأنها من الكثرة بما لا يُتَصَوَّر؛ كما قال النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((يوشَك أن يُغرْبَل الناس غَرْبَلَةً، وتبقى حُثالةٌ منَ الناس قد مَرجت عهودهم وأماناتهم، وكانوا هكذا ...))، وشبك بين أصابعه. أخرجه أحمد[7].
وإذا أردتم أن تشاهدوا ما أخبرتْ به هذه الأحاديث واقعًا محسوسًا؛ فانظروا إلى أحوال بلادٍ ذهب علماؤها ومصلحوها، وكَثُرَ مفسدوها، وترأَّسها جُهَّالٌ؛ تجدوا أحوالها مُزرِيَة، وجهل أهلها مركَّبًا؛ تراهم يتعلَّقون بالمخلوق دون الخالق، ويتقرَّبون إلى الله تعالى بما يغضبه، يطوفون بالقبور، ويذبحون لها، ويستغيثون بها، ويدعونها من دون الله تعالى، ويظنُّون ذلك قربةً، ويحسبون أنهم على شيءٍ وهم في الباطل والضَّلال: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، وإذا وُجِدَ الشِّرك فما هو أقل منه أوْلى أن يوجد من البدع والخرافات، والكبائر والموبقات، والانحرافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها.
وهذا يُبرز أهمية وقيمة العلماء الربَّانيين - علماء الملَّة والدين - ولا يدرك ذلك إلاَّ مَنْ عاش أو رأى الجاهلية الأولى، وهل يدرك قيمة الصحَّة إلاَّ مَنْ مرض أو رأى مريضًا متألِّمًا؟! وهل يعرف معنى الحرية إلاَّ مَنْ حُبس أو شاهد حبيسًا؟!(/2)
والأمَّة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها تحتسب على الله تعالى وفاةَ عَلَمِ أعلامها، وإمام أئمتها في عصره؛ سماحة الشيخ أبي عبدالله بن باز، وتَحْسَب أنه إمام العلماء الربَّانيين في وقته؛ علمًا وفقهًا، وزهدًا وورعًا، وسَمْتًا وخُلُقًا، ودعوةً وجهادًا.
ذلك الشيخ الذي أطبق المؤمنون من أمَّة محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مشارق الأرض ومغاربها في هذا العصر على محبَّته وتوقيره.
إن هذا الإمام المبجَّل، الذي وُدِّع الجمعة الماضية، وألقى عليه محبُّوه آخِر نظرةٍ في الدنيا - ما هو إلا حلْقة في سلسلة متصلة من أعلام الإسلام وعظمائه، تضرب في تاريخ الأمة منذ القرن الأول الهجري، قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة، تناقلوا الحقَّ جيلاً بعد جيل، وطائفةً بعد طائفة، وإمامًا من بعد إمام. وستظل هذه السلسلة متَّصلة إلى أن يأتي أمر الله تعالى؛ كما ثبت ذلك عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ورغم الإيمان بهذا، فإن الأمَّة تحزن لفراق أئمتها، وتَجِدُ على موت علمائها، وتظلم الدنيا على أفراد كانوا يعيشون على مائدة علمٍ ثم فقدوها، وليس هذا الأمر جديدًا ولا عجبًا؛ بل هو قديمٌ ومعقولٌ.
لمَّا مات زيد بن ثابت - رضيَ الله عنه - قال أبو هُرَيْرَة - رضيَ الله عنه -: "مات حَبْر الأمَّة، ولعلَّ الله أن يجعل في ابن عباس منه خَلَفًا"[8]؛ فكان ابن عباس - رضيَ الله عنهما - نِعْمَ الخَلَف لمَنْ سَلَف، ثمَّ لمَّا مات ابن عباس - رضيَ الله عنهما - قال جابر بن عبدالله - رضيَ الله عنهما -: "مات أعلم الناس، وأحلم الناس، ولقد أصيبت به هذه الأمَّة مصيبةً لا تُرْتَق"[9].
نعم والله، إنَّ وَجْدَ الأمَّة على علمائها عظيمٌ، وأساها على فراق أئمتها كبيرٌ، وإذا كانت أسرة العالم تفقد وليَّها؛ فإن أسرته العلمية من إخوانه العلماء وطلاَّبه أشدُّ فَرَقًا على فَقْدِه؛ لأنهم فقدوا مَنْ يستشيرونه ويسألونه ويستفتونه.(/3)
لما حضرت معاذَ بن جبل الوفاةُ، رأى رجلاً يبكي؛ فقال - رضيَ الله عنه -: "ما يبكيكَ؟ قال: ما أبكي على دنيا كنت أصبتها منكَ؛ ولكن أبكي على العلم الذي كنتُ أصيبه منكَ. فقال رضيَ الله عنه: ولا تَبْكِهِ؛ فإنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه - كان في الأرض، وليس بها علمٌ؛ فآتاه الله عِلْمًا"[10].
نعم والله، إن طلاب العلم أكثر تأثُّرًا لفراقه وفَقْده، وكذلك يفقده إخوانه العلماء ويحزنون لذلك.
قال هشام بن حسان: "كنا عند محمد بن سيرين عشيَّة يوم الخميس، فدخل عليه رجلٌ بعد العصر، فقال: مات الحسنُ البصريُّ. فترحَّم عليه محمد، وتغيَّر لونه، وأمسك عن الكلام، فما تكلَّم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه مما رأوا من وَجْدِه عليه"[11]، وما عاش محمد بن سيرين بعد الحسن البصري إلا مائة يومٍ حتى لحقه، رحمهما الله ورضيَ عنهما[12].
إن احتفاء الناس بالشيخ عظيم، ووَجَلهم من مرضه كان كبيرًا، وفجيعتهم بموته كانت شديدة؛ فازدحموا على تشييع جِنازته، وقَدِموا من أقاصي البلاد وخارجها إلى حيث يُشيَّع، حتى لم تعد الطائرات تحتمل المزيد من المشيِّعين. فمَنْ لم يجد له مقعدًا؛ انضمَّ إلى قوافل المسافرين برًّا، الذين اتَّصل أقصاهم بأدناهم من مكة إلى الرياض، وصُلِّيَت عليه صلاة الغائب في مشارق الأرض ومغاربها، وأخذت وسائل الإعلام من مقروءٍ ومسموعٍ ومشاهَدٍ تحكي سيرتَه وخِلالَه ومناقِبَه.
إن ذلك كله ليس بمُسْتَغْرَبٍ ولا كثيرٍ في حقِّ الشيخ - رحمه الله تعالى - فحقه أكبر من ذلك بكثير؛ إذ هو أمة كاملة في رجل واحد، فهل فقدان أمة يستغرب فيه مثل هذا الاحتفاء والاهتمام من قبل المسلمين؟!(/4)
إن شيخنا أبا عبدالله بن باز كان إمام أهل السُّنة في عصره، كما كان أبو عبد الله بن حنبل إمام أهل السنة في وقته، ومرض ابن باز؛ فكَثُرَ عوَّادُه والسائلون عنه والدَّاعون له، ومن قبل مرض ابن حنبل؛ فكان الناس يدخلون عليه أفواجًا من بعد أفواج، وأُغلق باب الزقاق من كثرة الناس الذين ملؤوا الشوارع والمساجد، وتعطَّل بعض الباعة من شدَّة الزِّحام[13]. وقُبِض الإمام أحمد؛ فارتجَّتِ الدنيا بأسرها، حتى كان مشيعوه بين ألف ألف وألفَي ألف على اختلاف روايات المؤرِّخين[14]. قال عبدالوهاب الورَّاق: "ما بَلَغَنَا أن جمعًا في الجاهلية ولا الإسلام مثله"[15]، وصُلِّي عليه عقب صلاة الجمعة، وكذلك قُبِضَ الإمام ابن باز؛ فشيَّعه ألف ألف على الأقل، وصلَّى عليه صلاة الغائب جموعٌ لا يعلم عددها إلا الله تعالى عقب صلاة الجمعة أيضًا. غفر الله له، ورحمه وعفا عنه.
اللهم إنا نسألك أن تُسكنه الفردوسَ الأعلى من الجنة، اللهم إنه كان شديد التأسِّي بسُنَّة نبيِّكَ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاجمعه به، واجمعنا بهما في جنات النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَنْ سار على نَهجهم إلى يوم الدِّين.
أما بعد:
فإن موت العلماء وإن كان مصيبة، وفقد الأئمة وإن كان محزنًا - إلاَّ أن جنائزهم المشهودة عزٌّ لأهل السُّنة والخير والصلاح. نعم، إنهم يدعون إلى الله تعالى طوال حياتهم؛ فإذا ما ماتوا أعزَّ الله بمشهد جنائزهم أهل الخير والصلاح. فلم تتوقَّف دعوتهم بمجرَّد موتهم؛ بل اتَّصلت إلى ما بعد دفنهم.(/5)
قال عبد الوهاب الوارَّق: "أظهر الناس في جنازة أحمد بن حنبل السُّنَّةَ، والطعن على أهل البدع، فسرَّ الله المسلمين بذلك على ما عندهم من المصيبة، لما رأوا من العزِّ وعلوِّ الإسلام، وكَبْت أهل الزِّيغ"[16].
وظهر مثل ذلك في جنازة أبي عبدالله بن باز، لقد اندحر المنافقون، وتوارى المفسدون؛ لما رأوا من عظيم مشهد جِنازته، وإطباق الناس على محبَّته؛ مما أكَّد على أنه لا مكان لأهل النفاق والزِّيغ في هذه البلاد المباركة، وكم سَرَّنا والله كثرة الكتابات عنه، والاحتفاء به، مما أظهر عزَّ الإسلام، وظهور أهل الخير والصَّلاح.
إن هذا الشيخ المودِّع تمكَّن بفضله وعمله وتقواه من قلوب العباد حتى دخلها. أصلح ما بينه وبين الله تعالى؛ فأصلح الله له الخَلْق، وبثَّ له القَبول في الأرض؛ فحملته قلوب الخَلْق قبل أن تحمله أعناق الرجال.
إن هذا الإمام المبجَّل لم يكن صنيعة إعلامٍ زائفٍ، ضلل الناس بشخصية لا تستحقُّ التبجيل، ولم تَلِجْ محبته قلوب الناس بسبب دِعاية كاذبة، كلا؛ بل عرفه كلُّ مَنْ أتاه، وعَلِمَ صدقَه وإخلاصه، كلُّ مَنْ سمعه، هكذا نحسبه والله حسيبه.
إنه ما بلغ منزلته تلك بنَسَبٍ كان يتَّصل بأوسط القبائل، ولا اشترى محبَّة الناس بمالٍ كان يملكه، ولا بجاهٍ وَرِثَه كابرًا عن كابر، ولا بمنصبٍ كان يسعى إليه؛ بل كان المال يأتيه فيَزْهد فيه، ويفرِّقه على مستحقِّيه، وظلَّ الجاه يلاحقه؛ فأمسكه بيديه ولم يَلِجْ قلبه؛ فسَّخره في خدمة الإسلام، ومعونة الضعفاء، ونصرة المستضعفين.
إن جنازته - رحمه الله تعالى - وتأثُّر الناس بوفاته؛ أعطت دورسًا عدَّةً لسائر الناس:
أعطت دروسًا لأهل الجاه والمناصب أن يتواضعوا، ويسخِّروا ما رُزقوا في خدمة الناس، وقضاء حوائجهم؛ حتى يستحوذوا على قلوبهم، وينالوا محبَّتهم.
وأعطت جنازته دروسًا لأهل العلم وطلابه؛ أن يَجِدُّو في الطَّلب، ويُخلصوا النيَّة، ويُتبعوا العلم العمل.(/6)
وأعطت دروسًا للعامة؛ أن يُقبِلوا على العلم، ويَعُوا منزلة العلم وأهله.
وأعطت جِنازته - رحمه الله تعالى - درسًا مهمًّا لجميع الناس، هو: أن يُصلحوا ما بينهم وبين الله تعالى؛ حتى يُصلح الله لهم الخَلْق، ويذلِّل لمحبَّتهم قلوب العباد؛ فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء[17]، وإذا أحب الله عبدًا أحبَّه أهل السماء، وبُسِطَ له القَبول في الأرض[18]، وهكذا نحسب الشيخ - رحمه الله تعالى - والله حسيبه.
طاب حيًّا وميِّتًا، وتواصلت دروسه ومآثره قبل وفاته وبعدها، وما خلَّف من علمٍ سيبقى إلى ما شاء الله تعالى، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: علمٌ يُنتفع به؛ كما صحَّ ذلك عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم[19].
فلله دَرُّه، وما أحسن عاقبته، وجبر الله مصاب المسلمين فيه، وعوَّضهم خيرًا.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ} [الصَّافات: 180-182].
وصلى الله على نبيِّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
---
[1] تفسير ابن كثير (2/805) عند تفسير الآية (41) من سورة الرعد.
[2] المصدر السابق (2/805).
[3] كما في حديث أنس - رضيَ الله عنه - عند البخاري في العلم باب رفع العلم وظهور الجهل (80)، ومسلم في العلم باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (2671).
[4] أخرجه البخاري في العلم باب كيف يقبض العلم (100) ومسلم في العلم باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (2673) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضيَ الله عنهما.
[5] أخرجه الطبراني في الكبير (4751) والحاكم (3/422) وله طرق كثيرة ذكرها الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/601).(/7)
[6] أخرجه الإمام أحمد (2/210) والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن كان الحسن سمعه من عبد الله بن عمرو ووافقه الذهبي (4/435) وصححه الشيخ شاكر في شرحه للمسند وأثبت سماع الحسن من عبد الله بن عمرو بثبوت المعاصرة الكافية في الحكم بذلك حتى يثبت عدم السماع في حديث بعينه، انظر: شرحه على المسند برقم (6964)، وإثبات السماع انظره في رقم (6508)، وذكره الهيثمي وقال: رواه أحمد مرفوعًا وموقوفًا ورجالهما رجال الصحيح (8/13).
[7] أخرجه أحمد (2/221) والبخاري تعليقًا في الصلاة باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره (480) وقال الحافظ ابن حجر: وصله إبراهيم الحربي في غريب الحديث انظر: الفتح (1/675) والحديث أخرجه أيضًا أبو داود في الملاحم باب الأمر والنهي (4343)، وابن ماجه في الفتن باب التثبيت في الفتنة (3957) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (4/435)، وصححه الشيخ شاكر في شرحه على المسند (7063).
[8] أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/362) والطبراني في الكبير (4750)، والحاكم (3/427).
[9] الطبقات الكبرى لابن سعد (2/372)، وصفة الصفوة (1/758).
[10] انظر: مصنف عبدالرزاق (20164)، والتاريخ الصغير للبخاري (1/73)، ومجمع الزوائد (2/311)، وسير أعلام النبلاء (1/459).
[11] سير أعلام النبلاء (4/587).
[12] المصدر السابق.
[13] انظر: سير أعلام النبلاء (11/335 ـ 337).
[14] المصدر السابق.
[15] المصدر السابق (11/339).
[16] المصدر السابق (11/342).(/8)
[17] كما في حديث عبد الله بن عمرو - رضيَ الله عنهما - عند مسلم في القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء (2654)، وحديث أنس بن مالك - رضيَ الله عنه - عند الترمذي في القدر باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن وقال الترمذي: حسن صحيح، وحديث عائشة عند أحمد (6/251) والنسائي في عمل اليوم والليلة (304) وحديث أنس عند ابن ماجه (3834) وعبد ابن حميد (1518) وحديث النواس بن سمعان وحديث أبي هريرة كلاهما عند ابن أبي عاصم في السنة (229 ـ 230).
[18] كما في حديث أبي هريرة - رضيَ الله عنه - عند البخاري في التوحيد باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله للملائكة (7485) ومسلم في البر والصلة باب إذا أحب الله عبدًا حببه إلى عباده (2637) والترمذي في التفسير باب ومن سورة مريم (3160).
[19] كما في حديث أبي هريرة - رضيَ الله عنه - عند مسلم في الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631)، وأبي داود في الوصايا باب ما جاء في الصدقة عن الميت (2880) والترمذي في الأحكام باب في الوقف (1376)، والنسائي في الوصايا باب فضل الصدقة عن الميت (6/251).(/9)
العنوان: الشيخ علي الطنطاوي كما عرفته
رقم المقالة: 1655
صاحب المقالة: عبدالقدوس أبو صالح
-----------------------------------------
إنه علي الطنطاوي شيخ الأدباء في الشام، وأديب العلماء وجاحظ القرن العشرين.
كانت أول معرفتي به في مسجد الجامعة السورية، التي سميت بعد ذلك بجامعة دمشق بعد أن كثرت الجامعات في سورية. ومع أن أول حديث سمعته منه قد مضى عليه نحو من نصف قرن، فإني مازلت أتمثله، وأتمثل فيه شخصية الطنطاوي التي لم تتغير في خاطري: شخصية الأديب المطبوع، الذي يجمع بين بلاغة الكلام وخفه الروح، وشخصية الداعية الذي يطرق موضوعه بصراحة واضحة، وجرأة نادرة مما جر عليه غضب المسؤولين في كثير من المواقف، ولكنه أكسبه محبة وشعبية ومصداقية لدى معظم الناس؛ خاصتهم وعامتهم ومثقفيهم وأمييهم، لا نستثنى من ذلك إلا أدعياء التحرر الزائف ودعاة التغريب.
أيام لا تنسى:
وزادت معرفتي بالشيخ الطنطاوي في مدينة الرياض عندما قدم إليها سنة 1989هـ / 1963م أستاذاً في الكليات والمعاهد العلمية التي صارت بعد ذلك جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وقد أفرد الشيخ خمس حلقات من مذكراته عن العام الدراسي الذي أمضاه في الرياض، ولكنه مع حديثه عن شعوره بالغربة وضيقه بالوَحدة، لم يذكر تلك السهرة نصف الشهرية التي كنا نعدها من أسعد الساعات وأجمل الأوقات، وكان ممن يحضر تلك السهرة عدد من الزملاء والأصدقاء الذين ذكرهم الشيخ، ومنهم الأستاذ عمر عودة الخطيب ود. مصطفى الخن، ود. محمد الصباغ، ود. محمد علي الهاشمي، والأستاذ تيسير العيتي والأستاذ مصباح السعدي، وكان الدكتور عبد الرحمن الباشا - رحمه الله - يحضرها في بعض الأحيان.(/1)
وكانت مجالسة الشيخ في تلك السهرة لا تمل، فهو قطب السهرة، وهو ينتقل في حديثه - على طريقة الجاحظ - من موضوع إلى خبر إلى شعر، ويتخلل ذلك نوادره التي منها ما يحفظه، ومنها ما يكون مما حدث معه في حياته المديدة، سواء في سلك القضاء، أم في سلك التعليم، أم في مخالطته للناس خارج إطار الوظيفة التي تحدث في ذكرياته عن كثير من نوادره الواقعية في أثنائها.
ومع أن سهرتنا مع الشيخ كانت في منزل صديق عزب فإنها كانت تتخذ أحياناً صورة تسمى بالدور، وهنا أذكر من طرائف الشيخ التي كانت بديهته تدفعه إليها، فتولد في لحظة سريعة أن دور السهرة كان في منزلي، وكان أن جلسنا على السطح، وقد صفا الجو، وطابت نسمات الصبا في ليالي الرياض، ولما فرغ الضيوف مما يقدم عادة في مثل تلك السهرة ناديت الخادمة التي كانت تعمل في منزلي، وكانت تسمى غزالة، ولما سمعني الشيخ أردد قولي: يا غزالة تعالي خذي السفرة، إذا به يقول: أي غزالة تلك التي تناديها، والله ما يحمل هذه السفرة إلا حمار، فكيف تحملها غزالة؟! وضحك الضيوف الكرام حين رأوني لا أمد يدي لحمل السفرة التي لا يحملها في رأي الشيخ إلا حمار.
وكان الشيخ على سجيته في تلك السهرة لا يتكلف، ولا يتورع أن يكون مثل شبيهه الجاحظ فيورد من النوادر ما يخطر على باله دون تحرج، وكان معنا صديق يميل إلى الرّصانة والشدة، فقال له: يا شيخ على: إنه لا يليق أن تذكر من النوادر ما لا يليق بمقامك. واستجاب الشيخ فوراً وقال له: أرجو أن تكون أميراً على. حتى إذا رأيتني أقول ما لا تراه لائقاً نبهتني فارعويت. وقبِل الزميل هذه الإمارة على الشيخ، فما مضت برهة من الوقت حتى خطرت على ذهن الطنطاوي إحدى تلك النوادر التي لا تعجب الزميل المتشدد، فقال الطنطاوي: بالإذن من الأمير سأقول هذه النادرة، ثم تكرر ذلك الاستئذان في تلك السهرة مرات ومرات، وعندئذ قال الزميل: اشهدوا أني استقلت من هذه الإمارة التي (تبهدلتُ) بها.(/2)
ومما لم يذكره شيخنا الطنطاوي في ذكرياته عن الرياض أنه لم يكن يصبر على مادة واحدة، وكان يجرب تدريس المادة أسبوعاً أو أسبوعين ثم يقول: "هذه المادة ما صلحت لي وما صلحت لها". ولما أعيا الأمر عرض على عميد الكليتين - كلية الشريعة وكلية اللغة العربية - أن يلقي محاضرة أسبوعية عامة، يدعى إليها الناس مساء، وكانت المحاضرة العامة نادرة أو قليلة في الرياض آنذاك، وقبلت إدارة الكليات والمعاهد اقتراح الشيخ، وتهافت الناس على محاضراته التي كانت فريدة في جمعها بين العلم والتوجيه، مع ما يملك الطنطاوي من سر الجاذبية في أحاديثه الخاصة والعامة، وفي مشهد الناس أو في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.
ولكن ما هي إلا أن جاء الأسبوع الأخير من شعبان، ونحن في منتصف العام الدراسي، وإذا بالشيخ الطنطاوي يفجأ الناس بعد أن انتهى من محاضرته قائلاً: "إن هذه المحاضرة هي آخر محاضراته؛ لأنه ولأن الناس سوف يستثقلون الحضور في ليالي رمضان".
وقد حاول عميد الكلية أن يعترض على الشيخ، ولكن الناس كانوا قد نهضوا، واختلط الحابل بالنابل، وهيهات أن يسمع الاعتراض، وهيهات قبل ذلك أن يقبل به الشيخ الطنطاوي.
ولم يبق أمام إدارة الكليات إلا أن يقضي الشيخ الطنطاوي ما بقي من شهور الدراسة مستشاراً متفرغاً من التدريس والمحاضرات.
فيض الذكريات:(/3)
وانتقل الشيخ من الرياض إلى جدة في مطلع العام الدراسي التالي، وصرنا لا نلقاه إلا في زيارات قليلة أثناء العمرة أو الحج، نزوره في بيته، أو نراه في زاويته المعتادة قرب الإذاعة في الحرم. وكان مما يعوضنا عن قلة لقاءاتنا به أننا كنا ناره ونسمعه مع آلاف الناس في برنامجه الأسبوعي في الرائي السعودي، هذا البرنامج العجيب الذي استمر نحو من ربع قرن، ولا يماثله في استمراره في العالم إلا برامج معدودة على أصابع اليد الواحدة، وكان تعلق الناس بهذا البرنامج مع برنامجه الآخر "على مائدة الإفطار" أمراً تحار العقول في تفسيره، إذ تعلق الناس به من مختلف الطبقات وشتى الأعمار.
ولما أردت أن أكتب عن الشيخ الطنطاوي كما عرفته، بدأت بالرجوع إلى "ذكريات الطنطاوي" التي صدرت في ثمانية أجزاء كاملة وكان هدفي أن أطلع على ما كتبه عن العام الدراسي الذي نعمنا فيه بزمالته في الكليات والمعاهد العلمية. وكنت قد اطلعت على الذكريات اطلاع العجلان، ولم أتجاوز قراءة الجزء الأول منها، وها أنا ذا أراني أقلب في فهارس الكتاب، وأغرق في قراءة كثير من حلقاتها حتى شغلت بها نحواً من يومين أو أكثر، وقد نقلتني هذه الذكريات إلى بلدي الحبيب، وإلى دمشق بخاصة، حيث يصف الأديب الكبير دمشق؛ دورها وأحياءها، وبساتينها وغوطتها وكتاتيبها ومدارسها وجامعتها الناشئة، كما صور أفراحها ومآسيها والأحداث والوقائع التي شهدها أو أسهم فيها.
نعم لقد تحدث الطنطاوي عما مر بسورية في أيام الاتحاديين العنصريين، وفي زمن الفرنسيين المستعمرين، ثم تحدث عن الجلاء والاستقلال، وتحدث عن الوَحدة والانفصال، وكان لفلسطين في غمار تناوله للحياة السياسية النصب الأوفى.
وتحدث في الحياة الاجتماعية عن مجالس الخاصة وسهرات الناس، وعن الأعراس والمآتم، وعن قضية السفور والحجاب، وندب نفسه مدافعاً عن الفضيلة، وبخاصة في رسائل الإصلاح التي نشرها.(/4)
وتحدث عن الحياة الأدبية مبيناً رأيه في الأدب، في معرض رده على الأستاذ شفيق جبري الذي كان من دعاة الفن للفن، وكان من قول الطنطاوي "إن الأدب لا يجدي إن لم يكن أدب الحياة، ولا يكون أدبَ الحياة حتى يُحكِم صلته بها، ويداخلها، فيعرف مواطن الخير فيها فيدل عليها، وأماكن الشر فينفر منها"[1].
وكان مما قاله عن الحياة الأدبية في سورية: "والحياة الأدبية في الشام أحوج ما تكون إلى المداواة والعلاج، إن كان في الشام حياة أدبية لها وجود، ولها آثار يستطيع الناقد أن يصفها ويتحدث عنها. وأنا أشك في وجود هذه الحياة، فلا أستطيع أن أجزم بوجودها لأني لا أرى أي عَلاقة من علاقات الحياة في أدباء دمشق وأدبها، ولا أستطيع أن أنفيها؛ لأن في دمشق أدباء كباراً معروفين، ولأن دمشق - كما يعرفها الناس جميعاً - عاصمة من عواصم البيان العربي. وإنما أقول: إن أدباء دمشق في منزلة بين الموت الكامل، والحياة الصحية، هي كالسبات العميق، والنوم الطويل، وإلا فما يصنع كتاب دمشق وشعراؤها؟! وأين هي منتجاتهم الأدبية؟! وهل يكفي شاعراً أن يقول كل سنتين قصيدة واحدة، تضطره إليها المناسبات اضطراراً، ثم لا يكون في القصيدة أثر من نفسه، ولا تصف شيئاً من عواطفه؟!
وهل يكفي الكاتب أن ينشر كل عام مقالة تطلب منه، أو مقدمة كتاب يسأل كتابتها؟! بل هل يستطيع أن يملك لسانه الشاعر، فلا يقول شيئاً، وهو يرى كل يوم ما ينطق الصخر بالشعر، من مصائب الأمة ونكباتها، بل من همومه هو ومتاعبه، وما يشاهده في حياته في بيته، وحياته في عمله؟![2].
موقف من الأدب:(/5)
وتحدث الطنطاوي عن غلبة المذهب الرومانسي على الشعراء الشباب في الشام، وهاجم ما فيها من السَّوْداوية والتشاؤم واليأس والانزواء في الأبراج العاجية فقال: "ولكن الغالب على أدبهم المذهب الرومانسي. وقد حملت على هذا المذهب بسلسلة من المقالات عنوانها "الأدب القومي". إلى أن قلت: من الذي حجب عن عينيك - أيها الشاعر - ملذات الحياة ومفارحها، ولم يُرِك إلا آلامها وأحزانها؟! لماذا ترى سواد الليل ولا ترى بياض الضحى؟! لماذا تصف بكاء السماء بالمطر في الشتاء، وتدع ضحك الأرض بالزهر في الربيع؟! لماذا تصور حشود المآتم، وتهمل حفلات الولادة؟! الدنيا ليل ونهار، وشتاء وربيع، وموت وولادة، إنها كالقمر، له جانب مظلم وجانب مضيء، فمن ملأ قلبه ظلام اليأس لم ير إلا الجانب المظلم مع أنه خفي لا يُرى.
لا تعش لنفسك وحدها، بل عش لها ولأمتك، فكر بعقلها، اشعر بشعورها، وأدِّ ما يجب عليك لها، أما أن تقول: هذا حبي، وهذه عاطفتي، فاشتغلوا بها معي، فلا. إن أدبك يكون إذن مخدِّراً للحس الوطني.
حسبنا بكاء ويأساً، ورثاء للماضي، وفزعاً مما يخبِّئ لنا المستقبل. كفى تبرماً بالحياة، وشكوى منها، ودعونا من أدب لامارتين وموسيه"[3].
وتحدث الشيخ الطنطاوي عن أدب الحداثة المنحرفة، وليس عن الحداثة بمعنى التجديد، إذ كان الطنطاوي من دعاة التجديد في الحياة الأدبية.(/6)
وها هو ذا يقول في معرِض حديثه عن زيارته لوالد الشاعرة نازك الملائكة: "وقد نشرت أول العهد بها في الرسالة شعراً نفيساً، أثار إعجابنا وتقديرنا، لا هذا الشعر الذي سمَّوه حراً، أو شعر الحداثة، فهل يبقى الحدث حدثاً أم يشب ويعقل. وسمَّوه حراً، ومن الحرية ما هو فوضى. فإن رأيت الجند يمشون صفاً واحداً مرتباً منظوماً نظم اللآلئ في العِقد. فخرج واحد منهم على الصف وعلى نظامه، فمشى على غير مِشيتهم، وبسرعة غير سرعتهم. أليس هو ما يسمونه بشعر التفعيلة؟! شعر تفعيلاته صحيحة الوزن، ولكن لا ارتباط بين أبياته ولا تناسق بينها. وإن الشعر الحق هو الذي يثير الشجون، ويحرك العواطف، مع اتساقه في الآذان ومحافظته على الإيقاع.
إن علينا أن نقول الحق ولو على أنفسنا، والحق أن معاني الشعر الغربي - الفرنسي أو الإنجليزي - أوسع مدى وأكثر عمقاً، وأن ميزة شعرنا في النظم، في الموسيقى الشعرية، تلك هي الميزة التي يحاول هؤلاء أن يحرمونا منها"[4].
وقال في معرض حديثه عن كتب المطالعة: "جنبوا كتب المطالعة هذا الأدب الذي تسمونه يوماً بأدب الحداثة، ويوماً بالشعر المنثور، ويوماً بالنثر المشعور - كما قال المازني رحمه الله مازحاً ساخراً لما سألوه عنه - ويوماً بقصيدة النثر، وكل ذلك من مظاهر العجز عن نظم الشعر البليغ، كالثعلب لما لم يصل إلى عنقود العنب، قال: إنه حامض. واختاروا لهم مما يقوي ملكتهم العربية؛ لأن العربية والإسلام لا يكادان يفترقان.(/7)
لقد حاقت بالعربية نكبات، واعترضت طريقها عقبات، ونزلت عليها من نوازل الدهر المعضلات، ولكن ما مر بها يوم هو أشد عليها وأنكى أثراً فيها من هذا الأدب المزوَّر الذي سميتموه بأدب الحداثة. إنه ليس انتقالاً من مذهب في الشعر إلى مذهب، ولا من أسلوب إلى أسلوب، ولكنه لون من ألوان الكيد للإسلام. بدأ به أعداؤه لما عجزوا عن مس القرآن؛ لأن الله الذي أنزله هو الذي تعهد بحفظه، فداروا علينا دورة، وجاؤونا من ورائنا.
وكذلك يفعل الشيطان، يأتي الناس من بين أيديهم وعن أيمانهم ومن وراء ظهورهم، فعمَدوا إلى إضعاف الإسلام بإضعاف العربية"[5].
مفهومه للأدب الإسلامي:
ويتحدث الأستاذ الطنطاوي في ذكرياته عن مفهوم الأدب الإسلامي فيقول: "ولا يزال في الناس من يختلط عليه أمر تعريف الأدب الإسلامي، ويُدخل فيه كتابات إسلامية ليست أدباً، وكتاباتٍ أدبية ليست موافِقة للإسلام، والذي أفهمه أنا - بذهني الكليل، وفهمي القليل - أن الأدب الإسلامي هو ما كان أدباً مستكمِلاً شرائطه، جامعاً عناصره، وسواء أكان ذلك قصيدة، أم كان قصة، أم كان مسرحية، أم كان رواية. فالشرط فيها أن تكون بالميزان الأدبي راجحة لا مرجوحة، وأن يكون الأثر الذي تتركه في نفس قارئها إذا انتهى منها، مرغِّباً له في الإسلام، دافعاً له إلى الاقتراب منه، لا أن تكون بحثاً فقيهاً، ولا تاريخياً، ولا شرح حديث، ولا تفسير آية، فهذا كله ليس أدباً، وإن كان شيئاً أغلى وأثمن، وأعلى من الأدب"[6].
عاشق مكة:
مع أن معظم ذكريات الطنطاوي كانت عن الشام وعن دمشق خاصة فإنه تحدث عن ذكرياته في المملكة العربية السعودية التي أقام بها نحواً من ست وثلاثين سنة امتدت إلى آخر حياته، وقد عاصر فيها أربعة ملوك أحبهم وأحبوه، كما أحبه عامة الناس في المملكة وخاصتهم، وكان برنامجه الأسبوعي "نور وهداية" وبرنامجه الرمضاني "على مائدة الإفطار" مهوى الأفئدة.(/8)
وقد أشرت في مطلع هذا المقال إلى بعض ذكرياته في السنة الأولى التي قدم فيها إلى المملكة سنة 1383هـ/ 1963م، وقد خصص معظم الجزء الثامن من ذكرياته للحديث عن ذكريات إقامته في المملكة، وكان من أجمل ما استهل به ذكرياته عن مكة قوله: "أريد أن أكتب عن المملكة، عن مكة، عن العاصمة الروحية لها ولبلاد المسلمين كلها، وأنا حين أهم بالكتابة عن بلد لا أصف طبيعة أرضه، ولا تحديد مساحته وحاصلاته، ولكن أحاول أن أصف مدى شعوري به، ومبلغ ما له في نفسي.
وهل أستطيع أن أصور المشاعر والعواطف التي ينطوي عليها قلبي لمكة أمِّ القرى، وقبلة المسلمين، ومبعث النور، وأحب البلاد إلي بعد بلدي؟! لا، بل قبل بلدي، فهي بلدي الأول، وبلد كل مسلم، ما يسرني أن يسلم بلدي بأذاها، بل إني أدفع عنها الأذى ببلدي وداري وأهلي؛ لأنها إن سلمت فكل شيء سالم، وإن أصابها شيء لم يسلم لنا بعدها شيء؛ لأنها تكاد تكون لنا كل شيء.
أرأيتم المغناطيس كيف يجذب قطع الحديد من حوله، كذلك تجذب مكة الناس، ولست أدري لماذا يذهب أهلها، فيسيحون في البلدان، والبلدان كلها تكون كل سنة هنا؟!. تدور حول هذا البيت من الغرب إلى الشرق، كما تدور الأفلاك على قطبها. فكأن كل حاج كوكب، وهذا المطاف هو الفضاء الأرحب الذي تسبح فيه النجوم والكواكب"[7].
ومع أن ذكريات الشيخ الطنطاوي عن المملكة تختلط أحياناً على طريقة الاستطراد بذكرياته السورية فإننا نجد في عناوين ذكرياته عن المملكة ما يلي: (كيف جئت إلى المملكة)، (الدراسات العليا في المملكة)، (الفقيدان الوزير والمدير) - وهما معالي الشيخ حسن آل الشيخ وزير المعارف، والشيخ عبد الرحمن بن صالح التونسي مدير مدارس الثغر - (تعليق على التلبية في الحج)، (في كلية التربية).(/9)
وهكذا عرفت الشيخ الطنطاوي عندما كنت طالباً في الجامعة السورية، وعرفته في مدينة الرياض، وعرفته كما عرفه الناس من خلال ما قدم في الإذاعة والرائي على مدى عقود من السنين، ثم من خلال ذكرياته التي أزعم أني اطلعت عليها وقرأت كثيراً من حلقاتها أثناء كتابتي لهذا المقال.
ويتراءى لي الطنطاوي كما يتراءى لكثير ممن عرفوه شيخ الأدباء في الشام وأديب القضاة وجاحظ القرن العشرين.
وقد عاش الطنطاوي حياة حافلة مديدة زادت على تسعين عاماً، ومارس مهناً متعددة؛ التجارة، والتعليم، وإمامة المسجد، والصحافة، والقضاء، ثم انتهى إلى التدريس الجامعي.
موقف شجاع:
وكان الطنطاوي في شبابه مثالاً للرجل العصامي، وكان شديد الثقة في نفسه، وكان صريحاً لا يعرف المجاملة والمداراة، وكان سريع الغضب سريع الرضا، ملولاً لا يكاد يصبر على طعام واحد، ثم هدهدت الأيام من غَربه، وزادته حكمة ورصانة، لكن بعض ملامح شبابه ظلت كامنة كالجمر تحت الرَّماد، حتى أصبح مثل صديق ابن المقفع الذي قال فيه: "وكان يُرى متضاعفاً مُستَضعفاً، فإذا جد الجِد فهو الليث عادياً".(/10)
ذلك أن خصلة الشجاعة والجرأة لم تفارق الطنطاوي في حياته كلها، وكانت هذه الشجاعة أجلى ما تكون أمام الحكام، حينما يرى جَوراً في الحكم، أو انحرافاً عن جادة الدين والخلق، ومواقفه في ذلك مشهودة ومشهورة أمام أديب الشيشكلي - الحاكم العسكري في سورية - وأمام الحسيني - قائد الشرطة فيها - وأمام السراج - رئيس المخابرات في أيام الوَحدة بين سورية ومصر - وأمام كمال الدين حسين - عضو قيادة الثورة ووزير المعارف في أيام الوحدة - ولنستمع إلى قوله في مقابلته له مع وفد من العلماء: "نحن ما جئنا من أجل الرواتب، ولكن جئنا مدافعين عن الدين وعن الأخلاق، ومطالبين بالإصلاح. هل تعلم سيادتكم أننا لسنا هنا أحراراً، كل واحد منا مراقب، يبعث إليه من يحصي عليه حركاته وسكناته، فكيف نعيش مطمئنين آمنين ألا تصيبنا جائحة؟! حتى أنت، إنَّ معك اثنين يراقبانك، ويرفعان عنك تقريراً بكل ما تقول أو تفعل، وهذا التقرير لا يرفع إلى سيادة الرئيس، بل إلى رب الرئيس ورب العالمين، يعلن على رؤوس الأشهاد يوم المعاد، يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا وزارة ولا رياسة، فأرجو ألا تهيئ جواباً يرضينا الآن، بل تُعِد الجواب لرب العالمين يوم الحساب"[8].
مواقف طريفة:(/11)
وكان أكره شيء إلى الطنطاوي النفاق والمراءاة بين الناس، وكان الشيخ يكره الغرور والادعاء، وله في ذلك مواقف طريفة، نذكر منها قوله: "ولقد وقعت لي في هذه الكشوف - كشوف القضاء - حوادث طريفة فيها تسلية للقارئ؛ منها أننا ذهبنا يوماً إلى كشف على مسكن، في طرَف دمشق، وكان معي في السيارة كاتب المحكمة، والزوجة وزوجها، فلما وصلنا، جاء عسكري قريب للزوجة، فأراد أن يتدخل فمنعته، وكان للعسكري أيام الفرنسيين بعض الرهبة في قلوب الناس، فلما ابتعدنا راجعين قال الزوج: أنا سكت عنه إكراماً لكَ - أي لي أنا - ولولاك (لمصعت) رقبته. فقلت للسائق: قف، فوقف، وقلت للزوج: أنا لم أر في عمري رجلاً (يمصع) رقبة آخر، وأحب أن أرى هذا المشهد، ولا يضرني أن أنتظر، فسأدعوه لك حتى تصنع به ما تريد، وفتحت نافذة السيارة ومددت رأسي فناديت العسكري.
وهنالك تبخرت حماسة هذا الرجل، وضاعت جرأته، وهربت شجاعته، وجعل يقول: أرجوك، أرجوك يا سيدي. أُقبِّل يدك. سامحني، لا توقعني معه في ورطة، وأنا ساكت لا أقول شيئاً، حتى وصل العسكري، وصار لون وجه الرجل بلون قشرة الليمون، فقلت للعسكري: يبدو عليك أنك رجل خير، ومن يعمل خيراً يكافئه الله. فاذهب وحاول أن تصلح بينهما، أو الحقنا إلى المحكمة؛ لعلك توفق بإقناع قريبتك وزوجها لإزالة الخلاف بينهما، ولحقنا وتم الصلح بينهما. أما الرجل فما صدق أنه خلص من هذه الورطة، وأحسب أنه لم يعد إلى هذه العنترية الفارغة. والعوام عندنا في الشام يقولون: إن من يهدد لا يفعل، والذي يفعل حقيقة لا يهدد"[9].
درس في التواضع:(/12)
وكان الطنطاوي على ما كان له من شأن، وما بلغ من مكانة شديد التواضع، وإن كان شديد الصلف أمام أهل الغرور والتكبر، وقد بلغ من تواضعه أنه كان يذكر أخطاءه في بعض المواقف في أثناء ذكرياته، كما كان تواضعه يدفعه إلى الاعتراف بالخطأ أمام طلابه، لا يَعُد ذلك منقصة في شخصه، ولا نيلاً من كرامته، ومن ذلك قوله: "وقد وقع لي أول قدومي مكة المكرمة أن جاء ذكر حكم فقهي في مسألة من المسائل في مذهب الإمام أحمد، فذكرت ما أعرفه، فقال طالب من الطلاب: إن الحكم في المذهب على غير هذا، فقلت له: درست الفقه في المدرسة المتوسطة، ثم في الثانوية وأنت لم تتعلم بعد حكم هذه المسألة، وأطلت لساني عليه، وكان مهذباً فسكت، فلما رحت إلى الدار، رجعت إلى كتب الفقه، فإذا الذي قاله الطالب هو الصواب، أفتدرون ماذا صنعت؟!. جئت من الغد فقلت للطلاب، سمعتم بالأمس ما قلته لأخيكم، وقد تبين لي أن الحق معه، وأنني أنا المخطئ؛ لذلك أعتذر إليه أمامكم، أعتذر إليه مرتين: مرة لأني خطَّأته وهو المصيب، ومرة لأنني خالفت أخلاق العلماء، فأطلت لساني عليه، وظلمته بما أسأت به إليه.
وقد كان درساً عملياً أفاد الطلاب أكثر مما تفيدهم الدروس النظرية التي ألقيها عليهم"[10].
قوة في الحق:
وكان الشيخ الطنطاوي على ميله للفكاهة، وعلى ما يتمتع به من خفة الروح في مقدمة العلماء التزاماً بالإسلام، وتخلقاً بآدابه، وكان في حقيقته شديد التقوى لله، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا سطوة غاشم، وكانت التقوى لله تجعله أحياناً كالأسد في جرأته وإقدامه، وتجعله أحياناً أخرى من أرق الناس قلباً ومن أكثرهم خشية لله، وتواضعاً له، وكان عندما يخطب في الناس ينقل إليهم ما يشعر به في قلبه، بل في كِيانه كله فيكون من ذلك مشاركة وجدانية وتأثير عميق في الجماهير التي تستمع إليه.
قصة الاستسقاء:(/13)
ولننظر شاهداً عما قلناه هنا في قصة الاستقساء التي حدثت في دمشق سنة 1380هـ/ 1960م وسوف نقتطف شذرات مما جاء في حديثه عن هذه القصة، ومما قاله في خطبته يوم الاستسقاء.
قال الشيخ الطنطاوي: "مر الشتاء كله، ولم تنزل الأمطار، بل لقد تجرأ واحد من الحكام يومئذ فقال في خطبة له ألقاها: "إننا سنتخذ من (التكنولوجيا) وسائل جديدة تغنينا عن استجداء السحاب، وانتظار المطر. وكانت كلمة فاجرة من عبد ضعيف مدع لا يستطيع إذا حبس الله الغيث أن ينزله، ولا إذا غيض الله العيون أن يفيضها، ولا يملك لنفسه، فضلاً عن أن يملك لغيره نفعاً ولا ضراً".
ودعا العلماء أهل دمشق إلى صلاة الاستسقاء في سفح جبل قاسيون. وقال الشيخ يصف ذلك بقوله: "غص السفح كله بالناس كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، وصلينا صلاة الاستسقاء، ثم قمت بعدها، فخطبت خطبة لم أتعمد فيها بلاغة اللفظ، ولم أنظر فيها إلى عمق التأثير، ولم أطلب إعجاب الناس، بل لقد حاولت بمقدار ما استطعت أن أنساهم، وأن أوجه قلبي كله لله، ثم تكلم السيد مكي الكتاني - رحمه الله - فكان كلامه أعظم من كلامي؛ لأنه كان من أرباب القلوب، وإن لم يكن من كبار العلماء. فبلغ كلامه من نفوس الناس ما لم يبلغ كلامي، وسيطرت على الجميع عاطفة إيمانية عجيبة، ليست من صنعي ولا من صنعه، ولم تكن لخطبته ولا لخطبتي، ولكنها نفحة من نفحات الله، فلم تكن تسمع إلا دعاء مختلطاً بنشيج، وبكاء يخالطه دعاء.
وكانت ساعةً ما وجدت في حياتي مثلها إلا مرات معدودات في التسع والسبعين سنة التي عشتها، كانت القلوب كمدخرات (بطاريات) فارغة.
فشحنها هذا الموقف بالطاقة شحناً كاملاً، لقد أحسسنا المذلة أمام الله، فجعلنا نُحس العزة بالله، لم نعد نرجو في تلك الساعة غيره، ولا نخاف غيره، ولا نتوجه إلا إليه، ولا نطلب إلا منه".(/14)
ورجعنا بنفوس غير التي جئنا بها، ومرت الجمعة، ومر السبت والأحد والاثنين والسماء على حالها، زرقاء ما فيها مزنة سحاب، والمستهزئون يتكلمون، والشامتون لا يسكتون، فلما كان يوم الأربعاء بعد خمسة أيام من صلاة الاستسقاء قال الكريم: خذوا. وكان غيث عام استمر إلى يوم الجمعة"[11].
دعوة بظهر الغيب:
ولعل خير ما نختم به مقالنا عن الشيخ الطنطاوي أن نورد قبساً من مناجاته لنفسه ومناجاته لربه، فهو يقول في واقعية مؤثرة ومكاشفة صادقة: "إني من ستين سنة، أعلم وأكتب وأخطب وأحدث. اللهم لا أدعي أن ذلك كله، كان خالصاً لوجهك، وليْتَه كان، ولكني بشر أطلب ما يطلبه البشر من المال الحلال ويسرني المديح، وتستهويني متع الدنيا، فهل يضيع ذلك جهدي كله؟ هل أخرج فارغ اليدين لم أنل شيئاً من الثواب؟ إني لأمتحن نفسي أسائلها كل يوم، هل كانت الدنيا وحدها هَمِّي؟ لو عرض علي أضعاف ما آخذه الآن على مقالاتي وكتبي وأحاديثي، على أن أجعلها كلها كتباً ومقالات وأحاديث في الدعوة إلى الكفر. هل كنت أرضى؟ فليست إذن كلها للدنيا، كما أنها ليست مبرأة من مطالب الدنيا.
قلت لكم: إني أفكر في الموت، وأعرف أني على عتباته، إنه يمكن أن أعيش عشرين سنة أخرى كما عاش بعض مشايخي، وكما يعيش اليوم ناس من معارفي، ولكن هل ينجيني ذلك من الموت؟! فما الذي أعددته للقاء ربي؟! اللهم إني ما أعددت إلا توحيداً خالصاً خالياً من الشرك، وإني ما عبدت غيرك، ولا وجهت شيئاً مما يُعَد عبادة إلى سواك، وإني أرجو مغفرتك، وأخشى عواقب ذنبي. فاللهم ارحمني واغفر لي"[12].
ويقول في مناجاة أخرى لله يختمها بطلب الدعاء من القراء: "يا رب أيقظ قلوبنا، لنتوب فتغفر لنا، فإني امرؤ قسا قلبه، حتى لتمر به المواعظ فلا يتعظ، ويمر هو بالعبر فلا يعتبر، وقد صرت على أبواب القبر، قد جاوزت الثمانين، فيا ربي متى يستقيظ ضميري، وينتبه إيماني، فأعود إليك ولا مفر من العودة إليك؟!(/15)
فيا أحبائي القراء، أسألكم الدعاء، فما لي عمل أقبل به على الله إلا رجائي بكرمه، ثم بدعائكم لي - إن كنتم تحبونني - بظهر الغيب"[13].
اللهم ارحم شيخنا وأديبنا الطنطاوي كفاء ما قدم للإسلام ولأمه الإسلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ذكريات الشيخ على الطنطاوي 2/206.
[2] السابق 4/303.
[3] السابق 2/289.
[4] السابق 3/315.
[5] السابق 8/335.
[6] السابق 8/115.
[7] السابق 8/81.
[8] السابق 8/397.
[9] السابق 6/384.
[10] السابق 8/240.
[11] السابق 6/35.
[12] السابق 7/293.
[13] السابق 8/86.(/16)
العنوان: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
رقم المقالة: 1403
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهَدْي هَدْي محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشر الأمور مُحْدَثَاتُها، وكل مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّار.
أيها المؤمنون:(/1)
من عدل الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده: أن جعل ميزان التفاضل عنده ليس بقدر ما يملك العبد من مالٍ أو جاه، أو ما يتَّصل به من حَسَبٍ ونَسَب؛ فقارون ما أغنى عنه ماله، وفرعون ما نفعه سلطانه، وهارون ما سرَّته وَزَارَتُه، وقريش كانت أوسط القبائل وأعزَّها، وكثيرٌ من سادتها وكبرائها كان خيرًا منهم بلالٌ الحبشي، وصُهَيْب الرُّومي، وسَلْمان الفارسي؛ لأن الميزان ميزان التقوى، وهؤلاء الموالي شرفوا بالإيمان، بينما تقاعس السادة والأعيان من قريش عن الإسلام.
وكثيرٌ منَ الموالي وأبناء الموالي صاروا سادةً بالعلم، في الوقت الذي أصبح كثيرٌ منَ السَّادة لا يُذكَرون.
قال ابن أبي الزِّناد - رحمه الله تعالى -: "كان أهل المدينة يكرهون اتِّخاذ أمَّهات الأولاد، حتى نشأ فيهم الغرُّ السَّادة: علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله؛ ففاقوا أهل المدينة علمًا وتقًى وعبادةً ووَرَعًا؛ فرغب الناس حينئذٍ في السَّراري"[1].
إنَّ العلم والتقوى يصبح بهما الوضيع رفيعًا، والخامل مشهورًا، والضعيف قويًّا؛ لحاجة الناس إلى أهل العلم؛ ولأنَّ الله تعالى يحبُّ المتَّقين، ويحبُّ العلماء العاملين، فيرفعهم ويعزُّهم، ويجعل حاجة الناس إليهم.
رأى رجلٌ الحسنَ البصريَّ والناس حوله؛ فقال: "مَنْ هذا؟ فقيل له: مولًى سادَ. قال: بمَ سادَ؟ فقيل له: احتاج النَّاسُ إلى عِلْمِه، ولمْ يَحْتَجْ هو إلى دنياهم".(/2)
ومن عجيب تدبير الله تعالى وحكمته في هذا الشأن: أن الإمام البخاري الذي جمع كتابًا هو أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى، والذي لو لم يكن من مآثر أهل بُخارى إلاَّ أن أنجبت هذا الرجل، ولو لم يكن من آثاره إلاَّ هذا الكتاب؛ لكفى به شرفًا له ولأسرته ولأهل بخارى كلِّهم - العجيب أن جدَّ والده كان أعجميًّا مات على الكفر! ما بلغه الإسلام، ثم يكون من سلالة هذا الأعجميِّ الكافر إمامٌ حفظ الله به الدين، وحمى به السُّنَّة، وقد عجزت كثيرٌ من الأُسَر العربية؛ بل وأعرق القبائل العربية أن تخرِج إمامًا كهذا الإمام المولى الأعجمي، الذي تدرَّس كتبه في الجامعات الإسلامية، والذي لا يزال ذِكْرُه في المسلمين، وسيستمر ما استمرَّت سُنَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – محفوظة.
وقلَّ أن تجد كتابًا في الشريعة استشهد صاحبه بنصوصٍ من السُّنَّة - إلا واسم هذا الإمام مذيَّلٌ عقب حديث أو أحاديث منه، وذلك فضل الله يؤتيه مَنْ يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
يُذكر هذا - أيها الإخوة - وأمَّة الإسلام تحتسب على الله تعالى وفاة الإمام المحدِّث، صاحب التصانيف النافعة المشهورة: محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، وأسكنه الفردوس الأعلى من جنَّته.
لقد نشأ كما نشأ كثيرٌ من العلماء فقيرًا معدمًا، وأشبهت حياته حياة الإمام البخاري من جهة الاهتمام بالحديث، ومن جهة الأصل الأعجمي في كلا الاثنين؛ فالبخاريُّ من بُخارى، والألبانيُّ من ألبانيا، وكلتاهما غير عربيَّتَيْن.(/3)
يقول الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى -: "إن نِعَم الله عليَّ كثيرةٌ، لا أُحصي لها عدًّا، ولعلَّ من أهمها اثنتين: هجرة والدي إلى الشام، ثم تعليمه إيَّايَ مهنته في إصلاح الساعات. أما الأولى: فقد يَسَّرَتْ لي تعلم العربية، ولو ظللنا في ألبانيا؛ لما توقَّعْتُ أن أتعلَّم منها حرفًا، ولا سبيل إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلاَّ عن طريق العربية، وأما الثانية: فقد قيَّضَتْ لي فراغًا من الوقت أملؤه بطلب العلم، فأتاحت لي فرص التجارة، التي لو حاولت التَّدريب عليها أولاً؛ لالتَهَمَتْ وقتي كلَّه، وبالتالي لسدَّت بوجهي سُبُلَ العلم الذي لابدَّ لطالبه منَ التفرُّغ"[2].
وكان سبب هجرة والده من ألبانيا الأعجمية إلى بلاد الشام العربية هي: أن حاكم ألبانيا آنذاك أراد عَلْمَنَة البلاد بالقوَّة، وأمر بنزع الحجاب عن النِّساء، واتِّباع الغربيِّين في لبسهم، وجميع شؤونهم؛ فكانت هذه الهجرة خيرًا للشيخ؛ إذ تعلَّم علوم السُّنة النبوية، ولم تكن كُتُبها موجودةٌ في مكتبة والده الممتلئة بكتب فقهاء الحنفية، فما كان منه إلا أن لزم المكتبة الظَّاهرية في الجامع الأُمَوي، يقضي فيها كلَّ يومٍ ما بين ست إلى عشر ساعات، ثم زاد اهتمامه وشغفه بالمطالعة والبحث، حتى كان يقضي فيها ثِنْتَي عشرة ساعة، يدخلها قبل دخول الموظفين، ويبقى فيها إلى صلاة العشاء، وكم من مرَّةٍ قضى ليله كلُّه فيها، أغلقوا عليه الباب وأتوه في الصباح!!(/4)
وهذه النِّهْمة في الطَّلب والبحث تذكِّرُنا بفعل السَّلف الصالح - رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. ولم يكتفِ الشيخ - رحمه الله - بذلك؛ بل أزعجه أنه لا يستطيع المطالعة والبحث إلاَّ في أوقات عمل المكتبة، وليس عنده منَ المال ما يشتري به الكتب؛ فاتَّفق مع صاحب كُبريات المكتبات التجارية في دمشق على أن يستعير منه بعض الكتاب، ويرجعها حال انتهائه منها، وإن جاء مَنْ يرغب شرائها أعادها فورًا، وبهذا صار يقضي جلَّ وقته مع كتب الحديث وعلومه[3].
ما منعه الفقر من طلب العلم، ولا ردَّه عدم امتلاكه للكتب عن مطالعتها؛ بل اخترع الطرق والأساليب التي جعلته لصيقًا بالكتب.
ومن عجيب أخباره - رحمه الله تعالى -: أنه ما كان يجد قيمة الورق الذي يكتب فيه أبحاثه؛ فكان يطوف في الشوارع والأزقَّة؛ يبحث عن الأوراق السَّاقطة فيها هنا وهناك؛ ليكتب على ظهرها؛ لأن وجه الورقة عادةً يكون مليئًا بالكتابة! وقال - رحمه الله تعالى -: "كنت أشتري الأوراق بالوزن لرخصه"[4].
الله أكبر! همة عالية، وشغفٌ بطلب العلم وتدوينه، ما قعد واعتذر بالفقر، ولا ضيَّع وقته كما كان يفعل كثير من أقرانه؛ بل جدَّ في الطَّلب، واجتهد وثابر؛ حتى كان حصيلة ذلك عشرات الكتب النافعة في تخريج حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخدمته، وتيسير وصول الطلاب إليه بصنع الفهارس المتعدِّدة، والذبِّ عن السُّنَّة النبويَّة، والوقوف في وجوه المشكِّكين فيها، وتنقية الكتب من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبيان المقبول والمردود من الحديث، ومَنْ ذبَّ عن سنَّة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذبَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة.
رحم الله الشيخ، وعفا عنه، وجَبَر مُصاب المسلمين فيه، وجمعنا به في دار كرامته؛ إنه سميعٌ مجيبٌ.(/5)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ} [الرعد: 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنْ سار على نَهجهم واقتفى أثَرَهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، فما أحوجنا إلى التزام التقوى في زمنٍ كَثُرَتْ فيه الفواجع والزَّلازل، وكَثُرَ فيه موت العلماء والكُبراء؛ وذلك حقيقٌ بالاعتبار، واليقين بأن وعد الله حق، وأن الساعة آتيةٌ لا رَيْب فيها، وأن الله يبعث مَنْ في القبور.
أيها الإخوة:
ما من إمامٍ من أئمة أهل السُّنة والجماعة إلا وله شانئون ومُبغضون من أهل الزِّيغ والبِدَع والضَّلالات، والألبانيُّ - رحمه الله تعالى - ليس بِدْعًا من ذلك؛ إذ سَلَقَتْه ألسنٌ حِداد، وكتبت فيه أقلام حراب؛ سلَّها ثم سنَّها بعض المبتدِعة، وبعض المرتزَقة، بتهمٍ تشي بما في صدروهم من الحنق والحسد والغيظ. وما ضرَّه ذلك، ولا أنقص قدره عند أهل الحقِّ، وعادت سهام الناصلين عليهم، وكان ذمُّهم له ذمًّا لهم؛ إذ كُشفت حقائقهم، وأُظهرت بواطنهم، ومَنْ يجترئ على هذا الإمام المحدِّث وهو الذي انتهج منهج السَّلف الصَّالح عن قناعةٍ وإدراك، وبحثٍ ودِراية، ولم يأخذه كابرًا عن كابر؟!(/6)
إنه - رحمه الله تعالى - نشأ وعاش في بيئة فَشَتْ فيها البدعة، وطُمست أنوار السُّنة، وانتشرت الفِرَق الباطنيَّة، والأحزاب الكُفْرِيَّة؛ فحمل لواء السُّنة، وحارب البِدعة، ولم يكن معه معينٌ ولا نصيرٌ سوى الله تعالى؛ حتى أُدخل السجن غير مرة في سبيل دعوته إلى التوحيد الصحيح، والتزام السُّنة.
عاش في بيئةٍ فقهاؤها من متعصِّبة المذاهب، يقدِّمون أقوال الرِّجال على حديث سيد الأنام - عليه الصَّلاة والسَّلام - إلا مَنْ رحم الله - وقليلٌ ما هم - فأخذ يدعو إلى السُّنة، ويُناظر ويُجادل من أجل ذلك؛ حتى اتَّهموه - بسبب دعوته إلى التوحيد الصَّحيح والسُّنة المطهَّرة - بأنه وَهَّابي، وبأنه سلفيٌّ جامدٌ، وأُخرج من بلاد إلى بلادٍ أخرى في سبيل ذلك، وما فتَّ ذلك في عَضُدِه؛ بل بقيَ قوَّالاً بالحقِّ غير هيَّاب حتى وفاته - رحمه الله تعالى.
وما قيل عن حدَّته على الخصوم، وبعض اجتهاداته الخاطئة في الفقه والحديث؛ فذلك مغمورٌ في بحر حسناته - رحمه الله تعالى - ويكفي أنه قضى عمره في مشروعه الأكبر: (تقريب السُّنة بين يَدَي الأمَّة)، مع دعوته إلى التزام الدَّليل والأَخْذ به، ونَبْذ التَّقليد، ومحاربته للبِدعة وأهلها، ونَبْذه للحزبيَّات والتعصُّبات الجاهلية، ورحم الله الذهبيُّ إذ يقول: "ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له، قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه، لما سَلِمَ معنا لا ابن نَصْرٍ ولا ابن مَنْدَه، ولا مَنْ هو أكبر منهما، والله هو الهادي الخَلْق إلى الحقِّ، وهو أرحم الراحمين؛ فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة"[5].(/7)
ويقول ابن القيِّم - رحمه الله تعالى -: "ومَنْ له علمٌ بالشرع والواقع - يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح، وآثارٌ حسنة، وهو منَ الإسلام وأهله بمكان؛ قد تكون منه الهفوة والزلَّة، هو فيها معذورٌ؛ بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتَّبع، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته من قلوب المسلمين"[6].
إن الله وملائكته يصلون على النبي.
---
[1] سير أعلام النبلاء (4/460).
[2] "حياة الألباني وآثاره، وثناء العلماء عليه" لمحمد بن إبراهيم الشيباني (48).
[3] بتصرف غير يسير من المصدر السابق (51 ـ 52).
[4] انظر: المصدر السابق (43).
[5] سير أعلام النبلاء (14/40).
[6] إعلام الموقعين (3/483).(/8)
العنوان: الشيعة والعراق (حوار مع الدكتور الدليمي)
رقم المقالة: 1195
صاحب المقالة: حوار: خباب بن مروان الحمد
-----------------------------------------
حوار مع الدكتور طه الدليمي
مقتطفات من الحوار:
• الأمريكي يهدد العراقي -إذا استعصى عليه- بتسليمه إلى القوى الأمنية الشيعية!
• من يقلِّل من تأثير المد الشيعي وغزوه للعالم الإسلامي فإنَّه محكوم بنظرية (ختم العداوة)، وهي كعقيدة (ختم النبوة)، وأصحابها يعتقدون أنه لا يوجد في الكون كله من عدو إلا أمريكا واليهود!
• حذار حذار من (الخلايا النائمة) للشيعة الآن في دول الخليج العربي!
• هل تعلم أن حسين المؤيد هو صهر عبد العزيز الحكيم؟!
• • • •
لا يُذكر الشيعة الروافض في هذا الزمان إلاَّ ويذكر معهم شيعة العراق، ولا يُذكر العراق إلاَّ ويُذكر القوم معه!!
ثنائيَّة عجيبة تضعنا أمام سؤالات لا بدَّ من طرحها، واستفسارات يتحتَّم أن نتوجَّه بها إلى المتخصصين من الباحثين الأجلاَّء، ومنهم فضيلة الشيخ العراقي الدكتور (طه الدليمي) المشرف العام على موقع القادسيَّة على الشبكة العنكبوتيَّة، والباحث المقتدر بشؤون الشيعة وتاريخهم في العراق وغيره.
مسقط رأس الدكتور طه الدليمي وولادته في بغداد عام 1960، وترعرع في أرياف قضاء المحمودية إحدى ضواحي بغداد الجنوبية، وكان الأول على مدارس القضاء في المراحل الثلاث: الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ثمَّ تخرَّج في كلية الطب عام 1986.
وكما حدَّثني في إحدى جلساته أنَّه كان له ولع قديم -قِدَم معرفته بالحرف- بالمطالعات الأدبية والدينية، ممَّا دفعه أكثر من مرة لأن يحاول ترك الدراسة الطبية والالتحاق بكلية الشريعة، لكن القوانين حالت بينه وبين رغبته.(/1)
وقد تلقَّى العلم عن الشيخ سامي رشيد، وهو من كبار الدعاة والعلماء الأحياء في العراق. ثمَّ ترك العمل في مجال الطب عام 1994 وتفرغ للخطابة والدعوة والتأليف، ومارس الدعوة في المناطق الجنوبية الشيعية، بالطبع قبل الاحتلال الأمريكي المشؤوم للعراق عام 2003م.
وقد ألَّف كتباً كثيرة، تقارب الأربعين، تعالج موضوع الشيعة والتشيع من زواياه المختلفة، مثل: (رسالة القواعد السديدة)، و(لا بد من لعن الظلام)، و(أسطورة المذهب الجعفري)، و(التشيع عقيدة دينية أم عقدة نفسية).
وقد لا يعرف الكثيرون أنَّ الدكتور طه الدليمي يقرض الشعر، وله قصائد تصلح لأن تكون ديواناً كبيراً، كما أنَّ له أشرطة صوتية ومرئية كثيرة.
في هذا الحوار يتحدَّث لنا الدكتور طه الدليمي عن الجدل الدائر حول التشيع والشيعة في العراق، والعلاقات الإيرانيَّة بهذه القضايا، وفي كلام الدكتور كثير من الحقائق التي تخفى على كثير من المتابعين للشأن الشيعي العراقي، وهو ينطلق في كلامه من دراسات كثيرة، أمضى فيها وقتاً ليس بالقصير في البحث والمطالعة!
• • • •
* في مستهل هذا الحوار يسعدنا أن نرحب بالدكتور الكريم طه الدليمي الذي أعطانا من وقته الثمين فرصة ليتحدَّث لنا عن الكثير من الملفات التي تهم القارئ العربي والمسلم، مع أنَّ الدكتور يعاني أمراضا وآلاما تعكر باله، ونسأل الله –تعالى- أن يجعلها مكفِّرة لخطاياه، رافعة لدرجاته.. آمين.
سألت فضيلته في البدء: من خلال ما قرأته عن الشيعة والسنَّة، هل ثمَّة فرص للالتقاء بينهما بعد المحاولات الكثيرة الداعية للتقريب بينهما؟
- شكراً جزيلاً لكم على ثقتكم بي أولاً، ثم على إتاحتكم لي هذه الفرصة الطيبة للتحدث من خلالكم، عسى أن يسمع كلماتي الكثيرون ممن لا أستطيع الوصول إليهم بها عن سواه من سبيل.(/2)
الشيعة والسنَّة "نقيضان"! وهل رأيت نقيضين يلتقيان؟ لقد أخفقت جميعُ محاولات التقريب على الإطلاق. على أن التقريب نوعان: تقريب ديني، وهذا مستحيل التحقيق لتعلُّق الخلاف بالأصول؛ فالتسنّن والتشيّع دينان مختلفان جذرياً، وليس بينهما من القواسم المشتركة إلا بعض الأسماء التي أفرغها الشيعة من مدلولاتها. اللهم إلا إذا ترك أحد الفريقين دينه والتحق بالدين الآخر. والنوع الآخر من التقريب سياسي، وهذا ممكن نظرياً؛ كما صنع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود. لكنه صعب –إن لم يكن مستحيلاً– عملياً؛ بسبب فساد نية كثير من قادة الشيعة. وهم منطقيون في ذلك مع أنفسهم؛ لأن عقيدتهم تأباه عليهم. وهذا هو السر في أن الشيعة إذا تمكنوا قاموا باضطهاد ومحاولة اجتثاث أهل السنة. والأمر لا يستقيم في دولة إلا بحكم سني يعلم الحق ويرحم الخلق. وشرار السنة في إدارة الحكم أصلح للرعية -سنة وشيعة- من خيار الشيعة. والواقع والتاريخ شاهد.
* هناك مدّ شيعي يتنامى في المنطقة الإسلاميَّة؛ فما أسباب ذلك وما دواعيه؟(/3)
- التشيع عقيدة سرطانية السلوك، وأهله يعانون من عُقدة النقص والاضطهاد. وهذان الأمران: العقيدة والعُقدة، يؤزان الشيعة أزاً لاختراق الآخر. أما في الواقع فإن إيران وراء هذه الظاهرة، ركوباً على ظهر مطية التشيع، وصولاً إلى أهدافها التوسعية الإمبراطورية. ومما يشجع توسع الانتشار الشيعي في المنطقة ضعف الوعي والإرادة السنية تجاه الشيعة. وهو ضعف ناتج: إما عن جهل بالشيعة وعقائدهم ونياتهم وأهدافهم. وإما عن ضعف الإرادة، بحيث إن كثيراً من أهل السنة لا يفكر في مواجهة المشكلة بقدر ما يفكر في التعايش معها! والأمر يدعو إلى العجب! فالشيعة لا يمثلون في العالم العربي والإسلامي إلا أقلية قليلة لا تتجاوز نسبتها الـ 4% من المجموع. لكنهم أهل دعاية وإعلام وضجيج، وختر وغدر؛ وهو ما يوهم الكثير من أهل السنة -سواء كانوا من العوام أو العلماء أو الساسة- بما يوهمهم به من قوة الشيعة، ويدفعهم إلى رفع شعارات "التقريب، وجمع الصف، ووحدة الأمة". وهذا لا يزيدنا إلا وهناً، ولا يزيدهم إلا ضراوة وقوة.
* وما الأسلوب الأمثل الذي تراه لمواجهة هذا المشروع؟
- الشيعة لهم مشروعهم الخاص بهم بعيداً عن مشروع الأمة. بل الأخطر أنهم لا يبنون مشروعهم إلا على حساب مشروع الأمة! والأكثر خطرا أنهم لا عدو لهم من خارج هذه الأمة التي يلعنونها صباح مساء، ويحملونها تبعة قتل الحسين -رضي الله تعالى عنه- الذي نحن أولى به منهم، ويحدّون سكاكينهم لذبحها ثأراً وقصاصاً! فهم غير جادين ولا صادقين أبداً في دعاواهم التقريبية، إنما هي شِباك وشراك لاصطياد المغفلين، ولكسب الوقت، والتمهيد لاختراق صفّنا ضعيفِ التحصين ضد أفكارهم لا أكثر.
أما الأسلوب الأمثل في التعامل معهم، فهو المواجهة! التي تقوم على العناصر التالية:(/4)
1- سحب المشروعية الدينية من الشيعة، ببيان حقيقة دينهم ومعتقدهم، والإعلان بفضح أباطيلهم وتاريخهم وجرائمهم، ثم بيان الحق الذي تركوه، والدين الصحيح الذي نبذوه. على أن بيان سبيل المجرمين مقدم على بيان سبيل المؤمنين. ويجب أن يكون الطرح قوياً وواثقاً، مكرراً ومؤكداً، هجومياً لا دفاعياً.
2- تحصين الصف الداخلي لأهل السنة، ببيان خطر الشيعة عليهم وعلى وجودهم حكاماً ومحكومين، وبيان الدين الصحيح. وتأكيد أن الولاء للعقيدة دون غيرها. وأن من يشتم الصديق والفاروق ويكفر الصحابة، ويطعن بعرض الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يمكن إلا أن يكفرنا ويعادينا. والتاريخ شاهد.
3- هذان الأمران سيفجران طاقات الأمة ضد مشروعهم على اختلاف الطرائق: دعوية، وسياسية، وعسكرية، وغيرها.
4- فيما يخص الدعوة: علينا أن ننهج أسلوب التغيير الجماعي، وليس التغيير الفردي. وهذا فصلته في آخر مقال لي على موقعنا على الإنترنت (القادسية).
* هناك من يقلِّل من تأثير المد الشيعي، ويرى أنَّ هذا من تخويفات الأمريكان والصهاينة، ولزرع الفتنة بين الشيعة وبين المسلمين؛ فهل ترى لذلك الكلام وجهاً صحيحاً؟(/5)
- هذا الكلام غير صحيح أبداً ومطلقاً. وأصحاب هذا الكلام محكومون بنظرية (ختم العداوة). وهي كما قلت سالفاً كعقيدة (ختم النبوة)، وأصحابها يعتقدون أنه لا يوجد في الكون كله من عدو إلا أمريكا واليهود، وأن الأعداء خُتموا ببعثة يهود ومجيئهم إلى فلسطين. فإذا أضفت عدواً ثالثاً فكأنك كفرت بإنجيل السياسة، وفاعله مطرود من دائرة الفهم والوعي والعلم! فإذا قلت: إن في الساحة لاعباً ثالثاً وعدواً آخر هو إيران، قالوا: هذا غير صحيح، وإيران بلد مسلم. وكأن المسلم مباح له أن يقتل ويسلب ويستبيح ويتآمر ويُركِب أمريكا على ظهره ليعبر بها إلى داخل الأمة، ويكون أشد عداوة وأكثر ضراوة من الكافر! ولا يجوز لك أن ترده وتكف شره! لماذا؟ حتى لا نشتت جهود الأمة عن أمريكا واليهود! ألم يكن الخوارج مسلمين ومن (داخل الصف)؟ وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على اجتثاثهم وقتالهم، وقاتلهم سيدنا علي -رضي الله عنه- ومَنْ بعده من الخلفاء، ولم يقولوا: إن قتالهم فتنة. بل قتالهم من أعظم الجهاد (...ولو علم الذي يقاتلهم ما له من الأجر لنكل) أي عن العمل؛ فلا يحتاج إلى عمل بعده لدخول الجنة؛ هكذا قال النبي فيهم. والله -تعالى- يقول: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 60-62]. وهؤلاء جميعاً لهم حكم الإسلام؛ فهم مسلمون. فمن قال: إن قتالهم فتنة؛ ففي الفتنة سقط. ثم إن الفتنة يا سيدي زرعها الفرس منذ أربعة عشر قرناً، وتحولت لدى الشيعة إلى عقائد وعُقَد تعج بها كتبهم، وتلهج بها ألسنتهم، وتضج بها ليل نهار صحفهم وإذاعاتهم وقنواتهم،(/6)
وترددها منابرهم وحسينياتهم وما فيها من نَوْح ولطم وبمكبرات الصوت! ومن أراد الحقيقة فليعتبر بما يجري في العراق. وفصائل المقاومة والجهاد فيه أجمعت اليوم على أن العدو الأول هو إيران؛ هم الشيعة. والإمام أحمد -رحمه الله تعالى- كان يقول: (إذا أعيتكم المسائل فاسألوا أهل الثغور). فالحكم في هذه المسألة والقول الفصل فيها لنا نحن أهل العراق، لا لغيرنا. ولكن ما الذي أفعله لمن لا يريد أن يسمع ولا يرى ولا يعتبر ولا يتعلم؟! كل ذلك –بزعمه- حتى لا تتشتت الأنظار عن أمريكا واليهود!
وبما أن هؤلاء لا يرون عدواً غير أمريكا واليهود؛ فإنهم يعدون الحديث عن خطر الشيعة وإيران تشتيتاً للجهود عن مواجهة هذا العدو، الذي لا عدو من بعده. وهؤلاء عادة ما تراهم مُشْرَبين إلى حد النخاع بـ(نظرية المؤامرة)؛ يقولون: هذه مؤامرة أمريكية يهودية صليبية ماسونية لصرف الأنظار عن المشكلة الكبرى و(القضية المركزية). ويسرفون في الحديث -حتى في العراق- عن الغزو الغربي، ولا تراهم يعيرون العدو والغزو الشرقي أدنى اهتمام. وأنا لا أدري ما تعريفُ العدو عند هؤلاء؟ هل العدو صفة تقوم على أسس، والعداوة حكم يتعلق بعلة إذا توفرت في قوم كانوا لنا أعداء؟ أو هو اسم جامد لا يقبل التحول عن جنس أو قوم بعينهم؟!(/7)
إن ما تفعله إيران اليوم في العراق لهو أشد فتكاً، وأمضى أثراً، وأقدم زمناً، وأدوم بقاء، وأخطر عاقبة مما تفعله يهود بإخواننا في فلسطين! أما الأمريكان فقد صاروا اليوم في نظر جميع أهل السنة -بعد أن ذاقوا ما ذاقوا مما لا يخطر على بال، ولا يمر بخيال من الجرائم والمجازر على يد الشيعة، وبالتعاون والتنفيذ المباشر من إيران- أرحم لنا وبنا. وهذه الحقيقة صار يدركها حتى الأمريكان! هل تعلم أن الأمريكي يهدد العراقي -إذا استعصى عليه- بتسليمه إلى القوى الأمنية الشيعية، وإذا اعتُقِلَ شخص سألنا؛ فإن كان اعتقله الجيشُ أو الشرطة أيسنا إلا من رحمة الله، وإن كان عند الأمريكان حمدنا الله!
فإن لم يكن هذا عدواً فكيف هو العدو إذن؟! ألا إني من الكافرين بعقيدة (ختم العداوة) ولو كره الآخرون!
هذا.. وإن المشروع الإيراني في المنطقة لهو أخطر من مشروع أمريكا والعدو الصهيوني بمراحل، وما يحدث في العراق اليوم أوضح دليل لمن أراده، والموتى يبعثهم الله. أم إن دم العراقيين الذين يقتلون -ومنذ أكثر من أربع سنين- على يد إيران وشيعتها ليس بدم؟! والدم الدم هو الذي يسفك على يد اليهود واليهود فقط؟!
وإذا حسبناها بالمجمل فإن العدو الأمريكي يقبل التفاهم والتعايش قياساً إلى العدو الإيراني؛ فإنه لا يهدأ له بال، ولا يستقر على حال حتى يمحوك من الوجود.
أما الذين يهللون لمشروع إيران النووي من العرب فما أغباهم! وما أعجزهم! وأعماهم! متى يدركون أن إيران تعد سلاحها النووي لذبحهم انتقاماً لكل (عُقَد التاريخ) المتشابكة في نفوسهم المعقدة بالنقص والاضطهاد والمعبأة بالحقد وشهوة الثأر وحب الانتقام!(/8)
* لديك كتاب عن (الحقيقة الكاملة لسكان العراق)[1]، ومن خلال بحثك في غور هذا الموضوع فإنَّ بعض المتابعين للواقع العراقي يرون أنَّ عدد الشيعة في العراق أكثر من السنَّة، فهل هذا صحيح؟ وكم كان عدد الشيعة قبل الاحتلال الأمريكي للعراق؟ وكم صار بعده؟ وهل صاروا الآن أغلبيَّة في العراق بعد التهجير السني؟
- العراق أغلبيته سنية محسومة بنسبة لا تقل عن الستين بالمئة. وحتى لو لم ندخل الأكراد في المعادلة الحسابية، فإن عدد أهل السنة يبقى متفوقاً، أو على الأقل مساوياً للشيعة. وهذا طبقاً لآخر إحصائية أجريت بعد الاحتلال من قبل وزارة التخطيط بالتعاون مع وزارة التجارة في تموز 2004 على عهد وزير التخطيط مهدي عبد الحافظ، وهو شيعي، فأين هم مُدّعو المراقبة والمتابعة للشأن العراقي؟
أما ما حصل بعد الاحتلال من تهجير وتوطين؛ فالتهجير شمل الطرفين. وأما توطين الإيرانيين في العراق فقد حصل بنسبة لا أراها تؤثر على المعادلة النهائية كثيراً، وليس ثمة من إحصائية يمكن الاستناد إليها لإصدار حكم دقيق في هذا الموضوع. على أنني آمل ألاَّ نعطي هذا الموضوع من الاهتمام أكثر مما يستحق، فمن حيث الأصل ديننا لم يعطِ القيمة للعدد، وإنما للحق: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]. ومن حيث الفعل فإن البلد لمن يحميه، ويدافع عنه وليس لمن يسكنه ساهياً لاهياً أو عميلاً خائناً، و{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وسترى بإذن الله.
* لكنَّ هناك سؤالاً من الأهميَّة بمكان؛ هو: ما بدايات نشأة الشيعة وتغلغلهم في داخل العراق، وهل كان على يدهم تطور سياسي في العراق؟(/9)
- أول من بذر بذرة التشيع هو كسرى يزدجرد بعد معركة نهاوند التي انهزم فيها الفرس مباشرة، حين عقد يزدجرد المهزوم مؤتمره المعروف باسم (مؤتمر نهاوند)، وانتهى المؤتمرون إلى قرار يقضي بدخول جمع منهم في دين الإسلام لأجل هدمه من الداخل. وكانت أول ثماره السامة تسلل المجوسي أبي لؤلؤة النهاوندي، صاحب المرقد المعروف اليوم في إيران، إلى عاصمة العرب، ثم نجاحه في قتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بعد سنتين من المؤتمر فقط! وبدأت قصة طويلة، حتى جاء عبد الكريم قاسم الذي قضى على الحكم الملكي في سنة 1958 -وكانت أمه شيعية من الجنوب– فقام بتوطين الشيعة وغالبهم من المعدان وسكنة الأهوار المعروفين بالشروقيين أو الشروكيين؛ وهم -في غالبيتهم- ينحدرون من أصول غير عربية، قدموا من بلوشستان ولورستان وإيران والهند وباكستان، ودخلوا العراق منذ مئات السنين، وعلى شكل موجات مع جيوش الفتح، وظلوا مستقرين فيه بغير وثائق هوية أو جنسيات أو جوازات سفر؛ حتى جاء عبد الكريم ومنحهم الجنسية العراقية، وشيد لهم المجمعات السكنية حول العاصمة بغداد. وبرغم حصولهم على الجنسية العراقية فإنهم ظلوا محتفظين بأصولهم العرقية؛ وذلك يجعلهم يغلِّبون فطرياً الانتماء الطائفي والمذهبي على الانتماء الوطني. أما العراق الحديث –والقديم أيضاً– فقد قام على أكتاف أهله من أهل السنة، وغيرهم من الأصلاء، وفيهم قلة من الشيعة، الذين انحصر عموم دورهم في المعارضة السلبية بكل معانيها إلا ما بدر منهم بفعل القوة؛ كما حصل من قتال الشيعة للعدو الإيراني في الثمانينيات، فإن أكثر من قاتل منهم كان بدافع الخوف من الحكومة.(/10)
* في كتابك (التشيع عقيدة دينية أم عقد نفسية؟) أثبتَّ أنَّ المجتمع الشيعي كالمجتمع اليهودي، ويرى آخرون أنَّ هذه مبالغة! فبماذا تجيبهم، وخصوصاً أنَّ بعض الكتَّاب يشكِّكون في نسبة التشيُّع لمن ابتدأ بتأسيس أركانه، والجداريَّة التي كانت هي مرتكزه والتأثير الشخصي في صياغة الفكر الشيعي من عبد الله بن سبأ؟
- لكل أحد الحرية في أن يقول ما يشاء، ويدعي ما يحلو له من الأفكار والآراء. ولكن تبقى الحقيقة بنت البحث، ويظل الحكم الصحيح نتاج الدليل. وأنا قمت ببحث هذه المسألة بحثاً علمياً طويل النفس، قائماً على الدراسات والملاحظات والمعايشة الميدانية. فمن شاء أن يأخذ به فليفعل، ومن لم يشأ فله ذلك، بشرط أن يكون موضوعياً في الأخذ والرد. أما ابن سبأ اليهودي الفارسي فهو مذكور في مصادر الشيعة قبل السنة. وبين الفرس واليهود صلات وتناغم فكري ونفسي منذ أن دمر ابن اليهودية كورش (الإخميني الفارسي) بابل في القرن السادس قبل الميلاد وأعاد اليهود إلى فلسطين. واليهود في توراتهم يلقبون كورش بـ(مسيح الرب)! والفرس هم مؤسسو التشيع بثوبه الفارسي. يكفي أن نعلم أن مؤلفي المصادر المعتمدة الأربعة للتشيع جميعهم عجم. وأياً كان الأمر فإن العجم أو الفرس لا يقلون كيداً وتلوناً عن اليهود.
* يرى بعض المطالعين لتراث (الشيعة الروافض) أنَّ بين الإماميَّة الجعفريَّة اختلافاً في تكفير الصحابة، ويسوقون مثالاً على ذلك أنَّ الطبرسي لم يقل بتكفير الصحابة، فهل هذا صحيح؟ وهل يمكن أن يكون بين هؤلاء -الذين يسميهم بعض السنَّة بأنَّهم منصفون- وأهل السنَّة نوع من التقارب؟(/11)
- هذا غير صحيح، ويعبر عن فقر مدقع بمعرفة حقيقة الشيعة والتشيع. لك أن تعلم أن الإمامي لا يسمى إمامياً حتى يؤمن بعقيدة (الإمامة). وهي تلزم معتنقها اضطراراً بتكفير المخالف؛ وأولهم الصحابة. هذا عدا إطباقهم على التصريح بهذا تصريحاً قطعياً. والحقيقة أن عقيدة الإمامة وضعت أصلاً من أجل تكفير الصحابة؛ فالعقيدتان قرينان لا يفترقان. على أنهم ينكرون هذا في بعض المواضع والمناسبات، وذلك من باب (التقية)؛ فإن كان للطبرسي وغيره قول بالإنكار فهو من هذا الباب. ولي أن أسجل هنا عجبي من بعض أهل السنة وهيامهم بموضوع التقارب مع الشيعة! كم هي نسبة الشيعة في العالم إلى أهل السنة؟ إن عدد المسلمين يساوي المليار والنصف، أي ألفاً وخمس مئة مليون. والشيعة لا يزيدون على أن يشغلوا مساحة سبعين مليوناً من مئة المليون الخامسة عشرة، ليبقى لأهل السنة أربع عشرة مئة مليون صافية لهم دون شريك! فهلا شغلوا أنفسهم بالتقريب ما بين هذه المئات من الملايين، واستغلوا طاقاتها وجهودها في سبيل أهدافهم الكبرى! واستغنوا بها عن هذه الشرذمة. فكيف إذا كان الشيعة يرفعون شعار التقريب للدخول في صفوفنا من أجل التآمر والتخريب؟ ألا إنه لولا الخذلان لما كان ما كان.
نعم.. في الشيعة من لا يقول بسب الصحابة فضلاً عن تكفيرهم؛ وهم الشيعة الزيدية في اليمن، وهؤلاء هم أهل التفاهم والوفاق الصادق.. ولا غير.
* هل كل الشيعة الجعفريَّة الاثنى عشريَّة يرون تحريف القرآن؟ وسبب سؤالي هو أنَّ بعض الكتَّاب يرون أنَّ اتهام الشيعة بأنهم يقولون: إنَّ القرآن محرَّف أو بعض آياته، كذلك هو قول فيه تجاوز؛ إذ يقولون: إنَّ الشيعة لا يقرؤون إلاَّ من المصحف الذي نقرأ فيه وهو المصحف الموجود في مساجدهم في طهران والنجف وغيرها؟ فما قولكم؟(/12)
- وهذا من الخذلان أيضاً! وإذا كان (الاعتراف سيد الأدلة) فالأمر خارج عن دائرة التهمة الباطلة إلى الحقيقة الثابتة. لقد أجمع علماء الشيعة على هذه العقيدة، وألفوا في نقل هذا الإجماع المؤلفات التي طبقت شهرتها الآفاق؛ ألم يسمع هؤلاء الكتاب بكتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) للنوري الطبرسي، وهو أحد سبعة أشخاص في تاريخ الشيعة قام عليهم المذهب، وصاحب كتاب (مستدرك الوسائل) أحد الكتب الثمانية المعتمدة عندهم؟! حتى قال خاتمة محدثيهم محمد باقر المجلسي عن أخبار أو روايات التحريف (مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول): (وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة، وطرحها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً، بل اعتقادي أن الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة)، وكذا قال النوري الطبرسي...هذا نص قولهم! ولم يرده أحد منهم برغم كفره وشناعته! أما ما يفعله بعضهم من الإنكار -عندما يخرج على رؤوس الملأ، أو في الكتب الدعائية المؤلفة خصيصاً لترويج المذهب مثل كتاب (المراجعات)- فمكابرة يستجيزونها تقيةً خوف الفضيحة، لعظم الجريمة! وهذا ما قرره الطبرسي في (المقدمة الثالثة) من الكتاب حين قال: (إن هذا مما أجمعت عليه الطائفة إلا من شذ)، وحمل قول هؤلاء الشاذين على (التقية). وممن ذكر إجماع الطائفة على التحريف الشيخ المفيد (أوائل المقالات ص184) أستاذ الطوسي شيخ الطائفة على الإطلاق، ومنهم نعمة الله الجزائري بقوله في (الأنوار النعمانية): (إن الأخبار الدالة على وقوع التحريف في القرآن كلاماً ومادةً وإعراباً هي أخبار مستفيضة ومتواترة وصريحة. وإن علماء المذهب قد أجمعوا وأطبقوا على صحتها والتصديق بها). بل تجرأ بعض رقعائهم فادعى إجماع (أهل القبلة من الخاص والعام) على هذا القول الشنيع، كما جاء في كتاب الطبرسي ص31 آنف الذكر عن الشيخ يحيى تلميذ الشيخ الكركي الملقب بمخترع مذهب الشيعة.(/13)
وتجد قول بعض أهل السنة: (إنَّ الشيعة لا يقرؤون إلاَّ من المصحف الذي نقرأ فيه وهو المصحف الموجود في مساجدهم في طهران والنجف وغيرها) دليلاً على (أن اتهام الشيعة بأنهم يقولون: إنَّ القرآن محرَّف أو بعض آياته كذلك هو قول فيه تجاوز) تجاوزاً على الحقيقة. أما أن الشيعة لا يقرؤون إلا من المصحف الذي نقرأه اليوم؛ فلعجزهم عن الإتيان بغيره؛ فاكتفوا بالدعوى دون لازمها. وهل هي أول دعوى خلت من الإثبات؟! فكم من الدعاوى بلا أثر على الواقع! فهل يصح أن يتخذ هذا دليلاً على عدم وقوع الادعاء من الأدعياء؟!
وأود أن أسجِّل ملاحظة؛ وهي أنه لا يصح علمياً تسمية هؤلاء الشيعة بالجعفرية؛ لعدم تحقق النسبة إلى سيدنا جعفر بن محمد رحمهما الله تعالى. وقد كتبت في ذلك كتابي (أسطورة المذهب الجعفري) لمن يريد التوسع!
* هل تتوقعون مواجهة بين المعسكر السنِّي والمعسكر الشيعي؟ وما حدود ذلك وظروفه؟
- المواجهة قائمة الآن في العراق على قدم وساق، وقد تتطور فتشمل المنطقة إذا صار التدخل الإيراني مباشراً. وهذا قد يحدث عند حصول فراغ في العراق لأي سبب، وهو واقع لا محالة إذا امتلكت إيران أسباب القوة، ومنها القوة النووية العسكرية. وحذارِ حذارِ من (الخلايا النائمة) للشيعة الآن في دول الخليج العربي!
* يرى بعضهم أنَّ ما يحصل الآن في العراق من تفجيرات في مراقد الشيعة، وفي مساجد السنَّة، إنَّما هي أصابع صهيونيَّة تشتغل في الظلام، وتطلق يدها في الخفاء لتدبر هذه التفجيرات ثمَّ تتهم الطرف الآخر، ومِمَّن قال ذلك المسمَّى بآية الله حسين المؤيد...؛ فهل حقيقة ما يجري من أفعال كهذه في العراق هي بهذه الصورة؟ وهناك استشهادات من بعضهم ويمثِّلون على ذلك بأنَّه حصل اتفاق صلح بين السنة والشيعة في اتفاق مؤتمر النجف، وساد الهدوء بينهم في تلك المدة، ولكنَّ البريطانيين فجَّروا الاقتتال بين السنة والشيعة من جديد عبر الطرق الخفيَّة؟(/14)
- هذا كلام تقليدي مكرر، صادر من أصحاب عقيدة (ختم العداوة)، وممن يدس رأسه في التبن خوفاً من رؤية الحقيقة، من أجل أن يظل واضعاً رجلاً على رجل، ولا يكلف نفسه حتى عناء البحث واختبار الأفكار، ومن بعض الشيعة -كحسين المؤيد هذا- الذين اقتسموا الأدوار فيما بينهم، فكانت حصتهم محددة في رفع شعار التقريب ذراً للرماد في عيون المغفلين، ومزيداً من التخدير لأهل السنة، وعلى قاعدة (تعدد أدوار ووحدة هدف). نعم لليهود أصابعهم، وللأمريكان دورهم في الفتنة، وقد هيؤوا البيئة الحاضنة لظهورها. ولكن لإيران والشيعة دورهم ومخططهم أيضاً، وذلك من قبل ظهور إسرائيل وأمريكا على خريطة الوجود. واقرؤوا كتب الشيعة، واطلعوا على عقائدهم التي وضعوها قبل أكثر من ألف عام. عقيدة المهدي مثلاً... متى ظهرت؟ وما دور المهدي غير قتل السنة واجتثاثهم على يد هؤلاء؟! ولماذا سمى مقتدى أتباعه واختار لهم اسم (جيش المهدي)؟ وكيف أنهم يعتقدون أن ظهور المهدي قد اقترب؛ حتى إن بعضهم حدد ظهوره في مطلع السنة الهجرية القادمة، كما جاء في كتاب (اقترب الظهور) لمؤلفه المدعو عبد محمد حسن! وهم الآن لا يعملون أكثر من تنفيذ ما دونوه وخططوا لفعله قبل أكثر من ألف عام؛ أفكل هذا بفعل الصهاينة وإيحائهم؟! والفرس تلقوا هذا بكل سذاجة وبلاهة، وقاموا بتدوينه أداء للأمانة العلمية؟! أم ليس من أحد في الكون لهم أجندة ومخططات ومشاريع إلا الصهاينة؟ فما هذا الاستغراق في (نظرية المؤامرة) إلى هذا الحد من الهوان؟!(/15)
هل تعلم أن المستفيد الوحيد من هذه المقولة هم الشيعة؛ ولذلك تجد حسين المؤيد وأمثاله من الشيعة كجواد الخالصي وغيره، هم أكثر من يرددها ويهرف بها... وهذا هو دوره في اللعبة. والسر في ذلك أنهم يرون أصحابهم الشيعة، وكعبتهم إيران، متورطين في عمليات الإبادة والقتل الطائفي إلى الأذقان، والفضائح لا يمكن سترها بغربال؛ فليس أفضل ولا أسهل من إلقاء التهمة على شماعة الصهاينة والأمريكان.
وأنا أسأل: إذا كانت هذه المقولة حقيقة؛ فهل يجهلها قادة الشيعة وعلماؤهم ومراجعهم في العراق وإيران؟ إذن لماذا لا يوعزون إلى من ينفذها من أتباعهم بالكف عن العمل على قتل أهل السنة وتهجيرهم ومحاولة اجتثاثهم؟ أم هذه الحقيقة لا يعرفها غير حسين وجواد وأمثالهم من المتاجرين؟ هل تعلم أن حسين المؤيد هو صهر عبد العزيز الحكيم؟! وهل اطلعت على موقعه لترى أول صورة تفاجئك عند فتحه؛ هي صورة النار رمز العبادة المجوسية؟! بعد أن تملأ ناظريك باللون الأسود شعار الفرس!
أما (مؤتمر النجف) الذي تذكره فلم أسمع به من قبل، وما هو إلا من هلوسات المنهزمين وتهويسات المتاجرين. وإن كان له وجود؛ فليس حاله بأحسن من حال ما سمي بـ(مؤتمر مكة) الذي عقدوه في رمضان الماضي، وافتتحوه بتلك الفرية التي تقول: (لا فرق بين مذهب السنة والشيعة إلا بما دخل تحت باب التأويل)! وكان أحد الموقعين عليه كبير جزاري الشيعة جلال الدين الصغير صاحب (مسلخ براثا)! الذي يقول الله –تعالى- فيه وفي أمثاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].(/16)
* في العراق الآن إدانات من قِبَلِ الشيعة الروافض للحرب بينهم وبين أهل السنَّة، بل إنَّ السيستاني أدان تفجير مراقد وقبور الصحابة -رضوان الله عليهم- وحين خرج مقتدى الصدر بعد اختفائه، خرج بلغة دبلوماسيَّة يدعو فيها السنة والشيعة لمقاتلة المحتل الأمريكي؛ فما سر هذه الدعوات من شخصين كانا إلى عهد قريب يؤجِّجان الشيعة في قتالهم للسنة؟
- الشيعة وإيران فُضِحوا اليوم في العراق أيما فضيحة، وأهل السنة بدؤوا بالاستيقاظ، والقيام بردة الفعل؛ فمن ذكرتهم يريدون معالجة الأمر وتغطية السوأة بمثل هذا؛ عسى أن يكسبوا مزيداً من الوقت، ورصيداً آخر من المغفلين. أما الحقيقة فهي أنَّه لم يتغير منها شيء، وما دعوة مقتدى الأخيرة شيعته إلى (المسيرة المليونية) نحو سامراء إلا حلقة في المسلسل الخبيث الذي تضطلع به هذه الشخصيات والمرجعيات.
* المستقبل العراقي بالتأكيد يشوبه كثير من الغموض، ولكن برؤيتك الاستشرافيَّة لواقع العراق المستقبلي، ماذا تتوقع؟(/17)
- أتوقع الخير، وأنا متفائل برغم الألم الذي يخنق الأنفاس! لقد استيقظ المارد السني بعد قرون وعقود من الخدر الذي كان يسكبه على رأسه قادته وعلماؤه ومشايخه –إلا القليل– وما عاد يسمع لدعواتهم الانهزاميَّة الساذجة. والمقاومة بخير، وهي تصول وتجول في ربوع المثنى وعمر وابن مسعود. أما الشيعة فقد فُضِحوا وهانوا وأهينوا على رؤوس الأشهاد، وما عاد في أيديهم من ورقة تستر عورتهم. فإذا أحسنا استغلال الفرصة فالأمر راجع لا محالة إلى أهل السنة. والشيعة لا يمكن أن يستمروا في حكم العراق ما داموا يحملون في قحوفهم تلك العقلية الانتقامية المتخلفة. وصدق مصطفى السباعي -رحمه الله- حين قال: (العقائد التي يبنيها الحقد يهدمها الانتقام). وواقعياً ليس للشيعة من قدرة على تحمل هذا العبء بعد خروج الأمريكان، ولا هم يصلحون لها. وهم يعلمون ذلك تماماً؛ ولذلك تراهم لا يطمعون بأكثر من تقسيم العراق تحت ذريعة الفيدرالية، والانفراد بحكم الجنوب، ويلحون ويستعجلون الأمر خوفاً من فوات الفرصة. على أنهم قد يتحقق لهم ذلك، ولكن اعلم أنه إلى حين. والعراق مر بمثل هذه النازلة أكثر من مرة في التاريخ، ولكنه في كل مرة يعود إلى أهله سليماً معافى، والله تعالى يقول: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
* هل من كلمة أخيرة؟
- أقول: إن سطور المجد تكتب اليوم في بلاد الرافدين، وإخوانكم العراقيون يخوضون المعركة نيابة عن الأمة. إن المعركة في العراق هي معركة الأمة كلها؛ فإذا انتصرنا انتصرت، وإذا كانت الأخرى -لا قدر الله- فإن عهود الظلام عليها ستطول. فعليها أن تسعف أهل السنة وتقف إلى جنبهم في محنتهم بكامل أنواع الوقوف. على أننا لسنا في حاجة إلى رجال؛ فالرجال عندنا كثير.
شكراً لكم.. والسلام عليكم.
ـــــــــــــــــــــــــ(/18)
[1] هذا الكتاب عرضت مجلة البيان مضمونه في مقالة كتبها أبو أويس البغدادي، في عدد 218 الصادر في شهر شوال عام 1426هـ.(/19)
العنوان: الصابئة والمنجمون
رقم المقالة: 1572
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، خلق الخلق بقدرته، وابتلاهم بحكمته، فسلك سبيل الحق أقوام منهم؛ فنالوا رحمته، واستحقوا جنته، وتنكَّب آخرون طريقه؛ فاستحقوا عقابه، وما حاسبهم ولا عاقبهم إلا بعدله. أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره؛ هدانا للإيمان، ومنَّ علينا بالقرآن، ووفقنا للتوحيد؛ فلا نَزالُ نرى أقوامًا جدُّوا في العبادة، واجتهدوا في العمل، فكان عملهم هباءً، وجِدُّهم وبالاً؛ لأنهم ما سلكوا الطريق الصحيحة: إما وثنيّونَ أو قُبوريّون، وإما يهود أو نصارى أو ملاحدة.
فهل ترون نعمة أعظم من الهداية؟ تعملون فعملكم محفوظ، وأجره موفور. ويعمل غيركم ولا جزاء لهم إلا النصب والتعب!! فاللهم لك الحمد والشكر، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا نرجو سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، هدم للوثنية أركانًا، وأقام للتوحيد منارًا يبقى ما بقيت الأيام، ولا يزول حتى تزول الدنيا، فلا تزال طائفة من أُمَّته على الحقّ ظاهرين حتى يأتِيَ أمْرُ الله وهم على ذلك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيأيها الناس: اتقوا الله - تعالى - وأحسنوا؛ فليست العبرة بكثرة العمل؛ بل هي بإحسانه وقبوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ} [الملك: 1-2].(/1)
أيها المؤمنون: طمأنينة العبد في الدنيا، وفوزه في الآخرة، مرهون بحسنِ توحيده، وصحة معتَقَدِه. وليس من خافَ آلهةً عدة كمن خاف ربًّا بيده النفع والضر، ولا من رجا من لا يملك شيئًا كمن رجا من بِيَدِه خزائنُ كل شيء.
وتحقيقُ التوحيد نعمةٌ ربما لا يعرف قدرها من نشأ عليها، وتربى في أحضانها؛ لكنه يدرك فضلها، ويحس نعمتها إذا رأى من فقدها من عباد القبور والأوثان، والعجل والصلبان، ممن خافوا حجرًا لا ينفع ولا يضر، أو تعلَّقوا بعظم صار رميمًا، أو غيرهم ممن يطول عدهم، وتَعِزُّ على الحصر آلهتهم؛ ولكنهم وإن اختلف أربابهم، وتعددت معبوداتهم، اجتمعوا على التأله لغير الله - تعالى - وعبادة غيره ممن {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3].
كان منهم أقوام عظموا الكواكب، واستسقَوْا بالأنواء، واعتقدوا أن ما يجري في الأرض من حوادث وكوارث هو بفعل الأنجم والأفلاك. يقودهم في ضلالهم هذا سحرة ومنجمون، وكهان وعرافون، تراهم شرَّ البرية حالاً، وأحطهم قدرًا ومقامًا.
وما أقوى ارتباطَ السحر بالكهانة، والتنجيم بالعرافة، تشترك في ادعاء علم الغيب، وزعم النفع والضر، وصرف العبادة لغير الله - تعالى - عبر تمتمات وطلاسمَ، وأفعالٍ وشعائر، يرفضها العقل السوي، وتأباها الفطرة النقية؛ فضلاً عن شرع الله المطهَّر.(/2)
وعلى الرغم من ذلك فإن فئامًا من هذه الأمة لن ينفكوا عن ممارسة ذلك، والتصديق به، كما هو خبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة))؛ أخرجه مسلم[1]، وفي الصحيحين من حديث زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في إثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم))؟ قالوا: "الله ورسوله أعلم". قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب))[2].
لقد كان تعظيم الكواكب والاعتقاد فيها شريعة قديمة في البشر، واشتهر به الصابئة المنسوبون إلى قوم إبراهيم الخليل - عليه السلام - وهم على أقسام أربعة: أصحاب الروحانيات، وأصحاب الهياكل، وأصحاب الأشخاص، والحلولية[3].
كانوا يعتقدون أن الملائكة تسكن الأفلاك، وأن لهذه الأفلاك تأثيرًا على الأرض وعلى حياة الناس فيها؛ فتقربوا إلى الهياكل والروحانيات تقربًا إلى الله - تعالى - حسب زعمهم؛ فجعلوها وسائط بينهم وبين الله - تعالى - ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منه العجب، وما هذه الطلسمات المذكورة عند السحرة والكهان وأهل التنجيم والتختيم إلا من علومهم، وهؤلاء هم أصحاب الهياكل.(/3)
وأما أصحاب الأشخاص فاتخذوا أصنامًا على مثال الهياكل السبعة السيارة في السماء؛ فعبدوا تلك النُّصُب بزعم أنها وسائط، وقابلوها بالبخور والأطياب وأنواع اللباس، ودعوها وسألوها قضاء الحاجات، وهؤلاء وأولئك أخبر التنزيل عنهم أنهم عبدة الأوثان والكواكب؛ فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب؛ إذ قالوا بإلهيتها. وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان؛ إذ سموها آلهة في مقابل آلهة أولئك السماوية وكلهم قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله تعالى[4].
وقد ناظر الخليل - عليه السلام - هذين الفريقين، فابتدأ بكسر مذهب أهل الأشخاص كما قال الله - تعالى -: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] وتمثلت تلك الحجة في كسر أقوالهم وحججهم حينما قال لهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافات: 95-96].
وكان أبوه أعلم القوم بالأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية؛ ولهذا كانوا يشترون منه أصنامهم، فدعاه إلى الحنيفية، وأكْثَرَ القول عليه، وألزمه بالحجج الباهرة، والبراهين الساطعة[5]، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74][6].
وناداه فقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 42-45].(/4)
ولكن أباه لم يستجب ولم يؤمن {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46].
فلما رأى إبراهيم - عليه السلام - إصرارهم على الكفر عمد إلى دحض حجتهم بالفعل فكسر أصنامَهم، وعزا ذلك إلى كبيرِهم فانتكسوا ودحروا {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 63-67]؛ فدحض - عليه السلام - حجَّتَهُم بالعقل، كما كسر أصنامهم بالفأس.(/5)
ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل كما أراه الله - تعالى - الحجة على قومه فناظرهم في تلك الهياكل، التي يعبدونها من دون الله - تعالى - فقررهم وألزمهم، ثم دحض حجتهم، وهدم مذهبهم {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآَفِلِينَ} [الأنعام: 75-76]. فالإله ينبغي أن لا يأفل ولا يغيب {فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]. وكان اعتقادهم في القمر أعظم من اعتقادهم في الكواكب؛ فأخَّرَ القمر وقدم الكوكب، وكان اعتقادهم في الشمس أعظم من القمر والكواكب؛ حيث جعلوها رب أربابهم، وملك أفلاكهم، ومقتبس أنوارهم[7]؛ فأخَّرَها ليهدم اعتقادهم فيها، ثم ليقرر التوحيد لله رب العالمين {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78-79].(/6)
فأنهى - عليه السلام - فصول المناظرة، وقطع حجج المخاصمة، وأبطل دين الصابئة، وقرر مذهب الحنيفية {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161]، {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي الله وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 80-82].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن دين الصابئة الذي أبطله القرآن، وبطل بكل مقاييس الشرع والعقل والفطرة، لا يزال أقوام يأخذون منه بعض شعائره في حضارة القرن الحادي والعشرين، ويكثر ذلك في الدول التي ينظر إليها على أنها حقَّقتْ سبقًا حضاريًّا على سائر الأمم، والتي جعلت من مسلَّماتها الإيمان بالمادة، والكفر بالغيب؛ إلا أنَّ أفرادها إلى الخرافة والشعوذة والتنجيم والكهانة يستبقون، حتى راجت فيهم أسواق السحرة والمنجمين والكهان والعرافين.(/7)
وقد تبعها على ذات الخط المظلم بلاد علمانية، قسرت شعوبها المسلمة على الزندقة والإلحاد، وألغت كثيرًا من شعائر الدين الظاهرة بِحُجَّة أن ذلك تخلف ورجعية؛ فتنظر لتجد أن سوق السحر والتنجيم فيها رائجة؛ لإضلال الناس، وغواية العامة، فليس ذلك مما يعوق عن التقدم، ولا هو دليل على التخلف. أما الدين الصحيح فهو التخلف والرجعية عند هؤلاء الزائغين!!
وإصرارًا على إفساد عقائد الناس، يبث عبر الفضاء، وعلى مرأى من جميع الناس، برامج يستضاف فيها منجم خبيث يجيب عن تساؤلات السائلين، قد علق مسبحته في يده، واسودت جبهته من سجوده؛ إمعانًا في التلبيس والإضلال، وربما تلا شيئًا من القرآن، أو قال ذكرًا من الأذكار. ثم يلقي عليه السذج والرعاع أسئلتهم؛ ليكشف لهم الغيب، ويذكر ما يحدث لهم في مستقبلهم؛ بل ويذكر لهم صفاتهم وأخلاقهم، وما ينبغي لهم عمله بما يوافق عمل أبراجهم وكواكبهم، ويبث ذلك تحت سمع وبصر دعاة الأمن الفكري من لوثات التدين والأصولية وغيرها من الشعارات الرخيصة. فأين هو الأمن الفكري من إفساد عقائد الناس وتوحيدهم، ويصل ذلك إلى نساء الموحدين وأطفالهم في بيوتهم عبر الشاشات والأثير[8]، فيا ترى كيف ستكون عقائد أقوام يربون على تلك الخرافات والضلالات؟!
بل إن الصحف العلمانية في كثير من البلاد الإسلامية جعلت جداول يومية للمنجمين يطلع عليها المرء قبل خروجه من المنزل، وبناءً عليها يخرج أو يبقى، ويقدم أو يحجم!!
وكثيرٌ من أهل التجارات، وأصحاب رؤوس الأموال يعملون بمقتضى هذا الدجل الرخيص خاصة في إرساء العقود والمناقصات، فأين هم من التوحيد والإيمان وقد اعتقدوا في النجوم والأفلاك ما لا يجب أن يعتقد إلا في رب العالمين جل في علاه؟!(/8)
قال قتادة - رحمه الله تعالى -: "إن الله إنما جعل هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يُهتدى بها، وجعلها رجومًا للشياطين؛ فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم له به، وإن ناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود، والطويل والقصير، والحسن والذميم. وما عِلْمُ هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدًا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجده ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء"ا هـ[9].
ووالله ثم والله إن ما ذكره قتادة - رحمه الله - قد وقع فيه كثير من الناس في البلاد الإسلامية: لا يسيرون ولا يعيشون إلا بمقتضى هذه البروج، وتحت تعليمات أولئك المنجمين الكذابين؛ حتى صرفوا من الخوف والخشية للأبراج والأفلاك أكثر مما يصرفون لله - تعالى - ورجوها من دون الله!! يتعس أحدُهم لأن نجمه لم يوافق حظًّا يريده، أو امرأة يتزوجها، أو وظيفة يطلبها، أو غير ذلك!!
فإلى الله المشتكى من زمن يوصف بأنه زمن العلم والتقدم والحضارة، وقد سرى فيه التنجيم والشعوذة والخُرافة، فاللهم احفظنا بحفظك وثبتنا على الإيمان والتوحيد، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الصَّافات: 180-182]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
---
[1] أخرجه مسلم في الجنائز باب التشديد في النياحة (934).
[2] أخرجه البخاري في الاستسقاء باب قول الله – تعالى -: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] (1038)، ومسلم في الإيمان باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (71).(/9)
[3] انظر: "الموسوعة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة" (2/731).
[4] انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني بهامش "الفصل في الملل والنحل" لابن حزم (2/97) و"محاسن التأويل" للقاسمي (3/355) عند تفسير الآية (79) من سورة الأنعام.
[5] انظر: "محاسن التأويل" (3/355).
[6] جزم بعض المتأخرين بأن (آزر) لم يكن أبًا لإبراهيم وإنما هو عمه، واستدلوا لذلك بأدلة لا تنهض، ليس هذا مجال بحثها، وأعرضوا عن ظاهر القرآن، والدافع لهم إلى ذلك - والله أعلم - أنهم أرادوا نفي كون أحد آباء النبي - صلى الله عليه وسلم - مات على الشرك، كما هو مذهب الروافض، وأخذ به بعض العقلانيين، وهو قول مخالف لصريح السنة الصحيحة، التي ثبت فيها في الصحيحين وغيرهما، أن أبا إبراهيم يؤخذ بقوائمه إلى النار يوم القيامة، وثبت أن والد النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدَالله بن عبدالمطلب في النار أيضًا كما جاء في حديث أنس - رضي الله عنه -: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، أين أبي"؟ قال: ((في النار)) فلما قفى دعاه فقال: ((إن أبي وأباك في النار))؛ أخرجه مسلم (203) وابن منده في الإيمان (926) وأحمد (3/268) وأبو داود (4718) وله شاهدان عن سعد بن أبي وقاص وعمران بن حصين رضي الله عنهما. قال النووي - رحمه الله تعالى - في شرحه على صحيح مسلم (3/97): "فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم" اهـ. وليس لنا حيال ذلك إلا التسليم. والصواب الذي لا مرية فيه أن (آزر) هو أبو إبراهيم الخليل - عليه السلام - كما هو قول جمهور المفسرين ومن يعتد بقوله من العلماء.
[7] انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني (2/98) و"محاسن التأويل" (3/356).(/10)
[8] كثيرة هي البرامج والمقابلات، التي تجرى مع هؤلاء الخرافيين من السحرة والمشعوذين والمنجمين والعرافين، وتتولى كِبْرَ ذلك معظمُ القنوات العربية، التي تزخر بكثير من الشبهات والشهوات، وتعرض تلك البرامج على فترات متقطعة، ومنها ما هو منتظم كبرنامج في الفضائية المصرية يعرض كل أسبوع وفي رمضان كل يوم عنوانه "برجك إيه"! وآخر في قناة ANN فيه تنجيم أيضًا، فالله المستعان.
[9] أخرجه البخاري في بدء الخلق باب النجوم، مختصرًا معلقًا مجزومًا به، ووصله عبد بن حميد كما في "فتح الباري" (6/341) وعزاه الشيخ عبدالرحمن بن حسن - رحمه الله تعالى - في "فتح المجيد" للخطيب في كتاب النجوم (444) وعزاه الشيخ سليمان بن عبدالله - رحمه الله تعالى - في "تيسير العزيز الحميد" لعبدالرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ (448).(/11)
العنوان: الصبر على أقدار الله
رقم المقالة: 678
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي وعد الصابرين بغير حساب، وأثاب الشاكرين على النعم بدوامها والازدياد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من غير شك، ولا ارتياب، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله سيد الرسل وخلاصة العباد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين والمآب وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وكونوا مع الصابرين، فإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، والصبر حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط من أقدار الله، وما أعطي الإنسان عطاء خيراً، وأوسع من الصبر، فإذا صبر الإنسان نفسه على طاعة الله، وثابر عليها صارت غريزة له وطبيعة يفرح بفعلها، ويغنم لفقدها، وإذا صبر نفسه عن المعصية تعودت ترك المعاصي، وصارت المعاصي مكروهة لديه وبغيضة عنده يفرح بفقدها، ويغتم لوجودها حتى يوفق للتوبة منها، وإذا صبر نفسه عن التسخط من أقدار الله صار راضياً مطمئناً بما قدره الله عليه إن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له فالإنسان يصاب بمصيبة في نفسه، ومصيبة في أهله، ومصيبة في ماله، ومصيبة في أصحابه، ومصيبة في نواح أخرى، فإذا قابل هذه المصائب بالصبر وانتظار الفرج من الله صارت المصائب تكفيراً لسيئاته، ورفعة في درجاته، وقد وردت الآيات، والأحاديث الكثيرة في ذلك، فقال الله تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها، وقال لامرأة من الصحابيات: أبشري فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الحديد والفضة)) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله تعالى، وما عليه خطيئة)) وقال: ((ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها، إلا كتب له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة)) وقال: ((صداع المؤمن وشوكة يشاكها، أو شيء يؤذيه يرفعه الله بها يوم القيامة درجة، ويكفر عنه بها ذنوبه)) الصداع وجع(/2)
الرأس، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)) يريد عينيه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها)) وقال: ((ما من مسلم له ثلاثة لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)) وقال للنساء: ((ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد، إلا كانوا لها حجابا من النار، فقالت امرأة: واثنين فقال: واثنين)). فهذه الأحاديث، وما ورد بمعناها بشرى للمؤمن يحتسب من أجلها المصائب التي يصيبه الله بها، فيصبر عليها، ويحتسب ثوابها عند الله ويعلم أن ذلك من عند الله تعالى وأن سببه من نفسه كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. اللهم إنا نسألك ان تجعلنا ممن إذا ابتلي صبر، وإذا أنعمت عليه شكر، وإذا اذنب استغفر، واغفر لنا، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.(/3)
العنوان: الصبر وأقسامه
رقم المقالة: 677
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الرب الرحيم الرحمن الحكيم بما يقتضيه في كل زمان، اللطيف بعباده حين تقلقهم الهموم والأحزان الذي وعد الصابرين أجرهم بغير عد ولا حسبان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي صبر على أقدار الله، وعلى طاعة الله، وعن معاصي الله، وعلى إيذاء بني الإنسان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبعوا أثرهم بإحسان وسلم تسليماً.(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر، وبه يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم، وبين ذوي الجبن والضعف والخور، والصبر من مقام الأنبياء والمرسلين وحلية الأصفياء المتقين، قال الله تعالى عن عباد الرحمن: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً} وقال عن أهل الجنة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}{سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} والصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله التي يجريها إما مما لا كسب للعباد فيه، وإما مما يجريه الله على أيدي بعض العباد من الإيذاء والاعتداء، فالصبر على طاعة الله أن يحبس الإنسان نفسه على العبادة، ويؤديها كما أمره تعالى، وأن لا يتضجر منها، أو يتهاون بها، أو يدعها، فإن ذلك عنوان هلاكه وشقائه، ومتى علم العبد ما في القيام بطاعة الله من الثواب هان عليه أداؤها وفعلها، فالحسنة ولله الحمد إذا أخلص الإنسان فيها لله، واتبع رسول الله كانت بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء، وفضل الله ليس له حد، ولا انحصار، وأما الصبر عن معصية الله، فأن يحبس الإنسان نفسه عن الوقوع فيما حرم الله عليه مما يتعلق بحق الله، أو حقوق عباده، ومتى علم ما في الوقوع في المحرم من العقاب الدنيوي والأخروي والاجتماعي والفردي، وأن ذلك مما يضر بدينه، ويضر بعاقبة أمره بل، ويضر بمجتمعه، فإن الذنوب عقوباتها في الدنيا قد تعم، ويبعث الناس على أعمالهم ونياتهم متى علم العاقل ما يقع من جراء الذنوب أوجب ذلك أن يدعها؛ خوفاً من علام الغيوب، وأما الصبر على أقدار الله، فمعناه أن يستسلم الإنسان لما يقع عليه(/2)
من البلاء والهموم والأسقام، وأن لا يقابل ذلك بالتسخط، والتضجر، وفعل الجاهلية المنكر في الإسلام، وأن يعلم أن هذا البلاء لنزوله أسباب وحكم لا يعلمها إلا الله، وأن يعلم أن لدفعه، ولرفعه أسباباً من أعظمها لجوؤه ودعاؤه وتضرعه إلى مولاه، فهذه الأمراض التي أرسلها الله تعالى على عباده إنما هي رحمة بهم ليرجعوا إليه، وليعرفوا أنه هو المتصرف بعباده كما يشاء، فلا اعتراض عليه له الملك، وله الحمد، وله الخلق، وله الأمر، وبيده الخير، وهو على كل شيء قدير، ومع هذا فتلك الأمراض لم يحصل فيها، ولله الحمد نقص في النفوس ولا هلاك، وإنما هي أمراض يسيرة خفيفة قدرها المولى ولطف بعباده، فلله الحمد رب السماوات والأرض، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. بارك الله لي ولكم.... الخ.(/3)
العنوان: الصّحابة الكرام في سطور من نور (1)
رقم المقالة: 1888
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
الصّحابة الكرام في سطور من نور (1)
الحلقة الأولى : أبو بكر الصديق رضي الله عنه
صاحبُ الشّمائل الطيّبة.... والنّفس النقيّة... واللسان الصّادق..
ذو العقل الذي يتكلّل بالوقار، والروح التي تُفيض عذوبةً ومحبّة..
إنّه أعظم البشر بعد الأنبياء، وصاحب رسول الله ورفيقه إلى أعظم هجرة.
وثاني اثنين إذهما في الغار...
اشتُهر بقوّة العزيمة وحُسن الرأي، والحلم والتواضع.. والشّجاعة، والعطف على الفقراء.
كان كريماً لا يردّ السّائل والمحتاج، وبسّاماً لا يَعْبِسُ في وجوه الآخرين، ومتواضعاً ومتعاونا يعطف على الصغار ويوقّر الشيوخ الطاعنين في السنّ.
ثمّ ألا يكون صحابي هذه صفاته مبشراً بالجنّة ؟ بلى.. إنه من المبشّرين بالجنّة
نعم هو عبد الله بن أبي قُحافة التيميّ القرشيّ الذي وُلد بمكة سنة إحدى وخمسين قبل الهجرة.
- وهو أول من أسلم من الرجال، كما أسلمَ على يده الكثير من الصّحابة.
- والد أم المؤمنين عائشة، والصحابية الجليلة أسماء ذات النطاقين.
- كان ماشياً ذات يومٍ في طرقات مكّة فأبصر أميّة بن خلف يعذّبُ بلالاً تعذيباً لا يُطاق، فقال لأميّة: "ألا تتّقي الله في هذا المسكين؟ قال: أنت الذي أفسدتَه فأنقِذه مما ترى، فقال أبو بكر: أفعلُ، عندي غلام أسود أجلَد منه وأقوى، على دينك، أعطيكه به، قال: قد قبلت، فقال: هو لك، فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه".
- لقّبَ بالصّديق لأنه صدّق الرسول برسالته، وصدّقه في خبر الإسراء والمعراج.
- لما أخبره رسول الله أنه انتفع بماله كثيراً، بكى وقال: أنا ومالي لك يا رسول الله!
- تولّى خلافة المسلمين بعد رسول الله.
- فأرسلَ جيش أسامة لقتال الروم في بلاد الشام.
- وقاتلَ المرتدّين، وانتصرّ عليهم.(/1)
- ثمّ أمر بجمع القرآن خوفاً عليه من الضّياع.
- وليس ذلك فحسب ولكنّ الفتوحات الإسلامية في العراق والشام بدأت في عهده
- ويكفيه فخراً أنّ عليّا عندما سُئلَ من خيرُ الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلّم
أشار إليه رضوان الله عليهم أجمعين..
هذه هي أبرزُ أعمال الغصن المزهر والقلب العاطر والداعية الحكيم والصّادق الصّدوق أبو بكر الصّديق.. الذي قدّم للإسلام أسمى وأغلى مايملك... وقدّم في سبيل صاحبه رسول الله كلّ غالٍ ونفيس.. وظلّ يمضي الصحابي الجليل في رحلة النور حتى وافته المنية عام ثلاث عشرة للهجرة، ودُفن بجوار المصطفى صلى الله عليه وسلّم عن عمر يناهز ثلاثة وستين عاماً. رضي الله عن أبي بكر، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء...(/2)
العنوان: الصّحابة الكرام في سطور من نور (2)
رقم المقالة: 2010
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
الصّحابة الكرام.. في سطور من نور (2)
الحلقة الثانية: عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أيُّ قلبٍ ذاك الذي يجمعُ بين الحنان الدافق والعَدل المُنصف...قامتُه الشمّاء تفوق الجبال هيبةً ولكنّها، تنحني وتتواضع لطفلٍ صغير أو عجوز طاعنة... عيونه سهامٌ حادّة تُرهب أعداءَ الله ورسوله في النهار، وسحابةٌ نديّة تهمي بالدمع بين يدي الخالق في الليل.
كان صُلباً شديداً مع الكفار والقُساة، ورحيماً ليّناً مع المسلمين الفقراء والمساكين.
قلّده ملوكُ الدّنيا وحكّامُها وسامَ العَدل الرّفيع، وشهادة الفارس الصّنديد الذي لا يخشى في الله لومة لائم...
إنه البطل الذي يخاف منه الشيطانُ ويفرّ....
هاجر علانيةً أمام أنظار المشركين فكان بطلاً في هجرته.. وبطلاً في بدر.. وبطلاً في أحد.. وبطلاً في جوف الليل بين يدي ربه.. وبطلاً في النهار بين رعيته.. كان ينصح ويقول: لا تقع فيما لا يعنيك واعرِف عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من يخشى الله.
إنّه عمر بن الخطاب بن نفيل العدويّ القُرشيّ، ولد بمكّة سنة أربعين قبل الهجرة، يُكنى أبا حفص.
كان لإسلامه أثرٌ كبيرٌ في رفعة الإسلام، فلقّبه رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- بالفاروق؛ لأنّه فرق بين الكفر والإيمان...وكان أحدَ العشرة المبشّرين بالجنّة.
- قال عبد الله بن مسعود: "إنّ إسلام عمر كان فتحاً، وإنّ هجرته كانت نصراً، وإنّ إمارته كانت رحمة، ولقد كنّا ما نُصلّي عند الكعبة حتى أسلمَ عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلّى عند الكعبة وصلّينا معه".
- خلف أبا بكر في الخلافة، وكان أول من سُمّي بأمير المؤمنين.(/1)
- كانت خلافته خيرًا وعزًّا للمسلمين؛ فهو أول من وضعَ التاريخ الهجريّ، وأول من أدخلَ نظام العسس، وأوّل من دوّنَ الدواوين في الإسلام، وهي ديوان الجند وديوان الخراج
- فتحَ العراقَ وفارس والشام ومصر، وتمّ في عهده بناءُ مدينتي الكوفة والبصرة في العراق ومدينة الفسطاط في مصر.
هذه هي حياة عمر الفاروق التي كانت ربيعاً زاهياً يمتّع النفوس، ويوسّع الصدور، وكانت خلافته -التي دامت عشرَ سنين وستّة أشهر- مثالاً للعدل والصّدق والزّهد والتّواضع.. وظلّ عمر -رضي الله عنه- يسطّر المآثر تلو المآثر حتى امتدّت إلى جسمه الشّامخ يدُ كافرٍ مملوكٍ فارسي اسمه فيروز ويعرف بأبي لؤلؤة فطعنه، وعندما عرفَ عمرُ من طعنه، قال: الحمد لله إذ لم يقتُلْني رجلٌ سجدَ لله". استُشهد -رضي الله عنه- سنة ثلاث وعشرين للهجرة، ودُفن إلى جوار الحبيب المصطفى وأبي بكر الصّديق...
رضي الله عنك يا عمر الفاروق، وجزاك الله عنّا وعن الإسلام خيراً...(/2)
العنوان: الصّحافةُ في جَزيْرَة العَربْ
رقم المقالة: 388
صاحب المقالة: عبْدالله عَلي الماجِد
-----------------------------------------
تمهيد:
اتخذت الجزيرة العربية تقسيماً سياسياً ثابتاً، وأصبحت بلدانها ذات سيادة مستقلة، بعد أن كانت المطامع والأهواء تتجاذبها، فالمملكة العربية السعودية توحدت عام 1351 هجرية على يدي المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود، وقد بدأت مراحل تكوين المملكة العربية السعودية من عام 1319 إلى 1343 هجرية.
واليمن لم تقم فيه سيادة ثابتة مطلقة، حيث عاش تحت سيطرة الأتراك العثمانيون على دورين، الدور الأول كان عام 945 هجرية، واستمر حتى عام 1048 هجرية، ليبدأ الدور الثاني عام 1265 هجرية، وينتهي عام 1336 هجرية؛ بعد أن تولى الإمام يحيى بعد وفاة أبيه عام 1322 هجرية.
بينما كانت بريطانيا تحتل مناطق الخليج العربي، وجنوب الجزيرة العربية، فينال الكويت استقلاله عام 1961م.
فهذه الأطوار المتغيرة التي لم تمكن بلدان الجزيرة العربية من الاستقرار السياسي الذي تتطلبه الصحافة؛ كان من شأنها أن تؤخر بدء الصحافة وانطلاقها.
وإن بدأت الصحافة في اليمن والحجاز إبان السيطرة العثمانية، فهي لم تستمر الاستمرار الذي يجعل منها صحافة متطورة، فلم يكن لها نصيب من ذلك غير الاسم.
نشأة الصحافة:
أنت ترى أن الاستقرار لم يدم فيما سبق في أقاليم الجزيرة العربية، وهذا يجعل من الصحافة صحافة غير مستقرة، فلا هي تتقدم وتصبح صحافة متطورة، ولا تلغى، بل تصبح في كل حين متغير لساناً ناطقاً لهذا الحال الجديد.
ومن هذا نلاحظ قيام بعض الصحف واختفائها بعد مدة من صدورها كصحيفة (الاصلاح) التي صدرت في العهد العثماني بجدة، وجريدة (القبلة) أيام الهاشميين، وتحل محلها (أم القرى) لتكون الجريدة الرسمية للدولة اليوم.(/1)
يضاف إلى ذلك عامل هام، وهو الظروف المحيطة بالعالم العربي كله، في مجال الطباعة وصناعة الورق، فلم يكن بالحجاز أية مطبعة إلا في عام 1300 هجرية، عندما أسس عثمان نوري الوالي التركي بمكة (مطبعة الحكومة) كأول مطبعة في الحجاز، وقد تم تطويرها عدة مرات بعد ذلك الزمن من إنشائها.
أما في اليمن فقد خلفت الدولة العثمانية مطبعة هزيلة، كانت أنشأتها عام 1295 هجرية، لتطبع عليها جريدة (صنعاء) ثم بعد ذلك جريدة (الإيمان) ومجلة (الحكمة). أما أزمة الورق فقد سببت توقف بعض الصحف كصحيفة (صوت الحجاز).
ومن هنا يتبين لنا أن تخلف الصحافة في الجزيرة العربية يعود لأمرين:
الأول: سياسي والثاني: فني..
ويضاف إليهما عامل ثالث هو: تأخر الثقافة، ولم يكتب للصحافة النهوض إلا بعد منتصف هذا القرن.
وكانت أول صحيفة تصدر في الجزيرة العربية، هي جريدة (صنعاء) الجريدة الرسمية للدولة العثمانية في اليمن، صدرت عام 1297 هجرية.
وفي الحجاز كانت أول صحيفة صدرت هي جريدة (الحجاز) عام 1301 هجرية، أصدرتها الدولة العثمانية لتكون الجريدة الرسمية لها في الحجاز.
وفي نجد كانت أول صحيفة هي مجلة (اليمامة) التي أصدرها حمد الجاسر عام 1372 هجرية، وأول مطبعة أُنشئت في نجد هي (مطابع الرياض) التي أنشأها عام 1374هـ.
وفي عدن صدرت أول صحيفة عام 1359 هجرية، هي جريدة (فتاة الجزيرة).
وفي حضرموت صدرت مجلة شهرية تكتب بخط اليد، لعدم وجود مطبعة في بلدة (سيوون)، وكانت هذه المجلة هي (الإعتصام) صدرت عام 1365 هجرية.
وفي الكويت كانت أول مجلة هي (الكويت) التي صدرت عام 1347 هجرية. أما في البحرين فكانت أول صحيفة تصدر فيه هي (البحرين) صدرت عام 1355 هجرية.
هكذا كانت نشأة الصحافة في الجزيرة العربية، ننطلق من ذلك إلى سرد مفصل للصحف التي صدرت قديماً وحديثاً في الجزيرة العربية.
أولاً؛ المملكة العربية السعودية[1]:
في الحجاز:
الحجاز:(/2)
من أول الصحف التي صدرت في الحجاز، والثانية في الجزيرة العربية، وهي جريدة أدبية علمية أسبوعية، صدرت عام 1301هـ، باللغتين العربية والتركية، وتنطق بلسان ممثل الحكومة التركية بالحجاز؛ وتوقفت عام 1334هـ.
2- الإصلاح:
جريدة سياسية أسبوعية، أصدرتها شركة الإصلاح بجدة عام 1327هـ وتوقفت بعد أشهر قليلة.
3- الإصلاح:
وفي عام 1347هـ أصدر محمد حامد الفقي مجلة بنفس العنوان السابق (الإصلاح) على هيئة مجلة أدبية دينية اجتماعية صدرت شهرية، وتحولت في السنة الثانية إلى نصف شهرية، وتوقفت بعد سنتين.
4- شمس الحقيقة:
جريدة عربية تركية، صدرت عام 1227 هجرية، أصدرتها جمعية الاتحاد والترقي بمكة، وقد انقطعت عن الصدور بعد بضعة أشهر.
5- الصفاء:
من أقصر الصحف عمراً، إذ لم يصدر منها سوى عدد واحد! وهي جريدة يومية، صدرت عام 1327 هجرية.
6- القبلة:
الجريدة الرسمية في عهدها، تصدر مرتين في الأسبوع بمكة المكرمة، صدر العدد الأول منها في 15 شوال عام 1334 هجرية، وكان من رؤساء تحريرها الأستاذ محب الدين الخطيب.
7- المدينة المنورة:
جريدة أسبوعية، أصدرها في المدينة المنورة الجيش التركي الذي كان محاصراً في المدينة عام 1335 هجرية، وقد توقفت بعد احتلال المدينة.
8- الفلاح:
كانت تصدر في سورية قبل الاحتلال الفرنسي، وبعد الاحتلال نقلها صاحبها عمر شاكر إلى مكة عام 1338 هجرية، ولم يكن صدورها متضحاً حتى توقفت نهائياً.
9- المجلة الزراعية:
هي مجلة زراعية تجارية شهرية، صدرت في منتصف عام 1338 هجرية.. ولم تدم طويلاً، حيث توقفت بعد صدور عداد قليلة منها.
10- بريد الحجاز:
إلى جانب جريدة (القبلة) كانت هذه الجريدة تنطق بلسان الحكومة، وقد صدرت عام 1343 هجرية، ولم يصدر منها سوى (22) عدداً.
11- أم القرى:(/3)
هي الجريدة الرسمية للحكومة السعودية اليوم. وقد كان صدورها بدلاً من القبلة، وقد صدر العدد الأول منها في 12 جمادى الأولى عام 1343هـ، أي بعد دخول الملك عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – مكة مباشرة وكان ممن رأس تحريرها يوسف ياسين، ثم رشدي الصالح ملحس – رحمهما الله – وكانت جريدة غنية بالأبحاث – ولاسيما من سنة 1347 إلى 1354 – ولا تزال تصدر حتى اليوم.
12- صوت الحجاز:
جريدة أسبوعية مستقلة، صدرت بمكة في 27 ذي القعدة عام 1350هـ لصاحبي امتيازها محمد صالح نصيف وعبدالوهاب آشي، وقد انتقل امتيازها إلى الشركة العربية للطبع والنشر، وصدرت مرتين في الأسبوع، وتوقفت أثناء الحرب العالمية الثانية.
13- البلاد السعودية:
هي امتداد لصوت الحجاز، فقد صدرت بعد انتهاء الحرب، مرة في الأسبوع بعد أن تغير إسمها في عام 1370هـ صدرت مرتين في الأسبوع ثم ثلاث مرات، وفي ربيع الثاني عام 1372هـ صدرت يومية.
14- عرفات:
مجلة أسبوعية، أصدرها بجدة عبدالحي حسن قزاز عام 1377هـ، وقد استمرت في الصدور حتى أدمجت بالبلاد السعودية باسم (البلاد).
15- البلاد:
صدرت في رجب عام 1378هـ، بعد توحيد جريدة البلاد السعودية ومجلة عرفات، ولا تزال مستمرة في الصدور.
16- المنهل:
مجلة شهرية للآداب والعلوم، أصدرها في المدينة المنورة عبدالقدوس الأنصاري عام 1355هـ، ونقلها إلى مكة فجدة عام 1372 هجرية ولا تزال تصدر.
17- المدينة المنورة:
جريدة أسبوعية، أصدرها بالمدينة المنورة عثمان وعلي حافظ عام 1355هـ، وصدرت مرتين في الأسبوع، ثم نقلت إلى جدة لتصدر يومية، ولا تزال.
18- مجلة الحج:
مجلة شهرية تصدرها وزارة الحج والأوقاف، صدرت عام 1366هـ.
19- الرياض:
مجلة أسبوعية، صدرت شهرية بجدة، أصدرها أحمد عبيد عام 1373 هجرية وتوقفت بعد عام ونصف تقريباً من صدورها.
20- حراء:
جريدة يومية، أصدرها بمكة صالح محمد جمال عام 1376هـ حتى أدمجت بجريدة الندوة.
21- الندوة:(/4)
جريدة يومية تصدرها دار الندوة للطبع والنشر بمكة، وكان ممن رأس تحريرها أحمد السباعي، صدرت في رجب عام 1377هـ أسبوعية مؤقتاً، ثم صدرت ثلاث مرات في الأسبوع حتى أدمجت بحراء وانتقل امتيازها إلى صالح جمال وصارت تصدر يومية ولا تزال.
22- الأضواء:
جريدة يومية، ولكنها صدرت أسبوعية في جدة، عام 1376هـ وتوقفت عام 1378هـ.
23- عكاظ:
جريدة أسبوعية ثم يومية صدرت على أساس أن مقرها الطائف، وتطبع في جدة، في عام 1379هـ ثم صارت تصدر من جدة إلى اليوم، أصدرها أحمد عبدالغفور عطار.
24- رابطة العالم الاسلامي:
مجلة شهرية أصدرتها رابطة العالم الاسلامي بمكة عام 1387 هجرية، ويرأس تحريرها محمد سعيد العمودي.
25- أخبار العالم الإسلامي:
جريدة أسبوعية تصدرها رابطة العالم الإسلامي، صدرت في مطلع عام 1387هـ.
26- قريش:
جريدة أسبوعية جامعة، أصدرها بمكة أحمد السباعي عام 1378هـ، وتوقفت عام 1383 هجرية.
27- الرائد:
جريدة أسبوعية جامعة، أصدرها عبدالفتاح أبو مَدْيَن في جدّة عام 1378 هجرية وتوقفت عام 1383هـ.
28- الأسبوع التجاري:
جريدة تجارية إقتصادية أسبوعية، أصدرها بجدة عبدالعزيز مؤمنة، عام 1382 هجرية، وتوقفت عام 1384هـ.
29- كلمة الحق:
مجلة شهرية، أصدرها أحمد عبدالغفور عطار في مكة عام 1387 هجرية وتوقفت بعد صدور أربعة أعداد منها.
30- الرياضي:
مجلة شهرية تعنى بشؤون الرياضة والشباب، صدرت في جدة في مطلع شهر رجب 1388هـ.
وفي نجد:
اليمامة:(/5)
أول صحيفة صدرت في نجد، أصدرها حمد الجاسر في الرياض، صدر عددها الأول على هيئة مجلة شهرية في شهر ذي الحجة عام 1372هـ مطبوعاً في مصر، ثم بعد ذلك طبعت في مكة ثم في لبنان، وفي عام 1374هـ صدرت على هيئة صحيفة أسبوعية، ولا تزال مستمرة في الصدور، وقد كانت مجلد تعنى بالأبحاث التاريخية والجغرافية عن بلاد العرب والأبحاث الأدبية، وقد كانت مدرسة أدبية بحق نشأت على صفحاتها أقلام معروفة اليوم في الأوساط الأدبية.
2- القصيم:
جريدة أسبوعية، صدرت بمدينة بريدة في القصيم، وتطبع في الرياض، لصاحبها عبدالله العلي الصانع، صدرت في شهر جمادى الآخرة عام 1379هـ ورأس تحريرها عبدالعزيز العبدالله التويجري.
3- الجزيرة:
مجلة شهرية أُصدرها في الرياض عبدالله بن خميس في مطلع شهر ذي القعدة عام 1379 هجرية، وتحولت إلى جريدة أسبوعية في عام 1383هـ ولا تزال تصدر، وكانت في أول عهدها من المجلات الغنيّة بالأبحاث القيمة.
4- راية الاسلام:
مجلة شهرية، صدرت عام 1379 هجرية في مدينة الرياض، وتوقفت عن الصدور.
5- الرياض:
جريدة يومية تصدر عن مؤسسة اليمامة الصحفية بالرياض، صدرت في مطلع عام 1385 هجرية.
6- الدعوة:
جريدة أسبوعية تصدر عن مؤسسة الدعوة الصحفية بالرياض، صدرت في مطلع عام 1385 هجرية.
7- العرب:
مجلة شهرية تعنى بتاريخ العرب، وجغرافية بلادهم وبتراثهم الفكري بصورة عامة، تصدر عن (دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر) بالرياض، صدرت في شهر رجب عام 1386 هجرية، يرأس تحريرها صاحبها حمد الجاسر.
وفي المنطقة الشمالية:
الفجر الجديد:
جريدة أسبوعية أدبية، صدرت في مدينة الدمام عام 1374 هجرية لصاحبها يوسف الشيخ يعقوب، وقد توقفت عن الصدور بعد العدد الثالث.
2- أخبار الظهران:
جريدة أسبوعية عربية جامعة، أصدرتها شركة الخط للطبع والنشر بالدمام ورأس تحريرها عبدالكريم الجهيمان، صدرت عام 1374 هجرية، واحتجبت ثم عادت للصدور عام 1381هـ، وتوقفت بعد ذلك.(/6)
3- الخليج العربي:
صحيفة أسبوعية، صدرت بمدينة الخبر، في عام 1375هـ، ثم توقفت بعد صدور عددين، ثم عادت في العام التالي كمجلة شهرية، وتوقفت بعد أربعة أعداد، ثم عادت على هيئة صحيفة أسبوعية في عام 1378 هجرية، وتوقفت عام 1381هـ وعادت للصدور ثم توقفت نهائياً، ورأس تحريرها عبدالله شباط.
4- الإشعاع:
مجلة شهرية جامعة أصدرها بمدينة الخبر سعد البواردي، في عام 1375هـ واستمرت في الصدور ما يقارب السنتين ثم توقفت.
5- قافلة الزيت:
مجلة شهرية علمية أدبية، أصدرتها شركة الزيت العربية الأمريكية في الظهران عام 1371هـ؛ ولا تزال.
6- اليوم:
جريدة أسبوعية، أصدرتها مؤسسة اليوم للصحافة في مدينة الدمام عام 1384هـ، ولا تزال تصدر مرتين في الأسبوع.
صحف أخرى:
هناك صحف ومجلات أخرى، صدرت هي:
1 - مجلة الجامعة؛ تصدرها جامعة الرياض في فترات مختلفة.
2 - مجلة المعرفة؛ تصدر كل شهر مرة عن وزارة المعارف؛ صدرت عام 1379هـ وتوقفت.
3 - مجلة التجارة، تصدرها الغرفة التجارية في جدة ولا تزال.
4 - مجلة تجارة الرياض؛ تصدرها الغرفة التجارية إلى اليوم.
5 - جريدة الرياضة؛ صدرت في جدة عام 1380هـ ثم توقفت.
6 - مجلة الزراعة، تصدر عن وزارة الزراعة، ليس لصدورها وقت معين ثابت؛ وقد توقفت.
7 - مجلة وزارة المالية؛ تصدر عن وزارة المالية وقد توقفت.
8 - مجلة الإذاعة، تصدرها المديرية العامة للإذاعة والتلفزيون بجدة؛ وقد توقفت.
9 - الدفاع؛ مجلة تصدر عن وزارة الدفاع والطيران في الرياض؛ ولا تزال.
10 - مجلة الكلية الحربية، تصدرها كلية الملك عبدالعزيز بالرياض، مرة في السنة.
11 - حماة الأمن، تصدر عن وزارة الداخلية بالرياض، وقد توقفت.
12 - الإدارة العامة، مجلة يصدرها معهد الإدارة العامة في الرياض، ولا تزال.
وفي اليمن:
صنعاء:
من أولى الصحف في الجزيرة العربية، صدرت في صنعاء، في عهد الدولة العثمانية عام 1297هـ، وهي الجريدة الرسمية لها.
2- الإيمان:(/7)
وكانت أول صحيفة تصدر بصنعاء في عهد الإمام يحيى هي الإيمان، سنة 1337هـ، وكانت هذه الجريدة اللسان الرسمي للحكومة، إلى جانب أنها تنشر الأبحاث الأدبية والكثير من الشعر، واستمرت في الصدور حتى سنة 1376هـ وكان أول رئيس تحرير لها عبدالكريم مطهر.
3- الحكمة:
وفي الفترة ما بين 1353 و1359هـ، صدرت في اليمن مجلة أدبية اسمها (الحكمة)، انتشرت داخل اليمن وخارجها، وتوقفت أثناء الحرب العالمية الثانية، وتولى رئاستها أحمد عبدالوهاب الوريث.
وعند توقف المجلة، قام عدد من أدباء اليمن باصدار مجلة خطية أسموها (البريد الأدبي) يتناقلونها أسبوعياً بين مدن اليمن كالحديدة وصنعاء، وتعز وذمار. وتوقفت سنة 1376هـ.
كما صدرت مجلة خطية أخرى باليمن هي (الندوة) بدأت سنة 1371هـ وتوقفت سنة 1373هـ، وكان يرأس تحريرها أحمد الشامي.
4- سبأ:
جريدة أسبوعية، صدرت في تعز سنة 1367هـ، أصدرها محمد صالح الشرجي، وكان قد أصدر قبلها جريدة (سبأ) في عدن سنة 1369هـ.
5- النصر:
صدرت في تعز في عهد الإمام أحمد، وكانت جريدة رسمية.
6- الطليعة:
صحيفة أسبوعية، صدرت عام 1379هـ في مدينة تعز، وتوقفت بعد سنة واحدة بل لم تتمها.
7- السلام:
من الصحف اليمنية التي صدرت خارج اليمن، أصدرها عبدالسلام الكحيمي في كارديف بانكلترا سنة 1365هـ، ونقلها بعد ذلك إلى اليمن ثم توقفت عن الصدور.
وفي عدن:
فتاة الجزيرة:
جريدة يومية، صدرت عام 1359هـ، أصدرها رئيس تحريرها محمد علي لقمان، وهي من أقدم الصحف في الجنوب العربي.
2- البعث:
صدرت في عدن عام 1375هـ، وقد أوقفت في عامها الثاني.
صحف أخرى:
صدرت في عدن بعد الحرب العالمية الثانية صحف أخرى من أهمها (العمل) و(اليقظة) و(الأيام)، وقد عطلت جميعها.
وفي حضرموت:
صدرت مجلة شهرية باسم (الاعتصام) عام 1365هـ، وهي تكتب بخط اليد لعدم وجود مطبعة في بلدة (سيوون) التي تصدر منها.
وفي الكويت:
الكويت:(/8)
كانت أول مجلة تصدر في الكويت، هي مجلة (الكويت) الشهرية، أصدرها عبدالعزيز الرشيد في عام 1347هـ، وتوقفت فترة من الزمن، ثم عادت إلى أن توقفت نهائياً، وهي مجلة غنية بالأبحاث التاريخية والأدبية.
2- الإيمان:
صدرت بعد الحرب العالمية الثانية، ثم عطلت عام 1376هـ، وسمح لها بعد ذلك بالصدور في العام الثاني، ثم عطلت نهائياً.
3- الكويت اليوم:
هي الجريدة الرسمية لدولة الكويت، صدر العدد الأول منها في السادس عشر ربيع الثاني عام 1374هـ، وتصدر أسبوعية.
4- الشعب:
جريدة صدرت عام 1368هـ تقريباً، وقد منيت بالتوقيف عدة مرات ثم استأنفت الصدور، ولكنها لم تدم طويلاً، إذ احتجبت نهائياً.
5- البعث:
من المجلات الأدبية في الكويت، أصدرها في عام 1370هـ أحمد العدواني، وقد توقفت عن الصدور.
6- العربي:
مجلة أدبية علمية شهرية، تصدر عن وزارة الأنباء والإرشاد في الكويت صدرت عام 1378هـ، ويرأس تحريرها الدكتور أحمد زكي.
7- الوعي الاسلامي:
مجلة إسلامية شهرية، تصدر عن إدارة الدعوة والإرشاد في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، صدرت في عام 1385هـ.
صحف أخرى:
ومن الصحف الأخرى في الكويت جريدة (البعثة) أصدرتها بعثة الطلاب الكويتيين في القاهرة سنة 1366هـ، وتوقفت عن الصدور، ومجلة (الصحة) صدرت عام 1371هـ عن إدارة الصحة العامة، وأصدرت شركة نفط الكويت المحدودة مجلة (رسالة النفط) عام 1376هـ. وفي عام 1380هـ صدرت مجلة عسكرية باسم (حماة الوطن) ومجلة (كاظمة) وهي مجلة شهرية أصدرها أحمد السقاف ثم أوقفت بعد صدور بضعة أجزاء.(/9)
ومع النهضة الصحفية الأخيرة في الكويت، صدرت عدة صحف ومجلات راقية منها: جريدة (الرأي العام) اليومية، ومجلة (النهضة) الأسبوعية و(السياسة) اليومية، ومجلة (البيان) الشهرية وهي مجلة أدبية تصدر عن رابطة الأدباء في الكويت، صدرت قبل أربع سنوات، وجريدة (الهدف) الأسبوعية، ومجلة (أسرتي)، ومجلة (الكويت) ومجلة (حياتنا) و(صوت الخليج) ومجلة (أضواء الكويت) ومجلة البلاغ الأسبوعية.
وفي البحرين:
البحرين:
من أولى الصحف التي صدرت في البحرين، مجلة أسبوعية أصدرها عبدالله ابن علي الزايد عام 1355هـ حتى عام 1374هـ.
3- القافلة:
جريدة أسبوعية جامعة، أصدرها أحمد محمد يتيم عام 1372هـ، وعطلت عام 1374هـ.
4- الوطن:
صدرت هذه الجريدة عام 1374هـ أصدرها مرتين في الشهر عبدالله الوزان، وعطلت عام 1376هـ.
5- الخليج العربي:
جريدة يومية، أصدرتها شركة الخليج المحدودة في البحرين عام 1377هـ، كما أصدرت الشركة صحيفة أخرى اسمها (غولف دايلي تايمس).
6- هنا البحرين:
مجلة شهرية أدبية علمية، صدرت عام 1373هـ، وتصدرها حالياً دائرة الإعلام في حكومة البحرين.
صحف أخرى:
ومن الصحف الأخرى في البحرين، مجلة (النجمة) الأسبوعية التي أصدرتها شركة بابكو في البحرين، عام 1377هـ، ومجلة (الإذاعة) وهي أسبوعية وجريدة (أضواء الخليج) اليومية صدرت في شهر شعبان عام 1389هـ، وجريدة (صدى الأسبوع) الأسبوعية، صدرت في رجب 1389هـ.
وفي أبو ظبي:
الاتحاد:
جريدة أسبوعية، تصدرها دائرة الأعلام والسياحة في إمارة أبو ظبي، وقد صدرت في مطلع شهر شعبان 1389هـ.
وفي دبي:
أخبار دبي:
مجلة تصدر عن القسم الثقافي في بلدة دبي.
مراجع البحث[2]
1 - دليل الكويت، غرفة تجارة وصناعة الكويت، 1965، ص83.
2 - ذكريات عابرة عن الكويت، حمد الجاسر، مجلة البيان، العدد (43)، ص(6- 7).
3 - قصة الأدب في اليمن، أحمد محمد الشامي، ط1، لبنان.
4 - قلب اليمن، محمد حسن، ط1، 1947م، ص(129- 130) بغداد.(/10)
5 - مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، حمد الجاسر، 1386هـ، الرياض.
6 - المراكز الثقافية في جزيرة العرب في العصر الحديث، (بحث لي مخطوط) – القسم الخاص بالصحافة.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] جميع الصحف التي تصدر الآن في المملكة العربية السعودية، ينظمها نظام المؤسسات الصحفية، الذي بموجبه تَمَّ نقل ملكيات الأفراد للصحافة إلى مؤسسات تقوم بإدارتها وملكيتها.
[2] هناك مراجع أخرى تطرقت لموضوعنا عرضاً أو أصلاً، ولكننا لم نرجع إليها.(/11)
العنوان: الصحبة الحقيقية
رقم المقالة: 1380
صاحب المقالة: شفاء يوسف
-----------------------------------------
تعجبُني دائما تلك العبارةُ لأحد الحكماء لما قال: (إن الخط الذي يقسم حبة القمح يدل على أن نصفها لك ونصفها لأخيك).
وقول عبد الله علوان: (الرفقاء الصالحون نسلم أنهم قلة، ولكن هذه القلة متوفرة في كل مكان).
ولكم أحبُّ هذا الموضوعَ وأهوى القراءة فيه، وسؤال الناس عن صحبتهم؛ لسبب يسير، وهو أنني لم أحظَ إلى الآن بصحبة حقيقية، أو أنني حظيت بها ولكنني لم أشكر الله على هذه النعمة حق الشكر، ولم أمسك بها بكلتا يدي وبقوة، وأدعو الله أن يمنَّ علي بصحبة تعينني على طاعته، وتزجرني عن معصيته، وتذكرني بتعاهد القرآن الذي يحتاج –برأيي- فقط إلى صحبة حقيقية وصالحة.
وأحببت في هذا المقال أن أريكم قليلاً مما أقرأ في موضوع الصداقة، وأتمنى من الله أن يستفيد منها كل قارئ. وهي منقولة من عددين من مجلة (تحت العشرين) العدد: 33 و60..
قواعد اختيار الصديق المقرب:
وإذا أردت أن تعرف ما إذا كانت صداقتك حقيقية أو لا فاسأل نفسك هذه الأسئلة:
1- هل صداقتك حقيقية؟
2- هل يفهمني صديقي جيداً؟
3- هل يكون أول من يقف بجواري وقت الأزمات، ولا تقتصر علاقتنا على تبادل الأحاديث العابرة فقط؟
4- هل يستطيع التأثير في قراراتي واتجاهاتي، وهل تغيرت شخصيتي إلى الأفضل بفضله؟
إذا كانت معظم إجاباتك بـ(نعم) فإن صداقتك بالفعل صداقة حقيقية.
وأما إذا كانت بـ(لا)، فعليك الانتظار حتى تقابل إنساناً يصلح لأن يكون صديقك.
وعليك دائماً تذكر المواقف التالية:
1. الصداقة بقوتها:
الأصدقاء القدامى ليسوا دائماً الأفضل؛ فكثير من الصداقات الجديدة يمكن أن تحل محلها، فالصداقة ليست بتاريخ بدايتها ولا بعمرها، لكنها بقوتها ومدى تأثير كل من الطرفين فيها.
2. صداقة قديمة:(/1)
الناس يتغيرون، ولكنهم ينسون أن يخبرونا بذلك؛ فإذا كان لك صديق مقرب ثم شعرت أنه بدأ في الابتعاد عنك، فلا شك أن ظروفكما قد اختلفت؛ إما بسبب تغير ميل كل منكما، وإما بسبب تغير اهتمامات كل منكما، وهذا ليس نهاية العالم، فاحرص على دوام الاتصال بينكما، فمهما حدث سيظل له في نفسك ذكريات صداقة حميمة.
3. الاختيار الحر:
الاختيار الحر السليم أهم ما في الصداقة، فإذا كان أقرباؤك مفروضين عليك بحكم صلة الدم، فإن الإنسان الوحيد الذي تستطيع اختياره بحرية هو صديقك.
4. الشخص المناسب:
الصداقة تجربة فريدة، فلنعشها بتأنّ وعلى أساس حسن الاختيار ولا نفتح حياتنا لأي إنسان بسهولة.
وخذوا هذه القواعد الخمسة التي يمكن من خلالها إحياء صداقتكم وإعادتها رصيداً لكم لظروف الزمن القادم:
وهي:
1- السؤال عن صديقك:
فالسؤال عن الأصدقاء لا يحتاج لانتظار مناسبة خاصة.. فتش في أوراقك.. وإذا وجدت رقم هاتفه فلا تتردد في الاتصال به مباشرة، وإلا فاسأل عنه جميع من يمكن أن يدلك عليه أو حتى اللجوء لدليل الهاتف.. ولا شك أنك ستصل في النهاية..
2- المراسلة نصف اللقاء:
إن وجود صديقك خارج نطاق مدرستك أو خارج البلاد لا يعني انقطاع صلتك به.. والمراسلة الآن ميسرة إما بالبريد العادي أو بالبريد الإلكتروني، ففتش عن عنوانه وابدأ على الفور وتيقن أنه لن يصدك.. فمن يجرب الغربة يقدر قيمة العلاقات الحميمة والمشاعر الصادقة.
3- لا تتنازل عن اللقاء:
فمهما كان هذا اللقاء بعيداً فلا تتنازل عنه.. ادع صديقك لزيارتك.. أو اذهب لزيارته دون تردد بعد استئذانه.. وإذا كان في الخارج فاستغل أول إجازة له لتقابله، أو اذهب إليه إذا سافرتَ إلى البلد الذي يقيم فيه.. وتأكد أن حرصك على لقائه سيجعله مشغوفاً أكثر.
4- أحيِ ذكريات الماضي:(/2)
فالذكرى الجميلة تظل دائماً الأساس المتين الذي تعلو فوقه علاقات اليوم.. واجعل من نفسك حلقة الوصل بين صديقك وذكرياته بأحاديثك والسلامات التي تهديها إليه من أصدقاء أُخر أو مدرِّسين كانت لهم ذكرى طيبة في أنفسكما..
5- تذكر الهدية:
فهي رسول المحبة.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تهادوا تحابوا"، ولا يشترط أن تكون هدية ثمينة.. فبعض الكلمات الجميلة في إطار أنيق قد تفعل أكثر من هدية تتكلف الكثير من النقود..
أسأل الله أن يرزق كل قارئ صاحباً حقيقياً...(/3)
العنوان: الصحراء.. من رحلة الطنطاوي إلى الحج
رقم المقالة: 1788
صاحب المقالة: الشيخ علي طنطاوي
-----------------------------------------
من أجمل ما كُتب في أدب الرحلات الإسلامي الحديث، كتاب الشيخ علي الطنطاوي "مِنْ نفحات الحَرَم"..
وقد عرض فيه الشيخ رحلته الممتعة المثيرة الشاقّة إلى مكة من الشام.. في أيّامٍ ليست كمثل هذه الأيام التي طوِيت فيها الطرق وتيسّرت أمور من يرغبون الحج..
تلكم الرحلة الرائعة.. التي نفتقد الكثير من تفاصيلها.. بعد أن مضى عليها زمنٌ مديد..
عن ليالي الصحراء، ومقارنتها بالمدينة، وأثرها النفسي.. يقول الكاتب –يرحمه الله- بأسلوبه السهل الممتنع البديع:
الصحراء..
تُختصر صفتها، ويوجز تاريخها في كلمتين اثنتين هما: الحب والحرب.
فليلها للحب، ونهارها للحرب، حرب مع الشمس اللاهبة، والرِّمَال المُشْتعِلَة. والضَّلال والمَوْت، وحرب مع الناس، فإذا أدرككَ المساء؛ ولا يُدْرِك مساءَها إلا كُلُّ بطل صَبّار قوي متين، تَفتَّح للحب قلبُكَ، فأحسستَ فيه بشوق إلى الهيام؛ كشوق الظمْآن إلى الماء الزلال، وشعرت كأن البادية كلها مِلككَ، فأنت منها في رَوْضة وغدير، تُعانِق بَدْرها إن لم تجد مَنْ تُعانِقُه، وتسامر نَجْمَها إن أَعْوَزَك مَن تُسامِره، ويُقبِّل عارِضَيْكَ نسيمُها الرَّخيُّ الحبيب الذي يصور لك أنفاس الأحبة.
أشهد لقد نَقَّتْ ليالي الصحراء نَفْسي، وصَفّتْها، وعلّمَتْها الشعورَ بجمال القُبْح، وأُنس الوَحْشة، وأغاني الصَّمْت؛ فعرفتْ جمال الكون، فأَوْصَلها إلى معرفة كمال المُكَوِّن.
كما صهرتْ أنهارُ الصحراء عزيمتي، فألقتْ عن نفسي أوضارَ الخوف والجُبْن والضعف والتردُّد، وأشعرتْها عظمةَ الطبيعة وقوتها، فشعرتُ بعظمة الطابع.(/1)
ولم أكن أَعْدِمُ النظَرَ في الآفاق الواسعة، ولا حُرِمْتُ التحديق في المناظِر البعيدة، وإني لأُبْصِر من شباك داري دمشقَ كلَّها، وغوطتها، والقرى المنثورة فيها، لا يغيب عني من ذلك شيءٌ، فأرى فيها نهاية الجمال والرّوَاء؛ ولكني لا أرى فيها طُهْر الصحراء، ولا صفاءها.
الصحراء مبسوطة مكشوفة؛ كالرجل الصريح الشريف، ظاهرُها كباطنها، لا تُخفي سرًّا، ولا تُبطن دون ما تُظهر أمرًا، ليست كالمدن، ولا كالرياض، والله وحده يعلم كم يتوارى خلال تلك الأشجار المُزْهِرة الخضراء، وتحت تلك السقوف المزخرفة، والقباب والسطوح من رذائل ورزايا، وكم يسكنها من عوالم الكَذِب والنّفَاق والحَسَد.
إن الله حَرَمَ الصحراء رواء المدن، وروعة السهول، وفتنة الأنهار؛ ولكنه أعاضها عنه ذلك ما هو أحلى وأسمى، جمال الصدق، وبهاء الصراحة، وسنا الإخلاص، ليس في الصحراء مثل النيل ولا الفرات تأوي إلى ضفافه، وتبصر غروب الشمس في مائه، وتمخر بالزورق عُبابه، وما فيها إلا بِرَك وغدران قليلة الماء، غير دائمة، ولا باقية؛ ولكنها على ذلك أجلّ من النيل، وأجمل من الفُرات لأنها في.. الصحراء!
ليالي الصحراء..
لستُ أستطيع أن أُترجم لك عما لِلَيالي الصحراء من معنى في نفسي؛ لأن لغة الألسنة لا تترجم عن القلوب، ويا ليتني أقدر أن أصِفَ لك تلك الكائنات الخفية التي تعيش في ليالي الصحراء، فتُخاطِب القلوب بما لا تنقُله الأقلام.(/2)
واشْهَدُوا على أني أُوثِر الصحراء على كل مظاهر الطبيعة المطبوعة، إلا الأودية والجبال، فإن للجبال السامِقة ذات الصخور الماثلة كالجبابرة، لا تبلغ هامَها النسورُ ولا العُقبان، ولا يسكنها إلا الثلج الأبيض، والأودية العميقة التي لا يبلغ قرارتها إلا الشلال المُتحدّر من أعالي الجبال، ولا يعيش فيها إلا السّواقي الحائرة، التي تهيم على وجهها ذاهلة، لا تصحو إلا على جرجرة أمواج البحر الذي يفتح فاهُ لابْتِلاعِهَا، وإن في الْتِوَاء الوادي حتى يضيع الطريق فيه؛ وفي اختفاء الشِّعْب الضيق خلال الصخور، وفي ضلال الساقية بين الحشائش والحجارة، لَمَعْنًى من معاني المجهول، لا أَلْقاهُ في الصحراء المكشوفة العارية؛ ولكن للصحراء سحرها وجمالها، وإني لأفضلها على السهول والبساتين.(/3)
العنوان: الصراع بين الحق والباطل (1-4)
رقم المقالة: 1492
صاحب المقالة: د. سعيد بن ناصر الغامدي
-----------------------------------------
السنن الإلهية في قضية الصراع بين الحق والباطل (1-3)
1 – منزلة القرآن وأهمية تدبره.
2 – معنى السنة الإلهية.
3 – سمات السنن الإلهية.
4 – أهمية معرفة السنن الإلهية وسبل ذلك.
• • • • •
[1] – منزل القرآن وأهمية تدبره
القرآن كلام من له الكمال المطلق فهو كامل، القرآن كلام العالم بكل شيء والخالق لكل شيء والمالك لكل شيء والمدبر لكل شيء فهو كامل شامل حق مبين.
وقد ورد في منزلة القرآن وفضله آيات كثيرة وأحاديث وآثار:
فمن القرآن وصف الله للقرآن بأنه تبيان لكل شيء.
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الإسراء: 81].
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} [الروم: 58].
وأخبر الله بأن هذا القرآن يهدي من اتبعه إلى أقوم مسلك وأقوم منهج، وأسلم طريق:
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [سورة الإسراء: 9].
القرآن كتاب الحق نزل من عند الحق وبالحق نزل:(/1)
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...} [آل عمران: 2 – 3].
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [سورة النساء: 105].
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد: 1].
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 5].
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6].
{إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} [الزمر: 41].
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَبِّهِمْ} [محمد: 2].
القرآن نور وروح وبرهان:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
القرآن فرقان بين الحق والباطل والصواب والخطأ والحقيقة والوهم:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
هو مصدر الهداية:
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].(/2)
{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157].
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52].
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20].
{... تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ. هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1-2].
أما من الأحاديث:
1 – قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أبشروا فإن هذا القرآن طرفهُ بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، ولن تضلوا بعده أبداً).
2 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما بعد، ألا أيها الناس، فإنَّمَا أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسول ربي فأُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتابُ الله، فيه الهدى والنور من استمسك به، وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلَّ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكِّركُمُ الله في أهل بيتي).
3 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (القرآن شافعٌ مشفَّعٌ، وما حِلُّ مصَدَّقٌ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار).
4 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كتاب الله هو حبلُ الله الممدود من السماء إلى الأرض).
5 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو جُمِعَ القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار).
6 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار).
ومن الآثار:(/3)
عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: (كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، ولاتتشعب فيه الآراء، ولايشبع منه العلماء، ولايمله الأتقياء، ولايخلق على كثرة الرد، ولاتنقضي عجائبه، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا به فقد هدي إلى صراط مستقيم).
وأسند ابن الأنباري في كتاب (الرد على من خالف مصحف عثمان) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، ونجاة من اتبعه، لايعوج فيقوم، ولايزيغ فيستعتب، ولاتنقضي عجائبه، ولايخلق عن كثرة الرد).
وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغدير يدعى خُماً بين مكة والمدينة، فقال: (يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله فيه...).
أمر الله تعالى بتدبر القرآن واتباع هداه:
قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].
المحرومون من فقهه:(/4)
قال تعالى: {وَمِنْهُم مَن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَيُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [الإسراء: 41].
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ. كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَيَعْلَمُونَ} [الروم: 58-59].
هو موعظة وشفاء لما في الصدور:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].
هو بشارة لأهل الإيمان:
قال تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97].
وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].
وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} [مريم: 97].
وقال تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ. هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1-2].(/5)
[2] – معنى السنن الإلهية
المفهوم العام:
يتحدث القرآن الحكيم عن سنن الله العامة في الكون على أنها دعامة النظام الكوني المتماسك بوشائج التوازن الذي يحكم به هذا النظام، فهذا الترابط المحكم بين عوالم الكائنات علويها وسفليها، وهذا التنسيق بين آحادها ومجموعاتها، وهذه الأوضاع المنسجمة التي تتراءَى في وضع كل كائن في مكانه من التركيب الكوني، وهذا الاتّساق في تقدير صلة كل عنصر من عناصر الكون بسائر العناصر ؛ هو الإطار الذي تجمعت فيه الخطوط التي تصور سنن الله الكونية التي يتحقق بها جميع المخلوقات.
وقد بيّن القرآن ذلك في عديد من آياته فقال في سورة الحجر: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ}.
وقال في سورة الروم: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ}، وقال في سورة الدخان: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} وتختص آية الإلهية، وذلك في نفي اللعب عن خلق السموات والأرض، وذلك يعني نفي الفوضى التي تعتمد المصادفات والأرض، ولهذا عقَّبَها القرآن بما رجع بالآية إلى أختيها آيتي الحجر والروم في بيان أن خلق السموات والأرض وما بينهما صدر منذ الأزل متلبساً بالحق، والحق هو الوجود الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل.
فالقرآن العظيم يرسم صورة للنظام الكوني في نماذج المخلوقات، يستبين منها أن الكون كله خاضع في نظام سيره في وحدة قائمة على اتساق في وضع وتركيب كل كائن في موضعه من نظام الكون العام، وهذا التماسك والاتساق بين ذرات الكون هو ما نعنيه بالتوازن المحكوم بسنن الله في هذا الكون العظيم.(/6)
وسنن الله تعالى في المجتمع جانب من جوانب الحقيقة القرآنية التي بثها الله في آيات هذا الكتاب المبين نظاماً اجتماعياً مترابطاً إلى جانب سنن الله العامة في الكون، التي تصور حكمة وعمق القرآن في فهم الحياة كما تصور حكمته في نعوت الكمال لله تعالى خالق الحياة، وفلسفة القرآن تجعل من الكون كله حقيقة واحدة طوى فيها خالقها دلائل وجوده، وبراهين وحدانيته، وآيات قدرته وعلمه وحكمته، ووكل إلى العقل البشري تكليفاً وتشريفاً الكشف عن هذه الدلائل والبراهين بما أودع فيه من قوة إدراكية غائصة، وبما أمده به من عون في تهدِّيه إليها، وهذا المعنى هو خلاصة وعد الله تعالى لهذا العقل بالكشف عن آيات الله في الكون، يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.
إن ما يقع في هذا العالم من حوادث ومجريات لا يقع صدفة، ولا خبط عشواء، وإنما يقع ويحدث وفق قانون عام دقيق ثابت صارم لا يخرج عن أحكامه شيء.
والكائنات الحية – بما فيها الإنسان – تخضع لهذا القانون، فخلق الإنسان والأطوار التي يمر بها في بطن أمه يخضع في ذلك كله إلى هذا القانون العام الثابت.
والظاهرات الكونية هي من الآيات الدالة على خالق هذا الكون، وهي خاضعة لهذا القانون الثابت.
والإنسان لا يستطيع أن يغير شيئاً من هذا القانون، وإنما يستطيع أن يوسع معرفته بتفاصيله وجزئياته الكثيرة جداً، وذلك بالنظر والمشاهدة والتأمل والاستقراء والتجارب.
والبشر يخضعون لقوانين ثابتة – يسميها القرآن بالسنن – في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو الضيق في العيش، والسعادة والشقاء، والعز والذل، والرقي والتأخر، والقوة والضعف، وما يصيبهم في الدنيا والآخرة من عذاب أو نعيم.(/7)
قال سيد قطب في الظلال جـ1 ص513: ({أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}، ثم يمضي خطوة في استعراض أحداث المعركة، والتعقيب عليها، فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور، واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم -وهم المسلمون – مما يشي بسذاجة تصورهم للأمر يومذاك قبل أن تطحنهم التجربة، وتصوغهم صياغة واقعية، تتعامل مع واقع الأمر، وطبيعة السنن، وجدية هذا الواقع الذي لا يجابي أحداً لا يأخذ بالسنن، ولا يستقيم مع الجد الصارم في طبيعة الكون والحياة والعقيدة ! ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة، وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم !.. ولكنه لا يتركهم عند هذه النقطة - التي وإن كانت حقيقة إلا أنها ليست نهاية العقد - بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج، وبمشيئة الله الطليقة من رواء السنن والقوانين ؛ فيكشف لهم عن حكمتهم ما وقع، وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم، وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها، وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها، وليمحص قلوبهم، ويميز صفوفهم، من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث، فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره.. وبذلك تتكامل الحقيقة في تصورهم ومشاعرهم من وراء هذا البيان القرآني الدقيق العميق: [أو لَمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا ؟ قل: هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير. وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ! هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، والله أعلم بما يكتمون. الذين قالوا لإخوانم - وقعدوا -: لو أطاعونا ما قتلوا. قل: فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)...(/8)
لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته.. ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم، وباستكمال العدة التي في طاقتهم، ويبذل الجهد الذي في وسعهم.. فهذه سنة الله، وسنة الله لاتحابي أحداً.. فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير، فإن كونهم مسلمين لايقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس، فإنَّمَا هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن، ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس.. ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً كذلك، ولا يضيع هباء، فإن استسلامهم لله، وحملهم لرايته، وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه.. من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية – بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح – وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب، تزيد في نقاء العقيدة، وتمحيص القلوب، وتطهير الصفوف، وتؤهل للنصر الموعود، وتنتهي بالخير والبركة.. ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته، بل تمدهم بزاد الطريق، مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق].
فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار، يرتبط به سعي الناس للكسب، وعلم السنين والحساب. ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر، وترتبط به عواقب الهدى والضلال، وفردية التبعة فلاتزر وازرة وزر أخرى، ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولاً، وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها، وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة.. كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لاتتبدل، ونظام لايتحول فليس شيء من هذا كله جزافاً.
تعريف السنة:(/9)
هي الطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى للبشر بناء على سلوكهم وأفعالهم وموقفهم من شرع الله وأنبائه وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة.
قال ابن تيمية: (السنة هي العادة التي تتضمن أن يُفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول، ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار).
وقال: (... إن الله أخبر أن سنته لن تبدل ولن تتحول وسنته عادته التي يسوي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي).
وابن كثير في تفسير آية الأنفال: {وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} قال: (أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة) 3/316.
وقال في تفسير آية الإسراء: (سنة من قد أرسلنا من رسلنا، أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا يرسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب...) 4/332.
قال سيد 3/1201: (... شهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر، وشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً).
وقال في 3/1336: ({وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}..(/10)
إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة، إنما يكشف عن سنة، ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر.. ومن ثَمَّ يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور ؛ وتتم وفقه الأحداث ؛ ويتحرك به تاريخ ((الإنسان)) في هذه الأرض، وأن الرسالة ذاتها – على عظم قدرها – هي وسيلة من وسيلة من وسائل تحقيق الناموس – وهو أكبر من الرسالة وأشمل – وأن الأمور لا تمضي جزافاً ؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض – كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان ! – وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية، وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة ؛ التي وضعت السنة، وارتضت الناموس.
ووفقاً لسنة الله الجارية، وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان، مما حكاه السياق، ويكون من أمر غيرها ما يكون!).
السنن الإلهية:
مرتبطة بالمشيئة الإلهية وهي مشيئة كونية لابد من وقوعها.
وهي مرتبطة بالإرادة الكونية.
وهي التي يجب معها وجود الفعل، وهي الموجبة للفعل المحققة له.
وهي متعلقة بكلمات الله الخلقية الكونية.
[3] – سمات السنن الإلهية
الوجه الأول:
السنن الذي تخضع لهما جميع الكائنات الحية في وجودها المادي وجميع الحوادث المادية ويخضع له كيان الإنسان المادي، نمو وحركة أعضائه وحياته وموته، وهذا الوجه لا يختلف في وجوده أهل العلم، ولا في خضوع الكائنات المادية له.
ووجوده ودقته واستمرارية نظامه من أكبر الأدلة على وجود الله وربوبيته.
من سماته الثبات والاستمرار واطراد أحكامه على الحوادث والظواهر التي تحكمها هذه السنة.(/11)
فالأرض تحيا بالمطر ويخرج به منها النبات والشمس من المشرق إلى المغرب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} الآيات {وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}.
ومعرفة هذه السنة مباحة للجميع من مسلم وكافر وأكثرهما جدية ونشاطاً ونظراً وبحثاً وسعياً أكثرهما وقوفاً عليه وإحاطة بجوانبه وجزئياته.
الوجه الثاني من السنن الإلهية هو الذي يتعلق بخضوع البشر أفراداً وأُمَماً وجماعات له، أي أن تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو الضيق في العيش والسعادة والشقاء والعزل ؛ والذل والرقي والتأخر والقوة والضعف، ونحو ذلك من الأمور الاجتماعية في الدنيا، ثُمَّ ما يصيبهم في الآخرة من عذاب أو نعيم، كل ذلك يجري وفق أحكام هذا الوجه من السنن الإلهية.
تؤكد أدلة الوحي المعصوم وتبين بجلاء ووضوح وجود [سنة عامة] لله تعالى تخضع لحكمها تصرفات البشر وأفعالهم وسلوكهم، ومواقفهم من شرع الله، وما قد يترتب على ذلك من نتائج معينة في الدنيا والآخرة.
السنة
القانون والطريقة
لاتبديل لسنن الله:
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
{وَإِن يَعُوْدُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}.
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}.
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.(/12)
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}.
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}.
من سمات سنة الكونية:
[الثبات]: فهي ثانية لا تتغير ولا تتبدل: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}، {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.
[الاطراد]: فهي مطردة لا نتخلف، ويدل على اطرادها أن الله تعالى قص علينا قصص الأمم السابقة وما حلّ بها لنتعظ ونعتبر ولانفعل فعلهم لئلا يصيبنا ما أصابهم، ولولا اطرادها لما أمكن الاتعاظ والاعتبار بها، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}، وقال عن بني النظير: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}.
[العموم]: فهي عامة يسري حكمها على الجميع دون محاباة ولا تمييز {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}.
وقد بين سبحانه وتعالى أن السنة لا تتبدل ولا تتحول في غير موضع، و (السنة) هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول ؛ ولهذا أمر سبحانه وتعالى بالاعتبار، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}.(/13)
والاعتبار أن يقرن الشيء بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه، قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أفاد أن من عمل مثل أعمالهم جوزي مثل جزائهم ؛ ليحذر أن يعمل مثل أعمال الكفار ؛ وليرغب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين اتباع الأنبياء.
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
وقال تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِن الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلاَّ قَلِيلاً. سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}.
وقال تعالى: {لَئِن لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِم ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.(/14)
والمقصود أن الله أخبر أن سنته لن تبدل ولن تتحول، وسنته عادته التي يسوى فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة ؛ ولهذا قال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ}؟ وقال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي أشباههم ونظراءهم، وقال: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قرن النظير بنظيره، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ}، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
[4] - أهمية معرفة السنن الإلهية وسبل ذلك
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} من الضروري جداً للمسلمين عموماً، والدعاة والساسة منهم خصوصاً أن يتفهموا سنن الله في الاجتماع البشري ليعرفوا أسباب النجاح والهلكة فيأخذوا بالأولى ويتخلصوا من الثانية.
السبل لمعرفة السنن:
1 - الرجوع إلى كتاب الله العظيم وسنة نبيه الكريم، ففيهما القول الفصل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.(/15)
قال الألوسي في تفسير 14/214 في تفسير هذه الآية: (والمراد من كل شيء ما يتعلق بالناس أي بياناً بليغاً لكل شيء يتعلق بذلك ومن جملة ذلك أحوال الأمم مع أنبيائهم).
2 - معرفة قصص الأمم السالفة وماذا حدث منها مع أنبيائها وماذا حدث لهم من فوز أو عذاب ولذلك أتى القرآن العظيم بقصص السالفين.
قال شيخ الإسلام في الفتاوى: (وإنَّما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم، لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، ثُمَّ قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر في الحروب من السيرة المكذوبة).
3 - النظر في التاريخ ودراسته في حصة متأنية واستخراج العبر، وقياس النظير بنظيرة.
قال د/ يوسف القرضاوي في الصحوة الإسلاميَّة بين الجحود والتطرف ص 100 - 104: (ومن غرائب ما قرأت وسمعت، موقف قيادة الجماعة التي سموها ((جماعة التكفير والهجرة)) من التاريخ كما شهد بذلك شاهد من أهلها، فقد سجل الأستاذ عبدالرحمن أبو الخير في ذكرياته عن ((جماعة المسلمين)) - وهذا اسمها عند أصحابها وأتباعها - هذا الموقف باعتباره أحد أوجه الخلاف بينه وبين الشيخ شكري مؤسس الجماعة ؛ إذ كان الوجه الرابع منها هو ((عدم الاعتداد بالتاريخ الإسلامي، فقد كان شكري يعتبره وقائع غير ثابتة الصحة، وإن التاريخ عنده هو أحسن القصص في القرآن الكريم، ولذا يحرم دراسة عصور الخلافة الإسلاميَّة، أو الاهتمام بها)) ص 35.(/16)
فانظر يا رعاك الله إلى هذه النظرة السطحية الضيقة الأفق، التي تجعل دراسة تاريخ المسلمين حراماً دينياً ! مع أن التاريخ هو مخزن العبر، ومعلم الأمم، فكما أن الفرد يتعلم من أحداث أمسه لغده، فإن الأمة أيضاً تأخذ من ماضيها لحاضرها، وتستفيد من صوابها وخطئها معاً، ومن انتصاراتها وهزائمها جميعاً.
والتاريخ إنَّما هو في الواقع ذاكرة الأمة الحافظة الواعية، والأمة التي تهمل تاريخها أشبه بالفرد يفقد ذاكرته، ويعيش ليومه وحده، بلا ماض يعرفه ويبني عليه، إنه إنسان مبتلى مقطوع الجذور، يرثى لحاله، وهو أحوج ما يكون إلى العلاج، فكيف ترضى جماعة أن تجعل هذا الوضع المرضيّ الشاذ أساساً لحياتها؟.
والتاريخ هو المرآة التي تتجلى فيها سنن الله تعالى في الكون عامة، وفي الاجتماع البشري خاصة، ولهذا عني القرآن عناية بالغة بلفت الأنظار، وتنبيه العقول إلى هذه السنن للانتفاع بها، وتلقي الدروس العملية منها.
اقرأ معي هذه الآيات الكريمة: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، وهذه السنن تتميز بالثبات، فلا تتبدل ولا تتحول، كما قال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُورًا. اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَل يَنْظُرُونَ إلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.(/17)
كما تتميز هذه السنن بالعموم، فهي تنطبق على الناس جميعاً، بغض النظر عن أديانهم، وجنسياتهم، فأي مجتمع أخطأ أو انحرف لقي جزاء خطئه أو انحرافه، ولو كان هو مجتمع الصحابة أو مجتمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحسبنا في هذا ما دفعه الصحابة ثمناً لخطئهم في غزوة أُحُد، وهو ما سجله القرآن عليهم بوضوح في قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}، وبين في آية أخرى هذا الذي عند أنفسهم بقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ}.
وأمَّا القول بأن التاريخ وقائع غير ثابتة الصحة، فقد يصدق هذا على بعض الوقائع الجزئية، أمَّا الاتجاهات العامة، والأحداث الأساسية معروفة وثابتة بيقين بأكثر من دليل، على أن تلك الوقائع التي يحيط بها بعض الريب لا يصعب على أهل الذكر تمحيصها، وتمييز الخطأ من الصواب فيها، والثابت من المختلق أو المبالغ فيه منها.
على أننا لا نعني بالتاريخ تاريخ المسلمين فحسب، بل تاريخ البشرية حيثما عرف، وتاريخ الأمم في أي أرض كانت، وفي أي عصر كانت، وعلى أي ملة كانت، مسلمة أو غير مسلمة، فالعبرة لا تؤخذ من سير المؤمنين وحدهم، بل تؤخذ من المؤمن والكافر، ومن البر والفاجر ؛ لأن الفريقين تجري عليهما سنن الله بالتساوي، ولا تحابي هذه السنن أحداً شأنها شأن السنن والقوانين الطبيعية، فقوانين الحرارة والبرودة، والغليان والانصهار، والضغط والانفجار، قوانين كونية عامة، تتعامل مع الموحدين تعاملها مع الوثنيين.
بل نحن لا نفهم القرآن كما ينبغي، ولا نعرف فضل الإسلام تماماً، ما لم نعرف ماذا كانت عليه الجاهليَّة من ضلال، أشار إليه القرآن بمثل قوله: {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}، وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُم مِّنْهَا}.(/18)
وهذا سر ما ورد عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حين قال: إنَّما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهليَّة.
وإذا كان الاعتراف بالحق فضيلة، فإني أعترف أن كثيراً من المشتغلين بأمر الإسلام والدعوة إليه، لم يقرأوا التاريخ، وإن لم يحرّموا دراسته على أنفسهم وأتباعهم كما حرمها بعض الغلاة، أعني: لم يقرأوه ببصيرة نفاذة، ووعي حاضر، فليس المهم قراءة الأحداث مسرودة متتابعة، بل المهم النفاذ إلى لبها ومعرفة العبرة منها، والوصول إلى سنن الله فيها.
كما أنه ليس المهم لمن يسير في الأرض وينظر في آثار الأمم أن يراها بعين رأسه، ويسمع أخبارها بأذنه، إنَّما المهم هنا هو عين القلب وأذنه، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
إن أحداث التاريخ تتكرر وتتشابه إلى حد كبير ؛ لأن وراءها سنناً ثابتة تحركها وتكيفها، ولهذا قال الغربيون: (التاريخ يعيد نفسه)، وعبر العرب عن هذا المعنى بقولهم: (ما أشبه الليلة بالبارحة !).
والقرآن الكريم أشار إلى تشابه المواقف والأقوال والأعمال، نتيجة لتشابه الأفكار والتصورات التي تصدر عنها، وفي هذا جاء قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
وقال تعالى عن مشركي قريش: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِّنَ رَسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.(/19)
أي: إن هذا الاشتراك والتشابه في الموقف من الرسل، بين الأولين والآخرين، والمسارعة إلى الاتهام بالسحر أو الجنون، لم ينشأ نتيجة تواص بين هؤلاء وأولئك، بل السبب أنهم جميعاً طغاة ظالمون، فلما تشابهوا في السبب، وهو الطغيان، تشابهوا في النتيجة.
ومن عرف التاريخ وسنن الله فيه، وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، تعلّم من أخطاء الآخرين، وكان له بهم عظة، فالسعيد من وعظ بغيره، واقتبس مِمَّا عندهم من خير، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها.(/20)
العنوان: الصراع بين حماس وفتح بأعين إسرائيلية
رقم المقالة: 1425
صاحب المقالة: توفيق أحمد
-----------------------------------------
ليس لأحد أن يسعد بالخلاف بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة فتح؛ كما هو الحاصل في الكيان الصهيوني!.
فالخلاف الذي كان ينصب بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ بات الآن -بالدرجة الأولى- بين الفلسطينيين بعضهم مع بعض!!.
والحجارة التي كانت تلقى على القوات الإسرائيلية المدججة بالسلاح في الضفة الغربية وغزة؛ باتت اليوم تلقى على المسلحين من حماس أو فتح!.
والاعتقالات التي كانت تجري على يد القوات الإسرائيلية في الأمس؛ باتت اليوم تجري على يد الفلسطينيين أنفسهم، بِغضِّ النظر عن المخطئ والمسيء.
البعض ذهب إلى اعتبار أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية -التي أشعلتها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون للمسجد الأقصى- انتهت، وبدأت الآن الانتفاضة الثالثة، التي اشتعلت بين الفلسطينيين أنفسهم؛ رداً على المواجهات المسلحة بين الفصيلين الرئيسين -اليوم- على الساحة السياسية في البلاد.
ولا تخفي الوسائل الإعلامية الإسرائيلية انحيازها إلى جانب حركة فتح؛ التي تراها أكثر ليناً في سبيل المصالحة مع الإسرائيليين، وتقديم التنازلات المتوالية؛ على الرغم من عدم حصولها حتى الآن على أي شيء لصالح الفلسطينيين، ما عدا المناصب القيادية التي حصل عليها أعضاء فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، بدعم من الإسرائيليين، ومباركة من الأمريكيين!!!.(/1)
ولا يكاد أي خبر يتعلق بحركة حماس إلا تسابقت الصحف والوسائل الإعلامية الإسرائيلية على ذكره، مع بعض المعلومات الإضافية؛ التي تحاول بها إظهار حماس بمظهر الحركة الظالمة المستبدة، لدرجة بدأت فيه باستخدام مصطلحات مثل (انقلاب على الشرعية) لوصف حماس، على الرغم من أن الانقلاب كان من قبل حركة فتح، على شرعية الحكومة الفلسطينية، المنبثقة من مجلس تشريعي (برلمان)، منتخب بطريقة حرة، تضاهي الانتخابات العربية (النزيهة) التي تدعيها بعض الدول العربية!!
وتحفل وسائل الإعلامية الإسرائيلية بالأنباء التي تتحدث عن حركة حماس.. على سبيل المثال: حاولت صحيفة (هارتس) الإسرائيلية -يوم السبت 23 يونيو- إظهار الموقف الرسمي المصري معارضاً حقيقياً لحركة حماس، بإيراد مقتطفات من كلمة للرئيس المصري حسني مبارك، في القمة الأخيرة التي جرت في شرم الشيخ على البحر الأحمر؛ عندما استضاف مبارك الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني.
وقالت الصحيفة آنذاك: "وصف الرئيس المصري حسني مبارك استيلاء حماس على غزة بالانقلاب، محذراً من أن النزاع المسلح مع حركة فتح (المعتدلة) يمكن أن يؤدي إلى إقامة دولتين فلسطينيتين.. وقال في أول ملاحظة له بعد انتزاع حماس السيطرة على غزة: إنه يريد طمأنة فتح ورئيس السلطة الفلسطينية بدعم مصر لهم"!!.
واسترسلت الصحيفة بذكر القمة؛ باعتبارها تأكيداً لدعم القاهرة لفتح، على حساب حماس، مشيرة إلى أن مصر قامت بنقل سفارتها من غزة إلى الضفة الغربية. ولم تكتف عند هذا الحد؛ بل أشارت إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ باعتبار أن القاهرة باتت تخشى من تنامي نفوذ الإخوان المسلمين في فلسطين ومصر، بعد الفوز الذي حققته الحركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، في الدولتين العربيتين.(/2)
وفي مقالة نشرتها الصحيفة الإسرائيلية ذاتها بدايةَ المواجهات بين حماس وفتح؛ كتب الصحفي صموئيل روسنر يقول: "إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي خسر نصف السلطة الفلسطينية؛ دعا مؤخراً إلى عقد لقاء مع أولمرت"، مفسراً ذلك بالقول: "إن عباس بدأ يرى أولمرت آخر الحصون ضد أصولية حماس التي استولت على قطاع غزة، ومنعها من الحصول على موطئ قدم في الضفة الغربية"!!.
وتنقل صحيفة معاريف الإسرائيلية -بتاريخ 19 يونيو الماضي- تصريحاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي، قال فيه: " إن انتصار حماس في غزة، هو إنجاز كبير لإسرائيل؛ لأنه يتيح الفرصة أمام إجراء محادثات مع الحكومة الصديقة لحركة فتح في الضفة الغربية، وكسر السياسة المجمدة التي نشأت بعد الحصار على حكومة حماس".
وتتهم الصحيفة حركة حماس بموالاة إيران!! مدعية أن الانتصار الذي حدث في غزة هو انتصار لطهران، التي تحاول دعم التنظيمات المتطرفة بمنطقة الشرق الأوسط؛ حسب ادعاءات الصحيفة!!.
ومحاولةً -أيضاً- لتقديم وجهات نظر من داخل فلسطين؛ تنقل صحيفة (هارتس) الإسرائيلية -بتاريخ 3 سبتمبر الحالي- تصريحات لمروان البروغوثي (القيادي في حركة فتح، الذي يمكث في السجون الإسرائيلية، وتنوي تل أبيب إطلاق سراحه لدعم موقف فتح) بقوله: "إن حماس قادت انقلاباً دموياً، عبر استيلاءها على السلطة في غزة".
وفي حين تتغاضى الصحيفة عن كون البرغوثي معتقلاً بتهمة القتل، ومحكوم عليه بالسجن المؤبد؛ تؤكد الصحيفة أن البرغوثي قد يطلق سراحه في صفقة تبادل مع الفلسطينيين، معتبرة أن ما يحاول البرغوثي فعله هو التأكيد على الوحدة الوطنية الفلسطينية!.(/3)
وتنقل الصحيفة عن البرغوثي تهديداته لحماس بقوله: "الكرة الآن في ملعب حماس، إنها لم تقم بشيء حتى الآن؛ سوى احتكار السلطة واستعمال القوة! ومن الواضح أن الطريق للحوار معها مغلق"، معتبراً أن ما قامت به حماس هو: "ضربة كبيرة للتجربة الديمقراطية الوليدة" في فلسطين!!.
صحيفة (جيروساليم بوست) الإسرائيلية دافعت عن الإجراءات التي تقوم بها حركة فتح في مواجهة حماس، في الضفة الغربية وغزة، موردة عدة تقارير أواخر شهر أغسطس الماضي، عن مواقف فتح، التي وصفتها (بالإيجابية).
وكتبت تقول عن قرار السلطة إغلاق الجمعيات الخيرية الإسلامية: "إن قرار السلطة الفلسطينية القاضي بإغلاق عشرات الجمعيات الخيرية الإسلامية؛ يهدف إلى منع حماس من استغلال هذه المؤسسات، بغسيل الأموال". متبنية -بذلك- رأي وزير الإعلام في السلطة الفلسطينية رياض المالكي؛ الذي ادعى حدوث غسيل أموال لصالح حركة حماس عبر هذه الجمعيات الخيرية.
وتعد الجمعيات الخيرية الفلسطينية من المعاقل الأخيرة التي تقدم للفلسطينيين اليسير من الأموال والمساعدات الإنسانية والغذائية، في وقت يرزح فيه الفلسطيني تحت ثقل الحصار الإسرائيلي والدولي، منذ وصول حركة حماس إلى لحكم.
وفي هذا الصدد كتبت صحيفة (معاريف) الإسرائيلية تقول: "إن الحكومة الإسرائيلية قررت -بدعم من الأمريكيين، فرض حصار على الفلسطينيين، بعد وصول حماس للسلطة؛ من أجل دفع الفلسطينيين للتململ من حكومة قادت معها الحصار والفقر، وتنمية السخط الفلسطيني ضد الحركة المسلحة".
وترى صحيفة (جيروساليم بوست) في حديثها عن إغلاق المنظمات الخيرية الفلسطينية؛ أن الحكومة التي تشكلت في الضفة الغربية رداً على حكومة حماس؛ لم تأت إلى الحكم إلا قبل شهرين فقط؛ وعليه؛ فهي غير مسؤولة عما كان يجري في السابق، محاوِلة الدفاعَ عن حكومة فتح، وقراراتها، مهما كانت، طالما أنها موجهة ضد حركة حماس!!.(/4)
أما ما تقوم به حماس في بعض الأحيان، من ردود على تجاوزات حركة فتح، أو الموالين لها؛ فإن الوسائل الإعلامية الإسرائيلية تظهره دون التجاوزات؛ لإلقاء اللوم كله على حركة حماس، وإظهارها بمظهر الخارج على القانون، الظالم للشعب الفلسطيني!!.
على سبيل المثال: حظيت محاولة القوة التنفيذية السيطرة على احتجاج أنصار فتح في أثناء صلاة الجمعة -بتاريخ 31 أغسطس الماضي- بتغطية واسعة؛ ركزت فيها الوسائل الإعلامية على ما قامت به القوة التنفيذية، دون أي ذكر لما قام به أنصار فتح!.
وكتبت صحيفة (جيروساليم بوست) العبرية، تحت صورتين؛ تظهر الأولى عناصر من القوة التنفيذية تحاصر أنصار فتح أمام أحد المحلات، وتظهر الثانية شخصاً من أنصار فتح في سيارة تابعة للقوة التنفيذية؛ تقول: "بدأت موجة العنف يوم الجمعة، عندما بدأ رجال حماس باستخدام القوة لتفريق حشود المصلين، عبر إطلاق النار، وضرب المتظاهرين والصحفيين"!!.
وبانحياز تام تابعت الصحيفة بالقول: "إن نحو 20 شخصاً جرحوا في الاشتباكات، بينهم صحفيون فرنسيون وأطفال". وأضافت "إن احتجاجات فلسطينية مماثلة خرجت يوم الجمعة الماضية، ضد تفرد حماس بغزة، أسفرت عن إصابات ومضايقات ضد الصحفيين"!!.
وعن تلك الأحداث، كتبت صحيفة (هارتيس) الإسرائيلية تقول: "إن حركة حماس فرضت حظراً على عقد صلاة الجمعة في الأماكن العامة، بعد أن اندلعت مظاهرات من قبل (عشرات الآلاف) من مؤيدي فتح في غزة! في تحد واضح مباشر لحماس وقوتها التنفيذية!"، منهية التقرير بالقول: "إن العلاقة بين فتح وحماس تمزقت بعد أن استولت حماس (بطريقة عنيفة) على قطاع غزة، بعد خمسة أيام من القتال الوحشي في يونيو الماضي.. ومع أن عباس رد بإقالة الحكومة؛ إلا أن الحركة استمرت بإدارة قطاع غزة بانفراد".(/5)
في كل يوم تقريباً؛ هناك العديد من الأخبار والتقارير الإسرائيلية التي تتحدث عن إمكانية السلام مع حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية، واعتبار أبي مازن (رجل سلام)، واعتبار حركة حماس حركة متطرفة، قادت انقلاباً على الحكم!!.
كل ذلك يخدم -داخلياً، تأجيج الصراع بين الحركتين، وإنشاء شرخ كبير لا يمكن ردمه، وحشد موالاة شعبية فلسطينية ضد حركة حماس، التي تُتَنَاسَى عمداً مواقفُها البطولية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
أما عالمياً؛ فإن هذه التقارير تزيد من حدة العداء الغربي ضد الفلسطينيين من حركة حماس؛ تدعيماً لمواصلة الحصار، ودعماً لحركة فتح وأنصارها، الذين باتوا يحصلون على دعم إسرائيلي وأمريكي وعالمي، عبر بوابة مواصَلة الخضوع والانصياع لحكومة أولمرت؛ مع أنها تعد من أضعف الحكومات التي استلمت الوزارة في تاريخ الكيان الصهيوني، وهو ما يؤكد ضعف الموالين لها!.(/6)
العنوان: الصغار يعبثون بالكتب ويفهمونها أيضا!
رقم المقالة: 285
صاحب المقالة: سناء موسى
-----------------------------------------
يمتلك الطفل معرفة كبيرة بالكلمات والقصص وله الحق أن ينال الثقافة في بداية مسيرته الثقافية في الحياة، ومن حقه أن يستمع إلى ألف قصة وقصة وأن يتلاعب بالمفردات وباللغة وأن يُتلف الكتب وأن يتكاسل وأن يحلم وأن يتعرف على الدنيا ومن يقطنها.
إن وضع الكتب في كل الأماكن التي يسكن فيها الرضيع لا يعني - بالطبع - تعلمه القراءة واللغة بسرعة أكبر مما كان معروفاً في الماضي، فالغاية هنا ليست الحشو، بل تكْمُن في جعل الكتاب في محيط الطفل أكثر وضوحاً وظهوراً، فيرى الحياة من خلاله ويدرك أهمية اللغة والمشاركة واللهو والشِّعر والجماليات.
لذا لابد من منح الكتب للصغار كي يقرؤوها ويلعبوا بها ويستمتعوا بها حيثما يشاؤون، ولابد للأسرة من أن تمنح للطفل جُلَّ وقتها واهتمامها..
إن الرضيع كما يحتاج إلى الحليب يحتاج أيضاً إلى اللعب وإلى الحكايات وإلى جمل بسيطة تترنم في أذنيه مدى الحياة. إذ يتعلم الصغير وهو في طور اكتشافه للحياة تمييزَ الكتاب والتعرفَ عليه خلال بضعة أشهر، ويكتشف وجوده المادي كشيء ملموس: حجمه ورائحته ولونه وأبوابه أحياناً،. وسريعاً يتجه الطفل إلى الكتاب لكي يتقرب منه جسدياً وحسياً، فهو يريد اكتشافه، ويريد أن يَجُوبَه في جميع صوره، ويتعلق به، وقد يضعه في فمه ويقوم بامتصاصه ويعضه بل ويتلفه. ولكن ما أن يقوم بامتلاكه وبترويضه وكأنه جزء منه، حتى يعود إلى البحث عمَّا وراء المادة ويسعى إلى فهم البدايات والنهايات، وكذلك الصفحات التي تتوالى والاتجاه المقلوب ثم يكتشف الحروف وانتظامها وتَكرارها.(/1)
يفهم الطفل أن كلمات الكتاب تحكى قصة مسكونة، وقبل كل شيء قصة الأم والأب وكل ما يحيط به. لذا فإن الرسامين لهم تأثير خاص على الأطفال، فهم يفندون الواقع والحياة اليومية ويجعلون الأشياء والأشخاص المرتبطين بهذا الواقع حاضرون.
والكتاب ينفتح على مساحة كبيرة تعج بالحياة بألوانها الزاهية وبالخيال الساحر وهو بذلك مماثل للعب والتسلية التي يستحوذ عليها الطفل بأسرارها ومخابئها.
ومع كل هذا مازال هناك مَن هم متأكدون أن الصغار لا يفهمون شيئاً مما هو مكتوب، ولكن طفل القرن الحادي والعشرين لم يعد ذلك الكائن الصامت الصغير غير الناطق، بل أصبح شخصاً له اعتباره ويتمتع بقدرات لا تُعَد ولا تُحصَى، ويدعو العاَلمَ المحيط به إلى احترامه والالتفات إلى دوره.
فالطفل أصبح رجلاً لكن بالحجم الصغير، وصغيراً له رغباتُه،ويثير لدى من يهتم به ويحبه ويستقبله ويُعني به انفعالاتِه ومشاعرَه التي لم تكن ظاهرة للكثيرين حتى الأمس القريب.
وبرغم أهمية السنوات الأولى من عمر الطفل والتي يبدأ فيها احتكاكه الأول بالكتاب إلا أن المراحل التي يليها لاسيما ما يتعلق منها بالمدرسة تكون أكثر أهمية، حيث يبدأ الطفل بالقراءة ويتفاعل بصورة مباشرة مع الكتب المدرسية ومع القصص التي يبدأ بها مشوار حياته الأولى.(/2)
ففي المرحلة الممتدة بين خمس وسبع سنوات يدخل الطفل المدرسة وتكون خلايا جسده قد تسارعت خطاها في النمو ومداركه العقلية بدأت النضوج وأصبح يرى الأمور بزوايا منفتحة، فيميز بين الأشياء ويستطيع الاختيار والمواجهة، ويصبح قادراً على استيعاب وفهم وتكوين رصيد من اللغة والكلمات، ويبدأ مسيرة التقليد والتقمص وإعادة نسخ ما يحيط به فيمثل الأشياء ويقلدها ويكررها ويعيد حفظها وتلاوتها، وفي هذه المرحلة العمرية تزداد رغبته في اقتناء القصص المصورة والتي تنقله إلى عالم المغامرة والبطولة فيُسَرُّ بمعرفة مكونات محيطه الخارجي وما يكتنفه من أسرار، ويدخل في عالم الخيال إذ يتعرف على الكثير من الأشياء التي كانت حتى الأمس القريب غريبة عنه، فينفك اللغز المحير أمامه، ويتعلم عدَّ الأرقام وتمييز الأحجام الهندسية.
وفي المرحلة الممتدة من سبع سنوات وحتى السن التاسعة، يبدأ الطفل في امتلاك قدرات على القراءة والكتابة، وتزداد قدراته العقلية، حيث تزيد استطاعته على التمييز بين المتناقضات، ويستطيع ربط الأشياء المتجانسة والمتشابهة في الحجم والوظيفة.فيبدأ في اقتناء القصص لاسيما تلك التي تتعلق بالفكاهة والتسلية، وتنمو شخصيته المستقلة شيئاً فشيئاً فيميل إلى الاعتماد على نفسه في تنفيذ الكثير من الأمور وحتى التي تبدو معقدة بالنسبة إلى الآخرين. وهنا لابد من التذكير بدور الوالدين في تأمين القصص وانتقاءها بحيث تخدم جانباً من خياله وتغذي مداركه التواقة إلى المعرفة والاستطلاع، وتكون بعيدة عن العنف والكوارث، حيث تترك هذه الأنواع من القصص في نفسه أثراً قد يمتد معه إلى أمد طويل. لذا لابد من إبراز الاهتمامات والميول التي يبديها الطفل في هذه المرحلة وإخراجها من الدوائر الضيقة، بعيداً عن الإسراف في كتب الخيال والمغامرات الطويلة غير الهادفة.(/3)
وفي المرحلة الممتدة بين التاسعة وسن الثاني عشر تكون المقدرات الكتابية واللغوية قد اكتملت عند الطفل فيصبح الكتاب حاجةً لا غنى عنها، حيث تَقْوى مهاراته في القراءة والكتابة ويزداد أُفُقُه اتساعاً، برغم أن خياله الواسع يضيق يوماً عن الآخر، فيبدأ مسيرته في هذه المرحلة مع كتب "الخيال الواقعي"،التي تسرد فيها الواقع بنظرة خيالية لا تبعده كثيراً عن ما هو ملموس في حياته اليومية، فقصص التاريخ والأحداث مهما كان نوعها تشغل باله وتجذب هواياته. ويعكف على الكتاب طويلاً فقد أصبح صبوراً، محباً لقراءة القصص الطويلة والتي كان يمَلُّ منها قبل سنة أو سنتين.(/4)
لذا كان على الأسرة مهام كثيرة في هذا الجانب الحيوي من حياة الطفل، والذي يبدو فيه للكتب الدور الأهم والأكثر فعالية في تحديد مستقبله، فعليها أن تزوِّد الطفل بمحصول وافر من الكتب والقصص والخبرات المتنوعة، وأن ترحب بأسئلة الطفل وتساعده على التعبير عمَّا يجول في خاطره، وعلى تعويد الطفل على الاستمتاع بالكتب لتنشأ في البداية علاقة حب بينه والكتاب. لذا يتوجب على الأهل أن يحولوا الكلمات إلى لعبة يلعبها الطفل في مغامراته اليومية، فالطفل يحب الكتابة على ألعابه وعلى كل سطح يصادفه عندما يتناول القلم بيده، وللقصص التي ترويها الأم للطفل قبل نومه الدور المهم في بعث الرغبة في نفسه على اقتناء القصص في المستقبل، تروي له ما سمعه عندما كان في حضن أمه قبل سنتين، وتتكون بداخله شخصية تواقة لقراءة قصص المغامرة، وقصص الحيوانات التي تمهد له فكرة التمييز بين الخير والشر. فالأطفال الذين يكتشفون في فترة مبكرة من حياتهم مع أسرهم ما تنطوي عليه الكتب من متعة لن يجد أية صعوبة في تعلم القراءة، بل على النقيض من ذلك سنجدهم يُقبلون على الكتب كجزء هام من حياتهم ويتعلمون القراءة ويعايشون الكتب بطريقة طبيعية، فكلما كان اهتمام الوالدين بالكتاب والمطالعة أكثر كان الطفل كذلك، وكلما كان الوسط المحيط به مليء بالكتب سواءٌ أكان على الرفوف أم في المكتبة المنزلية كانت رغبات الطفل تنمو باتجاه بناء علاقة معها قد تكون في المستقبل الصديق الذي لا يفارق صديقه.(/5)
العنوان: الصِّفاتُ الكماليَّةُ للشَّخصيَّة
رقم المقالة: 1635
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
أ- الذَّاتيَّةُ، أو الاستقلالُ الذَّاتيّ:
وهي مجموعةُ الصِّفات العقليَّةِ الخاصَّةِ بالفَرْد، وتختلفُ من فَرْدٍ لآخَر، ومن أسباب إخفاق الكثيرين في الحياة أنَّهم لا يستقلُّونَ بأنفُسِهِمْ في تفكيرهِمْ؛ بل يَعتمدونَ على غَيْرهِمْ، ويحاكونَهُم في أقوالهم وأفعالهِم وآرائهِم، ومن هنا كان خطرُ (العَوْلَمَة) الحديثة، التي تسعى لأنْ يكونَ كلُّ سكَّان الأرض كتلةً واحدةً، يغلِبُ عليها الطَّابَع الغربيُّ.
ومن هنا وَجَبَ احتفاظُنا بشخصيَّتنا الإسلاميَّة العظيمة، والعربيَّةِ الأصيلة، فما تَناسَبَ معنا أخَذْنَاهُ، وما تَعارَضَ مع شخصيَّتِنا الإسلاميَّةِ تجنَّبْناهُ؛ لتَبْقى حضارةُ المسلمينَ شامخةً بإذن الله.
وعلى المستوى الفردي فإن عوامل الذاتية المميزة هي:
1- الصراحةُ وعدمُ الالتواء: في الفِكْرِ والقَوْلِ والعَمَلِ؛ بحيثُ يكونُ المَرْءُ ظَاهِرُهُ كباطِنِه، وَفْقًا لِمُقْتَضَيَاتِ الشَّريعةِ الغَرَّاء؛ ذلك لأنَّ كَثْرةَ التَّردُّدِ في القَوْلِ أوِ الفِعْلِ تضعف منْ شخصيَّة الإنسان، وكثيرًا ما تَعوقُهُ عنِ النَّجاح في الحياة العمليَّةِ والاجتماعيَّةِ.
قال رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((عليكُم بالصِّدْقِ؛ فإنَّ الصِّدْقَ يَهْدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدي إلى الجنَّة، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحرَّى الصِّدْقَ حتَّى يُكْتَبَ عند اللهِ صِدِّيقًا، وإيَّاكُمْ والكَذَبَ؛ فإنَّ الكذبَ يَهْدي إلى الفُجُور، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدي إلى النَّار، وما يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحرَّى الكَذِبَ؛ حتَّى يُكْتَبَ عند الله كذَّابًا))[1].(/1)
2- حبُّ المسؤوليَّة، وعدمُ الهرب منها: وهذه المَيْزَةُ تَنشأُ منَ الثِّقةِ بالنَّفْس، ويقينِ الإيمان، وبصفةٍ عامَّةٍ فإنَّ تَحَمُّلَ المسؤوليَّة قد يُعَرِّضُ الإنسانَ للخطر.
ولكنْ؛ بماذا تَجْتَذِبُ قلوبَ الآخَرينَ؟
إنَّكَ تَجْتَذِبُهُم بالإقْدام وعدم الفرار منَ المسؤوليَّة، والتَّعَرُّضِ للأخطار، ما دام الإخلاصُ لله، ثم إرضاءِ الضَّمير.
ولعلَّ إرضاءَ النَّاس غَايَةٌ لا تُدْرَكُ، وحَتْمًا سَتَجِدُ المُخْلِصِين الذين يقدِّرونَ مَنْ يستحقُّ التَّقديرَ، ويَثِقُونَ بمَنْ يستحقُّ الثِّقةَ؛ فيعترفونَ لكَ بالفَضْل، ويُقِرُّونَ بمقْدِرَتِكَ، وهذا أكبرُ مشجِّعٍ للإقْدام وعدمِ الخوف منَ المسؤوليَّة.
قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المسلمونَ من لِسَانِهِ ويَدِهِ، والمهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نهى اللهُ عنهُ))[2].
3- الصَّبْرُ: فضيلةٌ تُمَكِّنُ العقلَ منَ القيام بوظائفه العقليَّةِ في هدوءٍ وثباتٍ، تجعلُ الإنسانَ هادئًا رَزِينًا، بعيدًا عنِ الطَّيْشِ والانْدِفاعِ بغيرِ تفكيرٍ في العواقب، وهكذا يؤدِّي الصَّبْرُ إلى النَّجاح، والجَزَعُ إلى الإخفاق.
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مع عِظَمِ البَلاءِ، وإنَّ اللهَ -تعالى- إذا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضا، ومَنْ سَخِطَ فلَهُ السَّخَطُ))[3].
قال الشَّاعرُ:
وَالصَّبْرُ في النَّائِباتِ صَعْبٌ لَكِنْ فَوَاتَ الثَّوابِ أَصْعَبُ
4- المُثابَرَةُ: إنَّ المُثابَرَةَ وقوَّةَ الإرادة من أهمِّ صفات الشَّخصيَّة العظيمة، وَحَيْثُمَا وُجِدَتِ الإرادةُ الحديديَّةُ وُجِدَتْ قوَّةُ الشَّخصيَّة.
والمُثابَرَةُ تعني: الاستمراريَّةَ، وصِدْقَ العزيمة، وعدمَ الكَلَل، فيُثابِرُ الشَّخصُ في عمله حتى ينجحَ في الوصول إلى أمانيه.(/2)
قال أبو جعفرٍ المنصورُ:
إذا كُنْتَ ذا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ فَإِنَّ فَسَادَ الرَّأْيِ أَنْ تَتَرَدَّدا.
عنِ ابنِ مسعودٍ –رضي الله عنه– قال: سألتُ النبيَّ –صلَّى الله عليه وسلَّم-: أيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إلى الله تعالى؟ قال: ((الصَّلاةُ على وَقْتِها)). قلتُ: ثُمَّ أيّ؟ قال: ((بِرُّ الوَالِدَيْن)). قلتُ: ثُمَّ أيّ؟ قال: ((الجهادُ في سبيل الله))[4].
ب- الإخلاصُ:
هو الصَّفاءُ والصِّدْقُ في القَوْلِ والعَمَلِ، والبُعْدُ عنِ الكَذِبِ والرِّياءِ والنِّفاقِ.
قال رسولُ الله –صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خَانَ))[5].
قال الشَّاعر:
فَسِرِّي كَإعْلاني وَتِلْكَ خَليقَتي وَظُلْمَةُ لَيْلي مَثْلُ ضَوءِ نَهارِيَا
وللإخلاص أثرٌ كبيرٌ في شخصيَّة الإنسان، وفي نجاحه في عملِهِ وحياتِهِ؛ قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سمع رسولَ الله –صلَّى الله عليه وسلَّم– يقولُ: ((إنَّ قلوبَ بني آدمَ كلَّها بين إصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحمنِ، كقَلْبٍ واحدٍ، يُصَرِّفُهُ حيثُ شاءَ))؛ ثم قال الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((اللهُمَّ مُصَرِّفَ القلوبِ؛ صَرِّفْ قلوبَنا على طاعتِكَ))[6].
جـ- الحماسةُ:
نوعٌ منَ الشَّجاعة تُصاحَبُ بالشُّعور القويِّ، والإقْدامِ مع قوَّة الإيمان من جهةٍ، وحُسْنِ التَّفكيرِ من جهةٍ أخرى؛ فلا يكفي للنَّجاح في الحياة أن يكون الإنسانُ ذَكِيًّا ماهرًا فحَسْبُ؛ بل يَتَّحِدُ معهما قوَّةٌ أخرى؛ هي الحماسةُ والغَيْرَةُ الطَّبيعيَّة، وينشأُ عدمُ الحماسة منَ الشَّكِّ والخُبْث، وهما من أَلَدِّ أعداء الشَّخصيَّة.(/3)
ومنَ الحماسة حُسْنُ التَّعبير عمَّا يدورُ بالنَّفس، بالقَوْلِ والفِعْلِ ومشاركةِ مشاعرِ الآخَرينَ، فيُقْدِمُ حيثُ يجبُ الإقْدامُ، ويمتنِعُ حيثُ يجبُ الامْتِناعُ.
عن أبي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه– قال: قال رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَنْ دعا إلى هُدًى؛ كان له مِنَ الأجر مثلُ أُجُور مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ من أُجُورهِمْ شيئًا، ومَنْ دعا إلى ضلالةٍ؛ كان عليه منَ الإثم مثلُ آثام مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِنْ آثامهِمْ شيئًا))[7].
د- قوَّةُ الإحساس:
منْ أكبر المؤثِّرات في الشَّخصيَّة القويَّة، بعضُها وراثيٌّ، والآخَرُ مُكْتَسَبٌ منَ التَّربيةِ والخِبْرةِ والتَّهذيبِ.
والإنسانُ الصَّادقُ الحِسِّ، الحَسَنُ البَصيرةِ، ليسَ بِذَكِيٍّ فحسْب، ولكنَّه حَسَنُ التَّقديرِ والحُكْمِ على الأشياء، يرى الفُرْصَةَ فيَنْتَهِزُها ويَنْتَفِعُ بها.
والمطلوبُ: أن يُحدِّد الشخصُ إحساسَهُ، ويتعَوَّدَ ضَبْطَ نفْسِه، وكِتْمانَ شُعُورِهْ؛ حتَّى لا تتحكَّمَ به العواطفُ والشَّهواتُ، ولهذا كان ضَبْطُ النَّفْس هو رُوحَ الشَّخصيَّة وقوَّتَها المعنويَّةَ، وبذلك يَجِدُ الإنسانُ سعادتَهُ في تغْليب الخيرِ على الشَّر، والعقلِ على العاطفة.
روي عن رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((لا يؤمنُ أحدُكُمْ حتَّى يكونَ هَوَاهُ تَبَعًا لما جِئْتُ بِهِ))[8] ، وعن أبي ذَرٍّ قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((لا تَحْقِرَنَّ منَ المعروفِ شيئًا، ولَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ))[9].
قال مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيَانَ: "لوْ كان بيني وبين النَّاس شَعْرةً لما انْقَطَعَتْ؛ لو شدُّوا أرْخَيْتُها، ولو أَرْخَوْا شَدَدْتُها)).
عواملُ ضعفِ الشَّخصيَّة:
- ضعفُ العقيدة، ونقصُ الإيمان، وانحرافُ السُّلوك.
- اتِّكالُ الشَّخص على غَيْره، وتقليدُهُ في أقواله وأفعاله.(/4)
- التَّأثُّر بالعادات والتقاليد السيِّئة والمُجْحِفَة، والتَّمسُّكُ بالأفكار والنَّظرياتِ التي يقرؤها الإنسانُ في بعض الكُتُبِ.
- الأَثَرة وحبُّ الذَّات، والبُخْلُ والكَذِبُ والنِّفاقُ، وغَيْره منَ الصِّفاتِ الذَّمِيمَة.
- تَحَكُّمُ الأهواءِ والميولِ والعواطفِ في تصرُّفاتِ الإنسان.
قال الشَّاعرُ:
وَعَاجِزُ الرَّأيِ مِضْيَاعٌ لِفُرْصَتِهِ حَتَّى إذا فَاتَ أَمْرٌ عَاتَبَ الْقَدَرَا
وللتَّخَلُّص من هذه العوامل وَجَبَ الثِّقةُ بالنَّفْس، والتَّمَسُّكُ بالعاداتِ والتَّقاليدِ الحَسَنَة، وتحكيمُ الدين ثم العقل في كلِّ تصرُّفاتِنا؛ فما تَطَابَقَ مع الشَّرع أَخَذْنَاهُ، وما نهى عنهُ اجْتَنَبْنَاهُ.
وينبغي أن يحافِظَ المسلمُ على شخصيَّتِهِ الإسلاميَّةِ، ولا يكونَ تابعًا ولا إِمَّعَةً؛ كما جاء في الحديث: ((لا يكونن أحدُكُمْ إِمَّعَةً؛ يقولُ: إنْ أحسن الناس أَحْسَنْتُ، وإنْ أَسَاؤوا أَسَأْتُ. ولكنْ وَطِّنوا أَنْفُسَكُمْ: إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أنْ تُحْسِنوا، وإنْ أساؤوا فلا تظلموا))[10].
اللهم إني أسألُكَ الهُدَى والتُّقَى، والعَفافَ والغِنَى.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم.
[2] متَّفقٌ عليه.
[3] رواه الترمذي.
[4] متَّفقٌ عليه.
[5] متَّفقٌ عليه.
[6] رواه مسلم.
[7] رواه مسلم.
[8] رواه ابن أبي عاصم في السنة، وهو ضعيف.
[9] رواه مسلم.
[10] رواه الترمذي.(/5)
العنوان: الصفعة
رقم المقالة: 215
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
لا تفتأ رسائلها عليه تترى، تحرضه على العودة، بل تسترحمه وتقسم عليه أن يعود:
- لم يعد شيء يحملك على البقاء.
العمر ينفد، ولن تستطيع الحصول على كل شيء، وإن بقيتَ هنالك عمرين..
تفعل كلماتها في نفسه فعل السحر. تستحلب الدمع من عينيه،
تؤجِّج نيران الشوق في صدره.
وكم بات وهو يعتزم أن ينهض في الصباح ليتدبر أمر العودة إلى الوطن!
ولكنه ما إن يهمَّ أن يخطو خطوة واحدة في هذه السَّبيل حتى تدهمه الأفكار، وتبدأ حسابات الربح والخسران.
يحمله التفكير فوق أجنحة الغيم، فلا ينام ليلتذاك، وما يلبث سحرُ كلامها أن يتلاشى، بل أن يتبخر كما تتبخر قطرات الماء التي أصابتها شمس الظهيرة..
عنده خمسة أولاد...
لا يستطيع ما جمعه من المال خلال عشر السَّنوات التي قضاها هنا أن ينهض بتدريس واحد منهم تدريساً محترماً في كلية من هذه الكليات التي يحلم بها..
لا يستطيع ما جمعه أن يشتري فرشاً لائقاً لبيت متواضعٍ اقتناه بعَرَق أكثر من نصف سنوات الغربة التي مرت عليه هنا..
آهٍ.. ما أجمل كلامها.. وما أرقَّ رسائلها.. ينفعل بها، يتلبسه الحنين من رأسه إلى قدميه.. يحسّ أنه مسكون بالوطن وناسِه فقط، سيطير إليهم مع هذه العصافير الكثيرة السَّابحة..
ولكنْ.. تعترض (لكنْ) حلقه كالشوكة الجارحة، أو كالغصَّة المحرقة، فيتبدد الألق من حوله، ويبدأ النكوص:
- سأبقى.. لما يحِنْ بعدُ وقت العودة..
يسأله محمود صديقه في الغربة:
- إلى متى ستبقى؟
يردُّ عليه يائساً:
- ماذا أفعل إذا عدتُ؟.. سأنفق مامعي خلال مدة يسيرة..
سيكون الوضع هنالك خروجاً من غير دخول، دفعاً من غير قبض..
البطالة ضاربة أطنابها.. و((البطَّال ينفد ما معه وإن كان بيت مال))..
يقول له محمود:
- ولكنَّ وضعك هاهنا سيئ.. عملك ليس على ما يرام..
يرد منهياً الحوار:(/1)
- وضعي هنالك أسوأ.. أصبحت المعادلة منذ زمن غير بعيد:
((ارضَ بالمرِّ هرباً من الأمَرِّ..)).
ولكنها لا تيأس، لا تكفُّ عن استحثاثه على العودة.
ذات يوم جاءته منها رسالة، استدرَّت – كالعادة – الدموعَ من عينيه..
أحسَّ – كما كان يحسُّ في كلِّ مرة – أن مقاومته ستنهار..
حدَّثته عن مرض أحد أولاده، وحدَّثته عن بوادر غير مرضية أصبحت تظهر في سلوك ولد آخر.
وحدثته كذلك عن النظرات التي أصبح يرشقها بها بعض المتصعلكين الذين يرونها ((غنمة شاردة من غير راع..)).
إن أحدهم لم يعد يكفُّ عن ملاحقتها، ثم صار يتصل بها بالهاتف ليلاً ونهاراً..
لم تدرِ من أين حصل على الرقم؟
كلام كثير كثير.. أشعل البركان في عروقه، أوقد جذوة الشهامة والغيرة..
دارت به الدنيا ولفت..
قال لمحمود صديقه الوحيد الودود في هذه الغربة الحجرية وهو يجفِّف الدموع التي تجمعت في مآقيه:
- المرأة صارت شاة يطمع بها أولاد الكلب من الذؤبان، والأولاد كبروا ولم تعد تستطيع السيطرة عليهم..
- هذا يوجب أن تعزم على العودة..
قالها له محمود بحزم:
- ولكنك تعرف الظروف..
وبحزم أشدَّ قال له محمود:
- ستبقى الظروف هكذا وإن امتد بكَ العمر عمراً آخر كما تقول زوجتك..
استخر الله وعُد..
- أعود!..
نطقها بين الرجاء والخوف، بين الفرح والإشفاق من مجهول يخافه..
- استخر الله
- لا إله إلا الله..
- صلِّ قبل أن تنام، واقرأ دعاء الاستخارة، وسيشرح الله صدرك لاتخاذ قرار حكيم..
بعثتْ كلمات محمود في نفسه سكينة روحية. صلَّى تلك الليلة بخشوع ما أحسَّه في حياته.
شعر أنه يتصل بربه مباشرة..
ناجاه بضراعة، ذرف دموعاً كثيرة، سأل الله أن يلهمَه اتخاذ القرار السديد، وأن يفتح أمامه باب المستقبل:
- أنت ياربِّ أعرف بالحال..
هنالك فقر وضيق يد.. هنالك إنفاق كثير ودخل قليل..
أريد أن أعيش حياة كريمة.. حياة لا أحتاج فيها إلى أحد..(/2)
وهنا مال أكثر وذلٌّ أكثر.. أدَّخر اليسير ولكني أدفع الكثير.. أدفعه غربة ودموعاً وشوقاً، أدفعه حنيناً إلى الأولاد والزوج والأهل..
هنا أتحمل الإهانات.. إهانات رب عمل جاهل مغرور.. ينظر إلى ما آخذ ولا ينظر إلى ما أعطي.. كلُّ ما تقدِّمه يحسبونه أقل من القليل الذي يدفعونه إليك..
تعيش بينهم ربع قرن أو أكثر ولا يشعرون بجميلك.. تظلُّ غريباً.. غصناً لا يجوز أن يثمر.. محفظتك قرب الباب.. يرحِّلونك في أي وقت يشاؤون..
نام بعد مناجاة طويلة مع ربه، وبعد حوار عميق مع نفسه،
كانت همومه ثقيلة كالجبال، وكان اتخاذ القرار أثقل منها، ولكنه – على الرغم من ذلك – نام منشرح الصدر، بعد أن سلَّم مقاليد أموره لكف الرحمن، وسأله أن يلهمه السَّداد.
ما كاد يغط في نومه قليلاً حتى صحا فزعاً..
كان كابوساً مرعباً مخيفاً، جعله ينتفض في فراشه كالملسوع.
رأى فيما يرى النائم أن ربَّ العمل يهينه أمام الجميع إهانات قاسية..
وعندما حاول أن يردَّ عليه رفع يده وصفعه على وجهه بأقصى ما أوتي من قوة.
كان يرتجف في فراشه. شعر أن أثر الصفعة على وجهه..
نهض فزِعاً، أوقد النور، وراح ينظر في المرآة.
كاد يسقط مغشياً عليه. أهذا معقول؟
أحسّ أن خده متورم، رأى آثار كف على وجهه، أصابعُ خمسٌ لكف مرتسمةٌ على خده الأيسر بشكل لا تخطئه العين.
راح يتحسسها. كانت تؤلمه، ولكنها كانت آثار صفعة.
بحلق في المرآة مرة ثانية وثالثة، أجل، إنها صفعة..
كانت الرسالة واضحة، وصلته فصيحة بيِّنة. لم يكمل نومه، راح في الليل يجمع حاجاته استعداداً للرحيل..(/3)
العنوان: الصفقةُ الذهبيةُ في أفغانستان
رقم المقالة: 1377
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
بعدَ ستةِ أسابيعَ من الأزمة الدولية في أفغانستان، عَدَّتْها طالبان وسيلةً من وسائل الجهاد لإخراج الاحتلال من أراضيها، وعدتها كوريا أزمةً دبلوماسية ألقت بثقلها على الحكومة، انتهت المفاوضاتُ بين الطرفين بنجاح، ضَمِنَ للكوريين المحتجَزين إطلاقَ سراح مأمون، وضمنت لطالبان خروجَ القوات الكورية من البلاد، دون قتال.
الرهائن التسعة عشر الذين احتجزتهم طالبان قبل ستة أسابيع تقريباً، عادوا بسلام، في حين بدأ الجيشُ الكوري الاستعداداتِ للخروج من البلاد، الذي أفقد التحالفَ العسكري بقيادة الولايات المتحدة فريقاً مهماً.
بداية الأزمة:
شهدت أفغانستان إثرَ الاحتلال من قبل الولايات المتحدة أواخر عام 2001، دخولَ الكثير من القوات الدولية إليها، فضلاً عن دخول مجموعات نصرانية في محاولة لنشر النصرانية في دولة باتت قيادتُها بيد الأمريكيين.
وكمعظم دول العالم الثالث، تنتشر الأميةُ والجهل في كثير من أرجاء أفغانستان، وقد أوجد ذلك بيئةً مناسبة لنشر النصرانية، بحجة الأعمال الخيرية، والدعم المالي، والخدمات الإنسانية والطبية. وذلك تطلّب وجودَ جهات قادرة على الوقوف في وجه هذه الجماعات.
وكقيادةٍ تعمل على طرد الاحتلال من البلاد، واستعادة السيطرة على الحكم، بعد وصول جهات موالية للأمريكيين، عملت حركةُ طالبان على عدة اتجاهات، من بينها مواجهة الاحتلال وأعوانه عسكرياً، ومواجهة الجماعات التنصيرية في البلاد، والعمل على فتح قنوات دبلوماسية مع دول العالم المختلفة، لحشد التأييد والدعم للحركة، التي كانت تحكم البلاد وفق الشريعة الإسلامية لسنوات تلت الحرب ضد الشيوعيين وحلفاء الروس.(/1)
بتاريخ 19 من يوليو الماضي، احتجزت عناصرُ من طالبان مجموعةً تنصيرية من كوريا الجنوبية، تتكون من 23 شخصاً (18 امرأة و5 رجال)، خلال تنقّلهم بحافلة عامة من العاصمة كابل، إلى قندهار، التي تعد المعقلَ الأساسي لطالبان.
بُعَيد الكشف عن احتجاز الرهائن، طالبت طالبان بفتح باب المفاوضات مع كوريا الجنوبية، لإقرار اتفاقيةٍ تضمن خروجَ القوات الكورية من البلاد، مقابلَ إطلاق سراح الرهائن المحتجزين. إلا أن الطريق المسدود، وعدم قبول (سيؤول) لمطالب الحركة الحاكمة السابقة، جعل الحركة تقتل اثنين من الرجال الرهائن.. وذلك أثار استياء الشعب الكوري، وزاد الضغط الشعبي على الحكومة، للدخول في مفاوضات مع طالبان.
وخلال وقت سابق من شهر أغسطس، أفرجت الحركة عن اثنين من الرهائن من النساء.
لم يكن أمام (سيؤول) إلا قبول المفاوضات، التي عدّها الكثيرون على نطاق واسع تنازلاً أمام جماعة محظورة دولياً، قد تضُر بالموقف الأمريكي، الرافض دائماً لإجراء مفاوضات علنية على الأقل، مع الجماعات المسلحة المحظورة.
قبل إطلاق سراح الرهائن، أكد رجال القبائل الذين شاركوا في المفاوضات بين طالبان وكوريا الجنوبية، أن المحتجزين بصحة جيداً جداً، وهو الأمر الذي أكده مسؤولون في الصليب الأحمر، بعد أن سمحت طالبان بزيارتهم لعدد من المحتجزين في وقت سابق. الأمر الذي يؤكد أنهم كانوا يلاقون معاملة حسنة، وعناية جيدة.
المحتجزون التسعة عشر، أُطلِق سراح مجموعة منهم مكونة من 12 شخصاً يوم الأربعاء 28 من أغسطس، على ثلاث مراحل، في منطقة غازني وسط أفغانستان. بعد أن أبرمت طالبان والوفد الكوري الجنوبي المفاوضُ اتفاقاً نهائياً يوم الثلاثاء 27 من أغسطس، يقضي بإطلاق سراح الرهائن، مقابل خروج القوات الكورية الجنوبية من أفغانستان أواخرَ العام الحالي.
الصفقة:(/2)
مرت عدة أسابيع على خطف الكوريين الجنوبيين، الذين أكدت مصادرُ مختلفة أنهم كانوا يتبعون كنيسة صايمول (Saemmul Church)، وقدموا إلى البلاد ضمن فرق التنصير التي تسمح الحكومة الأفغانية الموالية للاحتلال بوجودها بالبلاد. خلال هذه المدة، طالبات حركة طالبان بإطلاق مجموعة من قادة الحركة، من السجون الأفغانية والأمريكية، مقابل إطلاق سراح الرهائن الكوريين. إلا أن الرفض المستمر، أرغم الحركة على قتل رجلين من بين الرهائن. وذلك أثار حفيظة الكوريين؛ إذ انتشرت المظاهراتُ في (سيؤول)، واضعةً الحكومةَ في موقف حرج. إذ كتبت صحيفة الهيرالد تريبون الأمريكية في تقرير نشرته يوم الأربعاء 29 من أغسطس تقول: "إن أزمة الرهائن وضعت حكومة الرئيس روه مو هيون في مأزق، وعُدَّت على نطاق واسع اختبارًا لعلاقاتها الدبلوماسية، في وقت تواجه فيه ضغوطاً متزايدة لإعادة الرهائن إلى ديارهم".
ومع إطلاق سراح رهينتين من النساء، جعلتها طالبان بادرة حسن نية، وافقت كوريا الجنوبية على إجراء مفاوضات رسمية مع طالبان، متغاضية عن الموقف الأمريكي والأفغاني الحكومي، الرافض للمفاوضات.
شارك في هذه المفاوضات حركة طالبان ووفدٌ حكومي كوري، شمل رجال دين مسلمين، من بينهم عبدالرحمن لي (نائب إمام أحد المساجد في سيؤول) وذو الفقار علي حسن (رجل أعمال كوري من أصل باكستاني).
بالإضافة إلى مسؤولين في الصليب الأحمر، ورجال قبائل في المنطقة، من بينهم حاجي محمد ظاهر، أحد زعماء القبائل، الذي صرّح لوسائل الإعلام يوم الأربعاء 28 من أغسطس، بصيغة الاتفاقية بين الطرفين الرئيسين. حسبما نقلت وكالة فرانس برس يوم الخميس. وقد شارك بنفسه في تسليم 12 محتجزاً من طالبان للدبلوماسيين الكوريين.(/3)
في المقابل، تعهدت كوريا الجنوبية بسحب جميع قواتها غير المقاتلة في أفغانستان، والبالغ عددها 200، أو 210 على ما ذكرت بعض وسائل الإعلام الأجنبية. كما تعهدت بسحب فوري لجميع الجماعات التنصيرية المنتشرة في البلاد خلال هذا الشهر، وسحب الموظفين والعاملين الذين يشاركون في عمليات إعادة الإعمار، من البلاد، مع نهاية العام الحالي.
ويعمل الجنودُ الكوريون ضمن فريق عسكري مؤلف من 8 آلاف جندي دولي. تقودهم قوة منفصلة عن الجنود البالغ عددهم 40 ألفا، التابعين لقوات حلف شمال الأطلسي، والموجودين في أفغانستان بقيادة أمريكية.
بالمقابل، تخلت طالبان عن مطالبها بإطلاق سراح قادة الحركة. وأطلقت سراح آخر الرهائن يوم الخميس 30 من أغسطس.
بعض وسائل الإعلام أشارت إلى أنه ربما تضمنت الصفقة مبلغا ماليا يقدر بنحو 10 ملايين دولار، كبند سري، إلا أن الحكومة الكورية الجنوبية أشارت إلى أنها كانت مستعدة لدفع مبلغ 500 ألف دولار لكل رهينة، ولكنها لم تدفع أي مبلغ لطالبان، التي قالت بدورها: "إن الصفقة لم تتضمن أي مبلغ مالي".
الموقف الأفغاني والأمريكي:
على الرغم من إعلانهما السابق رفضَ الدخول في أي مفاوضات مع حركة طالبان حول إطلاق سراح الرهائن الكوريين، إلا أن الولايات المتحدة والرئيس الأفغاني حامد كرزاي (الموالي لواشنطن) أكدا في وقت لاحق، أن المفاوضات طريق أساسي لإنهاء المشاكل العالقة مع الحركة الحاكمة سابقاً.
إذ ينقل تقرير نشرته وكالة الأسوشيتدبرس يوم الخميس 30 من أغسطس، عن اللواء روبرت كون (المسؤول عن تدريب القوات الأفغانية الحكومية) قوله: "إن القوة العسكرية لا تستطيع أن تهزم وحدها حركة طالبان"، مضيفاً أن "معظم حالات التمرد (!!) تنتهي بإيجاد حل سياسي".(/4)
وخلال إعلانه أن القوات الأفغانية ليست قادرة حتى الآن على مواجهة حركة طالبان المسلحة، قال كون: "أعتقد أن الحل الرئيس لا يكمن بالطريقة العسكرية على المدى الطويل.. معظم الحركات المسلحة تنتهي أزمتها بإيجاد حل سياسي"، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة وجدت نفسها أخيراً أمام خيار مفاوضة طالبان، بعد إخفاق المحاولات العسكرية معها.
وعلى السياق نفسه، نجد الرئيس الأفغاني، الذي أكّد خلال أزمة الرهائن الكوريين أنه غير موافق مطلقا على مبدأ إطلاق سراح أسرى من طالبان مقابل إطلاق سراح الكوريين، يعترف أنه ليس بمقدور أحد إجبار طالبان على إطلاق سراح الرهائن، دون مفاوضات تضمن للحركة مطالبها في كل مرة.
إذ يؤكد التقرير الخاص بالأسوشيتد برس أن كرزاي اعترف أنه دخل خلال وقت سابق من هذا العام، في مفاوضات مع قادة من حركة طالبان، في محاولة للتوصل إلى حل سياسي في البلاد، التي يتنازعها الاقتتالُ الداخلي ومحاولات التحرير سنوات طويلة.
وكانت صحيفة (آسيا تايمز) نشرت تقريراً حول الرهائن قالت فيه: "إن كوريا الجنوبية حاولت إقناع الولايات المتحدة للضغط على كرزاي في سبيل الموافقة على إطلاق سراح أسرى طالبان، إلا أنه وبتاريخ 21 من أغسطس، أعلنت وكالة الأنباء الأفغانية، أن حكومة الرئيس كرزاي ترفض مجدداً الإفراج عن أسرى طالبان، مقابل إطلاق سراح الرهائن الكوريين".(/5)
وبالنظر إلى المرات الكثيرة التي تم خلالها اعتقالُ أجانب في أفغانستان، نجد أن هذه الوسيلة لا تزال تتمتع بقدرة فائقة في تحقيق أهداف، ولو كانت محدودة، في سبيل طرد الاحتلال. خاصة وأن أفغانستان شهدت حتى الآن الكثيرَ من هذه الحالات، كأسر الصحفي الإيطالي دانييل ماسترو غياكامو مع مترجمه الأفغاني في مارس 2007، مقابل إطلاق سراح 5 من قادة وأعضاء طالبان. واختطاف امرأة ألمانية من قبل مجموعة مسلحة لا تتبع لطالبان، مقابل فدية مالية. وغيرها. وبالنظر إلى هذه المحاولات، نجد أن صفقة كالتي أبرمتها طالبان أمس مع كوريا الجنوبية، تعد الأفضل حتى الآن، خاصة وأنها شهدت أكبر عملية احتجاز، منذ احتلال البلاد أواخر العام 2001.(/6)
العنوان: الصلاة وحكمة تشريعها
رقم المقالة: 689
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي فرض على عباده الصلوات لحكم عظيمة وأسرار، وجعل هذه الصلوات مكفرات لما بينهن من صغائر الذنوب والأوزار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والعزة والاقتدار وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله إمام المتقين الأبرار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعرفوا ما لله من الحكم العظيمة فيما أمركم به من العبادات، وفيما نهاكم من موجبات الإثم والسيئات، فإن الله تعالى لم يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم، فإن الله غني عن العالمين، وإنما أمركم بما أمركم به لاحتياجكم إليه وقيام مصالحكم الدينية والدنيوية عليه، فالعبادات التي أمر الله بها كلها صلاح للأبدان، وصلاح للقلوب، وصلاح للأفراد، وصلاح للشعوب، وإذا صلحت القلوب صلحت الأبدان، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).(/1)
أيها الناس إنكم محتاجون إلى ربكم، ومضطرون إليه ليس بكم غنى عنه طرفة عين، فاعبدوه، واشكروه، وأديموا ذكره وشكره، ولقد شرع الله لكم من العبادات ما يقربكم إليه، ويستوجب الأجر والثواب شرع لكم هذه الصلوات الخمس التي تطهر القلوب من الذنوب، وتوصل العبد إلى غاية المطلوب الصلوات التي هي صلة بين العبد وبين خالقه وفاطره، يطهر ظاهره وباطنه حين يريد الصلاة، فيأتي إليه بطهارة الباطن والظاهر، ويقف بين يدي ربه خاشعاً خاضعاً لا يلتفت بقلبه، ولا بوجهه قلبه متصل بالله ووجهه إلى بيت الله، فهو متوجه إلى ربه ظاهراً وباطناً يتلو كتابه، ويتدبر ما يقوله ربه من أوامر ونواهٍ، ويتأمل ما يتلوه من أحسن القصص التي بها المواعظ والاعتبار إذا مرت به آية رحمة طمع في فضل الله، فسأل الله من فضله، وإذا مرت به آية وعيد خاف من عذاب الله، فاستعاذ به منه، ثم يركع حانياً ظهره، ورأسه تعظيماً لله الرب العظيم، فيقول: سبحان ربي العظيم مستحضرا بذلك عظمة من لانت لعظمته الصعاب، وخضعت لعزته الرقاب، فيكون معظماً لله بقلبه ولسانه وجسده بظاهره وباطنه، ممتثلاً بذلك أمر ربه ورسوله حيث يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ويقول سبحانه: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اجعلوها في ركوعكم))، ثم بعد أن يقول ما شاء الله من تعظيم ربه يرفع رأسه مثنياً على ربه حامداً له على إحسانه الكامل، وصفاته العليا، فإنه المحمود على كل حال المشكور بكل لسان، ثم بعد ذلك يخر ساجداً واضعاً أعلى جوارحه وأشرف أعضائه على الأرض جميع أعضائه العاملة الوجه واليدان والرجلان كلها لاطئة في الأرض ليس فيها شيء عال على شيء، وحينئذ يستحضر من تنزه عن السفول يستحضر علو الرب الأعلى، فيقول: سبحان ربي الأعلى، ينزه ربه عن السفول، ويصفه بالعلو المطلق، فإنه تعالى عال بذاته، عال بصفاته، فهو فوق كل شيء،(/2)
وصفاته أعلى الصفات، وأكملها ومن أجل هذا التواضع الذي يضع الساجد فيه نفسه تعظيماً لربه كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فبعد أن يسبح ربه الأعلى يدعو الله تعالى بما أحب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي حري- أن يستجاب لكم)). وبعد هذا السجود، والذل لله يقوم، فيجلس جلسة الخاضع واضعاً يديه على فخذيه يسأل ربه المغفرة والرحمة والعافية، ويختم صلاته بتعظيم الله تعالى ووصفه بما هو أهله التحيات لله، الصلوات، الطيبات، ويسلم على نبي الله، ثم على نفسه، ومن معه، ثم على كل عبد صالح في السماء والأرض، ثم يعود للصلاة والتبريك على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يستعيذ بالله من مضار الدنيا والآخرة يقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ويدعو بما شاء، فالمصلي أيها المسلمون متنقل في رياض العبادة ما بين قيام، وقعود، وركوع، وسجود، وقراءة، وذكر، ودعاء قلبه عند ربه في كل هذه الأحوال، فأي نعيم أعظم من هذا النعيم، وأي حال أطيب من هذه الحال؟ ولهذا كانت الصلاة قرة عيون المؤمنين، وروضة أنس المشتاقين، وحياة قلوب الذاكرين، فتثمر نتائجها العظيمة، ويخرج المصلي بقلب غير قلبه الذي دخل به فيها يخرج بقلب ممتلئ نوراً وسروراً وصدر منشرح للإسلام فسيحاً، فيجد نفسه محباً للمعروف كارها للمنكر، ويتحقق له قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. عباد الله إن عبادة هذه نتائجها وعملاً هذا شأنه لجدير بنا أن نسعى لتحقيقه، والعناية به، وأن نجعله نصب أعيننا، وحديث نفوسنا، والله نسأل أن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يعيذنا من نزعات الشيطان، وصده، وأن يجعلنا ممن حقق قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} إنه جواد(/3)
كريم.(/4)
العنوان: الصِّهْيَوْنِيَّة والعنصريات الحديثة
رقم المقالة: 1796
صاحب المقالة: ريجينا الشريف
-----------------------------------------
الصِّهْيَوْنِيَّة والعنصريات الحديثة
تأليف: ريجينا الشريف - ترجمة: أحمد عبدالله عبدالعزيز
• الصهيونية واللا سامية والعنصرية
• الصهيونية والنازية
• الصهيونية وسياسة التمييز العنصري
• • • • •
عندما وصفتِ الجمعيةُ العامَّةُ للأمم المتحدة الصِّهْيَوْنِيَّةَ بأنها "شكل من أشكال العُنصرية والتمييز العنصري" في قرارها رقم 3379 (30) الصادر في 10 نوفمبر عام 1975 أصيب العالم الغربي بصدمة عنيفة، فالصِّهْيَوْنِيَّة ترمز إلى عكس ذلك: إنها شكل من أشكال القومية، وهي حركة التحرير الوطنية للشعب اليهوديّ، وقد لخص برنارد لويس، العالِم البارز بشؤون الشرق الأوسط، الموقف بقوله:
ليستِ الصِّهْيَوْنِيَّةُ حركةً عُنصريةً في الأساس، ولكنها شكل من أشكال القومية، أو حركة تحرير وطنيّ بالمصطلح الحديث، وهي - كغيرها من الحركات - تَجمَع تياراتٍ مختلفةً، بعضها نابع من العُرف والضرورة، والبعض الآخَر حملته لها رياح التغيير والأنماط الدولية، وأهم ما في الأولى هو الديانة اليهودية، بتأكيدها المستمرِّ على صِهْيَوْنَ، والقُدس، والأرض المقدسة، وأفكار العبودية، والاغتراب والعودة، وهي أفكار متداخِلة معًا ومتكرِّرة، وكان للإيمان بالمسيح المنتظَر، وحركاتِ الإحياء الديني التي ظهرت بين اليهود من القرن السابع عشر ـ: مساهمةٌ مهمَّة في نُشُوء هذه الحركة[1].
وقد قَبِل برنارد لويس - كغيره من الكثيرين المدافعين عن الصِّهْيَوْنِيَّة - الأسطورةَ الصِّهْيَوْنِيَّةَ التي تكتنف إسرائيل، وأيَّد الفكرة القائلة: إن الصِّهْيَوْنِيَّةَ السياسيَّةَ العَلْمانيَّة تمثل تحقيق المعتقدات الروحية اليهودية.(/1)
إن الفَهْم الواضح لظاهرة الصِّهْيَوْنِيَّة غيرِ اليهودية بمنظورها التاريخي الكامل، يُمكِّنُنا من خلع قِناع أسطورة الصِّهْيَوْنِيَّة، ورؤيتِها على حقيقتها الأساسية، وهي أنها نتاج الفلسفات الأوروبية العُنصرية والاستعمارية، لم تكن الصِّهْيَوْنِيَّة في أساسها حركة يهودية متميزة، وكانت تواجه معارضة اليهود المتدينين، الذين أنكروا محاولة إعطاء أبعاد جغرافية للمملكة الروحية من جهة، كما كانت تواجه من جهة أخرى معارضة من جانب اليهود الداعين للحقوق المدنية، الذين كانوا يسعون إلى الخلاص الكامل، وسياسات الهجرة المفتوحة.
ومع مطلع هذا القرن كان الاستعمار الصِّهْيَوْنِيُّ لفِلَسطين جزءًا من الحركة الاستعمارية الأوروبية الكبرى؛ فالصِّهْيَوْنِيَّةُ – شأنها في ذلك شأن اللا ساميَّة، والنازية، والتمييز العنصري – كانتْ جزءًا أساسيًّا من الثقافة الفكرية والسياسية الأوروبية، وذاتَ جذور تمتد إلى أبعدَ من القرنين التاسعَ عَشَرَ والعشرين، والصِّهْيَوْنِيَّة بِمَظْهَرِها غير اليهودي تَكشف بوضوح عن الارتباط الوثيق بين الصِّهْيَوْنِيَّة، والعُنْصُريَّة، واللا سامية، والنازية، والتمييز العُنصري.
الصِّهْيَوْنِيَّة واللا سامية والعُنصرية:(/2)
كان الصِّهْيَوْنِيُّون الأوائلُ؛ كهرتزل، ووايزمن، يعتبرون اللا سامية وضعًا طبيعيًّا، وردَّةَ فعل طبيعية وعَقْلانية من غير اليهود ضد "وضع اليهود الشاذِّ، والسخيف الخاطئ في "الشتات"[2] وكان آرنولد توينبي يرى أن الصِّهْيَوْنِيَّة غير اليهودية قد تنبع من الشعور بالذنب حول اللا سامية، وهو يربط بذلك بين الصِّهْيَوْنِيَّة واللا سامية بعبارات سيكولوجية[3]. والواقع أن تاريخ الصِّهْيَوْنِيَّة غير اليهودية - كما رأينا - حافل بالأمثلة على أنصار الصِّهْيَوْنِيَّة الذين كانوا لا ساميين عن تعمد، وقد اقتبَسْنا في الفصل الأول بعضًا مما قاله ماينرتز هاجن، كبير الضباط السياسيين في فلسطين وسورية في هيئة أركان النبي، وأحد الصِّهْيَوْنِيِّينَ المتحمسين، وفيما يلي مَثَل آخَرُ من لا ساميته الصريحة:
إنني مشرب بعواطف لا سامية، وأتمنى لو تنفصل الصِّهْيَوْنِيَّة عن القومية اليهودية؛ ولكنها لا تستطيع ذلك! إنني أفضل قبولها على أن أرفضها لأسباب غير جوهرية[4].
وهو نفسه الذي قال:
إن آرائي عن الصِّهْيَوْنِيَّة هي آراء صِهْيَوْنِيٍّ متحمِّس، والأسباب التي أثارت في نفسي إعجابًا بالصِّهْيَوْنِيَّة كثيرةٌ ومتنوعة، ولكنها متأثرة بشكل رئيس بوضع اليهود غير المُرضي في العالم، والميل العاطفي الكبير لإعادة إيجاد جنس بعد تشرُّدٍ دام ألفَي عام، والقناعة بأن الأدمغة والأموال اليهودية – إذا ما ساندتها فكرة قوية كالصِّهْيَوْنِيَّة – تستطيع أن تقدم الحافز نحو التنمية الصناعية، التي تحتاجها فلسطين بشكل مُلِحٍّ بعد أن بقيت أرضًا براحًا منذ بداية العالم[5]، وليس هذا التحالُف بين اللا سامية والصِّهْيَوْنِيَّة قضيةً سيكولوجية، سواء أكانت عقلانيةً أم لا شعورية، فهما يعملان نظريًّا وعمليًّا على نفس المستوى، ويُكَمِّل كلٌّ منهما الآخَرَ ويَدْعَمُهُ.
وكان ماينرتز هاجن يدرك الأهمية الاستراتيجية لفلسطين:(/3)
الواقع أنه ليس من المبالغة في شيء القول بأن فلسطين قويةً وصديقةً أمرٌ حيوي للأمن الاستراتيجي المستقبلي للكُومَنْوِلْث البريطاني، ولا يمكنها أبدًا أن تكون قوية وصحيحة في ظل السيطرة المجزَّأة، بَلْهَ في ظلِّ أيِّ شكل من أشكال الحكم العربيّ[6].
والارتباط بين اللا سامية والصِّهْيَوْنِيَّة غير اليهودية أعمق من ذلك بكثير، وهو ليس مجردَ توازُن للمصالح ضد الأهواء، فقد قامت الصِّهْيَوْنِيَّة غير اليهودية على أساس الاحترام الرومنطيقي لليهود كجنس؛ ولكن ذلك يخفي وراءه مواقف أكثر سلبًا تجاه اليهود كشعب، كان الصِّهْيَوْنِيُّون غيرُ اليهود من أمثال بلفور، ولويد جورج، وماينرتز هاجن، يؤمنون بشدة بتفرد اليهود كجنس، وكانت هذه الفكرة عن تفردهم هي التي جعلت الحصص النسبية للهجرة لبريطانيا (الكوتا) تأخذ شكل المطالب القومية في فلسطين.
أما على مستوى السياسات العملية: فقد اعتبر ثيودور هرتزل اللا ساميين أكثر الحُلَفاء والأصدقاء الذين يمكن الاعتماد عليهم، وبدلا من أن يهاجم هرتزل اللا سامية ويَشْجبها أعلن أن "اللا ساميين سيكونون أكثر الأصدقاء الموثوقين، وستكون الدول اللا سامية حليفة لنا"[7] وقد رحب باحثٌ صِهْيَوْنِيٌّ آخَرُ، هو جاكوب كلالزكن باللا سامية، وعبَّر عن موافقته على أن يكون اليهود أقلية في روسيا القيصرية[8].
ونظرية تفرُّد الجنس اليهودي هذه، هي أساس الشَّكّ العميق الذي كان يَستشعره الصِّهْيَوْنِيُّونَ اليهودُ وغيرُ اليهود تُجاه المتهوِّدين؛ كاللورد مرنتاجو، ولوسين ولف، واللورد ريدنج، وسَنُفْسِحُ المجالَ لماينرتز هاجن ليتحدث عن هذا الإحساس:
ولكن إذا كان اليهود سيُحَقِّقون نفوذًا في هذه البلاد في المِهَن والتجارة، والجامعات والمتاحف، والمالية، وكأصحاب للأراضي، فإن علينا طبعًا أن نعمل ضدهم، ولكن ذلك لن يكون على شكل معسكرات اعتقال[9].(/4)
وكانت النَّزَعات العنصرية في فلسفة القرن التاسعَ عَشَرَ قائمةً على الفكرة الرئيسة، وهي أن جنسًا ما متفوِّق بشكل طبيعي على غيره من الناس، والصِّهْيَوْنِيَّة - بحسب ادِّعائها أن اليهود يشكلون "الجنس المختار"، الذي ينبغي ألا يذوب في الأجناس "الأقلَّ منه شأنًا" الأخرى - ليست إلا مظهرًا آخر من مظاهر هذه العنصرية.
لم تنشأ الأفكار العنصرية - بما في ذلك الصِّهْيَوْنِيَّة، واللا سامية، والنازية - من فراغ؛ فقد كانتْ مرتبطةً بِقُوَى تاريخيَّة محدَّدة، تَسود في مجتمع يسعى إلى الشرعية، وتطوُّرُ العنصرية بأشكالها المختلفة كان متوافقًا مع ظهور وتَوَسُّع الاستعمار الأوروبي، القائم على استعمار العالم غير الأوروبي، وقد استغلت العنصرية وفلسفتها الأساسية لجعل النظام الاستعماري شرعيًّا، ولتقديم الدعم الأيديولوجي لعملية الاستعمار، "واجب الرجل الأبيض" هو أن يحضر الأمم "المتأخرة" غير القادرة على مساعدة نفسها.
كان الصِّهْيَوْنِيُّون غيرُ اليهود يحملون وِجْهَةَ نظر عنصرية محددة عن اليهود، وكانت هذه متأصِّلة في أسطورة القرن التاسِعَ عَشَرَ العنصرية الاستعمارية، كان اليهود يحظون بالاحترام كجنس مختار خارجَ المحيط المسيحي غير اليهودي، وكان التفوق اليهودي أمرًا مسلَّمًا به بالمقارنة مع تخلُّف العرب، وكان ذلك مقرونًا بتعظيم الفضائل اليهودية باعتبارها نقيضًا للرذائل العربية، ومما قاله ماينرتز هاجن: "الذكاء فضيلة يهودية، والخداع رذيلة عربية"[10]، وقد وصف اليهود بأنهم "نشيطون، وشُجعان، وحازمون، وأذكياء"، ووصف العرب بأنَّهم "مُنْحَطُّون، وأَغْبِياء، وَخَوَنَة، لا يُنتِجون إلا الأمور الشاذَّة المتأثّرة بصمت ورومنطيقية الصحراء"[11].(/5)
ومع التوسع الاستعماريّ البريطانيّ في الشرق الأوسط أصبح المواطنون العرب هدفًا محتومًا للعنصرية؛ بسبب ديانتهم، وثقافتهم، ولونهم، وفوق ذلك كله بسبب معارضتهم للتدخل الأجنبي، وكان اليهود يعنون بالنسبة لفلسطين "التقدم"، و"إقامة حكومة حديثة"، في حين يرمز العرب إلى "الركود، والفجور، والحكم المتعفِّن، والفساد، والمجتمع الكاذب"[12].
وكان الصِّهْيَوْنِيُّونَ غيرُ اليهود يتهمون العرب باستمرارٍ بالرجعية، ويلقون مسؤولية انحطاط فلسطين والشرق الأوسط على كواهلهم، وقد هيأت هذه النظرية العنصرية المسرح للاستيطان الاستعماري اليهوديّ في فلسطين، ويُعبِّر ماينرتز هاجن عن ذلك بصراحة:
لن يصل العربيّ الفلسطينيّ إلى مستوى الموهبة الطبيعية اليهودية بأية حال، وسيبقى اليهوديّ دائمًا في القمَّة، وهو ينوي البقاء هناك. إنه يتطلع إلى دولة يهودية ذات سيادة في فلسطين، وإلى وطن قومي حقيقي، وليس إلى اتحاد فدرالي عربي يهوديّ زائفٍ ... إنَّ اليهودي، مهما وهن صوته ورقت طباعه، سينجح في النهاية وسيُسمَع صوته، سيتهدد العربيّ وسيتوعَّد، وسيعزف آخَرون في أوروبا وأمريكا مدائحه إذا ما تكسرت الأوركسترا المحلية، ولكنه سيبقى حيث هو وحيث كان... مقيمًا الشرق يَجْتَرُّ أفكارًا راكدة، ولا يرى أبعد من مبادئ محمد الضيقة[13].(/6)
وكان الصِّهْيَوْنِيُّون الأمريكيون غيرُ اليهود، كما رأينا، يُضمِرون نفس الأفكار والأهواء المعاديةَ للعرب، وعلينا أن نذكر كيف أن لودج "لم يكن يحتمل أبدًا فكرة أن تكون القدس وفلسطين تحت حكم المحمَّديِّينَ"، وأن حكم العرب لفلسطين كان يبدو "إحدى اللطخات الكبيرة على وجه الحضارة لا يجب أن تمحى"[14]. وبعث كلارك كليفورد مذكرة للرئيس ترومان بعد ذلك الوقت بعِقْدَيْنِ من الزمان، يَحُثُّهُ فيها على العمل الجادِّ لتَقْسِيم فلسطين محذِّرًا من أنَّ "الولايات المتحدة تبدو موضِعَ سُخْرِية وهي ترتجف أمام تهديدات قِلَّةٍ من القبائل الصحراوية الرُّحَّل"[15]، أمَّا اليهودُ فقد كانوا من ناحية أخرى قومًا يُعتَمَد عليهم؛ لأن مجتمعهم "نتاج المغامرة الحرة"، وفلسطين اليهودية "ستتَّجه بقوة نحو الولايات المتحدة، وهي تمثل حصنًا قويًّا ضد الشيوعية"[16].
ومع صعود نجم الصِّهْيَوْنِيَّة غير اليهودية كانت مجموعة كاملة من الآراء المتحاملة على العرب تتكون في ضمير الغربيين، وقد تم إيجاد قوالبَ عنصريةٍ ثقافيةٍ ثابتةٍ لا تزال تنمو في الغرب، وكان اليهود يُجَسِّدون معظم الفضائل الغربية، وينبغي لهم أن يستوطنوا فلسطين من أَجْلِ الحضارة، ذلك أنَّ المُهِمَّة الأولى للصِّهْيَوْنِيَّة هي "تحضير وتحديث فلسطين" كقاعدة للحضارة في مواجهة الهمجية كما أعلن هرتزل نفسه ذات مرة[17].
وكان المؤمِنُونَ بِالجِنْسِ اليَهُودِيِّ وتَمَيُّزِه العِرقِيِّ من غير اليهود أكثر منهم بين اليهود الغربيين أنفسهم، وقد قدم اللورد إدْوِين صمويل مونتاجو أبرز ممثِّلي اليهود الإنجليز مذكرةً لمجلس الوزراء البريطاني في أغسطس عام 1917 إبان المداولات حول وعد بلفور، أكَّد فيها وجهة نظره أن "سياسة حكومة جلالته لا سامية في النهاية، وستثبت أنها أساس لتجمع اللا ساميين في كل بلد في العالم"[18].(/7)
وقد رفض اللورد مونتاجو بشكل قاطع الفكرة الصِّهْيَوْنِيَّة عن أُمَّة يهودية متميزة، وشجب الصِّهْيَوْنِيَّة "كعقيدة سياسية ضارَّة" وشكْلٍ من أشكال اللا سامية، كما اتَّهم - بشكل غير مباشر - الصِّهْيَوْنِيِّينَ البريطانيين غيرَ اليهود (بلفور ولويد جورج واللورد ملنر ومارك سايكس وغيرهم) بأنَّهم لا ساميون سِرِّيُّون، يريدون تجريد اليهود من الوضع التحرُّرِيّ الذي حصلوا عليه حديثًا في الحياة السياسية والمدنية في إنجلترا.
وكان الصِّهْيَوْنِيُّون غيرُ اليهود يعارِضون بشكل مباشر يهود إنجلترا، الذين يَسْعَوْنَ إلى التحرر الكامل، وعلى ذلك فقد رأينا اللورد شافستري يهاجم قانون التحرر الكامل عام 1858 بحجة أنه سيخرق ما يسمى المبادئ الدينيَّة، وفي عام 1905 ناضل بلفور من أجل إقرار قانون الغرباء الذي يَحُدُّ من الهجرة اليهودية من أوروبا الشرقية بسبب "الويلات الأكيدة التي أصابت البلاد نتيجة هجرة كانت يهودية في مُعظمها"[19]. وقد تعرَّض بلفور، الذي اعتبر بعد 12 عامًا صِهْيَوْنِيًّا عظيمًا، لهجومٍ في المؤتمر الصِّهْيَوْنِيِّ السابع بسبب اللا سامية المكشوفة في سياسته المعادية للهجرة اليهودية، واتَّهمه المندوب الإنجليزي للمؤتمر م. شاير بـ "اللا سامية الصريحة ضد الشعب اليهودي كله"[20].(/8)
وكان لويد جورج كذلك معروفًا بمُيوله المختلطة حول دور اليهود في إنجلترا؛ فقد كانت بعض خُطَبِه في البرلمان حول جنوب إفريقيا مثلاً تصطبغ بلا ساميته الفظَّة "حتى في النقاش الذي دار في البرلمان عام 1904 حول عرض شرق إفريقيا على الصِّهْيَوْنِيِّينَ أبدى سُخريته من اليهود[21]، وقد خاطب زميله اليهوديّ في الحزب (السير الفرد موفد) بأنه "عضو آخَرُ من جنسه سَيِّئُ السُّمْعَة"[22]، وقد لاحظَ رئيس الوزراء أسكويث Asquith موقفه المزدوج المتلوِّن من اليهود عِندما كان وزيرًا للذخيرة، ووصفه في مُذَكَّراته بأنَّه الوحيد المؤيِّد لمذكَّرة هربرت صموئيل عن مُستَقْبَل فلسطين "الذي لا داعيَ لِلقَوْلِ بأنَّهُ لا يكثرث شَرْوَى نقير باليهود أو ماضيهم أو مستقبلهم"[23].
وكانتِ اللا سامية كذلك أحد العوامل التي اجتذبتْ مارك سايكس للصِّهْيَوْنِيَّة، فقد كان نُفوره من اليهود: "يتجلى في شَكِّه بالصِّهْيَوْنِيَّة في بادئ الأمر، ولكن ما أنِ وقف على المعنى الحقيقيّ للصِّهْيَوْنِيَّة حتى بدأ ينظر إليها – وهو المؤمِن بالقومية والاستعمار، والمتحمِّس لهما – في ضوء مختلف"[24].
وكان من نتيجة التمجيد الصِّهْيَوْنِيِّ "للعِبْرِيِّ الحقيقي" بالمقارنة مع اليهوي المتأنكلز أن تُقْبَلَ هذه الأيديولوجيَّة الجديدة، ولم يكن يحمل حبًّا لليهودي الهجين "كغيره من الصِّهْيَوْنِيِّينَ غيرِ اليهود، وكان يفضِّل عليه اليهوديَّ الذي يؤكد تَمَيّزه العِرْقِيّ كـ"وايزمان"، ويظهر إحساسه القومي المستقلّ باعتزاز، ولم يبدأ مارك سايكس يعمل من أجل هدف الصِّهْيَوْنِيَّة في فلسطين إلا بعد أن تعرَّف شخصيًّا على الزعيم الصِّهْيَوْنِيِّ اليهوديّ[25].(/9)
وتَرَادُف الصِّهْيَوْنِيَّة واللا سامية يُعلِّل كذلك الآراءَ المتناقضةَ عن الكولونيل هاوس مستشار وودرو ولسن، فقد هَلَّلَ له بعض الصِّهْيَوْنِيِّينَ باعتباره صديقًا للصِّهْيَوْنِيَّة، والقوةَ الدافعة لسياسات الرئيس ولسن الصِّهْيَوْنِيَّة، بينما اتَّهمه آخَرون بأنه كان يعمل ضد الصِّهْيَوْنِيَّة بسبب آرائه اللا سامية المكشوفة[26]، والتي تكشفت في مراسلاته مع ولسن.
وعندما انقلب هِتلر ضد اليهود في ألمانيا في الثلاثينيات قال هاوس للسفير الأمريكي في برلين: "إنهم (النازيون) على خطأ؛ بل إنَّهم رهيبون، ولكن يجب ألا يسمح لليهود بالسيطرة على الحياة الاقتصادية والفِكرية في برلين كما كان حالهم لفترة طويلة"[27].
الصِّهْيَوْنِيَّة والنازية:
إن الرابطة بين الصِّهْيَوْنِيَّة واللا سامية ربطت الصِّهْيَوْنِيَّة كذلك بالنازية، فقد كان آباء النازية السياسيون والإيديولوجيون يشاركون الصِّهْيَوْنِيِّينَ فَذْلَكَاتِهِمْ، ففِكْرة "الجنس المختار" عند النازية لم تكن تختلف عن فكرة "الجنس المختار" عند الصِّهْيَوْنِيَّة إلا في هُوية هذا الجنس: هل هو الجنس الآرِيّ أو اليهوديّ؟ ولم يكن الصِّهْيَوْنِيُّونَ اليهودُ وغيرُ اليهود يَستشعرون أَيَّةَ كراهيةٍ للنازية وسياساتها، وممارساتها اللا سامية، وقد طلب وايزمان ذات مرة من ريتشارد ماينرتز هاجن أن يوضح الصِّهْيَوْنِيَّة ومضامينها لهتلر، الذي كان يعتقد أنه "غير معادٍ للصِّهْيَوْنِيَّة"[28]. وكان ماينرتز هاجن نفسه أكثر ما يكون تفهُّمًا لِلا سامية النازية فقد كتب:
إن وِجْهَةَ نظري الخاصَّة أنَّ للألمانيِّ الحقَّ الكاملَ في أن يعامِلَ اليهوديَّ كأجنبيٍّ وينكر عليه المواطَنَة الألمانية، إن له الحقَّ في طرده من ألمانيا، ولكن ذلك يجب أن يتم برفق وعدل... إن اليهود يعامَلون الآن في ألمانيا كغرباء، كما هم في الواقع غرباء من حيث الجنس والتقاليد، والثقافة والدين[29].(/10)
وكان وايزمان، حَسَبَ رأي ماينرتز هاجن، يفضل "أن يَهْلِكَ اليهودُ الألمانُ جميعًا على أن يرى فلسطين وقد ضاعت"[30]، وقد كلف وايزمان ماينرتز هاجن بأن يَعْقِدَ صفقةً مع النازيين تساعد اليهود الألمان على الهجرة إلى فلسطين.
وتبرز الدراسات الحديثة حول التعاون النازيّ الصهيونيّ تماثُل مصالح الطرفينِ[31]، ولا يهمنا في دراستنا هذه علاقاتهما التقنية المشتركة، فقد عولجت بشكل موسَّع في مكان آخَرَ[32]؛ ولكنَّ جوهَرَ هذه العلاقة النازيَّة الصِّهْيَوْنِيَّة يشير بوضوح إلى طبيعة الصِّهْيَوْنِيَّة العنصرية:
ولقد كانت الصِّهْيَوْنِيَّةُ ترى أنَّ النازيِّينَ مؤهَّلون للانضمام إلى صفوف الصِّهْيَوْنِيِّينَ غير اليهود، وكانت النازية – بعُنصريتها اللا سامية – هي التي جعلت المشروعَ الصِّهْيَوْنِيَّ أمرًا مُمكنًا في فلسطين عام 1948.
لم تكن فلسطين اليهوديَّة قبل أن يظهر هتلر على المسرح السياسي الأوروبيّ أكثرَ من مشروع مستوطَنَة صغيرة تضمُّ أقلَّ من 200 ألف يهوديّ، يعتمد معظمهم على الأموال الصِّهْيَوْنِيَّة التي تجمع من خلال "الشتات"، وفي عام 1927 كانت الهجرة اليهودية من فلسطين تفوق الهجرة إليها، ولم يكن اليهود يملكون عام 1934 إلا 5 % من أراضي فلسطين، وبينما كان غير اليهود يصفون فلسطين بأنها "أرض الحليب والعسل" فإن فكرة الهجرة إلى "أرض جرداء" في الشرق لم تكن تستهوي يهود العالم كثيرًا، ورغم الاضطهادات اللا سامية العنيفة كانت غالبية اليهود تُفضِّل البحث عن ملاذٍ لها في الولايات المتحدة أو إنجلترا، ولكن قوانين الهجرة المقيدة في الدول الأَنْجُلُوسَكْسُونِيَّة كانت تجعل ذلك مستحيلاً، وفي أعقاب معسكرات الإبادة النازيَّة أصبح مستقبَل فلسطين يهوديَّة أمْرًا مَضْمونًا.(/11)
وخِلالَ مُناقشات الجمعيَّة العامَّة لِلأُمَمِ المُتَّحدة حول فلسطين عام 1947 وقع حادث له دَلالته؛ ففي الوقت الذي كان يجري فيه التَّصويت على تقسيم فلسطين، قُدِّمَ قرارٌ آخَر يدعو كلَّ الدول الأعضاء للسماح لليهود بالدخول إليها حَسَبَ حِصَصٍ معيَّنة، ولم يكن مُفاجِئًا أن يُهزَم هذا القرار بعد فشل مؤتمر أيفيان وبرمودا، فقد قامَتِ الدُّوَلُ الَّتي صَوَّتَتْ إلى جانب التقسيم بالتصويت ضد قرار الهجرة اليهودية، أو الامتناع عن التصويت، أما الدول التي كانت قد صوَّتَتْ ضِدَّ تقسيم فلسطين وضد الصِّهْيَوْنِيَّة فإنَّها صوَّتتِ الآن إلى جانب حِصَصٍ نِسْبِيَّة (كوتا) أعلى للهجرة اليهودية إلى الدول الغربية، وعبَّرَتْ عن رغبتها في استقبال المزيد من المهاجرين اليهود[33].
الصِّهْيَوْنِيَّة وسياسة التمييز العنصري:
إن التشابُه بين الصِّهْيَوْنِيَّة وسياسية التمييز العنصري في جنوب إفريقيا يكمن في احتكام كلٍّ منهما لنفوذ "حضاري" نابع من المبادئ التَّوْرَاتِيَّة؛ فالكنيسة الإصلاحية الألمانية - وهي كنيسة المستوطنين الذين هم من أصل أوروبي في إفريقيا - تعتمد على فِقْرات من العهد القديم؛ لتظهر أن عدم المساواة بين الأجناس أمْر كَتَبَهُ الله. ويعتبر مواطنو إفريقيا سلالات حام الدنيا، بينما يعتبر المستوطنون البيض أنفسهم سلالات سام، الذين ينبغي عليهم أن يُحَضِّرُوا هؤلاء السودَ[34].
وتعتمد الصِّهْيَوْنِيَّة على فِقرات العهد القديم لتُبَرِّرَ الادعاء اليهوديَّ بحق تَمَلُّك واستعمار فلسطين؛ فاليهود وَحْدَهُم هم القادرون على إعادة "الحضارة" إلى فلسطين، التي يطالبون بها كحق لهم طبقًا للنبوءات التَّوْرَاتِيَّة.(/12)
وقد تجلتِ العلاقةُ الوثيقة المتبادَلة بين الصِّهْيَوْنِيَّة والتمييز العنصري في إيمان الجنرال جان كريستيان سمتس الراسخ بالصِّهْيَوْنِيَّة وافتتانه بها "لم ينبثق عن دوره كوكيل للوجود البريطاني الاستعماري فحَسْبُ؛ بل من لاهوت قومه الإفريقانيين العنصري الذي تم تفسيره بشكل غير صحيح[35]، وصهيونِيَّته نابعة من خَلْفِيَّته الشخصية، ومفهومه عن الحضارة الغربية التي حورتها معتقداته الدينية الكالفنية، ولقد كانت صداقته للزعيم الصِّهْيَوْنِيِّ حاييم وايزمان نتيجة لصِهْيَوْنِيَّتِهِ، وليست سببًا لها.
كان موقِفُ سمتس من الصِّهْيَوْنِيَّة نتيجة طبيعيَّة لإيمانه بالدور التاريخي المهيمِن للحضارة الغربية، ومكان اليهود باعتبارهم حَمَلَتِها وحُماتها، وكانت الحضارة في نظره هي "الحضارة البيضاء"، وكانت وَحْدَةُ البِيض ضرورةً مطلقة، ولا مجال فيها للا سامية الغربية التقليدية، وكان اليهود حَسَبَ فلسفة سمتس في عداد البِيضِ، بينما كان العرب في عداد السود، وكان الأساس الروحي لهذه المعادلة العنصرية هو اعتقاده بأن خلفية كل من اليهود وشعبه في جنوب إفريقيا واحدة.
إنَّ لهما نفس الخصائص، فكلاهما شعب عنيف شديد مُتَدَيِّن جِدًّا، وحياة كل منهما مَبْنِيَّة على الدين الذي تَلَقَّيَاهُ من كتاب واحد وهو العهد القديم... إنهمُ الشعب المختار – كما يَشعر الألمان أنهم الشعب المختار – الذي اختاره الله نفسُهُ، وفَضَّلَهُ على الآخَرين، وكل يهوديٍّ يُدرك أنه اختير خِصِّيصَى ليكون يهوديًّا[36].
وكان سمتس يُبرِزُ في مناسبات كثيرة الارتباطَ الروحيَّ بين البِيضِ في جنوب إفريقيا واليهود في فلسطين؛ ففي خطاب ألقاه عام 1919 أمام حشد من الصِّهْيَوْنِيِّينَ قال:(/13)
لا داعي لتذكيركم بأنَّ البِيضَ في جنوب إفريقيا، وبخاصَّة المستوطنون الألمان المُسِنُّونَ، قد نشأوا على التعاليم اليهودية، لقد كان العهد القديم - وهو أروعُ أدب أنتجه عقل الإنسان - أساسَ الثقافة الألمانية في جنوب إفريقيا[37].
ولم يكن سمتس - بتصنيفه العِرْقِيِّ إلى بِيضٍ وسُودٍ - يُبدي أيَّ احترام للعرب كشعب، ولا لوضعهم في فلسطين، شأنُهُ في ذلك شأن غيره من الصِّهْيَوْنِيِّينَ غير اليهود، وتَصِفُ كاتبةُ سيرةِ حياتِهِ سارة جيرترود ملن، وهي يهوديَّةٌ من جنوب إفريقيا، موقفه المتعالي هذا:
أمَّا العربُ، فلا يَبْدُو العربيّ البدويّ غريبًا للمواطن الإفريقي كما هو بالنسبة للأوروبيّ، لأن الإفريقيَّ يعرف الشعوب السُّود البَشَرَةِ جيّدًا، وهي شعوب تُشبِه العرب فعلاً؛ لأن الدم العربي موجود فيهم[38].
أمَّا الشعب اليهوديّ: الذي اعتاد سمتس أن يشير إليه باسم "الشعب الصغير" فإن له رسالة تحضير في العالم لا يُعْلَى عَلَيْها[39]. والشعب اليهوديُّ - فوق ذلك كله - منبعُ الحضارة الغربية، وله يدين الغرب بوجوده، وعليه أن يُوقِظَ الشَّرق الأوسط: "الذي انقضت قرون على نَوْمِهِ"، "ويقوده على دروب التقدّم"[40].(/14)
وقد كَشَفَ موقف سمتس من الهجرة اليهودية إلى جنوب إفريقيا خلال العهد النازيِّ أن الصِّهْيَوْنِيَّة واللا سامية متعاضِدَتان؛ ففي أثناء نقاش برلماني عام 1947 حول مسألة الهجرة الأجنبية اقترح السيد كنتردج، أحد أعضاء وفد جنوب إفريقيا، أن تكون قوانينُ الهجرة إلى جنوب إفريقيا أكثر تسامحًا، بحيث تُتيح لعدد أكبرَ من اليهود دخولها، فاعترض سمتس على هذا الطلب "الإنسانيّ" لأسباب صِّهْيَوْنِيَّةٍ، محتجًّا بأنَّ الهجرة اليهوديةَ المتزايدةَ إلى جنوب إفريقيا لن تَحُلَّ المشكلةَ اليهودية؛ ولكنها ستخلق عَداءً للسامية فقط، واقترح سمتس أن تُرَكِّز جنوب إفريقيا جهودها للمساعدة في إقامة وطن قوميّ يهوديّ في فلسطين كحَلِّ للمشكلة اليهوديَّة.
وتوجت الأُسس النظرية المشتركة للصِّهْيَوْنِيَّة والتمييز العنصري تتويجًا بالعلاقة الخاصة التي قامت فيما بعد بين حكومة إسرائيل والنظام العنصري في جنوب إفريقيا، واستمرت الروابط الشاملة بينهما منذ عام 1948 على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، متحديةً القوانينَ الدوليةَ، وإداناتِ التمييزِ العنصريِّ، وكانت حكومة جنوب إفريقيا برئاسة سمتس من أولى الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل في 14 مايو عام 1948 وعقب ذلك بيومين هزم حزب (دانيال أف ما لان الوطني) سمتس في الانتخابات العامة، ولكن وصول ما لان للرئاسة لم يؤثر على تعاون الصِّهْيَوْنِيَّة مع جنوب إفريقيا[41].(/15)
كانت مشاعر ما لان مَزِيجًا من اللا سامية والصِّهْيَوْنِيَّة، فـ"ما لان" هو نفسه الذي قَدَّمَ عام 1930 مشروع قانون الكوتا، الَّذي يَحُدُّ الهجرة اليهودية من أوروبا الشرقية، وكانت سياسات حزبه الوطنيِّ المعاديةُ لليهودية تقارب اللا سامية العنيفة، وكان معروفًا عنه موالاته لهتلر وتعاونه مع النازية، ورغم هذا السِّجِلِّ الطويل من اللا سامية وجد الحزب الوطني سببًا لتعديل سياسته اللا سامية العَلَنِيَّة، على الأقل في الوقت الذي أوشك هدف الحركة الصِّهْيَوْنِيَّة السياسية – وهو خلق دولة يهودية في فلسطين - أن يصبح حقيقة[42].
وكانت الحكومة الوطنية برئاسة ما لان هي التي اعترفت بشكل شرعي بالدولة اليهودية بعد الانتصار الهزيل الذي حقَّقَتْهُ على سمتس في 26 مايو عام 1948، وكان التحالف الذي قام بين إسرائيل الصِّهْيَوْنِيَّة وجنوب إفريقيا العنصرية هو النتيجة الطبيعية لفلسفتيهما السياسية العنصرية المشتركة، وكان الامتياز الذي مَنَحَهُ ما لان للدولة الجديدة يعني أنه يؤكد أن الإحساس العِرْقِيَّ لليهود سيجعلهم: "يفهمون ويحترمون مشاعر كل قطاع في المجتمع غيرِهم"[43]، وقد أبدى الدكتور لسلي روبين، أحد مواطني جنوب إفريقيا المبعَدِينَ، وواحدٌ من مؤسسي حزب الأحرار، الملاحظة الماكرة التالية:
كان هناك شعور بالصلة مع الإسرائيليِّينَ في التخلُّص من النَّيْرِ البريطاني، وقد يَصِفُ عالِم النفس ذلك بأنه إعجاب بما أنجزه الآخَرون، وما يُعتَبَر بالنسبة لهم رغبة مكبوتة، كما أن كثيرًا من أعضاء الحزب الوطني – وهذه وجهة نظر واحد من زعماء الفكر الإفريقانيِّينَ – رَأَوْا أن انتصار اليهود على العرب هو انتصار للبِيضِ على غيرهم، وقد عبر ما لان، الذي كان قد تقدَّمَ به العُمر، عن حماسِهِ لإعادة اليهود إلى وطنهم القديم طبقًا للنبوءة التَّوْرَاتِيَّة[44].(/16)
وتعكَّر صَفْوُ العلاقات الطيِّبَة بين إسرائيل وجنوب إفريقيا فيما بين يوليو عام 1961 ويونيو 1967 بسبب تصويت إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى جانب قرار يُدين سياسة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وكان هدفها من ذلك هو تَهْدِئَةَ دول إفريقيا السوداء التي كانت تسعى إلى كسب رضاها آنذاك، وقد كشف رئيس وزراء جنوب إفريقيا هندرك ف فيرود عن زيف الإدانة الإسرائيلية للتمييز العنصري بإبراز التطابق بين الصِّهْيَوْنِيَّة والنظام العنصري "لقد أخذ الصِّهْيَوْنِيُّون إسرائيلَ من العرب بعد أن عاشوا فيها أَلْفَ عام.. إن إسرائيل دولة عنصرية كجنوب إفريقيا"[45] .
وكان دعاة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا يدركون وَحْدَةَ المصير التي تربط مستقبل جنوب إفريقيا بإسرائيل، كما أبدت ذلك صحيفة الحزب الوطني الرسمية "داي بيرجر" Die Burger :
لإسرائيل وجنوب إفريقيا مَصِيرٌ مشترَك؛ فكلاهما مشغول بالصراع من أجل بقائه، وكلاهما في صراع دائم مع الأكثرية الحاسمة في الأمم المتحدة، إنهما يَعتمدان على القوة في منطقة لولاهما لوقعت في مناهضة للغرب، ومن مصلحة جنوب إفريقيا أن تنجح إسرائيل في احتواء أعدائها الذين يُعَدُّون من أشد أعدائها الشِّرِّيرِينَ، وإذا ما أُغْلِقَتِ المِلاحةُ حول رأس الرجاء الصالح بسبب تقويض سيطرة جنوب إفريقيا، فإن إسرائيل ستُثِيرُ كلَّ العالم ضد ذلك[46].(/17)
كانتِ النَّكسة الَّتي أصابت العلاقاتِ الرسميةَ بين الحكومتينِ نتيجةَ إدانة إسرائيلَ اللفظيةِ لسياسة التمييز العنصري عام 1961 ـ: قصيرةَ الأجل؛ ففي أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 عادت العلاقات الحميمة والعَلَنِيَّة بين الدولة اليهودية وجنوب إفريقيا، واتَّسَعَ نِطاق العلاقات السياسية الأيديولوجية والاقتصادية والعسكرية بين الطرفين، وفي عام 1973 أدان المجتمع الدولي لأول مرة "التحالفَ غيرَ المقدس بين الاستعمار البرتغالي والعنصرية في جنوب إفريقيا والصِّهْيَوْنِيَّة والاستعمار الإسرائيلي"[47].
---
[1] Bernard Lewis "The Anti – Zionist Resolution" . Foreign Affaris . Vol . 55 . No 1 . Oct . 1976 , p . 55
[2] The Diaries Of Theodora Herzl (New York, 1956)
[3] Arnold Toynbee, The study of History (New York, 1961)
[4] Richard Meinertzhagen, Middle East Diary 1917 – 1956 (London . 1959) . p . 67
[5] المصدر السابق ، ص 49.
[6] المصدر السابق ص 203.
[7] هرتزل، المصدر السابق ، مجلد 1، ص 84.
[8] انظر كتابه Krisis Und Entscheidung im Judentum (Berlin, 1921) pp. 118 . 62.
[9] ماينرتز هاجن، المصدر السابق، ص 183.
[10] المصدر السابق ، ص 81.
[11] المصدر السابق، ص 17.
[12] المصدر السابق، ص 12.
[13] المصدر السابق، ص161، وص 167.
[14] حديث السناتور لودج عام 1922 في بوسطن 330 . New Palestine , Vol . 2 , 1922 . p .
[15] كلارك كليفورد لترومان، 6 مارس, 1948 أوراق كلارك كليفورد، مكتبة ترومان، صندوق 13و ص 10 – 11.
[16] المصدر السابق ، صندوق 14 "ملخص الاقتراحات للسياسة الأمريكية في فلسطين".
[17] ثيودور هرتزل ، الدولة اليهودية (لندن 1934).
[18] بريطانيا العظمى، مكتب السجل العام، 24 / 23 و24 أغسطس 1917.(/18)
[19] مجلس العموم، 10 يوليو 1905 O.R مجموعة 155 ومجلس العموم 2 مايو 1905 OR مجموعة 795 انظر كذلك David V . Lipman , Social History of the Jews in England (London . 1945) P . 141 ff.
[20] بروتوكولات ، المؤتمر الصهيوني السابع 1905 ص 85.
[21] كما ورد في 142. Leonare Stin, The Balfour Declaration (London 1961) p.
[22] المصدر السابق.
[23] إيرل أكسفورد واسكوث، "ذكريات وتأملات" (لندن 1928) مجلد 2 ، ص 65.
[24] شتاين، المصدر السابق 274.
[25] Nahum Sokolow, The History Of Zionism (London, 1919) . Vol. 2, p . Xxi
[26] في كتابه "أمريكا وفلسطين" (نيويورك 1945) ص 31 وصف روبن فنك - هاوس بأنه صديق مخلص للصهيونية، أما أدلر Selig Adler فيصفه بأنه (ليس معاديًا للصهيونية فحسب، ولكنه لا سامي كذلك" انظر: The Palestine Question In The Wilson Era. Journal of Jewish Social Studies , Vol . 10 . No . 4 . 1948. P . 306.
[27] كما ورد في William E. Dodd, Jr. and Martha Dodd (eds.) Ambassador Dodd's Diary (New York , 1941) . p . 10.
[28] كما ورد في ص 152 من المصدر السابق لماينرتز هاجن الذي أجرى ثلاثة لقاءات مع هتلر وروبنروب Ribbentrop ، وزير الخارجية الألماني، فيما بين عامي 1934 و 1939 وكان موضوع الصهيونية يبحث في كل مرة.
[29] المصدر السابق، ص 152 و158.
[30] المصدر السابق.
[31] يعتبر كتاب الياهو بن اليسار (La Diplomatie du llle Rich et les Juifs (Paris , 1969 واحدًا من أكمل الدراسات الموثقة والموثوقة عن التحالف النازي الصهيوني.
[32] المصدر السابق، وكذلك Klaus Pokehn "Sercet Contacts Zionist – Nazi Relatious 1933 – 1941(/19)
مجلة "الدراسات الفلسطينية"، مجلد 5 ، رقم 3 / 4 ربيع / صيف 1967 ص 54 – 82 يبحث المؤلف أصول وعلاقات اتفاقية هافارا التي عقدت عام 1933 والتي قايضت الهجرة اليهودية إلى فلسطين بواردات البضائع الألمانية إليها، في وقت كانت الدول الغربية مقاطعة ألمانيا النازية اقتصاديًّا.
[33] سجلات الأمم المتحدة، الجلسة 127 للجمعية العامة، 28 نوفمبر 1947.
[34] للاطلاع على دراسة مفصلة للأساس الأيدلوجي للتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا انظر: جورج جبور "الاستعمار الاستيطاني في جنوب إفريقيا والشرق الأوسط" (بيروت 1970).
[35] Richard p . Stevens ”Israel and Africa” in Zionism and racism (Tripoli, 1977) P, 165.
[36] H . C . Armstrong , Grey Steel: J.C Smuts, A Study In Arrogance (London, 1937) . p . 330
[37] كما ورد في : R.P Stevens, Weizmann and Smuts . A Study In Zionist 0 South African Coop. (Beirut , 1975) , p . 33.
[38] Sarah Gertrude Millin , General smuts (London , 1936) . Vol . 2 . pp . 112 – 113
[39] كما ورد في ص 483 من كتاب Stein السابق.
[40] انظر كتاب ستيفنس "وايزمان، وسمتس" السابق، ص 112.
[41] South African Zionist Record 18 April 1947
[42] Richard G . Weisbord, " Dilemma of south Jewry . Journal of Modern African studies' Vol . 5 . September 1967 . p . 239.
[43] المصدر السابق ص 236.
[44] L. Rubin "Afrikaaner Nationalism and The Jews" . Africa South . Vol . 1 No . 3 . April – June 1957 . p2
[45] Rand Daily Mail . 21 November 1961.
[46] Die Burger cape Province . 29 May 1968.
[47] قرار الجمعية العامة رقم 351 في 14 ديسمبر 1973، انظر كذلك "تقرير عن العلاقات بين إسرائيل وجنوب إفريقيا" الذي تبنته لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالتمييز العنصري في 19 أغسطس 1976.(/20)
العنوان: الصوت في الخطابة
رقم المقالة: 1258
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
من دلائل تكريم الإنسان على سائر الحيوان: أن الله – تعالى - رزق الإنسان القدرة على الإبانة عمّا في نفسه باللسان أو بالإشارة أو بالكتابة.
وحاجة المرء إلى القدرة على البيان لا تقلُّ أهمية عن حاجته إلى عقله؛ لأنه إن لم يستطع الإبانة عمّا في نفسه قلَّت فائدة عقله أو تلاشت. ولهذا فإن الله – تعالى - ما أرسل رسولاً إلا بلغة قومه؛ ليتحقق المقصود من الرسالة وهو: إبانة الطريق الموصلة إلى الله – تعالى - وتحذيرهم من سبل الشيطان فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لم يبعث الله نبيًّا إلا بلغة قومه))[1].
ولكل وسيلة من وسائل البيان أصولها وقواعدها وأسلوبها، تعارف البشر على ذلك وتواضعوا؛ إذ لا سبيل إلى التَّفاهم فيما بينهم إلا بذلك.
والخطاب المباشر (الخطابة) هو أشهر وسائل البيان والإقناع، وأكثرها استعمالاً عند بني آدم؛ ولذا اعتَنَوْا به من قديم الزمان، وبحثه المتقدمون منهم والمتأخرون، وأدخلوه ضمن علوم الفلسفة قديمًا، وأنشئت له الأقسام في الجامعات، وخصصت له مناهج ومدرسون مختصون، وألِّفت فيه الكثير من الكتب والرسائل العلمية كما هو مشاهد في عالم اليوم.
وهذه المقدمة المختصرة تلقي الضوء على جزء من الخطاب المباشر (الخطابة) يتعلق بصوت الخطيب الذي يلقي الخطبة؛ ذلك أن للصوت تأثيرًا ملحوظًا على السامع، وهو الوسيلة الموصلة للمعاني إلى آذان المستمعين.
أهمية الصوت:(/1)
صوت الخطيب مترجم عن مقاصده، وكاشف عن أغراضه، ومصاحبته للألفاظ إذا كان الإلقاء جيدًا بمثابة بيان المعاني التي أرادها الخطيب، وهو المعول عليه في إيصال الخطبة إلى السامعين، ومن ثَمَّ إلى قلوبهم. وقد سمَّاه الأقدمون: نورًا؛ لأنه يحمل شعلة الضياء إلى الأذهان[2]. وكم من الخطباء الذين يبهرون السامعين بِحُسْنِ أصواتهم، وجودة إلقائهم أكثر من سحر بيانهم.
ومن دلائل تأثير الصوت في النفوس: أنه قد يَقرأ القرآن حافظ متقن مجود؛ لكنه لا يحسن الأداء في القراءة، فلا يؤثر في مستمعيه. وقد يقرأ القرآن من ليس بمجود ولا متقن؛ فيبكي سامعيه بجودة أدائه، وحسن صوته.
والخطبة الجيدة إذا ألقاها من لا يحسن الأداء كانت كالسيف البتّار في اليد الضعيفة، والخطيب المصقع الذي يلقي خطبة رديئة كالبطل المغوار الذي يقاتل بسيف كالٍّ. فإذا اجتمعت قوة السيف، وقوة اليد التي تحملها، وقوة قلب صاحبها عملت عملها، وهكذا الخطبة إن كانت جيدة في بلاغتها ولغتها وأسلوبها، وألقاها من يحسن الإلقاء عملت عملها في قلوب السامعين.
وكم من أشخاص سمعنا خطبهم، وتأثرنا بها، فلما قرأناها مكتوبة لم تكن كما سمعناها مع أنها لم تزد حرفًا ولم تنقص حرفًا؛ مما يدل على أن للإلقاء والصوت أثرًا كبيرًا على السامع.
هل جمال الصوت خلقة أم اكتساب؟!
للإجابة على هذا السؤال لابد من فهم المقصود منه؛ إذ إن الحكم على جمال شيء أو قبحه أمر نسبي يختلف باختلاف الأذواق، ثم في ماذا سيسخر الصوت، وما كيفية تسخيره؟ وهذا بلا شك له أثره في الحكم على جمال الصوت أو قبحه.
وكثير من الخطباء قد يحكم على صوته بأنه سيئ مع أن السوء في أدائه لا في صوته، فيقعد عن تحسين أدائه بحجة أن هذا هو ما أعطاه الله تعالى.(/2)
والأصوات أنواع، ولكل صوت ما يناسبه من طرق الأداء والإلقاء، فما يحسن من الأداء في صوت قد يقبح في آخر؛ بدليل أننا نستمع إلى خطيبين يقلد أحدهما الآخر في طريقة الإلقاء حتى كاد أن يكون مثله لولا اختلاف نغمة الصوت، ومع ذلك يُقبِل الناس على أحدهما، ويستهجنون الآخر؛ والسبب: أن أحدهما ناسب صوته طريقة إلقائه، بعكس الآخر.
وعلى الخطيب أن يكتشف طريقة الإلقاء المناسبة لصوته ونَفَسه؛ وذلك يكون بتجرِبة طرق عدة، والنظر في مدى أثرها على السامعين، مع سؤال أهل الخبرة في ذلك، وسيكتشف بعد عدة محاولات طريقة الأداء التي تناسب صوته.
الهدي النبوي رفع الصوت في الخطبة:
روى جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه؛ حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم مسَّاكم... "[3].
ويفهم من هذا الحديث أمور منها:
1- الاعتناء بشأن الخطبة؛ فإنه - عليه الصلاة والسلام - كان يهتم لها وبها، دلَّ على ذلك الأحوال التي تعتريه أثناءَ خُطبته، فلو لم يكن مهتمًّا بها لما علا صوته، واحمرَّت عيناه، واشتدَّ غضبه.
قال النَّووي - رحمه الله تعالى -: "يستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته، ويجزل كلامه، ويكون مطابقًا للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب وترهيب"[4].
2- لا يفهم من الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع صوته دائمًا، ويشتد غضبه باستمرار، وتحمرُّ عيناه في كل خطبته؛ بل كان ذلك منه في أحوال تستلزم ذلك كذكر القيامة، أو إذا خولف في أمر غضب لله - تعالى - كما جاء في بعض روايات الحديث "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر الساعة احمرَّت وجنتاه، واشتدَّ غضبه، وعلا صوته.. "[5]. فهذا مقيد للإطلاق المذكور سابقًا بذكر الساعة.(/3)
وهذا ما فهمه شُرَّاح الحديث، قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: "كونه - صلى الله عليه وسلم - تحمرُّ عيناه، ويعلو صوته، ويشتدُّ غضبه في حال خطبته، كان هذا منه في أحوال. وهذا مشعر بأنَّ الواعظ حقه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ما يطابقه؛ حتّى لا يأتي بالشيء وضده ظاهر عليه. وأمَّا اشتداد غضبه فيحتمل أن يكون عند نهيه عن أمر خولف فيه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان"[6].
3- أن تغيّر أحوال الخطيب وانفعالاته يكون بحسب المعاني التي يلقيها على السامعين؛ كما دل عليه الحديث، وأقوال العلماء الذين شرحوه؛ حتى لا يكون إلقاؤه مخالفًا للمعاني التي يلقيها. فألفاظ الاستفهام والتعجب والتوبيخ واللوم والعتاب والزجر والتفخيم والتهويل والتحزين والحيرة والوعد والوعيد ونحوها، لها كيفيات صوتية في الإلقاء تدل على المعنى المراد. وكذلك يقال في خفض الصوت ورفعه ولينه وشدته وتكرار الكلمة وقطعها ومد الصوت بها لها مواضعها في الخطبة؛ حتى يستثير الخطيب السامعين، ويلفت انتباههم، مما يكون عونًا على الاستفادة من الخطبة؛ إذ هو المقصود من شرعيتها.
ولا شكَّ في أنَّ الخطيب إذا لم يراعِ معانيَ الألفاظ في صَوْتِه فَقَدَتْ معانِيَها، ولربما استعجمتْ على السامعين، وفي هذا المعنى يُذكر أنَّ رجُلاً اتُّهم بِالسَّرِقَةِ، وليس ثَمَّة دليلٌ يدينه، فوعده القاضي بأن يُطْلِقَ سراحه بشرط أن يقوم أمام الناس ويعترف بأنه لص! فوافق، فلما صار أمامهم قال بصيغة السؤال والاستنكار "أنا لص؟!" كأنه يستنكر ذلك؛ فتعاطف الناس معه، ولم يحقق القاضي ما أراده[7].
ما ينبغي مراعاته في الصوت:(/4)
1- موافقته لظروف الخطبة؛ فإن الصوت يختلف باختلاف الحضور واختلاف المكان والزمان، وموضوع الخطبة. فصوت الخطيب يختلف في مناسبة الفرح عنه في مناسبة الحزن، كما يختلف في المكان الضيق عنه في المكان الرحب الغاص بالمستمعين[8]. فعلى الخطيب أن يراعي مثل هذه الظروف ويكيِّف صوته بما يتناسب معها.
ويرى بعض الباحثين أن المناسب في الخطبة أن يبدأ بها خافضًا صوته، ثم يعلو شيئًا شيئًا؛ لأن العلو بعد الانخفاض سهل، ووقعه على السامعين مقبول. أما الخفض بعد الارتفاع فلا يحسن وقعه[9].
وعلى الخطيب أن يعرف قدراته الصوتية فلا يتحمس حماسًا يرفع صوته عاليًا بحيث لا يستطيع إكمال خطبته على هذا النمط؛ لأنها طويلة، وقدرته الصوتية ضعيفة؛ فيقع في حرج بالغ، ويُفسد انجذاب السامعين إليه.
2- ألا يجعل صوته نمطيًّا بحيث يكون على وتيرة واحدة؛ فإنَّ ذلك يُلقي في نفس السامعين سآمة وملالاً، بل يُغَيّر النبرة الصوتية بما يتناسب مع المعاني التي تحويها الألفاظ، وقد كان كثير من الخطباء ـ خاصَّةً كبار السن ـ يُرَتّلونَ الخطبة كتَرْتِيل القرآن، أو كقراءة المتون العلمية على المشايخ، وهذا لا يَتَناسَبُ مع الخُطبة، وإن وجد السامعون له لذَّةً في مسامعهم؛ لكنها ليست لذة بالمعاني والألفاظ وإنما هي بصوت الخطيب ـ ولا سيما إن كان صوته حسنًا ـ وذلك يشغلهم عن معانيها وفوائدها، ولربما أنهم لم يدركوا ما فيها من معانٍ وألفاظ رغم طربهم بها.
3- أن يفرِّغ فكره أثناء الإلقاء للمعاني التي يلقيها، ويحرك بها قلبه، ويتفاعل معها قدر استطاعته. وللإخلاص في إعداد الخطبة وإلقائها حظٌّ كبير في تحرك القلب بها، ولا سيما إن كان في القلب حرقة لدين الله – تعالى - ولنفع إخوانه المسلمين. والشواغل الذهنية أثناء الإلقاء تؤثر كثيرًا على القلب، وتُفْقِدُه الكثيرَ مِنَ الخُشُوعِ والتَّدَبُّر.(/5)
فانشغال الخطيب أثناء الإلقاء مثلاً بالنحو ـ أي خوف اللحن ـ يجعله يركز على الإعراب وينصرف عن المعنى. وسبب ذلك في الغالب: أنه لا يراجع خطبته قبل إلقائها مراجعة تجعله يتقنها، ولا يخاف اللحن فيها. ومن كان دائم الانشغال بذلك حتى لو راجعها كثيرًا فينبغي له أن يعربها ـ أي يضبطها بالشكل ـ لأن تفريغ ذهنه للمعاني أهم من انشغاله بأمور يستطيع إصلاحها قبل الإلقاء.
وقد يكون الخطيب مرتجلاً ـ يخطب بلا ورقة ـ فينشغل بما سيقوله عن تدبر ما يقول، أي: أن فكره يسبق كلامه، فيهيئ في ذهنه الجملة التي سيقولها، وهو لازال في الجملة الأولى، وهذا بلا شك يجعله لا يتدبر، وربما دخلت الجملة الثانية قبل اكتمال الأولى؛ فيفسد المعنى كما هو ملاحظ على كثير ممن لا يحسنون الارتجال.
وبكل حال فإن الإعداد الجيد للخطبة مع الإخلاص كفيل بانفعال الخطيب في خطبته، ومن ثم انفعال المستمعين. وكلما ضعف الإعداد وقلّ الإخلاص كان الانفعال أقلّ وتأثير الخطبة أضعف. وفي هذا المعنى قال عامر بن عبدالقيس - رحمه الله تعالى -: "الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان"[10]. ولما سأل معاوية - رضي الله عنه - صحار بن عياش العبدي عن سر بلاغتهم قال: "شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا"[11]، وقال الحسن البصري - رحمه الله تعالى - لواعظ لم تؤثر فيه موعظته: "يا هذا، إن بقلبك لشرًّا أو بقلبي"[12].(/6)
4- عناية الخطيب بأجهزة الصوت التي توصل خطبته للسامعين؛ فهذه الأجهزة نعمة من الله – تعالى - خدمت الخطباء وأراحتهم من رفع أصواتهم رفعًا يُضِّرُ بهم، ومعنى العناية بها: أن يكون الصوت فيها موزونًا بما لا يزعج المستمع ولا يشوش عليه. وبعض الخطباء لا يرتاح حتى يرتد إليه صوته من شدة جلبة مكبرات الصوت، وبعضهم قد تكون أجهزته لا توصل الصوت من شدة خفوتها، والموازنة مطلوبة، وأصوات الناس تختلف، والأجهزة أيضًا تختلف، فينبغي أن يضبط صوت الجهاز بما يتناسب مع صوت الخطيب ضعفًا وقوة، فإن كان في صوت الخطيب ضعفًا؛ رفع صوت الجهاز حتى يسمع الناس. وإن كان الخطيب جهير الصوت خفض صوت الجهاز؛ حتى لا يحصل الإزعاج. فالإزعاج وضعف الصوت مانعان من الاستفادة من الخطبة.
5- الاعتدال في سرعة الصوت؛ فلا يتمهل تمهلاً يصيب السامعين بالملال، ولا يسرع سرعة تمنعهم التدبر وفهم المعاني. والسرعة تجهد الصوت لا سيما في الخطب الطويلة. وحدد بعضهم متوسط ذلك بما يقارب (120) كلمة في الدقيقة[13]. وفي ظني أن هذا يختلف باختلاف الأصوات وطريقة الإلقاء، ولكل خطيب ما يناسبه.
ولو أسرع في بعض الجمل ليتمهل في كلمة منها بقصد لفت الانتباه إلى أهميتها، فذلك أسلوب من أساليب شد الانتباه، وقد كان بعض مشاهير خطباء الإفرنج ينطق بعدة كلمات بسرعة كبيرة حتى يصل إلى الكلمة أو العبارة، التي يريد تأكيدها ثم يبطئ صوته عندها، ويضغط عليها[14].
6- أن يجتنب الخطيب ما قد يضايقه ويضعف صوته؛ كالضغط على الحنجرة بأزرار الثوب، وإن كان ممن يحتاج إلى ماء لتقوية صوته فلا بأس أن يشرب قبل الخطبة، أو في الجلسة بين الخطبتين، أو حتى في الخطبة إن لم يخش انقطاع الأفكار، وانصراف المستمعين عنه.(/7)
وعلى كل حال فإنه ينبغي للخطيب العناية بما يكمل خطبته، ويجعلها مؤثرة في قلوب المستمعين، محصلة لمقاصدها التي شرعت من أجلها، كذلك ينبغي العناية بالصوت، والبحث عن الطريقة الإلقائية الملائمة له.
وتمرينات الحلق واللسان على الأساليب الخطابية مما يجب على الخطباء صرف الاهتمام له؛ فليس ذلك بأقلَّ من الاهتمام بإعداد الخطبة موضوعًا ولغة وبلاغة ومعنى؛ إذ الصوت ناقل لها، وبجمال الإلقاء تكون الخطبة جميلة، وبرداءة الإلقاء تكون الخطبة رديئة، ولو كان إعدادها جيدًا.
---
[1] أخرجه أحمد من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - (5/185)، وصححه السيوطي في الجامع الصغير (7357) ثم الألباني في صحيح الجامع (5197)·
[2] انظر: "الخطابة" د. نقولا فياض، ط دار الهلال بمصر 1930م (ص53)، و"فن الخطابة" للشيخ علي محفوظ، ط دار الاعتصام (ص65) و"فن الإلقاء" محمد عبدالرحيم عدس دار الفكر، الأردن ط الأولى 1416هـ (ص14)، "الخطابة، أصولها، تاريخها، في أزهى عصورها عند العرب" للشيخ محمد أبي زهرة، دار الفكرالعربي، ط الثانية، 1980م (ص148).
[3] أخرجه مسلم في الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (867)، والنسائي في العيدين باب كيف الخطبة (3/188 ـ 189)، وابن ماجه في المقدمة باب اجتناب البدع والجدل (45) وغيرهم.
[4] شرح النووي على صحيح مسلم (6/222).
[5] هذه الرواية صححها ابن خزيمة (1785)، وابن حبان (3062).
[6] "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (2/506)، وانظر أيضًا: شرحي الأبي والسنوسي على صحيح مسلم (3/232 ـ 233)، وشرح الطيبي على المشكاة (4/1283).
[7] "فن الإلقاء" (17)، وانظر أيضًا: "الخطابة في صدر الإسلام" د. محمد طاهر درويش، ط دار المعارف، مصر (46)، و"فن الخطابة" د. أحمد محمد الحوفي دار النهضة، مصر، ط الرابعة (31)، و"قواعد الخطابة" د· أحمد غلوش 1399هـ (183 ـ 184)، و"الخطابة" للشيخ أبي زهرة (147).(/8)
[8] انظر: "فن الخطابة" لأنطوان القوَّال، دار العلم للملايين، ط الأولى (24).
[9] "الخطابة" لمحمد أبي زهرة (149)، و"فن الخطابة" لمحفوظ (68).
[10] "فن الخطابة" لمحفوظ (68)، عن "البيان والتبيين" للجاحظ (1/84)، و"الحيوان" (4/210).
[11] "فن الخطابة" للحوفي (26).
[12] "البيان والتبيين" للجاحظ (1/84) ط دار الجيل بيروت.
[13] "فن الخطابة"، أنطوان القوال (ص25).
[14] انظر: "قواعد الخطابة" لغلوش (184).(/9)
العنوان: الصور التي ينقض فيها الحاكم النكاح بين الزوجين
رقم المقالة: 413
صاحب المقالة: د. عبده بن عبدالله الأهدل
-----------------------------------------
التمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد قمت بجمع الصور التي ينقض الحاكم فيها النكاح بين الزوجين ويفرق بينهما، والمشتتة في بطون كتب الفقه الإسلامي، ليسهل الاطلاع عليها، عارضاً فيها أقوال العلماء مع الأدلة والمناقشة، محاولاً الترجيح فيما بينها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
وجمعت هذه الصور في مقدمة وفصلين:
المقدمة: عرّفت فيها النكاح لغة واصطلاحاً.
الفصل الأول: الصور المختلف فيها بين الفقهاء.
الفصل الثاني: الصور التي لم ترد إلا في مذهب واحد.
أسأل الله عز وجل أن ينفع بها كل مطلع عليها، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب.
المقدمة: تعريف النكاح لغة واصطلاحاً:
النكاح في اللغة: الضم والجمع، منه: تناكحت الأشجار إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض.
وفي الاصطلاح: عقد يفيد حِل استمتاع كل من الزوجين بالآخر قصداً.
ويطلق النكاح في لغة العرب على: الوطء والعقد جميعاً، إلا أن يكون اللفظ ظاهراً في أحدهما، فيصرف إليه دون الآخر، كقوله: نكح فلان فلانة، أو بنت فلان، أو أخته، فيصرف إلى العقد؛ لأنه هو المراد هنا. وقولهم: نكح فلان زوجته، فيصرف إلى الوطء؛ لأن قرينة الزوجية دالة عليه.
الفصل الأول: وفيه ثلاث عشرة مسألة:
المسألة الأولى: عدم حضور الشهود عند النكاح:
اختلف العلماء في حضور الشهود عند النكاح، هل هو شرط الصحة، أو يصح بدونهم ؟ للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: لا ينعقد النكاح إلا بحضور الشهود[1].
وحجتهم على ذلك حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل))[2].(/1)
المذهب الثاني: وبه قال الزهري ومالك: ينعقد النكاح بدون حضور الشهود، ولكن يجب الإشهاد قبل الدخول، فإن دخل بدون إشهاد طلق عليه الحاكم طلقة بائنة؛ لصحة النكاح، لكون الإشهاد شرط وجوب وليس شرط صحة[3].
المذهب الثالث: يصح عقد النكاح بدون حضور الشهود مطلقاً.
روي هذا المذهب عن: عبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير[4]، والحسن بن علي[5]، وبعض التابعين[6]، وأبي ثور، وابن المنذر[7].
وحجة هؤلاء: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج جارية، ولم يعرف الصحابة زواجه بها إلا عندما حجبها[8]؛ فدل ذلك على صحة عقد النكاح بدون حضور الشهود، إذ لو كان واجباً لفعله صلى الله عليه وسلم عند زواجه بهذه الجارية[9].
وأجيب: بأن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من غير ولي وشهود من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك تشريعاً لجميع الأمة، فلا يلحق به غيره في ذلك[10].
المسألة الثانية: تزويج الوليين المرأة:
إذا كان للمرأة وليان، فأذنت لكل منهما أن يزوجها من يرضاه لها، فعقد كل منهما لرجل، فأي الوليين يكون نكاحه صحيحاً وتكون المرأة زوجة له ؟ للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: أنه إن عرف من عقد له على المرأة أولاً فهي له، وهو الأحق بها، سواء دخل بها الثاني أم لا[11].
وحجتهم على ذلك: أن هذا مروي عن علي[12] بن أبي طالب[13]، ولأن الزوج الثاني تزوج امرأة قد أصبحت في عصمة رجل آخر، فكان زواجه بها باطلاً، كما لو علم أن لها زوجاً[14].
المذهب الثاني: إن عرف الزوج الأول ولم يدخل بها الثاني فهي للأول، وإن دخل بها الثاني فهي له.
وهذا مذهب عطاء[15]، ومالك[16][17].
وحجة هؤلاء: أن هذا قول عمر[18] بن الخطاب[19].
وأجيب: بأن عمر قد خالفه علي، ولا يقدم قول صحابي على آخر دون دليل، فسقط الاستدلال به حينئذ[20].
الراجح:(/2)
الذي يبدو أن قول الجمهور هو الأولى؛ لأن نكاح الثاني على المرأة قد صادف امرأة قد أصبحت متزوجة، فعقده عليها باطل، كما لو علم أنها متزوجة، ودخوله بها لا يغير حقيقة الأمر، كما لو دخل بها وهو يعلم أنه قد عقد عليها غيره قبله، والله أعلم.
ويجب لها المهر على الثاني بدخوله عليها؛ لاستمتاعه بها في قول: قتادة[21]، والشافعي[22]، وأحمد[23]، وابن المنذر[24][25].
فإن جهل من عقد له على المرأة أولاً فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن النكاح باطل. وبه قال أبو حنيفة[26][27] والشافعي[28]، وابن المنذر[29].
وحجة هؤلاء: أن وقوع العقدين معاً لا يمكن تصحيحهما، ولأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فتعينت جهة البطلان فيهما.
المذهب الثاني: يفسخ الحاكم نكاحهما جميعاً، ثم تتزوج المرأة من شاءت منهما أو من غيرهما. وبه قال مالك[30]، وأحمد[31].
وحجة هؤلاء: أنه تعذر إمضاء العقد الصحيح منهما للجهالة بالأول منهما، وليس لكونه باطلاً في حد ذاته، فوجب إزالة الضرر بالفسخ والتفريق[32] من قبل الحاكم؛ لأن رفع الضرر موكول إليه.
ونتيجة هذين المذهبين هي: إبطال هذا النكاح، واختيار المرأة في التزوج بأي منهما أو من غيرهما، غير أن لكل من المذهبين وجهة نظر في إبطاله.
المذهب الثالث: أن المرأة تخير بينهما، فأيهما اختارت فهو زوجها.
روي هذا المذهب عن: شريح[33]، وحماد بن أبي سليمان[34]، وعمر بن عبدالعزيز[35][36]، ولم أجد من ذكر لهذا المذهب حجة.
المسألة الثالثة: إذا تزوج الكافر إحدى محارمه وأسلموا:(/3)
أنكحة الكفار صحيحة يقرون عليها إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا، إذا كانت المرأة ممن يجوز ابتداء نكاحها في الحال، بأن لم تكن إحدى المحارم ولا معتدة للغير، ولا ينظر صفة عقدهم وكيفيته، ولا يعتبر له شروط أنكحة المسلمين من الولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول. ودليل صحة أنكحة الكفار قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}[37]، وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}[38]؛ حيث أضاف سبحانه النساء إلى أزواجهن، وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولدت من نكاح لا من سفاح[39]))[40]. وهذا عند جمهور العلماء[41].
وعند المالكية وآخرين: إذا استوفت شروط نكاح المسلمين حكم لها بالصحة، وإلا كانت فاسدة، ولكنهم يقرون عليها إذا أسلموا ترغيباً لهم في الإسلام[42]. فإذا تزوج الكافر إحدى محارمه وأسلما أو ترافعا إلينا وهما على كفرهما، فرق القاضي بينهما عند جميع العلماء؛ لأنه لا يجوز ابتداء هذا النكاح في الإسلام، فكذلك بقاؤه. فإن تزوج الكافر معتدة لغيره وأسلما قبل انقضاء العدة، فرق القاضي بينهما أيضاً عند الجمهور؛ لأنه لا يجوز نكاح المعتدة بالغير بالإجماع؛ لكونها مشغولة بعدة غيره[43].
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم التفريق؛ لأن إثبات حرمة نكاح المعتدة للغير للشرع غير ممكن شرعاً؛ لأن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، وإثبات الحرمة حقاً للزوج غير ممكنة أيضاً؛ لأن الزوج لا يعتقد حرمة ذلك[44].
المسألة الرابعة: إسلام أحد الزوجين قبل صاحبه:(/4)
اتفق جميع العلماء على أن الزوجين المشركين إذا أسلما دام النكاح بينهما. وكذلك إذا أسلم الزوج ولم تسلم الزوجة، وكانت يهودية أو نصرانية، سواء – في الصورتين – بعد الدخول بالزوجة أو قبله؛ لأن في الأولى لم يحصل بينهما اختلاف في الدين، وفي الثانية لأنه يجوز للمسلم نكاح الكتابية في الإسلام، فبقاؤه أولى من ابتدائه[45]. فإن أسلم الزوج وكانت الزوجة غير كتابية، أو أسلمت هي ولم يسلم هو، سواء كان كتابياً أو غيره، فإن لم يكن قد دخل بها الزوج حصلت بينهما الفرقة مباشرة عند الجمهور[46].
وحجتهم على ذلك: قياس غير المدخول بها هنا على غير المدخول بها في الطلاق، فإن غير المدخول بها إذا طلقت لم تجب عليها العدة، فكذلك هنا[47]، ولأنه إن كان هو المسلم فليس له إمساك كافرة؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[48].
وإن كانت هي المسلمة فلا يجوز إبقاؤها على نكاح مشرك[49]، وإن كانت مدخولاً بها فأي الزوجين أسلم قبل انتهاء عدة المرأة من يوم إسلام أحدهما دام النكاح بينهما، فإن لم يسلم المتخلف منهما إلا بعد انتهاء العدة تبين أن الفرقة وقعت من وقت اختلاف الدين بينهما[50].
وحجتهم على ذلك: حديث ابن عباس[51]: كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه... الحديث[52].
وذهب المالكية إلى أنها إذا أسلمت قبله وكانت غير مدخول بها بانت منه مباشرة؛ لأنه لا عدة عليها، وإن كانت مدخولاً بها وأسلم الزوج في عدتها دام النكاح بينهما، وإلا فلا، وإن أسلم هو قبلها وأسلمت بعده بنحو شهر ثبت النكاح بينهما، سواء كانت مدخولاً بها أو لا[53].(/5)
وحجتهم على دوام النكاح على المدخول بها إذا أسلم في عدتها حديث ابن عباس السابق.
وحجتهم على القسم الأخير قوله تعالى في سورة الممتحنة: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}.
فإن الخطاب فيها للرجال دون النساء[54].
وذهب الأحناف إلى أنه لا فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها في الحكم. فإذا كانا في دار الإسلام وأسلمت المرأة وزوجها كافر، عرض عليه الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته، وإن أبى فرق القاضي بينهما، وإن أسلم الزوج وتحته غير كتابية عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت فهي امرأته، وإلا فرق القاضي بينهما.
فإن أسلمت المرأة في دار الحرب وزوجها كافر، أو أسلم الزوج وتحته غير كتابية لم يعرض على أحد منهما الإسلام؛ لعدم ولاية الإسلام في ذلك المكان، بل تكون الفرقة بينهما بأن تحيض ثلاث حيض، أو تمر بها ثلاثة أقراء إن لم تكن من ذوات الحيض، فتبين منه بعدها.
وحجتهم على ذلك: أن الإسلام ليس سبباً للفرقة؛ لأنه طاعة، وكذلك كفر من أصر عليه؛ لأنه كان موجوداً قبل ذلك، ولم يمنع من صحة النكاح وبقائه، وكذلك اختلاف الدين ليس سبباً للفرقة، كما لو كان الزوج مسلماً، والزوجة كتابية، فتعين أن يكون سبب الفرقة هو إباء من لم يسلم بعد عرض الإسلام عليه، فلا دخل حينئذ لكون الزوجة مدخولاً بها[55].
وذهب عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عباس، والحسن البصري[56]، وسعيد بن جبير[57]، وعطاء، وطاووس[58]، وقتادة، وعمر ابن عبدالعزيز، والحكم[59]، وابن شبرمة[60]، وأبو ثور[61]، إلى أن الفرقة تقع بينهما بمجرد إسلام أحدهما وتخلف الآخر[62].(/6)
وحجة هؤلاء قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[63]. فإن في الآية بيان عدم حل المسلمات للكافرين، والمسلمين للكافرات، فتقع الفرقة بمجرد عدم حل أحدهما للآخر لأجل الإسلام[64].
المسألة الخامسة: التفريق للعيب:
إذا وجد أحد الزوجين في الآخر جنوناً أو جذاماً أو برصاً أو أي عيب من العيوب الآتي ذكرها، فهل يثبت للسليم منهما الخيار في النكاح، فإن شاء أمسك صاحبه، وإن شاء رفع أمره إلى الحاكم ليفرق بينهما، أو لا خيار له في ذلك، بل يثبت النكاح ويستمر في حق كل منهما ؟ للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: إذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيباً من العيوب الآتي تفصيلها ثبت للسليم منهما فسخ النكاح[65].
وحجتهم على ذلك قول عمر: ((أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها – دخل بها – فلها صداقها كاملاً، وذلك لزوجها غرم على وليها))[66]. قالوا: لأن مثل هذا القول من عمر لا يكون من قبل الاجتهاد في الرأي، بل من قبل أن يكون سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منه، فدل ذلك على أن هذا حكم من وجد به من أحد الزوجين أحد هذه العيوب أو ما كان في معناها، مما يمنع الوطء[67].
المذهب الثاني: لا يثبت لأحد الزوجين الخيار في فسخ النكاح إذا وجد بالآخر أي عيب كان.
وروي هذا المذهب عن: عبدالله بن مسعود[68]، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبدالعزيز، وإبراهيم النخعي[69]، وعطاء، وأبي الزناد[70]، وابن أبي ليلى[71]، وبه قال أهل الظاهر[72].(/7)
وحجة هؤلاء: قول عبدالله بن مسعود: لا ترد الحرة بعيب[73]. ولأنه لا دليل على التفريق بهذه العيوب لا من كتاب ولا سنة ولا قياس[74]، ولأن هذه العيوب لا تخل بموجب العقد وهو حل الوطء، ولأن إمكان الجماع وقضاء الحاجة مع من وجد به أحد العيوب من الزوجين ممكن بل وحاصل، وإنما تقل الرغبة في المعيب فقط، فلا يثبت الخبار للسليم منهما، كما لو كان من به العيب سيئ الأخلاق[75].
وأجيب: بأن العيوب تمنع الرغبة في الجماع، وتوجب النفرة المانعة من قربان المعيب بالكلية، كما يخاف السليم من العدوى إلى نفسه ونسله، والمجنون يخاف منه الجناية، فصارت العيوب كالموانع الحسية من القربان[76].
الراجح:
الذي يبدو أن مذهب الجمهور هو الأولى؛ لأن العيب تنفر منه الطبيعة البشرية، والزواج مودة وراحة وسكن، فلا يتحقق المقصود من الزواج مع وجود العيب، فلا يجوز إرغام الصحيح منهما على إبقاء النكاح والحالة هذه؛ لأن الله عز وجل لا يكلف بما لا يطاق، والله أعلم.
من الذي يحق له طلب التفريق بالعيب ؟
اختلف الجمهور القائلون بثبوت التفريق بالعيب، هل هو حق لكل من الزوجين أم للزوجة فقط ؟
ذهب الأحناف إلى أن الذي يثبت له حق التفريق بالعيب هو الزوجة فقط، أما الزوج فلا يثبت له ذلك؛ لأنه يمكنه دفع الضرر عن نفسه بالطلاق، أما الزوجة فلا يمكنها دفع الضرر عن نفسها إلا بإعطائها حق طلب التفريق؛ لأنها لا تملك الطلاق[77].
وذهب الأئمة الثلاثة إلى ثبوت طلب التفريق بالعيب لكل من الزوجين؛ لأن كلاً منهما يتضرر بالعيب، ويوجد فيه نفرة من الآخر تمنعه من قربانه بالكلية، ويخاف السليم منها العدوى إلى نفسه ونسله، والمجنون يخاف منه الاعتداء.
أما اللجوء إلى الطلاق فيؤدي إلى إلزام الزوج بكل المهر بعد الدخول وبنصفه قبله، وفي التفريق يعفى الزوج من نصف المهر قبل الدخول وبعده، يجب لها المسمى عند المالكية والحنابلة، ومهر المثل عند الشافعية[78].(/8)
العيوب التي تجيز التفريق:
اتفق الجمهور القائلون بجواز التفريق بالعيب على جواز التفريق بعيبين، وهما: الجب[79]، والعنة[80]، واختلفوا في عيوب أخرى على مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: وبه قال أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف[81]:
لا فسخ إلا بالعيوب الثلاثة التناسلية، وهي: (الجب والعنة والخصاء) إن كانت في الرجل؛ لأنها عيوب غير قابلة للزوال، فالضرر فيها دائم، ولا يتحقق معها المقصود الأصلي من الزواج، وهو: التوالد والإعفاف عن المعاصي، فكان لابد من التفريق. أما العيوب الأخرى: من جنون أو جذام أو برص أو رتق[82] أو قرن[83]، فلا فسخ للزواج بها إن كانت بالزوجة أو الزوج، ولا خيار للآخر بها، وهذا هو الصحيح عند الأحناف.
وقال محمد بن الحسن[84]: ((للزوجة الخيار في فسخ النكاح إن كانت هذه العيوب بالزوج؛ دفعاً للضرر عنها، كما في الجب والعنة، وليس للزوج الخيار إن كانت بالمرأة؛ لأنه متمكن من دفع الضرر عنه بالطلاق))[85].
المذهب الثاني: وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة: يجوز الفسخ لأي واحد من الزوجين إذا وجد بالآخر عيباً من العيوب الآتي بيانها، إلا أنهم اختلفوا في عدد العيوب التي يثبت بها طلب التفريق بين الزوجين. فعددها عند المالكية ثلاثة عشر عيباً، أربعة يشتركان فيها وهي: الجنون والجذام والبرص والعذيطة[86]، وأربعة خاصة بالرجل وهي: الجب والخصاء والاعتراض[87] والعنة[88]، وخمسة خاصة بالمرأة وهي: الرتق والقرن والعفل[89] والإفضاء[90] والبخر[91].
وليس من العيوب: القرع[92] والسواد والعمى والعور والعرج والزمانة ونحوها من العاهات، إلا إذا اشترط السلامة منها[93].
وعند الشافعية سبعة وهي: الجب والعنة والجنون والجذام والبرص والرتق والقرن. وليس منها: البخر ولا الاستحاضة والقروح السيالة والعمى والزمانة والبله والخصاء والإفضاء والتغوط عند الجماع؛ لأن هذه الأمور لا تفوت مقصود النكاح[94].(/9)
وعند الحنابلة ثمانية، ثلاثة يشترك فيها الزوجان وهي: الجنون والجذام والبرص، واثنان يختصان بالرجل وهما: الجب والعنة، وثلاثة تختص بالمرأة وهي: الفتق[95] والقرن والعفل[96].
المذهب الثالث: وبه قال الزهري[97] وشريح وابن القيم[98]: يجوز التفريق من كل عيب منفر بأحد الزوجين، سواء كان مستحكماً أم لا، كالعقم والخرس والعرج والطرش وقطع اليدين أو الرجلين أو إحداهما؛ لأن هذه الأمور من أعظم المنفرات، والسكوت عنها من أقبح التدليس والغش، ولأن العقد قد تم على أساس السلامة من العيوب، فإذا انتفت السلامة فقد ثبت الخيار، ولأن عمر بعث رجلاً على بعض السعاية فتزوج امرأة وكان عقيماً، فقال له عمر: أعلمتها ؟ فقال: لا، قال: فانطلق فأعلمها ثم خيرها[99]. فقد أثبت التخيير في الفراق بالعقم، وهو أقل تنفيراً من قطع الرجلين ونحو ذلك[100].
الراجح:
الذي يبدو أن المذهب الأخير هو الراجح؛ لأن وجهة نظره قوية، ولأن معظم العيوب التي قال أصحاب المذاهب الآنف ذكرهم يجوز التفريق بها لا دليل عليها، فيبقى الضابط الصحيح: أن كل عيب ينفر أحد الزوجين من الآخر، ولا تحصل به مقاصد النكاح – من الرحمة والمودة – يثبت الخيار به. والله أعلم.
المسألة السادسة: التطليق للشقاق والضرر:
إذا اشتد النزاع بين الزوجين بسبب الطعن في الكرامة، أو لإيذاء الزوج زوجته بالقول أو بالفعل، كالشتم المقذع، والتقبيح المخل بالكرامة، والضرب المبرح، والحمل على فعل ما حرم الله، والإعراض والهجر بدون سبب يبيحه، ونحو ذلك – فهل يطلق الحاكم على الزوج بذلك إذا طلبت الزوجة الفراق، أم يجب عليه تأديب الظالم منهما فقط، ولا يحق له التفريق ؟ للعلماء في ذلك مذهبان:(/10)
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: لا يجوز التفريق للشقاق أو الضرر مهما كان شديداً؛ لأن دفع الضرر عن الزوجة يمكن بغير الطلاق، عن طريق رفع الأمر إلى القاضي، والحكم على الرجل بالتأديب، حتى يرجع عن الإضرار بها[101].
المذهب الثاني: وبه قال المالكية: إذا أثبتت الزوجة بالبينة الضرر وطلبت الفراق، فرق الحاكم بينهما منعاً للنزاع، ورفعاً للضرر؛ حتى لا تصبح الحياة الزوجية جحيماً لا يطاق[102].
المسألة السابعة: الخلع[103]:
إذا اتفق الزوج مع زوجته أن تعطيه عوضاً مقابل خلعه عقدة النكاح بينهما، فهل يجوز ذلك بدون إذن السلطان، أم إنه لا يجوز الخلع إلا عند السلطان وحكمه بذلك ؟ للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: يجوز الخلع دون إذن السلطان وحكمه به.
وحجتهم على ذلك: أن الخلع معاوضة بين الزوج وزوجته، والمعاوضة لا تحتاج إلى إذن الحاكم وحكمه، كما لا يحتاج ذلك البيع والنكاح والطلاق[104].
المذهب الثاني: وقال به محمد بن سيرين[105]، وسعيد بن جبير، والحسن البصري[106]: لابد من إذن الحاكم وحكمه بذلك.
وحجتهم في ذلك: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاََّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}[107]، وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}[108]، فجعل الخوف لغير الزوجين، ولم يقل: فإن خافا، فالخطاب في الآيتين في التفريق بالخلع موجه إلى الولاة والحكام[109].
ورد الجمهور: بأن الخلع هو ما يتراضى عليه الزوجان ولا إجبار للحاكم عليه. ولأن خوف غير الزوجين من الشقاق بينهما وعدم مراعاة حسن العشرة لا تأثير له في حلية أخذ الزوج الفداء من الزوجة[110].
المسألة الثامنة: التطليق على المولي[111]:(/11)
إذا حلف الرجل على عدم وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر[112] سمي مولياً، وحق للزوجة بعد مضي الأربعة الأشهر أن تطالبه لدى الحاكم بالعودة إلى الجماع والتكفير عن يمينه أو الطلاق. فإن رفض الأمرين فهل يطلق الحاكم المرأة نيابة عن الزوج، أم أنها تبين منه بمجرد مضي الأربعة الأشهر ؟ للعلماء في ذلك أربعة مذاهب:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: يطلق عنه الحاكم طلقة رجعية نيابة عنه إذا رفعته المرأة إليه[113].
وحجتهم على ذلك: أنه لا سبيل إلى دوام إضرارها ولا إجباره على الرجوع إلى الجماع؛ لأنها لا تدخل تحت الإجبار، والطلاق يقبل النيابة، فناب عنه الحاكم عند الامتناع، كما يزوج عن العاضل ويستوفي الحق من المماطل[114].
المذهب الثاني: وبه قال شريح القاضي وعطاء والحسن البصري والنخعي وابن أبي ليلى وجمع من التابعين والأحناف: أنها تبين منه بتطليقة واحدة[115].
وحجة هؤلاء: أن هذا قول عثمان وعلي والعبادلة الثلاثة[116]، ولأنه لما ظلمها بمنعها حقها، جازاه الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضي هذه المدة، ولأن الإيلاء كان طلاقاً بائناً على الفور في الجاهلية، بحيث لا يقربها بعد الإيلاء أبداً، فجعله الشرع مؤجلاً بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[117]، إلى انقضاء المدة، فحصلت الإشارة إلى أن الواقع بالإيلاء بائن، لكنه مؤجل[118].
المذهب الثالث: وبه قال أبو ثور: يطلقها الحاكم طلقة بائنة.
وحجته على ذلك: أنه إذا لم يطلقها طلقة بائنة، بل رجعية لم يرفع عنها الضرر؛ لأنه سيراجعها ويعود الأمر كما كان، لذلك يجب أن يكون الطلاق بائناً لئلا يتمكن من المراجعة[119].(/12)
المذهب الرابع: وبه قال الظاهرية: لا يطلق الحاكم على المولي لا بائناً ولا رجعياً، بل يجبره بالسوط على العودة إلى الجماع أو الطلاق، ولو أدى ذلك إلى موته، إلا أن يكون عاجزاً عن الجماع، فيجبر على الرجوع باللسان وحسن الصحبة.
وحجتهم على ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[120]، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[121]. فمنع عز وجل من كل شيء إلا عزيمة الزوج على الطلاق؛ فصح أن طلاق الحاكم عليه فضول وباطل وتعد لحدود الله عز وجل، ومن الباطل أن يطلق عليه غيره أو يفيء عنه غيره[122].
الراجح:
الذي يبدو أن مذهب الجمهور القائل بجواز تطليق الحاكم على المولي طلقة رجعية هو الراجح؛ لأنه لا سبيل لرفع الإضرار عن المرأة إلا بالطلاق، ومهمة الحاكم رفع الضرر والظلم، ولأنه طلاق صادف مدخولاً بها من غير عوض ولا استيفاء عدد، فكان رجعياً كالطلاق في غير الإيلاء، والضرر يرتفع بالطلاق الرجعي، فإذا ارتجعها وآلى منها ضربت مدة أخرى[123]. فهذا مذهب وسط؛ لأن في ذلك مراعاة رفع الضرر عن المرأة بالطلاق، ومراعاة حق الرجل في الرجعة والتأني؛ لأنه طلاق من غير عوض. والله أعلم.
المسألة التاسعة: التطليق على المظاهر[124]:
إذا ظاهر الرجل من زوجته وامتنع من التكفير والوطء، فهل يجوز لزوجته مطالبته لدى الحاكم بالتكفير عن مظاهرته والعودة إلى وطئها أو طلاقها، وأنه إذا رفض ذلك طلق عليه الحاكم ؟ للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: لا يصير المظاهر مولياً بالمظاهرة، وإن مضت عليه أكثر من أربعة أشهر، ولا يطلق عليه الحاكم، بل يجبره الحاكم على التكفير بالحبس، إذا تضررت المرأة بعدم العودة إلى الوطء[125].(/13)
وحجتهم على ذلك: أن الله عز وجل نص أن حكم المولي هو: الفيئة بالوطء أو عزيمة الطلاق، وأن حكم الظهار وجوب الكفارة قبل المسيس، فلا يجوز إعطاء حكم أحدهما للآخر، إذ المنصوصات لا يقاس بعضها على بعض[126]، ولأن الظهار ليس له وقت محدد[127].
المذهب الثاني: وبه قال الإمام مالك وأبو عبيد: إن قصد بامتناعه من وطئها الإضرار بها صار بذلك مولياً، وجاز للمرأة رفعه إلى الحاكم، فيخيره بين التكفير والوطء والطلاق، فإن رفض طلق عليه.
وحجة هؤلاء: أن الامتناع عن وطء الزوجة فيه ضرر عليها، والضرر يجب رفعه[128].
المذهب الثالث: وبه قال قتادة وجابر بن زيد: (يصير بذلك مولياً، ويجب عليه حكم الإيلاء إذا مضت المدة ولم يجامع ولم يكفر)[129].
الراجح:
الذي يبدو أن مذهب مالك ومن معه هو الأولى؛ لأنه ليس معقولاً أن يترك الأمر للزوج ليلحق الضرر بالزوجة بعدم الوطء؛ لأن لها حقاً في الحياة والمتعة مثل الرجل، فيجب إزالة الضرر ولو بالتطليق عليه، ولأنه ليس في إمكان الحاكم إجبار الزوج على الوطء، فلم يبق في إمكانه لرفع الظلم عن الزوجة إلا التطليق عليه.
المسألة العاشرة: التفريق بين المتلاعنين[130]:
إذا رمى الرجل زوجته بالزنا جاز له ملاعنتها ليدفع عن نفسه حد القذف، ويجوز للمرأة ملاعنته أيضاً لتدفع عن نفسها حد الزنا. وذلك بأن يشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا، والخامسة أن عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين. وتشهد المرأة كذلك أربع شهادات بالله إنه لكاذب فيما رماها به من الزنا، والخامسة أن عليها غضب الله إن كان من الصادقين.
فإذا تلاعنا حرمت عليه ولم يجز بقاء النكاح بينهما أبداً، ولكن هل تحصل الفرقة وانقطاع النكاح بتمام اللعان، أم لا تحصل إلا بتفريق الحاكم بينهما ؟ للعلماء في ذلك أربعة مذاهب:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: تقع الفرقة بينهما بتمام اللعان[131].(/14)
وحجتهم على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن لاعن زوجته[132]: ((لا سبيل لك عليها)). فهذا إعلام منه أن تمام اللعان رفع سبيله عليها، وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم، وإنما كان تنفيذاً لما أوجب الله بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان في اللغة[133]. وردَّ بأن الحديث إنما وقع جواباً لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه، وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ، وهو نكرة في سياق النفي، فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسلطه عليها بوجه من الوجوه[134].
المذهب الثاني: وبه قال أبو حنيفة وأصحابه[135]، والثوري[136]: لا تقع الفرقة بينهما إلا بتفريق من الحاكم.
وحجة هؤلاء:
1 - حديث عبدالله بن عمر قال: ((لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجل من الأنصار وامرأته وفرق بينهما))[137]، حيث أضاف التفريق إليه[138].
2 - حديث ابن عمر الثاني، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل: ((لا سبيل لك عليها))[139].
3 - حديث سهل بن سعد الساعدي[140]، أنه عندما انتهى عويمر العجلاني وزوجته من اللعان، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكُتها. فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم[141].
فهذا يقتضي إمكان إمساكها، وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت بتمام اللعان لما وقع طلاقه ولا أمكنه إمساكها[142].
المذهب الثالث: وبه قال الإمام الشافعي: إذا أكمل الزوج الالتعان وقعت الفرقة بينهما، ولا تحل له أبداً، وإن أكذب نفسه، سواء التعنت المرأة أو لم تلتعن، حدت أو لم تحد.
وحجته على ذلك: أن لعانه سبب في إثبات الزنا عليها، فيستلزم انتفاء نسب الولدية فينتفي الفراش، فإذا انتفى الفراش انقطع النكاح[143]، وأما التعان المرأة فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير[144].
المذهب الرابع: وبه قال عثمان البتي[145]، وجابر بن زيد[146]: لا يحصل باللعان فرقة.(/15)
وحجة هؤلاء: أنه ليس في كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة، ولأن عويمراً العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثاً، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه[147].
الراجح:
الذي يبدو أن الراجح هو مذهب الأحناف ومن معهم، وذلك لظاهر الأدلة وتظافرها على ذلك، وأدلة مخالفيهم غير ناهضة للمعارضة، ومحتملة للتأويل.
المسألة الحادية عشرة: التطليق على المفقود:
إذا غاب الرجل عن زوجته وانقطع خبره ولم يعلم له موضع، فهل يجوز لزوجته أن ترفع أمرها إلى الحاكم، فيضرب لها مدة تنتظر فيها، فإن جاء وإلا فبعد انتهاء تلك المدة تعتد منه عدة المتوفى عنها، ثم يباح لها الزواج بغيره، أو أنه لا يجوز لها ذلك، بل تصبر حتى يبلغها موته أو حياته بيقين ؟
أولاً: اتفق الأئمة الأربعة أن الأسير في أيدي الكفار لا تتزوج زوجته، ولا يقسم ماله مالم تعلم وفاته بيقين، أو يمضي عليه زمان لا يمكن أن يعيش بعده[148]. أما من غاب عن زوجته، أو فقد في المعركة بين المسلمين أو في الفتن التي تقع بين المسلمين، أو يخرج لتجارة أو طلب علم أو سياحة، فلا يعود وينقطع خبره، ولا يعلم له موضع، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: من فُقِد – أي فقد كان – لا يجوز لزوجته الزواج مالم تعلم وفاته بيقين، بقيام بينة على ذلك، أو مضي مدة – يقدرها الحاكم – لا يمكن أن يعيش بعدها[149].
وحجتهم على ذلك: أن النكاح قد ثبت بيقين، وغيبة الزوج لا توجب الفرقة بينهما كما في غير المفقود، وموت المفقود في غيبة محتمل مشكوك فيه، فلا يزال يقين النكاح بين المفقود وزوجته بالشك في موته[150].
المذهب الثاني: إذا رفعت أمرها إلى الحاكم ضرب لها مدة تنتظر فيها، فإن جاء فيها فذاك، وإلا اعتدت بعدها عدة المتوفى عنها، ثم يباح لها الزواج.
وأصحاب هذا القول انقسموا إلى قسمين، تبعاً للحالة التي يفقد عليها:(/16)
الحالة الأولى: إذا كان فقده في خرجة ظاهرها السلامة، كالتجارة وطلب العلم ونحو ذلك، فإن أحمد يوافق أصحاب المذهب الأول في عدم إباحة الزواج لزوجته وتقسيم ماله، مالم تعلم وفاته بيقين[151].
وذهب مالك إلى أن زوجته إذا رفعت أمرها إلى الحاكم ضرب لها مدة أربع سنوات من وقت رفع أمرها إليه، فإن جاء فيها فذاك، وإلا اعتدت عدة المتوفى عنها، ثم يباح لها الزواج[152].
وحجته على ذلك: أن هذا قضاء عمر بن الخطاب[153].
الحالة الثانية: أن يفقد في حالة ظاهرها الهلاك، كأن يفقد في المعركة بين المسلمين والكفار، أو ينكسر بهم مركب وهم في البحر، فيغرق بعض رفقته ونحو ذلك. فعند المالكية: تعتد زوجته عدة المتوفى عنها زوجها بعد مضي سنة كاملة بعد الفحص عن حاله[154]. وعند الحنابلة: تنتظر زوجته أربع سنوات، ثم تعتد عدة المتوفى عنها، ثم يباح لها الزواج ويقسم ماله.
وحجتهم على ذلك: أن هذا قضاء عمر بن الخطاب أيضاً[155].
فإن فقد في الفتن التي تقع بين المسلمين فإن مالكاً لا يضرب لهذا مدة ينتظر فيها، بل يجتهد الحاكم في القدر الذي يمكن أن يتصرف فيه من هرب وانهزام، فإذا غلب على ظنه أنه مات أذن لزوجته في الزواج بعد العدة وقسم ماله.
وحجته على ذلك: قياس هذا على من فقد في أيام الوباء بجامع غلبة الهلاك في مثل هذه الأحوال[156].
المذهب الثالث: وبه قال عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، والجمهور من التابعين: أن المقصود على أي حالة فقد، إذا رفعت زوجته أمرها للحاكم ضرب لها مدة أربع سنوات من حين رفعها، فإن جاء فذاك، وإلا عتدت عدة المتوفى عنها، ثم يباح لها الزواج[157].
الراجح:(/17)
الذي يبدو أن المذهب الأخير هو الأولى؛ لأنه ليس مع أحد من أصحاب هذه المذاهب دليل، لا من الكتاب ولا من السنة، فبقي الأمر في ذلك عائداً إلى الاجتهاد والنظر في المصلحة، والمصلحة للمرأة الزواج؛ لأن عدم زواجها ومنعها منه إلى أن تعلم وفاته بيقين بقيام بينة أو مضي مدة لا يمكن أن يعيش بعدها – فيه ضرر بالغ وظاهر بالمرأة، فترجح مذهب من قال: إنها تنتظر أربع سنوات، فإن جاء وإلا اعتدت عدة الوفاة، ثم يباح لها الزواج، ولأن هذا مذهب خمسة من الصحابة، منهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين، فاتباعهم أولى. والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة: التطليق للعجز عن النفقة:
إذا عجز الزوج عن الإنفاق على الزوجة لعسره بها، أو كان غنياً ولم يقدر الحاكم على أخذ النفقة منه، لصبره على الحبس وإخفاء ماله، فهل يجوز للحاكم أن يطلق زوجته منه بعد طلب الزوجة ذلك ؟ للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: يجوز للحاكم تطليق الزوجة من زوجها للإعسار بالنفقة إذا طلبت ذلك من الحاكم[158].
وحجتهم على ذلك:
1 - قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}[159]. وإمساك المرأة بدون إنفاق عليها إضرار بها.
2 - قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[160]. وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكاً بمعروف؛ فيتعين التسريح.
3 - أن سعيد بن المسيب سئل عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: يفرق بينهما. فقيل له: سُنة ؟ قال: نعم سنة. يقصد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم[161].
4 - ولأن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا[162].
5 - ولأنه يجوز لها الفسخ بالعجز عن الوطء – بالجب والعنة – وهو أقل ضرراً فيجوز لها بالعجز عن النفقة من باب أولى؛ لأن البدن لا يقوم بدونها، بخلاف الوطء[163].(/18)
المذهب الثاني: وبه قال الأحناف: لا يجوز التفريق بعدم النفقة.
وحجتهم على ذلك: أن الزوج إن كان معسراً فلا ظلم منه بعدم الإنفاق؛ لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[164]، فلا نظلمه بإيقاع الطلاق عليه، وإن كان موسراً فهو ظالم بعدم الإنفاق، ولكن دفع ظلمه لا يتعين بالتفريق، بل يبيع ماله جبراً للإنفاق على زوجته، أو إرغامه بالحبس للقيام بذلك[165].
المسألة الثالثة عشرة: التطليق بالإعسار بالمهر إذا عسر الزوج بالمهر، فهل يجوز أن يطلق عليه الحاكم إذا طلبت الزوجة ذلك ؟
للعلماء في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: وبه قال المالكية والشافعية: يجوز للحاكم التطليق على العاجز عن أداء المهر إذا طلبت المرأة ذلك، إذا كان الطلب قبل الدخول للعجز عن تسليم العوض مع بقاء المعوض، قياساً على البائع إذا لم يقبض الثمن حتى حجر على المشتري بالفلس والمبيع باق بعينه. ويمهل عند المالكية قبل الفسخ مدة يقدرها الحاكم باجتهاده، وعند الشافعية ثلاثة أيام، فإن قدر وإلا طلق عليه.
أما بعد الدخول فليس لها الحق في طلب الفراق، لتلف المعوض – البكارة – وصيرورة العوض ديناً في الذمة[166].
المذهب الثاني: وبه قال الحنابلة في أصح الأوجه عندهم: لا يجوز فسخ بالإعسار بالمهر؛ لأنه يعد ديناً فلا يفسخ النكاح به، كالنفقة الماضية، ولأن تأخيره ليس فيه ضرر مجحف بالمرأة، فلا فسخ به كذلك[167].
الفصل الثاني: الصور التي لم تذكر إلا في مذهب واحد:
وفيه مسألتان للمالكية فقط:
المسألة الأولى: الاختلاف في قدر المهر قبل البناء:(/19)
ذهب أكثر المالكية إلى أن الزوجين إذا اختلفا قبل الدخول والموت والطلاق في قدر المهر، بأن قالت: ثلاثين ديناراً، وقال: عشرين، أو اختلفا في صفته، بأن قالت: بعشرة دنانير يزيدية، وقال: محمدية، أو اختلفا في جنسه، بأن قالت بذهب، وقال: بفضة، ولا بينة لأحدهما أو لهما بينتان متكافئتان، حلفا معاً، وفسخ النكاح بينهما بحكم من الحاكم، وكذا الحكم إذا نكلا معاً، سواء أشبه قولهما ما تعارف عليه أهل بلدهما في أمر المهر، أو لم يشبها، فإن أشبه أحدهما فالقول قوله مع يمينه، ولا فسخ. هذا إذا كان التنازع في القدر والصفة، فإن كان في الجنس فسخ النكاح مطلقاً، حلفا أو أحدهما أو نكلا، أشبه قول أحدهما أو لا على الأرجح[168].
المسألة الثانية: إذا وطئ بعد الإشهاد على الطلاق:
إذا أشهد الزوج بينة على إقراره بالطلاق بأن قال: اشهدوا أني قد طلقتها ثلاثاً، أو طلاقاً بائناً، أو على إنشائه للطلاق بأن قال: اشهدوا أنها طالق، ثم وطئها وأنكر الشهادة؛ فرق الحاكم بينهما، واعتدت من يوم الحكم بشهادة البينة[169].
تم هذا البحث بحمد الله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] جامع الترمذي 3/411، الإشراف 4/45، شرح السنة 9/46، المغني 6/450، البناية 4/24.
[2] صحيح ابن حبان (موارد الظمآن) حديث 1247، الدارقطني 3/226، البيهقي 7/125، وإسناده صحيح، إرواء الغليل 6/258.
[3] المدونة 3/192، الإشراف 4/46، الكافي 2/519، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/216.
[4] هو: عبدالله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، ولد عام الهجرة بالمدينة، فكان أول مولود في الإسلام بها، وبويع بالخلافة عام 64هـ، وقتل شهيداً عام 73هـ، كان أحد الفرسان الشجعان، والعباد الزهاد، والتلاء لكتاب الله. الإصابة 2/309.(/20)
[5] هو الحسن بن علي بن أبي طالب، ولد في نصف شهر رمضان سنة 3 من الهجرة، كان من أشبه الناس برسول الله r، تولى الخلافة بعد استشهاد أبيه سنة 41هـ، ثم تنازل عنها في نفس السنة لمعاوية حقناً لدماء المسلمين بالمدينة، توفي بالمدينة سنة 49، وقيل 50هـ. الإصابة 1/329.
[6] وهم: سالم وحمزة ابنا عبدالله بن عمر، ومن غير التابعين: عبدالرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون. الإشراف 4/46، المغني 6/451.
[7] المصدران السابقان.
[8] صحيح مسلم 2/1045- 1046 حديث 1365.
[9] الإشراف 4/46.
[10] المغني 6/451.
[11] مصنف عبدالرزاق 6/231، الإشراف 4/41، المبسوط 4/226، المغني 6/510.
[12] هو: علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، أبو الحسن، أول الناس إسلاماً في قول كثير من أهل العلم، ولد قبل البعثة بـ 10 سنين، شهد مع الرسول r كل المشاهد إلا تبوك، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، ورابع الخلفاء الراشدين، قتل شهيداً في ليلة السابع عشر من رمضان عام 40هـ، وكانت خلافته 5 سنين إلا 3 أشهر ونصف. الإصابة 2/507.
[13] مصنف عبدالرزاق 6/231.
[14] المبسوط 4/226.
[15] هو: عطاء بن أبي رباح، شيخ الإسلام، ومفتي الحرم، كان مولى لبني جمح، ولد في خلافة عثمان، تابعي ثقة، توفي سنة 114هـ. طبقات ابن سعد 5/467، سير أعلام النبلاء 5/28.
[16] هو: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي المدني، أبو عبدالله، شيخ الإسلام، وحجة الأمة، وإمام دار الهجرة، أشهر من أن يعرف، ولد سنة 93هـ، وتوفي سنة 179. التاريخ الصغير 2/139، سير أعلام النبلاء 8/48، البداية والنهاية 10/199.
[17] المدونة 3/168، الإشراف 4/41.(/21)
[18] هو: عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، كانت إليه السفارة في الجاهلية بين قريش وغيرها، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، قتل شهيداً بالمحراب في ذي الحجة، سنة 23هـ، وله 63 سنة. الاستيعاب 3/1144، أسد الغابة 4/145، الإصابة 4/588.
[19] المدونة 3/169.
[20] المغني 6/510.
[21] هو: قتادة بن دعامة بن عزيز، حافظ عصره، قدوة المفسرين والمحدثين، أبو الخطاب السدوسي البصري، ولد سنة 60هـ، وتوفي سنة 117هـ. سير أعلام النبلاء 5/269.
[22] هو: أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلبي الشافعي الحجازي المكي، ثالث الأئمة الأربعة المشهورين، أخذ عن: مسلم بن خالد الزنجي، ومالك وغيرهما، وعنه: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والمزني وخلائق غيرهم، وهو أول من دون أصول الفقه في كتابه الرسالة، وله المسند والأم والحجة، ولد سنة 150هـ، وتوفي سنة 204هـ. التاريخ الصغير 2/275، حلية الأولياء 9/63، سير أعلام النبلاء 10/99.
[23] هو: أحمد بن محمد بن حنبل، أبو عبدالله، إمام السنة، ورابع الأئمة الأربعة المشهورين، ابتلي في فتنة خلق القرآن فصبر، له: كتاب المسند، والزهد، وغيرهما، ولد سنة 164هـ، وتوفي سنة 241هـ. طبقات ابن سعد 7/354، سير أعلام النبلاء 11/177.
[24] هو: الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، ولد في حدود 241هـ، له مصنفات نفيسة في اختلاف العلماء، كالمبسوط والأوسط والإشراف والإجماع وغير ذلك، أصبح الناس عالة عليها في هذا الفن، توفي سنة 318هـ. تهذيب الأسماء واللغات 2/196، سير أعلام النبلاء 14/490.
[25] الإشراف 4/42، المغني 6/511.(/22)
[26] هو: أبو حنيفة، إمام الملة، عالم العراق، النعمان بن ثابت بن زوطي التميمي الكوفي، أشهر من أن يعرف، أول الأئمة الأربعة المشهورين المتبوعين، ولد سنة 80هـ في حياة صغار الصحابة، ولم يثبت له عن أحد منهم سماع، وتوفي سنة 150هـ. تاريخ بغداد 13/323، سير أعلام النبلاء 6/390.
[27] مختصر الطحاوي، ص174، المبسوط 4/226.
[28] الإشراف 4/42.
[29] المصدر السابق.
[30] المدونة 3/168.
[31] المغني 6/511- 512.
[32] المصدر السابق.
[33] هو: شريح بن الحارث بن قيس الكندي، أسلم في حياة النبي r ولم يره، يعد من كبار التابعين الثقات، ولاه عمر قضاء الكوفة، توفي سنة 80هـ. طبقات ابن سعد 6/131، سير أعلام النبلاء 4/100.
[34] هو: حماد بن أبي سليمان بن مسلم الكوفي، مولى الأشعريين، العلامة الإمام، فقيه العراق، روى عن: أنس بن مالك وابن المسيب والشعبي وغيرهم، وعنه: أبو حنيفة والحكم والأعمش وآخرون، توفي سنة 119هـ وقيل 120هـ. طبقات ابن سعد 6/332، الجرح والتعديل 3/16.
[35] هو: عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، أمير المؤمنين أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الراشد، ولد سنة 63هـ، وتوفي سنة 101هـ لخمس بقين من رجب. سير أعلام النبلاء 5/269.
[36] الإشراف 4/42.
[37] سورة المسد، الآية 4.
[38] سورة التحريم، الآية 11.
[39] السفاح: الزنا والفجور. لسان العرب 2/485.
[40] السنن الكبرى للبيهقي 7/190، قال الألباني في الإرواء 6/329: (حسن).
[41] مجمع الأنهر 1/369، الأم 5/55، مغني المحتاج 3/193، المغني 6/613، 637.
[42] منح الجليل 3/362، المغني 6/636- 637.
[43] مجمع الأنهر 1/370، المدونة 2/312، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/269، مغني المحتاج 3/193، المغني 6/636- 637.
[44] مجمع الأنهر 1/369.(/23)
[45] المبسوط 5/45، المدونة 2/311، حاشية العدوي 2/65، الأم 5/55، الإشراف 4/208، مغني المحتاج 3/191، المغني 6/615.
[46] شرح السنة 9/94، المغني 6/614، الإشراف 4/210.
[47] الكافي 2/549.
[48] سورة الممتحنة، الآية 10.
[49] المغني 6/614.
[50] صحيح البخاري 6/172، البيهقي 7/187، الإشراف 4/208، شرح السنة 9/94، الفروع 5/247.
[51] هو: عبدالله بن عباس، ابن عم النبي r، حبر الأمة، وإمام التفسير، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، كان وسيماً جميلاً مديد القامة مهيباً كامل العقل ذكي النفس، وهو جد الخلفاء العباسيين، روى عنه: ابنه علي وعكرمة وكريب.. وخلق كثير، توفي سنة 68هـ. الاستيعاب 933، سير أعلام النبلاء 3/331، الإصابة 4/141.
[52] صحيح البخاري 6/172، البيهقي 7/187.
[53] حاشية العدوي 2/65- 66، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/267- 269.
[54] الموطأ 2/545.
[55] المبسوط 5/45- 46، البناية 4/316- 320.
[56] هو: الحسن بن أبي الحسن يسار مولى زيد بن ثابت، كان سيد أهل زمانه علماً وفضلاً، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، توفي سنة 110هـ. طبقات ابن سعد 7/156، سير أعلام النبلاء 5/563.
[57] هو: سعيد بن جبير بن هشام، الإمام الحافظ، المقرئ المفسر الشهير، أحد الأعلام والتابعين العظام، قتله الحجاج في سنة 95هـ. سير أعلام النبلاء 4/321.
[58] هو: طاووس بن كيسان، أبو عبدالرحمن الفارسي، عالم اليمن، الحافظ الثقة، من سادات التابعين، توفي سنة 106هـ. طبقات ابن سعد 5/537، سير أعلام النبلاء 5/38.
[59] هو: الحكم بن عتيبة، أبو محمد الكندي، الإمام الكبير، إمام أهل الكوفة، تابعي ثقة حجة، أخذ عن: أبي جحيفة السوائي، وشريح القاضي، والنخعي وغيرهم، وعنه: الأعمش، والأوزاعي وآخرون، ولد سنة 50هـ، وتوفي سنة 115هـ. التاريخ الصغير 1/311، سير أعلام النبلاء 5/208.(/24)
[60] هو: عبدالله بن شبرمة، الإمام العلامة، فقيه العراق، أبو شبرمة قاضي الكوفة، حدث عن أنس بن مالك، وأبي الطفيل عامر بن واثلة، والشعبي وغيرهم، وعنه الثوري وابن مبارك وآخرون، توفي سنة 144هـ. سير أعلام النبلاء 6/347.
[61] هو: إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي، كان حنفياً ثم شافعياً ثم استقل، كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً وفضلاً وخيراً، له مصنفات منها كتاب ذكر فيه اختلاف الشافعي ومالك، ولد سنة 170هـ، وتوفي سنة 240هـ. تهذيب الأسماء واللغات 2/200، البداية 10/365.
[62] الإشراف 4/208، المغني 6/616، فتح الباري 9/420.
[63] سورة الممتحنة، الآية 10.
[64] المغني 6/616، فتح الباري 9/420، عمدة القارئ 20/272.
[65] المدونة 2/211، الأم 5/84، مصنف عبدالرزاق 6/242، مصنف ابن أبي شيبة 4/175، الإشراف 4/76، المحلى 10/109، الكافي 2/565، الروض الندي ص363.
[66] الموطأ 2/526، مصنف عبدالرزاق 6/244، مصنف ابن أبي شيبة 4/175، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه بشرح السنة 9/112: ((رجاله ثقات)).
[67] الأم 5/84، مغني المحتاج 3/203.
[68] هو: عبدالله بن مسعود بن غافل بن حبيب، الإمام الحبر، فقيه الأمة، أبو عبدالرحمن الهذلي المكي المهاجري البدري، أحد السابقين الأولين والنجباء العاملين، هاجر الهجرتين، وأول من جهر بالقرآن، كان رجلاً نحيفاً قصيراً، شديد الأدمة، لا يغير شيبه، توفي سنة 32هـ. سير أعلام النبلاء 1/461، الإصابة 4/233.
[69] هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي، أحد التابعين المجمع على توثيقه وجلالته، ولد سنة 46هـ، توفي سنة 96هـ. طبقات ابن سعد 6/270، سير أعلام النبلاء 4/520.(/25)
[70] هو: عبدالله بن ذكوان، أبو عبدالرحمن القرشي المدني، الإمام الحافظ الفقيه المحدث المفتي الحجة، حدث عن: أنس بن مالك، وأبي أمامة بن سهل، وابن المسيب وغيرهم، وعنه: ابنه عبدالرحمن وموسى بن عقبة وآخرون، ولد سنة 65هـ، وتوفي سنة 130هـ، له كتاب في الفرائض، وكتاب الفقهاء السبعة. الجرح والتعديل 5/49، سير أعلام النبلاء 5/445.
[71] هو: عبدالرحمن بن أبي ليلى، أبو عيسى الأنصاري الكوفي، العلامة الإمام الحافظ الفقيه، من أبناء الأنصار، ولد في خلافة الصديق، حدث عن: عمر وعلي وابن مسعود.. وغيرهم، وعنه: عمرو بن مرة، والحكم بن عتيبة، والأعمش.. وآخرون، أدرك 120 من الصحابة، قتل بوقعة الجماجم سنة 82هـ بين عبدالرحمن ابن الأشعث والحجاج. سير أعلام النبلاء 4/262.
[72] مصنف عبدالرزاق 6/243، مصنف ابن أبي شيبة 4/175، المحلى 10/113.
[73] مصنف ابن أبي شيبة 4/176.
[74] المحلى 10/60.
[75] المبسوط 5/96.
[76] المغني 6/650.
[77] البناية 4/766.
[78] الكافي 2/565- 566، مغني المحتاج 3/250، المغني 6/656.
[79] الجب: القطع، والرجل المجبوب: المقطوع الذكر.
[80] العنة: مأخوذة من عنَّ، أي: اعترض ؛ لأن ذكره يعن إذا أراد إيلاجه، أي: يعترض، والعنن الاعتراض، فالعنين: العاجز عن الإيلاج. لسان العرب 13/390، المغني 6/667.
[81] هو: الإمام المجتهد المطلق الفقيه المحدث، قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن حبيش الأنصاري الكوفي، ولد سنة 113هـ، وتوفي سنة 182هـ. تاريخ بغداد 14/242، سير أعلام النبلاء 8/535.
[82] الرتق بفتح التاء: أن يكون الفرج مسدوداً بلحم، بحيث لا يدخل فيه الذكر. المغني 6/651، مغني المحتاج 3/202.
[83] القرن بفتح الراء وسكونها: ما يمنع سلوك الذكر في الفرج من عظم أو غيره. روضة الطالبين 7/177، البناية 4/764.(/26)
[84] هو: محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني مولاهم، صاحب أبي حنيفة، أبو عبدالله القاضي الفقيه المحدث، ولد بواسط سنة 132هـ، وتوفي بالري سنة 189هـ. تهذيب الأسماء 1/80، البداية والنهاية 10/230.
[85] البناية 4/763- 766، مجمع الأنهر 2/463.
[86] العذيطة بفتح الياء: التغوط عند الجماع. منح الجليل 3/381.
[87] الاعتراض عند المالكية: عدم انتشار الذكر. وعند الجمهور هو: العاجز عن إتيان النساء، وهو المراد عندهم بالعنين وصاحب العنة. البناية 4/756، مغني المحتاج 3/202، المغني 6/667.
[88] المراد بالعنة عند المالكية: صغر الذكر جداً الذي لا يتأتى به جماع. منح الجليل 3/382. وعند الجمهور: العنة والاعتراض شيء واحد كما سبق بيانه.
[89] لحم يبرز في قبل المرأة، ولا يسلم غالباً من رشح، وقيل هو: رغوة في الفرج تحدث عند الجماع. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/278.
[90] الإفضاء: اختلاط مسلك البول بمسلك الجماع، وصيرورتهما مسلكاً واحداً. منح الجليل 3/382.
[91] البخر: نتن الفرج. المصدر السابق.
[92] القرع: عدم نبات شعر الرأس من علة. المصدر السابق ص388.
[93] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/277، منح الجليل 3/379.
[94] روضة الطالبين 7/177، مغني المحتاج 3/203.
[95] وهو: انخراق ما بين مجرى البول ومجرى المني. المغني 6/651.
[96] المصدر السابق. الإنصاف 8/186.
[97] هو: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أحد التابعين الصغار والحفاظ الكبار، أول من دون الحديث النبوي، توفي سنة 124هـ في الشام. طبقات ابن سعد 2/388، الجرح والتعديل 7/71، البداية والنهاية 9/383.
[98] هو: العلامة الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، برع في علوم متعددة، ومن أبرز تلاميذ ابن تيمية، له مصنفات نافعة، منها: مدارج السالكين، وإغاثة اللهفان، وزاد المعاد.. وغيرها، ولد سنة 691هـ، وتوفي سنة 751هـ. البداية والنهاية 14/202.(/27)
[99] مصنف عبدالرزاق 6/162 رقم 10346.
[100] زاد المعاد 5/182.
[101] أحكام القرآن للجصاص 3/152، بداية المجتهد 2/98- 99، المغني 7/48، روضة الطالبين 7/370- 371.
[102] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/345، منح الجليل 3/550.
[103] الخلع في اللغة بضم الخاء: النزع، من قولك: خلعت النعل، وخلعت الثوب خلعاً إذا نزعته، وضم مصدر خلع الذي يراد به فراق الزوجة لزوجها على عوض ؛ للتفرقة بين الخلع الحقيقي الذي هو خلع الثوب ونحوه فإنه بفتح الخاء، وبين الخلع المعنوي الذي هو فراق الزوجة زوجها على عوض. والخلع مأخوذ من خلع الثوب ؛ لأن كل واحد من الزوجين لباس للآخر، فإذا فعلا الخلع فكأن كل واحد منهما نزع لباسه عن صاحبه.
والخلع في الاصطلاح: فراق الزوجة زوجته ببذل مقابل العوض يحصل لجهة الزوج. حلية الفقهاء ص170، لسان العرب 8/76، المصباح المنير 1/213، فتح الباري 9/395.
[104] المغني 7/52، الجامع لأحكام القرآن 3/137- 138، فتح الباري 9/396- 397، البناية 4/656- 658.
[105] هو: محمد بن سيرين مولى أنس بن مالك، كان فقيهاً عالماً ورعاً أديباً كثير الحديث حجة، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وتوفي سنة 110هـ. طبقات ابن سعد 7/193، سير أعلام النبلاء 4/606.
[106] فتح الباري 9/396، الجامع لأحكام القرآن 3/138.
[107] سورة البقرة، الآية 229.
[108] سورة النساء، الآية 35.
[109] المصدران السابقان.
[110] الجامع لأحكام القرآن 3/138.
[111] المولي هو: الحالف على عدم وطء زوجته أكثر من 4 أشهر. والإيلاء في اللغة: الحلف، يقال: آلى يولي إيلاء وإلية، والجمع ألايا، كما يقال: عشية وعشايا.
وفي الشرع: الحلف على ترك وطء المرأة، إما مطْلَقاً أو أكثر من 4 أشهر. حلية الفقهاء ص175، أنيس الفقهاء ص161، أحكام القرآن للجصاص 2/44، المغني 7/298، مغني المحتاج 3/343.(/28)
[112] ذهب جمهور العلماء إلى أن الرجل لا يسمى مولياً إلا إذا حلف على ترك وطء زوجته أكثر من 4 أشهر. وذهب الأحناف ومن قبلهم عطاء والثوري إلى أن المولي هو: من حلف على ترك الوطء 4 أشهر فصاعداً. وذهب عبدالله بن مسعود والنخعي والحكم وابن أبي ليلى وشريك القاضي وقتادة وعبدالله بن شبرمة وحماد ابن أبي سليمان وإسحاق بن راهويه: أنه إذا حلف على ترك الوطء في قليل أو كثير من الوقت، ثم تركها 4 أشهر كان مولياً. وهذه المذاهب ووجهة نظرها تأخذ من المصادر التالية:
مصنف عبدالرزاق 6/447، اختلاف العلماء للمروزي ص182، أحكام القرآن للجصاص 2/46، الإشراف 4/226، المغني 7/300، الجامع لأحكام القرآن 3/105، البناية 4/634، تكملة المجموع 17/300.
[113] الإشراف 4/230، المحلى 10/46، الكافي 2/599، المغني 7/330، مغني المحتاج 3/351.
[114] المصدر الأخير.
[115] الإشراف 4/230، البناية 4/635.
[116] هم: عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس. البناية 4/636.
[117] سورة البقرة، الآية 226.
[118] المصدر السابق.
[119] البناية 4/636.
[120] سورة الأنعام، الآية 164.
[121] سورة البقرة، الآية 227.
[122] المحلى 10/42- 43.
[123] المغني 7/331.
[124] الظهار في اللغة: مأخوذ من الظهر ؛ لأن صورته الأصلية أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، وخصوا الظهر دون البطن والفخذ وغيرهما لأنه موضع الركوب، والمرأة مركوب الرجل إذا جامعها.
وفي الشرع: تشبيه الزوجة غير المطلقة طلاقاً بائناً بأنثى تحرم عليه على التأبيد عند الجمهور، وعند مالك: لو شبهها بأجنبية كان ظهاراً أيضاً.
حلية الفقهاء ص177، لسان العرب 4/528، ترتيب القاموس 3/132، المغني 7/337، البحر الرائق 4/202، الجامع لأحكام القرآن 17/275، فتح الباري 9/433، مغني المحتاج 3/352.
[125] اختلاف العلماء للمروزي ص185، الإشراف 4/228، أحكام القرآن للجصاص 5/306- 307، مجمع الأنهر 1/448.(/29)
[126] أحكام القرآن للجصاص 5/307.
[127] اختلاف العلماء للمروزي، ص185، الإشراف 4/229.
[128] المدونة 3/61، اختلاف العلماء للمروزي ص185، حاشية الدسوقي 2/433.
[129] اختلاف العلماء للمروزي ص185.
[130] اللعان في اللغة: مشتق من اللعن، وهو: الطرد والإبعاد، وسمي اللعان بين الزوجين بذلك لبعدهما عن الرحمة، أو لبعد كل منهما عن الآخر، فلا يجتمعان أبداً، إذ أنه يفرق بينهما بعد اللعان.
وفي الشرع: شهادات مؤكدات بأيمان من كل من الزوجين مقرونة بلعن من جانب الزوج أو غضب من جانب الزوجة، قائمة مقام حد قذف أو تعزير في جانبه، وحد زنا في جانبها.
حلية الفقهاء ص182، لسان العرب 13/387، أنيس الفقهاء، ص162، عمدة القارئ 20/289، الإشراف 4/269، الروض الندي ص419، حاشية ابن عابدين 3/482.
[131] المدونة 3/107، المحلى 10/143- 144، المغني 7/410، الجامع لأحكام القرآن 12/193، الروض الندي ص421.
[132] هو: عويمر بن الحارث العجلاني. صحيح مسلم 2/1132، الإصابة 3/45.
[133] الجامع لأحكام القرآن 12/194.
[134] فتح الباري 9/459.
[135] الجامع لأحكام القرآن 12/193، البناية 4/740.
[136] هو: سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبدالله الثوري الكوفي المجتهد، إمام الحفاظ، وسيد العلماء، له كتاب الجامع، ولد سنة 97هـ، وتوفي سنة 161هـ. تاريخ خليفة ص319، سير أعلام النبلاء 7/229.
[137] صحيح البخاري 6/181، صحيح مسلم حديث (1493).
[138] الجامع لأحكام القرآن 12/193.
[139] صحيح البخاري 6/181، صحيح مسلم حديث (1493).
[140] من مشاهير الصحابة، توفي رسول الله r وعمره 15 سنة، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة سنة 91هـ. الإصابة 2/88.
[141] صحيح البخاري 6/178، صحيح مسلم حديث (1492).
[142] المغني 7/410.
[143] الأم 5/291، فتح الباري 9/459.
[144] الجامع لأحكام القرآن 12/193.(/30)
[145] هو: عثمان بن مسلم بن جرموز البتي، من فقهاء البصرة من صغار التابعين، حدث عن: أنس بن مالك وغير واحد من التابعين، توفي سنة 143. سير أعلام النبلاء 6/148، تهذيب التهذيب 7/139.
[146] هو: جابر بن زيد الأزدي اليحمدي، مولاهم البصري، عالم أهل البصرة في زمانه، من كبار تلاميذ ابن عباس، توفي سنة 93هـ. سير أعلام النبلاء 4/481.
[147] المغني 7/411، الجامع لأحكام القرآن 12/194.
[148] وكذا المفقود في أرض الكفر عند المالكية، لصعوبة الكشف عنهما. الكافي 2/568- 569، المغني 7/488، البناية 6/64، مغني المحتاج 3/397.
[149] مصنف ابن أبي شيبة 4/236، المحلى 10/140، الإشراف 4/103، البناية 6/64، مغني المحتاج 3/397.
[150] الإشراف 4/103- 104، البناية 6/66.
[151] الروض الندي ص342.
[152] الكافي 2/567.
[153] مصنف ابن أبي شيبة 4/237.
[154] وعندهم أيضاً: إذا لم يكن لزوجة الأسير والمفقود نفقة أو خشيت كل منهما الزنا وطلبتا الفراق فرق القاضي بين كل منهما وزوجها. حاشية العدوي 2/86- 87.
[155] المغني 7/489.
[156] الخرشي 4/154.
[157] مصنف عبدالرزاق 7/85، الإشراف 4/103، المحلى 10/139.
[158] المغني 7/573- 576، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/518- 519، مغني المحتاج 3/442- 444.
[159] سورة البقرة، الآية 231.
[160] سورة البقرة، الآية 229.
[161] مسند الشافعي 2/65، وعنه البيهقي 7/469، وقال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج 3/442: صحيح الإسناد.
[162] مسند الشافعي 2/65، وعنه البيهقي 7/469، وهو صحيح، إرواء الغليل 7/228.
[163] المغني 7/547، مغني المحتاج 3/442.
[164] سورة الطلاق، الآية 7.
[165] أحكام القرآن للجصاص 5/361، البناية 4/870، الفقه الإسلامي وأدلته 7/512.
[166] الكافي 2/560، مغني المحتاج 3/442.
[167] المغني 7/579.
[168] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/233، منح الجليل 3/517- 518.(/31)
[169] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/354.(/32)
العنوان: الصوم جزء من نظام كامل للحياة
رقم المقالة: 1389
صاحب المقالة: الشيخ محمد المبارك
-----------------------------------------
إن رياضة الأجسام وتدريبها على أنواع التمارين ليست إلا وسيلة لتقويتها وتهيئتها لحسن القيام بوظيفتها في الحياة العملية، وليس التدرب على الرمي واستعمال السلاح وسيلة للتسلي، أو غاية في ذاتها وإنما هو وسيلة لرد الاعتداء والدفاع عن النفس والوطن، وكذلك العبادات ليست غاية في ذاتها وإنما هي نوع من الرياضة التي تعالج النفس من بعض نواحيها، وتربيها وتعدها لغايات أخرى، وقد جاءت هذه الفكرة واضحة في القرآن الكريم، ولم يكن الانحراف عن هذا الفهم إلا مظهراً من مظاهر الانحطاط في بعض العصور.
إن الآية التي تفرض عبادة الصوم في الكتاب المبين وردت في سورة مدنية هي (سورة البقرة)، وإذا أردنا أن نفهمها حق الفهم وجب علينا أن نقرأ ما سبقها وما تبعها من الآيات، وحينئذ تتجلى لنا حكمة هذه العبادة وتتبين لنا النتائج التالية:(/1)
1 – لقد تقدم آية الصوم في السورة نفسها آيات منها قوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان} وبعد ذلك بثلاث آيات قوله أيضاً: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} فهذه الآيات تدل على أن الصوم ليس هو الأصل في حياة الإنسان، بل الأصل إباحة الطعام، وإن قاعدة الفطرة الإنسانية السليمة هي في الأخذ مما سماه الله الطيبات، وجعله مستحقاً لشكر الإنسان له، ومن هنا يستنتج أن الكف عن الطعام -أعني الصوم- استثناء من القاعدة ودواء مؤقت لعلة تستوجبه ولحكمة تقتضيه، وأنه مقيد في حدود العلة أو الحكمة التي من أجلها فرض ووضع في موضعه من النظام الإنساني، ولذلك جاء في آية الصوم النص على تحديد زمنه {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات} ولذلك كان صوم الدهر أمراً مكروهاً في الإسلام ،وقد نبه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على ذلك بصراحة في قوله: ((من صام الأبد فلا صام ولا أفطر))، وفي رواية أخرى ((لا صام من صام الأبد)).
2 – لقد ورد قبل آية الصوم ببضع آيات آية تنص على قاعدة عامة في العبادات، وأنها ليست مقصودة في ذاتها، بل هي جزء من نظام عام ولا قيمة لها في ذاتها إذا أهملت بقية أجزاء هذا النظام وعطلت؛ قال تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}.(/2)
تحدد هذه الآية حقيقة البر وتنفي ما يفهمه الناس من أن البر والصلاح هو بمجرد إقامة بعض الشعائر فتقول أن البر ليس في التوجه إلى جهة معينة إشارة إلى استقبال القبلة في الصلاة وهذا المعنى وارد في آيات أخرى كقوله تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} وقوله: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله}.
ثم تعدد الآية عناصر البر وهي:
1 - الإيمان بالله وحسابه وما يتبع ذلك.
2 - بذل المال في وجوه عديدة ذكرها.
3 - إقامة الصلاة.
4 - الوفاء بالعهد.
5 - الصبر في كل الأحوال وخاصة في الشدة والحرب.
وقد ختمت الآية بما يؤكد معناها وفكرتها الأساسية ذلك أنها وصفت المستجمعين لهذه العناصر بالصدق والتقوى على سبيل الحصر وكأنها نفت هذه الصفة عن غيرهم ممن يكتفون بظاهر العبادات.
وأما ما جاء بعد آيات الصوم من آيات فقد تضمنت أموراً اجتماعية خطيرة، الأمر الأول منها: النهي عن أكل الأموال بالباطل ويدخل تحت هذا العنوان جميع أنواع المظالم المالية: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}.
والأمر الثاني: القتال في سبيل الله رداً للمعتدين: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وحماية لحرية العقيدة حتى لا يفتن المؤمن عن إيمانه {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}.
والأمر الثالث: الإنفاق في سبيل الله: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} والهلاك هنا على ما فسره كثير من الصحابة هو البخل عن الإنفاق في سبيل الله وخاصة في الجهاد ومقاتلة العدو.(/3)
هذه هي الآيات التي أحاطت بآيات الصوم وتضمنت هذا المعنى الهام وهو أن الصوم ليس عبادة مستقلة مقصودة لذاتها وإنما هي جزء من نظام له أجزاء أخرى وليست منفصلة عن النظام الاجتماعي فالعدالة الاجتماعية والامتناع عن الظلم في الأموال والقتال في سبيل صد العدوان وحماية العقيدة وبذل المال في سبيل المصلحة العامة وخاصة في سبيل صد الاعتداء هي الغايات المقصودة من تربية النفس على كف الشهوات وإمساكها عن الملذات وترويضها على التضحية بها في سبيل ما هو أعظم منها.
وقد فرض الصوم في السنة الثانية للهجرة في وقت كان القتال قد سمح به لصد الاعتداء وكان إنفاق المال ضرورياً لبقاء المجتمع الإسلامي الجديد لا مجرد صدقة على سائل أو فقير وكان الجو كله جو تضحية وجهاد بالنفس والمال، في مثل هذا الظرف بالذات فرض الصوم، وجعل عبادة أساسية من العبادات، ووضع في مكانه من هذا النظام العام المشتمل على الجهاد والإنفاق وبذل المال، ليكون تمريناً للنفس وتدريباً وتربية لها وترويضاً، لا لمجرد الزهد في طيبات الحياة. كما يؤكد هذا المعنى ما ورد من أن أحد الصحابة في أثناء إحدى المعارك مر بغار فيه ماء فحدثته نفسه أن يقيم فيه، ويصيب مما حوله من بقل ويتخلى عن الدنيا، ولكنه حين استشار النبي صلوات الله عليه قال له: "إني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفسي بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصغار – أي في صف القتال – خير من صلاته ستين سنة (مسند الإمام أحمد ج5 ص266).(/4)
وقد فرض الصيام على مرحلتين؛ كان في الأولى منهما على سبيل التخيير، إذ كان المرء مخيراً بين أن يصوم أو أن يطعم مسكيناً فيجزيء ذلك عنه كما روى ذلك البخاري في أحاديث متعددة عن الصحابة في تفسير قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ثم كان في المرحلة الثانية فرضاً محتماً فنسخت هذه الآية بالآية التالية {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} فلم يستثن إلا المريض والمسافر وذلك نفياً للحرج والتضييق ورغبة في التيسير وتكليف الإنسان بما يطيق من التكاليف {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
وقد تلت هذه الآية آية تذكر بأن الصوم عبادة تقرب من الله وتثير في النفس معاني الصلة به وتشير إلى أن الأصل في العبادات تفتح القلب وتوجهه إلى الله ومناداته ومخاطبته ودعائه واستشعار وجوده.
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}.(/5)
وهذه الآية الرائعة التي تصور حقيقة الدعاء وأنه ليس مجرد كلام بل يجب أن يسبق من قبل الإنسان باستجابة لله وتلبية وليس من المعقول أن تطلب من أحد أن يلبيك ويجيبك وأن لا تجيبه أنت إذا دعاك فلنستجب وليست هذه الاستجابة أمراً سهلاً فإنها تتضمن تنفيذ أوامر الله وانصراف النفس البشرية إلى تحقيق الرسالة التي أمره الله بالقيام بها وأداء الأمانة التي كلفه بها سواء في حياته الشخصية أو في حياته العامة بين بني جنسه من البشر لقد اشترط لتلبية الدعاء الإيمان به والاستجابة له ليصل البشر إلى الرشاد والسداد ليس الدعاء كلاماً مجرداً يعقبه إجابة الطلبات فإن لذلك ثمناً عظيماً إنه الفعالية التي يبذلها الإنسان في حياته في سبيل ما يرضي الله إنه الجهاد الذي أمر الله به في هذه الحياة، جهاد النفس وشهواتها، جهاد الأهواء الغالبة والملذات المستأثرة وجهاد الظلم ومكافحته، وجهاد الباغين المعتدين من الأعداء، جهاد إقامة العدل والدفاع عن الحق والفضيلة إن الدعاء الرخيص بمجرد رفع الأيدي وتحريك اللسان دون العمل لا يعدل شيئاً ولا يرجى منه نتيجة وإنما الدعاء بذل الجهد والتوجه إلى الله بالقلب والشعور وبالعمل والجوارح والاستجابة لدعوة الله {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}.
ذلكم رمضان في صورته الكاملة وفي المخطط العام لنظام الإسلام فإلى دعوة الحياة إلى معارك النصر إلى لقاء الله إلى جنات الخلد أيها المؤمنون.(/6)
العنوان: الصومُ مدرسةُ الأخلاق
رقم المقالة: 1479
صاحب المقالة: علي إسماعيل
-----------------------------------------
روى البخاريُّ ومسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((..الصيام جنة؛ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتلة أو شاتمة فليقل: إني صائم.. إني صائم، والذي نفسي بيده لَخُلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؛ يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزى به الحسنة بعشر أمثالها..)).
ولنُجوّل في معنى الحديث السابق حتى نقف على بعض هذه الصور من الأخلاق والأساليب التربوية الراقية، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- (الصوم جنة) هذه أولى مظاهر التربية الإسلامية؛ إذ إن الصوم جُعل وقاية للصائم من الضلال ومن المعاصي ومن الزيغ، وحصنا منيعاً له من النار؛ لأن الصوم أدعى إلى التوبة وإلى طاعة الله عز وجل والانقياد إلى ما يرضى الله؛ لأنه هو السر العظيم بين العبد وخالقه.
في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن عبد الله بن مسعود: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن شباب لا نقدر على شيء؛ فقال: ((يا معشر الشباب عليكم بالباءة؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع منكم الباءة فعليه بالصوم؛ فإن الصوم له وجاء)) اللفظ للترمذي، ((والباءة)) كناية عن النكاح، ومعنى (وجاء) أي كسر شديد يذهب بشهوته.
أعظم صور التربية والأخلاق:(/1)
للإمام أبي حامد الغزالي –رحمة الله عليه– رأي في حقيقة الصوم أورده في كتابه «إحياء علوم الدين» إذ قسّم الصوم إلى ثلاث درجات صوم العموم.. وصوم الخصوص.. وصوم خصوص الخصوص، وقال عن صوم العموم: إنه كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.. وقال عن صوم الخصوص: إنه كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن ارتكاب الآثام.. وقال عن صوم خصوص الخصوص: إنه صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية.
والأنسب لشرف الصوم وسمو مكانته أن يكون مفهومُه مستوعباً ذلك كله.. إذ الصوم بمعناه الحقيقي إمساكٌ عن كل ما حرم الله من قول أو فعل أو تفكير.. إمساكُ النفس عن المعاصي والشهوات، وكبح جماحها عن الشطط والانحرافات وإمساك الجوارح عن كل ما فيه إضرار بالناس أو إغضاب لله.. وإمساكُ الخواطر عن التفكير إلا فيما يرضي رب العالمين؛ لأن الطهر اللازم للصوم يحتم أن يضع المرءُ نصبَ عينيه لكمال صيامه ما أفاده الذكرُ الحكيم من قول رب العالمين: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].(/2)
وعلى هذا.. فإن الصوم ليس الهدفُ منه مجرد الجوع والظمأ وحبس النفس عن شهواتها كما تعود ذلك الكثيرون من الناس الذين لم يراعوا للصوم آدابه، ولم يتفهموا أهدافه، ولم يتبينوا مقاصده، ولم يدركوا أصوله.. فكان صومُهم أشبه بكلام الببغاء، أشبه بحركة آلية.. لم تصل إلى قرار النفس، ولم تمازج شَغاف القلب، ولم تختلط بالوجدان، ولم تؤثر في السلوك.. فالصوم.. يهدف إلى ما هو أسمى من ذلك وأعظم.. إذ هو مدرسة للتربية على الجلد والصبر؛ يحارب الصائم فيه نزواتِه في معركة ضارية شرسة مع أهوائه ونزعاته.. طامعاً في أن ينتصر بنفسه على نفسه.. يزكيه عقلُه ويحفزه دينُه.. فطعامُه بين يديه وشرابه ليس بعيداً عليه، وزوجته قريبة منه.. ونفسه تسوّل له أن يسد جوعته، وأن يروى غلته، وأن يطفئ ظمأه ويقضي شهوته.. ولكنه أمام كل هذه الشهوات المغريات يصارع أهواءه، ويحارب شيطانه، وكلما استهواه ذلك عاود الصراعَ من جديد بعزم شديد وإرادة من حديد، وبدافع من دينه ووازع من ضميره وسند من يقينه، فتتربى فيه الإرادةُ القوية والعزيمة الراسخة الصادقة.. فلا يتسرب اليأسُ إلى نفسه، ويدب الخور والضعف فى إرادته، وإنما يحمل راية الكفاح يدعمه طموحُه، ويواصل الجهاد يسانده ثباته، وتلازمه تقواه..
وإذا ما تمكن الإنسانُ من الانتصار على نفسه هان عليه الانتصارُ على عدوه وخصمه؛ فالنفسُ ميدان الجهاد الحقيقي والأعظم للإنسان، والإنسانُ إذا ما جاهد نفسه وأمسك بزمام هواه وتحكم في ميله ورغباته، وسيطر على مداخل الشر في باطنه، فإنه بذلك يكون قد حقَّق أعظمَ انتصار!!(/3)
قال ابن قيم الجوزية في كتابه (زاد المعاد): وللصوم تأثيرٌ عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوة الباطنة وحمايتها عن التخليط الجالب لها المفاسدَ التي إذا استولت عليها أفسدتها واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها؛ فالصوم يحفظ على الجوارح صحتَها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
هذه بعضُ جوانب التربية الروحية والنفسية والجسدية والعقلية المتمثلة في الصوم وأسراره، فالحمدُ لله الذي أعظم على عباده المنةَ إذ جعل الصومَ حصنًا لأوليائه، وجنة لهم من الشرور والآثام، وفتح لهم أبوابَ الجنة، وعرّفهم بأن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات، وبقمعها تصبحُ النفسُ المطمئنةُ قوية الشوكة، ويكفي ما وعدنا الله به على لسان رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ((للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)).
من أخلاق الصائم الورع:
منذ فُرِض الصيامُ في العام الثاني للهجرة النبوية والمسلمون -أفراداً وجماعاتٍ وأممًا- يتنافسون في تحصيل الخير فيه، ويحرصون على نيل رضا الله في شهر الصيام، ولما كانت الغايةُ في الصيام هي التقوى وهي جماع كل خير، فدونك أهمَّ ما يجب أن تلتزم به النفوسُ في صومها كي تتحقق لها تقواها ويتأكد لها ورعُها وتشملها خشيةُ الله ظاهراً وباطناً:
أولاً: غض البصر وحفظه عن كل ما حرَّم الله، وعن كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله، وما أكثر ما يلهي ويصد عن ذكر الله في تلك الحياة التي أخذ الشيطانُ فيها على عاتقه أن يضل عباد الله ويمنيهم بالأماني الكاذبة حتى لا يوجد أكثرهم وهم شاكرون.(/4)
ثانياً: حفظ اللسان عن الهذيان والفحش والجفاء والمراء، والخصومات ولغو الكلام، وإلزامه السكوت إلا عن ذكر الله والكلمة الطيبة، وتلاوة القرآن والنصح لكل مسلم، وأن ينشغل بكل نافع حتى يكون غرسه الكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، حتى تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ثالثاً: كف السمع عن الإصغاء لكل ما هو مكروه؛ لأن كل ما حرُم قوله حرُم الاستماع إليه، ولقد سوّى الله تعالى بين المستمع للحرام والآكل له؛ فقال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، ونهانا أن نقعد مع الذين يخوضون في آيات الله ويستهزئون بها حتى لا نكون مثلهم فقال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].
رابعاً: كف بقية الجوارح عن الآثام وعن المكاره، وكف البطن والفرج عن الحرام؛ إذ إن هذه الأعضاء هي ودائعُ الله الغالية التي استودعها الله عند العبد، ومقتضى الحياء من الله تعالى أن يستخدمها العبدُ فيما خلقت من أجله، وهى ما خلقت إلا للعبادة؛ كما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((استحيُوا من الله حقَّ الحياء، قلنا: إنا نستحيي من الله يا رسول الله –والحمد لله– قال: ليس ذلك، الاستحياءُ من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) رواه الترمذي وضعفه.(/5)
خامساً: أن تعلق النفوس قلوبها بين الخوف والرجاء؛ فإن أحداً لا يدري أقُبِل صومه أم رُدّ عليه، والله تعالى هو القائل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر: 47-48]، وهو الذي يقول في كتابه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103].
سادساً: أن تحرص كل نفس على أداء ما افترض عليها من ربها وما أرشدها إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألا ترى لذلك مِنّة لها، بل عليها أن ترجو القبول من الله، وتخشى على عملها الحبوط من حيث لا تشعر.
ولقد كان من سبقونا يعملون وهم على خوف ووجل خشيةَ ألا تقبل أعمالُهم وأن ترد عليهم، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60-61]. قالت: يا رسول الله، أهم الذين يشربون الخمر، ويسرقون ويخافون ألا تقبل توبتهم؟ قال لها: ((لا يا ابنة الصديق، بل هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخافون ألا يقبل منهم))، رواه الترمذي.(/6)
العنوان: الصّيامُ.. آداب وعِبَر
رقم المقالة: 1335
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
إنّ نفوساً تتلذّذُ بالعبادة، وتتجمّلُ بالتّقوى، وتعطّرُ أنفاسَها بالذّكر، وتُغذّي أرواحَها بالصوم لهي نفوسٌ زكيّة طاهرة...
حسبُها شرفاً تلكمُ القلوبُ أن تنبض بحُبّ الخالق، وحبِّ من يحبُّ الخالق، وفعلِ ما يحبّ الخالق ورسوله محمد صلى الله عليه وسلّم...
ما أسمى تلك النفوسَ إذ آثَرت غذاءَ الروح على غذاءِ الجسد، ومشقّةَ الصّيام على لذّةِ الطّعام، والخلوةَ بتفكّرٍ مع الأفهام على المجالسةِ للتفكّهِ مع الأنام .
حَرَمَت شرايينَها الغضّة مذاقَ الشّراب لتملأََها بالذّكر، وتؤنسَها بالقرآن الذي إنما هو شفاءٌ ورحمةٌ ونورٌ ومنهاجُ حياة.
ما أندى تلك الألسنَ التي هذّبها الصومُ، فباتت لا تنطقُ إلا بالحقّ، ولا تقولُ إلا ما يرضي الحقّ جلّ وعلا.
ما أروعَ تلك العيونَ التي تغضُّ الطّرف وقاراً وخشيةً، وتحجُب مآقيَها عن كلّ نظرةٍ مُريبة، فصارت مآقيها أنقى من البِلَّور وأصفى من وجهِ القمر، وأكثرَ بريقاً من شعاع النّجوم في الليالي المظلمة.....
يا لروعةِ شهرِ الصّوم الذي شهدَ نزول القرآنِ برَحَماته وتبيانه ومنهاجه القويم ..
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كُتبَ عليكم الصّيام كما كُتبَ على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون}[1].
إنّ السّماوات لتبتهجُ، وإن الأرضَ لتُسرُّ، وإن رياضَ المساجد لتفرحُ... وإن آفاقَ الكون لتفتحُ ذراعي المدى لتحتضنَ صدى المآذن المشتاقةِ التي لا تفتأ تردّدُ نداءَ الحقّ...
فلو سألت الورودَ عن شعورها في رمضان، وقُدّرَ لها أن تجيبَ لباحت بأعطر الصّور وأرقّ التعابير... ولو سألت الكناري والحبارى عن شعورها في رمضان لأنشدت شعراً يعجز أن يأتي بمثله فحولُ الشّعراء وأساتذةُ البيان...
في رمضانَ رحماتٌ تتنزّل، وأنوارٌ تتهلّل، وسماوات تتجمّل، وجنانٌ تتزيّن.(/1)
في رمضان، تتلاشى الرذائلُ، وتضمحلّ الشرور، وتصفّدُ الشياطين، وتستحي النار من لهيبها، والنفوسُ من أخطائها، والسجونُ من سلاسلها، والوحوشُ الكاسرة من براثنها ومخالبها...
في رمضانَ نفوسٌ تزكو وتصفح، وهممٌ تعلو، وقلوبٌ تحيا، وأرواحٌ تتألّق، ومساجدُ تُعمَرُ بالعبادة، ومنابرُ تبتسم...
قال النبيّ -صلى الله عليه وسلّم-: "إذا كان أولُ ليلةٍ من شهر رمضان، صُفّدت الشياطين ومَرَدَةُ الجنّ، وغُلّقت أبواب النّيران فلم يُفتَح منها باب، وفُتّحت أبواب الجنّة فلم يُغلَق منها باب، وينادي مُنادٍ: يا باغيَ الخير أقبِل ويا باغيَ الشرّ أَقْصِر، ولله عُتقاءُ من النار، وذلك كلّ ليلة"[2].
حبا الله شهرَ رمضانَ خصوصيّاتٍ سامية، ومكرماتٍ عالية فَسَحَرُهُ ليس كالأسحار في الشهور الأخرى.. حيث يعبقُ بالنفحات الإيمانية، ويتكلّلُ بمعاني الروعة الجليلة... وفَجره ليس ككلّ فجر؛ إذ يخيّلُ إليكَ أنّ النّسائمَ تنفحُ من الجنّة، وتظنّ أنك ماشٍ في عَرصاتها جالسٌ على أرائكها متفيّىءٌ ظلالها...
وماذا عن مغربها الذي يتمنّى ألا يرحل ...كيف يتمنّى وقتٌ كهذا الرحيلَ وقد تشبّعت ثوانيِه ودقائقُه بأعطر المعاني الإنسانية، وأنبلِ صور العبودية للخالق...
في رمضانَ يزداد الأصيلُ نقاءً، والقمرُ حُسناً، والفجر ندىً، ورمالُ الشواطئ تعشوشبُ وتزدهي، والجبال الراسيات تخلعُ عن نفسها الهيبة لتتحوّل إلى جدران صدّ طريّة تتلذّذ بصدى أذان الفجر، ثمّ تبعثُه إلى الكون من جديد ممزوجاً بالمحبة، وتنحني من الهيبة والروعة التي تكتَنِفُ الكون عند أذان المغرب...
إنّ ظلمة الليل لتبدّدُ خيوطَ العَتَمة لتبدو مأنوسةً مألوفةً للمشّائين في الظلمات وقائمي الليل والمستغفرين بالأسحار..(/2)
وإنّ شمسَ النّهار لتزيدُ من سُطوعها وإشراقها لترى بجلاءٍ ووضوح ملامحَ الحسن المتبدّية على وجوه الصّائمين والصّائمات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات فَتَقْبِسَ من بهائها قَبساتٍ من الضّياء المشرق...
وماذا عن المسجد في رمضان، بأنواره المعلَّقة على جبين المآذن كأنها النجوم في توقّدها.
حقا إنه خميلةٌ تفوحُ بأطيبِ العبير.. نعم إنه خميلةٌ وزُواره أشبهُ بالبلابل التي تغردُ، وبالنحلاتِ التي تجمعُ الرحيق وهي تتنقّل بين سور القرآن الكريم وأحاديث خير المرسلين.
وماذا عن المئذنة حيث يرتفعُ من خلالها أذانُ الحق مدوِّيا، يخترقُ الآفاق، وتتغلغلُ كلماتهُ مع النسيم المعطَّر، لتحرِّكَ شوق المحبين للقاء الخالق عزَّ وجل.
وماذا عن ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألفِ شهر؟ إنها هديّةُ الكريم إلى عباده المجدّين الذين خافوا فأدلجوا فبلغوا المنزل. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: "من يَقُم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه"[3].
فالصّيام نظامٌ تعبّدي وغذائي إلهي أقرّ بفوائده -التي لا حصْرَ لها ولا عدَد- أطباءُ المشرق والمغرب، إذ تزداد الأجسام حيويّة ونشاطاً وتوقّداً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: "الصّوم جُنّة"[4].
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى: "وللصوم تأثيرٌ عجيبٌ في حفظِ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحِمْيَتِها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفْسَدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحّتها، فالصوم يحفظُ على القلب والجوارح صحّتها، ويعيدُ إليها ما اسْتلبتْهُ منها أيدي الشّهوات، فهو من أكبر العون على التقوى"[5].(/3)
ثمّ ألا يكفي الصّائمين فخراً ما ورد في الحديث القدسي كما في صحيح البخاري: "كلّ عملِ ابنِ آدَمَ له إلا الصّيام فإنّه لي وأنا أجزي به، والصّيامُ جنّة؛ وإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخَب، فإن سابّه أحدٌ أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخُلوف فم الصّائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطرَ فرحَ وإذا لقيَ ربّه فرحَ بصومه"[6].
يا لعظمة هبات الرحمة الإلهية! يا لَلُطف اللطيف، ويا لرحمة الرّحمن بعباده عندما يأذن للمرضى والمسافرين وأهل الأعذار من عباده بالإفطار.. قال تعالى: {أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ له وأََن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون}[7].
وما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- كما في صحيح البخاري: "من صامَ رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه"[8].
فما أسعَدَ داود بصيامه، وما أشدّ فرحَه بثوابه الذي يَعدِل الدّنيا وما فيها، والموفّق والمسدّد من العِباد مَنْ وفّقه الله فحافظ على صيام أيام البيض؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، وركعتي الضّحى، وأن أوتِرَ قبلَ أن أنام"[9].
وقال الشاعر[10]:
يحلو السجودُ إذا البشائرُ هلّلت وتَضَمَّخت بنسائمِ الإيمانِ
ويصيُر كلُّ الكون يأمنُ بعضه بعضاً إذا هبَّت صَبا رمضانِ
وتُفتِّحُ الفردوسُ أبوابَ الرضا وتدفَّقُ البركاتُ في الريّان
ما أحسنَ الإنسانَ حين تقودُه نحوَ الحياة مبادئُ القرآن(/4)
وآخر رمضان ليس عتقاً من النار فحسب، ولكن عيداً يبتهج فيه المسلمون ويقطفون فيه ثمرات أعمالهم، عيدٌ يرسُمون فيه أطيب الابتسامات على الوجوه، ويصلون فيه الرحم، ويكرمون الأيتام، ويخففون عن المبتلين والحزانى... يوم العيد مشهد إسلامي رائع، وحكمة ربّانية تفيض بالرحمة والرّضا... إنّه يوم الجائزة الغالية لديهم.
اللهم اجعلنا ممن إذا صلّى قبلتَ صلاتَه، وإذا صامَ قبلتَ صومَه، واجعلنا يا ربّنا مفاتيحَ للخير، مغاليقَ للشرّ، إنّك وليّ ذلك والقادر عليه...
والحمد لله ربّ العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة البقرة ( الآية 183).
[2] أخرجه الترمذي، أبواب الصّوم، باب: ماجاء في فضل شهر رمضان، برقم (682)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي بكر بن عياش أهـ. ثمّ ذكره رحمه الله - مصحّحاً له- مرسلاً عن مجاهد رحمه الله.
[3] من كتاب الصوم جُنّة، د. خالد الجريسي ص: 183، الحديث متّفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أخرجه البخاري؛ كتاب الإيمان، باب: قيام ليلة القدر من الإيمان، برقم (35)، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان، برقم (760).
[4] كتاب الصّوم جُنّة، د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي، أخرجه البخاري في كتاب الصّوم، باب: فضل الصّوم، برقم 1894، ومسلم بلفظ :" الصّيام جُنّة".كتاب الصيام، باب: فضل الصيام، برقم (1115).
[5] كتاب الصوم جنّة، تأليف، د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي، ص: 182.
[6] صحيح البخاري. المجلّد الثاني، ص: 31-32 رقم الحديث 1904 ترقيم فؤاد عبد الباقي الطبعة السّلفية 1403هـ/ متّفق عليه.
[7] سورة البقرة ( الآية 184).(/5)
[8] رواه البخاري في كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً، رقم الحديث 1901 (ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي) المجلد الثاني ص: 31 طبعة المكتبة السّلفية 1403هـ. ورواه مسلم في كتاب الصيام باب فضل الصيام...
[9] متّفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صيام أيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، برقم (1981). ومسلم؛ كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضّحى، برقم (721).
[10] أبيات الشّعر لكاتب المقالة.(/6)
العنوان: الصيام بين الإيمان والعلم
رقم المقالة: 1394
صاحب المقالة: د. نبيل الطويل
-----------------------------------------
صيام رمضان ركن من أركان الإسلام؛ يقوم به المسلم المؤمن إطاعة لأمر الله، وبلاغ رسوله الكريم، بتسليم كامل لا يخالطه شك، ولا يتطرق إليه ريب، وبما أن الإسلام يُسر ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لذلك فالضرورات التي يقدرها الإسلام سمحت لمن لا يستطيع الصيام في حينه أن يفطر ويعوض ذلك في وقت آخر، أو أن لا يصوم أبداً إذا كان السبب دائماً. فيدفع –القادر على ذلك– كفارة تؤول للمحتاج في المجتمع الإسلامي، ولما ظهر أعداء الإسلام –منذ ظهر الإسلام– بآراء تافهة مفتعلة يحاولون بها التشكيك بقيمة الصيام من الوجهة الصحية انبرى بعض المسلمين عن حسن نية، يدافعون بنفس الأسلوب الذي تهجم به هؤلاء، وصاروا يعددون فوائد الصيام الصحية، وكيف أنه العلاج للأمراض. والصيام الإسلامي بأحكامه وفلسفته هو لا شك أسلوب ناجح في معالجة كثير من الانحرافات الصحية البدنية، إلا أنه ليس علينا أبداً أن نجد المبررات والأسانيد الدنيوية للأمر الإلهي، سيما وإننا نؤمن أن الإسلام الذي أنزله الله على قلب الرسول العربي الكريم [صلى الله عليه وسلم] هو دين الفطرة السليمة التي لا تجافي أبداً مصلحة الإنسان في دنياه وآخرته.
وعندما أبحث اليوم في صحة الجسم عند امتناعه عن الغذاء، وفي نوع الغذاء الضروري، وفي السمنة التي تصيب الجسم، لا أفعل ذلك إلا لعرض بعض المعلومات الطبية الصحية، والنتائج العلمية المدروسة بأسلوب مبسط على قراء مجلة الحضارة الغراء، وهؤلاء القراء على ما أعتقد هم صفوة المثقفين في مجتمعاتهم، ومن الخير لهم أن يعرفوا شيئاً –إن كانوا يجهلونه– في هذا المضمار إتماما وإكمالاً للوعي الفكري السليم.(/1)
يحتاج جسم الإنسان لمواد غذائية ضرورية لتقوم بأوده، وتحفظ له صحته ونشاطه، وتسيِّر (فيزيولوجية) جسده بطريق صحيحة سليمة. وقيمة المواد التي يأكلها الإنسان تقدر بالنسبة لعاملين أساسيين:
1 - مجموع القيمة الحرورية التي يعطيها الغذاء.
2 - نسب العناصر الأساسية في الغذاء.
والعناصر الأساسية اللازمة في المأكولات والمشروبات هي:
البروتين والدهن والنشويات والمواد المعدنية والفيتامينات.
وحتى لا يضطر الجسم لاستعمال أنسجته في توليد الاحتراق اللازم للحصول على القدرة الحرورية يجب أن تكون القيمة الحرورية للغذاء اليومي مساوية لما يصرفه الجسم من الحريرات في اليوم الواحد.
ومتوسط ما يصرفه الجسم السليم للشاب المتوسط الوزن ذي العمل المتوسط الجهد هو تقريباً (3000) ثلاثة آلاف حريرة. وقد يزيد الرقم أو ينقص عن (3000) حريرة إذا قيست التغيرات من منطقة لأخرى في الطقس والحرارة، أو إذا أخذ بعين الاعتبار نوع العمل وجنس الجسم (ذكر أو أنثى) أو نوع الغذاء أو السن الخ.. من اعتبارات تتغير قليلاً أو كثيراً ويتراوح المصروف الحروري بين (2500 – 5000) حريرة تقريباً.
أما عناصر الغذاء فقيمتها الحرورية بالغرام هي كالتالي:
غرام واحد بروتين يعطي حوالي 4 حريرات.
غرام واحد نشويات يعطي حوالي 4 حريرات (إلا قليلاً).
غرام واحد دهن يعطي حوالي 9 حريرات.
وفي الغذاء اليومي الذي يعطي 3000 حريرة يجب أن تكون نسب العناصر الغذائية فيه كالتالي:
133 غرام دهن يعطى حوالي 1200 حريرة أي 40%.
380 غرام نشويات يعطى حوالي 1440 حريرة أي 48%.
90 غرام بروتينات يعطى حوالي 360 حريرة أي 12%.
وقد ترتفع نسبة المواد الدهنية في الغذاء اليومي في البلاد الباردة من 40% إلى 45%.(/2)
وعندما يأخذ الجسم عدداً من الحريرات أكثر مما يصرف تتوضع الأغذية كمواد دهنية، (وقد تكون نشوية أو بروتينية أحياناً) في بعض أنحاء الجسم خصوصاً في الأنسجة التي تلي الجلد، وتزيد وزن الإنسان وتحدث السمنة وتسمى السمنة الغذائية (وهي أكثر أنواع السمنة شيوعاً) لتفريقها عن السمنة التي تسببها اضطرابات الإفرازات في الغدد الصم كالغدة النخامية والكظرية، أو نقص أو ضعف في وظائف الأجهزة التناسلية، وزيادة الوزن في سن اليأس أو بعد استئصال المبيضين أو بعد الخصي في الرجال معروفة جداً.
وبعض الأحيان يكون ضعف وظيفة الغدة الدرقية سبباً للسمنة.
أما السمنة الغذائية فهناك على ما يظهر استعداد جسدي شخصي فقد نجد شخصين صحيحين في ظروف حياتية واحدة يأكلان نفس الغذاء (كماً وكيفاً) ويصرفان نفس الجهد ومع ذلك يبقى أحدهما على وزنه بلا زيادة ولا نقصان أما الآخر فيسمن ويسمن. وقد نجد شخصاً قوي الشهية يأكل كمية كبيرة من الطعام المغذي بجميع عناصره ومع ذلك يبقى نحيفاً ونجد آخر يتبع حمية خاصة للتقليل من وزنه فلا يتغير وزنه أبداً.
أما معالجة هذه السمنة الغذائية فيكون في اختصار كمية الحريرات المأخوذة وزيادة في القدرة المصروفة في العمل الجسماني أو الاثنين معاً.
وعندما يمتنع الجسم الإنساني عن تناول الغذاء الكافي ويتوقف معين القدرة من خارج الجسم يعمد الجسم إلى استخلاص القدرة اللازمة له من احتراق ما يخزنه من المواد الدهنية المخزونة (احتياطياً) عنده. ولا يستعمل (البروتين) المخزون في الجسم إلا بعد أن يستنفد تماماً الاحتياطي من النشويات والمواد الدهنية.(/3)
ولقد درس العلماء حالات الذين يصومون مدداً طويلة دون انقطاع ودون تناول أي شيء من الأغذية على الإطلاق، وهنالك حوادث مشهورة في هذا الموضوع الدراسي أهمها حادثة (سوكاي) الايطالي الذي امتنع أربعين يوماً عن الطعام، وحادثة (مرلات) الفرنسي في باريس الذي امتنع خمسين يوماً. و(سوكاي) وزن في اليوم الأربعين فكان نقصان وزنه حوالي 25% فقط.
ونقصان الوزن في أعضاء الجسم لا يكون متناسباً في كل هذه الأعضاء، وإليكم صورة تدل على النقص النسبي في وزن أعضاء مختلفة في الجسم عند الامتناع عن الطعام لمدة غير قصيرة: نرى مثلاً أن هناك نقصاناً نسبياً يعادل 93% من وزن دهن الجسم بينما لا يكون نقصان في وزن الدماغ إلا 3% وفي وزن القلب 3% أما العضلات الإرادية فنقصان وزنها النسبي هو 31%.
والمدة القصوى التي يمكن لإنسان أن يمتنع فيها عن الطعام كلياً تتوقف على وضعه الصحي وبنيته الجسمانية والاحتياطي الذي عنده من المواد الدهنية وغيرها ، إلا أنها على كل حال لن تتعدى تسعة إلى عشرة أسابيع، [وفي سنة] 1920م امتنع رئيس بلدية كورك في إيرلندا عن الطعام (حين أعلن إضرابه عنه) مدة 74 يوماً.
وأنتقل الآن إلى الصيام الإسلامي ونجد أن ساعات الامتناع عن الطعام لا تتجاوز ست عشرة ساعة كحد أقصى واثنتي عشرة ساعة كحد أدنى، وليس في هذا الصيام للجسم السليم أثر من ضرر كما يدعي بعض الحاقدين على الإسلام، ففي هذه المدة من الامتناع يأخذ المسلم وقعتين من الطعام ، والذي يلزمه من الحريرات التي يأخذها في ثلاث وقعات أو أكثر في أيام الإفطار يمكن أخذها في وقعتين اثنتين ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية أن الامتناع عن تناول الطعام مدة من الزمن في اليوم راحة لازمة لأجهزة الجسم المختلفة خصوصاً جهاز الهضم بعد أحد عشر شهراً من العمل بدون راحة.(/4)
فإذا ادعى أحد – كائناً من كان – أن الصيام في رمضان ينقص الإنتاج فهذا أمر مردود علمياً وواقعياً، لأن القدرة المطلوبة للعامل الصائم موفورة في إفطاره وسحوره، مهما كانت القدرة المطلوبة من (2500 – 5000) حريرة أو أكثر.
ومن المستحسن أن أذكر أن أسلوب الصيام المتبع بين جماهير المسلمين ليس هو الأسلوب الصحي المثالي، وليس للإسلام علاقة بهذه العادة المتبعة التي توارثها المسلمون من عصور الانحطاط.
فالتخمة ليست من فلسفة الصيام ،ولا من أهدافه، والإفطار رأساً بعد امتناع بضع عشرة ساعة ليس سليماً ولا صحياً، والسحور ثم النوم رأساً بعد وقعة كبيرة لا يمت إلى السُنة بصلة، ولا إلى الأسلوب السليم في نظام الفرد اليومي.
وكل ما لا يتلاءم وحفظ الصحة ليس من الإسلام في شيء.(/5)
العنوان: الصيام تدريب على مراقبة الله عز وجل
رقم المقالة: 1191
صاحب المقالة: محمد رجاء
-----------------------------------------
إن الصيام عبادة وثيقة الصلة بما يرمي إليه الإسلام من النواحي الاجتماعية البعيدة المدى، وعظم تدبير الحياة، يقول المولى تبارك وتعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].
وإن وجدنا صلة الصيام بتلك الأهداف تأتي من ناحيةٍ لم يألفها الناس، فلا غرابة في هذا مادمنا لا نهدف إلا إلى تعاليم القرآن الكريم نقتدي بهديها، ونتخذها رائدًا لنا في هذا الصدد.
فمن حكمة الصيام قمعُ النفس وتهذيبها بالجوع والظمأ؛ كي تكون أبعد عن الخضوع لهواها، والانقياد لشهواتها، وفي ذلك يقول المصطفي - صلوات الله وسلامة عليه -: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فَضَيِّقُوا مَجَارِيهِ بِالجُوعِ وَالعَطَشِ)).
وفي الصيام ترفع وتسامٍ عن مشتهيات النفس، وتنزه عن الأهواء والنزوات، وهذا من شأن الملائكة المقربين، الذين لا شهوة عندهم ولا غريزة، فالصائم حينئذ شبيه بالملائكة.
والصيام خير معين للإنسان على تقوى المولى تبارك وتعالى، والخشية منه؛ لأن النفس البشرية حين تكف عن الأشياء المباحة؛ خوفًا من الله - جل شأنه -، ورجاء في رحمته، وطمعًا في ثوابه، فإن ذلك سيقودها حتمًا إلى تجنب الحرام، وفي ذلك يقول المولى - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183].
الصيام والتربية الخلقية:(/1)
إننا إذا استطعنا أن نُخضع أنفسنا لسلطان الصيام، فلا نأكل ولا نشرب، أي لا نزاول ما هو طبيعي لنا في كل يوم من الأيام العادية؛ فإننا بذلك نكون أقدر على كبح جماح أنفسنا عمَّا هو ليس مباحًا عادة؛ لأن الصيام يعد أسمى درجات التحكم في النفس، فليس في الحياة ما هو أقوى من الحاجة إلى الطعام والشراب.
فإذا استطعنا أن نقهر هذه الرغبة الطبيعية، كان لنا في ذلك تدريب قوي على التحكم في رغباتنا أيًّا كانت، وبذلك يصبح الصيام عاملاً من أقوى عوامل التربية الخلقية للإنسان، لأن الحياة الكريمة الكاملة لا تتحقق إلا بعد أن يكون الفرد قد صهرته الشدائد، فاحتمل المشاق والمكاره، وثبت أمامها ثبوت الشجاع في المعركة.
ولذلك جاء في الأثر: ((اخْشَوْشِنُوا فَإِنَّ النِّعْمَةَ لاَ تَدُومُ)) وهذا في الأيام العادية، أما في شهر رمضان فنخشوشن في صورة أقوى وأشمل؛ لنهز أنفسنا هِزة توقظنا من سباتنا، وننفض بها عن أنفسنا آثار الترف والانغماس، وإرضاء الرغبات والشهوات، ولنتخذ من رغباتنا التي تعوَّدنا إرضاءها كلما تحركت منها نفوسنا مطيةً ذلولاً نسيطر عليها، بدلاً من أن نخضع نحن لها.
أنواع الصيام:
لقد تناول الباحثون العصريون أنواع الصيام، وقسموها إلى أقسام حسب أغراضها العامة والخاصة، من قديم العصور إلى العصر الحديث، وحصروها في خمسة أقسام:
القسم الأول: صيام التطهير:
وهو الذي يكف الصائم عن الإلمام بالخبائث والمحظورات، من شهوات النفوس أو الأجسام.
القسم الثاني: صيام العطف:
وهو صيام الحداد في أوقات الحزن أو المحنة؛ ليشعر الصائم بأنه يذكر أحبابه الذاهبين أو الغائبين، ولا يبيح لنفسه ما حُرِمُوه بفقدان الحياة، أو فقدان النعمة، أو الحرية.
القسم الثالث: صيام التكفير عن الخطايا والذنوب:
وهو صيام تطوع من الصائم؛ ليعاقب نفسه على الذنوب التي ندم على وقوعها منه، واعتزامه التوبة منها، والتماس العذر فيها.(/2)
القسم الرابع: صيام الاحتجاج والتنبيه:
وهو صيام المظلومين، وأصحاب القضايا العامة، التي لا تلقى من الناس نصيبها الواجب من الاهتمام أو الإنصاف.
القسم الخامس: صيام الرياضة النفسية أو البدنية:
وهو الذي يتمكن الصائم بواسطته من السيطرة بإرادته على وظائف جسده، تصحيحًا لعزيمته، أو طلبًا للنشاط، واعتدال القامة.
وعند المقابلة بين أنواع الصيام تتضح لنا مزايا الصيام في الإسلام بين جميع هذه الأنواع؛ لأنه وافٍ بالشروط العامة للصيام المفروض بحكم الدين، لرياضة الأخلاق، وهو على ذلك صالح لمقاصد التطهير، العطف، والتوبة، والتكفير، وملتقى أمهات الفضائل، ومن أقوى عوامل التربية الخلقية.
الصيام تدريب على مراقبة الله عز وجل:
إن في الصيام تدريب على مراقبة المولى تبارك وتعالى، في السر وفي العلانية، وهذا التدريب - للإنسان - يكون أكثر وضوحًا في الصيام منه في سائر العبادات، فهو يغرس في نفس الصائم الصبرَ على طاعة الله - جل شأنه -، ويتعلم قوة الإرادة، وضبط وحكم النفس، التي تسرف في شهواتها طوال العام، ففي كثير من الأحيان يكون الطعام والشراب في متناول الصائم، وبين يديه بعيدًا عن أنظار الناس، ومع ذلك يكف عن تناولهما.
وما يفعل الصائم ذلك إلا خشية من الله - عز وجل -، وعلمه بأنه يراه ويسمعه ومطلع على أفعاله، وعلى سره وجهره، فيزداد إيمانه وخوفه، فلا يخاف غير الله - جل شأنه -، فينال رحمته ورضاه، بفضل تأثير هذه العبادة في نفسه، وهذا ما يفسر قول المولى - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي)).(/3)
وقد ذكر الإمام الغزالي في حكمة نسبة الصيام لله - عز وجل - معنيين: أحدهما: أن الصوم كفٌّ وترك، وهو في نفسه سر ليس فيه عمل يُشاهد، وجميع الطاعات بمشهد من الخلق، ومرأى من أعينهم، والصوم لا يراه إلا الله - عز وجل - فإنه في الباطن بالصبر المجرد.
والآخر: أنه قهر لعدو الله - عز وجل -، فإن وسيلة الشيطان - لعنه الله - الشهوات. وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فَضَيِّقُوا مَجَارِيهِ بِالجُوعِ)). فإذا كان الصوم على الخصوص قمعًا للشيطان، وسدَّ مسالكه ، وتضييقًا لمجاريه؛ استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل.
فمن هذه الجوانب وغيرها من مزايا الصيام كانت صلته بأهداف الإسلام العليا في تدبير الحياة، وإن المتأمل في هذه المزايا ليلمح فيها ناحيتين متضادتين:
الأولى: وتتخذ طابعًا ماديًّا، فنرى أن مشتهيات النفس التي يمتنع الصائم عنها، هي من أهم ما تفضل المولى - تبارك وتعالى - به علينا من الآلاء والنِّعَم، وما أجدر الإنسان أن يدرك قيمتها، ويقوم بحق شكرها للخالق المنعِم - جل وعلا -، لأن النعم لا تُدرك قيمتُها إلا بفقدها، فالأعمى هو الذي يحس بجلال نعمة البصر، والمريض هو الذي يدرك عظمة الصحة، والإنسان لا يشعر بلذة الرخاء والرفاهية إلا إذا ذاق مرارة الحرمان والشدة، ولا يتذوق حلاوة النصر إلا مَن صُدم بقسوة الهزيمة.(/4)
وهذه هي سنة الحياة وطبيعتها؛ فالأشياء لا تتميز إلا بأضدادها، والصائم لا يعرف قيمة الطعام والشراب إلا عندما يذوق مرارة الجوع، وحرارة العطش، فيدرك نِعَم الله - عز وجل - فيجيء شكره على هذه النِّعَم صادقًا خالصًا من القلب، ولعل ذلك هو الذي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفض أن تصير بطحاء "مكة" له ذهبًا ويقول: ((لاَ يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا، وَأَجُوعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمَدْتُكَ)).
الثانية: وتتخذ جانبًا روحيًّا معنويًّا، ويتضح هذا الجانب في تشبيه الصائم بالملائكة، لأن الإنسان مكوَّن من روح وجسد، فإذا استجاب الإنسان لغرائزه، وانغمس في شهواته مهملاً الجانب الروحي، كان إلى الحيوان الأعجم أقرب، أما إذا ارتقت نفسه، وعلت روحه، وسما بتصرفاته إلى كل ما يحقق غذاء روحه، بتحكمه في عواطفه، وقهر غرائزه أمام سلطان عقله وروحه، كان إلى الملائكة أقرب.
ونجد - أيضًا - الجانب الروحي في تأدب الصائم بصفة الصمدية، بالإضافة إلى تربية النفس، وكسر شهواتها بالجوع والحرمان.
إن الصيام عبادة تلتقي في هدفها مع أهداف القرآن الكريم، في تربية العقول والأرواح وتنظيم الحياة، ويوحد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشراب، ويصبغهم جميعًا بصبغة الإنابة والرجوع إلى المولى - تبارك وتعالى -، ويرطب ألسنتهم بالتسبيح والتقديس، ويعفها عن الإيذاء وعن التجريح، ويسد على الناس باب الشر، ويغلق عليهم منافذ التفكير فيه، ويملأ قلوبهم بمحبة الخير والبر لعبادة الله - عز وجل -، وينشئ في قلوبهم خلق الصبر الذي هو عدة الحياة، وهكذا يريد الله - جل شأنه - أن يكون الإنسان.
الصيام من عناصر تكفير الذنوب:(/5)
لقد جعل المولى - تبارك وتعالى - الصيام عنصرًا مهمًّا من عناصر تكفير الذنوب، وذلك لما له من أثر كبير في تهذيب النفوس، وردعها، وكبح جماحها، فهو كفارة في القتل الخطأ يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92].
وهو كفارة في الظِّهَار، يقول المولى - تبارك وتعالى -: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3 - 4].(/6)
وهو كفارة في خطايا الحج،يقول المولى - تبارك وتعالى -: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة : 196]. أو صيد المُحرِم وقت إحرامه، يقول الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة : 95].
وهو كفارة في اليمين، يقول المولى - تبارك وتعالى -: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة : 89].
ثمرة العمل وجزاء الجهد:(/7)
ولما كانت النفس البشرية من طبيعتها التلهف على معرفة ثمرة عملها، وجزاء جهدها وكفاحها؛ فقد أوضح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزاءَ الذي أعده المولى - تبارك وتعالى - للصائمين، الذين جاهدوا أنفسهم، وحاربوا شهواتهم، وألجموا أطماعهم، وخاضوا أشرس معركة أمام أهوائهم ونزعاتهم، فقال - صلوات الله وسلامه عليه -: ((إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ .. يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ، فَيَقُومُونَ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ .. فَيَقُومُونَ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ)).
إن الصيام يربي النفس على مراقبة الله - عز وجل -، فالصائم حقًّا إنما يصوم مراقبًا لله - جل شأنه -، الذي لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يقول سبحانه وعز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5].
والخير كله في مراقبة المولى - تبارك وتعالى -، ومن ذلك الخير العدلُ في الحكم، والإنصاف من النفس، وصون العرض والأمانة، وجميع شعب الإيمان التي يحرص كل الحرص مَن راقب ربه - عز وجل - على كسبها؛ فيغتنم ويسلم ويكون محسنًا، فقد قال المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه -: ((الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
اللهم وفقنا في هذا الشهر الكريم إلى ما تحبه وترضاه، وطهر قلوبنا، وأرشدنا إلى الخير، واهدنا سواء السبيل، وحقق لنا الأمن والأمان، إنك نعم المولى ونعم النصير.(/8)
العنوان: الصيامُ عبادةٌ وصِحّة
رقم المقالة: 1434
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
أكّدت بعضُ الدراسات والبحوث الدقيقة التي أُجرِيت على جسم الإنسان ووظائفه الفسيولوجية أن الصيامَ ظاهرة طبيعية ينبغي للجسم أن يمارسها حتى يتمكن من أداء وظائفه الحيوية بكفاءة، فالامتناعُ عن الطعام والشراب لمدة معقولة (نحو أربع عشرة ساعة في اليوم) فيه راحة لكل أعضاء الجسم. فكما تحتاجُ أجسامُنا للنوم لترتاح، كذلك تحتاجُ أعضاؤنا للصوم لتصح.
يقول الدكتور عبد الرحمن الجمعة: من المعروف أن الصيام من العبادات التي أمرت به جميعُ الشرائع السماوية؛ وذلك لفوائده الكثيرة، إلا أن الصوم في الإسلام هو أكثرُها ملاءمةً لطبيعة الإنسان على مر العصور؛ وذلك لأنه يجمعُ بين الفائدة وعدمِ التأثير السلبي في صحة الإنسان، ولذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال في الصوم، وهو الصومُ لأكثرَ من يوم بغير إفطار أو سحور؛ لما قد يسببه ذلك من تأثير سلبي في صحة المسلم، قال -سبحانه وتعالى-: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وقد عَرَف أطباءُ المسلمين الصوم َكعبادة وعلاج؛ فكان ابنُ سينا يفضّل الصوم على الدواء ويقول: "إنه الأرخص"، ويصفه للغني والفقير، وإبانَ الحملة الفرنسية في مصر، اتبعت المستشفياتُ الصيامَ علاجًا لمرض الزهري، إذ عدوا الصيام قاتلا للجراثيم المسببة للمرض .
ومع إطلالة القرن العشرين، ومع تزايد وتطور أساليب البحث العلمي، حاز الصيامُ في رمضان جانبًا كبيرًا من اهتمام الأطباء والباحثين، نظرًا لما يتضمنه من تغير وتحول في نمط استهلاك الغذاء خلال شهر، إذ يستدعي ذلك التغيرُ حصولَ تحولات في مسارات الأيض والتمثيل الغذائي في الجسم، وحصول تغيرات حيوية تؤثر في صحة الإنسان وجسمه بشكل واضح وملموس.(/1)
فالصومُ له فوائدُ وقائيةٌ وعلاجية كثيرة؛ فهو يساعد في هدم الأنسجة الضعيفة وقتَ الجوع، ثم إعادة ترميمها من جديد عند تناول الطعام، وهذا هو السببُ الذي دعا بعضَ العلماء مثل باتشوتين للقول بأن للصوم تأثيراً مفيداً للشباب.
ويؤكّد هذا الكلام الدكتور السويسري بارسيلوس إذ يقولُ: إن فائدة الجوع في العلاج قد تفوقُ بمراتٍ استخدامَ الأدوية.
وقد ظهر في القرن العشرين عددٌ من الكتب الطبية في أمريكا وأوروبا تتحدث عن فوائد الصوم الطبية مثل (الصوم إكسير الحياة) لهنرك تانر.
ومن هنا ظهرت حقيقةُ قول الله عز وجل: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184].
يقول (معز الإسلام فارس) الباحث في علوم التغذية: "المتأمل في فلسفة الصيام في الإسلام يجدُ فيه تربيةَ النفس وتهذيبها والارتقاءَ بها عن الولوغ والإغراق في إشباع الشهوات والغرائز، كما أن أدبيات الصيام وأخلاقه تلزم المسلم بالابتعاد عن مظاهر الغضب والانفعال، عملا بقول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم" متفق عليه. وهذا يؤدي بالمسلم إلى الشعور بالسكينة وطمأنينة القلب وانشراح الصدر، فتخرجُ النفسُ من ضيقِ وشدائدِ الحياة اليومية ومشاكلها، ومن ضغوط الحياة وتعقيداتها، إلى سعة الصدر وانشراح النفس والرضا، وهو ما يؤدي إلى شفاءِ وتحسن الكثير من الاضطرابات والأمراض النفسية والعصبية مثل الاكتئاب والقلق والهوس".(/2)
ويؤكدُ الأطباءُ أن الصومَ راحةٌ لكل أعضاء الجسم؛ فله تأثير إيجابي عظيم على الجهاز الهضمي؛ إذ تقل حركةُ الأمعاء، وتقل إفرازاتُ العصارة الهضمية والمعوية، وبذلك تطول مدة راحة الجهاز الهضمي، ويتحسنُ الكثيرُ من الأمراض المرتبطة به، ومن أخطرها السمنة، والأمراض ذات العلاقة بالضغوط النفسية والعصبية؛ مثل: تهيج القولون، والانتفاخات، والتهابات المعدة المزمنة. وقد أشارت الكثيرُ من الدراسات العلمية الحديثة إلى أن الصوم في رمضان يؤدي إلى التخفيف من وزن الجسم، وهذا التخفيفُ يحمي الإنسانَ من الكثير من الأمراض المرتبطة بالسمنة، ومن أخطرها: ارتفاعُ ضغط الدم، والسكري (النوع الثاني)، والنقرس، وانسداد الشرايين، واحتشاء عضلة القلب.
د. خالد إبراهيم البدر إخصائي طب الأسرة والمجتمع بمؤسسة حمد الطبية يؤكد ما سبق بقوله: صومُ رمضان من النعم الربانية التي تصحح ما انكسر من التوازن في بناء الجسد والتكوين النفسي، إذ يقلل الصومُ من الأخطار التي قد تسبب الأمراض، مثل ارتفاع مستويات الكولسترول والدهون الثلاثية والسمنة، والضغوط النفسية، وداء السكري وارتفاع ضغط الدم والكلى.
كما أن الصوم يساعد في علاج كثير من الأمراض القلبية الوعائية، والتخلص من الدهون الزائدة العائمة داخل الجسم التي تكون عرضة للترسب، كالدهون الموجودة في الأوعية الدموية وتحت الجلد وفي الكبد، فيخفف الصوم من انسداد الأوعية الدموية، ويقلل من ارتفاع ضغط الدم، لقلة كميات السوائل في الأوعية الدموية، وتقلّ معها نوبات الشقيقة (وجع الرأس النصفي).
أما عن تأثير الصوم في الجهاز الهضمي فيذكر د. خالد البدر أن المعدةَ تستعيدُ أنفاسها وترمم ما هدم منها، وكذلك الأمعاء تتخلص من الرواكد والأخماج، وتتحسّن حركة الجهاز الهضمي، ويهدأ القولون العصبي المزاج، وتتم السيطرة على الإمساك والتهابات القناة الهضمية والكبد والبنكرياس.(/3)
أمّا الجلد فإنه خيرُ مستفيد من شهر رمضان؛ لأنّه يتخلص من السوائل الزائدة، وذلك يقلل من نمو الجراثيم والمواد المهيجة، فتتحسّن حالات الحساسية وحب الشباب والصدفية وغيرها.
ويقول: إنّ متعة الروح في صوم رمضان تساعدُ الجسد على الانتظام في عمله، وذلك يؤدي إلى التوازن العصبي، فينتظم النوم، وتقل التشنجات النفسية، ولهذا يمكنُ القول: إن رمضان فرصة سنوية للتخلص من رواسب السنة الماضية، وبداية سنة صحية جديدة.
ويعدّد الدكتور إدريس بن يوسف فوائد الصيام بقوله:
1- الصوم راحة للجسد تمكن من إصلاح أعطابه ومراجعة ذاته.
2- يُحسّن الصومُ ويسهّل امتصاصَ الطعام والهضم عبر الأمعاء. وتُفرّغ الأمعاء وتتخلص من النفايات والجراثيم الخاصة بالتخمير التي تكون عادة سببًا في تكوين عوامل سامة.
3- تسترجع أجهزةُ التفريغ (الجهاز الهضمي والبولي والكبد وكيس المرارة) نشاطَها وقوتها، كما تتحسن وظيفتها الخاصة بتنقية الجسم وتنظيفه وإزالة الزوائد التي تعوق مختلفَ أعضائه وأجهزته الحيوية.
4- يعيد الصومُ ضبط العوامل والثوابت الحيوية والكيماوية في الدم، وكذا داخل جميع أعضاء الجسم.
5- يسهل الصوم تحلل المواد الرديئة والزائدة، وكذا تحلل الترسبات المختلفة داخل الأنسجة المريضة أو المختلة في وظائفها.
6- يعيد الصوم الحيوية والشباب إلى الخلايا والأنسجة المريضة أو المختلفة في أعضاء الجسم.
7- الصوم يضمنُ الحفاظ على الطاقة الجسدية، ويعمل على ترشيد توزيعها حسب متطلبات الأعضاء المختلفة.(/4)
وعن تأثير الصيام على صحة العين يقول الدكتور عبد الجواد الصاوي: في أثناء الصيام يزيدُ تركيز الدم، أي تقل نسبة الماء به، ومن ثم يحدث انخفاضٌ في معدل إفرازات الغدد المختلفة بالجسم، ومنها السائل المائي للعين المسؤول عن حفظ العين فسيولوجيًا، فينخفض ضغطُ العين الداخلي، وهو ما يقلل من حدة بعض أمراض العيون الخطيرة مثل الجلوكوما (الماء الأزرق) وتندر حدوث مضاعفات أمراض الشبكية.
وفي دراسة أردنية امتدت بين عامي 1986-1991م تبين أن نسبةَ الانتحار خلال شهر رمضان المبارك انخفضت انخفاضا كبيرا؛ وذلك بسبب تأثير الجو الإيماني والروحاني لشهر الصيام.(/5)
العنوان: الصيامُ عبرَ التاريخ
رقم المقالة: 1466
صاحب المقالة: د. محمد المنصور
-----------------------------------------
الصومُ في اللغة مطلقُ الإمساك عن أي عمل، حتى جاز أن يقال: صام عن الكلام، أي سكت وأمسك عن الحديث، وإلى هذا يشير قول الله –سبحانه- حكاية عن السيدة مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26].
وجاء المعنى الشرعيُّ موائماً لهذا المعنى اللغوي.. فلم يخرج عن دائرة الإمساك والتوقف، وإنما أحيط بقيود خاصة أضفتها عليه طبيعةُ الصياغة الشرعية للغة؛ فقال الفقهاء: إنّ الصومَ شرعاً هو الإمساك عن جميع المفطرات. وفي هذه الأيام المباركة من شهر رمضان تفيضُ القلوب بمشاعرَ طيبةٍ تلتمس بها رضاء الله باقتباس أنوار من المعرفة تجلى لها فضائل الصوم وآثاره الكريمة.
وتزداد النفوسُ المسلمة خشوعاً لله كلما ازداد إحساسها بأنه تعالى كان رحيماً بالمسلمين حين فرض عليهم صومَ رمضان بنظام محكم لإقامة توازن كامل بين نَزَعات النفس ورَغَبات الروح، أملاً في أن تتسامى إلى معارج الخير، فلم يرد سبحانه بفرض الصوم مجردَ الحرمان مما أحله تعالى، وإنما ليساعدهم على تطهير نفوسهم وتحريرها من حجب المادة حتى تلتمس السعادة في صفاء النفس ونقاء الخاطر {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6].
وقد مارس الإنسان بفطرته منذ العصور الموغلة في القدم أنواعاً متعددة من الصيام استجابةً منه إلى رغباته النفسية وحاجاته البدنية.. مارسه في أول الأمر كوسيلة للتداوي فكان إذا أحس بالتخمة أمسك عن تناول الطعام حتى يبرأ ويشفى.(/1)
وقد روى الأئمةُ والفقهاءُ أن أول من صام من الناس أبو البشر آدم -عليه السلام-، وكان أول صيامه عقب نزوله إلى الأرض وقبول الله دعاءه وتوبته، وكأن حكمة الله اقتضت أن يكون أول صوم لأول إنسان وسيلة لشكر الله والتقرب إليه. كما روي أنه كان يصوم الأيام الثلاثة البيض من كل شهر قمري ابتداء من الليلة الثالثة عشرة منه حتى نهاية اليوم الخامس عشر.
وقد صام عقب آدم عليه السلام نبيُّ الله نوح عليه السلام هذه الأيام البيض، وزاد عليها صيام اليوم الذي نجاه الله فيه من الطوفان شكراً لله، يؤيد ذلك أنه قد روي عن النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصوم الأيام الستة التي تعقب عيد الفطر فإذا كانت هذه الأيام البيض الثلاث تبلغ في جميع شهور السنة ستة وثلاثين يوماً فإن عدة رمضان حين تكتمل ثلاثين يوماً وتضاف إليها هذه الأيام الستة تتساوى في مجموعها مع مجموع الأيام التي كان يصومها نوح عليه السلام.
والإنسانيةُ عبر تاريخها الطويل عَرَفت أنواعاً شتى من الصيام مارسه كثيرٌ من الشعوب في بقاع كثيرة من أرض الله كوسيلة للعبادة، إذ أكّد الفقهاءُ أن الله تعالى لم يخص المسلمين وحدهم بفرض الصيام عليهم دون غيرهم ممن سبقهم من الشعوب والأمم؛ بدليل قوله تعالى عن فريضة الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم} [البقرة: 183]، وروى كثيرٌ من المحدثين أن الصيام لدى العرب كان أثراً مألوفاً من بقايا ما جاء به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وأن شريعة الإسلام قد أقرّت كثيراً من شعائر العرب التي كانت سائدة قبل الإسلام بعد تنقيتها من مظاهر الوثنية؛ يؤكد ذلك قولُ الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13].
صيام مختلف:(/2)
ورد في كتاب الله الكريم إشارات واضحة على أن الإنسانية عرفت منذ القدم أنواعاً شتى من الصيام، أكثرُها غرابةً الصومُ عن الكلام؛ فقد جاء في قصة العذراء مريم قولُه تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: 26].
مما يوضح أن صيامها حينئذ كان إمساكًا عن الكلام واكتفاءً بالإشارة في التفاهم مع قومها؛ بدليل قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم: 27].
وتحدث القرآن الكريم عن زكريا -الذي كفل مريم بنت عمران- أنه دعا الله قائلاً: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89]، فاستجاب الله له ووهبه يحيى، فسأل زكريا ربه أن يجعلَ له آية تطمئن بها نفسُه، فأجابه تعالى بقوله الكريم: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41].
فصدق الله وعده، وبارك له فجعل يحيى تقيا وباراً بوالديه، فآيته كما اقتضت مشيئة الله –تعالى- كانت في صمته وعدم تحدثه مع غيره من الناس لمدة ثلاثة أيام، وهذا يدل بوضوح على أنه اتخذ من صومه بالامتناع عن الكلام وسيلة للتقرب إلى الله.
تصحيح المسار:(/3)
وتاريخُ الأمم والشعوب حافلٌ بصور كثيرة للصيام تحفز كل فكر واع وصادق الإيمان إلى الاقتناع بأن الصوم الكريم الذي فرضه الله على المسلمين أراد الله به تصحيحَ المسار الذي عرفته البشرية من قبل في هذا الشأن، فهو عبادة كريمة فرضت من لدن حكيم عليم أراد لعباده منه تهذيبَ قلوبهم والتسامي بنفوسهم عن الخضوع لإسار الرغبات أملاً في أن تقهر نزواتها ويكتمل لها بالصوم ما يريده الله لها من خير ورحمة.
فقد اقتضت حكمتُه تعالى منذ أول يوم فرض الصيام فيه في شعبان من السنة الثانية للهجرة أن يقترن بالحكمة الإلهية المفهومة من تزامن فرضه بزمن بدء الجهاد في سبيل الله وفرضه كذلك في شهر القرآن كرافدين كريمين يتضمنان أعظم المعاني، كما اقتضت حكمته تعالى أن يرقى بعباده في صومهم عما كانت عليه الأممُ السابقة التي كانت تلتزم في صيامها بأساليبَ غريبةٍ، فقد روي أن بعض الشعوب كانوا يقتصرون في صيامهم على الإفطار مرة واحدة كل أربع وعشرين ساعة مما كان يدفعهم إلى تناول قدر كبير من الطعام والشراب استجابةً منهم لدواعي الجوع والعطش حتى تصيبهم التُّخَمة والخمول.
وقد حفظ المسلمون –على تعاقب الأجيال– لهذا الشهر حرمتَه وميزته، فأقبلوا يضاعفون فيه العمل الصالح ويزدادون نشاطاً واجتهاداً، في ليله ونهاره، في قيامه وصيامه، يستيقظون فيه كثيراً، وينامون قليلاً، يرصدون قدومه للتزود من صالح الأعمال والأخلاق حتى تكون مضاعفة الحسنات، حيث فضل الله بعض الأيام على بعض، وفي قمة هذه الأيام المفضلة شهر رمضان.
سلسلة مترابطة:(/4)
حين نعود إلى أسس الإسلام الخمسة نجدها قد أحكمت فهي مترابطة، متفاعلة، سلسلة متعانقة الحَلَقات، يشد بعضُها بعضاً، تهدف إلى تربية المسلم على النقاء والصفاء في صلته بالله خالقه، وفي صلته بالمخلوقين أيا كان نوعهم أو جنسهم، وبهذا لا يكون المعنى الفقهي للصوم معبراً عما يجب أن يكون عليه، وإنما لا بد أن يضاف إليه عملٌ إيجابي محمود، ليشمل الامتناع عما ينافي الخلق القويم والصراط المستقيم، والسلوك الإنساني السليم، فلا بد للمسلم الصائم أن يحافظ على الصلاة في مواقيتها، وأن يتلو القرآن الذي بارك الله به شهر رمضان، وأن تعقد المجالس لمدارسته والتفقه في أحكامه ومعانيه، اكتساباً لفضائله والتزاما بحلاله واجتناباً لحرامه.
دعوة لأداء الواجبات:
وبالجملة فالصوم دعوة إلى أداء كل الواجبات في العبادات والمعاملات، ورعاية لجميع حقوق المخلوقات، والامتناع كذلك عن جميع المحرمات والشبهات. والصوم «وسيلة إلى اعتياد الأعمال الصالحات وإلى البعد عن سيئ العادات».
وواقعُ الحال أن أكثر المسلمين لم يدركوا من معاني الصوم إلا أنه الإمساكُ عن الطعام والشراب والرفث إلى الحلائل من النساء، وهذا القدرُ من معنى الصوم –في الحقيقة– واجب أساسي لكل صوم، غير أن الإسلام –وهو دين استهدف في فروضه وآدابه وأخلاقه، تربيةَ الإنسان مادياً ونفسياً وخلقياً– قد جعلَ الإمساكَ عن هذه الماديات والرَّغَبات وسيلةً لغاية وبدايةً لنهاية، ومنطلقاً إلى عبادة أسمى وصوم أكمل وأجمل لا يغني عنه الجوع ولا الكف عن الشهوات ساعات معدودات، تلك هي تقوى الله التي عبر عنها القرآنُ في نهاية آية الصوم بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
فلنجدّدِ النيةَ بإخلاصِ الصوم لله، وأن نصوم عن المفطرات والسيئات وأن نكتسب بصومنا أحسنَ الأعراف والعادات.
نسأل الله لأمة الإسلام في هذا الشهر فلاحاً وصلاحاً وتغييراً إلى أحسن حال حتى تكون خير أمة أخرجت للناس.(/5)
العنوان: الصيام في الأمم السابقة
رقم المقالة: 1192
صاحب المقالة: د.محمد إبراهيم الشريف
-----------------------------------------
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183].
يَرجع تشريع الصيام في الدين إلى تعبد الله به لعباده، وفرضه عليهم، لم تخْلُ من ذلك شريعةٌ شرعها الله لهم، ويُرجع أهل التاريخ بداية تشريع هذه الفريضة إلى عهد نوح النبي - عليه السلام -؛ فيقولون إنه أول من صام رمضان لما خرج - عليه السلام - من السفينة، ومن المرجح أن فريضة الصيام قد عرفت قبل هذا التاريخ؛ لما روي عن مجاهد بن جبر - المفسر التابعي المعروف وأحد النجباء من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما - أن الله - عز وجل - كتب صوم رمضان على كل أمة، ومعلوم أنه كان قبل نوح - عليه السلام - أمم وأجيال شغلت الزمان منذ نبي الله آدم عليه السلام[1].
والمتتبع لفرائض الله على عباده وما تَعبَّدهم به؛ يلمس وجوهها من المنافع والمصالح التي تنصلح بها أحوال العباد، ويتحقق بها فوزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ففي الإمساك عن الأكل والشرب تسكين للنفس، وقهر لشهواتها، وكسر لسورتها في الفضول المتعلقة بالجوارح، وإرجاع لها عن الاسترسال في اللذات والشهوات، وسمو بروح الإخلاص والتحلي بالفضائل، والتعود على الصبر، والثبات على المكاره، واستشعار النفس الحاجة الدائمة إلى ربها وخالقها.(/1)
أما إذا استرسل المرء في أكله وشربه، فإنه يفقد كثيرًا من هذه المعاني، حيث تنبسط نفسه إلى الشهوات، وتضعف إرادتها ومقاومتها أمام المغريات، و لهذا جاءت أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاديةً ومرشدة في هذا الباب، حيث قال فيما يرويه عن ربه: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ، يَتْرُك - أي أحدكم - طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهَوَاتِهِ مِنْ أَجْلِي))[3] وقال: ((مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ))[4].
وفي الصوم إعانةٌ على إنفاذ الفكر، وإنفاذ البصيرة، وصفاء القلب، ورقة الشعور والإدراك، وتزكية النفس، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وبالصوم يطيب الجسم، ويتخلص من سمومه وأدوائه، إلى غير ذلك من الفوائد الجليلة والكثيرة، التي تؤدي في عمومها إلى تقوى الله - عز وجل - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))[5] و يقول ابن القيم مُبرِزًا حكمة الصوم والمقصود منه: "المقصود من الصيام حبسُ النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به في حياتها الأبدية، فهو لجام المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمتقين"[6].
كيفية صيام السابقين:(/2)
تلك كانت حكمة الصوم والأهداف المقصودة منه، كما كشفت عنها آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي هي الأصل في مشروعية الصوم، وتعبد الله لسائر الأمم به، ومن الملاحظ أن آية سورة البقرة - سالفة الذكر - لم تُشر في وضوح إلى كيفية صيام الأمم السابقة، أو مقدار هذا الصوم وزمانه، وإن كانت قد أشارت في إجمال إلى فرض الله له على السابقين، وقد فرض الله على الأمة الإسلامية على نحو من فرضيته له على مَن سبقها من الأمم، وهكذا لا يدل ظاهر الآية القرآنية على أكثر من فريضة الصيام ووجوبه؛ إذ ليس شيء في ألفاظ الوجوب أصرح من قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة : 183]. فقد كان الصوم مكتوبًا ومفروضًا عليهم، ومثل كتابته وفريضته عليهم كُتِب وفُرِض على المسلمين. أما أحاديث الباب فتدل - كما سنعرف قريبا - على مشروعية الصيام للأمة الإسلامية،
وللأمم السابقة من لدن آدم عليه السلام، وأن لأمتنا الإسلامية الأسوةَ والقدوة في شريعة الصيام بالأمم المتقدمة؛ حيث لم يكن تشريعه خاصًّا بها دون مَن سبقها.
ومن هنا فقد توقف الفقهاء والمفسرون طويلاً أمام هذه المسألة؛ ليكشفوا لنا عناصر الشبه بين صيامنا وصيام مَن كانوا قبلنا، تلك العناصر التي عناها الله بقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] فهل يقف التشبيه عند حدود أصل الفريضة والوجوب، أم يتعداها إلى زمن الصوم وقدره ووصفه أو كيفيته؟(/3)
وبعبارة أخرى: إذا كان الصيام عبادة قديمة، فهل كان مفروضًا واجبًا فحسب كوجوبه على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - دونما نظر إلى وجوه أخرى، كزمنه وقدره وكيفيته؟ أم أنه كان في وقت محدد وشهر مخصوص وكيفية محددة؟ وإذا كان تشريع الصيام لهذه الأمة على هذا النحو الأخير، فهل بقي تشريع الله لهم على ذلك النحو أم غَيَّرَ فيه السابقون وبدَّلوا من عند أنفسهم ؟
ويرى ابن العربي: أن التشبيه في الآية الكريمة مقطوعٌ به في الفريضة وأصل الوجوب، ولكنه محتمل في غير هذا من الزمن والقدر والكيفية، فقد يحتملها جميعًا، وقد يحتمل بعضًا منها دون غيرها، ثم استشهد لكل من هذه الاحتمالات الثلاثة في التشبيه من الآثار والأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك[7]. أما ما رآه ابن العربي مقطوعًا به في الشبه بين الصومين - وهو أصل الوجوب - فقد فاته الاستشهاد له، وهو ما نجده عند غيره فيما روي عن ابن عباس و معاذ بن جبل من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا عن عطاء و الضحاك من التابعين أن الصيام فُرض علينا أولاً كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام، وزاد بعضهم يوم عاشوراء، قالوا: ولم يزل هذا مشروعًا من زمان نوح إلى أول الإسلام؛ حتى نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان، قال معاذ بل كان نسخه بأيام معدودات، ثم نسخه الأيام المعدودات بشهر رمضان، ومما قالوه هنا أن صوم آدم - عليه السلام - كان أيام البِيض، وصوم موسى وقومه كان يوم عاشوراء، وكان على كل أمة صوم، والتشبيه لا يقتضي التسوية من كل وجه، وعلى هذا فالتشبيه على أصل الوجوب، لا في القدر الواجب ولا في صفته ولا في زمنه.(/4)
ويمكن الاستئناس لهذا الرأي بما جاء في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لما قدم المدينة وجد الناس يصومون عاشوراء" فقال: ((مَا هَذَا؟)) قالوا: "هذا يوم أنجى الله فيه موسى - عليه السلام - وأغرق فيه فرعون"، فقال: ((نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ)) "فصامه وأمر بصيامه "، فكان هو الفريضة حتى نزل رمضان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ؛ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ))[8].
ولعل ما يفيد هنا ويقطع بأن التشبيه بين الصومين واقعٌ على أصل الفريضة، دونما اعتبار للقدر والكيفية والزمن، ذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل، الذي تبين منه أحوال الصلاة والصوم، وتدرج الشريعة الإسلامية في إرساء أحكامها، وسبب نزول آيات الصيام قال:(/5)
"أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال... إلى أن قال: أما أحوال الصيام فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فصام سبعة عشر شهرًا من ربيع الأول إلى رمضان - أي على ذلك - وصام يوم عاشوراء. ثم إن الله - عز وجل - فرض عليه الصيام فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] حتى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] قال: فكان مَن شاء صام، ومَن شاء أطعم مسكينًا فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله أنزل الآية الأخرى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة : 185] قال: فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حالان".
قال: "وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا؛ حتى جهدوا، فأنزل الله - عز وجل -: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]"[9].(/6)
ويرى جماعة من التابعين منهم الشعبي و قتادة و مجاهد و الحسن، أن التشبيه بين الصومين قائم من جميع الوجوه، متضمنٌ لأصل الفريضة وقدرها ووقتها، وزاد السدي و أبو العالية و الربيع وقوعَ التشبيه على صفة الصوم أيضًا، الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، قال القرطبي في جامعه عن رأي هؤلاء وما قالوه: "عن الشعبي وقتادة وغيرهما أن الله تعالى كتب على قوم موسى و عيسى صوم رمضان فغيَّروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام، ثم مرض بعض أحبارهم، فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يومًا، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع. واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الأشبه بما في الآية، وقال مجاهد: كتب الله - عز وجل - صوم شهر رمضان على كل أمة."
قال القرطبي: "وفيه حديث يدل على صحته عن دغفل بن حنظلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((كَانَ عَلَى النَّصَارَى صَوْمُ شَهْرٍ، فَمَرِضَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: لَئِنْ شَفَاهُ اللهُ لَنَزِيدَنَّ عَشَرَةً، ثُمَّ كَانَ آخَر فَأَكَلَ لَحْمًا؛ فَأَوْجَعَ فَاهُ، فَقَالُوا: لَئِنْ شَفَاهُ اللهُ لَنَزِيدُ سَبْعَةً، ثُمَّ كَانَ مَلِكٌ آخَرُ فَقَالُوا: لَنُتِمَّنَّ هَذِه السَّبْعَةَ الأَيَّامَ، وَنَجْعَلُ صَوْمَنَا فِي الرَّبِيعِ. قَالَ: فَصَارَ خَمْسَينَ)).(/7)
وقيل إنهم أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يومًا، وبعدها يومًا، قرنًا بعد قرن؛ حتى بلغ صومهم خمسين يومًا، فصعب عليهم في الحر؛ فنقلوه إلى الفصل الشمسي، قال النقاش: "وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة و الحسن البصري والسدي"، قلت : ولهذا والله أعلم كره الآن الصوم يوم الشك. قال الشعبي: "لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك"، وذلك أن النصارى فُرض عليهم شهر رمضان كما فُرض علينا، فحولوه إلى الفصل الشمسي؛ لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يومًا، ثم جاء بعدهم قرنٌ فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا، ثم لم يزل الآخر يَسْتَنُّ بسنة مَن كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يومًا، فذلك قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]"[10].
وعند ابن كثير من رواية عباد بن منصور عن الحسن قال: "والله لقد كتب الله الصيام على كل أمة خلت كما كتبه علينا شهرًا كاملاً"، وعن ابن عمر مرفوعًا قال: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم".
ولعل أوضح رواية في ذلك التغيير والتبديل الذي وقع من النصارى ما أخرجه الطبري بسنده عن السدي و نقله "صاحب الدر المنثور" في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة : 183] قال : "أما الذين من قبلنا فالنصارى كُتب عليهم رمضان، وكُتب عليهم ألا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان، فاشتد على النصارى صيام رمضان، وجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا الصيام في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا نزيد عشرين يومًا نكفر بها ما صنعنا فجعلوا صيامهم خمسين"[11].(/8)
ويشبه صوم النصارى وما فُرض عليهم - قبل تبديلهم - صومَ المسلمين في حالهم الثاني، الذي كانوا عليه قبل الحال الأخير، وهو ما وردت الإشارة إليه قَبْلُ في حديث معاذ الذي أخرجه الإمام أحمد بن حنبل. ولهذا قال السدي و أبو العالية و الربيع إن التشبيه بين الصومين في الآية كما هو واقع على القدر والزمن، فهو واقع على الكيفية والصفة أيضًا، وقد كان على النصارى الامتناع من الأكل والشرب والنكاح، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء مَن نام منهم، وكذلك كان أمْرُ المسلمين أولَ الإسلام إلى أن نُسخ ذلك بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. بعد ما حدث من أمر أبي قيس بن صِرْمَة و عمر بن الخطاب؛ فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر، وكان هذا تخفيفًا من الله على المسلمين، وخروجًا بهم مما ضيقوا على أنفسهم بتشريع ميسر، لا كما خرج النصارى بتبديلهم وتحريفهم شريعةَ الله وقدرها وكيفيتها.(/9)
والروايات الدالة على ذلك كثيرةٌ، منها ما جاء في صحيح البخاري عن البراء قال: "كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الرجل صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر؛ لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا" وفي رواية: "كان يعمل في النخيل بالنهار، وكان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: "أعندك طعام؟" قالت: "لا، ولكن أنطلق فأطلب لك"، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: "خيبة لك"، فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة : 187]؛ ففرحوا لما أحل الله لهم ما كان محرَّمًا، ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْر} [البقرة:187].
وفي البخاري أيضًا عن البراء قال: "لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم؛ فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ} [البقرة: 187].
وذكر الطبري: "أن عمر - رضي الله تعالى - عنه رجع من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سَمُرَ عنده ليلة، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها فقالت له: "قد نمتُ"، فقال لها: "ما نمتِ"، فوقع بها، وصنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أعتذر إلى الله وإليك؛ فإن نفسي زيَّنتْ لي؛ فواقعتُ أهلي، فهل تجد لي من رخصة؟" فقال لي: "لم تكن حقيقًا بذلك يا عمر" فلما بلغ بيته، أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن.(/10)
وهكذا نجد أن هذا الحال من صوم المسلمين - الذي نسخه الله، وأبدلهم به حلاًّ للطعام والشراب والنساء؛ حتى الفجر - كان هو نفسه الحال والكيفية التي شرعها الله لمن قبلنا في صومهم، فأحالوا شرع الله وغيَّروا وبدلوا. وخفف الله على المسلمين، وأبدلهم بهذا الحال حالاً آخر يسَّر لهم فيه من أمرهم، وبذلك تكون المشابهة بين صوم المسلمين، وصوم الأمم السابقة التي جاءت في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، قائمةً من جميع وجوه الصوم في قدره وزمنه ووصفه أو كيفيته.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] راجع "الجامع لأحكام القرآن" القرطبي 2/274، 290 دار الكتاب العربي 1387هـ - 1967م.
[2] أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة في كتاب الصيام - باب فضل الصيام - وهو عنده من طرق أخرى بألفاظ مختلفة، راجع "صحيح مسلم بشرح النووي" 8/29-31 دار الفكر 1403هـ-1983م.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب فضل الصوم عن أبي هريرة راجع "فتح الباري" 4/103.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة عن ابن مسعود راجع "فتح الباري" 4/119، وفي حاشية "الروض المربع": إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالصوم بالجوع" 3/345 .
[5] أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور عن أبي هريرة، راجع "فتح الباري" 4/116.
[6] "زاد المعاد" - ابن القيم الجوزية 1/152.
[7] راجع "أحكام القرآن" ابن العربي 1/74-75 .
[8] أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء عن ابن عباس راجع "فتح الباري" 4/244.
[9] أخرجه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل راجع "الفتح الرباني" كتاب الصيام، باب أحوال الصيام 9/239-244.
[10] راجع "الجامع لأحكام القرآن" القرطبي 2/213.(/11)
[11] راجع "تفسير القرآن العظيم" ابن كثير الدمشقي 1/213.
ويختص الصيام من بين الفرائض والشعائر الدينية المتعبَّد بها بشرف إضافته إلى الله تعالى، ونسبته إليه، وتفرده بعلم مقدار ثوابه وعظم فضله؛ لبعده عن الرياء والشهرة وخفائه عن الناس، وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، التي ذكرها الأئمة ومنها ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه - عز وجل - قال: ((يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ))[2]. وإنما خص الصوم بذلك وإن كانت العبادات كلها لله سبحانه وتعالى، لما أشرنا إليه من مباينة الصوم سائر العبادات والشعائر في كونه سرًّا بين العبد وربه، لا يظهر إلا له فكان لخفائه عن الناس بعيدًا عن شبهة الرياء والسمعة، فاستحق بإخلاص صاحبه لله اختصاصَه به، وإضافته إليه دون سائر العبادات.(/12)
العنوان: الصيام والوظيفة
رقم المقالة: 1193
صاحب المقالة: خالد الحليبي
-----------------------------------------
أخي الصائم ..
لعلك تشاركني العجب من قوم جعلوا صيامهم حجة لهم، وعذرًا عن تقصيرهم في أداء واجباتهم على الوجه الحسن, فعللوا تأخرهم في قدومهم إلى وظائفهم بأنهم كانوا نائمين, ونوم الصائم عبادة!! وعللوا تراخيهم عن إتقان أعمالهم بأنهم مرهقون بسبب الجوع أو العطش, وللصائم الحق في أن يخفف عنه من جهد العمل ومشقته, وعللوا خروجهم المبكر قبل أن يستوفي وقت العمل حقه, بأنهم محتاجون لقضاء بعض اللوازم للإفطار!! وعللوا تذمرهم من المراجعين,وسلاطة ألسنتهم على الناس بأنهم .. أستغفر الله .. صائمون!!
فياليت شعري كيف يفسر هؤلاء أثر الصيام على أنفسهم؟ وكيف يفصلونه على قدود مشتهياتهم؟!
رمضان شهر العمل والبذل والعطاء، لا شهر الكسل والخور والضعف, شهر وقعت فيه أكبر الانتصارات في الإسلام في القديم والحديث, فلم يكن عائقًا عن أداء مهمة، ولا داعيًا للتقاعس عن إتقان عمل. ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ)) حديث جليل لا يختلف مراده بتغير الأزمان, وقاعدة عظيمة لا تختل بظرف طارئ، كيف والصوم عبادة تؤدى لله؟! هدفها الأول تربية التقوى في النفس المؤمنة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].(/1)
والتقوى وازع إيماني عميق الجذور, إذا تغلغل في النفس كان حاجزًا مانعًا لها عن كل ما يسخط الله، ودافعًا قويًّا لها إلى كل ما يحب الله, والإتقان مما يحب الله, وهو من صفات الكمال التي اتصف بها - عز وجل - قال تعالى: {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]. فأول ثمرة متوخاة من تقوى الله تعالى في العمل, مراقبتُه عز وجل في كل الساعات التي تمضيها - أخي الموظف الصائم - وأنت تمارس عملك, بأن تكون في مرضاة الله، وألا تضيع منها دقيقة واحدة في غير ما يخص وظيفتك، وأن تنشط لمهامك بوعي تام, وأن تكون في موقعك ينبوعَ أخلاق، ونهر عطاء تتدفق بكل خير على مراجعيك، دون تذمر منهم أو مشقة عليهم, فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ, وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ)).
وصح عنه - صلى الله عليه وسلم – قولُه: ((وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)). تخيل معي لو أن كل صائم منا حمل هذه الراية البيضاء, إذن لبكى الشيطان بكاءً مرًّا؛ لأننا أفشلنا أكبر مؤامرة خطط لها من أجل إفساد عبادتنا, وذات بيننا.
فما رأيك - أخي الصائم - أن تحمل الراية معي لنكون في كوكبة الصابرين، ونواجه كل متحدٍّ لمشاعرنا, أو مستفز لأعصابنا بهذا الهتاف الإيماني: ((إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)) بل فلنحاول أن نناصح زملاءنا في العمل، ونذكِّرهم إذا رأينا منهم بعض ظواهر هذه الممارسات الخاطئة.. فلعلنا نفوز باستجابة... ودعوة... ومثوبة.(/2)
العنوان: الصيام وتربية المسلم
رقم المقالة: 1194
صاحب المقالة: صلاح أحمد الطنوبي
-----------------------------------------
قال جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة : 183-185]
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ))؛ متفق عليه.
الصيام في اللغة:
الإمساك والكف عن الشيء. يقول ابن فارس في "مقاييس اللغة": "الصاد والواو والميم، أصل يدل على إمساك وركود في المكان، من ذلك صوم الصائم، هو إمساك عن مطعمه ومشربه وسائر ما منعه".
وفي "القاموس المحيط" للفيروز أبادي: "صام صومًا وصيامًا واصطام: أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير".(/1)
وفي "لسان العرب" لابن منظور: "الصوم في اللغة: الإمساك عن الشيء والترك له، وقيل للصائم صائم؛ لإمساكه عن الطعام"
وفي "أساس البلاغة" للزمخشري: "صام صمت صامت الريح ركدت".
الصيام في الشرع:
هو الإمساك عن شهوتي الفم والفرج، وما يقوم مقامهما، مخالفةً للهوى، في طاعة المولى، في جميع أجزاء النهار، بنية قبل الفجر أو ما معه إن أمكن فيما عدا زمن الحيض والنفاس.
والتعريف السابق للمالكية، وقال الحنابلة: الصيام هو الإمساك عن المفطِّرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وقال الشافعية: هو إمساك عن مفطِّر على وجه مخصوص.
وقال الأحناف: إنه الإمساك عن أشياء مخصوصة، وهي الأكل والشرب والجماع، بشرائط مخصوصة. وأوفى تعريف هو تعريف المالكية.
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي:
العلاقة بينهما هي أن في كل منهما إمساكًا، فالصوم في المعنى الشرعي إمساك عن الأكل والشرب والجماع وما في معناها، ويتميز عن الإمساك اللغوي بأنه لا بد أن يكون طاعة لله تعالى، وأن يكون المُمسِك صالحًا للصوم، والزمن صالحًا لأن يُصام فيه.
وأما الصوم في اللغة فهو - كما تقدم - الإمساك مطلقًا عن الأكل والشرب والحركة والكلام، ومنه قوله تعالى إخبارًا عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنسِيًا} [ مريم: 26] أي إمساكًا عن الكلام.
التقوى روح الصيام:
عقَّب الله تعالى بالغاية من الصيام بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] أي تتخذون من الصيام وقاية تحول بينكم وبين الميول المرذولة والمنكرات.(/2)
إن أمر الصيام موكول إلى نفس الصائم، لا رقيب عليه إلا الله - جلت قدرته - فإذا ترك الصائم شهواته، التي تعرض له أثناء الصوم امتثالاً لأمر الله تعالى، ورَاضَ نفسَه على الصبر كلما أغرتها الشهوات شعورًا منه بأن الله - تبارك وتعالى - يراقبه، وأنه مطلع على سر نفسه، وتكرر منه ذلك شهرًا كاملاً، فلا جرم أن يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكةُ مراقبة الله تعالى وخشيته، والحياء من الله أن يراه حيث نهاه.
إن التقوى: حساسية في الضمير، وصفاء في الشعور، وشفافية في النفس، ومراقبة دائمة لله تعالى.
والمؤمنون الذين خاطبهم الله تعالى في القرآن الكريم يعلمون مكان التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، وقوة تأثيرها، وحسن نتائجها في أعمالهم السياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مما يحصلون به على السعادة الصحية، والحياة الطيبة في الدارين، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم فتندفع إليها بقوة.
وهذا الصوم أكبر حافز لتحصيلها، وخير أداة من أدواتها، وأحسن طريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها سياق القرآن الكريم في ختام الآية لفرضية الصيام أمام عيونهم وقلوبهم هدفًا وضَّاء ينهجون إليه عن طريق الصيام.
الصيام تربية للإرادة:
لا توجد عبارة من عبارات الإسلام تشحذ الإرادة وتقويها كالصوم؛ لأن الصائم لا تفتأ نفسه الأمارة تزين له الشهوة وتغريه بالملذات، فيحتاج في قهرها وإلزامها سبيل الطاعة إلى إرادته كسلاح حاسم بتار، وما أشبه الصائم بجندي في معركة، سلاحه فيها إرادته المصممة، ويوم يضعف هذا السلاح؛ ينهزم الصائم في معركة الصوم، وما يزال الصائم يستخدم إرادته في قهر نفسه؛ حتى تصبح بالممارسة العملية سلاحًا بتارًا قويًّا يستصحبه في غير رمضان من شهور العام.(/3)
لقد وضع الأستاذ الألماني جيهاردت كتابًا في تقوية الإرادة، جعل أساسه الصوم، وذهب فيه إلى أنه هو الوسيلة الفعالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد؛ فيعيش الإنسان مالكًا زمامَ نفسه لا أسير ميوله المادية.
إن وظيفة الإرادة تكبح جماح الغريزة، وتخفف غلواء الحيوان الذي يعيش في عروق الإنسان، فيثير شهواته وعواطفه، كما الضابط يقبض المعسكر فيمنع توتره وفضوله.
وممارسة الصوم في شهر رمضان، لإبراز استقلال الإرادة، تمرن الصائم على اعتياد التحرر والانعتاق، من أحابيل الغريزة ومكايدها، وترهف عزيمته وتشحذ مواهبه، وتستخرج ركائزه الدفينة؛ ليودعها مصرف روحانيته ليجدد عنها - عند الشدائد - مدد الثبات والعزم والخشونة والجَلَد، حتى ينقلب الصائم بطلاً تنفجر أعصابه إيمانًا ومضاء؛ فلا يذل ولا يخشع ولا يستكين، وإنما يبقى كالجندي المعبأ، يتحفز أبدًا للدفاع والوثوب.
وهكذا مدرسة الصوم تربي في الصائم إرادة قوية فولاذية لا تفل ولا تكسر، ولَكَمْ خاض بها المسلمون معارك ضارية، فما لانت لهم قناة، ولا زلت لهم نفس، ولا وهنت لهم عزيمة، وإنما خرجوا من هذه المحن كما تخرج قطعة الذهب إذا وضعت في النار لا تزداد إلا تألقًا وصفاء، فكانت الانتصارات، يوم الفرقان يوم السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة يوم بدر، يوم ارتفعت راية الإيمان والنصر خفاقةً تؤذن بكلمة التوحيد وانتصار الإسلام.
ويوم فتح مكة المكرمة يوم الحادي والعشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة صارت مكة دار سلام بعد أن كانت معقل الشرك والمشركين.
يوم أن دخل الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم – مكةَ، وهو يتلو قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].(/4)
ويوم فتح ثغور الأندلس أسبانيا على يد موسى بن نصير في السنة الحادية والتسعين من الهجرة، وانهزام الملك رودريك، وانتهاء السيطرة على أقطار أسبانيا، بقيادة طارق بن زياد.
فالصوم حافز للجهاد، ودافع من دوافع النصر والاستشهاد.
الصوم قوة للروح:
الصوم من أعظم البواعث على إيقاظ الروح، وتنقيتها من الشوائب والأوضار، ذلك أن امتلاء المعدة بالطعام، وانبعاث النفس مع الشهوة يوبق الروح، ويطمس أنوارها، ويحجب أشواقها وأسرارها.
ومن وصايا لقمان لابنه:"يا بني إذا ملأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة."
وقال أبو حامد الغزالي: "في جوع الإنسان صفاء القلب، وإيقاد القريحة؛ لأن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب."
إن قولة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي: "إن الصيام وقاية للإنسان من المعاصي، ووقاية للنفس من الشر والإثم، ومدرسة يتعليم فيها الصائم سمو الروح، ولذة المناجاة، وصفاء النفس، فلا عجب أن يسمى مدرسة الثلاثين يومًا."
إن الجوارح كلها لا بد أن تصوم، وتشارك المعدة والفرج، حتى يكتمل الصوم، فيصوم اللسان من الكذب، والغيبة والنميمية، والقذف، وشهادة الزور، وتصوم العين عن الامتداد للمحرمات، ويصوم القلب عن الحقد والحسد والرياء، وتصوم اليد عن غير المباح كالقتل والضرب والسرقة، وتصوم القدم عن السعي إلى المنكر والضلال، ويصوم الفكر عن التسولات الفاجرة والشبهات، وهكذا تتهذب النفس والحواس، ومتى تهذبت الشخصية الإنسانية، كان هناك المجتمع السعيد.
الصوم وشكر النعمة:
من حِكَم الصيام أنه يُذكِّر الإنسان بنعمة الله تبارك وتعالى، فالإنسان إذا تكاثرت عليه النِّعَم ألِفَها وطال أنسه بها، وربما نسي الشعور بقيمتها والإحساس بأهميتها، من طول تعوده على وجودها.
والنِّعَم لا تعرف إلا بفقدانها، فالصحة لا تعرف قيمتها إلا عند المرض، والمال لا تدرك قيمته إلا عند الفقر، والشبع لا تدرك أهميته إلا عند الجوع.(/5)
والصوم مرتبة بدائية من المواعظ العملية، حيث يسلب الله تعالى به من العباد بعضَ نعمه في أوقات محدودة، ولا يسلبهم الاختيار حتى يصابوا بالذل، وإنما يسلبهم مؤقتًا باختيارهم بعضَ نعمه، لكي يتذوقوا ألم الحرمان، فيعرفوا نعمة الله تعالى، ويشكروه، عندما يحل لهم الطيبات.
ومتى تكرر هذا الحرمان أيامًا متتالية كل عام، تركز الشكر في نفوسهم، فلزموه على كل حال، فأصبحوا شاكرين.
إننا مدعوون إلى مد العون لإخواننا الجياع، الذين يطوون أيامًا وليالي لا يجدون ما يسد جوعهم في أفغانستان و أفريقيا؛ شكرًا لله على نعمه واعترافًا بفضله.
الصوم والصحة العامة:
الصوم يريح جميع الأجهزة داخل الجسم، والأنسجة، والخلايا، والغدد من الإنهماك في العمل المتواصل.
والصوم يقي المسلم البدانةَ وأخطارها، فإذا صام المرء واتبع آداب دينه في طعامه وشرابه، ومارس عمله بصورة عادية، فإن جسمه سيحصل على طاقته الحرارية من كمية الغذاء الأقل عن المعدل اليومي، وبالتالي نجد أنه سيكون في حاجة لمصدر آخر لتزويده بالطاقة الحرارية يأخذها من الدهون المترسبة تحت الجلد وبالعضلات والأنسجة الأخرى، وبذا يكون الصوم صيانة دورية ومانعًا متجددًا من حدوث السمنة.
والصوم وما يؤدي إليه من تقليل الوزن، وتقليل كمية الأملاح بالجسم، وطرد النفايات السامة، من أهم العوامل المساعدة في علاج أمراض المفاصل، وهناك عدة مدارس طبية لعلاج الأمراض المفصلية بالصوم، منها مدرسة دكتور آلان، وكذلك مدرسة دكتور ماك فادون الأمريكي.
ويستفيد الكثيرون من مرضى الأمراض الجلدية من الصوم، كمرضى البشرة الدهنية والصدفية وحب الشباب وقشور الرأس، لأن تقليل كمية الغذاء والمواد الدسمة والحريفة، هي التي تساعد على تقليل متاعب هؤلاء المرضى.
عطاء الله للأمة في رمضان:(/6)
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ قَبْلَهَا: خَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيْبُ عِنْدَ الله ِمِنْ رِيحِ المِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ اللهُ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، وَيَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ المَؤُونَةَ وَالأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ، وَتُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينَ فَلاَ يَخْلُصُونَ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، وَيُغْفَرُ لَهُمْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ)). قيل: "يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟" قال: ((لاَ، وَلكن العَامِلَ يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ)).
هذا وبالله تعالى التوفيق، والحمد لله تعالى على نعمة الإسلام، وتقبل الله تعالى عبادتنا، وأعاننا سبحانه على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصلى الله تعالى على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وأمته وسلم تسليمًا كثيرًا.
المراجع:
1 - "مفسدات الصيام وأحكام القضاء والكفارة" رسالة ماجستير عبدالعزيز داود.
2 - "حديث رمضان، السيد محمد الشيرازي.
3- "مجالس شهر رمضان"، الشيخ محمد بن صالح العثيمين.
5- "رمضان والطب"، الدكتور أحمد عبدالرءوف هاشم.
6- "الطب النبوي والعلم الحديث"، الدكتور محمد ناظم النسيمي.
7- "هكذا نصوم"، توفيق محمد السبع.
8- "المناهل الحسان في دروس رمضان" عبدالعزيز المحمد السلمان.
9- "الصوم"، الشيخ عبدالرحمن الدوسري.
10- "فضائل رمضان وأحكامه"، عبدالله ناصح علوان.
11- "روح الدين الإسلامي"، عفيف عبدالفتاح طبارة.
12- "الصوم فقهه وأسراره"، محيي الدين مستو.
محطات رمضانية:
1- الصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح تقربًا لله تعالى.
2- وقته : من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.(/7)
3- حكم صوم رمضان واجب وهو الركن الرابع من أركان الإسلام.
4- يجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم.
شروط وجوبه أربعة وهي:
أ - الإسلام: فلا يجب على كافر حتى يسلم.
ب - والعقل: فلا يجب على مجنون حتى يعقل.
ج - والبلوغ: فلا يجب على صغير حتى يبلغ، لكن يؤمر به الصغير إذا أطاقه ليعتاده.
د - والقدرة على الصوم: فلا يجب على العاجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى شقاؤه، ويطعم عن كل يوم مسكينًا.(/8)
العنوان: الضاد
رقم المقالة: 395
صاحب المقالة: علال الفاسي
-----------------------------------------
إلى متى لغةُ القُرآنِ تُضطهَدُ ويستبيحُ حماها الأهلُ والوَلَدُ
أما يرونَ أنها في الدّهرِ عُدتهُم ومالهُم دونهَا في الكونِ مُلتحدُ
ولن تقومَ لهمْ في الناسِ قائمةٌ أو يستقيمَ لهم في العيش ما نَشَدوا
إن لم تتمّ لهم في الضادِ معرفةٌ أو يكتمل لهم في الضادِ مُعتَقَدٌ
وكيفَ يصغونَ للأعداء تذكُرُها وأصلُ ما وصَفوهُ الحقدُ والحسدُ
والقاذفونَ لها بالعجزِ ما جهلوا لأنها فوقَ ما ظنّوا وما اعتقدوا
تآمروا وأعدوا كلَّ مدرسةٍ بها قواعدُ الاستعمار تقتعدُ
تعلّم الجهل بالماضي الذي صنعت يدُ العروبة، والماضي الذي تعدُ
وتنكر اللغةَ الفصحى وما نظمت من المعاني وفيها العلمُ والرشدُ
وتبرز الأمرَ معكوسا كأنهم بناةُ ما صنع الآباءُ أو وجدوا
يزوّرونَ من التاريخ ما علموا ويدّعونَ من الأمجاد ما فقدوا
لو أنصفوا لرأوا تاريخَنا صحفاً من المآثر لم يسبق لها أحدُ
وكلها غررٌ في لحظها درر مترجمات لما قالوا وما قصدوا
تلك اللغاتُ التي لم تعيها فِكَرٌ ولا فنونٌ ولا علمٌ ولا عددُ
قد بشّرت كلماتُ الله في سورٍ لا ينقضي عجبٌ منها ولا مددُ
من غيرها في لغات الأرضِ قادرةٌ على أداء كلام الله إذ يعدُ
من ذا يترجمُ آياتِ الكتابِ كما أدته؟ هل لغةٌ في الأرض تعتمدٌ؟
قد حاولته لغاتٌ، كلها عجزت عن أن تؤدي فحواه الذي جحدوا
والضادُ تفخرُ أن أعيت مُعارِضَها فكيف تُعجزُها الآلاتُ والعُدَدُ؟
وأنها البحرُ زخّارٌ بباطنِهِ من الجواهرِ ما يزهو به الأبدُ
من يغترف منه لا تتبعه خارقةٌ من الصنائع أو يعجزه مرتَصدُ
هيا اذكروا واتحدّوا فهي قادرةٌ على الجواب بذاك الحق يعتضدُ
أنى يضيقُ أو تضيقُ بمعنى أو سور بها مرافئ أظهرتها الأعصرُ الجدُدُ
والعلمُ من غيرها جهلٌ وإن ملئت أوراقُه بالذي فيه الورى اجتهدوا(/1)
والفنّ ما لم ينل من لفظها حُللا يبقى كما اختل عقدٌ ليس ينتضدُ
والفكر إن لم يعبر عنه قالبُها يبقى كما الزهر في الأكمام لا يلدُ
قل للحكومةِ والأيامُ شاهدةٌ عودي إلى الحق لا يصددكِ منتقدُ
عودي إلى خطةٍ ترضى البلادُ بها ويستقيمُ بها للملةِ الأودُ
وحرري الضادَ حتى يستبينَ لها مجالهُا الحرّ، لا قيد ولا صفدُ
عار رواسب الاستعمار نكلؤها وعندنا الجهلُ والإذلالُ والكمدُ
عار قد استعجمت أقوالُنا وغدت أفكارُنا بمعاني الخصم تتحدُ
نحتاجُ ما بينَنا للترجمانِ كما يحتاجُ إخوانُنا في الضاد إن وجدوا
عند الإدارة أو عند المدارسِ أو عند المتاجر أضحى الضادُ يبتعدُ
يا ويح أمتنا ممن يكيدُ لها ومن حليفٍ له من نبعه يردُ
ويح العروبة في أرض العروبة لا تلقى المجير، وفيها الخائن النكدُ
المغربُ العربيّ مأساته عظُمت فأين آسيه ؟ أين المخلّص الصمدُ؟
الأمرُ للشعب فليعلنْ إرادَته وكلنا طاعةٌ للأمر نعتمدُ
إنا بني الوطنِ الأسمى الأساة له والجند للضاد نحميها ونجتهدُ
من لا يؤدي إلى الأوطان واجبَهُ فهو العدوّ فما ترضى به البلدُ
هبوا بني الوطن الأسمى إلى عملٍ من شأنه الفوزُ للأوطان والرغدُ
وناصروا الضادَ في كل المواقف إذ من فوزها غايةُ التحرير تمتهدُ(/2)
العنوان: الطالبة المسلمة
رقم المقالة: 1671
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
الطالبة المسلمة:
تضع الإخلاص في طلب العلم نصْب عينيها، فهي تتنقل في دراستها من درسٍ إلى درس، ومن حلقة إلى حلقة أعلى؛ بنية طلب العلم في كل ما تتعلمه..
والطالبة المسلمة قدوة لغيرها، بعيدة عن الكسل والكسالى، تحرص على الحضور المستمر وتنبذ الغياب غير المبرر، وتحرص على الوقت والفهم والكتابة والاستيعاب، وتبكر في الحضور إلى الدرس، وهي مرتبة وليست فوضوية..
والطالبة المسلمة مجتهدة، على الرغم من بعض الظروف الصعبة.. تطور نفسها بنفسها وبغيرها، وتدعو إلى الأمل والتفاؤل..
فهي تحمل هم الأمة في قلبها وتطمح إلى أن تكون ذات شأن صالح في أمّتها..
وفي ذلك، يقول الشاعر علي الفيفي، من قصيدة:
الطالِبة
للشاعر: علي الفيفي
جَمَعَتْ خَيْرَ الصِّفَاتِ وَتَحَلَّتْ بِالثَّبَاتِ
وَمَشَتْ فِي الدَّرْبِ سَعْيًا رَغْمَ كُلِّ الْعَقَبَاتِ
• • • •
قَطَعَتْ شَوْطًا بَعِيدًا بِالْجُهُودِ الْخَيِّرَاتِ
قَالَتِ: اَلْجَهْلُ سَأَرْمِي هِ بِبَحْرِ الظُّلُمُاتِ
أَطْلُبُ الْعِلْمَ بِعَزْمِي وَاجْتِهَادِي وَثَبَاتِي
وَإِذَا أَهْمَلْتُ يَوْمًا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ
وَمَضَى وَقْتِي هَبَاءً فِي سَمَاعِ الأُغْنِيَاتِ
وَدَخَلْتُ الْفَصْلَ كَالْعَمْ يَاءِ بَيْنَ الْمُبْصِرَاتِ
وَأَتَى يَوْمُ امْتِحَانِي فِي عِدَادِ الرَّاسِبَاتِ
وَبَكَتْ أُمِّي وَفِي عَيْ نِي مِئَاتُ الْعَبَرَاتِ
وَرَأَيْتُ الْحُزْنَ فِي وَجْ هِ أَبِي وَالأَخَوَاتِ
أَيُّ مَعْنًى لِوُجُودِي أَيُّ مَعْنًى لِحَيَاتِي!
• • • •
غَيْرَ أَنِّي سَوْفَ أَبْقَى قُدْوَةً لِلطَّالِبَاتِ
وَأُرِيهِنَّ بِأَنِّي مِنْ خِيَارِ الْفَتَيَاتِ
• • • •
وَبِأَخْلاقِي وَعِلْمِي وَعَفَافِ الْمُؤْمِنَاتِ
وَحَيَائِي وَابْتِعَادِي عَنْ جَمِيعِ الشُّبُهَاتِ(/1)
سَوْفَ أَحْظَى بِاحْتِرَامِ ال نَّاسِ فِي كُلِّ الْجِهَاتِ*
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* رحلة العمر/ علي الفيفي، ص 19 – 21.(/2)
العنوان: الطبيب الداعية
رقم المقالة: 590
صاحب المقالة: محمد مصطفى علوش
-----------------------------------------
قديماً قيل: "الطب محراب الإيمان". ولعل سبب هذه المقولة راجع إلى ما يشاهده الطبيب عن قرب، ويلمسه بأنامله من عجيب صنع الله في البشر، وقد أمرنا المولى تبارك وتعالى أن نمعن النظر في أنفسنا؛ فقال: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20،21]، فالطبيب هو من يلمس ذلك عن كَثَب، وهذا يدعوه لزيادة إيمانه وصلته بالله، الذي أبدع في خلقه للإنسان، والطبيب هو أول من يعلم أن حياة هذا المخلوق كلٌ متكامل، إن أراد الله تعطيل جهاز منه تخلخلت وظائف الجسد كله، وتداعت له الأعضاء بالحمى والسهر.
والأطباء من جملة من ينطبق عليهم وصف الله للعلماء الذين يخشونه سبحانه بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28].
وإن أعجب فلا ينقضي عجبي من صنفين من الأطباء؛ أولهما: هذا الطبيب المُسْتَهْتَر، الذي اتخذ هذه المهنة الإنسانية النبيلة وسيلة لسد طمعه وجشعه، الذي لا حدَّ له ولا نهاية، وافتخاره بمركزه الاجتماعي، ساعياً ليصرف وجوه الناس إليه، لا يراعي حق الله في عمله، ولا يخلص لمرضاه، ولا يجتهد لهم في النصيحة، وكل همه ما في جيوب مرضاه، لا ما في أجسامهم من علل وأسقام وأمراض؛ فبالله، كيف يستحق مثل هذا وأمثاله اسم الطبيب؟! وكيف يستحق رداءه الأبيض الذي يدل على الطهر والصفاء والإنسانية؟!!(/1)
وصنف آخر قريب من الأول، لكنه أفضل منه بقليل؛ فهو يؤدي واجبه في مهنته الإنسانية بكل أمانة، ودون طمع ولا جشع، وحريص على إرجاع البسمة والصحة والعافية إلى قلوب ووجوه مرضاه وأجسامهم، لكن دوره ينتهي أو ينهيه عند هذه النقطة، وهذا لا عيب فيه، وإنما النقص هو الوقوف عند هذا الحد، وعدم الطموح للمعالي، ولو نظر هذا الطبيب حوله قليلاً متسائلاً: ما الذي يدفع ذلك الطبيب الأوربي الأبيض المرموق في بلده، أو تلك الفتاة الشقراء الحسناء، أن تترك أهلها وديارها وملاذ حياتها، المتوفرة بكثرة في وطنها، ويدفعها إلى بلاد أصابها الوباء، وارتفعت حرارتها إلى حد اللهيب، وانتشر فيها الجوع إلى حد الهلاك؛ لتشارك في حملات طبية، وتقدم العلاج إلى المنسيين في الأرض؟ لو سأل هذا الطبيب المسلم نفسه هذا السؤال المهم، لوجد الإجابة تُدِينُه، وتطالبه ألا يقف في مهنته عند حد وأفق معيَّن.
الجواب يا سيدي الطبيب: أن ذلك الطبيب والممرضة الغربيين، دفعهم التبشير بدينهم المحرَّف المنسوخ ليتركوا وراءهم الماء والخضرة والوجه الحسن، ويساهموا في حملات التنصير، بأجر أو دون أجر، المهم أنهم حملوا همَّ دينهم الفاسد وعقيدتهم الضالة، وقدموها للمنسيين الفقراء بثوب أبيض ناصع.
أنا لا أقول لك: يا حبيب، يا طبيب، اترك أهلك وأبناءك ووطنك وعيادتك ومرضاك إلى الأبد، وتنقَّل بين القرى، أو اذهب إلى مجاهل أفريقيا، وامكث هناك مكثاً لا رجوع بعده، لا؛ فهذا طلب تعجيز، ولن يطلبه أحدٌ منك؛ فأنت قبل كل شيء بشر، درست وتعبت وسهرت، وأفنيت نفسك في سبيل الوصول لهذه المكانة، ومن حقِّك أن تنال ثمرة تعبك وجهدك، لكن اعلم: كما أن في المال حقُّ الزكاة، وهو ربع العشر، أي 2,5 % كذلك اجعل هذا الحق في مهنتك، فماذا يضيرك لو فكرت بحملة دعوية، تقدم فيها الإسلام الناصع السمح الراقي للعالم مرة في العمر، أو كل خمس سنوات، أو أقل أو أكثر؛ فتكون قد زكَّيت مهنتك كما زكيت أموالك!(/2)
وبهذا تكون طبيباً داعية حقاً، واعلم أن أثرك في الناس سيفوق بمئات المرات تأثير الداعية العادي، وستجد عند الله القبول والثناء الحسن، وسيحبك الرب - تبارك وتعالى - ويجعل لك القبول في الأرض، وكن على ثقة من أن الله - سبحانه - سيعوِّضك عن كل ما بذلته من جهد ومال ووقت. واقرأ إن شئت عن سيرة الطبيب الداعية عبد الرحمن السميط، وفقه الله.(/3)
العنوان: الطريق إلى الإبداع
رقم المقالة: 1922
صاحب المقالة: محمد سعيد مرسي
-----------------------------------------
الطريق إلى الإبداع
• الإبداع.. ما هو؟
• الطريق إلى الإبداع.
• معوقات الإبداع.
• • • • •
الإبداع... ما هو؟
هو النظر للمألوف بطريقة غير مألوفة بمزيج مِنَ الخيال والتفكير العلميّ المَرِن، لحلِّ مشكلة أو لتطوير فكرة قديمة، أو لإيجاد فكرة جديدة يَنتج عنها إنتاج متميِّز، غيرُ شائع، يمكِنُ تطبيقُه واستعمالُه.
والإبداع يأتِي بأفكارٍ جديدة، يمكن بها تطوير العمل، وليس بالضرورة أن تكون هناك مشكلة قائمة ليَحُلَّها التفكير الإبداعيّ؛ بل ربَّما يكون الإبداع أحيانًا سببًا في حدوث بعض المشكلات، خُصوصًا أنه يعتمد على إيجاد أو تطوير أفكار، أو أعمال غيرِ مألوفة.
والإبداع نصفان: وِراثيّ ومكتسَب، وليس مِنَ الضروريِّ أن يكون المبدِع ابنًا لمبدِع، والواقِع يؤكد ذلك؛ بل إن الجانب المكتسَب هو الأهم في العملية الإبداعيَّة.
الطريق إلى الإبداع
تلعب الأسرة دَورًا خطيرًا في حياة الطفل وشخصيته ومستقبله، فهي إمَّا أن تُسهِمَ في تنمية شخصية الطفل وتطوُّرِها، وتُكْسِبَها اتجاهًا، وقِيَمًا إيجابيَّةً، ومُيولاً علمية مِن خلال ما سنتحدث عنه مِن وسائل، أو تُسهِم في طَمْس شخصية الطفل، وتحطيمها مِن خلال سَلْبيَّتِها، وعدم تقديرها لمواهب طفلها، وإهمالها وعدم اعترافها بقدراته المُبْدعة المُتميِّزة.
إنَّ الاهتمام بالطفل منذ نعومة أظفاره، وتربيتَه على الإبداع والتفكير الابتكاريّ لَهُو أمْرٌ مهم جدًّا.
وبرغم أنَّ كثيرًا مِنَ الصفات يرثها الطفل، وتؤثِّر في سُلوكه وتفكيره ونفسيته، إلاَّ أنَّ الدراساتِ وأبحاثَ عُلماء الطبّ والنفس، أثْبَتَت أنَّ هناك صفاتٍ عديدةً يكْتَسِبُها الإنسان منَ البيئة التي يتواجَدُ فيها.(/1)
إنَّ الطريق إلى الإبداع مِنَ السهل سُلوكُه وتعويدُ الأبناء عليه، وذلك من خلال وسائلَ عديدةٍ نذكر منها:
1 – يَتَوَقَّع دائمًا الأشياءَ غيرَ المتوقَّعة فمثلاً: عندما نطلب منه (3 أرقام)، فسيقول لك 1، 2، 3 مَثَلاً؛ ولكنك تقول له: ولماذا لم تبحث عن 3 أرقام تليفونات، أو عناوين منازل مثلاً.
2 – تأمُّل الطبيعة كان سببًا في بعض الاختراعات، فالسيارة الفولكس كالحشرة، والسيارة الجاجوار كالفهد، وهكذا الطائرة الهليوكوبتر، ويمكن أن نُعَوِّد أبناءنا على هذا التأمُّل على شاطئ البحر، ووقتِ الغروب، ووقتِ الشروق، وفي الحدائق وغيرها.
3 – ليبحثْ عن الفكرة الجديدة في غير أماكنها المُعتادة؛ كمن يبحث عن أماكنَ للعب واللهو فيفكر في المطبخ، وكيف يلعب فيه بَدَلاً منَ النادي.
4 – عَوِّدِ ابنَكَ على تغيير عاداته اليومية؛ حتى لا يقع أسيرًا للعادة، ولا يحب التغيير أبدًا، فالروتين اليومي من معوِّقات الإبداع.
5 – لا تعوِّدِ ابنكَ أن يحصر نفسه في إجابة واحدة للسؤال؛ بل يُعَدِّد الإجابات للسؤال الواحد.
6 – حاول أنْ تسألَ ابنكَ عن أيِّ شيء بِصِيَغٍ مختلفة، وليس بصِيغَة واحدة فقط؛ حتى لا تكونَ صِيغة السؤال خطأ، فتكون الإجابة أيضًا خطأ.
7 – اتْرُكْ لابنِكَ العنان أنْ يسألَ ويجيب عن أسئلة: ماذا لو؟ مثل: ماذا يحدث لو كنتُ عصفورًا فوق شجرة توت؟ ماذا يحدث لو كنتُ قبطان سفينة؟
8 – المرح والمزاح، وليس الكبت والإحباط هما التمهيد للإبداع.
9 – اتركْ لابنكَ العنان ليجيب عن سؤال: ما علاقة كذا بكذا؟ فمثلاً: ما علاقة القطة بالثلاجة؟ يقول: كلاهما متعدد الألوان، ويمكن أن نضع في كليهما السمك (في بطن القطة، وفي الثلاجة)؛ وذيل القطة شبيه بموصل (فيشة) الكهرباء.
وهكذا يربط بين ما يفكر فيه، وبين ما يشاهده في الطبيعة، ويربطه بفكرته كربط شاطئ البحر، بسُوق السمك، فهذا كله يُنَمِّي التفكير الإبداعيَّ عند الصِّغَار.(/2)
10- ليتخيلِ ابنُكَ أنَّه هو الفكرة الجديدة، أوِ الرسمُ الجديد الذي صنعه، فلو أُتِيحَتْ له الفرصة ليتكلم ويدافع عن نفسه.. يا ترى ماذا يقول، وماذا يطلب؟
11- عَوِّدِ ابنَك أحيانًا أن يفكِّر تفكيرًا طفوليًّا أصغرَ من سِنِّه، فيَحْسُنُ مَثَلاً إذا كان عُمره 10 سنوات أن يمثل ما يمكن أن يقوله طفل الخمس سنوات عن فكرته الجديدة.
12- عَوِّدِ ابنَكَ ألاَّ ينشغلَ بالأمور الثانوية، ويترك الأمور الرئيسة.
13- عَوِّدِ ابنَكَ أن يُجَزِّئَ فكرته، ويبدأ بالمهمِّ، فالأقلَّ، فالأقلَّ.
14- لنعلِّمْ أولادَنا أنَّ الأفكار الجديدة قد تتعرض لاعتراضات، وقد تتعرض لأخطاء، فعدم اليأسِ والإحباطِ حينئذ هو الطريق إلى النجاح بإذن الله، فالمخترِع إديسون جرب 1800 طريقة؛ كُلَّما فشل في طريقة اخترع أخرى، حتى صنع المصباح الكهربائي، فلْنُعَوِّدْهُ الصبرَ إِنْ فشل في الاختبار، أو أحبطه المدرِّسُ، أو سَخِرَ منه أحد أقربائه.
15 – عَوِّدِ ابنَكَ على التفكير في بدائلَ عديدةٍ لأفكارٍ قد تبدو له واضحة جَليَّة خصوصًا عند حل المشكلات.
16 - إنْ قال ابنُكَ فكرة جديدة، أو غريبة؛ فلا تَسْخَرْ أو تُظْهِرِ استغرابًا، فإنْ طلب أن يسافر بالدراجة فقل له: ممكن؛ ولكن ماذا لو تعتب في الطريق الصحراويّ، وكانت أقرب مستشفى على مسافة ساعة مثلاً، وماذا لو حدث كذا وكذا...
17 – التعوُّد على زيارة الأماكن الغريبة؛ كقِمَّة جبل، أو قِمَّة الهرم، أو معرض الأشياء الغريبة، أو زيارة كوخ، أو مغارة وهكذا.
18 – تجنَّبْ نقد طفلِكَ ولَوْمَه كثيرًا، وإن كان لا بُدَّ منه فليكن قليلاً، وبأسلوب غير مباشر، ليس فيه عنفٌ.
19 – لا ترفض أَيَّ فكرة لابنكَ؛ ولكن أَخرِجْها عن سلبيَّتِها؛ فإن رَفَضَ المذاكرةَ مثلاً فقل له: إنك تعتبر هذا الرفضَ مؤقَّتًا حتى ننتهِيَ من الغداء، ثم تلعب، وبعد ذلك تذاكر دروسك.(/3)
20 – عَلِّمِ ابنَكَ أنَّه إذا واجهتْهُ مشكلةٌ أو مسألة لم يستطع حَلَّها، فلْيَتْرُكْها ويَشْغَلْ نفسه بأي أمر عضلي؛ كالمشي؛ والسباحة؛ والتأمل؛ والتحدث؛ والصلاة؛ والنوم؛ واللعب؛ والاسترخاء؛ والتنَزُّه؛ والأكل؛ وهناك ستأتيه الأفكار الإبداعية لحلِّ مشكلته إنْ شاءَ الله؛ لأن العلماء يخبروننا بوجود علاقة بين جانبي المخ الأيمن، والذي يختص بالخيال؛ والأيسر والذي يختص بالحركة، فعندما يتحرك الإنسان يُعمِل الجانب الأيسر، ويستريح الجانب الأيمن فيبدأ الخيال بالعمل.
21 – ليمارسِ الطفلُ ما تعلَّمَهُ مثل: اقرأ هذه (سيارة خاصة – إشارة المرور – اكتب تلغرافًا – الطبق به كم تفاحة – لو قسم علينا التفاح بالتساوي على كم يحصل كل منا وهكذا؟...).
22 – ليتعلمِ الطفلُ مهاراتِ الاستماع والتحدث (ألاَّ يقاطع المُتحدِّث – متى يستمع ومتى يتكلم؟ وكيف يُدْلِي برأيه المخالف لرأي الآخرين؟).
23 – البرلمان الصغير في البيت يُعمِّق مبدأ الشورى، ويُساعد الصغير على الإبداع.
24 – القِصص المصوَّرة تنمِّي الإبداع عند الطفل.
25 – لا بُدَّ مِنَ استيعاب حُبِّ الاستطلاع وكثرة الأسئلة عند الطفل، والإجابة عن أسئلته بما يناسب عقله.
26 – على الوالدينِ تحبيب الطفل في القراءة بإحضار القصص المصورة و(الشيقة) له، وتشجيعه على القراءة الجَهْرِيَّة، وحُسْن التصويب له عندما يخطئ.
27 – عدم إجبار الطفل على ميول معينة، فليس مِنَ الضروريّ أنَّ ابْنَ المهندس يكون مهندسًا، أو تلقينه عادات الآباء السيئة وغير السيئة.
28 – ينبغي توطيد الصِّلَة بالمدرِّس، وتعريفة دومًا بصفات الابن، والمرجو منه ليكون مبدعًا مُتفتِّح العقل.
29 – ليرى الشيءَ ثم يكتبه، فيُعطَى تفاحةً ويقال له: اكتب تفاحة، ثم يعطَى المَوْز ويقال له: من صنع الموز؟ فيقول: الله، وهكذا بالتدريب العملي.(/4)
30 – تجديد النشاط للطفل دَوْمًا يساعده على أن يكون مبدِعًا، متفتِّحَ الذهن، شديد التركيز.
31 – التَّغْذِية السليمة المناسِبة، تُنمِّي الإبداع، وتقَوِّي الذاكرة، وتَزيد الذكاء.
32 – اللَّعِب، ثم اللعب، ثم اللعب، مُهِمٌّ جدًّا لتنمية الإبداع عند الطفل، خُصوصًا إنْ تركناه على فِطرته وسَجِيَّتِهِ يلعب ما شاء، بلا تسلُّط، أو سخرية.
33 - تشجيع التخيُّل عند الطفل.
34 – ساعدِ الطفل على التفكير الحُرِّ، بلا تسلُّط أو فرض وِجهة نظر معينَّة عليه.
35 – اطْرَح مُشكلة أو أسئلة تثير الاهتمام والتفكير، أو مسألة معيَّنة عليه مع مجموعة من أقرانه في جلسات مفتوحة، ثم تترك له الفرصة معهم؛ ليطرح كل منهم رأيه مع تشجيع الاختلاف البناء، وتقليل أوجه القصور منهم.
36 – شجِّعِ الطفل على احترام قِيَمِهِ ومواهِبِهِ.
37 – تنمية المهارات بشتى الوسائل حتى لو كانت محدودةً، فمن عنده مهارة الرسم تُحضِر له الألوان والورق؛ ليرسُم ويلوِّن ما شاء، ثم يشجِّع ويصوِّب له من طرف خفيّ، ومَن عنده مهارة الإلقاء يشجعه الآباء والمدرسون على ذلك من خلال الإلقاء في الفصل، وفي الإذاعة المدرسية وهكذا.
38 – ساعده أن يصفِّيَ ذِهنه، ويبتعد عن مسبِّبات القلق، وكلّ ما يشتِّت الذهن.
39 – حفِّزْهُ بتوضيح الهدف من التَّفكير في هذا الموضوع، وأثر ذلك عليه.
40 – لتُعَوِّدِ ابنَك عَرْض أفكاره وإقناعَ الآخرين بها؛ ولكن نَبِّهْهُ إلى اختيار الوقت والشخص والمكان المناسب لطرْحِ أفكاره، فلا يعرض الفكرة لشخص متعب يريد النوم، ولا لأمه أثناء إعدادها الطعام، ويعرض الفكرة في مكانٍ هادئ؛ يسمح للمستمع أن يستمع بكل جوارحه، فلا يعرضها على صديقه في الملعب، أو على المدرس في الفصل أمام التلاميذ وهكذا، وليَعْرِضْها على شخص لا يُحبِطُه، ولا يتكَبَّرُ عليه؛ كبعض المعلِّمين والأقارب، ولْيَتَعَوَّدْ عرض الفكرة بأسلوب (شَيِّق)، ومثيرٍ ومؤدبٍ.(/5)
41 – دعْ طِفْلَكَ يَستَمْتِع بِطُفولته، واترُكْه على سجيَّتِه؛ يسأل؛ ويتعلَّم؛ ويلعب؛ ويقلِّد؛ ويعيش عالَمهُ الخاصَّ به، فلا تَحُطَّ من قُدُراتِه، ولا تستَصْغِر من شأنه.
42 – دع طِفْلَك يُجَرِّب ويَستكشف تحت رعايَتِكَ.
43 – لا تَمْنَعْهُ منَ اللَّعِب بِحُجَّة الحِفاظ على سلامته منَ الإصابة، ولا تحبِسْهُ داخلَ جُدران البيت حفاظًا عليه من الاختلاط بغيره، فالمدرسة، والنادي، والزيارات، والرحلات مُهِمَّة للطفل.
44 – أَتِحْ لطفلِكَ الحوافزَ اللاَّزمة، وذلك بأن تقرَأَ له وتتحدَّثَ وتلعَبَ مَعَهُ، شجِّعْهُ على ممارسة هِواياته، وزوِّدْهُ بالأدوات اللاَّزمة؛ لتنمِية اهتماماتِه الخاصَّة، خُذْه إلى المكتبة العامَّة والمُتْحَف، وعرِّفه على أكبر قدْرٍ من مصادِرِ المعرفة مثل: المراكز التعليمية، والثقافية، وغيرها.
45 – دعِ الطِّفْلَ يُمارِس طُفُولَتَه فإنَّ كون الطِّفل مَوْهوبًا يعنِي تفوُّقًا واضحًا فِي نُمُوِّه الفِكْري، فإذا كان الطفل في الخامسةِ من عمره، فقد تَدُلُّ مُؤشرات الذكاء إلى أن عمره العقلي أكبر من ذلك، أمَّا من الناحية العاطفية فمِنَ المؤكد أنه ما زال طفلاً له رغباته الخاصة بالأطفال، والتي لا يستطيع أن يتجاوزها.
46 – أَحْبِبْ طفلك كما هو عليه، ولا تقيِّدْ حُبَّك له وحنانك عليه بأيَّة شروط معيَّنة، مثل الإنجاز المدرسي كأن يكون الأوَّل على فصله، أو غير ذلك.
47 – شجِّعْهُ على المُجازَفَة، وكافِئْهُ على المُحاوَلَة، بِغَضِّ النَّظَرِ عن مَدَى النَّجاح الَّذِي يُحْرِزُه في ذلك؛ فمِنْ شَأْنِ هذا أن يَحُثَّهُ على بذل المزيد من الجهد في سبيل تحسين إنتاجه.
48 – شجِّعْ طِفلَكَ على أن يُرهِفَ إحساسَهُ لِكُلِّ ما يدور حوله، ويُحيطَ به، وشَجِّعْه على التجربة، والإكثار من الأسئلة.(/6)
49 – إنَّ النَّشاطاتِ العلميةَ توفِّرُ فُرصًا طيِّبةً، تُساعد الطفل على أن يُدرِك أن ليستْ كلُّ تجربةٍ ناجحةً، وأن عدم نجاحها لا يعني بالضرورة الفشل، وإن كان من المهمِّ أن نعلِّمه كيف يتجنَّب الفشل إذا كان هذا مُمكِنًا؛ بل ويعتبره حاجة مُلِحَّة إذا تعرَّضت سلامته للخطر، غير أنَّ الحرص الزائد عن حِدِّهِ ليتجنَّبَ الفَشَلَ، يُعيقُه عن أن يتصرَّف بِشكْلٍ واقِعِيٍّ سليم، وقد يُثَبِّطُ هِمَّتَهُ، ويَسْلُبُه زِمام المبادرة.
50 – إنَّ الطِّفل يتعلَّم الكثير بطريق التجربة والخطأ، ومنَ الضروريِّ له أن يجرِّب ويفشل، ثُمَّ يُعيدَ التجربة من جديد، ومع حاجته إلى التوجيه فهو أيضًا بحاجة إلى نجاحٍ يُحرزه بجهده الخاصِّ.
فكم مِن مرَّة وقع فيها وتعثَّر حين حاول المشي لأوَّل مرَّة، وكم جرَّب وعاوَدَ التَّجرِبة من جديد بِدافِعٍ ذاتِي، دون أن يدرِكَهُ اليأسُ والوَهَنُ، حتَّى نجح وأصبح قادرًا على المشي.
51 – حاول أن تكون شريكًا لِطِفْلِكَ في ألعابٍ مِن شأنها أن تُثِيرَ تَفْكِيرَه، وتُنَشِّط خياله، وكن له معاونًا، بما تظهره من بَشَاشَة وتشجيع، لا ناقدًا يَعُدُّ المثالب، وأوجُهَ النقص.
52 – ضعْ طفلك في موقف يتطلَّب منه التأمُّل، وإعمالَ الفكر، فتَعْرِضُ عليه مشكلة مما يتعرَّض له في حياته، فتقول له مثلاً: ماذا تفعل لو ضللت الطريق إلى البلدة؟ ماذا تفعل لو أصبحتَ مُعَلِّمًا؟ ما أقرب طريقٍ تصل بها إلى مدرستك؟ ماذا تقترح لتجميل حديقة البيت؟ أو ترتيب غُرْفَتِكَ؟ كيف تجعل من عيد ميلادك حفلة مَرِحَة ممتعة؟ فكر في لعبة تتمتَّع بها مع أصدقائك.(/7)
53 – لا تَدَعْ فُرصةً تَمُرُّ بك إلاَّ علَّمْتَهُ فيها خِبرةً جديدةً، أوْ توصَّلْتَ معه إلى حقيقةٍ علميَّة، أو حَلٍّ لمشكلة معروضة عن طريق الملاحظة، أو المناقشة، والحوار، مثل ظاهرة جمود الماء في الثلاجة، وذوبانه إذا ترك في الشمس، أو اختفاء السكر حين وضعه في الماء، أو سقوط أوراق الشجر في الخريف، أو نمو البذور إذا توفَّر لَها الماء، والحرارة، والضوء.
54 – وفِّرْ لِلطّفل فرصةً يَخْلُو فيها إلى نفسه يعمَلُ وَحْدَهُ، ويُجَرِّب في مكان هادئ بعيد عن الرَّقابة والتدخُّل، وبدونك أنت قد لا يتوافر لديه الوقت اللاَّزم للنشاط الإبداعيِّ الفرديِّ.
55 – لا تُقاطعْ طفلك إذا كان مستغرقًا في فكرةٍ أوْ عمل، حتَّى وَلَوْ كانَ ذَلِكَ منه لِمُجَرَّد الحصول على ثَنَائِكَ ورِضاك، وكن حريصًا على أن يتابع أفكاره، فتساعده على ذلك عن طريق الأسئلة بالمشاركة معه فتقول: هل يُمكن أن تُعَلِّمَني أن أفعل مِثْلَما تفعل؟ أو هل يمكن لي أن أساعدك في إتمام ما تعمل؟ وهكذا.
56 – لا تقلق إذا كان طفلك يستمتع بالأقاصيص، ونَسْج الخيال، أو المحاكاة، والتقليد، ووفِّر له سببا معقولاً يدفعه إلى التجربة والإبداع.
57 – لا تعلِّمْه أن يُجَزِّئَ عمله فيقوم به على دفعات؛ بلِ اترك له فرصة ينمو بها خياله، ويشتغِلُ عقلُهُ، وهذا لا يعني أن تتركه يعمل دون توجيه منك أو إرشاد؛ ولكن عَلِّمْه المهاراتِ البسيطةَ كيف يستعمل الفُرشاة والدِّهان مثلاً أو يمسك بالقلم، أو يستخدم المِقَصَّ؛ ولكن لا تُصِرَّ عليه، فتُمْسِكَ بيده؛ لتُرِيَهُ كيفَ يرسُمُ زهرة مثلاً، أو تقوم بتصحيح ما رسمه بعد أن ينتهي منه.
58 – يُمكِنُك أن تتقدَّم إليْهِ بِاقتراحات بنَّاءة إذا ظهر أنَّه بحاجة إليها، وغالبًا ما يتم ذلك عن طريقِ أسئلةٍ تُثِيرُ تفكيرَهُ، وتُقَدِّم إليه أفكارًا جديدة أو تقوده إليها، فذلك أفضل بكثير من أن تخبره مباشرة ما يجب عليه عمله.(/8)
إن الجهود الإبداعيةَ لا تكون خالصة دون غيرها، والطفل الذي يخشى التأنيب، أو خَلْط الأشياء التي يعمل بها، أو إتلاف بعضها، أو خلط الصحيح بالغلط لن يشعر بنشوة الإبداع، ولذا لا تطلب منه دومًا أن يتقيد بالأناقة في عمله، أو تمنعه من اللعب خشية أن يخلط أدواته أو يكسرها، أو يوسخ ثيابه.
59 – كافِئِ الطفلَ على جهوده الإبداعية؛ بتشْجِيعِك له، والثَّناءِ عليه وبمشاركته سُرورَهُ ومُتْعَتَهُ، وتقدير نتائجه الإبداعيَّةِ حتَّى ولو لم تَصِلْ إلى مُستَوَى الكبار، فما تُبْدِيهِ من سرور وإعجاب لما يُنجِزُهُ، أو يقوم به يُشَجِّعه على الاستمرار في التجربة، والمُضِيِّ فيها، أمَّا إذا قابلتَهُ باللامبالاة وعدمِ الاكتراث فقد تُثَبِّطُ من هِمَّتِهِ، وتقلِّل منَ احتمال بروقِ وَمَضَاتِهِ الإبداعية.
60 – زوِّد طِفْلَك بِالكثير منَ الموادِّ البسيطة النَّافعة، وشجِّعْهُ على استخدامها، وتفحُّصها دون رقابة دائمة، ونقْدٍ مُثَبِّطٍ، أو خوفٍ من أن يؤدِّيَ استخدامُه لها إلى إتلافِ بعضِها، أوِ العَبَث بنظافتها مِمَّا يُسَبِّب له التَّأنِيب، وإذا حَفَّزْتَ طفلَكَ على أن يكون حُرًّا في تَصَرُّفه في هذه المواد البسيطة، تكوَّنَتْ لديْهِ رِقَّة الشعور، ورَهَافَةُ الإحساس، والإطالة في التفكير، والمرونة في العمل، وهذا كلُّه من ضرورات الفكر المبدع في جميع الحقول والميادين.
61 - منَ المُهِمِّ جِدًّا أن تَعْرِفَ أنَّ قُدُرَات الطِّفل الإبداعيَّةَ توجد بالتأكيد عنده قبل أن يلتحق بالمدرسة، والمُعَلِّم غيرُ الواعي قد يعمل على طَمْسِها وضياعها إذا ما كَوَّنَ لديه القناعة بأنَّ تحسُّنَه في المدرسة مرهونٌ بِالطَّاعة التَّامة لأوامرِهِ وتعليماته، وبعدم اللجوء إلى السؤال والمناقشة.(/9)
62 – تَقَبَّلْ أفكار الأطفال حتى لو كانت ساذَجَةً، أما إذا كانت مُغْرِقَةً في الخيال، فيقوم الوالدان بتوجيههم إلى الطريق الذي يجعل الفكرة أكثرَ واقعيَّةً وممكِنَةَ التحقيق؛ فقد يقول الطفل: سنستخدم سُلَّمًا للصعود إلى القمر، أو بعد عامين سيختفي نهر النيل من مصر والسودان، ففي هذه الحالة يجب أن توجه هذه الأفكار إلى الاتجاه الصحيح.
63 – لا تَنْهَرْ طفلَكَ إذا سألكَ ماذا تفعل؟ لأن في سؤاله دليلاً على الرغبة في المشاركة، وهنا ينبغي أن تقول له ببساطة عما تفعل، وبذلك تُنَمِّي فيه حُبَّ الاستطلاع، وإن كان هناك إمكانية للمشاركة فشَجِّعْه على ذلك، ولو كانت في أضيق الحدود.(/10)
64 – يجب ألا تَضِيقَ بالأسئلة الكثيرة التي يسألها الطفل، والتي تحتاج إلى إجابات عديدة؛ بل يجب أن تُشَجِّعَه على الأسئلة واللعب بها وتحويرها، فكل ذلك يُسهِم في تَوْسِعَة مداركه، وزيادة معارفه، وقديمًا قالوا: "السؤال مفتاح المعرفة"، وقد أَثبتتْ بعضُ البحوث العلمية أن إطلاق الأسئلة بكثرة حتى وإن لم يتلقَّ الطفل إجابة عنها، يساعده على تنمية الإبداع، ويعطي الفرصة للفرد للإحاطة بجوانب الموضوع، فمَثَلاً قد يسأل الطفل حينما يشاهد سيارة: ما هذه (بتاعت مين – اشتراها بكام – مين بيركبها – بيروح فين)، ويمكن أن تكون هناك أسئلة أخرى في هذا الموضوع، مثل: من أول من اشترى سيارة؟ من صنعها؟ كم سيارة في المدينة؟ وما سرعة السيارة؟ أيها أسرع: السيارة أم القطار؟ ما لون السيارات؟ ما نوع الوقود؟ ما أول سيارة في العالم؟ وفي أي البلاد كانت؟ ويمكن أن يرى الطفل حديقة جميلة فيسأل: ما هذه الأشجار؟ كم شجرة هنا؟ كم ورقة في هذه الأشجار؟ من زرع هذه الأشجار؟ كم عدد الأوراق في كلِّ شجرة؟ ما أوَّل شجرة نبتت في هذه الحديقة؟ أين يذهب الماء بعد سقي الحديقة؟ وهكذا -: مِثْل هذه الأسئلة التي تُفَتِّح ذِهْنَ الأطفال، ومِنَ المَفْرُوض ألاَّ ينزعج الوالدان من مثل هذه الأسئلة التي قد يُلقِيها الأطفال؛ بل يجب أن يَتِمَّ تشجيعُهم على مثل هذا النوع من التفكير والإجابة عنها بما يناسب عقله وسِنَّه.
65 - ما سَبَقَ يَفْرِضُ على الوالِدَيْنِ أن يَزيدا منَ التفاعل مع الأطفال، وهذا يَفْرِض عليهما عدم الانشغال عن أطفالهما بالأعمال، وإقامة المشروعات، وإلاَّ خسروا شيئًا مهمًّا، وهو الأطفال وإبداعاتهم.(/11)
66 - أن يهتم الآباء بمُناخ الحريَّة والاحترام والانسجام العائلي، بتوفير جوٍّ منَ الحب والدفء والحنان؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى اطمئنان الأبناء وزيادة دافعِيَّتِهم إلى الإبداع، حيثُ أَثْبَتَتْ بعض البحوث العلميَّة أن الإبداع يَزيدُ في جوٍّ منَ الأمان النفسيِّ.
67 - التقليل من أساليب المحاسبة؛ فالأبناء كثيرو الخطأ، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك مَدْعاة للمحاسبة على كلِّ خطأ حتَّى ولو كان صغيرًا، وعلى الوالدينِ تشجيعُ الأطفال للاستفادة منَ الأخطاء، ومنح الحرية للتعبير والتشجيع على مُمارستها؛ لأنَّ المبدعينَ أصحاب علاقات دافئة ووثيقةٍ مع آبائهم، وباقي أفرادِ أُسَرِهم من الإخوة والأخوات الكبار والأعمام والعمات، والأخوال والخالات وغيرهم.
68 – العمل على تَنْشِئَة الطفل المستقلِّ ذاتيًّا، فهذا من أساليب تربية المبدعينَ، ويتحقَّقُ ذلك حِينما نَتْرُكُ الفُرصَة لِلطفل أن يختار لُعبتَه بنفسه، أو أدواتِ المدرسة، أو ملابسَه مع شيء منَ التوجيه البسيط، الذي لا يؤثِّر في الاستِقْلال الذاتِيِّ، كما يتحقق ذلك حينما يسأل الوالدانِ طفلَهما عن رأيه في موضوع ما، ويُعطونه الإحساس بأن رأيه ذو قيمة، وله أهميَّة خاصَّة، كما يمكن أن يطلب منه أن يعلِّلَ أحيانًا هذا الرأي.
69 – تشجيع الطفل على الملاحظة الهادفة لكلِّ ما يحيط به في البيئة، واصطحابه في نزهات إلى الحقول والبيئة بشكل عامٍّ، والتخطيط لعمل رحلات مَيْدانيَّة في البيئة المحليَّة، ودفع الطفل إلى التفكير وجَمْع بياناتٍ ومعلومات وأشياءَ منَ البيئة، ومحاولة تصنيفها وتبويبها ونقدها، وإيجاد العلاقات الظاهرة وغير الظاهرة بينها، وتعويده أنشطة متنوِّعة تُحرِّك نُمُوَّهُ العقليَّ بما يتوافق مع النُّمُوِّ في العلاقات الاجتماعية، التي فرضها المجتمع المدرسيُّ الجديد.(/12)
70 – إمداد الطفل بخِبراتٍ مثيرة تتحدَّى تفكيرَهُ، وتُثير اهتمامه، وتَزيد حُبَّه للاستطلاع؛ كأنْ يَذْكُرَ الوالدانِ لطفلهما كيفيَّةَ انطلاق سُفن الفضاء، أو خُطُوات صناعة السيارات، كذلك تشجيعه على التعلُّم من خبرات الآخَرِين، بحيث لا يترك فرصة تضيع من دون أن يطَّلع ويَستفيدَ مِمَّا توصَّل إليه الآخرون من أعمال وخِبْرات، تجعله يتعرَّف على مشكلات البيئة معطِيًا بعضَ الحلول لها.
71 – تدريب الأطفال على التوقُّع، وإثارة العديد من الأسئلة حولَ الأشياء، فمثلاً إذا كان هناك اتّفاقٌ على مشاهدة برنامج تليفزيونيّ مثل: "عالم الحيوان"، نسأل الطفل عما يتوقع أن يشاهده في هذا البرنامج، ونطلُب منه أن يُعبِّر عن ذلك شفويًّا، وأن يكتب مجموعة من الأسئلة ليس بالضرورة أن يجيب عنها؛ ولكن بالضرورة أن يسأل، مثل: كم عدد الحيوانات في الغابة؟ ما مساحتها؟ لماذا جَفَّتْ بعض الأشجار فيها؟ متى جاءت الحيوانات إلى الغابة؟ كم عدد الأشجار الخضراء؟ كم عدد الصيَّادينَ في الغابة؟ من أين تأتي المياه إلى الغابة؟ لماذا تأكل الحيوانات بعضها؟ ما مِساحة الحشائش الخضراء الموجودة في الغابة؟ لماذا تَحْدُثُ الحرائق في الغابة؟ وهكذا، ويمكن أن يُطلَبَ منَ الطفل بعد مشاهدة البرنامج أن يحكي ما شاهده، وأن يكتب قصة عن أبرز اللَّقَطَاتِ التي شَدَّتِ انتِباهَهُ، وأن يرسُمَ صورة تعبيريَّة عمَّا شاهده في البرنامج.
72 – تعويد الأبناء على الصلاة؛ بل والخشوع فيها، والتركيزِ حين أدائها؛ حيث إن حَصْرَ الذهن بعضَ الوقت تدريبٌ على التركيز، ويُنَمِّي في الطفل قوَّةَ الذاكرة.
73 – تعويد الطفل على التدبُّر في المناظر الطبيعيَّة وتأمُّل قدرة الله، وكذلك تعويده على ذِكْر الله، والاستغفار، وعَدَم النَّظر إلى الحرام، أو التحدث بكلام حرام أوِ الكذب؛ ففي ذلك تَحْدُثُ حالة نفسية عجيبة وسَكِينَة واطمئنان، مما ينتج حافظةً هائلة.(/13)
74 – اللَّعب هو إحدى الوسائل الَّتي يَنمُو من خلالها إبداع الأطفال، وهو إحدى الوسائل التي نتعرَّف بِها على نُمُوِّهمُ الإبداعيِّ، ومِنَ الضروريِّ أن تَسمح الأسرة لهم بمزاولة الألعاب التلقائِيَّة الحُرَّة، الَّتي يزاولها الطفل وقتما شاء.
75 – اتركْ طفلك يُنجِز أعماله في سهوله وبدون قيد، سواء كانت هذه الأعمال إدخالَ شيئين في بعضهما من الأشكال والمكعبات المختلِفَة، أو نَقْلَ غطاء من صندوق إلى آخَرَ، أو تعديلَ الوسادة من وضع إلى آخَرَ، أو إعادةَ تنظيم كُتُبه وحاجاته الخاصَّة، أوِ المساهمةَ في ترتيب بعض الأدوات المنزلية.
76 – وفِّرْ لِطِفلك خامات؛ كالخشب، والورق، والألوان، والصلصال، وغيرها؛ لكي يستخدمها في إنتاج متنوع، مع تشجيعِ هذا الإنتاج حتى لو بدا تافهًا، فمن الممكن أن يعمل مَرْكبًا منَ الخشب، أو طائرة ورقية، أو شكلَ طائر جارح؛ كالحِدْأَةِ والصُّقُور، أو فَلاحًا يسوق ماشيته في الصباح إلى الحقل، أو شَكْلاً لمدرسة وبها التلاميذ يقفون في طابور الصباح، كل هذه الأعمال قد يعتبرها الكبار غيرَ مفيدة؛ ولكنَّها تُمثِّل قِيمَةً جَيِّدة، ونوعًا من أنواع التفكير والإبداع.
77 – توفير الألعاب التركيبيَّة، ودَفْع الأطفال إلى عمل الصلصال لمزرعة دواجن مثلاً، أو لمنزل القدماء، أو ألعابهم التي كانوا يزاولونها، أو بناء منزل من قطع الخشب، أو إعداد عرائسَ منَ الورَق أو القطن أو الزُّجاجات الفارغة، أو عمل مبنًى معيَّن؛ كمبنى المطافئ، أو مكتب البريد، أو إدارة المرور، أو إعداد بانوراما لوصف أحداثٍ تاريخية، أو مشكلات مختلفة، أو رسم لوحات تُعبِّر عن موضوع معيَّن؛ كإحدى الحروب، أو سوق القرية، أو قوارب الصيد على سطح البُحَيْرة.(/14)
78 – تعويد الأبناء التمثيلَ التِّلقائيَّ الَّذي ينطلِق فيه الطفل دون الاستعانَةِ بِنَصٍّ مُحَدَّد، أو ملقِّن يُعطِيهِ المعلومة، ويتحقَّق فيه التعبير التلقائي الحُرُّ، بالإضافة إلى التنفيس عما في نفسه من شُحْناتٍ انفعالية؛ كأنْ يمثِّل مديرًا لإحدى الشركات، أو محاميًا يترافَع أمام المحكمة، أو شرطيًّا ينظم المرور، أو زعيمًا تاريخيًّا، أو قائدًا عسكريًّا.
79 – اهتمَّ برُسُومات طفلك، أو ما يقوم به من أعمال بسيطة، وبذلك تساعده على الوصول إلى تحسين إنتاجه، والاستمرارِ فيه، فإذا كان يرسُمُ أشكالاً في ورقة، أو في لوحة، فإنه من المفروض أن تُلْقِي نظرةَ استحسان وإعجاب بِما يفعل.
80 – يُروَى أنَّ أَحَدَ النَّاس أرادَ أن يكون مبدِعًا، فجاء إلى ضُفْدَعَة ووضعها أمامَهُ، وقال للضفدعة: (نُطِّي)؛ (أيِ: اقْفِزِي)، فنَطَّت (أي: قفزتْ) فكتب: قلنا للضُّفْدَعَةِ (نُطِّي فنَطَّتْ). ثم قطع يَدَها اليُمْنَى، وقال لها: (نُطِّي فَنَطَّتْ)، فكتب: قطعْنا اليد اليُمْنَى للضُّفْدَعَة، وقلنا لها (نُطِّي فَنَطَّتْ). ثم قَطَعَ يَدَها اليُسْرَى وقال لها: (نُطِّي فَنَطَّتْ)، فكتب: قطعْنا اليَدَ اليُمْنَى واليُسْرَى للضُّفْدَعَة وقلنا لها: (نُطِّي فَنَطَّتْ). ثم قَطَعَ رِجْلَهَا اليُمْنَى، وقال لها: (نُطِّي فَنَطَّتْ بصُعُوبَةٍ)، فكتب: قطعْنا يَدَيِ الضُّفْدَعَةِ ورِجلَها اليُمْنَي، وقلنا لها: (نُطِّي فَنَطَّتْ). ثم قَطَعَ رِجلَها اليُسْرَى وقال لها (نُطِّي فَلَمْ تَنُطَّ)، فكتب: قطعْنا يَدَيِ الضُّفْدَعَةِ ورِجلَيْها وقلنا لها: (نُطِّي فلَمْ تَنُطَّ)، ومن هنا أثبتتِ الدراساتُ أنَّ الضُّفْدَعَةَ إذا قُطِعَتْ يداها ورِجلاها، فإنها تصاب بالصَمَم!!
إنَّنا لا نُرِيدُ لأبنائنا هذا النوعَ منَ الإبداع، الذي لا مَنْطِقَ فيه ولا عقل، ومن هنا نقول: احْذَرْ أن يكون ابنُكَ كصاحب الضُّفْدَعَةِ.
ملحوظة:(/15)
ليس هناك عَلاقةٌ بين الإبداع والتحصيل الدراسيِّ إلاَّ بنسبةٍ قليلة غيرِ ذاتِ قِيمَةٍ؛ فقد يكون المبدِع متأخِّرًا دِرَاسيًّا، وقد يكون صاحبُ الدكتوراه، والشهادات العليا غيرَ مُبدِع في شيء، فتوماس أديسون مخترِعُ المصباح الكهربائي لم يمكثْ في المدرسة سِوَى ثلاثة أشهُر فقط، وأينشتاين لم يكن متفوِّقًا في مادَّة الرياضيات؛ ولكنه بعدَما تحدَّى مُدَرِّسَ الرياضيات بعد أن أهانه، اخترع نظريَّتَهُ المشهورةَ وهي (نظرية النِّسْبِيَّة).
معوِّقاتُ الإبداع
للإبداع معوِّقاتٌ كثيرةٌ نذكر منها:
• إشعار الطّفْلِ بالنَّقص، أو أنه غير مرغوب فيه مما يُفقِدُهُ الثقةَ في نفسه، وفي قُدراته.
• خوف الطفل منَ الاستهزاء، والإحراج، والنقد، والسخرية.
• الخوف من الفشل.
• انعدام التشجيع.
• عدم الاهتمام بِالطفْلِ أوِ التَّفَرُّغ له، ولو لبعض الوقت خُصوصًا من جهة الوالدين.
• التربية الخاطئة من الوالدين.
• جهل المعلِّمين بالمدرسة أو الحضانة بأُسُس التعليم السليمة، وبكيفية تنمية الإبداع عند التلاميذ.
• المفاهيم الخاطئة لبعض الآباء والمربين، والتي تَقِفُ حائلاً أمام أبنائهم، فتَعُوقُهُمْ عنِ الإبداع والاكتشاف.
• نِسيان أهمية الإبداع، وأهمية تعويد الصغار عليه، وتنميته فيهم.(/16)
العنوان: الطريقُ إلى الاتحاد الأوروبي يمر بـ 27 دولة
رقم المقالة: 1053
صاحب المقالة: فايز السيد علي
-----------------------------------------
في كل مرة تنضم فيها دولةٌ جديدة إلى الاتحاد الأوروبي يصبحُ من الصعب أكثرَ على الاتحاد اتخاذُ قرارات ملزِمة للجميع، فالحديثُ هنا لا يدور حول قرارات ملزمة لدول الأمم المتحدة الصغيرة، التي تسيّرها دولٌ عظمى، بل عن دول أوروبية كبيرة؛ كفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وهولندا، بل حتى دول أقل شأناً مثل بولندا، بات لها ثقلٌ سياسي يجعل الاتحادَ يقف على "قدم واحدة" إلى أن ترضى عنه وارسو.
ربما هذا شيء من الديمقراطية الأوروبية، التي أرادت أن تكون الأقوى في العصر القادم على الأقل، موازنة بدول تتهاوى من القمة يوماً بعد يوم.
وهذا حق للدول الأوروبية، التي عرفت كيف تلغي الخلافات الدينية والعرقية والمالية والفكرية والثقافية، وتضع بدلاً منها سلاسلَ من القيود التي تجبر دول الاتحاد على التحرك حيث تتحرك غالبيتُه. ربما هذا ما سيحدث بعد سنوات قليلة، ما دامت الخلافاتُ حول بعض المشاكل بدأت تتهاوى.
اتحاد أكثر قوة:
لم تدخر ألمانيا (الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي) أيَّ جهود من أجل التوصل إلى تسوية دستورية لخلافات كثيرة، هددت بتصدّع الاتحاد الأوروبي، منذ عام 2004، عندما صوّت الفرنسيون والهولنديون ضد الدستور الأوروبي، الذي لم يعد له ذكر في الاتفاقات الجديدة.
وأمام الرفض الفرنسي والهولندي ذاك ظهرت بعضُ الخلافات التي شقّت فيها بولندا عصا الطاعة، بمطالبها حول إصلاح طريقة التصويت في الاتحاد، وتبعتها بريطانيا وفرنسا وهولندا ودول أخرى بمطالب مختلفة.(/1)
ربما كانت العقبةُ البولندية أكبرَ العقبات أمام اجتماع دول الاتحاد الأوروبي، الذي انعقد ليومين كاملين (21-22) من يونيو الماضي، في بروكسل، بزعامة أنجيلا ميركل (المستشارة الألمانية) التي ارتسمت الابتسامةُ كبيرة على وجهها في ختام الاجتماع.
المطب البولندي تمثل برفض وارسو لنظام الأغلبية المزدوِج، الذي يعطي للدول ذات الكثافة السكانية الأكبرِ الحقَّ أكثرَ من غيرها في تعديل قوانين الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يعد تحيُّزاً لصالح قوى أوروبية على حساب أخرى، كما ترى وارسو.
ونظام الأغلبية المزدوج ينص على أنه من أجل إجراء أي تعديل على القوانين الأوروبية، فإنه يجب أن يحظى التعديل على موافقة 55 في المئة من الدول الأعضاء، على أن يمثل سكانها 65 في المئة على الأقل من مجموع سكان دول الاتحاد.
وبعد طول خلاف حول هذه النقطة، توصلت ميركل إلى اتفاقية بين دول الاتحاد، تنص على أن يتم تأجيل النقاش حول هذا القانون الجديد إلى عام 2014، ولا يتم العمل به إلا بعد عام 2019، ومن ثم يستمر العمل بموجب القانون الحالي، إلى ذلك الأجل، وهو ما أراح بولندا.
وقد وقفت كل من بريطانيا وفرنسا إلى جانب ألمانيا وبولندا في هذا الاقتراح، الذي كسر أهم حاجز أمام قادة دول الاتحاد.
فرنسا وبريطانيا وهولندا:
وفي المقابل قامت فرنسا بتقديم تنازلات لمطالب بريطانية، مقابل حصولها على مكاسب لطلباتها، وهو الأمر الذي تحدث عنه توني بلير (رئيس الوزراء البريطاني) الذي قال بعد اجتماع القمة: "إن بريطانيا حصلت على مكاسب بشأن النقاط الأربعة التي سبق أن تحفظت على تضمينها في معاهدة الإصلاح، وهي رفض توسيع نطاق القرارات التي سوف تتخذ بالأغلبية المزدوجة وحقها في عدم تطبيق التشريعات الأوروبية في المجالات القضائية والشرطة، وعدم إضفاء الطابع الإلزامي لميثاق حقوق الإنسان".(/2)
وأشار بلير إلى أن بريطانيا قدمت في المقابل تنازلات لفرنسا بشأن عدم النص على مسألة المنافسة الحرة في الدستور الجديد، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن ذلك لا يغير أي شيء في القاعدة القانونية لسياسة المنافسة والأسواق الداخلية للاتحاد الأوروبي، وأضاف أن هذا التنازل كان حتميا إذا ما أرادت لندن في المقابل الحصولَ على ما تريد من طلبات بشأن النص الدستوري الجديد!
وفي حقيقة الأمر، فإن بريطانيا كانت لديها مجموعة من الطلبات والمخاوف، تمثلت بالدرجة الأولى في تسمية وصلاحية منصب وزير خارجية للاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يعطي الاتحاد قوةً في تطبيق سياسة خارجية ملزمة لدول الاتحاد إلزاما أكبر، وذلك قد يلغي أو يضعّف قوة بريطانيا في سياستها الخارجية.
ومن بين الخطوط الحمراء التي وضعتها بريطانيا، المطالبة بعدم تضمين "ميثاق حقوق الإنسان" في المعاهدة الأوربية الجديدة، الذي تخشى بريطانيا من أن تضمينه سيعطي مجالاً أوسع للنقابات بالتقدم إلى المحكمة الأوروبية لتحقيق المطالب المختلفة. كما تصر على أن تحتفظ كل دولة بسياساتها الخاصة في مجالات الضرائب والقضاء والهجرة.
أما المطالب الفرنسية، فقد تمثلت بإلغاء أي إشارة إلى مسألة "المنافسة الحرة" داخل الاتحاد الأوروبي، والذي أثار حفيظة الفرنسيين في السابق.
فيما تمثلت المطالب الهولندية بأن تتوفر للبرلمانات الوطنية إمكانية رفض القوانين الأوروبية. غير أن المقاومة كانت شديدة لهذا المطلب، مما جعل احتمال الموافقة عليه ضئيلاً جداً، وقد ألمح رئيس الوزراء الهولندي بيتر بالكنيندا إلى هذه الصعوبة، مشيراً إلى أن الاتحاد قد يسن وجود "بطاقة صفراء" بدلاً من البطاقة الحمراء في هذه المسألة، وقال: "نحن نطالب بالاعتراف بدور أقوى للبرلمانات الوطنية، سيكون الصراع شديداً، لكننا مصرون على إعطاء هذا الأمر الأهمية البالغة التي يستحقها".
نتائج إيجابية:(/3)
لم يكن الأوروبيون المساندون للاتحاد يحلمون بأكثر من هذه الاتفاق الذي تم التوصل إليه خلال الاجتماع الأخير للقادة الأوروبيين، فالمشاكل عصفت سابقاً بالاتحاد إلى درجة "التجمّد" ولم يتبق منه إلا الحديث عن "إمكانية محدودة" لإعادة إسالته وجعله قادراً على المضي إلى مصبه الأخير.
فخلال السنوات التي تبعت تجميد الدستور الأوروبي بفضل فرنسا وهولندا، كان الاتحاد الأوروبي مهتماً بإدخال دول جديدة إليه، الأمر الذي كان يزيد في كل مرة صعوبة اتخاذ قرار بالإجماع، ذلك أن القانون الحالي للاتحاد لا يجيز إقرار أي قانون دون أخذ الموافقة كاملة من دول الاتحاد.
وتظهر أهمية النتائج الأخيرة بالتعليق الذي أعلنه رئيس الوزراء البريطاني، والذي قال فيه: "إن القادة أنهوا أصعب جزء من هذا المسار"، مشيراً إلى أن ما بقي هو سنّ المعاهدة وما من أي شيء سيعيق هذا المسار.
كذلك أشادت المستشارة الألمانية بالاتفاق، وقالت: "إنه يمثل خطوة مهمة في تقدم الاتحاد الأوروبي" مشيرة إلى أن سنّ بنود المعاهدة الجديدة سيتم بحلول العام 2009.
ومن أهم النتائج التي توصل إليها الاجتماع الأخير الخروج من أزمة الدستور الأوروبي الملغى، والذي جمّد العملية الدستورية للاتحاد برمته، وجاء الاجتماع الأخير ليعلن ميلاد ما أطلق عليه اسم "معاهدة"، أو ما وصفه بلير باسم "معاهدة الإصلاح" والذي رافقه غياب كامل لاسم "دستور" الأمر الذي يشير إلى أن المعاهدة الجديدة حلّت محل الدستور السابق.
وتتضمن هذه المعاهدة بعض البنود المتفق عليها سابقاً في الدستور القديم، والتي راعت عدم وجود ما يرفضه الأوروبيون، كمسألة "المنافسة الحرة" التي أثارت حفيظة الفرنسيين، ونظام الأغلبية المزدوج في التصويت، الذي تعارضه بولندا، وإلزام الدول الأعضاء بسياسة خارجية موحدة، الذي تعارضه بريطانيا، وبعض الخلافات الأخرى التي تم التغلب على غالبيتها.(/4)
المعاهدة الجديدة سوف يتم التوصل إلى صياغة بنودها بعد عامين من الآن (خلال عام 2009) وفق ما أشار الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي الذي قال: "إن العمل في كتابة المعاهدة الجديدة سيبدأ في الأشهر القليلة المقبلة، على أن يتم قبل حلول عام 2009". في حين قالت ميركل: "إن مسؤولية سن المعاهدة الجديدة ستكون على عاتق مؤتمر حكومي يلتئم لهذا الغرض".
ويبدو أن هذا المؤتمر حصل بالفعل على تخويل كامل للبدء بصياغة بنود المعاهدة الجديدة، التي تأمُل دول الاتحاد الأوروبي أن تكون قانوناً كاملاً يكمل بناء اللبنة الأخيرة في الاتحاد، مع العلم أنه يتعين على حكومات الدول الأعضاء التصديق على المعاهدة بعد سنها كي تصبح سارية المفعول.
معاهدة الاتحاد الجديدة:
ولكن ماذا سيتيح إقرار المعاهدة الجديدة بين دول الاتحاد؟
هذه هي النقطة الأهم، التي تعد "مربط الفرس" في الاتحاد. فالاتفاقية الجديدة ستغير الكثير من الأمور؛ منها: أن الاتحاد الأوروبي سيصبح له رئيس ثابت، يتمتع بنفوذ عالمي كبير، بدلاً من التعاقب الحالي لرئاسة الاتحاد، الذي يتمثل بتسلم كل دولة أوروبية رئاسة الاتحاد مدة 6 أشهر. كما سيمهد إقرار المعاهدة الجديدة الطريق أمام آلية اتخاذ القرار الأوروبي برمته. وسينخفض عدد المفوضين الأوروبيين إلى ثلثي عدد الدول الأعضاء، إذ إن لكل دولة حالياً مندوباً في المفوضية الأوربية. كما سيتم تحديد أعضاء البرلمان الأوروبي بـ 750 عضواً فقط، بغض النظر عن عدد الدول الأعضاء، الأمر الذي قد ينهي أي مشاكل تحصل عندما تدخل دول جديدة في الاتحاد.
ويقف اليوم على أعتاب الانضمام للتكتل الأوروبي الجديد عدة دول، من أبرزها مقدونيا، التي حصلت مؤخراً على صفة "دولة مرشحة للانضمام للاتحاد"، فضلاً عن تركيا وكرواتيا، اللتان تجريان مباحثات ومفاوضات للانضمام، أصعبها مفاوضات تركيا، التي لا تزال عالقة بشدة.(/5)
العنوان: الطفل الخجول.. لا داعي للقلق
رقم المقالة: 517
صاحب المقالة: سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
أثناء الزيارات العائلية وفي حين انخراط الأطفال في اللعب والمرح فيما بينهم تجد إحدى الأمهات طفلها قد تشبَّث بها ورفض أن يلعب مع أقرانه، وقد يبادر إلى الصراخ إذا ما حثته على الاندماج مع أصحابه الذين يملؤون البيت ضجيجاً وحيوية!
إنه طفل خجول، لكنَّ كثيراً من الأمهات يُحَمِّلْنَ الأمور أكثرَ مما تستحق ويعتبرن الأمر مشكلة وهو غير ذلك، فبعد سن الرابعة ينطلق بعض الأطفال في تكوين صداقات، وبعضهم الآخر يتعثر في ذلك ويستغرق وقتاً لكي يندمج مع من حوله...
وكلا النوعين من الأطفال طبيعي، والمهم أن تتقبل الأم ذلك، وألا تظهر قلقها أمام طفلها الخجول أو تشكو إلى جارتها أو صديقتها الأمر، فإن فعلت ذلك فإن ما تقوله سيشكل وجهة نظر الطفل عن نفسه!
يقول علماء النفس: الخجل صفة شخصية طبيعية تظهر في نحو 15% من الأطفال، وكثيراً ما يلاحظ الخجل عند البدء في المشي.
ومن بعض صفات الطفل الخجول: النظر إلى أسفل عندما يتحدَّث إليه الكبار، ويراقب الأطفال عن بعد ولا يختلط بهم، وهو يفضل أن يزوره الآخرون بدلاً من مواجهة بيئة جديدة، وبرغم ذلك قد يختبئ عندما يأتي زائرون إلى منزله وقد يبكي، وفي الأماكن غير المألوفة قد يلتصق بوالديه معظم الوقت، إضافة إلى ذلك فإنَّه يتقبَّل الأشياء بصعوبة.. مثل طعام جديد أو طريق جديد إلى مدرسته.
* صفة وراثية
وجد الباحثون أنَّ صفة الخجل من الصفات الوراثية، وعلى الوالدين اللذين لديهما طفل خجول، البحث في الأسرة عمَّا إذا كان أحد أفرادها - مثل العم أو الخال أو الجد وغيرهم - من الأشخاص الخجولين، وفي حالة تيقنهما من وجود هذه الصفة في أحد أفراد الأسرة فإنَّ ذلك سوف يسهِّل عليهما التعامل مع طفلهما.
* احتياجات الطفل الخجول(/1)
تقول الدكتورة. سوزان إي جوتليب - استشارية طب الأطفال -: الخجل صفة وليس عيباً، فالطفل لا يختار أن يكون خجولاً، وليس له سيطرة على هذه الصفة، وقد يمارس الوالدان ضغوطاً على هذا الطفل لأنهم يعتبرون الخجل عائقاً فيكون رد فعلهما هو الصراخ في وجهه أو مضايقته أو دفعه إلى خوض المواقف الاجتماعية وهذا ما يشعر الطفل أن والديه خاب أملهما فيه أو أصابهما الغضب وهو ما يفقده ثقتَه بنفسه.
بمساعدة الوالدين يستطيع الطفل الخجول أن يصبح اجتماعياً، فهو في أمَسِّ الحاجة إلى المساندة في المواقف الاجتماعية فالناس والمواقف الجديدة يشكلان مصادر ضغط قوية فعلى الوالدين أن يأخذا في اعتبارهما ضرورة المكث معه في اللقاءات الأولى القليلة لمجموعة اللعب الجديدة عليه، ويمكن تخفيف أثر التكيف مع الحضانة، وإذا تمكن الطفل من مقابلة طفل أو طفلين من زملاء الفصل مسبقاً فإن رؤية وجوه مألوفة في أول يوم قد يحمي الطفل من الارتباك.
من ناحية أخرى فإن مساعدته على الحضور مبكِّراً إلى الأماكن الجديدة يخفف تلك الصفة قليلاً، كأن يحضر إلى نادي الكاراتيه قبل بدء الدرس والتمارين؛ وذلك لتبديد الشعور بالغربة للمكان، وحضورهما كذلك مبارياته؛ لإعطائه الشعور بأنَّهما معه، إضافة إلى مناقشته بشأن المباريات التي شارك فيها، وعن مقترحاته للمباريات القادمة.
ويستطيع الوالدان مساعدة طفلهما الخجول بالتفهم والمساندة والتعاطف وذلك من خلال إبراز مزاياه واستغلالها فإن امتلاك خبرة في أحد المجالات يمكِّن الطفل من التصرف بثقة ولو في ميدان واحد على الأقل. والطفل يسعده الحديث مع قرنائه عن أمر يعرفه جيداً، وبمجرد أن يقيم علاقة أولية مع الأطفال الآخرين لا تلبث العلاقات تزدهر. وقد يمثل له الأطفال الذين يصغرونه في البداية رفقاء لعب أفضل وأقلَّ تحدياً.(/2)
ثم إنه يمكن خلق نوع من الاهتمام بهذا الطفل؛ فإحضار كعكة عند زيارة الأقارب والأصدقاء سيولد انتباهاً إيجابياً، وغير ذلك من الأساليب توجد طريقة لعبور تلك اللحظات القليلة الأولى المحرجة، ثم يجد الطفل نفسه يتفاعل مع مَن حوله قبل أن يتيح له الوقتُ الانتقالَ إلى الخجل.
* الجانب الإيجابي
الطفل الخجول عند بلوغه مرحلة النضج سيكون أكثرَ ميلاً إلى التفكير العميق، ومدققاً في اختياراته قبل أن يتخذ أي إجراء. والطفل الخجول مراقب جيِّد للناس والأحوال، وكثير من الأطفال الخجولين يمتلكون القدرة على فهم مشاعر الآخرين.
وأخيراً، فإن التنوع هو الذي يُضفي على الحياة متعتها، فليس كل شخص يستطيع أن يحيا حياته في مرح صاخب، فللأطفال الهادئين شديدي الملاحظة أدوار مهمة عليهم تأديتها ليكملوا صفوف الصحفيين والعلماء والكتاب في هذه الدنيا.
* حلول يسيرة
من المزعج أن يكون طفلك متشبثاً بقدميك في أثناء تجمع عائلي أو في إحدى الحفلات، في حين الأطفال الآخرون يلعبون ويمرحون، ولكن إذا أخذت الأمر بيُسر فسيتخطَّى طفلك هذه المرحلة بأمان، ويسهل عليه التواصل مع الآخرين والاندماج معهم، وفي هذا الصدد تنصحك الدكتورة (ميري والاس) - الاستشارية النفسية للأطفال- بما يلي:
** تقبَّلي المرحلة التي يمر بها طفلك حتى يتقبَّلها هو أيضاً، وامنحيه حبك ليشعر بالأمان وبأنه ذو قيمة ويسهل عليه التواصل مع الآخرين.
** لا تجبري طفلك على الحديث مع الآخرين أو الاندماج معهم إذا كان لا يرغب في ذلك، وامنحيه وقتاً حتى يرتاح لهم.
** وفِّري له فرصاً كثيرة ليكون مع أطفال آخرين، ولا سيما المتصفين بالهدوء والمسالمة.
** نظِّمي له مواعيد للعب في منزله إذا كان هو المكان الذي يشعر فيه بالراحة.
** ألحقي طفلك بروضة للأطفال أو ناد، وهذا سيطور مهاراته الاجتماعية.(/3)
** أعدِّيه دائماً للمواقف الجديدة من قبل حصولها، كأن تخبريه عمَّن سيكون حاضراً، وماذا سيحدث، وساعديه على التركيز على الجانب الإيجابي للموقف، وناقشي معه ما يريد فعله عندما يصل الضَّيف.
** ربما يحتاج إليك طفلك لتُرِيهِ نموذجاً لطريقة بدء المحادثة، فعندما تتجه طفلةٌ نحو طفلتك يمكنك أن تقولي لها: أهلا بك ومرحباً، ما اسمك؟ ومع مرور الوقت سيخزن طفلك اتجاهاتك هذه وينجح في التواصل مع الآخرين من تلقاء نفسه.(/4)
العنوان: الطفل الفلسطيني والاحتلال .. قهر وفقر وحرمان
رقم المقالة: 558
صاحب المقالة: يوسف كامل إبراهيم
-----------------------------------------
منذ ما يقرب من ستين عاماً وفلسطين من أكثر الدول معاناة جرَّاء ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، الذي شرد ما يقارب (75000) فلسطيني عام (1948م)، ليصبحوا بلا مأوى، وليضحى أطفالهم لاجئين بلا أي ذنب اقترفوه!.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد من البشاعة؛ بل تتابعت الانتهاكات الإسرائيلية بحق شعبنا الفلسطيني على مدار الزمان السابق؛ حيث اقترف الاحتلال العديد من الانتهاكات لحقوق الإنسان الفلسطيني، التي راح ضحيتها الآلاف من الأطفال والنساء والشباب، وأدَّت إلى قطع السياق التنموي التطويري للمجتمع الفلسطيني.
فمنذ بداية انتفاضة الأقصى كان الأطفال الفلسطينيون ضحية للعنف الإسرائيلي؛ حيث قتلت سلطات الاحتلال حتى نهاية العام (2004م) أكثر من (676) طفلاً دون سن 18 من العمر، كما أصيب ما يزيد على (9000) طفل، وعانى الآلاف من الأطفال صدمات نفسية؛ نتاجاً لمعايشتهم ومشاهدتهم لأحداث مروعة، إضافة إلى اعتقال ما يزيد على (3000) طفل خلال الانتفاضة، وما زال أكثر من (300) طفل منهم يقبعون في السجون ومراكز الاعتقال الإسرائيلي في ظروف غير إنسانية، فالانتهاكات الإسرائيلية تركت آثاراً سلبية على مختلف مناحي حقوق الأطفال الفلسطينيين؛ سواء حقهم في الحياة، أو حقهم في التعليم، أو حقهم في الحرية، أو حقهم في مستوى معيشي أو صحي ملائم.(/1)
ففي الخامس من أبريل (نيسان) من كل عام تمر مناسبة يوم الطفل الفلسطيني، وكما هو الحال خلال الأعوام الماضية؛ تأتي هذه الذكرى ولا يزال الأطفال الفلسطينيون يعانون آثار عنف المحتل وبطشه، وجرائمه المرتكبة يومياً بحقِّهم، فالأطفال الفلسطينيون لايزالون يعانون آثار العنف الاحتلالي طوال سنوات الاحتلال، ومازال الاحتلال يستهدف أطفال فلسطين، في حياتهم، وقوتهم، وتعليمهم، ومسكنهم، حتى في أماكن لعبهم، فآثار المحتل مشهودة ومرئية.
لقد عانى الطفل الفلسطيني الحرمان في شتى أشكاله، ولم يتمتع بالحد الأدنى من تلبية حقوقه، كما هو الحال في العديد من بلدان العالم، فقد نشأ الطفل من أسرة عانت التهجير، والتشرد، والفقر، والعنف، والاحتلال، منذ حدوث النكبة عام (1948م)، مروراً بعام النكسة عام (1967م)، وانتهاءً بالانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى.
واليوم؛ يحيا هذا الطفل الجريح في ظل عنف وعنجهية لا مثيلَ لها؛ فالطفل الفلسطيني مهددٌ بالضياع والتشرُّد؛ وذلك بسبب أحداث العنف والقتل والتشريد التي تتعرض لها الأسرة الفلسطينية، فالمحتل الغاصب للأرض الفلسطينية قتل المئات من الأطفال، وجرح الآلاف، ودمر المدارس ومراكز الطفولة، وما زالت آلة الحرب الصهيونية تحصد المزيد من أرواح الأطفال.
أصبح الطفل الفلسطيني يعاني - كثيراً - الأمراض النفسية والاجتماعية والجسدية جرَّاء الاعتداءات المتلاحقة عليه، فضلاً عن الأطفال الذين يقبعون خلف القضبان؛ فهم محرومون من أقل الحقوق التي تمنحها لهم المواثيق الدولية، فعدد كبير من الأطفال الفلسطينيين الجرحى يعانون شللاً رباعياً وشللاً نصفياً، أو بتراً في أحد الأطراف، وغيرها من الأمراض التي تلاحقهم، وتُمثل لهم كابوسًا في حياتهم، فتجعل حياتهم بائسة، وتقتل أحلامهم الطفولية في مهدها.(/2)
في إطار الاحتفال باليوم العالمي للطفل - الذي تزامن مع التوقيع على المعاهدة الدولية لحقوق الطفل - وجد صندوق الأمم المتحدة للأطفال - (اليونيسيف) – أن (573) طفلاً فلسطينياً استشهدوا منذ سبتمبر عام (2000م)، وهُدم أكثر من (2500 منزل)، وشُرِّد أكثر من (6000) طفل، واعتُقل (2000) آخرون.
الطفل الفلسطيني:
أصدر جهاز الإحصاء الفلسطيني تقريراً عن أوضاع الأطفال في الأراضي الفلسطينية، مبيناً أن أكثر من نصف المجتمع الفلسطيني هم أطفال دون سن 18 عاماً - (52.3%) - في نهاية عام (2006م)، وأن المجتمع يمتاز بأنه مجتمع فتي؛ حيث قدِّر عدد الأفراد الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة في نهاية عام (2006م) بحوالي (2.1) مليون طفل؛ أي ما نسبته: (52.3%) من مجموع السكان في الأراضي الفلسطينية، يتوزعون بنسبة جنس مقدارها (103.8)، (1.1 مليون ذكر، مقابل 1.0 مليون أنثى).
أما على مستوى المنطقة: فقد قدر عدد الذكور الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بحوالي (903.635) من الذكور، مقابل (783.611) من الإناث في الضفة الغربية، بنسبة جنس مقدارها (103.9)، أما في قطاع غزة: فقد قدِّر عدد الذكور بحوالي (804.417) من الذكور، مقابل (920.402) من الإناث، بنسبة جنس مقدارها (103.7)، وذلك في نهاية العام (2006م).
ومثَّل الأطفال دون سن الخامسة ما نسبته (17.1%) من مجموع السكان، مقابل (15.4%) في الفئة العمرية (5-9 سنوات)، و(13%) في الفئة العمرية (10-14 سنة)، و(6.8%) في الفئة العمرية (15-17 سنة)، وأن حوالي ثلثي الأسر في الأراضي الفلسطينية (65%)، كما أصدر صندوق اليونيسيف التابع للأمم المتحدة في الضفة الغربية تقريراً يفيد أن (52.3%) من عدد المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة هم ما دون سن 18 من العمر، ويبلغ عددهم حوالي (1,8) مليون طفل وطفلة، وعدد الأطفال الذين يتوجّهون إلى المدرسة - من 5 وحتى 18 عاماً - (1,2) مليون طالب.(/3)
وأشار التقرير أن هذه الأرقام الرهيبة ستكون أكبر حين يجري الحديث عن الضحايا والقتلى من الأطفال في السنوات الثلاث ونصف السنة الأخيرة؛ إذ قُتل بنيران قوات الاحتلال (573) طفلاً فلسطينياً، وحتى كتابة هذه السطور يقبع (337) طفلاً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية .
قيود على الدراسة:
وفيما يتعلق بالقيود المفروضة على الوصول إلى المدارس؛ أوضح التقرير أن القيود المفروضة على حرية التحرُّك في الضفة الغربية، والتأخير المستمر على الحواجز العسكرية، والاضطرار لاستعمال الطرق الالتفافية الطويلة؛ أدَّت إلى إغلاق المدارس، ورفعت من درجة تغيُّب التلاميذ والمعلمين عن مدارسهم؛ حيث أظهر تقرير صادر في السنة التعليمية (2002 – 2003م) عن 95 مدرسة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة - الأنروا - في الضفة الغربية، التي تستوعب (25%) من الطلاب الفلسطينيين، أنَّ عدد الأيام الدراسية التي خسرها الطلاب الفلسطينيون وصل إلى (475.1) يوماً، ويجد في المعدل (145) معلماً فلسطينياً - أي ما يعادل (9%) من مجمل طاقم المعلمين التابعين للوكالة - صعوبةً في الوصول إلى مدارسهم، مما يكلف الوكالة (230.831) دولاراً أمريكياً .(/4)
وبخصوص تدهور مستوى التعليم؛ أكد التقرير أنه بالرغم من تدنّي نسبة تسرُّب الطلاب من المدارس نتيجة التحاقهم بمدارس أخرى؛ فإن مستوى التعليم مازال يتدهور، وذلك كنتيجة للإغلاق المستمر، والجدار الفاصل، والعنف في المناطق المدنية، مما أدَّى إلى تدنّي معدَّلات النجاح في مدارس الوكالة جدِّياً في العام الدراسي (2003 – 2004م) مقارنةً مع العام الدراسي (2000 – 2001م)، وبالتحديد: يُظهر التقرير أن التحصيل في اللغة العربية للصف الثامن انخفض بنسبة (12.1%)، من (76.7%) إلى (64.6%)، في حين انخفض التحصيل في الرياضيات للصف السادس بنسبة (35.1%)، من (68.7%) إلى (33.6%)، وانخفض كذلك التحصيل في العلوم للصف الرابع بنسبة (33.5%)، من (71.5%) إلى (38 %).
الحرمان والعنف:
أعلن الجهاز المركزي للإحصاء في فلسطين أن الأطفال الفلسطينيين يعانون الحرمان والعنف، ولا يمارسون حقوقهم الأساسية، وأن (65%) من الأسر الفلسطينية تعتقد بوجود عنف ضد الأطفال، وأن (38.7%) من الآباء والأمهات يعتقدون أن مستويات وعلامات الضغط النفسي قد ارتفعت خلال العامين (2005م) و(2006م)، وأن طفلين من بين كل خمسة أطفال يعيشون في أسر فقيرة.
وأشارت البيانات التي أصدرها الجهاز المركزي للإحصاء أن نسبة عالية من الأسر الفلسطينية تعتقد وجود عنف ضد الأطفال في الأراضي الفلسطينية، بواقع (69.8%) في الضفة الغربية، و(55.5%) في قطاع غزة، وذلك خلال النصف الأول من العام (2006م)، في حين أن (56.8%) من الأسر تعتقد أن الوضع الأمني السائد في الأراضي الفلسطينية يكِّون المصدر الرئيس للعنف ضد الأطفال في الأراضي الفلسطينية، يليه الانفلات الأمني (9.6%)، كما تظهر المؤشرات وجود تفاوت واضح ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة.(/5)
أما بخصوص مقدرة الأسرة على توفير الحماية والعناية بطريقة كاملة للأطفال؛ فقد بينت النتائج أن ما لا يقل عن نصف الأسر في الأراضي الفلسطينية (52.2%) يعتقدون أن بإمكانهم توفير الحماية والعناية لأطفالهم، إضافة إلى أن (38.7%) من الآباء والأمهات الفلسطينيين يعتقدون بأن مستويات وعلامات الضغط النفسي قد ارتفعت خلال الفترة من (2005م) إلى (2006م) بين صفوف الأطفال المقيمين في نطاق أسرهم المعيشية.
أطفال شهداء وأطفال معتقلون:
الحق في الحياة هو حقٌّ ثابت لكل إنسان؛ سواء كان كبيراً أو صغيراً، فقد نصت المادة (6)، فقرة (1) من اتفاقية حقوق الطفل على أن: "تعترف الدول الأطراف بأنَّ لكل طفل حقّاً أصيلاً في الحياة". فيما نصَّت الفقرة (2) من المادة نفسها على أن: "تكفل الدول الأطراف - إلى أقصى حد ممكن - بقاء الطفل ونموه".
كما نصَّت المادة (38) فقرة (4) من اتفاقية حقوق الطفل على أن: "تتخذ الدول الأطراف - وفقاً لالتزاماتها بمقتضى القانون الإنساني الدولي، بحماية السكان المدنيين في المنازعات المسلحة - جميعَ التدابير الممكنة عملياً؛ لكي تضمن حماية الأطفال المتأثرين بنزاع مسلح".
والحق في الحياة هنا يعني: عدم جواز القيام بأي عمل يمس روح الإنسان أو جسده، ويشمل ذلك الطفل، الذي أشارت له على وجه الخصوص الفقرة (4) من المادة (38) المذكورة سابقاً، فإنَّ استهداف قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي للأطفال، وتعمُّدهم قتل أكبر عدد ممكن منهم، يعدُّ مساساً خطيراً بحقوق الأطفال.(/6)
فقد بلغ عدد الشهداء منذ بداية انتفاضة الأقصى، وحتى 31-10-2006م ما مجموعه (4516) شهيداً، منهم (19.2%) من الأطفال أقل من 18 سنة؛ أي ما يعادل (868) شهيداً، ويتوزعون بواقع (358) شهيداً في الضفة الغربية، و(508) شهداء في قطاع غزة، إضافة إلى شهيدَيْن في الأراضي المحتلة عام (1948م)، وأن هنالك أكثر من (400) أسير فلسطيني كانوا أطفالاً لحظة اعتقالهم، وتجاوزوا سن 18 عاماً، ولا يزالون في قيد الاعتقال، وتتراوح أعمار الأطفال المعتقلين ما بين 12-18 سنة، وبين الأطفال المعتقلين (20) معتقلاً إدارياً دون تهم محددة، ودون محاكمة، أي ما نسبته: (5%) من نسبة الأطفال المعتقلين، ومن الأطفال المعتقلين يوجد (270) طفلاً موقوفاً بانتظار محاكمة؛ أي ما نسبته: (69.1%) من إجمالي الأطفال المعتقلين.
الفقر والحرمان الاقتصادي:
كفلت المادة (27) من اتفاقية حقوق الطفل مستوى معيشياً ملائماً للأطفال: "تعترف الدول الأطراف بحق كل طفل في مستوى معيشي ملائم لنموه البدني، والعقلي، والروحي، والمعنوي، والاجتماعي"؛ ( المادة 27-1).
كما دعت إلى أن: "يتحمل الوالدان - أو أحدهما - أو الأشخاص الآخرون المسؤولون عن الطفل المسؤوليةَ الأساسية عن القيام - في حدود إمكانياتهم المالية وقدراتهم - بتأمين ظروف المعيشة اللازمة لنمو الطفل"؛ (المادة 27-2).
كما وضعت اتفاقية حقوق الطفل التدابير اللازمة لمساعدة الوالدين وغيرهما من المسؤولين عن الطفل على تطبيق هذا الحق؛ بحيث: "تتخذ الدول الأطراف - وفقا لظروفها الوطنية، وفي حدود إمكانياتها - التدابيرَ الملائمة من أجل مساعدة الوالدين - أو الأشخاص المسؤولين عن الطفل - على إعمال هذا الحق، وتقدِّم - عند الضرورة - المساعدة المادية وبرامج الدعم، ولاسيما فيما يتعلق بالتغذية والكساء والإسكان".(/7)
وقد انعكس سوء الأوضاع الاقتصادية على مختلف مناحي حياة الأطفال الاجتماعية والتعليمية والصحية … إلخ، كما ساهم الحصار الاقتصادي في زيادة الفقر والبطالة، التي سببت بدورها عدم مقدرة الأهالي على توفير متطلبات الحياة لأطفالهم.
ومما لاشك فيه أنَّ الأوضاع الاقتصادية والمعيشية تلعب دوراً مهماً ورئيساً، ومحدداً لكيفية النمو المتكامل للطفل، فبقدر ما يتاح للطفل العيش في ظروف سكن وكساء وتغذية، وجو اجتماعي ملائم، بقدر ما تتوفر له شروط أمثل لتكوينه الجسماني والعقلي والنفسي؛ بل أيضاً تضمن الوصول إلى النمو المتكامل؛ جسمياً ونفسياً، وثقافياً وفكرياً؛ بحيث يسمح لنمو مواهبه وقدراته الفنية والإبداعية، هذه الأمور مجتمعة حالت دون توفير مستوى معيشي ملائم للأسر عامة، وللطفل خاصة؛ بحيث لم تعد الأسر قادرة على توفير الكثير من الحاجات الأساسية لأبنائها.
وقد انعكس ذلك سلباً على نمو الطفل النفسي والجسدي، وعلى حصوله على الغذاء والكساء الملائمين، في ظل عدم إمكانية الأسر توفير متطلبات الطفولة، مثل انخفاض مصروف الطفل اليومي، مما يعزز شعوره بالحرمان، فضلاً عن ضيق المساكن، وعدم وجود مساحات للأطفال للتعبير عن مشاعرهم ومشكلاتهم في البيت والمدرسة والشارع، مما أدى أيضاً إلى ارتفاع معدلات سوء المعاملة واستخدام العنف معهم، مما يؤكد أن الحياة الكريمة والملائمة لم تتوافر بعد لأطفال فلسطين.
فقد بلغت نسبة الفقر بين الأطفال مع نهاية عام (2005م) حوالي (36.9%)، بواقع (28.3%) في الضفة الغربية، و(50.1%) في قطاع غزة، كما تظهر المؤشرات الإحصائية أن أكثر من نصف السكان في الأراضي الفلسطينية هم من الأطفال؛ حيث مثّل الأطفال الفقراء ما نسبته (56.8%) من مجموع الفقراء.(/8)
أما على مستوى النوع؛ فتُظهر المؤشرات أن الأطفال الذكور أفضل حالاً - نوعاً ما - من الأطفال الإناث؛ فقد بلغت معدلات الفقر بين الأطفال الذكور حوالي (36.6%) مقابل (37.3%) بين الإناث، إلا أن معظم الأطفال الفقراء هم من الذكور؛ حيث مثّلوا ما نسبته (50.3%) من مجموع الأطفال الفقراء في العام (2005م)، وخلال عام (2006م) جاء في البيان أن حوالي (6.6%) من الأطفال في الفئة العمرية (10-17 سنة) صُنِّفوا عاملين، وأن ما يقارب ثلثي الأطفال العاملين في الأراضي الفلسطينية (68.1%) يعملون لدى أسرهم دون أجر، مقابل (24.6%) يعملون مستخدمين بأجر لدى الغير.
من جانب آخر: أشارت النتائج إلى أن (7.1%) من الأطفال (10-17) سنة العاملين يعملون لحسابهم الخاص في العام (2006م)، وقد تركز عمل الأطفال في الزراعة والصيد والحراجة، حيث بلغت نسبة الأطفال العاملين في هذا المجال (41.9%)، تليها التجارة والمطاعم والفنادق، بواقع (32.9%)، ومن ثَمَّ التعدين والمحاجر والصناعة التحويلية بواقع (12.2%)، في حين بلغت نسبة الأطفال العاملين في البناء والتشييد (8.5%).
الاحتلال وصحة الطفل الفلسطيني:(/9)
إنَّ من حق الطفل أن ينمو سليماً معافًى، وهو ما يحتاج أولاً إلى بيئة صحية، تتيح للطفل أن ينشأ نشأةً خاليةً من العقبات والمنغِّصات الصحية، خاصةً وأنَّ أيَّ خطأ صحي قد يكلِّف حياة الطفل غالياً، أو قد يؤدِّي إلى عجز دائم لديه، لاسيما وأنه أكثر عرضة للأمراض من الشخص البالغ، فقد نصت المادة (4) من اتفاقية حقوق الطفل على أنَّ: "للطفل الحق في قدرٍ كافٍ من الخدمات الطبية"، وأنه: "يجب أن يتمتع بفوائد الضمان الاجتماعي، وأن يكون مؤهلاً للنمو الصحي السليم". كما نصت المادة (24)، فقرة (1) من اتفاقية حقوق الطفل على أن: "تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في التمتع بأعلى مستوى صحي يمكن بلوغه، وبحقه في مرافق علاج الأمراض، وإعادة التأهيل الصحي. وتبذل الدول الأطراف جهدها لتضمن ألا يحرم أي طفل حقَّه في الحصول على خدمات الرعاية الصحية هذه".
هذا وقد سجل معدل وفيات الرضَّع انخفاضاً متزايداً في الأراضي الفلسطينية وبطريقة متوازنة، من (24.2) في عام (1997م)، ليصل إلى (22.7) في عام (2000م)، ويُتوقع أن ينخفض في عام (2010م) ليصل إلى (18.1).
ومع أنَّ الأطفال في مجتمعنا يتلقون خدمات صحية، إلا أن عوامل متعددة تؤثر علي مستوي صحة الأطفال؛ أبرزها: قلة التغذية، والازدحام داخل المساكن، وكِبَر حجم الأسرة، وعدم المباعدة بين الولادات، وصِغَر سن الأم عند الزواج، والفقر، وعدم توافر الماء النقي والبيئة النظيفة، وكلها عوامل تؤثر سلباً علي صحة الأطفال في مجتمعنا.
فقد أظهرت المؤشرات الصحية لعام (2004م) أن حوالي (9.9%) من الأطفال دون سن الخامسة يعانون قصر القامة، و(4.9%) منهم يعانون نقص الوزن، و(2.8%) يعانون الإصابة بالهُزال، وبلغ معدل وفيات الرضَّع (25.5) لكل (1000) مولود حي في الفترة (1995-1999م)، في حين بلغ (24.2) لكل (1000) مولود حي في الفترة (1999-2003م)، أي بنسبة انخفاض مقدارها: (4.3%).(/10)
أما بخصوص الأسباب المؤدية للوفاة؛ فقد أظهرت تقارير وزارة الصحة لعام (2004م) أن أهم الأسباب المؤدية لوفيات الرضَّع في الضفة الغربية تمثلت في: الولادة المبكرة ونقص الوزن (16.0%)، وأمراض الجهاز التنفسي بما فيها الالتهابات (8.3%)، والتشوهات الخِلْقيَّة (18.3%)، وأرجعت المصادر الصحية أسباب الولادة المبكرة لقيام الاحتلال بإلقاء الكثير من قنابل الغاز السام والمسيِّل للدموع، الذي يؤثر على الحمل، ويعمل على الولادة المبكرة، وفي كثير من الأحيان ينزل الجنين ميتا!.
من خلال مؤشرات واقع الطفل الفلسطيني - من حيث حقوقه وحرياته الأساسية، وبين ما هو منصوصٌ عليه ومؤكَّدٌ في اتفاقية حقوق الطفل - يتبين لنا الفرق الواسع بين ما هو مضمون ومكفول من حقوق وحريات أساسية للطفل، وبين الانتهاك الفاضح والمعلَن والمنظَّم تجاه الطفولة الفلسطينية؛ حياةً، وأمناً، وصحةً، وتعليماً، وحماية.
وفي هذه المعاملة تتحمل دولة الاحتلال الإسرائيلي الجانب الأكبر من مسؤولية انتهاك حقوق الطفل الفلسطيني؛ كونها لا تقيم وزناً ولا قيمةً لكل الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ومنها اتفاقية حقوق الطفل، التي لم تلتزم فيها بتعهداتها تجاه حقوق الطفل وحرياته الأساسية.(/11)
العنوان: الطفل
رقم المقالة: 895
صاحب المقالة: أمل مطر الشلوي
-----------------------------------------
كالطَّيرِ الطَّائرِ إن غَرَّدْ أَلحانَ وَفاءٍ إذ أَنْشَدْ
يَشدُوهُ تَحايا طَيِّبةً وهَدايا تُعْطى مِن أَحمَدْ
زَينُ الأبناءِ بلا رَيبِ لا يَقبَلُ يوماً بالعَيبِ
باللِّينِ يقولُ : أيا صَحْبي هَيا نَتناصَحُ بالحُبِّ
هَيا لنصَلِّي بلا عَجَلِ بخُشوعٍ أَحلى مِن عَسَلِ
كَي يَرضى الخالقُ مَولانا دُنيانا تُشرِقُ بالأَمَلِ(/1)
العنوان: الطفولة المؤمنة
رقم المقالة: 124
صاحب المقالة: عبدالتواب يوسف
-----------------------------------------
كانَ مَلِكٌ – فيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ – وَكانَ لَهُ ساحِرٌ.
فَلَمَّا كَبِرَ (السَّاحِرُ) قالَ لِلْمَلِكِ:
- إنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إلَيَّ غُلامًا أُعَلِّمُهُ السِّحْرَ.
فَبَعَثَ (الْمَلِكُ) إلَيْهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ.
وَكانَ في طَريقِهِ (طَريقِ الْغُلامِ) – إذا سَلَكَ – راهِبٌ، فَقَعَدَ إلَيْهِ وَسَمِعَ كلامَهُ..
وَكانَ إذا أتى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ..
فَشَكا – (الْغُلامُ) – ذلِكَ إلى الرَّاهِبِ.. فَقالَ:
- إذا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَني أهْلي..
- وَإذا خَشيتَ أهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَني السَّاحِرُ..
فَبَيْنَما هُوَ عَلى ذلِكَ، إذْ أتى عَلى دابَّةٍ عَظيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ.. فَقالَ (الْغُلامُ):
- اليَوْمَ أعْلَمُ: السَّاحِرُ أفْضَلُ أمِ الرَّاهِبُ؟
فَأخَذَ (الْغُلامُ) حَجَرًا، فَقالَ:
- اللَّهُمَّ إنْ كانَ أمْرُ الرَّاهِبِ أحَبَّ إلَيْكَ مِنْ أمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هذِهِ الدّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ.
فَرَماها، فَقَتَلَها.. وَمَضى النَّاسُ.
فَأتى (الْغُلامُ) الرَّاهِبَ، فَأخْبَرَهُ، فَقالَ لَهُ الرَّاهِبُ:
- أيْ بُنَيَّ، أنْتَ الْيَوْمَ أفْضَلُ مِنِّي.. قَدْ بَلَغَ مِنْ أمْرِكَ ما أرى..
وإنَّكَ سَتُبْتَلى، فَإنِ ابْتُليتَ، فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ.
وَكانَ الْغُلامُ يُداوِي النَّاسَ مِنْ سائِرِ الأدْواءِ..
فَسَمِعَ (بِهِ) جَليسٌ لِلْمَلِكِ، كانَ قَدْ عَمِيَ..
فَأتاهُ بِهَدايا كَثيرَةٍ، فَقالَ (جَليسُ الْمَلِكِ):
- ما هاهُنا لَكَ أجْمَعُ، إنْ أنتَ شَفَيْتَني!
قال (الْغُلامُ):
- إنِّي لا أَشْفي أحَدًا، إنَّما يَشْفي اللهُ تَعالى..
فَإنْ آمَنْتَ بِاللهِ تَعالى، دَعَوْتُ اللهَ فَشَفاكَ..
فَآمَنَ (جَليسُ الْمَلِكِ) بِاللهِ تَعالى.(/1)
فَشَفاهُ اللهُ تَعالى.
فَأَتى الْمَلِكَ، فَجَلَسَ إلَيْهِ، كَما كانَ يَجْلِسُ.. فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ:
- مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟
- قالَ: رَبِّي.
قالَ الْمَلِكُ: أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْري؟
قالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ.
فَأَخَذَهُ (الْمَلِكُ)، فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ، حَتَّى دَلَّ عَلى الْغُلامِ.
فَجِيءَ بِالْغُلامِ، فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ:
- أيْ بُنَيَّ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ ما تُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ.. وَتَفْعَلُ... وَتَفْعَلُ...
فَقالَ (الغُلامُ):
- إنِّي لا أشْفي أحَدًا، إنَّما يشْفي اللهُ تَعالى..
فَأخَذَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبهُ، حَتَّى دَلَّ عَلى الرَّاهِبِ..
فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقيلَ لَهُ:
- اِرْجِعْ عَنْ دينِكَ..
فَأبى (أي رَفَضَ).
فَدَعا بِمِنْشارٍ، فَوُضِعَ المِنْشارُ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ.. فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ..
ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلامِ فَقيلَ لَهُ:
- اِرْجِعْ عَنْ دينِكَ..
فَأبى..
فَدَفَعَهُ (المَلِكُ) إلى نَفَرٍ مِنْ أصْحابِهِ، فَقالَ:
- اِذْهَبوا بِهِ إلى جَبَلِ (كَذا، وكَذا)، فَاصْعَدوا بِهِ الْجَبَلَ..
فَإذا بَلَغْتُمْ ذِرْوَتَهُ (أيْ قِمَّتَهُ)، فَإنْ رَجَعَ عَنْ دينِهِ.. وَإلاَّ فَاطْرَحوهُ.
فَذَهَبوا بِهِ (بِالْغُلامِ) فَصَعِدوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقالَ:
- اللَّهُمَّ، اكْفِنيهِمْ بما شِئْتَ (أيْ اكْفِني شَرَّهُمْ)..
فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ (أيْ اهْتَزَّ)، فَسَقَطوا..
وَجاءَ يَمْشي إلى الْمَلِكِ...
فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: ما فَعَلَ أصْحابُكَ؟
فَقالَ: كَفانيهِمُ اللهُ تَعالى..
فَدَفَعَهُ (الْمَلِكُ) إلى نَفَرٍ مِنْ أصْحابِهِ، فَقالَ:
- اذْهَبوا بِهِ، فَاحْمِلوهُ في قُرْقورٍ (نَوْعٍ مِنَ السُّفُنِ)، وَتَوَسَّطوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإنْ رَجَعَ عَنْ دينِهِ...
وَإلاَّ فَاقْذِفوهُ!
فَذَهَبوا بِهِ، فَقالَ (الْغُلامُ):(/2)
- اللَّهُمَّ اكْفِنيهِمْ بِما شِئْتَ...
فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفينَةُ، فَغَرِقوا...
وَجاءَ يَمْشي إلى الْمَلِكِ.
فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ:
- ما فَعَلَ أصْحابُكَ؟
فَقالَ: كَفانيهمُ اللهُ تَعالى...
فَقالَ (الْغُلامُ) لِلْمَلِكِ:
- إنَّكَ لَسْتَ بِقاتِلِي حَتّى تَفْعَلَ ما آمُرُكَ بِهِ.
قالَ (الْمَلِكُ): ماهُوَ؟!
قالَ: تَجْمَعُ النّاسَ في صَعيدٍ واحِدٍ، وَتَصْلُبُني عَلى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنانَتي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: ((بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلامِ)) ثُمَّ ارْمِني... فإنَّكَ إنْ فَعَلْتَ ذلِكَ قَتَلْتَني..
فَجَمَعَ (الْمَلِكُ) النّاسَ في صَعيدٍ واحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلى جِذْعٍ، ثُمَّ أخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قالَ:
- بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلامِ...
ثُمَّ رَماهُ، فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ، فَماتَ..
فَقالَ النَّاسُ:
- آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ...
فَأتى الْمَلِكُ، فَقيلَ لَهُ:
- أَرَأيْتَ ما كُنْتَ تَحْذَرُ...
قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ.
قَدْ آمَنَ النَّاسُ...
فَأمَرَ (الْمَلِكُ) بِالأُخْدودِ (أيْ حُفْرَةٍ في الأرْضِ)...
وَأضْرَمَ فيها النِّيرانَ (أيْ أوْقَدَ فيها النَّارَ)... وَقالَ:
- مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دينِهِ، فَأقْحِموهُ فيها (أيْ ألْقوا بِهِ فيها).
فَفَعَلوا...
حَتَّى جاءَتْ امْرَأَةٌ، ومَعَها صَبِيٌّ لَها...
فَتَقاعَسَتْ أنْ تَقَعَ فيها... (أيْ تَوَقَّفَتْ وَخافَتْ).
فَقالَ لَها الْغُلامُ:
- يا أُمَّهْ. اِصْبِري. إنَّكِ عَلى الْحَقِّ...(/3)
العنوان: الطلاق في الإسلام
رقم المقالة: 1872
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
الطلاق في الإسلام
ملخص الخطبة:
1- الوصية بالنساء.
2- متى يشرع الطلاق؟
3- نظام الطلاق في الإسلام.
4- نصائح وتوجيهات عامة للزوجين.
5- من أضرار الطلاق.
6- نصائح للزوجين بعد الفراق.
ـــــــــــــــــــــ
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيأيّها الناس، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.
عباد الله، عقدُ النكاح أحدُ العقودِ التي أمر الله بالوفاء بها في قوله - جلّ جلاله -: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، فعقدُ النكاح عقدٌ ذو شأنٍ كبير، ولذا وصفَه الله بأنّه ميثاق، وأنّ هذا الميثاقَ ميثاق غليظ، قال - جلّ وعلا -: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]، نعم، إنه ميثاقٌ وأيُّ ميثاق؟! ميثاقٌ يقوم بسببِه البيت، فيه غضّ البصر، وتحصين الفرج، وحصول الولد، وسكون النفس وطمأنينتُها.
أيّها المسلمون، وشريعةُ الإسلام شرَعت ما يسبّب استمرارَ هذا العقد وديمومتَه، ولذا أُمر الزوج بالصّبر على ما يستطيع الصبرَ من أخطاءِ المرأة، في الحديث: ((لا يفرَك مؤمِنٌ مؤمنةً، إن كرِه منها خلُقًا رضيَ منها آخر))[1] ، وأخبَر - صلى الله عليه وسلم - أنّ المرأة خُلِقت من ضِلع، وأنّ أعوج ما في الضلعِ أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وأمر أن نستمتِعَ بالنساء وأوصانا بهنّ خيرًا، فقال: ((استوصوا بالنّساء خيرًا، فإنها خلِقَت من ضلع، وإنّ أعوجَ ما في الضلع أعلاه))[2].
وهذا العقدُ استُبيح بكلمةِ الله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحلَلتم فروجهنّ بكلمة الله))[3].(/1)
وأمرَ الزّوج عندما يحصل من امرأتِه شيء من النشوز والعصيان أن لا يُقابِلَ ذلك بالطلاق المتسرّع، وإنما أمَره أن يعِظَها ويذكّرها الله والدارَ الآخرة، فعسى موعِظة تصلِح الأخطاء، وتزيل ما علق بالنّفوس، وجوّز له هجرَها في المضجع أو ضربَها الضربَ اليسير غيرَ المبرح، فعسى أن يردَعَها عن جهلها وتعدِّيها على زوجِها.
والمرأة المسلمة أيضًا مُطالَبَة بالصبر على زوجِها، وأنَّ عبادَتها لربِّها بمحافظتِها على عبادة الله، ومحافظتها على الصلواتِ الخمس، وطاعتها لزوجها - سببٌ لدخول الجنة، في الحديث: ((إذا صلّتِ المرأة خمسَها، وأطاعتْ بعلَها؛ قيل لها: ادخلِي الجنّة من أيِّ أبوابِ الجنّة شِئتِ))[4].
أيّها المسلمون، وإذا لم تنفع الموعظةُ ولم ينفع الصّبر فالشرع أيضًا أمَر بحَكَمَين من قِبَل المرأة والرّجل، ينظران في شأنهما، فإمّا أن يحكُما باجتماعهما، وإمّا أن يحكما بافتراقهما، {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].
أيّها المسلمون، وعندما تتعذّر كلُّ أسباب الوِئام والاتّفاق؛ فالإسلام شرَع الطّلاق، عندما تدعو الحاجة إليه، وعندما لا يكون سَببًا للخلاص من المشاكل إلاّ الطلاقُ، فإنّ شريعةَ الإسلام لا تجعل المرأةَ غُلاًّ في عنُق الرّجل دائمًا يشقَى بها، ولا تجعل المرأةَ تَضيع مصالحُها بأسبابِ نزاعِها مع زوجها، فإنّ الحياةَ الزوجية إذا تكدّرت شقِي الرجل وشقِيت المرأةُ وشقيت الأسرَة، فشرع الطلاق عندما تدعو الحاجة إليه.(/2)
أيّها المسلمون، ولكن هذا الطلاق لم يُجعَل على أهواءِ الناس ومُرادِهم، وإنَّما الطلاق على حسب ما بيَّن الله في كتابِه وبيَّنه رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم، فنظام الطلاقِ لم يستمدَّ من آراءِ الناس وتصوُّراتهم، وإنما جاء تشريعًا ربّانيًّا في كتاب ربِّنا وفي سنّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وإذا التزم المسلم شرعَ الله في زواجه وطلاقه فإنّه يعيش على خير؛ لأنَّ في شرع الله حلَّ كلِّ المشاكِل على أيسرِ حال وأحسن، وإنما تأتي الفوضى عندما يخالِف المسلم شرعَ الله في الطلاق.
أيّها المسلمون، لقد كان العرَب في جاهليّتهم يؤذون المرأةَ ويلحِقون بها الأذى، فكان الرّجل يطلِّق حتى إذا قارَب انقضاء العدّة راجعها، وربما طلّقها مائة طلقة، وهكذا، فجاء الإسلام بنظامٍ للطلاق، نظامٍ يكفل مصلحةَ المرأة والرّجل معًا.
أيّها المسلمون، إنّ التزامَ المسلمين بشرع الله فيه خلاصٌ لهم من كلّ المشاكل، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
أيّها المسلمون، الطلاقُ من أبغضِ الحلال إلى الله، كما في الحديث: ((أبغَض الحلال إلى الله الطلاق))[5]، ولكن لما كان حلاًّ للمشكلةِ كان فيه خير، وإلاّ فالأصل أنَّ عدمه أولى، لكن إذا دعَت إليه الحاجة كان مستحَبًّا، وربما كان واجبًا.(/3)
أيّها المسلمون، إنّ شرعَ الله حثَّ المسلمَ على الإقلالِ منَ الطلاق وعدمِ التلاعُب به، فلا ينبغي للمسلِم أن يكونَ الطلاقُ على لسانِه دائمًا، ففي الحديثِ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ثلاثٌ جِدّهن جدّ، وهزلهُن جِدّ: النكاح، والطلاق، والرّجعة))[6]، بمعنى أنَّ من طلّق وزعَم أنّه هازِل ولاعِب ولم يرِد حقيقةَ الطلاق لا يُقبَل ذلك منه؛ لأنّ الطلاقَ المعتبرُ فيه النّطقُ باللسان إذا كان الناطق به بالغًا عاقلاً يُدرك ما يقول، فلا يُعذَر بقوله أنه تلاعَب بالطلاق وأظهَرَه من باب المزاح، لا، جدُّه جدّ وهزلُه جِدّ، فلا فرقَ بين هازله وجادّه؛ إذًا فالمسلم لا يتلفَّظ بالطلاق، ويبتعِد منه خشيةَ أن يقع الطلاق موقعَه.(/4)
ثانيًا: شريعةُ الإسلام جعَلت الطلاقَ على مراحل ثلاث، يقول الله - جل وعلا -: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فإنّه إذا طلّقها الطلقةَ الأولى شُرع له أن يبقيَها في منزلهِ وأن لا يخرِجَها منه، كما قال - تعالى -: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، ثم قال: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، فلعل الطلاق وقع في حالةٍ غير متروٍّ فيها، فيندم مع بقاءِ المرأة عنده، فتُغيَّر الأمور بتوفيق من الله. ثمّ إذا انقضت العدّة الأولى وطلّق الثانيةَ أيضًا فلعلّ خطأً منه أو منها فيزول، وإذا طلّقها الثالثة عُلِم أنَّ الأمر لا فائدةَ فيه ولا في بقائهما، فعند ذلك تحرم عليه إلاّ بعد نكاحِ زوجٍ آخر عن رغبةٍ لا تحليلاً. ولذا حرّم الشارع جمعَ الثلاث بلفظٍ واحد، طلَّق رجلٌ في عهدِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - امرأته ثلاثًا، فغضِب - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((أيُلعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهُرِكم؟!)) حتَّى إن رجلاً قال: "يا رسول الله، أأقتله؟"[7].
أيّها المسلمون، وشرعُ الله حرَّم على المسلم أن يطلّق امرأته في طُهرٍ قد جامَعها فيه، فلعلّها أن تحملَ فيطول الأمر عليها، ثم يندَم إذا حملت، فقد زلّ لسانه بهذا الطلاق، كما حرّم عليه الشارع أن يطلّقها وهي حائِض، كلّ ذلك لأجل أن لا تطولَ المدة عليها، ولأجل أن لا يكونَ سببًا لافتراقهما؛ لأنها إن كانت حائضًا فلا يحلّ له مضاجعتُها، فربما كره مستقبلاً، فشرِع له أن يطلّقها في طهرٍ لم يجامعها فيه، أو يطلقَها حاملاً قد استبان حملها.(/5)
طلّق ابن عمر - رضي الله عنهما - امرأتَه وهي حائض، فبلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم – فتغيَّر، وقال لعمر: ((مُرْ عبدالله أن يراجعَها حتَّى تَطهُر، ثم تحيض، فتطهر، ثم إن بدَا له أن يطلّقَها؛ فليطلِّقها في طهرٍ لم يَمسَّها))[8].
أيّها المسلمون، الطلاق شأنُه عظيم، فالحذَر من التهاون به، والحذَر من الاستعجال فيه وجعلِه على اللسان دائمًا أو تعليق الأمور به أمرًا أو نهيًا، فالبعض من المسلمين - هدانا الله وإياهم - لا يبالي بهذا الأمرِ العظيم، على أتفهِ الأسباب يعلِّق طلاقه عليه، رُبما أتاه ضيف فأراد إكرامَه، فلم يستجِب له، فقال: عليّ الطلاق أن تأكلَ الذبيحة، وعليّ أن أفعلَ، وعليّ الطلاق أن لا أفعل، كلّ هذا من الخطأ. فلنجنّب ألسنتَنا هذه الأمورَ، ولنتروَّ في أمرِ طلاقنا، ولا نستعجِل، فنندم ولا ينفع النّدم.
وعلى المرأةِ المسلمة أن تتّقيَ الله في تعامُلها مع زوجِها، ولا تَحمِله على هذا الأمر، ولا تسلُك الطريقَ الذي يسبِّب استعجالَه في هذا الأمر؛ بل لتراعي شعورَ زوجها، وتراعي أحاسيسَه، ولا تحمله على الطلاقِ ما وجدت لذلك سبيلاً. فعندما تراه غضبانًا ومنفعلاً فلتبتعِد عن كلّ أمر يُثير غضبَه، لتترك بعضَ الأمورِ التي لا خيرَ فيها، ولتعرِض عن بعض المعاتبةِ التي قد لا يكون هذا موضعَها، فإنّ المرأة إذا رأتْ غضبَ زوجها وانفعالَه، ثم بدأت تزيد النارَ نارًا، فربما وقع طلاق؛ فتندَم ويندم الرجل.
أيّها المسلم، للطلاقِ آثارُه غير الحسنة لمن استعجَل فيه، فالطلاق ضرَر لمن يتأمّل؛ تكون المرأة أيِّمًا، يتشتّت أمرُ الأسرة، يضيع الأولاد بين طلبِ الأب وبين طلب الأمّ، وربما حصل بين الزوجين عنادٌ في زيارةِ الأبناء لأمّهم أو أبيهم.(/6)
المقصود أنّ الطلاَقَ ضررُه عظيم، ولولا الحاجةُ الملحّة إليه ما أباحه الشارع، فالواجِب على الزوجين تقوى الله في أنفسهما، وأن يتذكّرا هذه الأضرارَ للطلاق تذكُّرًا يدعوهما إلى الصّبرِ والتحمّل، فعلى الرجلِ أن يصبرَ ويتحمّل الأخطاء، ويحاوِل أن يصبرَ ما دام الأمر لا يتعلّق بالعرض، فيصبر ويتحمّل، فلعلّ العاقبةَ حميدة، وعلى المرأةِ أن تصبر أيضًا وتحتسِب، ولا تدخل في مهاتراتٍ مع زوجها، فيسبّب ذلك فراقَها.
فلنتّق الله في أمورنا، لنتّق الله في طلاقنا ورجعاتنا، ولهذا شرِع للزوجين بعد الطلاق الرجعةُ إن أرادا الإصلاحَ، ما دامت الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية.
فعلى المسلِم أن يتّقيَ الله في طلاقه ورجعتِه، وأن يكونَ صادقَ المقال، لا يكون متناقضًا.
بعضُ الإخوة ربما أتى المحكمةَ وطلّق المرأة، ثم إذا انتهى الطلاق وأخذ صَكَّ الطلاق، جعل يعتذِر ويقول: ما علِمت، وما فهِمت، وما بُيِّن لي، واستعجل مَن كتَب الطلاقَ، إلى غير ذلك من التّرَّهات، سببُ ذلك استعجالهُ وعدمُ رويَّته، ثم يحمِّل التبعات غيرَه.
فلنتّق الله في أنفسنا، ولنصدُق الله في تعامُلنا، ولنحذَر التهاونَ بهذا الأمر، فإنّ ما بعدَ الثلاث أيّ علاقةٍ مع الزّوج قبلَ زوجٍ آخَر تكون علاقةً سيئة، ويكون أمرًا محرَّمًا.
فلنتّق الله يا عباد الله، ولنأخذ الأمورَ بحكمة، ولا نستعجِل، ولا نقدم على هذا الأمر ما وجَدنا لذلك سبيلاً.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية والعونَ على خير، إنّه على كل شيء قدير.(/7)
يقول الله - تعالى - بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيأيّها الناس، اتَّقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.(/8)
أيّها الزوج الكريم، عندما يقع منك طلاقٌ لامرأتك فلا يكن هذا الطلاقُ سببًا لنِسيان ما بينك وبين المرأةِ من صلاتٍ ومودّة، ولا يكن هذا الطلاقُ سببًا لمواقِفَ سيّئة تتّخذها من المرأة لا سيّما إذا كان لها أولاد، فتحاول أحيانًا أن تجعلَ الأولادَ لك دونها، وتحاول أن تمنعَ صلتَهم بأمّهم، كما أنّ بعضَ النسوة ربما تتّخِذ موقفًا سيّئًا من زوجِها، فتحاول قطعَ صِلةِ أبيهم بأولاده، وتبغِّض الأبَ لأولاده، وتحاول أن تجعلَ بين الأولاد والأب انفصالاً، كلُّ هذا من الزوجين خطأ. الواجبُ التعاون، ولا يذهَب الأولاد ضحيّةً لنزاعِ الرجل والمرأة، ألا تسمَع الله يقول: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، ويقول: {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]؟!
فإذا حصَل الطلاق - لا قدّر الله ذلك - فإنّ الواجبَ أن لا يتَّخذَ الزّوجُ موقِفًا من امرأتِه وموقفًا من أهلِها، يتمثّل في الإضرار بالبنين والبنات، ومتابعتهم والشكاية الدائمة، ويطلب كذا وكذا، ويقدَح في الأمّ وأهلها، ويقول: ليسوا أهلاً لتربيةِ الأولاد ولا حضانةِ الأولاد، أو تتّخِذ الزوجة موقفًا من زوجِها مع أهلها ضدّ ذلك الزوج، ويكون الضحيّة هؤلاء الصّغار، بين تعصّب الأبِ وتعصّب الأم وأهل الجميع.
الواجب تقوى الله والتعاونُ على البر والتقوى، وأن لا يَكون الطلاق سببًا للعداوةِ والبغضاء، وإنما هذه أمورٌ شرعها الله، والله أحكَم وأعدل، والأرواح جنودٌ مجنّدة، فما تعارفَ منها ائتلفَ، وما تناكر منها اختلف. أسأل الله أن يوفّقني وإيّاكم جميعًا لكلّ خير.(/9)
إنّ الحرصَ على شكاية الزوجين لأحدهما والترافع إلى المحاكم ليس أمرًا يسيرًا، هذا يترك أثرًا سَيّئًا في المستقبل، والواجب أن نتداركَ هذه الأمور، ولا يحملنا الطلاق على أن يأخذ أحدنا موقفًا من صاحبه، وإنما تمضي الأمور على كلّ حال، ويتعاون الجميع في سبيل تربيةِ هذا النشء وإصلاحه وإعدادِه، فإنّ الأبناء إذا شاهَدوا نزاعَ الأبوين، أبٌ يتعصّب ويتشدّد، وأمٌّ كذلك، وأهلُ المرأة وأهل الرّجل، فإنّ أثرَ ذلك يكون سيّئًا على مستقبَل الأولاد ونفسيّاتهم.
فلنتّق الله في أمورنا، أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية لكلّ خير، وأن يجعلَنا ممن يستمِعون القولَ فيتّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. إنما هي وصايا لإخواني المسلمين، حرصًا على التعاونِ على الخير والتقوى، أسأل الله القبولَ لي ولكم.
واعلموا - رحمكم الله - أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلُّوا - رحمكم الله - على محمّد - صلى الله عليه وسلم - كما أمركم بذلك ربّكم، قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم في الرضاع (1469) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه البخاري في النكاح (5186)، مسلم في الرضاع (1468) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] رواه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه.(/10)
[4] أخرجه أحمد (1/191) من حديث عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال المنذري في "الترغيب" (2/671): "رواة أحمد رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات"، وعزاه الهيثمي في "المجمع" (4/306) للطبراني في "الأوسط" وقال: "فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن حبان (4163)، وآخر من حديث أنس عند البزار (1463، 1473)، وأبي نعيم في "الحلية" (6/308)، وثالث من حديث عبدالرحمن بن حسنة عزاه الهيثمي في "المجمع" (4/306) للطبراني، ولذا حسنه الألباني في "آداب الزفاف" (ص286)، وانظر: "صحيح الترغيب" (1932).
[5] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في كراهية الطلاق (2178)، وابن ماجه في الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد (2018) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأعِلَّ بالإرسال؛ لذا ضعفه الألباني في "الإرواء" (2040).
[6] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل (2194)، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق (1184)، وابن ماجه في الطلاق، باب: من طلق أو نكح... (2039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في "الإرواء" (1826).(/11)
[7] أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) من حديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه - وأعله ابن كثير في تفسيره (1/278) بالانقطاع، وقال الحافظ في "الفتح" (9/362): "رجاله ثقات, لكنّ محمود بن لبيد ولد في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت له منه سماع, وإنْ ذَكَرَه بعضُهم في الصّحابة فلأجل الرّؤية, وقد ترجم له أحمد في "مسنده" وأخرج له عدّة أحاديث ليس فيها شيء صرّح فيه بالسّماع. وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير - يعني ابن الأشج - عن أبيه. اهـ، ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه"، وصححه الألباني في "غاية المرام" (261).
[8] أخرجه البخاري في الطلاق (5252، 5253)، ومسلم في الطلاق (1471) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - نحوه.(/12)
العنوان: الطلاق في المملكة: غول يهدد البيوت
رقم المقالة: 112
صاحب المقالة: تقرير : سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
عندما شرع الله تعالى الزواج، جعل له شروطا حتى يكون سكنا ومودة ورحمة، وعندما أباح الطلاق وضع له قيوداً وحدوداً، حرصاً على المصلحة العامة؛ فالطلاق يعد مخرجاً من الضغوط ووسيلة للقضاء على المشكلات وسبيلاً لتيسير فرص أفضل للزوجين يبدأ خلالها كل منهما حياة جديدة أكثر توفيقاً وانسجاماً.
وقد حاول الإسلام الحد من وقوع الطلاق منذ البداية، وذلك بتشريع الوسائل العلاجية المناسبة كإتاحة فرص التدخل من الأهل والمقربين لمحاولة الإصلاح، كما جعل أحكام الطلاق قائمة على التدرج حتى لا يقع إلا حين يصبح العلاج الذي لا مفر منه؛ ما يبين أهمية عدم اللجوء إلى الطلاق إلا في الحالات المستعصية على الحل فعلاً.
ظاهرة الطلاق إحدى الظواهر الخطيرة التي تنجم عنها العديد من المشكلات التي تؤثر على جميع أفراد الأسرة بل وعلى المجتمع بأكمله، في آخر تقرير أعدته وزارة التخطيط السعودية تبين أن نسبة الطلاق في المملكة العربية السعودية ارتفعت عن الأعوام السابقة بنسبة 20%، كما أن 65% من الزيجات التي تتم عن طريق الخاطبة تنتهي بالطلاق حيث سجلت المحاكم الشرعية 70ألف عقد زواج و13 ألف صك طلاق خلال عام واحد. وذكر التقرير أن حالة طلاق واحدة تحدث كل 40 دقيقة، بمعدل 33 حالة طلاق في اليوم، و12192 حالة في السنة.
وتأتي مدينة الرياض في المرتبة الأولى من بين مناطق المملكة من حيث ارتفاع نسبة الطلاق فيها. حيث بلغت نسبة الطلاق فيها 50 بالمائة، وفي منطقة تبوك 29 بالمائة، و34 بالمائة في حائل وعسير، والمدينة المنورة 16بالمائة، ومكة المكرمة 15بالمائة، أما الباحة فكانت معدلاتها اقل حيث بلغ المعدل 9 بالمائة.
* أسباب شتى:(/1)
تتعدد العوامل المؤدية إلى الطلاق في السعودية، وقد قامت الدكتورة زينب عبد الجليل الأستاذة المشاركة بقسم الإسكان وإدارة المنزل بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، والدكتورة هنية السباعي المشرفة بنفس القسم بدراسة تحليلية على عينة عشوائية قوامها (120) سيدة مطلقة من العاملات بجامعة الملك عبد العزيز من مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية وذلك بهدف الكشف عن العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي قد تؤثر في ارتفاع معدلات الطلاق بين الأزواج في الأسر السعودية بمدينة جدة.
وقد كشفت نتائج بحثهما عن اختلاف في درجة شدة العوامل الاجتماعية المؤثرة في ارتفاع معدلات الطلاق، وهي بالترتيب : (تعدد الزوجات، وعدم إدراك الزوجين للحقوق والواجبات الأسرية، والتفاوت في المستويات التعليمية والعمرية والاجتماعية للزوجين، وخروج الزوجة للعمل)،
كما أوضحت نتائج البحث اختلاف درجة شدة العوامل الاقتصادية التي تؤثر في ارتفاع معدلات الطلاق للأسر عينة البحث وهي كالتالي: (الفقر، والاعتداء على أموال الطرف الآخر، وارتفاع مستوى معيشة الأسرة، والبطالة، ثم التفاوت الكبير في المستوى الاقتصادي بين أسرة الزوجين).
كما أوضحت نتائج البحث مجموعة أخرى من العوامل الفرعية التي تؤثر في ارتفاع معدلات الطلاق كالسلوك السيئ للزوج، والعناد من جانب الزوجين، وعدم احترام المرأة وشخصيتها، وعدم قدرة الزوج على تحمل مسؤولية الزواج والأسرة.
* عوامل أخرى:
الأستاذة موضي بنت محمد الغذامي المعلمة بالثانوية والحاصلة على عدة جوائز في البحث العلمي أضافت إلى ما سبق عوامل أخرى ساعدت على استفحال ظاهرة الطلاق في المملكة.. من أهمها : العوامل الدينية والنفسية والصحية، وقالت : قد يحدث الطلاق لأسباب دينية من أهمها :
* عدم الالتزام بالضوابط الشرعية في رؤية المخطوبة.
* إخفاء بعض العيوب الخلقية عن أحد الزوجين.
* إهمال أحد الزوجين الفروض الدينية.(/2)
* عدم معرفة أحد الزوجين بالضوابط الشرعية للطلاق (مثل متى يقع، وأحكام العدة، ونحو ذلك).
* عدم الدقة والحرص في اختيار الزوجة المناسبة ذات الدين.
* عدم الحرص على اختيار الزوج المناسب ممن ترضون دينه وخلقه.
* عدم اتباع الشرع في توسيط حكمين في حال وجود خلافات بين الزوجين.
ونوهت الغذامي إلى العوامل النفسية والصحية كأسباب تؤدي للطلاق في كثير من الأحيان فذكرت من أهمها:
* إصابة أحد الزوجين بمرض نفسي أو جسمي دون علم الآخر وعدم التوافق النفسي بين الزوجين أو عدم محبة كل منهما الآخر.
* وجود عادات شخصية غير مرغوبة لدى أحد الزوجين وعدم رغبته في تعديلها.
* عدم معرفة الزوجين فن التعامل مع الآخر والرقة واللطف.
* إنجاب نوع معين من الذرية (بنين أو بنات)، أو عدم قدرة أحد الزوجين على الإنجاب.
* عدم قدرة أحد الزوجين أو كليهما على تحمل المسؤولية أو عدم تعويد الأبناء تحمل الظروف والمشكلات الأسرية.
* تخيل أحد الزوجين أو كليهما حياة خيالية حالمة دون وجود عيوب أو أخطاء وعدم اتباع الأسلوب العلمي الصحيح لحل المشكلات.
ولم تغفل الغذامي أثر العوامل الاجتماعية في حدوث الطلاق فذكرت من أهمها:
* عدم قدرة الزوجين على تحمل أعباء الحياة الجديدة.
* عدم تدريب الزوجين على إدارة الأسرة الجديدة قبل الزواج.
* الظروف الأسرية التي عاشها الزوجان قبل الزواج.
* أثر الرفاق في التدخل بحياة الزوجين.
* إحساس كل من الزوجين بالكبرياء وعدم الاعتذار عند الخطأ.
* عدم قيام الزوجين بحق القوامة وعدم الصبر والحكمة عند حدوث المشكلات.
* تدخل أهل الزوج أو الزوجة في حياة الزوجين.
* علاقة الزوجة السلبية بأهل زوجها.
* مقارنة الزوجة حياتها الأسرية بالأسر الأوفر منها حظاً.
* كثرة خروج الزوجة من المنزل وقضاء الأوقات في الاستراحات وكثرة سفر الزوج إلى الخارج دون حاجة.
كما حصرت الغذامي العوامل الاقتصادية المتسببة في الطلاق فيما يلي:(/3)
* عدم تعويد الأبناء منذ الصغر الاقتصاد في المصروفات.
* الفارق في المستوى الاقتصادي بين الزوجين.
* عدم تفاهم الزوجين في عملية الصرف والادخار وعدم تنظيم ميزانية لذلك.
* غلاء المهور؛ وهو ما يؤدي إلى تحمل الزوج ما لا طاقة له به فتتراكم عليه الديون ثم تكثر المشكلات وتتطور إلى الطلاق، ومنها الفقر وتدني المستوى الاقتصادي وعدم صبر الزوجة على ذلك.
* مطلقون ومطلقات:
الدكتورة ابتسام عبد الرحمن حلواني أجرت دراسة استطلاعية على عينة من المطلقين والمطلقات بمدينة جدة شملت 158 مفردة كان من أهم نتائجها:
* ما يقارب نصف أفراد العينة طلقن قبل مرور ثلاث سنوات على الزواج.
* المشكلات بدأت عند غالبية المطلقات خلال العام الأول من الزواج.
* هناك أسباباً عدة أدت إلى وقوع الطلاق أهمها سوء خلق الزوج وعدم تقديره الحياة الزوجية ومسؤولياتها إضافة إلى علاقاته النسائية غير الشرعية.
* ما يزيد على ثلثي أفراد العينة يرفضن العودة إلى مطلقيهم مرة أخرى.
* المطلقات يعانين مشكلات كثيرة بعد وقوع الطلاق أهمها المشكلات المرتبطة بالأبناء من تكلفة الإنفاق عليهم أو الحرمان منهم أو تشتتهم والخوف على مستقبلهم، إضافة إلى معاناة نظرة المجتمع للمطلقة والمعاناة مع الأهل.
بعد ذلك قامت الباحثة بمحاولة التعرف على وجهة نظر الرجال المطلقين حول الموضوع، إلا أنها عانت بسبب عدم القدرة على الوصول إليهم، وأرجعت الأمر إلى أن الرجل هو صاحب القرار الأول في الغالب في موضوع الطلاق، وقد تمكنت الباحثة من تطبيق الدراسة على 104 رجال مطلقين بمدينة جدة، وقد توصلت إلى نتائج عدة أهمها:
* غالبية حالات الطلاق وقعت في الثلاث السنوات الأولى من الزواج.
* غالبية المطلقين كانوا ينظرون إلى الطلاق حلاً في حد ذاته.
* ما يقارب ربع أفراد العينة كانوا يهددون باستخدام الطلاق من حين لآخر.
* قرار الطلاق كان أمراً حتمياً لا مفر منه.(/4)
* أن غالبية المطلقين لا يعتقدون أنهم تسرعوا عند اتخاذ قرار الطلاق.
وخلصت الباحثة إلى أن معالجة المشكلة لا بد أن ترتكز على الجذور، كما أكدت أنه من المهم وضع مصلحة المطلقات والأبناء في الاعتبار بعد وقوع الطلاق.
* الإعلام يدعم الخلافات:
أكدت الدكتورة عزة علي كريم أستاذة علم الاجتماع بالمركزالقومي للبحوث الاجتماعية والجنائيةأن الإعلام يؤدي دوراً مهماً ويؤثر تأثيراً خطيراً في اتجاهات الفرد بوجه خاص والأسرة والمجتمع بوجه عام، وقد ازداد ذلك بعد انتشار الفضائيات وزيادة عدد القنوات وامتداد ساعات الإرسال طوال اليوم.
وقالت الدكتورة عزة: إن الفضائيات لا تؤدي بطريق مباشر إلى الانفصال بين الزوجين (الطلاق ـ التطليق ـ الخلع)، ولكن قد تأتي الفضائيات لتفجر المشكلات الزوجية الكائنة والواضحة بين الزوجين؛ وهو ما قد يساعد على دعم مظاهر الخلاف بينهما، فالخلافات الزوجية عادة ما تناقش من خلال الموروث المخزون لدى الزوجين، وهذا المخزون نابع مما يراه الزوجان ويسمعانه ويقرآنه في وسائل الإعلام؛ لذلك يمكن أن يكون القرار الذي يؤخذ من كلا الزوجين متأثراً بوسائل الإعلام، خصوصاً التلفزيون، وبناءً عليه يمكن أن تؤثر الفضائيات بأسلوب غير مباشر في اتخاذ قرار الانفصال الرسمي في حالة وجود استعداد لدى الزوجين لهذا الإجراء. وقد ساعد على ذلك تخبط السياسة الإعلامية العربية وعجزها عن توفير رؤية إسلامية لحل المشكلات المختلفة.
* الإنترنت والطلاق:
تناول الكثير من الباحثين الأسباب المختلفة للطلاق إلا أنهم لم يتعرضوا إلى الآثارالسلبية للاستخدام الخاطئ للإنترنت وتأثير ذلك على حدوث الطلاق. ومن هنا تأتيأهمية الدراسة التي قامت بها الدكتورة الجوهرة بنت فهد آل سعود الوكيلة المساعدة للشؤون التعليمية في وكالة كليات البنات بوزارة التربية والتعليم عن التأثير السلبي للإنترنت في مشكلات النزاع الأسري الذي يؤدي إلى الطلاق.(/5)
واقتصرت الدراسة على السعوديين فقط ذكورا وإناثا سواء أكانوا المقيمينداخل المملكة أم خارجها الذين كان استخدامهم للمواقع الإباحية المتاحة على شبكةالإنترنت أو غرف الدردشة أو المنتديات هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى الطلاق. وكانلأفراد عينة الدراسة حرية إبداء ما يرونه مناسبا حول آثار التجربة، وقد بلغ عدد المطلقين 101 أي بنسبة 65% من المبحوثين بينما عدد المطلقات 54 أي بنسبة 34,8%.
أشارت نتائج الدراسة إلى أن 57,4% من عينةالأزواج المطلقين و63% من الزوجات المطلقات بالعينة كان ارتيادهملغرف الدردشة السبب الرئيسي في حدوث النزاع الأسري الذي أدى إلى الطلاق، تلاهاالمواقع الإباحية بالنسبة للأزواج المطلقين حيث بلغت نسبتهم 29,7%، في حين أن ارتيادالمنتديات كانت سببا في حدوث الطلاق في 22 % من عينة المطلقين، و 37% من عينة المطلقات، أي أن ارتياد غرف الدردشة والمنتديات تمثل السبب الرئيس للطلاق لعينةالمطلقات بينما غرف الدردشة والمواقع الإباحية تمثل السبب الرئيس للطلاق لعينة المطلقين.
تقول الدكتورة الجوهرة: خدمة الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) سلاح ذو حدين فبالرغم من منافعها الكثيرة قد تكون مصدراً لشر عظيم لمن أساء استخدامها، فالاستخدام السيئ للأزواج والزوجات لهذه المواقع قلل من فرص التفاعل والنمو الاجتماعي والانفعالي والصحي بين الزوجين مما تسبب في النزاع الأسري الذي أدى للطلاق.(/6)
العنوان: الطواف... وأشياء أخرى!
رقم المقالة: 1032
صاحب المقالة: هيثم الكناني
-----------------------------------------
منذ أكثر من خمس عشرة سنة؛ دخل شاب أمريكي إلى تركيا، وبحوزته قطعة من مادة مخدرة لاستخدامه الشخصي، لكن موظف الجمارك اكتشف الأمر، فأُوقِفَ، وَحُوكِمَ، ومن ثم سُجِنَ.. وحيث إن العلاقات بين البلدين كانت متوترة في ذلك الوقت؛ فقد استُغِلَّ الموضوعُ من الدولتين سياسياً.
هذه القصة حُوِّلَتْ إلى (فلم سينمائي)؛ حصل على أشهر جائزة في أمريكا بعد جائزة (الأوسكار). الذي يعنينا من كل ذلك أن هذا (الفلم) قد حوى إساءات كثيرة للمسلمين ولدينهم!
إن الغربيين لا يزالون يحملون في قلوبهم الكثير من الحقد على الأتراك، ذلك أن العثمانيين قد قضوا على الدولة البيزنطية، وحولوا عاصمتها القسطنطينية إلى إسلام بول (اسطنبول)، واتخذوها عاصمة لدولة الخلافة الإسلامية العثمانية، هذه الدولة التي هزت العروش الأوربية في طريق زحفها المظفر باتجاه الغرب، حتى وصلت إلى قلب أوروبا، فحاصرت فيينا عاصمة النمسا، ولولا تمرد الصفويين في إيران على دولة الخلافة، وطعنهم في ظهرها؛ لكان للتاريخ مسار آخر، ولكن {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال:42].
عقدة الأتراك ترسخت في عقول الغربيين عبر الزمن، وهو ما يظهر جلياً في كتاباتهم، و(أفلامهم)، ومواقفهم السياسية، والاقتصادية، وغيرها..
فتركيا -في عقول الغربيين- ترادف الإسلام؛ لذا تراهم يصفون بعض الشعائر الإسلامية بالتركية، فيقولون مثلاً: "الحجاب التركي!"، وفي حين يسمي العلمانيون -في بلادنا- عصر العفة والطهارة: "عصر الحريم!"، فإن الغربيين يسمونه: "عصر الحريم التركي!!".(/1)
وبرغم الجهود الجبارة التي بذلها "أتاتورك" لتغريب تركيا، وعلمنتها، وسلخها عن الإسلام؛ بدءاً من محاربة اللغة العربية، لغة القرآن، مروراً بمنع اللباس الإسلامي للرجال، ومنع حجاب النساء، وانتهاء بالتضييق على أهل الإيمان والتنكيل بهم؛ وبرغم الشوط الكبير الذي قطعه في ذلك، بالاعتماد على الحديد والنار، حيث قطعت تركيا خطوات كثيرة في اتجاه العلمانية؛ إلا أن عقدة العثمانيين لم تجد لها حلاً عند الغربيين، فما زالت الهواجس القديمة تسيطر على عقولهم، وما زالت أحقاد التاريخ مزروعة في قلوبهم؛ وهو ما يفسر موقف الكثير من الدول الأوربية الرافض لانضمام تركيا إلى الإتحاد الأوربي، الذي نحسبه خيراً لتركيا وشعبها المسلم العريق.
في ذاك (الفلم) أُظهِر مُدمنُ المخدرات الأمريكي في صورة البطل -كما لا يخفى- وكان المطلوب هو أن يتعاطف المشاهدون معه ومع باقي إخوانه الغربيين، الذين يقضون أحكاماً في السجن التركي ظلماً وعدواناً!!
أما الأتراك فقد أُظْهِرُوا في أبشع صورة، بدءاً من السياسيين، مروراً بقائد السجن وحراسه، وانتهاء بالمسجونين، فألصقت بهم أسوأ الصفات، من سوء استخدام السلطة، والفساد الوظيفي، وتقاضي الرُّشا، مروراً بالخلل الفكري والعقلي، وانتهاء بالتخنث والشذوذ الجنسي.
ومع أن أحداث (الفلم) تدور في تركيا؛ إلا أن صانعيه أقحموا فيه أغنية رقيعة باللغة العربية، فكانت فرصة لإظهار المساجين الأتراك، وهم يتمايلون على أنغامها كما تتمايل الراقصات الفاجرات..
أحداث (الفلم) كانت مثيرة للغضب والضيق بدرجة كبيرة، لكن كل ما سبق كان في كفة، وما أنا بصدد الكلام عنه في كفة أخرى..
ففي إحدى باحات السجن؛ وَضَعَ السجناءُ في وسطه نُصُباً، وارتدوا ملابس أشبه ما تكون بملابس الإحرام، وراحوا يطوفون حوله، بينما تنبعث منهم همهمات غريبة.(/2)
وقف -البطل- يرقب هذا المشهد باندهاش، فلما علم من أصدقائه أن هذا نوع من أنواع العبادة؛ راح يكيل الاتهامات بالجهل والغباء، ثم انطلق غاضباً وسط جموع الطائفين، محاولاً دفعهم للسير في الاتجاه المعاكس، وهو يصيح: "أيها الحمقى والمغفلون، إنكم تسيرون عكس عقارب الساعة!!".. "إنكم تسيرون خارج نطاق الزمن، وهو سوف يلفظكم خارج نطاق الحياة!".. "استيقظوا.. أفيقوا!".
لقد كان هذا المشهد -مع أنني لم أكن يومها قد عرفت الطريق إلى الله- يمثل طعنة في أعز وأغلى ما أملك، وأذكر أنني شعرت -يومها- بإهانة شديدة، وببغض شديد لهؤلاء القوم.
إن دوران عقارب الساعة ليس هو الذي يحرك الزمن؛ بل ما هو إلا دليل على تحركه، واتجاه هذا الدوران ليس أمراً حتمياً؛ لكنه اختيارُ من صنعوا هذه الساعة! ولو أنهم اختاروا الدوران في الاتجاه المعاكس؛ لكان لهم ما اختاروا، أما طواف المسلمين حول الكعبة؛ فإنما هو بأمر الله -عز وجل- وليس لأحد أن يطوف في الاتجاه المعاكس، ولو أراد ذلك.
لقد أثبت العلم الحديث أن الأرض تدور حول محورها دورة كاملة في أربع وعشرين ساعة، وهو الدوران الذي يؤدي إلى تعاقب الليل والنهار؛ أي: إلى تحرك الزمن، وهذا الدوران معاكس لدوران عقارب الساعة، وموافق لطواف المسلمين حول الكعبة، فمن الذي يسير خارج نطاق الزمن؟؟!!
لقد أثبت هذا العلم -أيضاً- أن الأرض تدور حول الشمس دورة كاملة في العام، وهذا يؤدي إلى تعاقب الفصول الأربعة على الأرض، وهو دوران معاكس لدوران عقارب الساعة، وموافق لطواف المسلمين حول الكعبة، فمن الذي يسير خارج نطاق الزمن؟؟!!
بل إن الشمس ومجموعتها الشمسية، وباقي المجموعات الشمسية في مجرتنا؛ بل كل المجرات التي اكتشفها العلماء؛ إنما تدور في الفضاء عكس عقارب الساعة، موافِقةً لطواف المسلمين!!(/3)
إن الأمر لا يقف عند حدود العالم العلوي والأجرام السماوية؛ فكل مادة على ظهر الأرض؛ تدور الإلكترونات -في كل ذرة من ذراتها- حول نواتها عكسَ عقارب الساعة، بما يوافق طواف المسلمين حول الكعبة!
لقد ذكرت هذا الكلام يوماً لأحد الغربيين، فأراد أن يتفلسف، فقال:
"هذا يكون صحيحاً؛ لو أننا نظرنا إلى الأرض كما يصورونها، بحيث يكون قطبها الشمالي للأعلى، والجنوبيُّ للأسفل، أما لو عكسنا الآية؛ فإن دورانها يكون موافقاً لعقارب الساعة!!".
قلتُ: أن يوافق عقاربَ الساعة، أو لا يوافقها؛ فهذا أمر لا يعنيني في شيء، ما يعنيني هو أن طواف المسلمين - على كل حال- موافق لحركة الكون كيفما نظرت إليه! فأسقط في يده..
إن هذا التوافق الظاهري، بين طواف المسلمين وحركة الكون؛ مفيدٌ في خطاب هؤلاء الناس، سواء منهم الغربيين أو المتغربين، لكنه ليس هو التوافق الوحيد، بل هناك ما هو أعظم منه، فالمؤمن الموحد يعلم أنه بتسبيحه وطاعته لله -سبحانه وتعالى- منسجمٌ كل الانسجام مع هذا الكون، كما قال عز من قائل:
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
وكما قال عز من قائل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
أما الكافر، الجاحد لألوهية ربه؛ فإنه يسير عكس التيار، وهو صوت نشاز في هذا الكون!
فلا عجب أن تكون مرتبته في الدنيا دون سائر الحيوان، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
و لا عجب أن يتمنى أن يرتقي إلى مرتبتها؛ حين تصير تراباً يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ:40].(/4)
قصة البطل -المزيف- انتهت في الحياة الدنيا بعد سنوات معدودة، حيث مات بمرض الإيدز!
أما المؤمنون الذين قال الله فيهم: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:29-30]؛ فقصتهم مع أهل الكفر لا تنتهي هنا، وقد أخبرنا ربنا -جل في علاه- عن نهايتها، حيث قال: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:19-23].(/5)
العنوان: الظلم ظلمات
رقم المقالة: 1334
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
* أيها الناس:(/1)
* عن أبي ذر – رضي الله عنه وأرضاه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال: ((يا عبادي، إني حرَّمت الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أَهْدِكم، يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعِمْكم. يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوتُه، فاستكسوني أكْسُكُم. يا عبادي إنكم تُخطؤون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أَغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تَبْلُغُوا ضَري فتضروني. ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أوَّلكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كلَّ إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيطُ[1] إذا أُدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أُوفِّيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه))؛ رواه مسلم[2]، وأحمد[3]، والترمذي[4] وابن ماجه[5]، وهذا حديث شريف أشرف حديث لأهل الشام ودمشق[6]. وهذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام، وأصل من أصول الدين، كان التابعون إذا حدثوا به جثوا على ركبهم من عِظمه.
وأكبر قضية في هذا الحديث؛ أن الله – عز وجل – حرم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرماً.
* قال عزَّ من قائل: {وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [آل عمران: 108].
وقال - تبارك وتعالى -: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
وقال عزَّ من قائل: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]. حرمه سبحانه وتعالى على نفسه، فلا يظلم، ولا يهضم.(/2)
والظلم أن يزيد في سيئات من لم يُسئ، والهضم أن يُنقصَ من حسنات من أحسن.
* قال عزَّ من قائل: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً} [طه: 112]. والظلم من صفات العبيد، وقد حذرهم ربهم - تبارك وتعالى - منه. فأظلم الظالمين هو العبد إذا أشرك بالله.
لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]. شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[7] [لقمان: 13].
* ووصف الله العبد بأنه ظالم، فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
فالعبد ظالمٌ مع الله، وظالمٌ مع نفسه، وظالمٌ مع الناس.
أما مع الله، ففي الحديث القدسي أن الله - سبحانه وتعالى - قال: ((عجباً لك يا ابن آدم، ما أنصفتني! – أي: ما عدلت بيني وبينك – خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم، وأنا غني عنك، وتتبغَّض إليَّ بالمعاصي وأنت فقير إليَّ، خيري إليك نازل، وشرك إليَّ صاعد)).
وفي "الصحيح" من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه وأرضاه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله - تبارك وتعالى -: شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يَشْتمني، ويكذِّبُني وما ينبغي له؛ أما شَتْمُه، فقوله: إن لي ولداً، وأما تكذيبه، فقوله: ليس يعيدني كما بدأني))[8].(/3)
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله – عز وجل -: يؤذيني ابن آدم! يسبُّ الدهرَ، وأنا الدَّهُر، يبدي الأمر، أقلب الليل والنهار))[9].
أما الظلم بين الناس، فهو معروف، وقد حذر منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، أيما تحذير، ونهى عنه أشد النهي، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة))[10].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طَوَّقه[11] الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين))[12].
وفي هذا اليوم سيندمون حيث لا ينفع الندم، وسيصرخون قائلين: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49].
وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من ظلم قيْدَ شبرٍ من الأرضِ طُوِّقَهُ من سبعِ أرَضينَ))[13].
وتأتي امرأة - وهي أروى بنت أويس - فتدعي على سعيد بن زيد رضي الله عنه – أحد العشرة المبشرين بالجنة – أنه اغتصب شيئاً من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم. فقال سعيد: أنا كنتُ آخذُ من أرضها شيئاً، بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال مروان: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طُوِّقه إلى سبع أرَضين)) فقال له مروان: لا أسألك بينةً بعد هذا. فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فَعَمِّ بَصرَها، واقتلها في أرضها. قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينا هي تمشي في أرضها، إذ وقعت في حفرة فماتت!![14].
وفي رواية: فرأيتها عمياء تلتمس الجُدُر، تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار، مرَّت على بئر في الدار، فوقعت فيها. فكانت قبرها!![15].(/4)
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
قال أحد التابعين: إذا مررت بأرض قد خربت، وبأهلها قد تفرقوا وبأُنْسٍ قد تشعَّب، وببهاء قد تبدد، وبمال قد فني، وبصحة قد ذهبت، فاعلم أنها نتيجة الظلم.
ومن ذلك روى ابن كثير في "تاريخه"، أن البرامكة، الأسرة الشهيرة الخطيرة، التي كانت تتولى الوزارة لهارون الرشيد في بغداد، بلغوا من الترف والرقي؛ أن أحدهم كان يصبغ قصره، من الداخل والخارج بماء الذهب والفضة!! فكانت تلمع قصورهم مع الشمس، فضيعوا الأموال، وسفكوا الدماء وبغوا، وطغوا، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
والرسول عليه الصلاة والسلام كما صح عنه يقول: ((إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلته))[16]، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] فسلط الله على هذه الأسرة أحبَّ الأحباب إليهم، وأقرب الأقرباء إلى قلوبهم، وأصدق الأصدقاء، وهو هارون الرشيد الخليفة، فأخذهم في ليلة واحدة، فجلد كل واحد منهم ألف سوط، ثم قَطَّع أيديهم وأرجلهم، وقتلهم شر قتلة، واستولى على أموالهم، وهدَّم قصورهم، وسجن نساءهم، فدخلوا على شيخ منهم وهو يُعذب ويبكي تحت السياط، فقال له بعض العلماء: ما هذه المصيبة التي حلت بكم؟ قال: دعوة مظلوم سرت في الليل، نمنا عنها، والله ليس عنها بنائم.
لا تَظْلِمَنَّ إذَا ما كُنتَ مُقْتَدِراً فالظلم يرجعُ عُقْبَاهُ إلى النَدَمِ
تنامُ عيناكَ والمظلومَ مُنْتَبِهٌ يدعو عليكَ وعينُ الله لم تَنَمِ
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((دعوةُ المظلوم يرفعُها الله فوق الغمام وتُفتح لها أبوابُ السماء، ويقول الربُّ – عز وجل -: وعزتي وجلالي، لأنصرنَّك ولو بعد حين))[17](/5)
* ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، كان آخر ما أوصاه به، قوله: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))[18].
ولما أهين الإمام أحمد، إمام أهل السنة – رضي الله عنه وأرضاه – كان الذي سعى في سجنه، وفي ظلمه، وفي جلده، أحمد بن أبي دؤاد، أحد الوزراء المقربين من الخليفة المعتصم، فرفع الإمام أحمد يديه إلى الحي القيوم، ثم قال: اللهم إنه ظلمني فاحبسه في جسمه، وعذبه، وشرده أيَّما مشرد.
قال العلماء: فوالله ما مات، حتى أصابه الله بالفالج في نصفه، فنصف مصاب بالفالج قد مات ويبس من جسمه، ونصف حي.
دخلوا عليه وهو يخور كما يخور الثور، فقالوا: ما لك؟ قال: دعوة الإمام أحمد أصابتني؛ أما نصفي الأيمن، فوالله لو وقع عليه ذباب لكأن جبال الدنيا سقطت عليه، وأما النصف الآخر، فوالله لو قرض بالمقاريض ما أحسست ألماً.
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] وهذه سنة الله في الأرض، فإن الله دمر الديار، وأهلك الأمم، وأفنى الشعوب لما ظلموا، سنة محكمة وحكمة بالغة منه - تبارك وتعالى .
قال الذهبي في "نبلائه": "دخل أحد المشايخ من الصالحين، الأولياء، العباد، على أحد الطغاة المتكبرين، فنازعه في بعض الكلام، وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، فقام إليه هذا الطاغية فضربه على وجهه. فقال: لطمتني! أسأل الله أن يقطع يدك، قال: اعفُ عني، قال: لا والله، حتى نحتكم عند الله". قال الذهبي: "فأُثِر أنه ما مر عليه أسبوع، إلا وقد استولي على ما عنده، وأخذ قصره، وقطعت يده، وعُلقت أمام الناس"!!
إن الظلم ظلمات يا عباد الله، إن الظلم مسخطة ومغضبة، إنه لعنة، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لعن الله من غيَّر منار الأرض))[19].(/6)
ومنار الأرض هي علامات حدودها، التي تقتسم في المزارع، وفي الأراضي، وفي الأملاك، فمن غيره بغيبة شريكه، وبعدم رضاه، فهو ملعون عند الله – عز وجل – وفي الأثر؛ أن الله إذا جمع الأولين والآخرين إلى يوم لا ريب فيه؛ حفاةً، عراةً، غرلاً، قد وقفوا في صعيد واحد، وتجردوا للحساب، تجلى الله - سبحانه وتعالى - تجلى على عرشه، يحمله ثمانية، فنادى بصوت يسمعه من قرب، كما يسمعه من بَعُد، فيقول عز من قائل: ((أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أنا الملك أين ملوك الأرض؟))، ثم يقول: ((لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟))، فلا يجيبه لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل. فيجيب نفسه بنفسه - تبارك وتعالى - ويقول: ((لله الواحد القهار))، ثم يقول: ((إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فوعزتي وجلالي لا تنصرفون اليوم، ولأحد عند أحد مظلمة)). فتنصب الموازين، وترفع الصحف، ويحضر الملائكة، ويأتي الظَّلمَة، يعض كل ظالم على يده حتى يأكلها، فيقتص الله للمظلوم ممن ظلمه، بحكمه العدل، وميزانه القسط، حتى يؤتى بالبهائم، فتحشر كالجبال، ما بين الإبل، والبقر، والغنم، والعجماوات، والطيور، فيتجلى الله لها، فيقتص لبعضها من بعض، حتى يقتص للشاة الجماء من ذات القرن، فإذا انتهى من الحكم بينها - تبارك وتعالى - قال لها: ((كوني تراباً))، فتكون تراباً، فيقول الكافر عندها: ((يا ليتني كنت تراباً)).
فالله الله يا عباد الله، فما جف القطر، وما نزعت البركة، وما تباغضت القلوب، وما فسد الأولاد إلا من الظلم.
إن الظلم ظلمات في القلب، وفي القبر، وفي الحياة، وفي الآخرة.(/7)
إن الظلم لعنة، ومسخطة، فاتقوه يا عباد الله، أوصي نفسي وإياكم باتقاء الظلم؛ في المعاملات، في الأقوال، في الأخلاق، فإنكم سوف تعرضون على ربكم ليس بينكم وبينه حجاب ولا ترجمان. {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94].
والظلم يدخل في البيع والشراء، يجمع الله المتماكسين الغششة، ليوم لا ريب فيه، فينصف منهم الناس.
والظلم يدخل في ظلم الولد لوالديه، وهو العقوق، وقد حرمه الله أشد تحريم، قال الله – عز وجل -: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْض وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22-23].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة قاطع رَحِم))[20].
والظلم يدخل كذلك على القضاة، وعلى المسؤولين كما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أمير عشيرة، إلا يؤتى يوم القيامة، مغلولة يده إلى عنقه؛ أطلقه الحقُّ، أو أوبقه))[21].
سجن هارون الرشيد أبا العتاهية، فأرسل له من السجن رسالة يقول فيها:
أَمَا واللهِ إنَّ الظُّلْمَ شُؤْمٌ وما زال المُسِيءُ هو الظَّلومُ
إلى الدَّيَّانِ يومَ الحَشْرِ نمضي وعند الله تجتمعُ الخُصُومُ
فبكى هارون الرشيد، حتى فحص برجله، وأمر بإرضائه، وأطلقه ولذلك يقول:
أيا ربّ إنَّ النَّاس لا يُنْصِفُونَنِي وَكَيْفَ وَلَوْ أَنْصَفْتُهُمْ ظَلَمُونِي
سَأَمْنَعُ قلبي أن يَحِنَّ إليهمُ وأَحْجُبُ عنهم ناظري وعيوني(/8)
ولكن الأسلم لمن ظُلم؛ أن يستغفر الله، فما أصابه الظلم إلا بذنوبه، وأن يرجو الثواب والجزاء والأجر عند الله، وأن يتصدَّق بعرضه على الناس، كما فعل أبو ضمضم – صحابيٌّ جليل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – كان إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي؛ فمن شتمني، أو قذفني فهو في حِلّ.
*عباد الله:
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، إمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
* أما بعد:
ففي الحديث المتقدم يقول الله - تبارك وتعالى -: ((يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم)).
وهذا قد دل عليه الكتاب والسَّنة. قال عز من قائل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. وقال - تبارك وتعالى -: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
ولذلك أثر عند كثير من أهل العلم؛ أن عابداً من بني إسرائيل عَبَدَ الله أربعين سنة، ثم رجع على عقبيه، وعصى الله أربعين سنة، فلما نظر إلى المرآة، وجد الشيب قد غطى لحيته ورأسه، فبكى وقال: يا ربي! أطعتك أربعين سنة، وعصيتك أربعين سنة، فهل لي من توبة؟ فسمع هاتفاً يقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك!!(/9)
فالله الله في العودة إلى الله دائماً وأبداً، فإننا جميعاً أهل ذنوب وخطايا، إلا مَنْ رحم الله تعالى، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ ابن آدم خطاء، وخيرُ الخطَّائين التوابون))[22]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((الذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم))[23].
فليس هناك حلٌّ لهذه الورطة – ورطة الذنوب والخطايا – إلا بالتوبة النَّصُوح، والاستغفار صباح مساء، وأن ندراً بالحسنة السيئة، فإن الله مدح قوماً فقال: {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد: 22]. وقال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
قال ابن عباس – رضي الله عنهما وأرضاهما -: أصْبحوا تائبين، وامشوا تائبين، فإنكم في الذنب والخطيئة صباح مساء.
وصدق – رضي الله عنه وأرضاه – فإنْ عيوننا تذنب، وقلوبنا تذنب، وآذاننا، وأبصارنا، وأرجلنا، وأيدينا، ولا يغسلها إلا التوبة والاستغفار، فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، واستغفروا الله يغفر لكم، وقدموا من الحسنات ما يكفر عنكم السيئات، ومن فعل منكم في سابق العمر ذنباً، مهما بلغ عظَمُه، ولو كان كالجبال، فليعلم أن الله يغفر الذنوب جميعاً، وأن الله لا يتعاظمه شيء، وأن الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته في الصحراء، ثم وجدها عليها طعامه وشرابه[24].
فيا فرحة التائبين، ويا قرة عيون المنيبين، ويا سرور المستغفرين.
* عباد الله:
صلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
* وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً))[25].(/10)
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، واعرض عليه صلاتنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] قال العلماء: هذا تقريب للأفهام، ومعناه لا ينقص شيئاً أصلاً، والمخيط: الإبرة، وضرب المثل بها؛ لأنه صقيلة، فلا يتعلق بها ماء إذا وضعت فيه.
[2] مسلم (4/1994، 1995) رقم: (2577).
[3] ((المسند)) (5/160).
[4] الترمذي (4/566، 567) رقم: (2495).
[5] ابن ماجه (2/1422) رقم: (4257).
[6] أورد الإمام النووي هذا الحديث في آخر كتابه ((الأذكار)) بإسناده، ثم قال: رجال إسناده مني إلى أبي ذرٍّ – رضي الله عنه – كلهم دمشقيون!!
[7] أخرجه البخاري (4/137)، ومسلم (1/114) رقم: (124).
[8] أخرجه البخاري (4/73).
[9] أخرجه البخاري (8/197)، ومسلم (4/1762) رقم: (2246).
[10] أخرجه البخاري (3/99) عن ابن عمر، وليس فيه ((اتقوا الظلم))، ومسلم واللفظ له (4/1996) رقم: (2578) عن جابر، ورواه مسلم أيضاً بلفظ البخاري عن ابن عمر، رقم: (2579).
[11] طوّقه: أي جعله طوقاً في عنقه.
[12] أخرجه مسلم (3/1230) رقم: (1610).
[13] أخرجه البخاري (3/100)، ومسلم (3/1232) رقم: (1612).
[14] أخرجه البخاري (4/74)، ومسلم واللفظ له (3/1231) رقم: (1610).
[15] أخرجه مسلم (3/1231) رقم: (1610).
[16] أخرجه البخاري (5/214)، ومسلم (4/1997) رقم: (2583). ومعنى يُملي للظالم: أي يمهل، ويؤخر، ويطيل له في المدة. ولم يُفلته: أي لم يطلقه.
[17] أخرجه الترمذي (5/539) رقم: (3598) عن أبي هريرة وقال: حديث حسن، وأخرجه بإسناد آخر (4/580) رقم: (2526) عن أبي هريرة أيضاً، وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي، وليس هو عندي بمتصل. وأخرجه ابن ماجه (1/557) رقم: (1752).(/11)
قال الحافظ في ((أمالي الأذكار)) فيما نقله عنه ابن علان في ((شرح الأذكار)) (4/338): هذا حديث حسن.
[18] أخرجه البخاري (2/136)، ومسلم (1/50) رقم: (19).
[19] أخرجه مسلم (3/1567) رقم: (1978).
[20] أخرجه مسلم (4/1981) رقم: (2556).
[21] أخرجه الدارمي (2/313) رقم: (2515)، وأحمد (2/431) (5/267، 284، 285، 323)، وعزاه السيوطي في ((الجامع الصغير)) للبيهقي، وصححه الألباني كما في ((صحيح الجامع)) رقم: (5696).
[22] أخرجه الترمذي (4/569) رقم: (2499) قال الترمذي: غريب. وابن ماجه (2/1420) رقم: (4251)، وأحمد (3/198)، والدارمي (2/393) رقم: (2727)، وهذا الحديث قواه ابن حجر في ((بلوغ المرام))، وحسنه الألباني، كما في ((المشكاة)) (2/724)، و((صحيح الجامع)) رقم: (4515).
[23] أخرجه مسلم (4/2106) رقم: (2749).
[24] جزء من حديث، أخرجه مسلم (4/2103) رقم: (2744).
[25] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/12)
العنوان: ألعاب الأطفال .. تسليةٌ أم تربية؟ (1)
رقم المقالة: 1058
صاحب المقالة: أنس محمد خير يوسف
-----------------------------------------
كانت الألعاب تمثل دوراً حيوياً في نموّ وتقدّم الأطفال، وما زالت بهذا الدور الحيوي في وقتنا الحاضر، فالحياة تعلّم، والنموّ أيضاً تعلّم، فنحن نتعلّم لنمشي، ونتعلّم لنتكلّم، ولنقرأ، ولنرمي الكرة، ولنواكب رفاقنا في العمر، فالطّفل الصغير يعمل بنشاط كي يتعلّم كيف يرمي ويمسك ويلقف الكرة.
إن الألعاب الصغيرة باستطاعتها تهيئة السُّبل لإكمال عدّة مهام ذات شأن بالنسبة للأطفال. والألعاب تكوّن عند الطفل فكرةً ناضجة عن النفس بتكوين الشعور بالقناعة، وبتعلُّم السيطرة من خلال مواقف اللعب المختلفة، ومسايرته لأصدقائه من العمر نفسه من ناحية التكيّف والتطوّر الاجتماعي، كما يمكن تعرّف موقع الطِّفل الاجتماعي من خلال تصرُّفاته وألعابه، وطريقة لعبه أيضاً، والإجابة عن تساؤل الوالدين: هل هو مقبول ومكافئ اجتماعياً أو لا؟
ولا يخفى أيضاً أن اللعب من أساسيّات تعلّم المشاركة، واحترام حقوق الآخرين، وإعطاء الفرصة للتنفيس عن النّفس.. والبدء بالتّعلّم لقضاء وقت الفراغ.
إن وقت تعلّم الأطفال باللعب يجب أن يؤخذ على أنه مختبر، إذ يبدي الطفل قابليته للعب والتكامل الاجتماعي وتكيّفه النفسي مع غيره.
ويزداد عدد الألعاب المُنتَجة تِجارياً كل عام، وكذلك عدد مرات استخدامها، فعلى المربّي الاستفادة من الفرص الطبيعيّة التي يحققها الأطفال من خلال مشاركتهم في الألعاب.(/1)
كما يمكن أن تكون الألعاب مصادر تعليميّة بدلا من أن تكون للتسلية فقط بدءاً من رياض الأطفال وانتهاءً بالمرحلة الجامعيّة، فالكبار والصغار يمارسون التمثيل الهادف، ونرى في التلفاز والطرقات ومحلات التسلية -(البلاي ستيشن) أو (السوني) وغيرها- عياناً اهتمامَ الكبار بخارطة الألعاب وآخر الإصدارات، فضلاً عن الصّغار وشغفهم واهتمامهم وحبّهم وحديثهم الدائم عن هذه الأمور..
الألعاب الفكريّة الغربيّة.. إلى متى؟
ومن المحتّم أن تؤثر الألعاب التي يلعبها الأطفال في نموّهم وزيادة مداركهم؛ لذلك نجد اهتمام الغرب بالألعاب ووضع الأفكار التي يريدون زرعها داخل أطفالهم.
ولا يفارق مخيّلتي همُّ المشرف على موقع الأطفال (sanadkids) الدكتور/ محمد صفاء حقّي حول السعي حثيثاً لإيجاد طرق إسلاميّة لجذب الأطفال وإلهائهم وإغرائهم بألعاب أجود وأفضل من الموجودة في الساحة؛ وذلك بعد أن شاهد أطفالاً يلعبون بأحد الألعاب الإلكترونية، وبعد مجاهدة وانتهاء من اللعب والفوز تقدّمت إحدى المكرِّمات لتسليم الصليب الذهبي إلى الفائز الأوّل..!!
ولكن ترى هل سيتحقّق الحلم؟
تسلية وخبرات تعليمية:(/2)
لا شكَّ أن الألعاب التي تُكسِب الأطفال الخبرات التعليميّة عن طريق التسلية والمتعة هي أفضل الألعاب؛ ولذا يمكن اعتبارها مظهراً من مظاهر تربيتهم وبياناً لسلوكهم وتحديداً لطريقة تفكيرهم، مثل التمثيليات القصيرة، ومسرحيات الدمى، وخيال الظل للأطفال من سن 6 فأكثر، وتصل إلى درجة التعقيد شيئاً فشيئاً كلّما كبر الطفل.. كما تشجّع هذه النشاطات الأبناء على المنافسة المفيدة والتعلّم المنتج، ومزاولة المهارات، واتّخاذ القرارات؛ كخبرات في تمثيل أدوار العلاقات بين الأشخاص، لذلك يجب أن لا تكون الألعابُ فقط للاستجمام والتسلية وقضاء وقت الفراغ، بل يجب أن تكون للمساعدة على التعلّم وإنجاز أهداف خاصّة، لذلك نجد الكثير من الشركات الغربيّة وبعض المؤسسات التجاريّة تسوِّق الألعاب التي تنتجها بطريقة وصفها تربوياً.
في الحلقة الثانية سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن بعض الألعاب وملاءمتها لحاجات تعليميّة محددة عند الطّفل؛ وسيكون أيضاً الحديث مفصّلاً عن أنواع الألعاب:
الألعاب التعليميّة ومدى الاستفادة منها.
ألعاب المحاكاة وأثرها الإيجابي على الأطفال.
وبعض نتائج الأبحاث حول أهميّة الألعاب، وبعض الطّرق الإبداعيّة لاستفادة الأطفال من الألعاب وتنمية مهاراتهم..
للاستزادة في هذا الموضوع انظر:
(1) التقنيات التربويّة بين النّظرية والتطبيق؛ ترجمة وتحرير: د. مصباح الحاج عيسى، توفيق العمري، إياد ملحم، يونس محمد حجير - مكتبة الفلاح- الكويت الصفحة من 439-469.
(2) الألعاب الصغيرة؛ السيّد كامل عبد المنعم، السيد وديع ياسين محمد - جامعة الموصل.
(3) الألعاب الشعبيّة لصبيان سامرّاء؛ يونس الشيخ إبراهيم السامرّائي - ضمن السلسلة الثقافيّة الصادرة عن وزارة الثقافة والإرشاد في الجمهوريّة العراقيّة.(/3)
العنوان: ألعاب الأطفال .. تسليةٌ أم تربية؟ (2)
رقم المقالة: 1071
صاحب المقالة: أنس محمد خير يوسف
-----------------------------------------
كان الحديث في الحلقة الأولى عن ألعاب الأطفال ودورها الحيوي في نموّهم وتطوّرهم، ولا زال الحديث قائماً حول أنواع الألعاب، وبعض نتائج الأبحاث والدراسات في هذا الموضوع، وطرق إبداعيّة لاستفادة الأطفال من ألعابهم..
الألعاب التعليميّة:
اللعبة التعليميّة تعد نشاطاً منظّماً يتّبع مجموعة قواعد في اللعب، وتكون اللعبة بين شخصين أو أكثر يتفاعلون للوصول إلى أهداف تعليميّة محددة، ويمكن التمثيل على هذه الألعاب بما يسمى بالمنطق الرياضي باستخدام حلقات دائريّة لتكوين معادلات؛ والفائدة منها تكون لتحويل المعلومات الرياضيّة من المفاهيم المجرّدة إلى حقائق واقعيّة تدركها الحواس وتكون مسلية.
وهناك أيضاً ألعاب تُستخدم في تحسين ملكة اللغة فتتجه عادةً نحو تنمية مهارات القراءة والطريقة الصوتية والتهجئة والقواعد والمفردات اللغوية في المعجم؛ مثل لعبة الخربشة المشهورة في الغرب (Scrabble) وقد ظهرت بلغات أجنبيّة أخرى لإثارة المفردات اللغوية؛ وقد لا يستفيد منها في هذه النقطة سوى الأعمار من (13-18سنة) في اللغة الأم، أما إذا كانت لغة مكتسبة فقد يستفيد منها من هم في أعمار أكبر ممّا ذكرت.
ألعاب المحاكاة:(/1)
تكون هذه الألعاب غالباً مربوطة بالعلوم الاجتماعية، وهي تجمع بين صنع القرار وبين عناصر الحياة الواقعيّة للمحاكاة، ولكنها بالتأكيد مبنية على التفاعل والمنافسة بين المشاركين وهما الصفتان المميزتان للألعاب.. ولكن في ألعاب المحاكاة ربما لا يتطلّب الأمر وجود رابح أو فريق رابح، ويمكن أن نمثّل هنا بلعبة المستهلك مثل (المونوبولي) وإن كان هناك رابحون فهم أولئك الذين شعروا من خلال المساومة بأنهم قد حصلوا على مقدار كبير. والأمر الأكثر أهمية هنا بالطبع هو ملاءمة ذلك النشاط لحاجات تعليميّة محددة. وفي العلوم الاجتماعيّة -وخاصة الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ وعلم النّفس- طُوّر الكثير من ألعاب المحاكاة، وتُعزى شهرتها إلى الطبيعة الفعّالة لظروف اللعب، فألعاب المحاكاة تفيد في مجال الإرشاد واختيار المهنة.
نتائج أبحاث أمريكيّة حول أهميّة الألعاب:
- يجب أن يكون الطالب على معرفة بالهدف من استعمال اللعبة لتكون أكثر إيجابية.
- الاهتمام بالظروف التي تُدار فيها اللعبة.
- بمقدور الألعاب تعليم الحقائق والمفاهيم بفعالية تضاهي فعالية التعليم التقليدي.
- الألعاب في بناء المفردات والرياضيات أفضل من التعليم التقليدي.
- الألعاب تزيد من دافعيّة التعلّم عند الطلبة، فالمنافسة تشجّع الطلبة على مساعدة بعضهم.
- للألعاب أثر وجداني كبير؛ لأنها تساعد كثيرا في تغيير المواقف.
ألعاب إبداعية في البيوت والفصول الابتدائيّة:
من الأفكار الجميلة التي تنمّي قدرات الأطفال في المدرسة في صفوفهم:
- تحويل ركن من الصف أو المنزل إلى سوق للأوراق الماليّة أو إلى بقالة.
- قيام الأطفال بتنظيم أركان مختلفة في الصف أو في المنزل.
- قيام الطفلة بوضع ركن مطبخ خاص في غرفتها أو المنزل.
- قيام الطفلة بوضع مكان لنوم الدمى وما شابهها.(/2)
- قيام الطفل بوضع قسم في بيته أو مستودع صغير تكون فيه بعض الألعاب أو المجسّمات، ويمكن أن تكون كورشة لقطع الأخشاب أو تركيب الأخشاب وقطع من الأثاث، وتصليح الأبواب..
- تمثيل الحكايات والقصص داخل البيت والفصل.
- تحويل ركن في المنزل للزراعة لتعرف قدرة الخالق جلّ وعلا.
للطّفل عالمه الطفولي الخاص:
أخيراً يُفترض في جميع النشاطات المذكورة أن تكون مثيرة إلى درجة كبيرة، وتحث الطفل على محاولة إنجاز الأهداف الموضوعة لكل نشاط. كما يجب بذل عناية كبيرة في تقويم واختيار الألعاب. ويُفترض فيها أيضاً أن تُدخل البهجة في النفوس وأن تكون مجزية، ولا ننسى أن نجعل لهم عالمهم الخاص في اللعب، وعدم التدخّل في تفاصيل طريقة اللعب، وأن تتم ممارسة الألعاب في جو من الحريّة، كي يكون هذا أيضاً باباً من إطلاق العنان للطفل أن يعتمد على نفسه ولو شيئا يسيرا، ويتحمّل بعض المسؤولية، ويبني شخصيّته بإشراف والديه.
إذا نظرنا إلى الماضي...
من عاشقي (الفلكلور) والتراث مَن يرى أن الحضارة المصنوعة باتت تثير الغثيان، بعد أن دخلت في روح العصر، ونحرت سلامة العقول والأعصاب بضجيج الآلة وضوضاء الجهاز الصوتي.. وأُفسِد الذوق المهذّب بغبار المعامل والمصانع.. ومن هنا سادت النّزعة الفلكلورية... وللحديث عن الألعاب الفلوكلورية باب آخر يأتي الحديث عنه قريباً إن شاء الله تعالى.
للاستزادة في هذا الموضوع انظر:
(1) التقنيات التربويّة بين النّظرية والتطبيق؛ ترجمة وتحرير: د. مصباح الحاج عيسى، توفيق العمري، إياد ملحم، يونس محمد حجير - مكتبة الفلاح - الكويت الصفحة من 439-469.
(2) الألعاب الصغيرة؛ السيّد كامل عبد المنعم، السيد وديع ياسين محمد - جامعة الموصل.
(3) الألعاب الشعبيّة لصبيان سامرّاء؛ يونس الشيخ إبراهيم السامرّائي - ضمن السلسلة الثقافيّة الصادرة عن وزارة الثقافة والإرشاد في الجمهوريّة العراقيّة.(/3)
العنوان: العام الدراسي الجديد...توجيهات ونصائح
رقم المقالة: 1353
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
انقضت إجازةُ الصّيف، ومرّت سريعةً بأوقاتها السعيدة الحافلة بجلساتِ الأُنس مع الأهل والأقارب والسّفر من جهة و الأوقات المليئة بالفائدة العلمية من خلال برامج الصّيف الترفيهية والمعرفيّة من جهة ثانية...
أبنائي الطلاب!
آمُل أن تكونوا قد حقّقتم الفائدةَ والمُتعة في إجازتكم المحبّبة...واسمحوا لي أن أباركَ لكم بحلولَ العام الدراسي الجديد الذي يخبّئُ لكم في جَعْبَتِه الحقائبَ الملوّنةَ والقراطيسَ الجذّابةَ والأقلام التي طالما اشتاقت لأنامِلِكم الطريّة....
وماذا عن الكتب الجديدة التي تحتوي على معلومات جديدة ومعارف شائقة؟؟
نعم معارفَ شائقة تناسبُ أذهانَكم التي تطوّرت، وعقولكم التي ازدادت تفتّحاً ....
وفي هذه المناسبة العزيزة على قلوبكم تدفعُني محبّتي لكم إلى تقديمِ بعض النّصائح لكم لعلّها تعينُكم على قضاءِ عامٍ دراسي جديد مليءٍ بالتفوّق والإبداع والمحبّة.
أولاً: عوّدوا أنفسكم النّومَ المبكّر والاستيقاظ المبكّر؛ لتكونَ أجسامكم مهّيأةً لتحمُّلِ اليوم الدراسي الذي يتطلّب الحيويّةَ والنشاط، وتكون أذهانكم مستعدّةً لتقبّل المعلومات الجديدة والمتنوّعة.
ثانياً: راجعوا المعارفَ الأساسية مع آبائكم وإخوتكم؛ كمراجعة أركان الصلاة وشروطها، وأحكام الوضوء و الطّهارة، وأذكار الصّباح والمساء، واستذكار جدول الضّرب وعواصم الدّول الإسلامية وحدودها البريّة والبحريّة والثروات الموجودة فيها والحيوانات التي تعيشُ فيها... والهدف من ذلك تمرين الذّهن لاستيعاب المعلومات الجديدة...(/1)
ثالثاً: لا تبالغوا في شراءِ الحقائب غالية الثّمن والدفاتر ذات الأوراق الملوّنة والأغلفة الفاخرة لكي لا تُرهقوا آباءَكم في دفع الأثمان الباهظة، فحلُّكم للواجبِ بالشكل الصّحيح وتحرّي الخطّ الجميل يزيّنُ صفحةَ الدّفتر العاديّ، ولكنّ الواجبَ إذا ما حُلّ بطريقة خاطئة، وبكتابةٍ لم تُراعَ فيها قواعدُ الخطّ الصّحيحة فإنّ ثمنَ الدّفتر مهما كان باهظاً فلن يجعلَ الواجبَ مقبولاً في نظر المعلّم... فالله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالاعتدال وعدم التّبذير والابتعاد عن المفاخرة..
رابعاً: تفاءلوا بالصّف الجديد وبالمرحلة الجديدة التي انتقلتم إليها، وابذلوا قُصارى جهودكم لتكونوا من المتفوّقين، وثقوا تماماً أنّ الله سوف يُعينكم...
خامساً: ابدؤوا العام الدراسيّ الجديد بدايةً صحيحة؛ فمن كانت لديه عادة سلبيّة في الأعوام السابقة فليُقلع عنها، فبعض الطلاب هداهم الله يتأخرون في الحضور إلى الدّرس، ولا يهتمّون بنظافة كتبهم ودفاترهم وملابسهم، ويعبثون في مرافق المدرسة فيشوّهون المقاعدَ وجدرانَ الفصل بالكتابة عليها، والبعض الآخر –هداهم الله- يتعالى على زملائه في الصف، ويثيرُ الفتنَ بينهم
فالطالب المجدّ والمنظم والخلوق يحبّه الله ورسوله ووالداه ومعلموه وزملاؤه وأهل الحيّ وجماعة المسجد... فأتمنى عليكم أن تكونوا من الطلاب المحبوبين...
سادساً: جلّدوا دفاترَكم وكتبَكم، واكتُبوا أسماءَكم على الغلاف الخارجيّ لها حتّى يسهل على المعلم معرفة صاحبها لدى توزيعها، ويسهُل على من يجدُها معرفة صاحبها...
سابعاً: التزموا بحلقِ التّحفيظ وواظبوا عليها؛ فقراءة القرآن تنيرُ القلب، وتُريح النّفس، وتساعد الذّهن على الحفظ، فعن عثمان بن عفّان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "خيرُكم من تعلّمَ القرآنَ وعلَّمه". رواه البخاري.(/2)
ثامناً: واظبوا على حلّ الواجبات، وقراءة الدروس أولاً بأول ولا تؤجّلوا عمل اليوم إلى الغد، حتى لا تتراكمَ عليكم الدروس، وتكثُر عليكم الواجبات فذلك يؤدي إلى ضعف مراتبكم الدراسية.
تاسعاً: كونوا إيجابيين في المدرسة تشاركون في النشاطات الرياضية والثقافية، واعلموا أنّ المدرسة هي بيتكم الثاني، فزيّنوا فصولَكم برسومكم الهادفة وخطوطكم الجميلة...
عاشراً: من كان لديه تقصير في مادة من المواد في العام المنصرم فليبذل جهده وليُكثر من سؤال المعلم، وسيجد المعلم متفاعلاً معه راغباً في مساعدته، فالمعلمون يحبّون الطالب المجدّ ويبادرون إلى مساعدته....
حادي عشر: المكتبة هي منبع العلم والثقافة؛ فوثّقوا علاقاتكم بها، وأكثروا من زيارتها لتكونوا طلاباً مثقّفين يفوزون في المسابقات الثقافية على مستوى المدرسة، ويشاركون في نهضة أمتهم...
ثاني عشر: تفاعلوا مع حصّة الحاسب الآلي واللغة الإنجليزيّة بشكل جيّد فهما أداتان من أدوات التطوّر العلمي والتقنيّ...
ثالث عشر: المعلمون يوضّحون لكم المفاهيم في الرياضيات والفيزياء وغيرها، ويشرحون الدروس فضلاً عن كونهم قدوةً لكم في سلوكهم ونُبل تعاملهم معكم.. فأطيعوهم، وأعينوهم على تبليغ رسالتهم السّامية...
رابع عشر: لا تجرحوا شعورَ زملائكم بالتفاخرِ بحسن ألبستكم وقوة أجسامكم وجمال بيوتكم وسياراتكم، فقد يعاني أحدُ زملائكم نقصاً في النظر أو في السّمع، ولربّما كان الثالث يتيماً والرابع من أسرة فقيرة والخامس يعاني مرضاً مُزمِناً.... فعاملوا زملاءكم بلطف ومحبّة...
خامس عشر: النّصيحةُ سلوكٌ إسلاميّ محبّب فإذا بَدَرَ من أحد زملائكم سلوكٌ سلبيٌّ فسارعوا لتنبيهه، وكرّروا النّصيحة بأسلوب طيّب، وكونوا واثقين من أنّ الله سيعينُه على ترك هذا السلوك ولكم الأجر والثواب الجزيل...(/3)
سادس عشر: لا تسرفوا باستخدامِ الماء عند الشّرب أو الوضوء، وإياكم والتّدافع في الأدراج عند النزول إلى الفسحة أو عند الانصراف؛ فكم من طالبٍ تكسّرت أسنانُه، وكم من طالب كُسرت أنفُه بسبب التّدافع...فحذارِ حذارِ من العجلة...والتزموا الأناة تَسْلَموا بإذن الله..
سابع عشر: أطيعوا آباءَكم إذا قرّروا نقلَكم إلى مدرسةٍ أخرى؛ لأنّهم يريدون لكم المزيدَ من التفوّق والتّحصيل العلميّ المتميّز، والمدرسةُ الجديدة فرصةٌ لمعرفة أصدقاء جُدد، ومن الممكن أن تتواصلوا مع أصدقائكم القُدامى عن طريق اللقاء في المسجد والهاتف وغير ذلك....
ثامن عشر: إنّ حارسَ المدرسةِ وسائقَ الحافلةِ وعاملَ النّظافة أناسٌ يقومون بأعمالٍ طيّبة تجعلُ مدارسكم آمنةً ونظيفةً، فعاملوهم باحترام وتقدير؛ لأنّ الإسلام علّمنا أن نعامل الناس جميعاً معاملة طيبة .
تاسع عشر: لا تُحضروا الألعاب الإلكترونية والجوالات إلى المدرسة لأنها ستشغلكم عن دروسكم فضلاً عن كون ذلك مخالفاً لنظام المدارس ...
متمم عشرين: تحرّوا الصّدق دائماً، ولا تلجؤوا للكذب أو المواربة مع آبائكم أو معلميكم عند نسيان أحدكم واجبه أو حفظ ما كُلّف به؛ فعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الصِّدقَ يَهْدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهدي إلى الجنَّة، وإنَّ الرَّجُل ليَصدُقُ حتَّى يُكتبَ عند الله صِدِّيقاً، وإنَّ الكَذِبَ يَهْدي إلى الفُجُور، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدي إلى النَّار، وإنَّ الرَّجُلَ ليَكذِبُ حتَّى يُكتَبَ عندَ اللهِ كَذَّاباً)) متّفق عليه.
حادي عشرين: إذا نسيَ أحدُ زملائكم أدواته فأعيروه من أدواتكم، وكونوا متعاونين فالتعاون مزيّة طيّبة وخلق إسلامي نبيل...
وفي الختام أتمنى لكم أبنائي الطلاب عاماً حافلاً بالنجاح والتوفيق، ومعطّراً بنسائم رمضان المباركة وأوقاته الرائعة...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المراجع:(/4)
1- رياض الصّالحين، للإمام أبي زكريّا يحيى بن شرف النووي الدّمشقي، كتاب الفضائل، باب فضل قراءة القرآن ص: 303.
2- رياض الصّالحين، للإمام أبي زكريّا يحيى بن شرف النووي الدّمشقي،باب الصّدق ص: 34.(/5)
العنوان: العام الهجري
رقم المقالة: 342
صاحب المقالة: د. سعد بن عبدالله الحميد
-----------------------------------------
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلَّم تسليمًا، أما بعد أيها الناس:
ففي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عزوجل، والسمع والطاعة وإن أمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.(/1)
فالرسول صلى الله عليه وسلم هنا يأمرنا ويحثنا على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين بعده وهم أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعلي ونحن في هذا الأسبوع نستقبل عاماً إسلامياً جديداً، ابتدأ عقد سنواته من أجل مناسبة عظيمة في الإسلام، ألا وهي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم التي ابتدأ بها تكوينُ الأمة الإسلامية في بلد إسلامي مستقل يحكمه المسلمون بعد تلك الفترة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في مكة فعانوا فيها وقاسوا أشد أنواع الاضطهاد والبلاء والامتحان؛ من ضرب وتعذيب بصنوف العذاب، وجوع وسخرية واستهزاء. فهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه كما في صحيح البخاري وغيره يأتي للرسول صلى الله عليه وسلم في ظل الكعبة فيقول: يا رسول الله ألا تدعوا الله لنا، ألا تستنصر لنا؟! ( وهذا بسبب ما يلاقونه من صنوف العذاب ) فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار في مفرق رأسه فينصف نصفين، ويؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقد كان بلال رضي الله عنه يوضع على صدره الحجرُ الكبير في الرمضاء في شدة الح، ويقال له: اكفر بمحمد، فما يزيد رضي الله عنه على أن يقول: أحد أحد.(/2)
وحصرت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشعب مدة طويلة أصابهم في أثنائها مجاعة شديدة أكلوا فيها مالايمكن أكله، وهم مع ذلك صابرون على ما من أجله امتحنوا، إلى أن جاء نصر الله وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة للمدينة، وقريش تحاول منعهم من الهجرة، حتى إنها همّت بأمر عظيم ومكيدة خطيرة، ألا وهي: أن يجتمع من كل قبيلة شاب من الشباب فيهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، ولا يدرى من قتله، فتعجز بنوا هاشم عن مقاتلة تلك القبائل جميعها؛ كما قال تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }، فأطلع الله نبيه على الذي أرادت قريش، فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ثلاث ليال وقريش جادّة في البحث عنهم، ويمرون بالغار فيصرفهم الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه يقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فيقول له صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟(/3)
ثم بعدها هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تلك الهجرة التي أصبحت فيصلاً بين الحق والباطل، وأصبح المسلمون بها أعزةً بعد الذلة، وأقوياء بعد الضعف، حتى أعلا الله كلمته ونصر عبده وجنده.
أيها الإخوة: إن التاريخ السنوي لم يكن معمولاً به في أول الإسلام، حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم، فيقال: إن بعضهم قال: أرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها كلما هلك ملِك أرخوا بولاية من بعده، فكره الصحابة ذلك، فقال بعضهم: أرخوا بتاريخ الروم فكرهوا ذلك أيضاً، فقال بعضهم: أرخوا من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون من مبعثه، وقال آخرون: من مهاجره. فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها فأرخوا من الهجرة، واتفقوا على ذلك. ثم تشاوروا من أي شهر يكون ابتداءً السنة؟ فقال بعضهم: من رمضان لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن وقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً واختار عمر وعثمان وعلي أن يكون من المحرم لأنه شهر حرام يلي ذي الحجة الذي يؤدي فيه المسلمون حجهم الذي به تمام أركان الإسلام والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر الحرام. ووجب على المسلمين الإذعانُ لهذا الأمر لما مر معنا من قوله صلى الله عليه وسلم ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء....)).
جعلني الله وإياكم من المتمسكين بشرعه، المتبعين لسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم(/4)
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لاإله إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد أيها الناس:
فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله أولئك. ومن تأمل نصوص السنة يلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره الشيء الذي فيه تشبه بأعداء الله ويأمر بمخالفته، حتى إن اليهود لحظوا هذا الأمر فقالوا: ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ من أَمْرِنَا شيئًا إلا خَالَفَنَا فيه ، وكان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول: خالفوا اليهود، خالفوا المشركين، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى. وإنه لمن المؤسف حقاً أن يعدل أكثر المسلمين اليوم عن التاريخ الإسلامي الهجري إلى تاريخ النصارى الميلادي الذي لا يمت لدينهم بصلة، ولئن كان لبعضهم شبهة من العذر حين استعمر بلادهم النصارى وأرغموهم على أن نسيان تاريخهم الإسلاميَّ الهجري، فليس لهم الآن أيُّ عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي وقد أزال الله عنهم الاستعمار.(/5)
أيها المسلمون: لقد أخبر الله سبحانه أن عدة الشهور اثنا عشر شهراً فقال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ }، وجعل الطريق لمعرفة هذه الشهور رؤية الهلال فقال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }؛ مواقيت للناس كلهم بدون تخصيص، لا فرق بين عرب وعجم ذلك لأنها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه، فمتى رؤي الهلال في المغرب بعد غروب الشمس ولو بلحظة يسيرة فقد دخل الشهر المستقبل، وانتهى الشهر الماضي، وبذلك عرفنا أن ابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لا من زوالها؛ لأن أول الشهر يدخل بغروب الشمس، وأول الشهر هو أول الوقت، وهو الذي عليه مدار الأحكام الشرعية؛ بحيث لو أن طفلاً ولد قبل غروب الشمس بدقيقة واحدة في آخر يوم من أيام رمضان لأوجبنا على وليه صدقة الفطر عنه إن كان الولي قادرًا، ولو أنه ولد بعد غروبها من ذلك اليوم بدقيقة واحدة لما أوجبنا عليه الصدقة. وهكذا لو أن شخصاً أحرم بالعمرة قبل غروب الشمس بدقيقة واحدة في آخر يوم من أيام رمضان وبقي في مكة لم يجب عليه الهديُ إذا أحرم بالحج؛ لأنه أتى بالعمرة في غير أشهر الحج، ولو أنه أحرم بعد غروب الشمس من ذلك اليوم بدقيقة واحدة وبقي في مكة لأوجبنا عليه الهدي لأنه أتى بالعمرة في أشهر الحج؛ بعد رؤية هلال شوال. من هذه القاعدة أيها الإخوة نعلم بأن التبعية لأعداء الله في هذا العصر قد شملت كثيرًا من أمور حياتنا، ومنها التوقيت الإسلامي سواء الهجري أو الغروبي، وما ذاك إلا لأجل الضعف والخور الذي خيَّم على نفوس المسلمين في هذه الأزمان؛ بحيث أصبحوا مقودين بعد أن كانوا قادة، وأذلة بعد أن كانوا أعزة، ومَغْزُوِّين بعد أن كانوا غازين، كل ذلك بسبب ما اقترفته أيديهم من الذنوب،(/6)
فنسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن ترفع عنا هذا البلاء، وأن تجمع المسلمين على كلمة الحق يا من إليه المشتكى.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، يا منان، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم نسألك أن تجعل عامنا هذا وما بعده من أعوامٍ أعوامَ أمن وطمأنينة وعلم نافع وعمل صالح به رشاد الأمة وذلُّ الأعداء في جميع البلاد يا أرحم الراحمين.(/7)
العنوان: العجلة
رقم المقالة: 1773
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فَمِنَ الصفات المذمومة التي جاء الشرع بالنهي عنها العجلةُ.
قال الراغب: "العجلة طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، وهو من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومة في عامة القرآن، حتى قيل: العجلة من الشيطان"[1].
قال تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خلقه القرآن، يتخلق بأخلاقه ويتأدب بآدابه، لذلك التزم بهذا التوجيه المبارك، لم يكن يستعجل؛ بل كان يتأنى ويصبر، وإلى هذا أرشد أمته؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((التَّأَنِّي مِنَ اللهِ وَالعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ))[2].
وقال الله أيضًا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] فكان - صلى الله عليه وسلم - - وهو القدوة المثلى - أولى الخلق التزامًا بهذا الأمر.(/1)
فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟" فقال: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ[3]. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا))[4].
أما المسارعة إلى فعل الخيرات والمبادرة إليها، وانتهاز الفرص إذا حانت، فإن ذلك محمود وليس بمذموم.
قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
وقال موسى - عليه السلام -: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].(/2)
لأن العجلة المذمومة القطع في الأمور قبل التفكر والمشاورة والاستخارة، ولهذا قال أبو حاتم البستي - رحمه الله -: "إن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد، والعجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تسميها أم الندامات"[5]. أ هـ.
قال الشاعر:
قَدْ يُدْرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
ومن الأمثلة على العجلة المذمومة: الاستعجال بالدعاء على الأهل والمال والولد عند الغضب، قال تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ))[6].
ولعل كثيرًا مما نرى من المصائب والأمراض وفساد الأولاد يكون بسبب الدعاء عليهم، وكثير من الناس لا يشعر بذلك، فهل من مدكر؟!
ومنها: استعجال المرء إجابة دعائه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي))[7].
ومنها استعجال بعض المصلين في صلاتهم، فلا يُتِمّونَ رُكُوعَهَا ولا سُجُودَهَا ولا يَطْمَئِنّونَ فيها، وقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رجُلاً صلَّى عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)) - ثلاث مرات - في كل مرة يقول له ذلك.(/3)
ثم قال له: ((إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا...))[8] الحديث.
ومن واقعنا المعاصر نرى كثيرًا من الناس يندمون حين لا ينفعهم الندم، بسبب استعجالهم في أمور كان عليهم أن يتَأَنَّوْا فيها، فمن ذلك أنه لأقل الأسباب يطلق الرجل زوجته، فتتشتت الأسر، ويضيع الأطفال، وتهدم البيوت، ويقع من الهم والغم ما الله به عليم، كل ذلك بسبب العجلة، فهل من مدكر؟!
ومنها العجلة في قيادة السيارات، وما نسمعه من الحوادث المروعة التي كانت سببًا لإزهاق نفوس كثيرة، وأمراض خطيرة، وعاهات مزمنة، إنما وقع بسبب العجلة.
ومنها أن يستبطئ الإنسان الرزق فيستعجل، فيطلبه من طرق محرمة ووجوه غير مشروعة، فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي روعِي أنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إلاَّ بِطَاعَتِهِ))[9].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] معجم مفردات ألفاظ القرآن (ص334).
[2] مسند أبي يعلى (7/247) برقم (4256) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/404) برقم (1795).
[3] هما جبلا مكة أبو قبيس والجبل الذي يقابله.
[4] صحيح مسلم (3/1420، 1421) برقم (1795).
[5] "روضة العقلاء" (ص288).
[6] صحيح مسلم (4/2304) برقم (3009).(/4)
[7] صحيح مسلم (4/2095) برقم (2735).
[8] جزء من حديث في صحيح البخاري (1/247) برقم (757)، ومسلم (1/298) برقم (397)
[9] حلية الأولياء (10/27) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/420) برقم (2085).(/5)
العنوان: العراق في تقارير السفير البريطاني كينهان كورنواليس (1941- 1945م)
رقم المقالة: 275
صاحب المقالة: عبدالتواب أحمد سعيد
-----------------------------------------
المقدمة
كان كينهان كورنواليس ((K.Cornwallis )) خبيراً بالشؤون العراقية، وعلى دراية واسعة بأحوال العراق ؛ لأنه شغل منصب مستشار لوزارة الداخلية العراقية منذ تكوين أول وزارة عراقية بعد تتويج الملك فيصل بن الحسين في 23 آب 1921م حتى عام 1935م. عندما أنهى رشيد عالي الكيلاني وزير الداخلية خدماته في عهد وزارة ياسين الهاشمي.
وعندما تولى مهام عمله سفيراً لبلاده أرسل عدداً كبيراً من البرقيات والمذكرات والتقارير إلى مسؤوليه في الخارجية البريطانية، اشتملت على قضايا واسعة ومتشعبة، وقد اخترنا عدداً منها. وتم الاطلاع عليها في دائرة السجلات العامة في لندن P.R.O . لتكون موضوع بحثنا هذا، وهي تشكل معلماً مهماً في تاريخ العراق المعاصر، وقد اعتمدنا عليها لتكون الدراسة وثائقية خالصة رغم رجوعنا إلى عدد قليل جداً من المصادر الأساسية الأخرى.
يشتمل البحث على نقطتين: -
الأولى: - دراسة التطورات السياسية العراقية فيما بين 1941- 1945م وهي حول أحداث نيسان وما تلاها، وانطباعات السفير بشأن عدة قضايا.
الثانية: - دراسة القضايا القومية، وهي حول موقف العراق من مسألتي فلسطين وسوريا.
التطورات السياسية في العراق 1941- 1945م
مع بداية الأزمة السياسية التي وقعت أوائل عام 1941م ودفعت الجيش إلى الإمساك بزمام الأمور لصالح رشيد عالي الكيلاني في الأول من نيسان من ذلك العام، وكانت السفارة البريطانية في بغداد ترصد الأحداث عن كثب، وتراقب التطورات حتى هروب الوصي على العرش من بغداد إلى البصرة عن طريق الحبانية[1].(/1)
في الثاني من نيسان 1941م وصل كينهان كورنواليس إلى بغداد لتسلم مهام عمله سفيراً جديداً لبلاده، وقد أشار في التقارير الأولى التي أرسلها إلى وزارة الخارجية البريطانية إلى أن رئيس الوزراء الجديد رشيد عالي اتصل بالسفارة عن طريق المستشار البريطاني في وزارة الداخلية العراقية، وطالب اعتراف بريطانيا بحكومته[2]. غير أن الانكليز كانوا في وضع منزعج، فقد امتعضوا تماماً من الانقلاب العسكري وعودة الكيلاني إلى الحكم رغم اظهاره الولاء لمعاهدة عام 1930م باعتبار أن ذلك لم يكن منه إلا ستاراً يخفي وراءه حقيقة تعامله مع ألمانيا لاشتراكها في عمل عسكري إلى جانبه ضد بريطانيا كما قال السفير[3].
والحق أن كورنواليس أبدى فيما بعد رأيه، ومن خلال خبرته الطويلة بشؤون العراق، فيما يتعلق بشؤون الحكم قبل أحداث عام 1941م، حيث أشاد بقدرات الملك فيصل الأول 1921- 1933م، وأنتقد ما أسماه ((طيش)) الملك غازي 1933م – 1939م وخجل وتردد وجبن الوصي عبدالاله وعدم كفاءته في اختيار العناصر الجيدة لمساعدته، كما انتقد أيضاً قلة وجود القوات البريطانية في العراق، مهاجماً الكيلاني بقوة ؛ لأنه اعتمد على من أسماهم ((زمرة من السياسيين والضباط المتأثرين بالنظام العثماني التركي)).
وأنهم أصبحوا مقبولين من الشعب بسبب مواقفهم من بريطانيا وأساليبهم المضادة لها. وبسبب ضعف الإدارة والحكم قبل وصولهم، وقوة الدعاية الألمانية التي تولاها رجل نشط متمرس هو الدكتور فرتز غروبا Fritz Grobbe[4].(/2)
لم تلبث الأحداث أن تطورت بسرعة لتصل إلى الحرب بين القوات البريطانية والجيش العراقي، والتي انتهت بالاحتلال البريطاني الثاني للعراق، ومغادرة قادة الحكم إلى خارج العراق... وخلال ذلك أرسل السفير تقارير عديدة دعا في أحدها إلى ضرورة عودة الوصي على العرش عبدالإله إلى بغداد، وتشكيل حكومة تكون مهمتها الأولى إعادة إنشاء علاقات مع بريطانيا وإعادة الانضباط للجيش والشرطة، وطمس معالم دعايات المحور، وإنشاء محاكم خاصة لمحاكمة الثوار... غير أنه تحدث بمرارة عن بقاء العناصر المعادية لبريطانيا في الجيش والدوائر العامة وهو ما جعلهم يشكلون معارضة واسعة الانتشار[5].
أما الجيش العراقي، فإن السفير وجه إليه اهتماماً خاصاً في تقاريره، فهو يقول مثلاً: "يشكل الجيش عنصراً فعالاً وخطراً لأن مرارة الهزيمة (كذا) تشكل بين أفراده نيران الحقد ضد البريطانيين وهي نيران تحت رماد من السكون الظاهر"[6].
ولاشك أن الانكليز بذلوا جهوداً واسعة لمنع الجيش من القيام بأنشطة تزعزع النفوذ البريطاني في العراق. ويلاحظ أن القائد العام للجيش البريطاني في الشرق الأوسط الجنرال ويفل G. Wavell يدعو في شهر أيار 1941م إلى ((عدم الطلب من الجيش العراقي إلقاء سلاحه شريطة تأكيد ولائه للوصي، وبقاء جنوده شرق بغداد، وقيامه بمنع أية محاولة لتخريب منشآت النفط في كركوك وخانقين))[7]. وكان ذلك مراً بديهياً ؛ لأن النفط ومنشآته أهم لبريطانيا من أي شيء آخر.
وحول الشؤون الداخلية العراقية البحث نجد آراء السفير واضحة جلية مترابطة مع نظرته للعلاقات التي كان يريدها أن تقوم بين العراق وبريطانيا.
أ – (( العلاقات العراقية البريطانية ))
أكد كورنواليس في تقاريره على ضرورة اتباع سياسة خاصة من أجل الاحتفاظ بعلاقات سماها كورنواليس ودية مع العراق أهم سماتها: -(/3)
أولاً: - المعالجة المتفهمة والمتعاطفة مع المشاكل العراقية من قبل الحكومة البريطانية وبالذات الاقتصادية المتعلقة بالانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إن معالجة كهذه ستجعل هذا الشعب يحس بأنه محاط برعاية الآخرين، وأن ارتباطهم معنا سيعود عليهم بمنافع مادية[8].
ثانياً: - يجب أن يتحلى كل موظف ترسله بريطانيا إلى العراق بشخصية دقيقة ومطلعة. كما تحدد نفوذ السفير ضمن مهام منصبه فقط، والنفوذ الحقيقي داخل الحكومة يتركز في أيدي الموظفين البريطانيين، وإذا وفرنا رجالاً أكفاء فإنه ما من شك بأن العراق سيطالبنا بالمزيد، ولا يجدي نفعاً أن نفرض الموظفين بالقوة على الحكومة العراقية. ويجب أن نتذكر دائماً بأن العراقيين شديدو الحساسية من الأجانب الذين يتقاضون أجوراً أعلى من الوزراء أنفسهم[9].
ثالثاً: - من الأهمية بمكان أن نبقي في أيدينا ما قمنا به من الاتصالات الشخصية، كما علينا أن نستمر بالاحتفاظ بهيئات المستشارين السياسيين والعلاقات العامة أطول فترة ممكنة، وعندما يحين الوقت الذي نتخلى عنها يجب أن نعمل على إبقاء بعض المفتشين الإداريين في المدن، ولأجل ذلك يجب أن نعمل على تعيين مستشارين أكثر تكون واجباتهم بصورة رئيسة سياسية واجتماعية. فضلاً عن اعطاء الأهمية البالغة للاتصالات الشخصية التي أهملت لسنوات. وهذه مهمة العلاقات العامة ومنظمة إخوان الحرية التي تشكلت في منتصف عام 1941م. كل هذه الأجهزة تعمل متقاربة ومتفاهمة[10].
إن أهداف كورنواليس من كل ما تقدم هي: -
1 - ضمان كافة التسهيلات للأغراض الحربية.
2 - اقتلاع جذور – النازية – كما يسميها كورنواليس، وتغير وجهة نظر الشعب، وتعزيز موقفه عن طريق توعية الناس بأهمية التحالف مع بريطانيا.
3 - التأكيد على الصداقات القديمة (بالشخصيات السياسية وشيوخ العشائر)[11].(/4)
وعندما أعلن العراق دخوله الحرب بجانب الحلفاء ضد ألمانيا يوم 17/1/1943م تحسنت العلاقات أكثر. ولم تعد نظرية بغض الانكليز موضع فخر البلاد وبين طبقات الشعب. وأبدت حكومة نوري السعيد أعلى درجات التعاون مع بريطانيا. لكن السفير البريطاني حذر حكومته قائلاً:
((يكون خطأ جسيماً الافتراض بأنه في مقدورنا الاسترخاء في المقاعد الخلفية في أمان لأن المشهد في هذا البلد يمكن أن يتغير بسرعة مذهلة، كما أن المشاكل ستزداد في العراق كماً وتعقيداً كلما انحسرت الحرب أكثر فأكثر عن الشرق الأوسط[12].
ب – (( الشؤون الداخلية ))
تشكلت في الثاني من حزيران 1941م حكومة جميل المدفعي واستمرت لغاية 21 أيلول 1941م. بعدها شكل نوري السعيد الوزارة في 9 تشرين الأول 1941م لغاية 23 أيار 1944م. أجرى خلالها تغييراً وزارياً عام 1943م. هذه الوزارة نفذت ما تريده بريطانيا ؛ لأن نوري السعيد كما يصفه السفير البريطاني: "عنصر توازن وذو تأثير في السياسة العراقية وأن تعاطفه مع بريطانيا فوق مستوى التساؤل. وهو سهل الاستجابة إلى النصيحة وحازم في أداء واجبه"[13].(/5)
لم يكن مجلس وزراء نوري السعيد منسجماً، فنوري السعيد خاب أمله في وزير ماليته صالح جبر، وبالمقابل فقد غضب صالح جبر على نوري لعدم موافقته على منحه قطعة أرض مساحتها آلاف الأفدنة. كما أن تحسين العسكري قد فشل في وزارة الداخلية. وحتى رئيس الديوان غير أهل لمنصبه لأن صغار موظفي البلاط يستغلون مراكزهم استغلالاً سيئاً للتأثير في الزوار من القبائل. وبطبيعة الحال فإن مثل هذا المجلس لم يدم طويلاً لذلك تردد نوري على السفير البريطاني لتبادل الرأي معه. وحدث التعديل يوم 23 حزيران 1943م. ويصف كورنواليس التغيير الوزاري بقوله: "لم يكن للتغيير أي شعبية ولم يحصل على ثقة الوصي على العرش ؛ لأن عبدالإله يبغض توفيق السويدي وعمر نظمي وعلي ممتاز الذين يعتبرهم غير مخلصين له. كما توجد معارضة قوية لنوري السعيد في البرلمان، الذي رفض طلب نوري بحله واستطاع المعارضون الصمود بوجه رئيس الوزراء"[14].
وكانت أول مناورة للمعارضة في البرلمان بخصوص تعيين توفيق السويدي بمنصبه نائباً لرئيس الوزراء، وهي الوظيفة التي انشأها نوري خصيصاً له. وبعد إحالة الموضوع إلى المحكمة العليا اضطر توفيق السويدي إلى الاستقالة من منصبه، وهذا ما شجع نواب المعارضة للاشتباك أكثر من الحكومة في كل مناسبة. ونصح السفير البريطاني عبدالإله أن يضع حداً لذلك ؛ لأن الوضع غير مستقر ومتأرجح، فالمعارضون لرئيس الوزراء مستمرون في كسب وتجسيم حجم هجومهم، ووصل الأمر إلى نهايته عند مناقشة الميزانية عندما تحول النواب من النقد إلى التشهير ثم تلاه صخب وهرج، اضطر بعدها رئيس الوزراء إلى وقف الجلسة. بعدها قدم نوري استقالته إلى الوصي موضحاً أنه من المستحيل عليه الاستمرار في منصبه دون تأييد الوصي تأييداً كاملاً وصريحاً ومعلناً[15].(/6)
وبعد أن ناقش كورنواليس وعبدالإله وضع مجلس الوزراء، اعطى عبدالإله لنوري السعيد مهلة أمدها 2- 3 أشهر. وأوضح الوصي للسفير أنه إذا اضطربت الأمور فلن يحاول تسويتها. ورد عليه كورنواليس بضرورة مساندة المجلس إلى أن يثبت فشله أو يغيره فوراً. أما إتباع سياسة الوسط فلابد أن يترتب عليها شد وشك، وأشار السفير إلى أنه خلال العامين ونصف الأخيرة طرأت على مجلس الوزراء تغيرات مستمرة نتج عنها عدم اعطاء الوقت الكافي أو الثقة للوزارة لكي تعمل على الاصلاح[16].
عند البحث عن بديل لنوري السعيد يقول السفير: "لم أر شخصية مناسبة، فابراهيم كمال كان هو البديل الوحيد، لكني سمعت من جميع الأطراف أنه لا يستطيع النجاح، ووافقني الوصي على ذلك. وكان يعتقد أنه لا أمل في مجموعة إبراهيم كمال، وأنه لا يستطيع الاستعانة بغيرهم".
في مثل هذا الموقف كان السفير متشائماً، وقد عبر عن ذلك بقوله: "يبدو أننا على وشك مواجهة وقت عصيب"[17].
على أي حال، كلف عبدالإله حمدي الباجه جي لتشكيل الوزارة. وبعد (15) يوماً من التكليف تشكل المجلس في 3 حزيران 1944م الذي عرف في كل مكان على أنه من صنع الوصي. وقد عرض حمدي الباجه جي منصباً وزارياً لكل من نوري السعيد وإبراهيم كمال، ولكنهما رفضا ؛ لأن نوري بحاجة إلى الراحة بينما لم يرض إبراهيم بديلاً عن منصب رئاسة الوزارة. وفي بيان تشكيل الوزارة أبدى الباجه جي اسفه لعدم اعداد برنامج مكتمل لحكومته، لكنه أكد على أن المجلس أمامه ثلاث مهمات: -
1 - تحسين وتنظيم شؤون التموين.
2 - اتخاذ كافة الوسائل لتخفيف الاستقرار والأمن.
3 - رفع كفاءة موظفي الحكومة واستقامتهم[18].(/7)
لم تستمر حكومة حمدي الباجه جي لفترة طويلة، لانعدام الانسجام فيها فحدثت أزمة وزارية. يعلل سببها كورنواليس بقوله: "عندما تبلغ حرارة الطقس أقصاها كالمعتاد في منتصف الصيف تتوتر الأعصاب فتنشأ الأزمات عادة في مجلس الوزراء. ففي آب 1944م اختلف وزير الدفاع مع زملائه الوزراء على مشروع الجنرال رنتون Renton لإصلاح الجيش. وبعد إجراء التعديل الوزاري على المجلس بوقت قصير استقال الباجه جي في 25 آب 1944م، لكنه كلف بتشكيل الوزارة مرة أخرى، فشكلها في 29 آب 1944م"[19].
أن التشكيل الوزاري الجديد لم يختلف عن الذي سبقه، فوزارة التموين التي رأسها أكثر من وزير خلال بضعة شهور حظيت أخيراً بوزير كان يشغل وظيفة مدير عام التموين ورقي إلى مرتبة وزير. ويعلق كورنواليس على ذلك قائلاً: "لم يوجد سياسي قدير ومعروف على استعداد لقبول هذه الوظيفة المثيرة للأحقاد".
وتم اجراء تعديلات أخرى في تشرين الثاني 1944م في وزارتي الشؤون الاجتماعية والدفاع، ويسود الهدوء مجلس النواب فيما عدا اشارات تشير إلى أن رئيس الوزراء المقبل نوري السعيد[20].
جـ - ((نظرة السفير إلى الرأي العام))
بعد مرور عام على ثورة مايس 1941م تمت محاكمة قادة الثورة وصدرت بحق بعض منهم حكم الاعدام الذي نفذ في ايار 1942م. ويبالغ كورنواليس في وصفه للاعدامات وإلى أي مدى كان تأثيرها فيقول: "اظهرت التقارير أن أحكام الاعدام ينظر إليها عموماً بمثابة عقاب عادل".
- وهذا لا يتفق مع رأي شعب العراق – ويضيف كورنواليس قوله: "التخوف من الألمان لا يزال أكثر من أي وقت مضى، ولم تعد لهم أي شعبية كما كان في السابق".(/8)
أما العسكريون فقد وصف لنا كورنواليس وجهة نظرهم بقوله: "إني لا أدافع عن الجيش العراقي ولكني أتساءل عما إذا ما كان موالياً لألمانيا كما كان يبدو فلماذا لم يعبر عن شعوره خلال محاكمة أعضاء اثنين من القادة الأربعة، وبعد اعدامهم، وكان يمكن أن يُرى على الأقل بعض علامات القلق في أثناء تلك الفترة. ولكن لم يردني تقرير واحد يشير إلى حدوث ذلك"[21].
لم يدافع كورنواليس عن الجيش العراقي كما قال، لكنه ذكر حقيقة ونسى أن الجيش العراقي بعد فشل الثورة تحجمت قوته من خلال عملية التسريح والاحالة على التقاعد لخيرة الضباط.
ويبقى من المهم القاء نظرة على الوضع في شمال العراق والتأثيرات الفكرية على المجتمع العراقي حسبما نظر إليها السفير، فالشيخ محمود[22] في شمال العراق رجل فوضوي متعجرف كثير المشاكل التي يثيرها أمام الإدارة والحكومة التي فرضت سلطتها بالتعاون مع القوات البريطانية... وتفاوضت مع الشيخ محمود الذي طالب بمطاليب معينة جعلت الوزارة ترفضها ؛ لأنها خطوة أولى واسعة نحو الحكم الذاتي[23]. لكن الأمر الذي يهم السفير لم يكن إضعاف أو عدم إضعاف الحكومة في بغداد ولا خداع الشيخ محمود المتمرد، وإنما عدم قيام أي شخص أو زعيم بعرقلة المجهود الحربي البريطاني[24].
وخلال عام 1945 كان كورنواليس على وشك الرحيل عن العراق بعد انتهاء مهامه، شهد العراق تطورات مهمة مع انتهاء الحرب الثانية، عندما أرسل السفير أفضل تقاريره التي تعلقت بالوضع العام في العراق، ونظرته للرأي العام وأرائه بشأن المستقبل. فالهدوء سمة واضحة في العراق بعد فشل ثورة الكيلاني، لكن ذلك لم يكن ليدوم فترة طويلة أو يمكن لأحد الاطمئنان إليه. ذلك أن النار التي ظلت تحت الرماد كما عبر عن ذلك القائد العام البريطاني جعلت إمكانية التغيير الدراماتيكي والسريع للوضع أمراً ممكناً مع عدم الوثوق بأي ضمان[25].(/9)
لم يكن الرأي العام بعيداً عن تفكير السفير فهو ينبه مسؤوليه إلى أهمية تأثر الجماهير بما تسمع، ويصف تلك الجماهير بأوصاف سيئة متمنياً نجاح الحكومة في بغداد بالتصدي للجماهير إذا لزم الأمر، ويورد هنا عبارة مهمة وصريحة تقول: "لا أحد في بريطانيا يدرك كم هو صعب حكم العراق حتى في وقت السلم"[26].
شارحاً العوامل التي تقف وراء تلك الحقيقة، منها سنوات التخلف الطويلة التي عاشها البلد، ووجود نزعات مختلفة وحقيقة وجود تباين شاسع بين سكان المدن والبدو المسلحين، ثم مشاكل الحدود مع جيران العراق، وأخيراً مشكلة التمرد المزمن في شمال العراق والتي تبدو مصدراً للتوتر الشديد[27].
ومع أن عدداً من العوامل يبدو منطقياً، فإن الأمر الذي لم يشر إليه السفير هو أن بريطانيا نفسها مسؤولة عن بعض تلك العوامل.
ومن الجدير بالذكر، فإن السفير البريطاني كان يؤمن بأن الاستقرار لن يدوم فترة طويلة، فهناك ((أحقاد شخصية، ونزاعات داخلية، وضعف في الانسجام، وانحسار للروح الجماعية بين فئات الشعب، وتصميم سيء من الحكم القائم على استمرار الوضع على حاله))[28].
إنها عوامل مؤذية حقاً شكلت واقعاً في الأربعينيات، وسعى المخلصون إلى تجاوزها مع السنين. وكان للمثقفين دور كبير في هذا الشأن، غير أنهم في نظر السفير كانوا مندفعين نحو ما أسماه ((الأفكار السياسية السوفيتية دون إدراك منهم بطبيعة النظام السياسي السوفيتي حتى أصبحت الشيوعية واجهة تختفي وراء ستارها المعارضة النزيهة وغير النزيهة لتظهر بمظهر التقدمية))[29].(/10)
إن الوضع الذي بدأ يتبلور مع نهاية الحرب كان مؤشراً على بداية مصاعب أخذت تتسع مع الأيام لتصبح أصعب ما يواجه الانكليز، وهم يدعمون نظاماً حاكماً تقليدياًَ دون ظهور فريق حاكم جديد يمكن التعامل معه. لذلك فإن السفير يقول بصراحة: "إن مشكلة العراق الحقيقية ليست معنا، بل هي مع أولئك الحكام الذين يرفضون بعناد التنازل عن أي من امتيازاتهم للآخرين، مع خوفهم من المستقبل بعد نحذيرنا لهم من مخاطر المستقبل... وأن صداماً سيحدث بين من يملكون والذين لا يملكون"[30].
ورغم المرارة التي كانت ظاهرة في تقارير السفير الأخيرة، فإن التمسك بوجهة النظر البريطانية في العراق بدت واضحة أكثر. إنه يشير بصراحة إلى أن الوجود البريطاني في العراق ومع نهاية الحرب كان قوياً جداً، لكن ذلك الوجود قد يتدهور رغم نموه المستمر خلال الحرب الثانية. ويبادرنا السفير بسؤال مهم حيث يقول: "إذا كان العراق غير ذي أهمية لنا فإنه يتعين علينا الجلاء عنه... ولكنه في الواقع مهم جداً بسبب موقعه الاستراتيجي والنفط والمواصلات... وإن بريطانيا لن تتركه هدفاً لأطماع الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية... ويجب عدم السماح لموقفنا في العراق بالتدهور"[31].
إنها نظرة شاملة وبعيدة، تلك التي كتبها كورنواليس، فالعراق مهم جداً لبريطانيا، ولم يكن سهلاً عليها أبداً التخلي عن نفوذها هنا لدول أعظم منها، لكن ظروف ونتائج الحرب العالمية الثانية، فرضت على بريطانيا تنازلات وتنازلات كثيرة وكبيرة في العالم.(/11)
ولأجل العمل على إبقاء النفوذ البريطاني قوياً في العراق أطول مدة ممكنة ((فإن توثيق الروابط بين الطرفين على أسس من التعاطف والتفهم، وحل المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد العراقي، وإشعار المواطنين العراقيين بأنهم محط رعاية الآخرين، كل ذلك كفيل بالنجاح في المساعي البريطانية من أجل عدم إضعاف العراق ؛ لأن إضعافه إنما هو إضعاف لبريطانيا وإيذاء لها. وإن على من يتعامل مع العراقيين أن يتجنب جرح كبريائهم ؛ لأنهم شديدو الحساسية والعاطفية))[32].
هكذا إذاً كانت الحقيقة، وهي أن إضعاف بريطانيا هو إضعاف للعراق والعراقيين، حتى إن السفير يطلب من مسؤوليه الكف عن أي موقف أو قرار يؤذي العراقيين... وينصحهم – ينصح المسؤولين الانكليز – إرسال شخصيات تمتلك خبرة عالية لتتولى وظائف تحتاج إلى الكفاءة، وتشعر الشعب هنا بأنها تستلم رواتب أو أجوراً عالية ؛ لأنها كفوءة ونشطة نظراً لحساسية العراقيين القوية تجاه الأجانب وأجورهم العالية. والابقاء على جسور الاتصال غير السياسية بين الانكليز والعراقيين، ومنها تعزيز الروابط الثقافية والعلمية من خلال المعاهد البريطانية[33].
ثانياً – القضايا القومية:
أ – العراق والمسألتان الفلسطينية والسورية:
أظهر العراق اهتمامه الكبير بالقضايا العربية وخاصة بعد استقلاله عام 1932م، ثم جاءت أحداث عام 1941م لتؤكد ارتباطه الوثيق بالقضايا القومية عندما استهدف الرجال الذين قادوا الحركة الثورية، تحقيق الوحدة بعد تحرير العراق وسوريا وفلسطين... لكن الحركة انتكست وتعرض العراق للاحتلال وعاد رجال الحكم المتعاونون مع بريطانيا إلى السلطة.(/12)
ومع أن الرجال الذين حكموا العراق بعد عام 1941م قد أدركوا عظم المشاكل التي يواجهونها في الداخل، فإنهم انغمسوا بالمسائل العربية حتى وجدت السفارة البريطانية نفسها في وضع صعب بسبب اهتمامات الحكومة العراقية بالقضايا العربية. فكتب كورنواليس مذكرة تتحدث عن اهتمام نوري السعيد بقضايا عربية تدفعه إليها ((أوهام التطلع إلى أقطار أخرى... رغم إدراكه التام لمدى الضرر الذي أصاب العراق جراء المغالاة بالاهتمام بالمسألتين السورية والفلسطينية))[34].
إن تلك (الأوهام) و(المغالاة) التي يتحدث عنها السفير البريطاني هي التي دفعت بريطانيا وبمساعدة جلية من الناشطين الصهيونيين إلى الدخول في حرب مع العراق ومن ثم احتلاله... لكن الأمر الذي أقلق السفير هو استمرار الاهتمام الرسمي بالمسألتين الفلسطينية والسورية حتى ما بعد الاحتلال.
في ربيع عام 1943م جرى لقاء بين السفير ورئيس الحكومة نوري السعيد، وخلال اللقاء أعرب السعيد عن أمله في ألا يدلي الساسة الانكليز بتصريحات تثير مشاعر العراقيين بشأن فلسطين مما يدفع باتجاه عقبات صعبة الحل[35].
إذاً لم يكن اهتمام السعيد بالتطورات الفلسطينية، نابعاً من أوهام خاصة باقامة امبراطورية عراقية، بل من اهتمامه خاصة بالاستقرار الداخلي مع مشاعره العربية... ووجدت مواقفه تلك اهتماماً من الجهات البريطانية عندما قام كورنواليس بابلاغ حكومته عن ((مدى المتاعب التي يمكن أن تواجه بريطانيا في العراق بسبب مشكلة فلسطين التي يمكن أن تفسد كل شيء مع شعب تثيره الانفعالات بسهولة))[36]. ذلك أن التطورات المتلاحقة للحرب الرهيبة في أوربا، جعلت الانكليز يتخوفون من عمل ثوري جديد يعرقل مساعيهم الأساسية في الحرب، ولذلك وأدوا أي عمل ثوري في فلسطين يثير مشاعر العراقيين، ومن ثم حدوث فوران جديد[37].(/13)
يعيد كورنواليس عوامل الاثارة في العراق إلى وجود المفتي الحسيني في العراق قبل أحداث عام 1941م وخلالها، مما تسبب في تهديد وضع بريطانيا هناك بشكل خطير، ودفع الكيلاني وصحبه إلى تحدي بريطانيا ودفع الذين جاؤوا بعد فشل الحركة أيضاً إلى تبني سياسة قومية بالنسبة لفلسطين، وهي سياسة ستؤدي كما قال إلى: ((احتمال حدوث أضرار خطيرة للمصالح الستراتيجية البريطانية في العراق خصوصاً إذا استمر التأييد الأمريكي البريطاني للحركة الصهيونية وأنشطتها)) )[38].
ولأجل تهدئة الأوضاع والنفوس وربما لإرباك العناصر الشعبية المؤيدة لعرب فلسطين في المدن العراقية والتي يتخوف السفير من وصولها للسلطة في بغداد[39]. فقد بادرت وزارة الخارجية البريطانية إلى تقديم مشروع سري يستهدف حل المشكلة الفلسطينية بتقسيم فلسطين.. ويبدو أن كورنواليس أطلع المسؤولين في بغداد على ذلك المشروع وخرج بانطباع سلبي حين قال في مذكرة له: "إن مشروع التقسيم سيجعل الصدام بين العرب واليهود أمراً محتملاً، بل إنه سيديم الصراع بينهما لآماد طويلة"[40].
ووقع الصدام حقاً ودام الصراع فعلاً، لكن المسألة الجوهرية التي لم يشر إليها السفير هي أن بلاده كانت المسؤولة تماماً عن ذلك، لكنه على أي حال حذر حكومته من مغبة احتمال ردود الفعل العربية والعراقية، وطالبها بالاسراع في إيجاد حل للمشكلة موضحاً أن أي تأخير في ذلك سوف يزيد من حالة الاحباط لدى الجماهير العراقية التي تدرك ((اتساع الهوة بين العرب واليهود تنظيمياً ومالياً وإعلامياً – وعدم إدراك السلطات لمدى اتساع الدعاية الصهيونية العالمية))[41].(/14)
كم كان قاسياً ودقيقاً ذلك الحكم الذي أصدره كورنواليس، فالجماهير تدرك والسلطات لا تدرك، ومن هنا نجد ضجة واهية لا قيمة لها حدثت في عامي 1943م و1944م تحت إشراف السلطات لوقف التأييد الواسع المدى للصهيونيين في الولايات المتحدة خاصة، وتمثلت في إرسال برقيات للأحزاب الأمريكية يحتج فيها مرسلوها على التأييد الأمريكي.. وفي تصريحات رسمية تدعو إلى الانتظار لما بعد الانتخابات الأمريكية وربما لما بعد انتهاء الحرب[42].
ولم تكن تلك الوسائل قادرة على مواجهة أو مجاراة الصهيونيين وأساليبهم فكان طبيعياً أن يكون الكفاح العربي مبتوراً منذ بدايته وحتى وقت لاحق.
أما سوريا ولبنان فإن كورنواليس كتب حولهما عدة تقارير تظهر مدى اهتمام العراق بشأنهما.. فقد صرح عدد من رؤساء الحكومات السابقة بتصريحات تنم عن الأمل في قيام الحلفاء بمساعدة سوريا على تحقيق استقلالها[43].
مع اقتراب العالم من السلام وتحقيق الحلفاء لانتصارهم على ألمانيا في أيار/ مايس 1945م، فإن حصول سوريا ولبنان على استقلالهما أصبح قريب المنال وتوضحت معالم أهمية البلدين بالنسبة للعراق اقتصادياً... وسياسياً فضلاً عن العامل القومي... لكن كورنواليس يضيف إلى ذلك قائلاً: "إن سوريا ولبنان أهم من فلسطين للعراق، وإن العراقيين يأملون في وقوف بريطانيا إلى جانب استقلال سوريا من فرنسا"[44].
ولو نظرنا بإمعان إلى العبارة التي أوردها السفير لأدركنا حقيقة الموقف البريطاني الذي كان يعمل بكل جهد مستطاع لتغييب فلسطين ونسيانها لكي تصبح يهودية، فيما كان العراقيون مهتمين بشؤون فلسطين مثلما هم مهتمون بسوريا ولبنان والمغرب العربي في سبيل حصول تلك الأقطار الشقيقة على استقلالها يحدوهم الأمل في أن يكون ذلك مقدمة لتحقيق الوحدة العربية.
ب – العراق والوحدة:(/15)
خلال المدة التي قضاها كورنواليس سفيراً في بغداد، أرسل عدداً من التقارير تحدث فيها عن قوة المشاعر الوحدوية في العراق، مذكراً المسؤولين الانكليز بالمبادرات التي صدرت عن العراق منذ وقت مبكر في سبيل تحقيق هدف الوحدة، وتزعم هذا البلد للحركة القومية العربية، وتعاطف شعبه مع أي إنجاز سياسي عربي وحدوي، وتركز ذلك التعاطف منذ أواخر الثلاثينيات، وجرى اهتمام مؤقت بالحرب عند بدايتها... ثم عاد الاهتمام بالوحدة ببروز تيارها الرامي إلى بعث الأمة وإقامة وحدة متماسكة للعرب تكون بدايتها باستقلال سوريا وفلسطين تمهيداً لتوحيدهما مع العراق بمساعدة دولة كبرى لحين تتمكن الدولة الاتحادية من الاعتماد على نفسها بلا مساعدة[45].
ويتحدث السفير في تقريره المسهب ربيع عام 1943م عن زعماء الوحدة في العراق، ونجده يقول: "إنهم يتمتعون بتأييد طيب من الجماهير، وإن هؤلاء الزعماء مرتاحون للانكليز ويتصورون أن أماني العرب يمكن تحقيقها بالتعاون الوثيق والودي مع بريطانيا... إلى جانب مجموعة من الشباب ترى القيام أولاً باصلاحات أساسية اجتماعية واقتصادية قبل تحقيق الوحدة الكاملة"[46].
كانت الوحدة تطوراً مؤلما للانكليز، ولو قالوا غير ذلك، ومن أجل إبعاد العراق عن الوحدة والاهتمام بها، فإننا نجد كورنواليس يكتب إلى ايدن – وزير الخارجية – تقريراً حول الاهتمام العراقي بالمسألة الفلسطينية ليورد في نهاية التقرير أخطر فكرة قدمها للمسؤولين الانكليز حين قال: "إن من الحكمة العمل على ابقاء العراق معزولاً قدر الامكان"[47].
لكن السفير لا يتمسك بحكمته تلك بعد التطورات اللاحقة حيث أشار إلى أن الوحدة لا تضر بالمصالح البريطانية لو قامت بين العرب وأنه ينبغي على البريطانيين ((ألا يوقفوا تياراً سوف يشتد مع السنين))[48]. مضيفاً إلى ذلك قوله في تقرير آخر ((أن من الأفضل لبريطانيا أن تتعامل مع العالم العربي كدولة واحدة))[49].(/16)
فيما بين 1942م وعام 1945 تحددت الوحدة ومسألة العمل لتحقيقها من خلال تطورات ثلاثة هي: تصريح ايدن وزير الخارجية البريطانية ومذكرة نوري السعيد المعروفة بالكتاب الأزرق، ومباحثات الجامعة العربية.
ففي 29 أيار 1941م صرح ايدن في البرلمان البريطاني بأن حكومته ((تؤيد أي مشروع يوثق الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلدان العربية ويحظى بموافقة جماعية منها))[50] ولم يلبث أن صرح بتصريح آخر بعد فترة من الزمن تاركاً مسألة الشروع بالاتحاد العربي إلى العرب أنفسهم[51].
وفي أعقاب التصريح البريطاني الرسمي بادر نوري السعيد إلى العمل لتحقيق الاتحاد العربي وتبلور نشاطه في المذكرة التي كتبها وعرفت بالكتاب الأزرق، وانطوت على مشروع اتحادي هاشمي عرف بمشروع الهلال الخصيب. وأرسل المذكرة إلى وزير الدولة البريطاني ريتشارد كيسي في القاهرة بتاريخ 14 كانون الثاني 1943م[52].
وبعث كورنواليس بأول تقويم له للمذكرة بعد دراستها فكان تقويمه سلبياً رغم الاشادة بها. فقد وصفها بأنها ((تؤثر في عواطف القراء وتبعد أفكارهم عنها، ولا تأخذ بالمصاعب العملية لتنفيذ مشروعها.. لكنها وثيقة ستكون بالغة الأهمية))[53].
وانزعجت الحكومة البريطانية من مذكرة نوري السعيد لأنه أرسل نسخاً كثيرة منها للخارج، لكنه أكد شخصياً للسفير أنه أرسل تلك النسخ بموافقة الحكومة البريطانية وعلمها[54]. أي أنه لم ينفرد بالتصرف بموقفه لكن الخارجية البريطانية غضبت لأسباب عديدة لعلها تتعلق بالقلق من تزعم العراق ثانية لمساعي الوحدة ومبادراتها، أو بسبب القلق من الاهتمام العراقي بالولايات المتحدة بعد تسلم مندوبين أمريكيين نسخاً من المذكرة، وقد يكون السبب ما سببته المذكرة من ألم وازعاج لعدد من المسؤولين العرب المتعاونين مع الانكليز ومنهم ابن سعود.(/17)
ولكن نوري السعيد لم يترك الفرصة تضيع، فقد اجتمع مع كورنواليس وأبلغه بتطورات مشروعه الوحدوي مشيراً إليه في ذلك الاجتماع إلى أن العراق لا يعمل مطلقاً على إثارة المتاعب للحكومة البريطانية[55]. لكن الخارجية البريطانية أبدت قلقها من المتاعب التي أثارتها المذكرة في أعقاب قيام نوري السعيد بارسال مبحوث شخصي عنه إلى سوريا ولبنان وفلسطين، لاقناع المسؤولين العرب في تلك الأقطار بمشروعه، لكن المبعوث فشل في ذلك حسبما أورد السفير[56]. لذلك فإن نوري السعيد بدأ العمل بنفسه لاقناعهم، واقترح أمام السفير لأول مرة ((فكرة عقد اجتماع عربي وحدوي موسع في القاهرة وليس في بغداد))[57].
كانت تلك أولى المبادرات العملية لاقامة جامعة الدول العربية وأساسها مذكرة نوري السعيد، والذي لم يلبث أن توجه بنفسه إلى القاهرة واجتمع مع رئيس الحكومة المصرية مصطفى النحاس، مكرراً عليه فكرة إقامة وحدة تضم العراق وسوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين.. لكنه اقنع النحاس بعقد مؤتمر عربي تحضيري للوحدة، فيما فشل في مسعاه سواء في عمان أو في الرياض والقدس[58].
وعلى الرغم من استمرار نوري السعيد في تشبثه الواضح بمشروعه فإن الانكليز سعوا إلى إهمال واسقاط المشروع، وزادوا من اهتمامهم بفكرة الاجتماع العربي الموسع والمقترح على النحاس من قبل نوري السعيد، والذي كان مقرراً له أن يضع خطة عمل لقيام نوع من الاتحاد العربي[59]. وهي خطة لم ير فيها السفير خطراً على بريطانيا ؛ فقد كتب إلى أيدن يقول له: "إن قيام اتحاد عربي اليوم ليس وارداً إلا أن الإمكانية المتاحة هي في عقد اتفاقيات ثقافية واقتصادية بين العرب"[60].(/18)
وأدت الجهود العراقية الحثيثة إلى إقناع المسؤولين العرب في أقطار عديدة لعقد مؤتمر في الاسكندرية حيث تم إصدار ميثاق الاسكندرية الذي كان ميثاقاً للجامعة العربية والذي رحب به العراقيون خاصة ووجدوا فيه أملاً في تحرير فلسطين. لكن السفير كورنواليس أبدى قلقه من احتمال التوصل إلى خطة عربية موحدة تعارض أية سياسة أجنبية لن تكون مقبولة للعرب معرباً عن أسفه الشديد ((لأن العراق سيكون له دور رئيس في أية خطة من ذلك القبيل.. وسيكون موقفه مستقيلاً أكثر تشدداً))[61]. وفي ذلك دليل واضح على الأهمية البالغة للعراق وتخوف القوى الغربية أو قلقها من تطوره العقلاني الرصين.
أخيراً فإن من المناسب أن نورد آخر تقرير لكورنواليس وهو عبارة عن مذكرة شمولية كتبها وهو على وشك مغادرة العراق، وفيها نظرة مهمة بل خطيرة حول العراق فيقول: "علينا اعتبار العالم العربي وحدة واحدة لا مجموعة دول متعددة على الخارطة.. وعلينا اعادة التوازن إلى سياستنا في الشرق الأوسط.. وأن إدامة المصالح البريطانية والنفوذ البريطاني هو ما يجب أن نكرس له جهودنا... وإذا تخلينا عن موقفنا المتميز هنا في العراق فإن الفوضى ستعم الشرق الأوسط، خاصة وأن هناك أمماً غيرنا تتلهف لمشاركتنا امتيازاتنا ومسؤولياتنا.. لذلك يجب حفظ الاستقرار في هذه الأرض ذات التراث التاريخي العظيم"[62].
الخاتمة
من خلال ما تقدم يلاحظ اهتمام كورنواليس بمستقبل العراق والوجود البريطاني فيه. واهتمامه الشديد بالأفكار التي يمكن أن تتمخض عنها التطورات السياسية والاجتماعية في العراق. لذلك لم يترك في تقريره جانباً من جوانب التطور في العراق إلا وقدم فيه رأياً، وأعطى عنه موقفاً.(/19)
لقد توضحت من خلال تقارير السفير أيضاً قيمة العراق ومكانته في الشرق الأوسط والوطن العربي على وجه الخصوص، والتي مازالت قائمة حتى اليوم. وهي ما دفعت كورنواليس إلى الاستنتاج بأن مستقبل العراق سيكون قوياً ومؤثراً في الشؤون العربية والدولية. لذلك نجده يطالب بعزل العراق عن الوطن العربي، إلا أن الملاحظ أن كورنواليس لم ينجح في مساعيه وتمنياته وذلك من خلال الأحداث التي جرت في العراق بعد ذلك.
كما يتضح قلق بريطانيا خلال الحرب من احتمالات المستقبل سواء حول نفوذها في العراق، أو بشأن علاقات المنطقة بدول كبرى جديدة. وخاصة بعدما أصبح العراق عنصراً مهماً وخطيراً في أعقاب الغزو الألماني للاتحاد السوفيتي.
ونستنتج أيضاً أن السفير كان راغباً بل عاملاً من أجل دفع العراق نحو الاهتمام بقضاياه الداخلية البحتة، وعدم ممارسته لدوره الفعال والنشط عربياً.
وينبغي على المطلعين والمهتمين بالشؤون العراقية والعربية تسليط الضوء على تاريخنا المعاصر من خلال توجيه الاهتمام بما كتبه السفراء الأجانب، لما تكشفه من جوانب مفيدة لحاضر العراق ومستقبله، ويتطلب ذلك جمع كل ما يمكن جمعه من وثائق أجنبية تخص تاريخ العراق المعاصر.
((رموز وأرقام الوثائق المستخدمة ))
أ – الرموز
F.o. مختصر foreign office.
M. of.s مختصر Minister of state
H.C مختصر High Comnissioner.
ب – الأرقام
E172
E608
E794
E1222
E1382
E1494
E2431
E2936
E4231
E4699
E538
E636
E1143
E1227
E1465
E1615
E2755
E3286
E4391
E4779
E7436
E7723
E7807
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] للتفاصيل عن أحداث نيسان وأيار 1941م يمكن الرجوع إلى: -
عبدالرزاق الحسني: الأسرار الخفية في حركة السنة 1941 التحررية . صيدا 1971 .
اسماعيل ياغي: حركة رشيد عالي الكيلاني، بيروت 1974 .
[2] F.o. 371: E328b. Sirk. Cornwallis to Mr. Eden. 28/ Apr/ 1941.(/20)
[3] F.o. 371: E2431. Confidential, Sirk. Cornwallis to Mr. Eden. 30/ mar/ 1945. p.1
[4] F.o. 371: E2431. Ibid p2.
الدكتور غروبا: من الشخصيات الدبلوماسية الألمانية المرموقة، وقد عمل في فلسطين وأفغانستان وتولى مسؤولية الشعبة الشرقية في وزارة الخارجية الألمانية قبل أن يتولى مهامه الديبلوماسية في العراق وزيراً مفوضاً فسفيراً حتى قطع العلاقات مع ألمانيا بعد نشوب الحرب العالمية الثانية . انظر: الدليل العراقي الرسمي لسنة 1936، محمود درويش والياهو دنكور ص180 بغداد 1937 .
[5] F.o. 371: E4231: Confidential. Sirk. Cornwallis to Mr. Eden.
[6] F.o. 371: E2431: Ibid p2.
[7] F.o. 371: E7723: Top Secret, from Cairo to Baghdad. 31/ Ma/ 194.
[8] F.o. 371: E2431: Ibid. p3.
[9] F.o. 371: E2431: Ibid. p3.
[10] F.o. 371: E2431: Ibid. p3.
منظمة إخوان الحرية: منظمة أسستها المخابرات البريطانية خلال الحرب، لها فروع في عدن ومصر والعراق وفلسطين برئاسة الميجر سكيف، عملها بث الدعاية للحلفاء ومكافحة الدعاية الألمانية . للمزيد انظر: عبدالرحيم ذو النون: جمعية إخوان الحرية في العراق.. بحث مقبول للنشر في مجلة المؤرخ .
[11] F.o. 371: E2431: Ibid. p3.
[12] F.o. 371: E1143: Confidential Sirk. Cornwallis to Mr. Eden. Baghdad 8/ Feb/ 1944.
[13] F.o. 371: E608. Sirk. Cornwallis to Mr. Eden. Baghdad. 9/ Jan/ 1945. P1.
[14] F.o. 371: E4699; British Embassy, Baghdad, 26 Jul/ 1943.
[15] F.o. 371: E608: Ibid. PP 2-3.
[16] F.o. 371: E172: Sirk. Cornwallis to F.o. 6/ Jan/ 1944.
[17] F.o. 371: E172: Ibid.
[18] F.o. 371: E608: Ibid. P3.
[19] F.o. 371: E608: Ibid, P4.
[20] F.o. 371: E608: Ibid, P. 4.
[21]F.o. 371: E2936; Important Secret, Sir k.Cornwallis. to. F.o.8/ jun/ 1942.(/21)
[22] الشيخ محمود البرزنجي: عينه الأتراك حاكماً على السليمانية خلال الحرب العالمية الأولى . ولما احتل الانكليز كركوك عرض خدماته لهم . فتم تعينه حكمداراً للسليمانية أعلن على الحكومة في عهد الملك فيصل الأول . وآخر تمرد له كان في منتصف عام 1941 . انتهى عن طريق المفاوضات . بعدها انتقلت القيادة إلى الملا مصطفى البارزاني . انظر: محمود الدرة: القضية الكردية: ط2 بيروت 1961 .
[23] F.o. 371: E4231; Ibid .
لاشك أن منح الاكراد حكماً ذاتياً كان تطوراً بالغ الأهمية ومعلماً بارزاً بعد عام 1968 .
[24] F.o. 371: E4231: Ibid .
[25] F.o. 371: E608: Ibid. P. 5
[26] F.o. 371: E1494: Sir.K. Cornwallis to Mr.Eden Top Secret. 24/ Feb/ 1944.
[27] F.o. 371: E2431: Ibid. PP 3-5.
[28] F.o. 371: E2431: Ibid. PP 2-3.
[29] F.o. 371: E2431: Ibid. P. 4.
[30] F.o. 371: E2431: Ibid. P. 4.
[31] F.o. 371: E2431: Ibid, P 6.
[32] F.o. 371: E2431: Ibid. P. 6.
[33] F.o. 371: E2431: Ibid. PP 6-8.
[34] F.o. 371: E4779: Sir K. Cornwallis to. F.o. 21 Jan/ 1943.
[35] F.o. 371: E1615: Sir K. Cornwallis to. F.o. 2/ Mar/ 1943.
[36] F.o. 371: E1382: Sirk. Cornwallis to Mr. Eden 8/ Mar/ 1943.
[37] قام كورنواليس بتحذير نوري السعيد من وجود عناصر (لم يذكرها) قد تعمل على إضعاف العراق بتقسيمه أو الضغط عليه . انظر .
F.o. 371: E1465: War Cabinet Distribution, Sirk. Cornwallis to. F.o. 12/ Mar/ 1943.
[38] F.o. 371: E2755: Sirk. Cornwallis to Mr. Eden 26/ Apr/ 1943.
[39] F.o. 371: E1494: Sirk. Cornwallis to. Mr. Eden. Top Secret. 24/ Feb/ 1944.
[40] F.o. 371: E7436: Sirk. Cornwallis to. F.o. 5/ Dec/ 1944.
[41] F.o. 371: E608: Ibid. P. 3.
[42] F.o. 371: E608: Ibid. P. 4.
[43] F.o. 371: E2755: Ibid. P. 3.(/22)
[44] F.o. 371: E608: Ibid. PP 6-7.
[45] F.o. 371: E2755: Ibid. P.3.
[46] F.o. 371: E2755: Ibid. P. 4.
[47] F.o. 371: E1382: Sirk. Cornwallis to Mr. Eden 8/ Mar/ 1943.
[48] F.o. 371: E1494: Ibid. P. 12.
[49] F.o. 371: E2431: Ibid. P. 4.
[50] Hurewitz J: Diplomacy in the Near and Middle East Adocumentary Record. 1914- 1956. V II New york. 1972. P236.
[51] Kimball; L.K.; The Changing Pattern of Political Power in Iraq. New york. 1972. PP. 77- 78.
[52] F.o. 371: E794: from. M. of. S (Cairo) to f.o. 5/ Feb/ 1943.
[53] F.o. 371: E538: Sirk. Cornwallis to. F.o. 22/ Jan/ 1943.
[54] F.o. 371: E636: Sirk. Cornwallis to. F.o. 29/ Jan/ 1943.
[55] F.o. 371: E1222: Sirk. Cornwallis to. F.o. 27/ Feb/ 1943.
[56] F.o. 371: E1227; F.o. To. Sirk. Cornwallis. 3/ Mar/ 1943.
[57] F.o. 371: E1382: Ibid.
[58] F.o. 371: E4391; H.C. for Palestine to. Sirk. Cornwallis, Top Secret, 24/ Jun/ 1943.
[59] F.o. 371: E4699; Sirk. Cornwallis to. F.o. Report 26/ Jul/ 1943.
أشار السفير بعد ذلك بشهور إلى محادثات مفيدة بين الرجلين حول الاتحاد: انظر
F.o. 371: E7807; Sirk. Cornwallis to. F.o. 3/ Dec/ 1943.
[60] F.o. 371: E1494: Ibid. P.1.
[61] F.o. 371: E1494: Ibid. P.2.
[62] F.o. 371: E2431: Ibid. P.3.(/23)
العنوان: العراقيات تحت الاحتلال (1)
رقم المقالة: 115
صاحب المقالة: الرياض : طارق الراشد
-----------------------------------------
المرأة العراقية تستغيث .. فهل من منقذ ؟
بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الغزو الأمريكي للعراق ، ما زالت العراقيات يعشن الموت والفقر كل يوم، قوات الاحتلال تلقي باللائمة على جماعات المقاومة والأخيرة تحمل تلك القوات كل ما حل بالعراق وأهله من خراب ودمار.
تقول أريج السلطان "إعلامية" لقد هيمن جو من الاضطهاد الدموي ضد النساء في شتى أرجاء العراق. فكثير من النساء تعرضن للاختطاف والقتل والاغتصاب.
وفي الجنوب العراقي الذي تسيطر عليه القوات البريطانية، تصر النساء على أن الوضع متدهور لأقصى حد ممكن. وتقول إيمان عزيز وهي محجبة وتعد أول سيدة تتحدث على الملأ عن المخاطر المحدقة بالعراقيات : كثير من النساء يخشون من مجرد الشكوى ، لقد قتلت صديقتي شيدا وأختها حيث تلقين رسائل تهديديه، وذات يوم كن عائدات للبيت بصحبة سيدتين أخريين، فأطلقت النيران عليهن جميعاً ، ثم جاء الدور على السيدتين اللتين كانتا تعملان بتنظيف الملابس بقاعدة قصر البصرة.
إن أكثر النساء يطغى عليهن شعور بالرعب. فالأوضاع أسوأ بكثير بالنسبة للنساء في العراق. وصرحت سجدة حنون العبادي، 37 سنة، التي اعتادت على ارتداء الحجاب، بقولها "إن النساء يتعرضن للاغتيال ولا أحد يبالي!
لم تعد المرأة العراقية تأمل أن تعود هي أو احد أفراد أسرتها إذا خرجوا إلى الشارع. فقوات الاحتلال تطلق النار عشوائيا عند أي إحساس بالخطر وجنود الاحتلال متوترون ومحبطون وهم يرون زملاءهم يسقطون الواحد تلو الآخر لذلك تراهم لا يقيمون وزنا للمدنيين والأبرياء من العراقيين . فكثيرا ما تستهدف تلك القوات عائلة عراقية تستقل سيارتها فتدمرها بمن فيها من نساء وأطفال بحجة الشك في أن السيارة كان يستقلها مقاومون عراقيون .(/1)
ومن ناحية أخرى نجد أن الشرطة عاجزة عن اتخاذ أية خطوات صارمة تجاه هذا العنف ضد العراقيات ، فالمرأة التي تخاطر بالخروج إلى الشارع دون رفقة رجل في هذه الأيام، تعرض نفسها للهجوم أو الاختطاف.
وقدرت بعض الدراسات أن ما يقرب من نسبة 70 بالمائة من نساء بعض المدن العراقية أصبحن أرامل وأن السائر في الشارع يمكنه أن يرى الأرامل يستجدين ليعولن أنفسهن وأبنائهن".
هذا الوضع المأساوي الذي صنعه الاحتلال للمرأة العراقية لا يخدم من يحاول أن يزينه بالحديث عن تمكين المرأة العراقية وتخصيص 25% من المجالس المنتخبة للنساء ولكن العراقيات يقلن : إن هذا مجرد ستار واه.
وثمة شبه إجماع على أن أحوال المرأة العراقية بعد أكثر من ثلاث سنوات على الاحتلال أصبحت أكثر سوءا بعد انهيار الدولة وغياب الأمن وتركيز قوات الاحتلال اهتمامها على قضايا أكثر أهمية بالنسبة لها كمطاردة المقاومين.
كثير من الأصوات التي راحت تحذر من تدهور أحوال المرأة العراقية تحت الاحتلال الأمريكي جاءت من الغرب بل وأمريكا نفسها. وبالتالي لا يمكن اتهامها بالتحامل على أمريكا ،فهاهي هيلاري كلينتون –عضو مجلس الشيوخ وزوجة الرئيس الأمريكي السابق تقول :"وضع المرأة العراقية في عهد نظام الرئيس المخلوع صدام حسين كان أفضل من وضعها الآن ".
أما منظمة هيومان رايتس ووتش الأمريكية (مراقبة حقوق الإنسان) فقد وثقت أحوال المرأة العراقية عبر بحث ميداني استغرق قرابة الشهر وأصدرت تقريرا بعنوان "مناخ من الخوف:النساء والفتيات ضحايا العنف الجنسي والاختطاف في بغداد" ومما جاء في هذا التقرير :تكثر في بغداد أنباء العنف الجنسي واختطاف النساء والفتيات. الكثير من هذه القضايا تمر دون يبلغ عنها أو يحقق فيها احد.(/2)
وحمٌلت المنظمة الولايات المتحدة الأمريكية المسؤولية عن جرائم الخطف والاغتصاب التي تحدث في العراق. وقالت:"ترجع كثير من المشكلات المتعلقة بالتصدي للعنف الجنسي ضد النساء والفتيات واختطافهن إلى عجز قوات التحالف التي تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية وعجز الإدارة المدنية عن توفير الأمن العام في بغداد فنتيجة للفراغ الأمني أصبحت النساء والفتيات نهبا للاختطاف والعنف الجنسي.
لقد أصبح اختطاف النساء والفتيات يمثل رعبا لعائلات العراق لما له من أبعاد نفسية واجتماعية لا تحيط بها قوات الاحتلال ذات الثقافة الغربية والآتية من بلدان تنتشر فيها حوادث الاغتصاب انتشار النار في الهشيم فأقسام الطوارئ في المستشفيات تعالج العديد من حالات الاغتصاب يوميا. الأمر الذي دفع أسراً عراقية كثيرة إلى الإحجام عن إرسال بناتهن إلى المدارس خشية تعرضهن للخطف أو الاغتصاب ، أما من يغامرون بالاستمرار في أعمالهن الوظيفية فإنهن يخرجن جماعات أو يوصلهن ذووهن إلى العمل .
ويبدو أن اعتقال النساء وقتل بعضهن في العراق من قبل قوات الاحتلال جزء من إستراتيجية تتبع فيها تلك القوات خطى تجربة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة يقول أحد جنود الفرقة الأمريكية الأولى مشاة العاملة في شمال العراق : "من أجل جمع المعلومات عن الجماعات التي تقوم بقتل القوات الأمريكية في العراق فان الأمر يستلزم إشاعة الخوف في صفوف القرويين المحليين ".
ويقول قائد كتيبة في المنطقة نفسها :"من خلال بث مزيد من الخوف والعنف وإنفاق الأموال لبناء المشروعات أتصور انه يمكننا إقناع هؤلاء الناس إننا هنا من أجل مساعدتهم".
أصعب من الظلم تسويغه، وأصعب ما تعانيه المرأة العراقية تهوين ماساتها الحالية بالتذكير بماساتها في العهد البائد، وكأنه لا خيار أمامها سوى الموت والقهر والإذلال، سواء على يد صدام سابقا أو الأمريكيين حاليا.(/3)
العنوان: العرب وأثرهم في الأوضاع السياسية والثقافية في (مقديشو) في العصور الوسطى الإسلامية
رقم المقالة: 389
صاحب المقالة: د. غيثان بن علي بن جريس
-----------------------------------------
الشعوب العربية هي أهم الشعوب التي اتصلت بساحل شرق إفريقية منذ القدم، وأبقاها أثراً في تلك البقعة من القارة، وقد ساعد على ذلك عامل القرب الجغرافي ؛ لأن العرب بصفة خاصة هم أقرب الشعوب دون غيرهم من شعوب آسيا، فهم يواجهون ساحل شرق أفريقية مما ساعد على كثرة التردد بين سواحل شبه الجزيرة العربية الجنوبية بصفة خاصة وبين شرق إفريقية كما ساعد نظام الرياح الموسمية في المحيط الهندي على كثرة الهجرات لأن العرب نَظَّمُوا رحلاتِهم وفقاً لنظام الرياح، فكانت لهم رحلتان في العام. وهناك العامل الأساسي الذي دفع العرب لارتياد سواحل شرق إفريقية، كما دفع غيرهم من الشعوب الآسيوية وغيرها وهو الأهمية الاقتصادية لشرق إفريقية وما فيه من سلع وثروات.
ولقد كان لدول عبر الجنوب كدولة ( معين ) من حوالي (1300 – 650 ق.م) ودولة (سبإٍ) (حوالي 950 إلى حوالي 115 ق.م) ثم دولة (حِمْيَر) (115- 525م)، كان لهذه الدول النشاط الكبير في الحركة التجارية البحرية والبرية، كما عملت هذه الدول على تنظيم طرق القوافل وتأمينها داخل الجزيرة العربية. كذلك كان لعرب الحجاز دور كبير في إزدهار التجارة، وقد نوه القرآن الكريم برحلات قريش التجارية، وكان عرب الحجاز قد تمكنوا من السيطرة على ناصية التجارة بعد تدهور أحوال عرب الجنوب منذ القرن السادس الميلادي، وكان من نتيجة هذا النشاط العربي تقدم فنون الملاحة وبراعة العرب في هذا المجال. كما أن البحار الجنوبية صارت مألوفة عند العرب، وقد وصفها الرحالة الجغرافيون أدق وصف، كما وصفوا نشاط العرب البحري والتجاري، ومن هؤلاء ياقوت الحموي وقبله المسعودي.(/1)
تدفقت الهجرات العربية إلى افريقية في العصر الإسلامي لأسباب دينية وسياسية، فضلاً عن العامل الاقتصادي الذي كان مسيطراً على معظم الهجرات. وقد أشارت الروايات أن الصومال عرفت الإسلام منذ ظهوره، ومع ازدهار الإسلام كدين ودولة ازداد النشاط البحري، وتوافدت على سواحل الصومال مجموعات ضخمة من دعاة الإسلام من عرب وفرس وغيرهم، لإنشاء مراكز عربية اسلامية ثابتة لنشر الاسلام والثقافة العربية الاسلامية بين القبائل الإفريقية، في سواحل الصومال الشمالية والجنوبية المطلة على المحيط الهندي، بل استطاع العرب المسلمون التوغل إلى داخل هذه البلاد، لنشر الإسلام واللغة العربية بين قبائل الداخل، وذلك بعد أن قام العرب بتأسيس مدينة (مَقْدِيشو) التي أصبحت مركز انطلاق جنوباً وإلى الداخل كما سيجيء تبيان ذلك.
تتابعت الهجرات العربية لنشر الاسلام في الساحل الإفريقي الشرقي منذ عهد الخلفاء الراشدين، وازدادت أيام الأمويين والعباسيين، ونذكر من هذه الهجرات على سبيل المثال لا الحصر، هجرة الخوارج الذين حاربهم علي بن أبي طالب وهزمهم في موقعة النَّهروان. وهجرات بعض العرب الأمويين الذين أشارت الروايات بأن عبدالملك بن مروان هو الذي أرسلهم إلى تلك الجهات، لتأسيس المراكز الإسلامية. وقد أفاضت الروايات في ذكر هجرات الأمويين إلى الساحل، وأشارت إلى أن عبدالملك عندما تناهى إلى مسامعه أخبار الهجرات العربية إلى إفريقية أرسل أخاه حمزة لنشر الدعوة الاسلامية، ومحاولة مَدّ نفوذ الأمويين في الصومال. وفي رواية أخرى أن ابنه جعفر هاجر إلى شرقي افريقية وحكم في منطقة (كيوايو Kiwayu ) في جنوب مقديشو في أرخبيل (لامو) وتوفي بها.(/2)
وتنسب الروايات تأسيس الإمارات العربية الأولى في شرقي افريقية لعهد عبدالملك بن مروان ورجاله الشاميين، الذين تسميهم الروايات بالشاميين (Mashami) أو (الواشامي Washami) ويظهر أنهم وصلوا إلى شرقي إفريقية في مجموعات صغيرة حوالي 700م أو قبله بقليل. وطبقاً لما ورد في الرواية أن عبدالملك هو العامل الأساسي الذي دفع العرب لتأسيس إمارة عربية في (لامو Lamu) ويذكر (ستانيقند Stigand) أن عبدالملك بن مروان قام بإنشاء امارات عربية على ساحل شرقي افريقية عندما أرسل مهاجرين سوريين عام 77هـ (696م) لمد نفوذ الأمويين هناك وقد نجح هؤلاء المهاجرون في تكوين مدن تطورت وأصبحت إمارات عربية هامة مثل (بيت Pate) أو (باتا Pata) و (مالندى Malindi). و (ممبسه Mombassa) و (زنجبار Zanzibar) ويواصل صاحب كتاب ((أرض الزنج)) (The Land Of Zing) حديثه ويضيف بأن الروايات قد ذكرت أن المراكز التالية أنشأها عبدالملك بن مروان وجعل على كل واحدة منها والياً عربياً يحكمها نيابة عنه وهي كما يلي: (براوه Brawa) (تيولا Tula) (أموي Omui) (كيزمايو Kismayu) (فمبي Vambi) (كوياما Koyama) (شانقا Shanga) (بازا Paza) (بيت Pate) و (لامو Lamu) وما زال اسم عبدالملك بن مروان يذكر في تلك الجهات لدرجة أن السكان قد حرفوا اسمه، فمثلاً ينطقون (عبدالمالك) أو (ابن مرواني) ومرد ذلك ضعف اللغة العربية وظهور اللغة السواحيلية.(/3)
وفي أواخر عهد الدولة الأموية كانت هجرة الزيود عقب مقتل زيد بن علي زين العابدين عام 122هـ (740م) فراراً من اضطهاد بني أمية لهم، وعرف هؤلاء بالزيدية. واستقرت هذه الجماعات – كما أشارت المصادر – في ساحل (بنادر) الصومالي، وحكموا فيه ما يقرب من مئَتَيْ سنة ونشروا الإسلام بين قبائل (بنادر) كما أصلحوا الأراضي، وزرعوا بعض النباتات التي أرفدتهم بثروات طائلة، ودرت عليهم أموالاً هائلة. بل توغل الزيدية إلى داخل الأراضي الصومالية ونشروا الإسلام بين قبائل (أنهار) جوبا و(شبيلي) من بينها قبائل (الجالا) التي اعتنقت الإسلام بحماس كبير، بدليل أن كثيراً من الصوماليين من أفراد هذه القبائل قد أصبحوا فقهاء ووعاظاً واضطلعوا بنشر الإسلام بين القبائل الوثنية.
تأسيس (مقديشو):
إلا أن الذي يهمنا في هذا الجانب هو وصول أكبر الهجرات العربية والإسلامية إلى ساحل الصومال المعروف بساحل (بنادر) وأعني بهذه الهجرة، تلك الهجرة التي حدثت خلال العصر العباسي، والمعروفة بهجرة الإخوة السبعة، فقد هاجرت هذه الجماعة العربية في بداية القرن العاشر في حوالي عام 301هـ (913م) من (الأحساء) عاصمة دولة القرامطة، والإخوة السبعة من قبيلة (الحارث) العربية، جاؤا في ثلاث سفن محملة بالرجال والعتاد الحربي. وقد نما إلى علم هذه الجماعة العربية أخبار الجماعات العربية التي سبقتهم إلى ذلك الساحل، وربما سمعوا عنها من التجار، أو من جنود سعيد الجنَّابي، وقد كان في صفوفهم جند من الزنج والأَرِقَّاء الذين جاءوا إلى الجزيرة العربية والعراق في فترة من الفترات. لذلك قررت هذه الجماعات العربية أن تحذُوَ حَذْوَ الهجرات العربية التي سبقتها، يراودهم الأمل العريض في تكوين وطن جديد، وقد تحقق لهم ما أرادوا بفضل جهودهم.(/4)
استولى الإخوة السبعة على كل سواحل (بنادر) بعد أن قاموا بتأسيس مدينة (مقديشو) التي جعلوها عاصمة لدولتهم الجديدة، فامتد نفوذهم حتى جنوبي (ممبسة) وربما وصلوا إلى جزيرة (مدغشقر). وقد وصف المسعوديُّ هذه الجزيرة، وذكر أن فيها قوماً من المسلمين، غلبوا على هذه الجزيرة، وسبوا من كان من الزنج، كغلبة المسلمين على جزيرة (اقريطش) في البحر الرومي.
لم تمض فترة طويلة على استقرار هذه الجماعات العربية، حتى أصبح كل الساحل سُنِّيًّا على المذهب الشافعي، وذلك بعد أن اصطدم الإخوة السبعة بالزيدية الشيعة الذين اضطروا للانسحاب إلى الداخل. ولا يزال المذهب الشافعي هو السائد في بلاد شرقي افريقية. وقد اكتفى هؤلاء العرب على بسط نفوذهم في المنطقة الساحلية فقط، إذْ أنَّ الداخل لم يكن معروفاً لديهم، إما لأنهم يجهلونه، أو لصعوبة التوغل، فسيطروا على الساحل ريثما يتم لهم كشف مجاهل افريقية المختلفة وكان من نتيجة هذه الهجرة الأخيرة أن بسطت (مقديشو) نفوذها، وساعدت العرب المسلمين على إنشاء مواطن استقرار على طول الساحل الممتد من (مقديشو) في الشمال إلى مدينة (سوفالا) في الجنوب.(/5)
لقد حكم الإخوة السبعة هذا الساحل فترة لا تقل عن السبعين عاماً، وإليهم يرجع الفضل في إنشاء مدينة (مقديشو) – كما سبق القول – فظلت هذه المدينة تتزعم الحركة الإسلامية والْمَدِّ الإسلامي فترة طويلة خلال العصور الإسلامية المختلفة في ذلك الجزء. وفي الوثيقة العربية التي عثر عليها البرتغاليون في مدينة (كلوة Kilwa ) في (تنزانيا حالياً) عام 910هـ (1505م) أمكن معرفة الأخبار الهامة عن مدينة (مقديشو) في القرون الأولى للهجرة، منها أخبار البعثات العربية الإسلامية القادمة من الأحساء على ثلاث سفن بقيادة سبعة إخوة، نزلوا في ساحل الزاهية (بنادر) وقاموا بتأسيس مدينتي (مقديشو) و(براوة) وهاتان المنطقتان من أول المناطق التي وطئتها أقدامهم، وطاب لهم فيهما المقام. وخضع لنفوذهم، في فترة وجيزة كل الشريط الساحلي الممتد من (مقديشو) حتى (ممبسة) لدرجة أنهم وصلوا أماكن لم يصلها العرب من قبلهم، وقد كان الإخوة السبعة من عرب (الأحساء).(/6)
وجاء أيضاً في وصف (دي باروس De Baros ) لـ (مقديشو) أن تأسيسها قد تم على أيدي جماعة عربية من (الأحساء) هم جماعة الإخوة السبعة، وأصبح لها وزنها وكيانها، ولها نظمها. وأصبحت (مقديشو) مركزاً يتجمع فيه كل المسلمين الوافدين إليها من كل جهات الساحل، وهي أول إمارة تحاول بسط سيطرتها ونفوذها التجاري على طول الساحل جنوباً حتى (سوفالا) وتذكر الرواية كذلك بأن تاريخ تأسيس (مقديشو) ربما كان في عام 301هـ (913م). وتضيف الرواية أن علي بن حسن الشيرازي مؤسس سلطنة الزنج الإسلامية في (كلوة) عام 975/ 976م قد مر بـ (مقديشو) فعلاً، إلا أن المقام لم يطب له فيها، لوجود جاليات عربية متعددة، فواصل زحفه حتى وصل إلى جزيرة (كلوة) حيث أسس له دولة إسلامية هناك، كان العنصر الفارسي فيها هو دعامتها وسندها، ويذكر أيضاً أن بعض المهاجرين العرب قد هاجروا من (عُمَان) إلى ساحل إفريقية الشرقي وأن قبيلة (الحارث) من (عُمَان) ادعت تأسيس مراكز لها في (مقديشو) و(براوة).
ومهما يكن من أمر فإن مدينة (مقديشو) أسسها جماعة الإخوة السبعة من قبيلة (الحارث) العربية من (الأحساء) في الطرف الغربي للخليج العربي، وقد وصلوها في عام 301هـ (913م) وذكر ياقوت أن (مقديشو) مدينة في أول بلاد الزنج في جنوب اليمن في بر البربر في وسط بلادهم.(/7)
ويقول أبو الفِدَاء: إن (مقديشو) تطل على بحر الهند وأهلها مسلمون، ولها نيل عظيم يشبه نيل مصر في زيادته في الصيف. وقد ذكر أنه يخرج شقيقاً لنيل مصر من بحيرة (كورا) ويصب بالقرب من (مقديشو) في بحر الهند. و(مقديشو) مدينة كبيرة بين الزنج والحبشة، قال ابن سعيد عن (مقديشو): ومن شرقي (خافوني) بالنون في الآخر المشهور على البحر مدينة (مركة) وأهلها مسلمون وهي قاعدة (الهاوية) التي تزيد على خمسين قرية، وهي على شطي نهر يخرج من نيل (مقديشو) ويصب على مرحلتين من المدينة في شرقيها، ومنه فرع يكون خوراً لـ (مركة). وفي شرقي ذلك مدينة الإسلام المشهورة في ذلك الصقع المترددة في ألسنة المسافرين وهي (مقديشو).
وموقع (مقديشو) من أصلح مواقع الساحل لرسو السفن. وقد عرفه المصريون القدماء، وأهل بابل وآشور. والفينيقيون والرومان، وكان يعرف عند الإغريق منذ ألفي عام باسم (سيرابيون Serabion) وعرف في العصور الوسطى باسم (حمر Hamer) وقد أتاح لها هذا الموقع القريب من خليج (عَدَن) التحكم في مدخل البحر الأحمر إلى حد كبير، والسيطرة على الحركة التجارية في المحيط الهندي. فكانت ترد لهذه النقطة سفن الجزيرة لعربية محملة بأنواع المنتجات والسلع، وتأتي سفن الهند وغيرها من بلدان آسيا عبر المحيط الهندي، وتنقل هذه المنتجات إلى الحبشة وعبر البحر الأحمر إلى مصر شمالاً وجنوباً حتى (سوفالا).(/8)
وتتضارب الآراء نحو تفسير اسم المدينة (مقديشو)، فمن قائل أنها من كلمتين عربية وفارسية وهما (مقعد + شاه)، إشارة إلى المكان المفضل الذي اتخذه الحاكم مقراً لحكمه، ونطق الكلمتين معاً. أو نسبة للمكان الذي اتخذه الشيخ مكاناً لجلوسه (مقعد الشيخ) والبعض يقول: إن كلمة (مقديشو) معناها المكان الذي تتجمع فيه الأغنام للبيع وعبر عنها الرحالة الغربيون بأسماء مختلفة مثل: (موجوديشيو Mougidshu) و (موجود سكوا Mougoudiskua) و (موجاديشوا Mougadishu) و (مقدشيكو Makdishiku) و (مقديكسو Magdiksu) أو (مجدكسو Magdiksu)، وكل حسب نطقه.
أما عن أقسام المدينة وأحيائها، فقد كانت (مقديشو) في بداية نشأتها تتكون من ضاحيتين أساسيتين هما ضاحية (حمروين) وضاحية (شنفاني) وكانت ضاحية (حمروين) تمتد على طول الساحل من (كران) إلى ساحل حمر، أي المكان المعروف باسم (حمر جب) أما ضاحية (شنفاني) فهي مشتقة من اسم حي كان في (نيسابور) ببلاد فارس، وقد سميت بهذا الاسم تخليداً لذكرى أهل (نيسابور) القاطنين في (مقديشو). وكلمة (حمروين)، مركبة من كلمتين عربية وصومالية: فـ (حمر) معناها ذهب، وكلمة (وين) معناها بالصومالية كثير أو كبير.
شكل الحكومة:
واجهت جماعة الإخوة السبعة العربية في بداية أمرهم على الساحل بعض الصعوبات أهمها أن الزيدية الشيعة الذين كانوا قد سبقوهم، واستولوا على أجزاء من ساحل (بنادر) واستوطنوا حول أرخبيل (لامو) قد بدأوا في نشر مبادئهم وأفكارهم، ولا سيما وأنهم كانوا من الشيعة المتعصبين لهذا المذهب، بينما كان الإخوة السبعة على المذهب السني الشافعي. وقد دافع الزيود عن عقيدتهم دفاع المستميت، وحاربوا جماعة الإخوة السبعة بكل ضراوة إلا أنهم غُلِبوا على أمرهم في النهاية وهُزموا أمام الإخوة السبعة أخيراً عام 330هـ (948م).(/9)
وبعد أن تغلب الإخوة السبعة على الصعاب التي واجهتهم في بداية أمرهم، بدأوا في وضع الأسس والتشريعات المختلفة التي تكفل لهم الاستقرار والحياة الكريمة. فتكون مجلس من كبار العرب، وأعضاؤه اثنا عشر شخصاً، يرأسهم شيخ لا يحمل لقب سلطان أو ملك، ويسمى هذا المجلس باسم (مجلس المدينة) وكان هذا النظام أفضل نظام طبقه العرب المسلمون في ساحل (بنادر) في العصور الوسطى، ويتمتع هذا المجلس بكل السلطات، وله حق النظر في القضايا المدنية والجنائية وفض المنازعات. وكان بجانب هذا المجلس مجالس فرعية في كل حي من أحياء المدينة، وهي في شكل طائفة تخضع لشيخها الذي يتولى أمرها، ويقوم بإكرام الغرباء، وقضاء حاجاتهم.
وباتساع المدينة حدث ترابط بين السكان العرب والصوماليين، وبموجب اتفاقية أُبرمت في القرن العاشر بين العرب والفرس من جهة، والقبائل الصومالية من جهة أخرى، تكون اتحاد على صورة مجلس من الأشراف، وأعيان القبائل للنظر في أمور البلاد. والقبائل التي تكون منها ذلك الاتحاد كانت نحو تسع وثلاثين مجموعة وهي مجموعة قبائل عربية وفارسية وافريقية تفاصيلها كالآتي:
اثنتا عشرة عشيرة من قبيلة (مكري Mukri) واثنتا عشرة من قبيلة (جيداتي Djidati) وستة من (أكابي) وستة من (الإسماعيلي) وثلاثة من (عفيفي Afifi).
كان اختصاص هذا المجلس هو حفظ الأمن، وتطبيق العدالة بين الجماعات، ووضع حَدٍّ لهجمات بعض القبائل الرعوية الصومالية على التجار من العرب والفرس، وبالتالي لمواجهة غزاة آخرين كانوا يأتون من البحر. وتم هذا الاتحاد بعد أن أصبحت (مقديشو) عاصمة لساحل بنادر الذي ضم هذه المشيخة وإماراتها التابعة لها مثل مركة وبراوة التي سيجيء تفصيلهما، هذا بالإضافة إلى الأراضي المحيطة بهم، وكان يطلق على جميع هذه الأراضي (مقاديش). وعرف أحياناً سكان هذه الجهات باسم سكان بنادر وبضائعهم باسم بضائع بنادر.(/10)
لقد استمر مجلس هذه المشيخة والممثل في سلطة الشورى بين العرب والفرس والصوماليين نحو أكثر من مئتي عام على ذلك النحو، حتى انتخب أبو بكر فخر الدين عام 1100م حاكماً على جميع أراضي هذه البلاد، وهو من سلالة الأخوة السبعة بتعضيد من قبيلة بني قحطان العربية التي أصبحت لها النفوذ والسيادة، وبذلك أصبح إعلان سلطنة أبي بكر فخر الدين الوراثية نهاية لعهد الإدارة الفيدرالية والمتمثل في مجلس المدينة الذي سبقت الإشارة إليه. وفي عهد أبي بكر فخر الدين احتفظت قبائل قحطان ومكري بنفوذها ومكانتها الدينية الممتازة ؛ لأن قاضي الوحدة قبل قيام السلطنة التي أسسها أبو بكر فخر الدين كان من بين أبناء هاتين القبيلتين. وبفضل قبائل قحطان ومكري استطاع أبو بكر فخر الدين أن يقيم سلطنة وراثية في (مقديشو) كما أقر السلطان أبو بكر قبائل مكري على امتيازاتها. وقد استمر حكم أبي بكر فخر الدين سبعة عشر عاماً حتى توفي عام 1117م.
إمارات المشيخة:
كان امتداد (مقديشو) واتساعها قد غطى على جميع أجزاء الساحل المعروف بساحل الزاهية (بنادر) وذكرت الوثيقة أن سكان مقديشو أول من وصل إلى بلاد (سفالة) في (موزمبيق) وأن سفنهم كانت تتردد على بلاد سفالة (سوفالة Sofala) لاكتشاف مناجم الذهب الموجودة في تلك الجهات واستغلالها. وأشارت الوثيقة أيضاً إلى هجرات قوامها من الفرس المسلمين جاءت إلى (مقديشو) حاملة معها معالم حضارة فارس.(/11)
أما أكبر الإمارات التي خضعت لسيادة (مقديشو) وسيطرتها فهي مركة Maraka التي خضعت لسيطرة الإخوة السبعة ونفوذهم منذ الوهلة الأولى. ومركة من مجموعة المدن العربية التي نسب تأسيسها ستايقند stigand إلى عبدالملك بن مروان. حتى إذا جاء الأخوة السبعة إلى الساحل جعلوها من أكبر مدنهم السياسية. وحتى يومنا هذا توجد طوائف في مركة تدعي انتماءها إلى الاخوة السبعة. ويقول أبو الفدا عن ابن سعيد أن مركة أهلها مسلمون. ومن الواضح أن سكان مركة اعتنقوا الإسلام بالقرب من (حافون).
ومما يذكر أن جماعة الإخوة السبعة أتوا في مراكب شراعية، ورسوا في ساحل (مركة) وشيدوا لهم مسجداً صار فيما بعد مركزاً لكثير من الأُسر الصومالية. وتتابعت هجرات العرب لتلك الجهة، حتى أن الكثير من الأسر الموجودة حالياً تدعي نسبها إلى الجماعات الأولى التي جاءت إلى (مركة) من بلاد العرب، كما هو الحال عند كثير من الأسر في الوقت الحالي في كل من (براوة) و (مقديشو). ومن المحتمل أن مدينة (مركة) قامت كمركز تجاري يقع على الطريق بين شمال وجنوب الصومال، وأن سكانها كانوا في بداية الأمر من العرب ثم صارت تمتليءُ بالعنصر الصومالي في كل مكان.
وتتمتع مدينة (مركة) الجميلة النشيطة بمركز ممتاز لموقعها الجغرافي، وكثرة خيراتها. وفي الوقت نفسه تقع على الطريق البحري التقليدي بين زنجبار وبلاد العرب. وقد حققت (مركة) مكاسب كثيرة للإسلام في شرقي افريقية، بالإضافة إلى المساهمة الفعالة في نشر الدعوة الإسلامية على طول الساحل الصومالي وفي الأقاليم الداخلية.(/12)
أما إمارة (براوة Brawa) فهي إمارة عربية خضعت لحكم الإخوة السبعة وجماعتهم من بعدهم. وأجمعت بعض الروايات أن الذين أسسوا (براوة) هم جماعة عبدالملك بن مروان من السوريين المهاجرين، ثم جاء الإخوة السبعة من بعد ذلك وأضافوا عليها فنونهم، ثم توسعت المدينة في عهدهم، فانتشر العمران واتسع البناء. و (براوة) تقع في شمال نهر (جوبا) وجنوبي (مركة). وهذه الإمارة لم يذكرها أحد من جغرافي العرب أو رحالتهم، وهي مدينة هامة كانت تعتمد عليها (مقديشو) في أنها تلعب دور الوسيط بينها وبين الإمارات العربية في جنوبها.(/13)
وتنقسم مدينة (براوة) إلى عدد من الأحياء هي: بغداد، البمبا، بيروني، سابي، وبلوبازي، وأكثر منازلها من الحجارة البيضاء، ومن طابق إلى ثلاثة أحياناً، ومياهها عذبة. وفي مسجد (براوة) نقش يتضمن تاريخاً يرجع إلى القرن التاسع الهجري. ويقال: إن أول من سكنها رجل من قبيلة قرة يدعى (أو على) وصلها حوالي عام 900م، وكانت (براوة) في ذلك الوقت منطقة موحشة غابية لا تسكنها إلا الوحوش الضارية، غير أن (أو على) أعجب بطيب هوائها على ساحل البحر، فاستعان بالمواطنين الأوائل في قطع شجارها وأعشابها، وأقام بها عدداً من المساكن أطلق عليها (براوة بن أو على). ويقال: إن هذا الاسم كان يطلق على ملك (الجالا براوات) وهناك رواية أخرى تشير إلى أن بعض أفراد قبيلة حاتم الطائي في الجزيرة العربية قد استوطنت (براوة) في فترة من الفترات، وقد وصلت إليها عام 900م، وقد ازداد سكان المدينة بوصول جماعات أخرى، منها جماعات صومالية مسلمة، عرفت باسم (التن) من سكان الساحل، وعمروا المساجد، وأقاموا كثيراً منها في الداخل. ثم توافدت عليهم جماعات (وردان) أي (الجالا) وقد قدموا مع ملكهم (براوات) وأقام (الجالا ) جنباً إلى جنب مع المسلمين نحو ثلاث مئة عام. وكان بالقرب من (براوة) جماعة (الأجوران) وهي قبائل زنجية التي امتد نفوذها على بعض أجزاء (براوة) فأعلن (التن) الحرب عليهم، وكان لـ (التن) الانتصار على (الأجوران) وانتهت المفاوضات بينهما على أن يبقى (الأجوران) في الجانب الشرقي، ويحتل (التن) الجانب الغربي له، كما تعاهدوا فيما بينهم على ألا يدخل البلاد غير الحيوانات، وما عدا ذلك فكل قادم مصيره القتل. إلا أن تلك الاتفاقية لم يكتب لها الدوام كثيراً، إذ وصلت جماعة من (الحمرانيين) الصوماليين على سفن إلى (براوة) وسكنوا مع (التن) في سلام ومحبة.
اضمحلال سلطنة (مقديشو):(/14)
منذ نهاية القرن العاشر بدأت مشيخة (مقديشو) في التدهور والانحلال، نتيجة الانقسام الداخلي في حكومتها المركزية، هذا بجانب ضعف الروح العسكرية، وتفكك القوات، حتى إذا جاء (الشيرازيون) الفرس إلى الساحل لم يجدوا سوى قوة عسكرية ضعيفة، ومشيخة تمزقها الخلافات، فضلاً عن عدم اتحاد إمارات المشيخة ووقوفها قوة واحدة ضد، (الشيرازيين) الفرس الذي وصلوا إلى (مقديشو) و (مركة) و (براوة) تحت زعامة علي بن حسن الشيرازي، وتمكنوا من الاستيلاء على هذه الإمارات بسهولة ويسر، ثم واصلوا زحفهم جنوباً إلى (كلوة) حيث أسسوا سلطنة الزنج الإسلامية، إلا أن (الشيرازيين) الفرس ابقوا على كل النظم الموجودة في تلك البلاد التي استولوا عليها، دون تغيير، واكتفوا بوضع حاميات عسكرية قوية، وفرضوا على تلك المدن الجزية التي تدفع سنوياً، ولم يقدر للشيرازيين الفرس البقاء في (مقديشو) و (مركة) و (براوة) بل زحفوا جنوباً، وذلك لأن تلك المناطق التي تركوها لم تكن صالحة لاستقرارهم، إذ أن الأمطار لم تكن غزيرة فأبحروا جنوباً إلى (كلوة) وأسسوها.
وفي القرن الرابع عشر جاءت أسرة (المظفر) وهي من قبيلة (بني نبهان) العربية، الذين كانوا يحكمون في (عُمَان) وعاصمتها (مَسْقَط) وقد أصابها الاضمحلال والتفكك، وذلك عندما قامت بعض القبائل العربية الأخرى بطردها عن حكم (مسقط) فأدَّى ذلك إلى فرار سليمان بن المظفر إلى ساحل شرقي إفريقية، حيث أسس إمارة عربية في (بيت Pate) عام 601هـ (1203م)، واستطاعت هذه الإمارة أن تبسط سيطرتها على (مقديشو) حوالي 740هـ (1331م) وأَنْ تخلف أسرة فخر الدين التي خضعت لسلطان الشيرازيين منذ عام 976م. وكان الرحالة ابن بطوطة قد زار (مقديشو) في عام 1330م/ 1331م وذلك في أثناء حكم أبي بكر بن الشيخ عمر بن المظفر، وذكر وصفاً ضافياً لأحوال (مقديشو) الاجتماعية.(/15)
وفي عهد هذا الشيخ بلغت (مقديشو) ذروة مجدها في القرن الرابع عشر الميلادي، ووصفها ابن بطوطة بأنها متناهية في الكبر، ولها صلات اقتصادية وثيقة مع مصر، وقد ظلت (مقديشو) أقوى مدن الساحل فترة من الزمن، وذكرت في حوليات (الصين) ولاسيما في عهد أسرة (منج Ming) وتجارتها مع (الصين) رائجة. ولاحظ (فاسكو داجاما) أنها مدينة عظيمة. وفي عهد السلطان أبي بكر ابن عمر انتظمت أمور البلاد، وعم الرخاء، وامتد نفوذ (مقديشو) التجاري الذي كان يضم (مركة) و (براوة) كذلك حتى (سوفالا) في أقصى جنوب الساحل.
لما وصل البرتغاليون إلى الساحل الشرقي لإفريقيا، وتأكد لـ (داجاما) أهمية هذا الساحل، بدأوا في توجيه ضرباتهم إلى المدن العربية والإسلامية على طول هذا الساحل، فاستولوا على (كلوة) عاصمة سلطنة الزنج، ثم واصلوا زحفهم شمالاً حتى وصلوا إلى (مقديشو) التي تعرضت لضربات البرتغاليين. ذلك أن البرتغاليين عندما وصلوا إلى (مقديشو) عام 1498م وجهوا نيران مدافعهم نحو هذه المدينة، وذلك في أيام الشيخ فخر الدين حاكم (مقديشو) إلا أن البرتغاليين لم ينجحوا في الاستيلاء عليها بفضل حصونها المنيعة، ومقاومتها العنيدة الباسلة، مما جعل البرتغاليين ينصرفون عنها بسرعة.(/16)
لقد كانت الأحوال في (مقديشو) تختلف عن غيرها من إمارات الساحل، فقد قاومت جميع المحاولات التي بذلها البرتغاليون لإخضاعها، ولاسيما حينما حاول البرتغال في عام 1507م غزو (مقديشو) بكل ما لديها من قوة وإمكانيات. إلا أن (مقديشو) قاومت كل محاولات البرتغاليين اليائسة بفضل وجود العنصر العربي، الذي ساعد على المقاومة، بالإضافة إلى أنها تمتعت بمناعة أسوارها وحصونها، واشتهرت بثروتها الضخمة وكثرة عدد سكانها، فلذا كانت مركزاً للمقاومة طيلة المئتي سنة التي قضاها البرتغاليون في هذا الساحل. وفي المرات القليلة التي حاول فيها (البرتغاليون) ضرب مينائها بالمدافع والنزول بها، صمدت هذه المدينة الباسلة، وكان دفاعها قوياً وصامداً. وذكرت المصادر البرتغالية بأن (مقديشو) من أقوى إمارات الساحل، وتدعمها قوات ضخمة من الفرسان، لذلك كانت (مقديشو) هي المشيخة الوحيدة التي لم يستطع (البرتغاليون) إخضاعها، بل كانت تناصبهم العداء طوال مدة إقامتهم على الساحل. وكان شيوخ (مقديشو) ورؤساء القبائل فيها قد بعثوا برسائل منهم إلى سلطان (عُمَان) صاحب أقوى بحرية في مياه البحار الشرقية يطلبون منه حق الإسلام والجوار، وذلك عندما تزايد الضغط البرتغالي على (مقديشو) فكانت استجابة سلطان (عُمان) سريعة وحازمة. إذ قدمت قوة بحرية عمانية بقيادة الأمير سالم الصارمي عام 1067هـ (1640م) لمعاونة إخوانهم مسلمي (مقديشو) وملحقاتها، وإبعاد النصارى (البرتغاليين) عن تلك السواحل. فكان الانتصار لقوى المسلمين، والهزيمة للقوى البرتغالية، وقام أهل (مقديشو) بتنصيب الأمير سالم الصارمي سلطاناً على (مقديشو) وملحقاتها فترة من الزمن لتنظيم أمورها. وقد ارتبطت سلطنة (مقديشو) منذ ذلك التاريخ بسلطنة عُمَان اقتصادياً وسياسياً وحربياً، كما كان لأئمة مسقط وسلاطينها نفوذ في منطقة (بنادر) وعاصمتها مقديشو حتى مطلع القرن الثامن عشر.(/17)
معالم الحضارة والثقافة الإسلامية في (مقديشو):
كانت القبائل العربية التي هاجرت إلى (مقديشو) تحمل معها دينها ولغتها، وكانوا يختلطون بالسكان، وينقلون إلى لغات هذه البلاد الكثير من كلماتهم، خصوصاً ما كان منها متعلقاً بأمور الدين. وقد ظلت اللغة العربية هي لغة التسجيل والتدوين والمراسلات في العهود والاتفاقيات وغير ذلك سواء في الساحل أو مع الدول الخارجية.
ومنذ فجر التاريخ والقلم العربي هو القلم المعروف في الساحل دون غيره، والمعروف أن أسس الثقافة هي طريقة التعبير إلى اللغة، واللغة العربية اختلطت بلهجات قبائل الساحل الافريقية عشرات القرون، وتوالد عنها لغة جديدة هي اللغة السواحيلية، كما أصبح الدين الإسلاميَّ أساس التشريع والقضاء ومصدر القيم الروحية.
وحظيت علوم الدين بنصيب وافر من العناية والخدمة في الصومال و (أثيوبيا) وقد عني أهلها بكتاب الله حفظاً وتجويداً وتفسيراً، فقد كان حظهم من هذه العلوم كبيراً كما كان نصيب اللغة العربية جزيلاً ووافراً، وازدهرت العربية وعلومها على أيديهم، وتركت أثرها القويَّ في الساحل الصومالي وخاصة حول (لامو) وصارت (براوة) بالقرب من (مقديشو) كجزيرة عربية كعبة المعرفة، ويأتي إليها طلاب العلم من الأماكن النائية لشهرة علمائها وتفوقهم في الدين. وقد حملت مساجدها أسماء الخلفاء عمر وعثمان وعلي، وانتشر بها شيوخ الصوفية ومنها القادرية والإدريسية والزيلعية والأحمدية. ومن ثم اعتبرت (براوة) كعبة المعرفة والهداية في ساحل (بنادر) وأجزاء الساحل الأخرى، وأصبح في (براوة) وحدها أكثر من خمسة وعشرين مسجداً عدا الزوايا فعددها كبير.(/18)
لقد نفخ المسلمون في سكان الصومال حُبَّ الأدب وفنون الشعر، وخرج منهم شعراء وخطباء مفوهون، وأصبح لهم أدب يعتزون به، وبرز كثير من العلماء والشعراء والأدباء باللسان العربي كالفقيه البليغ فخر الدين أبي عثمان بن علي بن محمد البارعي الزيلعي، الذي قدم القاهرة من (مقديشو) في القرن الرابع عشر، ونشر الفقه فيها ومات بها، وله كتاب سماه ((تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق)) ومن المؤرخين الصوماليين باللسان العربي شهاب الدين الملقب بعرب فقيه وله كتاب ((فتوح الحبشة)) ومن الأدباء البارزين عبدالله منير الزيلعي.
أما عن أشهر دعاة الإسلام في (مقديشو) خلال فترة العصور الوسطى حتى نهاية القرن الثامن عشر فنذكر منهم على سبيل المثال، الشيخ أبادير، الذي تذكر عنه حوليات (مقديشو) أنه جاء من الجزيرة العربية في خلال القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) واستقر في مملكة عدل (زيلع) ثم دخل (هرر) التي أصبحت بفضل جهوده قاعدة إسلامية لنشر الدعوة في الصومال، و (أثيوبيا) ويذكر ابن حوقل أنَّ أهالي (زيلع) كانوا مسيحيين، في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي، ولكن أبا الفداء يذكر أنهم كانوا مسلمين في القرن الرابع عشر، وقد يكون هذا التحول إلى الإسلام بفضل الشيخ أبادير الذي بشّر بالإسلام، ودعا إليه بين أهل (زيلع) في القرن العاشر.
ومن دعاة الإسلام كذلك أربعة وأربعون شيخاً وفدوا من (حضرموت) إلى (مقديشو) و (براوة) و (مركة) لنشر الدعوة الإسلامية، فنزلوا أول مرة في مدينة (بربرة) على ساحل الصومال الشمالي، واستقروا بها فترة قصيرة، ثم نزلوا جنوباً إلى (مقديشو) و (براوة) ثم انتشروا في البلاد. واستطاع أحدهم وهو الشيخ الوقور إبراهيم أبو زرباي أَنْ يسلك طريقه إلى مدينة (هرر) حوالي عام 1430 حيث قام بنشر الدعوة وإنشاء المساجد، وما زال قبره معظماً في المدينة إلى يومنا هذا.(/19)
أما أشهر الدعاة الصوماليين وأبرزهم فهو المجاهد الكبير أحمد بن إبراهيم الجران (أو أحمد بن جرا الملقب بالأشول أو الأعسر). الذي ظهر في القرن السادس عشر، وأحدث تحولاً كبيراً في نشر الدعوة الإسلامية، واتسم جهاده بالبطولة والفدائية. فقد قام هذا المجاهد الكبير بتحرير الأراضي الصومالية من نفوذ النصارى الأحباش، فانطلق من (مقديشو) وجعل منها قاعدة ليبدأ منها الجهاد في سبيل الله. وبذل أحمد بن جرا جهوداً جبارة من أجل توحيد الجبهة الإسلامية والقيام بغزوات على التجمعات المسيحية، والمقاطعات الحبشية، التي تقوم بغزو أراضي المسلمين في الصومال، بزعامة بطارقتها، بل استطاع الصوماليون بقيادة هذا المجاهد الكبير أن يصلوا إلى أبواب العاصمة الحبشية، بل وتمكنوا بقيادته أن يضموا بلاداً جديدة داخل الحبشة المسيحية دخلت في الإسلام، وتحمست له. لذلك يعتبر الإمام أحمد بن جرا علماً من أعلام المسلمين في بلاد إفريقية الشرقية، ومجاهداً كبيراً في نشر الدعوة والثقافة الإسلامية.
استمر الدعاة يتدفقون على بلاد الصومال إلى زمن قريب ففي عام 1830 وفدت جماعات من الوهابيين النجديين من الجزيرة العربية، واستقروا في بلدة (بارديرا) وقاموا بتنظيم دعاية قوية للإسلام كان لها النجاح في حالات كثيرة. ومن المجاهدين الصوماليين، الذين ظهروا خلال القرن التاسع عشر، وحارب المبشرين، ودعا إلى الكفاح المقدس تحت راية الإسلام، ووحد كلمة المسلمين في الجهاد. وبالطبع يضاف إلى هذه الأدوار، دور الطرق الصوفية التي قامت بنشر الدعوة الإسلامية، وتفسير تعاليم الإسلام، بالإضافة إلى محاربة البدع، والعمل على جعل المسلمين إخوة متحابين في الله.(/20)
توالت الهجرات الإسلامية ودعاة الإسلام خلال عصور التاريخ الإسلامي المختلفة فخرج كثير من الصوماليين والأثيوبيين لطلب العلم، فخرجوا من (مقديشو) و (براوة) وغيرهما لطلب العلوم الدينية في مكة والمدينة المنورة والقيروان وفاس وطرابلس والقاهرة وصنعاء. وإذا ما تحصلوا على علومهم ومعارفهم في أحوال المسلمين، وتعاليم الإسلام، عادوا إلى بلادهم كدعاة للإسلام. وعلى ذلك ازدهرت بهم مراكز الثقافة الإسلامية في هذه البلاد الإفريقية، ونهضت بدور فعال في نشر الثقافة والدعوة الإسلامية.
وكان لابد أن تتطور مراكز الدعوة الإسلامية مع مرور الزمن، وأن تزداد الهجرات العربية الإسلامية من ناحية، ويزداد نشاط الدعاة في الصومال و (أثيوبيا) من ناحية أخرى، فهو عمل مشترك بين القادم الداعي وبين المستقر الموجهة إليه الدعوة، فتحولت المدن الصغيرة إلى مدن زاهرة تمثل حلقة تمتد من (مقديشو) و (براوة) و (مركة) وهرر إلى (أوفات) وبقية الإمارات الإسلامية (دول الطراز الإسلامي) في الحبشة. ويمكن معرفة مدى انتشار الإسلام وتلاقي هذه المراكز في توحيد الجبهة الصومالية الإسلامية حتى أصبحت الصومال دولة إسلامية خالصة. وبالإضافة إلى المراكز الإسلامية الكبرى المشار إليها، والتي نهضت بدور كبير في حمل الثقافة والتراث الإسلامي ونقله إلى جهات مختلفة في الساحل ثم إلى الداخل الإفريقي، وكان أثر (مقديشو) فيها بارزاً. وظهرت مراكز إسلامية أخرى تأثرت بالنهضة الثقافية في (مقديشو) وملحقاتها، واسهمت هذه المراكز بدور كبير في الدعوة إلى الإسلام ونشر الثقافة الإسلامية، ومن أهم هذه المراكز: (حافون) و (وار شيخ) و (عظلة) و (كسمايو) و (بارديرا) و (لوخ) و (بيدوة) و (بربرة).(/21)
والجدير بالذكر أن العرب نقلوا إلى هذه البلاد بالإضافة إلى ثقافتهم وتراثهم فإنهم نقلوا أيضاً نظام الشورى الإسلامي، وكانوا في بداية أمرهم أقرب بذلك إلى نهج الخلفاء الراشدين. ففي (مقديشو) أدخلوا نظام الشياخة كما سبق القول، وهو نظام عربي قديم يعتمد على عراقة النسب والكرم والشجاعة والمروءة. وهذا النظام نقله الإخوة السبعة الذين أسسوا (مقديشو) لذلك أصبح الحكم في أيام الإخوة السبعة يعتمد على الشورى. وكان أساس الانتخاب لمنصب الشيخ هو السن والفضائل. يقول ياقوت عن سكان (مقديشو): إنما يدبر أمورهم المتقدمون منهم. وفي موضع آخر يقول: وهم مسلمون لا سلطان عليهم، لكل طائفة شيخ يأتمرون له. وبجانب منصب السلطان والشيخ في (مقديشو) فقد وجدت مناصب أخرى رفيعة تلي الشيخ والسلطان من حيث الأهمية. فكان الوزير على رأس الأمراء والأعيان. وكان القاضي في (مقديشو) شخصية هامة وتلي الشيخ والوزير من حيث الأهمية والاختصاص، وكثيراً ما تولى القاضي بنفسه وظيفة الحسبة التي انتشرت انتشاراً واسعاً على طول هذا الساحل. وكانت مهمة المحتسب كما هو معروف الإشراف على الأسواق ومراقبة المكاييل والموازين ومعاقبة من يَخلُّ بالأمن، وهؤلاء جميعهم وعلى رأسهم الشيخ أو السلطان في (مقديشو) وغيرها تحيط بهم هالة من التقديس تظهر بجلاء في المناسبات الدينية. كما تحيط بهم كذلك مجموعة من الوزراء والأمراء بجانب ذكر اسم الشيخ في خطبة الجمعة.(/22)
في ضَوْء ما تقدم يتضح لنا أن سواحل إفريقية الشرقيةَ وعلى الأخص منها ساحل (بنادر) – ساحل الصومال الحالي – قد كانت وما زالت جزءاً هاماً من دار الإسلام، متميزاً في إطارها نابضاً بكل ما نبضت به الحضارة الإسلامية أثناء العصور الوسطى من ألوان الحياة الفكرية والعلمية، ونظمها السياسية والاجتماعية، وإبداعاتها الأدبية والفنية، متفاعلة معطياتها في كل تلك الأبواب مع معطيات رفقائها من الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية. وتمتعت هذه البلاد بحضارة إسلامية راقية، ونظام إسلامي للحكم سليم، لأنها كانت قريبة من ينبوع الحضارة والثقافة، وعلى صلة وثيقة بموطن أرقى الحضارات الإنسانية وهي الحضارة الإسلامية.(/23)
العنوان: العربية بين ماض زاهر...وحاضر عاثر
رقم المقالة: 135
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
مكانة العربية قديما:ً
غَبَرَ على الناس زمانٌ كانت العربية فيه تحتلُّ المكانةَ الأولى بين العلوم عند الكثرة الكاثرة منهم، فقد كان طالب العلم يبدأ رحلته العلمية بمعرفة علوم العربية المختلفة ـ من نحو وصرف وبلاغة وعروض ـ معرفةً بصيرة يتمكّن فيها من ناصية اللغة، ويجتنب اللحن والخطأ في ظاهر القول وما يسطره القلم، بل إن تلك المعرفة كثيراً ما كانت تخوّله التصنيف في بعض علوم العربية برغم تخصصه المختلف، أو شهرته في غيرها من العلوم كعلوم الطبِّ والفلسفة والقرآن والحديث... وغيرها.
دواعي هذه المكانة:
وقد عزَّز هذه المكانة للعربية اهتمام أولي الأمر بها وإعلاؤهم لشأنها بدءاً من الخلفاء في مجالسهم ومحافلهم، وانتهاءً بالعاملين في مجالات الدولة المختلفة من وزراء وحجّاب وأمراء وكُتَّاب..
وليس أدل على هذه المكانة من تسمية رسول الله اللحنَ في القول ضلالاً، وذلك عندما لحن أحدهم في حضرته فقال:"أرشدوا أخاكم فقد ضلَّ" وماذا بعد الضلال إلا الخسران المبين؟!.
ولعل في كلمة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عامله أبي موسى الأشعري ما يُؤْذِنُ بهذه المكانة وذلك الاهتمام، فقد كتب إليه:"خذ الناس بالعربية فإنها تَزيد في العقل وتُثبتُ المُروءة" وكتب أيضاً في الآفاق ألا يُقرئ القرآن إلا صاحب عربية. بل إن ولادة علم النحو كانت بإيعاز من الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، فإليه ينسب هذا العلم الجليل وهو الذي أمر أبا الأسود الدؤلي أن ينحوَ نحوَه.(/1)
وتمرُّ الأيام وتتعاقب السنون ومكانة العربية أبداً في نماء وصعود. فعبد الملك بن مروان أشهر خلفاء بني أمية يخشى اللحن ويتجنَّبُه، وفي ذلك يقول:"شيبني ارتقاء المنابر واتقاء اللحن" والحجاج يتوخّى ألا يُسمع منه لحن في كلام أبداً فهو أفصح الناس في زمانه، وعندما يبلغه أن ابن يَعْمَر وقع على لحن له في كتاب الله عزّ وجلّ يعالج الأمر بطريقته الحجاجيّة! فينفيه من بغداد ويلحقه بخراسان قائلاً:"لا جَرَم، لا تَسمَعُ لي لحناً أبداً ".
وهكذا بات التمكن في اللغة وامتلاك ناصية البيان وفصاحة اللسان قيمةً مقدسة، ومكرمةً متوارثة، وفضيلةً يتداعى إليها الناس، فينشِّئ الوالد ابنه عليها، وتدعو القبيلة أبناءها إليها، بل تفخر بمن اشتهر بها أو عُرف بالتمكن منها، ويتغنّى الشعراء بمن حازها، وينحُون باللائمة على افتقدها، ويعدُّون ذلك عيباً فيه، وفي ذلك يقول قائلهم:
كفى بالمرءِ عيباً أن تراهُ لَهُ وجهٌ وليسَ لهُ لسانُ
وما حُسْنُ الرجالِ لهمِ بزَيْنٍ إذا لم يُسعِدِ الحُسْنَ البيانُ
بل وصل الأمر بهم إلى حدِّ الاستعاذة من فقدها:
أعذني ربِّ من حَصَرٍ وعِيٍّ ومن نفسٍ أُعالجُها علاجا
وفاقد الفصاحة والبيان يفقد أهم مقومات الحياة عند العرب وهي المروءة، يقول يونس بن حبيب: "ليس لعَيِيٍّ مُروءة، ولا منقوص البيان بهاء، ولو بلغ ما فوخُهُ أعنان السماء".
العربية اليوم:
ثم أتى على الناس زمان تَنكَّروا فيه للعربية بعد طول تعهّد وعناية، وهجروها بعد طول وصالٍ ورعاية، وزهدوا فيها وعزفوا عنها بعد طول تقدير وتقديس، بل وصل الأمر ببعضهم إلى حدود المقت والقِلى، والبغض والمحاربة بعد طولِ الكَلَفِ والحب، والعشق والهيام!!.(/2)
وإن تعجب فعجبٌ أن يمتد أثر ذلك إلى بعض طلبة العلم الشرعي، فتراهم مع حرصهم المحمود على علوم الكتاب والسنّة والفقه والسيرة أبعدَ الناس عن علوم العربية، وكأن بينها وبينهم أمداً بعيداً أو ثأراً قديماً، أو حجاباً مستوراً، فهم لا يأبهون لها ولا يعيرونها أدنى اهتمام. فأين هؤلاء من لغة القرآن؟! وأين هم من أفصح من نطق بالضاد ؟! وأين هم من علماء السلف الذين كان الواحد منهم حجّةً في اللغة قبل أن يكون حجّة في الحديث أو التفسير أو الفقه أو القراءات؟!
ولا غرْو فتعلم العربية عندهم ـ أعني علماء السلف ـ فرض كفاية لا يتم لأحدٍ علمه إلا به، وهو من علوم الآلة التي كان طالب العلم يأخذ نفسه بها قبل أن يشرع في تعلم أي علم سواها، وما أكثر ما حثَّ علماؤنا عليها، من ذلك ما نصّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه حيث قال: "ومعلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اجتناب اللحن. فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسنة المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة والاقتداء بالعرب في خطابها".
وبعد فليس عدلاً أن أحبِّبَ اللغة إلى أهلها وأصحابها! أيحبِّبُ أحدٌ ولداً إلى والده؟! أو فلذة كبد إلى صاحبها؟! بل قل أيحبِّبُ واحدنا اللسان إلى المتكلم وبه قوامه، وعليه يبنى أمره، وفيه سرّ مقدرته، وإليه يعود الفضل في نجاحه، وعليه المعوّل في فلاحه؟!.(/3)
لا كلّ هذا لا يكون، ولكنها دعوة إلى إعادة الاهتمام بهذا اللسان، إنها دعوة إلى المصالحة مع اللغة، بعد أن أصابها من الإهمال وقلة الاكتراث ما ينبغي أن يتوقف عنده كل غيور، بل كل عاقل، لقد أصابها من جحود أهلها وانصرافهم عنها وافتئاتهم عليها ما جعل أستاذنا الدكتور شكري فيصل رحمه الله يقول:" لعله لم يحمل قوم على لغة كان لها فضل وجودهم الحضاري ومكانتهم الإنسانية على نحو ما حمل ناس منَّا على لغتهم.. اتهموها بالصعوبة وحمّلوها من ذلك ما هو حقّ في أقلّ الأحايين وما هو باطل في أكثر الأحايين. ورموها بالخروج على المنطق وأنها لا تنقاد قواعدها إليه. وقذفوا خطّها وحروفها بل دعوا إلى تبديلها، وبذلوا الكثير من القول والعمل. وأخرجوها من نطاق الطبيعة التي تنتظم اللغات كلها حين زعموا أنك في اللغات الأخرى تقرأ لتفهم بينما نحن في العربية نفهم لنقرأ. وقالوا في نحوها وصرفها ما لم يقله مالك في الخمر!.وتحدثوا عن عجزها عن متابعة التقدم الحضاري وكأنها لم تكن اللغة التي وسعت حقباً من الدهر العلوم والمعارف كلها... وكأنها لم تكن اللغة التي أنشأت حضارةً وأنبتت ثقافة وكتبت آلاف الكتب في كل ضروب الصنائع والفنون والعلوم".
حصاد الهشيم:(/4)
ولا ريب أن هذا الجحود وذلك الإهمال سيؤدي باللغة إلى الضعف والوهن وسيؤدي بأهلها إلى التخلف عن ركب الحضارة الإنسانية والهوان. ونحن اليوم نجني ثمرات هذا الضعف، إذ تدرس العلوم في معظم جامعاتنا العربية ـ إلا ما رحم ربي ـ بغير العربية، الأمر الذي يجعل بين العرب وبين علوم العصر وحضارته حجاباً حاجزاً وسدًّا منيعاً لا يكاد يتسرَّب من خلاله إلا اليسير اليسير، ومن قنع بهذا اليسير فإن قصارى أمره أن يقتات على فتات الآخرين، ولن تقوم له قائمة في أي مجال من مجالات العلوم، فاللغة روح المجتمع، ووعاء ثقافته وعلومه، وأداته الأولى للتعبير عن فكره وحضارته، ولم يسجل التاريخ قط أن أمة حققت التنمية والتقدم الحضاري بلغة غيرها من الأمم، ولنا في التجربة العربية الإسلامية القديمة واليابانية الحديثة خير دليل على ذلك. فالعرب المسلمون ما بنوا حضارتهم إلا بعد أن نقلوا ما خلفته الحضارات البائدة من علوم إلى العربية، ففهموا تلك العلوم بفكرهم وتمثلوها بلغتهم ووعوها بواعيتهم ليؤسسوا عليها صرح خير حضارة أخرجت للناس. واليابانيون اليوم كذلك فعلوا فهم يتلقّون علومهم باليابانية وما يكاد كتاب علمي يخرج في الغرب إلا ويترجم إلى اليابانية قبل أن يبلغ انتشاره في لغته مداه.
والحق أن أمر إهمال اللغة وضعفها لا يتوقف عند انحلالها وتخلفها وإنما يتعدّى ذلك إلى ضعْف أهلها وتخلفهم، ومن ثم اضمحلال أمرهم وهوانهم، ورحم الله أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي إذ يقول: " ما ذلَّت لغة شعب إلا ذلَّ، ولا انحطَّت إلا كان أمره إلى ذهاب وإدبار".
صرخة في واد:
ولعل خير ما أختتم به القول هنا تلك الصرخة المدوية التي نادى بها شاعر النيل حافظ إبراهيم على لسان العربية يستصرخ أهلها ويستغيث بهم:
رجعتُ لنفسي فاتَّهمتُ حصاتي وناديتُ قومي فاحتَسبتُ حياتي
رموني بعقمٍ في الشبابِ وليتَني عقمتُ فلم أجزعْ لقولِ عُداتي(/5)
وَلدتُ ولمَّا لم أجدْ لعرائسي رجالاً وأكفاءً وأَدْتُ بناتي
أيهجرني قومي عفا اللهُ عنهمُ إلى لغةٍ لم تَتَّصلْ برُواةِ
وسِعتُ كتابَ الله لفظاً وغايةً وما ضقْتُ عن آيٍ بهِ وعِظاتِ
فكيف أضيقُ اليومَ عن وصفِ آلةٍ وتنسيقِ أسماءٍ لمخترعاتِ
أنا البحرُ في أحشائِهِ الدُّرُّ كامنٌ فهل سألوا الغوَّاص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسِني وفيكُمْ وإنْ عزَّ الدواءُ أُساتي
فلا تكِلوني للزَّمانِ فإنَّني أخافُ عليكم أن تَحينَ وفاتي(/6)
العنوان: متى يتكلم العلم العربية؟ (الطب نموذجًا)
رقم المقالة: 136
صاحب المقالة: د.محمود فوزي المناوي
-----------------------------------------
مسيرة اللغة
قبل أن تشرق شمس الإسلام على الدنيا، كانت لغتنا العربية الباقية، قد استقرت مكانتها – زمنًا طويلاً – لغة للحديث، تلهج بها الألسنة، ولغة للتجارة يستخدمها أهل البيع والشراء، ولغة للشعر ينشد بها الشعراء، وينقل عنهم الرواة، ووسيلة لأرباب الفصاحة من الخطباء، يعبرون بها عن عواطفهم، ويعربون بها عن أفكارهم، وما يجيش في صدورهم من إحساسات ومشاعر. وعندما اختارها الرحمن، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وعاءً للقرآن، ازدادت به رقيًا في الأداء، ودقة في التعبير، وازدانت بسمات الجمال والجلال، وضمن لها الخلود. وحين شاء الله أن يفتح لعباده المؤمنين أقطار الدنيا، حملها المجاهدون معهم لأنها لسانهم، ولأنها لغة العبادة ولغة الدعاء. وما كاد القرن الأول الهجري يوشك على التمام، حتى اتسعت رقعتها فيما بين حدود فرنسا (بلاد الغال)، إلى أقاصي أرض التركستان، على حدود الصين. وكلما دخل الناس في دين الله أفواجًا، صحبته "العربية" لغة للشعائر، وإقام الصلاة، وتلاوة الذكر الحكيم.
ومع انتصاف القرن الثاني الهجري، بدأ التمازج بين الحضارة الإسلامية وحضارات البلاد المفتوحة، التي أصبح من أهلها حفاظ القرآن الكريم، ورواة الحديث الشريف، كما أصبح من العرب من يعرف العلوم النظرية والعلوم التطبيقية، ولتصير "اللغة العربية" بعد ذلك لسان العلماء في هذه العلوم، ولغة للعلم بمفهومه الحديث.
وقد سبقت ذلك بوادر على الطريق، وظهر من قبل علماء تحدث عنهم التاريخ.
بوادر على طريق العلم والطب
أول الأطباء:(/1)
لاشك أن كل مجتمع قديم كان فيه من يعالج الأمراض، ويصف للمرضى الدواء. والمجتمع العربي، قبل الإسلام، مثل غيره من المجتمعات، كان فيه "الأساة" و"الآسيات" و"المتطببون"، غير أن واحدًا من هؤلاء – دون غيره – قدر له أن يتلقى الطب في أشهر معهد علمي في الشرق حينذاك، وهي جامعة "جنديسابور" في بلاد فارس، والتي اجتمع فيها علماء من الروم والفرس، ومن مدرسة الإسكندرية القديمة. أما الطبيب العربي الذي تعلم فيها، فهو "الحارث بن كلدة الثقفي" الذي رحل من "الطائف" إلى "جنديسابور" وأخذ الطب عن علمائها، ومارسه هناك، ثم عاد إلى بلده الطائف. وتروي كتب التراجم عنه حكايات كثيرة تظهر علمه وبراعته، ومنها حديث مطول دار بينه وبين كسرى فارس. وإذا أسقطنا جميع هذه الحكايات التي تروى عنه، بقيت لنا صورة تاريخية عن طبيب متعلم يتقن صنعته.
أول الكيميائيين:
هو خالد ابن الخليفة الأموي "يزيد بن معاوية بن أبي سفيان" الذي اهتم بعلم "الصنعة" ومعرفة الطب، ومؤلفاته عديدة في صنعة الكيمياء، نثرًا وشعرًا، حتى إن واحدًا منها فقط بلغ خمسمائة ورقة – شعرًا. إلى جانب كتاب "الحرارات" وكتاب "الصحيفة الكبرى" وكتاب "الصحيفة الصغرى" وكتاب "وصيته إلى ابنه في الصنعة"، و"مقالتي مريانس الراهب في الكيمياء".
لقد انصرف عن طلب الخلافة إلى طلب العلم، واستطاع أن يحيط بعلم العرب وعلم العجم، واستقدم بعض العلماء من الإسكندرية، ممن يعرفون اللغتين اليونانية والعربية، فنقلوا له كتب العلم من اللسان اليوناني واللسان القبطي إلى العربي، وكان هذا أول نقل للعلم، في الإسلام من لغة إلى لغة.
عندما تكلم الطب العربية(/2)
كانت للمسلمين – عربًا وغير عرب – عقيدتهم التي جمعتهم ووحدت قلوبهم، وصارت "العربية" لغة علمهم ومعارفهم، حتى صح لديهم القول المأثور "ليست العربية بأب أو أم إنما هي لسان". وفي نطاق سماحة الإسلام واتساع لغة العرب، شارك الجميع في بناء صرح الحضارة الإسلامية، لا فرق بين عربي وغير عربي.
أحدث نزول الوحي في المجتمع القبلي الجاهلي ثورة ثقافية عظمى. فكان القرآن هو المركز الذي دارت حوله دوائر علوم الحضارة العربية. فكان تقعيد قواعد اللغة – أي علوم اللغة – هو أول إنجازات الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، وأساسها الوطيد.
ولقد كانت للمسلمين – منذ عصر النبوة – علومهم التي شغفوا بها: رواية ودراية، حتى إذا جاء العصر العباسي ورسخت أصولها، أصبحت لها مناهج واضحة، وضعوها على غير مثال. وفي مقدمة ذلك: علم الحديث، وعلم الفقه، وعلم اللغة، وعلم النحو، وعلما العروض والقافية.
ومن ثم أعدتهم علومهم ومناهجهم لاستيعاب علوم وحضارات اليونان والهند وغيرها، من رياضيات وفلك وفيزياء وكيمياء وطب.
حركة ترجمة الطب:
كان الطب من أبرز العلوم التي عنى الخلفاء العباسيون الأوائل بنقلها، فاستعانوا بالخبراء لنقلها إلى لغة العرب، حتى صارت هناك نهضة طبية، تعاقبت خطواتها سراعًا، من مرحلة الترجمة إلى مرحلة التأليف، منذ استقدم "الخليفة أبو جعفر المنصور" رئيس أطباء "جنديسابور" وهو "جورجيس بن بختيشوع" السورياني، الذي حضر إلى "بغداد" ومعه اثنان من تلاميذه هما "إبراهيم" و"عيسى" بن شهلا.
ثم عمرت بغداد بالوافدين من العلماء في شتى العلوم، من أنحاء الدولة الإسلامية، ولما بدأت حركة الترجمة، شارك فيها أهل العراق وفارس والشام والهند.(/3)
كان من مشاهير الذين عربوا الطب عن اليونانية وغيرها من اللغات آنذاك مجموعة من أبناء الأسر المشهورة بهذه المعرفة ومنهم: آل "بختيشوع" وأولهم جورجيس ثم ابنه "بختيشوع". وآل حنين من أهل "الحيرة" وأولهم "حنين بن إسحاق" وآل "ماسرجويه" وأولهم "ماسرجويه" طبيب "البصرة" وآل "ثابت" وأولهم "ثابت بن قرة" من مدينة "حران" ومن أشهر الأفراد: "حبيش الأعسم الدمشقي" و"قسطا بن لوقا البعلبكي".
مرحلة التأليف العربي في الطب
يمكن القول بأن حركة التأليف العربي المستقل؛ بدأت قرب نهاية القرن الثالث الهجري، وكان من أوائل المؤلفين في هذا المضمار "سنان بن ثابت بن قرة"، الذي ألف بعض الرسائل التي تعتبر بمنزلة "المذكرات" التي ينقلها الطلبة عن الأساتذة، خاصة أن "سنان" عهد إليه بامتحان الأطباء قبل الإذن لهم بممارسة المهنة، كما كان يسهم مع أبيه "ثابت" في إنشاء المستشفيات.
علي بن سهل وفردوس الحكمة:
هو أبو الحسن علي بن سهل بن ربن الطبري، من أطباء القرن الثالث الهجري، عمل في ديوان الخليفة العباسي "المعتصم" واعتنق الإسلام على يد الخليفة المتوكل، وتوفي في أواخر القرن الثالث الهجري، وله حوالي عشرة مؤلفات في الطب والصيدلة، أشهرها جميعًا كتابه المسمى "فردوس الحكمة" وهو أقدم كتاب جامع لفنون الطب والصيدلة مما وصل إلينا من كتب العلماء العرب. وقد رتبه على سبعة أقسام في ثلاثين مقالة، جمعها في 360 بابًا. وعلى سبيل المثال: يشتمل القسم الرابع على اثنتي عشرة مقالة، ويتناول فيه الأمراض بصفة عامة، ثم الأمراض الخاصة، فيدرس أسبابها وعلاجها، مبتدئًا من الرأس حتى القدم، وينتهي بمقالة في الفصد والحجامة وفحص البول.
الرازي ومؤلفاته:(/4)
هو "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي" (251-311هـ)، المولود في مدينة "الري"، والذي أمضى شطرًا من شبابه في بلاد فارس انتقل بعدها إلى بغداد. وتبلغ مؤلفاته حوالي 224 كتابًا، ضاع منها الكثير وبقي القليل. ومن أشهر كتبه في الطب كتاب "الحاوي" وهو موسوعة كبرى تقع في اثنين وعشرين جزءًا، وكتاب "المنصوري" في التشريح، وكتاب في الأمراض، وآخر في الحصبة والجدري، وكتاب "من لا يحضره الطبيب" ويعرف بطب الفقراء. وله دراسات كثيرة في أمراض النساء والولادة والأمراض التناسلية، والعيون، ومن كتبه "منافع الأغذية". كما اهتم الرازي بكيفية اختبار الطبيب، لمعرفة علمه وقدرته، فألف في ذلك كتابًا عنوانه "محنة الطبيب".
وللرازي كتب أخرى في الكيمياء، والرياضيات والهندسة وغيرها، وإذا كان بعض قدماء المؤلفين العرب يعتبره "إمام وقته في علم الطب"، فإن بعض العلماء الأوربيين في العصر الحديث يعتبره "أعظم أطباء العرب... وكيميائيًا ذا مقام رفيع، وعالمًا طبيعيًا".
وقد ترجم الكثير من كتبه إلى اللغة اللاتينية وغيرها، وظل كتابه "الحاوي" عدة قرون أهم مرجع طبي في أوربا. أما رسالته في الجدري والحصبة فيقول عنها "ول ديورانت" في كتابه "قصة الحضارة": "كانت (أي هذه الدراسة) أولى الدراسات العلمية الصحيحة للأمراض المعدية، وأول مجهود يبذل للتفرقة بين المرضين (أي الجدري والحصبة)" ويدل على أثرها وشهرتها "أنها طبعت بالإنجليزية أربعين مرة ما بين عامي 1498 و1866م"، ثم يقول ديورانت "كان الرازي – بإجماع الآراء – أعظم الأطباء المسلمين، وأعظم أطباء الطب الإكلينيكي في العصور الوسطى".
ابن سينا وقانونه:
هو الطبيب الفلكي والفيلسوف الرياضي "أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا" المولود في سنة 371هـ والمتوفى في سنة 428هـ، أي أنه عاش حياته فيما بين القرنين الرابع والخامس.(/5)
اشتهر بلقب الشيخ الرئيس، وأطلق عليه المشتغلون بالفكر والفلسفة لقب المعلم الثالث، تاليًا في الترتيب أرسطو والفارابي. يهمنا من كتبه الكثيرة "القانون" الذي حظي بالتفضيل على ما سبقه من مؤلفات طبية، لما تميز به من دقة وحسن تبويب، ومن عرضه تجاربه وخبرته.
ويشتمل "القانون" على خمسة كتب، يختص الكتاب الأول منها بالأمور الكلية في الطب، ويهتم الكتاب الثاني بمفردات الأدوية، أما الثالث فيتناول الأمراض الجزئية، التي تصيب كل جزء من أجزاء الجسم، ويعرض الرابع للأمراض العامة، ويعنى الكتاب الخامس بالأدوية المركبة وتحضيرها.
وقد ظلت طبعات هذا الكتاب العربية تتتابع منذ ظهرت طبعته العربية الأولى في روما سنة 1593م حتى منتصف القرن العشرين، كما ترجم إلى اللاتينية، وطبع بها عشرين مرة، كما طبع باللغات الأوربية العديدة، وظل عماد دراسة الطب في جامعات أوربا عدة قرون.
ومما يدل على امتلاكه ناصية علم الطب وفن النظم في وقت واحد، أن "ابن سينا" لخص هذا الكتاب في أرجوزة مطولة، أوردتها بنصها لأهميتها في كتابي "حكماء، وشعراء من أون إلى قصر العيني".
وإذا كان ما تقدم واحدًا من نماذج وأمثلة محدودة للطب والأطباء في المشرق الإسلامي، عندما كانت لغتنا خير وعاء لهذا العلم، فقد كانت في المغرب الإسلامي نهضة مماثلة شاركت في إثراء تراثنا العلمي العريق في شتى المجالات، ومنها الطب. ويمكن – نظرًا لضيق المقام – الإشارة إلى بعض أعلامها الذين ذاع صيتهم في بلاد المغرب والأندلس ومصر، بل وفي أوربا نفسها.
من أشهر هؤلاء الأعلام في مصر، علي بن رضوان، ثم ابن النفيس (607-687هـ)، ومن أشهرهم في المغرب والأندلس، ابن طفيل وابن رشد (520-595هـ)، وغيرهم كثيرون. ويكفي التمثيل بنموذج متفرد من بين هؤلاء المشاهير.
الزهراوي وكتابه التصريف:(/6)
هو أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (936-1013م)، نسبة إلى "الزهراء" ضاحية قرطبة، ويأتي في نهاية نسبه كلمة الأنصاري، لتشير إلى ارتباطه وأسرته بالأنصار أهل المدينة المنورة.
عاش الزهراوي في القرن الرابع الهجري وتوفي في أوائل القرن الخامس الهجري، حوالي 427هـ، والزهراوي من العلماء المتعمقين في الطب والصيدلة معًا، ينبئ عن ذلك كتابه "التصريف لمن عجز عن التأليف" الذي يشتمل على ثلاثين مقالة، تشتمل المقالة الأولى – إلى جانب الأمزجة وتركيب الأدوية – "على عيون من التشريح" كما تختص المقالة الثالثة والعشرون بالكلام على الضمائد لجميع علل البدن ومن القرن إلى القدم. أما المقالة الثلاثون فتتناول العمل باليد من الكي والشق والبط والجبر والخلع.
وبالرغم من أن بقية المقالات تهتم بالأدوية وأنواعها، فقد كانت شهرة الزهراوي قائمة على علمه بالجراحة، حتى اعتبر أشهر جراحي العرب وأشهر من ألف في الجراحة منهم. ويرجع ذلك إلى إبداعاته في هذا المجال، فهو أول من استعمل ربط الشرايين لمنع النزيف، وأول من رفع حصاة المثانة عن طريق المهبل، وأول من شق جيب المياه في أثناء المخاض لتعجيل الولادة، وأول من وصف "الهيموفليا". ومن أهم ميزات كتابه أنه أكثر فيه من الرسوم، وأشكال الآلات الجراحية وأنواعها واختلاف تصميماتها، تبعًا لشكل الأعضاء، ومواضعها من الجسم، وأهم من ذلك كله، أن معظم هذه الآلات من اختراعه.
وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية، واللغة العبرية، ونال شهرة واسعة في أوربا – في مجال الجراحة – حتى العصر الحديث.
أوربا تنقل علمنا:
يرى الباحثون في تاريخ الحضارات وفي تاريخ العلم – حتى من الأوربيين أنفسهم – أنه كان للعرب دور بارز في تكوين الفكر الأوربي، وأنه أكثر بروزًا في العلم بمختلف فروعه: الطب، والطبيعة، والكيمياء والفلك، والرياضيات، والتاريخ الطبيعي، والفلاحة.(/7)
وقد تم انتقال علمنا إليهم من خلال الاحتكاك الحضاري في ثلاث مناطق: الشرق العربي إبان الحروب الصليبية، وصقلية في أثناء حكم العرب لها حيث كان التفوق للحضارة العربية، والأندلس الإسلامية خصوصًا مدينة قرطبة.
انتقال علومنا الطبية إلى أوروبا
عندما كان الطب عندنا في أوج شموخه وازدهاره، كانت الأمم الأوروبية تجهله جهلاً يكاد يكون تامًا، ولكنهم عندما علموا بتقدم الطب في بلاد الإسلام، أقبلوا على بلادنا يتعلمون فيها الطب على أيدي أساتذته. غير أن جهدهم الأكبر كان مقصورًا على الترجمة من لغتنا العربية إلى اللغة اللاتينية، مع جهد المترجمين اليهود من النقل عن العربية إلى العبرية، ثم إلى اللاتينية في بعض الأحيان.
وكان من أوائل الكتب المترجمة من العربية كتاب "كامل الصناعة" أو "الملكي" الذي ألفه الطبيب "علي بن عباس" – لعضد الدولة البويهي. وقد ترجمه إلى اللاتينية "قسطنطين الإفريقي" (1020-1087م)، وكانت ترجمته فتحًا في تاريخ الطب الأوربي.
ومن الكتب التي نقلها الأوربيون – بالترجمة – عن طريق الأندلس، كتب الأدوية والعقاقير لابن البيطار، وأبي منصور الهراوي، وماسويه المارديني. ومن طب العيون (الكحالة) كتب علي بن عيسى، وعمار الموصلي.
أما كتب الرازي، وابن سينا، والزهراوي، فقد نالت عناية فائقة في ترجمتها وطبعها، وظلت تدرس في جامعات أوربا عدة قرون، في "مونبلييه" و"رانس" و"بولونبا" و"بادوا" و"أورليان" و"نابلي" و"اكسفورد" و"كمبردج" و"انجيه"، حيث أنشئت فيها مدارس للطب، وكلها كانت تستخدم الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية، أساسًا لتدريس الطب.
طور الكمون(/8)
ازدهرت لغتنا وتبوأت مكانتها الرفيعة، مع ازدهار أمتها ومنعتها، وقوة بأسها ورفعتها. وهكذا تقوى اللغة بقوة أبنائها، وتضعف بضعفهم. ولولا القرآن الكريم الذي ظل يحفظها، ولا يزال في الصدور وعلى الألسنة، لعصف بها ما عصف بلغات أخرى، تراجعت مكانتها بتراجع مكانة أهلها. وإذا كانت النهضة الأوربية تكونت في جانب منها بما نقلته عن لغتنا، فقد أتى علينا حين من الدهر – منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي – تعرضنا فيه للتضعضع، وتأثرت لغتنا بأوضاعنا المتداعية، بينما كانت أوربا تنشط فكريًا وعلميًا، بعلم تجريبي وفكر جديد، فانتزعت منا قصب السبق، علمًا وقوة، ثم ظهرت علينا في العصر الحديث بعلمها وقوتها وثقافتها. ولولا أصالة تراثنا وعمق قيمنا، لانتزعنا من جذورنا، وبهتت هويتنا، ومن ثم شهد القرن التاسع عشر الميلادي، شيئًا من الصحوة في بعض بلادنا، كان من بينها أرض النيل مصر. ويهمنا من شواهد تلك الصحوة هنا أن الطب عاد يتكلم العربية من جديد.
مؤقتًا: عاد الطب يتكلم العربية
واسمحوا لي أن أتحدث هنا عن معهدي "مدرسة طب قصر العيني"، الذي أعتبره بحق بيت الطب العربي الحديث، فمنذ نشأته، وهو يضم بين صفوفه طلابًا عربًا، وبخاصة من سورية ولبنان، منهم في عهد محمد علي: يوسف اسطفان، وغالب الخوري العقلني، والجراح النجار، ويوسف الجلخ، ويوسف لطيف، وسليم ملوك. ومنهم في عصر إسماعيل: فارس نجم، والشيخ شيبان الخان، وميلاد صغير، وإبراهيم صافي وسليمان أبو التحول. ثم شاكر الخوري، وإليال المرور، ونقولا لويس. وقد أصبح هؤلاء الأعلام المرجع الطبي لأبناء سورية ولبنان في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
التدريس باللغة العربية:(/9)
على الرغم من أن مدرسة طب قصر العيني قامت على البعثات العلمية إلى أوربا، فإن تدريس الطب فيها كان باللغة العربية، وقد كتب كلوت بك (أنطوان برتسيلي كلوت) إلى محمد علي باشا والي مصر يقول "إن التعليم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، كما لا ينتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه" ولكي يحقق كلوت بك رؤيته تلك، ألحق المترجمين بمدرسة الطب واعتبرهم طلاب بها، وألحق بها معهم مائة طالب، اختيروا من الأزهر الشريف، وكان من هؤلاء التراجمة المسيو عينهوري، والمسيو رافائيل، اللذان ساعدا بكفاءة نادرة على ترجمة مؤلفات عديدة. ولم ترق فكرة التعليم باللغة العربية لفريق كبير من الأجانب، حتى إن بارون دي بواسليكوم الذي بعثته الحكومة الفرنسية لدراسة حال مدرسة الطب المصرية كتب يقول "إن مدارس الطب والصيدلة وفن البيطرة والكيمياء مكونة تمامًا من عرب، والمسيو كلوت يحاول أن يعطي تلاميذه روحًا وطنية عربية، ولا أعرف هل يستحق التأنيب أو التشجيع!!" وظل التعليم كذلك باللغة العربية حتى سنة (1903م) عندما أصدر اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني أمره باستبدال اللغة الإنجليزية باللغة العربية.
مكتبة طبية عربية:
وفي عهد رئاسة كلوت بك المدرسة عرب الأساتذة المصريون 86 مرجعًا طبيًا عن الفرنسية، وبذلك تكونت أول مكتبة عربية، وكانت تعتبر أكبر مكتبة طبية – في العالم – ترجمت من لغة إلى لغة أخرى آنذاك.
الطب يفقد لغته العربية
ظلت اللغة العربية لغة الدراسة بطب قصر العيني، وظل الأساتذة يؤلفون كتبهم الطبية بالعربية، إلى ما بعد الاحتلال البريطاني حوالي عشرين عامًا كاملة، ولكن سير آفلين بارنج (لورد كرومر) المعتمد البريطاني في مصر، ظل يضيق الخناق على مدرسة طب "قصر العيني" حتى تراجع عدد الطلاب بها إلى أقل من ثلاثين طالبًا.(/10)
ولما جاءت سنة 1903م اكتملت المؤامرة ونحيت اللغة العربية عن دراسة الطب، وحلت اللغة الإنجليزية مكان لغتنا العريقة.
ويمكننا أن نتفهم سياسة اللورد كرومر الملتوية والاستعمارية تجاه قصر العيني بقوله في تقريره سنة 1906م "تخرج في هذه المدرسة 20 طبيبًا في السنة الماضية، ولو أن عدد الراغبين في دخولها كثير، إلا أنه لا يقبل فيها غير 50 كل سنة، وذلك بالرغم من أن عدد الأطباء في القطر المصري لا يزال أقل بكثير، وكلما زاد الأهالي تنورًا زادت حاجتهم لاستشارة الأطباء، إلا أن الدكتور كتنج رئيس المدرسة يقول "إنه مقتنع تمامًا بوجوب الحذر في التقدم بهذه المدرسة، خصوصًا من جهة عدد خريجيها"، ويقول: "إنه لو تخرج كثير من الشبان ولم يجدوا عملاً كافيًا في الخارج فيؤثر ذلك في حالة المدرسة، فينقص عدد الراغبين في دخولها، ولا ضرورة لزيادة طلبة المدرسة ما دامت الحكومة لم تشك سنوات متتالية من قلة الأطباء (!!!) ومع كل فأنا مقتنع بأننا لا نجد عاملاً في هذه البلاد أشد خطرًا من إيجاد أطباء محتاجين!!" سبحان الله!!!
ولا مبالغة في القول بأن ما حدث في مصر إبان الاستعمار البريطاني، حدث مثله في البلاد العربية التي ابتليت به، من محاولات "النجلزة" والقضاء على الهوية، وكذلك ما حدث في بلادنا العربية التي منيت ببلاء الاحتلال الفرنسي، ومحاولة "فرنسة" هذه البلاد، لولا كفاح أهلنا في كل مكان، وتشبثهم بأصالتهم، واستماتتهم في الدفاع عن كيانهم وثقافتهم ولغتهم، وإن كانت هناك ندوب ماثلة تحتاج إلى علاج ومداواة.
العربية والعلم وعصر العولمة
إن ما يشهده العصر الحاضر من "ثورة معلوماتية" وتقنيات حديثة، يوجب على الناطقين باللغة العربية العناية بها، لأن اللغة العربية تقبع الآن في أدنى درجات الاهتمامات بها، على الخريطة السياسية والعلمية والثقافية والاقتصادية، ولا يخفى على الجميع وجود المخططات لإقصاء العربية الفصحى عن سيادتها في أوطانها.(/11)
إن اللغة العربية تعيش اليوم واقعًا معزولاً عن وظيفتها، فلا هي أصبحت أداة للتعليم العالي ولا البحث ولا الفكر، وهو ما يبعدها عن خصائصها ومقوماتها المسايرة دومًا للتقدم الحضاري، بما تتميز به من غزارة، وما لها من تراث عريق، بعيد الأثر في مراحل التاريخ المختلفة، الأمر الذي جعلها لغة التعليم والتعليم لسنوات طوال، نهضت خلالها الأمة العربية نهضة علمية زاهرة بين أمم العالم، وكانت لها الصدارة العالمية بسبب تفوقها العلمي.
لقد أجمع علماء علم النفس اللغوي وعلم اللغة العام وفلاسفة اللغة ومناطقة التحليل اللغوي وسواهم، على العلاقة بين التفكير واللغة، فبعضهم يرى أن التفكير واللغة وجهان لعملة واحدة، والبعض يرى أن التفكير يصوغ اللغة ويؤثر فيها. ومنهم من يرى أن اللغة هي التي تصوغ التفكير وتؤثر فيه. فهل يمكن لأمة أن تنمي تفكيرها العلمي الأصيل وتوسعه وتجعله قادرًا على الابتكار دون لغتها؟
إن تعريب العلوم لا ينقص من قيمتها، بل إنه في رأينا يرفع شأنها ومستواها، فالشخص الذي يتعلم أحد العلوم بلغته، يعمل على نقل ما تعلمه إلى هذه اللغة، وإننا قد نقبل أن تدخل اللغة الأجنبية بيوتنا وجامعاتنا ومعاهدنا العلمية، لكي نتعلم من كل ماهو جديد في العالم، ونعبر عنه بلغتنا القومية حتى لا تضيع، فالانفتاح على الحضارات والثقافات والعلوم الحديثة والمتطورة بات واجبًا قوميًا مع الحفاظ على هويتنا، وهو ما يحفظ لنا قوميتنا وكرامتنا العربية شامخة دائمًا بين الأمم.(/12)
وصفوة القول، أن الدعوة إلى استخدام اللغة العربية في التعليم الجامعي والعالي، لا تعني أبدًا إهمال اللغة الأجنبية أو التقليل من شأنها، بل هي مقترنة دومًا بالدعوة إلى وجوب إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل، لاتخاذها أساسًا لاستمرار الاتصال بالتطور العلمي والتقني العالمي، والتمكن من إكمال الدراسات العليا والتخصصية، ونشر البحوث العلمية في المجلات والدوريات العلمية العالمية. إن هناك فارقًا كبيرًا بين تعلم لغة أجنبية لكي تثري حضارتنا وثقافتنا، وبين أن نتعلمها لكي تحل محل لغتنا وتحيلنا إلى مسخ شائه.
إن العلم والتكنولوجيا عالميان، وليس بالإمكان توطينهما في بلد إلا بلغة ذلك البلد، كما أن العالمية لا تظهر إلا من خلال المحلية، وخبرات الأمم والبلدان المتقدمة خير شاهد ودليل على هذا المنطق، فمما ساعد اليابان على أن ترقى بصناعتها خلال نصف قرن، أنها وضعت بين أيدي العمال والفنيين أحدث النظريات التطبيقية، في الصناعة الأمريكية والأوربية بلغتهم القومية، كذلك أخذت روسيا العلوم الغربية بما فيها من مصطلحات وكتبتها بحروفها السلافية. والصين أيضًا قد أخذت علومهم ومصطلحاتهم وكتبتها بحروف صينية، كما أن إنجازات الطلاب الألمان أو الإيطاليين أو المجريين أو من سواهم ممن يتابعون دراستهم في أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا، تشهد على أن الدراسة العلمية باللغة الأم، ما كانت أبدًا عقبة أمام متابعة التخصص الجامعي بلغة أخرى، لا يستغرق الإعداد لها أكثر من عام واحد.
لقد نجح التغريبيون إلى أبعد مدى في محاصرة اللغة العربية في مدارسنا، وفي جامعاتنا الرسمية والخاصة، وإنه لمن المؤسف والمحزن أن المدارس الأجنبية الخاصة التي يلتحق بها أبناء النخبة، تقدم كل شيء باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وهذا أمر في غاية الخطورة على وطننا سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا.(/13)
إننا عندما ندعو إلى تأكيد تعليم العلم وإجراء البحوث العلمية بالعربية لا نعني بذلك انكفاءً على الذات، ولا دعوة إلى الانعزال، بل إننا نظن إننا ندعو إلى المشاركة والتفاعل مع اللغات والثقافات الأخرى، فالتعريب من وجهة نظرنا ليس معاداة للغات الأجنبية الحية، بل هو في المقابل دعوة إلى تجويدها، وإلى ديمقراطية التعلم، وإشاعته بين الجماهير العريضة، وهكذا يكون العلم عطاء قوميًا متاحًا للجميع.
وأرى أنه بات واجبًا علينا إدخال اللغة العربية في صلب تدريس الحاسوب وأساليب الربط المعلوماتي بين المدارس والجامعات والمراكز البحثية، وحتى في عمليات الربط مع المواقع الإلكترونية العالمية، من أجل المساهمة في الارتقاء باللغة العربية بالطرق المتجددة عالميًا، ولتصبح اللغة القومية هي أساس المعرفة والهوية.(/14)
ويقول الدكتور وائل خوري العالم السوري المغترب في أمريكا في الأول من يناير 2004م "عندما درسنا الطب بالعربية، لم نشعر بأي قصور بسبب اللغة نفسها، فمعظم الأسماء معروفة منذ مئات السنين، والمصطلحات الجديدة المعربة تثير الاهتمام والشغف، وكنا نقرأ المواد الطبية باللغتين، كتب جامعة دمشق العربية وبعض المصادر المعربة (المترجمة) والمراجع الإنجليزية، لم تمنعنا دراستنا بالعربية من حفظ المصطلحات باللغتين، علمًا بأن النص الطبي ليس مجموعة من المصطلحات الطبية، بل هو وصف وشرح وعرض وتحليل، تتخللها المصطلحات، وهذا الشكل من الدراسة جعل الطلاب يبذلون جهودًا مكثفة دفعتهم للدراسة بجدية، وكماهو معروف فإن خريجي كلية الطب في جامعة دمشق يحوزون أعلى العلامات في فحوص القبول الأمريكية، دون أن تكون اللغة بحد ذاتها معوقًا لذلك، إن نسبة نجاحهم ومستوى علاماتهم مماثلة لباقي الجامعات العربية التي تدرس بالإنجليزية أو أفضل، وثمة أرقام تدل على ذلك. إن عدد الأطباء العرب في أمريكا يزيد على عشرة آلاف طبيب، يشكل العرب السوريون من 40 إلى 50 في المئة منهم، تخرجوا في الجامعات السورية التي درسوا الطب فيها باللغة العربية، والعشرات منهم لهم مراكز أكاديمية مرموقة ورفيعة المستوى، هذا بالإضافة إلى المئات من الأطباء الذين يحتلون مناصب مرموقة طبية وإدارية، كرؤساء أقسام، ومديري فروع في الولايات المتحدة والمدن الأمريكية".
إن المخططين للعولمة يعلمون أن اللغة هي أم المرجعيات في بناء الحضارة والثقافة، واللغة هي الوسيلة التي تحرك المشروع الثقافي والحضاري المعاصر. فاليابان تدرس العلوم كلها بلغتها، مع ما في اللغة اليابانية من صعوبة، وكذلك إسرائيل التي أحيت العبرية لتمييز شخصيتها وهويتها، وجعلتها لغة التعليم والحياة بالرغم من موت العبرية وانتهائها من الاستعمال المعاصر منذ آلاف السنين.(/15)
قد يبدو للوهلة الأولى أن العولمة موجهة نحو المال والاستهلاك، ولكن الواقع يؤكد أن سلاحها الحقيقي موجه نحو عقل الإنسان، فهي غزو ثقافي كامل، لأنها موجهة إلى فكر الإنسان ولغته وثقافته، بفضل حيازتها معرفة منظمة، ووسائل فاعلة لنشر هذه المعرفة. إن التعليم باللغة القومية يعد محورًا للحفاظ على الثقافات الموروثة وتنميتها. ومن هذا المنطلق يجب التأكيد على ضرورة الارتقاء باللغة والتعريب، حفاظًا على القيم المكتسبة على مر العصور.
ويستخدم مهندسو العولمة اللغة وسيلة للاختراق الحضاري للتأثير على الهوية الثقافية، ثم خلخلتها من الداخل، تمهيدًا للقضاء على الموروث الثقافي الذي هو أهم مقومات الدول، وهناك هجوم منظم على لغتنا العربية يتخذ شكل الحرب الذكية، تنكشف حينا وتتخفى أحيانًا أخرى.
إن رياح التغريب تهب علينا قاصدة قوميتنا تارة، وتتجه إلى منظومة قيمنا، وديننا تارة أخرى، لاقتلاع أوتاد تراثنا الفكري والديني والأخلاقي. ولاشك أن اللغة العربية هي المستهدف الأول، نظرًا لأهميتها باعتبارها سمة من سمات الهوية، وملمحًا أساسيًا من ملامح الشخصية.
إننا نتعرض اليوم لمشروعات ودعوات ظاهرها الرحمة والتقدم، وباطنها العذاب والخراب وفقدان الهوية، دعوات بمسميات مختلفة: تغيير الحرف العربي، استعمال اللهجات العامية المحكية (كي تلحق العربية بمصير اللاتينية)، الشرق أوسطية، الأورومتوسطية، إلغاء النحو، تجديد القواعد، إلى غير ذلك من المشروعات التي تستهدف إذابة الأمة العربية ولغتها.
إن العدوان على اللغة العربية محاولة لهز استقرارها، لينفرط عقد العرب، وتطمس هويتهم، ويذوبوا في بحر العولمة.
اللغة ومنظومة المعرفة(/16)
اللغة – بلا منازع – هي أبرز سمات المجتمع الإنساني، وما من حضارة إنسانية إلا وصاحبتها نهضة لغوية، وما من صراع بشري – في رأي الكثيرين – إلا ويبطن في جوفه صراعًا لغويًا، واللغة هي الأداة التي تصنع من المجتمع واقعًا، والوسيلة الأساسية التي تحدد صلة الإنسان بهذا الواقع.
لقد أصبحت معالجة اللغة آليًا بواسطة الكمبيوتر هي محور تكنولوجيا المعلومات، وتعاظم أهمية موقع اللغة على خريطة المعرفة، حيث ازدادت علاقة اللغة توثقًا بجميع فروع المعرفة على اختلاف أنواعها، ويتعاظم الدور الذي تلعبه اللغة على صعيد السياسة والاقتصاد، بعد أن أصبحت اللغة من أشد الأسلحة الأيديولوجية ضراوة.
إن تعريب التعليم الجامعي وثيق الصلة بنقل المعرفة واستيعابها، فهو شرط أساسي لتنمية أدوات التفكير والقدرات الذهنية والملكات الإبداعية، علاوة على سرعة استيعاب المعرفة التي تتجدد بمعدلات متسارعة في مجتمع المعرفة، مع ضرورة أن تتوازى جهود التعريب، مع زيادة الجهد المبذول في تدريس اللغات الأجنبية لجميع التخصصات العلمية.
وسواء كانت العولمة وفاقًا أم صراعًا فللغة – في كلتا الحالتين – شأن خطير. فإن كانت العولمة "وفاقًا"، فاللغة ذات شأن جليل في حوار الحضارات. وإذا كانت العولمة صراعًا فإن الإنجليزية تريد أن تكون منفردة، كلغة عالمية، مع تهميش نشيط لبقية اللغات، ومنها العربية.
وعلى ذلك فإن على العرب أن يدركوا ما يعنيه اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا قرار منظمة التجارة العالمية بعدم اعتبار اللغة العربية ضمن لغاتها الرسمية، وفي المقابل، ما يعنيه من مزايا القرار الذي اتخذه أخيرًا المجلس الدولي للأرشيف – من حيث المبدأ – باعتبار اللغة العربية ضمن لغاته الرسمية.
متى يتكلم الطب العربية من جديد؟(/17)
قد يبادر البعض فيقول: كأنكم تريدون عزلة ورفضًا لثقافات الآخرين ولغاتهم، بزعم أن ذلك يخالف أعرافنا ويناقض قيمنا!. إن ذلك غير صحيح على الإطلاق، فالحقيقة أننا نريد الانتفاع إلى أقصى حد بكل ما في الثقافات من علوم حديثة وتقنيات رفيعة المستوى، ونرحب بأن يتعلم المرء لغة واثنتين وثلاثًا، وما أسعفته به قدرته على استيعاب ما يستطيع من لغات ومعارف، يسهم بها ومن خلالها في إثراء التنوع الثقافي للبشرية كلها.
إن الشأن الآن ليس شأن حديث العلم باللغة العربية، أو أن يعود الطب وحده فيتكلم بالعربية، إن الأمر يتجاوز اللغة إلى السياسة، وإلى الاقتصاد، وإلى الاجتماع، وإلى كل جوانب الحياة بعد أن تلاحقت موجات ما يسمى "بالعولمة" وخاصة في ظاهرة ما يسمى: بالشركات عابرة الجنسيات، أو عابرة القوميات... إن القرار الاقتصادي يؤدي بغير مواربة إلى قرار ثقافي، وبشكل أوضح، إن الذين يقررون شكل اقتصادنا، يأتي في قرارهم ضمنًا – حتى ولو بدون نية مبيتةً – اللغة التي يتكلم بها هذا الاقتصاد، في قراراته، في بحوثه، في مخاطباته، في مكاتباته، حتى في محادثاته المحدودة.
لقد شهدنا كثيرًا من المؤتمرات الاقتصادية التي يتحدث فيها قومنا بلغة أصحاب القرار الاقتصادي، وهي غير اللغة العربية يقينًا، حتى وإن كان المؤتمر منعقدًا على أرض عربية. ولا يقتصر الأمر على الاقتصادي فحسب، بل ينسحب على السياسي والثقافي... الخ.
ونحن نرى الآن – في كثير من بلادنا – أن اللغة الرئيسة في شركات الاستثمار الوافدة، أو في فروع المصارف العالمية هي اللغة الإنجليزية، التي توشك أن تكون لغة الأسواق المالية والتجارية والاتصال عامة.
ولعل هذا هو ما أدى إلى أن تكون هناك أقسام – ببعض جامعات البلاد العربية – يتم التدريس فيها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وعلى الأخص في كليات التجارة والحقوق، حتى يجد الخريجون فرصًا لهم في سوق العمل.(/18)
أي أننا ونحن نسعى إلى تعريب "الطب"، نجد مجالات أخرى قد انفتحت، لإحلال لغة أجنبية للتدريس مكان لغتنا القومية، بتأثير ما يقال عن ضرورة ذلك، لتلبية ضرورات سوق العمل. بما يعني أن هذا الاستخدام للغات الأجنبية، جاء بمقتضى ضرورة لا نملك لها دفعًا!!
وفي طريق البحث عن حل
علينا أن نبحث عن الوسائل التي تقنع "السياسي" المحلي في أي بلد من بلادنا، بأن الحفاظ على "هويتنا" قاعدة للحفاظ على المكانة السياسية لأي نظام من أنظمة "الحكم"، وأن المدخل إلى ذلك هو الحفاظ على لغتنا القومية، في حومة الصراع العالمي، وفي مواجهة حركة العولمة، أيًا كانت القوى المحركة لها.
وهناك خبرات تاريخية – قديمًا وحديثًا – تشير إلى دور السياسي في تعريب العلوم ومنها الطب:
- الأولى: في العصر العباسي الأول.
- والثانية: في مصر الحديثة.
وكلتاهما أدت إلى أن يتكلم الطب بالعربية، بالتعريب أولاً، ثم بالتأليف ثانيًا.
ولذلك إذا قلنا الآن: إننا يجب أن ننشط في مجال تعريب الطب، أو غيره من العلوم، فإنما نعني أن يكون التعريب مرحلة ممهدة لمرحلة تالية وهي مرحلة التأليف بلغتنا القومية، وهي مرحلة تتلو الترجمة والتعريب يقينًا.
ولابد أن يكون ذلك مدعومًا بموقف سياسي، بل أن يكون "تبنيًا" من السياسي.
والسبب هو: أن الدعم السياسي أو المساندة السياسية، بل الموقف السياسي القومي، هو الذي يفتح الطريق إلى الدعم المالي، وتيسير النفقات وتحمل أعباء التكاليف.(/19)
نعم هناك جهود مشكورة من أهل العلم، والمفكرين، والمثقفين في مجال تعريب الطب والمصطلحات العلمية، والحديث عنها معاد، ولكننا لكي نحقق الانتفاع المنشود بهذه الجهود نحتاج إلى أشياء لا تقل أهمية عما يتم تحقيقه، فكلنا يعلم أن الطب الآن مرتبط بعدد من فروع العلم الأخرى، كما أنه وثيق الصلة بالتكنولوجيا المتقدمة، سواء في التشخيص أو في العلاج. ولكي نوفق في الانتفاع بإنجازات التكنولوجيا الحديثة، يجب أن تكون لدينا "موازنات" سخية للإنفاق على البحث العلمي، كمدخل مهم، لأن تكون لنا إبداعاتنا وابتكاراتنا في هذا المجال، نعرف بها، وتزهو بها لغتنا.
ولننظر إلى "موازنات" البحث العلمي في دولنا، ولنقارنها بموازنات دول أخرى – أحدث منا تاريخًا، وأقل عددًا، ولا تقارن مساحتها بعشر مساحة أرضنا العربية، ولا مواردها بمواردنا – لنعرف خطورة الأمر في هذا الجانب.
فهل يمكن أن تكون لنا على المستوى العربي، مؤسسات تكنولوجية متقدمة، بموازنات مشتركة، تتيح لنا قدراتها المالية والتنظيمية والبحثية، أن ندخل سراعًا هذا الميدان، ومن ثم نستطيع مستقبلاً أن نسهم في القرار التكنولوجي العالمي، وريادة العالم علميًا مرة أخرى؟(/20)
ولنا أن نتساءل عن كيفية تطبيق هذه الآمال العريضة وتنفيذها؟ والإجابة عن هذا التساؤل تتركز حول ممارسة التدريس الجامعي في الكليات العلمية، والبحث العلمي، والتأليف باللغة العربية، التي تعد هي السبيل الوحيد الذي يمكننا من تنفيذ تعريب العلم في الوطن العربي بأسره. والذي لاشك فيه أنه ستظهر عند الممارسة العديد من المشكلات التي يجب أن ندرسها ونحللها مسبقًا، كي نضع لها الحلول المناسبة لإمكاناتنا ومواردنا البشرية والمادية والتقنية، وأولى هذه المشكلات هي اللغة من حيث كونها وسيلة للطالب في التلقي والاستيعاب والتعبير، والتفكير والتصور أيضًا، وعلى ذلك فلا يجب أن نكبل هذه اللغة بقيود تحد نشاطها واستمرار التعليم بها، ولعل أهم هذه القيود هو المصطلحات العلمية التي تتسم في معظمها بالعالمية، حتى كادت تكون متماثلة في كل اللغات الحية، وهنا يمكننا الإبقاء على المصطلح باللغة التي وضع بها حتى نتفق فيما بيننا على مقابل له باللغة العربية، يمكن استخدامه في المحافل العلمية المختلفة.
إن كثرة هذه المصطلحات العلمية الحديثة تعد أيضًا قيدًا آخر، يمكن أن يعوقنا عن النهوض بالمستوى العلمي في مؤسساتنا العلمية والتطبيقية، ولذا فإن التخطيط لاستيعاب هذا الكم الهائل المتدفق علينا باستمرار يصبح ضرورة لا غنى عنها حتى نستطيع التعامل معه والاستفادة منه إلى أقصى حد ممكن. وحتى لا تصبح قضية المصطلحات ذريعة يتعلل بها أولئك الذين يعملون – عن قصد أو غفلة – على تأجيل تعريب العلم في المرحلة الجامعية والعالية.
كذلك سوف تظهر إحدى المشكلات الجوهرية التي تتعلق بالأساتذة، الذين لهم الدور الرئيسي والمحوري في هذا الشأن، فمعظمهم لا يعرفون شيئًا عن المعاجم اللغوية العربية ولا طرق استخدامها بدقة، بل إن كثيرين منهم لم تسنح لهم الفرصة للاطلاع على المصطلحات العلمية في تراثنا العلمي العربي، سواء ما كان منها عربيًا أصليًا أم دخيلاً ومعربًا.(/21)
إن معظم المشكلات ليست نابعة من ذات اللغة العربية، ومدى قدرتها على استيعاب كل ماهو جديد وحديث في مختلف جوانب العلوم وتخصصاتها، فتراثنا وتاريخنا يشهدان على أن اللغة العربية قد استوعبت كل ماهو جديد على مر العصور السالفة عندما كان العلم يتكلم بالعربية.
ولذا، فإن حل هذه المشكلات وغيرها يستوجب الاعتماد على تعريب العلوم، بحيث يتحقق الغرض منه، وهو جعل اللغة العربية وافية بمطالب العلوم في تقدمها، وملائمة لحاجات الحياة العصرية، ولهذا يجب ألا يكون التعريب للنقل – فقط – من اللغات الأخرى إلى العربية، بل أيضًا لتكوين وحدة علمية عربية، قوامها توحيد المصطلح العلمي، بحيث نتمكن من المشاركة الفعالة في التقدم العلمي العالمي، ومواكبة المتغيرات العالمية، التي فرضتها تحديات العولمة، وسرعة الاتصالات، وثورة المعلوماتية والبيولوجية الجزيئية.
وحتى نساير التقدم المذهل والسريع في التطور العلمي والتكنولوجي يجب:
1 – أن تكون الدراسة في المرحلة الجامعية باللغة العربية، أما المصطلحات فتستخدم كما هي في لغاتها، إذا تعذر وجود المعادل العربي لها، حتى نجد هذا المعادل ونتداوله فيما بين أهل التخصص.
2 – أن نلجأ إلى ترجمة هذه المصطلحات كلما كان ذلك ممكنًا، ونعتمد على الوسائل اللغوية التي تتمتع بها اللغة العربية، من الاشتقاق والنحت وغير ذلك من الوسائل المتاحة لدينا الآن.
3 – الاستمرار في استخدام المصطلح الأجنبي ومرادفه العربي، حتى يتسنى لنا ملاحقة التطورات العلمية العالمية المتسارعة.
4 – إنشاء مؤسسة قومية للترجمة تتبع أعلى سلطة في الدولة، بوصفها جزءًا من المشروع القومي للتعليم، ولمتابعة التطورات العلمية العالمية.
5 – إنشاء مركز للمصطلحات العلمية في كل جامعة، على أن يتولى مجمع اللغة العربية التنسيق بين هذه المراكز في الجامعات المختلفة.(/22)
6 – إنشاء بنك للمصطلحات العلمية والإنسانية والعلوم المستخدمة، يكون مقره مكتبة اتحاد مجامع اللغة العربية، واتحاد الجامعات العربية، تصب فيه محتويات مراكز المصطلحات التي يجب إنشاؤها في الجامعات والمراكز العلمية والبحثية، ليكون هذا همزة الوصل بني المجامع العربية وبين دول العالم، ونافذة للباحثين في العالم الغربي.
7 – أن تعمل مجامع اللغة العربية، بالتعاون مع مراكز المصطلحات العلمية في الجامعات ومراكز البحوث والمؤسسة القومية للترجمة، على توحيد المصطلحات العلمية كلما أمكن ذلك.
8 – أن تدرس مادة دراسية رئيسة واحدة بلغة أجنبية حية في كل عام دراسي جامعي، ويقدم الامتحان بتلك اللغة، مع إلزام الطالب برصد المصطلح الأجنبي وحفظه في حقل اختصاصه إضافة إلى المصطلح العربي – إن وجد، ضمانًا لمواكبة التقدم العلمي العالمي والمتابعة العلمية المستمرة.
9 – أن يخصص جزء قائم بذاته في كل رسالة ماجستير أو دكتوراه خاص بالمصطلحات العلمية، في التخصص باللغة العربية وما يقابلها باللغة الأجنبية، على ألا تجاز الرسالة إلا إذا تمت مراجعة وإجازة هذا الجزء من مركز المصطلحات العلمية بالجامعة.
10 – ألا يحصل أي عضو من أعضاء هيئة التدريس على درجة الأستاذية إلا إذا قام هو نفسه أو بالاشتراك مع بعض زملائه بترجمة كتاب علمي أو ثقافي أو تقني في مجال تخصصه.
11 – أن يشترط نشر بحثين باللغة العربية على الأقل عند التقدم لدرجة علمية أعلى.
12 – إضافة باب إلى مجلاتنا العلمية المتخصصة، يختص بترجمة الأبحاث العلمية الحديثة المتخصصة.
13 – تنشيط الحملات الإعلامية على جميع الأصعدة لبيان أهمية التعريب الشامل وفوائده الجمة، التي تحصدها لغتنا العربية، والتي يجب تدعيمها باعتبارها الركيزة الأساسية في استقلالنا، وفي القضاء على التخلف العلمي في الوطن العربي بأسره.(/23)
14 – معالجة اللغة العربية آليًا باستخدام الحاسوب (الكمبيوتر)، لأن اللغة هي المنهل الطبيعي الذي تستقي منه تكنولوجيا المعلومات أسس ذكائها الاصطناعي، والأفكار المحورية بلغات البرمجة.
لقد أصبحت معالجة اللغات الطبعية آليًا بواسطة الحاسوب أحد المقومات الأساسية في تصميم نظم المعلومات. ولعلنا إذا نجحنا في أن يتكلم الحاسوب بالعربية، فسوف ننجح في أن يتكلم بها العلم الحديث أيضًا. ويقول أحد العلماء العرب المتخصصين في مجال تكنولوجيا المعلومات – الدكتور نبيل علي: "جاءت تكنولوجيا المعلومات لتضيف إلى أزمات العربية بعدًا فنيًا متعلقًا بمعالجة اللغة العربية آليًا بوساطة الحاسوب، ولا يخفى على أحد أن وضعنا اللغوي الراهن، ينذر بفجوة لغوية تفصل بيننا وبين كثير من الأمم، التي تولي لغاتها أقصى درجات الاهتمام، بوصفها – أي اللغة – شرطًا أساسيًا للحصول على عضوية نادي المعلومات العالمي".
أيها السادة:
لن نمل من الترديد أن الفرق بين التعريب والتغريب نقطة، ولكنها نقطة سوداء بحجم الكرة الأرضية، تغشى عيوننا فلا نرى ما حولنا، وعندما حدثونا عن تنوير مصطنع، بدلوا هذه النقطة بقرص الشمس عند الظهيرة، فبدل أن ينير الطريق، غشيت الأبصار فضللنا الطريق.
فإلى كل المعتزين بلغتنا العربية الخالدة، المشغوفين بها، المستمسكين بعراها، المنافحين عنها، صمودًا إلى آخر المدى في حصن العروبة. وإلى المغتربين عن لغتهم، المعتزين بلسان غيرهم، المبهورين بسلطان خصوم قومهم: تعالوا إلى هويتكم، إلى أصالتكم، إلى جذوركم، إلى قوميتكم، حتى نتمكن جميعًا من تجاوز المحنة، ونجتاز الأزمة.
أيها السادة:
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد: الآية 11].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،(/24)
العنوان: العربيةُ تشكو أبناءَها
رقم المقالة: 104
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
أشكُو الزمانَ وقلَّةَ النُّصَرَاءِ وتَوَثُّبَ الحُسَّادِ والأعداءِ
وأرى الحِرَابَ تجمَّعَتْ لتنُوشَنِي وتَعِيْثَ في دَوحِيْ وفي أفيائي
ويَعُقُّني منْ كنتُ أرجو حبَّهم وودِادَهم، في الليلةِ الظَّلماءِ
وأرى ازوِرارًا في وُجوهِ أحبَّتِي وتنكُّبًا عن أيكَتي الخضراءِ
لكنَّ قلبي ليس يصدَعُه سوى جَحْدِ الحبيبِ وقسوةِ الأبناءِ
ربَّيْتُهُم في دَوحَتي أعطيْتُهم من جنَّتي وكسَوْتُهم برِدَائي
ومنَحْتُهم حُلَلَ الفَخَارِ قَشيبةً فَخرًا يجاوِزُ جَبهةَ الجَوْزَاءِ
لكنَّهم لم يَدْفَعُوا عن حُرمَتي أو يُعْظِمُوا قَدري وحقَّ وفائي
أنا أمُّهم ، أمُّ اللغاتِ جميعِها فضلٌ خُصِصْتُ به على النُّظَرَاءِ
إني أنا الضادُ التي قد شُرِّفَتْ وتفرَّدَتْ بمحاسنٍ وبهاءِ
اللهُ عظَّمها فصاغَتْ وَحْيَه بالمعجزاتِ وبالسَّنَا الوُضَّاءِ
عَرَضَتْه في لفظٍ بهيٍّ ساحرٍ وجمالِ إيقاعٍ وحُسنِ أداءِ
صاغَتْه فكرًا مُعْجِزًا متألِّقًا خرَّتْ لديه أكابرُ الفُصَحَاءِ
قد صارتِ الفُصحى يتيمًا ضائعًا ما بينَ أبناءٍ لها جُهَلاَءِ
لا يعرِفُون أصولَها وجُذورَها أو يَغتَذون برَوضِها المِعْطَاءِ
هَجَرُوا الكِتابَ فضاعَ سمتُ كلامِهم واعتاصَ نطقُ حروفِهم بَصَفَاءِ
كم من خطيبٍ بينكم لحَّانَةٍ مُسِخَتْ لديه ملامحُ الأشياءِ
رَفَعَ المضافَ ولم يُوَقِّرْ حقَّه أو جرَّ أسماءً بلا استحياءِ
ولربَّما نصبَ الكلامَ جميعَه من غيرِ ما فرقٍ ولا استثناءِ
ومحاضرٍ هَصَرَ الحديثَ مكسِّرًا ضِلْعَ الحروفِ ورَقْبَةَ الأسماءِ
وإذا تحدَّث في الدروسِ معلِّمٌ هجرَ الأصيلَ إلى لُغَىْ الدَّهْمَاءِ
رَطَنُوا بغيري ذِلَّةً وخَساسةً هانت عليهم عِشْرتي وإخائي
كم زاحَمَتْني أَلْسنٌ عجميَّةٌ وعَدَتْ عليَّ رَطَانَةُ الهُجَنَاءِ(/1)
ما بالُهم لا يعبؤونَ بحُرْمَتِي أو يَشفعونَ لذِلَّتِي وعَنَائي
أصبحتُ أسألُ : أين أهلُ مودَّتي؟ أين الصِّحَابُ؟ وأين أهلُ رجائي!
كم صُغْتُ من حَسَنٍ ومن أعجوبةٍ وخَطَرْتُ فوقَ حديقةٍ زهراءِ
ورقصتُ في ثوبٍ بهيٍّ ساحرٍ كالغِيْدِ بين أناملِ الشعراءِ
كم سُحْتُ في دنيا العلوم رشيقةً أختالُ بينَ أزاهرِ العلماءِ
جابُوا بحورَ مدائني فمنحتُهمْ ما فيَّ من ذهبٍ ومِنْ لأْلاَءِ
واليومَ ما مِنْ جاهلٍ متعالمٍ لم يَشدُ بعدُ معالمَ الإملاءِ
إلاَّ ويُفتي في أُموريَ ضَلَّةً ويمورُ من حقدٍ وطولٍ عِداءِ
ويقولُ: إني قد غَدَوتُ عتيقةً وأَضيقُ عن عِلْمٍ وعن أنباءِ
إن اللسانَ على النفوس علامةٌ وبه تُقاسُ أصالةُ الأُصَلاَءِ
وبه تُمَيَّزُ أمَّةٌ من غيرِها وبه افتِخَارُ الفتيةِ الشُّرَفَاءِ
كم من لغاتٍ في الورى مَطموسةٍ نَبُهَتْ بفضلِ رجالِها النُّجَبَاءِ
فبنُو اليهودِ تمسَّكُوا بلسانِهِمْ أحْيَوْهِ من موتٍ وطولِ عَفَاءِ
وأرى بَنِيَّ تنكَّرُوا لجلودِهم واستعبدَتْهُم أَلْسُنُ الغُرباءِ
وتنكَّبُوا ظَهرَ الطَّريق لأمِّهم أفَبَعْدَ ثديِ الأمِّ من أثداءِ؟(/2)
العنوان: العربية وطرائق اكتسابها
رقم المقالة: 601
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
ملخص البحث:
يرمي هذا المبحث إلى معالجة ضعف العربية لدى الكثرة الكاثرة من الناطقين بها، معتمدًا نظرية ابن خلدون في اكتساب اللغة وعدِّها ملكة صناعية، ونظرية تشومسكي في القدرة الفطرية لتعلم اللغة.
وهو يقترح خطة لاكتساب العربية يدلل عليها بتجارب ناجحة (قديمة وحديثة) وتتلخص هذه الخطة بالبنود الآتية:
• تنشئة الطفل على سماع الكلام الفصيح.
• قراءة النصوص الفصيحة وحفظها.
• تعلم مبادئ النحو الوظيفي والبلاغة.
• تعلم مبادئ التجويد والتمرس به.
• مزاولة الفصاحة قراءة وكتابة وكلامًا.
• أثر وسائل الإعلام في اكتساب هذه الملكة.
تمهيد:
لم يعد يخفى على أحد ما تعانيه مجتمعاتنا العربية من ضعف في اللغة، وبعد عن العربية، وعيٍّ في البيان، وعدم قدرة على التعبير والكتابة، وليس ذلك قاصرًا على العامة من أبناء المجتمع بل هو يطال الخاصة من مثقفيهم وأرباب الشهادات العالية منهم بل النخبة التي يتوسم أن تتبوأ أعلى مقام في الفصاحة والبيان وامتلاك ناصية العربية.
وإذا قلّب المرء بصره بين أقطار العربية المختلفة راجيًا أن يحظى بما يشفي الغلة انقلب إليه البصر خاسئًا حسيرًا من تردِّي المستوى وضياع العربية بين أهلها.
إنَّا لفي زمنٍ تَركُ القَبيحِ بهِ مِن أكثرِ الناسِ إحسانٌ وإجمالُ
ويزداد العجب حين يذكر المرء أن مادة اللغة العربية تحظى بالمساحة الكبرى بين المواد التي يدرسها الطالب في سني دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم تكون العاقبة عجزًا عن إقامة اللسان بعبارة، أو قراءة فقرة، أو كتابة صفحة دون أخطاء مخلة أو ضعف في التعبير يؤدي إلى قلب الحقائق وطمس المعالم وسوء النتائج.(/1)
ومن ثم كان لابد من إعادة النظر في طرق تدريس العربية لأبنائنا وطلابنا، لسد الخلل الذي يتسرب منه الضعف إلى ألسنتهم ولرسم المنهج الذي يمكنهم من امتلاك ناصية اللغة، وإقامة ألسنتهم على الجادة.
وفيما يأتي بيان لخطة مقترحة لاكتساب العربية والفصاحة أرجو أن تحظى من سديد آراء المشاركين في هذا المؤتمر ودقيق ملاحظاتهم ما ينفي عنها الزيغ ويستقيم بها على الصراط السوي.
الخطة المقترحة
تعتمد هذه الخطة في أركانها الأساسية على نظريتي ابن خلدون وتشومسكي وفيما يأتي بيان ذلك:
عدَّ ابن خلدون اللغة ملكة صناعية فقال في مقدمته: ((اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئذٍ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة، والملكات لا تحصل إلاّ بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة ثم يتكرر فتكون حالاً، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة))[1].
وجاء علم اللسانيات ليؤيد ما ذهب إليه ابن خلدون في نظرية اكتساب اللغة، إذ يرى تشومسكي – أحد أقطاب علم اللسانيات – أن الطفل يولد ولديه معرفة فطرية لتعلم اللغة، أو أن لديه ملكة تهيِّئه لهذا العلم، وهذه المعرفة تؤلف الأداة لاكتساب اللغة وهي موجودة عمومًا لدى كل إنسان[2].(/2)
ويؤكد علم اللسانيات أن الأطفال يحاكون أو يقلدون ما يسمعونه من الكبار، ولذا تعد المحاكاة أحد الأساليب المهمة التي يستعملها الطفل عند اكتسابه اللغة، فقد أوضحت البحوث العلمية أن ترديد المسموع أسلوب واضح ومميز في التعلم المبكر للغة وجانب مهم في الاكتساب المبكر لأصواتها[3].
إن محاكاة الطفل لما يسمعه تكون بادئ بدءٍ دون فهم أو تركيز على المعلومات المتعلقة بالمعاني التي تمثل البنية العميقة للغة، ويستمر الطفل بهذه المحاكاة السطحية في المراحل الأولى من الاكتساب اللغوي لعدم امتلاكه القدرة الضرورية لربط المعاني بالعبارات والألفاظ، ولكن الأطفال مع مرور الزمن وفهم مستوى المعاني في اللغة يبدؤون في تركيز الكثير من اهتمامهم وربما كل اهتمامهم على مستوى البنية العميقة للغة، كما ينشغلون في محاكاة هذا المستوى، حتى ربما جار ذلك على تركيزهم على المحاكاة السطحية بحيث يبدون كأنهم مقلدون غير مجيدين[4]، إن الربط بين هذه البنية العميقة وتلك السطحية هو أقرب ما يكون إلى ما عبَّر عنه ابن خلدون بمراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال...(/3)
ولم يكتف ابن خلدون بهذا بل راح يبيّن سبل اكتساب هذه الملكة بعد أن فسدت الألسنة، حيث يقول: ((اعلم أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت وفسدت، إلاّ أن اللغات لما كانت ملكات كان تعلمها ممكنًا شأن سائر الملكات، ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن، والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضًا في سائر فنونهم، وحتى يتنَزَّل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور مَنْزلة من نشأ بينهم ولُقِّن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخًا وقوة))[5].
بناءً على هذا كله يمكن أن نقترح الخطة التالية لاكتساب ملكة اللغة:
1- تنشئة الطفل على سماع الكلام الفصيح:
وذلك بأن يخضع الطفل لدورات منظمة من خلال رياض الأطفال لا يسمع فيها إلاّ الفصيح من الكلام، وقد أثبتت هذه الطريقة فعاليتها وآتت أكلها على خير وجه من خلال التجارب التي أجراها الأستاذ الدكتور عبد الله الدنان على طفليه أولاً ثم على رياضٍ للأطفال في كل من الكويت ودمشق، وهو بصدد تعميم هذه التجربة على أقطار الوطن العربي الكبير، وقد بلغت المدارس التي تطبِّق طريقته اثنتين وسبعين مدرسةً في نحو تسع دول عربيَّة.(/4)
ويؤكد د.الدنان – الذي درس أصول التربية واكتساب اللغة ومهارات التعليم في بريطانيا وكان له مشاركة فعالة في البرنامج التلفازي الناجح (افتح يا سمسم) – أن مرحلة الخصوبة اللغوية إنما تنحصر في المدة الواقعة بين السنة الأولى والسنة السادسة من عمر الطفل؛ إذ يحاكي الطفل ما يسمعه من حوله وتكون لديه القدرة العجيبة على المحاكاة والتركيب والتحليل والقياس والتوليد والاشتقاق والنحت، إلى حدٍّ جعل التربويين يفكرون بتلقين الطفل عدة لغات بآن واحد في هذه السنِّ كما يجري في سدني بأستراليا، إذ تقوم إحدى المؤسسات التربوية بتلقين الأطفال سبع لغات بآن واحد!!.
وأنا أشهد أن تجربة د.الدنان قد حظيت بنصيب لا بأس به من النجاح، فقد سمعت حوارًا مسجلاً على الفيديو بينه وبين ابنه ذي السنوات الثلاث فكانت العربية تجري طيِّعة غضَّة على لسان الطفل بلا تكلف ولا اصطناع، وإن تعجب فعجب أمره حين كان يجيب أمه بالعامية إما تدخلت في ذلك الحوار ثم يعود إلى عربيته مع أبيه، فما كانت العربية بمانعة له من محاكاة لغة أمه العامية، فلكل مقام مقال، ولكل سؤال جواب.
ثم زرت الروضة التي أسسها في الكويت عام 1989م، وزرت الروضة التي أسسها في دمشق عام 1995م، فسمعت عجبًا من حديث الأطفال بالعربية الفصيحة، وسمعت طُرَفًا من أفانين اشتقاقهم وتوليدهم وقياسهم، مما جعلني أجري التجربة مع بعض أولادي في حدود ضيقة وقد كان فيها نفع كبير وأجراها بعض أصحابي أيضًا فأثبتت نجاحًا باهرًا.
وقد شهد بنجاح هذه التجربة رهط من أهل العلم وأرباب اللغة على رأسهم أستاذنا العلامة سعيد الأفغاني رحمه الله، على أنه أبدى ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي اقتصار التلقين على الحوار وقص القصص بالعربية الفصيحة، وعدم اشتماله على نصوص سهلة من عيون الأدب العربي تساعد الطفل على اكتساب اللغة وتنمية الذوق الأدبي الرفيع، وامتلاك أدوات الفصاحة والبيان.(/5)
وأنا مع أستاذنا الجليل في كل هذا، فلا بدَّ إلى جانب التلقين هذا من عرض طائفة من نصوص العربية تتخير من أسهلها لفظًا وأسلسها عبارةً وأيسرها حفظًا وأقربها فهمًا، وأحلاها إيقاعًا ووزنًا، ليسمعها الطفل فيطرب لها، ويتغنى بها، ويحفظها فتكون له رصيدًا وزادًا لغويًّا يرتقي به إلى مرتبة الفصحاء والأبيِناء.
أذكر من هذه النصوص المتخيَّرة – على سبيل التمثيل – صغار السور القرآنية، وهي مما يمكن أن يردِّده مجموع الأطفال مع معلمهم بصوت واحد يجعل حفظه سهلاً، بل ينقشه في ذاكرة الطفل نقشًا يصعب أن يزول مع الزمن، ويمكن أن تتوسع دائرة هذه السور لتشمل جزء عمَّ كلَّه وتُضَم إليه سورٌ أخرى يسهل تردادها على ألسنة الأطفال.
ومن هذه النصوص أيضًا قصائد تُتخيَّر من أرق الشعر وأعذبه جرسًا وأخفِّه وقعًا، مما يمكن أن يتغنى به الأطفال، كقصائد شوقي على ألسنة الحيوان، وقصائد سليمان العيسى الخاصة بالأطفال، بل إن المتتبِّع للشعر العربي يقف على نماذج من عيون الشعر القديم بلغت الغاية في العذوبة والرقة والسهولة والخفَّة، من مثل قول العباس بن الأحنف المتوفى (192هـ):
وكانت جارةً للحُ ورِ في الفِردَوسِ أحقابا
فأمسَتْ وهي في الدُّنيا وما تألفُ أَترابا
لها لُعَبٌ مُصَفَّفةٌ تُلقِّبُهُنَّ ألقابا
تُنادي كُلَّما رِيعَتْ مِنَ الغِرَّة يا بابا[6]
وأمثالها كثيرة في أدبنا العربيّ، وقد كان أستاذنا العلامة أحمد راتب النفاخ يحفِّظ ولده من غرر الشعر الجاهلي والإسلامي الشيء الكثير ولم يكن عمره يزيد على أربع سنوات!
ولا بدَّ من التنبيه هنا على ملاحظة في غاية الأهمية، وهي وجوب أن يكون المعلم متقنًا للغة لا يلحن فيما يلقِّن للطفل، وإلاَّ ضاع الجهد سُدى وانقلب الأمر ضررًا، لأن ما بني على فسادٍ فإلى فسادٍ يؤول، واللحن الذي يلقَّن للطفل سينقش في ذهنه وسيؤدي إلى قياس فاسد عنده.(/6)
وينبغي أيضًا أن يجمع المعلم إلى إتقانه للغة، تجويدًا لأصواتها، وإفصاحًا للنطق بها، وسلامة من آفات النطق، ومن طغيان بعض اللهجات العامية على لسانه، لأن الطفل سيحاكي ما يسمعه، فإذا سمع اللفظ مجوّدًا فصيحًا خاليًا من الآفات أدَّاه أحسن الأداء، وإلاَّ انطبع الفساد في ذهنه وبَعُد عن الفصاحة بُعْدَ معلمه عنها.
2- قراءة النصوص الفصيحة وحفظها:
ويكون ذلك بعد أن يشبَّ الطفل عن الطوق ويغدو قادرًا على القراءة، وعلى أن يباشر ذلك بنفسه، عند ذلك لا بدَّ من وضع قائمة من الكتب المشتملة على أفصح النصوص يقرؤها الطالب، ويتذوق ما فيها، ويصطفي ما يحسن حفظه، ويحلو ترداده، ليكون له زادًا يقيم به لسانه، ويُعلي بيانه، ولا بدَّ له في سبيل ذلك أن يتخذ كنَّاشًا أو كراسًا يكتب فيه اختياراته تمهيدًا لحفظها، وما أحسن ما قال في ذلك يحيى بن خالد لولده: ((اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وحدثوا بأحسن ما تحفظون، وخذوا من كلِّ شيءٍ طرفًا، فإنه من جهل شيئًا عاداه))[7].
ولا ريب أن أول كتاب يتصدَّر هذه القائمة هو القرآن الكريم، فهو مفتاح العربية وبوَّابتها، والأساس المتين لكل راغب في إتقانها، وما أفلح من أفلح من أدباء العربية إلاّ بحفظهم للقرآن الكريم وتلاوتهم لآياته، وتذوقهم لبلاغته، ووقوفهم على روائعه وبدائعه، ورحم الله أستاذنا الأفغاني، إذ يقول: ((بين علوم القرآن الكريم وعلوم اللغة العربية ترابط محكم، فمهما تتقن من علوم العربية وأنت خاوي الوفاض من علوم القرآن فعلمك بها ناقص واهي الأساس، وقدمك فيها غير ثابتة، وتصورك للغة غامض يعرضك لمزالق تشرف منها على السقوط كل لحظة، وسبب ذلك واضح لكل من ألَمَّ بتاريخ العربية، فهو يعلم حق العلم أنها جميعًا نشأت حول القرآن وخدمة له))[8]. ومن هنا قيل: لولا القرآن ما كانت عربية.(/7)
يلي ذلك الحديث النبوي الشريف، وفيه من عيون البلاغة والفصاحة ما لا يوجد في كتاب قط، ولا غرو فصاحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد، وجوامع الكلم التي أثرت عنه منهل ثرٌّ من مناهل الفصاحة والبيان، وفي ذلك يقول يونس بن حبيب: ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[9].
ثم نهج البلاغة لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرَّم وجهه فهو مجمع من مجامع الفصاحة، لا تكاد تقرأ كلمة فيه إلاّ وتجد حلاوة فصاحتها وعذوبة بيانها في فمك وسمعك وقلبك.
وفي صاحبه يقول السيد الشريف الرضي رحمه الله: ((مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها وعنه أُخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا، لأن كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي))[10].
ثم مجمع الأمثال للميداني، والأمثال اختصار للفصاحة، وتمثيل للبلاغة في أجمل صورها، وقديمًا عُرِّفت البلاغة بأنها الإيجاز، وما ثَمَّةَ أوجزُ من مثل.
ثم أساس البلاغة للزمخشري، وهو خير معجم لتعليم الفصاحة، لأنه اشتمل على نماذج من فصيح القول وبليغ العبارات لا يَشْرَكُهُ فيها معجم آخر. وفي ذلك يقول صاحبه: ((ومن خصائص هذا الكتاب تخيّر ما وقع في عبارات المبدعين وانطوى تحت استعمالات المُفلقين، أو ما جاز وقوعه فيها، وانطواؤه تحتها، من التراكيب التي تملُح وتحسُن، ولا تنقبض عنها الألسُن، لجريها رَسْلاتٍ على الأسَلات، ومرورها عَذْباتٍ على العَذَبات))[11].
ومما يمكن أن أن يستعان به لتنمية هذه الملكة والتمكن من ناصية اللغة كتب المختارات الأدبية والشعرية وهي كثيرة متنوعة، منها القديم ومنها الحديث، أشير فيما يأتي إلى بعض أسمائها عسى أن ينتفع الطالب بما يصل إليه منها:(/8)
- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
- العقد الفريد لابن عبد ربه.
- زهر الآداب للحصري القيرواني.
- ربيع الأبرار للزمخشري.
- المستطرف من كل فن مستظرف للأبشيهي.
- مقالات الأدباء ومناظرات النجباء لعلي بن عبد الرحمن الغرناطي.
- من روائع الأدب للشيخ أحمد نصيب المحاميد.
- عيون الأشعار وروائع الأفكار للأستاذ هشام عبد الرزاق الحمصي.
- خير الأدب عند العرب للأستاذ هشام عبد الرزاق الحمصي.
- كيف تغدو فصيحًا عفّ اللسان د.محمد حسان الطيان.
إن كثرة المطالعة في هذه الكتب تعين الطالب بلا ريب على اكتساب ملكة اللغة، أما من أراد التخصص في هذا المجال فلا بد له من الرجوع إلى أركان هذا الفن – فن الأدب – التي ذكرها ابن خلدون في كلمته المشهورة: ((وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها))[12].
وأنا ضامن لمن قرأ هذه الكتب الأربعة أن يغدو من أرباب الفصاحة والبيان والأدب والبلاغة فضلاً عن اكتسابه اللغة، على أن تكون قراءته لها قراءة تدبُّر وتبصُّر لا قراءة مطالعة واستجلاب للنوم.(/9)
ولعل خير من وصف هذه القراءة الأستاذ العلامة والأديب المتذوق محمود محمد شاكر رحمه الله – وهو بلا شك أحد شيوخ الفصاحة فيما أدركناه من زمن – وذلك حيث يقول واصفًا منهجه في القراءة وطريقته في التذوق: ((ويومئذٍ طويت نفسي على عزيمة حذَّاء ماضية، أن أبدأ وحيدًا منفردًا، رحلة طويلة جدًّا، وبعيدة جدًّا، وشاقَّة جدًّا، ومثيرة جدًّا. بدأت بإعادة قراءة الشعر العربي كله، أو ما وقع تحت يديّ منه يومئذٍ على الأصح، قراءة طويلة الأناة عند كل لفظ ومعنى، كأني أقلبهما بعقلي وأرزوهما "أي: أزنهما مختبرًا" بقلبي، وأجسُّهما جسًّا ببصري وببصيرتي وكأني أريد أن أتحسسهما بيدي، وأستنشي "أي: أشم" ما يفوح منهما بأنفي، وأسَّمَّع دبيب الحياة الخفيّ فيهما بأذني، ثم أتذوقهما تذوُّقًا بعقلي وقلبِي وبصيرتي وأناملي وأنفي وسمعي ولساني، كأني أطلب فيهما خبيئًا قد أخفاه الشاعر الماكر بفنِّه وبراعته، وأتدسَّس إلى دفينٍ قد سقط من الشاعر عفوًا أو سهوًا تحت نظم كلماته ومعانيه دون قصد منه أو تعمُّد أو إرادة))[13].
أوردتُ هذا الكلام العالي ليقف طالب الفصاحة على طريقة أهل الفصاحة في تذوق الكلام الفصيح، إنها محاولة للتأسِّي، ومطاولة للتشبُّه، عسى أن نقرأ فننتفع، ونقلِّد فنفلح:
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلَهُم إنَّ التشبُّهَ بالكِرامِ فَلاحُ
بقي أن أشير إلى أنه يحسن أن يُجمع إلى ما ذكرتُ من كتبٍ بعضُ دواوين الشعر القديمة لفحول الشعراء من أمثال المتنبِي وأبي تمام، فإن في الشعر ما لا يوجد في النثر من عذوبة اللفظ، وحلاوة الإيقاع، وجمال الصورة، وتدفُّق العاطفة، وهي أدعى للحفظ وأرجى للرواية والتمرُّس على الفصاحة[14].(/10)
ولعل خير ما أختم به هذه الفقرة كلمة لواحد من أرباب الفصاحة والذوق الأدبي الرفيع في زماننا هذا هو الأستاذ يوسف الصيداوي، يقول فيها: ((إن إحسان اللغة إنما يكون في مصاحبة القرآن والحديث، ونهج البلاغة وديوان زهير، وجرير والفرزدق والأخطل، وبشار وأبي العتاهية، وأبي تمام والبحتري والمتنبِي، وفي ملازمة الجاحظ، وأسألك بالله أن تستمسك بكتب الجاحظ فإنها ينبوع لغة وأدب لا ينضب، وفي ملازمة الأغاني فإنه مدرسة لطواعية المفردات في مواضعها من جَزْل التراكيب. فاستظهر الروائع من كل ذلك، واحفظها عن ظهر قلب كما تحفظ اسمك))[15].
3- تعلم النحو الوظيفي والبلاغة:
النحو الوظيفي: مجموعة القواعد التي تؤدي الوظيفة الأساسية للنحو، وهي ضبط الكلمات، ونظام تأليف الجمل ليسلم اللسان من الخطأ في النطق والقراءة، ويسلم القلم من الخطأ في التأليف والكتابة.
أما النحو التخصصي فهو ما يتجاوز ذلك من المسائل المتشعِّبة، والبحوث الدقيقة التي حفلت بها الكتب الواسعة.
النحوُ يُصلِحُ من لسانِ الألكنِ والمرءُ تُكرمه إذا لم يلحنِ
والنحوُ مثلُ الملح إن ألقيته في كلِّ ضدٍّ من طعامك يحسنِ
وإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها فأجلُّها عندي مقيمُ الألسنِ[16]
إن تعلم النحو يكسب الطالب مناعة ضد ما يعترضه من لحن أو خطأ في لسانه أو في قلمه، إنه سورٌ يحمي صاحبه من شر الانزلاق في هاوية الخروج عن الفصاحة، لأنه لا فصاحة للاحنٍ، ولا نجاة للمرء من اللحن إلاّ بتعلم النحو بعد اكتساب اللغة الصحيحة والاطلاع على أدبها وحفظ نصوصها كما أسلفنا، ومهما حفظ الطالب من نصوص وتعلم من أدب فلن يكون بمأمن من الخطأ إن هو لم يتعلم النحو، لأن تسرُّب الفساد اللغوي إلى كل شيء من حوله سيحول بينه وبين استقامة اللسان على سَنن واحد، مما قد يوقعه في اللحن، وهنا يبرز أثر النحو وتتضح أهميَّته إذ به يتبين الخطأ من الصواب، وبالاحتكام إليه يتَّضح نظام اللغة ووظيفة كل كلمة فيها.(/11)
وما كان وضع النحو أصلاً إلاّ لهذه الغاية، فقد كان فشوُّ اللحن الباعثَ الأول على وضع قواعد النحو واستنباط أحكامه، وقد عدَّ الأوائل تعلم النحو من المروءة، إذ روى ثعلب عن محمد بن سلام قوله: ((ما أحدث الناس مُروءة أفضل من طلب النحو))[17]. وقال شعبة: ((مثل الذي يتعلم الحديث ولا يتعلم النحو، مثل البُرنس لا رأس له))[18]. وكان أيوب السَّختياني يقول: ((تعلموا النحو، فإنه جمالٌ للوضيع، وتركُه هُجنة للشريف))[19]، ولا جرم فاللحن عندهم ممقوت منبوذ، وصاحبه مكروه لا حرمة له: ((ليس للاحن حرمة)). وفي ذلك يقول علي بن محمد العلوي:
رأيتُ لسانَ المرءِ رائدَ عَقلِهِ وعُنوانَه فانظُر بماذا تُعَنْوِنُ
ولا تَعدُ إصلاحَ اللِّسانِ فإنَّهُ يُخبِّرُ عمَّا عندَهُ ويُبَيِّنُ
ويُعجِبُني زِيُّ الفَتى وجَمالُه فيَسقُطُ من عَينيَّ ساعةَ يَلحَنُ[20]
ومن أطرف ما يروى في استنكار اللحن واستهجانه أن أعرابيًا دخل السوق فسمع أهله يلحنون في كلامهم فقال: سبحانك اللهم يلحنون وترزقهم[21]؟!...
ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أن تعلم النحو وحده لا يكسب فصاحة ولا يثري لغةً، وإنما هو يقوِّم اللغة التي يكتسبها المرء مما تلقَّنه وسمعه من كلامها، وما قرأه ووعاه من نصوصها، وما زاوله وتمرّس عليه من فصيحها وبليغها، ثم يأتي النحو بعد ذلك ليحيطَ هذا كله بسورٍ منيع يحفظه، وبناء محكم يجمعه.
وهذا ما بيَّنه عالمنا الفذّ ابن خلدون حين أكَّد أن السمع أحد الأسس لتعلم اللغات، إذ عن طريقه ينغرس الحسّ اللغوي السليم ليصبح ملكةً طبيعية في الإنسان: ((وهذه الملكة إنما تحصلُ بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطُّن لخواصّ تراكيبه، وليست تحصُل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علمًا بذلك اللسان ولا يفيد حصول الملكة بالفعل في محلها))[22].(/12)
إذًا فالنحو يكمل تلك السلسلة التي ابتدأناها بسماع الكلام الفصيح، وأردفناها بقراءة نصوصه وحفظ روائعه. إنه التاج الذي يتوِّج به الطالب ما اكتسب من ملكات اللغة:
اقتَبِسِ النحوَ فنِعمَ المقتَبَسْ والنحوُ زَينٌ وجَمالٌ مُلتَمَسْ
ويأتي علم البلاغة بعد هذا كله ليعلم الطالب سبل استعمال هذه الملكة التي امتلكها، كيف يتكلم؟ وكيف يصيب المعنى والقصد؟ ومتى يؤكد كلامه؟ ومتى يرسله؟ ومتى يحسن الإيجاز؟ ومتى يحسن الإسهاب؟ وأين يضع كلماته ليوافق مقتضى الحال؟... وغير ذلك من بحوث يثيرها علم البلاغة فتكتمل للمرء أدوات الفصاحة والبيان، لأن المهارة ليست بكثرة الكلام ولا طول البيان، وإنما هي بوضع الأمور في نصابها، وإعطاء المعاني مستحقاتها، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل تعبير أصولاً.
قال خالد بن صفوان لرجل كثر كلامه: إن البلاغة ليست بكثرة الكلام، ولا بخفَّة اللسان، ولا كثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة[23]، وقيل لرجل: ما البلاغة؟ فقال: حسن الإشارة، وإيضاح الدلالة، والبصر بالحجة، وانتهاز مواضع الفرصة[24]، وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي: ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل[25].
وقال ابن رشيق في العمدة: ((البلاغة حسن العبارة مع صحة الدلالة))[26].
فقد يكون السكوت في بعض المواضع أبلغ من الكلام، وقد تكون اللمحة الدالة أبلغ من الإطالة المملة، وربَّ إشارة أبلغ من عبارة، ورحم الله من قال:
واعلم بأن من السكوت إبانةً ومن التكلم ما يكون خبالاً[27](/13)
ولا بدَّ من التنبيه على أمر جدّ هام وهو وجوب تعلم البلاغة من كتب أئمة البلاغة الذين كتبوا عنها بأسلوب بليغ وبيان عالٍ كالإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لأن القارئ فيهما يأخذ البلاغة من منبعها، فيتعلم أصول هذا الفن مكتوبة بقلم أديب بارع متذوق وفصيح بيِّن متفوق، فيجمع في قراءته إلى المعرفة الذوق، وإلى العلم الفنَّ، وحسبك به من غنم.
على أن ذلك لا يعني ألاَّ يستعين بالمختصرات السهلة التي وضعت في هذا الفن (كالبلاغة الواضحة)، فإنها وسيلة يتوسل بها الطالب إلى تلك الكتب الرائعة وبالله المستعان.
وأما كتب النحو فكثيرة جدًّا، ولعل أجمعها مع الاختصار والتركيز كتاب قواعد اللغة العربية لحفني ناصف وزملائه، فإنه جمع كل بحوث النحو بإيجاز واعتماد لرأي جمهرة النحاة دون الدخول في التفاصيل غير المجدية والتفريعات والشذوذ الذي جرَّ من المضرة أضعاف ما جلب من المنفعة للغة وأهلها.
وكنت قد سمعت من أستاذنا الأفغاني رحمه الله ثناءً كبيرًا على هذا الكتاب وصل إلى حدِّ القول: إنه ما من كتاب بعد كتاب سيبويه خير من كتاب قواعد اللغة العربية.
هذا وممَّا ظهر بأَخَرة في هذا الميدان كتاب الكفاف للأستاذ يوسف الصيداوي، وهو كتاب يعيد صوغ قواعد العربية وينفي عنها كثيرًا من غوائلها ببيان رائع ونماذج من فصيح القول تغني الطالب غير المتخصص وتزوده زادًا حسنًا.
4- تعلم مبادئ التجويد والتمرس به:
التجويد إعطاء كل حرف حقّه ومستحقّه مخرجًا وصفة[28]، وهو أمر يعدُّ من لوازم الفصاحة، إذ لا فصاحة لمن تتداخل الحروف في نطقه، أو يعتورها نقص في النطق، أو حَيْفٌ في الصفة، أو آفَةٌ من آفات الكلام كاللثغة والتأتأة والفأفأة وما أشبه ذلك مما فصَّل الحديث عنه أرباب الفصاحة والبيان.(/14)
إن تلقين الترتيل للناشئ في رحاب العربية أمر مهم للغاية، وهو يبدأ من كتاب الله عز وجل لينتهي بإتقان اللفظ العربي أيًا كان موضعه، إذ يضمن للناطق التلفظ بكلمات اللغة على النحو الأمثل الذي تتلقفه الآذان بشغف وتسمعه بعذوبة ويكون له أكبر الأثر في النفوس، خلافًا لمن يخرج الحروف من غير مخارجها، ويعطيها غير صفاتها مما يجعل نطقه ممجوجًا، يضيق به سامعه، وينتظر لحظة سكوته وفراغه، وما أكثر ما ابتلي الناس اليوم بمثل هؤلاء الناطقين الذي ذهبوا برُواء اللغة، ففقدت على ألسنتهم أجمل خصائصها وأروع صفاتها، واختلط حابل الحروف بنابلها، فرقَّقوا ما حقُّه التفخيم، وقلقلوا ما حقّه الاستطالة، وهمسوا ما حقّه الجهر، وضاعت على ألسنتهم مخارج الحروف وصفاتها، وصرنا إلى ما قاله العباس بن الأحنف:
مَن ذا يُعيرُكَ عينَه تَبكي بِها أرأيتَ عَينًا للبُكاءِ تُعارُ[29]
وإذا كان ابن الجزري يقول في منظومته المشهورة:
والأَخذُ بالتَّجويدِ حَتمٌ لازمُ مَن لم يُجَوِّدِ القُرانَ آثِمُ[30]
فإني أزيد فأقول إن من لم يجود القرآن فلن تكتمل له أدوات الفصاحة مهما أوتي من علم بالعربية، وبصر بالأدب، وحفظ للشعر، ودراية بالنحو والصرف، لأن نطقه سيبقى في مَنْزلة لا ترقى إلى ما ينبغي للناطق بالعربية، وذلك لكثرة ما اختلط في المجتمع من اللغات واللهجات، وما كثر من الفساد اللغوي والنطقي.(/15)
وما وضع التجويد حين وضع إلاَّ لمثل هذا، صدعًا بالأمر الإلهي: {وَرَتِلِ القُرْءَانَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4]، ووصولاً إلى الوجه الأمثل لهذه التلاوة، وقد حظي هذا الفن بمؤلفات جليلة بسط أصحابها فيها الكلام على مخارج الحروف وصفاتها وأحكام النون الساكنة والتنوين من إظهار وإخفاء وإدغام وإقلاب، وأحكام الميم الساكنة من إظهار شفوي وإدغام وإخفاء، وأحكام الراء وما أشبهها، وأحكام الممدود بأنواعها المختلفة، والعجيب أن بعض هذه المصنفات لم يقتصر على هذه الأحكام وإنما تعدَّاها إلى بيان ما ينبغي تجنبه من أغلاط وأخطاء في التلاوة والترتيل مما يحتاج طالب الفصاحة اليوم إلى أن يعلمه ليجتنبه ويتحاماه في كلامه.
ولعلَّ من أشهر ما ألف في هذه البابة رسالة ((التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي)) لأبي الحسن علي بن جعفر السعيدي المقرئ (ت461هـ)[31]، وقد جاء في مستهلها: ((... واللحن الخفي لا يعرفه إلاَّ المقرئ المتقن الضابط الذي قد تلقَّن من ألفاظ الأستاذين المؤدى عنهم، المعطي كل حرف حقه غير زائد فيه ولا ناقص منه، المتجنب عن الإفراط في الفتحات والضمَّات والكسرات والهمزات، وتشديد المشددات وتخفيف المخففات وتسكين المسكنات، وتطنين النونات، وتفريط المدَّات وترعيدها وتغليظ الراءات وتكريرها، وتسمين اللامات وتشريبها الغنَّة، وتشديد الهمزات وتلكيزها...))[32].(/16)
إن فن التجويد واحد من الفنون التي لا يمكن أن تُتقن بالاعتماد على الكتب فحسب، إذ لا بدَّ فيه من التلقي والتلقين المباشر من أفواه الأشياخ المقرئين المتقنين ليتمرَّس الطالب بطريقة الأداء الصحيحة ويجتنب كل ما ينبغي اجتنابه، ومن فضل الله على هذه الأمة أن أرباب التجويد منتشرون في كل صقع من أصقاع الأرض، يعلِّمون هذا الفن حِسبةً لوجه الله سبحانه، إيمانًا بما ادَّخره الله سبحانه لهم من جزيل الثواب وواسع المغفرة وحسن المآب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه))[33].
وكتب التجويد ورسائله كثيرة منتشرة، من أجلِّها وأقدمها كتاب الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق التلاوة للإمام المقرئ مكي ابن أبي طالب القيسي (437هـ).
5- مزاولة الفصاحة قراءةً وكتابةً وكلامًا:
لا يَعرفُ الشَّوقَ إلاَّ مَن يُكابِدُهُ ولا الصَّبابةَ إلاَّ مَن يُعانِيها
وأكاد أقول: ولا الفصاحة إلاَّ من يعانيها، فالفصاحة معاناة ومزاولة، تشترك فيها جميع الحواسِّ والمدارك، تبدأ بالسماع وتمرُّ بالقراءة لتنتهي بالكتابة والكلام الفصيح، فهي عمل متواصل للأذن والعين واليد واللسان، إذ هي تمرّس وتدريب يتبع الاكتساب والتحصيل، ولا يغني فيها اكتساب عن تمرُّس، ولا تحصيل عن تدريب، إنما تحصل بمجموع ذلك كله، ولعل أثر التمرّس والتدريب أكبر من أثر التحصيل والاكتساب لما لهما من أهمية في نمو ملكة اللغة وتثبيت أركانها وتوطيد دعائمها، وكلما أكثر المرء من استعمال لسانه في ضروب من الفصاحة كان ذلك أطلق للسانه وأبلغ لبيانه وأعودَ عليه بزيادتها وبلوغ الغاية فيها.(/17)
روى المبرد في الكامل أن رجلاً قال لخالد بن صفوان: إنك لتُكثر! فقال: أُكثر لضربين: أحدهما فيما لا تغني فيه القلة، والآخر لتمرين اللسان، فإن حبسه يورث العُقلة. وكان خالد يقول: لا تكون بليغًا حتى تكلم أمتك السوداء في الليلة الظلماء في الحاجة المهمة بما تتكلم به في نادي قومك، فإنما اللسان عضو إذا مرَّنته مَرَن، وإذا أهملته خار، كاليد التي تخشنها بالممارسة، والبدن الذي تقويه برفع الحجر وما أشبهه، والرِّجل إذا عُوِّدت المشيَ مشت[34].
ومما لا شكَّ فيه أن الخطابة ضرب من ضروب الفصاحة، بل هي مرتع خصب لها، وميدان واسع تتبدى مهارة الفصاحة من خلاله، والخطيب لا يغدو خطيبًا مصقعًا إلاَّ بمواصلة الدربة والتمرين، ومزاولة الخطابة والتمرس بأصولها والتدرب على فنونها، وما عرف عن خطيب أنه بلغ شأوًا في الخطابة متميزًا إلاَّ بعد طول دربة وتمرين وصقل، بالإضافة إلى ما حصَّله من علم ومعرفة، وما اكتسبه من ملكة وطبع.
جاء في زهر الآداب أن أبا داود كان يقول: ((رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحَلْيُها الإعراب، وبهاؤها تخيّر اللفظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه))[35].
وجاء في البيان والتبيين: ((... وطول الصمت يفسد اللسان، وقال بكر بن عبد الله المزني: ((طول الصمت حُبْسة)) وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: ((ترك الحركة عُقلَة))، وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره، وتبلَّدت نفسه، وفسَد حِسُّه، وكانوا يروُّون صبيانهم الأرجاز، ويعلمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب، لأن ذلك يفتق اللَّهاة، ويفتح الجِرْم [أي الحلق]، واللسان إذا أكثرت تقليبه رقَّ ولانَ، وإذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسأ وغلط. وقال عَبَايةُ الجُعْفي: ((لولا الدُّرْبة وسوء العادة لأمرت فتياننا أن يماري بعضُهم بعضًا)).(/18)
وأية جارحة منعتها الحركة، ولم تمرِّنها على الاعتمال، أصابها من التعقُّد على حسب ذلك المنع، ولمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنابغة الجعدي: ((لا يفضُض اللهُ فاك))؟ ولمَ قال لكعب ابن مالك: ((ما نسي الله لك مقالك ذلك))؟ ولم قال لهيذان بن شيخ: ((ربَّ خطيب من عبس))؟ ولمَ قال لحسان: ((هيِّجِ الغطاريف على بني عبد مناف، والله لشعرك أشدُّ عليهم من وقع السهام في غَبَش الظلام))[36].
وقد يتساءَل المرء أين يمارس مثل هذه الفصاحة؟ ومتى يزاولها ومع مَن يستطيع التدرُّب؟ وأنى له ذلك في هذا الزمن الذي بعد أهله عن الفصاحة والبيان؟
والجواب أن خير مكان لمزاولة الفصاحة هو المدرسة والجامعة وحِلَق العلم وأندية الثقافة وما أشبه ذلك، حيث ترتفع سوية الكلام، لتلائم شرف المعاني المطروحة، فالعلم على اختلاف أنواعه واختصاصاته، لا يليق به أن يعالج بلغة مبتذلة سوقيّة تحاكي لغة العامة في لهوهم وأسواقهم ولغطهم، وإنما يليق به أن ترتفع سوية الكلام وترقى العبارة إلى مدارج الفصاحة والبيان، مما يرقى بالعلم ويسمو به وبأهله، ويكون أنفع للطالب وأجدى له.
وكثيرًا ما يتساءل المربُّون: لماذا انحدرت سوية التعليم عن ذي قبل؟ وما أسباب ضعف الطلبة والخريجين في العربية بعد طول قوة؟ والجواب يكمن في طريقة تدريسهم التي تغيرت واستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير، أجل فقد غدت العاميات المبتذلة وسيلة تدريس العلوم المختلفة، حتى اللغة العربية!! فهي تدرس في كثير من المدارس والجامعات بلهجة عامية أحيانًا وبلغة ركيكة ليست من الفصاحة في شيء أحيانًا أخرى! فكيف يكتسب الطالب فصاحةً؟ وأنَّى له بها؟!(/19)
إن الحلَّ يكمن في إعادة النظر في طرق التدريس ولغة التدريس، ولا شكَّ أن ذلك يحتاج إلى جهود كبيرة لتأهيل المدرسين لغويًّا ولإعادة النظر أيضًا بمن يؤهل للتدريس، وهي مسألة لا تخلو من صعوبة ولكنها ليست بمستحيلة إذا صحَّ العزم وصدقت النية ولاح الهدف من وراء ذلك مشرقًا ينبئ بمستقبل مشرق.
وعندما تغدو العربية هي الوسيلة الوحيدة للتعبير في قاعة الدرس يتسابق الطلبة إلى التعبير بها، ويتبارون في تجويدها، ويتفنَّنون في أساليب الكلام، مما يخرج ألسنتهم من طول الإسار، ويذهب عنها الحبسة والركاكة، والعيّ والفهاهة، قال أبو العطاء يصف لسانه:
أُقلِّبُهُ كي لا يَكِلّ بحُبسَةٍ وأبعَثُهُ في كُلِّ حَقٍّ وباطِلِ
بل إن العدوى ستنتقل من قاعة الدرس إلى المجالس الأخرى والأندية والمحافل، حيث يتمايز الناس بطريقة نطقهم، ولا يعلو حديث مهما سما على الحديث بالعربية المبينة، فهي التي تسيطر بسحرها وجمالها وروائها على كل أهل المجلس، فتراهم منقادين إلى من يتقن الحديث بها، مصروفين إليه، يلتذون بوقع كلامه على أسماعهم، تتجاوب معه نبضات قلوبهم، ولا غروَ فهي كما قال الشاعر السحر الحلال:
خُلِقَ اللسانُ لنُطقِهِ وبيانِهِ لا للسُّكوتِ وذاكَ حظُّ الأخرَسِ
فإذا جلستَ فكُنْ مُجيبًا سائلاً إنَّ الكلامَ يَزينُ ربَّ المجلسِ[37]
ولا يتوقف أمر الفصاحة على اللسان، وإنما يشاركه فيها القلم، فالقلم أحد اللسانين، وهو أبقى أثرًا، لأن الكتاب يقرأ بكل مكان ويدرس في كل زمان، ويتجاوز الحدود ويرتفع على القيود.(/20)
فإذا تمرَّس الطالب بأساليب الكتابة، حسن تعبيره وشقَّ طريقه إلى امتلاك ناصية القلم، مما يعود عليه بالخير العميم، والنفع المستديم، فالكتابة تفتح آفاقًا واسعة، وتصل إلى ما لا يصل إليه اللسان، ولكنها كاللسان أو هي أعصى، لمسيس حاجتها إلى طول الدربة، وكثرة التمرين، ومعاودة التجربة، وإعادة النظر فيما يكتب، فالكاتب يطمح دائمًا إلى تجويد كتابته والرقيّ بها إلى مدارج البلغاء، مما يضطره إلى إعادة النظر، والحذف والتعديل، والإضافة والتذييل، ورحم الله القاضي الفاضل إذ يقول في رسالة منه إلى العماد الأصفهاني:
((إني رأيتُ أنَّهُ لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يومه إلاَّ قال في غَدِهِ: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر))[38].
وبهذا تصقل الكتابة، وتتضح سمات الأسلوب، ويبلغ الكاتب حدَّ الفصاحة والإبداع.
6- أثر وسائل الإعلام في اكتساب هذه الملكة:
تغزو وسائل الإعلام مرئيةً ومسموعة ومقروءة كل بيت، فتصل إلى الصغير والكبير، ويتأثر بها كل إنسان شاء أو أبى، طوعًا وكرهًا، وهي بلا شك تشتمل على الصالح والطالح، والنافع والضار، والمصلح والمفسد، فإن نحن أحسنَّا توجيهها في خدمة موضوع الفصاحة واكتسابها، كان لها الأثر الكبير في ذلك.(/21)
ولقد أثبت البرنامج التلفازي المشهور (افتح يا سمسم) صدق هذه المقولة، إذ كان له الأثر الناجع في لسان الأطفال، فالتفوا حوله على اختلاف لهجاتهم وأقطارهم ومنازعهم ومشاربهم ليفهموا أوَّلاً كل كلمة فيه لأنه استعمل العربية الفصيحة المألوفة المأنوسة، وليحاكوا ثانيًا أسلوبه في استعمال هذه اللغة، مما مهد لظهور الكثير من أفلام الأطفال المتحدثة بالعربية، وهو أمر دفع إليه رغبةُ المنتج في بيع هذه الأفلام وتسويقها في كل أرجاء الوطن العربي الكبير، فكانت العربية خير ملاذٍ يلجأ إليه، إذ بها يستطيع أن يدخل كل بيت عربي على امتداد الوطن العربية الكبير، فإذا كان الدافع الرغبة في الربح والتجارة فلِمَ لا يكون أيضًا الرغبة في نشر العربية السليمة في كل صقع عربي؟ بل لم لا يجتمع الأمران فنخضع هذه البرامج لرقابة لغوية تنفي عنها آثار الركاكة والخطأ الشائع واللحن وما إلى ذلك مما يضير بالفصاحة، وتكسوها ثوبًا قشيبًا من الفصاحة والبلاغة والبيان.
إن مثل هذا العمل العظيم واجب ديني وقومي ووطني، ينبغي أن يحظى بالقرار السياسي الحكيم الذي يفرض هذه الرقابة اللغوية على كل ما تنتجه وسائل الإعلام ليصل نتاجها إلى أبناء العربية بريئًا من كل ما يشوب اللغة من أوضار العجمة واللهجات المحكية واللحن... وينبغي أن تناط مهمة الرقابة هذه بالمجامع العربية التي تضم صفوة المختصين بالعربية الذائدين عن حماها الحاملين لواءها في كل محفل. ولن يكون ذلك بدعًا من القرارات السياسية، فقد سبق أن اهتمت كثير من الهيئات العربية بمسألة الإعلان وأسماء المحالّ التجارية فمنعت أن يستعمل فيها اللفظ الأجنبي مهما كان، واستمر ذلك مدة عام من الزمن ثم تراخت القبضة، وخَبَت العزيمة، وفترت الهمة، فبدأت الأسماء الأعجمية تظهر ثانية!.(/22)
وما زالت مجامع اللغة العربية تدعو في كل ندواتها ومؤتمراتها إلى وجوب استعمال اللغة العربية في الإعلام والإعلان، بل إن مجمع اللغة العربية بدمشق خصَّ هذه القضية بندوة مفردة دعاها "ندوة اللغة العربية والإعلام" عقدت في رحاب المجمع (21 - 23/11، عام 1998)، وخرجت بتوصيات جليلة تدعو إلى التزام العربية في وسائل الإعلام، ووجوب التعاون مع مجمع اللغة العربية لتتجنب هذه الوسائل كثيرًا من أغلاطها وأخطائها في اللغة، ولتنفي عنها غوائل ألمت بها وطال العهد عليها وآنَ لها أن تعود إلى رشدها.
ونحن نقول: ما أجملها من توصيات، وما أروعها من قرارات، لو أنها تخرج من حيِّز القول إلى الفعل، ومن حيز الورق إلى التطبيق والعمل!!
خاتمة:
إن ما عرضته من خطة لاكتساب ملكة اللغة والفصاحة يؤلف في ظني خطوات متكاملة، وليس ذلك بمانع من أن يأخذ الطالب بما يتيسر له من هذه الخطوات ففي كل منها فائدة جلية ونفع على حدة، ولكن الوضع الأمثل إنما يكون بالأخذ بها جميعًا، وإني لأتطلع من خلال هذا المؤتمر إلى إغناء هذه الخطة ورفدها بسديد آراء الأساتذة الأجلاء لتغدو أقدر على مواجهة ما صار إليه أمر العربية من تردٍّ وهوان ورحم الله الرافعي إذ يقول: ((ما ذلت لغة شعب إلا ذلّ، ولا انحطّت إلا كان أمره إلى ذهاب وإدبار)).
ثبت المصادر والمراجع
1 - آل القاسمي ونبوغهم في العلم والتحصيل، للشيخ محمد بن ناصر العجمي، بيروت – دار البشائر الإسلامية، ط1، 1420ه-1999م.
2 - أساس البلاغة، لمحمود بن عمر الزمخشري، تحقيق عبد الرحيم محمود، بيروت – دار المعرفة، 1402ه-1982م.
3 - بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس، ليوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي (ت463هـ) تحقيق محمد مرسي الخولي، بيروت – دار الكتب العلمية، مجلدان، ط2، 1981م.
4 - بهجة النفوس في تجويد كلام القدوس، محمد مأمون كاتبي، الكويت – وزارة الأوقاف.(/23)
5 - البيان النبوي مدخل ونصوص، د.عدنان زرزور، مكتبة دار الفتح بدمشق، ط1، 1393ه.
6 - البيان والتبيين، لعمرو بن بحر الجاحظ، (ت255هـ)، تحقيق عبد السلام هارون، دمشق – دار الفكر.
7 - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي.
8 - جهود المالقي الصوتية في كتابه الدر النثير، محمد حسان الطيان، أطروحة أعدت لنيل درجة الدكتوراه عام 1994م وهي قيد الطبع.
9 - حجة القراءات، لابن زنجلة، تحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني، بيروت – دار الرسالة.
10 - ديوان العباس بن الأحنف، تحقيق د.عاتكة الخزرجي، دار الكتب المصرية.
11 - زهر الآداب وثمر الألباب، للحصري، تحقيق د.زكي مبارك، بيروت – دار الجيل، ط4.
12 - العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، لابن رشيق القيرواني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت – دار الجيل، جزءان.
13 - الكامل في اللغة والأدب، لأبي العباس بن يزيد الأزدي المبرد (ت285هـ)، تحقيق د.محمد الدالي، بيروت – دار الرسالة، 4 مجلدات.
14 - الكفاف، للأستاذ يوسف الصيداوي، دمشق – دار الفكر، 1999م.
15 - كيف تغدو فصيحًا عفَّ اللسان، د.محمد حسان الطيان، بيروت – دار البشائر الإسلامية، ط1، 1423ه-2002م.
16 - مبادئ تعلم وتعليم اللغة، دوجلاس براون، ترجمة د.إبراهيم القعيد ود.عبيد الشمري، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1414ه -1994م.
17 - المتنبي، محمود محمد شاكر، جدة – دار المدني، مصر – مكتبة الخانجي، 1407ه-1987م.
18 - محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، لحسين بن محمد الراغب الأصبهاني، بيروت – دار مكتبة الحياة، جزءان.
19 - معجم الأدباء، لياقوت الحموي، بيروت – دار المستشرقين، 20 جزءًا.
20 - مقدمة ابن خلدون، تحقيق د.علي عبد الواحد وافي، القاهرة – دار نهضة مصر، ط3.
21 - نهج البلاغة، للإمام علي بن أبي طالب، تحقيق مؤسسة نهج البلاغة، إيران، ط2، 1416ه-1995م.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] مقدمة ابن خلدون 3/1278-1279.(/24)
[2] مبادئ تعلُّم وتعليم اللغة، دوجلاس براون، ترجمة د.إبراهيم القعيد ود.عبد الشمري، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1414ه - 1994م، ص54.
[3] مبادئ تعلم وتعليم اللغة، ص59.
[4] مبادئ تعلم وتعليم اللغة، ص60.
[5] مقدمة ابن خلدون 3/1285-1286.
[6] ديوان العباس بن الأحنف، تحقيق عاتكة الخزرجي، طبعة دار الكتب المصرية، ص18، والبيت الأخير دليل على أن لفظة (بابا) عربية أصيلة.
[7] عن كتاب آل القاسمي ونبوغهم في العلم والتحصيل، للشيخ محمد بن ناصر العجمي – دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط1، 1420ه - 1999م، ص224.
[8] من مقدمة الأستاذ سعيد الأفغاني لحجة القراءات، طبعة دار الرسالة، بيروت، ص19.
[9] البيان النبوي مدخل ونصوص للدكتور عدنان زرزور، ص1.
[10] نهج البلاغة – التقديم. ط. إيران.
[11] عَذْبات: جمع عذبة: سائغة حلوة. والعَذَبات: أطراف الألسنة، أساس البلاغة للزمخشري، مقدمة المؤلف رحمه الله، ص (ك).
[12] مقدمة ابن خلدون 3/1277 – 1278.
[13] المتنبي لمحمود محمد شاكر، ص6.
[14] من الجدير بالذكر أن الحفظ أساس لتنمية الملَكة، وكلما كان المحفوظ جيِّدًا كانت الملكة أجود، وقد عقد ابن خلدون لهذا فصلاً في مقدمته تحت عنوان: ((فصل في أنَّ حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ))، نبَّه فيه على أثر المحفوظ في ارتقاء الملكة أو قصورها، وضرب لذلك أمثلة رائعة يحسن الرجوع إليها. انظر المقدمة 3/1313 – 1316.
[15] الكفاف للأستاذ يوسف الصيداوي – دار الفكر بدمشق، ط1، 1420ه - 1999م، ج1، ص55 – 56.
[16] بهجة المجالس وأنس المجالس، للقرطبي 1/66.
[17] بهجة المجالس، للقرطبي 1/64.
[18] بهجة المجالس، للقرطبي 1/64.
[19] البيان والتبيين 2/219.
[20] بهجة المجالس، للقرطبي 1/64.
[21] ويروى أن أبا الأسود الدؤلي رأى أعدالاً مكتوبًا عليها "لأبو فلان" فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون!. بهجة المجالس 1/66.(/25)
[22] مقدمة ابن خلدون 3/1289 – 1290.
[23] بهجة المجالس 1/68، وربيع الأبرار، للزمخشري 4/254.
[24] بهجة المجالس 1/72.
[25] العمدة 1/241.
[26] العمدة 1/241.
[27] العمدة 1/241.
[28] بهجة النفوس في تجويد كلام القدوس، محمد مأمون كاتبِي، وزارة الأوقاف، الكويت، جزءان 1/75.
[29] ديوان العباس بن الأحنف، ص7
[30] المنظومة الجزرية، نشرت في رسالة بعنوان: "ملحق المفيد في علم التجويد"، تأليف الحاجَّة حياة علي الحسيني، 1417ه - 1997م، ص5.
[31] نشرت هذه الرسالة بتحقيق د.غانم قدوري الحمد في مجلة المجمع العراقي، سنة 1985، مج36، 2/240 – 287.
[32] رسالة التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي، ص260.
[33] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. فتح الباري 9/74.
[34] الكامل، للمبرد، 532.
[35] زهر الآداب 1/148.
[36] البيان والتبيين 2/272 – 273.
[37] محاضرات الأدباء للأصبهاني.
[38] معجم الأدباء، مقدمة الكتاب.(/26)
العنوان: العروبة عند ابن تيمية - رد ومناقشة
رقم المقالة: 953
صاحب المقالة: د. حسن هويدي
-----------------------------------------
قرأت في أعداد الحضارة الأول والثاني والثالث من السنة الثانية مقالاً للأستاذ محمد المنتصر الكتاني تحت عنوان (العروبة عند ابن تيمية) ووجدت فيه ما يستوجب الملاحظة والتنبيه فأقول وبالله المستعان:
ورد في العدد الأول ص(90) حول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) قول الأستاذ: (إنما يعني إتمام مكارم أخلاق العرب وصالح عاداتهم لا أخلاق غيرهم من الأمم التي استوفت أغراضها أو بطلت ونسخ ما كان منها صالحاً يوماً ما).
وأقول أن هذا تخصيص لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير دليل بل الدليل يقوم على عكس ما أراد الأستاذ من حصر المجال الخلقي من الرسالة المحمدية في أخلاق العرب وإليك بيان ذلك:
أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وليس للعرب خاصة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ (28)]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء(107)]، {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان(1)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت للناس كافة)). ومعلوم أن الرسالة لا تتجزأ في تبليغها للناس من حيث جوانب الخير فيها، فلزم بالنسبة للأدلة المتقدمة أن يعم الجانب الأخلاقي من الرسالة جميع البشر وإذا حصل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم متمماً لمكارم الأخلاق لدى جميع الأمم لا عند العرب فقط.(/1)
خلق الله تعالى جميع الخلق حنفاء وفطرهم فطرة واحدة يقول تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم (30)] ويقول صلى الله عليه وسلم: ((يولد المولود على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) ويقول مبلغاً عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء ثم أجتالتهم الشياطين))، فجميع خلق الله لا يعدمون خيراً في حقيقة النفس الإنسانية التي أودعها الله ما أودع من المواهب، وأهَّلها لقبول الهدى والتخلق بالخلق الكريم، وقد ثبت ذلك بالدليل القطعي لم يبق مجال لحرمانهم من الهدى الخلقي المحمدي.
وأما تقييد الأستاذ أخلاق الأمم بالتي استنفذت أغراضها أو بطلت.. فينشأ عنه محذور آخر فإن أراد أنها استنفذت أغراضها فكملت تماماً واستغنت عن الرسالة المحمدية فذلك باطل إذ يصبح إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم عبثاً وذلك مستحيل في جانب الله تعالى، وإن أراد ببطلانها أو نسخ بعضها استغناؤهم عن فضل الرسالة كان الخطأ أكبر إذ أنهم يصبحون في هذه الحالة أحوج إلى تتميم الأخلاق وإصلاح العادات وإحلال حكم جديد محل الحكم المنسوخ.(/2)
أرسل الله تعالى رسله إلى الأمم السابقة من غير العرب مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الحق والميزان ليقوم الناس بالقسط فاهتدى من اهتدى منهم وضل من ضل، فنال المهتدون ما نالوا من الفوز بالنعيم فكانوا سلفاً ومثلاً للآخرين {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } [الواقعة (13-14)]، {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة (39-40)] ولذلك لن يستغرب الأستاذ إذا وجد أن الله سبحانه يدعو العرب أنفسهم للتأسي بأخلاق الذين مضوا من المؤمنين من غير العرب والجري على سننهم يقول تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء (26)].
فأين حصر الرسالة في مكارم أخلاق العرب من دعوة العرب أنفسهم إلى مكارم أخلاق غيرهم من الأمم؟!
وهل ذاك إلا تسلسل الهدى الإلهي من لدن آدم عليه السلام إلى عهد محمد عليه الصلاة والسلام؟ وشتان بين هذا الارتباط الإنساني الذي يبني فيه المتأخر على بناء المتقدم وبين انقطاع يحول دون إتمام رسالات الرسل ويحدد الرسالة في حدود أخلاق العرب؟!(/3)
وإذا كان الهدى هدى الله والفضل كله له، فلن ينقص قدر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو سيد ولد آدم أجمعين بما فيهم الأنبياء والرسل عليهم السلام، أن يدعوه ربه سبحانه، وهو العربي، إلى الاقتداء بهداهم وهم غير عرب، يقول تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام (90)]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف (35)]، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص (35)]، {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود (120)] وإذن يجد الأستاذ أن الأمر قد بلغ حداً أبعد مما يتصور في الاقتداء بالصالحين من غير العرب ممن هداهم الله واجتباهم، فإذا كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم سيد العرب وسيد ولد آدم مدعوا بنص الكتاب وبآيات كثيرة للاقتداء بهدى الأنبياء من غير العرب فدعوة من دونه بالفضل لازمة بالأولى للاقتداء والتأسي بأخلاق الصالحين من أي أمة كانوا والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها. وإذا بلغ الأمر حد الاقتداء بهدى الرسالات السابقة عند غير العرب فتتميم ما جاؤوا به من مكارم الأخلاق تحصيل حاصل وأمر لازم.
وقال الأستاذ (ص63 من العدد الثاني): (والقرآن حين يصف محمداً عليه الصلاة والسلام {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم(4)] إنما يصف خلقه الذاتي الذي نشأ فيه وتربى عليه والإنسان ابن بيئته، كما يقول ابن خلدون الحجة في علم الاجتماع، فيكون الوصف بالخلق العظيم وصفاً للعرب).
وأقول إن الخطأ في هذا القول يظهر من ناحيتين: الأولى إن خلق الرسول صورة عن خلق البيئة، والثانية أن الوصف بالخلق العظيم وصف للعرب.
الناحية الأولى: قبل أن نرد القول بأن خلقه صلى الله عليه وسلم كان صورة وانعكاسا عن بيئته نريد أن نعرف ما كانت عليه تلك البيئة قبل الإسلام:(/4)
أما ما ورد فيها من خير فلا حاجة إلى تكرار ما جاء به الأستاذ من وصف بعض سجايا العرب الطيبة التي أقرها الإسلام وشجع على التمسك بها كالشجاعة والسخاء والمروءة والنجدة، وما أورده من الأحاديث (الصحيحة منها) الدالة على فضل العرب وامتيازهم على غيرهم بما أودع الله فيهم من قابليات للخير، وأهلية لرفع لواء الحق، وطاقة مكبوتة تحتاج إلى تفجير وتوجيه، وكل ذلك من نوع الخير الكامن الذي يحتاج إلى من يظهره وينميه، وليس من النوع الظاهر الذي يفرض تأثيره على البيئة. وأما ما ورد فيها من شر فأصغ إلى وصفه من قول الله تعالى:
– {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة (50)]، {ظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران (154)].
إذن فهي بيئة جاهلة.
– {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة(257)].
إذن فهي بيئة مظلمة.
– {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال (24)].
إذن فهي بيئة ميتة مجازاً.
– {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص(5)]، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان (13)].
إذن فهي بيئة مشركة ظالمة.
– {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران (103)].
إذن فهي بيئة مشرفة على الهلاك.(/5)
– {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة(2)].
إذن فهي بيئة ضلال مبين.
وإذا أردت أن تعرف وصف هذه البيئة من كلام العرب أنفسهم فاسمع قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مخاطباً نجاشي الحبشة: (سيرة ابن هشام 1/358): (أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.... إلى أن قال: ونهانا (أي الرسول) عن الفواحش، وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة...).
ومن هنا يتبين للأستاذ بكل جلاء ووضوح ما كانت عليه البيئة الجاهلية من سوء وفساد وما كان يسيطر عليها من شر وطغيان وما كان يتحكم فيها من ظلم وجور.
وإذا كان الإنسان ابن بيئته كما يقول الأستاذ، وابن البيئة لابد أن يأخذ في تكوينه الأخلاقي من خيرها وشرها، لزم أن يلحق هذا الحكم النبي صلى الله عليه وسلم حسبما التزم الأستاذ وصرح، من فلسفة البيئة، فيكون الرسول قد أخذ – معاذ الله – في تكوينه الخلقي من البيئة العربية خيرها وشرها؟!!
أفيرضى الأستاذ بهذه النتيجة المخيفة يوصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على فلسفة البيئة؟
على أننا، زيادة في الإيضاح، سنثبت للأستاذ عدم سريان هذه الفلسفة على الرسول الكريم من الكتاب والسنة وما اجتمعت عليه أقوال الأئمة:
يقول الله تعالى، مبيناً مبلغ عنايته بموسى عليه السلام منذ طفولته: {ولتصنع على عيني}، أفيستكثر الأستاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الرسل أن ينال من الله سبحانه عناية في تكوينه الكلي كعنايته بموسى عليه السلام؟ وهل ثمة نسبة بين صنع الباري مخلوقه على عينه، عناية وتزكية وتكريماً وحفظاً، وبين تأثير البيئة الانفعالي الذي يضم خيراً وشراً؟!(/6)
وورد في صحيح مسلم: (عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرجه فاستخرج منه علقة فقال هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم ثم لأمة ثم أعاده إلى مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا أن محمداً قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس وكنت أرى أثر المخيط في صدره).
وورد حديث شق الصدر الشريف أيضاً في ما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقصه عن نفسه بتفصيل آخر، وفيه أنه أخرج منه الغل والحسد وأدخل فيه الرأفة والرحمة وعمره عشر سنين وأشهر. (تفسير ابن كثير 4/524).
فأين هذه التزكية الربانية والعناية الإلهية بخارقة فوق الطبيعة ومعجزة فوق البيئة، من تأثير البيئة المختلط وأثرها السيء؟ وهل يصدق بعدها على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقال أن أخلاقه وليدة بيئته أو أنه ابن بيئته؟!
ومن الآثار [التي] يستأنس بها للبحث ما أورده السهيلي على حاشية سيرة ابن هشام (1/197) قال:
(هذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح في حين بنيان الكعبة: كان عليه السلام يحمل الحجارة وإزاره مشدود عليه، فقال له العباس: يا ابن أخي لو جعلت إزارك على عاتقك ففعل فسقط مغشياً عليه ثم قال: إزاري إزاري فشد عليه إزاره وقام يحمل الحجارة.
وفي آخر أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه وسأله عن شأنه فأخبره أنه نودي من السماء أن أشدد إزارك يا محمد، وأنه لأول ما نودي، ولعل هذا وقع له صلى الله عليه وسلم مرتين: في حال صغره وعند بنيان الكعبة).(/7)
ومن ذلك ما ذكره صاحب عيون الأثر بسنده وابن عساكر يصل به إلى علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما هممت بشيء مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني الله عز وجل منهما)) أي من فعلهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال: نعم، فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان تزوج فلانة لرجل من قريش، فلهوت بذلك الصوت حتى غلبتني عيني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فأخبرته ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هممت بعدها بسوء مما يعمله أهل الجاهلية حتى كرمني الله عز وجل بنبوته)).
وذكر نحوه ابن جرير (2/34) بسند آخر عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.. الحديث.
ومن هنا يلاحظ الأستاذ عناية الله سبحانه وتعالى بنبيه وحفظه من أسواء البيئة وعصمته من زورها وفجورها ليعده الإعداد الكامل لحمل أعباء النبوة وليجعله رحمة للعالمين، وكيف يمكن لمن أرسل ليقضي على ضلال البيئة وظلماتها وبغيها وفجورها أن يكون خلقه انعكاساً لأخلاق تلك البيئة في يوم ما؟ (والإنسان ابن بيئته)؟ ويا ليت الأستاذ قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ من البيئة بحكم بشريته بعض ما فيها من مثل الخير وعصمه الله من ظلمها وفحشائها وأضاف إليه العناية الضرورية للإعداد الكامل إذن لكان ذلك مقبولاً ولما وجد من يجادله في بشرية الرسول عليه الصلاة والسلام وقبولها الخير فحسب، أما إطلاق القبول وبيئته تضم الشرك والبغي والفحشاء ففي ذلك الشطط والبهتان، وإن خطأ في جانب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كخطإ في جانب أحد من الناس أجارنا الله والأستاذ من الزلل.(/8)
وأما ما جاء عن الأئمة في حفظه وعصمته صلى الله عليه وسلم من فساد البيئة قبل النبوة فكثير. من ذلك قول الإمام النسفي في تفسيره: (كان عليه السلام من أول حاله إلى نزول الوحي عليه معصوماً من عبادة الأوثان وقاذورات أهل الفسق والعصيان) تفسير سورة الضحى.
وقول الإمام الزمخشري: (والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين من قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة). من تفسير الخازن في سورة الضحى.
وقول الإمام الخازن: (لأن نبينا صلى الله عليه وسلم وكذلك الأنبياء قبله منذ ولدوا نشؤوا على التوحيد والإيمان قبل النبوة وبعدها وأنهم معصومون من قبل النبوة...). تفسير سورة الضحى.
ومن الجلي أن هذه العصمة تتنافى مع تأثير البيئة بل تفسد القول به اللهم إلا ما كان من خير فإن العناية الإلهية هي التي استثنته واستصفته له صلى الله عليه وسلم.
يتبين مما تقدم عن هذه الناحية التي تتعلق بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم – وقد أطلنا فيها لما يقتضيه البحث من الإطالة والتفصيل – أن عناية الله سبحانه وتعالى وكلاءته وحفظه قد حفت بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم منذ نشوئه فعصمته من أسواء البيئة وآفاتها ورفعته عن أرجاسها وقاذوراتها، وجعلته في كنف ربه يصونه ويرعاه ويشرح له صدره ويرفع له ذكره ويصنعه على عينه. وأن القول عنه صلى الله عليه وسلم أنه من حيث الخلق ابن بيئته – بعد ما عرفت – عدا كونه خطأ يكذبه واقع الرسول مع قومه فإنه ذنب يجب التوبة منه والرجوع عنه. وبهذا يثبت أيضاً فساد المقارنة التي عقدها الأستاذ بين الضلال المبين الذي كان عليه العرب قبل الإسلام والحال التي كان عليها النبي قبل النبوة.(/9)
وأما الناحية الثانية التي تورط فيها الأستاذ نتيجة لبنائها على الحكم الأول الذي فندناه، فقال: (أن الوصف بالخلق العظيم وصف للعرب) فإنها منقوضة بنقض الحكم الأول – لو أردنا الإجمال – لأنه إن فسدت المقدمات فسدت النتائج لزاماً، وحيث ثبت أن خلقه صلى الله عليه وسلم ليس صورة عن خلق البيئة، فأصبح إطلاق هذا الخلق على العرب محالاً. وإذا أردنا التفصيل قلنا للأستاذ كيف تستسيغ أن تصف واقعاً بالخلق العظيم وصفه الله تعالى بالشرك والإثم والضلال المبين؟! وإن ادعى الأستاذ أنه أراد بذلك وصف العرب بعد إسلامهم – وعبارته لا تحتمل ذلك – قلنا فيكون الفضل حينئذ للإسلام فحسب لا للعرب من حيث كونهم عرباً الأمر الذي يقصد إليه الأستاذ ويلح عليه. على أن ذلك غير سائغ أيضاً لأن الخطاب في قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم (4)] موجه إليه صلى الله عليه وسلم ومخصوص به، ولا تحتمل اللغة إطلاقه إلى غيره ولم يرد أثر صحيح يدل على التعميم حتى نعدل إلى التأويل، ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يدانيه في عظيم خلقه خيار أمته وخاصتهم فكيف يطلق ذلك على مجموعهم وعامتهم؟! وإذا أردنا أن نستزيد بياناً ونستلهم رشداً وبرهاناً عن خلقه العظيم الذي وصفه الله تعالى به وأنه لا ينبغي أن يطلق على العرب رجعنا إلى الأحاديث الصحيحة التي تبين حقيقة ذلك الخلق العظيم وتكشف جلالة قدره وتوضح خفي سره:
قال ابن جرير: حدثنا [عبيد بن آدم بن أبي إياس، قال ثني أبي،] حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن عن سعد بن هشام قال أتيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقلت لها أخبريني بخلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن أما تقرأ {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم (4)]؟.
وهذا الحديث عن السيدة عائشة أم المؤمنين (كان خلقه القرآن) أورده الإمام مسلم في صحيحه من حديث طويل، وروى نحوه الأئمة أبو داود والإمام أحمد والنسائي.(/10)
وإذا كان ذلك كذلك فأنى لفرد من العرب أن يكون خلقه القرآن – غير الرسول الأعظم – وخير المؤمنين الصالحين منهم من يرزق – بعد الأركان – نصيباً من سمو القرآن في ما نص عليه من الفضائل والكمالات!
وقال الأستاذ (ص69 عدد2): (هذا فقه الصحابة... وفقه غيرهم من الأئمة عن العرب كله يؤيد نظريات ابن تيمية عنهم ويجعلها من الشريعة الإسلامية في الصميم لا مجرد آراء تبدو ونظريات تعرض).
وأقول بعد إقرارنا بفضل العرب وما اختصهم الله به من الفضائل التي ذكرناها، يجب علينا حين نكوِّن من ذلك مفهوماً وهو (العروبة) ونجعله من الشريعة الإسلامية في الصميم أن نحدد هذا المفهوم تحديداً دقيقاً قبل جعله من صميم شرع الله لأن (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو عليه رد)، ولأن هذا المفهوم قد أختلف اليوم كثيراً واضطرب، وإذا تغير المفهوم وجب أن يتغير الحكم، أن من الجاهلين أو المغرضين اليوم من يجرد العروبة من أحكام الإسلام، ومنهم من يبنيها على عصبية محضة الإسلام منها براء، ومنهم من يمزج فيها الكفر بالإيمان. فأنى يستقيم الحكم إزاء هذه المفاهيم المختلفة التي تطاول فيها الجهلاء وبغى فيها السفهاء فكل يهرف بما لا يعرف!
وأما ما ذكره الأستاذ (1/88) من تعريف ابن تيمية للعروبة حيث قال: (فالعروبة عند ابن تيمية تثبت باللغة وبالنسب وبالوطن..) فإنه لا يحل المشكلة ولا يتفق مع الحكم الذي أبداه الأستاذ بجعله هذه العروبة بهذا المفهوم من الإسلام في الصميم، فرب متكلم بالعربية منحدر من أصل عربي، ويسكن أرض العرب وليس بينه وبين الإسلام صلة بل يعادي العرب ويكيد لهم – كالشيوعيين مثلاً – فهل تكون عروبتهم هذه بهذا التعريف من صميم الإسلام؟! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم!(/11)
وإذا أردنا أن نزيد الأمر وضوحاً حول أهمية اختلاف المفاهيم وما يترتب على ذلك من نتائج بالغة الخطورة، قلنا: أن (النبيذ) قد ورد حله في صدر الإسلام وهو عبارة عن نبذ التمر أو الزبيب في الماء دون اختمار غولي ولا إسكار، نظير (الخشاف) في زماننا، بينما يدل لفظ (النبيذ) اليوم على شراب غولي مسكر ونسبة الغول فيه معروفة، وكل مسكر حرام، فهل يجوز لنا أن نذكر للناس حل النبيذ دون ذكر الفرق بين نبيذ الأمس ونبيذ اليوم فنستعجلهم لشربه بل نوهمهم – عن قصد أو غير قصد – بطهارته وحله؟!
إذن يجب علينا بالنسبة لهذه الفقرة أن نتبين أمرين: الأول تحديد مفهوم العروبة لنستطيع تبيين مكانها من الشرع والثاني أن يكون اعتقادنا بعروبتنا وخيرية العرب وما امتازوا به من الخصائص التي تؤهلهم للقيادة وتقدمهم للإمامة، غير متناف مع إنسانية الدين الحنيف وإنصافه الكامل لكافة خلق الله وصلاحه لجميع الأمم في جميع العصور، وأن أساس التفاضل التقوى، وأن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، وأنه مهما ذكر به العرب من خصائص وما وسموا به من فضائل فلأنها وسائل إلى التقوى ووشائج إلى الهدى، وبذلك يسلم اعتقادنا من الزلل ويبرأ قولنا من الخطل ونسلك سبيل الحق في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات(13)].
وقوله عليه الصلاة والسلام:
– ((من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) مسلم.
– ((لا فضل لعربي على أعجمي... إلا بالتقوى)) أحمد.
– ((إن الله عز وجل اذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمن تقي، وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأفواهها)) أبو داود والترمذي.(/12)
والله نسأل أن يسدد خطانا ويلهمنا رشدنا ويرزقنا العمل بكتابه وسنة نبيه ويهدي قلوب العرب جميعاً لطاعته ويجمع شملهم على شريعته فتنبت الأرض العربية – كما أنبتت من قبل – خير نبات تشهده الإنسانية يكون مثالاً يحتذى ونبراساً يستضاء به، والله على ما يشاء قدير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/13)
العنوان: العصرانية في حياتنا الإجتماعية
رقم المقالة: 464
صاحب المقالة: د. عبدالرحمن بن زيد الزنيدي
-----------------------------------------
الحمدلله الواحد الأحد، الفرد الصمد، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فقد كان المسلمون – في عصورهم المتأخرة – أمةً واحدةً، يجمعها التعلق بكتاب واحد هو القرآن الكريم، لا يداني قداستَه شيء، يسوقها هذا الكتاب إلى تعاليم هادية، هي: السنة النبوية، التي لا يماري في عظمتها وحُجَّيتها – إجمالاً – أحدً منهم.
ويعم هذه الأمة إلا القليل جهلٌ بدينها الذي تعظم كتابَه ونبيَّه وتفريطٌ في الإلتزام به، ومراوحةٌ بين العودة إليه، وعياً بضرورة الرجوع إلى منهاجه، من خلال محاولات الإصلاح والتجديد في تلك العصور، وبين التفلت منه إتباعاً للشهوات، وركوناً إلى الدنيا، وتلاعباً من قبل علماء السوء.
ولكن الأمر تغيّر في العصور الأخيرة حينما اتصلتْ هذه الأمة بأمة أخرى ذات نمط حضاري مغاير ومؤثر، فرض على من إتصل به من هذه الأمة المسلمة توجها وحركة جديدة في الحياة تغاير ما استمرأته أمتهم قبل ذلك.
حتى أصبح هؤلاء المتأثرون بفكرهم وَسَمْتهم أمةً داخل هذه الأمة، أي: أنه أصبح في داخل البيئة الإسلامية نمطان من الحياة مختلفان توجَّهاً وحركة، وأهدافاً.
وتفاعلت الحالة في هذه الأمة بني هذين النمطين:
الموروث الراكد.
والغريب الوافد.
ولقد كان حال الأمة السابق مرضاً، ولكنَّ النمط اللاحق الوافد أشد مرضاً، وأسوأ عاقبة.
لأن السابق – جهلاً وتفريطاً وإنحطاط همة – كان عرضاً ناتجاً عن فَقْد التوجيه السليم مع بقاء الفطرة سليمة، وقابلية الإنطلاق متوفرة.
أما اللاحق الذي تمثَّل في ولاء لغير الله، وحب لغير هذه الأمة، وتعلقٍ بغير دينها، فإنه وباء مدمر للفطرة، مفسد لقابلية الحياة الصحيحة، يوشك أن يكون قاتلاً لإنسانية المسلم.(/1)
وقد ظل المسلمون يقاومون آثار التردي الفكري والسلوكي الذي عم في العصور المتأخرة فترة من الزمن، ولمَّا يبلغوا الشأوَ المطلوب، وهم لمقاومة المرض الوافد، وما خلَّف من تشوهات بحاجة إلى جهود أوفر، وتركيز أكبر.
إنه لكي تصح نهضتهم التي يتوفَّزون لها الآن، والتي تطمح الصحوة الإسلامية إلى أن تكون فيها الإمَامَ الموجِّه، لابد من تقويم سليم وَجَرْدٍ مركَّز لحالة التردي التي رسَّخَتها – في المجتمعات المسلمة – تلك التوجيهاتُ الوافدة التي سارت بالمسلمين في غير الطريق الصحيح فترةً طويلة من الزمن، حتى تعمَّق ترديهم، وحاق بهم تَيْه كبير، ولابد أن يكون هذا التقويم شاملاً، وعميقاً، ومتواصلاً، من أجل أن يواكب خطورة هذا التردي.
هناك من يرى أنه آن لنا أن نتجاوز محاربة التخلف والفساد، ومقاومة عناصر الهدم في المجتمع الإسلامي بناءً على أن الصحوة بِمدِّها المتكائف قد اكتسحت كل ذلك وأنها تتطلع للبناء.
ومع إيجابية هذه المشاعر وشبابيتها المتوقدة، إلا أنه من الخطورة بمكان الانسياق العاطفي معها، وتجاوز مرحلة تهيئة الأرض، وإثبات صلاحيتها للبناء عليها.
مع إمكانية الجمع بين البناء على القدر الكافي من الصلاحية، ومزاولة عملية الفحص والتطهير اللازمة للأساس.
إن الصحوة الإسلامية رمز النهضة المرتقبة لهذه الأمة رغم توسعها، وإستقطابها الكبير لكافة أصناف الناس، والتحسن المتزايد في داخلها، ينبغي أن تعي أنها تسعى للإرتقاء بأمة قد أنهكت أديمَها ضربات النظم الفاسدة، والأفكار المنحرفة، والإستغلال البشع من أعداء حاقدين، وأبناء مخدوعين.
وهذه الدراسة القصيرة تستهدف التركيز على زاوية خطرة من زوايا هذا الموضوع، موضوع التيار الفكري الذي وفد على الأمة المسلمة واستهدف عزل المسلم عن الوحي الإلهي، وصرفه عنه، وربطه بالفكر المهيمن في هذا العصر البعيد عن هدي الله.
وهو التيار الذي تعددت أسماؤه، علمانياً وتنويرياً وحداثياً...(/2)
فضلاً عمّا تقمَّطَه من فلسفات، وضعية، ووجودية ويسارية وغيرها.
هذه الزاوية الخطيرة من زوايا هذا التيار – الذي آثرت من أسمائه إسم (العصرانية) بحكم شمول هذا الإسم لمدارسه المتنوعة، وصدقه على حقيقة هذا التيار – تتمثل في السريان العصراني في الحياة الإجتماعية والفردية للمسلمين.
إذ الدراسات الكثيرة لهذا التيار تتجه – غالباً – إلى أصول فلسفاته وكشف الوجوه البارزة لدعاته، ومناقشة الأطروحات الفكرية لمنظريه، ونحو ذلك من القضايا الفكرية.
ومن ثم تبقى تلك الزاوية جديرة بالإتجاه لدراستها لسبر آثار هذا التيار في جوانب حياة كثيرة من المسلمين، التي انفعلت بإيحاءاته، فأصابتها لوثاته، وإن كان عامةُ هؤلاء لا يعون فلسفات هذا التيار، ولا طروحاته، ولو عرفوها لكفروا بها، وأعلنوا براءهم من أهلها.
ومجتمعات المسلمين متفاوته في تأثرها بهذا التيار سعةً، وعمقاً، والكاتب مربوط – غالباً – بواقعه الذي يعيش في ظلاله، فلا تثريب عليه إن انعكس ذلك على ما يكتبه، فلم يأت شاملاً، ولا مستوعباً.
وهذا البحث الذي بين يديك يعرفك بالعصرانية في دائرة الظروف الواقعية، وفي ضوء الإسلام، لذا فإنه يتركز في مسائل أربع:
الأولى: في مفهوم العصرانية، وطبيعة البيئة التي ولدت فيها، وتطورها في بيئتها الغربية.
الثانية: مشكلة العصرانية في العالم الإسلامي من حيث انتقالها إليه من الغرب، وحال الأمة أمام هجمتها، ثم مواجهة الصحوة الإسلامية لها، وأخيراً رصد لبعض مظاهر العصرانية في حياة المسلمين الإجتماعية.
الثالثة: العصرانية والإسلام.
تمثلات العصرانية وإدراجها في إطار مصطلح شرعي، ثم ما بين العصرانية والعصرية، وبيان الموقف المطلوب إتخاذه تجاه العصرانية في هذه الآونة.
الرابعة: المجتمع السعودي والعصرانية.
بعض خصائص المجتمع السعودي التي كان لها أثر لى تفاعله مع العصرانية الوافدة، وحال هذا المجتمع تجاه العصرانية.(/3)
آمل أن يكون فيه ما يفيد المطلع عليه.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
العصرانية منبتاً ومعنى ونشأة
الألفاظ التي تطلق على التيارات الوافدة، مثل:
عصرانية، علمانية، تنويرية، وحداثة.
ومثلها – أيضاً – ما تولد من رحِمِها من اتجاهات:
يسارية، ووضعية، ووجودية، وذرائعية، وغيرها من فلسفات – هذه الألفاظ –، وضعت تعريباً لألفاظ غربية تحمل معاني قائمة في الفكر الأوربي، وقد تختلف الألفاظ أو تتفق بين اللغات الأوربية، وقد تعرَّب اللفظة الغربية ببدائل من الألفاظ، لا بلفظ واحد.
العصرانية، ومثلها: الحداثة تعريب للفظة mode صلى الله عليه وسلم nism أو secula صلى الله عليه وسلم ism
والعلمانية، تعريب للفظة secula صلى الله عليه وسلم ism – السابقة.
والتنوير، تعريب للفظة enltghtement أو tllumtnation
هذه الألفاظ الانجليزية تعني وراء دلالتها اللغوية المجردة مفاهيم فكرية تكونت في ضوء ظروف ثقافية أوربية خاصة.
ومن هنا: فلابد لمعرفة حقيقة التيار الوافد من الرجوع إلى الأساس الذي ينزع إليه في دائرة الثقافة الغربية.
لذا فمن أجل معرفة العصرانية سندع هذه الألفاظ، ونتجه إلى منبتها – أوروبا – لنُطِلَّ عليها وهي تتلوَّى على جنبيها تحت تقلبات القرون المتطاولة حتى برزت منها تلك التيارات بروز الأورام في الجسد المختل، لتنتقل كالعدوى إلينا بعد ذلك.
أوروبا الوثنية – قديماً:
كانت أوروبا وثنية عمادها الأساطير التي تهيمن على تصورات العامة وأفكار الفلاسفة حول الوجود والألوهية والكون والإنسان.
وقد إمتازت حضارة اليونان بشدة الاعتداد بالحياة الدنيا، والتهالك على منافعها، ولذائذها، والاستهتار بالدين، وقلة التقدير لما وراء المحسوس، وانطلاق الحرية الشخصية دون قيد، والولع الزائد بالفنون تمثيلاً ونحتاً وموسيقى وغناء.(/4)
ثم حَكَمَ الرومان اليونان، ولم يكن لدى الرومان فكر وفلسفة، وإن امتازوا بالقوة، وصفات الجندية، لذلك غلبت عليهم المدنية اليونانية، فاستخفوا بالدين، وتهالكوا على اللذات، وقدَّسوا القوة، والاستغلال، وكانوا رغم وجود المعابد وتعبدهم فيها – أحياناً – بالرقص والغناء والألعاب – التي كانت طريقة اليونان في عبادتهم أيضاً – لا بالتذلل والخشوع والتضرع – كانوا رغم ذلك – يرفضون تدخل الآلهة وممثليها من رجال الدين في شؤون حياتهم ونظامها. (وكان – كما يقول سيسرو – الممثلون يُنشِدون في دور التمثيل أبياتاً معناها أن الآلهة لا دخل لها في أمور الدنيا، فيصغي إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة)[1].
وهكذا صارت تقوم حياتهم المعاشية بعيداً عن دينهم، تابعة للأمزجة الخاصة، ولقوانين الدولة الرومانية ونظمها.
النصرانية في أوروبا:
دخلت النصرانية إلى أوروبا من خلال بعض دعاتها، ومالت إليها قلوب بعض الناس – خاصة العامة – وإن كان آخرون قد استنكفوا أن يقبلوا ما فيها من تصورات تكدَّر صفو ماديتهم المفرطة، فقد ذُكِر أن جماعة من الفيثاغوريين دعوا أحد دعاة النصرانية إلى مجمعهم ليحدثهم عن هذا الدين، فلمّا حدثهم عن اليوم الآخر، وما فيه من بعث وحشر.. سخروا من حديثه ودينه[2].
وحينما تولى الملك قسطنطين الذي اعتنق النصرانية في مستهل القرن الرابع الميلادي نَصَرَ هذه الديانة، وجعل كلمتها عالية، وسخَّر حكمه لنشر النصرانية، ولكن أي نصرانية هذه؟.
إن النصرانية التي دخلت أوروبا على يد (بولس – رسول الأمم) ليست هي النصرانية التي دعا إليها المسيح – عليه الصلاة والسلام – فقد أفسد فيها هذا اليهودي الذي كان يحاربها، ثم انقلب داعية إليها، وانحرف بها عن مسارها التوحيدي الخالص[3].(/5)
وأمر آخر، وهو: أن عداء اليهود للمسيح وأتباعه وتعاليمه والنفرة التي حصلت بين هؤلاء الأتباع واليهود جعلت النصرانية تتجرد من التشريعات العملية التي أوصى المسيح – عليه الصلاة والسلام – بتلقيها من توراة موسى – عليه الصلاة والسلام.
بهذه الصورة دخلت النصرانية بلاد أوروبا، ولهذا اكتفى رجال النصرانية حينما رفعهم قسطنطين، وتبني ديانتهم بإنشاء الكنائس، وتتويج الملوك، ودعم شرعية هؤلاء الملوك القائمة على التشريعات الرومانية السابقة.
بل إن الأوضاع في تلك البلاد أثَّرتْ كثيراً على النصرانية، حيث انحرفت نحو وثنية الرومان، وشحنت كتبها بالأساطير اليونانية، ولعل أكبر ماسخ لهذه الديانة هو الأمبراطور قسطنطين نفسه رافع لواء النصرانية[4].
وعلى مر العصور صارت تزداد هيمنة رجال الدين النصراني على الحياة في أوروبا رافضين أي مشارك لهم في هذا الشأن، خاصة في مجال العلوم والطب ونحوه فساد الجهل، والخرافة، والانحطاط.
ومن أكبر جرائم رجال الدين – هؤلاء – أنهم لكي يسدوا الباب على أي متطلع من خارج قنواتهم حشدوا في كتبهم المقدسة كثيراً من المعلومات البشرية والمسلمات المعرفية في عصورهم وما قبلها عن الطبيعة والفلك والجغرافيا والتاريخ والأحياء، وغيرها، وصبغوها بصبغة الدين، باعتبارها تفسيرات للوحي المعصوم الذي لا يسع النصرانيَّ الخروجُ عليه أو القولُ بخلافه، لأن هذا يعني الكفر، والزندقة.(/6)
ولتأكيد هذا المنحى الذي يُفْرد الكنيسة بحق التعليم وحدها اعتمد رجال الكنيسة نظرية الإشراق الأفلوطينية في المعرفة التي خلاصتها أن المعرفة الصحيحة إلهام إلهي يهبط على شخص مهيإ لذلك، نتيجة تجرده من الجوانب المادية، وهذا التهيؤ لم يكن لغير رجال الكنيسة، وعليه فمنهم وحدهم تُستَمد المعرفة الصحيحة.. أمّا من سواهم فحسب تجردهم من المادة أن يجعل نفوسهم قابلة لتلقي تلك المعرفة، ومن ثم صدرت مراسم بإغلاق المدارس خارج الكنيسة، وحصر التدريس في نطاقها.
وهذه الفترة هي التي يسميها الغرب بعصور الظلام من القرن الرابع – تقريباً – حتى القرن العاشر الميلادي.
هذا فضلاً عن أن هذا التجرد المطلوب من علائق الدنيا هو سبيل الفوز في الآخرة.
وكان من نتائج ذلك أن أصبح الدين والتطلع إلى سعادة الآخرة هو المسيطر على مشاعر الناس، مع الإستهانة بالدنيا بصفتها شراً عائقاً عن الفلاح الأخروي.
وتحول الإيمان بالله والشعور بعظمته إلى سلبية إنسانية، وعدم تغيير للواقع، لأن ذلك يعني عدم التسليم بالقضاء والقدر[5].
أوروبا النهضة:
في أواخر ما يسمى بعصور الظلام في أوروبا، احتك الغرب بالمسلمين في عصور الزخم الثقافي لديهم من خلال الحروب الصليبية والدخول إلى المسلمين في الأندلس، ورأوا سموّاً في أخلاق المسلمين، وقوة في عقيدتهم، وسعةً في أفقهم العلمي، ورقياً في مدنيتهم، فأورثهم ذلك غَيْرةً من هؤلاء الأعداء وحسداً في أنفسهم لهم، واهتم بعضهم بنقل شيء ممّا عند المسلمين ممّا يتصورون أن به إرتقاء بأحوالهم الفكرية، والمدنية.
وكان تركيزهم على كتب الفلسفة من جانب، وكتب العلوم الرياضية والتطبيقية من جانب آخر[6].
ولعل السبب في ذلك: أن الفلسفة تتناسب مع طبيعة فكرهم التأملي، وأن العلوم الرياضية، والتطبيقية من السهل تجريدها من الدين الذي نشأت في ظله وهو الإسلام، وهو: الدين الذي ينفر منه الغربي بحكم الصورة المشوهة له عنده.(/7)
وكان من أثر هذا الاحتكاك أن بدأت دعوات خافتة، ثم جهرية – متفرقة، ثم مجتمعة – إلى حركة فكرية يفتح فيها الباب لذوي الطموح العلمي، كي يتنافسوا في مجالات المعرفة ليرسموا للغرب طرق حياة أفضل.
وهذا ما يعني أن ينطلق الفكر الغربي من إطار الكنيسة، أي: أن يتحرر منها.
وكان مما تنادي به هذه الدعوات: أن هناك حقائق يمكن أن يصل إليها الإنسان بعقله، كما أن هناك حقائق مصدرها الدين.
ولكن رجال الكنيسة رفضوا هذه الدعوات، وحرمت كتب الفكر الخارجية عن دائرة الكنيسة، ومنع تدريسها، وحورب مؤلفوها، خاصة منهم الذين أعلنوا بعض النظريات الفلكية، أو الجغرافية المخالفة لما قررته الكنيسة في كتبها ممّا استقته في الفلكيين والجغرافيين القدماء.
وكان هذا الرفض للعلم، والحرب لرجاله من قبل رجال الكنيسة، مما أثار ثائرة رجال الفكر، فاشتدوا في وجهتهم مراغمين الكنيسة ورجالها، ثم تراجعت الكنيسة بعد اشتداد الاتجاه المقابل، حتى اعترف بعض رجال الكنيسة، مثل (روجربيكون 1292م)[7] بأن سلطان الكنيسة يقتصر على العلوم الدينية المتعلقة بالآخرة.. أمّا العلوم الدنيوية المتعلقة بمصالح الإنسان في هذه الحياة فمناطها الفكر البشري.
وهكذا توزع حياة الإنسان مصدران، هما: الدين، والفكر البشري، وإذا كان الدين يتمثل في تعاليم ثابتة، فإن الفكر البشري متطور متغير.
الإنسان وعصرانيته:
هذا التغير المتجدد في فكر الإنسان وحركته جارٍ في إطار الزمن، ومن هنا كان لكل فكرٍ بشري في كل عصر مستوى معين، وخصائص مميزة عن سابقه، فإذا نادى الموافقون تجاه أتباع الدين الداعين إلى اعتماد الوحي الإلهي إلى اتباع الفكر – كما يسمى في عصرنا – أو العقل – كما في العصر العباسي – فإنما ينادون إلى اتباع فكر معينَّ هو الذي يسود عصرهم[8].
ولهذا كانوا يستغنون – أحياناً – عن ذكر الفكر، داعين إلى مجاراة العصر والتمشي، معه.(/8)
وهكذا صار هناك دين له علمه ورجاله، وواقع له فكره ورجاله.
ولكن الوضع لم يبقى على هذا التقسيم.
لقد تدخل الفكر في دين الكنيسة فبحث فيه – أي: بحث في كتبه المقدسة – كما فعل (أبيلاردت 1142م) رغم أنه من رجال الكنيسة في كتاب له عنوانه (نعم ولا) أثبت فيه تناقضات الكتاب المقدس، والتحريف الذي جرى له[9].
واستمر هذا النقد يوهي من قيمة كتب الدين ووثاقة تعاليمها، حتى فقدت أي قيمة علمية، وأصبح العلم محصوراً فيما يصدر عن الفكر البشري معالجاً الواقع، فقيل: العلم، والدين، على أنهما متقابلان.
بل جُعل من الموضوعية التي تضفي على الفكر قيمة علمية تُحرر الباحث من مشاعره الدينية، وعقائده، سوى مما اعترف، العلم التجريبي منها.
ولعل هذه الصورة من العصرانية هي ما يرمى إليه من سماها بالعلمانية قاصداً نسبة هذا التيار إلى العلم.
ولكنها لم تبق في نطاق العلم، والمعارف التجريبية، فقامت الدعوات التي تنادي بفصل السياسة عن الدين الكنسي لتكون مسيرة بحسب المطالب التي يقتضيها !العصر، فصار ما يسمى بالسلطة الزمنية في مقابل السلطة الروحية والدينية، وتوالت النظريات السياسية التي تنتزع السلطة من يد رجال الدين الكنسي لتضعها في يد رجال السياسة حيث تكون السيادة التشريعية والرقابة على التنفيذ متداولة بين البشر بعيداً عن الله وعن الدين والتعاليم المنسوبة إليه، ولعل من أشهر هذه النظريات – الميكافيلية، والعقد الاجتماعي[10].
ومثل عصرانية السياسة عصرانيات الأخلاق، والاقتصاد، والاجتماع، بل والعصرانية الدينية التي اشتهت أكثر من غيرها باسم العصرانية، وقد تمثلت في حركات لدى يهودٍ ونصارى تحاول تحوير مبادئ الدين الذي تنتسب إليه إلى ما يتواءم مع العصر الحاضر – بالنسبة لهم – بفلسفاته وقوانينه الفكرية والتطبيقية.(/9)
فالحركة اليهودية الإصلاحية تتمثل أبزر مبادئها التي وضعتها عام 1887م في رفض كل ما لا يتلاءم مع أفكار الحضارة العصرية وقيمها، ومن ذلك عقيدة الآخرة والثواب والعقاب.
ومثل ذلك عند النصارى الذين ركزوا على رفض الخوارق والغيبيات، وعلى ضرورة تطوير تعاليم الدين وفق تقدم المعرفة[11].
هناك – أيضاً – ما يمكن تسميته بعصرانية المشاعر التي تتمثل باتجاه يسعى إلى صرف مشاعر الحب والولاء والإعجاب والاهتمام عن الدين وعقائديه إلى العلم المادي وتطبيقاته.
وأساس هذا – لديهم – أن العلم البشري في هذه الأعصر حقق نتائج متقدمة في مجال الحياة المادية، أمّا الدين – الدين الكنسي أساساً – فإنه رغم عدم بطلان بعض أسسه الكبرى، كوجود الله، وخلود النفس.. إلا أنه لا يستحق الاهتمام المصروف له، لما أثبت العلم من تهافت كثير من دعاوي حسب نقد الفكر التجريبي له.
لذا حسبه من الإنسان انجذاب وقتي محدود، ليكن بعضاً من يوم في الأسبوع[12].
أما الاهتمام الأكبر فينبغي أن يوجه إلى تحسين وضع الإنسان المادي والاجتماعي في حياته هذه، التي يعيشها بين الولادة، والوفاة، وينبغي أن ينحسر من ثم تفكيره بالآخرة والجنة والنار، حتى لا يؤثر على اندفاعه في حياته، وتمتعه بها، مطلقاً من كل قيد، إلا الضوابط القانونية – العصرانية – التي وضعت بعيداً عن الدين لتضمن الاندفاع المتسق للجميع في دوامة هذه الدنيا.
هذه العصرانية – المشاعرية – هي التي دعت إليها الحركة الاجتماعية المشهورة باسم (سيكولورزم) التي ترجمت إلى العلمانية.
تناقض الغرب في موقفه من الدين:
انتهينا مع الأوروبيين في موقفهم تجاه دين الكنيسة وتعاليمه ورجاله إلى أنهم أدركوا أنه يمثل عبئاً على كواهلهم يعوق حركتهم، ويحد انطلاقتهم، ويقف أمام نجاحهم في الحياة، ويشغلهم عن تطلب مصالحهم بأنفسهم بقضايا ممثلة تنفر منها النفس، وتشك في صحتها.
ثم كان سعيهم في حصر سلطانه عن حياتهم.(/10)
ولكن الإنسان متدين بغريزته، والغربي الذي عاش قروناً طويلة في ظل دين يربطه بعالم وراء هذا العالم المشهود، ليس من السهل عليه أن يبقى تائهاً لا وجهة له في الحياة – في شأن التصور خاصة –.
بين هاتين الحالتين:
– الشعور بعدم الاستغناء عن الدين بصفته مطلباً روحياً وضرورة فكرية، إيماناً بوجود الله، وخلود النفس، والتطلع وراء هذا العالم المحصور المحدود.
– والنفرة من دين الكنيسة حنقاً عليه نتيجة الويلات التي حاقت به بسبب هذا الدين، ومعرفة تهافت كثير من دعاوي رجاله باسم الدين.
– بينهما – طفق أناس يقترحون أدياناً بديلة:
– قال بعضهم: إن النصرانية حق في بعض أصولها، كوجود الله وخلود النفس، وقيام حياة أخرى، لكنها غير ذلك – خاصة – فيما يتعلق بالواقع وإن نسب إلى الوحي، فينبغي أن يتدين بها في الحق دون ما سواه.
– وسعى آخرون إلى استحداث دين يستند إلى الفطرة سموه الدين الطبيعي مثل: (يوهان، وتورالبا).
– وآخرون قالوا بالدين الإنساني القائم على القيم الإنسانية المشتركة التي تقف وراء مظاهر التباين المذهبية التي يتفرق بها الناس.
– وهناك من دعا إلى دين الربوبية الذي يقارب التصور الأرسطي لوجود الله[13].
وهكذا فرغم افتتانهم بالعلم والفكر الجديد وأخذهم به، بقي الدين في نفوسهم، بل بقيت – كما يقول أميل باتروا: "في خفايا ضمائرهم قوتان متقابلتان حاولوا أن يقيموا بينهما سلاماً، بحيث يكون موقع العلم العقل والفكر متجهاً نحو الطبيعة، وموقع الدين القلب والعاطفة متجهاً نحو الدار الآخرة حسب تنظيم ديكارت للعلاقة بينهما"[14].
لذا كان أغلب العصرانيين في فكرهم وأدبهم ونظمهم مهتمين بدينهم النصراني في حياتهم العملية، حيث يجعلون له نصيباً من الوقت، وإن كان ضئيلاً.(/11)
ومن ثم بقيت النصرانية الهوية المميزة للأوروبيين، والعمق الوجداني الذي تبرز متأثرة به رؤاهم وفنونهم واتجاهاتهم، وهذا ما يعبر عنه الناقد المشهور؟ (ت.س.إليوت) في قوله: "في المسيحية نمت فنوننا وفي المسيحية تأصلت – إلى عهد قريب – قوانين أوروبا، وليس لتفكيرنا كله معنى، أو دلالة خارج الإطار المسيحي، وقد لا يؤمن فرد أوروبي بأن العقيدة المسيحية صحيحة، ولكن كل ما يقوله، ويفعله يأتيه من تراثه في الثقافة المسيحية، ويعتمد في معناه على تلك الثقافة".
ويقول بعد ذلك: "إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا"[15].
بل إن نيتشه اعتبر الشيوعية امتداداً لثقافة أوروبا المسيحية، لأنها أزمة في هذه الثقافة، أو حسب تعبيره الإبنة غير الشرعية للحضارة المسيحية، وأنها ستعود للانتماء لهذه الحضارة يوماً ما – المصدر نفسه – هذا فضلاً عن التوظيف السياسي والثقافي للدين الكنسي في فرض هيمنة الحضارة الأوروبية على الشعوب الأخرى من خلال الغزو التنصيري الرهيب[16].
وهذا الموقف الذي يبدو فيه الاضطراب تجاه الدين قبولاً ورفضاً، تشبثاً ونفوراً منطقي – من وجهة نظري – وإن غابت عن كثير منهم منطقيته، لأن الدين الكنسي لديهم يحمل حقاً وباطلاً:
– حقاً يبرد ولو شيئاً قليلاً من ظمأ الفطرة الإنسانية الذي تزيده المذاهب المادية والإلحادية عطشاً، وغليلاً[17].
– وباطلاً تنفر منه الفطرة، ويصطدم بالعقل والواقع، ومن ثم يحدث انفصاماً بين عقل الإنسان وإيمانه بهذا الدين[18].
هذا فضلاً عن النقص في الكتاب المقدس فيما يتعلق بالتشريعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية سوى تحكمات كلية وضعها رجال الكنيسة لإحكام قبضتهم على الحياة والأحياء في أوروبا – في عهد الكنيسة –.
لذا كان لابد لهم من الحركة خارج الدين لتقوم حياتهم وترتقي.
لعله يقال هنا.(/12)
الإلحاد المطلق بالدين كما تمثل بالماركسية والوضعية ونحوها ألا يعتبر عصرانية؟ إذ أن سير الحديث انتهى بنا – أو كاد – إلى أن العصرانية دون الإلحاد.
والجواب: هو أن التيارات العصرانية – أساساً – لم تكن رافضة للدين بالكلية، كتيارات الإلحاد، وإنما كانت تزاحم الدين بالواقع، مستهدفة تطويع الدين للواقع، أي: إبقاء الدين ولكن بعد تلقيحه بطعم العصر القائم تلقيحاً يكيفه وفق متطلبات الواقع[19].
ولكن العصرانية – هذه – كانت هي الخطوة التي أوصلت إلى الإلحاد، بل المتكأ المنطقي لبعض فلاسفته الذين يرون: أن من الخداع للناس مطالبتهم بالأخذ بدين نكيفه وفق أهوائنا ومعارفنا، وتحذيرهم من الإلحاد.
إذ ما الفرق – هكذا يقول الملحدون – بين هذا الدين وفلسفتنا، سوى أن العصارنيين وضعوا فلسفتهم تحت اسم دين له تاريخ، فكأنهم هدفوا إلى استغلال الشعبية التي يحظى بها الدين لتمرير عصرانيتهم من خلاله.
وبغض النظر عن مقصد العصرانيين الغربيين – خاصة القدماء منهم – من حركتهم، هل هي خدمة الدين، أو العداء له، أو أمر بينهما، فإن الحركة انتهت إلى تضخيم الواقع الحياتي، وتركيزهم الإنسان وجهده في دنياه، بعيداً عن دينه، وخالقه، وآخرته، وهي النهاية العملية لتيارات الإلحاد[20].
ومع أنه تواصل مع الحركة العصرانية تقدم في المجال العلمي الكوني، تزيد به شيئاً فشيئاً رفاهية الإنسان الغربي، وهيمنته على الكون المحيط به.
إلا أنه أحس بخوائه الروحي القاتل، وباهتزاز إنسانيته، أي: اهتزاز قيمته، لذا تلفت يبحث عن حلول لهذه المعضلة:
– نقداً للإغراق المادي في حضارته القائمة.
– وتأكيداً على بعث الانتعاش في النصرانية لدى الأوروبيين.
– وبحثاً عن وجبات روحية تسد الجوع العام خارج نطاق أوروبا، خاصة لدى الديانات الشرقية المشهورة باهتمامها بالجانب الروحي.(/13)
– وارتخاء في المواقف الإلحادية الرافضة للدين، أو الساخرة به وقد تمثلت مثل هذه المطالب في كتب كتبها مفكرون كبار، وفي حركات شبابية رافضة، وفي تصريحات متناثرة صحفية وإعلامية ناقدة لهذا الشرود عن الله.
معنى النصرانية:
بهذا التتبع – غير الاستقصائي – للمسيرة الفكرية الدينية في أوروبا اتضح مفهوم العصرانية الذي يتحدد بأنها [تحكم الواقع الدنيوي المعاش وما ينتج عنه، وجعله المقياس للصلاحية وعدمها في حياة الإنسان.
أي: هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في طل زمن (عصر) وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري].
والعصرانية – بهذا المعنى – تضم في إطارها كل التوجهات والتيارات التي ظهرت مناوئة للدين في أي جانب من جوانب الحياة منذ بداية نهضة أوروبا، والتي لا تزال تظهر حتى الآن.
والعلمانية سواء قصد بها أساس الفكرة التي هي ربط الحياة بالعلم البشري مقابلاً للدين، أو كانت خداعاً من المترجمين حيث جعلوها بديلاً لحركة صرف اهتمام الناس عن الله، وما وراء الحياة الدنيا إلى زهرة هذه الحياة وحدها – وهي المعروفة بـ: (secula صلى الله عليه وسلم ism).
سواء قصد هذا أو ذاك، فهي العصرانية[21].
ومثل ذلك: سائر الألفاظ التي تبتدع في ظل مسيرة العصرانية، مثل: التنوير الذي يصف بعض العرب فلسفتهم به، والحداثة التي شاع استخدامها في الأونة الأخيرة، كاتجاه فكري عام.
أما التنوير:
فإن اللفظة التي ترجم عنها، وهي (illumination , enlightenment) تطلق على الإتجاه الذي يتركز على المنهج التجريبي بصفته منهج العلم الوحيد مقراً مما يقره هذا المنهج كوجود الله مثلاً، وهو: منهج نيوتن، وجون لوك، ونحوهما.
ولكنها بعد ذلك صارت تطلق على الفلسفات التي تحارب العالم الغيبي واصفة إياه بالظلام، فالتنوير هو: الركون إلى التجربة الحسية مصدراً للمعرفة، والبقاء في عالم الحس مجالاً.(/14)
ولهذا وصف د.زكي نجيب محمود فلسفته الوضعية التي ترى: أن كل فكر يتجاوز عالم الطبيعة، غير علمي، بل خرافي[22]. – وصفها – بأنها تنوير.
ولكن ناقداً له وصفها بالمقابل بعد أن كشف عن مصادرات منطقها اللغوي الميتافيزيقية بأنها فلسفة تعمية، لا تنوير[23].
وأما الحداثة:
تعريب كلمة (mode صلى الله عليه وسلم nity, modeصلى الله عليه وسلمnism)[24] فهي اتجاه شاع في أوساط متعددة في الأدب والفن في شكل ثورات على الأنماط السائدة، واستحداث أنماط جديدة صاخبة.
وفي نطاق الدين في شكل توجه يهدف إلى تفسيرألفاظ الكتاب المقدس على حسب المفاهيم الفلسفية والعلمية المعاصرة بصورة مفرطة مشابهة للتفسيرات الإشارية عند الصوفية.
والحداثة الآن بمفهومها العام تقابل التقليدية والأصالة معاً، تعني: الإنسلاخ من التقليدي في حياة الفرد والمجتمع فكراً ونظماً وعلاقات وأنماط حياة متنوعة، والتحلي بدلاً منها بجديد مغاير.
والجديد بالنسبة للمسلمين – غالباً – هو ما لدى الغرب.
يقول برهان غليون في كتابه (اغتيال العقل): الحداثة ممارسة يومية.
هي تغيير في كل الاتجاهات لبُنى الواقع والفكر العربي، إنها إندراج دون أوهام في العالمية والحضارة المادية وأولوياتها.
هي: إنهاء هذه الخصوصية وذلك التراث[25].
والحداثيون العرب يعترفون بأن حداثتهم مستقاة من الحداثة الأوروبية، كما قال محمد برادة: "إن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخياً بوجودٍ سابق للحداثة الغربية، وبامتداد قنوات للتواصل بين الثقافتين"[26].
ولأن حركية الحداثة – في أوروبا – كانت موجهة لنقد الدين وإخضاعه لتطوير العقل البشري وفق مسيرة الفكر المعاصر، اندفع المتأثرون العرب بها في هجوم قاس على الإسلام، مصادره، وعقيدته، وشريعته.
هذا:(/15)
وقد يستخدم بعض البارزين في الحركة الإسلامية التحديث بمعنى التجديد، ولكن إذاً التجديد لا ينفك عن منحى الحداثة، فهو تجديد، يكون لفكر العصر الحاضر دور كبير فيه، تجديد يجرد الكتاب والسنة من لواحقهما التراثية، ويتحلل من كثير من الضوابط لحساب خطاب العصر السائد مثل من يفسر الإجماع الشرعي بأنه: اتفاق مجلس مؤسسة أو حزب أو دولة على أمر من الأمور، أو يجرد القياس الفقهي من العلة الرابطة بين الأصل والفرع.
المسلمون والعصرانية
العالم الإسلامي أمام العصرانية:
كان العرب ومن حولهم من الأمم – قبل الإسلام – يتشبثون بعقائد خرافية، ويتدينون بنحل منحرفة عن سواء السبيل، ويحكمون حياتهم بأعراف، وتقاليد رفعوها من أنفسهم، وحاكوا فيها من يجاورهم من أقوام.
بعث الله نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – من بين العرب بدين الإسلام، فقدم للناس دين ربه، من خلال وحي إلهي تلقاه.
– عقائد يقينية قي قضايا الوجود التي تهم الإنسان في حياته.
– وأحكاماً عبادية، وخلقية، واجتماعية كاملة في كل شؤونه.
{وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً}[27]. (سورة الأنعام: 115).
وتلقى العرب ثم من حولهم هذا النور المبين والحق الشافي، فاستقامت به حياتهم الفكرية والعملية، واستوت به حضارتهم المتفردة بجمعها بين العلم الصحيح، والخلق القويم.
واعتصموا بهذا الهدي من التيه مع التائهين.
ولكن الأمة الإسلامية لم تبق على هذا الاعتصام الذي كان عماد رشادها في قرونها الأولى.
بدأت ترتخي يدها في الاستمساك بحبله شيئاً فشيئاً، وتضعف صلتها به، وتتقبل بدائل من خارجه في عاداتها وعباداتها، بل وعقيدتها، فشاعت البدع والضلالات في العقائد والعبادات.
وتحكمت الأعراف والعادات في السلوك والعلاقات.
وفشا الجهل بالدين، مما أدى إلى إنقلاب المفاهيم، وتلاعب الدجالين فيهم.(/16)
وتقهقروا فكرياً في كل جوانب العلم فقهاً وإيماناً وعلوم وسائل، حتى هيمنت النصوصية التي كان منتهى طالب العلم منه، حفظ النص، وفك بعض رموزه، أو حفظ القواعد دون تطبيق لها في حركته العلمية والعملية.
وهكذا أصبحت حياة المسلمين الفردية والاجتماعية في العصور المتأخرة حياة راكدة متخلفة مهترئه[28].
كان العالم الغربي في هذا الوقت الذي يسير فيه العالم الإسلامي في طريق التقهقر فكرياً، وحضارياً – في فورة نهضته المدنية وانطلاقته التحررية – خاصة من إسار الكنيسة – حيث بدأت تتشكل لديه ملامح تقافة حضارية فاعلة.
وهكذا:
منذ قرنين تقريباً التقى المسلمون بالغربيين لقاءً مختلفاً عن لقاءاتهم السابقة بغيرهم من الأمم، لقاءات الفتح والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلام الكفر إلى نور الحق والإيمان.
أجل.
لقد كان هذا اللقاء الأخيرتفاعلاً فكرياً بين طرفين:
الغرب.
والمسلمين.
الغرب ممثلاً بثقافة حية متوثبة، سواء في علمها التقني التطبيقي أو في فلسفاتها الاجتماعية، أو في مواقفها الحادة الثائرة، بعداً عن الدين واستهتاراً بالأخلاق، وتهالكاً على المادة، وطموحاً إلى التغيير والسيطرة داخل بلادها، وخارج حدودها. والمسلمين ممثلين بثقافة ذات أساس علمي مكين، لأنه وحي إلهي معصوم. ولكنها في واقع حياتهم متكلسة متقهقرة محتاجة إلى البعث والإحياء.(/17)
وفي دائرة هذه المعادلة أطل الغرب على المسلمين، فأخذ زمام المبادرة منهم في تحريك جوهم الساكن، الذي سكن معه مركبهم، وراح يقذف على المسلمين أنواعاً من المشاريع النهضوية التي تستهدف إحداث تغيير ثقافي، مستغلاً كل القنوات المتاحة التي من أهمها تَنَفُّذُهم الفكري والتعليمي، والسياسي، في فترة الإستعمار، أمَا أهمها: فهم أبناء العرب والمسلمين الذين درسوا في الغرب أو استهوتهم أحواله، وبهرهم بريقه، ومن ثم أشربوا مذاهبه فحملوها إلى بلادهم على أنها طوق النجاة من الواقع الأليم لأمتهم العربية والاسلامية، وهؤلاء هم رواد العصرانية الأوائل في العالم الإسلامي[29].
وهكذا ابتدأت حركة العمرنة عند المسلمين، من واقعهم كان منطلقها: المسلمون متخلفون، وبحاجة إلى نهضة وبعث.
وهذا ما لا يخالفهم فيه غيرهم من المسلمين.
إنما الخلاف فيما وراء ذلك في منهج النهوض الذي يلوح به العصرانيون وهو أن تقام حياة المسلمين على أساس ما انتهى إليه الفكر البشري في هذا العصر في سائر النظم والمعارف والفنون.
ما هو هذا الفكر البشري؟
إنه فكر الغرب – فلسفاته، ونظمه، وآدابه.
وهكذا اكتمل المسلسل.
إنحراف من المسلمين عن دين ربهم، أورثهم إنحطاطاً، وتخلفاً، هيأ هذا التخلف ساحتهم لتعلو فيها صيحات العصرانيين، بل هيأ كثيراً منهم لتقبل العصرانية.
ومع هذا فإن للغرب ذاته إستعماراً، واستشراقاً، وتنصيراً، وتغفيلاً دوراً قوياً في دعم مسيرة العصرانية بتمكين رجالها من المناصب، وسلخهم عن دينهم ما استطاعوا إلى ذلك طريقاً.
وقد سلكت العصرانية في العالم الإسلامي مسلكين:
1 – مسلك الدعوة الصارخة والفرض الحاسم للاندفاع في حضارة العصر والتضحية بمن يعوق عن ذلك من دين وتقاليد، بل والتضحية بمن يعوق ذلك من الذين يقفون أفراداً وحركات في وجه مسخ الأمة المسلمة.
وقد تم ذلك بوسيلتين:(/18)
* بقوة الحكم والتطبيق العملي كما فعل أتاتورك، وجمال عبدالناصر، وبورقيبة، وأحزاب البعث.
* بحركة الفكر من قبل المنسلخين من إهاب أمتهم، كما تعكسه دعواتهم الحركية – مثل: طه حسين، وعلي عبدالرازق، وزكي نجيب محمود، وصادق جلال العظم، وفؤاد زكريا، ومحمد أركون، وعبدالله العروي، وكثير من الوضعيين، واليساريين، والوجوديين.
2 – مسلك العصرنة العملية التخطيطية التي ئغمئرن شؤون الدولة في نظمها، وحياة الناس في جوانبها المختلفة، من خلال الإقتصاديين في الإقتصاد، والسياسيين في المبادىء العامة، وأهل الأدب والفن في مشاعر الناسى ورؤاهم، وأهل الفكر في مجالات العلم، وطرائق التربية، ومناهج التعليم، وهلم جرا.
والعصرانيون في البيئة الإسلامية أنواع:
– ما بين منسلخ من الإسلام ملقحٍ بمذهبية بديلة، ومن ثم يشعر أن وجوده في البيئة الإسلامية، وفي مجتمع يحكمه الإسلام لا قيمة له ولا فاعلية، ما دام أن الإسلام الذي انفصل عنه هو المهيمن والمعيار، ولذا يحاربه.
– أو معاد لعلماء الإسلام والملتزمين به لا يجد سبيلاً لثأره منهم، إلا بمحاربة الدين الذي يحملونه.
– أو نصراني لا يسعده أن يسود الإسلام في أرض هو فيها.
– أو صنيعة من صنائع الأعداء يهدف معهم إلى كسر شوكة الإسلام طلباً لعرض من الدنيا، أو نتيجة غسيل مخ تم له[30].
– أو مخدوع يجهل حقيقة الإسلام وحقيقة العصرانية، ولا يدري أن هذه العصرنة إفساد في الدين وانحراف عن سبيله.(/19)
– أو لا مبال بأمر دينه – الإسلامي – ترك قياده لثلة الأصدقاء، أو لزملاء العمل، أو لمصطادي الفارغين، فكان أن استهووه في تيار العصرانية ليكثر سوادهم، أو يتشيع لهم، أو يخدمهم بمركزه، أو يروج لهم في أوساطه، وبين أترابه، وربما كان أكثر هذه الفئة الأخيرة من الشباب الذي فقد حضانة سليمة، فأصابوا منه مقتلاً باحتضانهم له لتسخيره، وإن لم يع من عصرانيتهم شيئاً، إلا السخرية بالدين وسب حملته، والإكبار لكل ما عند الغرب، لأنه من عند الغرب.
* واقع الأمة تحت تسلط العصرانية:
وتظاهرت أمور عديدة لخدمة العصرانية:
1 - الإستعمار الغربي بجيوشه، واستشراقه، وتنصيره.
2 - الابتعاث إلى الغرب.
3 - الحكومات المنحرفة التي هيأت للعصرانيين وسائل التممير في المجتمعات المسلمة، وحاربت بالمقابل الاتجاه الإسلامي.
4 - السرطان الشيوعي الذي جند عملاءه اليساريين لتدمير الدين والقيم، إلى غير ذلك. مما جعل الخناق يحكم بشدة على الأمة المسلمة، حيث أورث:
– واقعاً حياتياً للمسلمين ممسوخاً بعيداً عن الدين، ضائعاً في وجهته، يزداد إنحطاطاً، وتدهوراً، متقلباً بين شعارات العصرانيين من ليبرالية إلى إشتراكية، إلى ماركسية، إلى قومية... ما بين تبعية مكشوفة لأحد النظم الاستعمارية سابقاً – والبنى الفكرية الغربية لاحقاً، تلك البني التي تُبًزَّر لتجعل السبيل الأمثل لحياة الإنسان، وبين تجديف بين تلك النظم لتلفيق مذهبيات مشكلة من تلك البنى الفكرية.
– واقعاً مضطرباً بين أنماط التصورات والصور الحياتية التي تعرض على المسلم بمنحاها الغربي المصادم لوجهة الإسلام الواضحة لديه فيها في المناهج التعليمية، والدراسات الإنسانية، والمؤسسات الإجتماعية، والحركات االفنية والأدبية والبث الإعلامي.
يرافق هذا كله مقاومة عدائية جادة لأي تحرك إسلامي إيجابي – فردياً، أو جماعياً لتحطيمه والحيلولة دون امتداده، وتأثيره في الحياة التي استبدوا فيها به.(/20)
ومع أن الصحوة الإسلامية بدأت تبعث الحياة والصحة في هذا الواقع المهترئ، وتصعد من حركة النقد الاسلامي للاتجاه العصراني، فضلاً عن الفشل المتتابع الذي كشف للكثير عن إفلاس العصرانية، ونفاق كثير من دعاتها، مما جعلها الآن في حالة جزر واضح.
مع هذا فإنه ما يزال الإعلام، والتعليم، والحكم، والمؤسسات الفاعلة وكثيرمن الأحوال!، والنقابات، ونحوها من مراكز التأثير تحت هيمنه تيار العصرانية في أغلب مناطق العالم الإسلامي، مما يعني عدم انحسارها عن الساحة، وإن حاولت تغيير شعاراتها، ومنافقة الواقع الذي بدأت تربته تتغير من تحتها بتأثير صيب الصحوة الإسلامية المبارك.
ولكي تعلم أن العصرانية ما تزال حتى الآن متنفذة – في أكلح وجوهها – في دنيا العرب ومسيطرة على مراكزها المؤسسية المؤثرة، وأنها لما تزال سائرة في عملية إغواء الأمة وإرباك نهضتها.
لكي تعلم ذلك، ينبغي أن تعرف أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليسكوا)[31] قد وضعت ما أسمته بـ(الإستراتيجية الثقافية للدول العربية)، من أجل أن تسترشد بها الدول العربية الأعضاء في الحمل الثقافي والمناهج التربوية والبرامج الإعلامية.
وقد أقرت هذه الاستراتيجية من قبل المجلس الوزاري للمعنيين بالثقافة عام 1451هـ – الذي دعا إلى نشرها وتعميمها والاسترشاد بها في خطط التنمية الثقافية للدول الأعضاء.
وقد دعي للمشاركة في إحداث هذه الخطة الشاملة على مستوى العالم العربي أكثر من ستمائة مفكر عربي، وباحث، ليس فيهم عالم أو مفكر إسلامي واحد، بل إن أكثرهم ممن اشتهر بعدائه للإسلام والقرآن، وانسلاخه عن عروبته[32].
ولأن هذا مجرد مثال أذكر لك ملخصاً لبعض مقولات تلك الإستراتيجية:
1 - إنتشار (الفكر الغيبي) أي: الإيمان بالغيب أهم أسباب إنتكاسة الحضارة العربية.
2 - إذا كان الدين عنصر الوحدة في القرون السابقة، فإن القومية هي عنصرها في العصر الحديث.(/21)
3 - دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب حركة سياسية تسرت باسم الدين.
4 - من المستحيل أن نقبل تقنيات الغرب وعلومه، ونرفض في نفس الوقت فلسفاته، ونظمه.
5 - الحضارة الأوروبية حضارة مطلقة قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.
6 - لا يمكن أن نتحرر من الغرب حتى نتحرر من تراثنا ذاته.
7 - النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – كان يدير سياسته بفكر عقلاني، لا ديني.
8 - على استراتيجية الثقافة العربية أن تحذر السقوط في حبائل الفكر الديني[33].
* العصرانيون ومفاجأة الصحوة الإسلامية:
تصور العصرانيون في العالم العربي والإسلامي أن دين الإسلام قد انحسر عن التأثير في الحياة، وأن أهله قد انكمشوا للأبد، وأنه في طريقه إلى النسيان الأبدي.
وربما كان التسائل الوارد بينهم هو: هل لَفَطَ الدين أنفاسه الأخيرة، هل تطاير رماده بعد احتراقه، أو لا؟
تصوروا ذلك نتيجة حتمية لتلك العوامل المتظاهرة في نشر العصرانية المناوئة له، وغرسها في أرض المجتمع الإسلامي، ولِما قدَّموه من إغراءات ومشروعات نهضوية مستغربة، وما أغرقوا به المجتمع من مشكلات معقدة – إقتصادية، وإجتماعية وترفيهية –، وما شّنوه من حرب فكرية وعملية على الدين وعلمائه المتحمسين له.
ولكن الله خيب آمالهم.
فقد فاجأتهم الصحوة الإسلامية وهم يتلذذون بأحلامهم تَهُدَّ ما بنوه، وتسفه ما نصبوه من أصنام، وتقدم نفسها بديلاً أصيلاً لقيادة هذه الأمة بعدما انكشف زيف كل الشعارات والطروحات التي قدمها العصرانيون.
وكان وقع هذه الصحوة عليهم شديداً مذهلاً.
* فبعضهم أنكرها وأدعى أنها خيال لا حقيقة له، وأنها أحلام وهمية طرب إليها المتدينون من الواقع الذي يمقتونه[34].
* وآخرون اعترفوا بوجودها وبانتشارها السرطاني – كما يصفه بعضهم – ومن ثم ذهب هؤلاء يندبون حظهم، نادمين على أن الإسلام لم يستأصل كلياً من التربية العربية، حينما كان كل شيء بأيديهم.(/22)
* ويلوم أناس منهم أنفسهم، لأنهم عاشوا في خيال، نتيجة استلابهم لقوانين اجتماعية تلقوها من الغرب على أنها حتميات مطلقة، لا يندّ عنها شيء، ومن ثم طبقوها على مجتمعاتهم وانتظروا نتيجتها المحتومة – قبولاً من الأمة لعصرانيتهم واستدباراً للدين – فراعهم أنها انعكست إلى ضد ما كانوا يأملون.
يقول د.علي الكنز: "إن التحليل السوسيولوجي الذي جاء به عبدالله العروي وتبنيناه نحن ما هو في نهاية الأمر إلا مغالطة لا يمكن أن تشاهد في التاريخ"[35].
ويقصد الكنز هنا ما نقله العروي عن الفلسفة الماركسية من أن بروز الرجل التقني – رجل الصناعة – متناسب مع إختفاء رجل الدين.
كلما ازداد بروز الأول زاد اختفاء الثاني، حتى ينسحب الدين نهائياً من المجتمع إذا سادته الروح التقنية.
ويصور (برهان غليون) الصعقة التي أحدثتها الصحوة فيهم فأفسدت عليهم ثويماتهم المغرقة في الفناء في عصرانيتهم، فيقول بعد كلامه عن تيار التحديث الجارف ونضاله الشامل المستميت الذي انحسر أمامه التراث والشعور الديني وهيمنة علماء الدين – هذا التيار الذي يتمثل في نظم، وأحزاب، ومؤسسات إعلامية، وثقافية، واتجاهات فكرية – يقول بعد هذا: "وفجأة تغير الوضع والمشكلة – مشكلة – إقصاء الدين عن الحياة – التي بدت محسومة منذ أكثرمن نصف قرن برزت من جديد أقوى من أي حقبة أخرى حتى لقد تحولت في العديد من البلاد العربية إلى موضوع الجدال الأول في الحياة العامة الثقافية والسياسية"[36].
ثم ماذا؟
ما هو الموقف الذي أتخذته العمرانية تجاه هذه الصحوة؟
أغلب العصرانيين – على اختلاف مشاربهم – لا يرى خيراً للأمة من هذه الصحوة، بل يراها حجر عثرة في مسيرة النهوض العربي.(/23)
وسبب ذلك أن جيل الصحوة واضح المبدأ في حركته وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة في معالجة المشكلات التي تطرحها علاقة الإنسان بالعالم والطبيعة، والفكر، والفن، والمجتمع، بحيث لا يجعل للثقافة العصرية الأوروبية أي دور معياري في معالجة تلك المشكلات[37].
أي أن سبب إخفاقها – لديهم – عدم عصرانيتها.
لكن هذه الصحوة فرضت نفسها على الواقع الإجتماعي، وامتدت فاعليتها إلى الجوانب الحيوية من هذا الواقع – الإعلام، التعليم، السياسة – ومن ثم كان لا بر للاتجاه العصراني من اتخاذ هوقف حركي من هذا التحدي الذي تمثله الصحوة.
إذا تركنا جانباً[38] الذين يرون ضرورة مواصلة إغراق المجتمع المسلم بالتحديث والعصرنة، وتجاهل هذه الصحوة، أو السخرية بها، والإغراء بسحقها، وتهويل عواقب فتح المجال لها بين الناس، وفي مجال الحكم.
إذا تركنا هذا الصنف جانباً، فإننا نجد أن الموقف التكتيكي للاتجاه العمراني إزاء الصحوة يتمثل في الانفتاح عليها، ومغازلتها، والاعتراف بها كواقع ينبغي أن يكون له دور في تشكيل المجتمع، وأن تسمع له الاتجاهات الأخرى، لكن ذلك كله عَرْضٌ تُغْري به الصحوة لا يمكن أن يمارس إلا في إطار تنازل من الصحوة عن رفضها المبدئي للحداثة والليبرالية الفكرية، وأسس المنهجية العصرانية.
وقد يقدم بعض هؤلاء نصائح وتوجهات لها كي يقبلوها، وتشارك من ثم بناء المجتمع.
يرى – مثلاً – الدكتور عابد الجابري وهو يتحدث عن المغرب العربي والحركة الإسلامية فيه: أن هذه الحركة لن تنجح في تأسيس وجودها وسط الجماهير كقوة محركة للتاريخ إلا إذا تبنت أهدافاً سياسية، واجتماعية تستجيب لمطلب الجماهير ومطامحها المادية والمعنوية معاً، وإذا فعلت ذلك فإنها ستتحول لا محالة إلى حركة سياسية، ويالتالي سيتوقف نجاحها على مدى تكييفها للدين مع السياسة[39].(/24)
وهذه الدعوة التي قد تبدو منصفة ومتهيئة لسماع الحق من أهله دعوة خبيثة – وإن أخلص بعض دعاتها – لأن ثمرتها وقوع الصحوة في فلك العصرانية، أي: أنهما تتحرك مشدودة بخيوط الفكر العصراني ومشكلاته النابتة – أصلاً – في حضارة غير – حضارتها. وهذه الدعوة هي ما تعرف بحالة الإستقطاب الفكري التي كثرت دعوة العصرانيين لأهل الصحوة إلى الوقوع في شركها من خلال مطالبتهم بتقديم مناهج ورؤى حول المشكلات التي يعاني منها العالم المعاصر، والتي لم تخرج في تصورهم عن التعلق بأحد الحلول التي سبق الغرب إلى تجربتها.
وقد يكون بعضهم طيب النية في دعوته، ولكن انغلاقه في دائرة الفكر المعاصر بتصوراته الوجودية، ونظرياته الإجتماعية بعيداً عن دينه يبعده عن تخيل أن الإسلام يمثل منظومة مذهبية متكاملة لها أساسها العقدي ونظمها الشاملة المترابطة وتطلعاتها المتميزة[40].
كذلك يرى العصرانيون في مواجهة الصحوة ضرورة تنويع البحث في عملية اختراق البنية الإسلامية.
فإن كان الإغراء بالثقافة الغربية المعاصرة، وتكريس قيمتها في المجتمع المسلم، وفرض نُظمها بالقوة لم يحقق هدفه المنشود، وهو: إنفصال المجتمع الإسلامي عن تراثه الذي يمثل جاذبية تشده عن الإندماج في خضارة العصر، فإنه ينبغي أن تستبدل به أو تشرك معه جهد آخر، وهو: النقد المركز للتراث حتى ينهدم الأساس الذي تركن إليه هذه الصحوة.
يرى بعض هؤلاء أن هذا النقد ينبغي ألا يكون سبباً مباشراً للتراث، لأن هذا قد يزيد من تشبث الناس به، وإنما يتم بإعلان إحترام التراث والدعوة للرجوع إليه، من خلال نقدٍ واعٍ له بعقليتنا المعاصرة، خاصة أسس هذا التراث المنهجية التي قام عليها.
هذا هو ما يركز بعض العصرانيين البارزين اليوم عليه:
مثل: محمد أركون صاحب الدعوة إلى الرجوع للقرآن الكريم لدراسته وفق المنهجية الألسنية.(/25)
وحسن حنفي الذي يسعى لبعث مبدأ تقديم العقل على النقل، والذي يرى أن الدواسة المعمقة للقرآن الكريم تبين أنه علماني المنحى، وإنما حوله المسلمون إلى وجهة دينية[41].
ومحمد عابد الجابري الذي يرى أنه لكي نؤمن بفاعلية المنهج العلمي الغربي لابد أن ننقد المناهج التي قام عليها التراث عند المسلمين، لنكشف قيمتها في دائرة المنهجية القائمة اليوم[42].
وهناك من اتجه إلى التراث ليتكئ عليه في ترويج عصرانيته، من خلال عملية انتقاء لبعض عناصره التي تقبلها منهجية الفكر المعاصرة أو من خلال بعض رموزه المنحرفة عن الإسلام، أو ذات الشذوذ في فكرها مثل: ما فعل د.زكي نجيب محمود في (تجديد الفكر العربي)، ود.حسن صعب في تحديث العقل العربي.
وهناك فضلاً عن هؤلاء آخرون كانت لهم مواقف تتسم باتزان وعدل، حيث ينادون بضرورة أن ينقد العصرانيون مناهجهم، وأن يعترفوا بأن ظهور الصحوة ناتج عن إخفاق[43] مشروعاتهم، وأن يتأملوا في الصحوة، ويعرفوا ما عندها على حقيقته، لا من خلال مناظير مستعارة، وقد أعرب بعضهم عن رغبته في التعرف على حقيقة فكر الصحوة ودعوتها من أهلها.
ولعل ما يلحظ من تحسن في كتابات بعضهم، أو تراجع عن بعض مقولاتهم السابقة نتيجة لمراجعة ذاتية سببها هذه الصحوة التي هزت السفينة التي ظنوها سكنت على الشاطىء الذي يهوون بعد أن أوثقوها بحبالهم عليه.
* من مظاهر العصرانية في حياتنا الإجتماعية:
– كما سلف – فقد تهيأت للاتجاه العصراني في البلاد الإسلامية ظروف ساعدت على نشر وبائه، وإذا كان الإستعمار عاملاً ساعد على نشر هذا الوباء ما استطاع في البلاد التي استعمرها، فإن قيام النظم التي تنفذت بالعصرانيين في الجوانب المختلفة، خاصة الثقافة، والتي تنفذوا هم بها – أيضاً – كان عاملاً أكبر وأخطر، لا في البلدان التي حكمتها فقط، بل امتد تأثيرها إلى ما وراء ذلك.(/26)
وسأشير هنا: إلى بعض مظاهر العصرانية التي تسربت إلى حياة الكثير منا، واستمرأها، والتي يدأب العصرانيون على إشاعتها ما استطاعوا مغالبين حركة المد الإسلامي.
وليس الحكم عاماً، أي أنني لا أحكم بتمثلها في الجميع، ولكنها مع ذلك منتشرة، سارية في حياة كثير من المسلمين، حتى من الذين يحاربون الفلسفات التي صدرت عنها.
وقبل السرد المرقم لمظاهر العصرانية في حياتنا الإجتماعية والفردية، أنقل لك مقتطفاً من كلام راصدٍ غربي لحياة المسلمين يرسم فيها صورة لتحولها مبيناً أن الهيمنة التي كانت للدين – للقرآن، والسنة، والشريعة – على شعور المسلم ووجدانه قد خفت أو غابت ليحل محلها شعور منحرف نحو الغرب يُكبره ويهم به.
يقول المستشرق هاملتون جب: "إن الإسلام كقوة مسيطرة على الحياة الإجتماعية فقد مكانته وسلطانه، فهناك مؤشرات أخرى تعمل إلى جانبه، وهي في كثير من الأحيان تتعارض مع تقاليده، وتعاليمه تعارضاً صريحاً، ولكنها تشق طريقها إلى المجتمع المسلم بقوة، وعزم، فإلى عهد قريب لم يكن للمسلم اتجاه سياسي يخالف الإسلام، ولا أدب إلا الأدب الديني، ولا أعياد إلا الأعياد الدينية، ولم يكن ينظر إلى العالم الخارجي إلا بمنظار الدين، وكان الدين هو كل شيء بالقياس إليه، أما الآن: فقد أخذ يمد بصره إلى ما وراء عالمه المحدود، ولم تعد تعاليمه الدينية القديمة صالحة لإمداده في حاجاته الروحية، فضلاً عن حاجاته الإجتماعية، بينما أصبحت مصالحه، وحاجاته الدنيويه هي، أكثر ما يسترعي انتباهه"[44].
ولابد أن يكون في بالك أن اقتصاري على بعض الأنماط الاجتماعية التي تمس قلوب الناس وحركتهم المباشرة، لا يعني انحصار آثار العصرنة فيها.
كلا.(/27)
إن عامة المصائب الفكرية والاجتماعية والحضارية على مستوى الأمة والشعوب والدول عائد إلى العصرانية – بالدرجة الأولى –، التي وقفت بالأمة عن النهوض السليم وفق شريعة ربها، وحطمت ما بقي من بنيتها في الاقتصاد، والسياسة، والفكر، والأسرة وغيرها، وجعلتها في جوانب حياتها تابعة ذليلة للغرب.
يقول منير شفيق مبيناً الأثر الشامل للفكر المتغرب في الأمة وقد كان من ذويه ثم هداه الله (اندفع الفكر المتغرب يشهر حرباً شاملة عل الإسلام وأهله، ظاناً أن في ذلك تحريراً للشعب، وللمرأة، وإطلاقاً للعقل... ولكنه ما درى أن تلك الحرب تأتي بنتائج معاكسة تماماً، إذ إذا بالشعب يُحطَّم ويُشل، وإذا بالمرأة تتيه وتضيع، وإذا بالعائلة تتمزق وتتخبط، وإذا بالعقل يصبح مغلولاً إلى الغرب، وإذا بالاستقلال تبعية، وإذا بالتقدم الاجتماعي مزيداً من التحفط، ثم وصلت الأمور إلى أن يعلن ذلك الفكر نفسه أننا نعيش زمن الإنحطاط العربي[45].
وإليك الآن بعضاً من مظاهر التأثير العصراني في حياتنا الإجتماعية:
1 – تأليه الإنسان:
إنعكست السلبية وضعف التفاعل مع الكون التي كانت سمة الإنسان في قرون الضعف – عند المسلمين – إلى نقيض متطرف لدى كثير من المسلمين غَذَّته العصرانية بما استوحته من الغرب الذي غلا في الإنسان حتى منحه خصائص الألوهية، ألمْ يصرح كثيرمن رواد النهضة الأوروبية بأنهم عملوا على (نقل المقعد من الله إلى الإنسان، ولذلك سمي بعضهم هذا الدين الجديد الإنسانية)[46].
أجل.
لقد ركز الكثيرون – من المسلمين – على الإنسان، وما له من خصائص متفردة، وقدرات خلاقة، تجعله يواجه الحياة كما يشاء، ويصبح بها سيد قدره[47]، كما يشيع هؤلاء أن الإنسان تحررمن سلطات الطبقية والعنصرية والمسلمات القيمية، وكأنه بذلك متفرد في هذا الكون، يُغير ولا يتغير، يملك بقدراته ولا يملكه أحد، مما يؤدي إلى ضمور الإيمان بهيمنة الله وتدبيره ومدده.(/28)
وفى هذا السبيل يدخل الركون إلى الأسباب المادية، والتعلق بها بصفتها مناط النجاح دون سواها، سواء كانت هذه الأسباب عقاقير يستشفي بها، أو عتاداً عسكرياً يحارب به، أو حتى رياشاً وثراء يتعلق به طالب السعادة على أنه سبيلها، ومن ثم حصر الهم بتلك الأسباب، والغفلة عن مسبب الأسباب – سبحانه –، وضعف التوكل عليه، بل وإهمال نوع آخر من الأسباب، وهي الأسباب غير المادية، كالدعاء والإقبال على الله – سبحانه – والإحسان إلى المحتاجين.
وليس المقصود هنا دعوة إلى سلبية الإنسان في الكون وإهمال الأسباب، سواء الذاتية منها في الإنسان، كالعلم والحركة العاقلة النشطة، أو الوسائل المعينة في البناء المدني والإرتقاء الحضاري.
إن الهدف كشف خلل في الحياة المسلمة، علاجه: وضع الأمور في أنصبتها الصحيحة إيماناً بهيمنة الله وسبق مشيئته مشيئة العباد، وجريان الأسباب بأمره، ثم أخذاً بالأسباب وفق هذا التصور.
2 – البطولة:
ميزان الأفضلية في المجتمع الملتزم بالإسلام هو: التقوي (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
التقوي بمعناها الشامل، الذي يستجمع العلم والعمل – الفقه في الدين، وتطبيقه في الحياة عبادة، وخلقاً، وحركة.
وكلما زاد نصيب المرء من التقوى علا مقامه في المجتمع، ونافس الآخرين في هذا المضمار.
ونتيجة لذلك: فإن البارزين في مثل هذا المجتمع هم الذين يملكون رصيداً من هذا الزاد يجعلهم موضع ثقة الناس، والأسوة لهم.
لهذا كان العلماء العاملون الصادقون هم نجوم المجتمع ومثالاته.
ولكن الأمر تغير نتيجة تغير مجتمعات المسلمين، وانكماش هيمنة الدين الصحيح على حياتهم، وبعد تغلغل العصرانية زادت الطين بله، حيث صارت البطولة والنجومية وهالات البروز، محصورة في مجالات بعيدة عن قيم الإسلام أو تافهة لا رجحان لها في ميزانه.
3 – المادية:(/29)
يتمثل هذا المظهر في التركيز المفرط على الإزدهار المادي وأسباب الرفاهية المدنية، حتى يصبح محل الإهتمام الأول، ويجعل هو المقياس لنهضة الأمة ورقيها، ويرى الناس أن النجاح هو نجاح الإنسان في التحويش[48] أكثر من غيره من الناس من الأموال، مما جعل الناس يفتنون به ويصبون جهودهم في الاستحواذ على أكبر قدر يتمكنون منه ولو كان ذلك على حساب جوانبهم الروحية والإنسانية.
ويدخل في ذلك: صرف الاهتمام الأكبر لما يعني بالجانب الجسدي ورفاهيته تخطيطاً، وتبرعاً، ومطالبة، كالملاعب، والحدائق، والملاهي بما لا يتوازى على الأقل، مع الإهتمام بوسائل الإرتقاء بالروح والفكر، كالمساجد، والمكتبات ودور العلم والمعرفة.
إن هذه الخديعة التي وقع فيها كثيرمن المسلمين إنسياقاً وراء مسلك الغرب في تصور أن التقدم والإرتقاء الحضاري محصور في التنمية المادية هي الألم الذي يئن منه الغرب الآن، والتي سماها (أودال) ناظر الداخلية الأمريكية قبل سنوات (توراة الدمار) داعياً إلى تصعيد الغضب والإستنكار لها فالشوارع العريضة، والبنايات الشاهقة والأسمنت المسلح، وزحمة السيارات، وتكاثف دخان المصانع والتكنولوجيا، كل هذه لا تشكل مدنية، ولا حضارة حقة، إذا فقد معها الإنسان روحه، وتاه عن الهدف من وجوده[49].
4 – من مظاهرها – أيضاً – تفشي الذرائعية[50]، التي يلهث فيها الإنسان وراء المصالح القريبة والمنافع العاجلة، حتى ضعفت لدى كثير من الناس رعاية الحق والأخلاق، بل صار الحق لديهم ما حقق لهم عرضاً قريباً أو ربحاً مادياً بلا اكتراث بحل، أو حرمة.
بل إن هناك دعوات محمومة إلى إقامة العلاقات، وبناء الصداقات على أساس المصالح المتبادلة دون رعاية للدين، فالعصر كما يدّعي أولئك عصر المصالح، لا عصر الإيديولوجيات والمبادئ[51].(/30)
ونتيجة لسيطرة النفعية المصلحية على توجه الإنسان وعلاقاته، فقد صار الحب، والبغض، والصلة، والهجران، والقرب، والبعد، والتعاون وضده – كلها – قائمة على المصالح، وعلى أساسها تتحدد القيم.
ولم يكن ذلك لأن هؤلاء يؤمنون بالفلسفة – البراجماتية – الذرائعية التي لا ترى من الحقائق إلا ما أثمر منافع مادية عاجلة في هذه الحياة، دون إيمان بما وراءها من حياة آخرة.
كلا إن كثيراً منهم لا يعرف هذه الفلسفة – أصلاً – ولكن حياتهم العملية إنعكاس لها وللأسف.
ولقد تجاوز الأمر إلى أن أصبح التباهي ومفاضلة الأخرين مقصوراً على هذا الجانب، سواء في حياة الأفراد، أو المؤسسات والهيئات، حيث تقيس تقدمها الحضاري، وتقدم شخصيتها للآخرين، من خلال ما وصلت إليه من وضع مادي غافلة عن القيمة الثقافية، والزاد الروحي الذي يُمكن أن تقدم به نفسها سابقة للآخرين[52].
5 – الإنفصام بين الدنيا والدين:
لعل هذا المظهر يمثل أساساً للمظهر السابق. لقد حاول العصرانيون تأكيد التباين بين الدين = الإسلام والدنيا المعاصرة.
بمعنى: أن المسلم إذا أراد أن يعيش حياة عصرية متمتعاً بتسهيلاتها ومنافساً في بناء صروحها، فلابد له من التخلي عن دينه.
فإن أصر على التزام دينه، فعليه أن ينسحب من حياة الناس، منغلقاً على نفسه، مستغرقاً في مطالب دينه.
يقول العصراني الوضعي د.زكي نجيب محمود: "إني لأقولها صريحة واضحة، إني لأقولها صريحة واضحة، إمّا أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإمّا أن نرفضه ونوصد الأبواب دونه لنعيش تراثنا، نحن في ذلك أحرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين"[53].
هذا من جانب العصرانيين.(/31)
ومن جانب آخر: فإن المواقف الانفعالية لبعض العامة من المسلمين في عدد من البيئات إزاء كل ما كانت تقذف به مدنية الغرب من مستجدات في بدايات انفتاح تلك البيئات على الغرب، والمتسمة بالرفض لها، والتحذير منها بصفتها مستحدثات لم تعهد في بيئاتهم، ولم يسمعوا عنها في تراثهم الإسلامي، وقد يتصورها بعضهم داخلة في مسمى البدعة، التي تعرض الآخذ بها إلى نقص إيمانه وثلم دينه، ولعل ارتباطها بغير المسلمين تصنيعاً، وبغير الملتزمين من أبناء المسلمين ترويجاً، واستخداماً – أول الأمر – قوَّى تلك الشبهة.
هذه المواقف أوحت للناشئة الصغار – بخاصة – أن القضية دينّ ومسجد، ومن ثم هروب من الحياة المتدفقة، أو بالمقابل انفلات من الدين، ومن ثم انفتاح على الحياة، ومشاركة في تيارها المغري.
هذه الصورة التي يتمثل فيها الفصام الحاد بين الدين والحياة، قد تتمثل بهذه البشاعة في حياة بعض الناس، فيغرقون أنفسهم في تيار الدنيا غير رافعين بالدين رأساً، إمّا منسلخين منه تماماً، أو دون ذلك، فقد يصلي – مثلاً – بعض من تتمثل فيه هذه الظاهرة، لأنه لا يسعه – ما دام جيرانه وأبناءه وإخوانه ومن حولة يصلون – إلا أن يصلي حتى تصبح الصلاة عنده بالتعود شيئاً قائماً في حياته، فيصلي ولو كان وحده، وقد يصوم – أيضاً – ولكن حياته بعد الصلاة حياة لا إسلامية تماماً، حيث يظل ساهياً لأهياً مستحلاً لكثير من المحرمات، ساخراً بشعائر الدين ودعاته، فكأن صلاته تلك مجرد وقفة روتينية في سيره البعيد عن الله، بل قد يشعر بثقلها على نفسه، وَقطعها تواصل غفلته، فيعتبرها عَقَبه في طريقه، لا مجرد وقفة، ومن ثم تصبح تلك الصلاة الشكلية نشازاً في حركته، غير مؤثرة في سلوكه، ولا رابطة له بربه.(/32)
وقد تكون الصورة أقل من ذلك، ولكن الحاجز ما يزال قائماً، ويتمثل ذلك في الانفصام – في هيمنة الدين على مشاعر الشخص – بين المسجد، وخارجة. تجد أناساً متدينين في ساحة العبادة وأثناء تأدية الشعائر، وهو تدين صادق نحكمه المشاعر الإيمانية الفياضة، ولكن هذا التدين يضعف في حركتهم الحياتية خارج المسجد في جلساتهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم، فلا يهيمن عليها هيمنته على حركتهم التعبدية.
6 – من المظاهر – أيضاً – تجرد الأخلاق من طبيعتها الإسلامية، التي تربط الأخلاق بالله – سبحانه –، وبمسؤولية الإنسان أمامة يوم القيامة، حيث شاعت مسميات مثل: القيم، والمُثل[54].
كما تقهقرت فاعلية الثواب والعقاب ورضوان الله، واحتساب الجزاء عنده عن كثير من النفوس المسلمة، فلم تعدّ مناطاً لفعل الخير، والتبرع بالأموال والإسهام في المشروعات النافعة، أو سبباً في ترك الباطل، والتراجع عن ظلم، أو عمل منكر، وإنما أقيمت بدائل تتجه إليها تلك التصرفات، كإرضاء الضمير، أو اتقاء تأنيبه، أو الإنسانية... ونحوها.
7 – وبمناسبة الثواب والعقاب: فإن من آثار العصرانية ذات النزعة المغرقة في المادية أنها أورثت قلوب كثير من المسلمين قسوة شديدة، وغلظة على ما يتجاوز المادة القريبة، حتى ضَعُفَ كثيراً تأثُّرها بالترغيب، والترهيب، والوعد، والوعيد وصار بينها وبين ذكر الموت والجنة والنار حجاب كثيف.(/33)
لقد كان الناس قبل عقود من السنين – في بلادنا – إذا سمعوا المذكر بالموت، وأهواله، والقبر ووحشته، والجنة ونعيمها، والنار وعذابها، ترق قلوبهم ويلومون أنفسهم على تفريطهم، وينفعلون يا واقعهم، إن قصيراًً من الوقت أو طويلاً بذلك الوعظ حتى الفسقة منهم.. أمّا الآن: فإن هذا اللون من الوعظ – لدى كثير من الناس – أصبح مستهجناً غير سائغ، لأنه يهدف إلى نقل الإنسان إلى عالم ليس مجالاً لاهتمامه، هذا الاهتمام – الذي حصره بعالمه المادي العاجل، ولا يريد التفكير بسواه، أو أن تذكيره بذلك يوقظ فيه الشعور بعظم جريرته، ونقص علمه وهمته حينما نسيَ مصيره المحتم، فلا يريد هذا التذكير هرباً من هذا الشعور، كما يتضايق من يُذكر بجرائم سابقة له تهز من مركزه، ومقامه.
8 – من أشمل المظاهر المؤسفة ضعفُ الشعور بالتميز الإسلامي، ذلك التميز الذي يشعرفي ضوئه المسلم بأنه منفرد بين بني البشر كلهم بقيمة تقصر عنها جميع القيم الموجودة، سواء لدى الأمم المتحدة، أو غيرها، وذلك لأنه يرتكز على منهج إلهي يحمل الحق المطلق، خلافاً للأمم الأخرى، التي ترتكز على مناهج وضعتها العقول البشرية.
ودلالة هذا الضعف في شعور التميُّز هو: تفشي العادات والتقاليد الغربية[55]، في التعامل والتصرفات، وفي تنظيم الحياة الفردية، والأسرية والاجتماعية دون امتعاض أو تأمل في مدى إنسجامها مع الشرع والتقاليد الاجتماعية الإسلامية أو عدمه، بل لعلها تكون مجال تفاخر لدى البعض.
9 – ومن أخطر المظاهر قيام عقائد وأنصاب في حياة بعض المسلمين تنافس الإيمان بالله، والعقيدة في قلب الشخص، وتتحكم في مشاعره وسلوكه في الحياة، يرتبط بها همَّه، ويبذل لها نفسه، ويقوم على أساسها حبه، وبغضه، وولاؤه، وعداؤه.(/34)
10 – وممَّا هو جارٍ في الساحة الإسلامية – والعربية بالذات – وخصوصاً في البيئات التي قوي فيها تيار الصحوة، وبدأ يزاحم التيارات العصرانية التي كانت مستبدة فيها قبل ذلك، دعوة يحاول العصرانيون بطرحها إبقاء مواقع لهم في المجتمع المسلم كي يواصلوا تدمير هذا المجتمع من خلاله.
يقولون: إن البلاد فيها إضافة إلى الإسلاميين، عصرانيون ماركسيون ووضعيون، ووجوديون... وهؤلاء مواطنون ومن حقهم أن يبقى لهم تمثيل فاعل في المجتمع ومؤسساته، وأن يكون لمناهجهم وخططهم أعتبار في مسيرة البلد.
ومن ثم لا تكتفي هذه الطائفة من العصرانيين بإعطاء نفسها حق الإجتهاد في قضايا التشريع، بل تطلب من المسلم أن يحول (عقيدته إلى مجرد رأي للتخلص من التعصب والطائفية)[56].
ويرون أن رفض إعطائهم هذا الحق إحتكار لحق المواطنة عنهم إلى طائفة خاصة هم الإسلاميين.
وإنما ذكرتها هنا – ضمن المظاهر – لأني أشعر أنها أصبحت قناعة لا عند مروجيها العصرانيين، بل عند بعض الصالحين من المسلمين، شعوراً بأن من الإنصاف والعدل التسليم لهم بذلك.
ولا ريب أن هذه خديعة ماكرة، لأن هذا الحق لا يحتكره الإسلاميون لأنفسهم، وإنما هو حق الله الذي جاء به نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – في الكتاب والسنة، وهذا ما لا يسمع منتسباً للإسلام، سواء أدخل نفسه في دائرة الإسلاميين أو العصرانيين رفضُه وجلبُ البدائل البشرية له، أي: أنه لا مجال للخروج عليه، فضلاً عن تبني خلافه في مجتمع مسلم[57].
11 – الركيز على الحرية في حياة الإنسان وفق التصور الغربي لها، حرية التدين، والاعتقاد والتعبير – الرأي، والتشريع دون فرض شيء من خارج الإنسان، مع غياب لقيمه العبودية في الإسلام التي هي مرتكز حياة المسلم تصوراً، وسلوكاً[58].(/35)
ولهذا كانت ثمرات تلك الحرية تجاوزاً من المرأة المسلمة لتعاليم الشريعة – سفوراً واختلاطاً وإهمالاً للمحرمية في السفر ونحوه –، وكان من ثمارها استنكار مؤاخذة من يستهزئ بالدين وعلمائه أو ينكر أحكامه، ومحاولة إلغاء حد الردة وعد شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدياً على الحريات وحجراً على الرغبات.
ولقد كان من آثار هذه النزعة التحررية المتجهة نحو التحلل من الدين والخلق أنها أدت إلى تفسخ عائلي، ونفور من قبل الناشئة المندفعين معها عن محيطهم – أسرهم وجيرانهم والصالحين من بارزي مجتمعهم.
فعلوا ذلك توقياً لرد فعل هؤلاء الجيران، والأقارب تجاه ما يمارسونه من تحلل وما يسيرون فيه من طريق منحرف.
لذا نجد من ثمار الصحوه الإيمانية الأن تقارب الناس والتئام العوائل وشيوع روح الأخوة والإحترام.
12 – المرأة في المجتمع المسلم عنصر متميز مؤثر والرجل صاحب القوّامة في هذا المجتمع يرتد إلى المرأة، وتنعكس روحها فيه أمِّا له في صغره وزوجة له في كبره.
وركيزة السمو وقيمته في المرأة إنما هو في إنسانيتها المتميزة في ماهيتها الأنثوية الفطرية التي بها كانت ميزتها الخاصة، وفاعليتها الاجتماعية في دائرتها النسائية، وفي محيط الرجل أيضاً.
ولقد كان من غايات العصرانية خلع هذا الثوب الإنساني من المرأة لتفقد ماهيتها، ومن ثم ميزتها الساحرة.
ومن وسائل هذا الخلع محاربة هذه الماهية وتشويهها باعتبارها – ويا للانتكاس – إزراءً بالمرأة وتهويناً من شأنها، ومن ثم سعت الحركات العصرانية في مجالات الأدب والإعلام والسياسة وغيرها – سعياً أسهمت فيه المرأة نفسها – لكي تجعل المرأة مخلوقاً متحرراً من تلك الأنوثة، رافضاً لوظائفها الفطرية.(/36)
وإذا كانت هذه الوسيلة خطيرة، فإن وسيلة أخرى لا تقل خطراً – لسهولة انخداع المسلمات بها –، وهي: صرف المرأة إلى تكثيف الاهتمام بالمظاهر الخارجية، وإعلاء قيمتها على حساب إنسانية المرأة وأنوثتها الطبيعية، حتى أصبحت كثير من المسلمات لا ترى نفسها، ولا تشعر بقيمتها إلا من خلال ما تحيط بها نفسها، أو تملكه من أزياء، ومساحيق وقصات شعر مستعار وغير مستعار، وهيكل جسمي مُعَدَّل بحسب معايير الموضة، وبالعلاجات والأجهزة المنوعة.
وتحولت المرأة الطبيعية إلى امرأة مُصَنَّعة[59]، تفقد تلك الروح الإنسانية التي كانت تمتاز بها المرأة الطبيعية، وما زالت المرأة تندفع وتدفع في هذا السبيل بتضخيم قيمة شكلها الخارجي، من خلال المجلات المهتمة بتجارة الأزياء ومبتكرات التجميل ونحوها، من مظهريات المرأة[60]، على حساب ما يهتم بقيمتها الذاتية في إنسانيتها وموقعها الأسري العظيم.
13 – ضعف القيمة العلمية للنصوص الشرعية – آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية – عند بعض الكتاب في حركتهم العلمية.
فمقتضى إيمان الشخص بأن هذه النصوص مستمدة من الوحي الإلهي أن يقف عند حقائقها، ويجعلها معياراً يزن به ما سواها.
لكنّا نجد بعض الكتاب والصحفيين يعالجون قضايا فكرية أو تشريعية بنظرات فكرية، أو استفتاءات اجتماعية، مع أنها تكون مقررة في النصوص بشكل حاسم.
بل تجد ذكر القرآن الكريم والرسول – صلى الله عليه وسلم – إذا ورد في حديث هؤلاء يرد مجرداً من هالة القداسة التي تربط به – القرآن مجرداً من الوصف، ومحمد مجرداً من ذكر نبوته، ومن الصلاة والسلام عليه.(/37)
14 – ثم إن البناء الفكري والعلمي بعد أن كان مركزه الذي ينطلق منه هو: الكتاب، والسنة والحقائق المنبثقة منها، صار يبدأ مع علوم أخرى، ويتأسس على معارف متنوعه، لكنها ليست شرعية، بل إنها لدى كثير من الشباب تتمحور في صفحات الفن، والرياضة، ونحوها من التوافه الصحفية، حيث يرتكز الإهتمام الشعوري بها، والوعي المحتدم عليها مقابل فتور وَقَرف فيما يتعلق بالجوانب الإسلامية – الفكرية.
15 – كما تجد أن بعض الشباب يتجه في حل مشكلاته ومعالجة أزماته الإجتماعية إلى إستشارات غير إسلامية لدى إجتماعيين، أو نفسيين أو مجرد صحفيين يجمعهم نقص أو عقم كامل من الوعي بالشريعة الإسلامية ومنهحجها في بناء الإنسانً والمجتمع والعلاقات بين الناس، وصيانة كل ذلك من الفساد وحلول ما يمكن أن يحدث فيه من علل.
وصفحات المشكلات في الصحف التي يطلب فيها هؤلاء الشباب الحلول لمشكلاتهم أو تبصيرهم في حركتهم من محرر أو محررة، لا يعلمان من الدين شيئاً يفيض بها الميدان.
16 – القلق النفسي: كما أن من سِمًَة هذا العصر: أنه عصر صناعي، كذلك فإنه عصر القلق والإضطرابات النفسية.
وإذا كان الضرب هو مصدر السمة الأولى، فإنه كذلك مصدر السمة الثانية، وبقدر ما ينفتح للناس من آثار هذا العصر مدنية وثقافة بقدر ما يزيد توترهم وحرج صدورهم.
ولقد تلوثت المجتمعات الإسلامية بهذا المرض – مرض القلق – الذي صار يستفحل ويفتك بالنفوس، نتيجة إشاعة الشك والإلحاد والمذاهب الفكرية المتصاربة، والخلاعة الصحفية، والقصص الماجنة، والفن الذي يدور بالناس بين علاقات عاهرة، وتأوهات بائسة وصراع مادي، وإغراءات آثمة.(/38)
وإذا كان الإنحراف عن الدين، وضعف الإبمان بالله، وبالقضاء والقدر، وباليوم الآخر، عوامل أساسية في تعمق القلق واستشرائه في حياة الناس – الشباب خاصة – فإن ما أغرقت به العصرانية مجتمعات المسلمين من ثقافة وفنون وافكار ساخرة بالدين، مستهترة بالحياة سبب كبير في ضعف الإيمان، ويَعُدْ الإنسان عن ربه، وشيوع الأخلاق الفاسدة التي تمثل مصادر قلق وتوتر في نفس المتخلق بها، حينما تفسد صلته بالله وعلاقته بالآخرين من حوله، من أمثال: الحقد، والحسد، واحتقار الأقل ثراء، أو جاها، وتَسَخُّط المصائب وعدم القناعة.
وممّا يزيد المشكلة تعقيداً: أن هؤلاء المصابين بالقلق – والذي تتمثل مبادؤه بالشعور بالفراغ الحاد – يلجأون لعلاجه من نغوسهم بأدوية من صيدلية العصرانية ومروجاتها – أو على الأقل من غفرازاتها –، كالإدمان على مشاهدة الأفلام السيئة، أو ألعاب الميسر، أو المخدرات، أو الأسفار الآثمة ونحوها مما يزيدهم شعوراً بالتفاهة والقلق، ويكثف ظلمة الدنيا أمامهم، فهم كناقش الشوكة بالشوكة.
ومن المفارقات المحزنة والخطيرة – في أمر كثير من هؤلاء – أنهم لا يجهلون أن انشراح النفس وسعة الصدر وقرة العين غنما هو بذكر الله والارتباط بكتابه وحسن الصلة به ومناجاته، واتباع هدايته؛ لأنهم يقرأون كتاب ربهم وسنة رسولهم – عليه الصلاة والسلام –، ولا يمارون أن ما قرره حق لا ريب فيه؛ لأن ذلك من بدهيات إيمان المسلم.
إنهم يقرأون أو يسمعون قوله سبحانه:
{أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. (الرعد، آية: 28).
{طه، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}. (طه، آية: 1 – 2).
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}. (الأنعام، آية: 82).(/39)
{الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ}. (المعارج، آية: 9 – 20).
كما يعرفون أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – التي تحدد للمسلم المنهج السليم في صلته بربه، ونظرته لهذه الحياة، وتعامله مع اناس بما يجمع شمله، ويملأ قلبه بالقناعة، ويغم بالسكينة نفسه، ويبدد همه.
كما أنه يقرأ في مقابل ذلك النصوص التي تبين أن الشرود عن الله والتهافت على مساخطه – المتمثلة بشباك العصرانية – مفضٍ إلى البؤس والتعاسة والقلق، من مثل قوله سبحانه:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. (طه: 124).
{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: 125).
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ}. (ق: 5)... إلخ من النصوص المتوافرة في هذا.
ولكن هؤلاء – للأسف – نأت بهم عنها جواذب العصارنية، وزاغت بأبصارهم فعميت عليهم هذه الهداية الواضحة، فاصبحوا عنها معرضين[61].
17 – من المظاهر – أيضاً – الفوضى في الاصطلاح، وتداخل المفاهيم لا عند العامة من قراء الصحف فقط؛ بل عند ذوي الريادة الفكرية.
وهذه عدوى من الفكر الغربي الذي يتسم بتداخل المعاني والمفاهيم لدرجة التعقيد في كثير من ألفاظه الرائجة في ميدان الفكر، ومن خلال قناة العصرانية تسربت إلى الثقافة في البيئة الإسلامية هذه الآفة، سواء تمثلت هذه الآفة في ألفاظ منقولة كلفظ الإيديولوجيا التي راج استخدامها، مع أنها (ككلمة معقدة وغامضة، وتطرح كثيراً من دون وضوح)[62].
ومثل الديمقراطية والاشتراكية اللتين تتسعان لتطبيقات متنوعة مختلفة.(/40)
أو كانت الألفاظ عربية، ولكن ألصقت بها مفاهيم لألفاظ مقابلة في اللغات الأخرى، كالحداثة، والسلفية، والتراث، والحرية، ونحوها في استعمال كثير من المفكرين.
خذ مثلاً لفظة (العروبة) ماذا يقصد بها المفكر العراقي حسن العلوي الذي يطرحها بديلاًً للقومية العربية الفاشلة بعد أزمة الخليج.
في مقابلة صحفية معه يؤكد أن مشروع القومية العربية قد فشل تماماً، وأنه المسؤول عن المصائب التي حلت بالعراق ومن حوله، ويقدم البديل الناجح، منادياً بعروبة العراق، بحيث تصبح العروبة لا القومية العربية هي هوية العراق.
ويفسر ذلك بأن القومية العربية تحارب الإسلام، أما العروبة فهي مسلمة.
ومع القلب بين الصفة والموصوف – العروبة والإسلام – فما زال الكلام قابلاً للفهم، لكنه وهو يؤكد على ضرورة الالتفاف حول مشروعه يؤكد مخاوفه أن تسبق تيارات أخرى إلى العراق لتحكمه، ويمثل لها بالماركسيين والإسلاميين[63].
فماذا تعني العروبة بصفتها مبدءاً ذات منهج يا ترى؟
إن اضطراب المفاهيم خلال فكري يورث بلبلة لدى الناس، وقد يوصل إلى السفسطة والتباس الحق بالعاطل؟ ومن ثم التيه والضياع.
وقد نهى الله المؤمنين عن قول (راعنا) حينما ألقى اليهود على معناها ظلالاًً لا يتفق ومقام الخطاب من المؤمنين للرسول – صلى الله عليه وسلم –.
18 – ومن المظاه ر التي تنتج التيه والضياع – أيضاً – وتورث الناس حالة من التأرجح بين المواقف وفقدان التمييز الازدواجية في التوجيه الفكري، والحركة الاجتماعية بين المتناقضات في القيم والأعمال.
فقارئ الصحيفة يجدها في صفحة تنقد ما تمجده، وتدعو له في صفحة أخرى.
ومثله: سامع الإذاعة، ومشاهد الشاشة، وكذلك الطالب في مدرسته ومع مدرسه، والناشئ مع بيته وأهله، والمواطن مع سائر المؤسسات التي يتعامل معها.
تناقض بين الدعوة والسلوك، بين اللوائح والتطبيق، بين وضع الإنسان فى حال أو موقع عن وضعه في حال، أو موقع آخر.(/41)
ما هو الأثر النفسي على الناشئ وهويقول في أعلى صفحة ملونة في صحيفة دعاية حارة لشراء نوع من الدخان مؤكدة المتعة في شربه، ويقرأً في أسفلها تحذيراً – حكومياً، – منه، وبيان ضرره بالصحة.
أو يقرأ في صفحة من مجلة نقداً للعفن الفني الذي أصبح مباءة للمخدرات والسفالة الخلقية، ثم يقرأ في صفحات تالية مقابلات مع نجمات ونجوم الفن وأدوارهم الإنسانية في الارتقاء بالذوق والمفاهيم للأمة، وترفعهم عن المتاجرة والربح المادي.
أو يقرأ تحقيقاً عن العوائد الايجابية لقضاء الإنسان إجازته في ربوع وطنه على نفسه وأولاده ووطنه، مادياً وخلقياً. ثم يقرأ في العدد ذاته أو في ما بعده أن رئيس تحرير المجلة عاد من إجازته التي قضاها في فرنسا – مثلاً – وأن مسؤولاً كبيراً طار إلى أثينا لقضاء إجازته هناك بصحبة الأهل والأولاد... إلخ. الصور الكثيرة التي تشمل – غالباً – جوانب الحياة الاجتماعية المتنوعة.
مثل هذا المنهج يجعل الشباب في حالة تيه تختلط فيها معالم الحق بالباطل أمامه، فيفقد حسه الخلقي تجاه الخير والشر، والطيب والخبيث، وتهون عنده الأمور، وتصبح شخصيته باهتة، لا لون لها ولا طعم، فلا يبقى إلا شهواته التي تحكمه منحرفة به نحو الفساد.
الإسلام والعصرانية
عرفنا أن العصرانية في أوروبا حسب نشأتها وعموم مسيرتها تعني: (الاستناد إلى الفكر البشري في ضوء العصر الذي يعيش فيه في وضع نظم الحياة الإنسانية، وصرف إلاهتمام الأكبر إلى المطالب المادية، والارتقاء المدني مع السماح بالتدين الفردي للإنسان في القضايا الروحية، وبعض القيم الخلقية، واعتبار الدين محصوراً في هذا النطاق.
وعرفنا أنها انتهت في تياراتها الإلحادية إلى الكفر بالدين جملة وتفصيلاً.(/42)
وقد أشرنا إلى أنه: يمكن للغرب أن يبرر تفلُّته من هيمنة تعاليم الكنيسة بأنها تعاليم وضعها البشر قبل قرون في ضوء الفكر الذي كان يحكم عصرهم ذلك[64]، فكان المنطق أن يستبدل بها تعاليم قائمة على فكر أنضج وأكثر تقدماً، ما دام أنه لا مجال لديهم لاتباع وحي معصوم تتمثل فيه الحقاثق مطلقة من نسبية الزمان، والأوضاع التي تحكم حقائق ونظريات العقل البشري.
أمّا في العالم الإسلامي: فإن العصرانية ليست نمطاً واحداً يؤمن بوجود الله وربوبيته، ويرفض تعاليمه التي جاء بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مقيماً حياته على منتجات الفكر في عصرنا الذي نعيش فيه.
إن للعصرانية – في بلاد الاسلام – تمثلات عدة:
أ – فقد تتمثل في مواقف إلحادية لا تؤمن بوجود الله أصلاً، كالمواقف الوضعية، والماركسية، والوجودية التي يرى أتباعها – من أبناء المسلمين – أن الاعتقاد بوجود عالم وراء عالم المادة تغييب للعقل وتخريف غير مقبول.
ب – أو مواقف تؤمن بوجود الله وربوبيته، وقد تظهر حيَّة، ولكنها تنكر وحيه ورسله، فلا تسمح للوحي بأي سلطان على حياة أصحابها، كالاتجاه البعثي الذي لا ينكر وجود الله – صراحة – ولكنه يرى أن ما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – ليس وحياً، ولكنه نتاج الروح العربية التي كانت تعمر كيانه استطاع به أن يعالج وضع الأمة العربية في تلك الفترة التاريخية.
ج – أو مواقف تؤمن بما سبق، معترفة بنبوة محمد – صلى الله محليه وسلم – ورسالته، ولكنها تحصر اتباع الوحي في نطاق العبادات – فقط – أو معها الأحوال الشخصية دون النظم الاجتماعية، التي ينبغي أن تُسيرها الدولة وفق المصالح الزمنية المقدرة وفق النظرات العقلية، أو الدراسات الاجتماعية.(/43)
ومن مسالك أتباع هذا الموقف في تقرير موقفهم بَعْثُ الرأي المنسوب إلى الشيخ نجم الدين الطوفي (ت 716هـ) رحمه الله، الذي يقضي بتقديم المصالح على نصوص الكتاب والسنة إذا بدا أن هناك تعارضاً بينهما[65].
د – أو مواقف تؤمن بالله وبالرسالة، وبكل ما جاء به الوحي من تشريعات حتى في المجالات الاجتماعية.
ولكنها تقف في التلقي فيما يتعلق بهذه المجالات عند حد المبادئ العامة دون التفصيلات التي جاء بها الكتاب والسنة، معتبرة هذه التفصيلات مجرد تكييف وقتي لتحقيق تلك المبادئ في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعصر خلفائه، والعصور المشابهة لها في وضعيتها الاجتماعية.
ومن ثم فلنا وقد تغير عصرنا أن نضع تفصيلات أخرى تتحقق بها تلك المبادئ العامة إقامة للعدل ونفياً للضرر ورعاية لحقوق الناس... إلخ. – مثلاً – الشيخ عبدالله العلايلي في كتاب له عنوانه: (أين الخطأ؟) كتب مبحثاً بعنوان: (أبأعيانها أم بغاياتها هي الحدود الجزائية). يرى أن الحدود – الشرعية – مرتبطة بغايات هي حماية المجتمع، وردع المعتدين، وإيقاف الظلمة عند حدهم؛ هذا هو الثابت الذي لا محيد عنه، أمّا أعيان الحدود فلا ضير من استبدالها، ما دام البديل يحقق تلك الغايات.
مثلا: السرقة عقوبتها القطع في نص القرآن، لكن وفق هذا الموقف (عقوبة القطع غايتها الردع الحاسم، فكل ما أدى مؤداها يكون بمثابتها)[66].
وقد يكون الخلل الفكري لدى فئة من أهل هذا الموقف واقعاً في مجالات الفكر التي يدرسونها علم نفس أو اجتماع، أو فن ونحوها، بسبب تلقيها من الغرب، تلقياً مباشراً بحيث تشربوا روح الفكر الغربي في هذه الجوانب مع دراستهم لها، فيأتون للنصوص الشرعية لانتزاع ما يحاولون توجيهه كي يؤيد أفكارها لإقناع أنفسهم أو غيرهم بعدم محالفتها للإسلام.
ذكر الدكتور جعفر شيخ إدريس: أنه صارح اجتماعاً لرابطة الطلاب المسلمين في أمريكا بأنهم من أسباب تخلف المسلمين.(/44)
قال لهم: أنتم من ضمن الأسباب، وأعني: بأنتم الطلاب المتدينين الملتحين أصحاب الثياب القصيرة، الذين يصلون ويصومون – الذين يذهب الواحد منهم سنوات ليدرس علم النفس أو الاجتماع أو الاقتصاد...الخ. دون أن يفكر في معرفة الجانب المتصل بعلمه هذا بالدين.
ثم يقول: نعم أنت في صلاتك وصيامك ودعوتك العامة مسلم، لكن في العلم الذي ستذهب وتطبقه في العالم الإسلامي أنت دور كايم أو فرويد، لكن بلحية، وما إلى ذلك فأنت تخدعني –.. أرى أن هذا جانب من العلمانية كنا غافلين عنه..)[67].
هـ – أو مواقف – دون ذلك كله – تتمثل في اجتهادات لتفسير النصوص الشرعية أو استنباط بعض الأحكام أو دراسة بعض القواعد المنهجية، لكنها تتم تحت ضغط الفكر المعاصر، فتأتي منحرفة إليه، مبتعدة عن النصوص الشرعية.
وأكثر من تقع منهم هذه الصورة الأخيرة من بعض المتحمسين للإسلام من الحاملين لواء الدعوة الإسلامية، الذين يعالجون في كتاباتهم هذه القضايا الشرعية، مع أنها لم تقم دراستهم الرئيسة على علم الكتاب والسنة أو درسوه، ولكن انفعالهم بالواقع المعاصر غلب على تأثير العلم الشرعي في أفكارهم[68].
وقد يكون من هؤلاء مفكرون كانوا فيما مضى عصرانيين من الصور السابقة العصرانية، ثم تراجعوا عن عصرانيتهم تلك نحو مواقف أقرب إلى دينهم[69].
ومع أن هذه التمثلات تمثل أنماطاً متدرجة، إلا أن المتأمل يجد تداخلاً بينها لدى كثيرمن العصرانيين.
تقرأ لأحدهم مقابلة صحفية – مثلاً – فتدرجه في الموقف الأخير، لكنك تجده في كتاب من كتبه – ليس بين ظهوره وبين مقابلته فارق زمني يذكر – صريح في اتخاذ الموقف الأول، أو الثاني.(/45)
وهذا الاضطراب الفكري، وتناقض المواقف سمة معتادة في مثل دراسات هؤلاء لأسباب كثيرة، من أهمها: ابتعادهم عن مصدر الحق ومجافاتهم له، وهو: الوحي الالهي العاصم من التيه في مجالات التصورات والقيم التي هي مجال بحوثهم. {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج}. (ق: 5).
وهذه سنة ربانية تلاحق كل الشاردين[70].
ومنها: وجود بقايا من الإيمان في قلوب بعضهم؛ إيمان منكمش منزو، لكنه قد تسرى الحياة في بعض أطرافه نتيجة موقف أو حدث أو لمحة نفسية، أو فكرية، فيحنون لدينهم ويقتربون منه، ثم يعود إلى الانكماش فيعودون.
ومنها: مسايرة الظروف التي تحيط به؛ إمّا المجتمع المحيط بهم، أو اتجاه الصحفية المستضيفة لهم، أو المؤتمر الذي شاركوا فيه، أو جو الصحوة الذي حاصرهم[71].
ومع هذا كله: فإن واقع الأمة المسلمة يشهد في الآونة الأخيرة تغيرالت تحولٍ من العصرانية إلى الإسلام تجري – غالباً – من خلال ارتقاء فكري متدرج، ممَّا يبشر بخير لهذه الأمه المسلمة، التي عانت كثيراً وَحُبست عن بناء نهضتها طويلاً.
هذه هي الصورة الفكرية للعصرانية في العالم الإسلامي، وفي مقابلها. وإن مقتضى إيمان المسلم بدين الإسلام أن يصدِّق ويسلِّم بكل ما جاء به وحي الله، المتمثل في رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – الخاتمة والناسخة لما سبقها، في القرآن الكريم، والسنة المطهرة.
يصدق بالأخبار؛ سواء في مجال العقيدة[72]، أو التاريخ، أو الكون والحياة. ويستسلم لأحكامه في سائر ميادين الحياة – في العبادة والأخلاق والتنظيمات الاجتماعية.
ولأن العصرانية تمثل تجاوزاً للكتاب والسنة، وابتغاء لغير حكمهما فإنها تعدُّ تعدياً لحدود الله، وَتُمَثِّل خللاً في إيمان الآخذ بها في أي جانب من تلك الجوانب.
ولكن إذا الخلل يتفاوت بحسب هؤلاء الآخذين، من حيث مقاصدهم، ودوائر تجاوزهم.(/46)
فإذا أردنا أن نضع العصرانية في إطار مصطلح شرعي[73]؛ فإنها تمثل فسوقاً. والعصراني يعتبر فاسقاً[74].
والفسق درجات:
فقد يكون كفراً أو نفاقاً، كما في قوله سبحانه: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ}. (السجدة: 18).
وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. (التوبة: 67).
وقد يكون ضلالاً كبيراً، لكنه دون الكفر، وإن كان أعظم من المعصية التي يقترفها الإنسان نتيجة إغراء لشهوة أو غضب. يقول سبحانه: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}. (الحجرات: 7).
فذكر الفسوق بين الكفر والعصيان، ممَّا يقتضي مغايرته لكل منهما للعطف، ويفهم منه بحسب الترتيب وسطيته بينهما.
وهذا هو ما يمثل له العلماء بكثيرمن البدع، وأنواع من الشرك الأصغر.
وقد يكون معصبة صاحبها عاص، مادام يعتقد حرمة ما يفعل من مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}. (الحجرات: 11).
بل قد يقع بعض المسلمين في العصرنة نتيجة اجتهاد ناقص خاطئ، تميل به نفسه فيه إلى مجاراة العصر، فيما لا يتسق مع دلالات النصوص ومقاصد الشرع، مع ظنه أنه يخدم بذلك الإسلام.
والمواقف العصرانية السابقة لا تخرج عن دوائر الفسوق المذكورة، كل موقف بحسب الدائرة التي يدخل تحتها.
أمّا الأثر العملي لمعرفة الحكم بشأن العصرانية، فإن له جانبين مهمين:
1 - جانب يتعلق بالأفكار العصرانية من حيث إن العلم بحكم الإسلام فيها يحدد خطورتها على الإيمان، وبالتالي يكون هذا العلم أساساً للتحصين ضد تسربها وإفسادها ومنطلقاً للنصح والدعوة لمن قد ينخدع بها.(/47)
2 - وجانب يتعلق بحاملي هذه الأفكار ليقيم المسلم ولاءه على ميزان شرعي سليم، دون إفراط أو تفريط؛ لأن الأفكار كلما تخفف في الشرع كما وكيفا كمان !مب حاملها من البراء أكبر، وبالمقابل كلما تخفف منها وتحسن ارتفع معدل الولاء ل. وليعي المسلمون – أيضا – معسكر هذا الاتجاه ليتعاملوا معه، بما يتناسب مع حجمه، ومستوى أصحابه، من حيث فغترهم، ومن حيث قربهم من الإسلام، أو بعدهم عنه.
العصرانية والعصرية
يفترض كثير من الكتاب الإسلاميين الذين يعالجون قضية التفاعل بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي في العصر الحديث تساؤلاً في ذكر القارئ الذي ينتهون به إلى أن ركونه إلى الفكر البشري – الذي تمثله الآن حضارة الغرب – على حساب الوحي الإلهي ولو شيئاً قليلاً خطر على إيمانه يوشك أن يمحقه، وأن اعتمامه بالوحي في مقابل ذلك الفكر هو الموقف السليم إسلامياً.
هذا التساؤل هو:
هل معنى ذلك أن مقولة زكي نجيب محمود السابقة في كون التزام الدين يقتضي الكفر بالحضارة المعاصرة والبعد عنها صحيحة؟
السؤال بصيغة عملية، ما الموقف السليم الذي ينبغي أن يقفه المسلم تجاه الفكر المعاصر في أوجهه المتعددة؟
والاجابة المجملة – هنا – هو: أنه ينبغي للمسلم ألا يستدبر هذه الحضارة منسحباً من الحياة؛ بل يتفاعل معها، ولكن من خلال إسلامه، بحيث يجعله معياراً يزن به نتاج الغرب فيقبل أو يرفض، أو يقوم ما كان قابلاً للتقويم.
بعض الباحثين يسمى ذلك بالموقف النقدي مقابلاً لموقف الأخذ الكلي والرفض الكلي، كأبي الحسن الندوي، وبعضهم يسميه بموقف الثقة بالنفس، كالأستاذ عبدالكريم عثمان، وبعضهم يسمى ذلك بالعصرية مقابلاً للعصرانية، كالدكتور السيد الشاهد، الذي يجعل العصرية مشيرة إلى تمسك المسلم بدينه الإسلامي جملة وتفصيلاً، ديناً ودنيا، ولكنه يتفاعل مع واقع عصره أكثر من العازفين عن ذلك[75].(/48)
ومع هذا فينبغي أن نعلم أن هناك من يطلق لفظ ((العصرية)) على مضمون العصرانية التي نرى الحديث فيها، كيوسف كمال في كتابه (العصريون معتزلة اليوم).
ولا أرى حاجة إلى التوسع في هذه المسألة؛ إذ المقصود التنبيه عليها فقط، بحكم صلتها بما نحن فيه.
لكني لابد أن أشير إلى نقطتين:
أ – أن الموقف المطلوب من المسلم تجاه الحضارة المعاصرة يتجاوز الموقف السلبي المقتصر على إصدار أحكام الحل والحرمة، والصلاح والفساد، إلى موقف إيجابي يُسهم فيه المسلم بترشيد الحياة البشرية في جوانبها الحضارية الشاملة، تعديلاً لمعُوجِّها، وتقديماً للبدائل الصالحة، وكشفاً لإخفاق العناصر الفاسدة وتحقيق سعادة الإنسان.
سواء كان ذلك في نطاق الدراسات الإنسانية، أو النظم الاجتماعية، أو التطبيقات المدنية.
ب – إن العنصر الأساسي الذي يعي به المسلم ما ينبغي القيام به تجاه التحديات والمعروضات أمامه هو الفقه في الشريعة، الذي يزرع في كيان المسلم معرفة صحيحة بالمواقف المطلوبة، واندفاعاً حركياً لتطبيق مقتضى تلك المعرفة.
ولهذا نجد أن جيل الصحوة استطاع رغم السنين القصيرة ومحدودية الإمكانات استثمار النتاج الحضاري لخدمة الدين ومصالح الأمة، كما استطاع البروز في ميادين التأثير ومجالات العلم التي تمثل قوام الحضارة المعاصرة بما لم يستطعه العصرانيون رغم إمكانياتههم الزمنية والظرفية عبر عقود.
* المساحة الغائمة:
قضية التفاعل مع الثقافة الغربية لم تعد في الآونة الأخيرة دائرة بين عصرانيين يعلنون أولوية هذه الثقافة على ما يخالفها ولو كان إسلامياً، وبين إسلاميين يأخذون بضد ذلك.
لقد تغيرت وضعيتها وصارت هذه القضية تدور في مساحة غائمة بعد ذلك الوضوح، أو هكذا يتصور البعض.
ولا هذه المساحة يقوم جدل بين جيل الصحوة الإسلامية والتيارات الأخرى.(/49)
– تلك التيارات تتهم جيل الصحوة بأنه يطالب بالنهوض، جاعلاً من أسسه تحرر المسلمين من الغزو الثقافي الغربي، وأنه يبالغ في تصوير التحريف الثقافي ويربطه بجميع مظاهر الثقافة الغربية في مجتمعاتنا، وأن الحركات الإسلامية (في معركتها من أجل السلطة تبنت مواقف معارضة للأنماط الثقافية الغربية الحديثة، ووعدت جماهيرها بالقضاء على التحريف الثقافي، وإحياء الثقافة الإسلامية، ولكنها لم تحدد معنى التحريف الثقافي، ولم تضع برنامجاً واضحاً للأحياء، وقد تجد صعوبة دائمة في تحقيق ذلك؛ لأن منطلقها السياسي الأصلي لم يؤسس على معارضة الاقتباس الحضاري)[76]. وأن غاية ما عند هؤلاء الاسلاميين (التأكيد على أن الإسلام فيه كل الحل، وفيه كل شثيء ومن أجل ذلك فليست لعروض الإسلاميين وكتاباتهم في الثقافة المعاصرة وعنها قيمة معرفية)[77].
– وجيل الصحوة يرى أن تلك التيارات رغم إظهار بعضها أن حداثتهم وعصرانيتهم تهدف إلى تفاعل ثقافي مع الغرب يأخذون عن طريقه ما لدى الغرب من يأخذون ثقافية نافعة، وغير مخالفة لمنهج الإسلام وقيمه.
إلا أنهم لم يحددوا منهجية التفاعل، ولا الأسس التي تحكمه، ولا تلك القيم التي لن يقبلوا مخالفها.
والحق أن هناك فارقاً بين الطرفين:
فالاتجاه الإسلامي أو جيل الصحوة وإن لم يقدم تفصيلاً بكل جوانب الثقافة محدداً رؤيته في هذه الجوانب ومنهجه إزاءها.
إلا أنه بحكم خاصيته – التي هي الإسلام – الذي يمثل – مبدئياً – قاسماً مشتركاً بين الطرفين – يقدم مبدءاً ذا خطوط منهجية وموضوغية واضحة، من اليسير حتى كل تلك التيارات التي لا تعد نفسها إسلامية وإن كان أصحابها مسمصين، إذا وعوها إدراك المقبول من غيره في ميدان التفاعل الثقافي إسلامياً.
المبدأ هو (أن الإسلام متمثلاً بالقرآن الكويم والسنة الشريفة هو: المعيار لتقويم الثقافة البشرية المعاصرة)[78].(/50)
أما الخطوط الموضوعية والمنهجية فتتمثل في الأصول الإيمانية والأحكام الشرعية.
– فالأصول الإيمانية بما فيها أركان الإيمان الستة التي على رأسها التوحيد – توحيد الله بأفعاله وأفعال العباد – بتفصيل ما تقرر في القرآن والسنة عن كل منها[79].
– وأحكام الشرع سواء في المجالات العقدية أو الخلقية أو النظم الاجتماعة بما تقرر لها في القرآن والسنة من عمومية زمانية ومكانية وإنسانية، ومن ارتباط مصلحة البشر بتطبيقها، ومن كونها علامة الإسلام الصحيح،... إلخ.
كل ذلك مما لا يجهله عامة الناس فضلاً عن المثقفين – وهو: ما يسمى ((المعلوم من الدين بالضرورة)) – يعتبره جيل الصحوة ميزان تقويم للوارد الثقافي؛ بحيث إن ما جاء مناقضاً له حائداً بالناس عن تلك الخطوط يكون بداهة تحريفاً ثقافياً، وما انسجم معه، أو يخالفه فإنه يدخل دائرة المشروع.
وتبقى بعد ذلك عناصر من الوافد الثقافي لا يستطيع تحديد مقامها هؤلاء – من خلال المعلوم من الدين بالضرورة – ولابد فيها من اجتهاد ذوي التمكن العلمي والفكري؛ علماً بالشرع، ووعياً بعناصر الثقافة البشرية، وقد تتفاوت الاجتهادات فيتسمع الأمر في ذلك.
ولكن عناصر المُحتاج إلى الاجتهاد قليل بالنسبة لمساحة الوافد الثقافي الواسعة.
والناظر في واقع الصراع القائم بين جيل الصحوة والفئات الأخرى، يجد أنه دائر في غالبه – في تلك المساحة التي يتفق على معرفتها عموم المسلمين خاصة، المفكرين والمثقفين.
هذا بالنسبة لجيل الصحوة[80].
أما التيارات الأخرى:
فإذا أخرجنا منها التي ما تزال تحارب الإسلام ومبادءه، فإن الأخر من تيارات الوطنية والقومية والحداثة –... الخ. التسميات التي تظهر احترام الإسلام – بالرغم من إعلانها عدم محاربة التراث، وأنها لا تأخذ من الغرب ما يتناقض مع القيم الاسلامية، وأنها تريد تمحيص ما عند الغرب لأخذ الصالح فقط من ثقافته... إلخ.(/51)
– بالرغم من هذا – فإنها لم تحدد عناصر هذا التراث المعتبر لديها، ولا تلك القيم، ولا ميزان تحديد الصالح من الطالح في الوافد الثقافي، فإذا ما حاكمهم جيل الصحوة إلى ما لديه من ميزان، قالوا: هذا ميزانك، لا ميزاننا، فإذا طلب ميزانهم كان عباراتٍ فضفاضة، لا تحديد تحتها.
ومن ثم فقد يقبلون أشياء في الثقافة الغربية، لا تنسجم مع الكتاب والسنة، ولا الأصول الإيمانية، ولأ الأحكام الشرعية – وهي: معيار جيل الصحوة – كما لا تنسجم مع القيم الإسلامية إذا حددت بأنها القيم التي تقررت في النصوص الشرعية، ولا مع المصالح إذا كان ضابطها قائماً على مقاصد الإسلام وأحكامه – والمفترض أن هذا معيارهم الذي يزعمون –.
ولذا نجد أن عبارة (في إطار القيم الإسلامية، أو في ظل تقاليدنا الدينية) التي تُذْيَّل بها الدعوات التي تطلب أو تقترح استحداث برامج أو أوضاع اجتماعية وثقافية منقولة من الغرب – نجدها – أصبحت مجال تنذُّر بل واستهجان كما كان الشأن في عبارة (مذبوح على الطريقة الإسلامية التي وضعت على أغلفة صناديق الأسماك، أي: أنها شيك لا رصيد له).
والسيل الأمثل لتجاوز هذه الأزمة في واقع المسلمين بين جيل الصحوة والتيارات المقابلة.
– بالنسبة لتلك التيارات هو: أن تيار الإسلام من أجل أن تعي حقيقة الإسلامية.
أي: تعرف كيف يتحقق الانتماء للإسلام من شخص، أو من ثقافةٍ.
إن سليم النية والهدف من أتباع ئلك التيارات يبدأ غبشُة في رؤيته للأشياء والأفكار في علاقتها بالإسلام من هذه النقطة، بحيث يئصور الإسلامية إما انتساباً قومياً، أو قاعدة تراثية، أو مجرد مشاعر قلبية نحو الله، وشخص الرسول، وبعض الأماكن المقدسة، أو بعض أصول عَقدية فكرية، أو مجموعة من الشعائر التعبدية... ونحو ذلك من التصورات التي استلهموها من الواقع، أو من دراسات اجتماعية وتاريخية لبعض الأدران.(/52)
والحل: أن يعرفوا الإسلامية – معنى إسلام الشخص، أو إسلامية الثقافة، من خلال الإسلام نفسه – الكتاب والسنة.
فإذا عرفوا ذلك سَهُل عليهم تمييز ما يشوش على هذه الإسلامية من الثقافة الوافدة، ئما لا ينسجم معها.
وهنا تتبدد الغيوم، ويكونون بين خيارين: إما الاندراج في مسلك مقابليهم بتحكيم الإسلامية في الوافد الثقافي[81]، وإمَّا المصارحة باستعدادهم للتضحية بإسلاميتهم جزئياً أو كلياً لحساب هذا الوافد.
– هذا بالنسبة لتلك التيارت، أمَّا اتجاه الصحوة: فالحديث بشأن موقفه المطلوب في المبحث التالي.
الموقف من العصرانية
الذي يعرف الإسلام على حقيقته، ويعرف العصرانية بصفتها اتجاهاً فكرياً في العالم الإسلامي لا يماري بأنها:
هراء؛ لأنها تفتقد أي أساس لها في المجتمع المسلم الذي أغناه الله بمورد الوحي لإقامة حياته، وتحديد وجهته الحضارية، فالمروج لها فيه كمستبضع تمراً إلى أهل خيبر، بل دون ذلك إنه كالذي يسوق أطرافاً صناعية بين قوم أصحاء، طامعاً في إغرائهم بها، كي يبؤوا أطرافهم السليمة، ليستعيضوا بها مصنعاته.
وأنها: ضلال؛ لأنها مناهج مخالفة للإسلام الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال.
وأنها عامل سقوط وتخلف للمجتمعات الإسلامية، لأنها ضلال، والضلال ليس أساس ارتقاء وعلو[82].
وهنا: يَرد سؤال.
إذا كان الأمر بهذا الحسم الصريح المبدئي، فكيف تُرّوَّج العصرانية وتروج في البيئة الإسلامية؟
والجواب: أن لذلك أسباباً لعل من أبرزها:
– الوعي بهذه الحقيقة – حقيقة أن العصرانية عامل تدمير للمسلمين وإبعاد للإسلام عن حياتهم، ومن ثم ترويجها من قبل أعداء الإسلام في الداخل والخارج لتحقيق نتائجها المدمرة.
– الجهل بالإسلام نتيجة تصوره من خلاد واقع المسلمين، أو من خلال كتب مشوهة له. سواء من كتب الفرق القديمة – الضالة –، أو من كتابات المستشرقين وتلاميذهم.(/53)
– الانخداع بالعصرانية وإحسان الظن بها، وتصور إمكانية التلفيق بينها وبين الإسلام في حياة المسلم.
أما الموقف الذي أرى ضرورة تبنيه اجتماعياً تجاه هذا التحدي العصراني القائم في البلاد الإسلامية في هذه الآونة من الزمن، فإنه يتمثل باختصار فيما يلي:
1 – نشر العلم الشرعي:
علم الكتاب والسنة هوإسلام المسلم، به تتشكل شخصيته الفردية وتنضبط حياته الاجتماعية، وبه يتحصن من عاديات الهدم والفساد.
ولأن العصرانية عامل هدم للبنية الإسلامية، لحياة المسلم الفردية والجماعية.
لذا كان لابد من نشر العلم الشرعي – علم القرآن والسنة – بكل الوسائل الممكنة، بحيث يكون هذا النشر شاملاً وعميقاً، شاملاً من ناحيتين:
– من ناحية الناس بحيث يغطي الناشئة والعامة، وذوي الحرف المهنية والمهن الحرة والتخصصات العلمية إنسانية ومادية.
– ومن ناحية مجالاته بحيث يشمل الجوانب الحياتية المختلفة في مسائل الإيمان والعبادات والأخلاق والنظم الاجتماعية – اقتصادية وسياسية وأسرية، وملاحقة الوقائع الحية في كل جانب.
وعميقاً من ناحيتين أيضاً:
– من ناحية تجاوزه المبادئ الأولية التي تلقِّن لتلاميذ الابتدائي والمتوسط إلى مدى أعمق وأركز؛ لأن غير المتخصص بالعلم الشرعي في وقتنا هذا ليس كالعامي فيما غبر من السنوات، لمّا كان معزولاً في مزرعته، أو مع غنمه وأبقاره، أو في قريته، حينما كان مصدر ئقافته لا يتجاوز شيخ قريته، أو مجالس سمرها التي لا يتجاوز المشاركون مستواه.
إن صنوف الفكر – الآن وألوان الثقافات أصبحت تتخطف الإنسان من كل جانب بالصوت، والصورة، والكتابة، ومغريات المدنية كلها أو بعضها.
تبادره في البيت، والشارع، والسيارة، والبقالة، ومكان العمل، وغير ذلك.(/54)
فلابد من الارتقاء بثقافته الشرعية، حتى تكون مهيمنة على هذه المعروضات ومن ناحية أسلوبه الذي ينبغي أن يكون كفيلاً بتحقيق فاعلية المادة – وهي العلم الشرعي – في نفس المسلم بأن يجمع هذا الأسلوب بين الوضوح والمنطقية والحيوية، بمعالجة الهموم الكبرى للمسلم في ميدان الثقافة، وأن تتوفر فيه خصائص السبك العلمي الواعي لواقع الفكر القائم.
واختصار ينبغي أن يًحقق العلم الشرعي:
– تصوراً إسلامياً شاملاً واضحاً، يجعل أصحابه ذوي وعحي حاضر بمداخل العصرانية، وذوي تمييز لما يعترضهم من شبه.
– وإيماناً دافقاً يجعل صاحبه مرتبطاً بالله، حذراً على دينه، يقظ الضمير أمام وساوس العصرانيين، حتى فيما لا يعرفه على وجه الصحيح؟ بأن يحيك في صدره، ويتلجلج في قلبه ممّا يجعله آيبا إلى الحق دائماً، فإذا غازله عصراني مباشرة، أو من خلال وسيلة إعلامية، كان هذا الإيمان الدافق – حتى ولو فاقه العصراني علمية وفكراً – لهيباً يُحْرٍق سهام هذا الحاقد، ودرعاً يصونه منها.
ولابد قبل هذا كله أن يكون العلم ذاته مؤصلاً تأصيلاً شرعياً صحيحاً بأن يكون مرتكزه الكتاب والسنة ارتباطاً بغايتهما، وإنضباطاً بمناهجهما ودوراناً على موضوعاتهما دون جنوح إلى التزيدات التي ألحقت بالفكر الإسلامي الأصيل، ونسبت إليه لمجرد أنها صدرت عن منتسبين للإسلام، أو كونها تبحث مسائل إسلامية.(/55)
إن من الجناية على المسلمين وضلال الرأي في مواجهة الفكر العصراني أن يقابل بعقليات المتكلمين والفلاسفة – السابقين – وفنائيات التصوف، وآراء بعض المنتسبين للعلم في العصور المتأخرة – عصور انحسار الفكر الإسلامي – المبتعدة عن النصوص الشرعية، إن السبيل الوحيد هو: ربط المسلمين بهدي ربهم – القرآن والسنة المطهرة – وتفهيمهم إياه وفق المنهج السليم المرتكز على طبيعة لغة هذا الهدي، وفهم الجيل الذي تلقى هذا الهدى من المبعوث به – صلى الله عليه وسلم – وهم صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين كانوا كما أخبر عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – (أبرَّ الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً)[83].
2 – مواكبة الحياة المتدفقة والمبادرة إلى الطموحات المشروعة:
الحياة المعاصرة تفيض وتطفح في كل جوانبها، في تراكماتها الفكرية.
وفي قيمها الاجتماعية.
وفي مبتكراتها المادية.
وهذا التدفق في كافة جوانبه مصبوغ بثقافات منوعة، ولابد لكي يحفظ الإنسان توازنه فوق موجاتها من أن يقوم الفكر الإسلامي بهذه المواكبة وفق مسالك كثيرة نشير إلى بعضها:
أ – حركة تقويم مبادرة لكل ما تفيض به هذه الحياة من قضايا لتقرير مدى ملاءمته للإسلام من عدمه.
ب – حركة نقد للفكر العصراني بدرجة تفوق منهج عرضه علمياً.
ج – إيجاد البدائل الصالحة النافعة للمحرمات التي تغوي بها العصرانية الناس، وتتسلل إليهم من خلالها.
ومعروف الدور الكبير الذي قدمته الأشرطة في ميدان الدعوة والإصلاح، والأناشيد الطيبة، مقابل ما كانت الأشرطة مقصورة عليه قديماً من محرمات.
مثلا: القصة من أخصب طرق الدعوة المؤثرة وغير المباشرة، لهذا ركز عليها العصرانيون كتابة وترجمة، حتى بلغت نسبة القصص المترجمة بين كل مما ترجم إلى العربية في بعض سنوات العقد السابق أكثر من 90%.(/56)
وغالب المجلات لا يخلو كل عدد منها من بضع قصص تتركز – غالباً – على الجنس أو الجانب المادي، أو بعض النزعات الإنسانية الهابطة.
ورغم اهتمام بعض الإسلاميين بهذا، إلا أن الأمر يحتاج إلى جهود منوعة؟
خاصة من فئة الشباب ذوي المواهب المتفتحة.
ومثل القصة: الشعر، والنقد... إلخ.
د – الحركة الإعلامية:
ولا أقصد بها مجرد المشاركة الفردية في استغلال وسائل الإعلام المتاحة – مع أنه لا شك مطلوب ومهم، ولكني أقصد أن تكون هناك جهود إعلامية، وتكون مشتركة بتفاعل متداخل، بحيث تكون قضية من القضايا هماً مشتركاً لكل من لديه جديد يقيمه فيها، حتى يكون لها وقع في الحياة الاجتماعية، وحتى تنضج في إفهام الناس.
إن كثيراً من العصرانيين يمارسون هذه الحركة، وقد استطاعوا أن يشغلوا الرأي العام بكثيرمن قضاياهم، وأن يُمْلوا عليه تصوراتهم لها.
يطرح الواحد منهم قضية في الصحافة، فينقدها آخرون في صحف أخرى، أو أعداد لاحقة، ثم تعقب عليها أو على النقد سواهم.. وهكذا، حتى يهتم بها الناس وقد تشغل أحاديثهم وسائل بعضهم بعضاً عنها.
وأولى بأهل الخير والتقي والدعوة إلى الله من القادرين أن يمارسوا هذا العمل، وأن يحولوا اهتمامات الناس من تلك التي يسوقهم إليها العصرانيون، أو يلجئهم إليها الفراغ إلى اهتمامات ينتبه بها الغافلون، ويعود الشاردون، ويفهم الجاهلون، ويرتفع مستوى إسلامية المسلمين.
هـ – استثمار المنحى العاطفي عند المسلمين في استنقاذهم من كيد العصرانية.
– يمثل الكشف عن الأصول التي استمدت عنها.
– والإشارة إلى الراجعين إلى الحق من العصرانيين.(/57)
– وكشف مراوغاتهم الثقافية، فقد كانوا – مثلاً – يزعمون أنهم لا يحاربون الإسلام، وإنما يقاومون المواقف المتزمتة للرافضين لنتاج المدنية المعاصرة والمعارف الحديثة، وهم الأن أمام جيل متفوق في المعارف العلمية تسمو به طموحاته لبناء حضارة أمته، وهو: جيل الصحوة ولكنهم ما فتئوا يحاربون هذا الجيل وينتقصونه، ويشوهون سمعته أمام المجتمعات ولدى الحكام.
– وبيان زيف قناعاتهم بأسسهم الفكرية، من خلال التقلبات التي لا يستقرون فيها على حال، سواء على مستوى التيارات الفكرية والنظم المتأرجحة بين اليسار الاشتراكي واليمين الليبرالي.
أو على مستوى الرواد، وحسبنا هنا مثالاً ما حدث من الدكتور عابد الجابري في تبريره صنيع البعث في الكوبت، ناقضاً بذلك أطراً فكرية ركزها في بلاد المغرب، ودعا إليها كثيراً في المشرق قبل أن ينسفها تماماً[84].
و – ومع الاتجاه الكشفي للزيف لابد من حركة بنائية موحدة الجهود ومبرمجتها، حتى تستطيع بناء الجسم الإسلامي بعد تدمير العصرانية له – بناءه – في مجالات الفكر والروح والنظم والتأثير الحضاري.
ز – الحوار مع العصرانيين – خاصة من أبناء المسلمين –، ولا أقصد بالحوار – أساساً – المطارحات الفكرية حول المسائل الجزئية من قضايا المعرفة أو الدين.
إن الذي أقصده هو: أن يقترب منهم القادرون من الدعاة لتصور حقيقة موقف كل منهم.
فقد يكون منهم من لا يقصد عِداءً للإسلام، وإنما سخر ذكاءه لوجهة تنسجم مع مزاجه أكثر من انسجامها مع قناعته، فلم يجد له موجِّها رفيقاً يعود به إلى درب الصواب.
وقد يكون منهم أتباع لا يفقهون حقيقة مواقفهم وخطورتها.
وقد يكون منهم ذوو طلب للحق ورغبة في التوصل إلى خير مما هم فيه.
وإن كان قد يوجد فيهم معاندون، متمردون راغبون عن الحق بعد علم ويقين، وبعد تصور واقع الشخص الفكري تمارس معه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.(/58)
ح – المشاركة الإيجابية في المؤسسات الاجتماعية؛ سواء كانت رسمية أو أهلية، كالنوادي والجمعيات، والهيئات الخيرية ونحوها، لا من أجل التعرف على الناس ودعوتهم من خلال هذه المؤسسات فحسب، وإن كان هذا خطوة أولية مهمة؛ بل من أجل المنافسة في تسخير هذه المؤسسات وصياغتها، حتى تكون في أهدافها، وبرامجها، ونشاطها مركزاً من مراكز الدعوة بدل أن تبقى مهملة لا حياة فيها، أو ميداناً مسخراً فيما يضر الأمة ولا ينفعها.
ومع ذلك فينبغي الحذر من المؤسسات المشبوهة أو المعروفة بانتماءاتها العقدية الفاسدة، كالأحزاب العصرانية، والمنظمات الماسونية ونحوها.
3 – التمثل الإسلامي الواقعي:
إشاعة العلم الشرعي عامل حصانة من العصرانية وإيقاظ للفطرة السليمة، وضبط للوجهة الصحيحة والغاية الحقة للناس، والمواكبة العلمية لحركة الحياة، تحرر من السلبية، وانبعاث نحو الفعل المبادر في دائرة الإسلام، بعيداً عن دوائر العصرانية.
وببقى عامل مهم في إيجابية الموقف الإسلامي تجاه العصرانية، وهو: التمثل الإسلامي الواقعي.
هذا التمثل الذي يمثل التحدي الأكبر والحساس تجاه أهل الإسلام اليوم، والذي يزداد تعاظماً كلما اكتسبت الصحوة مساحة من حرية العمل، ويزيد مواجهةً لها كلما زاد بروزها على الساحة، وتعلقت بها آمال الناس والأمة في تحقيق مطامحها التي أخفقت العصرانية في إنجاز شيء منها.
والمقصود بالتمثل الإسلامي الواقعي:
أ – توصيف منهج للحياة الإنسانية – الفردية والاجتماعية – منضبط بالإسلام غاية، ومنهجاً، قائم على مراعاة واقع العصر الذي نعيشه بأبعاد هذا الواقع المتعددة – سياسية، واقتصادية، وفكرية، وإعلامية، وغيرها – وبخلفياته المتشعبة في كل بعد من أبعاده.
ب – حركة تطبيق واعٍ شامل لذلك التوصيف حسب الإمكانات المتاحة، والوسائل المتيسرة بمنهج متثبت وخطوات متدرجة متزنة.(/59)
ج – تفاعل لا يغفل – أبداً – النقد الموجه لذلك التوصيف ولحركة تطبيقه؛ سواء من خارج أصحاب الموقف أو منهم أنفسهم، حتى يستثمر هذا النقد عامل ترشيد وإنضاج، لا معول تحطيم، أو وسيلة إلهاء.
هذا التمثل هو المهمة التي تتضخم أمام أهل الإسلام، بعد أن كانت المهمة الكبرى لهم هي: مقاومة المد العصراني الجارف[85].
لقد أمسكت العصرانية بمقاليد كثيرة في بلاد المسلمين، وخططت وحكمت ونفذت ما قدر لها أن تنفذه.
والدور قادم على أهل الإسلام – على الصحوة بالذات – التي ينبغي أن يتجاوز دورها هدم العصرانيات الفكرية والحركية إلى بناء أسانيد وركائز بديلة[86] تحقق تمثلاً واقعياً.
سواء في تحديد الرؤية الصحيحة – إسلامياً – لما يجرى في العالم من تغيرات تعني المسلم – دون ريب –، أو لما يجري في عالمه الإسلامي على مسرح السياسة، أو في تحديد الخطوات الصحيحة من غيرها – في تفصيلات العمليات الاقتصادية بمسمياتها، وشعاراتها، وتقلباتها القائمة بصورة تزرع في نفسه اليقين، والثقة بحركته معها. أو في الاستراتيجيات الاجتماعية التي تحدد الأمداء أو البدائل الممكنة في مثل قضايا الرياضة، والتعليم، والإعلام، والمرأة، وإبراز أوضاعها القائمة...الخ.
بحيث إن المسلم يجد نفسه محاطاً بوضوح كافٍ ووافٍ لكل جزئيات حركته، فلاحاً كان، أو عاملاً، أو تاجراً، أو موظفاً، أو مسؤولاً عاماً، أو هيئة مخططة.
إن هذه الحاجة بالنسبة للصحوة الإسلامية لم تعد دراسة مستقبلية – أي تنظيراً لما بعد عقد أو عقدين مما يتوقع حدوثه – إنما معالجة واقعية لأحوال الناس الذين اشرأبوا نحوها، مستدبرين طروحات العصرانية.
وحينما نتلهى عنهم وعن حاجاتهم، فإننا على أحد وجهين:
أ – إما أن نكل هذه المهمة مهمة التمثل الاسلامي الواقعي – في تحديد استراتيجيتها إلى الناس أنفسهم بعد عودهم للحق، أي: إلى العصرانيين الراجعين من ذوي القدرات الفكرية[87].(/60)
ب – أو أننا نرى المسألة لا تستحق إعداداً وتخطيطاً؛ بل ربما يجعل هذا من التكلف المنهى عنه، والمنافي لبساطة الدين وفطريته.
وفي كلا الحالين: فإن ذلك يدل على عجز مرده الجهل وعلى نقص خطير في فهم الإسلام الذي هو غايات، ومقاصد، وأحكام تشريعية تفصيلية لحياة البشر في كل أطوارها وسائر أوضاعها.
وفي الوعي بالحياة البشرية وتعقيداتها التي لم تعد حركات أفراد منفصلة يسهل إيقافها وتغيير مجراها، وإنما أصبحت مؤسسات، ونظماً مترابطة، متشعبة الأبعاد.وينبغي أن نعلم هنا: أن مناط هذه المهمة – مهمة التمثل الإسلامي الواقعي – هم ذوو القدرة، والعلم الشرعي، والوعي بالواقع[88]، كما ينبغي أن نعلم أن هناك جهوداً حثيثة – فردية – في هذا السبيل، بمعنى: أنه ينبغي ألا نفهم أن الساحة مجدبةٌ تماماً من حركة التمثل الإسلامي الواقعي، ولكن حاجة الواقع أكبرمن تلك الجهود.
* أسس تحقيق التمثل المطلوب:
لابد أن يركن ذلك التمثل الإسلامي على أساس مكين، حتى يكون مشروعاً، حاملاً أعلى ما يستطاع من درجات الإسلامية والواقعية.
ولابد لتحقيق ذلك ممَّا يلي:
1 - أن يقوم على تصور سليم واع لواقع الحياة البشرية في هذا العصر بكلى تعقيداتها، وخلفياتها، وإنجازاتها، بحيث يستثمر كل جوانب هذا الواقع القائم في بناء مثاله.
2 - وعلى وعي بالشرع؛ مقاصد، ودلالات، وأحكاماً، وأسساً منهجية. وينبغي أن يعي جيل الصحوة أنه لا يكفي لتأصيل نظم الحياة وفكرها أن يكون المؤضلون ملتزمين بالإسلام تعبداً، وخلقاً، ومشاعر؛ بل، لابد لهم وراء ذلك من تأهيل علمي، شرعي، كي يتبوأوا منبر مهمة التأصيل.(/61)
3 - وأن يحذر المتصدون له من الوقوع في الاستقطاب إلى أفلاك العصرانية، وحتى الفكر الغربي – وهو الذي أشرنا إليه فيما سبق –[89] وهو ما تدأب فلول العصرانية في العالم العربي إلى جر الصحوة إليه، ليبقى مشدوداً إلى منطلقاتهم أخذاً ورداً في مناوشات فكرية لا دور للإسلام فيها إلا بأن يُستشهد ببعض نصوصه تأييداً لما انتهى إليه هؤلاء.
لقد حدث هذا في علم الكلام قديماً، وحدث في العصر الحاضر – ممّا سمي بالمدرسة العقلية، وهو الآن أحد السهام التي يراد إنفاذها في حركة الصحو الناهضة.
4 - وأن تقوم هذه الحركة على أساس البناء المذهبي، دون النظرات التجزيئية التي تُفقد نظم الإسلام وأحكامه كثيراً من قيمها.
والمقصود بالبناء المذهبي هو: النظر إلى الإسلام بصفته ديناً متكاملاً (عقيدة وعبادة، وخلقاً، ونظماً اجتماعية)، والانطلاق في حركة توصيفه وتطبيقه من هذه النظرة الكلية، بعيداً عن الترقيع التجزيئي الذي يشوه صورة الاسلام، ولا يحقق للحياة الإنسانية إسلاميتها المطلوبة. يستوي في ذلك أن يكون الترفيع بأخذ جزء أو أجزاء من الإسلام وتركيبها في مذهبية عصرانية قائمة، أو باطراحِ جوانب من الإسلام، وتركيب بعض البُنى العصرانية في موضعها في مذهبية الإلسلام. وكلا الأمرين أخذ بهما العصرانيون، وينصحون الصحوة بأخذها.
المجتمع السعودي والعصرانية
دراسات التأثير الغربي على المسلمين رغم أنها دراسات تعالج أوضاعاً اجتماعية، وثقافية، ممّا يعني أنها تستقرئ واقعاً، أو مواقع معينة تسبر التأثير، والتفاعل في دائرتها.(/62)
– رغم هذا – فإن عامة هذه الدراسات غير متعينة، أي: أنها غير متخصصة؟ بأن يركز كل منها في بيئة، أو دولة محددة – مثلاً – فهي دراسات عامة للعصرانية، أو العلمانية، أو أمثالها من الأسماء، وتأثيرها في العالم الإسلامي، أو على الأقل العربي، وقد يكون بعضها نظرياً يعالج حكم الإسلام فيها، أو أثرها على إسلام المسلم مطلقاً، لا في ظل واقع معين، وبعضها الآخر رغم عمومية العنوان يظل دائراً في فلك بيئة معينة، كمصر مثلاً.
– والحق:
أن المجتمعات المسلمة متقاربة فيما بينها – خاصة العربية – في كثير من الخصائص وبالذات في منزعها التراثي ووحدة المنهل المقدس لديها – الكتاب والسنة – كذلك فإن ريح العصرانية التي هبت على هذه المجتمعات من الغرب كانت موحدة الغاية، متقاربة الأسس وإن تعدد وجوهها.
ولكن وراء ذلك كله فإن الحياة الاجتماعية التي هي موطن الدراسة مما تتمايز به البيئات وتختلف فيه الشعوب تبعاً لأوضاع جغرافية، أو موروثات تقليدية محلية، أو مؤثرات داخلية، أو خارجية تخص مجتمعاً دون آخر.
وفي هذا الإطار يرى كل متأمل أن للمجتمع السعودي عناصر تفرد كثيرة اكتسب بها طابعاً خاصاً انعكس على تفاعله مع المؤثرات الوافدة فأثمر نتائج يتسم كثير منها بالوصية.
لذا أرى أن من النافع للجيل – السعودي – الناشئ أن يسهم القادرون من الكتاب ممن عاش وعايش فترة انفتاح هذا المجتمع على العالم وتفاعله السمابق معه في رصد هذه الفترة في جوانبها الثقافية والاجتماعية، وما طرأ عليها، وما نتج عنها، والمقاربة بين تفاعل هذا المجتمع وتأثره بالعصرانية، وتفاعل المجتمعات الأخرى والعربية بالذات؛ خاصة مصر التي تُسقط الدراسات للعصرانية – غالباً – عليها.(/63)