ومن الردود لابن القيم على هؤلاء الذين ينكرون حجية الأخبار قوله في مختصر الصواعق[46]:
إن الرجل لو قرأ بعض المصنفات في النحو أو الطب أو غيرهما أو قصيدة من الشعر كان من أحرص الناس على فهم معنى ذلك وكان من أثقل الأمور عليه قراءة كلام لا يفهمه.
فإذا كان السابقون يعلمون أن هذا كتاب الله وكلامه فكيف لا يكونون أحرص الناس على فهمه ومعرفة معناه. قال البخاري: كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم لم يكن بينهم رأي ولا تيأس مثل المتأخرين، ويوضح لنا أبو شامة الفرق الشاسع بين موقف الصحابة والسلف من العلم وموقف المتأخرين فيقول: إن العلم قد درست أعلامه، وقل في هذا الزمان إتقانه وإحكامه وأدى به الإهمال إلى عدم احترامه، وقل إجلاله وإعظامه وكاد يجهل حلاله وحرامه.
هذا مع حث الشارع عليه، ووصف العلماء القائمين بخشيتهم إياه، ورفعه درجاتهم قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فاطر 28.
وقد كان من مضى من الأئمة المجتهدين قائمين بنشر علوم الاجتهاد في جميع الآفاق، وهم في ذلك متفاضلون:
فمنهم المحكم لأمر الكتاب.
ومنهم القائم بأمر السنة.
ومنهم الممعن في استنباط الأحكام.
وقل من اجتمع فيه القيام بجميع ذلك.
قال المزني: سمعت الشافعي يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر[47].
قد كان العلماء في الصدر الأول معذورين في ترك مالم يقفوا عليه من الحديث، لأن الأحاديث لم تكن حينئذ بينهم مدونة إنما كانت تتلقى من أفواه الرجال وهم متفرقون في البلاد (أي لم تكن مدونة منهجياً، بل كانت مكتوبة في صحف متفرقة).
فلهذا كان الشافعي بالعراق يقول لأحمد بن حنبل (( أعلموني بالحديث الصحيح أصر عليه )) وفي رواية: إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا لي حتى أذهب إليه.(/20)
ثم جمع الحفاظ الأحاديث المحتج بها في الكتب، ونوعوها وقسموها، وسهلوا الطريق إليها فبوبوها، وترجموها وبينوا ضعف كثير منها وصحته، وتكلموا في عدالة الرجال وجرح المجروح منهم وفي علل الأحاديث. ولم يدعوا للمشتغل شيئاً يتعلل به خاصة في زماننا هذا إذا أراد الإنسان أن يعرف الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل باب من أبواب الفقه وغيره أمكن له ذلك بكل سهولة، وذلك لتوفر دواوين السنة المشهورة في كل مكان، وهي مخدومة بفهارس متنوعة تسهل للباحث الوقوف على المطلوب بأسرع وقت ممكن ولله الحمد.
الاستدلال بالإجماع والقياس:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح في خطبة يوم الجمعة ((خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))[48].
ولم يقل وكل ضلالة في النار، يقول ابن تيمية[49]: بل يضل عن الحق من قصد الحق، وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب وخطؤه مغفور له.
وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد فعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها مالم يرد منها.
والمقصود هنا أن الرسول بيَّن جميع الدين بالكتاب والسنة وأن الإجماع – إجماع الأمة – حق، فإنها لا تجتمع على ضلالة وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة.
والآية المشهورة التي نستدل بها على الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} سورة النساء 115.
ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع.
وآخرون يقولون بل تدل على اتباع المؤمنين مطلقاً، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه.
والقول الثالث الوسط أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى.(/21)
فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس.
فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه.
فلما تنازعوا في (الحرام) احتج من جعله يميناً بقوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} سورة التحريم 1، 2.
وكذلك لما تنازعوا في المبتوتة: هل لها نفقة أو سكنى ؟[50].
احتج هؤلاء بحديث فاطمة، وبأن السكنى التي في القرآن للرجعية.
وأولئك قالوا: بل هي لهما.
ودلالة النصوص قد تكون خفية، فخص الله بفهمها بعض الناس. كما قال علي: (إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه).
وقد يكون النص بيناً ويذهل المجتهد عنه كتيمم الجنب، فإنه بين في القرآن في آيتين.
ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال الحاضر: ما درى عبدالله ما يقول إلا أنه قال: لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد المرء البرد أن يتيمم.
وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر: إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله تعالى: {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} سورة الطلاق 1. وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة ؟
وقد احتجت طائفة بوجوب العمرة بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ} البقرة 196 واحتج بهذه الآية على منع الفسخ: أي فسخ العمرة عن الحج.
وآخرون يقولون: إنما أمر بالإتمام فقط، أي إتمام الأركان والمناسك إذا دخل فيهما.
الأخذ بالثأر وهو موافق للأصول:
قول القائل التوضؤ من لحوم الإبل على خلاف القياس فهذا إنما قاله لأنها لحم، واللحم لا يتوضأ منه.
وصاحب الشرع بين لحم الغنم، ولحم الإبل، كما فرق بين معاطن هذه ومبارك هذه.(/22)
فأمر بالصلاة في هذا، ونهى عن الصلاة في هذا.
فدعوى المدعي أن القياس التسوية بينهما من جنس قول الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} سورة البقرة 275.
والفرق بينهما ثابت في نفس الأمر.
كما فرق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم.
فقال (الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل والسكينة في أهل الغنم)[51].
وروى في الإبل (أنها جن خلقت من جن).
فالإبل فيها قوة شيطانية، والغاذي شبيه بالمغتذي فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في ذلك من إطفاء القوة الشيطانية ما يزيل المفسدة، بخلاف من لم يتوضأ منها فإن الفساد حاصل معه.
وكذلك التوضوء من مس الذكر ومس النساء هو من هذا الباب، لما فيه من تحريك الشهوة. فالتوضؤ مما يحرك الشهوة كالتوضؤ من الغضب، والغضب من الشيطان.
والإبل نهى الرسول عن الصلاة في أعطانها للزوم الشيطان لها. بخلاف الصلاة في مباركها في السفر، فإنه جائز، لأنه عارض. وكذلك الحمام بيت الشيطان[52].
وقد تنازع العلماء في الوضوء من النجاسة الخارجة من غير السبيلين كالفصاد والحجامة، والجرح، والقيء والوضوء من مس النساء لشهوة وغير شهوة، والتوضوء من مس الذكر، والتوضوء من القهقهة.
فبعض الصحابة كان يتوضأ من مس الذكر، كسعد، وابن عمر، وكثير منهم لم يتوضأ منه. والوضوء منه هل واجب أو مستحب ؟
فيه عن مالك وأحمد، روايتان.
وإيجابه قول الشافعي.
وعدم الإيجاب مذهب أبي حنيفة.
ولا يقدر أحد قط أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أصحابه بالوضوء من مس النساء، ولا من النجاسات الخارجة، لعموم البلوى بذلك.
وقوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} المراد به الجماع كما فسره بذلك ابن عباس وغيره.
والمقصود هنا: التنبيه على فساد قول من يدعي التناقض في معاني الشريعة أو ألفاظها.(/23)
يقول ابن تيمية: والأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر ولا النساء ولا خروج النجاسات من غير السبيلين ولا القهقهة، ولا غسل الميت، فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح.
بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب. لكن الاستحباب متوجه ظاهر فيستحب أن يتوضأ.
والصحابة نقل عنهم فعل الوضوء، لا إيجاب الوضوء وكذلك القهقهة في الصلاة ذنب، ويشرع لكل من أذنب أن يتوضأ.
وفي استحباب الوضوء من القهقهة وجهان لمذهب أحمد وغيره وأما الوضوء من الحدث الدائم لكل صلاة ففيه أحاديث متعددة. وهو قول الجمهور وهو عندهم أظهر وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي وأحمد والله أعلم[53].
وأما المتنازع فيه فمثل ما يأتي حديث بخلاف أمر فيقول القائلون: هذا بخلاف القياس، أو بخلاف قياس الأصول.
وهذا له أمثلة من أشهرها: المصراة.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصروا الإبل ولا الغنم))[54].
فمن ابتاع مصراة، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، ((إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)) وهو حديث صحيح.
فقال القائلون: هذا يخالف قياس الأصول من وجوه، وذكروا وجوهاً خمسة أوردها ابن تيمية ورد عليها ثم قال:
فقال المتبعون للحديث، بل ما ذكرتموه خطأ والحديث موافق للأصول... ولهذا كان من موارد الاجتهاد أن جميع الأمصار يضمنون ذلك بصاع من تمر.
وقصة داود وسليمان عليهما السلام من هذا الباب فإن الماشية كانت قد أتلفت حرث القوم، وهو بستانهم.
قالوا: وكان عيناً، والحرث اسم للشجر والزرع، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث كأنه ضمنهم ذلك بالقيمة. ولم يكن لهم مال إلا الغنم، فأعطاهم الغنم بالقيمة.
وأما سليمان فحكم بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث حتى يعود كما كان فضمنهم إياه بالمثل وأعطاهم الماشية، يأخذون منفعتها عوضاً عن المنفعة التي فاتت من حين تلف الحرث إلى أن يعود.
وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبدالعزيز فيمن كان أتلف له شجراً، فقال يغرسه حتى يعود كما كان.(/24)
وهذا موجب الأدلة، فإن الواجب ضمان المتلف بالمثل بحسب الإمكان قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} سورة الشورى 40.
وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} البقرة 194.
ونظير هذا ما ثبت بالسنة اتفاق الصحابة من القصاص في اللطمة والضربة، وهو قول كثير من السلف.
فقال طائفة من الفقهاء: المساواة متعذرة في ذلك فيرجع إلى التعزير.
فيقال لهم: ما جاءت به الآثار هو موجب القياس.
ومن المعلوم الأمر بضرب يقاربه ضربه أقرب إلى العدل والمماثلة من عقوبة التعزير[55].
يقول ابن تيمية: وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها... وكان القياس مع قولهم، لا ضده. وأعتبر هذا بمسائل الأيمان بالنذر، والعتق والطلاق.
وكذلك مثل مسألة ابن الملاعنة، ومسألة ميراث المرتد.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] الحديث في: صحيح مسلم (كتاب العلم 15، كتاب الزكاة 69 النسائي الزكاة 14)، مسند الإمام أحمد 4/357، 359، 360، 361 .
[2] الحديث في: البخاري (كتاب البيوع 42، 44، 47، مسلم (كتاب البيوع 45) أبو داود (بيوع 51)، النسائي (بيوع 9)، الموطأ (بيوع 79) المسند 1/56 .
[3] انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي ص49 وما بعدها، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1405/ 1985 .
[4] دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور محمد الأعظمي 1/2 راجعاً فيه إلى إرشاد الفحول للشوكاني ص33 .
[5] الزهري، أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيدالله بن شهاب (58- 124هـ) انظر: الأعلام 7/317، تذكرة الحفاظ 1/102، تهذيب التهذيب 9/445، وفيات الأعيان 1/451 .
[6] ابن المبارك، أبو عبدالرحمن عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي (118- 181)، الأعلام 4/256، تذكرة الحفاظ 1/253، شذرات الذهب 1/295، مفتاح السعادة 2/112 .(/25)
[7] أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي (13- 94)، الأعلام 7/155، طبقات ابن سعد 5/88 .
[8] انظر: التشريع والفقه في الإسلام تاريخاً ومنهجاً للشيخ مناع القطان ص218 وما بعدها، مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثانية 1402/ 1982 .
[9] أصول الفقه لابن تيمية 2/232 وما بعدها (الفتاوى مجلد 20) .
[10] الحديث في الترمذي (كتاب الفرائض 10)، سنن ابن ماجه (كتاب الفرائض 4) والحديث ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث جدة سدساً))، والموطأ (كتاب الفرائض) .
[11] الحديث في سنن ابن ماجه (كتاب الديات 12) .
[12] حديث "إذا وقع بأرض..." في: الترمذي (كتاب الجنائز 66) .
[13] حديث "هذه وهذه..." في: النسائي (كتاب القسامة 45)، وفي الترمذي (كتاب الديات 4)، سنن ابن ماجه (كتاب الديات 18) .
[14] أصول الفقه لابن تيمية 2/238 .
[15] الحديث في: البخاري (كتاب التيمم 5، 8، 35)، مسلم (كتاب الطهارة)، النسائي (الطهارة 195)، أبو داود (كتاب الطهارة) .
[16] أصول الفقه لابن تيمية 2/244 (فتاوى) .
[17] المزابنة: بيع التمر في رؤوس النخل بتمر كيلاً – المحاقلة: بيع الزرع في سنبله بحنطة . – المخابرة: المزارعة على بعض ما يخرج من الأرض – الملامسة: نهى الرسول عن بيع الملامسة . وهو أن يقول: إذا لمست ثوبي ولمست ثوبك فقد وجب البيع بيننا بكذا وعللوه بأنه غرر – نهى عن المنابذة في البيع وهي أن تقول: إذا نبذت متاعي أو نبذت متاعك .
[18] حديث "لا طلاق..." في البخاري (كتاب الطلاق 11)، ابن ماجه (كتاب الطلاق 16) أبو داود (كتاب الطلاق 8)، المسند 2/276 .
[19] وقد صنف الإمام أحمد كتاباً سماه (كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم) ردّ فيه على من احتج بظاهر القرآن وترك ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم ودل على معناه ما رواه عنه ابنه صالح...) انظر مختصر الصواعق 530 .
[20] السابق 2/249 .(/26)
[21] الحديث في: صحيح مسلم (كتاب الزهد 72) سنن الدارمي (مقدمة 42)، مسند الإمام أحمد 3/12، 21، 39، 56 .
[22] الحديث في البخاري (كتاب العلم 39)، سنن أبي داود (كتاب المناسك 89)، (كتاب الديات 4)، الترمذي (كتاب العلم 12)، المسند (2/238) .
[23] ابن جريج، أبو الوليد عبدالملك بن عبدالعزيز (80- 150)، انظر: الأعلام 4/305، وفيات الأعيان 1/286 .
[24] سعيد بن أبي عروبة، مهران العدوي، البصري، محدث، فقيه . روى عن قتادة، والنضر بن أنس والحسن البصري وغيرهم له من الكتب: السنن توفي سنة 157، معجم المؤلفين 4/232 .
[25] حديث "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل ..." في الترمذي (كتاب العلم 18)، المسند 2/299 .
[26] أصول الفقه لابن تيمية 2/320 .
[27] باب الوضوء بالنبيذ في سنن أبي داود (كتاب الطهارة 42)، الترمذي (كتاب الطهارة 65)، ابن ماجه (الطهارة 37) .
[28] حديث (قد فعلت) ثبت في صحيح مسلم أن الله قال: (قد فعلت) (كتاب الإيمان، باب أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق)، المسند (ط، المعارف) 3/341 رقم 2070، والترمذي (كتاب التفسير، سورة البقرة) انظر درء 1/59 .
[29] محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، جالس أبا حنيفة سنين، ثم تفقه على أبي يوسف أيضاً صاحب أبي حنيفة . وقد ولاه الرشيد القضاء بالرقة ثم عزله، له تصانيف كثيرة توفى سنة 189 انظر معجم المؤلفين 9/207- 208 .
[30] أصول الفقه لابن تيمية (ضمن الفتاوى) 2/328- 331 .
[31] محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدَّث عنه الشيخان خارج صحيحيهما ولد سنة 223 وتوفى سنة 311 انظر: درء 1/245 .
[32] أبو يعلى محمد بن الحسين بن خلف انظر درء 1/16 .
[33] البزار أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبدالخالق . الأعلام 1/182، شذرات الذهب 2/109، توفى سنة 292هـ .(/27)
[34] دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور محمد مصطفى الأعظمي جـ1 ص22، 23 راجعا المؤلف فيه إلى السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي 149 والتبصير 46- 76 .
[35] السابق ص23- 25 راجعا إلى: تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ص185، والسنة ومكانتها، والانتصار للخياط والمعتمد لأبي الحسين البصري .
[36] دراسات في الحديث ... 1/26 وما بعدها راجعا المؤلف فيما قال إلى: أضواء على السنة 405 وما بعدها، ومجلة المنار والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للأستاذ السباعي وفجر الإسلام للأستاذ أحمد أمين .
[37] انظر دراسات في الحديث 1/29 وما بعدها .
[38] السابق 25 .
[39] حديث "ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه..." في: سنن أبي داود (كتاب السنة باب 5)، المسند 4/131 .
[40] سورة النجم، الآية (4)، المسند (4/131) .
[41] سورة الجمعة، الآية (2) .
[42] علوم الحديث د. صبحي الصالح ص301- 303 راجعاً فيه المؤلف إلى قواعد التحديث ص33، وإلى كليات أبي البقاء 288 المطبعة الأميرية سنة 1281، مقارنة بما جاء في الأحكام لابن حزم 1/96 ومنبهاً أيضاً أن هذا مفصل في مبحث ظاهر الوحي من كتابه: مباحث في علوم القرآن، وكذلك راجعاً أيضاً إلى الرسالة للإمام الشافعي ص78، والموافقات 4/15 إذ عد الشاطبي أن في السنة ما ليس في الكتاب .
[43] انظر جريدة (المسلمون) الدولية بتاريخ 13 ربيع الآخر سنة 1408 وجريدة الأهرام 29/12- 87 .
[44] للدكتور فتحي عبدالكريم، القاهرة مكتبة وهبة . الطبعة الأولى 1405- 1985، انظر ص329- 340 وتناولنا ما قاله باختصار شديد فليرجع إليه .
[45] الحديث في: سنن أبي داود (كتاب السنة 5)، المسند 4/131 .
[46] مختصر 460 .
[47] مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول . تأليف أبي شامة المقدسي 599- 665هـ تحقيق صلاح الدين مقبول أحمد، مكتبة الصحوة الإسلامية الكويت ص27- 54 .(/28)
[48] الحديث في: صحيح البخاري (كتاب الاعتصام 2)، صحيح مسلم (كتاب الجمعة 43)، سنن ابن ماجه (المقدمة 7) .
[49] أصول الفقه جـ1/191 وما بعدها (فتاوى 19) .
[50] السابق ص198 .
[51] حديث "الفخر والخيلاء ..." ورد بروايات متعددة في: البخاري (كتاب بدء الخلق 15) (كتاب المغازي 74)، مسلم (كتاب الإيمان 81، 85، 87)، مسند الإمام أحمد 2/258، 270، 319 ومواضع كثيرة 3/42، 46، 323 .
[52] أصول الفقه 2/524- 525 (فتاوى) .
[53] فتاوى أصول الفقه 2/526- 527 .
فتاوى أصول الفقه 2/556- 557 .
[54] حديث "لا تصروا الإبل..." في البخاري (كتاب البيوع 64)، مسلم (كتاب البيوع 11)، سنن أبي داود (كتاب البيوع 46)، النسائي (كتاب البيوع 14)، الموطأ (البيوع 96)، المسند 2/243، 410 ومواضع أخرى .
[55] أصول الفقه 2/565 ابن تيمية .(/29)
العنوان: الدكتورة حنان زين استشارية السعادة الزوجية: خطوات عملية لحياة زوجية سعيدة
رقم المقالة: 279
صاحب المقالة: ماجدة أبو المجد
-----------------------------------------
* المجتمعات العربية تفتقد للأسر الذكية التي تجيد فن التعامل من المشاكل.
* غياب لغة الحوار سيحول أولادنا لقنابل موقوتة.
* على الزوجين اقتراح سيناريو للوصول إلى التراضي وقت الخلاف.
* إعلاء قيمة الذاتية وغياب قيمة التسامح وراء انتشار ثقافة النكد الأسري.
* * *
باتت مجتمعاتنا العربية تعاني خلال العقود الأخيرة غزو ثقافة النكد، والعبوس، والقلق، والاضطراب الأسري، مما استحال معه إقامة حوار أسري دافئ أو تواصل شديد بين أفراد الأسرة, كما أدى إلى التفكك الأسري وارتفاع حالات الطلاق.
وفي دعوة لعدم الاستسلام لتلك الثقافة ولذلك الغازي بينت الاستشارية الاجتماعية للسعادة الأسرية الدكتورة حنان زين - رئيس مركز السعادة للاستشارات الأسرية- في حوارنا معها على ضرورة نبذ ثقافة النكد، واستبدالها بثقافة التواصل والتفاهم والحب والمودة وسماع الآخر، وضرورة ألا نستسلم لثقافة القطيعة الأسرية، التي فرضها علينا الغرب؛ فألقت بأسرنا في خضم النكد والمشاكل؛ فضاع الاستقرار وفُقد الحوار وباتت المودة والرحمة في مهب الريح.
* معوقات:
ما معوقات تحقيق السعادة الزوجية من وجهة نظرك؟
أشد ما نعانيه في وقتنا الحاضر هو غياب الأسر الذكية التي تجيد فن التعامل مع المشاكل المختلفة سواء بين الزوجين معاً، أو بين الآباء والأبناء، أو بين أفراد الأسرة، أو بين الأسرة والجيران المحيطين، أو بينها وبين المجتمع بوجه عام، ونتج عن ذلك بصورة تلقائية تقلص العلاقات الاجتماعية في دوائرها المختلفة بصورة واضحة وفجة.(/1)
كما نعاني جهلاً واضحاً بعملية التواصل الأسري والسعادة الزوجية بوصفها فن يجهله الكثيرون، كما لا نخطط لتفعيله مما أدى إلى عدم قيام كل طرف من الزوجين بواجباته نحو الآخر على الوجه الأكمل فضلاً عن هروب الدفء الأسري, وكانت المشكلة الأكبر في أن كل طرف يعرف حقوقه أكثر مما يعرف واجباته ولا ينظر إلى إيجابيات الطرف الآخر ولا يقدر جهود وتضحيات الآخر وحرصه على استمرار الأسرة, علاوة على عدم تدعيم مساحات الحوار مع شريك العمر والأبناء,هذه كلها عوامل تعيق تحقيق السعادة الأسرية.
* الاستقرار والسعادة:
وكيف تتحقق السعادة الزوجية؟
من خلال دراستنا وخبرتنا في جمعية استشارات السعادة الزوجية تبين لدينا أن هناك ثلاثة جوانب أساسية من شانها تحقيق الاستقرار والسعادة الأسرية، بداية بإشباع الجوانب النفسية لدي الزوجين، والإشعار بالرحمة والمودة، والتغاضي عن سلبيات الآخر، والتركيز على إعلاء القيم الإيجابية فيه وتزكيتها، وكذلك إشباع الجوانب الاجتماعية، وأن تصبح أم الزوج أما للزوجة والعكس صحيح، وألا تتقوقع الأسرة النووية على نفسها، وهو ما أظهرته دراسة حديثة بأن نسبة الطلاق في الأسر المركبة أقل منها في الأسر النووية؛ بسب تدخل أطراف حاضرة باستمرار في بيوت العائلة تتدخل لإنهاء واحتواء الخلاف بين الزوجين فضلاً على أن الاتزان النفسي للأبناء في بيوت العائلة أفضل من الاتزان النفسي لأطفال الأسر النووية بشرط احترام خصوصية الأسرة النووية، علاوة على ضرورة إشباع الجانب البدني الذي فصله القران الكريم في العديد من الآيات القرآنية ولم يهمله بل ركز على ضرورة الاهتمام به وضرورة النجاح فيه واحترامه.
وهل لغياب الحوار أثر سلبي على الأسر ة وعلى الأولاد؟(/2)
نعم وبدون شك، فغياب لغة الحوار والتفاهم والمشاركة بين الآباء والأمهات من ناحية، وبين الإخوة والأخوات من ناحية أخرى؛ له مردود سلبي في تحويل الأبناء لقنابل موقوتة في المجتمع؛ بسبب افتقادهم للغة الحوار المادي أو المعنوي، أو حتى الرمزي الذي يمتص غيظهم ويخفف عنهم توترهم، فمن خلال الحوار يفرغ الأبناء وكذلك الزوجين عن كل الضغوط النفسية التي يعانونها بطريقة سليمة وبطريقة أمينة، فالتخلص من الضغوط النفسية أولاً بأول ودخول أطراف موثوق فيها لطرح حلول للمشاكل من شأنه أن يخفف من عبء الضغوط على الإنسان، مع مراعاة التجديد المستمر في نمط الحياة، وكذلك أخذ الدعم العلمي باللجوء للمتخصصين في الاستشارات الزوجية، وحضور ندوات ودورات، ومتابعة برامج ومواقع اجتماعية، للاستفادة من الخبرات والنماذج المختلفة للوقوف على أرضية صلبة بعيداً عن الإصابة بالأمراض النفسية التي ارتفعت نسبتها بصورة مخيفة في مجتمعاتنا إضافة إلى ضمان استمرار الحياة الزوجية والأسرية في محطاتها المختلفة بهدوء.
* الحوار الناجح:
كيف يدار حوار ناجح بين الزوجين؟
أولى خطوات النجاح في الحوار أن يكون في البداية مع الذات، بمعنى أن يراجع كل طرف نفسه قبل وقت الخلاف، ويسال نفسه بعض الأسئلة، ويجيب عنها بداية بـ: هل بالغت في تضخيم عيوب الطرف الآخر؟ وهل كنت قاسياً في بعض المطالب؟! وهل حَمَّلت شريكي مسؤولية الأمر كله وتخليت عنها؟ وما الطريقة التي يرضى عنها الله- تبارك وتعالى- لأعبر بهاعما أود مناقشته فيه؟ وبعد الإجابة على تلك الأسئلة لابد أن أُذكِّر نفسي بأن الخلاف والغضب بيئة خصبة يرتع فيها الشيطان فيعملعلى إشعال النفس تجاه الطرف الآخر.(/3)
ثم تأتي مرحلة أخرى نضع فيها نقاطاً عريضة نتحدث فيها للوصول لحل المشكلة لكن بشرط ألا نتعامل مع الطرف الآخر على أنه أسوأ إنسان في الكون، ولابد من استخدام تعبيرات الوجه من حزن واسى وغضب للتعبير عن موقف معين لعتاب الزوج أو الزوجة دون الكلام فالتعبيرات غير اللفظية تؤدي نفس الغرض وأحياناً تكون أفضل من الكلام، فاللغة الصامتة مؤثرة في تحريك المشاعر.
ويجب على الزوجين مراعاة الآتي في أثناء الحوار:
* الابتعاد عن الجدال كما قال رسولنا الكريم - صلى الله عليهوسلم -: "طوبى لمن ترك الجدال ولو كان محقاً"، فإذا وجدنا الطريق مسدود في هذا الأمر علينا أن نعود لمناقشته فيما بعد، وكذلك ضرورة النظر إلى الإيجابيات والقواسم المشتركة والانطلاق منها قبل الخوض في موضوع الخلاف وسبب المشكلة.
* تقليل الانتقاد للآخر، وإن كان ضرورياً فلابد أن يكون بطريقة مهذبة، نستقدمها باستهلاله طيبة بالثناء على شخصه والوقوف عند تصرفه في موقف بعينه لمدة وجيزة، وكذلك تقبل فكرة أن الزوجين شخصان مختلفان في البيئة والتنشئة الاجتماعية، وأنهما لن يصبحا إنساناً واحداً مهما حدث، فلكل منهما شخصيته وكيانه لكن يجب أن يكملا بعضهما.
* كما يجب أن نراعي الآداب العامة في خفض الصوت وعدم الحدة، ومحاولة الاستفادة من المواقف المكررة والأخطاء السابقة والتعرف إلى مداخل كل طرف، واليقين التام بأن المشكلة ستحل، وأن نهايتها التراضي بين الطرفين وعودتهما لبعضهما فأجمل ما في الخلاف التراضي.
* وننصح كل زوجين بأن يعلما أن الخلاف في موضوع معين يجب ألا يعكر صفو الحياة وأن يتفقا على خطة لحل المشكلة وسيناريو مقترح للوصول للتراضي ونعلم أن هناك من شياطين الإنس من يسعون دائماً لهدم البيوت المستقرة.
* ثقافة النكد:
هل الندية في التعامل بين الزوجين وراء ثقافة النكد وهروب الأزواج من بيوتهم؟(/4)
لا يخفى على عاقل أن إعلاء قيم الأنانية والذاتية وغياب قيمة التسامح أدى إلى تأصيل ثقافة النكد في بيوتنا، وأحدثت نوع من الصمت العاطفي بين الزوجين فأصبح الزوج لا يفكر إلا فيما يريد هو ولا يفكر فيما تريد زوجته وأولاده، وكذلك الزوجة باتت تفكر في مطالبها واحتياجاتها بصرف النظر عن ظروف زوجها، وأصبح السخط وعدم الرضا وضعاً أصيلاً وليس عارضاً، واختفى مصطلح القناعة من قاموس الزوجية؛ فهرب الحب الحقيقي، وطغى عليه الحب المشروط وهو أقرب للصفقة التجارية من المشاعر العاطفية الحقيقية.
كما أصبحت الخلافات الزوجية تدار بمبدأ تصفيه الحسابات، وتخلينا عن الآداب الإسلامية في الخلاف والاختلاف التي علمنا إياها القرآن الكريم، وبتنا نعطي خلافاتنا حجماً أكبر من حجمها الطبيعي؛ فانهار البنيان الأسري وتبعه انهيار البنيان المجتمعي.
وخلاصة القول: إن الالتفاف على المشاكل المجتمعية الكبرى، أو العالمية أو المشاريع القومية توحد أفراد الأسرة على هدف واحد, وهذا ما رصد خلال أزمة الإساءة لرسول الله عليه السلام حيث التفت الأسرة على هدف واحد، كما أن مشكلة أنفلونزا الطيور وحدت الأسرة على كيفية مواجهة الكارثة وكيفية التعامل معها.
وهل هذا تغير للأسوأ أم إنه أمر طبيعي؟
أعتقد أن هذا أمر طبيعي ناتج عن اختلاف المجتمعات، فالمجتمع اليوم مختلف عن ذي قبل وكذلك المتغيرات التي طرأت عليه كثيرة بداية من وسائل التطور التكنولوجي والمفاهيم الثقافية ووسائل الإعلام ولقد كنا نحن - بوصفنا أشخاصاً ومربين - عرضه للتغيير,لكن التغيير لا يعني تغييراً مرفوضاً أو نحو السلبيات فقط إنما له إيجابياته بالطبع، لكن المهم كيف نوجه أنفسنا لاستغلال هذه الإيجابيات وتجنب السلبيات.
وكيف يمكن استيعاب الخلافات الزوجية؟(/5)
لعل أول خطوات استيعاب الخلافات الزوجية تكون بتفهم الطرف الآخر وإدراك صفاته وشخصيته وسماته وهواياته وطبيعة عمله ومشكلاته وقبول فكرة الاختلاف والتعايش معها وإدراك أن لنا عيوباً كما للآخر عيوب، وبعد ذلك لابد من البحث عن أسباب المشكلة وعلاجها وسبب الضغوط النفسية، ويلي ذلك ضرورة الابتعاد عن نقد الآخر، وربما تشجيعه للوقوف على المشكلة وحلها مهما كان المتسبب فيها، وضروري أن نحسن الظن في الطرف الآخر وأنه غير متعمد حدوث المشكلة، ويلي ذلك إجراء حوار مع الذات قبل مناقشة المشكلات واللجوء لله تعالى والإلحاح في الدعاء بصلاح الحال.
هل بات المجتمع العربي يعاني تفسخ في العلاقات الاجتماعية والإنسانية؟
للأسف الشديد أصبح التفكك في العلاقات الاجتماعية والإنسانية سمة ومبدأ ملازم للحياة الحديثة، وبدأت العلاقات تتآكل بداية بالعلاقة بالجيران وعلاقة الأسرة النووية بالأسرة الممتدة، وكذلك علاقة الزوجة بحماتها وأخوات زوجها, وداخل الأسرة النووية نفسها رغم صغر عددها بدأت العلاقة بين أفرادها تتآكل، وبسبب نمط الحداثة أصبح كل فرد من أفراد الأسرة بعيداً عن الآخرين أمام التلفاز أو الحاسوب، وتقلصت مساحات الحوار، وبعدنا عن تعاليم ديننا واندثرت قيم التآلف والتعاون والحوار والتراحم والتآخي والتواد في وقت بدأ فيه دول الغرب تركز على كل هذه المعاني، وتعلن يومياً في جرائدها الرسمية عن حاجة الأسر لجدات وهو معنى يفيد التواصل.
وأرى أن تآكل العلاقات الاجتماعية مؤشر كبير على معاناة المجتمع وافتقاده للتوعية, لكن لو فهمت المرأة المسلمة دورها ووعته باعتبارها قوة خارقة وذات ذكاء عال فإنها ستعيد العلاقات الأسرية لقوتها السابقة.
ولماذا تتزايد نسبة الطلاق في بلادنا العربية؟(/6)
للطلاق أسباب كثيرة لكنها في مجملها تكمن في عدم التوعية الثقافية للشباب والفتيات لمعرفة معنى الزواج وإقامة أسرة، كما يجهلون علم معرفة الشخصيات، وكيفية التعامل معها واستيعابها، ومعرفة الثقافة الجنسية والنفسية والاجتماعية, فالجهل بكل هذه النواحي يؤدي لعدم الاستمرار في الزواج والانتهاء بالطلاق والانفصال، إضافة إلى أن عقد مقارنة بين زوج المرأة وزوج صديقتها أو مقارنة الزوج بين زوجته وزوجة صديقه يؤدي إلى حدوث شرخ وخلل في بنيان الأسرة وتماسكها وتهاويها لأتفه الأسباب، علاوة على الجهل بوضع خطط وسيناريوهات لحل الخلافات والمشاكل الأسرية والزوجية وهو ما يجعل الطلاق أو الخلع الحل الأقرب، كما أن عدم الوعي بقدسية الحياة الزوجية التي كانت موجودة في الماضي سبب في وقوع الطلاق.
كما كان للتكنولوجيا حلوها ومرها، وللقنوات الفضائية بما تبثه من أفكار مسمومة وتشويه صورة الأسرة بوصفها منظومة، واستخدام المرأة مثل السلعة وتعميم مقاييس جمال ملكات جمال الكون من الطول والعرض والوزن باعتبار ضرورة أن تكون كل النساء كذلك وراء شيوع الطلاق بين حديثي الزواج، حيث يعقد الأزواج مقارنات بين الزوجة وبين الموديل الذي تطرحه وسائل الإعلام مما جعلهم يرفضون زوجاتهم وينشغلون في قضاء أوقاتهم أمام القنوات الفضائية أو الشبكة العنكبوتية أو غرف الدردشة، كل هذه الأسباب وغيرها أدت إلى فشل الزواج في كثير من الأحيان.
ومتى يكون الطلاق الحل الوحيد؟(/7)
يقال: "آخر الدواء الكي"، فإذا استمرت الخلافات بين الزوجين بطريقة استحالت معها المعيشة وباتت الحياة الزوجية لا تطاق؛ ولم يفلح الحكمين في الإصلاح بين الزوجين، قال الله تعالى:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: من الآية 35]، هنا فقط يكون الطلاق هو الحل الأفضل للزوجين وللأولاد لكن بشرط اختيار الوقت المناسب لإتمام مراسم الطلاق باعتباره أخطر قرار في الحياة، لذلك وصفه الله عز وجل بأنه أبغض الحلال عند الله لذا يجب أن يمر الطلاق بمراحل عدة حتى نصل لما نسميه: " الطلاق الكريم"، بحيث يمر بمراحل تهون على الأطفال الصدمة، وقد يكون من الأفضل أن يعيش الأطفال بين أبوين مطلقين متفاهمين من أن يعيشا وسط أبوين متناحرين دائماً.(/8)
العنوان: الدلالة والنحو
رقم المقالة: 1938
صاحب المقالة: د. صلاح الدين صالح حسنين
-----------------------------------------
ابتعد الدرس اللُّغَوِيُّ في القرن التاسِعَ عَشَرَ عنِ الدَّرْس المِعْيَاريّ الذي كان سائدًا في العصور الوُسْطى، وكان الطابع العامُّ للدرس اللُّغويِّ في هذا القرن هو طابعَ المُقارَنات اللُّغوية؛ لذا اهتمَّ اللُّغَوِيُّون في ذلك الوقت بالأصوات، وبالمُقارنات الصَّوْتية، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى دراسة بناء الكلمة، وبناء الجملة، ويُعْزَى الفضل إلى "بريل" أنه أدخل علم الدَّلالَةِ - التاريخ - إلى الحَقْل اللُّغوي بعدَ أن كان قاصِرًا على دراسة علوم البلاغة.
تَطَوَّرَ الدرسُ اللِّسانِيُّ في القرن العشرين على أيدي "دي سوسير"؛ فقد نادى هذا الرجل بدراسة اللُّغة من مَنْظورينِ: "منظور سينكروني"، و"منظور دياكروني" (منظور وصفي، ومنظور تاريخي)، وأَدَّى ذلك إلى ظهور المنهج البنائِيِّ في الدرس اللغوي، وهو المنهج الذي راجَ بعد ذلك في أوربا وأمريكا، ونشأت مدارسُ لُغويةٌ هنا وهناك متأثرةً بآراء "دي سوسير"، واهتم "دي سوسير" بوضْعِ حجر الأساس لدراسة اللُّغة بمستوياتها المختلفة دراسة عِلْميَّةً، بما في ذلك الدَّلالة بالطَّبع، فقد درس العَلاَمَة، وأوضح أنها تتركب من الدالِّ والمدلول: والدالُّ: هو الصورة السمعية، والمدلول: هو التصور، وأشار إلى أن القِيمة التي تكتسبها العلامة اللغوية من خلال دراسة اللغة كنظام.(/1)
وقد حَدث أَنِ اهتمَّ عدد من المدارس اللُّغوية بمسائل التركيب، وركزت على دراسته دراسةً شكليةً؛ أي: بعيدةً عن المعنى، واهتم عددٌ آخَرُ من هذه المدارس بدراسة المعاجم، وركزت على الاقتران أو المُصاحبة، ولكن لم يحدث رَبْطٌ بين النحو - والمقصود به التركيب هنا - والدَّلالة، وظَلَّتِ الأُمُور هكذا إلى أن ظهر "تشومسكي"، ونادى بوجوب مَزْج التركيب بالمعنى، ومِن ثَمَّ وصف منهجه بالنحو التفسيريِّ، ولكنه بالرغم مِنْ إشارته تلك لم يترجم هذه الإشارة إلى دراسة تطبيقية؛ ولكن الذي قدم مثل هذه الدراسة هو "كاتس"، و"فودور"، فقد رَكَّزَا على الاقتران المُعْجميّ، أو المصاحبة المعجميَّة، وأوضحا أنها السبيل لتفسير معنى الجملة، ومَزَجَا بذلك بين الدَّلالة والنحو؛ لأنهما أضافا مَنْهَجَهُما التفسيريَّ إلى قواعد "تشومسكي".
إنَّ هذه المُحَاوَلة دفعتْ باحثًا آخَرَ مُهِمًّا هو "فيلمور"؛ ليضع نموذجًا يَمزِج فيه بين المعنى والنحو، وجعل المعنى هو أساس بناء الجملة، وأنّ النحو ليس سوى وسيلة لتحويل بِنْيَة المعنى الأساسية إلى جملة سطحيَّة، وتطور هذا الاتجاه على أيدي "جروبر" و"جاكندوف"، وقد أدى هذا إلى ظهور النحو التوليديِّ، وتولى الريادة هنا "تشومسكي" فنشر نظرية العمل والربط GB 1981، وبناها على عدد من القوالب، وأوضح أنها تضم ثلاثة أبْنِيَة: البِنْيَة العميقة، والبِنْيَة س، والبِنْيَة السطحية:
تضم البِنْيَة العميقة قواعد الأساس والثيتا، وقواعد الأساس تهتم بالمقولات النحوية وتوزيعها، أما الثيتا: فتضم البنية الدَّلالية، التي تشمل المحمول والموضوع، أو الموضوعات الأساسية التي يتطلبها المحمول.
أما البِنية س: فتضم قواعد الإسقاط الموسع والحالة، وحرك أ.
وتضم البِنية السطحية البِنية المنطقية والبِنْيَة الصوتية.(/2)
إن هذه النظرية تعني أن "تشومسكي" اهتم بدَمْج العنصر الدَّلاليّ بالعنصر التركيبيّ، وجعلها على قَدَمِ المساواة، وبذلك حقق الدمج بين الدَّلالة والنحو.
لقد تَطَوَّرَ علم الدَّلالة بعد ذلك وأصبح غير قاصر على الدَّلالةِ المُعْجَمِيَّةِ؛ بل تعداه إلى دَلالة الجملة؛ كما رأينا سابقًا، ثم تخطى ذلك أيضًا وأصبح يشمل التداولية، وتهتم التداولية بالتغييرات التي تطرأ على بناء الجملة وتُؤثر على معناها.
ثم تطور هذا العلم أخيرًا، وأصبح يَشمل دَلالة النص بكامله، وأوضح كيف يُشْتَقُّ معنى النصِّ من معنى جملةٍ.
والله الموفق.(/3)
العنوان: الدليل اليومي للحاج
رقم المقالة: 243
صاحب المقالة: مجلة الرسالة
-----------------------------------------
المفرد بالحج وحده
ما يفعله الحاج قبل يوم (8 ذو الحجة):
1 – الإحرام من الميقات ويلبي قائلاً (لبيك حجاً).
2 – لا يحرم من الميقات ساكنو مكة ولا المقيمون فيها ويحرمون بالحج من منازلهم بمكة.
3 – طواف القدوم.
4 – السعي: إذا لم يسع المفرد بعد الطواف، أو ذهب إلى منى مباشرة، عليه أن يسعى بعد طواف الإفاضة (الزيارة) ويبقى على إحرامه إلى يوم النحر.
(8 ذو الحجة) "يوم الترويه":
الذهاب إلى منى (الصلاة فيها خمس صلوات): يصلي كلاً منها في وقتها، ويقصر الرباعية من غير جمع.
(9 ذو الحجة) "يوم عرفة":
1 – التوجه إلى نَمِرة – موضع بقرب عرفة – بعد طلوع الشمس فإذا زالت توجه إلى عرفة يصلي فيها الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين (جمعاً وقصراً) جمع تقديم – ويسن للحاج الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن والدعاء يوم عرفة. والسنة استقبال القبلة عند الدعاء لا استقبال الجبل، ويرفع يديه عند الدعاء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ويكره صوم يوم عرفة للحاج – ووادي عرنة ليس من أرض عرفة فلا يصح الوقوف فيه – كما لا يشرع صعود جبل عرفة.
2 – التوجه إلى مزدلفة بعد غروب الشمس.
3 – يصلي المغرب والعشاء حين الوصول إلى مزدلفة جمعاً وقصراً (جمع تأخير) بأذان واحد وإقامتين.
4 – يبيت في مزدلفة ويصلي فيها صلاة الفجر مبكراً بها ويكثر من الدعاء والذكر بعد الصلاة، ويستحب الوقوف عند المشعر الحرام وإكثار الدعاء حتى الإسفار، وهو بياض النهار وقبل طلوع الشمس والضعفة يجوز لهم الخروج بعد نصف الليل (بعد غروب القمر).
5 – يلتقط سبع حصيات لرمي جمرة العقبة (الكبرى) وإن أخذها من منى فجائز (الحصاة بقدر حبة البازلاء).
(10 ذو الحجة) "يوم النحر":
التوجه إلى منى (قبل شروق الشمس).
1 – رمي جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات مكبراً مع كل حصاة.(/1)
2 – حلق الشعر أو تقصيره.
3 – التحلل من الإحرام ولبس الثياب.
4 – طواف الإفاضة (طواف الحج) ركن.
5 – يجوز تأخير طواف الإفاضة إلى اليوم الحادي عشر أو مع طواف الوداع.
6 – السعي بعد طواف الإفاضة إن لم يسع أولاً.
(11 ذو الحجة) "أول أيام التشريق":
1 – المبيت في منى ليلة الحادي عشر واجب.
2 – رمي الجمرات الثلاثة بعد الزوال ابتداء بالصغرى فالوسطى ثم الكبرى (سبع حصيات لكل جمرة) يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى.
(12 ذو الحجة) "ثاني أيام التشريق":
1 – المبيت في منى ليلة الثاني عشر واجب.
2 – رمي الجمرات الثلاث بعد الزوال ابتداء بالصغرى فالوسطى ثم الكبرى (سبع حصيات لكل جمرة) يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى، ، ويجوز له التعجل فينفر من منى إلى مكة قبل الغروب ثم يطوف طواف الوداع.
(13 ذو الحجة) "ثالث أيام التشريق":
1 – رمي الجمرات الثلاث بعد الزوال ابتداء بالصغرى فالوسطى ثم الكبرى (سبع حصيات لكل جمرة) يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى.
2 – مغادرة منى إلى مكة وطواف الوداع، ثم الرحيل عن مكة.
المتمتع بالعمرة إلى الحج
ما يفعله الحاج قبل يوم (8 ذو الحجة):
1 – الإحرام من الميقات ويلبي قائلاً: (لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج).
2 – طواف القدوم (العمرة).
3 – السعي.
4 – تقصير أو حلق الشعر.
5 – التحلل من الإحرام، والبقاء إلى يوم التروية (8 ذو الحجة) ثم الإحرام بالحج.
(8 ذو الحجة) "يوم التروية":
الذهاب إلى منى – بعد الإحرام من محل الإقامة (الصلاة فيها خمس صلوات): يصلي كلاً منها في وقتها، ويقصر الرباعية من غير جمع.
(9 ذو الحجة) "يوم عرفة":(/2)
1 – التوجه إلى نَمِرة – موضع بقرب عرفة – بعد طلوع الشمس فإذا زالت توجه إلى عرفة يصلي فيها الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين (جمعاً وقصراً) جمع تقديم – ويسن للحاج الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن والدعاء يوم عرفة. والسنة استقبال القبلة عند الدعاء لا استقبال الجبل، ويرفع يديه عند الدعاء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ويكره صوم يوم عرفة للحاج – ووادي عرنة ليس من أرض عرفة فلا يصح الوقوف فيه – كما لا يشرع صعود جبل عرفة.
2 – التوجه إلى مزدلفة بعد غروب الشمس.
3 – يصلي المغرب والعشاء حين الوصول إلى مزدلفة جمعاً وقصراً (جمع تأخير) بأذان واحد وإقامتين.
4 – يبيت في مزدلفة ويصلي فيها صلاة الفجر مبكراً بها ويكثر من الدعاء والذكر بعد الصلاة، ويستحب الوقوف عند المشعر الحرام وإكثار الدعاء حتى الإسفار، وهو بياض النهار وقبل طلوع الشمس والضعفة يجوز لهم الخروج بعد نصف الليل (بعد غروب القمر).
5 – يلتقط سبع حصيات لرمي جمرة العقبة (الكبرى) وإن أخذها من منى فجائز (الحصاة بقدر حبة البازلاء).
(10 ذو الحجة) "يوم النحر":
التوجه إلى منى (قبل شروق الشمس).
1 – رمي جمرة العقبة الكبرى مكبراً مع كل حصاة.
2 – نحر الهدي ويستمر إلى غروب الشمس من اليوم الثالث عشر ويستثنى من ذلك سكان الحرم.
3 – حلق الشعر أو تقصيره.
4 – التحلل من الإحرام ولبس الثياب.
5 – طواف الإفاضة والسعي، (يجوز تأخيرهما لليوم التالي أو الذي يليه أو مع طواف الوداع).
(11 ذو الحجة) "أول أيام التشريق":
1 – المبيت في منى ليلة الحادي عشر واجب.
2 – رمي الجمرات الثلاثة بعد الزوال ابتداء بالصغرى فالوسطى ثم الكبرى (سبع حصيات لكل جمرة) يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى.
(12 ذو الحجة) "ثاني أيام التشريق":
1 – المبيت في منى ليلة الثاني عشر واجب.(/3)
2 – رمي الجمرات الثلاث بعد الزوال ابتداء بالصغرى فالوسطى ثم الكبرى (سبع حصيات لكل جمرة) يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى، ، ويجوز له التعجل فينفر من منى إلى مكة قبل الغروب ثم يطوف طواف الوداع.
(13 ذو الحجة) "ثالث أيام التشريق":
1 – رمي الجمرات الثلاث بعد الزوال ابتداء بالصغرى فالوسطى ثم الكبرى (سبع حصيات لكل جمرة) يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى.
2 – مغادرة منى إلى مكة وطواف الوداع، ثم الرحيل عن مكة.
القارن بين الحج والعمرة
ما يفعله الحاج قبل يوم (8 ذو الحجة):
1 – الإحرام من الميقات ويلبي قائلاً: (لبيك عمرة وحجاً).
2 – طواف القدوم.
3 – السعي: ويجوز تأخيره بعد طواف الإفاضة، (على أن يبقى المحرم في إحرامه وعليه أن يتجنب محظورات الإحرام إلى يوم النحر).
(8 ذو الحجة) "يوم التروية":
الذهاب إلى منى (الصلاة فيها خمس صلوات): يصلي كلاً منها في وقتها، ويقصر الرباعية من غير جمع.
(9 ذو الحجة) "يوم عرفة":
1 – التوجه إلى نَمِرة – موضع بقرب عرفة – بعد طلوع الشمس فإذا زالت توجه إلى عرفة يصلي فيها الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين (جمعاً وقصراً) جمع تقديم – ويسن للحاج الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن والدعاء يوم عرفة. والسنة استقبال القبلة عند الدعاء لا استقبال الجبل، ويرفع يديه عند الدعاء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ويكره صوم يوم عرفة للحاج – ووادي عرنة ليس من أرض عرفة فلا يصح الوقوف فيه – كما لا يشرع صعود جبل عرفة.
2 – التوجه إلى مزدلفة بعد غروب الشمس.
3 – يصلي المغرب والعشاء حين الوصول إلى مزدلفة جمعاً وقصراً (جمع تأخير) بأذان واحد وإقامتين.(/4)
4 – يبيت في مزدلفة ويصلي فيها صلاة الفجر مبكراً بها ويكثر من الدعاء والذكر بعد الصلاة، ويستحب الوقوف عند المشعر الحرام وإكثار الدعاء حتى الإسفار، وهو بياض النهار وقبل طلوع الشمس والضعفة يجوز لهم الخروج بعد نصف الليل (بعد غروب القمر).
5 – يلتقط سبع حصيات لرمي جمرة العقبة (الكبرى) وإن أخذها من منى فجائز (الحصاة بقدر حبة البازلاء).
(10 ذو الحجة) "يوم النحر":
التوجه إلى منى (قبل شروق الشمس).
1 – رمي جمرة العقبة الكبرى مكبراً مع كل حصاة.
2 – نحر الهدي ويستثنى من ذلك سكان الحرم فلا هدي عليهم.
3 – حلق الشعر أو تقصيره، والمرأة تقص من شعرها قدر أنملة.
4 – التحلل من الإحرام ولبس الثياب.
5 – طواف الإفاضة والسعي إن لم يسع أولاً.
(11 ذو الحجة) "أول أيام التشريق":
1 – المبيت في منى ليلة الحادي عشر واجب.
2 – رمي الجمرات الثلاثة بعد الزوال ابتداء بالصغرى فالوسطى ثم الكبرى (سبع حصيات لكل جمرة) يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى.
(12 ذو الحجة) "ثاني أيام التشريق":
1 – المبيت في منى ليلة الثاني عشر واجب.
2 – رمي الجمرات الثلاث بعد الزوال ابتداء بالصغرى فالوسطى ثم الكبرى (سبع حصيات لكل جمرة) يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى، ، ويجوز له التعجل فينفر من منى إلى مكة قبل الغروب ثم يطوف طواف الوداع.
(13 ذو الحجة) "ثالث أيام التشريق":
1 – رمي الجمرات الثلاث بعد الزوال ابتداء بالصغرى فالوسطى ثم الكبرى (سبع حصيات لكل جمرة) يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى.
2 – مغادرة منى إلى مكة وطواف الوداع، ثم الرحيل عن مكة.(/5)
العنوان: الدنيا أمد والآخرة أبد
رقم المقالة: 2001
صاحب المقالة: محمد يوسف الجاهوش
-----------------------------------------
أخرج ابنُ سعد عن الشعبي قال: كتب عمرُ بنُ الخطاب إلى العلاء بن الحضرمي وهو بالبحرين: "سِرْ إلى عتبةَ بنِ غزوان؛ فقد وليتُك عمله، واعلم أنك تَقْدَم على رجل من المهاجرين الأوليين الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لم أعزِلْه ألاَّ يكون عفيفاً صليباً، شديد البأس، ولكنني ظننتُ أنك أغنى عن المسلمين في تلك الناحية منه، فاعرِف له حقَّه. واعلم أن أمر الله محفوظ بحفظه الذي أنزله، فانظر الذي خُلِقت له فاكدَح له، ودَعْ ما سواه؛ فإن الدنيا أمد، والآخرة أبد، فلا يشغلك شيء مدبر خيرُه عن شيء باقٍ شرُّه، واهرُب إلى الله من سخطه، فإن الله يجمع لمن يشاء الفضيلة في حكمه وعلمه. نسأل الله لنا ولك العون على طاعته والنجاة من عذابه"[1].
لا يستطيع العقل إلا أن يقف مبهورًا أمام شخصية الفاروق -رضي الله عنه-. لقد شغلته همومُ الدعوة ومصالح المسلمين عن كل شيء.
إنها أولى اهتماماته التي لا يقدّم عليها شيئًا أبدًا، ولا يحابي فيها أحدًا، تلمس ذلك في جميع تصرفاته، لا سيما في إسناد المهمات والأعمال التي تمس مصالح الناس المباشرة.
فولاة الأقاليم وقادة الجند ورجال الدولة لا يختارُهم إلا من الصنف الذي يغلب على ظنه أن خير المسلمين ونفعهم على يديهم، ولا يجد غضاضة أن يعزل من سواهم، ولو كان من المهاجرين الأولين الذين سبقت لهم من الله الحسنى. ما دام غيرُه أكثرَ فائدةً وأغزر عطاء، ويزداد به الإسلام قوة، والمسلمون نفعًا.
والمدهش في شخصية الفاروق -رضي الله عنه- أنه لا يترك من يوليه دون أن يزوده بخطة عمل متكاملة، توقظ لديه المشاعرَ الإيمانية، وتجعله موصولَ القلب بالله -عز وجل- يقلقه الخوف ويطمئنه الرجاء.(/1)
وأول ما يجب على المسلم إدراكه: أن يعرف لِمَ خلقه الله عز وجل. إن إدراك هذه المعرفة يجعله بصيرًا بهدفه، عالمًا بمواقع خطوه، يستمد العون والقوة من مصدرها الذي لا ينفد، ومعينها الذي لا ينضب.
بها تتحدد غايته، وتتضح أهدافه، فينطلق مع سنة الله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56- 58] جاعلا كل عمل عبادة، وكل فعل طاعة، فهو دائم الكدح فيما خُلِق له، معرضاً عما سواه، مغتنمًا أيامَ عمره القصيرة مهما طالت، فلا ينفق شيئاً فيما لا يغني أو يفيد.
فالعمرُ أقصر من أن يضيع عبثاً، أو يمضي هدراً، وهو أقصر من أن يحقق فيه المرء كل ما يتمناه. فالعاقل يحرص على تقديم عظائم الأمور، قانعًا بما يصون وجهه في دنياه، مشمّرًا فيما يبلغه آخرته بسلام، وينجيه عند مناقشة الحساب.
وما حاز شيئاً من سلامة العقل من شغلته الدنيا عن الآخرة. وهل يصح -عقلاً- الإعراضُ عن الاستعداد لدار البقاء والخلود الأبدي؟ ثم بذل الجهود والإمكانات لبناء دنيا حكم عليها خالقها بالزوال والفناء! ألا ما أجهلَ مَنْ شَغَلَ نفسَه بشيء مدبر خيره، عن شيء باق شره.
واعلم أخي المسلم: أن الله تعالى خلق الدنيا والآخرة، وجعلهما مراحل ومحطات في حياة الإنسان. والآخرة هي المحطة الأخيرة.
وكل من سلك طريقاً فلا بد أن يلتمس أسباب السّلامة والنّجاة في مسيره، ويتزود من كل مرحلة بما يعينه على اجتياز التي تليها، حتى يبلغ غايته.(/2)
وشأن المؤمن أن تتصف حياتُه بالتناغم والانسجام بين دنياه وآخرته، فالآخرة عنده هي: الهدف الأسمى، وغاية المنتهى. والدنيا هي الطريق التي لا بد من اجتيازها أولاً، ومن مراحل سيرها يكون التزود للدار الباقية. ولا خطر على الآخرة من الدنيا بهذا المفهوم، بل هي خير يفضي إلى خير. وإنما الخطر في الإخلاد إليها، والافتتان بزينتها، وسوء استغلالها.
وقد أدرك هذا أسلافُنا، فعمروا دنياهم، دون أن تشغلهم عن آخرتهم، وكانت بأيديهم، ولم تسكن قلوبهم. خافوها، فاجتنبوا فتنها، وعمروها بالطاعات، فعبروها بأمن وسلام.
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي سكنا
حسبوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
نعم، إنها لجة، لا يُنجي منها إلا الهرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال. فما على العاقل إلا الانطلاق مع سنن الحياة، فيسلم وجهه لله، ويستسلم لأمره، ويتبع الهدى الذي جاءه من ربه {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].
فإن الله يجمع لمن يشاء الفضيلة في حكمه وعلمه، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
فهل يدرك من جعل الله بأيديهم رعايةَ الأمة ومقاليدَ أمورها، هذه الأمورَ، فينصحوا لأمتهم، فلا يستعملوا إلا الأمناء، ولا يسوسوها بغير الهدى والصلاح، ويجعلوا من سيرة الفاروق مثلاً يحتذى وهديًا يقتدى؟
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] سير أعلام النبلاء : 1 / 265.(/3)
العنوان: الدولة الصفوية: نشأتها، عقيدتها، جرائمها
رقم المقالة: 328
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله العليم الحكيم؛ خلق الخلق ودبرهم، وكلف الجن والإنس وابتلاهم، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، ونستغفره لخطايانا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنزل القرآن هدى ورحمة للعالمين، وقص علينا فيه آخبار الغابرين، عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلى الله تعالى ذكره في العالمين، وجعله حجة على الخلق أجمعين، وكتب بقاء دعوته إلى يوم الدين، فلا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق {رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأخلصوا له دينكم، وأحسنوا عملكم؛ فلا حاجة لله تعالى عندكم، إنما خلقكم ليبتليكم {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}.(/1)
أيها الناس: دين الله تعالى واحد، وهو الحق والنور والهدى، والصراط المستقيم الذي يوصل إلى رضوانه والجنة، وأديان الشيطان كثيرة، وهي الباطل والضلال والظلمات، وهي ما عدا الحق الذي فرضه الله تعالى على عباده، وبلغته رسله عليهم السلام؛ ولذا جاء صراط الله تعالى في القرآن مفردا، كما جاء النور مفردا، وجاءت الظلمات بصيغة الجمع كما جمعت سبل الباطل {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} وقال ابن مسعود رضي الله عنه :(خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، قال:ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ (وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )رواه النسائي وأحمد وصححه الحاكم.
وهكذا طوال تاريخ البشرية كانت الرسل عليهم السلام يهدون الناس إلى سبيل الله تعالى الذي ارتضاه لهم، وكانت الشياطين تحرفهم عن ذلك السبيل إلى سبل أخرى تكون سببا في ضلالهم وانحرافهم، ولا تكاد تحصى الديانات والأفكار الباطلة التي دان - ولا يزال يدين - بها أكثر البشر ، ولما بعث الله تعالى موسى عليه السلام دانت بنو إسرائيل بدين الحق، ثم غيروا الدين بعده، وحرفوا التوراة، فبعث الله تعالى عيسى عليه السلام مصدقا لدين موسى عليه السلام، ومبشرا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فدان الحواريون وأتباعهم بدين الحق، حتى أدخل شاؤول اليهودي الشرك في عقيدة النصارى، ونقلهم من التوحيد والهدى، إلى التثليث والضلال، فبعث الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام مصدقا لرسالات من قبله من الرسل عليهم السلام، وخاتما للنبوة فلا نبي بعده، وقضى الله تعالى أن يبقى دينه إلى آخر الزمان، وأما أمته فمنهم من يهدى لدينه الذي ارتضاه الله تعالى، ومنهم من يضل إلى أديان أخرى.(/2)
ومن دان بدينه عليه الصلاة والسلام وهو دين الإسلام منهم من ثبت على الدين الحق، ملتزما بالكتاب والسنة، مهتديا بهدي السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم، ومنهم من انحرف إلى بدعة مكفرة أو مفسقة، فأحدث في الإسلام ما ليس منه، وهؤلاء يسمون أهل القبلة.
إن الله سبحانه لما أهبط الأبوين عليهما السلام من الجنة، وكلفهما وذريتهما بالدين أقسم إبليس بعزة الله تعالى ليصرفن ذرية آدم عن دينه الذي ارتضاه الله تعالى، ولما كان محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل قضى الله عز وجل ببقاء دينه إلى آخر الزمان، وسلامته من التحريف والتبديل ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وأما أفراد الأمة فليسوا معصومين من الحيدة عن دين محمد صلى الله عليه وسلم، أو إدخال شيء فيه ليس منه، أو إخراج ما هو منه، فيَضِلُ بسبب ذلك من يَضِل، ويبقى على الدين الحق من عصمه الله تعالى من الضلال، وهكذا الحال إلى آخر الزمان.
ومحاولات تحريف الإسلام، وإدخال عقائد وأفكار فيه ليست منه بدأت مبكرة في آخر الخلافة الراشدة، وأراد عبد الله بن سبأ اليهودي المنافق أن يقوم في الإسلام بذات الدور الذي قام به سلفه شاؤول في النصرانية، فأحدث ابن سبأ وأتباعه الخروج على عثمان رضي الله عنه، واستتبعوا ذلك بالغلو في آل البيت، وزعموا التشيع لهم، فأظهروا محبتهم، ثم غالوا في علي رضي الله عنه ، وادعوا العصمة له، ثم زعموا النبوة فيه، حتى وصل بهم غلوهم إلى خلع صفات الربوبية عليه وعلى زوجه وولده رضي الله عنهم، مع طعنهم في بقية الصحابة رضي الله عنهم إلا عددا قليلا منهم، وسبهم للخلفاء الثلاثة الذين رضي الله عنهم، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم.(/3)
ثم لما بذر هؤلاء المنافقون بذرة الخلاف بين المسلمين، وسقوها بالأكاذيب والشائعات، وغذوها بالضغائن والأحقاد، وأوقعوا الخصومة بينهم كانوا هم أول من تخلى عن علي وابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهم، وخانوهم أعظم خيانة، حتى قتل الحسين رضي الله عنه ظلما وعدوانا بسبب خيانة من زعموا التشيع له، وجعل أولئك الخونة وأتباعهم يوم مقتله يوم مناحة ولطم وبكاء، وإحياء للضغائن، وسب لأولياء الله تعالى من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.ثم انشطروا في ضلالهم إلى مذاهب عدة، وفرق كثيرة، يلعن بعضها بعضا، وتزعم كل فرقة منها أن الحق معها دون غيرها..جمعتهم بدعة الغلو في آل البيت، ثم فرقتهم تلك البدعة، ومنهم من أخرجتهم بدعتهم من الإسلام إلى الكفر، ومنهم دون ذلك، ويكون قربهم من الإسلام وبعدهم عنه بحسب ما تلبسوا به من البدعة.
ومن أكبر فرقهم الإسماعيلية والإمامية الإثني عشرية، وحكومة بني عبيد الباطنية التي قامت في الشام ومصر في القرن الرابع كانت من الإسماعيلية، وبعد سقوطها على يد صلاح الدين رحمه الله تعالى لم يقم لأتباع المذهب الباطني دولة إلا ما كان للبويهين ودولتهم زيدية. ثم الدولة الصفوية للإثني عشرية في القرن العاشر؛ وهي أول دولة شيعية إمامية، شيعت إيران بالقوة فنقلت نسبتهم من (10%) إلى (65%).
وقد سعى ابن العلقمي الرافضي في القرن السابع إلى بناء دولة لهم في بغداد على أنقاض الدولة العباسية بعد خيانته لها، ولم يتم له ذلك فمات كمدا بحمد الله تعالى، وتعاقبت الدول المغولية وغيرها على بلاد العراق وفارس، وكانت دولا سنية فيها جهل وتصوف، آخرها دولة للتركمان، زالت في أوائل القرن العاشر على يد إسماعيل بن حيدر الصفوي، نسبة إلى جده صفي الدين الأردبيلي الذي كان واعظا صوفيا، عاش في القرن السابع ، وما زال أبناؤه وأحفاده يميلون للتشيع حتى اعتنقوا المذهب الإمامي الإثني عشري.(/4)
فلما آل الأمر إلى حفيده الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية حارب بالتركمان الصوفية والمتشيعين دولتهم السنية فقضى عليها فكان أول حاكم للدولة الصفوية وذلك عام سبعة وتسع مئة للهجرة ، واتخذ مدينة تبريز الإيرانية عاصمة لدولته، وأول ما حكم أعلن أن مذهب دولته الإمامية الإثنى عشرية، وأنه سيعممه في جميع بلاد إيران، وعندما نُصح أن مذهب أهل إيران هو مذهب الشافعي قال: إنني لا أخاف من أحد .. فإن تنطق الرعية بحرف واحد فسوف امتشق الحسام ولن أترك أحداً على قيد الحياة. ثم صك عملة للبلاد كاتباً عليها:(لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله)، ثم كتب اسمه. وأمر الخطباء في المساجد بسب الخلفاء الراشدين الثلاثة رضي الله عنهم، مع المبالغة في تقديس الأئمة الاثني عشر. وقد عانى أهل السنة في إيران من ظلمه معاناة هائلة وأجبروا على اعتناق المذهب الإمامي بعد أن قتل منهم مليون إنسان سني في بضع سنوات بشهادة مؤرخ شيعي.
وظل يجتاح بلاد المسلمين حتى انتزع بغداد بعد سبع سنوات من قيام دولته، وكان انتزاعه لها أيضا بخيانة وممالأة من شيعتها آنذاك. ثم أمر بهدم مدينة بغداد وقتل أهل السنة ، وتوجه إلى مقابر أهل السنة ونبش قبور الموتى وأحرق عظامهم. وبدأ يعذب أهل السنة سوء العذاب ثم يقتلهم، ونبش قبر أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقتل كل من ينتسب لذرية خالد بن الوليد رضي الله عنه في بغداد لمجرد أنهم من نسبه. وقد أرخ الشيعة في ذلك الزمان لهذه الحادثة حتى قال ابن شدقم الرافضي يحكي سيرته: (فتح بغداد وفعل بأهلها النواصب ذوي العناد ما لم يسمع بمثله قط في سائر الدهور بأشد أنواع العذاب حتى نبش موتاهم من القبور).(/5)
وقد فر كثير من سنة بغداد إلى الشام ومصر وحكوا للعالم الإسلامي ما فعل الصفويون ببغداد وأهلها،ووصلت أخبار المذابح العظيمة لأهل السنة إلى الدولة العثمانية، فاجتمع السلطان العثماني سليم الأول في عام عشرين وتسع مئة برجال دولته وعلمائها، وقرروا أن الدولة الصفوية تمثل خطراً على العالم الإسلامي ، وأن على السلطان جهادها، وإيقاف ظلمها وتنكيلها بالمسلمين، فحاول السلطان مفاوضة الصفوي إسماعيل فلما لم يستجب له، سار إليه بجيش يقوده السلطان بنفسه قوامه مئة ألف، وجيش الصفوي مئة ألف أيضا، فالتقى الجيشان في صحراء جالديران، فهزمه السلطان هزيمة نكراء وقتل أكثر جنده، فقضى على حكمه في العراق بعد أن حكمها بالحديد والنار ست سنوات، فما كان من الصفوي الخبيث وقد أحس بالضعف إلا أن كاتب قائد البرتغال الصليبيين يطلب نجدته على أن يعطيهم مضيق هرمز وفلسطين، فكتب له قائد الصليبيين رسالة قال له فيها: إني أقدر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك في الهند، وإذا أردت أن تنقض على بلاد العرب أو تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر، أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو القطيف أو البصرة، وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل الفارسي وسأنفذ له كل ما يريد.
ولكن الله تعالى خذلهم؛ إذ استطاع العثمانيون إفشال مخططهم، وظلوا يتتبعونهم سلطانا بعد سلطان حتى بعد هلاك الصفوي إسماعيل وتولي أبنائه من بعده، حتى قضي على دولتهم نهائيا بعد قرنين ونصف من الظلم والعسف.(/6)
هذا ملخص ما يتعلق بدولتهم، وأما مؤسسها الصفوي إسماعيل فإنه كان يجمع بين التعصب المذهبي والغلو والتكفير وبين الدموية والتنكيل، وقد نقل عنه أحد أقربائه أنه أكثر القتل حتى قتل ملك (شروان) وأمر أن يوضع في قدر كبير ويطبخ، وأمر جنده بأكله ففعلوا ، وكان لا يتوجه لبلاد إلا فعل أشياء يندى لها الجبين من قتل ونهب . وكان من دمويته أنه ينبش قبور العلماء والمشايخ السنة ويحرق عظامهم، وكان إذا قتل أميراً من الأمراء أباح زوجته وأمواله لشخص لمن يختار.
ويكفي دليلا على تعصبه وهمجيته أنه دعا أمه للتشيع وكانت سنية حنفية، فأبت ذلك فأمر بقتلها فقتلت رحمها الله تعالى، وبلغ من طغيانه وجبروته أنه كان يأمر جنده بالسجود فيسجدون له.
وذكر أحد كبار مذهبهم ودولتهم في هذا العصر أن إسماعيل الصفوي كان ممالئا للإنجليز على الدولة العثمانية، وكان يعاقر الخمرة مع قادتهم ويقول لهم: (إنني أفضل حذاء مسيحي على أكبر رجالات الدولة العثمانية).
وأكثر المراسم الشاذة، والصقوس الغريبة، والممارسات المقززة في المناسبات الدينية لدى المذهب الإثني عشري إنما هي من إحداث هذا الخبيث الضال، وضل أتباعه يمارسونها ويتناقلونها جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، ولا يتسع هذا المقام المختصر لعرض ما أحدثه لهم من ضلال على ضلالهم حتى إن عقلاء مذهبهم لا يرضون كثيرا من طقوسهم، ويرون أنها تسيء لمذهبهم في هذا العصر.
ونحمد الله تعالى الذي عافانا مما ابتلاهم به، ونشكره على ما هدانا من الدين الحق الذي هو الرحمة والعدل، ونسأله سبحانه الثبات على الحق إلى الممات، إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية(/7)
الحمد الله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا أمن إلا للمؤمنين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله - عباد الله - وراقبوه ، والزموا طاعته ولا تعصوه {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}.
أيها الناس: تتلاحق الابتلاءات على أمة الإسلام، وتتوالى أحزانها، وتكثر مصائبها، فمن فلسطين إلى أفغانستان، ومن كشمير إلى الشيشان، ومن الفلبين إلى الصومال، ومن هنا وهناك إلى العراق، وما أدراك ما العراق؟! تلك البلاد التي دخلت حظيرة الإسلام من فجر الإسلام، وكانت حاضرة الخلافة الإسلامية خمسة قرون وزيادة، تلك البلاد التي خرجت أبا حنيفة النعمان، وإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل في كوكبة من العلماء الربانيين، والقادة والمجاهدين، قد احتلها في هذا العصر عباد المسيح عليه السلام، ثم سلموها للمتعصبة من عباد الحسين رضي الله عنه، وإنه لعار خط في تاريخ تلك الحقبة يلحق كل مسلم عاصر تلك الجريمة النكراء؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجبر الله مصاب المسلمين في هذه الداهية العظيمة.
لقد كُلِمَتْ أمة الإسلام في أكثر من مكان، ومشاريط الاستعمار الصهيوني تعمل في تمزيق الأمة، وتقسيم الدول، والصفويون الحاقدون الطامحون يعيثون فسادا في بلاد الخلافة العباسية، وتطلعاتهم تتعداها إلى غيرها، وأتباعهم في الدول الأخرى المجاورة للعراق يستعجلون استباحة دولهم كما استبيحت مدينة المنصور والرشيد وأبي حنيفة وابن حنبل.(/8)
وكلما بدا أمل في عافية الأمة أصابتها داهية ظن معها كثير من الناس ألا عافية ترجى، ولا نصر يؤمل، والمؤمن لا ييأس من روح الله تعالى، ويثق بوعده، ويعلم أنه كلما ازداد البلاء اقترب الفرج، وإذا اشتدت الظلمة انبلج الفجر، والعسر يعقبه اليسر ( فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا).
وأعظم مصيبة أصيب بها المسلمون في هذا العصر بعد تفريطهم في دينهم، وكثرة معاصيهم: ركونهم إلى أعداء الله تعالى، والوثوق بهم، وجعل مصيرهم بأيديهم، والاغترار بالشعارات المضللة التي خدرت المسلمين، وأقعدتهم عن إعداد العدة لتلك الأيام العصيبة، كالشعارات الإنسانية، وحوارات الأديان، وتقارب المذاهب الإسلامية، والوعود الكاذبة، والأماني الخادعة بانتهاء عصور الحروب والاعتداءات والنزاعات الهمجية، والمحافظة على السلم العالمي، والوفاق البشري، وحقوق الجوار؛ حتى غلَّوا أيدي المسلمين عن التصنيع والتسليح والتجنيد، وحالوا بينهم وبين أسباب القوة، في الوقت الذي يعمل فيه الإنجيليون والصهاينة على تحقيق نبؤاتهم الخرافية، ويسعى الصفويون الباطنيون لإعادة أمجاد الدولة الفارسية، وامتلاك القنبلة النووية، وما أن طابت لهم كعكة العراق فإن أول عمل قاموا به إحراق سجلات الدولة، في مخطط شيطاني رهيب لتغيير التركيبة السكانية، والعزم على إفراغ العراق من السنة بالقتل والتهجير، ولإحلال الباطنية مكانهم، ثم عملوا بهذا المخطط لما تمكنوا، وأحيوا ما فعله أجدادهم الصفويون من قبل بأهل السنة في إيران، ويعدون بالمزيد من المذابح والتقتيل الطائفي، وقد أعلن المتنفذون منهم في العراق عن مشروعهم الطائفي البغيض ، حين ظهر كبير من شياطينهم على فضائية من فضائياتهم يقول: إن الشيعة ظلموا أربعة عشر قرناً، وآن لهم أن يأخذوا حقهم.مذكرا بمقولة خمينيهم الهالك حين قال:السنة حكموا أربعة عشر قرناً، وآن للشيعة أن يحكموا العالم الإسلامي، وهكذا يغير التاريخ على الأرض، ويفرض تاريخ(/9)
جديد، يخطه الصفويون الجدد بدماء المسلمين في العراق، كما غير تاريخ إيران بمذابح الصفويين القدماء، ويرضى بذلك من يرضى، ويأباه من يأبى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
والعجب كل العجب ممن يدعون الثقافة والمعرفة، ويصدرون في الإعلام والصحافة على أنهم مفكرو الأمة ومحللوها، وهم لا يرون أبعد من أنوفهم، العجب منهم حين كانوا يخدرون الأمة، ويتهمون كل ناصح ومحذر من الخطر الباطني بأنه عدو للوحدة الوطنية، ثم إذا أتباع المذاهب الباطنية يصفعونهم في لبنان والعراق، ويستأسدون في الدول الأخرى محتمين بالدولة الفارسية التي بلغ من تعصب حكامها للفرس، اشتراط دستورهم أن يكون حاكم جمهوريتهم فارسيا، ولا يكفي أن يكون متمذهبا بمذهبهم الباطني. بل إن كل المرجعيات الإثني عشرية في العالم لا بد أن تخضع لرأس فارسي، أو يكون من أصول فارسية، وما أشد حمق من يجندون أنفسهم لهم من غير الفرس، وهم يرون عصبيتهم لفارسيتهم.(/10)
ولما أسقط في أيدي من يدعون أنهم مفكرون ومثقفون إزاء ما يرونه من طائفية بغيضة عند هؤلاء الفرس الباطنيين وأتباعهم، لم يجدوا مشجبا يعلقون عليه فشل تحليلاتهم، وخطل رأيهم، وضعف عقولهم إلا جلد العرب من جديد، وادعاء عصبيتهم لعروبتهم وقبائلهم، والزعم بأن دم كليب لا يزال ساخنا، وأن قميص عثمان ظل مرفوعا، في تعام عن الواقع، وتزوير للحقائق، وتضليل للعامة. وأين دم كليب، وقميص عثمان من دول إسلامية سنية قامت في الشرق والغرب، وعلى مدى أربعة عشر قرنا، نعمت فيها بسلام كل الطوائف والمذاهب، بل حتى الكفار الأصليون من يهود ونصارى وغيرهم لم يجدوا ظلما ولا بخسا، وإن وجد حاكم ظالم مستبد طال ظلمه الجميع، ولم يميز في ظلمه على أساس طائفي مذهبي أو عرقي أو ديني، وكم في دول أهل الإسلام في هذا العصر من طوائف متنوعة، ومذاهب مختلفة، وأقليات متباينة، فهل فعلت بهم دولهم السنية ما يفعله الصفويون الجدد بأهل السنة في العراق، وماذا سيفعل الصفويون بعموم المسلمين لو حكموا العالم الإسلامي كما يطمحون ويؤملون؟!أخزاهم الله تعالى وخذلهم، ورد كيدهم عليهم، وحفظ المسلمين من شرهم ومكرهم.
ولعل في هذه النوازل العظيمة، والوقائع المتسارعة، عبرة لأولي الأمر من المسلمين حتى يعرفوا أعداءهم من أصدقائهم، ويميزوا بين الناصحين لهم من أهل الخيانة والغش والتدليس.
ولعل فيها موعظة لعموم المسلمين حتى يصلحوا ما بينهم وبين الله تعالى، ويتوبوا من ذنوبهم، ويلجئوا إلى ربهم، فما أحوجهم إلى عون الله تعالى ومدده، وعافيته وحفظه، وتسديده وتثبيته، في وقت وقعوا فيه بين فكي المشاريع الصهيونية الإنجيلية، والطموحات الصفوية الفارسية.
(عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) ألا وصلوا وسلموا على نبيكم....(/11)
العنوان: الديسكو في المكتبة
رقم المقالة: 2042
صاحب المقالة: سلطان الدويفن
-----------------------------------------
لنتركْ قصةَ الديسكو والمكتبة إلى آخر المقال، ولنتمعنْ قليلاً في هذه القصة الرمزية: يُحكى أن ملِكاً أمر حُرَّاسَه بأن يملؤوا حوضَ السباحة في صباح اليوم التالي بالعسل، فقال كلُّ حارس في نفسه: لو قمتُ بملء دلوي بالماء بدلاً من العسل وأفرغته في حوض السباحة فلن ينتبه أحدٌ لما فعلتُ، ولم أشق على نفسي بتجميع العسل في الدلو.
أتعرفون ماذا كانت النتيجة؟
نفذ كل حارس ما فكر فيه، وامتلأ حوضُ السباحة بالماء بدلاً من العسل، ولا يهمنا ما فعل الملك بهم، المهم كيف أثر دلو صغير في حوض سباحة كبير.
للمؤلف الأمريكي (مالكوم غلادويل) كتاب جيد موسوم بنقطة التحول: كيف يمكن للأشياء الصغيرة أن تحدث تغييرًا كبيرًا؟
والكتاب من إصدارات الدار العربية للعلوم، وهو من الكتب التي أنصح بقراءتها؛ لأن مؤلفه يعرض فكرةً جديدة يصعب أن تجد كاتباً يعرضها بنفس قوة العرض للفكرة التي أراد الكاتبُ إيصالَها في هذا الكتاب، ويعرّف الكاتب نقطة التحول بأنها تلك اللحظة السحرية التي تجتاز فيها فكرةٌ أو تيار أو سلوك اجتماعي عتبةً معينة وتتحول وتنتشر مثل النار المستعرة. ومثلما يستطيع شخصٌ واحد مريض أن ينشر وباء الأنفلونزا، تستطيع أيضاً دفعة صغيرة لكنها رائجة، أن تحدث شعبية لمنتج جديد، أو أن تخفض معدل الجريمة.
ويشير المؤلفُ إلى نقطة حساسة ومهمة تفيد بأن ظهور تيارات الموضة مثلاً، أو انخفاض معدل الجريمة في بلد ما، أو أي تغيرات أخرى؛ هي مثل الأوبئة. فالأفكار والمنتجات والرسائل تنتشر تماماً مثلما تفعل الفيروسات. وحتى يستدل الكاتب على مضمون فكرته راح يضرب عددًا من الأمثلة؛ منها:(/1)
1- ما حدث في مدينة نيويورك من انخفاض معدلات الجريمة انخفاضًا واضحًا جدًّا ومتسارعًا في مدة زمنية قصيرة جداً، ويُنسب هذا التغييرُ إلى عامل مرتبط بتأثير الأشياء الصغيرة وإحداثها تغييرات كبيرة، وهذا العامل يتمثل في نظرية النافذة المكسورة كنظرية وعامل مؤثر في تفسير التغيير الذي حصل في مدينة نيويورك، ونظرية النافذة المكسورة وليدة أفكار بعض الاختصاصيين في علم الجريمة ومنهم جايمس ك، وجورج كيلنغ، وتقول هذه النظرية إن الجريمة هي النتيجة المحتمة للفوضى، فإذا انكسرت النافذة ولم يتم إصلاحها، فسوف يستنتج الأشخاص الذين يمرون قربها أنه ما من أحد مهتم، وما من أحد مسؤول، وبسرعة سوف تنكسر المزيد من النوافذ، وتنتشر الفوضى من المبنى إلى الشارع الذي يقابله، مع إرسال رسالة بأن كل شيء ممكن.
لقد عملت مدينة نيويورك بعض الإجراءات اليسيرة مثل إعادة طلاء القُطُر النفقية من الداخل وإزالة خربشات المراهقين، وقد فهم المراهقون الرسالةَ وتوقفوا عن الخربشة، ثم تلا ذلك وجوب دفع ثمن التذكرة لمن يريد ركوب القطار؛ إذ كان 170 ألف شخص يومياً يستخدمون القطار دون دفع ثمن التذاكر؛ لأن العدوى انتشرت بينهم بعد رؤيتهم لأشخاص لا يدفعون ثمن التذكرة ويستخدمون القطار! ثم تلاها إجراءات التفتيش لمن يريد ركوب القطار ويشتبه به، وهكذا، إلى أن وصلوا إلى مرحلة انخفاض معدلات الجريمة انخفاضًا متسارعًا وكبيرًا.
2- من الأمثلة التي يعرضها أيضًا حادثة انتحار مراهق في جزر ميكرونيسا في جنوب المحيط الهادئ، إذ انتحر بعد خلاف يسير مع والديه بعد أن علق نفسه بحبل ممتد إلى السقف، وكتب رسالة إلى والديه يخبرهما بسبب انتحاره.
أتعرفون أيها السادة والسيدات ماذا كان تأثير هذه الحادثة على المراهقين في جزر ميكرونيسيا؟(/2)
ظهرت إحصائية في الثمانينيات الميلادية تفيد أنه في حين كان معدلُ الانتحار في الولايات المتحدة الأمريكية 22 في كل مائة ألف، كان معدلُ الانتحار في جزر ميكرونيسيا 160 تقريباً في كل مائة ألف، أي أعلى بسبع مرات تقريبًا، حيث أصبح الانتحار فيها شائعًا ويحدث لأتفه الأسباب وبطرق مشابهة لما قام به المنتحر الأول!
3- حين انخفض عددُ الموظفين المرموقين السود بنسبة 2.2 % في إحدى الفترات تضاعفت معدلاتُ التخلي عن المدرسة بين الطلاب السود!
ويضرب المؤلف في هذا السياق عدداً من الأمثلة ويسوقها بالتفصيل والشرح، ويتوصل إلى ثلاث قواعد مؤثرة ومهمة في التغيير هي:
1- العدوى.
2- حقيقة أن الأشياء الصغيرة تحدث تحولات كبيرة.
3- التغيير لا يحصل تدريجيًا، وإنما في لحظة حاسمة واحدة.
والسؤال الذي يعرض نفسه هنا هو السؤال التالي: هل هناك من تاريخنا وسيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- ما يؤيد هذا العرض؟
لعلنا نستعرض ما حدث في غزوة أحد، وذلك عبر التساؤلات التي سوف أعرضها، وكيف أصيب جيش المسلمين وقد كانوا منتصرين؟
1- كم كان عدد جيش المسلمين؟
2- كم كان عدد الرماة فوق جبل أحد؟
تخبرنا المصادر التاريخية أن جيش المسلمين في أرض المعركة كان يقارب سبعمائة مقاتل، وكان عدد الرماة ما يقارب سبعين رامياً.
وكان مصدرُ الخلل الذي أصاب الجيشَ المسلم بالارتباك وأدى إلى التقتيل في المسلمين، وإصابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثنيته، وتحول موازين المعركة لصالح كفار قريش بعد أن كانت لصالح المسلمين من السبعين رامياً. كانت نسبة الرماة في الجيش لا تتجاوز العشرة في المائة، ومع ذلك كانوا -رضي الله عنهم- السبب في إصابة المسلمين، بعد تخليهم عن موقعهم الذي أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بألا يتجاوزوه حتى لو تخطفت الطير من في أرض المعركة!
ما علاقة كل ذلك بالمكتبة والديسكو؟(/3)
قمتُ صباحَ يوم التاسع والعشرين من رجب لعام 1428هـ بزيارة إلى إحدى المكتبات الكبرى بالرياض، التي كان يُعرف عنها -مع الأسف الشديد- عنايتُها باختيار وإصدار وطباعة الكتب المتميزة ولمؤلفين معروفين وغير معروفين، وما فاجأني وأذهلني وأربكني وأصابني بنوع من الإحباط وخيبة الأمل، وأدى إلى ارتفاع الضغط لديّ، مع أني لم أُجرِ أي قياس له، ولكني أحسست بذلك هو تصدرُ نسبة كبيرة من الروايات والقصص لواجهة الكتب الجديدة المعروضة!
هي كتب على شاكلة: مذكرات شاب في أمريكا، ومذكرات فتاة من بريطانيا، وما حصل لها في الديسكو، وغثاء، وعفن، له أول وليس له آخر، وهي في أغلبها موجهة لفئة الشباب والفتيات.
قد يقول قائل: وما يضر ذلك إذا كانت القراءةُ في أصلها مباحة؟
نرجع إلى ما ذكرناه بخصوص أن التغييرات الصغيرة تحدث تحولات كبيرة.
إذا كان المثقفون والدعاة والتربويون وأهلُ الرأي والنصيحة لعامة المسلمين وخاصتهم لا ينفكون يتحدثون عن ضرورة العناية بالكتاب واختياره وقراءة ما ينفع، وإذا كان من نتوقع منهم أن يكونوا عمادَ مستقبل أمتنا الثقافي يحاصَرون بهذه الكتب، فماذا تتوقعون من النتيجة؟
من يرتاد المكتبة في الوقت الحاضر هم من يُعدُّون النخبة أو قريبًا من النخبة، وإن كانوا من الشباب الذين يؤمل فيهم أن يكونوا من النخبة فهُم من استطاع الفَكاك من سلطان الفضائيات وقبضتها أو يحاول ذلك، وبعد كل ذلك يحاصَر هؤلاء الشباب والفتيات بكتب وروايات وقصص أقل ما يقال عنها إنها لا تمثل واقعاً ولا تعكس أملا لأمة ترجو النهوض، ولا تمثل هماً لنا جميعاً، ماذا يعنيني في قصة فتاة تأخرت عن محاضرتها وانتقدها معلمُها ثم أصابها الإحراج أمام الأخريات والآخريين؟
بالنسبة لي فأنا أقرأ المعادلة بصورة مختلفة كالتالي: لنقل إن النسبة التي ترتاد المكتبات حالياً عشرون بالمائة من شباب وفتيات أمتنا، وهذا رقم مبالغ فيه بالنسبة لي، ولكنه رقم افتراضي.(/4)
كم سينجو من مهاجمة المكتبات لعقله بهذه الكتب والروايات الساذجة إذا علمنا طريقة عرضها الجذابة وإخراجها المتميز وتمييز بعضها في أعلى الكتاب بأن طبعته هي الطبعة الثانية حتى يزداد الإقبال عليه!
يعني يا سادة يا كرام: أن المسألة (تسطيح) للفكر والاهتمامات أكثر مما هو (مسطح) حالياً؟
رسالة إلى أصحاب دور النشر التي بدأت تأخذ هذا المنحى بحثاً عن الربح التجاري دون النظر لأي اعتبارات أخرى:
اتقوا الله فيما تبقى منا، واتقوا الله في عقول شباب وفتيات أمتنا.
بقي سؤال واحد: ماذا أفعل أنا وأنت كأفراد بعد كل هذه الكلمات؟
تذكر أخي في الله، وتذكري أختي في الله أن التغييرات اليسيرة تحدث تغييرات كبيرة. كيف يكون هذا على المستوى الفردي؟
1- عندما تقرأ أو تقرئين رواية على النمط الذي ذكرناه بأعلى فإنك تساعد وتساعدين على ازدياد مساحة الجهل في الأمة، وتقليل مساحة العلم، فضلا عن أنكم تشجعون غيركم على قراءتها من حيث لا تشعرون أو تشعرون، وفي ذلك أيضًا مساعدة لتلك المكتبات على إصدار المزيد من الغثاء.
2- عندما تدخن فإنك لا تضر نفسك فقط، ولكنك تضر الآخرين بما يعرف بالتدخين السلبي، وأنت في النهاية سواء علمت بذلك أو جهلت تشجع غيرك من الصغار والشباب على التدخين.
3- عندما تتجاوز الإشارة الحمراء، قد تنجو من الحوادث، ولكنك بفعلك شجعتَ غيرَك على تجاوز الإشارة الحمراء، إن لم يكن بعدك مباشرة ففي المستقبل! وكم زهقت أنفس، وتيتم أطفال بسبب تجاوز إشارة مرور!
4- أختي.. عندما تتبرجين في اللباس، فلست فقط تفعلين محرمًا، بل تشجعين غيرك من الفتيات سواء شعرتِ بذلك أم تشعري.(/5)
5- أخي.. عندما تخشع في صلاتك، فإنك بدون أن تشعر بذلك تشجع الآخرين على الخشوع. ولعل بعضكم اطلعَ على مقال الشيخ الفاضل الدكتور محمد العوضي المنشور في موقع ركاز لتعزيز الأخلاق تحت عنوان: سيد... نموذج للوسطية والتوازن، والذي ذكر فيه كيفية صلاة الدكتور سيد نوح المصري -رحمه الله- أستاذ الحديث في كلية الشريعة؛ يذكر الدكتور محمد العوضي النص التالي: "إن مما كان يلفت انتباهي في شيخنا هو طريقة أدائه للصلاة، فقد كنتُ دائماً أقول لزملائي: إن رؤية الشيخ سيد نوح وهو يصلي تكفي لأن تزيد إيمان الشخص؛ لأنك ترى في صلاته معانيَ الخضوع والتذلل لله تعالى تتجلى في صورة بهية تجعل المشاهد له يشعر معه بارتقاء إيماني يسمو بروحه... لذلك فقد كنت حريصاً على مراقبته أثناء صلاته من طرف خفي".
6- تذكرْ وتذكري أنكَ وأنكِ عندما تفعلون الأشياء التي تعتقدون أنها صغيرة، فهي ليست كذلك في تأثيرها. ولذلك جاء الهدي النبوي في الحديث الذي يرويه الإمام مسلم؛ من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرُها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".(/6)
العنوان: الديمقراطية النيابية
رقم المقالة: 1850
صاحب المقالة: د. صلاح الصاوي
-----------------------------------------
الديمقراطية النيابية
• خصائص الديمقراطية النيابية
• مميّزات الديمقراطية النيابية
• عيوب الديمقراطية النيابية
• صور الديمقراطية النيابية
• • • • •
خصائص الديمقراطية النيابية
الديمقراطية النيابيَّة هي ذلك النظام الذي يقوم أساسًا على وجود برلمان منتخب مِنَ الشعب لميقات معلوم، ويمثل العضو فيه الشعب كله، لا الدائرة الَّتي انتخبَتْه فحسب، وتقتصر مهمة الشعب فيه على انتخابِ البرلمان الذي يُمارس السيادة نيابة عنه، فهو يقوم على ثلاثة أركان:
1 – برلمان منتخب لميقات معلوم:
فالمجالس المعيَّنة لا يمكن خلع الصفة النيابية عليها، وكذلك المجالس الاستشارية التي لا تتمتع بسلطات حقيقيَّة في إدارة شؤون البلاد، وتبدو ضرورة توقيت البرلمان في هذا النظام في تأكيد رقابة الشعب على مُمَثِّلِيه، وضمانًا لبقاء تمثيل أعضائه لإرادة الناخبين.
2 – تمثيل النائب للأمة كلها:
وذلك ليعمل النّوَّاب لمصلحة مجموع الأمة، وليس لمصلحة دوائرهم الانتخابية فحسب، وقد كان العمل قبل الثورة الفرنسية أنَّ أعضاء الهيئات العمومية وكلاء عن دوائرهم الانتخابية فحسب، وليسوا وكلاء عن مجموع الأُمَّة أو الشعب، فجاءت الثورة الفرنسية وقرَّرت تمثيل النائب للأمة جميعها لا لدائرته الانتخابية فقط، حتَّى لو حدث أنِ انفَصَلَتْ إحدى الدوائر الانتخابية عن إقليم الدولة؛ بسبب الحرب، فإنَّ نوَّاب هذه الدائرة لا يفقدون صفتهم النيابية؛ بل يظلون متمتعينَ بصفتهم النيابية عن الأمة.
3 – استقلال البرلمان مدة نيابته عن مجموع الناخبين:(/1)
ففي هذا النوع مِنَ الديمقراطية تقتصر مُهِمَّة الناخبين على انتخاب برلمانٍ يمارس السيادة النيابية عنهم، فلا يمارس الشعب حقه في السيادة إلاَّ مرة واحدة عند اختياره لأعضاء البرلمان، فإذا تَمَّ ذلك استقل البرلمان بالسلطة، ولا سبيل لجماعة الناخبين عليه في مدة النيابة.
مميّزات الديمقراطية النيابية
تقوم الديمقراطيَّة النيابيَّة على مبدأ الفصل بين السلطات، سواء أكان فصلاً تامًّا أو مشربًا بالتعاون، وقد ترتَّبَ على هذا الفَصْلِ عددٌ مِنَ المميزات نوجزها فيما يلي:
1 – منع الاستبداد وكفالة مشروعيَّة الدَّولة:
فتركيزُ السلطة يُغري بإساءةِ استعمالها؛ لما جبلت عليه النفس مِنَ الإسراف في مباشرة السلطة، وإساءة استعمالها إذا أطلقتِ القدرة، وغابت الرقابة.
كما أنَّ مشروعيَّة الدَّولة تتحقَّقُ بِخُضوعِ الجميع لِلقانون حُكَّامًا أوْ مَحكومين، ولا سبيل إلى ذلك إلاَّ بالفصل بين سلطات الدولة، ووَجْهُ ذلِك أنَّ الجَمْع بين سُلْطَتَيِ التشريع والتنفيذ في يدٍ واحدة ينفي عن القانون صفة التجرُّد والحيدة والعمومية، فقد تعدل السلطة التنفيذية في القوانين في الحالات الفردية التي يشوبها الهوى؛ بل قد تُنْشِئ لها القوانين إنشاءً ما دام لا رقيب عليها في ذلك ولا عتيد، كذلك إذا جمع بين سلطتي القضاء والتشريع في يد واحدة، أصبح القاضي طاغية، وقد تعدل القوانين أو تنشأ ابتداء في ضوء الحالات الفردية التي يشوبها الهوى، فتنتفي عن القانون الحيدة والموضوعيَّة كذلك، وبالمثل لو جمع بين سلطتي القضاء والتنفيذ في يد واحدة لما يؤدي إليه ذلك من انتفاء رقابة القاضي على عدالة التنفيذ وشرعيته، وتصبح الحرية بلا ضمان ما دام القاضي هو المُشَرِّع في الدولة، ولا مخرج من ذلك إذًا إلاَّ بالفصل بين السلطات حتى توقف كل سلطة طغيان الأخرى، إذِ السلطة تقيد السلطة، وحتى تتحقق مشروعية الدولة.
2 – حسن استعمال السلطة:(/2)
ذلك أنَّ تقسيم وظائف الدولة على هيئات مستقلَّة متخصّصة يؤدّي إلى إتقان العمل وإجادته من ناحية، ويحولُ دُون الطغيان والاستبداد بِالسلطة من ناحية أخرى، وذلك نظرًا للتخصُّص الذي يكفل حُسْنَ أداء العمل، والرقابة المتبادلة بين هذه السلطات التي تحول دون الطغيان والاستبداد.
عيوب الديمقراطية النيابية
بالإضافة إلى ما سبق مِنْ أوجُه النقد العام التي تعرَّضت لها الديمقراطية بصفة عامة، فقد تعرَّض نظام الديمقراطيَّة النيابيَّة لعدد مِنَ الانتقادات العامَّة، نُوجِزُها فِيما يلي:
1 – أكذوبة التمثيل العامّ:
ففي القول بِتمثيل البَرْلمان للأُمَّة كلّها من المجازفات ما يجعله أقرب إلى الوهم والخيال منه إلى الحقيقة والواقع.
فمن ناحية تمثيل الأمة نجد أن أعضاء البرلمان لا يمثلون في الواقع إلاَّ فئة قليلة من الناخبين؛ لأنَّ نِسبةً لا يُستَهان بها من أصوات الناخبين لا تدخل في الحُسْبان، وهُمُ الذين امتنعوا عن المشاركة في العملية الانتخابيَّة، والذين أعْطَوا أصواتهم للمُرشحين الذين لم يكتب لهم الفوز في الانتخابات، بالإضافة إلى الأصوات الباطلة.(/3)
أمَّا من ناحية مُمارسة شؤون السلطة داخل البرلمان، فإنَّها تتمثَّلُ بِدَوْرِها فِي أقليَّة بسيطة من عدَدِ النّوَّاب؛ لأنَّ اجتماعات مَجْلِس النّوَّاب تُعتبر صحيحةً في الغالب، إذا ما توافر حُضُورُ الأغلبيَّة المطلقة لعدد الأعضاء (النصف + 1)، والقرارات بدورها تصدر بالأغلبية المطلقة لعدد الحاضرين، وهذا يعْنِي أنَّ جُلَّ قرارات المجلس تصدر بموافقة ما لا يزيد على رُبْع عَدَدِ أعضائه، فأين هذا من خُرافة التمثيل العامّ، وأكذوبة تحكيم الأغلبية؟! فإذا أضفتَ إلى ذلك أنَّ هذه القِلَّة الحاكمة تخلع عليها كلّ خصائص السيادة مِنَ الإطلاق، والسمو، والعصمة مِنَ الخطأ، واعتبار إرادَتِها مِعْيارًا لِلحقيقةِ المُطْلقة تُهدَرُ بِها قَواعِدُ الدين، وقواعِدُ الأخلاق، وكلّ ما تعارف عليه العُقلاء مِن قِيم، ومُثُل؛ لأنَّه إذا تكلم القانون يجب أن يسكت الضمير!
فهل يكون مِنَ المبالغة أن يقال: إن الأمر لا يعدو أن يكون استبدال طغيان بطغيان، إلا أنَّ هذا الطغيان الجديد يتوَارى خلف طلاء مِنَ الذهب، ويقبع وراء شعارات هي أقرب إلى الديماجوجية منها إلى العدل، والمنطق، والموضوعية؟!
2 – سيطرة الأحزاب:
فلا يستقيم هذا النوع مِنَ الديمقراطية إلاَّ بوجود أحزابٍ مُتعارضة، وهذا - فَضْلاً عمَّا فيه من تقسيم البلاد، وإشاعة الضغائن والأحقاد - ينال من استقلال إرادة النواب، ومِنْ تمثيل النَّائِبِ لمجموعة الأُمَّة لما يؤدّي إليه الالتزام الحزبي من إمضاء النَّائب لتوجّهات الحزب، وانْحِيازِه لآرَائِه ولو تعارضت مع الصالح العام؛ بل لو تعارضت مع معتقداته الشخصية، بالإضافة إلى تأثُّر النائب برغبات الناخبين طمعًا في إعادة انتخابه، الأمر الذي يجعله ممثلاً لدائرته، ويعمل لصالحها دون الصالح العامّ.
3 – تقليص دور الشعب في ممارسة السيادة:(/4)
ذلك أنَّ مهمَّة الشعب في هذا النوع مِنَ الديمقراطية تنتهي عند حدود اختيار أعضاء البرلمان، ثُمَّ يستقلّ البرلمان بعد ذلك بمُمارسة حقوق السيادة، وليس لِلنَّاخبين عليه من سبيل في مُدَّة النيابة، وهذا عكس ما تقضي به الديمقراطية الحَقَّة التي تُقرِّر السيادة للشَّعب، بالإضافة إلى رغبة معظم الشعوب في أن يُتاح لها قدر مِنَ المساهمة في الحُكْم بطريق مباشر، دون الاقتصار على مهمة اختيار النواب، وذلك بتقرير حق الاقتراح الشعبي، أو الحل الشعبي، أو الاعتراض الشعبي ونحوه.
هذا، وتتخذ الديمقراطية النيابية إحدى هذه الصور:
* النظام البرلماني: وفيه تكون الوزارة مسؤولة أمام البرلمان، وهو نظام يقوم على الفَصْل بين السلطات المشرب بالتعاون المتبادل، والرقابة القائمة بين مختلف السلطات، وركيزتاه: مسؤولية الوزارة أمام البرلمان، وحق السلطة التنفيذية في حل البرلمان، وتحكيم هيئة الناخبين عند الاقتضاء.
* النظام الرياسي: وهو يقوم على مبدأ الفَصْل التام بين السلطات، وتتركز السلطة التنفيذية فيه في شخص رئيس الدولة، وتكون الوزارة خاضعة له، ومسؤولة أمامه.
* النظام المجلسي أو نظام الجمعية: وهو النظام الذي يستأثر فيه المجلس النيابي بجميع السلطات، وقد يمارسها بنفسه، أو عن طريق مُفَوضينَ.(/5)
العنوان: الدين ليس صناعة بشرية
رقم المقالة: 1774
صاحب المقالة: د. محمد داود
-----------------------------------------
في إطار الدعوة لإعمال العقل وإيقاظ الوعي للتغلب على الجمود الذي نال من أُُمَّتِنا وأورثنا التخلّف عن ركب الحضارة، تتعالَى الصيحات لإطلاق العنان للعقل في كل شيء، وبدلاً من أن نرى جهد العقل في معركة الحضارة العلمية التي هي مدينة بوجودها للعقل البشري، بما أنجزه من اكتشافات ومخترعات جعلتِ الإنسان يتسيَّد ويسيطر على الطبيعة، بدلاً من ذلك رأينا هجومًا على الدين باسم حُرّيَّة الفكر وإعمال العقل لدرجة وصلت إلى محاولة تغيير ثوابت الدين، مثل إمامة المرأة للرجال في صلاة الجمعة، ودعوات لمساواة المرأة بالرجل في الميراث، ودعوات بإباحة المثلية الجنسية, وحق الطبيب في إنهاء حياة المريض الميئوس من شفائه... إلخ.
وهذا يجعلنا نتساءل:
- هل من حق البشر التغيير في الدين؟!
- هل الدين خاضع للتطور مثل باقي مظاهر الحياة؟!
- هل الدين صناعة بشرية؟
- وهل المرجعية الدينية تكون للعقل أم لخالق العقل؟!
- وما موقع الاجتهاد في هذا الإطار؟!
أولاً: من المهم أن نؤكد أن الإسلام عَظّم من قيمة العقل وعدَّه من أهم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، ولقد أولى الإسلام اهتمامًا خاصًّا بنعمة العقل، سواء من حيث العناية بها والمحافظة عليها، أو من حيث توجيهُها وإرشادها إلى ما يفيد...
فمن ناحية المحافظة علَيْها: حرّم الإسلام كلَّ ما يضرُّ بها أو يمسها بسوء، مثل شرب الخمر، والمخدرات، والمسكرات، وفي هذا لون من الاهتمام والعناية بنعمة العقل. ومن ناحية توجيهها فقد جاء القرآن الكريم هاديًا للعقل لكي لا يضل، وبخاصة في مسائل ما وراء الطبيعة من أمور الغيب التي تعجز وسائل الإدراك البشري عن التعامل معها أو بحثها.(/1)
ومن تعظيم الإسلام لنعمة العقل أن جعله مناط التكليف والخطاب، ولك أن تتأمل عشرات الآيات التي بها دعوة صريحة لإعمال العقل في فهم ما كلف به، وفيما خلق الله من مخلوقات لترى فيها دليلاً على قدرة الخالق، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ...} إلى أن قال: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...} [آل عمران:191].
وكثيرًا ما يرد في القرآن الكريم: {أَفَلا يَتَدَبَّرُون}.. {أَفَلا يَعْقِلُونَ} ونحو ذلك.
ويقصد بالعقل في السياق القرآني الفهم والتمييز، فهو الضابط لتصرُّفات الإنسان.
مسائل الغيب في نظر المنهج العلمي:
إذا كان الإِسْلامُ قَدْ أَطْلَقَ العنان لِلْعَقْل فِي مسائل المادّيّات في كُلّ ما يخضع للتجربة، فإن مسائل الغيب لم يجعلها الإسلام مجالاً للبحث العقلي، لأن أدوات البحث حينئذ غير كافية.. ناقصة.. وبالتالي ستكون النتائج غير صحيحة ومضللة.
والعلم نفسه يعترف بأنَّ مسائل الغيب ليست موضوعًا للبحث العلمي، ويزيد هذه الحقيقة تأكيدًا تجربة البشرية في بحثها الدائب في مسائل ما وراء الطبيعة.
إن البشرية دائمة الاختلاف حول مسائل الغيب والأخلاق، واجتهدت البشرية للوصول إلى ميزان يفصل بين الحق والباطل... واختلَفَتْ وَلا يَزالُ الاختلاف إلى اليوم بين الفلاسفة في مسائل الأخلاق.. وفي التمييز بين الحق والباطل، وتقوم أدلَّة عقْلِيَّة لرأي ما وتهدمها أدلة عقلية أخرى.. وهكذا.(/2)
حتَّى مَن زعم أنَّه اخترع مقياسًا للفصل بين الحق والباطل، فإن التجربة هدمت آراءه، ولنأخذ على ذلك مثلاً: "ديكارت" لقد زَعَمَ أنَّه اخترع منهجًا يفصل بين الخطأ والصواب، وتهاوى منهج ديكارت وهدمت التجربة آراءه في الجانب المادي، وأما آراؤه المعنوية فقد خالفه فيها أساطين الفكر والفلسفة، وبقِيَتْ مسائل ما وراء الطبيعة (الغيب) ظنية واحتدم الخلاف فيها.
إنّ الحضارة المادّيَّة مدينة للعقل البشري... فللعقل في جانب المادة أن يبتكر.. وأن يخترع... وأن يجرب.. فهذا مجالُه، أمَّا مسائِلُ ما وراء الطبيعة (الغيب) فالعقل يَعْجِزُ عن الوُصولِ لليقين فيها.. ومن هُنَا جَعَلَ اللَّهُ الدّينَ هاديًا للعقل في مسائل الأخلاق (الخير والفضيلة) والدين...
موقع الاجتهاد في الدين:
المجتهد يقدح ذهنه في دائرة فهم النص والاستنباط منه والقياس عليه، لكنه لا ينفصل عنه ولا ينقضه ولا يأتي بِضِدّه، كما أنَّ النَّصَّ إذا جاءَ صريحًا في الحكم من قُرْآنٍ أوْ سُنَّةٍ فلا يَجُوزُ مُعَارَضَتُه، وإنَّما الاجتهاد في تكييف واقع المسألة على هذا النص. وهذا هو المستفاد من سؤال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل – رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن:
((بم تقضي يا معاذ؟))
قال: بكتاب الله.
قال: ((فإن لم تجد؟)).
قال: فبسنة رسول الله.
قال: ((فإن لم تجد؟)).
قال: أجتهد رأيي ولا آلو (أي لا أترك الاجتهاد ولا أُقَصِّر فيه).
فربت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - على صدر معاذ – والصدر وعاء العلم والفقه – قائلاً:
((الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي اللهَ ورسولَه)).
الإسلام لم يُعْطِ سلطة التغيير في الدين لأحد، ولا للرسول – صلى الله عليه وسلم -:(/3)
لقد شدد الإسلام على صيانة الدين عن التغيير أو التبديل، وليس لأحد هذه السلطة، ولا حتى النبي – صلى الله عليه وسلم - فهو يبلغ ما أنزل إليه من الله – عز وجل - دون زيادة ولا نقصان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
وقال تعالى في إجابة الكُفَّار الذين طلبوا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - تبديل بعض الآيات وتغييرها: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15].
فليس لرجال الدين في الإسلام أن يُغَيِّروا شيئًا؛ لأن الدين من الله، والمرجعية في الدين لا تكون لغير الله – عَزَّ وَجَلَّ - لأنَّ اللَّهَ هُوَ الأعلم وهو أحكم الحاكمين، الخبير البصير، صاحب القدرة المطلقة.
لقد أنزل الله الدينَ هادِيًا للعقل ومرشدًا له في أمور الغيب ومسائل الأخلاق والتشريع.
وعلى العقل أن يجتهد في أداء دَوْرِه في فهم رسالة الله إليه، والوعي بما فيها، وهذا مقام التسليم، التسليم للأعلم ولصاحب القدرة التي لا حدَّ لَها, وإن كان أحدنا يُسَلّم أمره لمن هو أكثر منه علمًا وخبرة، فإذا سُئِل أحدُنا: لِماذا تأخذ هذا الدواء؟ يجيب: لأنَّ الطبيب وصفه لي... فكيف بنا لا نسلم لله الخالق؟!
العقل والغيب والإيمان:(/4)
لمَّا كانت مسائل الغيب فوق قدرة العقل؛ أمرنا الله – عزَّ وجلَّ - أن نُؤْمِنَ بها، وإيماننا بها نابع من إيماننا بطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى؛ فاللَّه سبحانه وتعالى لا يستشير الإنسان ولا يحتكم إليه في أي قاعدة من القواعد التي شرعها؛ فالله هو الكمال المُطْلَقُ، كُلّ الكمالات له، مُنَزَّهٌ عن النقص، ولا يتأتى عقلاً أن تحتكم الكمالات إلى الكائن المتَّصف بالنقص، وهو الإنسان!!.
وكل من توهم ذلك فإنه لا يقدر الله حق قدره، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وإنما أرسل الله الرسالات لتُتَّبعَ دون حرجٍ يحوك في الصدر أو شك يجول في النفس، وينبغي للإنسان أن يعرف حدَّه مع ربه فلا يتعالم على الله، ولا يقدم رأيه ولا اقتراحه على هدى ربه، ونحن أمام آيات من القرآن تؤكد هذه الحقيقة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب/36].
وهذا في جوهره هو مَعْنَى الإسلام: إسلام الوجه لِلَّه، إسلام العقل لِلَّه، إسلام القلب والنفس لِلَّه، أن تكون كل الأنفاس والحركات والسكنات لله قال الله تعالى:
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163،162].(/5)
لقد جاء الوحي هاديًا للعقل في الأمور التي لا يتأتى للعقل أن يسلك سبلها أو يقتحم حماها، وهذه الميادين هي الدين، والدين ليس رأيًا بشريًّا، إنما هو من الله, إنه تنزيل من حكيم حميد، ولو كان الدين بالعقل لأصبح الناس كل يوم في دين جديد، بل لأصبح لكل فئة دين يناسب عقلها ومستواها الفكري!
أما الطبيعة والكون من أرض وفضاء وجبال وبحار, من كواكب وأقمار وشموس، من مادة وطاقة, فكلّ ذلك قد جعله الله مجالاً للعقل, وحثَّ العقل على أن يجتهد في اكتشاف سنن الله الكونية وقوانين الطبيعة، ليرى صنع الله الذي أتقن كل شيء؛ ولكي يتأتى له أن ينتفع بكل ما سخر الله له في السماء والأرض.
هل الدين خاضع للتطور مثل مظاهر الحياة الأخرى؟:
التطور هو التغير من حال إلى حال، وهو تغير مستمر دائم, إنه يعبر عن حركة الحياة، والتطور الفكري أنجز حضارة مادية عظيمة, أما في جانب والدين, فلا مكان لتطور الدين للأسباب التالية:
* أولاً: أن الدين ليس رأيًا بشريًّا حتَّى يصيبه التطور, إنما هو من الله.
* ثانيًا: أنه لما كان الدين من الله، والله سبحانه مُنَزَّه عن النقص؛ فلا تغير في الدين ولا تطور.
* ثالثًا: أن فكرة التطور لو حدثت في الدين لأدت إلى استبدال الدين بآراء البشر وأهوائهم، ولتحول الدين من إلهي قدسي إلى بشرى ناقص متغير، وخذ مثالاً: في العقيدة مثلاً نقول: الله واحد، فهل غدًا نقول: اثنان أو ثلاثة أو نصف، بحسب ما نراه؟
* وهل بحسب فكرة التطور تتبدَّل الأخلاق والقيم فتكون الفضائل رذائل؟!
* فدين الله عز وجل بعيدٌ عن فكرة التطور، لأنَّ فكرة التطور خاصة بالشأن البشرى وليس بالشأن الإلهي: لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ.
{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا العَالِمُوْن}(/6)
العنوان: الدِّين مجمع الأخلاق وجوهرها
رقم المقالة: 246
صاحب المقالة: د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
-----------------------------------------
"إن للأخلاق حداً متى جاوزته صارت عدواناً، ومتى قصرت عنه صارت نقصاً ومهانة"، عبارة لابن القيم رحمه الله في (فوائده)، استوقفني حسن معناها قبل متانة سبكها. فالعدل ضابط الأخلاق جميعها، وهو الآخذ بوسطها، فالعدل في الجود أن يكون وسطاً بين الإسراف والتقتير، والعدل في التواضع أن يكون وسطاً بين الذلِّ والفخر، ولك أن تقيس على ما سلف أمثالَه. لكنْ ما الذي يحدد هذه الوسطية ويضبطها ؟ إنه – بكل ثقة واعتزاز - الدين.(/1)
إن المرء يشبّ على قيم مسلَّمة في مجتمعه الأسري، فتصبغ أفعاله برمّتها ردحاً من الزمن، فإذا ما تقدم به العمر صارت تلك القيم مبادئ لا يمكنه تجاوز حدودها، أو تبديلها، فإذا ما تقلّد بعدها مكانة في المجتمع الوظيفي، فإن سلوكه المكتسب يرافقه إلى منظمته ليجد بعدها أن لهذه المنشأة أخلاقياتها المهنية المختصة بها، ولوائحها المحققة لأهدافها ومصالحها، فما كل المنشآت تتوافق ومسلّمات بيئته الأولى، جملة أو تفصيلاً، فيحار عندها وقد يكون نقطة تجاذب بين طرفي مصلحة المنظمة ومبادئ الأسرة، فما المخرج عندئذ ؟ هل يترك مسلَّماته أم يدع وظيفته ؟! هنا يكمن الدور الأهم في تحديد التوسُّط في مسلّمات الأخلاق، فلا يجاوزها لمصلحة المنشأة، كما لا ينصاع لمسلَّمات بيئته الأولى، إن الإسلام باعتباره الرسالة الخاتمة، والدين الكامل، والنعمة التامّة، قد أولى أمّهات الأخلاق كل عناية ، فما من منظمة عمل تأبى حسن التعامل مثلاً، أو الأمانة في أداء حق العمل ، أو العدل في أحكام الإدارة، أو الوفاء بالتزامات الشركة، كما أنه ما من منشأة تدعو إلى خلاف ذلك، وعليه فإن ثمّة تكاملاً بين جوهر الأخلاق وحسن سير العمل، فمتى كانت العبادة أمانة – يرعى حقها الفرد – كان العمل كذلك ، فلا تعارض ولا تضاد بين حسن الخلق وحسن أداء العمل، بشرط أن يكون ضابط الأخلاق ومرجعها العدل فيها بين الإفراط والتفريط ، وعلى ذلك بناء مصالح الدنيا والآخرة ، لا مصلحة الفرد والمنظمة فحسب. لكن لو أن كل امرئ قدّر الأخلاق بتقديره لتفاوت الناس في ذلك أيما تفاوت، ولصار كل إنسان إلى طبعه يوماً فأفسد الطبعُ الخُلُقَ، وأفسد معه كل عمل منتج بنّاء، وقد أدرك مثل ذلك بحكمته شاعرٌ فقال:
كل امرئ صائر يوماً لشيمته وإن تخلَّق أخلاقاً إلى حينِ(/2)
العنوان: الذين يستحقون اللعنة
رقم المقالة: 1288
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعد أيها الناس:
سوف أتلو عليكم بعد قليل وثيقة شرعية وقائمة نبوية بأصناف الذين لعنهم الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكل أمر ورد فيه اللعن من الله تعالى أو من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو من كبائر الذنوب وعظائم الآثام؛ فنعوذ بالله من مقته وغضبه.
واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله - عزَّ وجلَّ - فالملعون بعيد عن رحمة الله، بعيد عن كرم الله، بعيد عن عفو الله نسأل الله السلامة والعافية.(/1)
وهذه الأحاديث التي سوف أسردها – إن شاء الله – هي من الأحاديث الصحيحة أو الحسنة التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسند المتصل، إلا في بعض الألفاظ، وسوف أنبِّه عليها - إن شاء الله - وتجنبتُ الروايات الضعيفة التي لم يصح إسنادها عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
وسوف أعود بعد سرد هذه الأحاديث، فأعقِّب بشرح موجز على بعض ألفاظها؛ تتميمًا للفائدة؛ ليسهل فهمها، وتتضح معانيها وفوائدها.
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصِرَها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولةَ إليه))[1]؛ رواه أبو داود وأحمد عن ابن عمر.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الراشي والمرتشي))[2]؛ أخرجه الترمذي وأحمد.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهدَيْه، وكاتبه: هم فيه سواء))[3]؛ رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده))[4]؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله المُتشبّهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء))[5]؛ رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي.
ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبسةَ المرأةِ، والمرأة تلبس لبسة الرجل[6]؛ رواه أبو داود.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الرجْلَةَ من النساء))[7]؛ رواه أبو داود.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله المحلِّلَ والمحلَّل له))[8]؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النائحة والمستمعة[9].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلّجات للحسن، المغيرات خلق الله))[10]؛ رواه البخاري ومسلم.(/2)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة))[11]؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله زوارات القبور))[12]؛ رواه الترمذي وابن ماجه.
وفي لفظ له - صلى الله عليه وسلم - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُجَ))[13]؛ أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد، وفي الجملة الثانية ضعف، ولها شواهد تحسَّن بها[14].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غَيَّر منار الأرض))[15]؛ رواه مسلم والنسائي وأحمد.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله من مثَّل بالحيوان))[16]؛ رواه البخاري.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الخامشة وجهَهَا، والشاقَّة جيبها، والداعية بالويل والثبور))[17]؛ رواه ابن ماجه، وصححه ابن حبان.
أيها المسلمون:
فلنعد إلى بعض الألفاظ التي وردت في هذه الأحاديث النبوية الشريفة، لنستجلي صفات هؤلاء الملعونين والملعونات، ولنعرف أسباب لعنهم، حتى لا نسلك سبيلهم، أو نسير في طريقهم، فمعرفة سبيل أهل الضلال هدف رئيس من أهداف القرآن الكريم؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]. فلا يستطيع العبد أن يسلك سبيل الحق والخير، إلا إذا عرف الشرَّ وطُرقه ومسالكه، وكان حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشرِّ مخافة أن يدركه[18]. فنسأل الله تعالى أن يدرأ عنا سبل غضبه ومقته ولعنته.(/3)
أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الخمر وشاربها))؛ فهذا وعيد شديد لكل من تعامل في الخمر، فهي من أكبر الكبائر، وهي أم الخبائث، لعن الله - عزَّ وجلَّ - فيها عشرة؛ لعنها أولاً، ولعن عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقاها، وآكل ثمنها[19]. ويدخل في ذلك - أيضًا - كل من تعامل في تجارة المخدرات، فهو ملعون أيضًا؛ لأن المخدرات مثل الخمر في إذهاب العقل، وتدمير المجتمعات وضياع الأموال، واختلاط الأنساب، وغير ذلك من الأضرار التي ترتكب بسبب الخمر والمخدرات.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الراشي والمرتشي))؛ فالراشي: هو الذي يرشو المسؤولين والموظفين، ليحصل على حقٍّ ليس له، ويصرف عن الناس حقوقهم، فمن دفع رشوة لمسؤول أو لموظف أو لعامل، ليتوصل بذلك إلى شيء ليس من حقه؛ فهو ملعون.
والمرتشي: هو الذي يأخذ الرشوة، فيأخذ مالاً ليس من كسبه، ولم يرثه عن أبيه أو أمه، ثم هو يأخذ أجرًا وراتبًا نظير القيام بعمله، فليس له الحق في أن يأخذ أموال الناس، حتى ينهي لهم معاملاتهم ومصالحهم، فهذا أيضًا ملعون بلعنة الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله - صلى الله عليه وسلم.
وورد في رواية فيها ضعف زيادة: ((والرائش))[20] وهو الذي يسير بين الراشي والمرتشي بالواسطة، يكلم هذا ويكلم هذا؛ حتى تتم هذه الجريمة الشنعاء والفعلة النكراء، فهذا أيضًا لعنه النبي - صلى الله عليه وسلم.
فالله الله .. كم للرشوة من إفساد لمجتمعاتنا، وكم عطلت من حقوق، وكم منعت من بركات، وكم أحدثت من ظلم، وكم أفسدت من ذمم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.(/4)
وأما آكل الربا: فهو الذي يتعامل به، ويزاوله، وكاتبه: هو الموظف الذي يكتب عقود الربا، ويزاول العمل في مجاله. وشاهداه: هما من يوقِّع على العقود والصكوك الربوية، ولا يكون العقد ماضيًا إلا بتوقيعهما، فكل هؤلاء ملعونون على لسان محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((لعن الله السارق يسرق البيضة)): هي بيضة الدجاجة، ولما كانت البيضة لا قطع فيها؛ كان ذلك من باب التحقير، أي: لعن الله السارق التي تقطع يده في شيء حقير، وأشياء الدنيا كلها حقيرة، فالدنيا لا تساوي عند الله - عزَّ وجلَّ - جناح بعوضة.
وقيل: البيضة هي التي يضعها المقاتل على رأسه، وهي شيء حقير أيضًا.
ولما اعترض أبو العلاء المعري على قطع يد السارق، وزعم أن هذا الحكم مخالف للعقل، فإن اليد في الإسلام قيمتها خمسمائة دينار، فكيف تقطع في ربع دينار، ردَّ عليه أحد علماء الإسلام قائلاً:
عِزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذلُّ الخيانةِ فافْهَم حكمة الباري
فالأمانة والتقوى والخوف من الله - عزَّ وجلَّ - هو الذي أغلاها في الإسلام، وجعلها تستحق هذا المبلغ الكبير، والخيانة والدناءة هي التي أرخصتها، وجعلتها تُقطع في ربع دينار؛ فافهم حكمة التشريع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأما لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء: فإن ذلك لمحاولة هؤلاء تغيير الفطرة التي فطر الله عليها عباده، فالرجل له صفات معينة، والمرأة كذلك، فإذا مشت المرأة مشية الرجل، ولبست لبس الرجال، وتكلمت كالرجال، وزاولت أعمال الرجال، كانت ملعونة مطرودة من رحمة الله - عزَّ وجلَّ - لأنها بذلك تعترض على قدر الله - عزَّ وجلَّ - في أن جعلها أنثى، ولما في ذلك أيضًا من نشر الرذيلة، وتحريك شهوات الرجال، وانتشار الشذوذ بين الجنسين.(/5)
ويدخل في ذلك أيضًا: المغنيات والممثلات والراقصات؛ فإنهن خرجن عن الحجاب والستر، واختلطن بالرجال الأجانب، إلى غير ذلك من الأمور التي يعرفها كل إنسان، ولا داعي لأن نذكرها هاهنا.
وأما المتشبِّهون من الرجال بالنساء، فإنهم أيضًا ملعونون، وهم يسمون في الشريعة: المخنثون، ولا حظَّ لهؤلاء في رحمة الله - عزَّ وجلَّ - إلا أن يتوبوا من هذا الفجور، ويكونوا رجالاً كما خلقهم الله - عزَّ وجلَّ .
ويدخل في ذلك - أيضًا - من رقّق صوته تشبهًا بالمرأة، ومن تثنَّى في مشيته كالمرأة، ومن استخدم أدوات الزينة التي تتزين بها المرأة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)).
قال أهل العلم: لبسة الرجل، هو اللباس الخاص به في عرف الناس، ولبسة المرأة: هو اللباس الخاص بها في عرف الناس، والناس هنا هم المسلمون المؤمنون أهل التوحيد، من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا اعتبار بأعراف الجاهلية، ولا تقاليد الجاهلية، وإن كان أصحاب هذه الأعراف والتقاليد ممن يتسمون بأسماء إسلامية.
فَمَنْ لبس من الرجال لبسة المرأة فهو ملعون، ومن لبست من النساء لبسة الرجل فهي ملعونة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له)). المحلل: هو الذي يأتي إلى الزوجة المطلقة فيتزوجها، وهي التي طلقت بثلاث، وأخذت العِدّة فلا تجوز للأول حتى ينكحها زوج آخر، كما نص على ذلك - سبحانه وتعالى - فيأتي هذا الرجل يتزوج هذه المرأة باتفاق مع الزوج الأول، لا لقصد أن تكون زوجه له، ولكن ليحللها للأول، فيمكث معها مدةً متفقًا عليها، ثم يطلقها ليتزوجها الأول، فيكون تيسًا مستعارًا، فهذا ملعون وذاك ملعون، وإنما يجوز أن يتزوجها بقصد أن تكون زوجة، ثم إذا بدا له أن يطلقها فيطلقها، وعندها يجوز للأول أن يتزوجها من جديد.(/6)
فَمَنْ فعل الصورة الأولى فهو ملعون بلعنة الله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله النائحة)) والنائحة: التي تنوح في المأتم وتدعو بالويل والثبور، وتصيح في وقت المصائب والكوارث، فإذا مات أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها رفعت صوتها وولوت وناحت، وقالت: يا فلان ابن فلان، واظهراه!! واجبلاه!! واكريماه!! واشجاعاه!! فهي ملعونة، ويدخل في ذلك المستمعة.
قال أهل العلم: هي التي تأتي بالنائحة، وتدفع لها أجرةً، وتمهد لها وتدخلها بيتها فهي ملعونة. والسر أنهم لم يرضوا بقضاء الله، وتسخطوا على حكم الله وأثاروا الهلع والجزع في عباد الله فهن ملعونات.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات))؛ الواشمة: هي التي تضع الوشم في خدود النساء، والوشم كالحبر وكالصبغ الأخضر والأسود، وما يدخل في حكمه، فهي تأتي بعقاقير معها وبمخائط، وتصنع الوشم للنساء ،فمن فعلت ذلك فهي ملعونة.
والمستوشمات: وهن اللواتي يُصنع الوشم لهن في خدودهن وعلى أنوفهن وتحت شفاههن، فهن ملعونات، هذا الوشم حرام، الواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة ملعونات، والنامصة: هي التي تُقلع شعر حاجبيها، وتنتف شعر حاجبيها، لتزجِّجَه وترقِّقَه، فهذه ملعونة، والمتنمصة هي التي تستدعيه وتحبذه وتفعله بنفسها، بواسطة هذه النامصة؛ فهي ملعونة أيضًا بلعنة الله، على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
والمتفلجات: وهن اللواتي يوسعن ما بين أسنانهن، وينشرن أسنانهن، ويغيِّرن خلق الله تعالى، فإنهن ملعونات؛ لأن ذلك يدل على خبث النفس، ومحبة الفتنة، وتحريك الشهوات.
و((المغيِّرات خلقَ الله)) هن اللواتي يفعلن بأنفسهن ما يغير خلق الله. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)).(/7)
الواصلة: هي التي تصل شعر غيرها، فوصْلُ شعر المرأة حرام، لا يكون إلا من أصل شعرها، أما الوصل بشعر خارجي فهو حرام.
والمستوصلة: التي تطلب ذلك، وتدعو ذلك، وتطلب من النساء أن يصلن شعرهن أو شعرها، فمعلونة - أيضًا - بلعنة الله، على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وهذه اللعنة وإن كانت خاصة بالنساء، إلا أنه والله الذي لا إله إلا هو لقد وجد من بعض الشباب الذين ضيعوا دينهم وعبثوا بأحكام شرعهم، وجهلوا لا إله إلا الله، وضيعوا أصالتهم وكرامتهم، وعزهم ونخوتهم، وُجد من هؤلاء من يوصل شعره، ويركِّب الباروكة على رأسه؛ فهو حقيقٌ باللعنة وأحقُّ بها.
وللحديث بقية في الخطبة الثانية – إن شاء الله – نسأل الله أن يدرأ عنا وعنكم غضبه ولعنته، ونسأله رضوانه ورحمته، وأن يفقهنا وإياكم في الدين، ويجعلنا وإياكم من الراشدين المهديين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى الله أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فبقي من هذه الأصناف التي صَحَّت بلعنهم الأحاديث وحَسُنَت عن المصطفى عليه الصلاة والسلام قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله زوَّارات القبور))؛ رواه أحمد كما أسلفنا وابن ماجه والحاكم.
ومعنى زوَّارات - بصيغة المبالغة -: هن اللواتي يتعهَّدن القبور بالزيارة، ويكون لهن زيارة مكثفة للقبور، فدائمًا تراهن عند القبور، وحول القبور.(/8)
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن زيارة المرأة للقبور؛ لما في زيارتها من فتنة وجزع، وهلع وتسخُّط، ولأنها ضعيفة القلب، قد لا تتحمل مشاهدة الموتى فتُصرع، وكذلك فهي متعرضة للعيون الضارية التي تتبَّعها حتى عند المقابر، فمنع - صلى الله عليه وسلم - زيارة المرأة، ولعن من اتخذ من النساء زيارة القبر عادةً وأكثر منها، فمَنْ فعل ذلك من النساء فقد استحقت اللعنة. وفي لفظ: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أو: ((لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرج)).
قال بعض أهل العلم: لا تشملهنَّ اللعنة حتى تتخذن المسجد والسرج.
ولكن أبعد للريبة، وأبعد للمعصية ألا تزور المرأة القبر بحال من الأحوال، وإذا أتت على القبر فاتخذت مسجدًا أو مصلًّى أو سراجًا أو بنت بناءً؛ فإن اللعنة تشملها وتحيط بها، لأنها ضربت بأحكام الشريعة عرض الحائط، ولأنا خالفت أمر الله - عزَّ وجلَّ - وأتت بكبيرة من الكبائر، واستحدثت في دين الله - عزَّ وجلَّ - ما يمكن أن يؤدي إلى أكبر الكبائر، وهو الشرك بالله - عزَّ وجلَّ .
وقد رأينا في كثير من بلاد المسلمين؛ أنه بسبب التساهل في هذا الباب؛ أصبح الشرك أمرًا مألوفًا، فعكفت النساء على القبور، وعبدت القبور من دون الله، وصرفت لها جميع أنواع العبادة التي لا تجوز إلا لله - عزَّ وجلَّ - كالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة وغير ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(/9)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله من لعن والديه) فهذا أيضًا من أصناف الملعونين، ولا يفعل ذلك إلا فاجر، وقد وُجد من هذا الصنف كثير؛ بل أخبرنا كثير من الإخوة الثقات أن هناك شبابًا ضربوا أمهاتهم ضربًا مبرحًا، وقد استُدعي بعضهم إلى رجال الأمن في بعض المناطق بشكوى من أمه، ضربها سبع مرات، فلما أُوقف أمام رجال الأمن بكى، وأخذ يقبل رجلَيْ أمه، وقال: أتوب. قالت: لا والله اضربوه؛ فإنه طالما أبكاني فإذا ضُرب وبكى مرة، فقد ضربني وأبكاني مرات ومرات!!
فهذا فاجر، وهذا ملعون؛ لأن الله - عزَّ وجلَّ - جعل حق الوالدين عظيمًا، وقرن شكرهما بشكره، فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]. حتى ولو دعاك والدك إلى الإشراك بالله فلا تطعهما في ذلك، ولكن كما قال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
ومن الكبائر أيضًا: أن يكون الإنسان سببًا في لعن والديه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من الكبائر شتم الرجل والديه))!! فاستغرب الصحابة ذلك، وقالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟! قال: ((نعم؛ يسبُّ أبا الرجل فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمَّه فيسبُّ أمه))[21].
* وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ولعن الله من ذبح لغير الله)) وهي الذبيحة الشركية، التي تذبح في النذور الشركية، وعند القبور، وعند الأصنام، وبأمر الكهنة والسحرة والمشعوذين؛ فيقولون: اذبح ذبيحةً لونها كذا، وصفتها كذا، فمن فعل ذلك وأطاعهم؛ فهو ملعون، وهذه الذبائح كثرت في هذا الزمن، خاصة في البوادي والقرى، بسبب الكهنة والسحرة والعرافين والمشعوذين أعداء الله.(/10)
فليعرف المؤمن لمن يذبح ولمن ينسك ولمن ينذر، ومن يدعو ومن يعبد، فلتكن ذبيحته لله تعالى، وليكن نسكه لله - عزَّ وجلَّ - وليكن نذره ودعاؤه وعبادته للواحد الأحد لا شريك له، كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].
وقوله: ((لعن الله من آوى محدثًا)) المحدِث هو الفاجر المنتهك لحدود الله تعالى، الذي اشتهر فجوره، كالسارق الذي يسرق الناس، وكقاطع الطريق الذي يتعرض للناس، ويشهر في وجوههم السلاح، وكالبغاة الذين تمردوا على ولاة الأمور، وعلى حدود الله وشرعه، وكالمروِّج للمخدرات، وكالفاجر الذي عُرف فجوره، فمَنْ ستره وتستَّر عليه، وحاول أن يخفيه عن أعين العدالة فهو ملعون؛ لأنه فعل كبيرة، وجرح شعور المسلمين؛ ولأنه سبب في انتشار الجريمة والفاحشة في المجتمع المسلم.
* ((ولعن الله من غيَّر منار الأرض)) منار الأرض: هو الحدّ الذي يفصل الرجل عن الرجل، في المزارع والحقول والديار والدور، وهو يسمى في اللغة العامية - التي ليست بصحيحة - (الوثن)، ويسمى (الحدّ)، فمن غيَّره على غير ما وضع له؛ فهو ملعون. ولا يفعل ذلك إلا أولئك الذين يغتصبون أموال الناس وحقولهم وأراضيهم، ويضعون أيديهم على ما ليس لهم، فهؤلاء ملعونون بلعنة الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - نسأل الله العافية والسلامة.
* وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله من مَثَّل بالحيوان)) أي: شَوّه الحيوان، أو قتله من غير مذبحه، كأن يقطع رجله وهو حي، أو يقطع ذيله، أو يصعقه صعقًا، أو يرميه برصاص وهو واقفٌ مربوط، وكذلك إذا قطع أذنه، أو فقأ عينه، فقد مَثَّل به، وارتكب كبيرة من الكبائر؛ فذلك ملعون بلعنة الله، على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم.(/11)
* ((ولعن الله الخامشةَ وجهها))؛ في المآتم وفي المعازي، التي تخمش وجهها من الجزع والهلع، ((والشاقة جيبها))؛ في مناسبات الموت تشق ثوبها، قد تظهر عورتها أمام الناس؛ فهي أيضًا ملعونة.
وكذلك ((الداعية بالويل والثبور))؛ والداعية بالويل والثبور، هي التي تتسخَّط على القضاء والقدر، وقد سبق بيان ذلك في النائحة.
فيا عباد الله:
أخبروا أسركم بهذا، وأخبروا زوجاتكم وبناتكم وعماتكم وخالاتكم وانشروا الخير في بيوتكم.
أخبروهم بمحارم الله وحدوده، وحذروهم من انتهاك حرماته؛ لأن في انتهاك حرماته لعنة وغضبًا ومقتًا وبلاء. نسأل الله العافية والسلامة.
* {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
عباد الله:
صلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ صَلى عليَّ صَلاة صَلى الله عَليه بِها عَشرًا))[22]. اللهم صلّ على نبيك وحبيبك محمد واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وأظلنا مع أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] أخرجه أبو داود (3/326) رقم (3674) وأحمد (2/9) من حديث ابن عمر، وصححه الحاكم (4/145) من حديث ابن عباس وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5091).(/12)
[2] أخرجه الترمذي (3/263) رقم (1337). وأبو داود (3/300) رقم (3580). وابن ماجه (2/775) رقم (2313). والحديث قال عنه الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5114).
[3] أخرجه مسلم (3/1219) رقم (1597).
[4] أخرجه البخاري (8/15) كتاب الحدود. ومسلم (3/1314) رقم (1687).
[5] أخرجه البخاري (7/55) كتاب اللباس. وأبو داود (4/60) رقم (4097) والترمذي (5/98) رقم (2784) وأحمد (1/339).
[6] أخرجه أبو داود (4/60) رقم (4098)، وأحمد (2/325) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5095).
[7] أخرجه أبو داود (4/61) رقم (4099) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5096).
[8] أخرجه أبو داود (2/227) رقم (2076). والترمذي (3/428) رقم (1120) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (1/622) رقم (1935) والحديث صححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5101).
[9] أخرجه أبو داود (3/194) رقم (3128، وأحمد (3/65) والحديث ضعفه الألباني كما في الإِرواء رقم (769) وضعيف الجامع رقم (4690).
[10] أخرجه البخاري (7/61-62) كتاب اللباس. ومسلم (3/1678) رقم (2125).
[11] أخرجه البخاري (7/62) كتاب اللباس. ومسلم (3/1677) رقم (2124).
[12] أخرجه الترمذي (3/371) رقم (1056) وقال الترمذي: حسن صحيح، وابن ماجه (1/502) رقم (1576). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5109).
[13] أخرجه الترمذي (2/136) رقم (320) وقال: حديث حسن، والنسائي (
[14] حَسَّن هذا الحديث الترمذي وحسنه أيضًا – لشواهده – العلامة أحمد شاكر في تخريجه للترمذي (2/137) أما الألباني فقد قال: والواقع أن الحديث له شواهد كثرة في جملتيه الأولين، وأما (السرج) فليس لها شاهد البتة فيما علمت، ولذا لا يمكن القول بتحسين الحديث بتمامه؛ بل باستثناء (السرج). انظر الإِرواء (3/213).
[15] أخرجه مسلم (3/1567) رقم (1978). والنسائي (7/232) رقم (4422) وأحمد (1/108، 118).(/13)
[16] أخرجه البخاري (6/228) كتاب الصيد والذبائح.
[17] أخرجه ابن ماجه (1/505) رقم (1585)، وابن حبان رقم (7156) قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/521): هذا إسناد صحيح وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (2147) والأرناؤوط كما في الإحسان (7/428).
[18] أخرجه البخاري (8/93) كتاب الفتن. ومسلم (3/1475) رقم (1847).
[19] ورد ذلك في حديث عن أحمد في المسند (2/71).
[20] حديث: ((لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما)) أخرجه أحمد (5/279) والحاكم (4/103) والطبراني في الكبير رقم (1495) والبزار رقم (1353) وفي إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف وشيخه أبو الخطاب لا يعرف. قال الألباني: ولم يرو هذه الزيادة غير ليث بن أبي ليم كما ذكر البزار، فهي زيادة منكرة لتفرد ليث بها وهو ضعيف لاختلاطه. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (1235) وضعيف الجامع رقم (4684).
[21] أخرجه مسلم (1/92) رقم (92).
[22] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/14)
العنوان: الراحمون يرحمهم الله
رقم المقالة: 1291
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
* أيها الناس:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله – عز وجل – واعلموا أن رحمة الله - تبارك وتعالى - عمَّت الكائنات، وعنايته سبحانه وتعالى تحفظنا ليلاً ونهارًا، واعلموا كذلك أن الرحمة من أعظم صفات المولى – عز وجل – فهو الرحمن الرحيم، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما.(/1)
تتوسل الملائكة إلى ربها - تبارك وتعالى - وتثنى عليه بالرحمة فتقول: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7].
* فرحمته - تبارك وتعالى - تبلغ ما بلغ علمه، تصيب رحمته النملة في جحرها، والحوت في البحر، والجنين في بطن أمه، وفي الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((جعل الله الرحمة مئة جزء فأمسك عنده تسعًا وتسعين جزءً، وأنزل في الأرض جزءً واحدًا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق، حتى ترفع الفرسُ حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه))[1].
* وفي لفظ: ((إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطفُ الوحوش على ولدها، وأخَّرَ الله تسعًا وتسعين رحمةً، يرحم بها عباده يوم القيامة))[2]، فتأمَّل رحمك الله، كيف شمل هذا الجزء الواحد من رحمة الله تعالى جميع المخلوقات من إنسان، وحيوان، وطائر، حتى الحشرات وغيرها من المخلوقات التي لا ترى بالعين المجردة، فإن رحمة الله – عز وجل – تدركها وعلمه يحيط بها.
حتى أهل الذنوب والمعاصي لا تفارقهم رحمة الله – عز وجل – ولولا ذلك لانتقم منهم عند أول ذنب، وإنما يمهلهم ويؤخرهم لعلهم يتوبوا، لعلهم يرجعوا، لعلهم يستحيوا من الله الكبير المتعال، وهو – عز وجل – يغضب على أهل المعاصي، ويغار على حرماته أن تنتهك ولكن رحمته - تبارك وتعالى - تسبق غضبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش))[3]، فالله – عز وجل – أرحم الراحمين، وخير الراحمين كما قال: {وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118].(/2)
ولذلك فقد حثَّ - تبارك وتعالى - عباده أن يكونوا رحماء، ومدح حزبه المتقين بأنهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
وصفة الرحمة كما هي من أعظم صفات الباري - تبارك وتعالى - فإنها أيضًا من أعظم صفات المؤمن، فينبغي للمؤمن أن يكون رحيمًا بعباد الله، شفوقًا عليهم، محبًّا لهم، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فالله – عز وجل – لا يحب الجبارين ولا المتكبرين، ولا الذين يحملون قلوبًا قاسية، لا تشفق ولا ترحم ولا تلين، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
قست قلوبهم بأكل الربا، قست قلوبهم بالزنا وعقوق الوالدين، قست قلوبهم بالتناحر والتدابر والتقاطع؛ ولذلك قال الله فيهم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [المائدة: 13].
* قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ فإذا امرأة من هذا السبي تبحث عن ابنها، امرأة حائرة قلقة والهة، ضاع ابنها فأخذت تبحث عنه، فلما وجدته أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟)) قالوا: لا والله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أرحم بعباده من هذه بولدها))[4].(/3)
ومن رحمة الله – عز وجل – أن يرى العصاة الفجرة الجبارين المتكبرين، يعصونه ليلاً ونهارًا، يسفكون الدماء، ويأكلون الأموال ظلمًا وعدوانًا، يهتكون الأعراض ويغتصبون الحقوق، ومع ذلك كله فإن رحمته سبحانه وتعالى لا تزال تغشاهم، وستره لم ينكشف بعد عنهم، وكنفه يحيط بهم، وهو سبحانه لم يغفل عنهم، بل مُطَّلع على خططهم ومؤامراتهم. قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم: 42-43].
والرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن الرحمة لا تكون بين الناس فحسب؛ بل بين الكائنات الأخرى من غير بني البشر، يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل اشتد عليه العطش وهو يمشي في طريق وعرة، فوجد بئرًا فنزل فيها وشرب، ثم خرجَ، فإذا كلب يلهثُ، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خُفَّه ماءً ثم أمسك بفيه حتى رقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له)).
فتعجب الصحابة من ذلك وسألوا: يا رسول الله! وإنَّ لنا في هذه البهائم لأجرًا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((في كلِّ كبدٍ رطبة أجرٌ))[5].
وحديث آخر صحيح كالشمس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما كلبٌ يطيفُ بِرَكيَّة[6] قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقَهَا[7]، فاستقت له به، فسقته إياه فَغُفر لها به))[8].
أيها الناس:(/4)
هذه رحمة الإسلام بالحيوان، فكيف بحقوق الإنسان في هذا الدين، وإني لأتساءل ماذا فعلت منظمات حقوق الإنسان؟ وماذا فعلت الهيئات التي تدافع عن الإنسان؟ هل حقنت دماء الإنسان؟ هل أزاحت الظلم من على كاهله؟ أما الإسلام فقد جعل للحيوان البهيم حقوقًا، ونهى عن ظلمه وتعذيبه وتجويعه.
وهذه قصة أخرى يرويها عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((عُذِّبت امرأة في هِرَّة؛ سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتا وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاشِ الأرض))[9].
فهذه المرأة كانت تحمل قلبًا غليظًا، قلبًا نُزعت منه الرحمة والشفقة، قلبًا لا يحس بآلام الآخرين، فاستعرضت هذه الغلظة وذلك الجفاء على قطة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، فحبستها في البيت، وليتها أطعمتها وسقتها، ولكن أجاعتها حتى الموت، فعاقبها الله – عز وجل – الذي لا تخفى عليه خافية وعذبها في جهنم.
وبعض الناس لا تظهر شجاعته إلا على عالم القطط والكلاب، فتراه يجد لذة في تعذيبها، يدوسها بسيارته فيقتلها، ويحس بذلك أنه انتصر نصرًا عظيمًا وفاز فوزًا مبينًا، وهذا من خفة العقل وانتكاس الفطرة والعياذ بالله.(/5)
تنكسف الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فيفزع إلى الصلاة، ويطيل القيام والركوع والسجود، حتى إذا كان في آخر سجدة من الركعة الثانية، جعل ينفخ ويبكي ويقول: ((لم تُعِدْني هذا وأنا فيهم .. لم تُعِدْني هذا ونحن نستغفرك))، ثم رفع رأسه وانجلت الشمس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله – عز وجل – فإذا رأيتم كسوف أحدهما فاسعوا إلى ذكر الله عز وجل)). ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده لقد أدنيت الجنة مني حتى لو بسطت يدي لتعاطيت من قطوفها، ولقد أُدنيت النارُ مني، حتى لقد جَعَلْتُ أتقيها خشية أن تغشاكم))، والعجيب هو ما رآه صلى الله عليه وسلم في النارِ، قال: ((حتى رأيتُ امرأة من حِمْيَر تعذَّبُ في هِرّةٍ؛ ربطتها فلم تدعها تأكل من خَشَاشِ الأرض، فلا هي أطعمتها ولا هي سقتها حتى ماتت، فلقد رأيتُها تنهشُها إذا أقبلت، وإذا ولَّت تنهشُ ألْيَتَها))[10].
فما أعظم هذا الدين، وما أروع هذه الشريعة التي أقامت العدل وأرست دعائمه بين بني البشر، ولم تكتف بذلك؛ بل بلغت من العدل والإنصاف أن رفعت الظلم عن الحيوان البهيم؛ لأنه يحسّ ويتألم ويشعر بمرارة الظلم إذا وقع عليه.
* ولما أراد الله – عز وجل – أن يمدح رسوله صلى الله عليه وسلم، وصفه بالرحمة فقال عز من قائل: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
* وقال أيضًا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].(/6)
وهذا الذي يعيش فيه المسلمون الآن من الفرقة والتباغض والتحاسد فيما بينهم، إنما هو أولاً وقبل كل شيء بسبب غياب هذه الصفة، ولذلك اختار العليم الحكيم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليجمع هذه الأمة الهمجية المبعثرة التي لا قانون لها ولا نظام، فجمعها محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ووحدها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وجعلها أمة قوية، تعمل لها الأمم ألف حساب؛ بل صارت خير أمة أخرجت للناس، بعد أن كانت أمة مشاغبة، أمة ثائرة، أمة بلا حضارة ولا ثقافة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدين هو أعظم الأديان وبشريعة هي أفضل الشرائع، وبحضارة من أروع الحضارات.
جمع نبينا صلى الله عليه وسلم هذا الشتات على لا إله إلا الله، أدَّبهم بآداب لا إله إلا الله، فآتت ثمارها جيلاً فريدًا طائعًا عابدًا لله – عز وجل -: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
فكانت دعوته صلى الله عليه وسلم تمتاز بالرحمة واللين وعدم العنف والشدة.
يأتي الرجل يحمل من الحقد والحسد والضغينة للرسول صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، فما إن يرى ذلك الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والبسمة المشرقة، حتى يعود ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وماله والناس أجمعين: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
يمشي - عليه الصلاة والسلام - في سكك المدينة فيمر على الأطفال فيسلم عليهم ويبتسم لهم ويقبلهم؛ لأنه رؤوف رحيم.(/7)
وكثير من الناس اليوم جبار متكبر، يرى أن من المهانة أن يدنو من الأطفال ويمسح على رءوسهم وَيُقَبّلهم، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان رحيمًا بالأطفال، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي بالمسلمين وهو ينوي الإطالة، فإذا سمع بكاء الأطفال تجوَّز رحمة بهم وبأمهاتهم.
فَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبُ هَذَانِ فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُّحَمَاءُ
وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ
وَإِذَا غَضِبْتَ فَإِنَّمَا هِيَ غَضْبَةٌ فِي الْحَقِّ لا كِبْرٌ وَلا ضَغْنَاءُ(/8)
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم: أن يأتي إليه شابٌّ فيسأله صلى الله عليه وسلم شيئًا، أتدرون ماذا يسأل؟ قال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا!! فأقبل الناس عليه فزجروه ووبخوه، ولكن المصطفى، عليه الصلاة والسلام، قال له: ادنه ... فدنا منه قريبًا حتى جلس بجواره صلى الله عليه وسلم، فقال له المعلم الأكبر: ((أتحبُّه لأمك؟)) قال: لا والله – جعلني الله فداءك – قال: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله – جعلني الله فداءك – قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟)) قال: لا والله – جعلني الله فداءك – قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا والله – جعلني الله فداءك – قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا والله – جعلني الله فداءك – قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)) ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: ((اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه))[11] فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء، أصبح لا يفكر في الزنا، صار الزنا أبغض شيء إلى قلبه، إنها رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، إنه التعليم بالبسمة، والتوجيه بِالبِشْرِ وإشراق الوجه، وهذا الذي استطاع به محمد صلى الله عليه وسلم أن يجمع عليه القلوب، وأن يوحد به الصفوف، وأن ينقل به هذه الأمة من جماعات متفرقة متناحرة مشتتة، إلى أمة قوية تقية وصفها ربها - تبارك وتعالى - بأنها خير أمة أخرجت للناس.(/9)
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أن يأتي الحسن أو الحسين فيرى الرسول صلى الله عليه وسلم ساجدًا في صلاة العشاء فضاقت عليه الدنيا إلا من ظهر المصطفى، عليه الصلاة والسلام، فصعد على الظهر الشريف، فأطال النبي صلى الله عليه وسلم في السجود، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدتَ بين ظهراني صلاتك سجدةً أطلتها، حتى ظننَّا أنه قد حدث أمرٌ أو أنه يوحى إليك قال: ((كل ذلك لم يكن، ولك ابني ارتحلني[12] فكرهت أن أُعَجِّلَه حتى يقضي حاجته))[13].
هكذا كان يتعامل صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، فأين هذا من تعاملنا نحن معهم، إننا نتعامل مع الأطفال بالضرب والشتم والمطاردة في المسجد، حتى أصبح كثير من الأطفال يخافون من دخول المسجد لما يرونه من تهديد مستمر ووعيد دائم.
* قال أنس بن مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، وكان لي أخٌ يقال له: أبو عمير، فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال: ((أبا عمير ما فَعَل النُّغَيْر))[14] والنُّغَير: طائر صغير كان يلعب مع الصبي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليه الفرح والسرور بسؤاله عن ذلك الطائر، وكأنه صلى الله عليه وسلم متفرغ لهؤلاء الأطفال ومبعوث إليهم خاصة، مع أن هموم البشرية جميعًا كانت تحيط به، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، للإنس والجن، للصغير والكبير، للرجل والمرأة للشيخ والشاب.
* أيها الناس:
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيسير في كل شيء وكان يكره التشديد في كل شيء؛ أرسل أبا موسى ومعاذًا داعيين رسولين مبشرين منذرين إلى اليمن، وكان آخر ما أوصاهما به أن قال: ((يسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّرَا))[15].
فديننا دين يسر وسهولة، دين رحمة ومحبة، ولذلك دخل إلى القلوب، وتعشقته الأرواح، وافتدته المهج والنفوس.(/10)
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومع ذلك كان يتأثر بالمواقف، فتدمع عيناه وينجرح فؤاده.
وَإِذا لَقِيتَ كَتِيبةً يَوْمَ الرَّدَى أَدَّبْتَ في يَوْمِ الرَّدَى أَفْعَالَهَا
وَإِذَا نَطَقْتَ وَفَيْتَ فِيمَا قُلْتَهُ لا مَنْ يُكَذِّبُ قَوْلَهَا أَفْعَالَهَا
* يدخل النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يُرضي ربُّنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))[16].
* وهذا الأقرع بن حابس يبصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل الحسن فيقول: إن لي عشرة من الولد ما قبلتُ واحدًا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لا يرحم لا يرحم))[17].
* عباد الله:
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورًا، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هاديًا، ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد كانت مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم تتميز بالرحمة، وتنفرد بالرأفة والمحبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].(/11)
علَّم صلى الله عليه وسلم أصحابه الرحمة، حتى صار أشدهم وأقساهم قلبًا من أرحم الناس، فهذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لولا هداية الله له، ما كان يعرف الرحمة، وما كانت عيناه تعرف الدموع ولا اللين، كان رضي الله عنه من أقسى الناس في الجاهلية، كان سفاكًا فتاكًا لا يعرف المهادنة ولا يعرف الحوار ولا السهولة واللين، فلما سكب، عليه الصلاة والسلام، إناء الرحمة في قلبه، كان أرحم الناس وأرق الناس.
وقف – رضي الله عنه – على المنبر يوم الجمعة فغلبته عيناه فلم يستطع أن يتكلم، يأتي ليصلي بالناس فلا يسمع الناس قراءته من شدة البكاء، كان في خديه خطان من أثر البكاء، فمن الذي جعل في قلبه هذه الرحمة؟ ومَن الذي جعله شفوقًا حليمًا ودودًا؟
قال مرة لأسلم مولاه: أتنام الليل؟ قال: نعم، قال عمر: والله ما نمت منذ ثلاث، فقد جعل الله في عنقي الأرملة، والمسكين، والشيخ الكبير، والعجوز، واليتيم!!
عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول في عام الرمادة: والله لا أبتل في سمن ولا آكل سمينًا حتى يجلي الله الكربة عن المسلمين.
يأتي يوم الجمعة ليصلي بالناس فيقرقر بطنه من الجوع، فيضرب على بطنه، ويقول: قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.
حسبني وحسب القوافي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها
يا رَبِّ هَبْ لي بَيَانًا أَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى حُقُوقِ الْعُلا قَدْ نَامَ رَاعِيهَا
لقد بلغ من رحمته – رضي الله عنه – أنه كان يسأل عن أطفال المسلمين؛ ماذا أكلوا، وماذا شربوا، وكيف ينامون، إنها الرحمة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله، ومن نسي حقوق الناس، وآلام الناس، ومشكلات الناس، عرّض نفسه للغضب والمقت من الله – عز وجل.(/12)
فمن الناس من يشبع وجاره جائع، ومنهم من يلبس أفخر الثياب وجاره لا يجد ما يستر عورته، ومنهم من يسكن القصور الشاهقة، والناس ينامون على الأرصفة، فهل هذه هي الرحمة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل هذا هو منهج الإسلام في التعامل مع الآخرين؟ .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى))[18].
فلابد أن يكون المسلم رحيمًا ودودًا، يفرح لفرح إخوانه المسلمين ويتألَّم لآلامهم.
ومن صور الرحمة التي يريدها الله – عز وجل – أن يرحم الرجل أهل بيته، وأن يشبعهم، ويكسوهم، ويسكنهم، ويقدم لهم الخير، وقبل ذلك كله أن يقودهم إلى الجنة، ويعرفهم أبوابها وسبلها، ويحذرهم من طرق الضلال التي تقودهم إلى جهنم والعياذ بالله.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
أيظن الإِنسان أن الله – عز وجل – لن يسأله عن أهله ومن يعول؟
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] بلا أمر ولا نهي ولا سؤال ولا حساب، بل إن الله – عز وجل – يقول لابن آدم معاتبًا:(/13)
((يا ابن آدم مرضتُ فلم تعدني، قال: يا ربِّ كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرِضَ فلم تعدْه، أما علمتَ أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتُك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: أما علمتَ أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمتَ أنك لو أطعمتَه لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي))[19].
أيها الناس:
كيف يهنأ المرء بطعام وهو يعلم أن جاره جائع أمسى طاويًا يتلوى من الجوع، ترى الفقراء والمساكين يملؤون السكك والطرقات لا يجدون كسرة الخبز، بينما تُرْمى أشهى الأطعمة في صناديق القمامة، ولا تقدم إلى الأكباد الجائعة والبطون الخاوية.
الفقراء يمرضون السنوات الطويلة ولا يجد أحدهم دواءً، المساكين يطرحون في المستشفيات على الأسِرَّة كالموتى ولا يجدون من يعودهم لأنهم مساكين، أما إذا كان رجل ذا منصب وشهرة وجاه، فإنك ترى الناس أفواجًا على بابه حتى تتكسر عتبات داره من كثرة الزوار، لا لشيء إلا لأنه من الأغنياء الوجهاء كما قال الشاعر:
تَرَى النَّاسَ أَفْوَاجًا على بَابِ دَارِهِ يَطُوفُونَ عَنْ تِلْكَ الدِّيارِ وَسَلَّمُوا
لقد أصبحت دعوت الناس وزياراتهم للوجاهة والتفاخر لا لوجه الله – عز وجل – يدعى للولائم وجهاء الناس وكبراؤهم ويترك الفقراء وأهل الحاجة مع أنهم أحق وأولى من غيرهم بهذه الدعوة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((شرُّ الطعام طعام الوليمة؛ يُدعى لها الأغنياء، ويترك الفقراء))[20].
أسأل الله - تعالى - أن يجعلنا مَنْ عباده الرحماء، وأن يكسونا ثوب الرحمة، وأن يغرس في قلوبنا شجرة الرحمة لتثمر الصدق واليقين والمحبة والإِخاء.
* عباد الله:(/14)
وصلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
* وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا))[21].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] البخاري (7/57) كتاب الأدب باب (19)، ومسلم (4/2108) كتاب التوبة، رقم (17).
[2] أخرجه مسلم (4/2108) كتاب التوبة، رقم (19).
[3] أخرجه البخاري (8/216) كتاب التوحيد، باب (56)، ومسلم (4/2107) كتاب التوبة، رقم (14، 15، 16) من حديث أبي هريرة.
[4] أخرجه البخاري (7/75) كتاب الأدب، باب (18)، ومسلم (4/2109) كتاب التوبة، رقم (22).
[5] أخرجه البخاري (7/77) كتاب الأدب، باب رقم (27)، ومسلم (4/1761)، كتاب السلام، رقم (153).
[6] الركية: البئر.
[7] موقها: أي خُفِّها.
[8] أخرجه البخاري (4/148) كتاب الأنبياء، باب (54)، ومسلم (4/1761) كتاب السلام، رقم (154، 155).
[9] أخرجه البخاري (4/152) كتاب الأنبياء، باب (54). ومسلم (4/1760) كتاب السلام، رقم (151، 152). وخشاش الأرض: هوامها وحشراتها.
[10] أخرجه النسائي (3/137) كتاب الكسوف، رقم (1482)، وأحمد (2/158).
[11] المسند (5/257).
[12] ارتحلني: اتخذني راحلة بالركوب على ظهري.
[13] أخرجه النسائي (2/229، 230) كتاب التطبيق، رقم (1141)، وأحمد (3/494).
[14] أخرجه البخاري (7/102) كتاب الأدب، باب (81)، ومسلم (3/1692) كتاب الآداب رقم (29).
[15] أخرجه البخاري (5/108) كتاب المغازي، باب (60)، ومسلم (3/1359) كتاب الجهاد رقم (7).(/15)
[16] أخرجه البخاري (2/85) كتاب الجنائز، باب (44)، ومسلم (4/1808) كتاب الفضائل، رقم (62).
[17] أخرجه البخاري (7/75) كتاب الأدب، باب (18)، ومسلم (4/1809) كتاب الفضائل، رقم (65).
[18] أخرجه البخاري (7/77) كتاب الأدب، باب (27) ومسلم (4/2000) كتاب البر والصلة، رقم (67).
[19] أخرجه مسلم (4/1990) كتاب البر والصلة، رقم (43).
[20] أخرجه البخاري (6/144) كتاب النكاح، باب (72) ومسلم (2/1054)، كتاب النكاح، رقم (107).
[21] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/16)
العنوان: الرافعي في الكتب والدراسات
رقم المقالة: 663
صاحب المقالة: أيمن بن أحمد ذوالغنى
-----------------------------------------
دراسات ومؤلفات عن أديب العربية الكبير
مصطفى صادق الرافعي
أولاً- مراجع خاصَّة:
1- حياة الرافعي: محمد سعيد العريان، القاهرة، ط1 1939م/ ط3 1955.
2- مصطفى صادق الرافعي: د. كمال نشأت، سلسلة أعلام العرب (81)، القاهرة، نوفمبر 1968م.
3- الإمام مصطفى صادق الرافعي: مصطفى نعمان البدري، دار البصري، بغداد، 1387هـ - 1968م.
4- الرافعي الكاتب بين المحافظة والتجديد: مصطفى نعمان البدري، دار الجيل/ بيروت دار عمار/ عمان، ط1/ 1411هـ - 1991م (رسالة دكتوراه، دار العلوم، القاهرة).
5- مصطفى صادق الرافعي فارس الكلمة تحت راية القرآن: د. محمد رجب البيومي، دار القلم، دمشق، سلسلة أعلام المسلمين.
6- مصطفى صادق الرافعي كاتبا عربيًّا ومفكرًا إسلاميًّا: د. مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، ط3/ 1419هـ - 1999م.
7- مصطفى صادق الرافعي والاتجاهات الإسلامية في أدبه: د. علي عبد الحليم محمود، شركة مكتبات عكاظ، السعودية، ط2/ 1402هـ - 1982م.
8- مصطفى صادق الرافعي حياته وأدبه: حسنين حسن مخلوف،كتاب الهلال (20)، دار الهلال، مصر، 1396هـ.
9- مصطفى صادق الرافعي الناقد والموقف: إبراهيم الكوفحي، دار البشير/ عمان – مؤسسة الرسالة/ بيروت، ط1/ 1418هـ - 1997م، سلسلة أعلام المسلمين في العصر الحديث.
10- دراسة في أدب مصطفى صادق الرافعي: د. نعمات أحمد فؤاد،دار الفكر العربي، بيروت، ط2/ 1963م.
11- أسرار النظام اللغوي عند مصطفى صادق الرافعي: د. حامد محمد أمين شعبان، عالم الكتب، القاهرة، 1979م.
12- بلاغة القرآن في أدب الرافعي: د. فتحي عبد القادر فريد، دار المنار، القاهرة.
13- الجانب الاجتماعي في أدب المفكر الإسلامي مصطفى صادق الرافعي: عبد الستار السطوحي، دار الاعتصام، القاهرة.(/1)
14- الجانب الإسلامي في أدب الرافعي: عبد الستار السطوحي، دار الفكر، لبنان بيروت، 1391هـ.
15- مع الرافعي الكاتب: عمر الدسوقي، مطبعة جامعة القاهرة، 1388هـ - 1969م.
16- نثر الرافعي: محمد الأخضر بن مسعود، المكتبة الشرقية، الجزائر، 1387هـ - 1968م.
17- مصطفى صادق الرافعي رائد الرمزية العربية المطلة على السوريالية: د. مصطفى الجوزو، دار الأندلس، بيروت، ط1/ 1985م.
18- شعر مصطفى صادق الرافعي بين التقليد والتجديد: محمد بن علي الهرفي، دار المعالم الثقافية، 1998م.
19- مصطفى صادق الرافعي في رسائل الأحزان والسحاب الأحمر وأوراق الورد: عبدالقادر القط، الشركة العالمية للنشر (لونجمان)، 1944م.
20- من أدب الرافعي ومعاركه: د. عباس بيومي عجلان، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية.
21- الرافعي وطه حسين: محمد عبد القادر العمادي، دار الفكر الحديث، 1958م.
22- المرأة في أدب الرافعي: مها عبد الستار السطوحي، (رسالة ماجستير، كلية الألسن، جامعة عين شمس، 1992م).
23- الرافعيُّ وميُّ: عبد السلام هاشم حافظ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر. [الدار القومية، القاهرة، 1383هـ - 1964م].
24- الرافعي ناقدًا (أثر القرآن في أدب الرافعي): حسن عبد القادر عبد الدايم، (رسالة ماجستير، كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر، 1969م، بإشراف: عبد الرحمن عثمان).
25- مدرسة الرافعي في الأدب الحديث: محمود محمد لبده، (رسالة دكتوراه، كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر، 1978م، بإشراف: عبد الرحمن عثمان).
26- معارك مصطفى صادق الرافعي التعليمية وأثرها في الأدب والشعر: محمد عزت أحمد، (رسالة دكتوراه، كلية اللغة العربية بأسيوط، جامعة الأزهر، 1983م، بإشراف: محمد السعدي فرهود).
27- مصطفى صادق الرافعي شاعرًا: محمد إسماعيل عبد الحميد إسماعيل، (رسالة ماجستير، كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر، 1984م، بإشراف: حسن جاد حسن).(/2)
28- الجانب الديني في نثر الرافعي: سعاد صالح عبد المطلب، (رسالة ماجستير، كلية الألسن، جامعة عين شمس، 1993م، بإشراف: محمد عبد الحميد سالم).
29- القيم الإسلامية في أدب الرافعي: د. أحمد عبدالقادر الطويل، (رسالة ماجستير، الجامعة الإسلاميَّة، بغداد).
ثانياً - مقدِّمات كتبه:
1- مقدمة د. ياسين الأيوبي لتحقيقه لديوان الرافعي، بعنوان: مصطفى صادق الرافعي (في سيرته وأحواله وآثاره)، المكتبة العصرية، بيروت، 1423هـ - 2003م.
2- مقدمة د. عز الدين البدوي النجار لكتاب الرافعي: ((على السفود))، تصحيح وتعليق: حسن السماحي سويدان، دار البشائر، دمشق، 1421هـ - 2000م.
ثالثاً - مقالات:
1- ديوان الرافعي: محمد رشيد رضا، مجلة المنار، المجلد 6، الجزء الأول، ص 25، غرة المحرم 1321هـ - 30 مارس 1903م.
2- ديوان الرافعي: محمد رشيد رضا، مجلة المنار، المجلد 8، الجزء 13، ص 512، غرة رجب 1323هـ - 31 أغسطس 1905م.
3- ديوان الرافعي: محمد رشيد رضا، مجلة المنار، المجلد 9، الجزء 10، ص 796، غرة شوال 1324هـ - نوفمبر 1906م.
4- الرافعي 1: محمد سعيد العريان، مجلة الرسالة، السنة الثالثة، العدد 108، سنة 1935م، ص 1222 – 1225.
5- الرافعي 2: محمد سعيد العريان، مجلة الرسالة، السنة الثالثة، العدد 109، سنة 1935م، ص 1264 – 1266.
6- الرافعي 3: محمد سعيد العريان، مجلة الرسالة، السنة الثالثة، العدد 110، سنة 1935م، ص 1303 – 1306.
7- وحي القلم للرافعي: عبد الوهاب عزام، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 186، سنة 1937م، ص 157 - 158.
8- مصطفى صادق الرافعي: أحمد حسن الزيات، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 202، سنة 1937م، ص 800 – 801.
9- تحية للرافعي: منصور فهمي، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 202، سنة 1937م، ص 815.
10- الرافعي: محمود محمد شاكر، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 202، سنة 1937م، ص 821.(/3)
11- وحي القلم لمصطفى صادق الرافعي: محمود محمد شاكر، مجلة المقتطف، المجلد90، فبراير 1937م، ص 251 – 253.
12- ارتحال الصديق مصطفى صادق الرافعي: إسماعيل مظهر،مجلة المقتطف، الجزء الأول، المجلد 91، يونيو 1937م، ص 20 – 22.
13- سيرة الرافعي: أحمد محمد عيش، مجلة المقتطف، الجزء الخامس، المجلد 91، ديسمبر 1937م، ص 529 – 540.
14- الرافعي: عبد الوهاب عزام، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 203، سنة 1937م، ص 841 - 842.
15- الرافعي: كامل محمود حبيب، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 203، سنة 1937م، ص 861 - 862.
16- مات الرافعي: محمد زيادة، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 203، سنة 1937م، ص 863.
17- مات كاتب البعث: عبد المنعم خلاف، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 204، سنة 1937م، ص 903 - 905.
18- فقيد البيان الرفيع: حسين مروة، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 204، سنة 1937م، ص 905 - 906.
19- مصطفى صادق الرافعي: محمد حسين زيدان، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 206، سنة 1937م، ص 988 – 989.
20- أدب الرافعي أدب ممتاز: كمال الحريري، مجلة الرسالة، السنة الخامسة، العدد 206، سنة 1937م، ص 989 - 990.
21- مصطفى صادق الرافعي بمناسبة ذكراه الأولى 1: أحمد حسن الزيات، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 253، سنة 1938م، ص 761 – 762.
22- مصطفى صادق الرافعي بعد عام: محمد سعيد العريان، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 253، سنة 1938م، ص 773 – 774.
23- مصطفى صادق الرافعي بمناسبة مرور سنة على وفاته 1: فليكس فارس، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 253، سنة 1938م، ص 775 – 777.
24- مصطفى صادق الرافعي بمناسبة ذكراه الأولى 2: أحمد حسن الزيات، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 254، سنة 1938م، ص 801 – 802.(/4)
25- مصطفى صادق الرافعي بمناسبة مرور سنة على وفاته 2: فليكس فارس، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 254، سنة 1938م، ص 820 – 822.
26- الرافعي في ذكراه الأولى: محمد سعيد العريان، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 254، سنة 1938م، ص 825 – 827.
27- بين العقاد والرافعي 1: سيد قطب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 251، سنة 1938م، ص 692 – 694.
28- بين العقاد والرافعي 2: سيد قطب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 252، سنة 1938م، ص 732 – 733.
29- بين العقاد والرافعي 3: سيد قطب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 254، سنة 1938م، ص 813 – 815.
30- بين العقاد والرافعي 4: سيد قطب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 255، سنة 1938م، ص 854 – 857.
31- بين العقاد والرافعي 5: سيد قطب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 256، سنة 1938م، ص 903 – 907.
32- بين العقاد والرافعي 6: سيد قطب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 257، سنة 1938م، ص 936 – 938.
33- بين العقاد والرافعي 7: سيد قطب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 258، سنة 1938م، ص 978 – 980.
34- بين العقاد والرافعي 8: سيد قطب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 259، سنة 1938م، ص 1018 – 1021.
35- الرافعي ومظهرعلى السفود: سيد قطب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 260، سنة 1938م، ص 1057 – 1059.
36- بين الرافعي والعقاد 1: محمود محمد شاكر، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 253، سنة 1938م، ص 781 – 783.
37- بين الرافعي والعقاد 2: محمود محمد شاكر، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 254، سنة 1938م، ص 808 – 811.
38- بين الرافعي والعقاد 3: محمود محمد شاكر، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 255، سنة 1938م، ص 851 – 854.
39- بين الرافعي والعقاد 4: محمود محمد شاكر، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 256، سنة 1938م، ص 902 – 903.(/5)
40- بين الرافعي والعقاد 5: محمود محمد شاكر، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 257، سنة 1938م، ص 933 – 935.
41- لو كنت الرافعي: محمد أحمد الغمراوي، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 256، سنة 1938م، ص 887 – 888.
42- بين الرافعي والعقاد في منطق التحليل: عبد الجليل محمد المحجوب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 259، سنة 1938م، ص 1022 – 1023.
43- بين العقاد والرافعي (كلمة على الهامش أيضًا): عبد الوهاب الأمين، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 260، سنة 1938م، ص 1062 – 1063.
44- بين العقاد والرافعي وبيني وبين الرافعيين: سيد قطب، مجلة الرسالة، السنة السادسة، العدد 280، سنة 1938م، ص 1864.
45- نجوى الرافعي: محمود محمد شاكر، مجلة الرسالة، العدد 358،3 مايو 1940م، ص 824 – 826.
46- رأي الرافعي في الأستاذين طه والعقاد بمناسبة ذكراه الثالثة: أحمد حسن الزيات، مجلة الرسالة، العدد 358، 13 مايو 1940م، ص 801 – 802.
47- الرافعي ودفاعه عن الإسلام: أنور الجندي، مجلة حضارة الإسلام، السنة العشرون، العدد 8 و9، سنة 1979م، ص 77 – 81.
48- النقد عند الرافعي مفهومه وفلسفته: مصطفى نعمان البدري، مجلة المورد، المجلد التاسع، العدد الأول، 1980م، ص 27 – 41.
49- الرافعي في ميزان النقد الأوربي والإسلامي: إبراهيم عوضين، مجلة الأدب الإسلامي، المجلد الأول، العدد 2، سنة 1414هـ، ص 18 – 21.
50- الرسائل الخاصة من وجهة إسلامية (حول رسائل الرافعي): محمد رجب البيومي، مجلة الأدب الإسلامي، المجلد الثالث، العدد 11، سنة 1417هـ، ص 7 – 13.
51- محمود محمد شاكر وأستاذه الرافعي: إبراهيم الكوفحي، مجلة الأدب الإسلامي، المجلد الثالث، العدد 11، سنة 1417هـ، ص 50 – 55.
52- تاريخ الأدب العربي للرافعي: محمد رجب البيومي، مجلة الأدب الإسلامي، المجلد الرابع، العدد 13، سنة 1417هـ، ص 4 – 10.(/6)
53- بعد مضي 90 عامًا على نشره، من يجمع ديوان الرافعي المطبوع والمخطوط ؟: محمد أبو بكر حميد، مجلة الأدب الإسلامي، المجلد الرابع،العدد 15، سنة 1418هـ، ص 112.
54- الرافعي من أدب الذات إلى أدب الهدف والرسالة: عبد الحليم عويس، مجلة الأدب الإسلامي، المجلد السابع، العدد 25، سنة 1421هـ، ص 16 – 17.
رابعاً- مراجع عامَّة:
1- الأعلام: خير الدين الزركلي.
2- معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة.
3- مصادر الدراسة الأدبية: يوسف أسعد داغر، جمعية أهل القلم في لبنان، (ج 2/ 375 – 381).
4- الأعلام الشرقية في المئة الرابعة عشرة الهجرية: زكي محمد مجاهد، دار الغرب الإسلامي، ط2/ 1994م.
5- الموسوعة العربية العالمية، ط1/ 1416هـ - 1996م (11/ 74 – 75).
6- الموسوعة العربية الميسرة.
7- موسوعة المورد العربية: منير البعلبكي ورمزي البعلبكي، (1/ 531).
8- مع الشعراء: د. زكي نجيب محمود، مكتبة النهضة العربية، مصر.
9- المعجم الأدبي: جبور عبد النور، دار العلم للملايين، بيروت، ط2/ 1984م.
10- تاريخ الشعر العربي الحديث: أحمد قبش، دار الجيل، بيروت، 1971م.
11- أعلام الأدب والفن: أحمد أدهم الجندي، بيروت، 1952م.
12- تراجم الأدباء العرب: خلدون الوهابي، بغداد، 1957م.
13- أدباء معاصرون: إسماعيل أحمد أدهم، المؤلفات الكاملة، الجزء الأول، حرره وقدمه: أحمد إبراهيم الهواري، دار المعارف، القاهرة، ط2/ 1985م.
هذا ما وقفت عليه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(/7)
العنوان: الربا في ضوء الكتاب والسنة
رقم المقالة: 887
صاحب المقالة: الشيخ عبدالله خياط
-----------------------------------------
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ [البقرة: 278،279].
تقديم:
الإسلام دين العمل والكد، وبقدر ما يعمل المسلم يأخذ، وبقدر ما يغرس يحظى بالثمار، أما التَّبطُّل والقعود عن الكسب المشروع اتكالاً على مجهود الغير، أو اعتداداً بغنيمة باردة تصل إليه دون عناء وبذل جهد فليس ذلك من دين الإسلام، بل هو مناقض لما جاء به الإسلام وحض عليه ورغب فيه، ألا ترى كيف توحي الآية الكريمة التالية وأمثالها بمزاولة العمل بعد أداء فريضة الله ابتغاء رزق الله ودفعاً للتبطل؛ يقول الله - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}؛ [الجمعة: 9،10]. فالأمر بالانتشار في الأرض قرنه - سبحانه - بالفريضة التي هي عماد الدين، وفتح الأنظار للاتجاه إليه والأخذ به كمقوم للحياة ترتركز عليه، وجاء في الحديث: ((ما أكل أحد طعاماً قط خيراً له من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)) [1]، وفي حديث آخر يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفقير جاء يطلب مدداً من المال: ((لأن يحتزم أحدكم حُزمة من حطب، فيحملها على ظهره، فيبيعها خير له من أن يسأل رجلاً يعطيه أو يمنعه)) [2].(/1)
هذه مقدمة وضعناها بين يدي بحث اليوم؛ لنرْكُز في الأذهان أن الربا تبطُّل، وقعود عن الكسب المشروع، واسمتراء لحياة رتيبة لا نَصَب فيها ولا كدّ ولا عناء أو جهد، بل يعيش صاحبها على حساب الآخرين، يأكل كسبهم، ويمتص نشاطهم، ويجعلهم كالأجراء يعملون له، وليتهم يأخذون أجراً على عملهم، وإنما يأكلون من فتات المائدة لو فضل من المائدة فتات، وسوف نسير - إن شاء الله - في كتابة هذا البحث على المخطط الذي رسمناه له على ضوء الكتاب والسنة، فنبدأ أولاً بتعريف الربا لغة وشرعاً (2) الربا في آي الكتاب العزيز (3) الربا في السنة (4) حكم الربا في الإسلام، ويشتمل هذا المبحث على :-
أ- مضارّ الربا.
ب- تحريم الربا.
ج- أنواع الربا وحكم كل نوع.
د- وسائل القضاء على الربا، وبتفرع عنه ما يأتي:
1- القرض الحسن.
2- الحض على التعاون لصالح الفرد والمجتمع، وهذا التعاون يترجم عنه؛ التعاون الصناعي، والتعاون الزراعي، والتعاون الاجتماعي.
3- خطر الربا الاستهلاكي والإنتاجي.
4- خاتمة.
تعريف الربا لغة وشرعاً:
أما التعريف اللغوي فهو: الزيادة على الشيء، ومنه: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه، وربا الشيءُ إذا زاد على ما كان عليه فعظم، فهو يربو ربواً.
وإنما قيل للرابيةِ رابيةٌ لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: ربا يربو، ومن ذلك قيل: فلان في رباوة قومه. يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل الربا الأناقة والزيادة، ثم يقال: أربى فلان؛ أي: أناف ماله حين صيره زائداً.
وإنما قيل للمربي مرب؛ لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالاً، أو لزيادته عليه السبب الأجل الذي يؤخره إليه، فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه؛ ولذلك قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً}؛ [آل عمران: 130].(/2)
وأما تعريف الربا في الشرع: فيقع على معان لم يكن الاسم موضوعاً لها في اللغة، ويدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمَّى النسأ ربا في حديث أسامة بن زيد، فقال: ((إنما الربا في النسيئة))[3]، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا والريبة.
فثبت بذلك أن الربا قد صار اسماً شرعياً، لأنه لو كان باقياً على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر؛ لأنه كان عالماً بأسماء اللغة؛ ولأنه من أهلها، ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة نسأ ربا، وهو ربا في الشرع، وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان: وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الإسلام موضوعاً لها في اللغة نحو: الصلاة، والصوم، والزكاة، فهو مفتقر إلى البيان، ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع بذلك[4].
مبحث الربا في الكتاب العزيز:(/3)
ننتقل بعد هذا البسط في مدلول الربا لغة وشرعاً إلى إيراد الآيات القرآنية التي جاء فيها ذكر الربا موضحاً؛ قال - تعالى -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}؛ [البقرة: 275 - 281].
تفسير الآيات:(/4)
يقول الحافظ ابن كثير - يرحمه الله -: "لما ذكر - تعالى - الأبرار المؤدين للنفقات المخرجين للزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات - شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}؛ أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً، وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق"؛ رواه ابن أبي حاتم، ونقل - أي ابن كثير - عن بعض مفسري السلف نحو هذا المعنى، ثم استمر - يرحمه الله - في نقل الروايات عن مفسري السلف في أن قيامهم على الوضع المذكور يكون يوم القيامة ونقل عن ابن جرير بالسند إلى ابن عباس - - رضي الله عنه -ما - قال: "يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقرأ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا}؛ الآية. وذلك حين يقوم من قبره"[5]، وجاء في "فتح القدير" عند تفسير هذه الآية: "وليس المراد بقوله هنا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله، بل هو عام لكل من يعامل بالربا؛ فيأخذه ويعطيه، وإنما خص الأكل لزيادة التشنيع على فاعله، ولكونه هو الغرض الأهم؛ فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل، وقوله: {لا يَقُومُونَ}؛ أي: يوم القيامة، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود: "لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشطان من المس يوم القيامة"؛ وبهذا فسره جمهور المفسرين، قالوا: إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند أهل المحشر. وقيل: المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون؛ لأن الحرص، والطمع، والرغبة في الجمع قد استفزته، حتى صار شبيهاً في(/5)
حركته بالمجنون، كما يقال لمن يسرع في مشيه ويضطرب في حركاته: إنه قد جُنَّ؛ ومنه قول الأعشى:
وَتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرى وَكَأَنَّها أَلَمَّ بِها مِنْ طائِفِ الجِنِّ أَوْلَقُ
فجعلها - أي ناقته - بسرعة مشيها ونشاطها كالمجنون. قوله: {إلا كَما يَقُومُ الذي يَتَخَبَطُهُ الشَّيْطانُ مِن المَسِّ}؛ أي: إلا قياماً كقيام الذي يتخبطه؛ والخبط: الضرب بغير استواء كخبط العشواء، وهو المصروع، والمس: الجنون، والأمس: المجنون، وكذلك الأولق، وهو متعلق بقوله: {يَقُومُونَ}؛ أي: لا يقومون من المس الذي بهم {إلا كَما يَقُومُ الذِي يَتَخَبَطُهُ الشَّيْطانُ} أو متعلق بـ{يَقُوم}؛ وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن الصرع لا يكون من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان، ولا يكون منه مس، وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يتخبطه الشيطان.
كما أخرجه النسائي وغيره، قوله: {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من حالهم وعقوبتهم بسبب قولهم: {إِنَّما البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}؛ أي: أنهم جعلوا البيع والربا شيئا واحدا، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً والبيع فرعاً، أي: إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله؛ فإن العرب كانت لا تعرف رباً إلا ذلك، فرد الله - سبحانه - عليهم بقوله: {وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}؛ أي: أن الله أحل البيع وحرم نوعاً من أنواعه وهو البيع المشتمل على الربا، والبيع: مصدر باع يبيع، أي: دفع عوضاً وأخذ معوَّضاً، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب.(/6)
قوله: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةً مِنْ رَبِّهِ}؛ أي: من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي؛ ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا {فانْتَهى}؛ أي: فامتثل النهي الذي جاءه، وانزجر عن المنهي عنه، وهو معطوف - أي: قوله: {فانْتَهى} - على قوله {جاءه}.
وقوله: {مِنْ رَبِّهِ}، متعلق بقوله: {جاءه} أو بمحذوف وقع صفة لموعظة أي كائنة {مِنْ رَبِّهِ فَلَهُ ما سَلَفَ}؛ أي: ما تقدم منه من الربا لا يؤاخذ به؛ لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا.
وقوله {فأَمْرُهُ إِلى اللهِ}؛ قيل: الضمير عائد إلى الربا؛ أي: وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده، واستمرار ذلك التحريم. وقيل: الضمير يرجع إلى المرابي؛ أي: أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية، {ومَنْ عادَ} إلى أكل الربا، والمعاملة به {فأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيْها خالِدُونَ}، والإشارة إلى {مَنْ عادَ}، وجمع {أَصْحابُ} باعتبار معنى {مَنْ}. وقيل: إن معنى {مَنْ عادَ} هو أن يعود إلى القول بـ: {إِنَّما البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}، وأنه يكفر بذلك فيستحق الخلود، وعلى التقدير الأول يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة، كما تقول العرب: مُلْكٌ خالدٌ - أي طويل البقاء - والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار.
قوله: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا}؛ أي: يذهب بركته في الدنيا وإن كان كثيراً فلا يبقى بيد صاحبه. وقيل يمحق بركته في الآخرة.
قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}؛ قوله: {اتَّقُواْ اللّهَ}؛ أي: قوا أنفسكم من عقابه، واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضاً.(/7)
قوله - تعالى -: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}؛ قيل: هو شرط مجازي على جهة المبالغة. وقيل: أن {إِنْ} في هذه الآية بمعنى (إذ)، قال ابن عطية: وهو مردود لا يعرف في اللغة، والظاهر أن المعنى: إن كنتم مؤمنين على الحقيقة؛ فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه،
قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا}؛ يعني: ما أمرتم به من الاتقاء، وترك ما بقي من الربا {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ}؛ أي: فاعلموا بها، من أَذِن بالشيء إذا علم به. وقيل: هو من الإذن بالشيء: وهو الاستماع؛ لأنه من طرق العلم، وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزةُ: {فآذِنُوا} على معنى: فأعلموا غيركم أنكم على حربهم، وقد دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك، وتنكير الحرب للتعظيم، وزادها تعظيماً نسبتها إلى اسم الله الأعظم وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته.
قوله: {فِإِنْ تُبْتُمْ}؛ أي: من الربا {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوالِكُمْ} تأخذونها {لا تَظْلِمُونَ} غرماءكم بأخذ الزيادة {ولا تُظْلَمُونَ} أنتم من قبلهم بالمطل والنقص، والجملة حالية أو استئنافية، وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم.
قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} لما حكم - سبحانه - لأهل الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنَّظِرة إلى يسار. والعسرة: ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة. والنَّظِرة: التأخير. والمَيْسَرة: مصدر بمعنى اليُسْر. وارتفع {ذو} بكان التامة، بمعنى وُجِد، واستمر في شرحه لِرفع {ذو} ثم أورد رواية للمعتمر عن حجاج الوراق قال في مصحف عثمان {إن كان ذا عسرة}.
قال النحاس، ومكي، والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ {ذو} فهي عامة في جميع مَن عليه دين، وإليه ذهب الجمهور.(/8)
قوله {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} بحذف إحدى التائين، وقرئ بتشديد الصاد؛ أي: وأن تصدقوا على معسر غرمائكم بالإبراء خير لكم، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على من أَعْسَر، وجعل ذلك خيراً من إنظاره. قاله السدي.
ونقل ابن جرير الطبري في "تفسيره": أن المراد التصدق برؤوس أموالكم على الغني والفقير منهم، قال: "وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: معناه: وأن تصدقوا على المعسر برؤوس أموالكم خير لكم؛ لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين، وإلحاقه بالذي يليه أحب إلى من إلحاقه بالذي بَعُد منه"[6].
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابه محذوف؛ أي: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به. قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً} هو يوم القيامة، وتنكيره للتهويل، وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف.
قوله: {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ} وصف له، وذهب قوم إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت. وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة، كما تقدم. قوله: {إِلى اللهِ} وفيه مضاف محذوف تقديره: إلى حكم الله {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس المكلفة {ما كَسَبَتْ}؛ أي: جزاء ما عملت من خير أو شر، وجملة {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} حالية، وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء، كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب.(/9)
وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس؛ وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}؛ قال: "نزلت في العباس بن عبدالمطلب، ورجل من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلة يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا. فأنزل الله هذه الآية"، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: "كانت ثقيف قد صالحت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة، وكان بنو المغيرة يُرْبُون لهم في الجاهلة، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير، فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}. فكتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عتاب، وقال: ((إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب))؛ وبسند ابن جرير وغيره عن ابن عباس في قوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} قال: "من كان مقيماً على الربا، لا ينزع منه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه". وأخرجوا أيضاً عنه في قوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} قال: "استيقنوا بحرب".
وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمرو الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ألا وإن كل ربا في الجاهلة موضوع، لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، وأول رباً موضوعٍ ربا العباس)).(/10)
وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال: "نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}". وبالسند عن ابن عباس في قوله - تعالى -: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} قال: "نزلت في الربا".
وأخرج عبدالرزاق بالسند عن ابن جريج عن الضحاك في الآية قال: "وكذلك كل دين على مسلم".
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه، وقد وردت أحاديث صحيحة في "الصحيحين" وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره. وبالسند عن ابن عباس قال: "آخر آية نزلت من القرآن {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ}". وعن ابن عباس أيضاً: "كان بين نزولها وبين موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد وثمانون يوماً". وعن سعيد بن جبير: "أنه عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزولها تسع ليالٍ"؛[7] أ.هـ.
خلاصة التفسير:
تلخص من مجموع ما أوردناه في تفسير الآيات ما يأتي:
1 - المراد بأكل الربا جميع التصرفات، وعبَّر عن ذلك بالأكل؛ لأنه الغرض الرئيس وغيره من الأغراض تبع له.
2 - تشبيه المرابي بالمصروع؛ لأن المصروع يتخبط في سيره، فينهض ويسقط، وكذلك آكل الربا يوم القيامة.
3 - تشبيه البيع بالربا مبالغة في جعل الربا أصلاً في الحل والبيعِ فرعاً، والعكس هو الصحيح.
4 - الْمَحْقُ يشمل ما يأتي:
أ - المحق بالكلِّية، بحيث يذهب المال من يد المرابي دون أن ينتفع به.
ب - محق بركة المال مهما كثر، فإن عاقبته إلى قُلٍّ.
5 - إسدال الستر على ما سبق من تعاطي الربا قبل تحريمه، فلا يلحق المرءَ تبعتُه.
6 - الترغيب في بذل الصدقات للوعد الكريم بتنمية الله لها.
7 - الوعيد الشديد لمن يزاول تعاطي الربا بعد التحريم.
8 - للمرابي أن يأخذ رأس ماله ويدع الزيادة عليه.
9 - الترغيب في إنظار المعسر، أو إبراء ذمته من الدين.
10 - توجيه الأنظار ليوم القيامة، والتذكير بالوقفة فيه أمام رب العزة للحساب والجزاء على الأعمال.(/11)
مبحث الربا في السنة النبوية:
قوام الدين وعماده والمصدر الذي يؤخذ منه التشريع كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد عرضنا فيما تقدم من هذا البحث للآيات التي ورد فيها ذكر الربا وتحريمه والوعيد عليه ونردف ذلك بما ورد في السنة النبوية في موضوع الربا، ولن نستعرض كل الأحاديث الواردة في ذلك وإنما نكتفي منها بما يلي:
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبوا السبع الموبقات)). قالوا يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات))؛ رواه البخاري ومسلم.
الشرح:
قوله: ((اجتنبوا))؛ أي: ابعُدوا وهو أبلغ من قوله: دعوا واتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ، كقوله {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}؛ [الأنعام: 151].
قوله: ((الموبقات))؛ أي: المهلكات، وسميت هذه موبقات؛ لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب، وفي حديث ابن عمر عند البخاري في "الأدب المفرد"، والطبري في "التفسير"، وعبدالرزاق مرفوعاً، وموقوفاً قال: ((الكبائر تسع)). وذكر السبعة المذكورة، وزاد ((الإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين)). إلى آخر ما أفاض فيه شارح الحديث في تَعداد الكبائر.
قوله: ((الشرك بالله)) هو: أن يجعل لله نداً يدعوه، ويرجوه، ويخافه كما يخاف الله؛ بدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به في الأرض، كما في "الصحيحين" عن ابن مسعود: "سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم عند الله. قال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك))؛ الحديث. وأخرجه الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال ثم أورد الحديث بتمامه وقال: صحيح.(/12)
قوله: ((السحر))؛ السحر في اللغة: هو ما خفي ولطُف سببه، وقال في "الكافي": "السحر عزائم، ورقى، يؤثر في القلوب والأبدان؛ إلى آخر ما أفاض فيه الشارح - - يرحمه الله -.
قوله: ((وقتل النفس التي حرم الله))؛ أي: حرم الله قتلها: وهي نفس المسلم المعصوم ((إلا بالحق))؛ أي: بأن تفعل ما يوجب قتلها.
قوله ((وأكل الربا))؛ تناوله بأي وجه كان، كما قال - تعالى -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}؛ الآيات من سورة البقرة، قال ابن دقيق العيد: "وهو مجرب لسوء الخاتمة - نعوذ بالله من ذلك.
قوله: ((وأكل مال اليتيم))؛ يعني: التعدي فيه وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع.
قوله: ((والتولي يوم الزحف))؛ أي: الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة، أو غير متحرِّف لقتال، كما قيد به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ *وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}؛ [الأنفال: 15، 16].
وقوله: ((وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات))؛ أي: المحفوظات من الزنا، والمراد الحرائر العفيفات[8].
2 - حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه، وكاتبه"؛ رواه الخمسة، وصححه الترمذي، غير أن لفظ النسائي: "آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه، وكاتبه، إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة".(/13)
3 - حديث عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((درهم من ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية))؛ رواه أحمد.
الشرح:
حديث ابن مسعود أخرجه أيضاً ابن حبان، والحاكم وصححاه، وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: ((هم سواء)).
وفي الباب عن علي - رضي الله عنه - عند النسائي، وعن أبي جحفة، وحديث عبدالله بن حنظلة أخرجه أيضاً الطبراني في "الأوسط" و"الكبير". قال في "مجمع الزوائد": ورجال أحمد رجال الصحيح. ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ: ((الربا اثنان وستون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه))؛ وهو حديث صحيح. وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ: ((الربا ثلاثة وسبعون باباً، أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه)). وأخرج ابن جرير نحوه، وكذلك أخرج عنه نحوَه ابنُ أبي الدنيا. وحديث عبدالله ابن مسعود عند الحاكم، وصححه بلفظ: ((الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)). وأخرج ابن جرير نحوه، وكذلك أخرج عنه نحوَه ابنُ أبي الدنيا. وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم، وصححه بلفظ: ((الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عِرْض الرجل المسلم))؛ وهو حديث صحيح.
وقوله: ((آكل الربا ومؤْكله))؛ بسكون الهمزة بعد الميم، ويجوز إبدالها واواً؛ أي: ولعن مُطْعِمه غيرَه، وسمي آخذ المال آكلاً ودافعه مؤكلاً؛ لأن المقصود منه الأكل وهو أعظم منافعه، وسببه إتلاف أكثر الأشياء.
قوله: ((وشاهديه))؛ رواية أبي داود بالإفراد، والبيهقي ((وشاهديه - أو شاهده)).
قوله: ((وكاتبه))؛ دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك، وكذلك الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم، فأما من كتب، أو شهد غير عالم فلا يدخل في الوعيد.(/14)
قوله: ((أشد من ست وثلاثين))؛ إلخ يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور، بل أشد منها لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح، وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم؛ ولهذا جعله الشارع أربى الربا، فالرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة، ولا تزيد في ماله ولا جاهه فيكون إثمه عند الله أشد من إثم مَن زنى ستاً وثلاثين زنية، هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل[9].
4 - حديث سمرة بن جندب الطويل نجتزئ منه بما يلي؛ قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الغداة أقبل علينا بوجهه، فقال: ((هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا)). فإن كان أحد رأى فيها رؤيا قصها عليه، فيقول فيها ما شاء الله، فسأَلَنا يوماً ((هل رأى أحد منكم رؤيا)). فقلنا لا. قال: ((ولكني رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى أرض مستوية - أو فضاء - فمررنا برجل جالس، ورجلٌ قائم على رأسه وبيده كلوب من حديد يدخله في شدقة فيشقه حتى يبلغ فاه، ثم يفعل بشدقة الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا فيعود فيه فيصنع به مثل ذلك، قال: قلت: ما هذا؟! قالا: انطلق - واستمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سرد رؤيته إلى أن قال - فانطلقنا حتى نأتي على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى شط النهر رجل قائم بين يديه حجارة، فأقبل ذلك الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج منه رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فرده حيث كان، فقلت لهما: ما هذا؟! قالا: انطلق))؛ الحديث أخرجه البخاري، نعرض بعد هذا للإيضاح عن الفقرات التي وردت في هذا الحديث عن الملكين:(/15)
((قالا: أما الرجل الذي رأيت يشق شدقه: فإنه رجل كذاب يتحدث بالكذبة فتُحمَل عنه حتى تبلغ الآفاق، فهو يصنع به ما ترى إلى يوم القيامة، وأما الرجل الذي رأيته يشدَخ رأسُه: فإن ذلك رجل علَّمه الله القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل بما فيه بالنهار، فهو يُعمَل به ما رأيت إلى يوم القيامة، وأما الذي رأيت في نهر الدم فذاك آكل الربا))؛ وهذه الفِقرة هي المقصودة من إيراد هذا الحديث[10].
وعلق الإمام الذهبي في كتابه الكبائر على هذا الحديث أو على الفِقرة التي جاء فيه الوعيد لآكل الربا بقوله: "إن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر، الذي هو مثل الدم، ويلقم بالحجارة، وهو المال الحرام الذي كان جمعه في الدنيا يكلف المشقة فيه ويلقم حجارة من نار، كما ابتلع الحرام في الدنيا، هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله له، كما في حديث أبي أمامة بسند ضعيف جداً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أربع حق على الله ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها؛ مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه، إلا أن يتوبوا))؛ أخرجه الحاكم، وأبو الشيخ، والمقدسي في "المختارة"، وقد ورد أن أكلة الربا يحشرون في صور الكلاب والخنازير من أجل حيلهم على أكل الربا، كما مسخ أصحاب السبت حين تحيلوا على إخراج الحيتان التي نهاهم الله عن اصطيادها يوم السبت فحفروا لها حياضاً تقع فيها يوم السبت فيأخذونها يوم الأحد، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله قردة وخنازير. وهكذا الذين يتحيلون على الربا بأنواع الحيل فإن الله لا تخفى عليه حيل المحتالين[11]؛ أهـ.
وحسبنا الأحاديث التي أوردناها عن الربا وبشاعته وعقوبة المرابين ننتقل بعد ذلك إلي:
مبحث حكم الربا في الإسلام:(/16)
وقد تقدم من آي الكتاب العزيز، والسنة النبوية ما يشعر ويوجب تحريم الربا مما لا يدع مجالاً للتردد في ذلك، أو التأويل، ولم يحرِّم الإسلام شيئاً إلا لحكمة واضحة، أو منفعة تعود على العباد، وتبعاً لتحريمه حرم الوسائل المفضية إليه؛ سداً للذريعة؛ فمثلاً حرم بيع العِينة - بكسر العين، وفتح النون - وهي: أن تباع سلعة بثمن معلوم إلى أجل، ثم يشتريها البائع من المشتري بأقل ليبقى الكثير في ذمته، وسميت عِينة لحصول العين - أي: النقد - فيها؛ ولأنه يعود إلى البائع عين ماله، واستُدِل لتحريم بيع العينة بالحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تُراجِعوا دينكم)).
ففي هذا الحديث دليل على تحريم هذا البيع، وذهب إليه مالك، وأحمد، وبعض الشافعية قالوا: لما فيه من تفويت مقصد الشارع من المنع عن الربا، وسد الذرائع. قال القرطبي: "لأن بعض صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلاً، وبكون الثمن لغواً"[12]؛ أ هـ. نعود إلى الحديث - المذكور آنفاً ((إذا تبايعتم بالعينة))؛ الحديث - لنكشف عن صحته وهل عليه مأخذ من حيث سندُه يهبط به عن درجة الصحة.(/17)
يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - حفظه الله - في كتابه "سلسلة الأحاديث الصحيحة": "هو حديث صحيح؛ لمجموع طرقه، وقد وقفت على ثلاث منها كلها عن ابن عمر - رضي الله عنه – مرفوعاً؛ الأولى: عن إسحاق أبي عبدالرحمن أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعاً حدثه عن ابن عمر قال فذكره - أي الحديث - إلى أن قال - أي الشيخ الألباني - روى ذلك من وجهين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر يشير بذلك إلى تقوية الحديث - وقد وقفت على أحد الوجهين المشار إليهما وهو الطريق الثانية عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر أخرجه أحمد. الثالثة: عن شهر بن حوشب عن ابن عمر رواه أحمد.(/18)
ثم وجدنا له شاهداً من رواية بشير بن زياد الخراساني: حدثنا ابن جريج عن عطاء عن جابر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره - أي الحديث - أخرجه ابن عدي في ترجمة بشير هذا من "الكامل"، وهو غير معروف، في حديثه بعض النكارة. وقال الذهبي: ولم يترك[13]. وجاء في "معالم السنن" توجيه الخطابي لوجهة نظر المحرِّمين للعِينة: قال المحرمون للعينة: الدليل على تحريمها من وجوه؛ أحدها: أن الله - تعالى - حرم الربا، والعينة وسيلة إليه، بل هي من أقرب وسائله، الوسيلة إلى الحرام حرام، فهنا مقامان؛ أحدهما: بيان كونها وسيلة، والثاني: بيان الوسيلة إلى الحرام حرام. فأما الأول فيشهد له النقل، والعرف، والنية، والقصد، وحال المتعاقدين ثم أورد جملة أحاديث تصور البيع بالعينة إلى أن قال: وأما شهادة العُرف بذلك فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم الله وعباده من المتبايعين قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقداً يقصدان به تملكها، ولا غرض لهما فيها بحال، وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول، مئة بمئة وعشرين وإدخال تلك السلعة تلبيس وعبث، وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه، بل جيء به لمعنى في غيره حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها مورداً للعقد؛ لأنهم لا غرض لهم فيها، وأهل العُرْفِ لا يكابرون أنفسهم في هذا. وأما النية والقصد فالأجنبي المشاهِدُ لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة، وإنما القصد الأولُ مئة بمئة وعشرين فضلاً عن علم المتعاقدين ونيتهما؛ ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد، ثم يُحضِران تلك السلعة تحليلاً لما حرم الله ورسوله.(/19)
وأما المقام الثاني: وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام فبانت بالكتاب، والسنة، والفطرة، والمعقول؛ فإن الله - سبحانه - مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون مثل ذلك مخادعة كما تقدم، وقال أيوب السختياني: "يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل". والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين سواء كانت لغوية أم شرعية، والخداع حرام، وهذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو أكبر من الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نَقْلُ الملك فيه أصلاً. وإنما قصده حقيقة الربا.
والطريق متى أفضت إلى الحرام فإن الشريعة لا تأتي بأختها أصلاً؛ لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه، بل لابد من تحريمهما أو إباحتهما، والثاني باطل قطعاً فتعين الأول.
وليعلم أن الشارع إنما حرم الربا لأن فيه أعظم الفساد والضرر، فلا يتصور مع هذا أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل[14]؛ أهـ.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله - جملة فتاوى في مسألة بيع العينة؛ منها أنه سئل عن رجل طلب من إنسان ألف درهم إلى سنة بألف ومئتي درهم، فباعه فرساً أو قماشاً بألف درهم واشتراه منه بألف ومئتي درهم إلى أجل معلوم.(/20)
فأجاب: "لا يحل له بذلك، بل هو رباً باتفاق الصحابة والعلماء، كما دلت على ذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل ابن عباس - رضي الله عنه - عن رجل باع حريرة ثم ابتاعها لأَجْلِ زيادة درهم. فقال: "دراهم بدراهم، دخلت بينهما حريرة". وسئل عن ذلك أنس بن مالك. فقال: "هذا مما حرم الله ورسوله". وقالت عائشة - رضي الله عنها - لأم ولد زيد بن أرقم في نحو ذلك: "بئس ما شريتِ، وبئس ما اشتريتِ، أخبري زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب". فمتى كان مقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل؛ فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
فسواء باع المعطى الأجل أو باع الأجل المعطى ثم استعاد السلعة، وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من باع بيعتين في بيعة فله أَوْكَسُهما أو الربا)). وفيها أيضاً: ((إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)). وهذا كله بيع العينة. وهو: بيعتان في بيعة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك))؛ قال الترمذي: حديث صحيح. فحرم - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع الرجل شيئاً ويقرضه مع ذلك؛ فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض؛ حتى ينفعه، فهو ربا.
وهذه الأحاديث وغيرها تبين أن ما تواطأ عليه الرجلان بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه رباً، سواء كان يبيع ثم يبتاع، أو يبيع ويُقرض، وما أشبه ذلك، والله أعلم[15].
الخلاصة:
اتضح مما أوردنا من آي الكتاب العزيز وتفسيرها، والسنة النبوية وشروحها، وأقوال الصحابة والتابعين - تحريم الربا في الإسلام والوسائل المفضية إليه، فتلخص من ذلك ما يأتي:
1 - النهي عن تعاطي الربا بكل الألوان والوسائل.
2 - أنه من الموبقات أي المهلكات.(/21)
3 - أنه من كبائر الذنوب.
4 - لعن آكل الربا ومؤكله وكل من تعاون عليه بكتابة أو شهادة.
5 - معصية أكل الربا تجاوزت الحد في القبح؛ لأنها تعدل معصية الزنا.
6 - آكل الربا - كما جاء في حديث سمرة وتعليق صاحب شرح السنة - يعذب في البرزخ بالسباحة في النهر الأحمر، ويلقم بحجارة من نار، وعليه اللعنة ثم الحيلولة بينه وبين دخول الجنة.
7 - حرمة عِرض المسلم، وتحريم الاستطالة فيه.
8 - أكلة الربا يحشرون في صورة الكلاب والخنازير من أجل تحيلهم على أكله.
9 - من وسائل التحيل لآكل الربا بيع العينة.
10 - الوعيد الوارد على التبايع بالعينة.
11 - الوسيلة للحرام محرمة.
12 - تحريم الربا وإباحة الوسيلة الموصلة إليه هو جمع بين النقيضين، وذلك لا يقره الإسلام.
13 - لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما لم يكن تحت تصرف البائع.
14 - ما تواطأ عليه البائع والمشتري بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه ربا سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض وأمثال ذلك.
مضار الربا وحكمة تحريمه:(/22)
قلت في مقدمة هذا البحث أن الإسلام دين العمل وبقدر ما يعمل المسلم يأخذ، أما التبطُّل والقعود عن الكسب المشروع اتكالاً على مجهود الغير، أو اعتداداً بغنيمة باردة تصل إليه فليس ذلك من دين الإسلام، بل هو مناقض لما جاء به الإسلام ومن ثَمَّ نجد المدخل لمضارِّ الربا فهو تبطُّل يعيش المتعاطي له على حساب الغير؛ يأكل كسبهم، ويمتص نشاطهم إلى آخر ما سطرته في المقدمة إضافة إلى أنه يسبب العداء بين أفراد المجتمع، ودين الإسلام دين التراحم والتعاطف والمساواة لا يقر الهامل الذي يعيش كالمتطفل على كدْح غيره، يستمرئ حياة الدَّعة ليأكل الربا غنيمة باردة دون عناء وجَهد في الكسب؛ ولذلك أباح الله البيع وحرم الربا للفارق العظيم بين البيع والربا؛ فالبيع: كد وجهد مبذول ولقمة يأكلها البائع من عرق الجبين، بخلاف المرابي فإنه تتضخم ثروته وينمو ماله بالغنيمة الباردة التي يبتزها من الفقير المحتاج.(/23)
وهنالك خَسارة قد تحيق بالمرابي دون أن يحسب لها حساباً ألا وهي هبوط الأسعار والديون التي أثقل بها نفسه، وأخذها بفائدة؛ ليوسع بها تجارته، قد ينجم عنه الإفلاس، فهو مضطر إذا حان أجل السداد أن يبيع السلعة برأس مالها؛ حتى يأتي على كل السلع التي تحت يديه التي كانت قوام تجارته، ويغدو صِفر اليدين، بل قد تلجئه الحاجة إلى أن يتكفَّف الناس، أو يركن إلى الاستدانة، وذلك ما تترجم عنه الآية الكريمة {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا}، والحديث النبوي الشريف ((الربا وإن كثر فإنَّ عاقبته إلى قُلٍّ))، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر بعض العلماء المعاصرين عن مضار الربا؛ أنه وسيلة للاستعمار وشقائه، فقد ثبت أن الغزو الاقتصادي القائم على المعاملات الربوية كان التمهيدَ الفعّال للاحتلال العسكري الذي سقطت أكثر دول الشرق تحت وطأته، فقد اقترضت الحكومات الشرقية بالربا، وفتحت أبواب البلاد للمرابين الأجانب فما هي إلا سنوات معدودة حتى تسربت الثروة من أيدي المواطنين إلى هؤلاء الأجانب، حتى إذا أفاقت الحكومات وأرادت الذود عن نفسها وأموالها استعدى هؤلاء الأجانب عليها دولهم فدخلت باسم حماية رعاياها، ثم تغلغلت هي كذلك فوضعت يدها مستثمرة مرافق البلاد؛ ولهذا لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: ((هم سواء))[16].
أما حكمة تحريم الربا فتشمل الجانب الاقتصادي، والأخلاقي، والاجتماعي، وتفصيل ذلك ملخصاً فيما جاء في تفسير الفخر الرازي وهي كما يلي:
1 - أن الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض؛ لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين يحصل له زيادة درهم من غير عوض. ومال الإنسان متعلق بحاجته، وله حرمة عظيمة، كما جاء في الحديث ((حرمة مال المسلم كحرمة دمه)). فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرماً.(/24)
2 - أن الاعتماد على الربا يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والصناعات الشاقة والتجارة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق. ومن المعلوم أن مصالح العالَم لا تنتظم إلا بالتجارات، والحرف، والصناعات، والعمارات، وهذا هو الجانب الاقتصادي.
3 - أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الربا إذا حرم طابت النفوس بقرض الدراهم واسترجاع مثله. ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين فيفضي ذلك إلا انقطاع المواساة والمعروف والإحسان، وهذا هو الجانب الأخلاقي.
4 - أن الغالب أن المقرض يكون غنياً والمستقرض يكون فقيراً، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين مَنْ يأخذ من الفقير الضعيف مالاً زائداً، وذلك غير جائز برحمة الرحيم، وهذا هو الجانب الاجتماعي، ومعنى هذا أن الربا فيه اعتصار الضعيف لمصلحة القوي، ونتيجته أن يزداد الغني غنى والفقير فقراً، مما يفضي إلى تضخم طبقةٍ من المجتمع على حساب طبقة أو طبقات أخرى، مما يخلق الأحقاد والضغائن، ويورث نار الصراع بين المجتمع بعضه ببعض، ويؤدي إلى الثورات المتطرفة والمبادئ الهدامة، كما أثبت التاريخ القريب خطر الربا والمرابين على السياسة والحكم والأمن المحلي والدول جميعاً[17].
أنواع الربا وحكم كل نوع:(/25)
الشح خُلَّة ضعة وهوان تُزْري بصاحبها وتجعله نشازاً في مجتمعه يجمع المال ويشح بإنفاقه حتى على مصالح نفسه، وعلى العكس منه البذل بسخاء خاصة في وجوه البر والخير، وإغاثة الملهوف، وكل ما فيه مصلحة للمجموع، وعلى هذا الاعتبار جاء تحريم الربا والترغيب في البذل ابتغاء كريم الأجر، ونزل القرآن والعرب تتعامل بالربا لتفكك مجتمعهم وانفصام عرى التآلف بينهم، فعندما تنزل الحاجة بأحدهم، أو يوصله الفقر بالرغام لا يجد من يسعفه أو يعينه في محنته، أو ينقذه من ذل الحاجة إلا بنكبته بالزيادة على ما يقرضه، والمفاضلة بين ما يقبضه ويعيده من مال، وذلك هو الربا الذي جاء الإسلام بتحريمه، وقد أوردنا من آي الكتاب العزيز والسنة المطهرة ما يكفي عن المزيد، بقي أن نوضح نوعية الربا المحرم والذي كانت العرب تتعامل به، جاء في كتاب "أحكام القرآن": "قوله: الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجَلٍ بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد إذا كان متفاضلاً من جنس واحد، هذا كان المتعارف المشهور بينهم؛ ولذلك قال - تعالى -: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ}؛ [الروم: 39].فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين لأنه لا عوض لها من جهة المقرض، وقال - تعالى -: {لا تَأْكُلُوا الرِّبوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً} إخبار عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافاً مضاعفة، فأبطل الله الربا الذي كانوا يتعاملون به، وأبطل ضروباً من البياعات وسماها ربا، فانتظم قوله – تعالى -: {وَحَرَّمَ الرِّبا} تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرناه من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة[18]. أهـ.(/26)
وذكر صاحب "تفسير آيات الأحكام" أن الربا ينقسم إلى قسمين: ربا النسيئة، وربا الفضل، فربا النسيئة: هو الذي كان معروفاً بين العرب في الجاهلية لا يعرفون غيره، وهو أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً، فإذا حل الأجل طولب المدين برأس المال كاملاً، فإن تعذر الأداء زادوا في الحق والأجل.
وربا الفضل أن يباع من الحنطة (مَنَا) بـ (منوين) منها، أو درهم بدرهمين، أو دينار بدينارين، أو رطل من العسل برطلين، وقد كان ابن عباس لا يحرِّم إلا القسم الأول، وكان يجوِّز ربا الفضل؛ اعتماداً على ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنما الرِّبا في النَّسيئة))، ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((الحنطة بالحنطة، مثلاً بمثل، يداً بيد)، وذكر الأصناف الستة، كما رواه عبادة بن الصامت وغيره؛ رجع عن قوله.
وأما قوله - عليه السلام -: ((وإنما الرِّبا في النسيئة)) فمحمولٌ على اختلاف الجنس؛ فإن النسيئة حينئذٍ تحرم ويباح التفاضل؛ كبيع الحنطة بالشعير، تحرم فيه النسيئة، ويباح التفاضل؛ ولذلك وقع الاتفاق على تحريم الربا في القسمين.(/27)
أما الأول: فقد ثبت تحريمه بالقرآن. وأما الثاني: فقد ثبت تحريمه بالخبر الصحيح؛ كما روي عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والمِلح بالمِلح مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)). واشتهرت روايته هذه حتى كانت مسلَّمة عند الجميع، ثم اختلف العلماء بعد ذلك، فقال نُفاة القياس: إن الحرمة مقصورةٌ على هذه الأشياء الستة، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء: إن الحرمة غير مقصورة على هذه الأشياء الستة؛ بل تتعداها إلى غيرها، وإن الحرمة ثبتت في هذه الستة لعلة، فتتعدَّى الحرمة إلى كل ما توجد فيه تلك العلة.
ثم اختلفوا في هذه العلة؛ فقال الحنفية: إن العلة هي اتحاد هذه الأشياء الستة في الجنس والقدر - أي: الكيل والوزن - فمتى اتحد البدلان في الجنس والقدر حرم الربا، كبيع الحنطة بالحنطة، وإذا عُدِما معاً حل التفاضل والنسيئة، كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل، وإذا عدم القدر واتحد الجنس حل الفضل دون النسيئة، كبيع عبد بعبدين، وإذا عدم الجنس واتحد القدر حل الفضل دون النسيئة أيضاً، كبيع الحنطة بالشعير.
وقال المالكية: إن العلة هي اتحاد الجنسين مع الاقتيات أو ما يَصلُح به الاقتيات وقال الشافعية: إن العلة في الذهب والفضة هي اتحاد الجنس مع النقدية، وفي الأشياء الأربعة الباقية اتحاد الجنس مع الطعم، والتفاضل في أمر الربا يعلم من كتب الفقه[19].
نوعية الربا كما أوضحها ابن القيم:
وقفتُ في جملة ما وقفتُ عليه من المراجع على كتاب بعنوان "الودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام" لمؤلفه حسن عبدالله الأمين، أورد فيه نص ابن قيم الجوزية - رحمه الله - عن نوعية الربا، وقدَّم له بقوله:(/28)
"تكلمنا فيما سبق عن التقسيم الفقهي القديم للربا: ربا النسيئة وربا الفضل، وبقي هناك قسم ثالث للربا، وضعه عالم جليل هو ابن قيم الجوزية، وهو تقسيم يتفق في مضمونه مع تقسيم الربا إلى: ربا ديون، وربا بيوع، ولكنه يسمِّي الأول الربا الجلي، وأن تحريمه تحريم مقاصد؛ لأنه ثابت بالقرآن الكريم وهو ما كانت تفعله الجاهلية، ويسمي النوع الثاني الربا الخفي، وأنه حُرِّم سداً للذريعة من الربا الجلي، فتحريمه تحريم وسيلة، وهو الذي ثبت بالسنة في الأصناف الستة، ثم ذكر النص من كتاب "إعلام الموقعين" فقال - أي ابن القيم -: الربا نوعان: جلي وخفي؛ فالجلي حُرِّم لما فيه من الضرر العظيم. والخفي حُرم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصداً، وتحريم الثاني وسيلة، فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ مثل أن يؤَخِّر دينه ويزيده في المال. وكلَّما أخَّره زاد في المال حتى تصير المئة عنده آلافاً[20].
وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع، كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، فإني أخاف عليكم الرَّمَاء))؛ والرَّمَاء: هو الربا، فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهماً بدرهمين - ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين، إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة وغير ذلك - تدرَّجوا بالربح المعجَّل فيها إلى الربح المؤخر، وهو عين ربا النسيئة، وهذه ذريعة قريبة جداً، فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذرائع، ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقداً أو نسيئة[21].
التعامل مع البنوك:
التعامل مع البنوك على إقراض المال بفائدة مشروطة محددة كاثنين في المئة مثلاً، أو أكثر، أو أقل: هل هو من أنواع الربا المحرَّم أم له احتمال آخر؟(/29)
نعود مرة أخرى إلى كتاب "الودائع المصرفية" المذكور آنفاً، فنجد المؤلف يقرر بصراحة أن معنى الزيادة في القرض عند العقد هي إحدى صورتي ربا الجاهلية، الذي حُرِّم تحريماً قاطعاً بنص القرآن - ونص كلامه كالآتي: "إذا كان معنى الفائدة يختلف عن معنى الربح في المصطلح الفقهي، ولا يلتقي معه بحال؛ فماذا يكون موقف الفائدة من الربا؛ هل تلتقي معه في إحدى صوره، أم أنها تختلف عنه كما اختلفت عن الربح، ولا تلتقي معه في واحدة منها؟".
ثم أفاض في البسط حتى قال: "تبين لنا على ضوء ما تقدم أن معنى الفائدة يلتقي تماماً في مقاييس الفقه والشريعة الإسلامية بمعنى الزيادة في القرض عند العقد، وهي إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي حُرِّم تحريماً قاطعاً بنص القرآن؛ بل هي الصورة البارزة في ربا الجاهلية، حتى إن الجصَّاص بالغ في التوكيد عليها، لدرجة أنه قال: "ولم يكن تعاملهم – أي: عرب الجاهلية - بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا، من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع الزيادة؛ فالفائدة إذن ما هي إلا زيادة مشروطة في قرض مؤجل لمصلحة المودع في حالة الودائع المؤجلة، أو ودائع الادِّخار، بدليل عدم وجودها في الودائع الجارية – أي: تحت الطلب - مع أنها هي أيضاً معتبرة قرضاً في الفقه والتشريع، كما أنها زيادة في قرض مؤجل أيضاً لمصلحة البنك في حالة إقراضه لشخص آخر، فالزيادة في حالة استقراض البنك بقبول الودائع المؤجلة، أو إقراضه بدفع قروض من أمواله الخاصة، أو من ودائع المقترضين الآخرين هي ربا؛ بل هي الربا الذي لا يشك فيه؛ لأنها إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي كانوا يتعاملون به، الذي حرمه القرآن تحريماً قاطعاً بقوله - تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وقال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: ((ربا الجاهلية موضوع؛ وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب)) [22].
تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي:(/30)
يفرق بعض علماء الاقتصاد الغربيين بين تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي، بدعوى أن تحريم الربا كان من الضروريات في الماضي، وأن إباحته في هذا العصر من الضروريات أيضاً؛ لأن الدَّين فيما مضى كان للاستهلاك، وأما الآن فهو للإنتاج. وهو زعم متداع؛ لأن الربا إن كان للاستهلاك فهو لنفقة المستدين على حاجاته الضرورية، فإنه لا يجوز أن يُرهَق بردِّ زائدٍ على دَيْنه، فحسبه أن يرد أصل الدين عند الميسرة. وإن كان للإنتاج فالأصل أن الجهد الذي يبذله المستدين هو الذي ينال عليه الربح لا المال الذي يستدينه، فالمال لا يربح إلا بالجهد[23].(/31)
وفي إطار الحديث عن أنواع الربا يتحدث الداعية الإسلامي أبو الأعلى المودودي في الفصل الخامس من كتابه "الربا" تحت عنوان: الربا وأحكامه فيقول: "إن الربا هو الزيادة التي ينالها الدائن من مَدِينه نظير التأجيل، وهذا النوع من الربا يصطلح عليه شرعاً بربا النسيئة، أي: الزيادة بسبب النسيئة وهي التأجيل، وهذا النوع من الربا هو المنصوص على تحريمه في القرآن، وأجمع على تحريمه السلف الصالح والعلماء المجتهدون من بعدهم، وتعاقبت القرون على ذلك الإجماع، ولم يتطرق إليه الرَّيْب في عصر من العصور"، واستمر في البسط إلى أن قال: "لقد كان الإسلام إنما نهى عن التعامل بالربا في شؤون الدَّين والقرض في بادئ الأمر"، واستمر في البسط فتحدث عن ربا الفضل، وقال: "وهذا النوع أيضاً قد حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه يفتح الباب في وجه الناس إلى الربا الصريح، وينشئ فيهم عقلية من نتائجها اللازمة شيوع المراباة في المجتمع، وذلك عين ما أوضحه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((لا تبيعوا الدرهم بدرهمين؛ فإني أخاف عليكم الرَّمَاء))؛ وهو الربا، وتحدث عن حكم ربا الفضل، وأورد حديث عبادة بن الصامت، وجملة أحاديث في معناه، ثم علق عليها تعليقاً ضافياً، ثم ذكر خلاف الفقهاء في علة تحريم ربا الفضل، وخَلُص من ذلك إلى القول بأن الاختلاف بين المذاهب في الأمور التي يدخلها الربا إنما هو من الأمور المشتبهة الواقعة على الحد بين الحلال والحرام، فإن حاول أحد الآن مُحتَجّاً بهذه المسائل المختلف فيها أن يرمي بالاشتباه أحكام الشريعة في المعاملات التي قد وردت النصوص على كونها من الربا، ويفتح باب الرُّخَص والحِيَل بهذا الطريق للاستدلال، ويدعو الأمة إلى سلوك طرق الرأسمالية فلا شك أنه يعد تاركاً للكتاب والسنة للظن والخرص، وضالاً مضلاً، ولو كان مخلصاً صادق النية عند نفسه[24]". أهـ.
وسائل القضاء على الربا:(/32)
من مزايا دين الإسلام أنه لم يحرم شيئاً إلا أوجد له بديلاً يغني عنه، ويأخذ بحُجَز المسلمين من أن يقعوا في المحرم المنكور، ولا نطيل ضرب الأمثلة لذلك، وإنما نكتفي بتحريم الخمر: أبدل الله المسلمين عن شربها بشرب جميع العصيرات والمنتبذات مما لا يكون فيه شبهة حرام، وعندما حرَّم الربا أباح البيع والتجارة في الأمور المباحة وأنواع المضاربة، وهكذا، فلم يرهق المسلم من أمره عسراً، ولم يكلفه شططاً وإنما أوجد له الحلول، وشرع وسائل من شأنها القضاء على الربا، والتجافي عنه، والترفع عن مزالقه، والتورط في إثمه ويشمل ذلك ما يأتي:
(أ) القرض الحسن: فبدلاً من أن يقرض المسلم ماله بفائدة تقُضُّ مضجع المقترض وتزيد من محنته وبلائه رغب الإسلام في القرض الحسن بالوعد الكريم، والجزاء الضافي كما قال - تعالى -: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}؛ [البقرة: 245]. وقال - تعالى -: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}؛ [الحديد: 11].
(ب) إنظار المُعْسِر: ريثما يزول إعساره، والترغيب في إبراء ذمته من الدين دون مطالبته كما قال - تعالى -: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280].(/33)
(ج) التعاون: في مختلف دروبه، وبكل وسائله؛ يشمل التعاون الاجتماعي، والصناعي، والزراعي، ويدخل في إطار ذلك الضمان الاجتماعي، وتمويل المزارعين، وأصحاب الصناعات بما يشدُّ أَزْرهم، ويضاعف إنتاجهم فيما يعود بالخير على المجتمع الإسلامي، وثمة فتح المدارس، وبناء المستشفيات، ودور العجزة، وما إليه مما تشمله الآية الكريمة: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، فيغدو المجتمع في ظلال هذا التعاون الشامل سعيداً بعيداً عن مآسي الربا، والانزلاق إلى أوحاله، ولا يغيب عن الأذهان إخراج زكاة الأموال، ودفعها إلى مستحقِّيها، كما نصت على ذلك الآية الكريمة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60].
وجملة القول أن وسائل القضاء على الربا، والأخذ بها، والتعاون على تنفيذها، وفي الطليعة إخراج الزكاة دون تهرب، أو تسويف، أو طغيان الأنانية على بعض النفوس، فتستأثر بالمال، وتحتجزه، وتشح به فلا تستجيب لإنفاقه كما أمر الله، وكما قال - تعالى -: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] - كل أولئك مما يحول دون الارتداغ في أرجاس الربا، والوقوع في أوحاله.(/34)
وقبل أن نضع القلم يجدُر بنا أن نعرض لموضوع كثر الأخذ به في أعقاب الزمن، وهو بيع التورق، يشتري المرء السلعة بثمن إلى أجل ثم يبيعها بأقل من الثمن الذي اشتراها به، وذلك ما يسمى بمسألة التورق؛ لأن البائع ليس له حاجة في السلعة، وإنما حاجته في الورق، وإيضاح ذلك من قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "فتاويه" حيث سئل عن الرجل يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها من ذلك الرجل بأقل من ذلك الثمن حالاً: هل يجوز أم لا؟ فأجاب: "إذا باع السلعة إلى أجل ثم اشتراها من المشتري بأقل من ذلك حالاً فهذه تسمى مسألة العِينة، وهي غير جائزة عند أكثر العلماء؛ كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، وهو المأثور عن الصحابة؛ كعائشة وابن عباس وأنس بن مالك؛ فإن ابن عباس سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل. فقال: "دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة"، وأبلغ من ذلك أن ابن عباس قال: "إذا اشتريت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم". فبين أنه إذا قَوَّم السلعة بدراهم، ثم باعها إلى أجل فيكون مقصوده دراهم بدراهم، والأعمال بالنيات، وهذه تسمى (التورق)؛ فإن المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها، وتارة يشتريها ليتجر بها، فهذان جائزان باتفاق المسلمين، وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ الدراهم، فينظر كم تساوي نقداً فيشتري بها إلى أجل، ثم يبيعها في السوق بنقد فمقصوده الورق. فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء؛ كما نقل ذلك عن عمر بن عبدالعزيز، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. إلى آخر ما أفاض فيه - يرحمه الله - مما خرج به للاستطراد[25].
خاتمة البحث:
نأتي بعد أن فرغنا من كتابة البحث - بتوفيق الله - إلى الخاتمة، فقد عرضنا بعد المقدمة لتعريف الربا لغة وشرعاً، وأوردنا الآيات القرآنية التي جاءت منتظمة عن الربا مع تفسيرها، وقد تحصَّل من التفسير ما يأتي:
1- المراد بأكل الربا جميع التصرفات.
2- تشبيه المرابي بالمصروع.(/35)
3- المَحْق يشمل ذهاب المال، وذهاب بركته.
4- لا يلحق متعاطي الربا تبعة التعامل به قبل التحريم.
5- الترغيب في بذل الصدقات.
6- الوعيد لمن تعاطى الربا بعد التحريم.
7- للمرء أن يأخذ رأس ماله بعد التوبة من تعاطي الربا.
8- الترغيب في إنظار المُعْسِر وإبراء ذمته، وأردفنا ذلك بمبحث الربا في السُّنَّة، وإيراد نص ما ورد من الأحاديث مع شرحها، ثم بيان حكم الربا في الإسلام، وأنه محرَّم بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، وأساطين العلم، بما في ذلك تحريم كل وسيلة تفضي إليه، كبيع العِينة، واستخلصنا من مجموع ذلك ما يأتي:
أ- النهي عن تعاطي الربا بكل الألوان والوسائل.
ب- أنه من الموبقات، ومن كبائر الذنوب.
ج - لعن آكل الربا وكل متعاون عليه.
د- معصية الربا تجاوزت كل حدٍّ في الكفر.
هـ - تحريم الاستطالة في عرض المسلم.
و- آكل الربا يعذب في البرزخ، وعليه اللعنة، ويحال بينه وبين دخول الجنة.
ز- أَكَلَة الربا يحشرون في أسوأ صورة.
ح - تحريم التبايع بالعِينة، والوعيد عليها.
ط - الوسيلة للحرام محرمة.
ك - لا يحل سلف، ولا بيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما لم يكن تحت تصرف البائع.
ل - ما تواطأ عليه البائع والمشتري بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فهو ربا محرم، سواء كان يبيع ثم يبتاع أم يبيع ويقرض.(/36)
ثم انتقلنا بعد ذلك إلى مضارِّ الربا، وحِكْمَة تحريمه، وأوردنا نقولاً عن ذلك من أقوال العلماء القدامى والمعاصرين مبسوطة في الصفحات (18، 19)، وعقبنا بمبحث أنواع الربا، وحكم كل نوع، فذكرنا ربا النسيئة، وأنه هو الربا الذي كانت تتعامل به الجاهلية الأولى، وهو الذي ورد تحريمه بالقرآن، ثم ربا الفضل وتحريمه، جاءت به السنة النبوية سداً للذريعة، وعرضنا لعلَّة تحريم ربا الفضل، واختلاف العلماء فيها، ثم لنوعية الربا، كما أوضحها ابن القيم - يرحمه الله - ثم لبحث التعامل مع البنوك، وفيه القرض بالفائدة المشروطة، وأنها محرمة، ثم تناولنا بحث تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي، وردَّ نظرية تحريم الربا في الماضي وإباحته في الحاضر، وأردفنا ذلك بالحديث عن وسائل القضاء على الربا، وذكرنا أن منها القرض الحسن، وإنظار المُعْسر، وإبراء ذمته، والتعاون الاجتماعي والصناعي والزراعي، وتوزيع أموال الزكاة، ثم أنهينا البحث بموضوع التورق، وأنه مكروه، وأوردنا فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله - في هذه المسألة.
وأسأل الله أن يأجرني بقدر ما بذلت في هذا البحث من جهد علمي وجسمي، ولم أصل فيه إلى الكمال، وإنما هو إسهام وجهدُ مقل، وأن يشمل – سبحانه - بتوفيقه ابني أسامة على ما أسهم به من تهيئة المراجع المطلوبة للبحث، والعون بجهد مشكور، وينفع به كل من قرأه مغضياً عمَّا لعله أن يكون فيه من مآخذ، فالكمال لله وحده، ويأجر أيضاً كل من تعاون على إشاعته بكل وسيلة، خاصة مجلة "البحوث" بالرياض، ورئاسة تحريرها، والمشرفين عليها.
وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتَّبع سبيله، وسار على نهجه، وقد فرغتُ من وضعه في شهر جمادى الثانية سنة ألف وأربع مئة وأربع.
وفقنا والله إلى ما فيه الخير والرشاد.
ثبت المراجع والمصادر
1- ابن تيمية، أبو العباس أحمد بن عبدالحليم الحراني.(/37)
(الفتاوى): الطبعة الأولى، 1382هـ، الرياض: مطابع الرياض.
2- ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني.
(فتح الباري، بشرح صحيح البخاري)، الطبعة الأولى، تصحيح وترقيم: محمد فؤاد عبدالباقي - محب الدين الخطيب، القاهرة : المطبعة السلفية (13 جزء).
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه أحمد، ج4 ص131، والبخاري ج3 ص121.
[2] البخاري، ج3، ص121، ومسلم، ج2 ص721 واللفظ له.
[3] أخرجه البخاري، 3/155، ومسلم 3/1218.
[4] أحكام القرآن ج1 ص551 – 552.
[5] تفسير ابن كثير، ج2 ص54-55.
[6] تفسير الطبري، ج6 ص35.
[7] فتح القدير (1 ص297 – 298 - 299).
[8] فتح المجيد (ص 237 إلى 240)، فتح الباري 12/ 181، 184، صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 83 - 88.
[9] نيل الأوطار، ح5 (ص 296، 297).
[10] شرح السنة، ص51 – 52 – 53.
[11] الكبائر، ص68 -69.
[12] سبل السلاح، ج3، ص55.
[13] سلسلة الأحاديث الصحيحة. ج1، ص15-16.
[14] مختصر سنن أبي داود، ج-5 ص(100 و101 و102).
[15] مجموع الفتاوى، ج29 – ص(100 و101 و102).
[16] رواه مسلم ـ روح الدين الإسلامي ص332.
[17] الحلال والحرام، ص263.
[18] أحكام القرآن للجصاص، ص552.
[19] تفسير آيات الأحكام، ص 162 و263.
[20] إعلام الموقعين، ج2 ـ ص99.
[21] إعلام الموقعين، ج2 – ص99 ـ 100.
[22] الودائع المصرفية واستثمارها في الإسلام، ص280 و281.
[23] روح الدين الإسلامي، ص333 و334.
[24] الربا، ص90 و90 و98.
[25] الفتاوي، ج29 – ص446 و447.(/38)
العنوان: الربيع في الشعر العربي
رقم المقالة: 1783
صاحب المقالة: أحمد حسن الزيات
-----------------------------------------
الربيع في الشعر العربي
إن الذين قَضَوْا يَوْمَ شَمِّ النَّسيم البهيج المَرِح على بِساط الربيع، يَجْتَلُون جمال الطبيعة المتَبَرِّجَة في الزَّهْر والنهر، ويستَوْعِبون أسرار الحياة المنبثَّة في السماء والأرض، يَسرُّهم أن يقرؤوا تعبير الشِّعر عمَّا شهدوه من جَمال النيل، وأحسوه من فتنة وادِيه، ولم يستطيعوا الهُتافَ به ولا التعبيرَ عنه، وما كان أَحَبَّ إلى نفسي أن أُهَيئَ لهم هذا السُّرورَ لو وجدت السبيل إليه؛ فإنِّي قرأْتُ ما نَظَمَ الشعراء المصريونَ: قدماؤهم، ومُحْدَثوهم في الربيع المصري، فلم أجد فيه على قِلَّته وتبَعِيَّتِه صِدقًا في الشعور ولا مطابقةً للواقع، قرأتُ ما قال ابنُ وكيع التنيسي، وابن سناء الملك، وابن الساعاتي، وابن نُباتة، والشابُّ الظَّريف، وابن مَطْروح، والبَهَاء زُهير، من نوابغ المتقدمينَ؛ ثم قرأتُ ما قال شيوخ الشعر وشبابُه من صفوة المتأخّرينَ، فلم أجد إلا كلامًا عامًّا يُقال في كل ربيع، ووصفًا مجملاً يَصدُق على كل رَوْضة، تعبيراتٌ مَحْفُوظة من لغة الشعر، وتشبيهاتٌ منقولة من مَوْروث البيان، صاغَها كل شاعر على حَسَب طاقته وآلته، فجاءت وصفًا لربيع مجهول لا حقيقةَ له في الخارج، ولا أثَرَ له في الذِّهْن.(/1)
أمَّا الشُّعورُ النَّفْسِيّ الذي يُدْرِكُ الشاعرُ الأصيلُ في جَوٍّ مُعَيَّن، ومنظرٍ محدود، وزهرة خاصة، فيصل به بين النفس والطبيعة، وبين الفِكر والصورة، وبين الفَن والواقع، فذلك ما لا أَثَر له فيه، ولعلك إذا استَثْنَيْتَ من أشعار العرب في الربيع، شِعرَ ابن الرومي في العِراق، وشِعر البُحْتُرِيِّ في الشام، وشعر ابن خفاجَةَ في الأندلس، وجدتَ سائرها من هذا النمط المصريّ الذي تجد فيه الألفاظ المُبْهَمَة، ولا تجد فيه المعانيَ الملهمة، فأشعارهم في الربيع أشْبَهُ بأشعارهم في الغزل، أقلها نفسيّ صادق يصدر عن القلب وينقل عن الوجدان، وأكثرها حِسِّيٌّ كاذِب يَصدر عن الحافظة ويُنْقَل عن الكُتَّاب، والمصريون أولى من غيرهم بالعُذر إذا خلا شعرهم من وحْي الربيع؛ لأنَّ الرَّبيع الذي يزورُ الأَرْضَ في أبريل ومايو، لا يزور مصر إلا في أكتوبر ونوفمبر، فالخريف في مصر هو الربيع الحقُّ في نَضْرَتِهِ وزينته وعِطْرِهِ، فأينما تُدِرْ بصرَكَ في حقول الذرة وقصب السكر والبرسيم، لا تَجِدْ إلا رياضًا شَجراءَ من شراب وحَبٍّ، ومروجًا فيحاء من زهور وكَلأ، ثم ترى النيل في أعقاب فيضانه؛ كذَوْب التِّبْر ينساب هادِرًا في التُّرَع والقنوات، فيجعل من ضفاف الجداول، وحفافي الطرق، وحواشي الغيطان، سلاسل زَبَرْجَدِيَّة من الريَحان والعُشب، لذلك افْتَنَّ شعراء الريف في وصف الخريف وأبدعوا.(/2)
وأما ذلك الربيع الجغرافي الذي يُقبِل على مصرَ مع الرياح الخمسينية والعواصف الرملية والتقلُّبات الجوية ـ: فإنه أَرْدَأ فصول العام يَطْرُد النسيم بالسموم، ويخنق العطر بالغبار، ويذبل الزهر باللهيب، ويرمي الطير بالبكم، ويُفسد المِزاج بالوخومة، ثم يكون حُلولُهُ بعد رحيل شتاءٍ هادئ جميل، في هوائه الدفءُ، وفي جوِّه الصحو، وفي سمائه الإشراقُ، وفي أيامه النشاط، وفي لياليه الأنسُ، فإذا رأيت الريف في الشتاء، رأيت الأرض على مدى البصر قد غطاها بِساطٌ من السندس الأخضر، تَخِفُّ خُضرته في حقول القمح فتكون كالزُّمُرّد، وتَثقل في حقول البرسيم فتكون كالفَيْرُوزج؛ فلا يجد الشاعرُ المصريُّ وقد انتقل من رقة هذا الشتاء إلى قسوة ذلك الربيع ما يجده الشاعرُ الأوربي من الحياة، والمرح، والبهجة، والنشوة، والطلاقة، حين ينتقل من شتائه المكفن بالثلوج إلى ربيعه المَكْسُو بالورود.(/3)
للربيع في الشعر الأوربي أرخم الأوتار، وأعذب الألحان من موسيقى الشاعر؛ لأن الشتاء في أوربا عَناءٌ طويل وهَمٌّ ثقيل: ظلام متكاثف يحجب السماء، ومطَر واكف يغمر الأرض، وبَرْد قارس يهرأ الأجساد، وغَمام متراكم يَسُدُّ الأُفُق، فلا ترى شعاعة شمس ولا خَفْقة طائر، وثلجٌ متراكب يطمر الثرى فلا تَجِدُ عُشْبَةً في مَرْج، ولا زهرةً في حديقة، والناس هناك في حنينٍ دائم إلى الربيع ؛ لأنه في دُنْياهم حياة بعد موت، وابتهاج بعد كآبَة، ولشعرائهم فيما يبشرهم بمقدمه رقائق من الشعر الشاعر، تقرؤها في البُشْريات الأولى؛ كشيوع الدفء في النسيم، ودبيب الحياة في الشجر، وعودة العُصفور المهاجر إلى عُشه، وخرير الجدول الجامد بعد صمته، فإذا أقبل الربيع مَتَّعَهم بما حُرِموه طويلاً من جَلْوة الطبيعة في الأفق المشرق، والروض البهيج، والجو المعطَّر، والطير الصادِحَة، والضواحي الأنيقة، والغابات الوريفة، والمنتزهات اللاعبة، والربيع الأوربي على الجملة تغيير في النفس وتجديد في الحياة، والتغير والتجَدُّد يُلْهِمان القرائحَ الخلاقة شعرًا يمتزج فيه الوجدان بالوجود، ويتصل به الخيال بالحقيقة.(/4)
أما شعراؤنا المصريّون: فأيُّ جديد يأتيهم به الربيع في آفاقِهم وفي أنفسهم! إنَّ الشَّمْسَ والدفء والصحو والطير والزهر والزرع والماء من خصائص مصرَ الطبيعية، لا تَنْفَكُّ عنها طِيلَةَ العام، حتى ألِفَتْها المشاعر والنفوس، فلا تَشتاقُها لأنَّها لا تَغيب، ولا تحتاجُها لأنها لا تنْقَطِع، ومن هُنَا تَشابَهَتِ الفصول الأربعة في حِسِّ الشاعر؛ فلا يكادُ يرى اختلافًا بينها إلا في حَيَوِيَّة الشتاء وشاعريَّة الخريف، ولذلك لم يَجِدِ الشعراء ما يقولونه في الربيع، فإذا قالوا مدفوعينَ بغريزة المحاكاة أو بشهوة المُعارضة، قالوا كلامًا قد يكون مُنَضَّدَ الألْفَاظ، مُجوَّدَ التشابيه، ملوَّنَ الصور؛ ولكنَّ الفرق بينه وبين الشعر الصحيح، يكون كالفرق بين الجماد والحيّ، أو بين الدُّمية والمرأة.
ولقد نظرتُ في شِعرنا القديم والجديد فلم أرَ شاعرًا قبل شوقي ولا بعده خَصَّ الربيع بقصيدتَيْنِ من مُحْكَم الشِّعر وجَيِّده، إحداهما طويلةٌ مستقِلَّة، أَهْداها إلى الكاتب القَصصي (هول كين)، والأُخْرى قصيدة تابعة جعلها صدْرًا لقصيدته التي نَظَمَهَا في المهرجان الذي أُقيم لتكريمه، يقول في الأولى:
آذَارُ أَقْبَلَ قُمْ بِنَا يَا صَاحِ حَيِّ الرَّبِيعَ حَدِيقَةَ الأَرْوَاحِ
وَاجْمَعْ نَدَامَى الظَّرْفِ تَحْتَ لِوَائِهِ وَانْشُرْ بِسَاحَتِهِ بِسَاطَ الرَّاحِ
صَفْوٌ أُتِيحَ فَخُذْ لِنَفْسِكَ قِسْطَهَا فَالصَّفْوُ لَيْسَ عَلَى الْمَدَى بِمُتَاحِ
وَاجْلِسْ بِضَاحِكَةِ الرِّيَاضِ مُصَفِّقًا لِتَجَاوُبِ الأَوْتَارِ والأَقْدَاحِ
إلى أن يقول:
مَلَكَ النَّبَاتُ فَكُلُّ أَرْضٍ دَارُهُ تَلْقَاهُ بِالأَعْرَاسِ وَالأَفْرَاحِ
مَنْشُورَةً أَعْلامُهُ مِنْ أَحْمَرٍ قَانٍ وَأَبْيَضَ فِي الرُّبَى لَمَّاحِ
لَبِسَتْ لِمَقْدَمِهِ الْخَمَائِلُ وَشْيَهَا وَمَرِحْنَ فِي كَتِفٍ لَهُ وَجَنَاحِ(/5)
الوَرْدُ فِي سُرَرِ الْغُصُونِ مُفَتَّحٌ مُتَقَابِلٌ يُثْنِي عَلَى الفَتَّاحِ
ضَاحِي الْمَوَاكِبِ فِي الرِّيَاضِ مُمَيَّزٌ دُونَ الزُّهُورِ بِشَوْكَةٍ وَسِلاحِ
مَرَّ النَّسِيمُ بِصَفْحَتَيْهِ مُقَبِّلاً مَرَّ الشِّفَاهِ عَلَى خُدُودِ مِلاحِ
هَتَكَ الرَّدَى مِنْ حُسْنِهِ وَبَهَائِهِ بِاللَّيْلِ مَا نَسَجَتْ يَدُ الإِصْبَاحِ
يُنْبِيكَ مَصْرَعُهُ، وَكُلٌّ زِائِلٌ أَنَّ الْحَيَاةَ كَغَدْوَةٍ وَرَوَاحِ
وَيَقَائِقُ النَّسْرَيْنِ فِي أَغْصَانِهَا كَالدُّرِّ رُكِّبَ فِي صُدُورِ رِمَاحِ
وَاليَاسَمِينُ لِطِيفُهُ وَنَقِيُّهُ كَسَرِيرَةِ الْمُتَنَزِّهِ الْمِسْمَاحِ
مُتَأَلِّقٌ خِلَلَ الْغُصُونِ كَأَنَّه فِي بُلْجَةِ الإِصْبَاحِ ضَوْءُ صَبَاحِ
ثم يقول في الأخرى:
مَرْحَبًا بِالرَّبِيعِ فِي رَيْعَانِهِ وَبِأَنْوَارِهِ وَطِيبِ زَمَانِهْ
زُفَّتِ الأَرْضُ فِي مَوَاكِبِ آزَا رَ وَشَبَّ الزَّمَانُ فِي مِهْرَجَانِهْ
نَزَلَ السَّهْلَ ضَاحِكَ الْبِشْرِ يَمْشِي فِيهِ مَشْيَ الأَمِيرِ فِي بُسْتَانِهْ
عَادَ حَلْيًا بِرَاحَتَيْهِ وَوَشْيًا طُولَ أَنْهَارِهِ، وَعُرْضَ جِنَانِهْ
لَفَّ فِي طَيْلَسَانِهِ طُرَرَ الأَرْ ضِ فَطَابَ الأَدِيمُ مِنْ طَيْلَسَانِهْ
سَاحِر فِتْنَةِ العُيُونِ مُبِينُ فَصَّلَ الْمَاءَ فِي الرُّبَا بِجُمَانِهْ
عَبْقَرِيُّ الْخَيَالُ، زَادَ عَلَى الطَّيْـ ـفِ، وَأَرْبِى عَلَيْهِ فِي أَلْوَانِهْ
صِبْغَةُ اللهِ؛ أَيْنَ مِنْهَا رَفَائِيـ ـل، ومِنْقَاشُهُ وَسِحْرُ بَنَانِهْ؟
رَنَّمَ الرَّوْضَ جَدْوَلاً وَنَسِيمًا وَتَلا طَيْرَ أَيْكِهِ غُصْنُ بَانِهْ
وَشَدَتْ فِي الرُّبَا الرَّيَاحِينُ هَمْسَا كتَغَنِّي الطَّرُوبِ فِي وِجْدَانِهْ
كُلُّ رَيْحَانَةٍ بِلَحْنٍ؛ كَعُرْسٍ أُلِّفَتْ لِلْغِنَاءِ شَتَّى قِيَانِهْ
نِعَمٌ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ شَتَّى مِنْ مَعَانِي الرَّبِيعِ، أَوْ أَلْحَانِهْ(/6)
هذه وتلك أبيات من قصيدتَي شوقي في الربيع؛ وهما مِثَالان من الشِّعر العالي الطبقةِ الرفيع النَّسَق إذا وازنَّاهُما بالمأثور من الشعر المصري في هذا الباب، وربما انْقَطَع نظيرهما، أو ندر في الشعر العربي كلِّه! ولكننا إذا وازناهما بما قرأنا في موضوعهما من الشعر الأوربي شالَتْ كِفَّتهما في هذه الموازنة؛ فإن شوقي - رحمه الله - جرى على مذهب من سبقوه، فلم يصف فيهما ربيعًا بعينه، في إقليم بعينه، يصح أن يخلط به نفسه، ويضيف إليه شعوره، ويَعْرض ما يرى فيه من شجر، وطير، وعطر، وفُتون، على ما يجد في نفسه من حُب وذِكْرى ونشوة وصَبَابة ؛ فيأتلف المنظر والناظر، ويتحِد الشعور والشاعر؛ إنما وصف شوقي ربيعًا عامًّا كما تَخَيَّلَه لا كما رآه، وكما تَمَثَّله لا كما أَحَسَّه، فجاء الوصف معجمًا مبهمًا قد يعجب ويطرب بألفاظه، ولكنه لا يؤثر ولا يعرب بمعانيه، والقصيدتان على أيِّ اعتبار مشاركة جميلة من الشعر المصري للشعر العالمي في تمجيد ذلك السر، الذي يَبُثُّه الله كل عام في الربيع، فيُعيد الحياة، ويرجع الشباب، ويُجَدد الأمل، ويَنْشُر الجمال، وينشأ عنه في الدنيا هذا البَعْث العجيب.(/7)
العنوان: الرحلة في طلب العلم
رقم المقالة: 1168
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
* أما بعد عباد الله:
يقص الله علينا قصة موسى عليه السلام وهو يرتحل في البحر ليلقى الخَضِر عليه السلام، فيتعلم منه علماً، ما كان له أن يعلمه لولا أن وفقه الله لسلوك السبيل الصحيح الموصل إلى هذا العلم، فلسان حال هذه القصة يقول: هكذا فليكن طلب العلم، رحلة طويلة، عناء ومشقة، بحث متواصل، نَفَسٌ طويل وعزيمة قوية، بصر حادٌّ ورؤية فاحصة.(/1)
وإذا كان موسى عليه السلام على سمو قدره، ورفعة مكانته يحرص على طلب العلم، فما بالنا نحن الضعفاء المحاويج الجهلة نفرط في طلب العلم، ولا نسلك السبل الموصلة إليه.
يشير الإمام البخاري في الصحيح إلى هذه القصة وإلى هذه الرحلة فيقول: باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام[1]، ثم يشير الإمام البخاري – رحمه الله – إلى هذه القصة وإلى سببها فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمارى هو والحُرُّ بن قيس بن حِصْنٍ الفزاري في صاحب موسى فقال ابن عباس: هو خَضِر، فمرَّ بهما أبيّ بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيلَ إلى لقيِّه هل سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر شأنه؟ قال: نعم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدُنا خَضِر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوتَ آية وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه))[2]. إلى أن لقيه وكان من أمره ما كان.
قصة عجيبة يتجلى فيها شرف الرحلة في طلب العلم، وفضل العلم الذي يُضحّى في سبيله بكل نفيس وغالٍ.
ولقد عرف السلف الصالح هذا الفضل فسهروا الليالي الطويلة وأنفقوا الأعمار النفيسة، لأن العلم – بعد الهداية – شرف ما بعده شرف، وعبادة من أجلِّ العبادات.
هو العَضْبُ المُهَنَّدُ ليس يَنْبُو تُصيبُ به مضاربَ مَنْ أردتَ
وكنزٌ لا تخاف عليه لصّاً خفيفُ الحَمْل يوجدُ حيث كنتَ
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إنْ به كفّاً شَدَدْتَ
رحل الصحابي الجليل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى مصر إلى مدينة العريش ليكتسب حديثاً واحداً من عبد الله بن أنيس – رضي الله عنه.
ورحل الإمام أحمد شهرين كاملين من بغداد – دار السلام – إلى صنعاء اليمن ليأخذ عشرة أحاديث.(/2)
قال سعيد بن المسيب: والله الذي لا إله إلا هو إني كنت أرحل الأيام الطوال لحديث واحد!!
فيا أيتها الأمة الواعية .. ويا أيها الشباب الرائد .. هكذا يطلب العلم، وهذا طريق طلبه الصحيح.
ولنستمع الآن إلى القصة الرائعة التي ساقها ربنا - تبارك وتعالى - في كتابه، ففيها العبرة، وفيها العظة، وفيها الدروس العظيمة والمواقف الجليلة.
موسى الآن يغادر أرض بني إسرائيل من فلسطين ليركب البحر بعد أن ألقى فيهم خطبة عظيمة وبعد أن انتهى قال له أحد بني إسرائيل: يا موسى: هل تعلم من الناس من هو أعلم منك؟ قال: لا والله لا أعلم أحداً أعلم مني، وقد صدق عليه السلام فهو نبي الله ورسوله، وهو لا يعلم احداً أعلم منه، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - عاتبه من فوق سبع سماوات وقال له: يا موسى: الخَضِر في مجمع البحرين أعلم منك فارحل إليه وتزود منه علماً إلى علمك، قال: يا رب وكيف أعرفه إذا لقيته؟ قال: ((يا موسى خذ حوتاً واجعله في مكتل فإذا فقدت الحوت فقد لقيت الخَضِر، فأخذ موسى حوتاً مملوحاً وجعله في مكتل وأخذ غلامه يوشع بن نون يحمل معه الغذاء في السفر، فسارا طويلاً وشقَّ عليهما السير فعندئذٍ قال موسى لفتاه: {لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف: 60]، أي لا أزال سائراً إلى مجمع البحرين وهو المكان الذي سوف أجد فيه مَنْ هو أعلم مني، حتى ولو سرت حقباً من الزمان. {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً} [الكهف: 61].(/3)
سار موسى وفتاه حتى بلغا مجمع البحرين فنام موسى وفتاه من شدة التعب والإرهاق، أما الحوت فقد أصابه رشاش من ماء عين هناك تسمى عين الحياة فاضطرب وانتفض وقفز من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع عليه السلام، وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء وهو ينظر إليه {فَلَمَّا جَاوَزَا ً} [الكهف: 62]، أي المكان الذي نسيا الحوت فيه {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباّ} أي تعباً، فقد تعب، عليه السلام، فأراد أن يستريح قليلاً حتى يستمر في مواصلة الرحلة المضنية قال يوشع: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً} [الكهف: 63]، فلا طعام ولا غداء، فالحوت الميت قد تحرك وانطلق إلى سبيله في مشهد عجيب: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64]، أي هذا الذي نطلب: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64]، أي رجعً يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما، {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65]، وهذا العبد هو الخضر عليه السلام وجده موسى عليه السلام عند الصخرة مُسَجًّى بثوب، فسلم عليه فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام. فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قد أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً.(/4)
ووصف الله - عزَّ وجلَّ - الخضر بأنه آتاه الرحمة وعلمه العلم، وهذه هي الغاية التي لا يدركها إلا القليل، فَعِلْمٌ بلا رحمة قسوة وجبروت، ورحمة بلا علم جهل وتردي، فجمع الله للخضر الاثنين؛ الرحمة والعلم، ليكون قدوة لموسى عليه السلام، قال له موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 66]، سؤال تلطف لا على وجه الإلزام، وهذا من حسن أدبه، عليه السلام، حيث أنزل نفسه منزلة التلميذ الذي يريد أن يتعلم من أستاذه، فقال الخضر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 67]، مع أنه يعرف قوة موسى عليه السلام، وشدة عزيمته في طلبه العلم، ثم قال له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68]، فأنا أعرف أنك سوف تنكر عليَّ ما أنت معذور فيه، لأنك لم تطلع على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطّلعت عليها أنا دونك، فردَّ موسى عليه السلام: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف: 70]سوف أصبر على ما أرى منك من أمور ولن أخالفك في شيء أبدا فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً }الكهف70، إياك أن تسألني عن شيء قبل أن أبدأك أنا به، فاتفقا على ذلك، وانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى بلغا مجمع البحرين، ومر عصفور فنزل حتى شرب من الماء، ثم انطلق فقال الخضر لموسى عليهما السلام: كم ترى هذا العصفور نقص من هذا الماء؟ فأجاب موسى: ما أقل ما نقص!! فقال الخضر: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما نقص هذا العصفور من هذا الماء.(/5)
وبينا هما يمشيان على ساحل البحر، إذ مرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر بنوره ووقاره فحملوهم بغير أجرٍ، فركبوا في السفينة، فكان أول ما فعل الخضر أن بدأ يقلع في ألواح السفينة مما يعرضها للغرق، فاندهش موسى عليه السلام، وقال منكراً عليه: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف: 71] مع أنهم حملونا بغير نول {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً }الكهف71 ، شيئاً عجباً، فاعترض موسى عليه السلام؛ لأنه ما كان ليسكت على هذا الأمر المخالف لشريعته، ولكن الخضر عليه السلام ذكره بالشرط الذي بينهما: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 72]، لأن ما فعلته من الأمور التي اشترطت عليك ألا تنكر عليَّ فيها، وهو أيضاً من الأمور التي تحتوي على مصلحة لم تعلمها أنت ولم تحط بها خبراً. فقال موسى مستحياً: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف: 73]، أي لا تضيق عليَّ ولا تشدد عليَّ وقد ورد أن هذه المرة كانت من موسى عليه السلام، نسياناً.(/6)
خرج موسى والخضر، عليهما السلام، من السفينة وبينما هما يمشيان على الساحل إِذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فتقدَّم إليه وصرعه على الأرض ثم أخذ رأسه فاقتلعه بيده فقتله، فصرخ موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} [الكهف: 74]، أتقتل نفساً صغيرة لم تعمل إثماً قط بغير مستندٍ لقتلها، إن هذا الأمر منكر ظاهر النكارة، فما كان من الخضر عليه السلام، إلا أن أعاد عليه الشرط الذي بينهما: {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف: 75]، فأتى بالجار والمجرور تأكيداً على التذكار بالشرط الأول، فاستحى موسى عليه السلام، مرة ثانية وقال في هذه المرة: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} [الكهف: 76]، أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة فلا تصاحبني بعدها، لأنك قد أعذرت إليَّ مرة بعد مرة، وهذه الثانية.
وتبدأ القضية الثالثة وفيها يقول الحق - تبارك وتعالى - : {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77]، مرَّ موسى والخضر على قرية بخيلة لا تطعم ضيفاً ولا تسقي ظمآناً، ولا ترحب بوافدٍ، ومن شدة بخل هذه القرية أن طلب موسى والخضر الطعام فأبوا وهذا من أعظم اللؤم وأشد درجات البخل:
إني نزلتُ بكذا بين ضيفَهم عن القِرَى وعن الترحال مطرودُ
جودُ الرجال من الأيدي وجودُهُمُ من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ(/7)
امتنعت بيوت هذه القرية أن تضيف هذين الرجلين الصالحين: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77]، نزلا في مكان، في سكة من السكك، فوجدا جداراً مائلاً يكاد أن يسقط، فرده الخضر إلى حاله من الاستقامة، فعند ذلك قال له موسى عليه السلام: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77]، إن هذه القرية أبت أن تضيفنا، فلا هم أطعمونا ولا سقونا ولا آوونا، ثم تأتي أنت فتبني جدارها مجاناً بدون أجر أما الذين أركبونا في سفينتهم بلا عطية ولا أجر فكان جزاؤهم أن عمدت إلى تخريب سفينتهم، فقال له الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]، لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني فهذا فراق بيني وبينك: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78]، سوف أخبرك بتفسير ما أنكرته عليَّ من أمور لتعلم أن هناك حكماً باطنة لا تعلمها أنت، قد أطلعني الله - عزَّ وجلَّ - عليها.
وقبل أن نستمع إلى الخضر وهو يشرح لموسى عليه السلام ما أشكل عليه من أمور وتصرفات، يحسن بنا أن نعيش بعض الدروس المستفادة من هذه القصة:
* الدرس الأول: موسى عليه السلام، على جلالته وعلو قدره يترك موطنه وقومه، ويذهب في رحلة طويلة لتعلم العلم النافع على الخضر، مع أن موسى عليه السلام، أفضل من الخضر بلا شك.
* الدرس الثاني: العلم هو قال الله – تعالى – وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأي مصنَّف يخلو من كلام الله - عزَّ وجلَّ - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فضرره أكثر من نفعه، لأنه يفتقد إلى نور الكتاب والسنة.
دِينُ النبيِّ محمدٌ أخبارُ نِعْمَ المَطِيَّة للفتى آثار
لا ترغبنَّ عن الحديث وأهله فالرأي ليلٌ والحديث نهار
العلمُ قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العِرْفَان(/8)
* الدرس الثالث: ما موقفنا نحن كأمة رائدة مكلفة بقيادة البشرية نحو معالم التوحيد والإيمان، فالكتب قد طبعت في أفخر الطبعات، والأحاديث حققت، وصنعت الفهارس العلمية التي وفرت على الباحث زماناً طويلاً، كان يستغرقه في البحث عن مسألة أو حديث، فليس لدينا عذر في عدم الإقبال على العلم الشرعي، وسوف يسألنا الله - تبارك وتعالى - عن تضييع زماننا وأوقاتنا في غير طلب العلم والرحلة في سبيله.
بقي الإمام أحمد يجمع مسنده أربعين سنة، لم يهدأ له بال ولم يرتح له خاطر حتى أتمه، دخل مصر والعراق والشام وخراسان والحجاز وصنعاء اليمن، وجمَّع مسنده حديثاً حديثاً، وبحث في الأسانيد، والعلل والطرق، وها هو مسند الإمام أحمد يملأ الدنيا، وهو في أدراجنا وفي مكتباتنا، وعلى الأرفف يزينها، ولكن أين الذين يقرؤون المسند؟ أين الذين يعكفون على المسند دراسة وتحقيقاً، وبحثاً في الأحاديث التي تضمنها هذا السِّفْر العظيم؟
كانوا يقرؤون في الشمس المحرقة، وفي البرد القارس، مع قلة الطعام والشراب، كان الإمام ابن الجوزي يأتي إلى نهر دجلة ومعه كسر الخبز اليابس، لأنه ما كان يستطيع أن يأكل هذا الخبز بغير ماء حتى لا يتجرح حلقه من شدة يُبْسه.
أما نحن فلا نقرأ مع أن الماء البارد أمامنا، وأشهى الأطعمة من حولنا وأجهزة التبريد قد بددت حرارة الشمس الملتهبة، فرحم الله علماء السلف.(/9)
* إسحاق الكوسج أحد العلماء، سافر إلى خراسان، وأتاه وهو في الصحراء مطر عظيم وهو يحمل كتبه معه التي جمعها في سنين طويلة، فقال: يا رب هذه كتبي تعبت عليها، وسوف يمحو هذا المطر المداد الذي كُتِبَتْ به، يا رب أيضيع كل هذا الجهد، وكل هذا التعب، يا رب لا تضيعني، فلما انقطع القطر وجف الغيث أخذ يبحث عن كتبه فما وجد حرفاً منها أصابه البلل، إلا أن الله - عزَّ وجلَّ - لم يضيعه، رآه الصالحون في المنام وقالوا: يا إسحاق ما فعل الله بك، قال: غفر لي، قالوا: بماذا؟ قال: بما حصل لي في تلك الليلة التي أصابني فيها المطر!!
* وهذا عبد الله بن المبارك، وقف مع شيخه من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يسائله حتى فصل بينهما المؤذن، فقال له تلاميذه: لو أنك أرحت نفسك؟ قال: والله لو وقفت شهراً كاملاً في مسألة ما أنصفتها!!.
أولئك الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، يوم طلبوا العلم لوجه الله - عزَّ وجلَّ - لا لأجل أموال زائلة، ولا لأجل منصب دنيوي، ولا لأجل ثناء من الناس عليهم، فهذه الأمور جميعاً لا تساوي ساعة واحدة من تلك الرحلة الطويلة التي قضوها في البحث عن العلم وفي تحصيله من أهله.
* عباد الله:
((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين))[3]، هكذا قال - صلى الله عليه وسلم. من يرد الله به خيراً يشرح صدره للإقبال على العلم، يعلمه المسائل الشرعية، ويبصره بالأدلة القرآنية التي تزيل عنه الغشاوة وتنير له طريق الطلب، وتدله على أقصر الطرق للوصول إلى المطلوب.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وعلمني الله وإياكم العلم النافع، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية(/10)
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى ربهم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
* أما بعد:
وقبل أن يفارق الخضر موسى عليه السلام، وقف معه وقفة يخبره فيها بما أشكل عليه من تصرفات حدثت أثناء مسيرهما معاً، الأمر الذي تحير معه موسى، عليه السلام، وجعله يحتج دائماً وينكر مراراً، حتى بعد أن أخذ على نفسه العهد بألا يحتج ولا يسأل ولا ينكر.
قال له الخضر:
{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78].
* القضية الأولى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] هذا تفسير القضية الأولى التي أشكلت على موسى عليه السلام، مما خفيت عليه حكمته.
إن هذه السفينة كانت لبعض المساكين، وكانوا يعملون عليها، ويرزقون بسببها، وعند الشاطئ على الساحل ملك ظالم جبار، يقف لكل سفينة بالمرصاد، فهو يأخذ كل سفينة صالحة لا عيب فيها، ولذلك عمدت إلى هذه السفينة فأحدثت فيها عيباً يسيراً لا يعطلها، ولا يضرها، حتى لا يلتفت إليها هذا الملك الظالم ويتركها إذا شاهد العيب الذي فيها.(/11)
* القضية الثانية: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف: 80]، وورد أن هذا الغلام طُبع يوم طبع كافراً[4]، وكان أبواه مؤمنين، فخشي الخضر أن يحملهما حُّبه على متابعته على الكفر. قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض كل امرئٍ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحبّ قال – تعالى -: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216]، ثم علل الخضر قتله بقول: {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف: 81] أي ولداً أزكى من هذا الغلام وهما أرحم به منه، وقيل: لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم.(/12)
* القضية الثالثة: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82]، يقول الخضر: إن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، فلو سقط الجدار لظهر هذا الكنز ولأخذه الناس، فهذا من حفظ الله - عزَّ وجلَّ - لأبناء العبد الصالح بعد وفاته، ولذلك قال الخضر: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف: 82]، فانظر إلى تقدير رب العزة – سبحانه وتعالى – كيف حفظ هؤلاء الأبناء بصلاح أبيهم، وفي الغالب أن الأب إذا كان صالحاً كانت ذريته كذلك، وإذا كان فاجراً غلب على ذريته الفجور والفسق. {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف: 82]، وهنا أسند الإرادة إلى الله - عزَّ وجلَّ - تأدباً مع الله - عزَّ وجلَّ - حيث أسند ما هو خير محض إلى الله - عزَّ وجلَّ - وكذلك بلوغ الغلامين الْحُلُم لا يقدر عليه إلا الله - عزَّ وجلَّ - أما في مسألة السفينة، فقال: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، فنسب الإرادة إلى نفسه لأن ظاهر الفعل الفساد، وإن كان حقيقته غير ذلك.(/13)
ثم بيَّن الخضر بعد ذلك أنه ليس له من الأمر شيء، فقال: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، إن هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، والغلامين اليتيمين، وما فعلته عن أمري ولكني أُمرت به ووقفتُ عليه، {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82]، أي تفسير ما ضقتَ به ذرعاً ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداءً.
أيها المسلمون:
هذه هي الرحلة، التي ارتحلها موسى - عليه السلام - لطلب العلم، باحثاً عن المعرفة، طالباً للحكمة، فهلا حرصنا على طلب العلم، وحضور مجالس العلماء، وهلا اجتهدنا في التفقه في الدين، والاسترشاد بأقوال أهل العلم من فقهاء الأمة الذين هم أهل الحل والعقد عند المسلمين.
* عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله، بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
* وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ صَلى عليَّ صَلاة صَلى الله عَليه بِها عَشراً))[5].
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم - واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم على أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومَنِّك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] صحيح البخاري (1/26) كتاب العلم، باب (16).
[2] صحيح البخاري (1/26-27) كتاب العلم، باب (16).
[3] أخرجه البخاري (1/26) كتاب العلم، باب (13)، ومسلم (3/1524) كتاب الإمارة رقم (175).
[4] أخرجه مسلم مرفوعاً من حديث أبي بن كعب (4/2050) كتاب القدر، رقم (29).
[5] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/14)
العنوان: الرحمة... من لا يَرحم.. لا يُرحم
رقم المقالة: 1215
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
من القرآن:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]
ماذا قال الحبيب؟
• ((إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ))؛ رواه البخاري.
• عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ اَلأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ)). وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ))؛ رواه مسلم.
• عن أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ (( جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءاً، وَأَنْزَلَ فِى الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ )). رواه البخاري.
أحلى ما قال السلف:
• أويس القرني:
- كان من رحمة أويس القرني بالفقراء أنه كان يَتَصَدَّقُ بما في بيته ثم يدعو: اللهُمَّ مَنْ ماتَ جُوعًا فلا تؤاخذني به.. ومن مات عريانًا فلا تؤاخذني به..
• محمد بن الحنفية:
- صاحب المعروف لا يقع ولو وقع لا ينكسر.
• الحسن البصري:
- إن الله ليخول العبد في نعمته وينظر ماذا يصنع فيها مع عباده, فإن وفّاهم ما طلبوا وإلا حولها عنه.
• أبو ذر:
- أمرني حبيبي رسول الله أن أرحم المساكين وأجالسهم
درس اليوم 9
الرحمة....... عمرو خالد(/1)
http://media.islamway.com/lessons///islah/rahma.rm
الرحمة.... أما تُحِبُّ أن تُرحم يوم القيامة ؟؟!
الرحمة... خُلق نعرفه جميعا... ونعرف معناه.. ولكنه أصبح غير موجود بيننا.... العالم كله في أشد الاحتياج لهذا الخلق....
إنه خلق النجاة يوم القيامة... يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ))...
إنها علاقة قوية بين معاملتك للناس في الدنيا ورحمتك يوم القيامة, فمن عامل الناس بالرحمة في الدنيا ماذا ينتظر يوم القيامة؟!
وانظر على رحمة ربنا بنا... {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام:54]
وانظر إلى آثار رحمة ربِّنا بنا في الدنيا...
فمن رحمته أنه أودع الله سبحانه وتعالى في قلوب الآباء والأمهات حب أولادهم...
بل انظر إلى الرحمة التي أودعها الله في قلبين وجعلها بين كل زوجين {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]... يا الله أول ما يبنى البيت الجميل المسلم... يبنى على الرحمة.... فسبحان الله... هل نحافظ على هذه الرحمة؟؟
ومن رحمته أنه لا يؤاخذنا بذنوبنا...
فذنوبنا كثيرة كثيرة... ومع ذلك فإنَّ الله يمهلنا... اقرأ هذه الآية وانظر إلى حالك وتَذَكَّرْ سنواتِ عُمْرِكَ الماضية... يقول تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58]... ألا يسعك الآن إلا أن تقول: الحمد لله !!
ومن رحمته سترك بعد المعصية....
تخيَّلْ لو فُضحنا بعد المعصية... وبعد كل معصية لله تعالى تجد على باب بيتك شرحًا لما فعلته من معصية: فلان عصى وفعل كذا وكذا... وكل من يمر يقرؤه... ولكن من رحمة ربنا بنا انه يسترنا بعد المعصية....
ومن رحمته تيسير التوبة...(/2)
حقاً عن من رحمة الله بنا أن يُيسر لنا التوبة كما يسرها لآدم عليه السلام..
يا سبحان الله !!! ليس العجيب أنَّ عبدًا يتذلل إلى سيده ويتودد إليه... ولكن العجب كل العجب من سيِّد يتودد إلى عبده... فالله يتودد إلينا برحمته....
ومن رحمته إرسال الرسل وإنزال الكتب وسنّ الشرائع...
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155].
ومن رحمته أنه جعل لنا يوم القيامة...
حتى يأخذ كل ذي حق حقه... هذا الشاب الذي صان نفسه عن المعاصي وغض بصره... وهذا الذي ظُلم في الدنيا... وهذا الذي تجبر في الدنيا...
ومن رحمته أنه خلق المرأة...
وهي رحمة عالية بنا... فالمرأة هي منبع العاطفة في هذه الدنيا...
ومن رحمته تنغيص الدنيا...
حتى لا نرتاح إلى هذه الدنيا أبدا ونشتاق إلى الجنة... والله إنها رحمة كبيرة... فما بالنا لو كانت الدنيا حلوة لا تنغيص فيها ولا مشقة... فكيف يكون خروجنا منها؟؟!
ورحمته عمت البشرية جميعها حتى الكفرة...
فهل ترى الله يمنع رزقه عن الكفرة؟؟ أبدا... إنهم يعصون الله ولا يؤمنون به ومع ذلك... هل يمنع عنهم الهواء؟؟ لا والله , بالرغم من الأرض أرضه والسماء سماؤه... ومع ذلك يرزقهم، ولا يمنع عنهم الهواء ولا الماء رحمة منه لعلهم يعودون إليه.
يا حبيبي يا رسول الله أَنْتَ أعظم رحمات الله...
حقًّا إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الرحمات... فبه عرفت لماذا خُلِقت ؟ وما غايتُكَ؟ وعَرَفْتَ الجَنَّةَ والنَّار...
أسئلة سهلة بالنسبة لك عرفْتَها من نبيِّكَ ولكن الغرب لا يعرفونها...
والآن هيا نطبق خُلق الرحمة ونأخذ جانبًا جانبًا في حياتنا ونطبق فيه خلق الرحمة...
• طرق تطبيق خلق الرحمة:
أولاً: الرحمة بالوالدين:
إن الذي يصل بأبيه وأمه لمرحلة البكاء..هل هكذا رحمهم؟؟!(/3)
الذي يرسب رغم أنه يعلم أنَّ هذا سيُتعب أباه وأمَّه تعبًا شديدًا.. هل فكَّر أنَّه بعد مذاكرته ليس رحيمًا بهما؟!
فايَّاك أن تجعل أباك وأمك يغضبانِ عليك.
فهذا - والله - غاية الجفاء لهما والقسوة عليهما.
ثانياً: الرحمة بالأقارب:
ورحمتك بهم أن تزورهم... أي أن تصل رحمك...
ثالثاً: الرحمة بالأطفال:
هل تستطيع أن تجعل معاملتك للأطفال برقة ولُطْفِ تَعَامُلِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم...
قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِساً. فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً. فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ)).
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها – قَالَتْ: جَاءَ أعرابي إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ)).
هل ستتعامل مع أطفالك بهذه الرحمة؟!
فإن لم يكن لك أطفال فاكفل يتيما, اذهب إلى ملجأ وامسح على رأس يتيم..
رابعاً: الرحمة بالنساء:
ومن رحمتنا بالنساء إلا نغلظ في معاملتهن, بل تكون معاملة طيبة كلها رحمة فما ضرب رسول الله امراة ولا أهانها
وإياك أن تغلظ في معاملتك لأختك أو أمك أو ابنتك أو زوجتك.
فقد كان من آخر وصايا الرسول قبل الموت ((أوصيكم بالنساء خيرا)).
خامساً: الرحمة بالخدم.
سادساً: الرحمة بالحيوان.
سابعاً: الرحمة بالعصاة.
ثامناً: الرحمة بجسدك.
عاشراً: الرحمة بالناس أجمعين.(/4)
افتح قلبك للناس.... عامل الناس برقة وحاول أن تنتهز الفرص.. تعطف على مسكين.. تعفو عن من ظلمك... تبتسم لولد فقير مسكين..أما جربت أن تنزل يوما من بيتك ومعك نقودا لتعطيها لمسكين!!
ومن رحمتك بالناس أن تستر من أخطأ ولا تفضحه... ومن رحمتنا بالناس إلا نعذب أحد.... وعليك الرحمة بالناس في انتقاء الألفاظ والتودد إليهم.. ومن رحمتنا بالناس الرحمة بكبار السن...
وأخيرا هنيئا لك رقة القلب ودمعة العين إذا طبقت كل هذه الرحمات.... رزقنا الله وإياكم الرحمة....
التطبيق العملي?
- زر دارًا للأيتام... وكفل يتيمًا من أيتامها..
- عُد مريضًا في المستشفى ممن تعرف أو لا تعرف واصطحب معك هدية بنية إدخال السرور عليه.
- ابتسم في وجه من عرفت ومَنْ لم تعرف وساعِدْ من بحاجة إلى مساعدة.
هيا معا نُحْيِي سُنَّةَ الحبيب - صلى الله عليه وسلم -?
الدعاء بظهر الغيب...
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملَك: ولك بمثل)).
وقال أيضا - عليه الصلاة والسلام -: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة؛ عند رأسه ملَك موَكّل كلما دعا لأخيه بخير قال الملَك الموكل به: آمين ولك بمثل)).
فاجعل لإخوانك في الله نصيبا من دعائك... حتى تضمن تأمين الملائكة على هذا الدعاء
الدعاء:(/5)
((اللهُمَّ إنا قد وَقَفْنَا بابك، فلا تُبْعِدْنا يا مولانا عن جنابك، فإن أبعدتنا فلا حول ولا قوة لنا إلا بك, لا إله لنا غيرك فندعوه... ولا مالِكَ لنا سواك فنرجوه... إلِهَنَا هل في الوجود ربٌّ سواك فيُرجى؟! أم في الملأ الأعلى إله غيرك فيُدعى, أم هل من حاكم غيرك فتُرفع إليه الشكوى؟؟! إلى من نشتكي و أنت العليمُ القادر... أم إلى من نلتجي وأنت الكريم الساتر.. أم بمن نستنصر وأنت المولى الناصر.... أم بمن نستغيث وأنت المولى القاهر... من الذي يجبر كسرنا وأنت للقلوب جابر.... من الذي يَنْصُرُ ضعفنا وأنت المولى الناصر... من الذي يغفر ذنبنا وأنت الرحيم الغافر... يا عالماً بالسرائر والضمائر يا من هو الأول والآخر والظاهر والباطن)).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/6)
العنوان: الرحمن على العرش استوى
رقم المقالة: 1337
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
* أيها الناس:(/1)
إن علم الله – عز وجل – محيط بالكائنات، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4]، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ الْبَعُوضِ جَنَاحَهَا فِي ظُلْمَةِ الَّلَيْلِ الْبَهِيمِ الأَلْيَلِ
وَيَرَى نِيَاطَ عُرُوقِهَا فِي مُخِّهَا وَالُمُخَّ فِي تِلْكَ الْعِظَامِ النُّحَّلِ
اغْفِرْ لِعَبْدٍ تَابَ مِنْ زَلاَّتِهِ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْض أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 62-64]، من هو الله؟ ما هي أسماؤه؟ ما هي صفاته؟ ما هي آثاره في الأرض؟! {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50].(/2)
سُئِل موسى عن ربه فقال: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] وسئل إبراهيم عن إلهه وخالقه ورازقه فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78-82].
وأنزل الله على نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم سورة عظيمة، يعرفه فيها نفسه، ويذكِّره فيها بإحاطته لجميع المخلوقات وقيوميته على هذا الكون الفسيح فيقول - تبارك وتعالى -: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْض وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى{8} [طه: 1-8]، الله يعَرِّفُ رسوله صلى الله عليه وسلم بنفسه أنه الله الذي لا إله إلا هو.
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] هل تعلم له ندّاً، ولا نظيراً، ولا شبيهاً، ولا كفواً، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، فمن آثاره، ومن دلائل خلقه، هذا الكون، كل الكون، السماء تشهد أن لا إله إلا الله، والأرض تشهد أن لا إله إلا الله، والجبال والزهرة والغدير والجدول والشجر والهواء، والضياء وغير ذلك من مخلوقات الله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْض وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} [الحج: 18].(/3)
فالله يقول: {طه} ما معناها؟ حرفان متقطعان، وليس اسماً من أسمائه - صلى الله عليه وسلم - فهما حرفان بدئت بهما السورة كما بدئت سورة البقرة بـ {الم}، وكما بدئت الشعراء بـ {طسم} والنمل بـ: {طس}، وكأن المراد بهذه البدايات – والله أعلم -: من هذه الحروف أنزلنا القرآن، ومن هذه الحروف تألف القرآن، وهي حروف معروفة لديكم تتكلَّمون بها، وتكتبون بها، وتنظمون منها أشعاركم وبيانكم، فتعالي أيتها الأمة المجيدة في البيان والفصاحة، ويا أيها العرب العرباء، ويا أيها الفصحاء والبلغاء والشعراء والحكماء، إنِّي أتحدَّاكم جميعاً أن تأتوا بسورة واحدة كسورة {طه) والتحدِّي ماضٍ إلى يوم القيامة، والمعجزة باقية إلى قيام الساعة، قرآن كريم، ويقرأه الطفل الصغير، والشيخ الكبير، والشاب الطرير: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17]، ثم يقول - تبارك وتعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2]، إن هذا القرآن لم ننزله لكي تشقى به، وإنما هو كتاب رحمة وهداية، أنزلناه لتخرج به الناس من الظلمات إلى النور، أنزلناه ليكون دليلاً على صدقك ومعجزة تشهد بنبوتك إلى قيام الساعة، أنزلناه لنرفع به رؤوسكم، ونجعلكم أمة رائدة بعد أن كنتم أمة ضالة تائهة، تسجد للوثن، وتعبد الصنم، وتقدِّس الخرافة، وتحيي الوثنية، وتؤمن بالكهانة وتصدِّق بالسحر والشعوذة.
أنزلنا عليك القرن لتسعد، لينشرح صدرك، ويستنير قلبك، وتزداد يقيناً فوق يقين بأن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً.
وكل مخلوق لا يقتدي بهذا القرآن فهو مظلم القلب، خائن الضمير، فاشل الإرادة، مهزوم العقيدة، متخلف الركب، يتردَّى في نار جهنم.
قلب بلا إيمان كتلة لحم ميتة، وعين بلا إيمان مقلة عمياء، وأذن بلا إيمان إشارة خاطئة، ومجتمع بلا إيمان قطيع من الضأن.(/4)
كنَّا أمة عربية ضائعة لا تعرف شيئاً، تعرف الوثن، تعرف الصنم، تعرف الزنا، السرقة، الغدر، الخيانة، الفحش، التفلت من شرع الله، فأتى محمد عليه الصلاة والسلام، بالقرآن فبعثها من جديد.
أَتَطْلُبُونَ مِنَ الْمُخْتَارِ مُعْجِزَةً يَكْفِيهِ شَعْبٌ مِنَ الأَمْوَاتِ أَحْيَاهُ
أتى صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، أتى بالدعوة إلى عبادة الواحد، أتى ليقول: الربا حرام، الزنا حرام، الكذب، حرام ضياع الوقت حرام، الانهزام حرام، التخلُّف والتبعية لأعداء الله حرام، إعطاء الولاء لغير الله حرام، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ في خمس وعشرين سنة ترك أمة رائدة يأتي علمها ويرفرف على المحيط الأطلنطي بقيادة عقبة بن نافع، وعلمها الآخر يدخل كابل مع قتيبة بن مسلم، والثالث محمد بن القاسم في الهند والسند، والرابع طارق بن زياد في أسبانيا، ما الذي تغيَّر؟! ما الذي حوَّل هذه الأمة الضائعة اللاهية إلى أمة مرهوبة الجانب تخشاها الأمم، وتتساقط على أقدامها التيجان والعروش؟!
ما الذي حوَّل أمة الإبل والبقر والشاة إلى خير أمة أخرجت للناس؟! إنه دين الله وشرعه، إنه هذا القرآن المجيد. ولذلك كان هذا القرآن تذكرة لمن يخشى، ولكن من الذي يخشى؟ أهم الذين يسهرون على الأغنية ولعب البلوت؟ أم هم الذين يذهبون إلى الشواطئ الدفيئة هناك في بلاد الجنس؟ إن الذي يخشى هو الذي يقرأ في كتاب الله، ويتدبَّر في أحكام الله، وينظر في دلائل الألوهية وآيات الربوبية في هذا الكون الواسع.
إن الذي يخشى ربه لا يعرف المجلة الخليعة، ولا الساعات الحمراء، ولا الأفلام الهابطة، ولا صحبة السوء من شباب متخلِّف لا يعرف هدفاً له في الحياة.
إن الذي يخشى هو الذي نظر بعين البصيرة، وتعرَّف على سنن الله في الأمم السالفة، وكيف دمَّر الله عليها فلا نرى لهم من أثر ولا باقية، فأخذ من ذلك العبرة، وتجنب طرق هؤلاء حتى لا يكون مصيره كمصيرهم، وحتى لا يصيبه ما أصابهم.(/5)
فما هذا القرآن: {إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْض وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه: 3-4].
* فيا أيها الناس: تعالوا، هلموا، أقبلوا على نجاتكم وفلاحكم ..
تَعَال يَا مَنْ حَالُهُ فِي وَبَالِ وَنَفْسُهُ مَحْبُوسَةٌ فِي عَقَالْ
يَا رَاقِداً لَمْ يَسْتَفِقْ عِنْدَمَا أَذَّنَ فِي صُبْحِ اللَّيَالِي بِلالْ
رَوْضُ النَّبيِّ الْمُصْطَفَى وَارِفٌ وَأَنْتُمُ أَصْحَابَهُ يَا رجالْ
فما قيمة جيل لا يعرف الله، لا يعرف القرآن، ولا يحفظ من القرآن شيئاً، تلاوته الأغنية الماجنة، مصحفه المجلة الخليعة، سواكه السيجارة، يتشبه بأعداء الله الكفرة، بأذناب الشعوب، بأقزام البشرية ومدمريها، فكيف يسعد هذا الجيل وقد أعرض عن ذكر ربه؟! وكيف تنتصر الأمة، وقد حادت عن طريق عزها ومجدها؟!: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 124-126].
فيا مَنْ أراد النجاة يوم القيامة! أقبل على كتاب ربك، ويا مَنْ أراد الفوز والسعادة. الزم سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - ويا مَنْ أعطاه الله العقل والفهم والتمييز! هذا كتاب الفضاء يشهد بالوحدانية ويقر بالعبودية، ألا سألت الأرض مَنْ خلقها، والسماء مَنْ رفعها، والجبال مَنْ أرساها، والزهرة مَنْ جمَّلا، والنهر مَنْ أجراه، والليل مَنْ كساه، والتل مَنْ غطاه، الكل يشهد بالجلال والعظمة، الكل يعترف بالعجز والتقصير، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15-17].(/6)
يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في أول سورة: {اقرأ} [العلق: 1]، وهل كان صلى الله عليه وسلم يعرف القراءة؟ وهل تعلَّم صلى الله عليه وسلم أن يقرأ؟ قال بعض أهل العلم: المعنى: اقرأ في كتاب الكون، اقرأ في السماء المرتفعة بلا عمد، اقرأ في الأرض المنبسطة، اقرأ في الشمس المتوهجة، اقرأ في النجوم المتلألأة، اقرأ في الجدول، في الغدير، في الشجر في الجبل، في الثمر: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].
فَيَا عَجَباً كَيْفَ يُعْصَى الإِلَهُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِي كُلَّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، عقيدة ربانية يقررها القرآن ويطلب من الناس أن يؤمنوا بها، عقيدة لا تعقيد فيها ولا أحاجي، لا ألغاز فيها ولا صعوبات، عقيدة سهلة كسهولة الماء، عقيدة ميسرة يفهمها العامي والعالم، عقيدة واضحة فلا تحتاج إلى فلسفة ولا كلام.
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فلماذا يأتي متحذلق ليمتحن عباد الله، فيقول: كيف استوى؟ متى استوى؟ لماذا استوى؟ فهذا لم يخض فيه أحد من الأئمة في القرون المفضلة، فما وسعهم يسعنا، وما سكتوا عنه نسكت عنه، حتى لا تنتهي بنا الحال إلى الحيرة والضلال، نسأل الله السلامة.
إن الذي يعلم نيتك وخطراتك وسكناتك على العرش استوى، والذي يعلم صدقك ويرى نظرتك، وتحركك على العرش استوى، والذي يعلم صدق الصادقين وخيانة الخائنين، وربا المرابين وزنا الزناة، وكذب الكاذبين، وغش الغَشَشَة على العرش استوى.(/7)
جاء عمير بن وهب فذهب إلى صفوان بن أمية وكانا جاهليين مشركين قبل أن يسلما، فجلسا عند الكعبة تحت الميزاب، والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة النبوية، فماذا كانا يفعلان عند الكعبة؟ يدبران جريمة اغتيال المصطفى عليه الصلاة والسلام!! أكبر جريمة في تاريخ الإنسانية، جلسا تحت الميزاب عند الكعبة يتشاوران في قتله صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي على العرش استوى مطلع عليهما، يعلم ماذا يدبران له صلى الله عليه وسلم، والله كفيل بأن يدافع عن نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، علم الله تلك المؤامرة الخبيثة؛ لأنه هو الذي على العرش استوى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. سمع مقالهم، سمع خطتهم، كشف مخططاتهم، وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بتفاصيل تلك الجريمة النكراء؛ ليأخذ حذره، ويضع خطته لذلك.
قال ابن إسحاق: جلس عُمير بن وهب الجُمحي مع صَفوان بن أمية بعد مُصاب أهل بدر من قريش في الحِجْر بيسير، وكان عُمَير بن وَهْب شيطاناً من شياطين قُريش، ومّمن كان يُؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويَلْقون منه عَناءً وهو بمكة، وكان ابنُه وَهْب بن عُمير في أسارى بدر.
فذكر عمير أصحابَ بدر ومُصابهم، فقال صَفوان: والله إنْ في العيش بعدهم خيراً؛ قال له عُمير: صدقت والله، أمَا والله لولا دَيْنٌ عليَّ ليس له عندي قضاء، وعيالٌ أخشى عليهم الضّيعةَ بعدي، لركبتُ إلى محمد حتى أقتلَه، فإنّ لي قِبَلَهم علّةً: ابني أسيرٌ في أيديهم، قال: فاغتنمها صفوان، وقال: عليَّ دينُك، أنا أقضيه عنك، وعيالُك مع عيالي أواسيهم ما بقُوا، لا يَسَعني شيءٌ ويعجز عنهم، فقال له عُمير: فاكتُم شأني وشأنك، قال: أَفْعل.(/8)
قال: ثم أمر عُميرٌ بسيَفُه، فشُحِذ[1] له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدِم المدينة؛ فبينا عمرُ بن الخطاب في نَفر من المُسلمين يتحدّثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوّهم، إذ نظر عمرُ إلى عُمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشِّحاً السيف، فقال: هذا الكلب عدوّ الله عُمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشرّ، وهو الذي حرّش[2] بيننا، وحزَرَنا[3] للقوم يوم بَدْر.
ثم دخل عمرُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيّ الله، هذا عدوّ الله عُمير بن وهب قد جاء متوشّحاً سيفَه؛ قال: ((فَأَدْخله عليَّ))، قال: فأقبل عُمر حتى أَخذ بحمالَة سيفه في عُنقه فلبَّبه بها، وقال لرجال مَّمن كانوا معه من الأنصار: ادخُلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخَبيث؛ فإنه غيرُ مأمون، ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/9)
فلما رآه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعمرُ آخذٌ بحمالة سَيْفه في عُنقه قال: ((أَرْسله يا عمر، ادْنُ يا عُمير))، فدنا، ثم قال: أنْعمُوا صباحاً، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أَكْرمنا الله بتحيّة خير من تحيّتك يا عُمير، بالسّلام: تحية أهل الجنة))، فقال: أما والله يا محمد إنْ كنتُ بها لحديث عهد، قال: ((فما جاء بك يا عُمير؟)) قال: جئتُ لهذا الأسير الذي في أَيْدِيكم فأَحْسنوا فيه، قال: ((فما بالُ السيف في عُنقك؟)) قال: قبّحها الله من سُيوف! وهل أَغْنت عنَّا شيئاً! قال: ((اصْدُقني، ما الذي جئتَ له؟)) قال: ما جئتُ إلا لذلك، قال: ((بل قعدتَ أنت وصفوانُ بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحابَ القَليب من قُريش، ثم قلت: لولا دَيْنٌ عليَّ وعيالٌ عندي لخرجتُ حتى أقتل محمداً فتحمّل لك صفون بدَيْنك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائلٌ بينك وبين ذلك))، قال عُمير: أشهد أنك رسولُ الله، قد كنّا يا رسول الله نكذّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما يَنزل عليك من الوحي، وهذا أمرٌ لم يحضرُه إلا أنا وصَفْوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمدُ لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المَساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فقِّهوا أخاكم في دينه، وأقرؤوه القرآن، وأَطْلقوا له أسيرَه)) ففعلوا.(/10)
ثم قال: يا رسول الله، إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله – عز وجل – وأنا أحب أن تأذن لي، فأَقدَم مكة، فأدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى الإسلام، لعلّ الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم؟ قال: فأَذن له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلَحِق بمكة، وكان صفوانُ بن أمية حين خرج عُمير بن وهب، يقول: أَبْشروا بوَقعة تأتيكم الآن في أيام، تُنْسيكم وقعةَ بدر، وكان صفونُ يسأل عنه الرُّكْبان، حتى قدِم راكبٌ فأخبره عن إسلامه، فحلَف أن لا يكلمه أبداً، ولا يَنفعه بنفع أبداً.
قال ابن إسحاق: "فلما قَدِم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويُؤْذي مَنْ خالفه أذىً شديداً، فأسلم على يديه ناسٌ كثير"[4].
* أيها الناس:
وفي هذه القصة أمور:
أولاً: أن الله – عز وجل – يحفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، ويحميه من كل شر، فقد أخبره بالمؤامرة قبل أن تتم وأطلعه على تفاصيلها، كما أخبره بخبر الشاة المسمومة، ومؤامرة اليهود لقتله عليه الصلاة والسلام، وكما أخبره بخطة قريش لقتله في جوف داره، فخرج من بيته مختفياً وجعل عليّاً مكانه.
ثانياً: رحمته صلى الله عليه وسلم وقد تجلَّت في موقفه من عمير وعفوه عنه، مع أنه كان ينوي قتله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: خبرة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وشدة فطنته؛ لأنه علم من منظر عمير أنه يريد شرّاً، فأخذه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأطلعه على أمره.
رابعاً: ماذا يفعل الإحسان في الناس، وماذا يفعل العفو في قلوب البشر، إنه يغيِّر القلوب ويزلزلها، ويجعلها ترجع إلى الحق وتعود إلى الصواب.
خامساً: ينبغي على مَنْ أساء أن يحسن، وأن لا ييأس من رحمة الله كما فعل عمير رضي الله عنه فإنه لما أسلم - وكان يؤذي المؤمنين - عزم أن ينصر الإسلام، وأخذ في الدعوة إلى الله – عز وجل – حتى أسلم على يديه جم غفير.(/11)
وقصة أخرى تبيِّن عناية الله – عز وجل – بهذا الرسول الكريم، وأن الله – عز وجل – يحفظ رسوله من كل شر وكيد.
ذكر ابن هشام أن فَضالة بن عُمَير بن المُلَوَّح الليثيَّ أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالبيت عامَ الفتح، فلما دنا منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَفَضالة))، قال: نعم، فضالة يا رسول الله. قال: ((ماذا كنت تحدث به نفسك؟))، قال: لا شيء، كنت أذكر الله، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((اسْتَغْفِر الله))، ثم وضع يده على صدْره، فسكن قلبه، فكان فَضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما مِنْ خَلْقِ الله شيء أحبُّ إليَّ منه[5].
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهنَّ أمان
جاءت امرأة أوس بن الصامت تشكو زوجها، دخلت على المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو في بيت عائشة - رضي الله عنها - فأخذت تخفض صوتها لئلا تسمع عائشة كلامها، ولكن الرحمن الذي على العرش استوى سمع القول، قالت عائشة: والله ما سمعت صوتها، ولا أدري ما قالت، وهي في طرف البيت بجانبي ولكن الله – عز وجل – سمع وعلم، وأنزل في ذلك قرآناً: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا}[6] [المجادلة: 1]، الرحمن على العرش استوى يراك وأنت وراء الحيطان، وأنت بين الجدران، وأنت تغلق الأبواب لتختلي بنفسك في معصيته - تبارك وتعالى -:
وإذا خَلَوْتَ برِيبَةٍ في ظُلْمَةٍ والنَّفسُ داعيةٌ إلى الطُّغيانِ
فاستحي من نظر الإِلة وقُلْ لها إنَّ الذي خلق الظلام يراني(/12)
أتى أحد الأدباء إلى الإمام أحمد، فقال له الإمام أحمد: مَنْ أنت؟ قال: أنا أديب أحفظ أشعار العرب، قال: أسمعني بعض الأبيات – الإمام أحمد، إمام أهل السنة والجماعة، الذي إذا جلس في الغرفة وحده كفكف جسمه وتهيأ وانضبط في جلسته وخشع لله كأنه سوف يموت بعد لحظات، ولذلك قال له أحد أبناؤه:
نراك إذا جلست مع الناس جلست مستريحاً منبسطاً، وإذا جلست وحدك كفكفت نفسك، قال: أما يقول الله: ((أنا جليس من ذكرني)) فهو معي يراني حيث كنت.
قال الأديب للإمام أحمد: اسمع يا إمام:
إذا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يوماً فلا تَقُلْ خَلَوْتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ
ولا تحسبَنَّ الله يغفُل ساعةً ولا أن ما تُخْفي عليه يغيبُ
فترك كتبه، ومحبرته، وقلمه، وقام وأغلق غرفته قال هذا الأديب: والله لقد سمعت بكاءه من وراء الباب وهو يردد البيت:
إذا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يوماً فلا تَقُلْ خَلَوْتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ
فراقبوا الله، واستحيوا منه، واعلموا أنكم محشورون إليه - تبارك وتعالى - حفاة عراة غرلاً ليس بينكم وبينه حجاب ولا ترجمان، نسأل الله – عز وجل – الخشية في السر والعلن. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وحجة الله على الناس أجمعين، خيرة المتقين، وصفوة الأولياء الصادقين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
* أما بعد:
فقد سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان؟ فقال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))[7].
فالإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عياناً في الآخرة.(/13)
أورد أهل العلم أن رجلاً خلا في غابة بمعصية، وظن أنه لا يراه أحد، رأى الشجر قد غطاه، ونَسيَ الله، ورأى الليل قد حماه وستره وآواه ونَسيَ الله، ثم قال في نفسه، وقد أقبل على المعصية، هنا لا يراني أحد، ولا يعلم بي أحد، فسمع هاتفاً يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
مَرَ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه وأرضاه – براعي غنم في طريق المدينة، راعٍ يرعى الغنم، لكنه يحمل عقيدة الإيمان، راعٍ يرعى الضأن، لكنه يخاف الرحمن، قال له عمر: بعني شاة من غنمك، قال: الغنم لسيدي وأنا مولى عنده، قال: إذا سألك عن الشاة، فقل: أكلها الذئب – يريد أن يختبر إيمانه – قال: لا إله إلا الله كيف أقول أكلها الذئب؟ أين الله؟! فجلس عمر يبكي ويقول: أين الله؟
فهل سأل كل منا نفسه: أين الله؟ هل سأل المسؤول نفسه في الدائرة، وفي العمل، وفي المؤسسة، أين الله؟ فحاسب نفسه على الساعات، وعلى المعاملات.(/14)
ويأتي البائع فينسى ربه الذي يعلم السر وأخفى، فيغش في بيعه، ويبخس في أخذه وعطائه، مرابٍ، مدلس، مزور، ظن أنه بعيد عن الله، ووالله ما ذهب عن قبضة الله، ومقصود رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن تعلم الأمة ببارئها - تبارك وتعالى - وأن تقود القلوب إلى فاطرها، وأن تقيم العدل والحق والسلام في العالم، وإذا تذكَّر الناس مولاهم، وتذكَّروا أنه يراهم، وتذكروا أنه يعلم سرهم ونجواهم، أصلح الله الحال، لكن غابت مراقبة الله، وغابت خشية الله، فأُكل الحرام والربا، ووُجد الزنا، وانتشر البخس والغش في البيع والشراء، وخان الموظف – إلا من رحم ربك – في وظيفته، وأهمل في عمله، ولم يتقن الأستاذ مادته، وتفلت الطالب من مهامه ودراسته، ونظرت العيون إلى المحرمات، وكثر الفساد، وضاع العباد، وقحطت البلاد، سددنا ما بيننا وبين السماء بالمعاصي، ثم قلنا: يا رب يا رب، يا رب اسقنا، فما كان لدموعنا إجابة، وما كان لدمائنا أثر؛ لأن معاصينا تغدو وتروح؛ ولأن ذنوبنا تفوح، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
* عباد الله:
صلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
* وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً))[8].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد، واعرض صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمَنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
[1] وقوله: فَشُحذ له: معناه أحدَّه يقال: شحذت السيف والسكين أحددتهما.(/15)
[2] وقوله: حَرِّش بيننا: أي أفسد، والتحريش: الإفساد بين الناس وإغراء بعضهم ببعض.
[3] وقوله: حَزَرنا: معناه قَدَّر عددنا، يقال: محزره ألف، أي تقديره ألف.
[4] أخرجه ابن إسحاق مرسلاً عن عروة بن رويم، ورواه ابن منده، والطبراني، انظر: ((الإصابة)) (3/37)، و((السيرة النبوية)) لابن هشام (2/371-372).
[5] ذكره ابن هشام معلقاً، انظر: ((السيرة النبوية)) (4/85).
[6] انظر: القصة بلفظها في ((سنن ابن ماجه)) (1/67) رقم (188)، وعند البخاري بعضها (7/167) كتاب التوحيد.
[7] أخرجه مسلم (1/37) رقم (8).
[8] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).(/16)
العنوان: الرحيل
رقم المقالة: 1589
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
هذه القصة تناسب خطب الجمعة في موضوعات: الصلاة - الموت - القَدَر - حسن الخاتمة - الابتلاء - التوبة - العمل الصالح - الآخرة - الصبر - المعاصي...
بدت أختي شاحبةَ الوجه، نحيلةَ الجسم.. لكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم.. تبحث عنها تجدها في مصلاها راكعة ساجدة، رافعةً يديها إلى السماء.. هكذا في الصباح، وفي المساء، وفي جوف الليل، لا تفتر ولا تمل..
كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية، والكتب ذات الطابع القصصي.. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أني عُرفت به.. ومَن أكثر مِن شيء عُرف به.. لا أؤدي واجباتي كاملة, ولستُ منضبطة في صلواتي..
بعد أن أغلقت جهاز الفيديو، وقد شاهدت أفلامًا منوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة.. ها هو ذا الأذان يرتفع من المسجد المجاور.. عدتُ إلى فراشي.
تناديني من مصلاها.. قلت: نعم، ماذا تريدين يا نورة؟
قالت لي بنبرة حادة: لا تنامي قبل أن تصلي الفجر..
أوه.. بقي ساعة على صلاة الفجر، وما سمعتيه كان الأذان الأول.. بنبرتها الحنون - هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث، وتسقط طريحة الفراش - نادتني: تعالي يا هناء إلى جانبي.. لا أستطيع إطلاقًا ردَّ طلبها.. تشعر بصفائها وصدقها.. نعم، ماذا تريدين؟ اجلسي.. ها قد جلست ماذا تريدين؟
بصوت عذب: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185].
سكتتْ برهة.. ثم سألتني: ألم تؤمني بالموت؟.. بلى مؤمنة. ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة؟
بلى.. لكن الله غفور رحيم.. والعمر طويل..
يا أختي ألاَ تخافين من الموت وبغتته؟
انظري سارة أصغر منكِ وتوفيت في حادث سيارة.. وفلانة وفلانة.. الموت لا يعرف العمر، وليس مقياسًا له..
أجبتها بصوت خائف حيث مصلاها المظلم..(/1)
إنني أخاف من الظلام وأخفتِني من الموت.. كيف أنام الآن؟!
كنت أظن أنكِ وافقتِ على السفر معنا هذه الأجازة.
فجأة.. تحشرج صوتها واهتز قلبي..
لعلي هذه السنة أسافر سفرًا بعيدًا، إلى مكان آخر.. ربما يا هناء.. الأعمار بيد الله.. وانفجرتُ بالبكاء..
تفكرتُ في مرضها الخبيث، وأن الأطباء أخبروا أبي سرًّا أن المرض ربما لن يمهلها طويلاً.. ولكن مَن أخبرها بذلك.. أم أنها تتوقع هذا الشيء؟
ما لكِ؟ بم تفكرين؟ - جاءني صوتها القوي هذه المرة - هل تعتقدين أني أقول هذا لأني مريضة؟ كلاَّ.. ربما أكون أطول عمرًا من الأصحاء.. وأنتِ إلى متى ستعيشين؟ ربما عشرين سنة.. ربما أربعين.. ثم ماذا؟
لمعتْ يدها في الظلام، وهزَّتْها بقوة.. لا فرق بيننا, كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا، إما إلى الجنة أو إلى النار..
تصبحين على خير.. هرولتُ مسرعة، وصوتها يطرق أذني هداك الله.. لا تنسي الصلاة..
وفي الثامنة صباحًا أسمع طرقًا على الباب.. هذا ليس موعد استيقاظي.. بكاء.. وأصوات.. ماذا جرى؟
لقد تردَّتْ حالة نورة، وذهب بها أبي إلى المستشفى..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
لا سفر هذه السنة, مكتوب عليَّ البقاء هذه السنة في بيتنا..
بعد انتظار طويل.. بعد الواحدة ظهرًا هاتَفَنَا أبي من المستشفى.. تستطيعون زيارتها الآن.. هيا بسرعة..
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن، وأن صوته متغير..
ركبنا في السيارة.. أمي بجواري تدعو لها.. إنها بنت صالحة ومطيعة.. لم أرها تضيِّع وقتًا أبدًا..
دخلنا من الباب الخارجي للمستشفى، وصعدنا درجات السلم بسرعة. قالت الممرضة: إنها في غرفة العناية المركزة، وسآخذكم إليها, إنها بنت طيّبة، وطمأنتْ أمي، إنها في تَحَسُّن بعد الغيبوبة التي حصلت لها.. ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد. هذه غرفة العناية المركزة.(/2)
وسط زحام الأطباء، وعَبْرَ النافذة الصغيرة، التي في باب الغرفة، أرى عيني أختي نورة تنظر إليَّ وأمي واقفة بجوارها, بعد دقيقتين خرجت أمي، التي لم تستطع إخفاء دمعتها.
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها، بشرط أن لا أتحدَّث معها كثيرًا.
كيف حالك يا نورة؟ لقد كنتِ بخير البارحة.. ماذا جرى لك؟
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي: وأنا الآن والحمد لله بخير. كنتُ جالسة على حافة السرير، ولامست ساقها فأبعدتْه عني، قلتُ: آسفة إذا ضايقتكِ.. قالت: كلاَّ؛ ولكني تفكرت في قول الله:
- تعالى -: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 29 – 30].
عليك يا هناء بالدعاء لي فربما أستقبل عما قريب أول أيام الآخرة.. سفري بعيد، وزادي قليل!
سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيتُ..
لم أنتبه أين أنا.. استمرتْ عيناي في البكاء.. أصبح أبي خائفًا عليَّ أكثر من نورة.. لم يتعودوا هذا البكاء، والانطواء في غرفتي..
مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين.. ساد صمت طويل في بيتنا.. دخلت عليَّ ابنة خالتي.. ابنة عمتي..
أحداث سريعة.. كَثُرَ القادمون.. اختلطت الأصوات.. شيء واحد عرفته.........
نورة ماتت.
لم أعد أُمَيِّز مَن جاء.. ولا أعرف ماذا قالوا..
يا الله!.. أين أنا؟! وماذا يجري؟! عجزت حتى عن البكاء..
تذكرتُ مَن قاسمتني رَحِمَ أمي , فنحن توأمان.. تذكرتُ مَن شاركتني همومي.. تذكرتُ مَن نفَّستْ عني كربتي.. مَن دعتْ لي بالهداية.. مَن ذرفت دموعها ليالٍ طويلة، وهي تحدّثني عن الموت والحساب..
الله المستعان.. هذه أول ليلة لها في قبرها.. اللهم ارحمها ونوِّر لها قبرها.. هذا هو مصلاها.. وهذا هو مصحفها..
وهذه سجادتها.. وهذا.. وهذا..
بل هذا هو فستانها الوردي، الذي قالت لي سأخبئه لزواجي..(/3)
تذكرتها وبكيتُ على أيامي الضائعة.. بكيت بكاءً متواصلاً، ودعوت الله أن يتوب عليَّ، ويعفوَ عنّي.. دعوت الله أن يثبّتها في قبرها، كما كانت تحب أن تدعو.(/4)
العنوان: الرزق والتوكل
رقم المقالة: 1545
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أولاً: القرآن الكريم
أولا: الرزق:
قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].
قال الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60].
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212].
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الأنفال: 2 - 3].
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].
قال الله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26]
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71].(/1)
قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75].
قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 30 - 31].
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
قال الله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 62 - 63].
قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 37].
قال الله تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15].(/2)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ} [سبأ: 36 - 37].
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر: 52].
قال الله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 12].
قال الله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 19 - 20].
قال الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ * وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 27 - 28].
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].(/3)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].
قال الله تعالى: {أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 21].
قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58]
قال الله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31].
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 13 - 14].
قال الله تعالى: { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 - 11].(/4)
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11].
ثانيا: التوكل
قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
قال الله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49].
قال الله تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38].
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 - 3].
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41 - 42].(/5)
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 97 - 99].
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت: 58 - 59].
قال الله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36].
قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67].
قال الله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
قال الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 84 - 85].
ثانيا: الحديث الشريف
أولا: الرزق
الحديث الأول(/6)
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعَطَاءٍ فَرَدَّهُ عُمَر، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لِمَ رَدَدْتَهُ))، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ خَيْرًا لأَحَدِنَا أَنْ لا يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّمَا ذَلِكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ، يَرْزُقُكَهُ اللَّهُ))، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، وَلَا يَأْتِينِي شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ أَخَذْتُهُ".
الحديث الثاني:
عن أبي هُرَيْرَة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ اجْعَل رِزْق آل محمد قُوتًا)).
الحديث الثالث:
عن أبي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللَّهُمَّ اجعل رزق آل محمد - صلى الله عليه وسلم – كَفَافًا)).
الحديث الرابع:
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ سَفَرًا أَوْ غَيْرَهُ، فَقَالَ حِينَ يَخْرُجُ: بِسْمِ اللَّهِ آمَنْتُ بِاللَّهِ، اعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، إِلاَّ رُزِقَ خَيْرَ ذَلِكَ الْمَخْرَجِ وَصُرِفَ عَنْهُ شَرُّ ذَلِكَ الْمَخْرَجِ)).
الحديث الخامس:(/7)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْأَلُهُ طَعَامًا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَخْطُبُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((مَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَا رُزِقَ الْعَبْدُ رِزْقًا أَوْسَعَ لَهُ مِنْ الصَّبْرِ)).
الحديث السادس:
كان ابن عباس يقول: احْفَظُوا هذا الحديث، وكان يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يدعو به بين الركنين: ((رب قنِّعْني بما رزقتني وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير)).
الحديث السابع:
عَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجيشَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ؛ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا)).
ثانيا: التوكل
الحديث الأول
قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ))، قَالُوا: "وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" قَالَ: ((هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))، فَقَامَ عُكَّاشَةُ فَقَالَ: "ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ"، قَالَ: ((أَنْتَ مِنْهُمْ))، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ"، قَالَ: ((سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ)).
الحديث الثاني:(/8)
عنِ ابنِ عبَّاس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وعليْك توكَّلْتُ، وإليك أنَبْتُ، وبك خاصَمْتُ، اللَّهُمَّ أعوذُ بعزَّتِك لا إله إلا أنت أن تُضِلَّني أنت الحيُّ الَّذي لا تموت، والجنُّ والإِنس يموتون)).
الحديث الثالث:
عنِ ابْنِ عبَّاس - رضي الله عنهما – قال: "حَسْبنا الله، ونِعْم الوَكيل": قالها: إبراهيمُ - عليه السلام - حين أُلْقِي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]"؛ رواه البُخَاري، وفي رواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما – قال: كان آخر قول إبراهيمَ - عليه السلام - حين ألقي في النار: "حسبي الله ونعم الوكيل".
الحديث الرابع:
عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم؛ مثل أفئدة الطير)).
الحديث الخامس:
عن أبي عمارة البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا فلان إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيرًا)).
الحديث السادس:
عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: "نظرتُ إلى أقدام المشركين - ونحن في الغار وهم على رؤوسنا - فقلت: "يا رسول الله لو أنَّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا" فقال: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)).
الحديث السابع:(/9)
عن أم المؤمنين أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية حُذَيْفة المخْزُومية - رضي الله عنها - أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من بيته قال: ((بسم الله، توكلت على الله، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ)).
الحديث الثامن:
عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال - أي إذا خرج من بيته -: بسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُدِيتَ، وكُفِيتَ، ووُقِيتَ، وتنحَّى عنه الشيطان)).
ثالثا: الشعر
أنشد ابنُ أبي الدنيا:
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الرِّزْقَ يَأْتِي بِحِيلَةٍ فَقَدْ كَذَبَتْهُ نَفْسُهُ وَهْوَ آثِمُ
يَفُوتُ الْغِنَى مَنْ لا يَنَامُ عَنِ السُّرَى وَآخَرُ يَأْتِي رِزْقُهُ وَهْوَ نَائِمُ
فَمَا الْفَقْرُ فِي ضَعْفِ احْتِيَالٍ وَلا الْغِنَى بِكَدٍّ وَلِلأَرْزَاقِ فِي النَّاسِ قَاسِمُ
سَأَصْبِرُ إِنْ دَهْرٌ أَنَاخَ بِكَلْكَلٍ وَأَرْضَى بِحُكْمِ اللهِ مَا اللَّهُ حَاكِمُ
لَقَدْ عِشْتُ فِي ضِيقٍ مِنَ الدَّهْرِ مُدَّةً وَفِي سَعَةٍ وَالْعِرْضُ مِنِّيَ سَالِمُ
ومما يروى لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وفيه نظر:
لَوْ كَانَ فِي صَخْرَةٍ فِي الْبَحْرِ رَاسِيَةٍ صمَّاءَ مَلْمُومَةٍ مَلْسٍ نَوَاحِيهَا
رِزْقٌ لِعَبْدٍ يَرَاهُ اللهُ لانْفَلَقَتْ حَتَّى يُؤَدَّى إِلَيْهِ كُلُّ مَا فِيهَا
أَوْ كَانَ تَحْتَ طِبَاقِ السَّبْعِ مَطْلَبُهَا لَسَهَّلَ اللهُ فِي الْمَرقَى مَرَاقِيهَا
حَتَّى تُؤَدِّي الَّذِي فِي اللَّوْحِ خُطَّ لَهُ إِنْ هِيْ أَتَتْهُ وَإِلاَّ سَوْفَ يَأْتِيهَا
وأنشد ابن الأعرابي:
الْحَمْدُ لِلَّهِ لَيْسَ الرِّزْقُ بِالطَّلَبِ وَلا الْعَطَايَا لِذِي عَقْلٍ وَلا أَدَبِ(/10)
إِنْ قَدَّرَ اللهُ شَيْئًا أَنْتَ طَالِبُهُ يَوْمًا وَجَدْتَ إِلَيْهِ أَقْرَبَ السَّبَبِ
وَإِنْ أَبَى اللَّهُ مَا تَهْوَى فَلا طَلَبٌ يُجْدِي عَلَيْكَ وَلَوْ حَاوَلْتَ مِنْ كَثَبِ
وَقَدْ أَقُولُ لِنَفْسِي وَهْيَ ضَيِّقَةٌ وَقَدْ أَنَاخَ عَلَيْهَا الدَّهْرُ بِالْعَجَبِ
صَبْرًا عَلَى ضِيقَةِ الأيَّامِ إِنَّ لَهَا فَتْحًا وَمَا الصَّبْرُ إِلاَّ عِنْدَ ذِي الأَدَبِ
سَيَفْتَحُ اللهُ أَبْوَابَ الْعَطَاءِ بِمَا فِيهِ لِنَفْسِكَ رَاحَاتٌ مِنَ التَّعَبِ
وَلَوْ يَكُونُ كَلامِي حِينَ أَنْشُرُهُ مِنَ اللُّجَيْنِ لَكَانَ الصَّمْتُ مِنْ ذَهَبِ
وقال آخر:
كَمْ مِنْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ فِي تَقَلُّبِهِ مُهَذَّبِ الرَّأْي عَنْهُ الرِّزْقُ مُنْحَرِفُ
وَكَمْ ضَعِيفٍ ضَعِيفِ الرَّأْيِ تُبْصِرُهُ كَأَنَّهُ مِنْ خَلِيجِ الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ
وقال آخر:
لاَ تَطْلُبَنَّ مَعِيشَةً بِتَذَلُّلٍ فَلَيَأْتِيَنَّكَ رِزْقُكَ الْمَقْدُورُ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ آخِذٌ كُلَّ الَّذِي لَكَ فِي الْكِتَابِ مُقَدَّرٌ مَسْطُورُ
وقال آخر:
تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ حَاجَةٍ وَلا تُؤْثِرَنَّ الْعَجْزَ يَوْمًا عَلَى الطَّلَبْ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمٍ إِلَيْكِ فَهُزِّي الْجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبْ
وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزِّهَا جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيءٍ لَهُ سَبَبْ
وقال آخر:
مَا يُغْلِقُ اللهُ بَابَ الرِّزْقِ عَنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيَفْتَحُ دُونَ الْبَابِ أَبْوَابَا
وقال آخر:
الرِّزْقُ يَأْتِي قَدَرًا عَلَى مَهَلْ وَالْمَرْءُ مَطْبُوعٌ عَلَى حُبِّ الْعَجَلْ
وقال آخر:
يَا رَاكِبَ الْهَوْلِ وَالآفَاتِ وَالْهَلَكَهْ لا تَعْجَلَنَّ فَلَيْسَ الرِّزْقُ بِالْحَرَكَهْ
مَنْ غَيْرُ ربِّكَ فِي السَّبْعِ الْعُلَى مَلِكًا وَمَنْ أَدَارَ عَلَى أَرْجَائِهَا فَلَكَهْ؟(/11)
أَمَا تَرَى الْبَحْرَ وَالصَّيَّادَ تَضْرِبُهُ أَمْوَاجُهُ وَنُجُومُ اللَّيْلِ مُشْتَبِكَهْ؟
يَجُرُّ أَذْيَالَهُ وَالْمَوْجُ يَلْطِمُهُ وَعَقْلُهُ بَيْنَ عَيْنِهْ كَلْكَلَ السَّمَكَهْ
حتَّى إِذَا رَاحَ مَسْرُورًا بِهَا فَرِحًا وَالْحُوتُ قَدْ شَكَّ سَفُّودُ الرَّدَى حَنَكَهْ
أَتَى إِلَيْكَ بِهِ رِزْقًا بِلا تَعَبٍ فَصِرْتَ تَمْلِكُ مِنْهُ مِثْلَ مَا مَلَكَهْ
لُطْفاً مِنَ اللهِ يُعْطِي ذَا بِحِيلَتِهِ هَذَا يَصِيدُ وَهَذَا يَأْكُلُ السَّمَكَهْ
وقال آخر:-
لا تَخْضَعَنَّ لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ فَإِنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ مِنْكَ بِالدِّينِ
وَاسْتَرْزِقِ اللهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ فَإِنَّما هِيَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ
أَلا تَرَى كُلَّ مَنْ تَرْجُو وَتَأْمَلُهُ مِنَ الْبَرِيَّةِ مِسْكِينُ ابْنُ مِسْكِينِ
وقال آخر:
إِنِّي رَأَيْتُكَ قَاعِدًا مُسْتَقْبِلِي فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لِلْهُمُومِ قَرِينُ
هَوِّنْ عَلَيْكَ وَكُنْ بِرَبِّكَ وَاثِقًا فَأَخُو التَّوَكُّلِ شَأْنُهُ التَّهْوِينُ
طَرَحَ الأسى عَنْ نَفْسِهِ فِي رِزْقِهِ لَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّه مَضْمُونُ
وقال آخر:-
تَوَكَّلْتُ فِي رِزْقِي عَلَى اللَّهِ خَالِقِي وَأَيقَنْتُ أَنَّ اللَّهَ لا شَكَّ رَازِقِي
وَمَا يَكُ مِنْ رِزْقٍ فَلَيْسَ يَفُوتُنِي وَلَوْ كَانَ فِي قَاعِ البِحَارِ الْعَوَامِقِ
سَيَأْتِي بِهِ اللَّهُ الْعظِيمُ بِفَضْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنِّي اللَّسَانُ بِنَاطِقِ
فَفِي أَيِّ شَيءٍ تَذْهَبُ النَّفْسُ حَسْرَةً وَقدَ قَسَّمَ الرَّحْمَنُ رِزْقَ الْخَلائِقِ(/12)
العنوان: الرسالة والدعوة
رقم المقالة: 1834
صاحب المقالة: أحمد حسن الزيات
-----------------------------------------
الرسالة والدعوة
تستقبل الرسالة بهذا العدد عامها العشرين، وهي تحمَد الله على أن فسح لها في العمر حتى رأت أكثر ما دعت إليه يتحقق.
رأت الوَحْدة بين أُمَم العرب في الشعور والهَوَى، والرأي، والأمل، والغرض، قد تمت بفضل الصحافة والأدب؛ فهم يَتآلَفُون في القُرْب، ويتعاطفون في البُعْد، ويتَنَاصَفُون في الخلاف، ويتحالَفُون في الكريهة، ويَشُدُّ بعضهم بعضًا في مجاهدة العادي ومُجَالدة الباغي. والوَحْدَة بين دُولهم تُوشِك أن تبلغ التَّمام، لولا ما يَعُوقها - الحينَ بعد الحين - من وساوسَ يُلقيها شيطانٌ خادِع منَ الإنجليز، في صدر إنسان مخدوع منَ العرب! ووسْوَسة الشيطان لا تَبْقَى مع الإيمان، وإيمان العرب بربِّهم وبأنفسهم قَوَّاه الوَعْيُ حتى غََلَبَ على إيمانهم بأصنام السياسة وطوَاغِيتِ الحُكْم. فهَيْهَاتَ بعد اليوم أن يَستكينوا لزعيم مُتَّهَم، أو يَستَنِيمُوا لخَصِيم مُخَاتِل!
ثم رأتِ الرسالةُ فيما رأتْ تباشيرَ الجامعة الإسلاميَّة، تَلوحُ في أُفُقِ باكستان، ولن تَلْبَثَ هذه التباشيرُ أن تُسْفِرَ في آفاقِ الشَّرْقِ المُحمَّديِّ كُلِّهِ؛ فيَتَّصِل نورٌ بنور، ويمتزِجَ شعورٌ بشعور، وتَتَّحِدَ قوةٌ بقوة.
ولباكستان - إذا تكلَّمتِ العربية - خطرٌ خطير في مستقبل الأمة الإسلامية؛ إنها قِبْلَة رجاء الإسلام؛ كما أن مِصْرَ قبلة رَجاء العُروبة، وهي للمسلمينَ خيرُ العِوَض من تُركية الذاهبة!(/1)
وأجمل ما رَأَتْه الرسالةُ في سنواتها القريبة انبعاثَ الإسلام الصحيح الخالص في قلوب المثقفينَ من أهله، كان الإسلامُ مُنْذُ ضَعُف في العالمينَ سُلْطانُه، واستَعْجَم على أشباهِ المسلمينَ قُرْآنُه، قد أصبح رَسْمًا محيلاً في قُلوب بعضٍ، وصورةً شَوْهَاء في أذهان بعض؛ فالخاصَّة قَنَعُوا بمظْهَره، ثم جعلوا شَرْعَهُم غير شَرْعِه، ودُسْتُورَهُم غيرَ دُسْتُورِهِ، وقِبْلَتَهُم غيرَ قِبْلَتِه، والعامَّة عبثوا بِجَوْهرِه، فقَلَبُوهُ صُوفيَّةً حمقاءَ خَرْقاءَ لا صِلَة بين شَعْوَذَتِها وعباداته، ولا نِسبة بين سَلْبِيَّتِها ومعاملاته.
وكانت (الرسالة) منذ حملتْ أمانة الدعوة إلى السبيل التي عَناها الرسول الأعظم بقوله: ((تركتُكم على الوَاضِحَة، ليلُها كنهارِها، لا يَزِيغُ عنها بعدي إلا هالك)) ما فَتِئَتْ تُذَكِّرُ المسلمينَ بأنَّهُمُ الأُمَّةُ الوَسَطُ التي نَزَّهَهَا الله عن ماديَّة اليهود، وصوفية الهُنود، ورَهْبانيةِ النَّصارى، "وأن دينهم مُصْحَف وسَيْفٌ، وشرعَهم دِين ودُنيا، وتاريخَهم فَتْح وحضارة، وحربَهم جهاد وشهادة، وزعامَتهم خِلافة وقِيادة، وحياتَهم عمل وعبادة"[1]، حتى أرادَ الله لدينه أن يَسْتَبِينَ، ولطريقه أن يَتَّضِحَ، ولحُبِّهِ أن يتجدَّد، فتَأَلَّفَتْ جماعة من المسلمينَ على مَوْثِقِ الدعوة الكُبرى، وأخذوا يدعون إلى الله على بصيرة، في إيمانهم المُصْحَف للعقل، وفي شَمائلهم السيف للهَوى؛ ويحاولون أن يَبعثوا في الهَيْكل الوَاهِنِ المُنْحَلِّ رُوحَ الإسلام الفَتِيَّةَ القويَّةَ التي نَقَلَتِ البَدْوَ الجُفاةَ الحُفاةَ من بَوادي الجزيرة وكانوا رُعاةَ غَنَمٍ، إلى حَواضِرِ الدنيا؛ ليكونوا قادَةَ أُمَم.
هؤلاء المسلمون الذين يُسَمُّون أنفسَهُم رُهْبانَ الليل، وفُرسان النهار، هم وَحْدَهُمُ الذين يُمَثِّلُون في هذا المجتمع المَمْسُوخِ عقيدةَ الإسلامِ الخالِصِ، وعقليةَ المسلم الحقِّ.(/2)
إنهم لا يفهمون الدين على أنه صَوْمَعَةٌ مُنْعَزِلَةٌ، ولا الدنيا على أنها سُوقٌ منفَصِلَة؛ وإنما يفهمون أنَّ المسجدَ مَنارةُ السوقِ، وأن السوقَ عِمارةُ المسجد.
وكيف تفتَرِقُ الرُّوحُ عنِ الجَسَدِ إلا في الموت، وينقَطِع الهادي عن الرَّكْب إلا في الضلال، وينفَصِل الدين عن الدنيا إلا في الكُفْر؟ لذلك كان لهذه الجماعة في الإرشاد لِسَان، وفي الاقتصاد يد، وفي الجهاد سلاح، وفي السياسة رأي.
وهم لا يُؤمِنون بالحُدود السياسيَّة والجُغرافيَّة في وطن الإسلام الأَكْبرِ! إنما يَبْسُطُون تآخِيهَم على كل رُقْعة منَ الأرض يُذْكَرُ فيها اسمُ الله؛ فلَهم في كل بلد من البلاد العربية أَتْباع، وفي كلِّ قُطْر منَ الأقطار الإسلامية أشياع، وبفضل هذه الرُّوح القُدُسيَّة المحمَّديَّة التي بَثَّتْهَا الجماعة في العالم الإسلامي بالدّعاية والقدوة، دبَّت فيه الحرارة، وغَلا به النَّشاط، واستولى عليه القلق، وعصفَتْ به الحَمِيَّة؛ فهو يثور على المستعمِر، ويتمرَّد على المستبدّ، ويَتَنَكَّر للمُفْسِد، وما يَقَظَة الوَعْي العامِّ في مصرَ والسودانِ، وفي العراق وسورية، وفي اليَمَن والحجاز، وفي الجزائر ومراكِش، إلا شُعاعٌ من هذه الرُّوح سيكون له بعد حين نبأ!
أمَّا الجماعات الدينية أوِ الصوفيةُ التي لا تفهم من الإسلام إلا أنه أَوْرَادٌ تُتْلى، وأذكار تُقام، ولِحًى تُعْفَى، وشَواربُ تُحْفى، وعَذَبَاتٌ تُرْسل -: فهي منَ الشوائب المخدِّرَة السَّامَّة التي عَلِقَتْ بالإسلام حين صَدَّه الجهل والضعف عن سبيله، فتراجَعَ فَيْضُهُ وسَكَنَ تَيَّارُه، والماء إذا ركد تَأَسَّن وفشت فيه الجراثيم، ودعوة هذه الجماعة عَسِيَّةٌ أن تُزِيلَ حواجزَ الباطل من وجه التيار، وأن تُنَقِّيَ مشارِعَ الحقِّ من هذه الأكْدَار.(/3)
كذلك رأت الرسالة في عامها المنصَرِمِ مظهرًا من مظاهر الوعي الإسلامي تَجَلَّى في ثلاثة أحداثٍ جسام، رَوَّعَتِ السَّاسَة، وفَزَّعَتِ الجُيوش، وشَغَلَتِ المجالس: تأميم البُترول في إيران، وإلغاء المُعاهَدَة الإنجليزيَّة في مصر، وقيام الدولة العربية الثامنة في ليبيا! شيء جديد في حياة العرب والمسلمينَ لم يكن لهم به في التاريخ الحديث عهد!
مَن كان يظنُّ أن إيرانَ تَصْفَع قَذالَ الأسد، وأنَّ مِصر تبصق في وجهه، وهما الدولتان اللتان خَضَعَتَا طويلاً لنُفُوذِهِ خضوعَ العَبْدِ لِوَلِيِّهِ، أو القاصرِ لوَصِيِّهِ؟ لقد مزَّقَتِ الدَّولتان عِرْضَ "جون بول" يوم مَزَّقت الأُولى عَقْدَ الاستغلال، ومزَّقت الأخرى عهد الاحتلال، ولم تُمَزِّقْهما الدولتان بقوة الجيش وسلاحه، وإنَّما مزَّقتاهُما بإرادة الشعب وكِفَاحِهِ! إنَّه الروح الذي أَرْهَبَ الموت! وإنه الوعي الذي أَذْهَب الغفلة!
هذه بسمةُ الأمل في أوَّل العامِ عَبَّرْتُ عنها بهذه الكلمة؛ شُكرًا لله على تحقيقه؛ وطلبًا للمزيد من عونه وتوفيقه.
ـــــــــــــــــــــ
[1] "افتتاحية الرسالة" لعدد 5 يناير سنة 1948.(/4)
العنوان: الرسول المربي والأطفال
رقم المقالة: 952
صاحب المقالة: محمد عيد العباسي
-----------------------------------------
الأطفال هم بهجةُ الحياة وزينتُها، وجمالُها وفتنتها، وهم تلك البراعم الناضرة التي تطل على الحياة لتعلن استمرارها، والزهرات المتفتحة التي تستقبل الوجود لتشِيع فيه الأمل والسعادة والحبور، فهم جيل الغد، وأمل الأمة، وعُدّةُ المستقبل وعماد النهضة، ولذلك كانوا محط اهتمام المربين، وموضع عناية الموجهين والمصلحين.
وقد اختلف المفكرون -قديماً وحديثاً- في طبيعة الطفل ونفسيته؛ فذهب بعضهم إلى أنه خيِّرٌ بطبعه، بريء بفطرته، بعيد عن كل نزعة شريرة، أو ميل عدواني، فهو مَضربُ المثل في البراءة والسذاجة والطيبة، ولذلك قال شاعرهم:
وَبَرَاءَةُ الأَطْفَالِ فِي عَيْنَيْهِ
وفسّر هؤلاء ما يصدر عنه من تصرفات مخالفة لذلك أنها من تأثير البيئةِ؛ بيئةِ الكبار حولَه، من الأسرة والمدرسة والمجتمع.
وذهب آخرون إلى عكس ذلك، فادعوا أن الطفل شرير بطبعه، عدواني بفطرته، لا هم له إلا تحقيق رغباته، والحصول على حاجاته، وقضاء لذَّاته، فهو يصرف وقته في اللهو والعبث، ولا يبالي من أجل ذلك بتحطيم كل ثمين، وتدمير كل نفيس، وصديقُه من يجيبه إلى أهوائه، ويسكت عن شذوذه واعتداءاته، ومن يقف أمامها أو ينصحه أو يزجره فهو عدو له لدود، ولو كان أباه أو أمه أو أخاه أو صديقه!!
والحق -كما هي العادة في غالب الأمور التي يختلف عليها الناس- هي بين الطرفين أو المذهبين، الحق هو الوسط بين أطراف الغلو، وفي الاعتدال بين الإفراط والتفريط، ففي كل من المذاهب شيء من الحق وشيء من الباطل، والغالب أن يكون الحق متفرقاً ومجموعاً لدى جميع الأطراف.(/1)
وفي موضوعنا هذا، فالصواب أن الطفل إنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ولكن، إنسان صغير! فيه كل ما في الإنسان الكبير من خير وشر، واستعداد للصلاح والسوء، فيه دوافع إيجابيه، وفيه دوافع سلبية، بعضها ظاهر وبعضها كامن، فليس هو شريراً، ولا هو خيِّراً، بل هو يجمع النقيضين، ويحوي الاستعدادين، ونفسه كنفوس الكبار التي قال الله -تعالى- فيها: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7-8]، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10].
ويُخطِئُ من يظن أنه لا يمكن إصلاحُه أو إفسادُه، وتغييرُ سلوكه، كما يخطئ من يعتقد أنه يقبل أي تأثير، وأنه كالعجينة المرنة التي يشكلها المربي كما يشاء، كما ذهب إلى ذلك بعض المربين،ن كالإمام الغزالي وغيره، فهذا قول خاطئ!
إن الطفل إنسان فيه من التعقيد والتركيب واختلاف الميول والاستعدادات ما في الكبار، ولكن بشكل مصغر، وله إراداته الذاتية التي يستقل بها، هذه الإرادة وهذه النفسية والطباع والميول التي ورثها من أبويه وأصولهما، كما أن هناك مساحة معينة من نفسيتِه وميولِه وإرادتِه وطباعِه وَصَلَتْهُ من بيئته الخاصة والعامة التي أحاطت به..
فهو نتاج هذين العاملين الكبيرين: الوراثة والبيئة، خلافاً لكل من المدرستين الفكريتين الكبيرتين، والمذهبين الشائعين: مذهب الوراثة الذي تدعمه وتمثله الفلسفة الرأسمالية الديمقراطية، ومذهب البيئة الذي تدعمه وتمثله الفلسفة الشيوعية الاشتراكية، وكل منهما مصيب في جانب ومبطل في جانب آخر، والحق وسط بينهما كما تقدم، وهو الذي يقوله الإسلام العظيم.
فالوراثة لها تأثير أي تأثير على شخصية إنسان، كما أن للبيئة والمجتمع تأثيراً كبيراً لا يقل عن تأثير الوراثة؛ به تقوم التربيةُ بتعديل الطباع وإصلاح السلوك، ويَنْفُذُ المربون والمصلحون لتوجيه الإنسان وإصلاحه، ومع ذلك فيبقى للإنسان نفسه تقرير طريقه واختيار سبيله.(/2)
فهذا ولد نبي الله نوح -عليه السلام- الذي عاش برعاية والده النبي الكريم من أولي العزم، الذي قدم له أحسن توجيه وأفضل نصح، بأحسن أسلوب وأفضل طريقة، مع الحرص الشديد، والجهد الكبير، والإقناع القائم على أقوى الأدلة والبينات، ومع ذلك كله أعرض الولد عن جميع ذلك، وآثر اتباع طريق الكفر والضلال، وأبى الركوب مع أبيه والمؤمنين في السفينة، فغرق مع الغارقين.
وقُلْ مثلَ ذلك في عمّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أبي طالب، الذي حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هدايته، وعمل حثيثاً أن يدفعه إلى الإيمان، فأبى ذلك كله، وهلك وخسر الخسران المبين.
فدور الأنبياء والمصلحين والوالدَين والمربين إنما هو في الدعوة والبيان والنصح والإقناع، والوعظ والتذكير، بالأسلوب الحسن، واللطف والحكمة، كما قال الله تعالى للنبي المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ *لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22]، وقال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40].
وليس معنى ذلك أن دور البيت والمدرسة والمؤسسات التربوية تافه وضئيل، كلا ثم كلا، بل هو عظيم وكبير، وتأثيره خطير، جد خطير، ويكفي في بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ))[1].
ومن هنا فعلى المربين وعلى المؤسسات التربويةِ التخطيطُ والعمل الجاد بإخلاص؛ لتوجيه الأجيال، وتربيتها على الفضائل والإيمان والتقوى والبر والإحسان، وإرشادها -بأفضل الأساليب وأرقاها- لسلوك طريق الاستقامة، والتخلص من كل خلق ذميم وسلوك منحرف، وللتحلي بكل خلق فاضل وسلوك صحيح.(/3)
ولنا في رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- الأسوةُ الحسنة، والقدوة المثلى، فهو المربي الكامل الموفق المسدَّدُ، كما وصفه ربه -تبارك وتعالى- فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ويكفيه فخراً أنه رَبَّى أفضل جيل رأته البشرية في تاريخها الطويل، وشهد بذلك الخالق العظيم فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
والحديث عن التربية النبوية طويل طويل، ولكن حسبنا في هذه العجالة أن نستعرض طرفاً من تربيته -صلى الله عليه وسلم- للأطفال وعنايتِه بهم..
لقد كان -عليه الصلاة والسلام- يهتم بالأطفال، ويرعاهم، ويقدر نفسياتهم وحاجاتهم، ويحوطهم بالمحبة والحنان، ويشجعهم على كريم الفعال وحميد الخصال، ويتجاوز عن كثير من أخطائهم، ويُشركُهم في مجالسه مع الكبار، فيحضرون الجمع والجماعات، ويستمعون الخطب والتوجيهات، ولا يعزلهم أو يحتقرهم، أو يتجاهلهم وينساهم!!
ولنستمعْ إلى شهادة الأطفال أنفسهم في معاملته -صلى الله عليه وسلم- لهم..
فهذا الصحابي الصغير النجيب أنس بن مالك، خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- من حين هجرته إلى المدينة إلى وفاته -صلى الله عليه وسلم- يقول:
(خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ! وَلاَ: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ: أَلاَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ عَابَ عَلَيَّ شَيْئاً قَطُّ، وَأَنَا غُلاَمٌ، وَلَيْسَ أَمْرِي كَمَا يَشْتَهِي صَاحِبِي أَنْ أَكُونَ عَلَيْهِ)[2].(/4)
وقال أيضاً: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً، فَأَرْسَلَنِي يَوْماً لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَذْهَبُ! وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: ((يَا أُنَيْسُ! أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟))؛ قُلْتُ: نَعَمْ! أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِِ)[3].
وقال أنس: (كَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ، كَانَ فَطِيماً، فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَآهُ قَالَ: ((أَبَا عُمَيْرٍ! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟))[4].
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عُصْفُورٌ يَلْعَبُ بِهِ فِي قَفَصٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمُرّ بِهِ بَيْنَ الحِينِ وَالآخَرِ، وَيُمَازِحُهُ، وَيَسْأَلُهُ عَنْ عُصْفُورِهِ، فَلَمَّا مَاتَ العُصْفُورُ عَزَّاهُ بِهِ وَوَاسَاهُ).
وعن عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ، فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ، وَيُحَنِّكُهُمْ)[5].
والتبريك: الدعاء لهم بالبركة، والتحنيك: أن يمضغ أبو المولود أو الرجل الصالح تمرةً أو نحوها، ثم يضعها في فم الصبي ليمصها، وهذه سنة إسلامية عقب ولادة المولود.(/5)
وقد روت -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حنَّك عبد الله بن الزبير، قالت أسماءُ: (ثُمَّ مَسَحَهُ، وَصَلَى عَلَيْهِ -أي: دعا له- وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ، ثُمَّ جَاءَهُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ لِيُبَايِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-حِينَ رَآهُ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، وَبَايَعَهُ)[6].
ومن لطف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأطفال خاصة، وبالكبار عامة، وحرصاً على مشاعرهم؛ كان يغيّر الأسماء القبيحة التي سُمُّوا بها، ويسميهم بأسماء حسنة بدلاً منها، فمن ذلك: أنه كانت لعُمرَ ابنةٌ اسمها "عاصية"، فسماها -صلى الله عليه وسلم- "جميلة"[7]، وسمّى جدَّ سعيد بن المسيب بن حزن، "سهلاً" بدلاً من "حَزْنٍ"، وإحدى صديقاتِ خديجةَ أمِّ المؤمنين "جَثَّامَة المُزَنِيَّةَ"، فجعله "حَسَّانة المزنية"، بل تعدى ذلك إلى الجمادات، فمر -صلى الله عليه وسلم- على قرية اسمها "عَفِرة"، فسماها "خَضِرة"، وهكذا[8]..
وقال أنس: (مَا رَأيت أحداً أرحم من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بالعيال -أي: الأطفال- كان إِبْرَاهِيمُ -ولدُه، صلى الله عليه وسلم، من ماريَّةَ القِبطية- مُسْتَرْضِعاً لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ -أي: في قرية قرب المدينة- فَكَانَ يَنْطَلِقُ، وَنَحْنُ معه، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ، وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ -أي: زوجُ مرضعة إبراهيم- قَيْناً -أي: حدّاداً- فَيَأْخُذُهُ -أي: يأخذُ إبراهيم- فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ).(/6)
وفي رواية: (أَنَّهُ سَمَّاهُ بِاسْمِ أَبِيهِ -نبي الله إبراهيم- ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ يُقَالُ لَهُ: أبو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَأْتِيهِ، وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إلى أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، قَدِ امْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَاناً، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَيْفٍ! أَمْسِكْ! جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ!! فَأَمْسَكَ، فَدَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بِالصَّبِيِّ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ).
قال أَنَسٌ: (لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ -أي: يُحتَضَر- بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: ((تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ)) )[9].
ومن ذلك قولُه صلوات الله وسلامه عليه: ((إِنِّي أَدْخُلُ في الصَّلاَةِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي -أي: أخفِّفها وأعجل فيها- مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ))، وفي رواية: ((كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ على أُمِّهِ))، و((مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ))... في رواية أخرى[10].
وقال -عليه الصلاة والسلام- عن الحسن والحسين: ((هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا))[11].
ولم تقتصر رعاية النبي -صلى الله عليه وسلم- للأطفال على إظهار عواطفه نحوهم والاهتمام بهم؛ بل كانت تتعدى ذلك إلى تعليمهم، وتربيتهم، والدعاء لهم..(/7)
فقد أردفَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عبدَ الله ابن عباس -رضي الله عنهما- يوماً خلفَه، وقال له: ((يَا غُلاَمُ! إِنِّي مُعَلِّمُكُ كَلِمَاتٍ، فَاحْفَظْهُنَّ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لِمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))[12].
ونتيجة لاحتفائه -صلى الله عليه وسلم- بالأطفالِ وتقريبه إياهم في مجالسه، واهتمامه بتعليمهم؛ انطلقوا يتسابقون إلى فعل الخير..
فهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: (بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي -وهي مَيْمُونَةَ أم المؤمنين- فَقَامَ النَّبِيُّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ).
وفي رواية قال: (بِتُّ في بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ النَّبِيٌّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَهَا في لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: نَامَ الْغُلَيِّمُ؟ ثُمَّ قَامَ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلى الصَّلاةِ)[13].(/8)
وتأمل معي هذا المنظرَ المؤثِّرَ، الذي يرويه ابن عباس أيضاً فيقول: (ضَمَّنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ)) )، وفي روايةٍ: ((الكِتَابَ))، وفي أخرى: ((اللَّهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ))[14]. أي: تفسير القرآن، فأجاب الله تعالى دعاءه، فكان كما وُصِفَ؛ حبرَ الأمة، وبحر العلم، وترجمان القرآن.
وكان يَحضُرُ في مجالسه -صلوات الله وسلامه عليه- الأطفالُ، ويأكلون معه، فيعلمهم ويؤدبهم..
قال عمرُ بن أبي سلمة[15]، ربيبُ النبي صلى الله عليه وسلم: (كُنْتُ غُلاماً فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا غُلامُ! سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)). قَالَ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ).
وكان -صلوات الله وسلامه عليه- يشجع الأطفال على حفظ القرآن، والتفقه في الدين..
فها هو يختار الطفل عمرَو بنَ سلمة الجَرْمي، وهو غلامٌ صغيرٌ؛ إماماً على قومه، مع أنه أصغرُهم سنّاً، وذلك لأنه أكثرهم قرآناً، قال عَمرو بن سلمة في هذا:(/9)
(كُنّا عَلَى حَاضِرٍ، فَكَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا رَاجِعِينَ من عِنْدِ رسول اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَدْنُو مِنْهُم، فَأَسْمَعُ، حَتّى حَفِظْتُ قُرْآناً، وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلاَمِهِمْ فَتْحَ مَكَّةَ، فلما فُتِحَتْ جَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِيهِ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا وَافِدُ بَنِي فُلاَنٍ، وَجِئْتُكَ بِإِسْلاَمِهِمْ.. فَانْطَلَقَ أَبِي بِإِسْلاَمِ قَوْمِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قَدِّمُوا أَكْثَرَكُمْ قُرْآناً"، قال: فَنَظَرُوا، وَأَنَا لَعَلَى حِوَاءٍ عَظِيمٍ -أي: بيوت مجتمعة من الناس على ماء- فَمَا وَجَدُوا فِيهِمْ أَحَداً أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّي، فَقَدَّمُونِي، وَأَنَا غُلاَمٌ..
فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ، وَكُنْتُ إِذَا رَكَعْتُ أَوْ سَجَدْتُ قَلَصَتْ فَتَبْدُوَ عَوْرَتِي! فَلَمَّا صَلَّيْنَا، تَقُولُ عَجُوزٌ لَنَا دَهْرِيَّةٌ -أي مُسِنَّة-: غَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ!! قَالَ: فَقَطَعُوا لي قَمِيصاً، فَذَكَرَ أَنَّهُ فَرِحَ بِهِ فَرَحاً شَدِيداً)[16].
وقد اقتدى الصحابةُ -رضوان الله عليهم- بنبيهم -صلوات الله وسلامه عليه- في هذه الرعاية والاهتمام بالأطفال..
فهذا الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- يحمل الحسنَ بن علي وهو يقول:
بَأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيّ لَيْسَ شَبِيهاً بِعَلِيّ
وعلي يضحك[17].
ومن ذلك ما ذكره عبدُ الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مِثْلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟))، فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ).(/10)
وفي رواية: (وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لا يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ).
وفي رواية: (فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا، فإذا أَسْنَانُ الْقَوْمِ -أي: كبارهم وشيوخهم- فَأَهَابُ، فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئاً؛ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((هِيَ النَّخْلَةُ!)).
فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ لِعُمَرَ: يا أَبَتَاهُ! وَاللهِ لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكَلَّمَ؟ قَالَ: لَمْ أَرَكُمْ تَكَلَّمُونَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئاً. قَالَ عُمَرُ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِليَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا)[18].
ففي هذا الحديث نرى النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمُ أصحابه بعض المعلومات بطريقة المسابقات العلمية، التي تحثهم على التفكير، يشاركُهم أطفالُهم، كما ترى في هذا الحديث؛ إذ يسألُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ويعرف ابنُ عمرَ الجوابَ، ويخجل من الكلام لرؤيته الكبار لا يجيبون، وتفوتُ الفرصة، ويخبر أباه بما وقع في نفسه، فما يكون من أبيه عمر إلا أن يشجعه على المشاركة، ويدفعه إلى الجرأة الأدبية، والانطلاق في الحديث، فيفخر به وبسرعة بديهته، ويعبر له بأن لو فعل هذا لكان عنده أفضل من الأموال والمتاع وحظوظ الدنيا.
هذا غيض من فيض من أخباره -عليه أفضل الصلاة والتسليم- مع الأطفال، وهو يبين بجلاء مكانتَهم عنده، وفي تعاليم الإسلام، ووجوب حُسن رعايتهم والحفاوة بهم، والحرص على أن يكتسبوا العلم النافع والعمل الصالح، ليكونوا صالحين مصلِحين، وبررةً مُتَّقين، وطلاب علم عاملين.(/11)
فأين هذا من سلوك بعض الجهال والقُساة المنفِّرين، الذين إذا رأى أحدهم طفلاً في المسجد طردَه! وأنكر على أهله وذويه دخولَه المسجدَ؛ محتجاً بحديث: ((جَنِّبُوا مَساجِدَكُم صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ))[19]!! جاهلاً أنه حديث ساقط، وسنده ضعيف جدّاً، فيه ثلاثة علل:
الحارث بن نبهان، قال الحافظ القسطلاني: (متروك)، وفيه عتبة بن يقظان: ضعيف، وفيه أبو سعيد الشامي: مجهول، وأما متنُهُ فمنكرٌ، وتخالفه الأحاديثُ الكثيرة الصحيحة، التي مر بعضها، وبعضها الآخر مثبوت في أكثر كتب السنة.
وقد أدى إهمال الخَلَفِ للأطفال، وتركهمُ السنةَ، وعملهم بمثل ذاك الحديث الساقط؛ إلى نفور الكثير من الأطفال -في كثير من البلاد الإسلامية- عن المساجد، وإعراضهم عن العلم الشرعي، وجهلهم بالدين، وانتشار البدع والخرافات بينهم، أو اتباعهم طريق الشيطان، ونشوء الأفكارِ المنحرفة والأخلاقِ السيئة فيهم، واحتضانِ الأشرار وأهل السوء لهم، فكان لذلك كله أكبر الأثر في هذا الانحطاط الذي وصل إليه المسلمون، والتأخر والضعف والذلِّ الذي نزل بساحتهم.
لقد كان للسياسة النبوية الحكيمة، مع الأطفال خاصة، والكبار عامة؛ أثرُها العظيم في ذلك المستوى الرفيع الذي وصل إليه سلفنا الصالح، فضربوا أروع الأمثلة في الإيمان والإخلاص والعلم والفضيلة، والاستقامة والبذل والصدق..
فكان من آثار ذلك تلك الفتوحاتُ المباركة، الواسعة المذهلة، في مشارق الأرض ومغاربها، التي تميزت بأنها فتحت القلوب قبل فتح البلدان، فكانت خيراً وبركة على البشرية جمعاء، ودخل الناس في دين الله أفواجاً..
كما كان من آثارها تلك الحضارةُ الإسلاميةُ الزاهيةُ، في شتى ميادين الحياة، التي استفاد منها الغرب، فبنوا حضارتهم عليها، ثم زادوا وأكملوا!
ولكن! شتان شتان بين الحضارتين!!(/12)
فحضارتهم التي تفوقوا فيها، في ميادين المادة والصناعة والاختراع، ولكن تخلفوا تخلفاً ذريعاً، وسقطوا سقوطاً فظيعاً، في ميادين الروح والقيم والأخلاق والمثل، فكانت حضارة عرجاء شوهاء، الروح والقلب فيها ضامران سقيمان، والجسم فيها متفتح منتفش متجبر، فكانت القوة الجسمية والعسكرية في خدمة السيطرة والاستعلاء، والتكبر والاستيلاء، والظلم والطغيان، فصارت مصدر تعس وشقاء وبؤس وفناء.
فهل آن لنا أن نعي حقائق الإسلام، ونفهمها من ينابيعه الصافية، ومنهله العذب النقي؛ من كتاب الله، وسنة رسوله، وهدي السلف الصالح، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم؟!!
أرجو ذلك!
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري عن أبي هريرة (الجنائز 80 و93/2/98 و104 و6/20), ومسلم (القدر 6/ص 2047 و2048/ رقم 2658), وأحمد (2/213 و275 و393).
[2] رواه البخاري (7/3082, 8/الأدب 39), ومسلم (ص 1805/الفضائل 13/ رقم 231), وأبو داود (4773 و4774).
[3] رواه مسلم (ص 1805), وأبو داود (4774).
[4] رواه الجماعة أي أصحاب الكتب الستة, وأحمد إلا النسائي. والنُّغر: طائر نحو العصفور.
[5] رواه مسلم (ص 1691).
[6] رواه مسلم (ص 1691).
[7] رواه مسلم (ص 1686 و1687) عن ابن عمر.
[8] انظر "السلسلة الصحيحة" للألباني (1/417-427 الأحاديث رقم 207 – 216).
[9] رواه مسلم (ص 1807 و1808).
[10] رواه أحمد (3/205), والبخاري (1/174 الأذان 65), وأبو داود (رقم 789) عن أنس, واللفظ للبخاري.
[11] رواه البخاري (الأصحاب 4/217).
[12] رواه أحمد (1/293 و303 و307), والترمذي (القيامة 59/2516) وغيرهما, وصححه الترمذي والألباني.
[13] رواه البخاري (العلم 41/1/37).
[14] رواه أحمد (1/266 و314 و328 و335), والبخاري (4/217/الأصحاب/24), ومسلم (فضائل الصحابة 30/ص 1927) وغيرهما.(/13)
[15] رواه البخاري (6/196/الأطعمة), ومسلم (ص 1599/الأشربة 130), وأحمد (4/26).
[16] رواه أحمد (5/30/20333) وإسناده ثلاثي صحيح, كما رواه البخاري (المغازي 54/4302), وأبو داود (585) وغيرهم.
[17] رواه البخاري (4/217), وفي الأصل (ليس شبيه) ولعله خطأ من الناسخ أو الطابع أو بعض الرواة.
[18] رواه البخاري (التفسير 14/5/220 و7/106), ومسلم (ص 2165 و2166/المنافقين 1), والترمذي (2867/الأدب 79).
[19] رواه ابن ماجه (1/247/المساجد/رقم 750/عن واثلة بن الأسقع مرفوعاً, وضعفه الحافظ البوصيري في الزوائد والعلامة الألباني في ضعيف الجامع الصغير وغيرهما, وهو كما قالوا بل وأكثر, وضعيف جدّاً كما سبق بيانه.(/14)
العنوان: الرضا بالله تعالى ربًّا
رقم المقالة: 1410
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أمَّا بعدُ: فإنَّ أحسن الحديث كلام الله - تعالى - وخيرَ الهدْيِ هَدْيُ مُحمَّد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل مُحْدَثةٍ بِدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: الإيمانُ بالله - تعالى - وسلوك صراطه المستقيم، والتزامُ شرعه الحنيف، واتباعُ سنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - نعمةٌ يمنّ الله - تعالى - بها على من أراد سعادته، ويحرم منها من كتبت عليه الشقاوة.(/1)
والرضا بالله - تعالى - ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا؛ هو جوهر السعادة، وعنوان الفلاح، وبه يجد العبد حلاوة الإيمان؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاق طعمَ الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً))؛ رواه مسلم[1]، فهذا الحديث العظيم يُثبت أن للإيمان طعمًا حلوًا يجده من حقق هذا الرضا، وكلما امتلأ القلب بهذا الرضا عظمت الحلاوة، وازداد الإيمان.
إنها نعمة - وأيُّ نعمة - أنعم الله - تعالى - بها على المؤمنين، فهداهم للإيمان، ووفقهم للرضى به.
قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: "قوله: ((ذاق طعم الإيمان)) أي: وجد حلاوته، كما في حديث أنس: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)) وهي عبارة عمَّا يجده المؤمن المحقق في إيمانه، المطمئن قلبه به؛ منِ انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله - تعالى - ومعرفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة مِنَّة الله - تعالى - عليه في أن أنعم عليه بالإسلام، وَنَظَمَهُ في سِلْكِ أُمَّةِ مُحَمَّد خير الأنام، وحبب إليه الإيمان والمؤمنين، وبغّض إليه الكفر والكافرين، وأنجاه من قبيح أفعالهم، وركاكة أحوالهم. وعند مطالعة هذه المنن، والوقوف على تفاصيل تلك النعم؛ تطير القلوب فرحًا وسرورًا، وتمتلئ إشراقًا ونورًا، فيا لها من حلاوة ما ألذَّها، وحالة ما أشرفها!! فنسأل الله - تعالى - أن يمنَّ بدوامها وكمالها، كما منَّ بابتدائها وحصولِها؛ فإنَّ المؤمن عند تذكر تلك النعم والمنن لا يخلو عن إدراك تلك الحلاوة، غير أن المؤمنين في تمكنها ودوامها متفاوتون، وما منهم إلا وله منها شرب معلوم، وذلك بحسب ما قُسم لهم من هذه المجاهدة الرياضية، والمنح الربانية"[2].(/2)
إن الرضا بالشيء هو القناعة به، فمن رضي بالله - تعالى - ربًّا لم يطلب غيره، ومن رضي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - رسولاً لم يسلك إلا ما يُوافق شريعته[3]، ومن كان كذلك خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمه.
والرضا بذلك عام وخاص، فالرضا العام أن لا يتخذ غير الله - تعالى - ربًّا، ولا غير دين الإسلام دينًا، ولا غير محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وهذا الرضا لا يخلو عنه مسلم؛ إذ لا يصح التدين بدين الإسلام إلا بذلك الرضا[4].
وأما الرضا الخاصّ فهو الذي تكلم فيه أرباب القلوب، وأصحاب السلوك، ويحققه العبد إذا لم يكن في قلبه غير الله - تعالى - ولم يكن له همٌّ إلا مرضاته، فيخالف هواه طاعةً لله - تعالى - وقد ذكر المحقّقون من العلماء أنَّ الرضا أعلى منازل التوكل، فمن رَسَخ قدمُه في التوكل والتسليم والتفويض لله - تعالى - حصل له الرضا ولابد، ولكن لعزته، وعدم إجابة أكثر النفوس له، وصعوبته عليها؛ لم يوجبه الله - تعالى - على خلقه؛ رحمة بهم، وتخفيفًا عنهم. لكنَّه - تعالى - ندبهم إليه، وأثنى على أهله، وأخبر أن ثوابه رضاه - تعالى – عنهم، الذي هو أعظم وأكبر وأجلّ من الجنان وما فيها، فمن رضي عن ربه رضي الله عنه، بل إن رضى العبد عن الله ما هو إلا من نتائج رضى الله - تعالى - عنه؛ ولذا كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، وفيه جماع الخير كله[5]؛ كما كتب عمر بن الخطاب لأبي موسى - رضي الله عنهما - يقول: "أمَّا بعد: فإن الخير كله في الرضا"[6].
إن مَن رضي بالله - تعالى - ربًّا وجد حلاوةً في طاعته، ولذةً في البعد عن معصيته، ومن رضي بالإسلام دينًا وجد حلاوةً في اتباع الشريعة، والعمل بها، والتحاكم إليها، ومن رضي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - رسولاً وجد حلاوة في اتباع سنته، والتزام هديه.(/3)
ومن كان كذلك فلن يجد مشقة في أداء الفرائض، والمحافظة على النوافل، وكثرة التطوع والذكر؛ لأن لذته في ذلك، ولن يعسر عليه بغض المعاصي والمحرمات، والبعد عنها، وإنكار قلبه لها؛ لأنها تفسد طعم الإيمان الذي يجده، وسبب ذلك كله ما قام في قلبه من كمال الرضا بالله - تعالى - وبدينه وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)).[7] وفي الحديث الآخر: ((أرحنا بالصلاة يا بلال))[8]، فهو - عليه الصلاة والسلام - أكمل الناس رِضًى عن الله - تعالى - ولأجل ذلك كان يستروح بالصلاة، وجُعلت قرة عينه فيها، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه من طول القيام[9]، ولا يحس بذلك؛ لما يجد من لذة في مناجاة الرب جلَّ جلاله.
ولأهمية هذا الرضا، واحتياج المسلم إلى تأكيده وتذكره على الدوام؛ ربط بالنداء إلى الصلاة المفروضة خمس مرات في اليوم والليلة، فُشرع للمسلم عقب إعلان المؤذن دخول وقت الصلاة أن يقول من جملة ما يقول في الأذكار عقب الأذان: "رضيت بالله ربًّا وبمحمد رسولاً وبالإسلام دينًا" فمن قال ذلك غفر له ذنبه، كما جاء في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن النبي، صلى الله عليه وسلم[10].
وشُرع للمسلم أيضًا أن يفتتح صباحه ومساءه بهذا الذكر العظيم؛ فقد صحّ عن النبي أنه قال: ((ما من عبد يقول حين يمسي وحين يصبح: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا إلا كان حقًّا على الله أن يرضيه يوم القيامة))؛ رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم[11].
الله أكبر ما قيمة هذا الإنسان، لولا الإيمان؟! حتى يجعل الخالق البارئ حقًّا عليه لهذا العبد المخلوق؛ لأنه رضي بالله - تعالى - ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وهذا الرضا في الدنيا جعل له حقًّا عند الله - تعالى - في الآخرة أن يرضيه، وما أعظمها من منزلة ينالها من حقق الرضا بذلك.(/4)
والجواد الكريم يُرضي من يرضي بالعطاء الجزيل، والخير العظيم، والله - تعالى - واسع العطاء، وهو أكرم الأكرمين. وما أجلَّه مِن ذكْرٍ يفتتح به العبد صباحه ومساءه؛ ليكون له هذا الوعد الكريم من رب العالمين ((إلا كان حقًّا على الله أن يرضيه» فاللهم أرضنا، وارض عنا، وعن والدينا، وعن إخواننا المسلمين، إنك سميع مجيب، وأقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حمدًا يليق بجلاله وعظمته، وأشكره شكرًا يوازي فضله ونعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى - أيها الناس - وأطيعوه، واعلموا أن الرضا بالله - تعالى - ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا سببٌ يوجب الجنة للعبد؛ كما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَن قال: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا وجبت له الجنة))؛ رواه مسلم وأبو داود واللفظ له[12].
بل إن العبد يَجْنِي جزاءَ هذا الرضا في الدنيا قبل الآخرة، بحلاوة الإيمان التي يمتلئ بها قلبه، وبما يحصل له من تفريج الكروب، وزوال الهموم، والإمامة في الدين.(/5)
هذه أمكم هاجر - عليها السلام - الأَمَةُ المؤمنة، التي كانت خادمة في قصور الفراعنة، فأهداها ملكهم لسارة زوج الخليل إبراهيم - عليهما السلام - وأهدتها هي لزوجها، فوقع عليها، فحملت بأبيكم إسماعيل - عليه السلام - فلما وضعته رحل بها إبراهيم - عليه السلام - هي ورضيعها إلى مكة المقفرة من الماء والزرع، الخالية من الأحياء، فلما وضعها وولى يريد الشام تعلقت به، ونادته من ورائه: "يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيت بالله"[13].
وفي رواية قالت: "آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا"[14]. فأكرمها الله - تعالى - على رضاها به أن جعل ابنها إسماعيل - عليه السلام - رسولاً نبيًّا، وأعظم كرامة نالتها في الدنيا أن جعل من نسلها إمام المرسلين، وخاتم النبيين، سيد ولد آدم محمدًا، صلى الله عليه وسلم.
ومن رضي بالله - تعالى - وخالف هواه ومشتهاه، وناله من جرائه عنت ومشقة؛ أرضاه الله تعالى.
إن كثيرًا من الناس يظن أنه نال كمال الرضا أو أكثره، ولكن عند الابتلاء يظهر له كم هو ضعيف في هذا الباب، تراه يُقدِّم رضى المخلوقين الضعفاء على رضى الخالق القاهر؛ رغبةً في جاه أو مال، أو دفعًا لأذًى متوهم، مع أنه يعلم أن النافع الضار هو الله سبحانه. وتلك هي طريقة المنافقين التي عابها الله - تعالى - فقال – سبحانه -: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62]، وما أكثر من يقع في ذلك، فيُقدم رضى المخلوقين على رضى الخالق؛ خوفًا من سطوتهم، أو رغبة في ثوابهم، نسأل الله العفو والعافية.
وضعف أهل الإسلام في هذا الزمان، وتسلُّط أهل الكفر والنفاق عليهم، وغربة الدين بين الناس، لا توجب الضعف والوهن، بل يجب على المسلم الثبات واليقين، والرضا بالله - تعالى - إلى أن يلقاه وهو على الحق.(/6)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "وكما أن الله - تعالى - نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يُصيبَهُ حُزن أو ضيق ممَّن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر فكذلك في آخره، فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم، أو يكون في ضيق من مكرهم، وكثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام؛ جزع وكَلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا؛ بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر، وإن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار"[15]اهـ.
ألا فاتقوا الله ربكم، وارضوا به ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، واثبتوا على ذلك إلى الممات، جعلني الله وإياكم من أهل الثبات.
اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وجميع خلقك بأننا قد رضينا بك ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، اللهم فثبتنا على ذلك إلى أن نلقاك، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو نُضل، أو نفتن أو نُفتن، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين...
---
[1] أخرجه من حديث العباس بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - أحمد (1/208)، ومسلم في الإيمان، باب الدليل على أمن من رضي بالله - تعالى - ربًّا وبالإسلام دينًا... (34)، والترمذي في الإيمان، باب ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان (2623)، والبغوي في شرح السنة (25)
[2] "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (1/210).
[3] انظر: شرح النووي على مسلم (2/3)، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح (2/446).
[4] "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (1/210 - 2112).
[5] "مدارج السالكين" (2/204 - 205).
[6] الاستقامة (2/84)، والمدارج (2/177).(/7)
[7] أخرجه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أحمد (3/285)، والنسائي في عشرة النساء باب حب النساء (7/61)، وأبو يعلى (3530)، والضياء في المختارة (1736)، والبيهقي (7/78)، وصححه الحافظ في الفتح (3/20).
[8] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في الأدب باب في صلاة العتمة (4985)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/249)، والطبراني في الكبير (6/276) برقم: (6214)، والخطيب في تاريخه (01/444 - 445)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4171).
[9] كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه..." أخرجه البخاري في التفسير "سورة الفتح" باب قوله – تعالى -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] (4836)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820).
[10] أخرجه أحمد (1/181)، ومسلم في الصلاة باب استحباب القول مثل ما يقول المؤذن (683)، وأبو داود في الصلاة باب ما يقول إذا سمع الموذن (525)، والترمذي في الصلاة باب ما يقول الرجل إذا أذن المؤذن من الدعاء (210)، والنسائي في الأذان باب الدعاء عند الأذان (2/26)، وابن ماجه في الأذان باب ما يقال إذا أذن المؤذن (721).(/8)
[11] أخرجه من حديث أبي سلام عن خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - أحمد (4/337)، وابن أبي شيبة في مصنفه (26541)، وأبو داود في الأدب باب ما يقول إذا أصبح (5072)، والنسائي في السنن الكبرى (10400)، وابن ماجه إلا أنه قال: عن أبي سلام خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى (3870)، والطبراني في الكبير (22/367) برقم: (921)، وفي الدعاء (302)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/518)، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": رجاله ثقات (3/209)، وقال الحافظ في الفتح: سنده قوي (11/135)، وساق ابن عبدالبر الحديث في الاستيعاب عن أبي سلام خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "هذا هو الصواب في إسناد هذا الحديث" (4/1681)، وله شاهد من حديث ثوبان - رضي الله عنه - عند الترمذي في الدعوات باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" (3389).
[12] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (29282)، وأحمد (3/14)، ومسلم في الإمارة باب بيان ما أعد الله للمجاهدين في الجنة من الدرجات (1884)، وأبو داود في الصلاة باب في الاستغفار (1529)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (5 - 6)، وابن حبان (863)، والحاكم (1/518)، ولفظ مسلم: ((يا أبا سعيد، من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وجبت له الجنة)).
[13] ) أخرجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما البخاري في أحاديث الأنبياء باب يزفون: النسلان في المشي (3365).
[14] هذه الرواية للبخاري أيضاً: (3364).
[15] مجموع الفتاوى (81/295).(/9)
العنوان: الرِّفقُ والأناةُ
رقم المقالة: 981
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
ما أحْوَجنا إلى الاتِّصاف بالرِّفق في حياتنا كلِّها؛ في نطاق الأسرة، وفي نطاق المدرسة والجامعة، وفي نطاق دوائر الدولة، وفي نطاق المجمتع كلِّه؛ ذلك لأن العصر الذي نعيش فيه عصرٌ كثُرتْ فيه الفتن، وكثُر فيه القتلُ، وتكالَبَ النَّاسُ بعضُهم على بعضٍ؛ فالقويُّ يعتدي على الضعيف, سواءٌ كان القويُّ دولةً أو كان فرداً من النَّاس، والغنيُّ يستغلُّ الفقيرَ... وهكذا.
إنَّ اتِّصافنا بالرِّفْق يَحُلُّ كثيراً من مشكلاتنا، ويَقضِي على الخصومات التي تَنْخَرُ في كِياننا الاجتماعي.
وقد قيل: ما أحسنَ الإيمانَ يَزينُه العلمُ، وما أحسنَ العلمَ يَزينُه العملُ، وما أحسنَ العملَ يَزينُه الرِّفقُ.
وقيل أيضاً: إن النَّاس لا يعطونكَ بالشدَّة شيئاً إلا أعطَوْكَ باللِّين ما هو أفضلُ منه.
واللِّين يَجْلِب المودَّةَ، ويُعِينُ على استجابة المدعوِّ للداعي، والعنفُ يَجْلِب العداوةَ، ويُنفِّر النَّاسَ من دعوة الخير، ولا يحقِّق لصاحبه كلَّ ما يريد، هذا مع ما قد يسبِّب له من أمراضٍ بسبب الانفعال الذي يرافق العنف.
وما أروعَ الكلمةَ الموجزة البليغة التي قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضوع: ((إن الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلا زانَهُ، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانَهُ))؛ رواه مسلمٌ برقم (2594)، عن عائشة - رضي الله عنها.
عن جَرير بن عبدالله رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْ يُحرَمِ الرِّفقَ، يُحرَمِ الخيرَ كلَّه))؛ رواه مسلم برقم (2592), وأبو داود برقم (4809).(/1)
إن الرِّفق مرتبطٌ بحُسْن الخُلُق؛ فمن كان على خُلُقٍ كريمٍ، كان مُتَّصِفاً بالرِّفق واللِّين والأناة، ومرتبطٌ بسلامة الصَّدر وسَعَته، وهما من مكارم الأخلاق، والمُتَحَلِّي بهما يعيش سعيداً، ولا يَحقِد على أحد, ولا يُبغِض من يعاشِر من النَّاس, ولا يَغضَب على أحد, أما العنف فهو مرتبطٌ بسوء الخُلُق، وضيق الصَّدر، ومن هنا كان سيِّئ الخُلُق عنيفاً إذا مَلك القوَّة أو مَلك البيان.
وتدفعُ إلى العنف نفسٌ انفعاليَّةٌ متسلِّطةٌ، تسيطر على صاحبها، وتَسُدُّ عليه سُبُل التفكير.
ومن صفات الله التي أثبتها له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرِّفقُ؛ كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله رفيقٌ يُحِبُّ الرِّفق في الأمر كلِّه))؛ رواه البخاري برقم (6024), ومسلم برقم (2065). وفي روايةٍ لمسلم: ((إنَّ الله يُحِبُّ الرِّفق، ويعطي على الرِّفق ما لا يعطي على العُنفِ، وما لا يعطي على سواه)).
إننا لَنشاهدُ هذا في الحياة؛ نشاهد أن الإنسان الرَّفيق يَحُوز كثيراً من الخير، ويَصِل غالباً إلى مراده، كما نشاهد أنَّ الذي يُعامِل الآخرين بالعُنْف والفَظاظة مكروهٌ غيرُ مُوَفَّق؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فُصِّلَتْ: 34 -35].(/2)
إنَّ على الداعية إلى الله أن يتَّصِف بالرِّفْق واللِّين في مخاطبته مَنْ يدعوهم؛ فقد أمر الله تبارك وتعالى موسى وهارون عليهما السلام - وهما من أنبياء الله ورسُله - أن يذهبا إلى فِرْعَوْنَ الذي كان من المفسِدين، ومن الطُّغاة المُلْحِدين - فيقولا له القول اللَّيّن؛ لعله يتذكَّر ويكون من المؤمنين؛ قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43-44].
كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته قومَه الرَّؤوفَ الرحيمَ؛ قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيم} [التوبة: 128].
ووصفه ربُّه تبارك وتعالى بالحِلْم واللِّين واللُّطف, وأمَرَهُ بالعفو عن المسيء, والاستغفار له؛ فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
وهو صلوات الله وسلامه عليه الأُسْوَةُ الحسنة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فقد كان صلى الله عليه وسلم يَحُضُّ على الرِّفْق، ويحذِّر من العنف، ويأمر بمُخَالَقَة النَّاس بالخُلُق الحَسَن، وأن يُسارِعَ مَنْ أساء إلى الإحسان؛ فقال: ((اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأَتْبِعِ السَّيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا، وخالِقِ النَّاس بِخُلُقٍ حَسَنٍ))؛ رواه التِّرْمِذِيُّ برقم (1987).(/3)
إنَّ الدُّعاة إلى الله مطالبون بالرِّفق في دعوة النَّاس، وألا يكون منهم تشدُّدٌ؛ لأن ذلك يُنَفِّرُ النَّاس منهم؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي موسى الأشْعَرِيّ، عندما أرسَلَهما إلى اليَمَن: ((يَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا، وتطاوعا ولا تختلِفا))؛ رواه البخاريُّ برقم (3038)، ومسلمٌ برقم (1733).
وعن أنسٍ رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا))؛ رواه البخاريُّ برقم (69)، ومسلمٌ برقم (1734).
إنَّ علينا أن نغُضَّ الطَّرْف عن أخطاء المُخْطِئين، وأن نَلْتَمِس الأعذارَ لهم، وأن نصبر على إساءاتِ المعاندين .. إننا إن فعلنا ذلك؛ رجوْنا أن نَصِلَ إلى غرضنا من دعوة الآخرين.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بال أعرابيٌّ في المسجد، فقام النَّاس إليه ليقعوا فيه؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعوهُ، وأريقوا على بَوْلِه سَجْلاً من ماءٍ - أو ذَنُوباً من ماءٍ - فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرينَ، ولم تُبْعَثُوا مُعَسِّرينَ))؛ رواه البخاريُّ برقم (220).
والمؤمنون معرَّضون للأذى؛ فعليهم أن يُقابِلوا ذلك بالصَّبر والتَّقوى؛ قال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
ومن الرِّفق: الدعوةُ إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
وطبيعة دين الإسلام هي اليُسْرُ؛ قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. والشِّدَّة لا تأتي بخير.(/4)
وقد رغَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرِّفق بالأولاد: بنينَ وبناتٍ؛ فعن أنس رضي الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْ عالَ جاريتَيْن حتى تَبْلُغَا؛ جاء يومَ القيامة أنا وهو...))؛ وضمَّ أصابعه؛ رواه مسلمٌ برقم (2631)، والتِّرْمِذِيُّ برقم (1914).
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلمٍ له ابنتان، فيُحْسِنُ إليهما ما صَحِبَتاهُ - أو: صَحِبَهُما - إلا أدْخَلَتَاهُ الجنَّة))؛ رواه ابن ماجه برقم (3670).
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُ أَسْباطَهُ، ويُداعِبُهمْ؛ ليُدْخِلَ عليهمُ السُّرورَ، وكان يَعُدُّ ذلكَ من الرَّحمة.
عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قال: قَبَّلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحسنَ بنَ عليٍّ، وعندَهُ الأَقْرَعُ بنُ حَابِسٍ؛ فقال الأَقْرَعُ: إنَّ لي عشَرَةً من الوَلَد، ما قَبَّلْتُ منهمْ أحداً!! فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ))؛ رواه البخاريُّ برقم (5997)، ومسلمٌ برقم (2318).
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قَدِمَ ناسٌ من الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أتُقَبِّلُونَ صِبيانَكُمْ!! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)). قالوا: لكنَّنا - والله - ما نُقَبِّلُ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوَأَمْلِكُ أنْ كان اللهُ نزعَ من قلوبِكُمُ الرَّحمةَ!))؛ رواه البخاريُّ برقم (5998)، وراه مسلمٌ برقم (2317).
وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرِّفق بالنِّساء:
قال صلى الله عليه وسلم: ((أَلا واسْتَوْصوا بالنِّساء خيراً؛ فإنما هُنَّ عَوَانٍ[1] عندَكُمْ))؛ رواه التِّرْمِذِيُّ برقم (1163)، وابن ماجه برقم (1851).
وقال: ((خيرُكم خيرُكم لأهْلِه، وأنا خيرُكم لأهْلي))؛ رواه ابن ماجه برقم (1977).(/5)
وقد يَكرهُ المرءُ في لحظةٍ من اللَّحظات زوجَتَه لخُلُقٍ؛ فعليه أن يتوقَّفَ ولا يستمرَّ في هذا الأمر؛ بل عليه أن يتذكَّر محاسنَها ومزاياها، فما من إنسانٍ إلا وله حسناتٌ ومزايا؛ يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَفْرَكْ[2] مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كَرِهَ منها خُلُقاً رضي منها خُلُقاً آخر))؛ رواه مسلمٌ برقم (1469).
ولْيذكرْ قولَ الله تبارك وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرِّفق بالأرِقَّاء والخَدَم:
عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إخوانُكُمُ خَوَلُكُمْ[3]، جَعَلَهُمُ الله تحتَ أيديِكُمْ، فمن كان أخوهُ تحت يدِهِ؛ فليُطْعِمْهُ مما يأكل، وليُلْبِسْهُ مما يلبَس، ولا تكلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ. فإن كلَّفْتُمُوهُمْ فأعينُوهُم))؛ رواه البخاريُّ برقم (30)، ومسلمٌ برقم (1661)، وأبو داود برقم (5157)، والتِّرْمِذِيُّ برقم (1945).
وعن أبي مسعودٍ البَدْريُّ رضي الله عنه قال: كنتُ أضرِبُ غلاماً لي بالسَّوْط، فسمعتُ صوتاً من خلفي: ((اعلم أبا مسعودٍ))، فلم أفهمِ الصَّوْتَ من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يقولُ: ((اعلم - أبا مسعودٍ - أنَّ الله عزَّ وجلَّ أقْدَرُ عليكَ منكَ على هذا الغلام))! فقلتُ: لا أضرِبُ مملوكاً بعدُ أبداً يا رسول الله، هو حُرٌّ لوجه الله تعالى. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أما لو لم تفعلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ))؛ رواه مسلمٌ برقم (1659)، وأبو داود برقم (5159)، والتِّرْمِذِيُّ برقم (1948).
الرِّفقُ بكبار السِّنِّ والأطفال:(/6)
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ليس منَّا مَنْ لم يوقِّرْ كبيرَنا ويرحمْ صغيرَنا، ويأمرْ بالمعروف وينهَ عن المنكَر))؛ رواه أحمد (1/257)، والتِّرْمِذِيُّ برقم (1921).
رِفْقُ الحُكَّام بالمحكومين:
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتي هذا: ((اللهمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أمرِ أمَّتي شيئاً فشَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه، ومَنْ وَلِيَ مِنْ أمرِ أمَّتي شيئاً فرَفَقَ بهم فارْفُقْ به))؛ رواه مسلمٌ برقم (1828)، والنَّسائي في (الكبرى: 5- رقم 8873).
وعن أبي سعيد الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحَبُّ النَّاس إلى الله يومَ القيامة وأدناهم منه مجلساً - إمامٌ عادلٌ، وأبغضُ النَّاس إلى الله تعالى وأبعدهم منه مجلساً - إمامٌ جائرٌ))؛ رواه التِّرْمِذِيُّ برقم (1329).
وعن عِيَاض بن حِمَار رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أهلُ الجنَّة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مُقْسِطٌ مُوَفَّقٌ، ورجلٌ رحيمُ القلبِ لكلِّ ذي قُرْبَى مسلمٍ، وعفيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذو عيالٍ))؛ رواه مسلمٌ برقم (2865).
والإمام العادل من السَّبعة الذين: ((يُظِلُّهم اللهُ في ظلِّه، يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه))؛ رواه البخاريُّ برقم (660)، ومسلمٌ برقم (1031).
الرِّفق بالحيوان:
لم تقتَصِرْ دعوةُ الإسلام على الرِّفق بالإنسان؛ بل جاوزتْ ذلكَ إلى الرِّفق بالحيوان؛ فعن ابن عبَّاس - رضي الله عنه -: أن رجلاً أضْجَعَ شاةً وهو يُحِدُّ شَفْرَتَهُ؛ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أتريدُ أن تُمِيتَهَا موتَتَيْنِ؟! هلّاَ أَحْدَدْتَ شَفْرَتَكَ قبل أن تُضْجِعَهَا!))؛ رواه الحاكم (4/233)، وقال: "صحيحٌ على شَرْط البخاريِّ.(/7)
وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شيئاً فيه الرُّوحُ غَرَضاً[4]؛ رواه البخاريُّ برقم (5515)، ومسلمٌ برقم (1958).
وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عُذِّبَتِ امرأةٌ في هِرَّةٍ حبسَتْهَا حتى ماتت، فدخلتْ فيها النَّارَ؛ لا هي أطعمتْهَا ولا سقتْهَا إذ حبسَتْهَا، ولا هي تركتْهَا تأكلُ من خَشاش الأرض))؛ رواه البخاريُّ برقم (3482).
بل لقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمَ إلى الرِّفق بمَنْ أساء إليه وظلمَهُ:
عن عُقْبَةَ بن عامر رضي الله عنه قال: "قلتُ: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال"؛ فقال: ((يا عُقْبَةُ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وأَعْرِضْ عمَّنْ ظَلَمَكَ))؛ رواه أحمد: (4/148).
هذا ولقد عفا أمير المؤمنين سيدنا عمر رضي الله عنه، إمام العدل - عمَّن أساء إليه، عندما سمع آيةً من كتاب الله تدعو إلى العفْوِ عن الجاهلين.
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنه قال: "قَدِمَ عُيَيْنَةُ بن حِصْنٍ، فنزل على ابن أخيه الحُرِّ بنِ قيسٍ، وكان من النَّفَر الذين يُدْنِيهمْ عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه. فقال عُيَيْنَةُ لابن أخيه: "يا ابنَ أخي، لك وجهٌ عند هذا الأمير؛ فاستأذنْ لي عليه. قال الحُرُّ: سأستأذنُ لكَ عليه". قال ابن عبَّاس: "فاستأذن الحُرُّ لعُيَيْنَةَ، فأَذِنَ له عمرُ. فلما دخل قال: هِيْ يا بن الخطاب، فوالله ما تُعطِينا الجَزْلَ، ولا تحكمُ بيننا بالعدلِ!! فغضب عمرُ حتى هَمَّ أن يوقِعَ به؛ فقال الحُرُّ: يا أمير المؤمنين، قال اللهُ لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإنَّ هذا لمَِنَ الجاهلين.
والله ما جاوزَها عمرُ حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله"؛ رواه البخاريُّ برقم (4642).(/8)
لقد كَظَمَ عمرُ رضي الله عنه غيظَه، وعفا عن عُيَيْنَةَ؛ قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وسنتحدَّثُ - إن شاء الله - عن (الأناة) في حَلْقَةٍ مُقْبِلَةٍ.
ــــــــــــــــــــــ
[1] عوانٍ: أسيراتٌ.
[2] يَفْرَكُ: يكره.
[3] الخَوَلُ: الخَدَمُ
[4] الغرض: ما ينصبه الرماة يقصدون أصابته للتدريب وإظهار البراعة.(/9)
العنوان: الرقية بين المشروع والممنوع
رقم المقالة: 1900
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
الرقية بين المشروع والممنوع
ملخص الخطبة:
1- سنة الابتلاء وموقف المسلم من ذلك.
2- التوكل والأخذ بالأسباب.
3- تعاطي أسباب العلاج المباحة.
4- القلق النفسي.
5- العلاج بالقرآن والسنة.
6- التحذير من التسارع إلى الرقاة.
7- تهويلات الرقاة ودجلهم.
8- الهدي النبوي في الرقية.
9- التحصّن والتحصين بالذكر.
10- فضل فاتحة الكتاب والرقية بها.
ـــــــــــــــــــــ
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيأيّها الناس، اتقوا الله – تعالى - حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ العبدَ في هذه الحياة ما بين صحيحٍ ومريض؛ أي: تارةً في صحّة وتارةً في مرض، ويومًا في فرح ويومًا في حزن، وما بين سعيد في الدنيا وما بين شقيٍّ فيها، سُنّة الله ولن تجد لسنّة الله تبديلاً. ولكنّ المؤمن يعالج هذه القضايا بالعلاج الشرعيّ النافع، الذي دلّ عليه كتاب الله وسنّة محمّد صلى الله عليه وسلم، فصحّتك أو مرضك، فرحك أو حزنك، الكلُّ بقضاء الله وقدره، والمسلم لا يستسلِم للبلاء ولا للأحزان؛ ولكنّه يتعاطى كلَّ سببٍ نافع وكلَّ علاج مؤثِّر، فهو يعالج قدرَ الله بقدر الله، يَرُدُّ القدرَ بالقدر، فالذي قدَّر الأمراضَ هو الذي شرع الدواءَ وأذِن في الدواء لعلاج ذلك المرض، والذي قدّر الأحزان والهمومَ هو الذي شرع علاجًا لتلك الهموم والأحزان، والذي قدّر الشقاءَ أو السعادة في الدنيا هو الذي قدّر ما يُعالجَ به الشقاءَ، ويُدفَع به أسباب الشقاء.
فالمسلم يردّ القدَر بالقدَر، يعالج القدر بالقدَر، هكذا المؤمن حقًّا، يعلم أنّ الله - جلّ جلاله - ربط الأسبابَ بمسبِّباتها، فكلّ سببٍ فمِن الله، والله الذي قدّر السبَب والمسبَّب، وله الحكمة التامّة، جلّ ربًّا، وتقدّس إلهًا ومعبودًا.(/1)
أيّها المسلم، ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - أعظم خلقِ الله اتِّكالاً على الله، واعتمادًا عليه، وثِقةً به، ومع هذا تعاطى الأسبابَ، واتَّقى الشرَّ بالخير، واتَّقى أسبابَ الشرّ بأسباب الخير، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
يقول لنا - صلى الله عليه وسلم -: ((تدَاوَوا عبادَ الله، ولا تتداوَوا بحرام))[1]، وقال لنا: ((ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له دواء، علِمه مَن علِمه، وجهِله مَن جهله))[2]، فالداءُ من الله، والدواء من الله، فهو الذي قدّر هذا، وقدّر هذا، فالذي قدّر الداءَ هو الذي قدّر الدواءَ، وجعل الدواء علاجًا لذلك الداء، ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء))، لكن ما كلّ أحدٍ يعلم ذلك، ((علمَه مَن علمه، وجهله مَن جهلَه)).
وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: ((المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمِن الضعيف، وفي كلّ خير. احرِص على ما ينفعك، واستعِن بالله، ولا تعجز))[3]، ((احرِص على ما ينفعك))، على كلّ شيء ينفعك، وعلى كلّ سبب يمكنك، ((واستعن بالله)) على ذلك، ((ولا تعجز))، ولكن لو قدِّر أن الأسبابَ التي أخذتَ بها لم تُحقِّق المطلوبَ فقل: قدَرُ الله وما شاء فعل.
أيّها المسلم، إنّ المؤمن يسلك في علاجِه لمرضه وهمومِه وأحزانِه المسالكَ الشرعيّة، فليس المسلم يدفَع مرضَ بدنِه بمرضِ قلبِه، ولا يدفع همّه وحزنَه بفرَحٍ على غير هدًى، ولا يدفع شقاءَه في الدنيا على حسابِ شقائه في آخرته؛ بل سلامة دينه، سلامة معتقده أغلى عليه من كلّ شيء، فهو يتعَاطى العلاج النافعَ ليعالجَ الأمراضَ التي ببدنه، ولكنه لا يعالِجها على سبيل فسادِ دينه واختلال عقيدتِه؛ بل هو يبرَأ إلى الله مِن ذلك، فإذا نزَل به البلاءُ التجَأ إلى ربّه، وانطرَح بين يدَيه، وتعاطى الأسبابَ النافعة، فإن قُدِّر ذلك وإلاّ فهو راضٍ بما قدّر الله وقضاه.(/2)
أيّها المسلم، إنّ الله - جلّ وعلا - ذكر لنا بعضَ أنبيائه وما حصَل عليهم من البلاء، فذكر عن أيّوب - عليه السلام - بقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، قال الله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84]. وقال عن خليلِه - عليه السلام - في معرض ثنائِه على ربّه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]. وأخبرنا - صلى الله عليه وسلم - عن علاج الهمومِ والغموم التي تحلّ بالعبد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أصابه غمّ أو حزن فقال: اللهمَّ إنّي عبدك، ابنُ عبدك، ابنُ أمَتك، ناصيَتي بِيدك، ماضٍ فيَّ حُكْمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك اللهمّ بكلّ اسمٍ هو لك، سمّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمته أحدًا مِن خلقِك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاء حزني وهمّي؛ إلا أذهب اللهُ حزنَه، وأبدله به فرحًا))[4].
أيّها المسلم، إنّ ما أُصيبَ به الكثير من النّاس من قلقٍ نفسيّ، واضطرابات وهمومٍ وأحزان، إنما سببُه قلَّةُ الإيمان، وقلّة التعلّق بربّ العالمين، والمسلم كلّما نزلت به الكروبُ والهموم لجأ أوّلاً وقبل كلّ شيء لربِّه وخالقِه والتجأ إليه، وسأله أن يفرِّج همّه، ويكشِف كَربَه، ويزيل غمّه ويعينه على كلّ أموره، ويتعاطى الأسباب النافعة التي شرعها الله ورسوله.(/3)
أيّها المسلمون، إنّ كتابَ الله علاجٌ لأمراض القلوب والأبدان، وكذلك المأثور من سنّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - يقول الله - جلّ وعلا -: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال عن القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]، فالقرآن شفاءٌ لأمراض القلوب، يعالجُها من أمراض الشِّرك، والشبهات والشهوات والشكوك، والهموم والأحزان، وعلاجٌ للأبدان لمَن صَدقت نيَّته، وعظُمت رغبته فيما عند الله.
أيها المسلمون، إنَّ نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - شرع لنا أن نعالج أنفسنا بكتاب الله، وبالمأثور من سنّته صلى الله عليه وسلم.(/4)
البعضُ من الناس، أيُّ ألمٍ يصيبُه، وأيُّ همٍّ ينزل به، يبحَث عن راقٍ يرقيه، وقارئ يقرأ عليه، وربّما استغلّه ذلك الراقي وذلك القارئ الاستغلالَ السيّئ بأمور، منها أنه يلقي في قلبه الرعبَ، ويخوّفه ويجعَل كلَّ خوفٍ نصبَ عينيه، فيَعُدُّ عليه من الأمراض ما هو بريء منه، ولكن لإضعافِ كيانه ولإضعاف قوّته؛ حتى يلتجئ إلى ذلك الراقي، وينقادَ لذلك الراقي، فيتحكّم فيه ذلك الراقي الآثمُ ليسلبَ ماله ويأخذ مالَه، ويجعله مرتبِطًا به دائمًا؛ فِيكَ مسٌّ، وفيك عَين، وفيكَ سِحر، وفيك وفيك وفيك، فيجلبُ له أمراضًا هو لا يعرِفها، قد أتى إلى هذا الراقي، وقد لا يشكو إلا جزءًا يسيرًا من مرَض، فيرجع وقد امتلأ قلبُه رُعبًا وهمًّا، وخوفًا وحزنًا، وقلقًا نفسيًّا! لماذا؟ لأنّ هذا القارئ المخطِئ الجاهل قد قال له: فيك من الأمراض ما فيك، وفيك من الأوجاع ما فيك، سَحرتك فلانَة وسَحرَك فلان، [وأصابك] بعينِه فلان وفلانة، وفي بيتكم سِحر وعندكم حسَد، وإلى آخر ذلك، لماذا؟ ليضعُفَ أمامه، فيأتيه كلَّ يوم، ويتحَكّم فيه وفي مصيره، ويسلب منه الأموالَ، حتى يظنّ ذلك المسكين أنّه لا شفاءَ ولا سلامة إلاّ على يد ذلك الإنسان! وكلّ هذا من أراجيف الشيطان، كلُّ هذا من الشياطين وأعوانِهم، شياطينِ الإنس والجنّ. فلو اتَّقى ذلك الراقي ربّه حقًّا لعالجَ ذلك المريضَ، وأرشدَه إلى أن يعالجَ نفسه بنفسه، أمّا أن يُدخل عليه الهموم والأحزانَ، ويعطيه من الأمراض ما لا يعرِفه وهو خالٍ منها، إنّما يقصِد أولئك الإرجافَ بالناس، إرعابَ الناس، تخويفَ الناس؛ حتى يكثرَ سوادُهم، ويكثُر الآتون لهم والقاصدون لهم، ويسلّموا لهم ما أرادوا، ويتحدَّثوا عنهم بأنّ فلانًا خبير، يَعلم ويشخِّص الأمراض، ويعلم الأدواء، وأنه وأنه...!(/5)
أيّها الإخوة، كلّ هذا مِن أراجيف الشيطان، فاحذروا - رحمكم الله - ذلك، ولا تأتوهم، ولا تحتاجوا إليهم. اسمَعوا كيف يعالِج نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - نفسَه، تخبِرنا أمّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أوى إلى فراشه جمع يديه، فقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ثلاثًا، ثم يمسح بها رأسه ووجهَه وما أقبل من جسدِه، ثم ينام - صلى الله عليه وسلم –"[5]. وكان يرقي الحسنَ والحسين؛ يقول: ((أعوذ بكلمات الله التامّة، من كلّ شيطان وهامّة، ومن كلِّ عين لامّة))[6]. أتاه عثمان بن أبي العاص يسأله عن ألمٍ يجِده، قال: ((ضَعْ يدَك على ذلك الموضِع من جسدِك، وقل: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمِه شيء في الأرضِ ولا في السماء ثلاث مرات، أعوذُ بالله وقُدرته من كلّ ما أجِد وأحاذِر سبعَ مرات))[7]. وقال لنا - صلى الله عليه وسلم - مرشِدًا لنا إلى ذكرٍ نافع ينفعنا: ((مَن قال في صباح يومه ثلاثَ مرّات: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لم يصبه ضررٌ في يومه، ومن قالها عند مسائه لم يصِبه ضرَر في ليلته))[8].
فيا إخوتي، هذه الأذكار النبويّة تحصّننا من الهموم والغموم، وتحرسُنا من مكائد شياطين الإنس والجنّ، وتجعلنا في حِصنٍ حصين من أن نلجأ إلى أولئك الرّاقين، إلى أولئك الطمّاعين، إلى أولئك الجشِعين، إلى أولئك الكذّابين الدجّالين.(/6)
أيّها الإخوة، للأسف الشديد أنّ دُورَ الرقية الآن انتشَرت بين الناس، فلا تجِد حيًّا إلا فيه عنوان: "الرقية الشرعية لفلان بن فلان"، هذا الرّاقي إذا أتيتَه ماذا العمل؟ أوّل شيء أن يأخذَ مبلغًا من المال مُقدّمةً للدخول. ثاني شيء أنّه يتحكّم فيك، فيعطِيك أمراضًا أنت بريء منها؛ بأوّل نظرة: فيك وفيك، وفيك وفيك، حتّى تخرجَ مريضًا فوقَ مرضك الذي جئتَ لتعالجَه. ثالثًا أنهم سلكوا مسلكًا سيّئًا، تنافسوا في الكذِب، وتنافسوا في الدّجَل، وتنافَسوا في اختلاقِ الأباطيل والأكاذيب، لماذا؟ ترى واحدًا منهم يقول: أنا عندي جِنّ أستعين بهم، يُعلمونني ما هو المرَض، ونوعَ المرض، وأكشِف لكم ذلك بأيّ [وسيلة] تكون، وبعضهم يقول: أضع عليه خرقةً سوداء، ثمّ يكشف لي جميعَ الأمراض؛ مَن سحَره؟ ومَن أعانَه؟ ومَن؟ ومَن؟ إلى آخر ذلك، فيظنّ ذلك الإنسان أنّ هذا عنده علمُ الغيب ومطّلعٌ على الأمور كلّها، ويأبى الله ذلك، إنما أولئك إخوان الشياطين، يستعينون بالشياطين، ويقرّبون القرابينَ لهم، ويعبُدونهم من دون الله، ويتقرّبون لهم من دون الله. فالحذرَ الحذَر من أولئك، والحذرَ الحذرَ من إتيانهم، وتثبّتوا عند أيّ راقٍ تريدون أن يرقيكم، فإن تكن رقيتُه خيرًا؛ كتاب الله والمأثور عن محمد - صلى الله عليه وسلم - فنَعَم، وإن يكن فيها كلامٌ لا يُفهم معناه، وطلاسم ورُقًى لا تعلمونها، ولا تفهمون ما فيها؛ فاحذروهم، فإنّهم الأعداء الألدّاء.(/7)
ابن مسعود صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقول زوجتُه زينب: "كان إذا أتانا لم يطرق البابَ حتى يسلّم، ويتنحنَح، ويبسطَ؛ حتى لا يفجأنا"، هكذا أدَّبهم محمّد - صلى الله عليه وسلم - قالت: "وكانت عندي امرأة ترقيني، فلمّا دخل جعلتُها وراءَ السرير حتّى لا يراها، ورأى في رقَبتي خيطًا فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رُقي لي فيه، قالت: فأخذه وقطّعه وقال: أنتم آل عبدالله لأغنياءُ عن الشرك، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنّ التمائمَ والرُّقى والتِّوَلة شِرك))، والتمائمُ الحُروز التي تعلَّق على الأطفال أو غيرهم، والرّقى هي العزائمُ تُكتب أو تنفَث على المريض، والتِّوَلة شيء يصنعه السّحرة، يزعمون أنّ المرأة إذا تعاطته جَلبت محبّة زوجِها لها، وأن الزوجَ إذا تعاطاه جلب محبّةَ زوجته له. هكذا السحرة. قالت امرأته: "يا هذا، إنّ عيني تقذف - أي: تُؤلمني - فأذهب إلى اليهوديّ فيرقيني فيها!"، قال عبدالله: "إنّ عينَك ينخسها الشيطان بيده، فإذا رقي اليهودي لها زالت، فإذا تركتم الرقيةَ عادت، أما ترقين نفسَك بما كان يرقِي به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نفسه؟! ((أذهِب الباسَ ربَّ الناس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادِر سقَمًا))[9].
وجاء جبريل - عليه السلام - إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا محمّد، أتشتكي؟"، قال النبيّ: ((نعم))، قال: "بسم الله أرقيك، من كلّ دَاء يؤذيك، من كلّ نفس وعين حاسدة، الله يشفيك"[10].
فيا إخوتي، الأذكارُ النبويّة عالجوا بها أنفسَكم، وارقوا بها أولادَكم الصغار، وحصّنوا أنفسَكم بذلك، تسلموا من الأمراضِ والأورام بتوفيقٍ من الله. فصِلة المسلم بكتابِ ربّه، وصلتُه بسنّة نبيِّه سببٌ لسلامة قلبِه وبدنه، وكونه يعطّل هذه الأذكارَ فإنّ ذلك يؤدّي إلى فراغ في النفس، وهموم وقلقٍ واضطراب.(/8)
أيّها الإخوة، إنّ أولئك الراقين كثير منهم - هدانا الله وإياهم - سلَكوا المسالكَ السيئة، واتّخذوا طُرقًا خبيثة، لا تمُتّ للإسلام بصلة، إرعابُ الناس وتخويفهم، والطمعُ الشديد في أموالهم بشكلٍ خياليّ؛ حتى إنّ الواحد منهم ربّما يكون دخله في اليوم ما لا يستطيع له أكبر مختصّ في الطبّ الحديث، وليسوا على حقّ في كثير من أحوالهم، بل كثير من أحوالهم ليست على هدًى ولا على خير ولا على طريق مستقيم.
فلنتَّق الله، ولنلجأ إلى الله، ولنقوِّ صلتنا بربّنا، وأسأل الله أن يشفيَ قلوبنا وأبداننا، وأن يمنحنا الصحَّة والسلامة والعافيةَ في كلّ أحوالنا، نسأل الله العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة، اللهمَّ عافنا في دينِنا وأبدانِنا وأهلينا وأموالنا، اللهمّ استُر عوراتنا، وأمِّن روعاتنا، واحفَظنا من بين أيدينا ومِن خلفِنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، نعوذ بعظمتِك أن نُغتال من تحتنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيأيّها الناس، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.(/9)
عبادَ الله، فاتحة الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي أمّ القرآن، وهي السَّبع المثاني التي أوتيها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما نزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور أفضل منها، فهي أم القرآن، جَمع الله الكتب السابقةَ في القرآن العزيز، وجمع معانيَ القرآن في المفصَّل، وجمع الله معاني المفصَّل في الفاتحة، وجمع معاني الكلّ في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
ففاتحة الكتاب أفضل سوَر القرآن، فهي رُقية للمرَض، وشِفاء من الأمراض لمن يرقي بها نفسَه، فينفث على نفسه بفاتحةِ الكتاب، فيجِد فيها راحة وعافية وشفاءً برحمة أرحم الراحمين.(/10)
روى أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ رهطًا من أصحابِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سافروا في سفرةٍ لهم، فنزلوا على حيّ من أحياءِ العرب، فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فلُدِغ سيّد القوم في الحيّ، فبحثوا عن علاجٍ فلم يجِدوا علاجًا، فقال بعضهم: لو أتيتم أولئك النفَر الذين نزلوا بكم البارحَة فسألتموهم؛ فلعلّ عندَ أحد منهم رقية، فجاؤوهم وقالوا: لُدِغ سيّدنا البارحة، فهل من راقٍ يرقيه؟ وهل مِن دواء؟ فقال أحدهم: نعَم أنا أرقيه، ولكن والله لا أرقيكم حتى تجعَلوا لي جُعلا، استضفناكم فلم تضيّفونا، فاتّفق معهم على قطيعٍ من الغنَم، فجاء ذلك الصحابيّ، وجعل يقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1]، ويتفل على ذلك الرجل، استكمَل الفاتحة يقرأ ويتفل عليه، قال: فكأنما نشط من عقال، فقام سليمًا من مرضه، ليس به أيّ وجعٍ ولا أيّ مرض، بفضل الله ثمّ بقراءة فاتحةِ الكتاب مِن ذلك الصحابيّ الموقن المصدّق، فلمّا أخذوا الغنم قال الراقي: لا تقسموا حتى نأتيَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فنعرض الأمرَ عليه، خَشوا أن يكونوا قد أخطؤوا، أو قد فعَلوا فِعلاً لا يليق لتعظيمهم لرسول الله، ومحبّتهم له وانقيادهم له، ورجوعِهم إليه في كلّ ما أشكَل عليهم رضيَ الله عنهم ورضُوا عنه، فأتَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقصّوا عليه خبَرَهم فقال للقارئ: ((وما أدراك أنها رقية؟!)) يعني: كأنّه يقول: هي رقية، ما الذي أدراك بها؟! هذا الصحابيّ ألهَمه الله ذلك الأمر، لا علمَ له لكن الله ألهمَه الحقّ، فقال النبيّ: ((وما يدريك أنّها رقية؟! اقسموا واضرِبوا لي معكم بسَهم)) [11]، صلوات الله وسلامه عليه.(/11)
فالمقصودُ أنّ أخذَ القارئ شيئًا على القراءة لا مانعَ منه، ولكن ليتّقوا ربَّهم، وليدَعوا عنهم هذا الجشَع، وليدَعوا عنهم الأراجيفَ والأكاذيب، وتخويفَ الناس وإمراضَ الناس بما يقولون، فليتَّقوا الله، وليعلَموا أنّ علمَ الغيب عند الله، وإنّما هي أسباب، والله - جل وعلا - من وراء القصد.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهدايةَ لكلّ خير، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا - رحمكم الله - أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا - رحمكم الله - على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه أبو داود في الطب (3874)، والبيهقي في الكبرى (10/5)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (5/282) من طريق إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن أبي عمران الأنصاري، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وليس عند ابن عبدالبر "عن أم الدرداء"، وثعلبة حديثه حسن في الشواهد، انظر: "السلسلة الصحيحة" (1633). وفيه اختلاف آخر فقد أخرجه الطبراني في "الكبير" (24/254) فجعله من مسند أم الدرداء، قال الهيثمي في "المجمع" (5/86): "رجاله ثقات".(/12)
[2] أخرجه أحمد (1/377)، وابن ماجه في الطب (3438) مقتصرا على جزئه الأول، والحميدي (90)، والشاشي (752)، وأبو يعلى (5183)، والطبراني في الكبير (10/163) والأوسط (7036)، والبيهقي في الكبرى (9/343) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد اختلف في رفعه ووقفه، قال الدارقطني في العلل (5/334): "ورفعه صحيح"، وصححه الحاكم (8205)، وقال الهيثمي في المجمع (5/84): "رجال الطبراني ثقات"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (451).
[3] أخرجه مسلم في القدر (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (1/398، 452)، والبزار (1994)، وأبو يعلى (5297)، والطبراني في "الكبير" (10/169)، والحاكم (1877) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - نحوه، وصححه ابن حبان (972)، وهو في "السلسلة الصحيحة" (199).
[5] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5018)، ومسلم في السلام (2192).
[6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3371) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[7] أخرجه مسلم في السلام (2202) ولفظه: ((ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: باسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)).
[8] أخرجه أحمد (1/62، 66، 72)، والبخاري في "الأدب المفرد" (660)، وأبو داود في الأدب (5088)، والترمذي في الدعوات (3388)، وابن ماجه في الدعاء (3869) عن عثمان - رضي الله عنه - بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (852، 862)، والحاكم (1/695)، وحسنه الضياء في "المختارة" (309)، وصححه الذهبي في "السير" (4/352)، والألباني في "صحيح الترغيب" (655).
[9] أخرجه أحمد (1/481)، وأبو داود في الطب (3883)، وابن ماجه في الطب (3530)، وأبو يعلى (5208)، وصححه ابن حبان (6090)، والحاكم (8290)، ووافقه الذهبي، وهو مخرج في "السلسلة الصحيحة" (331).
[10] أخرجه مسلم في السلام (2186) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بنحوه.(/13)
[11] أخرج القصة البخاري في الطب (5736، 5749)، ومسلم في السلام (2201) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(/14)
العنوان: الرمز والحق وتجاذب الولاء
رقم المقالة: 982
صاحب المقالة: عادل السبيعي
-----------------------------------------
يتشدقُ الكثيرُ بمثاليَّات التجردِ وصفاء الانتماء... وينتحبون عالياً ببكائيات مصطنعة على (وصل ليلى)... وشموخها بعدم إقرارها لهم بذلك... لكن لا تلبث أن تتكسرَ كلُّ هذه التشدقات عند أول عتبات ومَحَكَّات الولاء والتجرد؛ لتتلاعب بها رياحُ الأهواء والنفعية والرمزية بعيداً؛ لتخلق مسافة وهوة لا يمكن تجسيرها إلا ادعاءً وهمياً وتلاعباً مَقِيتاً...
في مثل هذه الأجواء المشحونة بتوترات وتجاذب الولاء يبرزُ تصنيمُ الرمز كظاهرة سلبية أثرت في مشهدنا الفكري وولاءاتنا المتعددة؛ لتنتج سيلاً من البلاء متمثلاً باكتفاء الأتباع بشكليات رموزهم -إنْ علماً أو ذكاءً أو فصاحة- دون إبداء حاجتهم لملء تلك الشكليات بمضامينَ شرطية لتكتمل صورةُ الرمز إيجابياً... فالعلم مجرداً عن قوته العلمية - التي من خلالها يتم فرض فقه النوازل وسحب التنظير على واقع الأمة - لا يعدو كونَه درةً في بحر أو نسخة من كتاب... ومن أوتي ذكاءً ولم يؤت زكاء فضرره متعدٍّ لا يقفُ عند حد... والفصاحة ربما تكونُ أداة مؤثرة لرموز النفاق والنفعيين {وإن يقولوا تسمع لقولهم} [المنافقون: 4].
وثمة مؤثرات طاغية وموجهة لغياب التصافح مع الحق... فالاختلافُ بيئة خصبة جداً لتجاذب ولاءات الرموز، وقد يتيه خلقٌ عن صوت الحق وسَطَ ضجيج المكتسبات الشخصية حينما يبتعدون عن طلب التوفيق وسؤال الدلالة على الحق على شكل فعل روحي محض كنحو "اللهمَّ ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"... ثم على شكل علمي مؤصل يتم من خلاله رَدُّ الفروع إلى أصولها، وآحاد المسائل ومفرداتها إلى محيط كليات الشرع وثوابته...(/1)
إن (ثنائية) [القول والقائل] و[الكاتب والمكتوب] من الإشكاليات التي تجعل الحق والمبدأ - وهو يقف (ثالثاً) بصفته محكِّماً - يصيبه الكثيرُ من الظلم والبخس، حينما ينجذب المتلقي (رابعاً) بقوة الرمز [قائلاً وكاتباً] فينساق وراء [قوله وكتابته] مستدبراً الحق وتحكيمه، ولا يدري - وهو يقع تحت هذا التأثير - أنه قام بتأجير عقله وفكره وعواطفه للغير متولياً بالنيابة عنه تحديد ثوابته المختلفة...
وهنا يحضرُني ذلك الاقتراحُ العملي اللطيف بعدم إظهار أصحاب كتاباتنا وبياناتنا؛ ليتولى المتلقي تحديدَ قيمة المحتوى سلباً أو إيجاباً... ولي في ذلك تجرِبة شخصية إبَّان خروج أحد البيانات التي أحدثت هِزَّة فكرية كبيرة، إذ قرأته على بعض الأفاضل النجباء دون تعريفهم بأصحابه؛ فرأيتُ من الاستهجان والامتعاض من محتواه ما أدهشني... فمِنْ قائل: إنه ورقة عمل لأحد مؤتمرات تقارب الأديان!... ومن قائل: إنه مفردة في منظومة الإجهاز على فقه الولاء والبراء من بعض علمانيي زماننا، مشوباً بتمسح مكشوف ببعض الدلالات الشرعية!... ولكنني دهشت أكثر حينما خفَّت النبرةُ وتلطَّف القول من بعضهم لَمَّا عرَفوا من كَتَبَه وتبناه! فبان لي عملياً مدى تأثير الرمز، واستطاعتِه قلبَ المفاهيم أو تجريدها من معانيها، حتى في أصول الحق وثوابته الراسخة؛ ليتسلَّط عليها تشويهاً ومسخاً بكل ما أوتي من أدوات المصلحة، وبعد النظر، والعقلانية، وعدم التهور، وتوظيف كل ذلك كمسوِّغات يَرُوجُ سوقُها كثيراً عند من لا نصيب لهم من العلم والنظر...
وكم كان الإمامُ أحمد - رحمه الله - يحمل حساً موفقاً في التجرد والإخلاص حينما كان ينهى أصحابَه عن تقليده، بل وتعدى ذلك بهجره مَن كَتَبَ فتاواه ومسائلَه؛ كل ذلك خشية من ترميزه، ومن ثم الاشتغال عن الأصل "ولكن خُذْ من حيث أخذوا"...(/2)
وتزخرُ ساحاتنا بجعل الرمز محكِّما؛ فبحسَب قرب المُحاكم أو بعده من الرمز يَصدُر الحكمُ... وكم بُلينا بمن جعل الكثيرَ من الأشخاص وما يحملون من فكر نير هدفاً لمثل هؤلاء...(/3)
العنوان: الرواية والخطر الفكري الخفي
رقم المقالة: 1299
صاحب المقالة: وائل بن يوسف العريني
-----------------------------------------
الرواية والخطر الفكري الخفي
قراءة في رواية (ميرامار) لنجيب محفوظ
خلق الله -سبحانه- الإنسان من نفس واحدة، وخلق منها زوجها ليسكن إليها، وجعل بين الجنسين عطفاً ورحمة، وأوجد بينهما الألفة والمحبة.
وفي خلق المرأة من ضلع الرجل إشارة إلى عودتها إليه زوجةً تستره؛ فيرعاها ويقوم بشأنها، وتتألف منهما الأسرة التي هي اللبنة الحقة للمجتمع، وأساس تكوينه السوي، ومن تلك الأسرة تنطلق الأمة إلى صنع حيز لها في ذاكرة التاريخ، وحجز مقعد في دفتر الزمان.
وقدَّرت حكمة الله -سبحانه- أن يُضَمِّن كلَّ جنس -ذكره وأنثاه- ميلاً فطريّاً إلى الجنس الآخر؛ وبذا يحفظ الخلق جنسهم بالتناسل. إلا أن تلك الفطرة حين وجدت؛ وُجد ما ينظِّمها؛ لئلا ينحط البشر إلى درك البهيمية ومنزلة الحيوان، ولأنه سبحانه ما سدَّ طريقاً فيه شر إلا فتح بإزائه طريق خير وسبيل فلاح ومنهجاً قويماً، فشرع -سبحانه- الزواج، تلك الشركة التي يوثقها رباط مقدس، ويكون فيها ويخرج منها الخير للمجتمع والأمة، إذ هي مصالح مشتركة؛ فالأب يهتم بالأمور الاقتصادية والتربوية، والأم تهتم بشؤون المنزل تنظيماً ورعاية، والثمرة من الأبناء هم مسؤولية مشتركة بين الزوجين، لهم حق التربية والتأديب والرعاية والاهتمام.
تلك هي سنة الله التي أخرج لعباده، وهذه هي السبيل المثلى للانتفاع من تلك الغريزة في البناء والوصول بالأمم إلى مراتب الحضارة في الدنيا والأجر الوفير في الآخرة.(/1)
إلا أن الشر يأبى أن يستكين، ويرفض أن يسلِّم للحق؛ فأوحى إلى أوليائه: أن اهدموا كل مقدس، وحطموا كل فضيلة، فخرجت غربان لا ترضيها الفضائل، وتقضُّ مضاجعها القيم، تنادي بالتمدن ذي الدمغة الغربية، ولم يحلُ لهم إلا موضوع الطهارة ليدنسوه، والعفة ليحطموه، فدعوا إلى التفسخ الأخلاقي والانحلال، ونادوا إلى نبذ الشرف والحرمة، أرادوها بهيمية {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة:30 والمنافقون:4].
ولما كانت تلك الأفكار صداماً صُراحاً للمعتقدات، وهدماً مكشوفاً للفضيلة؛ كانت دعوتهم إليها متعددة الوسائل ومختلفة الطرق، فمن الإعلام، إلى الرياضة، إلى الاقتصاد، إلى غير ذلك من سبل الشر ومفزع أهل الباطل.
وكان الأدب أحد أهم الطرق وأقلها مؤونة؛ إذ الكلمة لا تكلف شيئاً، والنشر مهيّأ في الغالب، فأصبح الأدب أحد الأسلحة الهدَّامة في زماننا هذا!
وكانت الرواية هي الفن الرئيس لهذا الهجوم؛ إذ فيها من الحرية ما يتيح للكاتب أن يقول ما يشاء تحت غطاء الفن أولاً، والخيال ثانياً!!
ومن واجب ذوي التوجه السليم أن يقفوا أمام تلك الهجمات بالرد تارة، وبالتوضيح تارة أخرى.
وقد قرأت إحدى الروايات؛ فوجدتها مليئة بالتجاوزات التي أجدني ملزماً بتوضيحها، والنص عليها؛ علَّ الله أن يسد بذلك ثغرة، ويوفق إلى الحق إنه سميع مجيب.
والرواية التي رأيت أن أتحدث عنها هي من روايات (نجيب محفوظ) وعنوانها (ميرامار).
وتدور أحداث الرواية حول نُزُل تمتلكه امرأة يونانية في الإسكندرية، هي (ميرامار أو مارينا)، ويأتي للسكن عندها شيخ كبير هو (عامر وجدي)، وسياسي سابق هو (طلبة مرزوق)، وثلاثة شبان هم: (سرحان البحيري، حسني علام، منصور باهي)، وتأتي للعمل في هذا النزل شابة فلاحة هي (زهرة).
المرأة صاحبة المنزل قد ولت أيام صباها مليئة بالتجاوزات؛ كما تشير إلى ذلك بعض الحوارات في الرواية، وكذلك الشيخ.(/2)
أما طلبة وسرحان وحسني؛ فهم لا يفتؤون يتجاوزون الخطوط الحمراء، ويسعون للإطاحة بزهرة من جهة، وبغيرها من جهة أخرى.
وتستمر الرواية على هذا النسق حتى يموت سرحان البحيري، ويُظن أن منصور باهي قد قتله غيرةً على زهرة التي نزع شرفها، وفي النهاية تُصبح القضيّة انتحاراً، ولم تكن ثأراً لشرف وانتصاراً لعفة!!
تلك كانت إلماحة سريعة لأحداث القصة التي تدور في زمن بداية الثورة الناصرية ونهاية عصر البشوات.
وقد بنى الكاتب روايته على ما يشبه الاعترافات، وتعددِ زوايا الرؤية إلى أربع زوايا؛ هي لعامر وجدي، وحسني علام، وسرحان البحيري، ومنصور باهي.
وكانت الرواية تعجُّ بكلمات تخدش الحياء، وتسيء إلى القارئ كثيراً!! وسأورد بعض تلك الكلمات، وعدد ورودها في الرواية:
فيكفي أن تعلم أن الكاتب يصر على ترديد لفظة (قوّادة) -أجل اللهُ الملائكةَ والقراء- سبع مرات، منها ثلاث في صفحة واحدة.
ويذكر الغرام بوصفه فعلاً ثلاث مرات، فضلاً عن ألفاظ العشق، والحب، ولفظة (اللوطيون) التي وردت كذلك عنده.
والمتتبع لتلك الألفاظ يجد الكاتب يرددها، وكأنه يريد أن يجعلها مألوفة للسامع؛ لا يأنف منها، ولا يعترض على ورودها.
ثم لماذا يصر الكاتب على كلمة (قوّادة) مثلاً، ولا يجنح إلى مرادفاتها؟ هل يريد الإلماح إلى معنى آخر، وهو معنى القيادة؟ إن كان ذاك فهذا تجنٍّ على الأمة، وإساءة للمجتمع لا تُغتَفر بحال من الأحوال.
ثم إن الكاتب أكثر من العبارات الجارحة، والحوارات المخالفة، وفيما يلي عرض لما يمكن إيراده مما لا يمس الذوق والأدب:
يقول طلبة بعد أن فشل في الإيقاع بالخادمة: "الفلاح يعيش فلاحاً، ويموت فلاحاً"[1]، ثم يقول: "قطة متوحشة! لا يغرك منظرها في الفستان، إنها قطة متوحشة"[2].
هل يريد الكاتب أن يوصل معلومة ما؟ هل يريد أن يقول إن التقدم ينافي الحفاظ على الشرف؟!(/3)
ثم إن القوة في المحافظة على العِرض أصبحت عنده توحشاً وهمجية!! هل هذا المنطق يمكن أن يقبل في مجتمع تعني له الفضيلة شيئاً كبيراً؟
ويقول عامر وجدي: "ومدام لبراسكا الإفرنجية الوحيدة التي جربتها وسط طوفان من الملاءات اللف"[3].
يزعم الكاتب بذلك شيوع الفاحشة وكثرة المومسات في بيئة الرواية، وهذا تعميم لا يمكن قبوله ولا يُسلَّم بكثرته في تلك الأيام.
ويقول حسني علام حين نظر إلى الخادمة زهرة: "إنْ صَدق ظني؛ فهي لم تحبل، ولم تجهض بعد"[4].
يلقي الكاتب هذا الكلام، وكأنه أمر عادي؛ أن يحدث الإجهاض من الفتيات؛ نتيجة الفوضى العارمة في الجنس، وانتشار الفواحش!!
ويقول حسني علام أيضاً: "البلد مليئة بالنِّسوان، ولكن البنت مثيرة لغرائزي"[5].
يعود الكاتب إلى الإصرار على كثرة بائعات الهوى في بيئة الرواية، ثم في ذلك إشارة إلى استهتار الشاب؛ إذ تسيره غرائزه لإشباعها دون الالتفات إلى رادع من دين أو أخلاق، كيف وهو يقول: "سعادة عُظمى ألا يكون لك ولاء لشيء؛ لا ولاء لطبقة أو وطن أو واجب، لا أعرف من ديني إلا أن الله غفور رحيم"[6]!!.
وتتعدد تجاوزات حسني علام هذا؛ فهو يصور أنه التقى بإحداهن؛ فتحدث معها، ثم رافقها إلى مسكنها، ونام معها ظهراً، وفي العصر نسي اسمها تماماً![7].
ويستمر مسلسل الاستهتار إذ يقول: "من المسلَّم به أنني سأبقى عازباً إلى الأبد... يمكن بعد ذلك أن أعتبر جميع النساء حريماً متنقِّلاً لمزاجي"[8].
هكذا وصل الحد به في تصوير الفوضى الجنسية؛ جميع النساء؟ وهو بذلك قد استعاض عن الزواج الذي يقوم على الشرف والفضيلة.
ويصور حسني علام إحدى نزواته في ليلة لعبت فيها الخمرة برأسه؛ فقام بجنس جماعي مع عدد من المومسات[9].
ويقول مبالغاً في استهتاره: "وعلي -إن أردت توسيع مجالي الحيوي- أن أخدع الأبصار بدبلة زواج وهمي"[10].
تأمل كلمة (الحيوي)؛ فلها دلالات خبيثة لا تخفى.(/4)
ثم ينتقل الحديث إلى سرحان البحيري؛ الذي كان يقيم في شقة مع إحدى الراقصات، وهي تريد الزواج منه، وهو يقول: "نجوم السما أقرب إليها مني، ثم إنني مللتها جداً"[11]. يقول متحدثاً عن صديقته تلك: "أردت أن أنتظر صفية، ولكنها أخبرتني أنها مدعوة للذهاب مع زبون ليبي"[12].
هكذا؟! لا غيرة؟!! أو حتى امتعاض؟!! لماذا يصر الكاتب على مصادمة الفضيلة دون أدنى تعقل أو مهادنة؟.
فكر الكاتب:
انطلق الكاتب من عدة أفكار تطرفيّة مُنْكَرة، وكأنه بذلك يريد أن يغير من قيم المجتمع، وفيما يلي عرض لبعض تلك الأفكار وشواهدها:
1- يصور الكاتب الزواج في صورة الحياة البئيسة، ويريد أن يلغي تلك السنة؛ ربما لاختلال مفهومها عنده، أو لأن الزواج يحفظ القيم الاجتماعية في الأمم والمجتمعات.
الزواج عند الكاتب مسؤولية، الزواج عنده يعني الفقر والحرمان من الشهوات واللذات، الزواج عنده قيد، يقول أحد أبطال الرواية: "من المسلم به أنني سأبقى عازباً إلى الأبد... يمكن بعد ذلك أن أعتبر جميع النساء حريماً متنقلاً لمزاجي"[13].
الزواج حصر للمتعة الغريزية على امرأة أو اثنتين، وهو يريد تلك المتعة متغيرة الألوان والأشكال كاللباس، كيف وهو يروي لأحد الأبطال أنه نام مع إحداهن ظهراً، وفي العصر نسي حتى اسمها!!
الزواج عند الكاتب كتلة من المشاكل، يقول سرحان البحيري: "سنعيش معاً إلى الأبد"، بالزواج؟ لا؛ يقول: "المشاكل التي أعنيها؛ إنما يخلقها الزواج!!"[14].
ويقول أيضاً: "ولكن الزواج سيخلق لي مشاكل من ناحية الأسرة، ومن ناحية العمل، إنه يهدد مستقبلي"، كيف يهدد مستقبلك وهو الطُّهر والفضيلة، قال: "إنه الغباء، الحواجز الصلبة، الحقائق العفنة"[15].
نعم، الزواج حواجز عن الحرام، لكنه ينعتها بالصلبة لخلل في تركيبته وغرائزه، ثم تأمل كلمة (الحقائق العفنة)، وإذا علمت أن العفن يصيب الأشياء لطول مقامها؛ تعلم تطاول الكاتب على التشريع الذي يدعو إلى الزواج.(/5)
ويقول سرحان البحيري أيضاً: "لم أُهادن فكرة الزواج المرعبة"[16].
ثم يحاول الكاتب تحطيم آخر برج في الفضيلة؛ وهو الزواج نفسه، شروطه، وطريقته، حيث يقول: "توجد طرق وسطى مثل الزواج الإسلامي الأصلي، أعلن بيني وبينك أنني أقْبلك زوجةً لي، على سنة الله ورسوله.. بلا شهود!!"[17].
انظر إلى خبث الكاتب حين ينعت هذا الزواج بأنه إسلامي، أصلي، وهو ما يسمى اليوم (الزواج العرفي)، وهو بذا يُسوِّغ الرذيلة تحت غطاء الدين، ويصورها على أنها الفضيلة، وأنها القمة في الاتباع، أعوذ بالله من الفكر المنحرف.
والكاتب جاء بشخصيات القصة كلهم عِزاباً، لم يتزوج من الرجال أحد، وكأنه يشير إلى أن الشباب إذا أراد إفراغ شهوته؛ فهناك طرق أقل مؤونة من الزواج نفسه، وأكثر تجديداً، ولم يتزوج من كل الشخصيات إلا (ميرامار) صاحبة النزُل، وهي نصرانية، فكأنه يريد أن يشيد بزواج النصارى ونموذجه الغربي، لاسيما حين تتذكر (ميرامار) أيام الزواج بحنين وشوق، وقد مات عنها زوجاها فعلَّقت صورهما في النزُل.
2- صَوَّر الكاتب الشابان (حسني وسرحان) على أنهما مليئان حيوية وشباباً؛ يمارسان الجنس كثيراً، ولا يريدان الزواج، وكذا طلبة، ومن قبلهم عامر وجدي.
وحين صور منصور باهي؛ صوره على أنه شاب مليء بالعقد، لا يمارس الرذيلة، ولا يعترف إلا بالزواج، فحاول تصويره بشخص يعاني من مشاكل نفسية، ولا يعيش حياته إنساناً سوياً.
3- ملحوظة تتصل بالعنوان، وهي: لماذا (ميرامار)؟ لِم لَم يسم الرواية (زهرة) مثلاً؛ مع أن الأحداث كانت تدور حولها؟ أو (عامر وجدي) الذي كان مقوِّماً للأحداث؟
كأنه يشير من طرف خفي إلى أن النموذج الغربي المتمثل في (ميرامار) هو الحل، وهو الطريقة المثلى للعيش في مصر وغيرها من البلدان.(/6)
4- ويحاول الكاتب تسويغ الرذيلة، وتحطيم سياج العفة؛ إذ يقول عامر وجدي لميرامار بعد أن تذاكرا أيام الشباب، وما فيه من انحراف أخلاقي، فقالت: "كنت سيدة يا مسيو عامر"، فقال عامر: " ما زلت سيدة بكل معنى الكلمة"[18].
هكذا؟ سيدة مع الانحراف، وكأن من ينحرف يحق له لقب السيادة، أيُّ تحطيم للفضائل يريد أن يصل إليه الكاتب؟ لكن الله غالب على أمره.
5- صور الكاتب هروب (زهرة) من الريف لرفضها الزواج من كبير في السن؛ بطولةً وسلوكاً سوياً، لم ينتقده أحد من شخصيات القصة، وهذا تحريض للفتيات للخروج عن طاعة أهاليهن، ورفض القوامة.
وكذلك رفضها العودة مع أختها برغم زوال سبب الزواج من ذلك المسن.
6- تعمَّد الكاتب ذكر الحانات والمراقص، وذكر أنواع المشروبات المسكرة، كل ذلك كان يعمَد فيه الكاتب إلى إيصال رسالة إلى المتلقي، ومحاولة تسويغ المنكر.
وبالجملة؛ فإن الرواية عجت بالتجاوزات التي لا يُقرُّها الدين، وتأباها الفِطَر السليمة، وكانت فوضى الجنس إحدى تلك التجاوزات وأهمها، ولمَّا لم يكن للكاتب إشارات إلى الانحرافات وتقويم لها؛ كان هذا إيذاناً بتأييد الكاتب لكل كلمة وردت في الرواية؛ ومن هذا المنطلق أحببت التنبيه على ما ورد مما يخالف الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، وجاء الدين بمحاربته.
واللهَ أسأل أن يمُنَّ على كُتَّاب المسلمين بالهداية، وأن يردهم إلى صراطه المستقيم، أو أن يكفي المسلمين شرَّهم، إنه سميع مجيب، كما أسأله -تعالى- أن يجعل ما خَطَطْتُهُ خالصاً لوجهه الكريم... واللهُ من وراء القصد.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] ص 48.
[2] الصفحة نفسها.
[3] ص 79.
[4] ص93.
[5] ص102.
[6] ص111.
[7] انظر ص 99.
[8] ص103.
[9] ص118.
[10] ص 118.
[11] ص214.
[12] ص218.
[13] ص103.
[14] ص241.
[15] ص241.
[16] ص244.
[17] ص242.
[18] ص 20، 21.(/7)
العنوان: الرياح آية من آيات الله تعالى
رقم المقالة: 581
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمدلله رب كل شيء ومليكه؛ خلق الخلق فأتقن خلقهم، ودبرهم فأحسن تدبيرهم {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] نحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إقرارا بربوبيته، واعترافا بألوهيته، وإرغاما لمن كفر به {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:31-32] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بربه عز وجل، وأتقاهم له، يخشى العذاب وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(/1)
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن آياته في خلقه عظيمة، يراها العباد في السموات وفي الأرض وفي أنفسهم، وكلها دلائل على عظمة الله تعالى وقدرته، وعلمه وإحاطته، وعجيب صنعه وتقديره {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13] {وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ} [غافر:81] {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصِّلت:53] وذلك يستوجب عبادته وحده لا شريك له، وشكره على نعمه، والحذر من معصيته {يُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2].
أيها الناس: لله عز وجل في خلقه آيات باهرة، ومعجزات قاهرة، تبهر العقول، وتملك النفوس، وتخوف العباد، وتقهر الأقوياء. وله سبحانه وتعالى جند في الأرض وفي السماء، من الملائكة والإنس والجن، ومن الحيوان والوحش والطير، ومن الزواحف والحشرات والطفيليات والجمادات، ومن الكواكب والأنجم والنيازك، ومن البحار والرياح والزلازل والأعاصير والبراكين والأوبئة، في البر والبحر، وفي الأرض والأجواء، لا يعلم عدتها إلا الله تعالى، ولا يدرك قوتها إلا هو سبحانه، تأتمر بأمره عز وجل، يسلطها على من شاء من خلقه فلا يقف أمامها شيء، حتى تنهي مهمتها، وتؤدي وظيفتها {وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11].(/2)
والرياح خلق من خلق الله تعالى لا يراها البشر، ولكنهم يحسونها، ويرون أثرها، تكون رحمة وتكون عذابا بأمر خالقها ومدبرها جل في علاه، وهي من أعظم الآيات الدالة على عظمته وقدرته، ووجوب إخلاص العبادة له وحده لا شريك له؛ ولذا جاء في معرض ذكر آيات الله تعالى الدالة على ربوبيته وألوهيته: ذكر الرياح وتدبيرها{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5]
والريح آية في حال كونها رحمة من الله تعالى يرحم بها عباده {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}[الرُّوم:46]وفي الآية الأخرى {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النمل:63].
كما أن الريح آية عظيمة من آيات الله تعالى في حال كونها عذابا؛ فقد عدد الله عز وجل جملة من آياته الدالة على قدرته سبحانه، وذكر منها آية إهلاك عاد بالريح {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}[الذاريات:42] .(/3)
وللرياح منافع عظيمة لأهل الأرض، وبفقدها تموت الأرض ومن عليها؛ فالرياح هي سبب الغيث المبارك بأمر الله تعالى، وهي البشرى بين يديه {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}[الفرقان:48]وفي الآية الأخرى{اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[الرُّوم:48]فهم يستبشرون بها لما يعقبها من الرحمة والغيث المبارك الذي تكون به حياتهم، وحياة أنعامهم وأشجارهم وزرعهم، ونماء أموالهم، ورغد عيشهم.
والرياح هي التي تسوق السحب في السماء أمثال الجبال إلى حيث يأمر الله تعالى، فيسقي به من يشاء من عباده {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ}[الأعراف:57]وفي الآية الأخرى {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}[فاطر:9](/4)
والرياح تلقح السحب بأمر الله تعالى فينزل الماء، وتلقح الزرع والشجر فيهتز خضرا مثمرا، وتنقل البذور من أرض إلى أرض حتى إذا سُقيت اكتست خضرة وربيعا، ومهما عمل البشر وبكل إمكانياتهم فهم أعجز من أن يزرعوا صحارى تمتد مد الناظرين بساطا أخضر بأنواع النبات الطيب في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن الرياح تفعل ذلك بأمر الله تعالى وقدرته وتدبيره {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}[الحجر:22]قال عبيد بن عمير الليثي رحمه الله تعالى:(يبعث الله تعالى المثيرة فتقم الأرض قما، ثم يبعث الله تعالى الناشئة فتنشئ السحاب، ثم يبعث الله تعالى المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يبعث الله تعالى اللواقح فتلقح السحاب).
والرياح سبب بإذن الله تعالى لدورة المياه حول الأرض، ولولا ذلك لأسن الماء، ولم تنتفع به الأحياء، بل إن كل الأحياء على الأرض لو فقدت الرياح لهلكت، يقول كعب الأحبار رحمه الله تعالى: (لو حبست الريح عن الناس ثلاثا لأنتن ما بين السماء والأرض).
والرياح فيها ما لا يحصى من منافع العباد، وتسير بالسحب التي فيها حياة الأرض، وتذروا البذور، وفيها أرزاق العباد والحيوان والطير، وقد أقسم الله تعالى بها {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالحَامِلَاتِ وِقْرًا} [الذاريات:1-2] فالذريات هي الرياح، والحاملات هي السحب، وفي سورة أخرى {وَالمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:2] وابن عباس رضي الله عنهما لما وصف جود النبي صلى الله عليه وسلم استعار الرياح المرسلة في وصفه فقال رضي الله عنه (فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) متفق عليه. وما هذا الوصف من ابن عباس رضي الله عنهما إلا لأن الريح ينتج عنها خير عظيم للأرض ومن عليها.(/5)
والرياح جند من جند الله تعالى يسخرها سبحانه لقوم ساكنة طيبة، تجري بها فلكهم في البحار حيث يريدون {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ}[الشُّورى:33].
وفي لحظة يأمرها الله عز وجل ، فتتحرك بعد السكون، وتتحول من ريح طيبة هادئة إلى عاصفة تكاد تغرقهم، فلا ملجأ لهم منها إلا الله تعالى {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[يونس:22]ولذلك حذر الله تعالى العباد من الكفر به، وأمن مكره، وهددهم بريح تغرقهم {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ}[الإسراء:69].
ولما كانت الريح من جند الله تعالى فإنه سبحانه سخرها لبعض رسله؛ كما سخرها لسليمان عليه السلام{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}[الأنبياء:81]وفي آية الأخرى {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}[ص:36].(/6)
ونصر الله تعالى بالريح هودا عليه السلام، وأهلك بها عادا لما كذبوا{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصِّلت:16]وكان من شدة هذه الريح أنها ترفع الواحد منهم في السماء، ثم تلقيه صريعا على الأرض حتى يُفصل رأسه عن جسده كما قال الله تعالى في وصف فعلها بهم {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}[القمر:20]نسأل الله تعالى العافية من سخطه ونقمته.
لقد فرحت عاد بها في بادئ الأمر يظنون أنها من المبشرات فإذا هي من المهلكات، وانقلب فرحهم بها إلى حزن وعذاب، فأخذتهم وصرعتهم، ودمرت حضارتهم، وأبادت خضراءهم{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ}[الأحقاف:25].
وحاقت بهم أياما عددا، لا يستطيعون لها دفعا، ولا يجدون لهم منها مهربا، وما عجزت الريح عنهم في مساكنهم فأخرجتهم منها، وألقتهم صرعى، فما أقواها من ريح! وما أشدها على المكذبين! وما أطوعها لرب العالمين! {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقَّة:7].(/7)
ونُصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالريح في أعسر موقف أحاط بالمسلمين، لما حاصرت جموع المشركين المدينة في غزوة الأحزاب، ففرقت الريح جموعهم، وفكت تحالفهم، وصدعت أحزابهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الأحزاب:9]قال مجاهد رحمه الله تعالى: (سلط الله تعالى عليهم الريح فكفأت قدورهم، ونزعت خيامهم حتى أظعنتهم).
وهي ريح الصبا، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال نُصرت بالصبا، وأُهلكت عاد بالدبور)متفق عليه. والصبا مهبها شرقي، والدبور مهبها غربي.
ورأينا قبل سنوات قلائل ما فعلت الريح بأمر الله تعالى في تسونامي وكاترينا حين حركت البحر فأخرجت أمواجه العاتية أمثال الجبال لتضرب مدنا ساحلية فتغرقها، وتطمر جزرا كاملة، وتهلك بشرا كثيرا، وتتلف مالا كبيرا، وتخلف خرابا عظيما.
بلدان كانت قبل الريح عامرة متحركة، تدب الحياة في أرجائها، ويأتيها البشر من كل مكان؛ لجمال أرضها، وصفاء أجوائها، وحسن سواحلها، وفي غمضة وإفاقتها أضحت موحشة يبابا، لا ساكن فيها ولا زائرا، فسبحان من خلق الريح لها، وسبحان من سخرها عليها، وسبحان من أمرها ففعلت فعلها، فأهلكت من أهلكت بأمر ربها، ونجا من نُجِّي منها؛ ليحكي للناس ما رأى، وما نجا منها بقوته وهو الضعيف، ولا هلك القوي فيها لضعفه، ولكنه أمر الله تعالى وقدره، يصيب من يشاء من عباده.(/8)
إن الريح أعجوبة من الأعاجيب يحتاج البشر إليها ولكنهم يخافون منها، ولو عملوا ما عملوا من وسائلهم ومخترعاتهم لما حركوها وهي ساكنة. وإذا تحركت فلا طاقة لهم بإيقافها أو تخفيفها، أو تحويل مسارها. وغاية ما يفعلون الهرب منها، والاحتماء بالملاجئ عنها، حتى إنهم يُجْلون أهل المدن والقرى التي في طريقها، ثم يتربصون تربص العاجز البائس، الذي انقطعت حيلته، وغلبه يأسه، ينتظرون قدومها، وينظرون إلى آثارها. ثم إذا سكنت دفنوا موتاهم، وداووا جرحاهم، وآووا مشرديهم، وحسبوا خسائرهم، وأصلحوا ما دُمِّر من عمرانهم، وبكوا على ما أصابهم. ولما ضرب إعصار كاترينا جزء من الدولة الكبرى في الأرض، ظهر عجزها فأعلنت حالة الطوارئ، وقبلت المساعدات من الدول الفقيرة المعدمة، فما أضعف البشر! وما أعجزهم! وما أقل حيلتهم أمام الريح! وهي آية واحدة من آيات الله تعالى، وجندي واحد من جنود لا تحصى {وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:7] {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}[المدَّثر:31] بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمدلله رب العالمين؛ دلت مخلوقاته على أنه الرب المعبود، وأن ما سواه عبيد مخلوقون، خلقهم وصرفهم على مقتضى علمه وحكمته {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[يونس:3] نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.(/9)
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأخلصوا له عملكم، وارجوا رحمته، واحذروا سخطه ، ولا تأمنوا مكره {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
أيها المسلمون: الريح خلق من خلق الله تعالى، سخرها لمنافع عباده ومصالحهم، تكون رحمة وتكون عذابا، وما أُنزل بها على البشر من رحمات أرحم الراحمين أكثر مما أخذت من المكذبين، وهذا من إعذار الله تعالى للبشر،وإملائه لهم، ورحمته بهم.
والمشروع للمسلم عند هبوب الريح أن يخاف العذاب ؛ فقد عذب أقوام بها في القديم والحديث، وما الأعاصير التي وقعت في الشرق والغرب فأهلكت بشرا كثيرا إلا من عذاب الله تعالى بها، روت عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سُرَّ به وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته، فقال: إني خشيت أن يكون عذابا سُلِط على أمتي) وفي رواية (فقال: يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا) رواه مسلم.
ولما كانت الريح من أمر الله تعالى، وقد يتضرر بها بعض الناس، بفساد زروعهم وثمارهم، أو نفوق أنعامهم وتلف أموالهم، أو خراب مدنهم وعمرانهم كما في العواصف والأعاصير الشديدة فإنه لا يحل لأحد سبها؛ فمسبتها مسبة لله تعالى؛ لأنه خالقها وآمرها ومدبرها جل في علاه، بل ينبغي للمسلم عند هبوبها أن يلحظ قدرة الله تعالى فيها، ويلتزم بما ورد في السنة. روى أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(/10)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أخذت الناسَ ريحٌ بطريق مكة وعمر بن الخطاب حاجٌّ فاشتدت عليهم، فقال عمر لمن حوله: من يحدثنا عن الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئا، فبلغني الذي سأل عنه عمر من ذلك، فاستحثثت راحلتي حتى أدركته فقلت: يا أمير المؤمنين، أُخبرت أنك سألت عن الريح وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الريح من رَوْحِ الله تأتي بالرحمة وتأتى بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها وسلوا الله خيرها واستعيذوا به من شرها) رواه أحمد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلا نازعته الريح رداءه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلعنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنها فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه) رواه أبو داود.
وأما الدعاء بقوله: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، فلم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأولى للمسلم أن يقتصر على ما ورد؛ فإنه أتبع للسنة، وأنفع له.
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم....(/11)
العنوان: الرياض قبل مئة عام - في نظر رحالة إنجليزي
رقم المقالة: 406
صاحب المقالة: مجلة العرب
-----------------------------------------
الرياض ((قلب القلوب)) هكذا وصفها الرحالة الانكليزي ويليام جيفورد بلجريف حين زارها (في منتصف أكتوبر 1962 ميلادية) وكانت الرياض أو عرين الأسد (كما وصفها أيضاً) هي هدفه الأقصى من الرحلة الطويلة التي قام بها في الجزيرة العربية، والتي ابتدأها من مدينة غزة في فلسطين ماراً بالبلدان التالية: معان، الجوف، حايل، بريدة، الرياض، الاحساء، القطيف، البحرين، عمان.
ويعتبر المستر بلجريف من أشهر الرحالة الانكليز، اللذين ساحوا في البلاد العربية في القرن الماضي، وكان يتقن اللغة العربية اتقاناً جيداً، وقد درس مبادئ الطب من بعض الكتب العربية والافرنجية التي حملها معه ليستفيد منها في مهمته من الرحلة التي قام بها، حيث ساح البلاد العربية كطبيب سوري، ولم يكتشف أمره طيلة مدة رحلته وإقاماته الطويلة في بعض المدن كمدينة حايل، على زمن طلال بن رشيد التي أقام فيها شهرين ومدينة الرياض التي أقام فيها حوالي أربعين يوماً، وكان رجال العائلتين السعودية والرشيدية يتعالجون عنده دون أن يدركوا حقيقة شخصيته، أو حقيقة هدفه من هذه الرحلة، إلا أن أمره كاد يفتضح في الأيام الأخيرة التي أقامها في الرياض على ما سنفصله فيما بعد.
والمستر بلجريف أكمل دراسته في جامعة أكسفورد، وهو رجل ذكي ومغامر، ومحب للاستطلاع، فقد رغب بعد إكمال دراسته أن يذهب إلى الهند مع الجيش البريطاني ثم تحول عنه ليكون عضواً في بعثة تبشيرية، ثم تحول عن ذلك ليكون موظفاً سياسياً في وزارة الخارجية البريطانية، ثم بعد ذلك تركها ليقوم برحلته التي نستعرض طرفاً منها في هذا المقال: ولعله فعل ذلك بالاتفاق مع وزارة الخارجية أو وزارة المستعمرات البريطانية.(/1)
ورحلته التي نشير في هذا البحث مطبوعة في مجلد ضخم قبل مائة عام وسنقصر بحثنا هذا على القسم الخاص بالرياض في الإمام فيصل (رحمه الله) لكي نطلع على حياة أهلها ووصفها في نظر هذا الرحالة الانكليزي.
يقول المستر بلجريف: (أقبلنا على مدينة الرياض فوجدناها ممتدة أمامنا على طول واديها الفسيح، وفي قاع هذا الوادي ومنحدراته تنتشر الحصباء، فوقفنا نشاهد العاصمة الكبيرة المربعة والمتوجة بالأبراج العالية، وبالسور القوي المحيط بها للدفاع عنها، وشاهدنا السطوح والشرفات التي تعلوها قلعة عظيمة هي قصر الملك فيصل، وبجانبه قصر أقل منه ارتفاعاً يعود لأبنه الأمير عبدالله. وقد قدر محيط المدينة بثلاثة أميال، وهي مقامة على منبسط من الأرض ويقع في غربها وجنوبها بَحْرٌ من النخيل فوق حقول خضراء وحدائق غناء، بينما أنين أصوات العجلات (المحّال) التي يسحب بواسطتها الماء من الآبار يصل إلى آذاننا ونحن على بعد أكثر من ربع الميل من المدينة.
وعلى الجانب الآخر إلى الجنوب من المدينة يمتد الوادي الخصيب الواسع بأشجاره ونخيله ومدينته الكبيرة التي هي أقل حجماً من مدينه الرياض نفسها تلك هي مدينة (منفوحة).
في جميع الأقطار التي زرتها وهي كثيرة، فلما فكرت في إجراء وصف مفصل لها يساوي ما شعرت به نحو هذه الأرض، لما فيها من جمال ومعاني تأريخية، وغنى بالمناظر التي تملأ العين والفكر.
وإذا كان أحد القراء قد دخل مدينة (دمشق) من جهة معاكسة للبنان وشاهد غُوطها من مرتفعات المزَّة، فإنه قد يأخذ فكرة مقاربة لوادي الرياض عندما تشاهده من الشمال، فقط هناك فوق هام وهو أن هذا الوادي أوسع وأكثر تنوعاً، ودائرة النظر هنا تشمل منبسطاً أوسع وجبالاً أكثر كآبة من تلك. (يلاحظ أن هذا الوصف قبل مائة عام وقد تغير الآن).
ثم يتابع الرحالة وصفه فيقول:(/2)
(لقد قررنا في دخولنا إلى المدينة بين اسطبل للخيول وبين بستان يعود إلى قاضي الرياض الشيخ عبداللطيف، ثم مررنا بمقبرة واسعة في الشمال الشرقي، تخترقها عدة ممرات، تؤدي إلى مختلف أبواب المدينة، وقد سلكنا الطريق المؤدي إلى الشمال الشرقي للمدينة، فوجدنا باب المدينة واسعاً عالياً[1] وفوقه برجان مربعان عاليان، ويجلس في مدخله حرس مسلحون بالسيوف وعندما عبرناه وجدنا أنفسنا في شارع عريض مستقيم يوصل إلى القصر وعلى جانبي الطريق بيوت ضخمة مكونة من طابقين على الأغلب، وآبار لاغتسال المصلين، ومساجد على مختلف الإمام، وبعض أشجار الفواكه من هنا وهناك منتشرة في الساحات.
وبعد أن تقدمنا حوالي الثلاثمائة ياردة رأينا على يميننا قصراً مربعاً جديداً حسن البناء، ويحتوي على ثلاثة صفوف من النوافذ بعضها فوق بعض يعود إلى الأمير عبدالله بن فيصل، ويجلس على مدخله مجموعة من العبيد الأفريقيين[2]).
وأخيراً وصلنا إلى ساحة مربعة وفسيحة، في شمالها تقع المخازن التجارية وفي جنوبها تقع قصور الأمراء، وفي غربها يقع جسر طويل مرتفع يمتد من قصر الإمام فيصل الكبير إلى الجامع الكبير حيث يستعمله الإمام فيصل عندما يذهب إلى صلاة الجمعة دون أن يتعرض لأخطار الاغتيال التي كانت حصلت لوالده ولعمه[3]..
وخلف هذا الجسر تقع عدة مخازين تجارية تنتهي بها هذه الساحة، ويقدر طول هذه الساحة بنحو مائتي خطوة وعرضها بأكثر من نصف ذلك.
وفي وسط هذه الساحة وفي ظل القصر الحكومي يجلس ما بين الخمسين والستين امرأة يبعن الخبز والتمر واللبن والخضروات والحطب وغير ذلك[4].
وبعد أن وصف المستر بلجريف حالة الأسواق وقذارتها وعدم وجود كناسين فيها، وكثرة الكلاب السائبة التي تأكل الفضلات وخاصة في سوق القصابين[5] ثم قال: ((تقسم المدينة إلى أربعة أقسام:(/3)
الأول الشمال الشرقي: وتقع فيه قصور الأمراء وكبار موظفي الدولة والطبقة الغنية: والمساكن بشكل عام هنا عالية والطرق مستقيمة وعريضة نوعاً ما، ولكن أرض هذا القسم منخفضة وغير صحية بالنسبة لغيرها. والثاني: الشمال الغربي الموالي للقسم الأول، (حيث سكنَّا نحن). ومساكن هذا القسم غير منتظمة ومختلفة الأحجام، وفيها الحسن والسيء، وفيها يسكن الغرباء، وأحياناً الأشخاص الغامضو الصفات الذين قلما تخلو منهم أية مدينة مهما كانت صرامة قوانينها، وهنا يسكن أيضاً بعض الأشخاص من العرب المحافظين على معتقداتهم القديمة الذين لم يتأثروا أو يتقيدوا بالدعوة الإصلاحية التي دعا إليها (الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب) كما يسكن في هذا القسم أيضاً المواطنون من أهل الزُّلفي أو القرى المجاورة للرياض، ويوجد في هذا القسم أشخاص يبيعون الدخان ويدخنونه، وأشخاص لا يتقيدون بأوامر القرآن...
والثالث: هو الجنوب الغربي ويسكن فيه الرسميون والمحافظون والأتباع المخلصون لابن عبدالوهاب، وفيه يشدد على إقامة الصلوات الخمس، وفيه يسكن ما تبقى من ذرية (مؤسس الدعوة الشيخ العظيم محمد بن عبدالوهاب) وهم اللذين استطاعوا الإفلات من سيف المصريين، وتحرروا من جميع أدناس الأجانب... أما شوارع هذا القسم فهي صحية ومفتوحة... (القسم الرابع لم يذكر عنه شيئاً ولعله لم يكن مهماً، أو أنه لم يزره).
ويحيط بالمدينة سور قوي يتراوح إرتفاعه بين الثلاثين والعشرين قدماً[6] كما يحيط بهذا السور خندق عميق. ومن خلفه البساتين والحدائق التي تشبه البساتين والحدائق التي شاهدناها في القصيم.. الخ.(/4)
وبعد هذا الوصف الدقيق لمدينة الرياض أخذ بلجريف يصف بعض الحالات التي مرت عليه أثناء علاجه لمرضاه ومن بينهم بعض الأمراء، ورجال الإمام فيصل، وخص بالذكر الأمير عبدالله الذي ربطته به وثائق جيدة جعل الأمير يمنحه مسكناً، ويعده بتزويجه امرأة جميلة، ويطلب منه البقاء في الرياض للاستفادة من خدماته الطبية.
ويقول بلجريف: أنه طلب منه إعطاءه دروساً في الطب، فوافق على ذلك لأن الاختلاط بالأمير عبدالله سيمكنه من معرفة دخائل الحكومة النجدية، كما سيمكنه من زيارة اسطبلات أصائل الخيول العربية ومعرفة أنسابها وصفاتها.
وقد وصف بلجريف حكومة الإمام فيصل بأنها حكومة قوية ومنظمة، وأنها ذات صفة مركزية وفعالة ومسيطرة في إدارتها، وأن الينبوع الذي تستمد منه قوتها والذي يربط بعضها ببعض هو الدين والجيش، وأنه لا يوجد دستور أو نظام للحكم سوى ما شرعه القرآن او ما تقضي به الضرورات والظروف المحيطة بهم.. وأن هذه الامبراطورية الوهابية قادرة على تحديد حدودها، وبالتالي فإنها خطر على جيرانها الذين ابتلعت قسماً منهم فعلاً، ويمكنها أن تبتلع القسم الآخر إذا لم يحدث ما يوقف ذلك:
ووصف بلجريف الخيول العربية التي شاهدها بقوله: "إن الخيول النجدية تمتاز بالسرعة والتحمل، وأنه لا نظير لها مطلقاً من ناحية الصبر على السير مسافات طويلة، حتى أنها تستطيع السير مدة أربع وعشرين ساعة بدون أن تشرب ماء أو يظهر عليها الضعف أو الإعياء".
ووصف بلجريف الإمام فيصل بقوله: "إنه رجل مسن، ذو لحية بيضاء، عريض الجبين، فاقد البصر، وبدين الجسم، يرتدي ملابس بسيطة، ويتقلد سيفاً ذا مقبض ذهبي، وهو مع هذه الصفات قوي الفكر ومسيطر على حكومته".
أمضى المستر بلجريف أكثر من شهر في مدينة الرياض وكان يلبس ملابس عربية يصفها بأنها عبارة عن غطاء للرأس يلف حول الوجنتين، وعباءة سوداء، وعصا طويلة.(/5)
وبينما هو ذات ليلة في منزله وذلك بتاريخ 21/11/1862م إذ استدعاه الأمير عبدالله إلى داره: وكان عنده الشيخ عبداللطيف قاضي الرياض، وقال له: (أنه اكتشف بأنه رجل مسيحي، وجاسوس، وثوريٌ، وأنه جاء لإفساد الدين، وتدمير الدولة لمصلحة الذين أرسلوه، وأن جزاء مثله هو القتل والقتل العاجل).
يقول بلجريف أنه عندما سمع هذا الكلام تظاهر بالهدوء، واستطاع أن يكبت مظهر الخوف الذي استولى عليه، وأنه أجاب على ذلك بقوله: (استغفر الله!! قد أكون مسيحياً، ولكني لست بجاسوس أو ثوري، أنا كما يعرف كل واحد في مدينتك طبيب لا أقل ولا أكثر، أما عن قولك بقتلي فإنك لا تستطيع، ولا تجرؤ على ذلك، لأنني ضيف أبيك، وضيفك أنت لمدة شهر أو أكثر، وكل واحد يعرف هذا، واستقبلتموني على هذا الأساس، فماذا فعلت من مخالفة لقواعد الضيافة في نجد؟!). أجابه الأمير عبدالله: حسبما يقول بلجريف: (بأنه إذا قتله فلن يعرف بذلك أحد) فرد عليه بلجريف بقوله: (ألست معروفاً لدى أبيك ولدى جميع من في القصر بما في ذلك أخوك سعود؟ أو لايوجد أحد هنا في المجلس؟ إن من الأفضل ترك مثل هذا التهديد إنني لست طفلاً!!).
لم يجب الأمير عبدالله على كلام بلجريف (حسب روايته) ولكنه طلب القهوة: وانصرف يتحدث مع الشيخ عبداللطيف عن أخطار الجواسيس على البلاد، وفي هذه الأثناء أشار أمين الخزينة (محبوب) الذي كان حاضراً الجلسة إلى بلجريف بمغادرة المجلس ففعل.
كانت هذه المقابلة نذير شر لبلجريف جعلته يفكر في مغادرة الرياض، في أسرع وقت ممكن ولكنه لم يظهر الخوف: أو أنه يريد الهرب، بل تظاهر بالهدوء وبقي ثلاثة أيام بعد هذا. وفي اليوم الرابع تسلل هارباً في الليل ومُتَّجهاً إلى الأحساء.
ويفسر بلجريف أسباب غضب الأمير عبدالله عليه بأمر نستبعده جدًّا..(/6)
وقد أورد بياناً قال عنه أن بعضه مأخوذ من سجلات الحكومة، وبعضه من مصادر محلية يشتمل على الأقاليم والمدن الرئيسية فيها وكذا القرى وعدد السكان.
وعدد القوات التي يمكن تجنيدها من جميع أنحاء الامبراطورية الوهابية:
الاقليم ... المدن أو القرى ... السكان ... القوات المحاربة
1- العارض ... 15 ... 110.000 ... 6000
2- اليمامة ... 32 ... 140.000 ... 4000
3- الحريق ... 16 ... 045.000 ... 3000
4- الافلاج ... 12 ... 014.000 ... 1200
5- وادي الدواسر ... 50 ... 100.000 ... 4000
6- السُّلَيّل ... 14 ... 030.000 ... 1400
7- الوشم ... 20 ... 080.000 ... 4000
8- سُدَير ... 25 ... 140.000 ... 5200
9- القَصِيم ... 60 ... 300.000 ... 11000
10- الأحساء ... 50 ... 160.000 ... 7000
11- القطيف ... 22 ... 100.000 ... –
... 316 ... 1.219.000 ... 47000
ـــــــــــــــــــــ
[1] هو المعروف بباب الثُّميري – فيما يظهر – وقد أزيل.
[2] هدم هذا القصر الأمير محمد بن رشيد سنة 1309هـ (انظر كتاب مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ) ص114.
[3] هدم هذا الجسر في عهد الإمام عبدالعزيز، بعد أن أصبحت الجمعة تقام في مسجد القصر، وكان هذا الجسر يصل بين القصر وبين جامع الرياض الكبير.
[4] كان للنسوة سوق خاص يقع تحت سور القصر الشمالي إلى عهد قريب وقد زال في آخر عهد الإمام عبدالعزيز.
[5] في آخر عهد الإمام قامت حملة لتنظيف المدينة منها وقد تم ذلك.
[6] أزيل السور في آخر عهد الإمام عبدالعزيز.(/7)
العنوان: الزحام في المسجد الحرام
رقم المقالة: 1685
صاحب المقالة: د. عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس
-----------------------------------------
الزحام في المسجد الحرام
الأسباب والحلول
(دراسة شرعية)
إعداد
فضيلة الدكتور/ عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس
إمام وخطيب المسجد الحرام
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى – مكة المكرمة
ملخص البحث
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما بعد:
فقد يسَّر الله - عز وجل - لي الكتابة في هذا البحث؛ مُترسِّمًا الخطة التالية المشتملة على مقدمة، وتمهيد، وثلاثة فصول، وخاتمة.
1- المقدمة: وتشمل أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وخطة البحث والمنهج الذي سلكته فيه، وقد أبانت المقدمة عن أهمية تشخيص هذه الظاهرة، واستقراء أسبابها، وإيراد الحلول الناجعة لها.
2– التمهيد: ويشمل التعريف بمفردات البحث من خلال العناصر الآتية:
الأول: التعريف بالزحام لُغة، واصطلاحًا.
الثاني: التعريف بالمسجد الحرام.
الثالث: أسماؤه.
الرابع: تحريمه وتاريخه.
الخامس: عمارته.
السادس: حدوده.
السابع: خصائصه.
الثامن: فضله، ومكانته.
3– الفصل الأول: الزحام على ضوء النصوص القرآنية والشمائل النبوية، والمقاصد الشرعية، والقواعد الفقهية، ويشمل ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الزحام على ضوء النصوص القرآنية والشمائل النبوية.
المبحث الثاني: الزحام على ضوء المقاصد الشرعية.
المبحث الثالث: الزحام على ضوء القواعد الفقهية.
وفي هذا الفصل يتبين مُخَالفة هذه الظاهرة لهذه الأمور كلها، مما يتطلب بيان أسبابها، وطُرُق علاجها.
4– الفصل الثاني: أسباب الزحام وينقسم إلى مبحثينِ:
المبحث الأول: الأسباب العامة، وينقسم إلى مطلبينِ:(/1)
المطلب الأول: الأسباب الإيجابية، ومنها التوجُّه الخَيِّر في الأمة، وتيسُّر الوُصول إلى الحرم، والأَمْن، والتوسعة، وتوفر الخدمات المتنوعة، وفتح باب الحج والعمرة.
المطلب الثاني: الأسباب السلبية ومنها: قلة الفقه والوَعْي، وضعف القيم الأخلاقية، والتقصير في استشعار قدسية الحرم.
المبحث الثاني: الأسباب الخاصة، ومن أهمها: ما يكون في الطواف، وعند الخط الرخامي الدال على بدايته، وتَكرار العمرة، وقلة المُرْشِدين والعاملين، وما يوجد من ظواهر الافتراش، والتَسَوُّل، وكثرة النساء والأطفال.
5– الفصل الثالث: الحُلول: ومن أهمها:
تقوية الوازع والقيم الأخلاقية، ونشر الوعي، والإكثار من المرشدين والعاملين الأكفاء، وعدم تَكرار العمرة، وفِقْه المناسك، وإيجاد آلية عملية للحد من ظاهرة الجلوس في الممرات، والأَخْذ بوسائل التِّقَانة الحديثة في ذلك كله.
6– الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج والتوصيات ومنها: خُطورة ظاهرة الزحام، وضرورة علاجها، وقلة الدراسات الشرعية والميدانية فيها، وأهمية التوعية المُكثَّفة للحجاج والعُمّار والزوار في بلدانهم، وترسيخ قواعد الأخلاق وحسن التعامل فيما بينهم، وغَرْس قُدسية الحرم في نفوسهم، والتأكيد على مسؤولية العلماء والدعاة ووسائل الإعلام، وتبنِّي الجِهَات المَعْنِيَّة، والمَجَامِع الفقهية عَقْدَ الندوات والمؤتمرات في ذلك.
7– كملت البحث بنماذج من الاستبانات التي تضفي على البحث الشمولية والمُعالجة المَيْدَانية، وتبين مراتب أسباب هذه الظاهرة وحلولها بالنسبة المئوية، والألوان التوضيحية.
8 – ذيلْتُ البحث بفهارس متنوعة تشمل فهرس الآيات، والأحاديث والأشعار، والأعلام، والأماكن، والمراجع والمصادر، والموضوعات.
سائلاً الله الإخلاص، والتوفيق للعلم النافع، والعمل الصالح، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المقدمة(/2)
الحمد لله المَلِك القُدُّوس السَّلام، أسبغ على عباده المِنن العِظَام، وخَصَّ المسجد الحرام بمزيد الإجلال والإكرام، وجعله قِبْلة كل قاصد مُسْتَهام، ومُنيَة كل عابد يُكابِد الأشواق الضِّرام، وأصلي وأسلم على نبينا محمد: أزكى الأنام، دخل المسجد الحرام خاشعًا مُتواضعًا فما شقَّ ولا لام، وعلى آله البَرَرة الكِرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين أُولِي النُّهى والأفهام، ومَنْ تبعهم بإحسان، ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد: فإن أجلَّ النِّعمِ التي مَنَّ الله بها علينا أن هدانا للإسلام، وهيَّأ لنا من الأمكنة العظام، ما يكون قصده للعبادة سببًا لتكفير الذنوب والآثام، وطريقًا لدخول الجنة دار السلام.(/3)
وإن مما لا شكّ فيه أن للحرمينِ الشريفينِ – حرسهما الله - مَنْزِلة مرموقة في أفئدة المسلمين، من التعظيم المَكِين والحبِّ والمتين، وبخاصة المسجد الحرام الذي جعله الله مَثَابةً للناس وأَمْنًا. وليس بخافٍ على أهل الإسلام عِظَم الواجب عليهم تجاه هذه البقعة الشريفة،والحُرُمات المنيفة، ومُراعاة قدسَّيتها وحُرمتها، والتَّحَلِّي بالآداب الشرعية والأخلاق المَرْعِية في عرصاتها، غير أنه لما أفاء الله – وله الفضل والمنَّة - خَيْرَه على عباده، ويسَّر السُّبُل للوصول إلى بيته، وهيَّأ من وُلاة الأمر - وفقهم الله – من يقوم على رعاية قاصدي حَرَمِه الشريف، مع ما أسفرت عنه المدنية المعاصرة من وفْرَة وسائل المُوَاصلات، وسهولة التنقُّل والترحال عبر كافة المركبات، إضافة إلى النهضة العلمية واليقظة الدِّينيَّة، وكل ذلك وغيره أضْحَى أسبابًا وبواعِث ودوافِع لإلهاب مشاعر المسلمين؛ لإعمار بيت الله الحرام، وسَكْب العَبَرات السِّجَام[1]، وبلِّ صَدَى الشوق والأُوَام [2]، إنْ عمرةً أو حجًّا أو زيارةً، مما أحدث ظاهرة جديرة بالاهتمام، وعقبة كَأْدَاء في تلك الرحاب، ألاَ وهي "الزحام"، الذي بات قضية مؤرِّقة للمَعْنيِّينَ بالمسجد الحرام؛ كما أضحى أمرًا مُزْعِجًا لقاصدي هذا المكان المبارك، ويبلغ الأمر ذروته ومداه أيام الحج الزُّهْر، ولياليه الغُرِّ، وشهر رمضان المبارك، وخصوصًا في لياليه العشر الطُّهْر، ولا تسأل عن حال الزِّحام في ليلة عظيمة القَدْر، مع ما في الزِّحام من سلبيات تجل عن الحصر، مما يتطلب تشخيصًا لهذه الظاهرة، وتأصيلاً علميًّا وشرعيًّا لها، وبيان أسبابها والحُلول الناجِعَة لها.
ولقد تتبعْتُ جمًّا غفيرًا مِنَ المراجع الأصيلة والمعاصرة، التي تحدثت عن المسجد الحرام، وتاريخه، وأخباره، فلم أُلْفِ فيها عناية بهذه المسألة عمومًا إلا لمامًا.(/4)
كما تتبعْتُ أبحاث معهد خادم الحرمَينِ الشريفَينِ، لأبحاث الحج، فلم أقف إلاَّ على بحث تناول الموضوع عبر دراسة تخصصية هندسية، مُزوَّدة بالرسومات البيانية؛ لكني لم أقف على بحث يلم شتات هذه الظاهرة ويُعالِجُها من رؤية شرعية [3]، راجيًا أن يَسُدَّ هذا البحث هذه الثغرة إن شاء الله تعالى.
أهمية الموضوع وأسباب اختياره:
1 – إنَّ شرف العِلْم بشرف المعلوم، وشرف البحث بشرف المبحوث، وهذا البحث يتعلق بالحرم المكي الشريف، أفضل البقاع وأطهرها. فلا غَرْو أن يكون البحث فيه على غاية من الأهمية.
2 – مُعالجة البحث لظاهرة جديرة بالعناية والاهتمام، ألا وهي: ظاهرة الزحام التي كان لها سلبيات كثيرة، فقد تُزْهَق أنفس بسبب الزحام، وقد يُؤْذَى ويصاب آخرون بسببه، لذا كان لابد من معالجته على ضوء الأدلة الشرعية.
3 – حاجة الأمة إلى معرفة الأحكام الشرعية المتعلِّقَة بالمسجد الحرام؛ لكونها متعلقة بقبلتهم في صلواتهم، ومكان حجهم، وأداء مناسكهم، كما أن حاجتهم ماسَّة إلى معرفة قُدْسية هذه البقعة وآدابها، ووجوب تعظيمهم لها؛ لأنها من شَعائر الله، قال – تعالى -: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
4 – الإفادة والاطلاع على ما كتبه أهل العلم من السابقينَ والمُعاصرينَ حول هذا الموضوع من نواحٍ مُتعدِّدة، لا سيما الشرعية.
5 – أنَّ مِنْ نِعَم الله علينا في هذه البلاد، وجود هذه البقاع المُباركة، وتَشَرُّف ولاة الأمر بخدمة الحرمينِ الشريفينِ، فكان من لوازِم ذلك معرفة أحكامها، والعناية بتطهيرها، ومُعالجة كل الظواهر السلبية الطارِئة، ومنها ظاهرة الزِّحام، وفي هذا ما يُعين على القيام بالواجِب خير قيام إن شاء الله.(/5)
6 – أنني لم أطلع على حسب عِلْمِي على بحث مستقل، يلم شَتات هذه القضيَّة، ويُعالِج هذه الظاهرة على ضوء الأدلة الشرعية والمقاصد المرعية على الرغم من أهميتها، فشاركتُ ولو بجهد مقلٍّ في الكتابة: إسهامًا مني في مُعالجة هذه الظاهرة المؤرِّقة.
7 – أن الله شرَّفني – وله الفضل والمنَّة - بالخدمة في المسجد الحرام أكثر من عشرين سنة، جعلها الله خالصة لوجهه، فعايَشْتُ هذه الظاهرة، وواكبت ذروتها عن كثب، خاصة في ليالي العشر الأواخر من رمضان، وأيام الحج، وهذا دافِع إلى تمام الاستقراء والعمل الميداني، الذي يزيد الباحث توثيقًا وتَدْقِيقًا، راجيًا أن يكون ممن يبري القوس بحسنٍ واقتدار.
8 – أن هذا البحث جاء رغبة من الإخوة الفضلاء، في مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، فلهم مني الشكر والتقدير على حسن ظنهم بأخيهم، وأخص بالشكر والتقدير صاحب المعالي د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي؛ الأمين العام للرابطة - حفظه الله - وأخي فضيلة أمين المجمع الفقهي الدكتور/ صالح بن زابن المرزوقي – وفقه الله – راجيًا ألاَّ يكونوا استسمنوا ذا وَرَم.
كلُّ ما تقدم من أسباب آنفة الذِّكْر، ورغبتي في الثواب والأجر – وهو أهمُّها - وحرصي على المشاركة في رفع مستوى الحرم التنظيمي والأدبي، ونُهْمَتِي في بثِّ العلم والوَعْي لدى عُمَّار البيت العتيق، حملني على دراسة هذا الموضوع من منظور شرعي، فكان هذا البحث بحمد الله الذي جمعتُ أطرافه في خطة تشمل:
مقدمة، وتمهيدًا، وثلاثة فصول، وخاتمة، تلَى ذلك الفهارس. وبيان الخطة كالآتي:
1 – المقدمة، وتضمنت:
(أ) أهمية الموضوع وأسباب اختياره.
(ب) خطة البحث.
(ج) منهج البحث.
2 – التمهيد، وتضمَّن: التعريف بمفردات البحث من خلال العناصر الآتية:
الأول: التعريف بالزحام لغة واصطلاحًا.
الثاني: التعريف بالمسجد الحرام والمراد به.
الثالث: أسماء مكة – زادها الله شرفًا.
الرابع: تحريم مكة وتاريخه.(/6)
الخامس: عمارة المسجد الحرام.
السادس: حدود المسجد الحرام.
السابع: خصائص المسجد الحرام.
الثامن: فضله ومكانته.
3 – الفصل الأول، بعنوان: الزحام في ضوء النصوص والمقاصد الشرعية، والقواعد الفقهية، ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الزحام على ضوء النصوص القرآنية، والشمائل النبوية.
المبحث الثاني: الزحام على ضوء المقاصد الشرعية.
المبحث الثالث: الزحام على ضوء القواعد الفقهية.
ويشتمل على خمسة مطالب:
المطلب الأول: الأمور بمقاصدها.
المطلب الثاني: اليقين لا يزول بالشك.
المطلب الثالث: المشقّة تجلب التيسير.
المطلب الرابع: الضرر يزال.
المطلب الخامس: دَرْء المفاسد مُقدَّم على جَلْب المصالح.
4 – الفصل الثاني: وتضمَّن الأسباب العامة والخاصة لظاهرة الزحام ويشتمل على مبحثين:
- الأول: الأسباب العامة، ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: الأسباب الإيجابية.
المطلب الثاني: الأسباب السلبية.
المبحث الثاني: الأسباب الخاصة.
5 – الفصل الثالث: الحلول.
6 – الخاتمة.
7 – نموذج من الاستبانات ونتيجتها.
8 – الفهارس.
منهج البحث:
سَلَكتُ في هذا البحث منهج الاستقراء والتتبع لأسباب الزحام، مُطَبِّقًا الدراسة الميدانية، مستفيدًا من الاستبانات: ليخرج البحث مُتَّسِمًا بالإحاطة والشمول لظاهرة الزحام، مُتوخِّيًا في ذلك النقد الشرعي النَّزيه غير الجموح، خالصًا إلى معاقِد الإصلاح الطموح، قارنًا مسائله ومادته بالكتاب والسُّنة مُتوسِّعًا في الجانب الأخلاقي، مُراعيًا الجانب الفطري لدى قاصدي المسجد الحرام، مع الالتزام بالمنهج العلمي المألوف، المتمثل في العناصر الآتية:
1 – جَمْع المادة العلمية وترتيبها حسب أهميتها، وتسلسلها عن طريق الاستقراء والتَّتبُّع.
2 – بذَلْتُ جُهدي في حصر واستقصاء أهم الأسباب الباعثة على الزِّحام، مما يشخص الداء، وأَتْبَعْتُ ذلك بأهم الحُلول الناجعة لعلاج هذه الظاهرة، وصفًا للدَّواء.(/7)
3 – ما يحتاجه البحث من توثيق عِلْمي، فإني ألْتَزِم به من مظانِّة المُعتبرة.
4 – سِرْت على المنهج العلمي في كتابة البحوث، من حيث التوثيق والعَزْو المُتَّبع في كتابة البحوث العلمية.
5- عَزَوْتُ الآيات إلى سورها، مع ذكر رقم الآية، واسم السورة.
6 – خَرجْتُ الأحاديث والآثار من مظانِّها الأصلية.
7 – الترجمة للأعلام غير المشهورين باختصار.
8 – عرَّفْتُ بالأماكن والفِرَق ونحوها.
9 – شَرَحْتُ الألفاظ والمصطلحات الغريبة.
10 – لِتَتَّسِم الدراسة بالشمول، فقد اسْتَطْلَعْتُ آراء شرائح كثيرة في المجتمع، منهم: علماء ومسؤولون يهمهم معالجة الظاهرة، عن طريق تعبئة استبانات، وزِّعَت عليهم سَلفًا.
11 – ذيَّلْتُ البحث بفهارس متنوعة، وهي:
1 – فهرس الآيات القرآنية.
2 – فهرس الأحاديث النبوية.
3 – فهرس الآثار.
4 – فهرست الأبيات الشعرية.
5 – فهرس الأعلام.
6 – فهرس الأماكن.
7 – فهرس المراجع والمصادر.
8 – فهرس الموضوعات.
هذه أبرز مَلامح المنهج الذي سَلَكْتُه في هذا البحث، سائلاً الله التوفيق والسداد والإخلاص، والإصابة في القَوْل والعمل، إنه جَوَادٌ كريم.
التمهيد
ويشمل التعريف بمفردات البحث من خلال العناصر الآتية:
الأول: التعريف بالزحام لغة واصطلاحًا.
الثاني: التعريف بالمسجد الحرام، والمراد به.
الثالث: أسماء مكة، زادها الله شرفًا.
الرابع: تحريم مكة وتاريخه.
الخامس: عمارة المسجد الحرام.
السادس: حدود المسجد الحرام.
السابع: خصائص المسجد الحرام.
الثامن: فضله ومكانته.
التعريف بالزحام لغة واصطلاحًا
تمهيد:(/8)
لقد أفاض الباري – سبحانه – رحمته وسكينته على النفس السويَّة الزكَّية، العَزوف عن الغِلْظَة والفَظَاظة، سواء في القول أم في الفعل، ومِنْ ثمَّ أشاحت عن كل ضدٍّ للرفق واللطف، كالزحام مثلاً، والذي لا تخلو منه المجامع الخاصة والعامة، ذات المورد العَذْب. ولما كان هذا المصطلح أحد لبنات هذا البحث؛ بل هو أساسه وغراسه، لزمَ التلبُّثُ عنده، وتعريفه لغةً واصطلاحًا.
أولاً: الزحام لغة واصطلاحًا:
(أ) الزِّحام لُغة:-
قال ابن فارس[4]: الزاء، والحاء، والميم أصل يدل على انضمام في شدَّة، يقال: زَحَمَهُ يَزْحَمه، وازْدَحَم النَّاس[5].
وقال صاحب "القاموس": زَحَمه زَحْمًا، وزِحَامًا بالكسر: ضايقه، وازدَحَم القوم وتزاحموا. والزَّحْمُ: المُزدَحِموُن[6]
وفي "اللسان": وَزَحَم القوم بعضهم بَعْضًا، يزحَمُونَهُم زَحْمًا وزِحَامًا: ضايقوهم.
ورجل مِزْحَم: كثير الزِّحام، أو شديده، ومَنكبٌ مِزْحَمٌ منه.
وزُحمٌ من أسماء مكة، شرَّفها الله - تعالى - وحرسها [7].
ب– واصطلاحًا: لم أقف على تعريف اصطلاحي له، لكن يمكن أن يصاغ له تعريف اصطلاحي مستفاد من التعريف اللغوي ومناسب للمراد هنا.
فيقال: "هو انضمام فئام كثيرة من الناس، واجتماعهم في مكان مُعَيَّن، وزمان معين، لتحقيق غرض معيَّن، مع وجود شدَّة وضيق بَيْنَهم.
ثانيًا: تعريف المسجد الحرام. والمُراد به:
يحَسُنُ بنا قبل الوقوف على المسجد الحرام وحدوده، أن نمهِّد لذلك بنبذة تبلِّغ القارئ مقصوده من المراد بمكة المكرمة – حرسها الله – وآثرت تعريفًا معاصرًا؛ دفعًا للغموض، لِتَغَيُّرِ المعالم والأماكن القديمة، ودفعًا للاختلاف في المقاييس السابقة، والأماكن المندثرة.(/9)
ولأن المسجد الحرام يطلق على عموم الحرم ومكة، كما يطلق على المسجد نفسه، وجاءت النصوص بالمَعْنَيينِ كليهما، فقال – سبحانه -: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7] وقال – تعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1].
قال السنجاري [8] - رحمه الله – "اعلم – وفقني الله وإياك – أنَّ مكة المُشَرَّفَّة – زادها الله شرفًا، وأحلَّ سكانها من الجنة غُرفًا – من إقليم الحجاز.
والحجاز: مكة والمدينة واليمامة واليمن.
ويُسَمَّى حجازًا: لأنه حجز بين العِرَاق ونجد، وقيل: إنه حجز بين الشام والبَادية.
ومكة: بلدة عظيمة مستطيلة ذات شعاب واسعة، ولها مبدأ ونهايات".
تقع مكة المكرمة في الجهة الغربية من المملكة العربية السعودية، بأرض الحجاز في بطن واد تشرف عليها الجبال من جميع النواحي. دائرة حول الكعبة المشرَّفة. وكانت المناطق المنخفضة من ساحة مكة تسمَّى البطحاء[9]، وما كان شَرْق المسجد الحرام يسمّى المعلاة[10]، وما كان غَرْبَ المسجد الحرام يسمّى: المسفلة، وتقع على بعد (460) كيلاً جنوب المدينة، و (73) كيلاً شرق جدة، و(98) كيلاً غرب الطائف.
وهي من الأرض أطهر بقعَة، ومن البسيطة أقدس رقعة، بإجماع أهل العلم وأهل التاريخ، بل بنص الكتاب والسنة، قال – تعالى -: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حَرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شوكها، ولا ينفر صيدها، ولا يُخْتَلَى خلاها، ولا تحل لُقطَتها إلا لمن عَرَّفها))[11] وما ذلك إلاّ لفضلها وشرَفِها[12].
ثالثاً: أسماء مكة:(/10)
لمكة المكرمة أسماءٌ كثيرة، أوصلها بعضهم إلى ثلاثين اسمًا[13]، وأَوْرَد الفَاكِهي لها ثمانية أسْمَاء، وما جاء منصوصًا عليه في القُرْآن الكريم هو التالي:
- مكة: قال – تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24].
قال صاحب "القاموس": "وَمَكَّهُ: أهْلَكَه ونَقَصَهُ، وسُمَّيت مَكَّةُ للحرم كله؛ لأنها تنقصُ الذنوب وتُفنيها، أو تهلك من ظَلَم فيها؛ كذلك أو لأنها تَمُكُّ الجبابرة؛ أي: تُهْلِكُهُم وتُذْهِبُ نَخْوَتَهُم"[14].أ
- بكة: قال – تعالى -: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]، وبَكَّهُ: خَرَقَه وفَرَّقه ودقَّ عُنقه، ومنه: بكةُ لازدحام الناس فيها.
- أم القرى: قال – تعالى -: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92].
- البلد الأمين: قال – تعالى -: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]. أي: مكة.
- البلدة: قال – تعالى -: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل: 91].
- البلد: قال - تعالى -: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1].
- القرية: قال – تعالى -: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13].
- المسجد الحرام: قال تعالى: { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} [الفتح: 27].
- مَعَاد: قال – تعالى -: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "لرادُّك إلى مكة"[15].
رابعًا: تحريم مكة وتاريخه:(/11)
دلَّت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، على أن الله - تعالى - قد حرَّم مكة يوم خَلَق السموات والأرض، فمن السُّنة ما في البخاري من قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: ((لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استُنْفِرْتُم فانفروا، فإن هذا بلدٌ حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحُرمة الله إلى يوم القيامة))[16]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - حرَّم مكة))[17].
والحكمة في التحريم هي: أن يكون حُكْمُها حُكْمَه في جميع ما يختصُّ به؛ تشريفًا لها.
ويطلق المسجد الحرام ويُرَاد به مَكَّة، وقد يُرَاد به الحرم كلّه، إذ لم يكن مسوَّرًا من عهد الخليل - عليه السلام - وعهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزمن أبي بكر – رضي الله عنه – وصدر من خلافة عمر – رضي الله عنه – وهذا المسجد الحرام توسَّطته الكعبة المعظَّمة: أول بيت وضع للناس، ودُرَّة الأرض، وقُطْب العالَم.
وهي "المنائح"[18]: عن القسطلاني[19] قوله: "وليس على وجه الأرض أشرف بناءً من الكعبة، لأنَّ الآمر ببنائها الملك الجليل، والمبلِّغ والمُخَطِّط[20] جبريل - عليه السلام - والبنَّاء إبراهيم الخليل - عليه السلام - والتلميذ العامل به إسماعيل - عليه السلام -".
وفي أصول اللغة: أن اسم الكعبة مُشتقٌّ من مادة التكعيب، وهو: التربيع، أو مشتق من الارتفاع، ومنه الكعب، سمِّي بهذا لنُتُوئِه وخروجه عن جانبي القدم[21].
خامسًا: بناء المسجد الحرام وعمارته:(/12)
وخبر بنائه وعمارته من اليقينيَّات والقطعيات وهو: أنَّ أوَّل من بَنَى البيت هو: إبراهيم وابنه إسماعيل - عليهما السلام - فبناه رضمًا[22] من غير ملاط[23] من طين أو مَدَر, يضع الحجارة فوق الحجارة على قواعد كانت ثابتة قبل رفعها[24]، ولمَّا بلغ في بنائها حدًّا معيَّنًا كان قد احتاج إلى حجر يقوم عليه لإعلاء جدرانها. وكان المقام الذي لا يزال موجودًا إلى هذه الساعة - بحمد الله - هو وسيلته لهذا الغرض، وجاء طول البيت من الجانب الشرقي (33) ذراعًا، وعَرْضه من الجانب الجنوبي الغربي (27) ذراعًا، ومن الجانب الجنوبي الشرقي (20) ذراعًا. تلك هي العمارة الأولى للكعبة المشرفة، وهي عمارة إبراهيم عليه السلام [25].
العمارة الثانية والثالثة: عمارتا العمالقة [26] وجُرْهُم [27].
ولم تُفد كتب التاريخ عن صفة هذه العمارة للبيت وباعثها، التي قامت بها كلٌّ من القبيلتينِ، ويذكر الأزرقيّ عمارتي العَمَالقة وجرهم، إلاّ أنه يذكرها ذكرًا عابرًا، ويلمح إلى ذلك دون توسُّع[28].
عمارة قريش للكعبة:
وتمثَّلَتْ عمارتها للكعبة في مضاعفة ارتفاعها حتى بلغ ثمانية عشر ذراعًا، نصف ما كان عليه أي نحو (8.5م)، بعد أن كانت (4.32م) واقتطعوا من طولها ست أذرع نحو (3) أمتار من الحجر لقصور النفقة لديهم، وجعلوا لها سقفًا وميزابًا يسكب في الحطيم، وسدُّوا الباب الغربي – وهو مميَّزٌ إلى الآن، ورفعوا الباب الشرقي إلى ما هو عليه اليوم من الارتفاع، كل ذلك بمدامك من حجارة، ومدامك من خشب، وشارك الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الإعمار، وكان أن شرَّفه الله - عزَّ وجل - بوضع الحجر الأسود في مكانه بعد اختلاف القبائل وتنازعها في ذلك [29].
عمارة عبدالله بن الزبير والحَجَّاج:(/13)
وفي عام 64 للهجرة المباركة أصيبتْ الكعبة بحجارة منجنيق الحَجَّاج، فأعاد ابن الزبير - رضي الله عنه - بناءها من القواعد، مع زيادة الارتفاع إلى 27 ذراعًا، وإدخال ست أذرع من الحِجْر.
ثم أعيد إعمار البيت زمن الحجاج عام 74 للهجرة، وأعاده إلى ما كان عليه في بناء قريش دون تغيير في الارتفاع [30].
وجدير بالذكر والتنويه/ أن خادم الحرمين الشريفين وفَّقه الله، قد أمر بترميم شامل مُحكم متقن للكعبة عام 1417 هـ، شمل صَقل الجدران وتقوية الأساسات والشاذوران [31] وتغيير سقفَي الكعبة بآخرين جديدين من أعلى طراز المعمار، ثقَّل الله بذلك ميزان حسناته، وأورثه نعيم جنَّاته.
تلك نبذة خاطفة عن مراحل عمارة البيت، عبر التأريخ، آثرتُ ذكرها كي يكونَ قارئُ هذه الدراسة على علم بتاريخ هذه الكعبة المشرفة.
وفيما يلي تسلسلٌ تاريخٌّ من أول توسعة للمسجد الحرام إلى عصرنا الزاهر، حيث بلغ فيه أوج عمارته.
أولاً: توسعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
حيث اشترى الدور التي حول الكعبة وهدمها، وجل للمسجد سورًا له أبواب عام 17 للهجرة.
ثانيًا: توسعة عثمان بن عفان رضي الله عنه عام 29 للهجرة:
وسَّع المسجد الحرام واتَّخَذ له أروقة، فكان أوَّل من اتخذ الأروقة.
ثالثًا توسعة عبدالله بن الزبير رضي الله عنه عام 64 للهجرة.
رابعًا: توسعة عبدالملك بن مروان [32] عام (65) للهجرة.
خامسًا: توسعة الوليد بن عبدالملك [33] عام (91) للهجرة.
وكانت مُحكَمة بأساطين الرخام، وجعل للمسجد شرفات، وسقَّفه بالساج المزخرف.
سادسًا: توسعة أبي جعفر المنصور [34] عام (137) للهجرة:
وقدِّرت زيادته بضعف ما كان عليه، مع الزخرفة بالفسيفساء والنقوش والذهب.
سابعًا: توسعة المهدي العباسي [35] عام (160) للهجرة:
وكلَّفته نفقة عظيمة، وكانت توسعته أكبر عمارة وتوسعة، ولا يزال بعض أعمدتها قائمًا في الحرم إلى الآن.
ثامنًا: توسعة المعتضد العباسي [36] عام (284) للهجرة:(/14)
تاسعًا: توسعة المقتدر العباسي [37] عام (306) للهجرة: أدخل في المسجد بابي الحَزْوَرَة [38]، وبني جُمَح [39].
عاشرًا: عمارة السلطان مراد بن سليم خان [40] العثماني عام (980) للهجرة: أدركتْ والدَه السلطان سليم خان [41] المنيةُ دون بلوغ الأمنية في التوسعة التي شَرَع فيها، فأمضاها ابنه، وأتمَّها على الشكل القائم الآن، وهو البناء ذو اللَّون البُنِّي القديم، المحيط بالمطاف، والمسقَّف بالقِبَاب، ولم يزد في مساحة المسجد، وإنما أعاد بناءَه على مساحته الأولى.
حادي عشر: توسعة الملك عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله، وطيَّب ثراه - عام (1375) للهجرة، وتمثَّل في: بناء ثلاثة طوابق، الأقبية (البدرومات)، والطابق الأرضي، والطابق الأول، وبناء المسعى بطابقيه، فكانت التوسعة الأولى في الصورة القائمة الآن قوةً ومتانةً وجمالاً، وهكذا تلاه أبناؤه البررة في رعاية المسجد الحرام والمسجد النبوي، حسب ما اقتضته الحاجة، ودعت إليه الضرورة.
ثاني عشر: توسعة خادم الحرمين الشريفين [42] - رعاه الله - عام (1409) للهجرة:
وهذه التوسعة التاريخية يطول الحديث عنها الآن، وهي شاهدة للعيان بشساعتها وضخامتها، وتطورها وجمالها، هذا وقد بَلَغَ مجموعُ ما أنفق على توسعة الحرمين الشريفين خمسين مليار ريال [43]، جعلها الله خالصة لوجهه، وفي ميزان حسناته، وزاده خيرًا وهدًى وتوفيقًا [44].
سادسًا: حدود المسجد الحرام:
حدود الحرم توقيفيَّةٌ، وأوَّلُ مَن وَضَعَ أعلامَ حدودِه إبراهيمُ الخليل - عليه السلام - يريه إيَّاها جبريل عليه السلام، ذهب إلى ذلك المُحبُّ الطبري [45]، وابن الجوزي [46]، والفاسي [47]، وروي الفاكهي [48]، بإسناد إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "إن إبراهيم - عليه السلام - نصب أنصاب الحرم، يريه جبريل - عليه السلام –" [49].(/15)
ولمعرفة حدود الحرم أهميَّةٌ كبرى؛ لما يترتب عليها من أحكامٍ شرعيَّة، وإليك – يا رعاك مولاك – أهمَّ الحدود التي تحيط بالحرم إحاطةَ السوار بالمعصم، حيث بلغ محيط حدود الحرم بالوحدات القياسية المعاصرة (127كلم2) ومساحته (550 كلم2).
ومن حدوده البارزة الثابتة:
أعلام التنعيم [50]: من جدار المسجد الحرام إلى أعلام التنعيم بلغتِ المسافة (6,150كلم) ستة كيلو مترات، ومائة وخمسين مترًا.
أعلام الحديبية [51]: وتبعد عن جدار المسجد الحرام بـ (22كلم) اثنين وعشرين كيلو مترًا.
أعلام الجِعْرانة [52]: وتبعد عن جدار المسجد الحرام بـ (18 كلم) ثمانية عشر كيلو مترًا.
أعلام طريق الطائف، نجد، العراق: تبعد عن جدار المسجد الحرام (12,805كلم) اثني عشر كيلو مترًا، وثمانمائة وخمسة أمتار.
أعلام عُرَنَة [53]: تبعد عن جدار المسجد الحرام بـ (15,400 كلم) خمسة عشر كيلو مترًا، وأربعمائة متر.
أعلام طريق الطائف، الهدا الجديد المار قرب قرن العابدية: تبعد عن جدار المسجد الحرام بـ (15,5كلم) خمسة عشر كيلو مترًا، ونصف [54].
سابعًا: خصائص المسجد الحرام:
للمسجد الحرام خصائصٌ عن الحصر منيفة، وفضائل جمة شريفة، تضافرت بها الآيات والأحاديث الصحيحة الشريفة، وهاك – وفقك الله – طائفة من عبقها الفوَّاح:
أولاً: أرضه خير أرض الله، وأحبُّها إلى الله.
ثانيًا: جُعلت به الكعبة المشرفة قبلة المسلمين، وبيت ربِّ العالمين [55].
ثالثًا: الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، كما في الحديث الصحيح.
رابعًا: ومن خصائصه أن يُعاقَب فيه على الهمِّ بالسيئات وإن لم تُفعَل.
قال – تعالى -: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
خامسًا: السنة ألا يدخله أحد إلا بإحرام.
سادسًا: يُمنع مِن دخوله مَن دان بغير الإسلام، قال – تعالى -: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28].(/16)
سابعًا: ذبح دماء الهدايا مختصٌّ به، لا يجوز في غيره.
ثامنًا: لا يُعْضَد شَوْكه، ولا ينفَّر صيده، ولا تُلتقط لقطته إلاَّ لمن عرَّفها، ولا يُخْتَلَى خلاه إلاَّ الإذْخِر.
يقول ابن القيم – رحمه الله -: "فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده، وأَحبها إليه، ومختاره من البلاد، لما جعل عرصاتها مناسك لعباده، فرض عليهم قصدها، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام، وأقْسمَ به في كتابه العزيز في موضعين منه، فقال الله – تعالى -: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]، وقال – تعالى -: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1]، وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيها، غيرها، وليس على وجه الأرض موضع يُشرَع تقبيلُه واستلامه، وتُحطُّ الخطايا والأوزار فيه، غير الحجر الأسود والركن اليماني" [56].
ثامنًا: فضله [57] ومكانته:
لقد تبوَّأ المسجد الحرام في نفوس المسلمين أغلى مكان، فنحلوه المُهَج والجنان، وفي سبيل مَرْآه بذلوا كل ما عزَّ وهان؛ استجابة لنداء خليل الرحمن، قال – تعالى -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، وقال – تعالى -: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125].
مَحَاسِنُهُ هَيُولَى [58] كُلِّ حُسْنٍ وَمَغْنَاطِيسُ أَفْئِدَةِ الرِّجَالِ [59]
فالمسجد الحرام بحقٍّ منطقة أمان، دار سلام، وواحة اطمئنان، يستوي في ذلك جميع عباد الله ممن تشرَّف بالإسلام، وما مِن مسلم على وجه الأرض إلا وتهفو نفسه لزيارته؛ ليقضي أيامًا رضيَّةً، في تلك البقاع السنيَّة، مُتَبَوَّأ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ومهبط الوحي، ومعارج الملائكة، ومدارج المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومجمع الصحابة رضوان الله عليهم، حيث شذا المشاعر والمقدسات، وأريجُ التاريخ والبطولات.(/17)
إن مكانة هذا المسجد الحرام يعجز عن وصفها كلُّ قلم سيَّال مدَّاح، وأنه ليعلو بشرفه وفضله فوق كل امتداح، سقى الله هذه الربوع والديار، وأدام الباري عليها وعلى حُماتها نِعَمَه الغزار، آمين.
الفصل الأول
الزحام على ضوء النصوص القرآنية
والشمائل النبوية والمقاصد الشرعية
والقواعد الفقهية
ويشتمل هذا النص على ثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: الزحام على ضوء النصوص القرآنية والشمائل النبوية.
المبحث الثاني: الزحام على ضوء المقاصد الشرعية.
المبحث الثالث: الزحام على ضوء القواعد الفقهية.
المبحث الأول: الزحام على ضوء النصوص القرآنية والشمائل النبوية:
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم والسنة النبوية، قد زخرا بالحثِّ على مكارم الأخلاق، وما تَرْكُ التزاحم إلا ضَرْبٌ منها، وما الزحام إلا شرخ فيها، وحُسْن الخُلُق نمير عذب، تتهادى إليه كَمَلَةُ الرجال، وذخر حسناته لا تبلى في الحال ولا في المآل، جاءت بتعزيزه الشريعة السمحة، وكان دَيْدَن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الشمائل، والطرفة، واللمحة، كيف؟! وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) [60]، قال ابن عبدالبر [61]: "ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله، والدين والفضل والمروءة، والإحسان والعدل، فبذلك بُعث ليتمِّمه"، وقال - صلى الله عليه وسلم - موجهًا إلى أقوم سنن: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع الحسنة السيئة تَمْحُها، وخَالِق الناس بخلُق حسَن)) [62] وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحبكم إليَّ أحاسنكم أخلاقًا، الموطَّؤون أكنافًا، الذين يَألفون ويُؤلَفون)) [63].
وقد حدَّه الماوردي [64] بقوله: "حسن الخلق: أن يكون سهل العريكة، ليِّن الجانب، طلق الوجه، طيب الكلمة" [65].(/18)
والأدلة الشرعية الحاثة على التمسك بمحاسن الأخلاق، ومكارم الأفعال مع جميع طبقات المجتمع، تربو على الحصر، وإنما اكتفيت بما سلف؛ لأُذكِّر بأن الأخلاق الفاضلة تُمثِّل المعاقد الثابتة التي تعقد بها الروابط الاجتماعية المُحكمة، ومتى انهارت هذه المعاقد وخارت، قلْ على المجتمع العفاء.
وأؤكد أن التراحم والرفق والتلاحم، والسكينة والطمأنينة؛ أخلاقٌ حسنة، وصفات حميدة، تطيب بها العبادة والطاعة، وتستوي على سوقها ألفة المجتمع.
ولنكرر ونقرر: أن ثرى المسجد الحرام هو الأولى والأحق أن تبسط فيه مكارم الأخلاق، وألا يُتصف فيه إلا بالمُثُل العليا، والسجايا الكريمة، والشمائل النبيلة.
ومن المعلوم أن الزحام أو المُزاحمة خلُق فِعْلِيّ، يندرج تحت الأخلاق المذمومة، والسلوك المَشِين. والنّصوص الشّرعية التي وردت ناصَّة على ذمّه قليلة، بخلاف الواردة في معناه أو ما يُقابله، فإنها جمة وجليلة، ودونك - لُقِّيتَ الرَّشَد – بَسْط ذلك.
يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، ولا رَيْب أن الزحام أذًى للمؤمنين، ويخشى على فاعله من الإثم المُبين.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه زَجْرًا شديدًا، وضَرْبًا للإبل، فأشار بصوته إليهم، وقال: ((أيها الناس عليكم السَّكينة، فإن البِرَّ ليس بإيضاع الإبل))" [66].
قال ابن حَجَر [67]: "عليكم السكينة: أي في السَّيْر، والمراد: بالرفق وعدم المزاحمة" [68].
وعند أحمد: "وجعل الناس يضربون يمينًا وشمالاً وهو يلتفت، ويقول: ((السكينة أيها الناس، السكينة أيها الناس))" [69].
وقد بَوَّبَ الإمام مالك – رحمه الله – (باب الدفعة في السير).(/19)
قال الزُّرْقاني [70]: "سُمِّي دَفْعًا لازْدِحَامهم إذا انْصَرَفُوا، فيدفع بعضهم بعضًا، لهذا اقتَضَى تَوْجيههم إلى السكينة، والوقار، وعدم المدافعة" [71].
وعند البُخاري عن هشام بن عروة [72] عن أبيه [73]، قال: سُئِل أسامة وأنا جالس: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في حجة الوداع حين دَفَع؟ قال: "كان يسير العَنَق [74]، فإذا وجد فجوة نصّ [75]" [76].
قال ابن حجر نقلاً عن ابن عبدالبر – رحمهما الله -: "في هذا الحديث كَيْفِيّة السير في الدفع من عرفة إلى مزدلفة؛ لأجل الاستعجال للصلاة؛ لأن المغرب لا تُصَلَّى إلا مع العشاء بمُزْدَلفة، فيجمع بين المَصْلَحتينِ: من الوقار والسكينة عند الزحمة، ومن الإسراع عند عدم الزحام" [77].
ومما أُثِر عن السَّلَف - رحمهم الله – في ذَمِّ الزحام، وعدّه من أذيّة المسلمين، ما أورده الفاكهي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لا تُزَاحِم على الحجر، لا تُؤذِ ولا تُؤْذَ" [78].
وعن عطاء [79] - رحمه الله – قال: "تكبيرة ولا أوذي مسلمًا أحب إلي من استلامِه، يعني الرُّكن" [80].
وفي رواية كان يقول: "إياكم وأذى المسلمين".
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((يا عمر إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله، فَهَلِّل وَكَبِّر)) [81].
وعند مالك – رحمه الله – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبدالرحمن بن عوف، ((كيف صنعت يا أبا محمد في استلام الركن؟))، فقال عبدالرحمن: "استلمت وتركتُ"، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أصَبْتَ)) [82]. قال الزرقاني - رحمه الله -: "ففي تصويبه دلالة على أنه لا ينبغي المزاحمة" [83].(/20)
ونخلص الآن إلى زبدة في القول: بأن الزحام خلق مشين، يصادم مكارم الأخلاق، وآتيه تَعَنَّى للوِزْر دون الأجر، ومخالفة أصول الشريعة القاضية باليُسر والسهولة ورفع الحرج.
كما أنه: مُصادِم لمكارم الأخلاق: لأنه حِدّة كله، وفظاظة كله، وضد الرفق كله، قال – تعالى -: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، واللين هنا تأكيد على سعة الخلق مع أمة الدعوة والمسلمين، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من يحرم الرفق يحرم الخير كله)) [84]، والرفق حِلية الأدب، وشارة الخلق، يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع منه إلا شانه)) [85].
وإنما خصصت الرفق بالذِّكْر؛ لأنه أصل مهم من أصول الأخلاق، والتعامل بين المسلمين.
وإن المؤمل من كل قاصد للمسجد الحرام، سواء لإقامة الصلوات الخمس، أم العيدينِ أم التراويح أم التهجد أم الطواف أم الحج والعمرة، أن يُزكِّي نفسه بالطمأنينة والسكينة، إن كانت عن ميدان الطهر والصفاء لاجَّة، وأن يزمها بالترغيب والترهيب إن كانت لا تقنع إلا بالمحاجة، وأن يذكرها قول الباري – تعالى -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وقوله – سبحانه -: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((حُرِّم على النار كل هَين لَين سهل، قريب من الناس))، وبتوجيهه - عليه الصلاة والسلام - بقوله: ((ولِينُوا في أيدي إخوانكم))[86] وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة لا تأتوها تَسْعَون، وأتوها تمشون عليكم السكينة)) [87]، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، فلا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتمُّوا)) [88].(/21)
تلك كوكبة من آي الكتاب، وشمائل النبي الأوَّاب عليه الصلاة والسلام، التي تبين بعمومها ضرورة التحلِّي بالأخلاق الكريمة، والسجايا الحميدة، كما تؤكد بخصوصها على النهي عن كل ما يخالف ذلك، ومنه ما نحن بصدده من بيان هذه الظاهرة ظاهرة الزحام، ولعل فيها ذكرى للذاكرين، وتنبيهًا للغافلين، وسيتبين لك في أعطاف البحث، وثنايا مسائله، إيراد بعض النصوص الأخرى في ذلك، والله وحده الموفق، وهو المستعان.
المبحث الثاني: الزحام على ضوء المقاصد الشرعية:
لقد جاءت هذه الشريعة. لحكم عظمى، وأسرار ومقاصد كبرى، يقول ابن القيم – رحمه الله -: "والشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم، ومصالح العباد في أمور المعاش والمَعَاد، فهي خير كلها، وعدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها" [89].
ويقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -: "والمعتمد إنما هو أنَّا استَقْرَأْنَا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد" [90].
ولبيان مقاصد الشريعة ومرَامِيها، يقول الإمام الشاطبي [91] - رحمه الله -: "إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع، كقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وسائر ما يدل على هذا المعنى؛ كقوله – تعالى -: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38].
وقد سمي هذا الدين "الحنيفية السَّمْحة" [92] لما فيها من التَّيْسِير واليُسْر... وقال: "إن مقصود الشارع من مشروعية الرخص: الرفق بالمكلَّف عن تحمُّل المشاق، وفي التزام المشاق تكليف وعُسْر" [93].
ويقول الإمام العِز بن عبدالسلام – رحمه الله -: "والشريعة كلها مصالح، إما أن تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح" [94].(/22)
وتحت باب: (السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها). قال العلامة ابن عاشور [95] - رحمه الله -: "السماحة سهول المعاملة في اعتدال. فهي وسط بين التضييق والتساهل. وقال: فالسماحة: السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه، ومعنى كونها محمودة أنها لا تفضي إلى ضر أو فساد... إلى أن قال: "وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وأصولها دوامها، فعُلِم أن اليسر من الفطرة، لأن في فطرة الناس حب الرفق" [96].
ولئن جلنا بالفهم في حِكَم هذه الشريعة ومقاصدها وقواعدها، لسبر أغوار هذه القضية المقلقة المؤرقة: قضية الزحام في المسجد الحرام، لألفيناها شريعة لا تروم إلا اليسر والسهولة، والرحمة واللطف والسكينة، تأبى التنطع والغلو، وتدفع المشقة والنصب، وترفع الآصار والأغلال والوصب، تنحى منحى الاعتدال والوسط، وتنبذ التكلف والشطط.
وهاك – وفقت للهدى – طائفة من الآيات والأحاديث تعضد ذلك:-
قال – تعالى -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال – تعالى -: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأعراف: 42]، وقال – تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] وقال - تعالى - في سياق الامتنان على هذه الأمة المباركة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
ولولا خشية الإطالة لسردت أقوال المفسرين في بيان معناها، لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.(/23)
ونُعَرّج على السنة النبوية لنجدها تقر اليسر في الأمور كلها وتحض عليه، وتدعو إلى التوسط والقصد: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه))[97].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا)) [98].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن خير دينكم أيسره)).
قال السندي [99] معلقاك: أي خير أعماله من المندوبات، فإن الإنسان بسبب الدوامة على الأيسر يحصل من الثواب ما لا يحصل بسبب الأشق" [100].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((عَلِّمُوا، ويسروا ولا تعسروا)) [101].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمح يسمح لك)) [102]
وجلي واضح، أن المزاحم والمُدَافع في رحاب المسجد الحرام، وساحاته وأَرْوِقته، في منأى عن هذين الوصفين السمحينِ.
ومما سبق تبين أن من أعظم حِكَم الشريعة ومقاصدها اليسر ورفع الحرج، وتحقيق المصالح وَدَرْء المفاسد، وبالنظر في ظاهرة الزحام – على ضوء هذا المقصد – وما يحدث جراءه من المفاسد الأمنية، والأخلاقية والصحية، والمادية، عُلِم أنه مُخَالِف له وَمُباين.
كما أن من حِكَم الشريعة وأسرارها، تحقيق التَّكافُل بين أبناء المجتمع، وإِعْلاء رَاية المَوَدَّة والأُخُوّة بين أفراد الأمة، وحَثّهم على التعامُل الأمثل فيما بينهم، وإشاعة الأخلاق القويمة، والآداب السامية، وعلى وَجْه الخصوص في الأماكن العامة والمواسم التي هي مظنَّة الزِّحام.
يقول الله - عز وجل -: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ويقول - جل شأنه -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، ويقول – تعالى -: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].(/24)
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[103].
ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، وشبَّك بين أصابعه)) [104].
ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يسلمه؛ ولا يخذله))[105].
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [106].
وإذا كان الشرع قد نهى عن التعرض للحيوان والنبات بأذى، فما بالكم بحرمة المسلم، والتعرض لأذاه بقول أو فعل أو مزاحمة؟! يقول – تعالى -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
ولعل في هذا القدر كفاية في بيان: كون الزحام مخالفًا لجملةٍ من المقاصد الشرعية، ومن أهم ذلك: اليسر، ورفع الحرج، وتحقيق المصالح ودرء المفاسد، إضافة إلى ما قصدتْ إليه الشريعة مِن إقامة المجتمع المتكافل، وإعلاء راية الأخوة والمودة بين أفراد هذه الأمة.
المبحث الثالث: الزحام على ضوء القواعد الفقهية [107]:
إن التشريع الإسلامي قائم على قواعد ثابتة، ومبادئ مؤصلة، تفوق فيه كل تشريع أو تنظيم. مما يجعلها صالحة لمسايرة الأجيال، ومطاولة الأيام والليالي، تزيد ولا تنقص، تستوعب كل جديد، ولا تضيق بأي غريب ولا فريد، كيف "وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتوى وتكشف، فيها تنافس العلماء، وتفاضل الفضلاء"[108].
ولما لموضوعنا من ارتباط وثيق بمجموعة من القواعد الفقهية، أحببت معالجته من طريق هذا الفن، مع الاقتضاب في تأدية المقصود، ليتحقق جمال الصرح، وتكامل الطرح بإذن الله.
ويشمل هذا المبحث خمسة مطالب:(/25)
المطلب الأول: القاعدة الأولى: الأمور بمقاصدها [109]: أفادت هذه القاعدة ذات الكلمات الوجيزة، والمعاني الغزيرة، أن الحُكْم المترتب على أمر ما، يكون على مقتضى مقصود ذلك الأمر، ولما كان الأفعال متنوعة إلى فعل وقول، وحركة وسكون، وجلب ودفع، وفكر وذكر، وعادة وعبادة، كان اعتبار القصد بترتيب الأحكام عليه.
قال الغزالي [110]- رحمه الله – عن التوسل إلى الخير بالشر: "فهذا كله جهل، والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلمًا وعدوانًا ومعصية؛ بل قصدُه الخير بالشر - على خلاف مقتضى الشرع – شرٌّ آخر، فإنْ عَرَفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاصٍ بجهله، إذ طلبُ العلم فريضة كل مسلم" [111].
وقال الإمام العز بن عبدالسلام [112]: "لا يتقرب إلى الله إلا بأنواع المصالح والخيور، ولا يتقرب إليه بشيء من أنواع المفاسد والشرور" [113].
وهذه القاعدة من القواعد الكبرى في الشريعة، وقد أوردتها هنا تأكيدًا على جانب الإخلاص وحُسن القصد، خاصة لقاصدي بيت الله الحرام، فالرَّكْب كثير، والحاج والمعتمر قليل، وإنك لَراءٍ وسط هذه الجموع من مئات الآلاف من الحجاج والعمار اختلاف المقاصد، وإذا كان حسن النية مطلوبًا، فإننا نقطع أن نسبة كبيرة تأتي لغرض شريف، ولا يخلو من بين هذه الجموع مَن يخالف عمله قصده، فمنهم من يأتي لأغراض دنيوية، ومنهم لأغراض دنيئة، والمقصود تذكير المسلمين، وهم يعيشون الزحام في بيت الله الحرام، بحسن النية وإخلاصها لوجه الله تبارك وتعالى. ولا إخال مَن تحقق عنده حسن القصد، وسلامة النية سيؤذي ويُزاحِم في هذه الرحاب الطاهرة، والله من وراء القصد.(/26)
ومن يتأمل أحوال بعض الحجاج والعُمَّار والمصلِّين في المسجد الحرام، يجد أن بعضهم قد يقع فيما ينافي حسن النية، وسلامة المقصد، إمَّا رياء وسمعة، وإما حرصًا على مآرب دنيوية، تُؤثِّر في الإخلاص لله عز وجل، ويظهر هذا جليًا في مواطن الزحام، مما يجعل التنبيه على هذه القواعد – ونحن نبحث هذه الظاهرة – مهمًّا جدًّا.
المطلب الثاني: القاعدة الثانية: اليقين لا يزول بالشك:
وتلك قاعدة مهمة في علاج ظاهرة الزحام؛ لأن الشيطان حريص على إفساد عبادة المسلم، وإيقاعه في الشكوك والأوهام والوساوس، وبنظرة فاحصة إلى واقع كثير من المسلمين، نجد أن منهم مَن يَقصُر فقهه عن معرفة هذه القاعدة ودَلالاتها الشرعية، ويستسلم للشكوك والوساوس، فكم هم الذين يدخلون الحرم، ثم يخرجون منه لشك في الوضوء والطهارة! وكم من أناس ابتلوا بالوسوسة في الصلاة، وأعداد الأشواط في الطواف والسعي! فيغدون ويروحون، دون أن يبنوا على اليقين، ويأخذوا بالصواب المستبين، فيزاحمون ويشقون على أنفسهم وعلى إخوانهم، ولو فَقِهَ هؤلاء هذه القاعدة؛ لأعانوا على علاج هذه الظاهرة.
المطلب الثالث: القاعدة الثالثة: المشقة تجلب التيسير:
تَقدَّم معنا الآيات والأحاديث التي نصتْ على التيسير، وكون الشرع الحكيم جاء برفع المشقة والحرج، وهذه القاعدة الكلية خلاصة ما هنالك، ومعناها الشرعي: أن المشقة التي قد يجدها المكلَّف في تنفيذ الحكم الشرعي، سببٌ شرعي صحيح للتخفيف منه، أما المشقة التي لا تنفك عنها التكليفات الشرعية؛ كمشقة الجهاد، وألَمِ الحدود؛ كرجم الزناة، وقتل البغاة والمفسدين والجناة - فلا أثر لها في جلب التيسير والتخفيف.(/27)
وليت المسلمين - وأخص عمار المسجد الحرام - يدركون هذا الأصل العظيم، والمعنى الرحيم للشريعة، فلا يزاحمون، ولا يؤذون، ولا يتدافعون، ويعلمون علم اليقين أن الشرع لا يكلفهم ما لا يطيقون، وأن ربهم أرحم بهم من أنفسهم: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال – سبحانه -: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].
ومَن تأمل حال الحجيج والمعتمرين يرى أنهم بحاجة ماسة إلى فَهْم هذه القاعدة؛ فمنهم من يشق على نفسه، ويوردها موارد الهلاك؛ من أجل بعض المستحبات والسنن، فهذا الذي يُدافِع الناس عند الحَجَر، وعند المُلْتَزَم، وفي الصف الأول، وفي الصلاة خلف المقام، وغير ذلك، قد يرتكب أمرًا محرَّمًا، وهو الإيذاء والمزاحمة، ولذا يسر الله على عباده فلم يكلفهم ما يعنتهم، ويشق عليهم.
ومن القواعد المندرجة تحت هذه القاعدة، قاعدة: "إذا ضاق الأمر اتسع" فإذا حصل زحام مثلاً، وهو ضيق وشدة، جاء الاتساع والتيسير، ولو بترك بعض الأمور المستحبة، والله أعلم.
المطلب الرابع: القاعدة الرابعة: الضرر يزال [114]:
هذه القاعدة من أهم القواعد الفقهية، وأجَلّها شأنًا في الفقه الإسلامي، وأصلها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا ضرار))، والضرر: إلحاق مفسدة بالغير مطلقًا [115].
ونص هذه القاعدة ينفي الضرر مطلقًا، فيُوجِب منعه، سواء أكان الضرر عامًّا أم خاصًّا، ويُوجِب أيضًا وَقْفه قبل وقوعه بطرق الوقاية الممكنة، ويشمل أيضًا رفْعه بعد وقوعه، بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره، وتمنع تَكراره.(/28)
إذا تبين لنا من هذه القاعدة: أن الضرر يزال ابتداء وجزاء، وإذا طبقنا هذه القاعدة على ظاهرة الزحام؛ وجدنا أن الزحام يُلحق ضررًا بالمزاحِم، وينشأ عنه إضرار بالمزاحَم، ولذا فإنه ينبغي على الحُجاج والعمار أن يحرصوا كل الحرص على عدم إيقاع الضرر بأنفسهم، والامتناع عن الإضرار بإخوانهم المسلمين؛ ليتحقق لهم الأجر الذي يصبون إليه.
ومن مظاهر الضرر والإضرار: الافتراش، والصلاة في الطرقات والممرات، والإسراع وسط الجموع، وما يقع فيه بعض الحجاج من مقاصد دنيئة؛ كالسرقة، والنشل، ونحو ذلك من أنواع الضرر، الذي أكدت هذه القاعدة على إزالته ورفْعه.
ومن القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة: أن الضرر لا يُزال بمِثله، ولا بضرر أكبر منه، والأخذ بأخف الضررين، واحتمال الضرر الأخف لدفع الضرر الأكبر، فالمزاحَم لا يقابل ذلك بمثله، ولا بأشد منه؛ وإنما عليه بالرفق واحتمال الأذى، ففي ذلك تطبيق عملي لهذه القاعدة.
المطلب الخامس: القاعدة الخامسة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح [116]:
يراد بالدرء: الدفْع، والمفاسد جمع مفسدة، وهي: الضرر وما يؤدي إلى الفساد من لهوٍ ولعب [117].
والمصالح جمع مصلحة، وهي: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده. وفحوى القاعدة هو: إذا تعارضتْ مصلحة ومفسدة قُدِّم دفع المفسدة على جلب المصلحة، لما يترتب على المفاسد من الضرر المنافي لحكمة الشرع وقصْده: "ولأن للمفاسد سريانًا وتوسعًا كالوباء والحريق، فمن الحكمة القضاء عليها في مهدها، ولو ترتب على ذلك حرمان في المنافع، أو تأخر لها" [118].(/29)
ومن أمثلة هذه القاعدة في بحثنا بعض ظواهر الازدحام عند أماكن من الحرم؛ كالحجر الأسود أو الصلاة خلف المقام، فهذه سنن، يترتب على فعلها – أحيانًا – مفاسد؛ كإلحاق الأذى بالمسلمين، وإيقاع الضرر بهم، وهذا مُحرَّم لكونه مفسدة، فدرءُ هذه المفسدة وترْكُها أولى من جلب مصلحة فيها أمر مستحب، إذا كان يترتب عليها الوقوع في مُحرَّم.
ومن القواعد المندرجة تحت هذه القاعدة، قاعدةُ تعارض المصلحتين والمفسدتين، وارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما، والأخذ بأعلى المصلحتين وتفويت أدناهما، وهذه قواعد لو طبقها المسلمون، وخاصة الحجاج والمعتمرون في أوقات الزحام؛ لكان فيها خير عظيم، ونفع عميم، ولعالجت كثيرًا من الظواهر المخالفة لدينهم، والله المستعان [119].
الفصل الثاني
أسباب الزحام
ويشتمل هذا الفصل على مبحثين:
المبحث الأول: الأسباب العامة
وتضمن مطلبين:
المطلب الأول: الأسباب الإيجابية
المطلب الثاني: الأسباب السلبية.
المبحث الثاني: الأسباب الخاصة.
المبحث الأول: الأسباب العامة [120].
المطلب الأول: الأسباب الإيجابية [121]:
هناك أسباب إيجابية عديدة لوجود الزحام في المسجد الحرام، أوردها مرتبة حسب القوة فيما أرى.
أولاً: الصحوة الإسلامية والتوجُّه الخيِّر في الأمة:
على الرغم من فتن العصر التي أحدقت بالمسلمين، تلوح بشائر الصحوة الإسلامية، والتوجه الخيِّر في الأفق المشرق، فنراها تنفخ في روح الأمة وتحييها من الموات، وهذا المد الإسلامي البهيج، لم يكن مقصورًا على ديار المسلمين؛ بل اكتسح والحمد لله معاقل العالم بأسره، وما ذلك إلا لقوة الإسلام الذاتية، وهذه اليقظة المباركة تسير في طريق لاحب [122] أبلج، متمسكة بالكتاب، متبعة هدي النبي الأواب، ونهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، والعمل لنصرة هذا الدين ورفع لوائه.
وهذا التوجه بحمد الله كالفجر الصادق لا يحتاج إلى تدليل.(/30)
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ [123]
وليس رَاءٍ كمَن سمِع. فهذا التوجه من أصناف المجتمعات كافة، وعلى مختلف الأعمار، إضافة إلى النقل الحي والمباشر لأداء صلاة التراويح والتهجد، والجمعة والأعياد، عبر وسائل الإعلام، والقنوات الفضائية إلى العالم، مما ألهب المشاعر، وحفز الهمم، شوقًا إلى هذا المكان المبارك للعيش في رحابه المقدسة، في أجواء روحانية فريدة، أوليس هو ملجأ كل تائب، وملاذ كل نادم، ومأرز كل عائد، ومثابة كل مبتلى صابر، وقرة عين كل عابد، ومأوى كل مضطهد في دينه، من كل شبر تطؤه القدم، سواء فيه العرب والعجم؟! بلى ولعمر الحق، إنه الحق، فاللهم أدم هذا التوجه، وارزقه البصيرة والرشاد، والتوفيق والسداد، بمنِّك وكرمك يا كريم.
ثانيًا: تيسير سبل الوصول إلى المسجد الحرام:(/31)
إن الشأو العمراني والرقي الحضاري، اللذين بلغتهما – ولا تزال في سمو – هذه الديار المباركة منذ أكثر من قرن من الزمان، ولا سيما فيما يزيد على عقدين زاهرين، حيث تبوأ الحرمان الشريفان وقاصديهما - سواء من الداخل أم الخارج – من ذلك فائق العناية والرعاية، ومما له صلة بموضوعنا، وهو: يُسْر الوصول إلى المسجد الحرام، وتذليل كل العقبات التي تَحُول دون تحقيق آمال ورغبات المتلهفين لرؤيته، فمَن كان في أرجاء الجزيرة، فالطرق أمامه مذللة معبَّدة، وبرجال الأمن معضدة، ليس دون القاصد موعد مضروب، أو زمان دون زمان مرغوب؛ بل متى رغب وتعنَّى نال ما تمنى، فكان هذا السبب الإيجابي من أسباب كثرة الوافدين وغزارتهم على المسجد الحرام، وهذا ولا شك سبب في الزحام، أما الآفاقيون فقد تهيأ لهم من الطائرات أضخمها وأفخمها، ولم تكلفهم الدولة – راعاها الله – رسومًا للدخول (التأشيرات) معدودة ولا محدودة، كما مهدت كل الطرق التي تربط بين المدينتين المقدستين، وزودتهما بالمرافق العامة، فلا يَشعُر القاصد بتعب ولا نَصَب، فكان هذا كذلك سببًا إيجابيًّا من أسباب توافد المسلمين على الحرمين الشريفين، حرسهما الله.
ثالثًا: الأمن والأمان:
وحجر الزاوية في هذا الرافد – تيسر الوصول للمسجد الحرام – هو الأمن الذي أحال هذه البلاد مَضرِب الأمثال، وواحة طمأنينة عديمة المثال، على حين أن العالم تتناوشه حروب عاصفة، ورعود بالخوف والفزع قاصفة، فما أن تطأ القَدَم ثرى الجزيرة، حتى تكتنف النفس السكينة والأمان، وعلى الخصوص أم القرى، وقد امتنَّ الله على عباده بذلك، قال – تعالى -: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وهذا كذلك رافد مهم لا يُغفل من روافد الزحام؛ إذ يغري الجموع بالزيارة وتَكرارها.(/32)
ومَن يقرأ التاريخ يدرك ما كانت عليه الجزيرة والحَرَمان الشريفان، قبل توحيد هذه البلاد وبعده، وهذا مِن فضل الله على عباده، بهذه الولاية المباركة، ولله در القائل [124]:
سَلِ الْخَلائِقَ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمٍ عَنِ الْوِلايَةِ فِي الْعَهْدِ الَّذِي ذَهَبَا
تَجْبِي الْمُكُوسَ فَمَا أَغْنَتْ جِبَايَتُهَا عَنِ الْحَجِيجِ وَمَا دَارَتْ لَهُمْ سَلَبَا
كَانَتْ جَزِيرَتُنَا بِالْأَمْسِ عَارِيةً وَالْيَوْمَ قَدْ لَبِسَتْ أَثْوَابَهَا الْقُشُبَا
أدام الله على هذه البلاد نعمة الأمن والإيمان، وحفظ لها عقيدتها وقيادتها، بمنِّه وكرمه.
رابعًا: التوسعة وتوفر الخدمات:
استشراف المستقبل، والنظر الثاقب الذي اخترق حجب الزمن، أَمْلَيَا على هذه الحكومة الرشيدة توسعةَ المسجد الحرام، حيث بلغت طاقته الاستيعابية زهاء مليوني مصلٍّ، بعد أن كان لا يتسع إلا للنصف من ذلك. وهذه التوسعة العملاقة – رجحت بها موازين الحسنات – شاهدة ناطقة بعلو هندستها المعمارية الفائقة، وبما تضمنته من خدمات، جلَّتْ على الوصف والرصف. هذه التوسعة التي أخذت بلُبِّ كل مشاهد وسامع، كانت سببًا في رفع نسبة الاستيعاب، ومِن ثم كانت رافدًا من روافد الكثرة والزحام، مع توفر كافة الخدمات، وبذل قصارى الإمكانات، الشرعية، والأمنية، والصحية، والاجتماعية، وغيرها.
خامسًا: فتح باب العمرة والزيارة:(/33)
ومما يمكن إدراجه تحت الأسباب الإيجابية للزحام، هو: الميقات الزماني للعمرة والزيارة؛ فالعمرة مشرعة الأبواب في جميع أنحاء العام، وطرقها متنوعة: برًّا وبحرًا وجوًّا، وبنحو ذلك يقال في الزيارة، إذ يرغب فئام من المسلمين الزيارة لهذه البلدة الطيبة؛ لما لها من خصائص ومميزات سارت مسير الشمس في الآفاق؛ فأمْنٌ وارفُ الظلال، وخيرات متنوعة، وغرتها ودرتها تحكيمُ الشريعة، وكذلك بالنسبة لمريد الحج سواء من بعثة بلاده أم من غيرها، برًّا أو بحرًا أو جوًّا، فليس دونه أي عقبة أو مانع.
وبعد كل هذه السبل المذللة، ألستَ معي أخي القارئ الكريم – لا زلتَ مُسدَّدًا – في كون ذلك من أسباب الزحام وعوامله؟! وأَجزمُ أن جوابكَ: بلى!!
سادسًا: توفر المال لدى كثير من الحجاج والعمار:(/34)
لعل من غير المنكور أن ما أفاءه الله - عز وجل - على عباده، وما فتح عليهم من أبواب الخير والرزق، وتوافر المال عند كثير من الناس اليوم، من الأسباب الداعية إلى توافد كثير من المسلمين إلى هذه الرحاب الطاهرة، فاليوم - وبفضل الله سبحانه - قد بسطت الدنيا على كثير من الناس، وتهيأ لهم من أسباب وفرة المال ما لم يكن فيما مضى، وتحقق شرط الاستطاعة، وهو وجود الزاد والراحلة عند كثيرٍ منهم؛ بل تحققت أنواع الزاد المتعددة، والرواحل المختلفة برًّا وبحرًا وجوًّا، فارتفاعُ الدخل الفردي، والمستوى الاقتصادي لدى شرائح كثيرة من المسلمين عاملٌ من عوامل تَوجُّه كثير منهم إلى الحرمين الشريفين، وقضاء مناسكهم من حج وعمرة، وهذه نعمة عظمى لم تكن متوفرة لدى كثير من الناس قبل سنين مضت، ونِعْم المالُ المنفَق في مثل هذه الأعمال الجليلة، ولا ينافي هذا ما عليه كثير من المسلمين من قلة ذات اليد، وعدم توفر الإمكانات، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ومن فضل الله - عز وجل - أن وسَّع على عباده في الحج، فجعل الاستطاعة شرطًا لوجوبه، قال – تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
تلك أهم الأسباب الإيجابية لوجود الزحام في المسجد الحرام، وقد يكون هناك غيرها، لكن هذه – في نظري – أهمها، والله أعلم.
المطلب الثاني: الأسباب السلبية [125]:
أولاً: ضعف الوازع الديني:(/35)
إن ملاك الأمور، ونجاح كل مسعى، وارتقاء كل غاية، وَفْق شريعة الله - عز وجل - لهو قرين الاستمساك بالكتاب والسنة، ورهين رسوخ الإيمان وثباته في النفوس، ومن حسرة أن الأمة الإسلامية أصيبت بما أصيبت به جراء بُعْدها عن هذا المساك، رثَّ الوازع الديني في القلوب، المقتضي للرحمة والتعاطف، فزاحَم بعض المسلمين أخاه في المسجد الحرام؛ بل وآذاه إلا من رحم الله، يستبقه الدخول والخروج من الأبواب، ويتأخر ولا يبالي إن تخطى الرقاب، لا يلوي إلا على مكان يركع فيه، ولو كان فرجة كسَمِّ الخِيَاط، وإن انفلت إلى الحجر الأسود يُقبِّله، سابق الإمام وسلَّم قَبْله، وزاحم بيديه ورجليه ومنكبيه، وغابت عنه معاني الشفقة واللطف والترفق، فضلاً عن كون ذلك فيما يأتيه المأثم لا المغرم.
ألستَ توافق – أخي – أن هذا الصِّنف – أصلحه الله – مراقبةُ الله في قلبه قد رقَّت، ومحاسبته لنفسه قد دقَّت، وما مرد ذلك كله إلا لضعف الإيمان، وخبو جذوته في النفوس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثانيًا: الجهل وقلة الفقه والوعي، مع التقليد والمحاكاة:
الجهل نقيض العلم والفَهم، هو سبب قوي من أسباب الظواهر السلبية عامة، وله حظ وافر من ظاهرة الزحام في أرجاء المسجد الحرام خاصة، فكثير من الآمين لهذا المكان الطاهر هم من العامة، وخصوصًا في موسم الحج وشهر رمضان، لا يفقه بعضهم آداب الحَرَم، كما لا يفقه بعضًا من الواجبات الشرعية التي تلزمه في أداء المناسك، فتلفي أحدَهم يعتقد أن عمرته خداج [126]، أو حجه ناقص غير تام، إن لم يزاحم لتقبيل الحجر الأسود، وإن لم يصلِّ ركعتين خلف المقام، ومثلهما في حجر إسماعيل عليه السلام، وأخريان حذاء بئر زمزم، وإن آذى وزاحم، وما درى أن في الأمر سَعَة؛ بل بعضه مُحدَث مخالف لهدي صاحب الرسالة، صلى الله عليه وسلم، وقل مثل ذلك فيما يمشي القهقرى إثر طواف الوداع، ويتحمل في سبيل ذلك الارتطام بالسواري، والاعتذار من كل راكع وساري!!(/36)
أضف إلى ذلك التقليد والمحاكاة للآخرين بدون علم، فبعض الحجاج والعمار لسانُ حاله يقول: رأيت الناس يفعلون شيئًا ففعلته، دون سؤال وتبين، والله - عز وجل - يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
ألا ما أحوج المسلمين، والحجاج والمعتمرين والزائرين خاصة، إلى أن يفقهوا معالم دينهم، وأحكام مناسكهم؛ حتى يؤدوها على وجهها الصحيح، فيفوزوا بالأجر الربيح.
يقول الإمام الغزالي – رحمه الله -: "ثم يجب أن تَعلَم ما يلزمُك فعلُه من الواجبات الشرعية، على ما أُمرِت به؛ لتفعل ذلك، وما يلزمك ترْكه من المنهي؛ لتترك ذلك، وإلا فكيف تقوم بطاعات لا تعرف ما هي؟ وكيف هي؟ وكيف يجب أن تفعل؟ أم كيف تجتنب معاصي أنت لا تعلم أنها معاصٍ، حتى لا تُوقِع نفسك فيها، فالعبادات الشرعية؛ كالطهارة، والصلاة، والصوم، وغيرها يجب أن تعلمها بأحكامها وشرائطها؛ حتى تقيمها، فربما أنت مقيم على شيء سنين وأزمان مما يُفسِد عليك طهارتك وصلواتك، أو تخرجاهما عن كونها واقعتين على وفاق السنة، وأنت لا تشعر بذلك، وربما يعترض لك مشكل، ولا تجد مَن تسأله عن ذلك، وأنت ما تعلمته.. إلى أن قال: إذا تبين لك بهذه الجملة أن الطاعة لا تحصل للعبد، ولا تَسلَم له إلا بالعلم؛ فيلزم إذًا تقديمه في شأن العبادة" [127].
ثالثًا: ضعف أواصر الأخوة والمودة:
في لوعة وأسى أقول: إن أواصر الأخوة الإسلامية، والمودة الإيمانية بين المسلمين قد وهت روابطها، وضعفت علائقها، ويتجلى ذلك عند تشخيص هذه الظاهرة، لأن الذي يليك ويحاذيك في هذا الحرم هو أخوك، الذي ربطتك به رابطة الإيمان والقرآن – وأعْظِم بها من رابطة – وبرهان هذا الضعف ما نراه وندركه أحيانًا في جنبات الحرم، من آثار الزحام والمدافعة، التي تنبئ عنه دون شك أو إيهام.(/37)
ترى بعض القاصدين يتسلل بين جموع غفيرة، ويدفع أخاه المسلم بمنكبه؛ بل كل من دنى منه أو اقترب، ولا يرى في ذلك بأسًا أو حرجًا، ولا يُشفِع ذلك حتى بأدنى اعتذار، وترى مجموعة من الطائفين أو الساعين همُّهم الوحيد تماسكُ وحدتهم وجمعهم، وإن آذوا المسِنَّ، أو دفعوا القائم، فلا غضاضة في ذلك، لأنه نكرة عندهم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد الواحد)) [128]، لا يساوي شروى نقير [129] عندهم، ولا تَسَلْ عما يورث ذلك من الشحناء، والبغضاء، والكراهية بين المسلم وأخيه، وربما احتدم الأمر، وبلغ الشتم والسب والتجهيل، ونرجو ألا يصل ذلك إلى حصول ظاهرة أخرى.
ألا ما أعظم الشعور بالمحبة والمودة للجماعة المسلمة، وإن اختلف جنسها ولونها!! أكرم بإكنان الحنو، والحدب والشفقة على المسلمين، خصوصًا في أقدس مكان! وإنه لهو الوجه السمح المشرق لأخلاق الإسلام، وللنفوس الزكية السليمة، وما الإخاء والمودة إلا ثمرة نضيجة من ثمرات الإيمان الصحيح، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [130].
رابعًا: ضعف القيم الأخلاقية: كالإيثار وسماحة النفس، وغلبة الأثرة والأنانية:(/38)
من الأسباب الباعثة على الزحام كذلك، ضعف القيم الأخلاقية بين بعض الحجاج والمعتمرين والزائرين، وغياب الإيثار بين بعض القاصدين والطائفين والساعين، فكلٌّ يريد بلوغ أَرَبِه، وتحصيل مطلبه من الحرم، غير ملتفت إلى هذه الصفة الحميدة المهمة، فلربما تَعجَّل الخروج والدخول، وقد تَقدَّمه في ذلك غيرُه بأمتار، دون مراعاة لحال الضعفة والعجزة من المسلمين، ويتجلى ذلك مليًّا – أي غياب الإيثار، وظهور الأثرة – أثناء الطواف والسعي، ويبلغ ذروته عند تقبيل الحجر الأسود، وإذا تقارض المسلمون الأثرة التي تخالف سماحة النفس، والصبر والحِلم، عمَّهم داءُ الأنانية الوبيل، وانحلتْ عراهم، وضاعتْ خِلالُ الخيرِ بينهم.
ومن مظاهر الأثرة، وحب الذات، اللذين يسفران عن الزحام، ما نراه من بعض الداخلين إلى الحرم، وهو يتنقل من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، شاقًّا صفوف جماعة المسلمين، غير مراعٍ لوجهة خروجهم أو دخولهم.
ومن ذلك أن ترى القاصد – خصوصًا في شهر رمضان والحج – يتربع في مكان يَسَعُ اثنين، مما يضطر أخاه أن يتخطى الرقاب، ويزاحم الناس؛ بحثًا عن مكان يقيم فيه صلاته، أو يتحدث في الجوَّال رافعًا صوتَه، مشوشًا على إخوانه، غير مكترث بإزعاجهم وأذاهم، وقطعه لذيذ مناجاتهم لبارئهم – سبحانه - في حرمه المقدس.(/39)
ولما للإيثار والسماحة من أهمية جُلَّى في حَلِّ عقدةٍ من عُقَد الزحام، أسوق هذا الحديث البليغ ذا الأسلوب التربوي الرفيع، للرسول صلى الله عليه وسلم، روى البخاري عن سهل بن سعد[131] أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببُردة منسوجة، فقالت: "نسجتُها بيدي لأَكْسُوَكَهَا"، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال فلان: "اكْسُنِيهَا ما أحسَنَها!"، فقال: ((نعم))، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليَّ، فقال له القوم: "ما أحسنتَ؛ لَبسَها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجًا إليها، ثم سألتَه، وعلمتَ أنه لا يَرُدُّ سائلاً!" فقال: "والله إني ما سألتُه لألبسها؛ إنما سألته لتكون كفني"، قال سهل: "فكانتْ كفنه" [132].
ذلك هو الإيثار المثالي الخالص، الذي يوقد جذوة الإيمان والرحمة والحنان، فتبذل ابتغاء فضل الله ورضوانه، وإن كان بها خصاصة، فأين المقتفون؟!
خامسًا: الاعتقادات الخاطئة والمخالفات الظاهرة:
إن الاعتقدات الخاطئة والبدع المحدَثة، التي غدت نافقة بعد أن كانت كاسدة، ضربت بِجِرَانِها [133] على بعض أقطار العالم الإسلامي، حتى أصبحت السعادة والخير عندهم في الإحداث والابتداع، والمشقة والضير في السنة والاتباع، ولما كان المسجد الحرام مهوى المسلمين من كل الأصقاع، ترى من المخالفات الشرعية والمحدثات البدعية، ما يضيق به ذرع المتسنن الغيور، ومن البدع المورثة للزحام والمسببة له، ما يُشاهَد من التمسح بمقام إبراهيم عليه السلام، وكذا التمسح بالجدران وحلق الأبواب، وغيرها. واعتقاد أنها تجلب البركة، وتنفع من دون الله، فمن الناس مَن يتعلق بذلك دون اعتبار لأذى الناس، أو إعاقة طوافهم وتحركاتهم، ومنه التمسح بكسوة الكعبة، وإدخال الأيدي في حلقات شاذروانها، من المخالفات التي تجر الزحام، وتضيق على الطائفين.(/40)
ومن المحدثات التي لها حظ في شدة الزحام، ما يفعله بعض الناس من تخصيص بعض الليالي والأيام؛ كليلة السابع والعشرين من رجب، وليلة النصف من شعبان، والليلة التي يدعي بعضهم أنها ليلة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الإمام تاج الدين الفاكهاني- رحمه الله -: "لا أعلم لهذا المولد أصلاً في الكتاب ولا السنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين" [134].
ونقل ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله - قوله: "ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور، وإن كان الإسراء من أعظم فضائله - صلى الله عليه وسلم - ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان، ولا ذلك المكان بعبادة شرعية" [135].
كما أخرج ابن وضاح [136] بسند صحيح عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم [137] قال: "لم أدرك أحدًا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولم ندرك أحدًا منهم يذكر حديث مكحول [138]، ولا يرى لها فضلاً على ما سواها من الليالي" [139].
وكل ذلك كان سببًا مُلاحَظًا ومُشاهَدًا في الزحام، وما ينجم عنه من المضايقة، والتشويش على الآمين، مما لا يخفى.
فالحاصل أن وجود بعض الاعتقادات والمخالفات عند بعض الحجاج والعمار، سبب من [أسباب] وجود ظاهرة الزحام.
رزق الله المسلمين الفقه في الدين، ولزوم سنة سيد المرسلين، إنه خير المسؤولين، وأكرم المأمولين.
سادسًا: ضعف استشعار حرمة الحرم وتوقيره:(/41)
إن ما يلحظه كل مسلم غيور، سِيطَ [140] بلحمه ودمه حب المسجد الحرام، من ضعف التعزير والتوقير لحرمة البيت العتيق، مِن قِبَل بعض الزوار والقصاد، لينقضي منه العجب، وليس الأمر موقوفًا عند الزحام والأذية؛ بل يتعدى إلى الفجور في المخاصمة، والكلمات البذيئة، والاستخفاف بشأن النظافة فيه: "ولقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة مع حَرَم الله - عز وجل - يقول عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: "كنَّا نَعُد: لا والله، وبلى والله من الإلحاد في الحرم". وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله: "لئن أخطئ سبعين خطيئة بـ "رَكْبَة" [141] أحب إليَّ مِن أن أخطئ خطيئة واحدة في الحرم" [142].
قلت: يا ليت قاصدي هذا البيتِ، وقاطني هذا الحرم يعلمون ذلك، فيعظموا هذا الحرم المقدس، قال – تعالى -: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].
كانت هذه أهم وأبرز الأسباب السلبية العامة، التي أرى أنها من بواعث الظواهر السلبية عامة بين الحجاج والعمار والزوار، وخاصة ظاهرة الزحام، واستفحالها في المسجد الحرام، وقد يكون هناك أسباب أخرى مختلفة المراتب، كما سيتضح في نتيجة الاستبانات المرْفَقَة في آخر البحث، إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني: الأسباب الخاصة [143] للزحام:
أولاً: ما يكون في الطواف:
الطواف عبادة مشروعة في كل ساعة من ليل أو نهار؛ لقوله – تعالى -: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بني عبد مناف لا تَمْنَعُنَّ أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار))[144]، وقد عُلِم أن الطواف للآفاقي، ولقاصدي المسجد الحرام، مُقدَّم على تلاوة القرآن؛ اغتنامًا لفضل المكان، ولهذه الطاعة الفريدة، فلا جرم أن كان هذا الترغيب سببًا إيجابيًّا في هذا الزحام.(/42)
وفي أعطاف الزحام، يورِّث الحرصُ المتأجج على تقبيل الحجر الأسود ازدحامًا شديدًا، يَبلُغ حد المهاجمة بين أصناف الطائفين، كما هو مُشاهَد، وكذلك المزاحمة والتلبث لدى المُلْتَزَم، والتمسح به، ويلحق بالطواف ما يعقبه من ركعتين خلف المقام، اعتقادًا من كثير من الناس أنهما لا يصحان، ولا يمكن الإتيان بهما إلا خلفه، وهذا خلاف السنة، بدليل ما رواه البخاري عن أم سلمة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال (من القيلولة) وهو بمكة، وأراد الخروج، ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك، والناس يصلون)) ففعلت ذلك، فلم تصلِّ حتى خرجت"، وعلق ابن حجر – رحمه الله – قائلاً: "قوله: "فلم تصلِّ حتى خرجت"؛ أي من المسجد أو من مكة، فدل على جواز صلاة ركعتي الطواف خارج المسجد؛ إذ لو كان ذلك شرطًا لما أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك [145]، ونقل ابن المنذر [146] الإجماع على جواز ركعتي الطواف في أي مكان [147].
وفي "المغني" [148]: "وحيث ركعهما، ومهما قرأ فيهما جاز، فإن عمر - رضي الله عنه - ركعهما بذي طوى"[149].
كل هذه الأدلة أفادت رفع الحرج، ودفع مزاحمة المسلمين ومضايقتهم، والبعد عن كل يخدش صفو عبادتهم.
وفي شأن النساء خاصة يقول ابن جَمَاعة [150] - رحمه الله – وكان لفقه الإمام مالك جَمَّاعة -: "لا يُستحب للنساء الصلاة خلف المقام، أو في غيره من المسجد، مزاحمة للرجال، وهذا مما لا يكاد يختلف فيه؛ لما يتوقع بسببه من الضرر" [151].
ثانيًا: الخَط الرُّخامي المشير إلى الحجر الأسود، والدَّال على بِداية الطَّواف(/43)
ويستوقفنا المَطَاف في مَسألة من الأهمية بمقدار، ومن روافد الزحام بمكان، ألا وهي وجود الخط الرخامي المشير للحجر الأسود والدال عليه، إذ هو ودون ريب، سبب في الزحام والتدافع، وإعاقة سير الطائفينَ؛ بل ربَّما كان مُثيرًا لغضب من ضاق عطنُه. ومن بيان ذلك أن كثيرًا من الطائفينَ ما كاد يصل إلى هذا الخط حتى يمشي مُطأطِئ الرَّأسِ: بحثًا عن هذه العلامة، وإذا وافَاهَا رَكز قدميه فيها، فمن الناس من لا ينتقل حتى يقضي وطره من النية والتكبير ثلاثًا أو أكثر، والآخر حتى يُقبِّل كفيه ثلاثًا مسمعًا مَنْ يليه، سادًّا بذلك الطريق على الطائفين، دون تحرُّز من الزِّحام أو التسبب فيه. مع أن المشروع من ذلك كله، لمن حَاذَى بالحجر الأسود، الإشارة بيده مع التكبير فقط، دون تقبيلهما أو أحدهما، لما صَحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم –: "أنه طاف بالبيت على بَعِير، كل ما أتى على الرُّكن أشار إليه [152]"، وفي رواية: "أشار إليه بشيء كان عنده وكَبّر" [153]، قال الإمام النووي [154] - رحمه الله -: "إن لم يتيسر للطائف استلام الحجر أو تَرْكه من نفسه، فيُشير إليه بيده أو بمحجن؛ ولكن لا يشير بالفم إلى التقبيل؛ لأن النبي لم يفعله؛ ولأن الإشارة بالقُبْلة يقبح فِعْلُها" [155]، والسُّنَّة أن يكبر عند محاذاة الحجر بدون توقف؛ لئلاَّ يؤذي الطائفين، ويعوق طوافهم بوقوفه.(/44)
وبعض الطائفينَ يقف عند مُحَاذاة الحجر، ويتجه إليه بدعوى النية، وهذا لا أصْلَ له، قال تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16]، ولم يفعلْهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته من بعده، مما يُسبب الزحام الشديد عند الحَجر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر - رضي الله عنه - عن المُزَاحمة عند الحجر - كما تقدم - وقال: ((إنَّكَ لرجُل قوي)) [156] وأوصاه بالرِّفْق، وعَدَم المُزَاحَمَة.
ولا يُشْكِل على هذا، أَثَر ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يزاحم عند الحجر، حتى يدمى [157]، وما رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ((ما تركت استلام هذين الركنينِ – الحجر واليماني – في شدة ولا رخاء، منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما" [158]؛ لأنَّ هذا اجْتِهاد منه؛ كما هو دأبه - رضي الله عنه - والعِبْرَة بالسنة، وما عليه جمهور الصحابة رضي الله عنهم.
ووجود هذا الخط محل خلاف بين العلماء المُعاصرين، ولهم في ذلك قولان: فمنهم من يرى مشروعيته [159]؛ محتجين في ذلك بالمصالح المرسلة؛ ولأن الخط يتعلق برُكْن من أركان الحج والعمرة أَلا وهو الطَّواف، فلا بد أن تعلم بدايته ونهايته، إذ لو بُدِئ بعد الحجر ولو بقليل ما صحّ الطواف، وبذلك يدخل النقص على الحج والعمرة [160]. وأما الفريق الثاني: [161] الذي يرى عدم مشروعيته؛ فلكونه محدثًا، والعبادات توقيفيه، وليس لهذا أصل في عصر النبوة والسلف. والذي يظهر لي في مثل هذه المسائل المُتنازع فيها أن يعاد بحثها من جديد من قبل هيئة كبار العلماء [162] الموقرة؛ لتقرر ما تعضده الأدلة القوية، وتتحقق به المصلحة المَرْعِيّة.
ثالثًا: تَكْرَار الحج والعمرة:(/45)
شَرَع الله - عزَّ وَجَلّ - فريضة الحج، وجعلها ركنًا خامسًا من أركان دينه، ولما كان من أكثرها مشقة وكلفة، قابلها بوجوه الإعفاء والتيسير، ولا أدل على ذلك من كونه مرة واحدة في العمر، ومن التوجيه النبوي الشريف، ((افعل ولا حرج))[163]، وأكَنّ فيها حكمًا ومنافع فردية وجماعية دُنْيوية وأُخْرَويّة، وأحَاطَهَا بوجوه الترغيب والتَّشْوِيق، بما يؤجج جِمَار الشوق إلى الامتثال لنداء إبراهيم - عليه السلام - قال - تعالى -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] وقال - صلى الله عليه وسلم - ((مَنْ حَجّ فلَمْ يَرْفُث ولم يفْسُق، رَجَع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [164]، وعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [165]. وأما الترغيب في العمرة وفضلها والحث عليها فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((العمرة إلى العمرة كفَّارة لما بينها)) [166] وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما تَنْفِيان الفقر والذنوب؛ كما ينفي الكير خَبَث الحديد، والذهب والفضة)) [167]؛ أي عطاء هذا يحجم عنه المسلم الواعي، وأي فضل يقطع دونه السهل والوَعْر، وأي مُتاجِر صدق، يزهد في هذه المَتَاجِر.
وحِرْصًا من المُسلمين على هذا الثواب الجزيل، والعطاء العظيم من هاتين الشعيرتينِ، انهمروا إلى المسجد الحرام، وانسلُّوا من كل حدب ومضيق إلى البيت العتيق؛ تَكْرَارًا للحج، ورَفْعًا للصوت بالعَجّ، والثج، والمَجِيء للعمرة والزيارة من كل فَجّ، وكان ذلك القَصْد الحَسَن منشأً للزحام والتضايق في المسجد الحرام، غير أنّ ذلك يحتاج إلى ضوابط شرعية وأمْنية، حتى لا يكون فتح هذا الباب محدثًا لسلبيات تعود بالضَّرَر على المصلحة العامة.(/46)
ومما يجدر التنبيه عليه وبحثه هنا، ما يفعله كثير من المسلمين من تَكْرَار العُمْرَة، بعد وُصُولهم إلى مكة، فيخرجون إلى التنعيم، ويُكرِّرُون الاعتمار عن أنفسهم وعن غيرهم، وهذه المسألة جَدِيرة بالبحث لما تسببه من الزحام، فقد يعتمر بعضهم خمس عمر، أو عشر عمر في وقت مُتقارِب، وقد اختلف أهل العلم في مشروعية ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الاستِحْباب. وهو مذهب الحنفية [168]، وقول للشافعية [169]، ورواية عند الحنابلة [170].
القول الثاني: عدم الاستحباب: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة [171]، وتلميذه ابن القيم [172].
القول الثالث: كراهة تكرار العمرة في السنة أكثر من مرة، وهو قول للمالكية [173]، ورواية عند الحنابلة [174].
أدلة القول الأول: القائل بالاستحباب، هي: عُمُوم الأدلة في فضل التتابع أو المتابعة بين الحج والعمرة، ومن أدلتهم: حديث عائشة - رضي الله عنها - وإِذْن النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بالخُرُوج إلى التنعيم في قولها: "أرْسَلَنِي النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبدالرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتَمَرْت"، فقال: ((هذه مكان عمرتك)) [175]، ومن أدلتهم: حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه إذا كان بمكة وحَمَّم رأسه، خرج فاعتمر [176].
أدلة القول الثاني: القائل بعدم الاستحباب، استدلوا بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يعتمر وهو بمكة، وكذا أصحابه الذين كانوا معه، ولم يُذْكَر عن أحد منهم أنه خرج إلى الحِلّ فأتى بعمرة أخرى، فدل على عدم مشروعيته [177].
وبمثل هذه الأدلة استدل أصحاب القول الثالث، القائلون بالكراهة.
والراجح – والله أعلم – القول بعدم الاستحباب: لأنه أقرب إلى النص والسنة، وفعل الصحابة - رضوان الله عليهم - ولو كان مُستحبًّا لسبقونا إليه، ويتأكد القول بهذا في أزمنتنا التي كثر فيها الزحام؛ بسبب من يُكرِّرُون الاعتمار، والعبادات توقيفية.(/47)
ويجاب عن أدلة القول الأول: بأن الأحاديث العامة بالنسبة للآفاقيين والقادمين؛ لأن هذا هو المعروف عندهم، والرسول - عليه الصلاة والسلام - ذكره وهو في المدينة، وأما تَكْرار الاعتمار لمن هم في مكة، فهو أمر لم يكن معروفًا؛ حديث عائشة رضي الله عنها خاص بها، كما ذَكَر ذلك أهل العلم [178].
وأما أثر أنس - رضي الله عنه - فهو ضعيف لا يُحْتَجّ به[179]، وعلى فَرْض صحته: فهو فعل صحابي خالفه غيره، والعِبْرَة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: ما يتعلق بنظام الحج والعمرة:
ولم يقف الأمر ونحن نتحدث عن هذه الظاهرة على تَكْرار العمرة، وإنما هناك ملحوظات على ما يتعلق بنظام العمرة، ومن ذلك:
1 – قصور أداء بعض مؤسسات وشركات الحج والعمرة في أداء واجبها على الوَجْه الأكمل، خاصَّة فيما يتعلق ببقاء الحجاج والعمار بعد أداء مناسِكهم.
2 – التقصير في توفير آلية لازمة لتنفيذ الأنظمة، والخطط على الوجه الأكمل.
3 – عدم الموازنة بين التأشيرات الممنوحة للعمرة، وواقع المكان.
4 – طول مُدَد التأشيرات الممنوحة في العمرة.
كل ذلك وغيره كان سببًا في وجود أعداد كثيرة من العُمّار والزوار، مما يشكل تفاقُمًا لهذه الظاهرة.
خامسًا: ما يكون في أوقات الصلوات:
ومما يبلغ الزحام فيه ذروته: أوقات الصلوات، لا سيما في المواسم، ومن مظاهر ذلك:
1 – المُزاحمة لإدراك فضيلة الصف الأول، حيث يحرص كثير من المُصلِّين على ذلك، وهو أمر مرغَّب فيه كما لا يخفى، غير أن ذلك لا يعدو كونه سُنّة، إن تيسّر تطبيقها دون مزاحمة وإيذاء فحسن، أما إذا اقتضى الأمر الزِّحام والإيذاء؛ كما هو واقع من بعض المصلين – هداهم الله – فلا ينبغي فعل السُّنّة إذا أدى ذلك إلى ارتكاب مُحَرَّم.(/48)
2 – مُزاحمة المُصلين للطائفينَ، ويحصل هذا في أوقات المواسم، حيث يُصلّي بعض المسلمين في طريق الطائفين مما يعوق حركة الطواف، فيقع الطائفون في عنت ومشقة، ويتجلى ذلك فيمن يحرصون على الصف الأول – عند إقامة الصلاة بجوار الكعبة - فتجدهم يتقدمون للصف قبل الأذان بوقت لا بأس به، فيعوقون الطواف ويُسببون الزِّحَام.
3 – الصلاة أمام الأبواب وفي المداخل والممرَّات، وهي ظاهرة مُؤرقة. سببها قلة الوعي لدى كثير من الحجاج والعُمّار والزوار، فتجد المكان مُتَّسِعًا - بحمد الله - لكن بعضهم يصلي أمام الأبواب فيسدها أمام الداخلين والخارجين، أو يُصلِّي في المداخل والممرات المُؤدِّية للمطاف فيُؤْذِي ويُزاحِم؛ ولعل عدم وجود جُسُور خارجية للدور العُلْوي تمر عبر الساحات مما يزيد الأمر شِدّة، وقد يكون من عوامل ذلك: قِلّة وتقصير بعض العاملين في توجيه الحجاج والعُمّار، حتى لا يصلوا في الممرات.
كما أن مِنْ عَوَامله: التقصير في تَوْجِيه القاصدينَ إلى الأماكن المتسعة في المسجد الحرام بالوسائل التقانية الحديثة.
ومِنْ ذلك: الحاجة إلى التظليل الآلي للصَّحْن والسطح والساحات، وتكييف الأقبية حتى يوجه المُصلُّون للصلاة فيها.
ومن مظاهر ذلك ما سيأتي القول بأن المضاعفة خاصة بالحرم، وكذا حُكْم السُّتْرة في الحرم وتأخر بعض المصلين في المجيء إلى الحرم، وسرعة خروجهم منه مع ضيق المساحة العرضية للأبواب، وسيأتي التنبيه على شيء من ذلك إن شاء الله، والله أعلم.
سادسًا: التمسك بالقول: إن المضاعفة خاصة بالمسجد الحرام:(/49)
اختلف أهل العلم في مُضَاعَفَة أَجْر الصلاة بمكة، هل هو خاص بمسجد الكعبة – زادها الله إجلالاً فقط، أم هي عامة في جميع الحرم؟ فذهب الجمهور [180] إلى أن المضاعفة تعم الحرم كله، لقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفَتْح: 25]، ووَجْه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إنما صُدُّوا عن الحَرَم، فدلَّ على أن المراد بالمسجد الحرام عموم الحرم؛ ولما صح عند الإمام أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحِلّ وغير ذلك من الأدلة [181]، وهو قول العلامة ابن باز [182] - رحمه الله – وذهب الفريق الآخر إلى أن المُضاعفة لا تختص إلا بالمسجد الحرام، لأدلة سعدوا بها ومنها: قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]، ووَجْه الدلالة أن الله - تعالى - قال: { فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}، ولم يَقُل: فلا يدخلوا، فدل على أن المراد بالمسجد الحرام في الآية مسجد الكعبة لا عُمُوم الحرم، وقالوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا مسجد الكعبة)) [183]؟ هذا نص فسر الروايات التي فيها ذكر المسجد الحرام: فانْبَنَى على هذا القول: الحِرْص على الصَّلاة خَلْف إمام المسجد الحرام، وعَدَم تفويت الصلوات الخمس دونه، فكان التمسُّك بهذا القول والعمل به باعثًا على الزِّحام، الناتج عنه المنافسة في الظفر بأجر مائة ألف صلاة.(/50)
ولعلَّ الراجح – والله أعلم – القول بالعُموم لقوة أدلته – وهو الموافق لقواعد الشريعة في التيسير ورفع الحرج، ولو قيل: إن المضاعفة خاصة بالمسجد الحرام، لحصل في هذا عنت ومشقة، لا يُسايران ما قصدته الشريعة من اليُسر، ورفع الحرج. وسعة فضل الله على عباده، والله أعلم [184].
سابعًا: هل لاتخاذ السترة أثر في الزحام في المسجد الحرام؟
إن اتخاذ السُّتْرة في المسجد الحرام وغيره، يَقْتَضِي دَفْع المارِّين بين يدي المُصلِّي. لما روى الإمام البخاري ومسلم: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان)) [185]، وفي ذلك مَشَقَّة وعُسْر على القاصدين والعمار، وخصوصًا في المواسم والأعياد والجُمَع.
ولما كانت الأدلة في هذه المسألة عامة دون مُخَصّص، ولما فيها من الوعيد الشديد؛ ((لو يعلم المارّ بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر من يديه)) [186]، اختلف أهل العلم [187] في خصوص ذلك بالمسجد الحرام، وخُلاصة الأقوال في ذلك، أنه يحرم المرور في غير حالة الضرورة والحاجة، وهو قول الجمهور [188]، والقول الثاني: يجوز المرور بين يدي المصلي داخل المسجد الحرام. وهو قول للإمام أحمد [189] اختاره بعض أصحابه [190] والإمام مالك [191]، ورجحه الطحاوي [192] في "مشكل الآثار" [193] والشيخان ابن إبراهيم [194]، وابن باز – رحمهم الله – وقال ابن قدامة – رحمه الله – بعد أن ذكر أدلة جواز المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام: "وذلك لأن الناس يكثرون بمكة لأجل قضاء نسكهم، ويزدحمون فيها، ولذلك سميت بكة، لأن الناس يتباكُّون فيها، أي يزدحمون ويدفع بعضهم بعضًا، فلو منع المصلي من يجتاز بين يديه لضاق على الناس" [195].(/51)
وأجاب العلامة ابن باز – رحمه الله – عن حكم المرور بين يدي المصلي في الحرم فقال: "لا حَرَج في ذلك، وليس لمن في الحرم – أعني المسجد الحرام – أن يمنع المارّ بين يديه: لما ورد في ذلك من الآثار الواردة على أن السلف الصالح كانوا لا يمنعون المارين بين أيديهم من الطائفينَ وغيرهم، منهم ابن الزبير - رضي الله عنه -[196]؛ ولأن المسجد الحرام مظنّة الزحام والعجز عن مَنْع المارّ بين يدي المُصلي، فوجب التيسير في ذلك" [197].
وبهذه النصوص يتبين أن التشديد في مُدافعة المصلي للمارّين في المسجد الحرام من بَوَاعِث الزحام، واضطراب القاصدين والطائفين، خاصة في الصحن والأَرْوقة، لذا نَظَر أهل العلم إلى مقاصد الشريعة، وظرف المكان، فحفُّوه بالتخفيف والتَّيْسِير، والله من وراء القصد.
ثامنًا: التأخر في المجيء إلى المسجد الحرام، مع الاستعجال في الخروج منه:
لسنا بمعزل عن الصواب، إن قلنا: إن فئامًا من الناس يتأخرون عن إجابة النداء، وإذا انطلقوا إلى الحرم انطلقوا مسرعين؛ يزاحمون الناس، ويتخطون الرقاب، غير مُلْتفتين إلى مُضايقة المسلمين، ولا متحرزين بذلك من الإثم، ولا مُتورِّعين عن مخالفة النص الصريح، الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم الإقامة فأمشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، فلا تُسْرِعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) [198]، وصنف آخر ما إن يُسلِّم الإمامُ حتى ينفلتوا باتجاه الأبواب في غير سكينة أو وقار، وهذان الصنفان – هداهم الله – هما من مادة الزحام ولا شكّ.
تاسعًا: ظاهرة كثرة النساء والأطفال:(/52)
مما لا ريب فيه أن توافُد النساء واصطحابهن أطفالهن إلى الحرم الشريف أضْحَى ظاهرة مُزْعجة وسببًا جليًّا من أسباب الزحام، يتطلب تشخيص الداء ووصف الدواء، المُتمثل في أن تفقه المرأة المسلمة أن صلاتها في بيتها خير لها، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن، وليخرجن تفلات [199]))[200]، وما خروجها تُزَاحِم الرجال وقد تعطرت وتبرجت إلا سبب للفتنة بها ولها.
وايم الله إن الناظر في واقع كثير من النساء اللاتي يأتين الحرم بصحبة أطفالهن، ليأسى من هذا التصرف الذي لا يليق بحَرَم الله، ولا يدلّ على تعظيم شعائر الله، حين يقصدن هذا المكان المقدس دون مراعاة لحرمته.
والذي يؤكد هنا حَثّ المرأة والقوامين عليها، على أن الأفضل للمرأة صلاتها في بيتها، وإن كان لا بد من حضورها إلى الحرم فلتأت ملتزمة بالضَّوَابِط الشرعية من الحجاب والحياء والحِشْمَة، وعدم اصطحاب الأطفال، وتُصلّي في الأماكن المخصصة للنساء في بعد عن الزحام والاختلاط بالرجال.
والله المسؤول أن يهدي نساء المسلمين ويوفقهن لامتثال ذلك، حتى يرجعن مأجورات غير مأزورات.
عاشرًا: ظاهرة الافتراش:
ومن الأسباب التي أخذت حظًّا من الزحام، وكانت عاملاً في اقتطاع حَيِّز كبير من مساحة ساحات الحَرَم، هي ظاهِرَة الافتراش، حيث يفترش بعض الحجاج والعُمّار والزوار أماكن في الحرم وساحاته، وطُرقاته، وممراته، فيها يكون نومُهم وقيلولتهم، فضلاً عن كونها من عوامل الزحام، فإنها مشهد غير حضاري يخرم المروءة، ويبعث على اللوم والتثريب، مما يتطلب علاجها، والحد منها.
حادي عشر: ظاهرة التَّسَوُّل:(/53)
وهي كَلَف في وَجْه المسجد الحرام المُشْرق، تمتعض له النفوس، وتشيح عنه صفحات الوُجوه، وهؤلاء المحترفون للتسول عقبات كِئَاد في الطُّرق الحسية والمعنوية للقاصدين والمعتمرين، خاصة في المطاف، وفي أوقات الصلوات، لا سيما في صلاة الجمعة، وهذا الأمر ليس وليد الساعة أو حادث اليوم؛ بل ضارب بأطنابه في أغوار من السنين، غير أن مما يذكر فيشكر نشاط الجهات المعنية في الحد من هذه الظاهرة.
ثاني عشر: ظاهرة النَّشْل:
قد لا يدور في خلد مسلم وقوع النَّشْل في المسجد الحرام، ولكن الواقع المؤلم، أن بعض ضعاف النفوس، وذَوِي المآرب الدنيئة الذي ضعف في نفوسهم الخَوْف من الله، وتناسوا في سبيل المادة عظمة الحرم، يمارسون هذا السلوك المَشِين، وكم كان هؤلاء سببًا في المُضايقة والأذى والزحام في رحاب المسجد الحرام، وقد أفاد بوجودهم الجهات المُختصة، غير أن مما يبشر بخير، قيام الجهات المسؤولة بواجبها في الحد من هذه الظاهرة المؤرقة.
ثالث عشر: حدود المكان والحاجة إلى تَوْسعته:
تَقدَّم معنا عند الحديث عن تاريخ المسجد الحرام، أن هذا الحرم المُبَارك توالَتْ عليه توسعات مختلفة على مدار عصور مُتباينة، وكان آخرها وأعظمها توسعة خادِم الحرمين الشريفين – وفقه الله – وعلى قدرتهما الاستيعابية الكبيرة، إلا أنها أمام الجموع الغفيرة في موسمي الحج وشهر رمضان، تَنُوء بالأعداد الضخمة، الأمر الذي يُولِّد ازدحامًا وشدة، والذي زاد المكان حَرَجًا وضيقًا قُرْب المباني المجاورة التي سَبَّبَتْ ما سببت مِنَ الاختِناقات المُرورية، وإننا لنأمُل أن تتم التوسعة للساحات من الجهات الأخرى؛ لتكون سببًا في انْبِلاج الزحام وتخفيفه؛ كما أن الإفادة من سَطْح الأروقة العثمانية حل من حلول هذه الظاهرة بإذن الله، إضافة إلى أن وجود زمزم بوضعه الحالي قد يَعُوق حركة الطواف، لا سيما عند ذروة الزِّحَام.(/54)
وخاصَّة أمام نَفْرة الحجيج من مكة، وقد تأملْتُ - بحُكْم عملي – ذلك فألْفَيْته مُهمًّا، لا سيما عند إقامة الصلاة، فيَتَدافَع المصلون مع الطائفين فيحصل لهم عَنَت ومشقة؛ لوجود جدار زمزم بينهم.
كما أنَّ الحاجة ماسَّة إلى دِرَاسات مُتعددة في إمكانية توسعة المَطاف والمَسْعَى، وإضافة دور ثالث، لاستيعاب الأعداد الكثيرة المُتوقعة في مستقبل الأعوام حتى لا تكون سببًا من أسباب الزحام.
أما المقام – بوَضْعِه الحالي – فكان محل دِرَاسَات وأبحاث قديمة [201]، منها ما يرى إبقاءه وهي الأكثر، ومنها ما يرى تغييره، مع اختلاف في الموضع، ومنها ما يرى استثمار التقانة الحديثة لإنزاله ورفعه كالمصاعد – في المواسم.
والذي أراه: الثبات الثبات على المشاعر والشعائر وعدم التغيير والتبديل إلا بعد دراسات شرعية مُسْتَفِيضة، وأن تتولى هيئة كبار العلماء المُوقَّرة، النَّظَر في ذلك، حتى لا تكون قضايا الحرم عُرْضَة للقيل والقال والآراء الصحفية المجردة عن الدراسة، والخوض فيها عبر المجالس والمنتديات.
لذا أحببت التذكير بذلك؛ لأن له اعتبارًا مهمًّا في هذا الموضوع، والله المستعان.
رابع عشر: التَّوْزيع الخَيْري حول المسجد الحرام:
حب الخير مَغْرُوس في نُفُوس المُسلِمين، قال - تعالى -: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وَلَكَمْ يُسَرُّ المُسْلم وهو يرى المسلمين لا سيما من ذَوِي اليَسَار يتسابقون إلى تفطير الصائمين، وإطعام الطعام في موسم الحج، غير أن المتأمل يرى أن هذا التوزيع الخيري في الحرم وساحاته قد يكون سببًا من أسباب الزحام، لما يعوزه من الضبط والنظام، ولذا فإن المقترح أن تكون هناك آلية عملية مناسبة للتوزيع الخيري، ويحسن أن تكون عن طريق المستودع الخيري بمكة المكرمة، بما يحقق الإيجابيات ويدرأ السلبيات.
خامس عشر: القصور في تطبيق النظام:(/55)
كلنا موقن أن النظام وإتقانه، تتطلبه وتتطلع إليه الأمم والمجتمعات، والأفراد والجماعات، إذ هو أحد سبل الكمال، وأحد آليات إنجاز المهام والأعمال، ومن سار بغير نظام في أي أمر دق أو جل، كان التعثُّر لزيمه، والنقد نديمه.
وهنا كلمة مفادها: أن تطبيق الخطة المنتهجة للتحرز من الزحام، والخلوص إلى رفع الحرج وجلب التيسير لعمار المسجد الحرام وآمِّيهِ، يعوزها أحيانًا النُّضْج والشمول، وسنتخذ خطة رمضان والحج غرضًا ونموذجًا، لأنها أجلى في ما نسعى إليه، من التخفيف من ظاهرة الزحام وحل عقدته بإذن الله، فعلى سبيل المثال:
1 – يلاحظ أن ضبط تحديد أماكن النساء في الساحات، وعند بعض الأبواب، وفرض الطرقات فيها يضعف أحيانًا، مما يؤدي إلى سد الطرق، لا سيما أوقات الصلوات.
2 – فرض المَمَرَّات وتحديدها والثَّبَات على اتِّسَاعِها في بعض الساحات يضعف كذلك أحيانًا، ويتجلى هذا بِوُضوح في أَوْتَار العَشْر الأواخر، وقد أَدّى هذا إلى اشتداد الزحام في هذه الطرق، مما يسفر عن تأثر بعض الضعفة من النساء والرجال.
وهذا المشهد وأمثاله، يتكرر أحيانًا، مما يتطلب اتخاذ الخطط والتدابير والحلول؛ لمعالجة ذلك، وإنها لدانية لمن سعى إليها بحمد الله.
3 – التَّساهُل في مرور الرجال عبر أماكن النساء من شأنه الإفضاء إلى الاختلاط، وزيادة الزحام.
4 – التساهل في اختلاط النساء بالرجال أثناء الصلاة، وهذا ظاهر في كثير من أرجاء الحرم.
5 – جلوس المُصلِّين مِنَ النساء والرجال في حواشي وأطراف الساحات، وسَد مَداخلها في حين أن أوساطها، وما يلي جدر الحرم مُتَّسِع.
6 – ومما يدل على القُصور في تطبيق النظام، حَجْز الأماكن [202] أحيانًا من بعض المصلين – هداهم الله – وهذا أمر لا يليق بحرم الله، مما يتطلب الحَزْم على فاعله.
سادس عشر: قلة المرشدين، والحاجة إلى رفع مستواهم:(/56)
دأبت الجِهَات المعنية – مأجورة – بِخُطًا ثابتة حثيثة، على توفير جل الخدمات لعُمّار هذا البيت العَتِيق، ومنها تَوْفير التوجيه والإرشاد للمُعتمرين والزوار، وبلغ عدد العاملين في هذا الجهاز رقمًا لا بأس به؛ لكنه قليل بالنسبة إلى مئات الآلاف الحالِّين بالمسجد الحرام.
ومن مظاهر ذلك:
1 – أن انسيابية الحركة وتنقلها ومرونتها لم تأخذ حظها المنشود لقلة العاملين بالنسبة لكثرة الحُجّاج والمعتمرين، على أننا نلحظ الخُطا نحو التحسُّن بحمد الله.
2 – لا نَزَال نرى بعض المُعْتَمِرين والزائرين، يقضون وقتًا طويلاً بحثًا عن مواطن النُّسك، كالصفا والمروة، أو بحثًَا عن بعض الأبواب أو أماكن الفتوى، وهذا بلا شك من أسباب الزِّحام.
3 – نسمع أحيانًا عن بعض ما يخدش الحياء من بعض الشباب والنساء؛ هداهم الله.
4 – ما يحدث في أماكِن النِّسَاء من النَّوْم والاستلقاء دون احتشام وتستر في وضع غير لائق بحرم الله.
5 – ممارسة بعض الحجاج والعمار والزوار للتدخين، والتصوير.
6 – حاجة بعض العاملين إلى حسن الأسلوب وتجرؤ بعضهم على الفتوى بغير علم، ولا تستغرب أن يسعى المعتمر والحاج أربعة عشر شوطًا بين الصفا والمروة، أو يذبح دمًا لأي شيء يفعله، ولو كان خطأ أو نسيانًا.
7 – الحاجة إلى زيادة التواصي بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأساليب الشرعية، لعلاج ما يحدث من ظواهر ومخالفات.
8 – ظاهرة التبرج عند بعض النساء، وذهابهن إلى الحرم متعطرات متزينات.
9 – اصطحاب الأمهات للأطفال، وما ينتج عنه من إزعاج للمصلين، واستفحال لظاهرة الزحام.
10 – نسمع بعض الأساليب غير الشرعية والأخلاقية من بعض العاملين والعاملات، وهم قليل بحمد الله، وهذا المنحى مُخالِف؛ لما وُظِّفُوا من أجله مُتطلب للرفع من المستوى العلمي والثقافي لديهم.(/57)
ونعود – وفقك الله – إلى ما ألْمَحْت إليه في مستهل هذا العنصر بإجمال فأقول: إن مرد هذه التجاوزات والمخالفات آنفة الذكر إلى أسباب منها.
أولاً: ضعف أهلية وكفاءة بعض العاملين والعاملات، وحاجتهم إلى تحسين مستواهم علميًّا وأخلاقيًّا.
ثانيًا: قُصُور الحس الديني، والشعور بالأمانة والمسؤولية في هذا الواجب من بعضهم.
ثالثًا: الحاجة إلى تعزيز دور الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأساليبه الشرعية.
رابعًا: رأي بعضهم أن ما يقوم به في المسجد الحرام هو وظيفة إدارية بمُكافأة مالية، لا وظيفة شرعية.
خامسًا: الانفعال والانزعاج من بعض تصرفات العمار والزوار والحجاج، وقلة الصبر والتحمل، والتقصير في فَنِّ التعامُل مع الآخرين.
سادسًا: القُصُور في إدراك ما عاناه بعض الحجاج من مَتاعِب، وما تَكَبَّدُوه من مشاقٍّ، وقطعوه من مسافات ومفاوِز، للوصول إلى هذه الديار، مما يوجب التَّرفُّق بهم والحنو عليهم، وإحاطتهم بمشاعر الأخوة الإسلامية، فلا يسمعون منهم إلا الكلمة المهذبة، والقول الحَسَن.
ونحن مع التماس العذر لأحبتنا العاملين، إلا أن طموحنا: أن يكونوا أحسن مما هم عليه، وأرفع مستوى؛ لأنهم الوجه الحضاري، الذي يقابل ضيوف الرحمن.
وبهذا نخلص إلى القول: إن الذين تخولناهم بالنصح، عوامل مهمة في تقليص الزحام وتخفيفه.
سابع عشر: ما يكون حول المسجد الحرام:
المُراد به ما يَكُون في منطقة المسجد الحرام من أمور تبعث على الزِّحام ومن ذلك:
1 – قُرْب المشروعات السكنية والتجارية حول الحرم.
2 – قصور وسائل نقل المُصلين مِنْ وإلى الحرم، حيث إنها لا تتناسب مع الأعداد المُذْهِلَة.
3 – الاختناقات عند الدخول والخروج بين السيارات والمشاة.
4 – قُرْب الحواجز الخاصة بالنِّسَاء في الساحات الخارجية من الأبواب، مما يُسبب الزحام عند الخروج.(/58)
5 – قلة وجود مساجد ذات استيعابية كبيرة في مكة، واختيار أئمة أكفاء لها، لتخفيف الإقبال على الحرم.
وغير ذلك مما يكون حول المسجد الحرام مما لا يخفى على المُتابِع – ميدانيًّا – مما يتطلب عمل أنفاق للطرقات حول المسجد الحرام، والاستفادة من الطرقات والساحات، وإعدادها للصلاة أوقات الذروة.
ولعل من المناسب هنا التذكير بأهمية دراسة مشروع السكة الحديدية؛ لنقل الحجاج والمعتمرين والزائرين، ولتسهم في حل الاختناقات المُرورية حول المسجد الحرام، والله أعلم.
ثامن عشر: نقص الأبحاث والدراسات ومراكز المعلومات:
نحن في هذا الزمن في عصر ازدهار البَحْث العلمي، وبلوغه أوج تألقه والملاحظ أن أمثال هذه الظواهر لم تحظ بالدراسات الكافية، والأبحاث الوافية، عبر مراكز معلومات متخصصة، مما أدى إلى تفاقُم هذه الظاهرة، وأمثالها.
وقد يصاحب ذلك أحيانًا ازدواجية في الآراء المقدمة من بعض الأفراد والجهات المعنية، مما يفرز القصور في وجود خطط تشغيلية مدروسة للإفادة في علاج هذه الظاهرة، وتلافي أسبابها، وبواعثها.
تاسع عشر: القصور المعرفي والإعلامي:
كان للتَّقْصِير في إيصال المعرفة والمعلومات عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، سبب في تفاقُم هذه الظاهرة، مما يُؤكِّد أهمية بثّ الوَعْي والمعرفة عن طريق الوسائل الإعلامية المُختلفة، بحيث تبدأ قبل وصول الحاجّ والمُعتمر إلى مكة، وتصاحبه في الطائرة عبر الشاشات التعليمية، وتعيش معه توجيهًا وتوعية، حتى يعود إلى بلده، وبذلك يقضى – بتوفيق الله – على جملة وفيرة من أسباب هذه الظاهرة.
العشرون: ضعف الاستفادة من وسائل التقانة الحديثة:
لقد خَطت التقانة خطوات سريعة، لا تعرف التمهل غير أن مما يؤسف ضعف الاستفادة من هذه التقانة في علاج الظواهر السلبية الموجودة في الأمة.(/59)
وإذا أخذنا ظاهرة الزحام في المسجد الحرام مثالاً، فإننا نجد قصورًا في الإفادة من هذه التقانة لعلاج هذه الظاهرة، خاصة في جانب التوجيه والتوعية والإرشاد، وإننا لمتفائلون إن شاء الله.
كانت تلك أهم الأسباب السلبية الخاصة لظاهرة الزحام في المسجد الحرام، ولربما يكون هناك غيرها، وسيتبين لك في نتيجة الاستبانة المرفقة آخر البحث اختلاف وجهات النظر في بيان مراتبها، قوة وتوسطًا وضعفًا.
وبعد ما سلف من ذكر أسباب هذه الظاهرة، يأتي أوان إيراد الحلول لها، سائلا الله التوفيق والسداد.
الفصل الثالث
الحُلول لظاهرة الزِّحَام
هَا نحن أولاء وإياكم - أيها القُرّاء الكرام – بعد أن طوفنا عبر أسباب الزحام وبواعثه، نتطلع جميعًا - في ثقة وحسن ظن - إلى يد صناع تفك هذا الوَهَق، وترفع بإذن الله عن الحُجَّاج، والعمار، والزوار ما نابهم من رَهَق.
وحيفًا أدعي أن هذه الحلول نهاية الغاية وتمام الإيفاء؛ ولكن لكل واحد – والحمد لله على إلهامه – منها حظ من الإشراق واللألاء، وهي منضَّدة كالتالي:
أولاً: تصحيح المعتقد وتجريد المتابعة وتقوية الوازع الديني:
إن بعض المسلمين قد وهت صلتهم بالله عز وجل، وضعفت علاقتهم بالمُعتقد الصحيح والشرع القويم، إلا من قبس يكاد لا يوري، وانصرفوا إلى مَبَاهج الدنيا وفتنتها، وعليه، فإنه لا بد من العناية بالتربية العقدية الصحيحة، والتقوية الإيمانية في نفوس المسلمين.(/60)
وعن شأن التوحيد الخالص يقول ابن أبي العز الحنفي [203] - رحمه الله -: "اعلم أن التوحيد الخالص أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله - عز وجل - قال – تعالى -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[204] [النحل: 36]"، وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة - رحمه الله -: "وبعض الداخلين في الإسلام لم يحققوا التوحيد واتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل دعوا الشيوخ الغائبين واستغاثوا بهم، فلهم من الأحوال الشيطانية نصيب بحسب ما فيهم مما يرضي الشيطان، ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين، مع نوع جهل، إلى أن قال: ودين الإسلام مبني على أصلين:
على أن يعبد الله وحده لا يُشْرك به شيء، وعلى أن يعبد الله بما شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذان هما حقيقة قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" [205].
ومقتضى هذا التوحيد الخَالِص أن نجعله مَدْرَأة للمُسلمين عمومًا. والآمِّين المسجد الحرام خُصُوصًا عن أوحال العقائد الخاطئة، ومُستنقعات المُخالفات الظّاهرة، وبخاصة ما يتعلق بالمسجد الحرام. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحْدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) [206].
كذلك يجب إلى جانب تقوية الإيمان، تحقيق المُراقبة: لما لها من أهمية كُبْرى، فمن بالمراقبة تسربل، وبالخشية من الله تدثر، استحال عليه أن يجر لأخيه المسلم أذية، فضلاً عن أن يؤذيه في المسجد الحرام، حلالاً كان أو حرامًا. والإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) [207].
وبهذا يتحرّر المُسلم من رقّ الضلالات والخُرافات إلى رق عُبودية رب الخلائق والبريات.(/61)
ومن فَضْل الله - عز وجل - على هذه البلاد أن جعلها موئل العقيدة الصحيحة، ومأرز الإيمان الحق، ومدارج السنة القويمة، فتلاشت من أرجائها بحمد الله كل مظاهر الاعتقادات الباطلة، والمُخالفات والمُحْدثات الظّاهرة.
ألا ما أحوج الأمة إلى اقْتِفاء آثارها، والسير على منوالها، وترسُّم دعوتها الإصلاحية المباركة ليتحقق لها الخير في الدارين، والسعادة في الحَياتينِ.
ثانيًا: بث العلم الشرعي ونشر الوعي والإرشاد:
تكاثرت شواهد القرآن – تلميحًا وتصريحًا – وتوافَرَت الآثار التي جاءت تحضُّ على العلم والإرشاد وتدعو إلى الأَخْذ بأسبابه، فمن ذلك قوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التَّوْبَة: 122]، وقال - جَلَّتْ أسْمَاؤُه - مُرَغِّبًا في التَّوْجِيه والنُّصْح والإرشاد: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، وقال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2] وقال – تعالى -: {ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129].(/62)
ومن مشكاة السُّنّة المُباركة أُورِد هذينِ الحديثينِ الوافيينِ بالغَرَض؛ خشية الإطالة، وهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ سَلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتَضَعُ أجنحتها لطالب العِلْم، رضًا بما صَنَع، وإن العالِم ليستغفر له من في السموات والأرض، حتى الحِيتان في الماء، وفضل العالم على العابد؛ كفضل القمر على سائر الكواكب))[208]، الثاني دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن العباس بالفقه في الدين بقوله: ((اللهم فقه في الدين)) [209] وفي رواية: (((اللهم علمه الكتاب)) [210] ويؤكده حديث: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) [211] وفي "أخلاق العلماء" للآجري [212]، قول نفيس لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - يطيب لي أن تحظى بالوقوف على جزء منه. قال - رضي الله عنه -: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة: لأنه معالم الحلال والحرام، والأنيس في الوحشة والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والزين في الأخلاق، إلى قوله: به يطاع الله - عز وجل - وبه يعبد الله - عز وجل - وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام"[213].(/63)
أجل بالعلم تَزْكُو الأَرْوَاح والطِّبَاع. وتنشر السنة في الأصقاع، ويتقشع الجهل والابتداع، وهل حياتنا إلا حياتان، حياة علمية وحياة عملية، وبقدر ما الأولى تقوى، فالثانية تعمر وترقى، وخطة بث العلم والوعي والإرشاد يجب أن تتوخى شَتّى السُّبل والميادين مستثمرة القنوات الفضائية، والصحف السيارة، والمجلات الرّائدة، وعبر المَنابِر، ووسيلتي الإعلام السمعي والمرئي، ووسائل النقل الحديثة، ويخص العمار والزوار بالتوعية، وتعليمهم أحكام المَنَاسِك، وتخص المرأة المسلمة بتوجيه يناسبها في مراعاة الجميع آداب مُجاورتهم لهذا الحرم الآمن – زاده الله أمنًا وأمانًا وتشريفًا وتعظيمًا.
وأرى أن تُشكّل لجان مُتخصصة من قِبَل الجِهَات المعنية ذات العلاقة بشؤون الحج، والشؤون الإسلامية، وأن يُفعَّل دَوْر التَّوْعية الإسلامية، وذلك بإلقاء الكلمات التوجيهية في أماكن سكن الحُجّاج والمُعتمرينَ بعد التنسيق مع البعثات الرسمية ومؤسسات الطوافة، وحملات الحج والعمرة، والترتيب لذلك، ويكون هذا على مدار العام، وأن تقوم السفارات ووزارات الشؤون الإسلامية بدورها، وتنهض بمسؤولياتها، وكذلك ينبغي التنسيق للتوعية عبر المطارات والطائرات والمنافذ من قِبَل الجهات المُخْتصة في ذلك، وبهذا الجهد الحيوي والمخلص - بإذن الله - نكون قد بلغنا ديننا.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، وقدمنا شيئًا لأمتنا ولهذا المسجد الحرام، وقُصّادِه الميامين، وبشرى لمن فاز بدعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((نَضّر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها)) [214] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بلغوا عني ولو آية)) [215].
ثالثًا: العناية بالقِيَم الأخلاقية، وتقوية أَوَاصِر الأخوة والمحبّة بين المُسلِمينَ:(/64)
إن النُّفوس المُسلمة الأَبيّة لتَأْسَى على الواقع المُزْرِي الذي تمر به الأخوة الإسلامية، والجامعة الإيمانية في أنحاء الأرض، وحسبك من شر سماعه، ومن الحلول المهمة والملحة، والتي يجب أن نصرف لها ذوب الحس، وخلاصة الروح، تقوية أواصر الأخوة والمحبة والمودة بين المسلمين، إذ التفرق فاضح، والخلاف شر واضح، ترى بعض المسلمين في الحرم يتصافون في الصلاة ويتقابلون في الطواف، فيشيح هذا ويعرض ذاك وكأنهم غرباء أو بعداء، وإن كرر أحدهم النظر لأخيه. رمقه ببصره وصوب فيه النظر وصعد؛ وربما تحول عن مكانه. وإن استوقف أحدهم بسؤال. أحمرت وجنتاه وقال في نفسه: ألم يجد هذا من يسأله غيري؟، وهلم جرا من هذه المشاهد المؤسفة فواقعها لا يخفى أواره.
إذًا فنحن في حاجة ماسّة إلى بعث جديد؛ لتحقيق مفهوم قوله – تعالى -: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، قال بعض المفسرين: "وهذه الآية فيها دلالة قوية على تقرر وجوب الأخوة بين المسلمين: لأن شأن (إنما) أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطَب، ولا يدفع صحته" [216].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) [217]. وعليه فلا بُد أن تضرب معاني الأخوة والرحمة والمحبة والائتلاف برواقها بين صفوف المسلمين، ولا بد من أن تغرس في نفوسهم من جديد معاني الود والنصرة والقُربى، بعد أن ضعفت وغلبت عليها الماديات. يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - يقول: قد حقت محبتي للذين يتحابُّون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتصافون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي))[218].(/65)
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) [219]، ويقول في جوامع كلمه، ونوابغ نطقه مؤصلاً أواصر الأخوة ومقتضاها بين المسلمين: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عِبَاد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره)) [220].
ألا ما أعذب النُّسُك في رحاب المحبة والألفة، والرَّأْفة المتبادلة بين المؤمنين!!
وما أطيب الطَّاعة في ظِلال الوِئام والرّحمة والتَّعاطُف بين المُسلمينَ، فكيف بها على ثَرى الحَرَم الحرام؟
فلتُطْوى سجلات الفرقة والخلافات إلى الأبد، ولنَبْسُط مِدَاد المَوَدّة والمَحَبَّة إلى أبد الأبد.
وسُقْيا لأفئدة عانقت إخوة اختلَفَتْ ألسنتهم وألوانهم، وتزايلت أنسابهم. وتباينت ديارهم وأَوْطانهم، إلا من نسب التوحيد وعُرْوة الإيمان، ووشيجة التقوى، هذا هو المشهد الإيماني الريان، والروض الأنف الهتان الذي يجب تحقيقه كحل من حلول الزحام، في عرصات المسجد الحرام.(/66)
ومن الحُلول التي يجب أن نترسم خُطاها ولا نتخطّاها، إرشاد الزوار والمعتمرين والحجاج إلى خلقين قويمين أساسينِ، بالأول تذلل الأسفار والمشقات، وتستحكم بين المسلمين أسباب المودة والصِّلات، وبه تزكو العبادات والطاعات، ويرتقى بها من الجنان أعلى الدرجات، وبه يتقي المعتمر أو الحاج المُؤثّرات النفسية التي يتعرض لها من المُرافقينَ، والتي تنعكس على سلوكه وتجعله عرضة للانفعال الذي يؤثر على عبادته، التي من أجلها جاء ووصل، ولتحقيقها حل وارتحل. إنه الصبر. ذاك الجَلاء والضياء، والترياق [221] في الملمات والأدواء، وفيه يقول الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، وقال - جل في علاه - عن جنى الصبر: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45]، والآيات في الحَضِّ على الصبر وفضائله وعواقبه كثيرة ومعلومة، ومن مشكاة النبوة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصبر نصف الإيمان)) [222].
والخلق الثاني الذي يجب أن يبصَّر به، ويتحلى وافدو المسجد الحرام وعُمّاره هو: خلق الإيثار وسماحة النفس، لأنا – والحق يقال - نلحظ الأثرة الظاهرة بين بعض المسلمين في هذه البقاع المقدسة، وما كان ينبغي لها أن تكون: لأنها معلم على اختصاص النفس بالنفع وإن كان عامًّا، وهذا مما تمقته النفوس الكريمة، فضلاً عن كونها منهي عنها من طريق المِلّة القويمة.
وأما خلق الإيثار فهو عنوان على الفَضْل وصفاء النفس وأريحيتها، وانبعاثها في مجالات الحب والعطاء، كما هو دلالة على عميق الإيمان، وانشراح الصدر به.(/67)
وقد أكدت على هاتين الصفتين: الصبر والإيثار: لأنهما من أكثر الوسائل المعنوية في التعامل: ولأنهما من الزاد والبلغة في أداء المناسك والطاعات والتخاطب والسلوك بين الحجاج والعمار. لا سيما وهم من أجناس متباينة وثقافات مُتعددة، وكذلك تقديرًا لمشاق السفر أثناء التفويج والتنقل والانتظار التي يَلْقاها القاصد والحاج، وتغير الطَّقْس الذي لم يألفه في بلده، وما إلى ذلك.
رابعًا: الإكثار من المرشدين والعاملين الأكفاء:
إن الأعداد الغفير – وحد الله كلمتهم، وزاد ألفتهم – التي تناهِز أحيانًا مليوني قاصد على اختلاف بُلْدَانِهِم، وتبايُن أعمارهم، وتفاوُت سلوكهم وأجْناسِهم، لتحتاج إلى عدد كاف من المرشدين والعاملين، ينظم حركة تنقُّلهم في الحَرَم وساحَاتِه، ويتولى توجيههم وإرشادهم، ويشعرهم أنهم في خدمتهم، ويسعون إلى تحقيق المناخ المطمئن لعباداتهم وأنساكهم. وإن الإكثار من المرشدين والعمل على إيجاد القدر المناسب كمًّا وكيفًا، والحِرْص على النقلة العددية والنَّوْعية، وإِلْمَامهم بعدد من اللُّغات، سيساعد قطعًا في فك الزحام واختناقاته؛ لأن قلة المُرشدين وقصور مستوى بعضهم سبب فيه، وأُؤكّد على اختيار الأكفاء، وأعني بالأكفاء، من ارتسمت عليهم دلائل الخير، وتحلّو بالأخلاق الكريمة والصفات الحسنة النبيلة: لأنهم سيمثلون وجهًا مُشْرقًا في وجوه هذه الديار المُباركة أمام إخوانهم المُسلمين: ولأن مقامهم مقام صبر وتوجيه واقتداء ودعوة وإرشاد وائْتِسَاء.
وشيء آخر مهم: أن نتجنب معرة النَّقْد التي تصدر من بعض النفوس، وأن نروض أنفسنا على الحلم، وسعة الصدر، وقوة التحمل، ودمح [223] الزَّلات.
حين ذَاك لن نَشْكوَ بإذْن الله من وُجُود جُمْلة من أسباب هذه الظاهرة؛ كالصلاة في الممرات والمداخل: وعدم اتجاه الحُجّاج والعمار للأماكن المتسعة في الحرم، كالأسطح والأقبية، مع العمل على التفويج المناسب عبر مراحل زمنية مدروسة.(/68)
ولا غَرْو إذًا أن يكون هذا الحل من الحلول الناجعة - بإذن الله - فيما نسعى إلى علاجه.
خامسًا: عَقْد الدورات العِلْميّة والتدريبية، والنَّدوات الإرشادية للحُجّاج والمُعْتمرينَ في أَوْطانِهم:
لا يَخْفَى على كُلّ ذِي لُب من المُسلمينَ أن قلة الفقه بشريعة الإسلام، وآداب الحرم وأحكام المناسك على الخُصوص تكتنف كثيرًا من الحجاج والمعتمرينَ، وقد ألْمَحْت في الحل الثاني إلى ضرورة تعميم بث العلم والوَعْي والإرشاد، وسُبُل تحقيق ذلك. وفي هذا الحل نؤكد على ضرورة عقد الدورات العلمية، والندوات الإرشادية، والدُّروس التَّدريبيّة، لمن أراد الوفود إلى هذا الحرم الأمين، ويتولى هذه المُهمّة كل دولة في رعيتها بالتنظيم مع وزارتها المهتمة بالشؤون الإسلامية.
وفي ظل نِظَام المؤسسات والمجموعات سيكون الأمر سهلاً وميسورًا إن شاء الله.
وإنني أهيب بالمَسْؤُولين والمؤسسات العاملة في خدمة الحُجّاج والزوار والعُمار أن يتقوا الله - عز وجل - في قاصدي بيته، ولا يكن همهم الكسب المادي، والربح التِّجاري، في استقطاب الحجاج والمعتمرين؛ بل لابد أن يُدْرِكُوا معاني ما هم قائمون به، ومسؤولون عنه، ومؤتمنون عليه.
وأن يتولى ذلك منذ مقدمهم على هذا الثري الطاهر الأفيح، الأمناء والنزهاء، الذين يتعاهدونهم أثناء مناسكهم، وفي محل إقامتهم، وهذا من العوامل المهمة في إضفاء الطمأنينة والاستقرار عليهم، إذ يكون مكثهم وتنقلهم في المسجد الحرام مفعمًا ببرد الرضى والسرور. وأن تتولى لجان موثوقة متابعة هذا المقصد المهم والمطلب الناجع، وذلك بالإشراف والاشتراك مع سفارات خادم الحرمين - حفظه الله - في كل وطن، وستلبي ذلك إن شاء الله لا وانية ولا عاجزة، بل فخورة مستبشرة.(/69)
وهذا الحل الذي ننشده ونُطالب به، ليس بدعًا من الحُلول، ولا عريًّا عن المثال والتجرِبة؛ بل إن الحُجاج والمُعتمرينَ من دولة (ماليزيا) على سبيل المثال لنموذج ظاهر على ما نشدناه وأملناه.
سادسًا: السَّعْي للتوسُّع في المكان قدر الإمكان وساحاته وأبوابه، مع اقتراح إنشاء طوابق إضافية:
لا محيصَ لنا، ونحن بصدد إيراد الحُلول الجَوْهريَّة لهذه الظاهرة من الاقتراح بإنشاء توسعة إضافية للمسجد الحرام وساحاته، نظير سابقتها، لا سيما ونحن نعلم أن المتوقع عبر الدراسات والإحصاءات زيادة أعداد الحجاج والعمار إلى أضعاف ما هم عليه الآن.
وإننا لندرك أن هذه التوسعة مكلفة؛ ولكن همة ولاة الأمور – أيدهم الله - في العناية بالحرمين الشريفين جاوزت السماك، وعانقت مدارات الأفلاك، ولن يؤودها بحول الله أي أمر أعضل أو جل، من شؤون الحرمينِ. ورعاية قاصديهما، كيف وخدمتهما تجمع شرف الدنيا ونعيم الآخرة؟
ويسلك ضمن هذه الرغبة، الحاجة إلى توسيع أبواب الحرم، وإمكانية زيادتها، وفتح أبواب من وإلى الدور الثاني مباشرة، وإنشاء جسور توصل المصلين للطوابق العلوية مباشرة، دون الدخول مع الأبواب السفلية، أو المرور عبر الساحات، وإن الواقع والحال يشهدان على الحاجة إلى توسعة الأبواب حيث إنها تؤخر خروج القاصدين، وتسبب لهم تجمهرًا طويلاً وازدحامًا شديدًا، آملاً أن يراعى هذا حالاً ومُسْتَقْبلاً، مع الإكثار من المداخل في أي توسعة تكون للمسجد الحرام إن شاء الله، على أن يكون التصميم الهندسي مراعيًا للعرض أكثر من الطول لمسيس الحاجة إليه.(/70)
مع الإسراع في دراسة تكييف عموم الحرم وتنفيذها، لا سيما الأقبية؛ لتستوعب عددًا أكبر من الحجاج والعمار والزوار، وإيجاد الدراسات المستفيضة لتوسعة المطاف ما أمكن، وإعادة النظر في الخط الرخامي الدال على بداية الطواف، وكذا تَوْسِعَة المَسْعَى، وإعادة النظر في إخراج مداخل زَمْزم من صَحْن المطاف، ووضع مداخل خارجية له.
وبنظرة مُستقبليَّة، وإيجاد حُلُول جذريَّة لهذه الظَّاهرة، لا غِنى عن تَوْسِعة الحرم وساحاته من الجِهَات الأخرى، مع إضافة دور ثالث، وتظليل السطح والساحات آليًّا، وتوجيه أصحاب الفنادق والعمائر المجاورة للحرم بإيجاد مصليات خاصة ترتبط بالمسجد الحرام صوتيًّا.
كل ذلك وغيره عن طريق الجهات الشرعية والعلمية والإدارات الرسمية العليا. وستهدى بإذن الله إلى علاج هذه الظاهرة المؤرقة.
سابعًا: الإرشاد إلى أن مُضاعفة الأجر تشمل جميع منطقة الحَرَم:
سبق القول عند ذكر أسباب الزحام، أن القول بمضاعفة الأجر في الصلاة خاص بالمسجد الحرام، سبب من أسباب حرص كثير من الناس على ارتياد الحرم للصلاة فيه، كما سبق عند عرض الخلاف في المسألة، أن القول الراجح إن شاء الله، هو القول بمضاعفة الأجر في عموم منطقة الحرم، ولا شك أن الإرشاد إلى هذا القول سيكون له أثر بالغ في الحد من ظاهرة الزحام والتخفيف منها، مع التأكيد على اعتضاده بالأدلة القوية، وتمشيه مع مقاصد الشريعة، وقواعد الفقه، وبهذه المناسبة فإن الدعوة موجهة إلى علماء الشريعة في التيسير في الفتوى على مقتضى النصوص والمقاصد الشرعية والتوسيع على الحجاج فيما فيه سعة ومندوحة، وعدم التشديد عليهم فيما ليس فيه نص من كتاب ولا سنة. والله أعلم.
ثامنًا: تحديد نسبة أعداد الحجاج والعمار:(/71)
إن التوجهات الخيرية والإيمانية متوافقة مع الثورة التقانية الحديثة، هي التي أججت في نفوس المسلمين السبق إلى أرض القداسات، ومهد الرسالات مما يرونه عبر القنوات من البث المباشر للصلوات والقيام والطواف والكعبة في جمالها وجلالها، حيث هبوا جموعا وزرافات، وانطلقوا أفرادًا وجماعات؛ فاقتضى ذلك – تجنُّبًا للضيق والزحام - بل توجب الأخذ بالنسب والعدد المقدر للحجاج والمعتمرين، وضبط ذلك في الحدود الممكن التحكم فيها، تحقيقًا للمصالح الشرعية، وحتى لا تطغى الأعداد على المساحة المتاحة، والطاقة الاستيعابية للحرم، وينجر عن ذلك التدافع والحرج، والتسخط من قبل قاصدي هذه البقاع المباركة، وحتى يتمكنوا من قضاء مناسكهم وعبادتهم دون نصب أو إرهاق، وإني لأرى أن هذا الحل بمثل حجر الزاوية بالنسبة لما سواه من الحلول، كيف وقد أفتى بذلك أهل العلم المعتبرون. وأيدته المجامع الفقهية، والهيئات العلمية والشرعية، ومما يلحق بذلك تنظيم تأشيرات العمرة، وتحديد مددها بما يخفف من هذه الظاهرة.
تاسعًا: إعداد الدراسات والأبحاث العلمية والميدانية:
ومن الحلول التي أرى جدواها وأهميتها: إعداد الدراسات الأكاديمية، والأبحاث العلمية والميدانية، لتفادي الزحام وآثاره، وكيفية علاجه، سواء في المسجد الحرام أم في المشاعر ومكة عمومًا، ولمعالجة الظواهر المخالفة للشريعة، والمقلقة للزوار والحجاج والعمَّار، وهذا الحل الذي نطرحه قد نهض به وتولاه معهد خاص، له إداراته ومهامه ومسؤولياته، ذلك هو: معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج.
غير أن الحاجة ماسة إلى بذل المزيد في أداء المعهد لرسالته، والنهوض بمستواه من كافة المستويات، والتركيز على الكفاءات الشرعية فيها، ولا إخال الجهات المعنية إلا سباقة إلى ذلك، زادهم الله توفيقًا.
عاشرًا: الحَزْم على كل مخالف للشرع والأمن والنظام:(/72)
لا جرم أن أولى ما صرفت له الملاحظة، ووقفت عليه المُحافظة، وبُذِل في سبيل تحكيمه وتحقيقه النفس والنفيس في هذه الديار المُباركة، هو: شرع الله - عز وجل - يليه استتباب الأمن، والاستمساك بالنظام، ويتأكد هذا في البلد الحرام، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، فكل من جمح على سواء الشَّرْع، والأمن، والنظام، لزم الحزم في الأخذ على يديه: حتى لا يدب القلب والفَوْضى بين جموع الآمّين. ولا نشك أن الشعور باستحكام الأمن والنظام وقوتهما، له انعكاس بليغ جدًّا في نفوس القاصدين، ومن ثَمّ على عباداتهم وأنساكهم.
فليست هذه البقاع مَجَالاً للمُهاترات والمُزايدات، ومحلاًّ لرفع الهتافات والشعارات، وميدانًا لعمل التجمُّعات وتوزيع المنشورات؛ بل هي للعبادة ليس إلا، ومن حاد عنها، وجب الحزم عليه، والأخذ على يديه.
وقد سيق هذا الحل لتثبيت نعمة سابغة، انْفَرَدت وتميّزت بها هذه الديار المَحْرُوسة، لمباركة جهود مخلصة أسهدت من أجل ذلك ليلها وأضنت النهار.
الحادي عشر: العمل على إيجاد الآليات العملية، والاستراتيجيات التنفيذية:
بعد إعداد الدراسات والأبحاث ومراكز المعلومات التي تُعْنَى برصد هذه الظواهر، فإنه ينبغي إيجاد الآليات العملية والخطط التشغيلية، والاستراتيجيات التنفيذية، التي تضطلع بها الجهات المهمة ذات العلاقة سواء من الناحية الإدارية، أو العلمية، أو الأمنية، بحيث تعالج هذه الظاهرة علاجًا مدروسًا دراسة مستفيضة يتبعها آليات عمل، وخطط تشغيل سليمة.
ولا نشك أبدًا في اقتدار الجهات المعنية في الاضطلاع بهذه المهمة العظيمة؛ لتلافي هذه الظاهرة ومثيلاتها.
الثاني عشر: الأَخْذ بوسائل التقانة الحديثة في الخدمات داخل المسجد الحرام وخارجه:(/73)
إن الأمة وهي تعيش النهضة التقانية التي سطعت شمسُها على جميع المعمورة، وغزت كل شبر منها، كان لزامًا عليها أن تسخرها في خدمة دينها، وعقيدتها، وإن من علاج هذه الظاهرة، أن يُسْتَفَاد من هذه التقانات داخل المسجد الحرام وساحاته، بما هو ممكن من ذلك، كإيجاد (غرف عمليات) بأحدث التقانات الموجودة لمراقبة مواطن الزحام، ومن ثَمّ تداركه داخل الحرم وساحاته، ومن هذه (الغرف) يتم تَفْويج الحجاج والعُمّار، وذلك بالسَّماح لهم بالدخول في حالة عدم الزحام، ومَنْعهم عند الزحام.
كما ينبغي أن يأخذ الحرم حَظّه من التقانة الحديثة في كل ما من شأنه راحة الحجاج والعُمّار والزُّوَّار، سواء في الصوتيات والاتصالات والترجمة والعلامات واللوحات الإلكترونية، والإشارات الليزرية، ووسائل الصيانة، والنظافة، والعربات المُتطورة المجانية والمؤجرة بإشراف مؤسسات متخصصة، وما إلى ذلك، شريطة أن تكون تحت إشراف شَرْعِي، وتقدير هندسي يحفظ للحَرَم هيبته الشرعية، ومكانته الدينية، دون تشويش على المُصلين، وإشغال لهم عن عباداتهم، وحتى لا يُسَوَّى الحرم الشريف بغيره من الأماكن الأخرى، فله من القَدَاسة والهيبة ما لا يخفى، زاده الله تشريفًا وتكريمًا ومهابة، وزاد مَنْ قصده ممن حَجّه واعتمره تشريفًا وتكريمًا ومهابة وبرًّا، وجعل هذه الولاية للحرمين، وقاصديهما سندًا وذخرًا.
تلك أهم الحُلول ووسائل العلاج لظاهرة الزحام في المسجد الحرام، غير أن هذا مما تتوارد فيه الخواطر، وتتكاثر فيه الآراء، وسيظهر لك أخي القارئ حلول أخرى مختلفة المراتب، ستفصح عنها نتيجة الاستبانات في آخر البحث إن شاء الله تعالى.
الخاتمة [224]
وتشمل أهم النتائج والمُقْتَرحات والتَّوْصِيات
أولاً: النتائج:(/74)
أَحْمَد الله - جلت قدرته - ظاهرًا وباطنًا، وأَوّلاً وآخِرًا، أن وفّق ويَسّر لإتمام هذا البحث: الذي بذلت فيه جُهدًا كبيرًا لدراسة وحل ظاهرة الزحام في المسجد الحرام من الناحية الشرعية، ومن أهم النتائج التي خلصت إليها:
1- أهمية وخطورة هذه الظاهرة وضرورة العناية بها من حيث: بيان أسبابها، ووسائل علاجها.
2- الزِّحام في المسجد الحَرَام ليس وليد العصر؛ بل هو ممتدٌّ إِلَى عهد الرسول؛ لكنه في الأعصار المتأخرة بلغ ذروته، مما يتطلّب دِرَاسته وعلاجه.
3 - كثرة أسبابه، ووفرة بَوَاعثه وانقسامها إلى عامة وخاصة، وتنوع العامة إلى إيجابية وسلبية.
4- من أهم الأسباب الإيجابية العامة تيسير السُّبل وشُيوع الأَمْن، وتوسعة الحرمينِ، وتوفر كافَّة الخدمات.
5 - من أهم الأسباب السلبية العامة: الجهل والتقليد، والضعف الفادح لأواصر الأخوة الإيمانية، والقيم الإسلامية والأخلاقية.
6 - من أهم الأسباب السلبية الخاصة: ما يكون في المطاف، وخاصة حول الحجر الأَسْوَد، وعند الخَطّ الرُّخامي الدَّالّ على بِداية الطّواف، وكذا أَوْقات الصلاة، ولا سيما الصلاة في المداخل والممرات.
7 - من أهم الأسباب الخاصة أيضًا تَكرار العُمْرة، وأن القول الرّاجح هو: عدم التَّكرار لقوة أدلته، مع ما يسببه التَّكرار مع استعار أوار هذه الظاهرة.
8 - قِلّة الدراسات العلمية والميدانية في علاج هذه الظاهرة.
9 - من أبرز الحلول لهذه الظاهرة بث الوعي والإكثار من العاملين الأكفاء. واستثمار وسائل الإعلام في ذلك، ونُهوض الجهات المعنية بخدمة الحجيج في مسؤولياتها لعلاج هذه الظاهرة.
10 - الإفادة من وسائل التقانة الحديثة في التوعية والتوجيه عمومًا؛ لعلاج هذه الظاهرة داخل الحرم وخارجه، بما يتناسب مع قدسيته وحرمته.
ثانيًا: أهم المُقترحات والتَّوْصِيّات:
1 - التأكيد على التوعية المكثفة للحجاج والعمار والزوار في بلدانهم.(/75)
2 - ضرورة السير عنقًا فسيحًا، والسعي سعيًا حثيثًا، في ترسيخ قواعد الأخلاق، وأسس المعاملات الإيمانية بين المسلمين.
3 - التأكيد على غَرْس قُدْسية الحرم وتعظيمه في نفوس المسلمين عمومًا، والقاصدين خصوصًا.
4 - التأكيد على قيام علماء الشريعة والدعاة إلى الله بدورهم الإرشادي حيال ذلك.
5 - لوسائل الإعلام دورها الكبير في توعية وإرشاد الحجاج والمعتمرين، فحريّ بها الاضطلاع بدورها الكبير، لا سيما في عصر الثورة الإعلامية، والتفجر في الشبكات المعلوماتية، والتقانات الحضارية المُذْهِلَة.
6 - تفعيل حركة التَّرْجَمة بشتى اللغات: حتى يدرك الحجاج أسباب هذه الظاهرة ويَجِدُّوا في علاجها.
7 - الأَخْذ بوسائل التقانات الحديثة لتوعية الحجاج داخل المسجد الحرام وخارجه.
8 – تكثيف المرشدين والعاملين الأكفاء من عسكريين ومدنيين، وإقامة دورات تثقيفية متتابعة للرفع من مستواهم.
9 – قيام مراكز البحوث المتخصصة بإعداد الدراسات والأبحاث العلمية والميدانية بصفة دورية بالتنسيق مع الجهات المعنية والإفادة من حملة العلوم الشرعية.
10– إيلاء قضايا الحرم والظواهر فيه حقها من الدراسة، عن طريق هيئة شرعية عليا وهي هيئة كبار العلماء حفظهم الله، تكون مرجعًا للبت فيها، كوجود الخط الرخامي عند الحجر الأسود وغيره.
11 – الحزم على كل مخالف للشرع والأمن والنظام: للحد من ظواهر النشل والتسول والافتراش والجلوس في المداخل والممرات.
12 – العمل على توسعة الحرم، من الجهات الأخرى، وإمكانية إضافة أدوار جديده له، مع التظليل الآلي للصحن والسطح والساحات، وعموم تكييفه.
13 – العمل على زيادة توسعة الساحات المحيطة بالحرم وزيادة الأبواب وتوسعتها، مع إضافة عدد من المصاعد والسلالم الكهربائية، وإمكانية الإفادة من سطح أروقة البناية العثمانية، وإنشاء مداخل خارجية لزمزم، مع إنشاء جسور توصل المصلين للطابق العلوي مباشرة.(/76)
14 – التأكيد على الأخذ بالقول القائل بمنع تكرار العمرة، والقول بأن مضاعفة أجر الصلوات تعم حدود الحرم كله بحمد الله.
15 – تبنِّي الجهات المعنية؛ كالرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمجمع الفقهي الإسلامي، عقد ندوات وملتقيات، بل مؤتمرات لدراسة قضايا توعية الحجاج، والرفع من مستواهم، وكذا السفارات، والوزارات المعنية كوزارة الحج، ووزارة الشؤون الإسلامية.
تلك أهم المقترحات والتوصيات التي أراها ورآها كثيرون؛ كما هو واضح من نتيجة الاستبانات المرفقة لعلاج هذه الظاهرة.(/77)
سائلاً الله - تعالى - أن تأخذ طريقها إلى حَيِّز التَّنفيذ، مُؤملاً أن نراها واقعًا ملموسًا ومُشاهدًا محسوسًا في القريب العاجل، حتى ينعم الحجاج والعُمّار، والزُّوَّار بالطمأنينة والسكينة في مَنْأَى عما تحدثه ظاهرة الزّحام من أذًى وتكدير لصَفْو العبادة، وما ينتج عنها من تشويش يذهب لذيذ المناجاة لله في حرمه المقدس وبيته الآمن، كما أسأله - سبحانه - أن يمن على قاصدي بيته الحرام بالفقه في الدين والخلق القويم، وتعظيم شعائر الله وحرمانه، وأن يوفق ولاة أمرنا إلى ما فيه الخير والصلاح للبلاد والعباد، وأن يجزيهم عما يقدمون للحرمين الشريفين وقاصديهما خير الجزاء، وأن يجعل ذلك في موازين أعمالهم ويزيدهم من الخير، بمنه وكرمه وقبل أن أضع القلم، ألهج بالشكر لله والثناء عليه، أن مَنَّ ووفق وأعان، على إتمام هذا البحث المتواضِع، ثم أشكر من كان باعثًا على القيام بهذا البحث وسببًا للكتابة فيه، من القائمين على المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وأخص بالشكر صاحب المعالي الأستاذ د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي الأمين العام للرابطة، وصاحب الفضيلة أخي د. صالح بن زابن المرزوقي. (أمين المجمع وفقه الله)، والشكر موصول لكل من أسهم في هذا البحث برأي أو مشورة، ضارعًا لله أن يجزيهم عني خير الجزاء، وإن الصدر لرحب لكل نقد بَنّاء، أو توجيه هادِف، أو ملحوظة نافعة تزيد هذا البحث بهاءً، وتكمل منه نقصًا:
وَإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلا قَدْ جَلَّ مَنْ لا عَيْبَ فِيهِ وَعَلا [225]
وأختم بقول الله سبحانه عن العبد الصالح - عليه السلام -: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هو: 88].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
فهرس
المراجع والمصادر(/78)
1 – الإجماع، ابن المُنذر، محمد بن إبراهيم، تحقيق: فؤاد عبدالمنعم أحمد. الشؤون الدينية، قطر، الطبعة الثالثة 1402هـ.
2 – أحكام أهل الذمة، لابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر، تحقيق: د. صبحي الصالح. دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة 1983م.
3 – أحكام الحرم المكي رسالة ماجستير في الفقه. إعداد: سامي الصقير، جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية، نسخة على الآلة الكاتبة 1416هـ.
4 – أحكام القرآن، الجصاص أحمد بن علي الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت 1406هـ.
5 – إحياء علوم الدين الغزالي أبو حامد محمد بن محمد. دار المعرفة، بيروت، 1403هـ.
6 – أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، محمد بن إسحاق الفاكهي، تحقيق: عبدالملك بن دهيش، دار خضر، بيروت، الطبعة الثانية 1414 هـ - 1994 م.
7 – أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، الأزرقي محمد بن عبدالله، تحقيق: رشدي صالح ملحي، مطابع دار الثقافة، مكة المكرمة، الطبعة الرابعة 1403هـ.
8 – أدب الدين والدنيا، الماوردي على بن محمد، تحقيق: إبراهيم بن محمد، دار الصحابة، السعودية.
9 – الأدب المفرد، للبخاري، محمد بن إسماعيل، تحقيق: سمير بن أمين الزهيري. المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1419هـ.
10 – الأشباه والنظائر، ابن نجيم: زين الدين بن إبراهيم بن محمد. دار الكتب العلمية بيروت 1400هـ.
11 – الأشباه والنظائر، محمد بن عمر المعروف بابن الوكيل، تحقيق ودراسة: عادل الشويخ، مكتبة الرشد، الرياض 1413هـ.
12 – إعلام الموقعين ابن القيم محمد بن أبي بكر، تحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد، دار الفكر، بيروت بدون ت.
13 – الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط. الخامسة 1980م.
14 – الإقناع لطالب الانتفاع، الحجاوي أبو النجا موسى بن أحمد، تحقيق: د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، إمبابة، عالم الكتب، بيروت 1403هـ.(/79)
15 – الإقناع موسى الحجاوي، تصحيح وتعليق: عبداللطيف محمد موسى السبكي المطبعة المصرية. الأزهر.
16 – إمام العصر، الزهراني ناصر بن مسفر، مؤسسة الجريسي، الرياض. الطبعة الأولى 1420هـ.
17 – الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل، المرداوي علاء الدين علي بن سليمان، محمد حامد الفقي: دار إحياء التراث العربي: الطبعة الثانية 1400هـ.
18 – البداية والنهاية، لابن كثير إسماعيل بن عمر، دار هجر، إمبابة، الطبعة الأولى 1419هـ.
19 – البدر الطالع، الشوكاني محمد بن علي بن محمد، دار المعرفة، بيروت، بدون.
20 – البدع والنهي عنها، القرطبي محمد بن وضاح، تحقيق: عمرو بن عبدالمنعم سليم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى 1416هـ.
21 – البيان والتحصيل، ابن رشد أبو الوليد القرطبي، تحقيق: د محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1408هـ.
22 – تاج العروس، محمد مرتضى الزبيدي، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت. لبنان 1414هـ.
23 – تاريخ الخلفاء عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الفكر، بيروت، القاهرة 1371هـ.
24 – تاريخ بغداد، الخطيب أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت.
25 – تاريخ علماء الأندلس، لابن الفرضي عبدالله بن محمد، الدار المصرية للتأليف والترجمة – تراثنا – 1966م.
26 – تاريخ مدينة دمشق، علي بن الحسن المعروف بابن عساكر، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الفكر، بيروت، لبنان 1415هـ.
27 – تاريخ مكة المكرمة قديمًا وحديثًا، محمد إلياس عبدالغني، مطابع الرشيد، المدينة النبوية 1422هـ.
28 – التحرير والتنوير، ابن عاشور محمد بن الطاهر، دار سحنون للنشر والتوزيع، بدون.
29 – تذكرة الحفاظ، الذهبي محمد بن أحمد بن عثمان، تحقيق: عبدالرحمن بن يحيى المعلمي، دائرة المعارف العثمانية، الطبعة الرابعة 1388هـ.(/80)
30 – تقريب التهذيب العسقلاني أحمد بن علي بن حجر، تحقيق: محمد عوامة، دار الرشيد، حلب، الطبعة الرابعة 1412هـ.
31 – تقرير القواعد وتحرير الفوائد، الحافظ زين الدين عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، تحقيق: أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الخبر. الطبعة الأولى 1419 هـ دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ.
32 – تهذيب الأسماء واللغات، النووي، يحيى بن شرف الدين، مكتبة ابن تيمية – القاهرة 1410هـ.
33 – تهذيب التهذيب، العسقلاني أحمد بن علي بن حجر. دائرة المعارف النظامية.
34 – تهذيب الكمال في أسماء الرجال. للحافظ المزي أبي الحجاج يوسف، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، المطبعة الأولى 1413هـ.
35 – الجامع اللطيف، جمال الدين محمد بن ظهيرة، الطبعة الرابعة. المكتبة الشعبية 1393هـ.
36 – جذوة المقتبس وذكر ولاة الأندلس، محمد الحميدي. الدار المصرية للتأليف والترجمة – تراثنا – 1966 م.
37 – الجرح والتعديل: الرازي عبدالرحمن بن أبي حاتم أبو حاتم، دائرة المعارف العثمانية. الطبعة الأولى 1373هـ.
38 – الجوهر الثمين في سير الخلفاء والسلاطين، إبراهيم بن محمد أيدمر العلائي المعروف بابن دقماق (750 – 809هـ. تحقيق: د. سعيد عبدالفتاح عاشور، جامعة أم القرى، بدون ت.
39 – حاشية ابن عابدين، ابن عابدين محمد أمين الحنفي، المكتبة التجارية في مكة. الطبعة الثانية. 1386هـ.
40 – الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به. د. عبدالملك بن دهيش. مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة. مكة المكرمة. بدون تاريخ.
41 – خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، المحبي محمد أمين بن فضل الله الحموي، مصر 1284هـ.
42 – الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الجيل. بيروت، بدون ت.(/81)
43 – الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، ابن فرحون إبراهيم علي المالكي تحقيق محمد الأحمد أبي النور، دار التراث، القاهرة. بدون ت.
44 – الروض المربع شرح زاد المستقنع، البهوتي منصور بن يونس تحقيق: د. عبد بن محمد الطيار، دار الوطن الرياض. الطبعة الأولى 1416هـ.
45 – زاد المعاد، ابن القيم، محمد بن أبي بكر الزرعي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط. مؤسسة الرسالة. بيروت الطبعة العاشرة 1405هـ.
46 – الزيادات في الحرم المكي الشريف من العصر النبوي إلى العهد السعودي (8 هـ ـ 1416هـ) الشريف محمد بن مساعد بن منصور آل عبدالله، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م، المهرجان للإعلان والعلاقات والتسويق.
47 – سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب، السويدي أبو الفوز محمد أمين البغدادي الطبعة الأولى 1406هـ.
48 – سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث، بيت الأفكار الدولية، بدون ت.
49 – سنن الترمذي. الترمذي محمد بن عيسى أبو عيسى تحقيق: أحمد محمد شاكر. دار الفكر. بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1356هـ.
50 – سنن الدارقطني، الدارقطني علي بن عمر، تحقيق: عبدالله هاشم يماني. القاهرة 1386هـ.
51 – السنن الكبرى: البيهقي أحمد بن علي بن حسين، تحقيق: هاشم الندوي وآخرون، دائرة المعارف، الهند 1355هـ.
52 – الشؤون الإسلامية في المملكة العربية السعودية حقائق ووثائق إعداد: وكالة الوزارة للشؤون الإسلامية. طبعة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.
53 – شذرات الذهب: عبدالحي بن أحمد بن محمد البكري المشهور بابن العماد، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى 1408هـ.
54 – شرح الزرقاني على موطأ مالك، الزرقاني محمد بن عبدالباقي، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ.(/82)
55 – شرح العَقِيدة الطحاوية، ابن أبي العز علي بن علي بن محمد، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت: الطبعة الثانية 1413هـ.
56 – شرح صحيح مسلم للقاضي عياض إكمال المعلم بفوائد مسلم تحقيق: يحيى إسماعيل. دار الوفاء. مصر. الطبعة الأولى 1419هـ.
57 – الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، الجوهري إسماعيل بن حماد، تحقيق: أحمد عبدالغفار عطار، دار العلم للملايين، بيروت. القاهرة، الطبعة الأولى 1376هـ.
58 – صحيح ابن خزيمة، ابن خزيمة محمد بن إسحاق تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي بيروت، الطبعة الثانية 1412هـ.
59 – صحيح البخاري. البخاري محمد بن إسماعيل، تحقيق: أبو صهيب الكرمي. بيت الأفكار الدولية، 1419هـ.
60 – صحيح الترغيب والترهيب، الألباني محمد ناصر الدين، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1421هـ.
61 – صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي. دار الفكر 1403هـ.
62 – الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي. دار مكتبة الحياة، بيروت، بدون ت.
63 – طبقات الحفاظ، السيوطي عبدالرحمن بن أبي بكر، دار الكتب العلمية، بيروت. الطبعة الأولى 1403هـ.
64 – طبقات الحنابلة القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى الفداء، تحقيق: الدكتور عبدالرحمن بن سليمان العثيمين، الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام 1419هـ.
65 – طبقات الشافعية،، أحمد بن محمد بن قاضي شهبة، الحافظ عبدالعليم خان. دائرة المعارف العثمانية. الطبعة الأولى. 1399هـ.
66 – الطبقات الكبرى، ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري، دار صادر، بيروت، بدون ت.
67 – غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام، توزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد مصورة عن دار المعارف العثمانية، الهند 1396هـ.
68 – فتاوى إسلامية، ثلة من العلماء، دار القلم، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ.(/83)
69 – فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار أبي حيان. القاهرة، الطبعة الأولى 1416هـ.
70 – الفتح المبين في طبقات الأصوليين، عبدالله مصطفى المراغي، محمد أمين بيروت، الطبعة الثانية 1394.
71 – الفروع، ابن مفلح محمد بن مفلح بن محمد، عالم الكتب، بيروت الطبعة الثالثة 1402هـ.
72 – الفروع، لشمس الدين محمد بن مفلح، دار مصر للطباعة، القاهرة 1388هـ.
73 – الفروق، القرافي أحمد بن إدريس المالكي، دار المعرفة، بيروت بدون ت.
74 – الفوائد البهية في تراجم الحنفية، اللكنوي محمد عبدالحي أبو الحسنات، تصحيح السيد محمد بدر الدين أبو فراس، دار المعرفة، بيروت 1324هـ.
75 – قاعدة جليلة، ابن تيمية أحمد بن عبدالحليم، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون ت.
76 – القاموس الفقهي، سعدي أبو جيب، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى 1402هـ.
77 – القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت. الطبعة الأولى 1415هـ.
78 – القبس في شرح موطأ مالك، ابن العربي محمد بن عبدالله، تحقيق: محمد عبدالله ولد كريم، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1992 م.
79 – قرة عين العابد بحكم فرش السجاجيد في المساجد، خير الدين تاج الدين إلياس زاده تحقيق: يوسف الصحبي، دار العاصمة، الرياض 1421هـ.
80 – قصة التوسعة الكبرى، عباس حامد، الناشر: مجموعة بن لادن السعودية، جدة. الطبعة الأولى 1416هـ.
81 – قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عبدالعزيز عز الدين بن عبدالسلام، مؤسسة الريان، بيروت، 1410هـ.
82 – القواعد الفقهية، الندوي علي بن أحمد، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1406هـ.
83 – قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية، مصطفى مخدوم، دار إشبيليا، الرياض، الطبعة الأولى 1420هـ.
84 – قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية، محمد بن جزي الغرناطي المالكي، دار العلم للملايين بيروت.(/84)
85 – كشف الظنون، مصطفى بن عبدالله، دار الفكر، بيروت، 1402هـ.
86 – الكعبة المعظمة والحرمان الشريفان عمارة وتاريخًا، عبيد الله محمد أمين كردي، مجموعة ابن لادن السعودية، بدون ت.
87 – كوكبة الخطب المنيفة من منبر الكعبة المشرفة، السديس عبدالرحمن بن عبدالعزيز، مكتبة إمام الدعوة، مكة، الطبعة الأولى 1422هـ.
88 – لسان الميزان، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي، بيروت الطبعة الثانية 1395هـ.
89 – مجموع الفتاوى، ابن تيمية أحمد بن عبدالحليم، عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد للطباعة 1416هـ.
90 – المجموع النووي يحيى بن شرف، دار الفكر، بيروت، بدون ت.
91 – المدخل الفقهي العام، مصطفى أحمد الزرقاء. دار الفكر، الطبعة التاسعة.
92 – المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري محمد بن عبدالله، دار الكتاب العربي بيروت، الطبعة الأولى.
93 – المسجد الحرام، مشروع جلالة الملك عبدالعزيز لتوسعة وعمارة المسجد الحرام مكة المكرمة، الناشر: وزارة المالية والاقتصاد الوطني 1397هـ.
94 – المسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، تصوير دار الفكر بدون ت.
95 – المسند، الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ.
96 – مشاهير علماء نجد، آل الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف، دار اليمان، الرياض 1392هـ.
97 – المصنف، عبدالرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1403هـ.
98 – مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى، للشيخ مصطفى السيوطي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1380هـ.
99 – معالم مكة والمدينة بين الماضي والحاضر، الشيخ يوسف رغد العاملي. الطبعة الأولى 1418هـ – 1997 م، دار المرتضى، بيروت.
100 – معجم البلدان، ياقوت بن عبدالله الحموي، دار صادر، بيروت، 1404هـ.(/85)
101 – معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، مكتبة المثنى، بيروت، بدون ت.
102 – معجم المصطلحات الفقهية، جرجس جرجس، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، الطبعة الأولى 1419هـ.
103 – معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، محمود عبدالرحمن بن عبدالمنعم. دار الفضيلة، القاهرة، بدون ت.
104 – معجم ما استعجم، عبدالله بن عبدالعزيز البكري، عالم الكتب، بيروت، بدون ت.
105 – معجم مقاييس اللغة، أحمد أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: شهاب الدين أبو عمرو. دار الفكر: بيروت 1415هـ.
106 – المغني، ابن قدامة عبدالله بن أحمد الموفق، تحقيق، عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، القاهرة، الطبعة الأولى 1406هـ.
107 – مقاصد الشريعة، محمد الطاهر بن عاشور، تحقيق: محمد الطاهر المساوي، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى 1420هـ.
108 – منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم، علي بن تاج الدين السنجاري، تحقيق: جميل عبدالله المصري (بالاشتراك)، جامعة أم القرى. الطبعة الأولى 1419هـ.
109 – مناسك النووي بحاشية الهيتمي، النووي يحيى بن شرف. دار الحديث للطباعة بيروت، الطبعة الثانية 1405هـ.
110 – الموافقات في أصول الشريعة الشاطبي إبراهيم بن موسى اللخمي، المكتبة التجارية الكبرى مصر. الطبعة الثانية، 1395هـ.
111 – مواهب الجليل بشرح مختصر خليل الحطاب محمد بن محمد المالكي دار الفكر. الطبعة الثالثة 1412هـ.
112 – المورد في عمل المولد ضمن رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي، الفاكهاني تاج الدين أبو حفص، رئاسة إدارات البحوث العلمية، الطبعة الأولى 1419هـ.
113 – الموسوعة العربية العالمية، لجنة التقويم والتطوير، مؤسسة أعمال الموسوعة، الطبعة الثانية 1419هـ.
114 – موطأ الإمام مالك بن أنس الأصبحي، تحقيق: د. بشار عواد. الطبعة الثانية، دار الغرب الإسلامي 1417هـ.(/86)
115 – نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (صالح بن حميد. وعبدالرحمن الملوح، دار الوسيلة، جدة، الطبعة الأولى 1418هـ.
116 – النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري تحقيق: محمود محمد الطناحي، دار الفكر، بيروت، 1399هـ.
117 – الهادي إلى لغة العرب، الكرمي حسن سعيد، دار لبنان، بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ.
118 – الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، محمد البورنو، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة 1416هـ.
119 – وفيات الأعيان، أبو العباس أحمد بن محمد بن خلكان، إحسان عباس، دار صادر، بيروت، بدون ت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] السِّجام: سَجَمت العين الدمع، والسحابة الماء: وهو قطران الدمع وسيلانه، قليلاً كان أو كثيرًا، انظر: "اللسان" و"القاموس"، مادة (سجم).
[2] الأُوَام: بالضم: العطش، وقيل: حرُّه، وقيل: شدَّة العطش، وأن يضجَّ العطشان. انظر "اللسان" مادة (أوم).
[3] علمتُ – والبحث تحت الطبع – أن للأخ د. عبدالله الغطميل، عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة أم القرى، رسالة في ذلك فأسأل الله أن ينفع بهما، إنه جَوَادٌ كَرِيم.
[4] هو اللغوي المشهور أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب الرازي، كان إمامًا في اللغة وفي علوم شتى، وأعطى اللغة جُلَّ هَمِّه، إلى أن أتقنها وصار فيها إمامًا، وألَّفَ فيها المُؤَلفات المُتعددة، وله أشعار كثيرة حسنة، ومن أهم مؤلفاته "معجم مقاييس اللغة"، و"المجمل"، و"حلية الفقهاء"، توفي سنة 390هـ، بالري. انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان" لابن خِلِّكَان (1/118) و"شذرات الذهب" لابن العماد (3/132).
[5] انظر: "معجم مقاييس اللغة"، مادة: (زحم).
[6] انظر: "القاموس المحيط"، مادة: (زحم).
[7] انظر: "اللسان" مادة: (زحم).(/87)
[8] هو العالم الفقيه الخطيب، الإمام الشاعر المؤرخ علي بن تاج الدين بن تقي الدين بن مصطفى السنجاري، نسبة إلى سنجار، المكي الحنفي، ولد سنة 1057 هـ، وتوفي 1125 هـ، من آثاره: "منائح الكرم لأخبار مكة وولاة الحرم" من مطبوعات جامعة أم القرى. دراسة وتحقيق د. جميل عبدالله المصري. انظر: "منائح الكرم" (1/27)، و"الأعلام" للزركلي (4/292).
[9] البطحاء: اسم مألوف لدى العرب، لكل أرض في مسيل الماء، والبطحاء في مكة الآن: بين مهبط رِيع الحجون والمسجد الحرام، ويطلق عليها (المعلاة). انظر: "معجم ما استعجم" (1/257)، "معجم البلدان" (1/144).
[10] المعلاة: موضع يقع في الشمال الشرقي لمكة على شارع الحجون، وفيها المقبرة المعروفة بمقبرة المعلاة، انظر: "معالم مكة والمدينة بين الماضي والحاضر". للشيخ/ يوسف رغد العامليص (157، 158).
[11] أخرجه البخاري في: كتابي "الجنائز" و"المغازي" برقم (1349 – 4313).
[12] انظر في ذلك: "معجم البلدان" (2/280)، و"المجموع" (3/189)، و"مجموع الفتاوى" (19/247)، و"أحكام أهل الذمة" (1/189)، و"شفاء الغرام" (1/132)، و"منائح الكرم" (1/233)، و"إعلام الساجد" (6).
[13] وهو العلامة السنجاري في "منائح الكرم".
[14] "القاموس المحيط" مادة (مكك).
[15] انظر: "أخبار مكة" للفاكهي (2/280)، "منائح الكرم" للسنجاري (1/213)، "معجم البلدان" (5/181 – 183).
[16] البخاري: كتاب "جزاء الصيد"، برقم (1834).
[17] "المسند" (4/133) برقم (2279).
[18] (1/312 – 314).
[19] أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبدالله القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس شهاب الدين من عُلماء الحديث، ولد سنة 851 هـ، وتوفي سنة 923 هـ، "البدر الطالع"، (1/102)، و"الضوء اللاَّمِع" (2/103).
[20] في الأصل: والمهندس.
[21] انظر: "لسان العرب"، مادة (كعب)، و"تاج العروس". مادة (كعب).(/88)
[22] في "اللسان" تحت مادة: (رضم) الرَّضم والرِّضام: صخور عظام يُرضم بعضها فوق بعض في الأبنية.
[23] الملاط: الطين الذي يُجعل بين سافَيِ البناء ويملط به الحائط، انظر: "اللسان"، مادة: (ملط).
[24] البخاري، حديث رقم (3364).
[25] انظر: "شفاء الغرام" (1/147)، "منائح الكرم" (1/259)، وكتاب "المسجد الحرام"؛ إعداد مشروع جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود.
[26] هم قبيلة من العرب العاربة، وهم أمة عظيمة يُضرب بها المثل في الطول. تفرقت في البلاد. فكان منهم أهل المرق، وأهل عمان والبحرين والحجاز، وكان منهم ملوك العراق والجزيرة، وجبابرة الشام وفراعنة مصر. انظر "سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب" (37) "الصحاح". مادة (عملق).
[27] هم بطن من بني قحطان، نزلوا الحجاز. ولم يزالوا بمكة إلى أن تزوج منهم إسماعيل - عليه السلام - وتعلم لغتهم. انظر: "سبائك الذهب" (45).
[28] انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/62) "شفاء الغرام" (1/39)، "الفاكهي" (5/138).
[29] "فتح الباري" (3/439 – 441)، الفاكهي (5/227).
[30] "شفاء الغرام" (1ذ/100)، "تاريخ الكعبة المعظمة" (63 – 66).
[31] الشَّاذروَان: البناء الذي يحيط بأسفل جدار الكعبة، مما يلي أرض المطاف، من جهاته الثلاثة، الشرقية والغربية والجنوبية، انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/309) "شفاء الغرام" (1/112).
[32] هو أبو الوليد عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص، من خلفاء بني أمية، ولد سنة 26 هـ، وتوفي سنة 86 هـ، انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/223)، "الجوهر الثمين" لابن دقمان ص (63).
[33] هو أبو العباس الوليد بن عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي، ولد سنة 48 هـ، وتوفي سنة 95 هـ، "الجوهر الثمين" ص (65)، انظر ترجمته في: "تاريخ الخلفاء" للسيوطي ص (207).(/89)
[34] هو أبو جعفر المنصور، الخيلفة العباسي، واسمه عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباسي بن عبدالمطلب، وُلِد سنة 95 هـ، وتوفي سنة 158هـ، انظر ترجمته في: "الجوهر الثمين" ص (91)، "تاريخ الخلفاء" ص (241).
[35] هو أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، الخليفة العباسي، ولد سنة 127 هـ، وتوفي سنة 169 هـ، انظر ترجمته في: "الجوهر الثمين" ص(95)، "تاريخ الخلفاء" ص (253).
[36] هو أحمد بن طلحة بن جعفر أبو العباس، الخليفة العباسي، ولد سنة 242 هـ، وتوفي سنة 289 هـ انظر ترجمته في: "الجوهر الثمين" ص (130)، "تاريخ الخلفاء" ص (341).
[37] هو جعفر بن أحمد بن طلحة أبو الفضل المقتدر بالله، الخليفة العباسي، ولد سنة 282 هـ، وتوفي سنة 320 هـ، انظر ترجمته في: "الجوهر الثمين" ص (135)، "تاريخ الخلفاء" ص (350).
[38] الحَزْوَرَة: كانت سوق مكة، فدخلت في المسجد الحرام. انظر: "أخبار مكة" (2/296)، "معالم مكة التاريخية" (84).
[39] هم من قريش: هم بنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. انظر: "تاج العروس". مادة (جمح).
[40] هو مراد الثالث، السلطان الثاني عشر من سلاطين الدولة العثمانية، ولد سنة (953) وتوفي سنة 1004هـ. انظر ترجمته في: "الموسوعة العربية العالمية" (23/71).
[41] هو سليم الثاني: السلطان الحادي عشر من سلاطين الدولة العثمانية، ولد سنة 930 هـ، وتوفي سنة 982 هـ، انظر ترجمته في "الموسوعة العربية العالمية" (13/86).
[42] وللتوسع انظر: "قصة التوسعة الكبرى"، "والكعبة المعظمة والحرمان الشريفان عمارة وتأريخًا".
[43] انظر: "كتاب الشؤون الإسلامية في عهد خادم الحرمين الشريفين، حقائق وأرقام"، إعداد: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
[44] انظر: "كتاب الزيادات في الحرم المكي الشريف من العصر النبوي إلى العهد السعودي"، للشريف محمد بن مساعد بن منصور ص (11 – 43).(/90)
[45] أحمد بن عبدالله بن محمد الطبري أبو العباس محب الدين، حافظ فقيه، من أهل مكة، له كتاب: "القِرى لقاصدي أم القُرى"، ولد سنة 615 هـ، وتوفي سنة 694 هـ، انظر ترجمته في: "طبقات الشافعية" (85)، "شذرات الذهب" (5/425).
[46] عبدالرحمن بن علي بن محمد بن علي، المشهور بابن الجوزي أبو الفرج، محدِّث حافظ مفسر فقيه أصولي، ولد سنة 508 هـ، وتوفي سنة 597 هـ انظر ترجمته في: "تراجم الحنابلة" (4/239) و"شذرات الذهب" (2/499).
[47] محمد بن أحمد بن علي تقي الدين أبو الطيب المكي الحسن. مؤرخ عالم بالأصول، ولد سنة 775 هـ، وتوفي سنة 832هـ. انظر ترجمته في: "ذيل طبقات الحفاظ" (291، 377)، "الضوء اللامع" (7/18).
[48] محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي، مؤرخ من أهل مكة، له "تاريخ مكة"، توفي سنة 272 هـ، انظر ترجمته في "كشف الظنون" (306) "معجم المطبوعات" (1431).
[49] الفاكهي (2/273 – 276) الفاسي (1/86)، و"المنائح" (1/216).
[50] التنعيم: طريق في وادي فاطمة، وهو أقرب أطراف الحِل إلى مكة، سمِّي بذلك لأن عن يمينه جبلاً يقال له نعيم، وعن يساره جبل يقال له: ناعم، ويسمَّى الآن (مسجد عائشة) انظر: "معجم البلدان" (2/58)، "حدود المشاعر" (3/152).
[51] الحديبية: بتشديد الياء وتخفيفها، وجهان مشهوران: قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سمِّيت ببئرٍ هناك، وهي أبعد الحل من البيت، وتسمِّى الآن (الشميسي). انظر: "معجم البلدان" (2/265)، "حدود المشاعر" للشيخ البسام (3/1572).
[52] الجعرانة: هي ما بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أدنى، انظر: "معجم ما استعجم" (1/384)، "معجم البلدان" (2/142).(/91)
[53] عُرَنَة: وادٍ مِن أكبر أودية مكة، يتكون رأسه من شعبتين، ويعرف اليوم (بوادي الشرائع)، وجلُّ الأرض التي يسير فيها إلى عرفة تسمَّى (المغمَّس). ومسجد نمرة ليس في عرفة، وإنما غربيُّه في عرنة وشرقيُّه في عرفة. انظر: "معجم البلدان" (4/125)، "معالم مكة التاريخية" للبلادي (184)، "توضيح الأحكام" للشيخ البسام (3/134).
[54] انظر: "الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به"، (60)، "منائح الكرم" (1/218)، "شفاء الغرام" (87 – 105)، "حدود المشاعر"، (3/1575)، ومسافات هذه الحدود اجتهادية.
قال فضيلة الشيخ عبدالله البسام: وقد كُلِّفت لجنة من المقام السامي؛ لتحديد حدود الحرم المكي من جميع جهاته، وتمَّ ذلك والحمد لله، ورفع القرار إلى الجهة العليا للموافقة عليه، والتوجيه بتنفيذه.
[55] انظر المسند (4/5)، وصحيح ابن حبان (1620)، وحديث عبدالله بن الزبير، رضي الله عنهما.
[56] "زاد المعاد" (1/47 – 48).
[57] انظر في فضائل الحرم، "زاد المعاد" (1/49)، "الجامع اللطيف" – وهو أوعبها – (106 –110)، "بدائع الفوائد: (2/45، 46).
[58] هَيولَى: وتشدد الياء المضمومة، كلمة يونانية، ومعناها: أصل الشيء ومادته، انظر: "تاج العروس"، "اللسان" مادة (هيل)، والمراد: أصل كل حسن ومصدره.
[59] ذكره ابن القيم في "زاد المعاد" (1/51).
[60] مسند الإمام أحمد (2/381 – 8952)، والبخاري في "الأدب المفرد" برقم (373).
[61] هو يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر النمري أبو عمر القرطبي، الحافظ الفقيه، العالم بالقراءات والحديث والأنساب والأخبار، له مؤلفات مشهورة منها: "التمهيد" شرح الموطأ، وغيره، توفي سنة 463 هـ انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان" (2/485) "تذكرة الحفاظ" (3/306).
[62] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، برقم (1987).
[63] انظر "صحيح الترغيب والترهيب"، كتاب الأدب، برقم (2658).(/92)
[64] هو الإمام الكبير الفقيه والأصولي والمفسر، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، ولُقِّب بالماوردي نسبة إلى بيع الماورد. ولد سنة 370 هـ وتوفي سنة 450 هـ، انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان" (2/444 – 445)، و"تاريخ بغداد" (1/53 – 54) و (12/102 – 103).
[65] "أدب الدنيا والدين" (237).
[66] البخاري، كتاب الحج برقم (1671)، وصحيح ابن خُزَيْمَة برقم (2844).
[67] هو أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، شهاب الدين الحافظ الكَبِير، أشهر كتبه: "فتح الباري شرح البخاري"، و"تهذيب التهذيب"، و"لسان الميزان" توفي سنة 852هـ. انظر ترجمته في: "شذرات الذهب" (7/270)، "البدر الطالع" (1/187).
[68] انظر: "فتح الباري" (3/522).
[69] "المسند" (2/8) برقم (564).
[70] محمد بن عبدالباقي بن يوسف بن أحمد الزُّرْقاني، فَقِيه مالكي، ولد ومات في مصر، سنة 1099 هـ، له: "شرح مختصر خليل" و"شرح العزية". انظر ترجمته في "خلاصة الأثر" (2/287) و"الأعلام" (3/272).
[71] شرح الزرقاني (2/903).
[72] هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القرشي، المدني، ثقة، إمام في الحديث، روى له الجماعة، مات سنة سبع وأربعين ومائة. انظر: "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" (30/232)، ترجمة رقم (6585)، و"الجرح والتعديل" (9/63)، ترجمة رقم (249).
[73] عروة بن الزبير بن العوام أبو عبدالله المدني، ثقة، فقيه، مشهور، مولده في أوائِل خلافة عثمان، مات سنة أربع وسبعين، انظر: "تهذيب التهذيب" (7/180)، ترجمة رقم (351)، "تقريب التهذيب" (389)، ترجمة رقم (4561).
[74] العَنَق: ضرب من السير منبسط للإبل والدابة. انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/137)، "تاج العروس" و"الصحاح"، مادة (عَنَق).
[75] نصَّ: النص: التحريك حتى يستخرج أقصى سير الناقة، وأصل النص، أقصى الشيء وغايته، ثم سمي به ضرب من السير سريع. انظر: "غريب الحديث" للهروي (3/178) "النهاية في غريب الحديث" (5/64).(/93)
[76] البخاري، كتاب الحج، برقم (1666).
[77] "فتح الباري" (3/516).
[78] "أخبار مكة" للفاكهي (1/130 – 133).
[79] عطاء بن أبي رباح واسمه: أسلم القرشي، الإمام مفتي الحرم، كان من أوعية العلم، نشأ بمكة وولد في خلافة عثمان (اختلف في وفاته، فقيل: سنة 114، وقيل: سنة 115، وقيل: سنة 117، انظر ترجمته في: "تهذيب الكمال" (20/69)، ترجمة رقم (3933)، "طبقات ابن سعد" (5/467).
[80] "أخبار مكة" للفاكهي (1/132 – 140).
[81] "مسند الإمام أحمد" (1/121 – 130).
[82] انظر: "الموطأ"، كتاب الحج، برقم (1064).
[83] الزرقاني (2/406).
[84] رواه مسلم، في كتاب البر والصلة، برقم (2592).
[85] رواه مسلم، في كتاب البر والصلة، برقم (2594).
[86] المُسْنَد (2/98) برقم (5724)، وأبو داود، كتاب الصلاة، برقم (666).
[87] البخاري، كتاب الجمعة، برقم (909).
[88] البخاري، كتاب الأذان، برقم (636).
[89] "إعلام الموقعين" (3/14).
[90] "الموافقات" (2/6).
[91] أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي، توفي سنة 790 هـ، انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج على الديباج" (1/25).
[92] "المسند" (1/236)، "الفتح" (1/116).
[93] "الموافقات" (1/520 – 522).
[94] "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (11).
[95] الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ولد سنة 1296 هـ، توفي سنة 1393 هـ، انظر ترجمته في: "الأعلام" (6/174).
[96] "مقاصد الشريعة" (196 – 198).
[97] البخاري، كتاب الإيمان، برقم (39).
[98] مسلم، كتاب الطلاق، برقم (1104).
[99] أبو الحسن بن عبدالهادي السندي، ولد بالسند سنة 1136 هـ، وتوفي بالمدينة سنة 1724م، انظر ترجمته في: "عجائب الآثار" (1/85) "معجم المؤلفين" (3/243).
[100] "مسند الإمام أحمد" (25/284 – 63951).
[101] "مسند الإمام أحمد" برقم (2136 – 2556).
[102] "المسند" (1/248).(/94)
[103] البخاري، كتاب الأدب، برقم (6011)، ومسلم، كتاب البر والصلة، برقم (2586)، واللفظ له.
[104] البخاري، كتاب الأدب، برقم (6026)، ومسلم، كتاب البر والصلة، برقم (2585).
[105] البخاري، كتاب المظالم، برقم (2442)، ومسلم، كتاب البر والصلة، برقم (2580).
[106] البخاري، كتاب الأدب، برقم (13)، ومسلم، كتاب البر والصلة، برقم (45).
[107] لا يخفى أنَّ عرض هذه الظاهرة على جميع القواعد الفقهية يطول جدًّا، لذا اكتفيت بأهم وأبرز القواعد الكلية، التي لها ارتباط وثيق بما نحن بصدده، مركِّزًا على القواعد الكبرى في الشريعة.
[108] مقدمة "الفروق" للقرافي.
[109] "الأشباه والنظائر" للسيوطي (8)، "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (27).
[110] هو محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، الملقب بحُجة الإسلام، وزين الدين الطوسي، ولد سنة 450هـ، توفي سنة 505 هـ، "طبقات الشافعية" (4/101)، "وفيات الأعيان" (4/216).
[111] "إحياء علوم الدين" (4/328).
[112] هو أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الشافعي، ولد سنة 577 هـ، توفي سنة 660 هـ، انظر ترجمته في: "شذرات الذهب" (5/301)، و"البداية والنهاية" (13/235).
[113] "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (6).
[114] "الأشباه والنظائر" للسيوطي (83)، و"الأشباه والنظائر" لابن نجيم (85)، "المدخل الفقهي" (588).
[115] خرجه مالك في "الموطأ"، والحاكم في المستدرك، والدارقطني. انظر: "موطأ مالك بشرح ابن العربي" (3/928)، المستدرك، الدارقطني (4/228).
[116] "الأشباه والنظائر" لابن السبكي (1/15)، "الأشباه والنظائر" للسيوطي (87)، "قواعد المقري" (201).
[117] "القاموس الفقهي" (286).
[118] المدخل الفقهي (2/85)، القواعد الفقهية للندوي (170).(/95)
[119] للتوسع في هذه القواعد، انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، والأشباه والنظائر لابن نجيم، والقواعد الكبرى لابن رجب، و"القواعد الفقهية" للزرقاء وللندوي والبورنو وغيرهم.
[120] وأريد بالأسباب العامة هنا: ما يتخطى حدود الزمان والمكان، مما يتعلق بأوضاع الأمة، وأحوال أفرادها ومجتمعاتها، إن إيجابيًّا وإن سلبيًّا.
[121] وأريد بها هنا: العوامل الحسنة، والأسباب الطيبة المشرقة، التي تعايشها الأمة من جراء ما أفاء الله عليها من نعمه وخيراته، مما يستوجب الشكر له سبحانه.
[122] لاحب: اللحب: الطريق الواضح، واللاحب مثله. انظر: "اللسان" و"القاموس"، مادة (لحب).
[123] البيت لأبي الطيب المتنبي، انظر: "العرف الطيب شرح ديوان أبي الطيب المتنبي" (2/142).
[124] هو الشاعر فؤاد الخطيب - رحمه الله - ضمن قصيدة مطولة، يبين فيها مآثر الملك عبدالعزيز، خاصة فيما يتعلق بأمن الحجيج، انظر: كتاب "الملك عبدالعزيز في مرآة الشعر".
[125] هذا أوان بيان الأسباب العامة السلبية، والمراد بها: العوامل المؤسفة، التي يقع فيها كثير من أفراد الأمة؛ فتكون أسبابًا لوجود الظواهر السيئة فيها.
[126] خداج: الخداج النقصان، وأصل ذلك من خداج الناقة، إذا ولدت ولدًا ناقص الخَلق. انظر: "اللسان"، مادة (خدج).
[127] "منهاج العابدين" ص (70 – 71).
[128] البخاري كتاب الأدب، برقم (6011).
[129] شروى نقير: الشروى: المِثْل، والنقير: النكتة في ظهر النواة. انظر "اللسان"، مادة (شري – نقر).
[130] البخاري، كتاب الإيمان، برقم (13).
[131] سهل بن سعد بن مالك الأنصاري، له ولأبيه صحبة، مشهور، وهو آخر مَن مات بالمدينة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - انظر: "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" (12/188) الترجمة رقم (2612) و"تقريب التهذيب" الترجمة رقم (2658).
[132] البخاري، كتاب الجنائز، برقم (1277).(/96)
[133] الجران: باطن العنق، فإذا برك البعير، ومدَّ عنقه على الأرض قيل: ألقى جيرانه بالأرض، وفي حديث عائشة - رضي الله عنها -: "حتى ضرب الحق بجرانه"، أرادت أن الحق استقام وقر في قراره. انظر: "لسان العرب"، مادة (جرن).
[134] "المورد في عمل المولد" (20 – 21).
[135] "زاد المعاد" (1/75).
[136] محمد بن وضاح القرطبي، الإمام الحافظ، محدث الأندلس، ولد سنة 199هـ، وتوفي سنة 387 هـ، انظر ترجمته في: "تاريخ علماء الأندلس" (2/15) و"جذوة المقتبس" (93).
[137] عبدالرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم، من الثامنة، قال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحًا. مات سنة 82هـ. انظر: "تهذيب الكمال" (17/114) الترجمة رقم (3820)، و"تقريب التهذيب" الترجمة رقم (3865).
[138] مكحول أبو عبدالله الدمشقي الفقيه، تابعي ثقة، لم يكن في زمنه أبصر في الفتيا منه، مات سنة 113هـ، انظر: "تهذيب الكمال" (28/464) الترجمة رقم (6168)، و"التقريب" ص (545) الترجمة رقم (6875).
[139] "البدع والنهي عنها" (112)، و"كتاب اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية، ورسالة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في التحذير من هذه البدع.
[140] سِيطَ: اختلط. يقال: ساط الشيء سوطًا، وسَوَّطَه: خاضه خلطه وأكثر ذلك. انظر: "اللسان"، مادة (سيط)، و"تاج العروس" (باب الطاء فصل السين).
[141] رَكْبَة: صحراء واسعة بطريق نجد، على بُعد يومين من مكة. انظر "معجم البلدان" (3/63).
[142] "المصنف" لعبدالرزاق (5/151)، "أخبار مكة" (2/256)، "منائح الكرم" (1/227)، "كوكبة الخطب المنيفة" (261).
[143] المقصود بها هنا: الأسباب السلبية التي يراعى فيها حدود المكان، المسجد الحرام وما يكون في رحابه، ومن بعض قاصديه، مما يبعث على وجود هذه الظاهرة، ويكون عاملاً في انتشارها.
[144] أبو داود، كتاب المناسك، برقم (1894) وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة برقم (1254).(/97)
[145] انظر: "فتح الباري" (3/468 – 469).
[146] هو محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري أبو بكر، ولد سنة 242 هـ، وتوفي بمكة سنة 319 هـ انظر ترجمته في: "طبقات الشافعية" (2/126)، "لسان الميزان" (5/27).
[147] انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص (53).
[148] كتاب الحج (3/232).
[149] ذو طوى وادٍ بمكة، وهو موضع معروف الآن في حي جرول، وأما بئر طوى، فهي بئر مطوية عليها بناء، معروفة عند أهل مكة، بين القبة وريع أبي لهب، انظر: "معجم ما استعجم" (2/896)، و"معجم البلدان" (4/45)، "توضيح الأحكام" (3/350).
[150] هو محمد بن إبراهيم بن سعد بن جماعة الكناني الحموي الشافعي، أبو عبدالله القاضي، من العلماء بالحديث، ولد سنة 632 هـ، وتوفي سنة 718 هـ، انظر: "الدرر الكامنة" (3/280)، "النجوم الزاهرة" (9/898).
[151] انظر: "هداية السالك" (2/864).
[152] "فتح الباري" (2/556)، برقم (1612).
[153] "فتح الباري" (2/556)، برقم (1613).
[154] أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي الشافعي، انظر ترجمته في: "طبقات الشافعية" (5/165).
[155] مناسك النووي مع "حاشية الهيتمي" (248).
[156] أخرجه البيهقي، باب الاستلام في الزحام، كتاب الحج (5/80)، والإمام أحمد في "المسند" (1/28)، وعبدالرزاق في "المصنف"، باب الزحام على الركب (5/36).
[157] "مصنف عبدالرزاق" (5/35)، والفاكهي (1/129- 130)، والأزرقي (1/333).
[158] البخاري، كتاب الحج، برقم (1606)، ومسلم؛ كتاب الحج، برقم (1268).
[159] ولفضيلة الشيخ/ محمد بن عبدالله السبيل رسالة في ذلك، أبان فيها المشروعية وبَسَط الأدلة عليها ورجحها.
[160] انظر هذه المسألة ضمن ثلاث رسائل لفضيلة الشيخ/ محمد السبيل.
[161] ومنهم الدكتور/ بكر بن عبدالله أبو زيد، وله رسالة في عدم مشروعيته، وكذا الدكتور/ عبدالوهاب أبو سليمان في بحث له نشرته جريدة "عكاظ".(/98)
[162] فإن الهيئة – وفقها الله – قد وافقت على وجوده ومشروعيته بالأكثرية، برئاسة سماحة الشيخ/ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - وموافقة الشيخ/ محمد بن عثيمين - رحمه الله - وعدد من كبار العلماء وفقهم الله.
[163] البخاري، كتاب الحج، برقم (1736).
[164] صحيح البخاري، كتاب الحج، برقم (1521).
[165] البخاري، كتاب الحج، برقم (1773).
[166] البخاري، كتاب الحج، برقم (1773).
[167] رواه الترمذي، كتاب الحج، برقم (810).
[168] انظر: "حاشية ابن عابدين" (2/473).
[169] انظر: "المجموع" (7/149).
[170] انظر: "الفروع" (3/528).
[171] "مجموع الفتاوى" (26/252).
[172] انظر: "زاد المعاد" (2/175).
[173] انظر: "قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية" لابن جزي الغرناطي (161).
[174] يقول الحجاوي: "ويكره الإكثار منها والموالاة بينها نصًّا"، "الإقناع" (1/397).
[175] البخاري، كتاب الحج، برقم (1556).
[176] رواه البيهقي في كتاب الحج، باب من اعتمر في السَّنَة مرارًا (4/344).
[177] وقد بسط ابن قدامة - رحمه الله - القول بالأدلة، ونقل الآثار عن السَّلَف في عدم مَشْرُوعيّة ذلك. انظر: "المغني" (5/17).
[178] "مجموع الفتاوى" (26/273).
[179] قال الشيخ/ عبدالقادر الأرناؤوط، وشعيب في تحقيقهما لـ"زاد المعاد": "وفي سنده مجهول" (2/100).
[180] انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/195)، "حاشية ابن عابدين" (1/659)، "المجموع" (9/329)، "زاد المعاد" (3/303).
[181] "زاد المعاد" (3/303).(/99)
[182] هو سماحة الإمام العلامة الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله آل باز، مفتي عام المملكة العربية السعودية، ولد بمدينة الرياض سنة 1330 هـ، توفي سنة 1420 هـ بالطائف رحمه الله، وهو أشهر من أن يُعرّف، كتب عنه مؤلفات عديدة، وتراجم مفيدة، منها: ترجمته - رحمه الله - لنفسه في الجزء الأول من فتاواه. وانظر أيضًا ترجمته في: "إمام العصر" ص (9).
[183] "مسلم"، كتاب الحج، برقم (1396).
[184] انظر: "مطالب أولي النهى" (2/284)، "أحكام أهل الذمة" (1/189 – 190)، "زاد المعاد" (3/303).
[185] "البخاري"، كتاب الصلاة، برقم (509) ومسلم، كتاب الصلاة، برقم (510).
[186] "البخاري"، كتاب الصلاة، برقم (510).
[187] انظر: "فتح الباري" (1/576)، "نيل الأوطار" (3/8)، "شرح الزرقاني على مختصر خليل" (1/309).
[188] "الفروع" (1/471)، "البيان والتحصيل" (3/372).
[189] "الإنصاف" (2/95)، "الفروع" (1/482).
[190] "الروض المربع" (2/103).
[191] "البيان والتحصيل" (3/471).
[192] الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبدالملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري الطحاوي الحنفي، ولد سنة 239 هـ، وتوفي سنة 321 هـ، انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/19)، "البداية والنهاية" (11/174).
[193] "مشكل الآثار" (3/252).
[194] هو الإمام العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ، فقيه حنبلي، المفتي الأول للملكة العربية السعودية، ولد وتوفي في الرياض 1311 هـ - 1389 هـ انظر ترجمته في: "مشاهير علماء نجد" (169 – 184)، "الأعلام" (5/307).
[195] "المغني" (3/90).
[196] انظر: "المغني" (3/ 90)، "مجموع الفتاوى" (26/122)، "المعجم الأوسط" لابن المنذر (5/104)، برقم (2475).
[197] "فتاوى إسلامية" (1/235، 268).
[198] سبق تخريجه من قبل، في هذا البحث.(/100)
[199] تفلات: تاركات للطيب. انظر: "غريب الحديث" للهروي (1/264 – 265)، "النهاية في غريب الحديث" (1/191).
[200] خرجه الإمام أحمد (2/538)، وأبو داود في "سننه"، كتاب الصلاة، برقم (565).
[201] منها رسالة لسماحة الشيخ/ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في الرد على من طالب بنقله عن موضعه، ولكل من الشيخ/ عبدالله المعلمي، والشيخ/ عبدالعزيز بن حمدان، والشيخ/ على الصالحي - رحمهم الله - آراء في ذلك.
[202] الجمهور على تحريمها، انظر: "قرة عين العابد بحكم فرش السجاجيد في المساجد"، لخير الدين إلياس زاده. تحقيق: يوسف الصبحي.
[203] هو علي بن علي بن محمد ابن أبي العز الحنفي، الصالحي، الفقيه القاضي، ولد سنة 731 هـ، وتوفي سنة 792 هـ، انظر ترحمته في: "الدرر الكامنة" (3/87)، "شذرات الذهب" (8/557).
[204] "شرح العقيدة الطحاوية" (77).
[205] "قاعدة جليلة" (331 – 332).
[206] رواه الترمذي باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم (2676) وأبو داود، كتاب السنة، برقم (4607).
[207] رواه البخاري، كتاب الإيمان، برقم (50).
[208] الترمذي، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، برقم (2681)، وأبو داود كتاب العلم، برقم (3641).
[209] البخاري، كتاب الوضوء، برقم (143).
[210] البخاري، كتاب العلم، برقم (75).
[211] البخاري، كتاب العلم، برقم (71).
[212] هو محمد بن الحسين بن عبدالله أبو بكر الآجري، فقيه شافعي محدث، توفي سنة 360 هـ، انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان" (1/488)، "صفوة الصفوة" (2/265)، "الرسالة المُسْتَطرفَة" ص (32).
[213] ص (34 – 35).
[214] "المسند" (27/300) برقم (16738)، والدارمي (1/302) برقم (234)، وابن ماجه، كتاب المناسك، برقم (3056).
[215] رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، برقم (3461).
[216] "التحرير والتنوير" (26/243).
[217] سبق تخريجه من قبل.
[218] "المسند" (32/183 – 19438).(/101)
[219] رواه أبو داود، كتاب الأدب (4/369 – 5114).
[220] رواه مسلم، كتاب البر والصلة، برقم (2564).
[221] الترياق: بكسر التاء: فارسي معرب، هو دواء السموم، انظر: "اللسان"، مادة (ترق).
[222] "صحيح الترغيب والترهيب" (3/327 – 3397).
[223] دمح: يقال: دمّح ودبّح؛ بمعنى واحد، خفض رأسه ونكسه، والمراد هنا: الإغضاء والستر، قالوا: دبَّحت الكمأة انتفخ عليها التراب وهو لا تزال في الأرض، انظر: "اللسان"، و"الهادي إلى لغة العرب"، مادة (دبح).
[224] نسأل الله حسنها.
[225] انظر: خاتمة "مُلْحَة الإعراب" للحريري.(/102)
العنوان: الزكاة المفروضة (1)
رقم المقالة: 1463
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
فرضها وفضلها وأهميتها
الحمد لله اللطيف الخبير؛ فرض على عباده من الدين ما يقرب إليه، وشرع لهم من الفرائض ما يصلحهم في الدنيا والآخرة، نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ} [آل عمران:135] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70] وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ أرسله {بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِالله شَهِيدًا} [الفتح:28] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم –أيها المسلمون- واعمروا أوقاتكم بطاعته سبحانه، وخذوا مما مضى من أعماركم عبرة لما بقي، فحال ما بقي سيكون كحال ما مضى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [الحشر:19].(/1)
أيها الناس: كل الناس ينشدون السعادة ويطلبون الراحة، وكل ما يسعى إليه البشر من تحصيل الأموال، والترقي في الجاه، وتنويع وسائل الترف والرفاهية المباح منها والمحرم؛ إنما كان سعيهم فيها لتحصيل الراحة والسعادة، ولا راحة للعبد، ولا سعادة للقلب إلا في طاعة الله تعالى، وكل سعادة بغير الله تعالى وطاعته تزول سريعا، ولا تبقى أبدا، والأثرياء الذين يُغبطون على ثرواتهم كانوا يجدون لذة في جمعها وتنميتها فلما امتلأت بها أرصدتهم ذهبت لذتها، وصارت أمرا عاديا. وأصحاب المساكن والقصور يفرحون بها حال بنائها، وبعد سكناها تذهب حلاوتها يوما بعد يوم، وربما أصابهم الملل منها، وصاحب الجاه يسعى إليه حتى إذا بلغه لا يلبث إلا قليلا فيذهب رونقه، ولا يحسُّ بجاهه، ويسعى إلى ما هو أعلى مما بلغ.
وهكذا كل أعراض الدنيا أبى الله تعالى أن تبقى لذتها لأصحابها أبدا، كيف؟ ولا وزن للدنيا عند الله تعالى.
أما لذة العبادات فلا يدانيها لذة، هي السعادة التي يَطرب القلب لها، وينشرح الصدر بها، وإذا قضى المسلم فرضه من الصلاة أحس براحة عظيمة، وإذا وضع زكاة ماله في يد من يستحقها فرح بذلك، وإذا قضى نسكه من حجته وعمرته فلا تسل عن فرحته وهو عائد إلى بلده (ولِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ).
وكما أن الصلاة والصيام والحج عبادات بدنية فإن الزكاة عبادة مالية، تقي النفس شحها، وتطهرها من بخلها وحرصها، عظمت عناية الشارع الحكيم بها، وتكرر ذكرها في القرآن كثيرا مقترنة بالصلاة أو منفصلة عنها.(/2)
وهي من مباني الإسلام العظام، وركنه الثالث بعد الصلاة وقبل الصيام؛ كما روى ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ على خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ) متفق عليه.
ولمكانة الزكاة عند الله تعالى جاءت بها شرائع من سبقوا من رسل الله تعالى، وأُوحي إليهم بها، وفرضت على الأمم الماضية، كما أوحى الله تعالى إلى الأئمة من ذرية إبراهيم عليه السلام {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [الأنبياء:73] وامتدح بها إسماعيل عليه السلام بقوله سبحانه {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55] وأخبر تعالى عن عيسى عليه السلام أنه قال {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31].
وأخذ عز وجل الميثاق على بني إسرائيل في جملة من الشرائع كان من أهمها إيتاء الزكاة، وأمرهم بها فقال سبحانه {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].(/3)
ومما يدل على أهميتها، وعناية الشارع الحكيم بها أن المؤمنين خُوطبوا بها في مكة قبل الهجرة، وتكرر ذكرها في السور المكية، فقرنت في سورة البينة بالتوحيد والصلاة {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البيِّنة:5]، ولكن لم ينزل نصابها ولا مقدارها ولا وقتها، بل كان المؤمنون مأمورون بإطعام المسكين، ورعاية اليتيم، وفك الأسير، وتبليغ السبيل، ومواساة أهل المواساة، وكَثُر الأمر بذلك في السور المكية، وتنوعت الأساليب فيه، تارة بالأمر المباشر، {فَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الرُّوم:38] وتارة أخرى بالثناء على المنفقين {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ} [المعارج:25] وثالثة بذم من يقصرون في ذلك {كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} [الفجر:18] ورابعة بجعل تركها من أسباب دخول الكفار نار جهنم {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصِّلت:7] وفي سورة أخرى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ} [المدَّثر:44].
وقد جاء ذكر إيتاء الزكاة صراحة في السور المكية كما في أوائل النمل ولقمان إذ امتدح الله تعالى {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3] وذكر من صفات المؤمنين المفلحين {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4].(/4)
وجاء في حديث جَابِرٍ رضي اللهُ عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أمرهم بزكاة الإبل والبقر والغنم، وبيَّن عقوبة من لم يخرجها قالوا:يا رَسُولَ اللَّه، وما حَقُّهَا؟ قال: إِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَمَنِيحَتُهَا، وَحَلَبُهَا على الْمَاءِ، وَحَمْلٌ عليها في سَبِيلِ الله)رواه مسلم.
وكل هذه النصوص العظيمة -ومثلها كثير- تدل على مكانة الزكاة في دين الله تعالى، وأن الأمر بها جاء في أول الإسلام قبل الهجرة وبناء الدولة المسلمة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأُمروا بالزكاة والإحسان في مكة، ولكن فرائض الزكاة ونصبها إنما شرعت بالمدينة.
وبايع النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه على أدائها -والبيعة لا تكون إلا على الأمر العظيم- روى جَرِيرُ بنُ عبدِ الله رضي اللهُ عنه قال:(بَايَعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم على إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ)رواه البخاري.
والممتنع عن أداء الزكاة يُقَاتل حتى يؤديها؛ لأن الله تعالى في كتابه العزيز قد نص على أن أداءها مع إقام الصلاة والتزام التوبة سبب للكف عن قتال الكفار{فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].
وفي الآية الأخرى جعل ذلك سببا للأخوة في الدين {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].(/5)
ونص النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الحكم العظيم الذي تَنَزَّل به القرآنُ فقال:(أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فإذا فَعَلُوا ذلك عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ على الله)متفق عليه من حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما.
وحين توفي النبي عليه الصلاة والسلام، وارتدت بعض قبائل العرب، ومنع بعضهم الزكاة زاعمين أن دفع الزكاة خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم عَمِلَ الصديقُ أبو بكرٍ رضي الله عنهم فيهم بما دلَّت عليه النصوص، فسَيَّر الجيوش لقتالهم، ولم يتهاون في أمرهم، وأخبر أن الزكاة قرينةُ الزكاة، وأن الممتنع عن أدائها يستحق القتال حتى يؤديها، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: (لَمَّا تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بَكْرٍ رضي اللهُ عنه وَكَفَرَ من كَفَرَ من الْعَرَبِ فقال عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقَاتِلُ الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إلا الله فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ على الله، فقال: والله لَأُقَاتِلَنَّ من فَرَّقَ بين الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فإن الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، والله لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ على مَنْعِهَا قال عُمَرُ رضي الله عنه فَوَ الله ما هو إلا أَنْ قد شَرَحَ الله صَدْرَ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ) رواه الشيخان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس، ويصومون شهر رمضان.اهـ(/6)
فحري بكل مؤمن بالله تعالى أن لا يتهاون بهذا الركن الركين من دين الإسلام، وأن يخرج زكاة ماله طيبة بها نفسه، مستحضرا أن الله تعالى هو الذي أنعم عليه بهذا المال، وأوجب جزءً يسيرا منه فريضة عليه، يُجزى عليها يوم القيامة أجرا عظيما إنْ وضعها في يد من يستحقها، مؤمنا بفرضها، مخلصا لربه في أدائها، محتسبا ثوابها.
مع ما فيها من تطهير النفس من شحها وأثرتها، وتزكية المال وتنميته؛ وقد قال الله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103].
أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شح أنفسنا، إنه سميع مجيب.
أقول ما تسمعون....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ أنعم على عباده بهذا الدين العظيم، فمنهم من آمن ومنهم من كفر {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] نحمده حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأشهد أنلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وجدِّوا فيما بقي من شهركم المبارك؛ فعن قريب يفارقكم بما استودعتم فيه من أعمالكم؛ لتجدوا ذلك أمامكم بعد موتكم {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ} [آل عمران:30].
أيها الناس: اعتاد كثير من المسلمين إخراج زكاتهم في رمضان؛ تحريا لفضيلة الشهر، وفضيلة التلبس بالصيام؛ رجاءَ أن يقبلَ اللهُ تعالى زكواتهم، ولكن كثيرا منهم لا يُوفقون في إيصال الزكاة لمستحقيها بسبب التفريط أو الجهل.(/7)
وفي المسلمين عشرات الألوف من الأثرياء، وفيهم ملايين الفقراء، ولو ردَّ الأغنياء زكاة أموالهم على المستحقين لما بقي في المسلمين فقير، ولكن بعض الأثرياء يُقصرِّون في إخراج زكاتهم، فلا يخرجونها كلية، أو يخرجون بعضها؛ استعظاما لها، ولم يستعظموا أموالهم، وما الزكاة منها إلا جزءًا واحدا من أربعين جزءًا {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17].
وكثير من الأثرياء يخرجون زكاتهم ولكنها لا تقع في أيدي مستحقيها:
وذلك لأن كثيرا من الأغنياء قد اعتادوا صرف زكواتهم منذ سنوات لأُسَرٍ كانت محتاجة لفقرها أو فقد عائلها، ولكن الله تعالى قد فتح عليهم أبواب رزقه، فعمل أبناؤهم وبناتهم، وسُدَّت حاجاتهم، وهم لا زالوا يتقبلون الزكاة؛ جهلا بأنهم لا يستحقونها، أو ظنا أنها عادة من هبة أو هدية ممن يعطيهم إياها، أو جشعا وطمعا.
وبعض الأغنياء يدفعون زكاتهم إلى أقرب سائل، ولا يتحرون فيها أهلها الذين اختصهم الله تعالى بها، وسبب ذلك الثقة المفرطة، وإتقان كثير من المتسولين صنعتهم، باصطناعِ الفقر والحاجة، وتَقَمُّصِ أحوالِ ذوي العاهات والأمراض، مع فصاحةِ لسانٍ في اختلاق الأكاذيب، وإنشاء القصص التي يُحركون بها قلوب الناس، ويستدرون بها عواطفهم، وبعضهم قد يكون محتاجا في البداية، ولكنه اعتاد على السؤال، ووجد أن هذا الباب أسهل الأبواب للكسب والارتزاق.
وبكل حال فإن من يسألون سيجدون من يعطيهم، فينبغي للمسلم أن لا يحفلَ بهم كثيرا، ولا يغامرَ بزكاته في أيديهم وهو لا يتيقنُ صدقهم، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أرشدنا في هذه المسألة فقال عليه الصلاة والسلام: (ليس الْمِسْكِينُ بِالَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ولا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ إنما الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ، اقرؤوا إن شِئْتُمْ :لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافًا) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(/8)
ومن كان وصيا على الزكاة فيجب عليه أن يتحرى فيها أهلها، ويجتهد في ذلك، ولا يجامل أحدا فيها لقرابة أو زمالة أو معرفة أو غير ذلك؛ لأن الأغنياء ما وكَّلوه بصدقاتهم إلا لثقتهم فيه، فيجب أن يردعه دينه عن تحمل ذلك وهو ليس بأهل له؛ لقلة معرفته، أو كثرة مشاغله، فإن تحملَّه فليكن على قدر المسؤولية فيه، ولا يفرط في حق الفقراء، فيحرمهم منه، ويدفعه إلى غيرهم.
قال نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام: (اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ) رواه الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه وقال: حديث حسن صحيح.
وصلوا وسلموا على نبيكم....(/9)
العنوان: الزكاة المفروضة
رقم المقالة: 1001
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
تطهرهم وتزكيهم بها
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: من رحمة الله تعالى بعباده أنه لما خلقهم وكلفهم هداهم لدينه، وبَيَّن لهم الطريق إليه، وأقام الحجة عليهم، وقطع أعذارهم، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس:108].(/1)
والشرائع التي أوجبها الله تعالى على العباد، وألزمهم بها، هي لمنافعهم ومصالحهم، فالتزامهم بها ينفعهم ولا ينفع الله تعالى شيئا، ورفضهم لها يضرهم ولا يضر الله تعالى شيئا، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) رواه مسلم.
هذا؛ ومن أعظم ما فرض الله تعالى على عباده من الفرائض فريضة الزكاة، فهي عبادة المال، وركن الإسلام الثالث بعد الشهادتين والصلاة. تكرر ذكرها في القرآن كثيرا، وقُرن ذكرها بذكر الصلاة في أكثر الآيات {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]. فالصلاة تعصم الدم، والزكاة تعصم المال.
ولولا ما فيها من المنافع للعباد في معاشهم ومعادهم، وفيما يخصهم أفرادا وجماعات ودولا وأمما؛ لما كانت عناية الشريعة بها كذلك؛ إذ إن الله تعالى لا يشرع لعباده إلا ما يصلحهم في الدنيا والآخرة.
والزكاة دليل صدق العبد في إيمانه، وتسليمه لربه، وثقته في موعوده؛ ولذلك يبذل أغلى ما يملك عن طيب نفس ورضا، ومن هذا القبيل أُطْلق على الزكاة لفظ الصدقة، وهو مأخوذ من الصدق في مساواة الفعل للقول والاعتقاد؛ كما ذكر ذلك العلامة أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى.
وهذا الفهم لمعنى الزكاة يرتكز على مفهوم التلازم بين الفعل والقول والاعتقاد في الإسلام، فلا يكمل الاعتقاد بلا قول، كما لا يكمل القول بدون فعل، فالتلازم بين هذه الأمور الثلاثة لحمة عقيدة الإسلام ومرتكزها.(/2)
إن ارتباط الزكاة بالعقيدة، وكونها جزءاً أساساً لا يكتمل الإيمان إلا بها يدل عليه ما ورد من آيات عن الزكاة في العهد المكي، حيث لم تتكون بعد دولة الإسلام، ولم تتحدد أنواع الأموال والمقادير الواجب إخراجها، إنما كانت الإشارة إلى الزكاة في هذه الفترة باعتبار أنها جزء من الاعتقاد، مما يدل على مدى التلازم بين الإيمان بالله تعالى والعبودية التي هي أقوال وأفعال تبرهن على صدق الإيمان، كما يبين هذا التبكير في الخطاب بالزكاة قبل قيام دولة الإسلام ما يجب على الفرد تجاه إخوانه ومجتمعه وأمته.
إن الزكاة تعني الطهارة والنماء والبركة، يقول ابن قتيبة رحمه الله تعالى: الزكاة من الزكاء والنماء والزيادة، سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه، يقال: زكا الزرع إذا كثر ريعه، وزكت النفقة إذا بورك فيها اهـ.
ومن عجيب التشريع الرباني أن الزكاة أَخْذٌ، والأخذ في الأصل نقص من المال، وهذا هو المستقر عند البشر؛ ولذلك يشح أكثرهم ببذل المال خوفا من نقصه، ولكن الشارع الحكيم أخبرنا أن الزكاة وإن كانت إخراج جزء من المال فهي طهارة ونماء للمال، على عكس ما هو مستقر عند البشر، وقد تواردت النصوص على هذا المعنى العظيم الذي لا يدركه أكثر الناس، يقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] والتطهير والتزكية من أعظم مطلوبات أصحاب النفوس السامية، والهمم السامقة، وتطهير الزكاة عام يشمل المزكي، وآخذ الزكاة، والمال المزكى، والمجتمع بأسره:
أما المزكي فتطهره الزكاة من البخل والشح والأثرة والأنانية كما تطهره من عبودية المال، وكم من صاحب مال يملكه المال ويُسَيِّرُه حتى يكون عبدا له، فيوالي في المال، ويُعادي فيه، ويحب فيه، ويبغض فيه، ويشقى في جمعه ولا ينتفع به، ويخشى فواته أكثر من خشيته على دينه أو نفسه أو ولده، ولربما هلك بسبب خسارته، فهذا عبدٌ لماله وإن ملكه.(/3)
ومخرج الزكاة يتحرر بإذن الله تعالى من هذه العبودية إلى عبودية الله تعالى وحده، ويتطهر من شح نفسه، وفقر قلبه. وهذا من أعظم ما ينفع العبد عاجلا وآجلا، وقد أثنى الله تعالى على من كان كذلك، ووصفه بالفلاح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [التغابن:16]. وقال سبحانه {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] ثم ذكر سبحانه سببا من أسباب فلاحهم فقال سبحانه {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4].
وذم النبي عليه الصلاة والسلام من لم يتطهر قلبه من الشح والأثرة، ودعا عليه فقال عليه الصلاة والسلام:(تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والزكاة سبب لطهارة قلوب الفقراء والمساكين من الحقد على الأغنياء، وحسدهم على ما آتاهم الله تعالى من فضله؛ إذ يرون أن الأغنياء قد أحسوا بهم، وشاركوهم في مصابهم، وتلمسوا حاجاتهم، وواسوهم بأموالهم. فالزكاة أعظم صلة بين الفقراء والأغنياء، وفيها إزالة للحواجز المصطنعة بينهم، وتقريب بعضهم من بعض حتى يكونوا إخوة متآلفين، متحابين في الله تعالى، متعاونين على البر والتقوى.
والفقراء إذا ما علموا أن لهم حظا في أموال الأغنياء قد فرضه الله تعالى لهم، وقام الأغنياء بواجبهم فيه؛ فإنهم حينئذ سيتمنون زيادة أموال الأغنياء، ويفرحون بربحهم في تجاراتهم، ويدعون لهم بذلك، ويُبَرِّكون على ما يرون من عظيم أموالهم، ولا يتمنون زوالها أو تلفها؛ لعلمهم أن حقهم من الزكاة يزيد مع زيادة رؤوس أموال الأغنياء وأرباحهم.(/4)
وقد ثبت أن النصر والرزق يُستجلب بالفقراء والضعفاء؛ وذلك ببركة صلاحهم ودعائهم، كما جاء في حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قال: (رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) رواه البخاري وفي رواية للنسائي: (إنما ينصر اللهُ هذه الأمةَ بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
ومهما عمل البشر من الوسائل والأساليب، ومهما قاموا به من البحوث والدراسات والدورات للتقريب بين الفقراء والأغنياء، وتآلفهم واجتماع قلوبهم فلن يجدوا للزكاة مثيلا في ذلك، فسبحان من شرع فأحسن، وأمر فأحكم!!
والزكاة طهارة للمال مما علق به من الشبهات أو غفلة صاحبه عن حرام في تحصيله، أو تقصيره في أداء واجب على استحقاقه، أو نحو ذلك مما هو من غفلة الإنسان ونقصه؛ ولذلك سمى النبي عليه الصلاة والسلام الزكاةَ: أوساخَ الناس؛ كما جاء في حديث عبد المطلب بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)رواه مسلم. وقال عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه:(إنما الصدقة أوساخ الناس يغسلونها عنهم)رواه مالك.
قال النووي رحمه الله تعالى: ومعنى أوساخ الناس: أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فهي كغسالة الأوساخ.
والزكاة طهارة للمجتمع من مشاكل الفقر، واكتناز الثروات، وفشو الطبقية، وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وكثير من المشكلات الاقتصادية إنما يقضى عليها بهذه الشعيرة العظيمة التي فرضها الله تعالى حقا للفقراء في أموال الأغنياء.(/5)
وينتج عنها أيضا تطهير المجتمع من جرائم السرقة والنهب والنشل والغصب وقطع الطريق، وغير ذلك من أوجه الاستيلاء على الأموال بغير حق؛ فإن المحتاجين إن جاءهم المال من الأوجه المشروعة، لم يحتاجوا إلى تحصيله بطرق محرمة.
وأما التزكية فهي الطاعة والإخلاص كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ فالزكاة دليل الطاعة، وعنوان الإخلاص، ولا يخرجها سخية بها نفسه إلا مؤمن بالله تعالى، صادق في إيمانه، مخلص لدينه؛ ولذا نفى الله تعالى عن أهل الشرك أداء الزكاة، فأخبر عز وجل أنهم لا يؤتون الزكاة؛ لفقدهم الإيمان والإخلاص، {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصِّلت:7].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والزكاة تتضمن الطهارة؛ فإن فيها معنى ترك السيئات، ومعنى فعل الحسنات؛ ولهذا تفسر تارة بالطهارة وتارة بالزيادة والنماء ومعناها يتضمن الأمرين.... فالصدقة توجب الطهارة من الذنوب وتوجب الزكاة التي هي العمل الصالح. اهـ.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، والعمل به، وأن يقينا شح أنفسنا، وأن يجعل غنانا في قلوبنا، إنه سميع مجيب.
أقول ما تسمعون....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [البقرة:223].
أيها الناس: من نظر في واقع المسلمين وجد أنهم قد قصروا كثيرا تجاه هذا الركن الركين من دين الإسلام، فشحت نفوس كثير منهم عن أداء حق الله تعالى في أموالهم، فعوقبوا بكثير من المشكلات الاقتصادية التي يبحثون لها عن حلول فلا يجدون أي حل.(/6)
انظروا -رحمكم الله تعالى- إلى كثرة الأسواق والمحلات التجارية في بلاد المسلمين، واحسبوا أعداد الشركات والمؤسسات تجدوا أنها أكثر عددا من الأسر الفقيرة في المجتمعات، ثم انظروا إلى حسابات كبار التجار، وأباطرة المال تجدوا أنها تقارب موازنات دول كاملة، فلو أخرج هؤلاء وأولئك ما أوجب الله تعالى في أموالهم من زكاة لما بقي في الناس فقير ولا محتاج؟!
ومن نظر في أحوال كل بلد من البلدان، أو قرية من القرى، أو قبيلة من القبائل، أو أسرة من الأسر؛ وجد أن فيها أغنياء وفقراء، وأن زكاة أغنيائهم تسد حاجة فقرائهم في الغالب، فلو رَدُّوا صدقاتهم عليهم لكانت صدقة وصلة، ولأغنوهم عن الحاجة إلى غيرهم، ولكان كل قريب وجار كفيلا بقريبه وجاره.
والعجيب أنه كلما ازدهر الاقتصاد، وتحركت أسواق المال والأعمال، وكثرت مصادر الدخل، واكتشفت الدول منابع أخرى للثروة؛ ازداد الفقر في الناس، وانضم أناس جدد إلى قوائم الفقراء، مع أنه في الحسابات البشرية يجب أن يكون الحال بعكس ذلك، ولكن السنن الربانية، والنواميس الكونية لا تختل ولا تخطئ؛ فإن تلوث الأموال بالكسب الخبيث نزع البركة منها، وجعل عاقبتها إلى محق وقلة. وإن التقاعس عن إخراج زكاتها أوقف نماءها وزيادتها، وزاد من محقها وقلتها وإن بدا للناس في الظاهر أنها تنمو وتزداد، وقد أخبرنا الله تعالى عن ذلك في قوله سبحانه {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ الله وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} [الرُّوم:39] فتضعيف المال وبركته إنما تكون بتطهيره مما حرم الله تعالى، وتزكيته بالزكاة الواجبة، والصدقة المندوبة، وما نقصت صدقة من مال بل تزده بل تزده.(/7)
والخلل في أداء الزكاة وقع مركبا من جهتين، وهذا أدى إلى ضعف وظيفتها التي شرعت الزكاة من أجلها، فلا أغنت الفقراء رغم كثرة الأغنياء، ولا رفعت الضائقات الاقتصادية عن الناس:
أما الجهة الأولى: فكثير من مُلاَّك الأموال لا يُخرجون زكاة أموالهم، ويتحايلون لإسقاطها بشتى الطرق والوسائل، فما نفعت أموالهم مجتمعاتهم، ولا سدَّت حاجات فقرائهم.
وأما الجهة الثانية: فإن من أخرجوا صدقاتهم لم يضعوها في أيدي من يستحقونها، بل جاملوا من يعرفون بها، أو دفعوها إلى أقرب سائل تخلصا منها، فانبرى لذلك تجار يتاجرون بالزكاة، ويتلمسونها عند الأغنياء والكبراء، وهم ليسوا من أهل الاستحقاق.
وبعض من وكِّلوا بالزكاة من قبل الأغنياء والكبراء رأوا أنها باب من أبواب الشرف والعز والجاه فساروا فيها سيرة ذوي الجاه، وطلبوا بحق الله تعالى شرفا وجاها لم يحصلوه بأنفسهم، فأحبوا أن يطأ الناس أعقابهم، وأن يزدحموا على أبوابهم؛ لتحصيل ما يحصلونه منهم من زكاة هم وكلاء فيها، وسيسألهم الله تعالى عنها، فازدحم على أبوابهم من اتخذوا من جمع الصدقات حرفة وتجارة، وعفَّ عنهم أهل العفاف والحياء الذي لا يسألون الناس إلحافا.
وواجب على من آتاه الله تعالى مالا، وعلى من كان وكيلا في الزكاة أن يبحثوا هم عن المحتاجين بأنفسهم، ولا ينتظرون أن يأتيهم من اتخذوا من السؤال حرفة وتجارة.
ومن كان عاجزا عن ذلك فليدفع زكاته إلى ثقة أمين يضعها حيث أمر الله تعالى، ولا يبتغي بها شرفا ولا جاها. ومن عجز عن تلمس المحتاجين المتعففين فلا يجعل من نفسه وكيلا على زكاة لا يقدر على إيصالها إلى من يستحقها، ويدفعها إلى غني عنها، إما مجاملة له، أو كسلا في البحث عن مدى حاجته واستحقاقه لها.
وصلوا وسلموا....(/8)
العنوان: الزكاة وعلاج الفقر في الإسلام
رقم المقالة: 1976
صاحب المقالة: د. عبدالهادي علي النجار
-----------------------------------------
الزكاة وعلاج الفقر في الإسلام
• مقتضيات المنهج الإسلامي
• مشكلة الفقر في الإسلام
• هدف الإسلام من محاربة الفقر
• مفهوم الفقر في الإسلام
• أبعاد مفهوم حد الكفاف والكفاية
• ضوابط عدالة التوزيع في الإسلام
• دور الزكاة في علاج الفقر وتحقيق التكافل الاجتماعي
• • • • •
سبق أن اشرنا إلى التوزيع الوظيفيِّ والتوزيعِ الشخصيِّ في إطار توزيع الدَّخْل في الإسلام, ووَقَفْنا على أن التوزيع الشخصيَّ يُعنَى بدراسة أنصبة أفرادِ وفئاتِ المجتمَع المختلِفة منَ الدَّخْل القوميِّ, والعوامل التي تؤدي إلى تفاوُت الأنصبة بين هذه الدُّخُول, وأسلوب إعادة توزيعها لتقريب البُعد الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ بين الأفراد, والتخفيف من حِدَّةِ الفقر الذي يعيشه بعضهم.
كما أشَرْنا إلى المبادئ العامة التي تحكُم هذا النَّوْعَ منَ التوزيع في الإسلام ، وأرجأنا الحديث عن أسلوب إعادة توزيع الدَّخْل في الإسلام؛ كعلاج لهذا التفاوُت من خلال الزكاة إلى هذا الفصل.
والواقع أن الإسلام قد زَوَّدَ الثروة في المجتمع الإسلاميِّ بأُسُسِ تحقيقِ العدالة؛ حرصًا على التكافُل الاجتماعيِّ, وذلك لكي تبقى الحياةُ الاقتصاديَّةُ والاجتماعيَّةُ قادرةً على الاحتفاظ بقوة دَفْعِها؛ ومِن هنا أعطى الإسلام للدولة وسائلَ عديدةً؛ لتحقيق توزيعٍ أَعْدَلَ للدَّخْل والثروة, وتنقسم هذه الوسائل إلى:
أ- وسائل ضِمْنِيَّة؛ أي: يَتَضَمَّنْها النظامُ الإسلاميُّ؛ ومن أبرز هذه الوسائل: الزكاة, نظام المِيراث, الإنفاق بأنواعه، الكَفَّارات, والأوقاف.
ب- وسائل تخضع للقرار السياسيِّ، وتُقَدَّرُ حَسَبَ حاجة المجتمع وتشمل: فَرْضَ الضرائب، وتطبيقَ نظامِ الضَّمانِ الاجتماعيِّ، وتحديد الملكيَّة الزراعيَّة والعقاريَّة، وغيرها.(/1)
وتَجْدُرُ الإشارةُ إلى في هذا الخصوص إلى أن الإسلام جاء بمنهجٍ كامل للحياة, فهو يهتم بالجانب الماديِّ كما يهتم بالجانب الرُّوحيِّ؛ بل إن العقيدة الصالحة - كما رأينا من قبلُ - لا تنمو وتزدهر إلاَّ مع حياة اقتصادية طيبة, ومن هنا فإن الغِنَى الماديُّ دافع للسُّمُوِّ الرُّوحيِّ؛ حيث يقترن الحافز العباديُّ بالحافز الاقتصاديُّ, وفى هذا يقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[1].
كما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أحيا أرضًا ميتة, فله منها أجر))؛ أي أجر أعمال الطاعة، بخلاف الأجر الاقتصاديِّ الذي هو ثمرة إحياء هذه الأرض.
مقتضيات المنهج الإسلامي
ومِن مُقتضيات المنهج الإسلاميِّ للحياة أنه يقوم على العدل والمحبة والتعاوُن, والعدل رُكْنٌ من أركان المجتمع الأساسية, وهو ذو تأثير كبير على الأركان الأخرى.
والعدل في جميع مجالات الحياة فهو امتداد للعدل الكَوْنِيِّ, مما يتعين معه أن يكون الإنسان عادلاً في سُلوكِهِ, منسجِمًا مع الكون, وإلاَّ كان غريبًا وشاذًّا.
وفى هذا يقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[2].
مشكلة الفقر في الإسلام:
عَرَضَ الإسلام لمشكلة الفقر قبل أن تَتَطَوَّر هذه المشكلة؛ لتصبح الشُّغْلَ الشاغلَ للدُّوَلِ المتخلفة عمومًا, ومن هنا اعتبر الإسلام المالَ زينةَ الحياة الدنيا؛ فقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}[3].(/2)
هذا وينظر الإسلام للفقر على أنه خطر على العقيدة, وخطر على الأخلاق، وخطر على سلامة التفكير, وخطر على الأسرة، وعلى المجتمع[4]، وفَضْلاً عن ذلك فإنه يُعتَبَر بلاءً يُستعاذُ بالله من شَرِّهِ؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ: ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار, ومن عذاب النار, وأعوذ بك من فتنة الغنى, وأعوذ بك من فتنة الفقر))؛ رواه البخاري.
وقد قَرَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الفقر في تعوُّذِهِ بالكفر، وهو شرُّ ما يُستعاذُ منه، دَلالةً على خَطَرِهِ؛ فعن أبي بكر مرفوعًا: "اللهمَّ إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ من عذاب القبر، لا إله إلا أنت"؛ رواه أبو داود.
فالفقر قد يَجُرُّ إلى الكفر، لأنه قد يَحْمِلُ على حَسَدِ الأغنياء، والحسد يأكل الحسنات، وقد يدفع إلى التَّذَلُّل لهم وعدم الرضا بالقضاء، والسخط على كل شيء، ومن هنا فإن الفقر إن لم يكن كفرًا، فهو جارٌّ إليه.
هدف الإسلام من محاربة الفقر:
يستهدف الإسلام من محاربة الفقر, تحرير الإنسان من براثنه, بحيث يتهيأ له مستوى من المعيشة يليق بكرامة الإنسان، وهو الذي كرمه الله.
وإذا ضمن الإنسان الحياة الطيبة, وشعر بنعمة الله، أقبل على عبادة الله في خشوع وإحسان, ومن ثم لا ينشغل بطلب الرغيف, ولا يبتعد عن معرفة الله وحسن الصلة به.
ومن هنا فرض الله الزكاة, وجعلها ركنًا من أركان الإسلام, تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء, وبهذا يستطيع الفقير أن يشارك في الحياة، ويقوم بواجبه في طاعة الله, كعضو حي في المجتمع وليس كمًّا مهملاً .
إن شعور الفقير بذلك يعتبر في حد ذاته ثروة كبيرة، وموردًا بشريًّا يساهم في تقدم مجتمعه, وأمته الإسلامية.(/3)
وإذا كان القرآن الكريم قد نص - على سبيل الحصر - على مصارف الزكاة, في قوله – تعالى -: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[5]، فإنَّ هذه الآية الكريمة قد حصرت مصارف الزكاة, ولكنها لم تحدد مواصفات وشروط كل مصرف, وتركت ذلك للفقه ليواكب استخدام حصيلة الزكاة وتطور المجتمع وظروفه.
وفى تخصيص جُزء من حصيلة الزكاة للفقراء والمساكين, استهدفت الآية أن تجعل من الزكاة أداة لتحقيق مجتمع إسلامي متضامن ومتعاون بين الأغنياء و الفقراء، ولعل ذلك يؤدي بنا إلى ضرورة تحديد مفهوم الفقر في الإسلام.
مفهوم الفقر في الإسلام:
1-الفقر النِّسْبِيّ:
للفقر مفهوم نسبي, فالشيء الأقل يعدُّ فقيرًا بالنسبة للأكثر، وفي هذا يعكس الفقر التفاوت في الدخول، والتفاوت في حد ذاته يعترف الإسلام به كسنة كونية, إذ يرجع لاختلاف قدرات الأفراد, ومقدار ما يبذلونه من جهد، وعمل صالح.
وفى هذا يقول الله – تعالى -: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[6].
ويقول كذلك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ}[7].
وعلى هذا الأساس يعترف الإسلام بالتفاوت بين الأفراد في أرزاقهم، وفى نمط حياتهم، أو معيشتهم، وذلك نتيجة طبيعية لاختلافهم في مقدار ما يبذلون من جهد وعمل.(/4)
ومما يجدر ذكره في ذلك أن الهدف من هذا التفاوت هو التسخير والابتلاء. والتسخير هنا تسخير عمل ونظام وليس تسخير قهر وإذلال على حد تعبير الماوردي[8]، فلكل فرد مواهب وقدرات تختلف في كمها وكيفها عما لدى الأفراد الآخرين, وكل إنسان مميز في صفة ما، ويمتاز عليه آخر في صفة أخرى، ومن ثم فإن كل فرد مسخر للآخر في الصفة التي امتاز بها، فالعالم يعود على الجاهل بعلمه، والغني يعود على الفقير بماله، والفقير يعود على الغني بجهده وعرقه.
وعلى ذلك، فإن لفظ سخريًّا لا يعني العمل المسخر الذي لا أجر له؛ لأن الإسلام لا يعترف بالسخرة، وإنما يعترف بالتعاون على أساس أن الجميع يحتاج بعضهم إلى بعض.
وفى هذا يقول الله – تعالى -: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[9].
ومن ذلك نصل إلى أن الإسلام يقضي على إجحاف النظام الطبقي، وعلى التناقض الذي يمكن أن يتحقق بين الفئات والطبقات الاجتماعية المختلفة، التي تسود المجتمع، على أساس الاعتراف بالتفاوت من أجل التعاون، ومحاربة التناقضات التي يولدها النظام الطبقي.
2-الفقر الطبقي:
وكما أنَّ للفقر مفهومًا نسبيًّا، فإن له مفهومًا مطلقًا، بمعنى عدم تمكن الفرد من إشباع حاجاته، ويعني الفقر في هذا الشأن عدم إمكان الفرد تحقيق حد الكفاية.
وهنا نستطيع التساؤل عن نوعية الحاجات غير المشبعة، هل هي الحاجات الضرورية والأساسية التي تحفظ للإنسان مجرد حياته في الدنيا، وهو ما يطلق عليه: حد الكفاف؟ أم هي الحاجات المعتادة التي تضمن للإنسان العيش المناسب في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة، وهو ما يطلق عليه: حد الكفاف؟
أبعاد مفهوم حد الكفاف والكفاية:(/5)
لا تقتصر حاجات الإنسان في الإسلام على الطعام والشراب واللباس والمسكن، وهى التي تمثل الحاجات الأساسية BASIC NEEDS أو حد الكفاف؛ بل تتعداها إلى ما تستقيم به حياته، ويصلح به أمره، ويجعله يعيش في مستوى المعيشة السائد؛ أي حد الكفاية، فلكل فرد في المجتمع الإسلامي حاجات ضرورية تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا لم تسعفه ظروفه الخاصة مثل المرض أو الشيخوخة أو التعطُّل عن العمل عن تحقيق المستوى المعيشي المناسب، فإن بيت مال المسلمين؛ أي خزانة الدولة، تتكفل بذلك أيًّا كانت جنسية، أو ديانة هذا الفرد.
وفى ذلك يقول الله – تعالى -:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، دون تحديد لديانة أو جنسية هؤلاء الفقراء أو المساكين؛ ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان البخاري ومسلم: ((من ترك دينًا أو ضياعًا (أي أولادًا ضائعين لا مال لهم) فإليَّ وعليَّ))؛ أي أن من ترك ذرية ضعيفة فليأتني بصفتي الدولة، فأنا المسؤول عنه والكفيل به.
وتجدر الإشارة إلى أن حد الكفاية يختلف باختلاف ظروف المجتمعات من ناحية الزمان والمكان، بل إنه يختلف في ذات المجتمع من فترة إلى أخرى. ويعتبر حد الكفاية بمثابة الحد الأدنى الذي تكفله الدولة للمواطن، ومن ثم فهو بمنزلة الضمان الاجتماعي لمن عجز عن أن يوفر لنفسه - بسبب خارج عن إرادته - المستوى المعيشي المناسب.(/6)
ولا يقتصر القول على وجوب قيام الدولة بتوفير حد الكفاية؛ بل إن ذلك يعتبر في نظر الإسلام من أسس الدين، وفى هذا يقول الله – تعالى -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ}[10].
كما يقول – تعالى -: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[11].
ومن محصلة ذلك يتضح لنا أن توفير حد الكفاية مطلب ضروري، وتعتبر الدولة مسؤولة عن ذلك سواء انفردت هي بعبء التمويل، أو اشتركت مع القادرين من أبناء المجتمع في ذلك.
وقد لخص عمر ابن الخطاب ذلك بقوله: "ما من أحد إلاَّ وله في هذا المال حق، الرجل وحاجته، الرجل وبلاؤه (أي عمله)"؛ ثم في قوله: "إني حريص على ألا أدع حاجة إلاَّ سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا آسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف"[12].
كيف ينشأ الفقر؟(/7)
ينظر الإسلام للموارد الاقتصادية نظرة شاملة في مواجهة البشر ككل، وفي هذا تكون الموارد كافية لإشباع حاجة الإنسان، والدليل على ذلك قوله – تعالى -: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[13].
وعلى هذا الأساس فإن أي قصور في استغلال الموارد يعتبر سببًا رئيسيًّا في خلق مشكلة الفقر، كما أن سوء توزيع الدخل وعدم الإنفاق في سبيل الله، يعتبر سببًا ثانيًا في خلق تلك المشكلة. وقد عبر الله - سبحانه وتعالى - عن ذلك بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[14]. ومؤدى ذلك أن سلوك الإنسان ذاته، وفساد نظامه الاقتصادي، سواء من ناحية ضعف الإنتاج أو سوء التوزيع أو هما معًا، هو السبب الذي يكمن خلف مشكلة الفقر.
وقد عالج الإسلام هذا الموقف من ناحيتينِ:(/8)
الأولى: من ناحية الإنتاج: فدعا إلى التنمية الاقتصادية، واعتبر تعمير الأرض من أفضل ضروب العبادة، بل إن الإنتاج النافع واجب لا يكمل الواجب الديني إلا به، بشرط أن يكون هذا الناتج منسجمًا مع دائرة الحلال، وهو ما يسد منافذ الشهوات والسلوكيات الضارة التي تستنفد جانبًا من الموارد. وتعتبر التنمية الاقتصادية في هذا فرضًا على الفرد والدولة، ولهذا يأمرنا الله – تعالى - بالمشي في مناكب الأرض والانتشار فيها، أي ممارسة كافة العمليات الإنتاجية والحرفية، كما في قوله – تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[15].
والثانية: من ناحية التوزيع: وهنا يكفل الإسلام عن طريق الزكاة حد الكفاية، أو حد الغنى لكل فرد، بمعنى أنه إذا عجز فرد عن أن يوفر لنفسه المستوى المناسب للمعيشة لسبب خارج عن إرادته، فإن نفقته تكون واجبة في بيت مال المسلمين؛ أي توجد في خزانة الدولة، وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك.
ضوابط عدالة التوزيع في الإسلام:
إذا عكس التفاوت فجوة متسعة بين الأقل دخلاً والأكثر دخلاً، فإن الإسلام لا يعترف بهذا النمط من توزيع الدخل، ولهذا يسلك منهجًا يحقق العدالة في هذا التوزيع:
أولا- بالنسبة لحد الكفاف:
وهنا تتجسد عدالة التوزيع في الإسلام في المساواة المطلقة بين الأفراد، ويعني ذلك أنه إذا كانت إمكانيات المجتمع تعطي فقط الحاجات الأساسية للأفراد، فلا يجوز أن يتفاوت فرد عن فرد في الاستفادة من هذه الإمكانيات. وفي هذا يقول الله – تعالى -: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}[16].(/9)
ويوضح ابن حزم الحاجات الأساسية هذه، والتي يجب أن تتوفر لكل إنسان في ظل الإسلام بقوله: "وفرض على الأغنياء في كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات ولا في سائر المسلمين بهم فيقام لهم بما يلزمهم من القوت الذي لا بد منه، ومن ملبس للصيف والشتاء مثل ذلك، ومن مسكن يكفيهم من الشمس والمطر وعيون المارة"[17].
وعلى هذا الأساس إذا كانت موارد المجتمع تعجز عن توفير حد الكفاية لكل فرد، بمعنى أن يكون هناك من لا يجد الاستهلاك الضروري، وهناك من يزيد استهلاكه عن الحاجات الأساسية فإن الإسلام لا يقر ذلك في كل الوجوه. وفي هذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع))[18].
ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد؛ بل إن الإسلام لا يعترف بالملكية الخاصة في مثل هذه الحالة استنادًا إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((إذا بات مؤمن جائعًا فلا مال لأحد))[19].
وإزاء هذا الموقف لا يقف الإسلام سلبيًّا، وإنما يدعو إلى تعبئة الموارد، وتوزيعها بالتساوي بين الأفراد، فقد قال أبو سعيد الخدري: كنا في سفر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان معه فضل ظهر "دابة" فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له))؛ رواه مسلم. وفي هذا يقول أبو ذر الغفاري في ذلك أيضًا: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه"[20].
ونتيجة لذلك فإنه إذا شاع الغنى بمستوياته العديدة، في الوقت الذي نجد فيه - ولو فردًا واحدًا في المجتمع - محرومًا من إشباع حاجاته الأساسية، فإن هذا النمط من توزيع الدخول مدان من وجهة نظر الإسلام وغير معترف به من جانبه.
ثانيا-بالنسبة لحد الكفاية:
إذا توافر حد الكفاية لكل فرد، ثم وجدت إمكانية فوق ذلك بحيث تتجاوز الدخول هذا الحد، فإن عدالة التوزيع تقتضي أن يكون هناك تفاوت بين الأفراد.(/10)
وفي ذلك يقول الله – تعالى -: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[21].
فالمفضل هو الذي عليه أن يعود على الأقل امتثالاً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس)).
ويقول جل شأنه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[22]، ونلاحظ في هذا أن الله فاوَتَ بين الأفراد في أرزاقهم؛ أي في الدخول التي يحصلون عليها.
ويتفق الإسلام هنا مع منطق الأشياء، فالإنسان يختلف في ملكاته ومواهبه من فرد إلى آخر، ومن العدل أن يتحقق الاختلاف فيما يعود على كل منهم جزاء أعمالهم.
وإذا كان الهدف من هذا التفاوت هو التعاون على نحو ما رأينا فإن هذا التفاوت لا يكون مطلقًا، وإنما مقيدًا بحدود هذا الهدف.
ولا يعني حد الكفاية الحاجات الضرورية أو الأساسية، وإلا أدى ذلك كما جاء على لسان الإمام الغزالي: "إلى سقوط الحج والزكاة والكفارات المالية، وكل عبادة نيطت بالغنى من الناس، إذا أصبح الناس لا يملكون إلاَّ قدر حاجاتهم، وهو غاية القبح"[23].
و السؤال الذي يمكن أن يثور هنا هو: هل هناك حد أعلى للغنى يتعين ألا يتجاوزه الفرد؟
الواقع أنه ليس هناك حد للغنى، أو حجر على الإنسان في مقدار ممتلكاته، وليس ذلك مدانًا؛ بل التقصير فيه هو محل الإدانة.
ولا يعني ذلك أن الغنى متلازم مع الترف، وإنما ينشأ الترف من نمط الإنفاق بغض النظر عما يملك الإنسان من أموال، وإلا كان عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف من كبار المترفين لعظم ما يملكون.(/11)
وعليه فإن ما يرد على الغنى من قيود هو ضرورة توفير حد الكفاية لكل فرد، والتوسط في الإنفاق حتى بعد استيفاء هذا الحد، أي دون ترف أو تقتير وذلك جاء في قوله – تعالى -: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[24].
ونتيجة ذلك فإن على الفرد وهو يشق طريق الغنى أن يأخذ في اعتباره النهوض بالآخرين، والعمل على رفع دخولهم كلما ازداد دخله هو.
دور الزكاة في علاج الفقر وتحقيق التكافل الاجتماعي:
تلك هي مشكلة الفقر الذي يحاربه الإسلام، وهي مشكلة مردها الإنسان ذاته سواء بكفرانه بالنعمة من حيث إهمال استثمار الطبيعة، وعدم استغلال الموارد التي تفضل الله بها على عباده، أو بظلمه من ناحية سوء توزيع الدخول والثروات، وقد أشرنا إلى موقف الإسلام من ذلك سواء بما وضعه للإنتاج من أحكام، وبما قرره للتوزيع من تعاليم، فالأفراد يتساوون في حدي الكفاف والكفاية، ويتفاوتون بعد حد الكفاية، تفاوتًا يحقق غاية التعاون فيما بينهم لحاجة كل منهم للآخر.
ومعنى ذلك أن هذا التفاوت وإن كان مطلوبًا، إلا أنه ليس مطلقًا؛ بل منضبطًا بالقدر الذي لا يسمح بالسفه أو الترف، وفي هذا فإن التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع مطلوب كذلك إذا اختل هذا التوازن، وتكون مسؤولية ذلك من واجب الفرد والدولة معًا. ولهذا يقول الله - تعالى -: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[25].
وجدير بالذكر أن نشير إلى أن علاج الفقر في الإسلام لا ينصرف فقط إلى الزكاة؛ بل يرجع أساسًا إلى العمل، ونفقات الموسرين من الأقارب والصدقات المستحبة وغيرها.(/12)
ومع ذلك فإن أموال الزكاة توجه في معظمها لأغراض التوازن الاجتماعي؛ بهدف رفع حاجة الفئات المحتاجة، ولهذا كانت الزكاة من مسؤولية الدولة في جبايتها وإنفاقها، وفي ذلك يتفق معظم رجال الفكر الإسلامي[26].
فضمان حد الكفاية لكل فقير أو مسكين، وإنفاق الزكاة في مصارفها الشرعية, هو من مهام الدولة التي لا تستند إلى جهود فردية تعجز عن القيام بها.
إن علاج الفقر من جانب الزكاة يسهم في علاج الجهل والمرض. فمشكلة الجهل كثيرًا ما يكون سببها الفقر، حيث لا يستطيع الفقير أن يتعلم ولا أن يعلم أولاده، لهذا كان هذا الهدف من الحاجات الأساسية التي يجب أن تتوفر للفقير من حصيلة الزكاة.
وترتبط مشكلة المرض كذلك بمشكلة الفقر على أساس أنه إذا ارتفع مستوى المعيشة، وتوافر لدى جمهور الأفراد حسن التغذية، والمسكن الصحي، والقدرة على العلاج فإن المرض ينحصر مداه في أضيق نطاق.
ونتيجة لذلك، فإن القضاء على الفقر يقضي على الجهل والمرض، وفضلاً عن هذا فإن مشكلة عزوف كثير من الشباب عن الزواج في عصرنا الحاضر؛ بسبب عجزهم عن تحمل أعبائه المالية سواء من ناحية الصداق أو التأثيث... إلخ.
هذه المشكلة تجد حلها كذلك في حصيلة الزكاة، ففيها متسع لها من خلال تقديم إعانة لمن يريد أن يحفظ دينه، فالزواج من تمام حد الكفاية الذي سلفت الإشارة إليه، كما أن تلقي العلم ونفقات الكتب تعتبر من تمام هذا الحد.
لكن لماذا الحق المعلوم للسائل والمحروم؟
من المعلوم أن الإسلام أقر الملكية الخاصة، وبنى كثيرًا من أحكامه عليها، وفي إقرار الملكية الخاصة يقول الله – تعالى -: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[27]، ويقول: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[28].(/13)
ومع ذلك فإن هذه الملكية ليست مطلقة أو أصلية يتصرف فيها المالك على هواه، وإنما هي ملكية ظاهرية؛ لأنها خاضعة لشروط المالك الأصلي، وهو الله - سبحانه وتعالى - أما ما يفيد الملكية الأصلية التي لله فهو قوله – تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}[29].
وقوله : {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ}[30]، وقد اقتضت حكمة الله أن يستحلف الإنسان في الأرض، أي أن يكون خليفة له في التصرف في هذه الملكية، حثًّا على الإنفاق في سبيل الله، واستجابة لقوله – تعالى -: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[31].
وإذا كان المال مملوكًا ملكية مطلقة لله تعالى، فإنه قد أوجده لجميع عباده القادر منهم والعاجز على حد سواء، ولهذا يقول الله – تعالى -: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[32].
ويعني ذلك أن القادرين من عباد الله إنما يعملون في أموالهم, وأموال العاجزين منهم عن العم، ولهذا فإنَّ من حق هؤلاء العجزة أن يحصلوا على جزء مما أنتجه القادرون؛ لأنهم يشتركون معهم فيما يعملون فيه، ويفسر ذلك قول الحق - تبارك وتعالى - في الآية الأخيرة أن للسائلينَ والمحرومين حقًّا في أموال القادرين، وليس تفضلاً أو مِنَّة منهم عليهم.
إن الدافع إلى الزكاة هو أمر الله[33]، فهو ليس شيئًا عارضًا، أو نتيجة ثورة للفقراء مثلاً؛ كما هو في الفرائض الوضعية. ولم يكتفِ القرآن الكريم بالأمر بالزكاة وإطعام المساكين، بل أوجب الحضّ على هذا الإطعام؛ كما في قوله - تعالى - في شأن صاحب المال، والسلطان المستحق لعذاب الله: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[34].(/14)
ولأن الزكاة أمر من الله، فهي حق من حقوقه عز وجل، ومن هنا فهي ركن من أركان الإسلام، وبالتالي تصبح العلاقة الحقيقية بين الله وبين دافع الزكاة، وليست بين الغني والفقير.
وفي هذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في كف الفقير))[35].
وعن السيدة عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فيتلقاها الرحمن - تبارك وتعالى - فيربيها كما يربي أحدكم فلوه، أو وصيفه، أو فصيلة))[36].
إنَّ الزكاة ليست مجرد إجراء مسكن ووقتي بالنسبة للفقير، وإنما هي معونة دورية منتظمة، فإذا هل العام الجديد، أو حلَّ الحول، حل الخير لهؤلاء الفقراء والمساكين، وكلما جاء الحصاد وافاهم نصيبهم من زكاة الزروع والثمار.
ومن أدب الإسلام أنه لا يكلف الفقير أن يأتي للغني ليتسلم منه نصيبه من الزكاة، وإنما يتعين أن يصل هذا الحق إلى الفقير في منزله، إن الأصل أن الزكاة توزع حيث جمعت، وما يبقى بعد ذلك يرسل إلى بيت المال الرئيسي؛ لينفق منه على المراكز القريبة من مكان تحصيلها، والتي تحتاج إلى معونة، ولهذا فإن الطابع المحلي أو الإقليمي للزكاة هو الأصل، وهو ما يجب أن يكون.
وإذا كان التكافل الاجتماعي يعني أن للفرد في المجتمع حقوقًا يجب معها على القوامين على هذا المجتمع أن يعطوا كل ذي حق حقه، وأن يدفعوا الضرر عن الضعفاء، وأن يسدوا خلل العاجزين، وإلا تآكلت لبنات المجتمع وانهار بنيانه. إذا كان هذا هو مفهوم التكافُل الاجتماعي، فإن الزكاة تعتبر من هذه الناحية أول مؤسسة للتكافل الاجتماعي في التاريخ.(/15)
ولعل أبلغ تعبير عن ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا))، وقوله - عليه السلام -: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم؛ كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
الزكاة والضريبة[37]:
الزكاة أمر من الله تعالى، فهي الركن الثالث من أركان الإسلام، ومن ثم فهي عبادة خاصة بالمسلمين تتمثل في صورة تصرف مالي، وتتسم بالدوام والثبات والصواب حيث لا تتبدل أحكام الله بتبدل الظروف زمانًا ومكانًا، وهي لهذا لا تستخدم لأهداف موقوتة، وإنما تتحقق بها أهداف ثابتة روحية ومادية.
أما الضريبة وهي مبلغ نقدي تجبيه الدولة جبرًا من الأفراد الطبيعيين أو المعنويين دون مقابل خاص بهم، فنظام مالي تصيب فيه الدولة وتخطيء، وكثيرًا ما تخطيء, لأنه نظام من عمل البشر تتغير أحكامه بتغير الظروف زمانًا ومكانًا، وتتحقق به أصلاً أهداف مادية بحتة.
إن الحكم في كل ما يتصل بالزكاة يرجع إلى رب العباد بحكمته، بينما يرجع البشر الحكم في كل ما يتصل بالضريبة إلى مصلحتهم، ويأتي هذا التقدير عن فكرهم المتطور بحيث إن ما يرونه اليوم عدلاً قد يحكمون عليه غدًا بالجور والظلم.
ومن هنا فإن الزكاة تتصل بالعقيدة سواء عرف حكم الله فيها، أو لم يعرف، وتلك هي الطاعة بعد الإيمان، وهو أمر يختلف كل الاختلاف عما في علم الضريبة.(/16)
وإذا كان المولى - سبحانه وتعالى - هو المشرع للزكاة، فإننا مسؤولون عن تنظيم التطبيق الحسن بعد فهمنا للتشريع الفهم الحسن، وهو الفهم الذي يدعونا لاصطفاء ما يصلح بنيان الزكاة من بين الأحكام التي ذهب إليها الأئمة على اختلاف ظاهري فيما بينهم، وقد يتم الاصطفاء بصورة قد يرى معها مجتهدو الغد اصطفاء مغايرًا وفق مصالحهم، ولا بأس من ذلك، فمرونة الأحكام الشرعية والاختلاف الظاهري بين الأئمة، إنما هو دليل على عمومية الأحكام الأصلية للدين الرحيم، فجميعهم قد هدي إلى الصراط المستقيم، وما نهلوا إلا من نفس المنهل الواحد.
والسؤال الذي يمكن أن يطرح الآن هو: هل تغني الزكاة عن الضرائب؟
الواقع أن الفرائض الإسلامية لا تقتصر على الزكاة، بل تتعداها إلى الجزية والخراج والعشور، ويعني ذلك أن الزكاة ليست بمفردها كمورد مالي، وإنما يمكن أن يضاف إليها موارد أخرى إذا كانت هناك حاجة إلى ذلك.(/17)
ولعل آية البر تؤيد هذا النظر. فالإنفاق في سبيل الله؛ أي في سبيل صالح المجتمع، يفيد أن ثمة حقًّا في الأموال بخلاف الزكاة، بدليل الجمع في تلك الآية بين الإنفاق في سبيل الله، والزكاة، وذلك في قوله – تعالى -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177]، وعلى هذا الأساس فإنه يجوز فرض الضرائب إلى جانب الزكاة، إذا رأى أن صالح المجتمع عسكريًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا يتطلب ذلك، وكل ذلك مشروط بألا يؤخذ المال إلا بالحق، وذلك كما قال عمر بن الخطاب في خطبة له، إنه لا يجد "هذا المال (المال العام) يصلحه إلا خلال ثلاث: أن يؤخذ بالحق، ويعطى في الحق، ويمنع من الباطل"[38].
ومفاد ذلك أنه إذا كان للزكاة أن تغني عن الضرائب، فإنّ الضرائب لا تغني عن الزكاة، لأن الأخيرة فريضة تعبدية أمر الله بها، ولا يكتمل الدين إلا بتطبيقها، ولأنه قد حددت مصارفها على سبيل الحصر، فإنه يمكن فرض ضرائب وضعية إلى جانبها، إشباعًا لحاجات اجتماعية أخرى لم تتضمنها مصارف الزكاة.
تلك هي بعض الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في الزكاة، وما أكثر الأسرار التي تكمن في فقه الزكاة، يتذوقها المؤمن الصالح فتنير له الطريق.
إن هذه الإشارة المتواضعة لبعض الجوانب للزكاة، والتي زادها تواضعًا ضيق المجال، وضيق المكتبات الشرعية، تشير إلى أن ما توصل له العلم الحديث، ونحن نلهث خلفه، لا يعدو أن يكون إحاطة محدودة لما يمكن أن يجود به فقه الزكاة.(/18)
ولا يقتصر الأمر على الزكاة، بل ينسحب إلى غيرها من المجالات، الأمر الذي يقتضي إثراء البحث فيها جميعًا، بدءًا برجال الفقه الإسلامي، وانتهاء بأصحاب التخصصات الاقتصادية والمالية ممن لديهم ثقافة إسلامية مناسبة.
ولعل ذلك يساعد على التفهم الصحيح للإسلام، وفتح المنافذ أمام أعداء الإسلام للوقوف على صيغة هذا الدين الحنيف.
ونشير بعد ذلك إلى المنظور الإسلامي للتخطيط الاقتصادي، وذلك في الفصل التاسع من هذه الدراسة.
---
[1] سورة القصص الآية 77.
[2] سورة الرحمن الآية 7 – 9.
[3] سورة الكهف، الآية 46.
[4] انظر في تفصيل ذلك: دكتور يوسف القرضاوي، "دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية"؛ الاقتصاد الإسلامي، بحوث مختارة من المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبدالعزيز. المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي 1400 – 1980، صفحة 234 وما بعدها.
[5] سورة التوبة: الآية 60.
[6] سورة الزخرف: الآية 32.
[7] سورة الأنعام: الآية 165.
[8] انظر الماوردي: "أدب الدنيا والدين"، المطبعة الأميرية 1917 – 102.
[9] سورة الحجرات، الآية 13.
[10] سورة البقرة الآية 177.
[11] سورة الماعون الآية 1 – 3.
[12] انظر: ابن الجوزي: "تاريخ عمر بن الخطاب"، المطبعة التجارية الكبرى، بدون تاريخ، صفحة 101 وما بعدها، وقد اقتبسنا ذلك من مقال الدكتور/ محمد شوقي الفنجري عن نظرية التوزيع في الإسلام، مصر المعاصرة، المرجع السابق، صفحة 88 – 89.
[13] سورة إبراهيم، الآية 32 – 34.
[14] سورة يس: الآية 47.
[15] سورة الملك: الآية 15.
[16] سورة طه، الآية 118، 119.
[17] انظر: ابن حزم (علي بن أحمد) "المحلى"، ج6 صفحة 156.
[18] انظر: السيوطي (جلال الدين بن عبدالرحمن) "الجامع الصغير"، المطبعة اليمنية ج2، صفحة 120.
[19] انظر: دكتور/ محمد شوقي الفنجري، "المدخل إلى الاقتصاد الإسلامي"، دار النهضة العربية 1972، صفحة 39.(/19)
[20] انظر: عبدالحميد جودة السحار، "أبو ذر الغفاري"، مطبوعات مكتبة مصر، الطبعة الثانية.
[21] سورة النحل، الآية 71.
[22] سورة الزخرف: الآية 32.
[23] انظر: الإمام الغزالي، "إحياء علوم الدين"، مطبعة صبيح 1958 ص 2 صفحة 97.
[24] سورة الفرقان، الآية 67.
[25] سورة الإسراء: الآية 16.
[26] انظر: أبو عبيد (القاسم بن سلام) "الأموال"، مكتبة الكليات الأزهرية الطبعة الأولى، 1967.
[27] سورة التغابن الآية 15.
[28] سورة البقرة الآية 274.
[29] سورة طه، الآية 5, 6.
[30] سورة الأنعام، الآية 12.
[31] سورة النور الآية 33.
[32] سورة المعارج، الآية 24 – 25.
[33] من بين ستة آلاف آية في القرآن الكريم، اختصت اثنتان وثمانون منها بالزكاة، وذلك بخلاف أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[34] سورة الحاقة: الآية 33 – 34.
[35] انظر "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" للكاساني، المطبوعات العلمية 1327 ج 2 / 36.
[36] انظر: "مجمع الزوائد" ج3، صفحة 112.
[37] – انظر: في تفصيل ذلك البحث القيم للدكتور/ محمد سعيد عبدالسلام بعنوان: "دور الفكر المالي والمحاسبي في تطبيق الزكاة"، الاقتصاد الإسلامي، بحوث مختارة من المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، المرجع السابق، صفحة 330 وما بعدها.
[38] انظر: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، "كتاب الخراج"، المطبعة السلفية صفحة 117.(/20)
العنوان: الزهد في الدنيا
رقم المقالة: 398
صاحب المقالة: د. سعد بن عبدالله الحميد
-----------------------------------------
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلَّم تسليمًا، أما بعد أيها الناس:
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أن عبدالرحمن ابن عوف رضي الله عنه أُتي بطعام وكان صائماً، فقال: قُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني، فلم يوجد له ما يُكَفَّن فيه إلا بُردة، إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بُسِط لنا من الدنيا ما بُسِط – أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا - قد خشينا أن تكون حسناتنا عُجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وأخرج البخاري ومسلم عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، قتل يوم أحد وترك بردة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر. ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدِبُها.
عباد الله: تأملوا حالنا وما بسط علينا من الدنيا وفتح، كم من أصناف الطعام نأكل؟ وكم يعرض أمامنا من أنواع الفواكه التي تجلب من آخر بلاد الدنيا ومنها ما لا نعرفه؟ وكم من فاخر الثياب نلبس؟ وكم من المراكب الفخمة نركب؟ وكم من القصور المشيَّدة نسكن؟ وكم من الفرش الوثير نرقد عليها؟ وكم من المقاعد الناعمة والأرائك الوثيرة نجلس عليه ونتكئ؟ وكم من الأموال نرصد؟ ثم لننظر فيما فقدمنا للآخرة؟(/1)
إن ما بسط على هؤلاء الصحابة الذين سمعتم الحديث عنهم قليل جداً بالنسبة إلى ما بسط علينا، وما قدموه للآخرة من الأعمال الصالحة ليس عندنا منه إلا أقلَّ من القليل – إن كان عندنا منه شيء - ومع هذا خافوا هذا الخوف أن تكون حسناتهم عجلت لهم، فبكى بعضهم حتى ترك الطعام مع شدة حاجته إليه بعد الصيام، فجمعوا رضي الله عنهم بين إحسان العمل والخوف من الله ومحاسبة النفس، ونحن جمعنا بين الإساءة وعدم الخوف من الله، نأكل من نعم الله ونتمتع بها ونبارزه سبحانه بالمعاصي وكأننا لم نسمع قوله سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.(/2)
كم من الناس نراهم يتراكضون لطلب الدنيا مسرعين مخافة أن تفوتهم، ونراهم يتأخرون عن حضور المساجد لأداء الصلوات الخمس التي هي عمود الدين، ونراهم يجلسون في الشوارع والدكاكين الساعات الطويلة، وقد يقاسون شدة الحر لطلب الدنيا، بينما لا نراهم يصبرون على الجلوس دقائق معدودةً في المسجد لأداء الصلاة أو تلاوة القرآن، وكم نرى من شباب المسلمين من يتسابقون إلى ملاعب الكرة ويدفعون الأموال للحصول على تذاكر للدخول، ثم يحتشدون فيها ألوفاً مؤلّفة، وربما قضوا الساعات الطويلة واقفين على أقدامهم شاخصة أبصارهم ناصبة أبدانهم مبحوحة أصواتهم، يتابعون اللعب ولمن تكون الغلبة، يتحملون كل هذه المتاعب في سبيل اللهو والغفلة، وإذا دعوا إلى حضور الصلوات في المساجد بحي على الصلاة حي على الفلاح أعرضوا عن داعي الفلاح وكأن المؤذن يدعوهم إلى سجن أو عقوبة، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ، {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ *خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .(/3)
إن كثيراً من الناس أصبح يصبر على تحمل المشاقِّ في طلب الدنيا ولا يصبر على أدنى مشقة في طاعة الله، ونراهم يغضبون إذا انتُقص شيء من دنياهم ولا يغضبون إذا انتُقص شيء من دينهم، وكثير من الناس - لشدة حبه للدنيا – لا يقنع بما أباح الله له من المكاسب، فتجده يتعامل بالمعاملات المحرمة والمكاسب الخبيثة؛ من الربا والرشوة والغش في البيع والشراء، بل يفجر في خصومته، أو يقيم شهادة الزور ليستولي على مال غيره بغير حق، وهو يسمع قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا....}، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ....}، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثمناً قليلاً.....}!! لقد استولى حب الدنيا على القلوب فآثرتها على الآخرة، فبعضهم شغلته الدنيا عن الصلاة، وإذا صلى فقد لا يصليها مع الجماعة، أو قد يؤخرها عن وقتها، وحتى في أثناء صلاته تجد قلبه منصرفاً عن صلاته إلى الدنيا يفكر فيها ويعد أمواله ويتفقد حساباته ويتذكر ما نسي من معاملاته، وكثير من الناس حملهم حب الدنيا وإيثارها على الآخرة على البخل والشح بالنفقات الواجبة والمستحبة حتى بخل بالزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام.
عباد الله: حلال هذه الدنيا حساب، وحرامها عقاب، ومصيرها إلى الخراب، ولا يركن إليها إلا من فقد الرشد والصواب، فكم من ذهاب بلا إياب، وكم من حبيب قد فارق الأحباب، وترك الأهل والأصحاب، إنها رحلات متتابعة إلى الدار الآخرة لا تفتر، يذهب فيها أفراد وجماعات، وآباء وأمهات، وملوك ومماليك، وأغنياء وصعاليك، ومؤمنون وكفار، وأبرار وفجار كلهم سيودِّعون هذه الحياة، وينتقلون إلى الآخرة، ويُودَعون في قبور مظلمة ينتظرون البعث والنشور.(/4)
فيا عباد الله، كيف آثرنا هذه الحياة على ما عند الله؟ كيف شغلتنا أموالنا وأولادنا عن ذكر الله؟
أيها الإنسان، مهما عشت وجمعت فإنك ميت راحل، وما في يديك زائل، ولا يبقى لك إلا عملُك، إنك خرجت إلى الدنيا من بطن أمك ليس معك شيء، وستخرج منها إلى القبر ليس معك منها إلا ما عملت {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ماخوَّلناكم وراء ظهوركم}، إنك مررت بالدنيا في طريقك إلى الآخرة، وأتيحت لك الفرصة لتأخذ منها زاداً لسفرك، فأنت بمنزلة المسافر الذي هبط إلى السوق ليأخذ منه زاداً يبلغه في سفره ومسيره، فليس لك من هذه الدنيا إلا ما تزودت به للآخرة، {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.
جعلني الله وإياكم ممن إذا ذُكِّر تذكَّر، وإذا أذنب استغفر، وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.(/5)
العنوان: الزّواجُ المبَكِّر
رقم المقالة: 373
صاحب المقالة: عادل الهاشمي
-----------------------------------------
شبابنا يعاني معضلة الجنس في حياته الراهنة، هذا أمر لا مهرب من مجابهته ولا مفر، ويزداد تعقد هذه المعضلة يوماً بعد يوم، في حين لم يعان مجتمعنا في القديم مثل هذه المعضلة، فما السبب يا ترى؟
لقد كان المجتمع الإسلامي يتطلب في تشريعه وتعاليمه من كل شاب بلغ سن الزواج أن يتزوج:
((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)). وقد رغب الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الزواج فجعل منه كمالاً للمؤمن الحق: "من تزوج ملك شطر دينه، فليتق الله في الشطر الآخر"، كما حفلت نصوص الشريعة بالحض على الزواج، والوعد بأجزل الثواب لمن يعصم نفسه به من الفساد.(/1)
ولم يقتصر المجتمع الإسلامي على جانب التوجيه إلى الزواج فحسب بل حقق الجانب العملي لتعاليمه فيه، فبسط كل الأسباب المسهلة له، وخفض من تكاليفه، وأدنى أسباب الزواج حتى جعل من المهر أحياناً خاتماً من حديد "التمس ولو خاتماً من حديد". وهكذا وفي ظل البساطة واليسر ودنو الأسباب التي اكتنفت الزواج آنذاك ساد الزواج المبكر، بل لم يعرف التأخير في الزواج وكان منافياً لطبيعة المجتمع. وتمكن آنذاك – مع الزواج المبكر – أن يتزوج الكثيرون بأكثر من واحدة دلالة على توفر أسباب الزواج لكل طالب، وإذا أضفنا إلى هذا عقوبة الزنا الصارمة التي أعدها الإسلام للمتبجحين المنحرفين عن طريق العفة، مع تيسير سبل الزواج والعفاف، أدركنا لمَ لمْ يعرف المجتمع الإسلامي في عصوره الكثيرة المعضلة الجنسية التي نعانيها اليوم، فلقد استشعر كل فرد إزاء هذا الجانب استقراراً وطمأنينة، وتوازناً في ميوله ونزعاته، فهو لم يكبت أو يؤجل طويلاً استنفاد الطاقة الجنسية، وإنما كانت تستنفد هذه الطاقة لدى الفرد بصورة طبيعية، فلا تثير قلقاً، ولا تستقطب الاهتمامات حول الجنس وشذ عن ذلك بعض البيئات التي تتعمق فيها مبادئ الإسلام ومثله وكانت أقرب إلى الروح الأعجمية الفارسية.
وهكذا صرفت هذه الطاقة التي تأخذ على شبابنا اليوم طريق الحياة المستقرة الرغيدة ولم يحس أحد أن هناك معضلة عامة تشغل الأذهان ينبغي أن تعالج، وانصرف كل فرد إلى واجبه ومكانه الذي ينبغي أن يشغله في بنيان المجتمع، فنجح المجتمع في تحصين ذاته من المعضلات والمشاكل التي تفتت كيان الأفراد، وأفلح في صب الاهتمامات وتوجيهها نحو المثل العليا والحياة المنتجة الخيّرة.
ما أحوجنا اليوم، ونحن نبني مجتمعنا العربي من جديد، وننشئه على أحدث ما وصلت إليه الحضارة من رقي، أن نقي أنفسنا عواصف هذه المعضلة التي نجح مجتمعنا الإسلامي في طيها، ولم تفلح أوربا، رغم رقيها وحضارتها في حلها.(/2)
بعد وسن مئين من السنين استيقظت أمتنا لتلفى نفسها مضطرة إلى تقليد من سبقنا في مضمار الحضارة أشواطاً طويلة، لتوقفنا فترة عن السير الحضاري، فلقفنا في تقليدنا لأوربا الغث والسمين فتعقدت حياتنا، وتعددت مطالبها، وتضخمت تكاليفها، وغلا حرصنا إزاء تقليد الغرب في كمالياته وأزيائه حتى كدنا نسبقه فيها، فأضحى الزواج، كجانب اجتماعي تسقيه المظاهر الكمالية، يتقضي المبالغ الضخمة التي لا يمكن للفرد ذي الدخل المتوسط أن يجدها، فهو في حاجة إلى كد السنين الطوال حتى يصل إلى مرتبة المتقدم الزواج!
يضاف إلى هذا ما وفدت علينا الحياة الغربية به من نظم اجتماعية جديدة لم نألفها قبلاً، كتأخير الزواج سنين طويلة بغية استكمال التحصيل الدراسي، ووسائط اللهو الغربية ومغرياتها التي امتصت لارتيادها جل ناشئتنا، فزينت لهم الاسترسال فيها، والانصراف عن تكوين البيت الزوجي. وقد أدت هذه جميعاً إلى تأخير الزواج من قبل الشباب والكساد في صفوف الفتيات.
وزاد من خطورة المشكلة وتعقدها ما صاحب تأخير الزواج من مغريات محيطة تبدو في الأفلام السينمائية مثيرة للنزوات مؤججة للغرائز، وفي المجلات العارية التي تسلب شبابنا طمأنينتهم بعنف إثارتها، واحلت الصور العاريه جل ما يقتنيه الفرد من متاع وزينة، بل احتلت أيضاً ميادين الشوارع العامة وممراتها فنصبت في أمكنة بارزة مطوقة لشعاع البصر!...
إن هذا، وهو فيض من غيض، قد أدار رؤوس ناشئتنا عن الاهتمامات الجدية والانتاج المجدي ليجعل الجنس بؤرة الاهتمام، ومناط التفكير والتعلق.(/3)
ويحضر الناشيء فيلما سينمائياً، فيحسب من خلال تخييل الفيلم الذي يدني البعيد من نزواته أن ما يصبو إليه سهل التحقيق، ولكنه ينسى أن الفيلم خيال خادع، والمجتمع واقع راهن، والبعيد بينهما ما بين الواقع والخيال! فهو سرعان ما يصدم بالمجتمع الذي لا يبيح له أن يجرب العبث الذي استطابه في الفيلم، فإذا به يستفيق على عنف الصدمة ليسدر في أحلام اليقظة. ويمضي المسكين في شد وجذب فتنتابه الأزمات النفسية ونزعات القلق والاضطراب وبالتالي تنحدر قواه نحو الرهن والضعف، وتتذاوب حيويته مع الأيام. وما ذاك إلا لأنا لم نحسن دراسة هذه الطاقة التي تشتعل بين جوانح المراهق أو الناشيء، وقذفناه في جوف المغريات غير عابئين بالأزمات النفسية التي يعانيها بهذا الإزدواج الماثل في حياته.
إن فترة المراهقة في بلادنا، مع الملابسات التي ألمحت إليها آنفاً، مشكلة معقدة أليمة، فلا أمل للمراهق قريب في الزواج حتى يؤجل أو يصعّد هذه النوازع، أو يصرفها قليلاً إلى أمد ريثما يكون مستقبله، في الوقت الذي تذكي المغريات في أعصابه نار النزوات فلا يطيق إلى دفعها سبيلاً، لذا نلفي أوقات الفراغ تشغل عند الكثيرين بهذا النمط من الاهتمام الذي قد يطيح بأخلاق الناشيء، رغم النشأة المحافظة، فضلاً عما يخلف هذا كله في نفسه من انطباعات تستبد باهتماماته وتحول بينه وبين واجباته، فيرسف طريح العقد النفسية والصراع الشعوري.(/4)
ويقر كثير من الباحثين الذين يعالجون مشاكل الجنس بأن كل ما يقدمونه من حلول مجرد مسكنات وقتية، وتجارب لا يتكهنون بنتائجها، وأن الحل المجدي الحاسم هو الزواج المبكر، ويمثل هؤلاء خير تمثيل العالم الاخصائي (سيرل بيبي) إذ يقول: "لا يكفي مجرد النصح لحماية الشباب من فورته وإلحاح الجنس عليه، بل لابد من تنفيذ إصلاحات اجتماعية واسعة المدى، وأول هذه الاصلاحات إزالة الحواجز المتعددة للزواج المبكر كعدم كفاية الأجور، وأزمة السكن، والتعنت من جانب الوالدين وأصحاب العمل إلى غير ذلك"[1].
فلم لا نسعى، والأمر كذلك، إلى تسهيل وتقريب أمد الزواج لكل شاب، ولم لا تقطع القيود التي غلتنا بها بعض التقاليد البالية، مرحبين بكل تسهيل. ففي هذا استقرار وسكينة للشباب، وسلامة للأجيال من التردي والانحراف.
وتتطلب منا قضية شائكة كهذه أن نطوح بكثير من العوائق والسدود التي أقام جلها الوهم، واحداً فواحداً، متذرعين بالصبر والتدرج في الوصول إلى الغاية التي ننشد. ولا أخال والد أي فتى وكذا والد أي فتاة يكره أن يحفظ على فتاه عفته واستقراره وطمأنينته، وإنما يفتقر الأمر إلى شيء من التحرر مما رسفنا فيه من أغلال تقليدية حاكت هذه الأزمة وعقدتها.
إن الزواج المبكر يعصم نشأنا ذكوراً وإناثاً من المغريات وإنزلاقاتها، فهو يمنح القرار والسكن لكل شاب وفتاة، ويلبي ما شرعه الله من التعجيل بالزواج، ويحقق التوازن في اهتمامات الحياة بين الواجب والمثل، والهناءة والرغد، فإذا بسفينة الحياة تسير على طريق يمنح الانتاج والسعادة، إذ يضحي الفرد عاملاً بناء يأخذ مكانه في المجتمع ويسعى إلى خيره وتطويره، في حين يظل كثير ممن لم ييسر له الزواج قلقاً نزقاً، تضطرب في مخيلته أهداف الحياة واهتماماتها.(/5)
ويكسب الزواج المبكر الفتى خاصة الشعور بالمسؤولية، فهو إن كان – وهي ظاهرة واضحة عند الكثيرين – مداراة لمشاعره النازية يبذل المال رخيصاً بغية الحظوة بما يخفف من لوعة وحدته، ويخفض من حرارة نزوته، يبذر الأموال هنا وهناك غير عابيء بالمبالغ التي يسفحها إذ لا بيت له يطالبه بتوجيه هذه الموارد إليه، ولا يعبأ بالأوقات التي يهدرها هنا أو هناك إذ لا بيت له يجذبه إلى قضاء الأويقات السعيدة الرغيدة فيه. في حين نرى أن الخطوبة في سن مبكر تصرف اهتمام الفتى إلى من ستكون شريكة حياته، فلا يزيغ بصره عبر المغريات والنزوات الطارئة بدافع من الإخلاص الذي يكنه لبيته في المستقبل، ولعل هذا خير صارف للنزوات ومصعد لها. فقد يستحيل هذا الفتى حين يتزوج إلى رجل يدرك معاني المسؤولية، وتكاليف الرجولة إزاء البيت الزوجي الذي يمنحه السعادة والقرار، فيوجه المال الذي كان يغدقه دون حساب إلى البيت الذي أخذ يرعاه، ويصون أوقاته التي كانت مهدرة فيوفرها للبيت الذي يحبوه السعادة والرغد، فما حاجته إلى إرتياد مواطن الشبهات بله مباءات الارتكاس والفساد؟ إن المال الذي يغدقه كثير من الشباب قبيل زواجهم على ساعات اللهو والعبث، ويدعون أو يدعى أهلوهم خلو أيديهم من المال الذي يفي بنفقات الزواج، إن هذا المال المهدر على مواطن العبث يفي، لو أحسن تدبيره بإعالة أسرة متزوجة على حال من القرار والهناءة، وإلا فعلى من تعيش الدور الماجنة والفرق العارية وما شابهها؟ حبذا لو ينتبه بعض الآباء إلى هذا، ويتلافونه إذاً لأغلقنا تلك المباءات!.(/6)
كما يمنح الزواج المبكر الفتى، حين يصرف اهتمامه عن الجنس كبؤرة للاهتمام، نظرة جدية إلى الحياة، فليس الآن الفتى العابث الذي يذرع الطرقات زائغ النظرات، بل هو الشاب الشائد لركن من أركان مجتمعه يدرك واجبه ومكانه، فيقبل عليه بقوة واهتمام، كما يدرك بطبيعته الجديدة قيمة الأخلاق إدراكاً أقمن بالاستجابة فيسعى إن قيض له التوجيه السامي إلى رفع مستواها في بيئته، وتنمية المثل العليا في أجوائه.
هذه بعض مزايا الزواج المبكر، وهي مزايا بينة جلية لا ينازع فيها، ولو خلا طريق الزواج المبكر من العقبات لساد حالما تستقر في الأذهان مزاياه، بيد أن هناك عوائق حالت دون تحقيق هذه المزايا الجمة. فهل نزيل العوائق لتسلم لنا المزايا؟
إنه حين يؤمن كل أب بجدوى وصدق الزواج المبكر في الوقت الذي يبصر فيه ما يتعرض له فتاه أو فتاته بتأخير الزواج من أضرار، يعتقد معنا بأن مشكلة تأخير الزواج في حاجة إلى حل، ويسهم معنا في حلها لتسلم له ذريته حصينة، عفة، منتجة.(/7)
والعقبات التي تعترض طريق الزواج المبكر تبدو في عدد من المواضعات الاجتماعية التي لا سند لها إلا الوهم والتخفف من المسؤولية. فقد ساد العرف – ولم يكن قديماً – أن يتأخر الشاب في زواجه، لا لسبب، إلا لأن تبكيره في الزواج اسقام له وإرهاق، على حد تعبير بعض البيئات، وإكثار الذرية في وقت يحسن فيه أن يستمتع خالياً بشبابه، وهو سبب ظاهر الجاهلية والتهافت! وساد العرف أيضاً في صفوف الطلاب، ألا يتزوج الطالب إلا بعد أن يستكمل تحصيله، مهما تقدم به السن، وأن يتريث فترة أخرى بعد التحصيل ليجمع فيها ثروة طائلة يرصدها للمشروع الضخم الذي سيقدم عليه! وهكذا يمضي الطالب زهرة شبابه وينفق عمره الحيوي في الترقب والانتظار. ولا أعتقد أن الزواج المبكر للطالب أمر عسير، وقد صنعه كثيرون، إذا تحرر الطلاب وكذا ذووهم من الوهم السائد، أن لا زواج إلا بعد إنجاز التحصيل، فحين الإقدام على تبديد هذا الوهم تتوارى جل العوائق المثبطة في حال توفر المال اللازم للزواج.
أما العوائق التي ترغم الكثيرين على تأخير الزواج فهي العوائق المادية التي تقيمها بيئتنا الاجتماعية، بدافع من تبني بعض التقاليد، في وجه كل زواج وخاصة الزواج المبكر. فهل لهذه التقاليد يا ترى قيمة كبرى حتى تقف في سبيل زواج كل فرد في مطلع شبابه، وتنذره بالترقب والتأجيل وكثيراً باليأس؟
أتقف هذه العادات والشكليات الجائزة في سبيل استقرار نشء من حمى القلق؟ وهل يبقي مجتمع ناهض كمجتمعنا على تقاليد تؤخر زواج جيل بكامله، تعبث بأخلاقه وسلوكه الأفلام العارية والمجلات العارية والقصص الماجنة، والزواج له من كل ذلك عاصم وواق؟ إني لأسائل كل منصف: ما هي الفوائد الاجتماعية التي تجنيها من تضخم (الجهاز) وإغلاء المهور سوى المباهاة الفارغة والتفاخر الكاذب، والمجتمع الناهض هو الذي يستطيع أن يقف هذه العوائق التي لا سند لها من منطق أو عقل أو عرف سديد.(/8)
وبعد فهل هناك ضرر من تعديل هذه التقاليد الجائرة، وإلغاء هذا (الجهاز) الخاص مناط المباهاة والتحدي لعيون (الحساد!) هل هناك ضير أن نوكل إلى الرجل تأثيث بيته، إن كان حرياً بالاصهار؟ إنه سيعمد بعد الزواج إلى تحسين بيته وتطويره والزواج يمنحه الاستقرار الكفيل بإتاحاة الفرص له أملأ وأوفر، فلم لا يمنح فرصة الاستقرار هذه ليبني بيته أجمل وآنق وأبهى مما تشترط التقاليد المعوقة؟ وهل حال هذا الجهاز مهما كان فخماً دون المآسي والإخفاق في الحياة الزوجية؟! أنحسن إختيار وتصميم (الجهاز) ونغفل ما هو أسمى وأجدر بالاهتمام بالسعادة التي ينبغي أن ترفرف في سماء البيت الزوجي.
إن لدى الآباء والأمهات مفتاح الحل فليخرجوا عن هذه التقاليد، وليطوروا نظرتهم إلى هذه القضية، فإذا ما اقتنعوا بتخفيض المهور، وسارعوا إلى تخفيضها، ووقفوا موقفاً حازماً من هذه التقاليد الجاهلية في تأثيث (الجهاز) الذي يقتضي المهور الضخمة، تاركين للزوجين الحرية في تأثيث البيت حسبما يشاءان، وإذا ما ساندت الدولة – وهي أدرى بخطورة الموضوع – تسهيل الزواج بالمساعدات المالية والقروض للعزاب، عدا إسهامها في ذلك بتشجيعها الأدبي، وتيسيرها الإداري، وأعدنا النظر في إسرافنا الكمالي سواء في (الجهاز) وحفلات الزواج، وبعد الزواج، مما يبتلع المبالغ الضخمة، ويرهب من يتقدم إلى الزواج وكأنه مقدم على ((مسلبة)) انحلت أكثر العقد التي تعوق أسباب الزواج المبكر.
هذا عرض سريع لحلول عاجلة ليست آخر ما يقدم، ولا أجود ما يقدم، وإنها لفكرة أطلقها، آملاً أن تدرس بعناية، وأن يروج لها كل من يؤمن بها مقنعاً ومناقشاً، وأن يهيء لها ولمتطلباتها الأذهان.(/9)
كما آمل أن تصافح هذه الكلمات أسماع آباء وأمهات الذكور والإناث، فيناقشون الأمر ويعالجونه بروية وإمعان، ويتبنون الفكرة الجديدة حين الاقتناع عملاً وتطبيقاً، لا عاطفة ورضاء. ليسهلوا أسباب الزواج بعدها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ومقياسهم الصائب في ذلك:
"إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه".
إنني حين أحمل وجهة النظر هذه إلى أبناء المجتمع قاطبة، وإلى الآباء والمصلحين والمربين خاصة آمل أن يملأ الكتاب الأفذاذ هذا الميدان بسديد آرائهم وطريف حلولهم وعميق إهابتهم.
ـــــــــــــــــــــ
[1] التربية الجنسية لسيرل بيبي ص35.(/10)
العنوان: الزواج ضرورة فلا تجعلوه حلماً
رقم المقالة: 187
صاحب المقالة: سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
أصبحت كثير من مجتمعاتنا تتفنن في تعسير السبل ووضع العراقيل أمام الزواج المبكر، سواء من خلال سن القوانين، أو المبالغة في وضع شروط الزواج ورفع تكاليفه وغلاء المهور وغيرها، وقد دعمت وسائل الإعلام النظرة الاجتماعية السلبية للزواج المبكر، وربطت بينه وبين المشكلات الأسرية والصحية، بل إن وسائل الإعلام ساهمت في الترويج لمفاهيم كثيرة خاطئة، تجاوزت التنفير من الزواج المبكر إلى التركيز على المظاهر السطحية للزواج مثل: الحفلات والملابس والكماليات وغيرها، كما روجت تلك الوسائل لمواصفات الزوجين بعيداً عن الخلق والدين، فالزوج لا بد أن يكون غنياً ووسيماً، أما الزوجة فيجب أن تكون جميلة وموظفة، الأمر الذي كان له أثره في تغير نظرة الشاب والفتاة للزواج، مما أدى إلى تراجع الزواج المبكر.
· إحصاءات مخيفة
في الوقت الذي أعملت فيه التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أثرها على المجتمعات الإسلامية أصبح الزواج حلماً يراود ملايين الشباب في ديار المسلمين، فقد كشفت دراسة حديثة أن 35% من الفتيات في كل من: الكويت وقطر والبحرين والإمارات بلغن مرحلة العنوسة، وانخفضت هذه النسبة في كل من: اليمن وليبيا، لتصل إلى 30%، في حين بلغت النسبة20% في كل من: السودان والصومال، و10% في سلطنة عُمان والمغرب، وكانت في أدنى مستوياتها في فلسطين، حيث مثلت نسبة الفتيات اللواتي فاتهن قطار الزواج 1%، وكانت أعلى نسبة قد تحققت في العراق إذ وصلت إلى 85%.(/1)
وقد أوضحت الإحصائيات أن العنوسة لا تقتصر على النساء فقط، فهناك نسبة كبيرة من الرجال يعانون هذه الظاهرة، ففي سورية بيَّنت الأرقام الرسمية أن أكثر من 50% من الشباب السوريين لم يتزوجوا بعد، في حين لم تتزوج 60% من الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 25 و29 عاماً، وبلغت الفتيات اللاتي تخطى عمرهن 34 عاماً دون زواج أكثر من نصف النساء غير المتزوجات.
وفي لبنان: أكدت إحصائية أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعية والصحة اللبنانية أن نسبة الذكور غير المتزوجين ما بين 25 و30 سنة تبلغ 95.1% والإناث 83.2%.
أما في مصر: فقد أكدت دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أن نسبة غير المتزوجين من الشباب من الجنسين بلغت 29.7% للذكور، و28.4% للإناث.
وأشارت نتائج دراسة أردنية مماثلة إلى تأخر عمر الفتيات عند الزواج الأول إلى 29.2سنة، بينما يتأخر إلى 31.9 سنة لدى الذكور.
وفي الجزائر: كشفت الأرقام الرسمية التي أعلنها الديوان الجزائري للإحصاء أن هناك أربعة ملايين فتاة لم يتزوجن بعد، على الرغم من تجاوزهن الرابعة والثلاثين، وأن عدد العزاب تخطى 18 مليوناً من عدد السكان البالغ 30 مليون نسمة.
أما في السعودية: فقد حذرت دراسة علمية قدمها الدكتور عبد الله الفوزان - أستاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة الملك سعود بالرياض - من أخطار العنوسة، وذكرت تلك الدراسة أنه إذا استمرت ظاهرة الزواج المتأخر في المجتمع فإنها ستخلف أربعة ملايين فتاة عانس في السنوات الخمس المقبلة؛ في الوقت الذي يصل فيه عدد الفتيات العوانس الآن إلى مليون ونصف المليون فتاة.
وهكذا أصبحت العنوسة شبحاً يهدد الشباب من الجنسين في الوطن العربي.
* راغبات بشدَّة:(/2)
التقينا مجموعةً من الشباب والفتيات وسألناهم عن رأيهم في الزواج المبكر؛ فوجدنا معظم الفتيات الملتزمات لا يمانعن في الزواج المبكر، ولكن فئة أخرى من الفتيات المتأثرات بما يقال في وسائل الإعلام يرين ضرورة الحصول على الشهادات العلمية؛ لأنها هي التي تحقق الأمان بالنسبة للمرأة؛ فإذا ما ترك الزوج زوجته لأي سبب تستطيع المرأة أن تعمل وتكسب.
تقول أسماء- داعية وتعمل في تزويج الشباب المسلم -: "منذ سنوات عديدة تروِّج وسائل الإعلام للصورة السلبية للزواج المبكر، وتدعو الشباب والفتيات إلى تأجيل الزواج إلى ما بعد الانتهاء من التعليم، والحصول على عمل مناسب، وتحقيق ذاتهم، حتى وإن كان لديهم قدرات مادية عالية، لكني أشجع الزواج المبكر؛ لأنه يساعد الشباب والفتيات على تحصين أنفسهم، والتخلص من الضغوط النفسية والعصبية التي تواجههم؛ خاصة في ظل الإغراءات والتحديات وانتشار ثقافة الفضائيات التي تشجع على الرذيلة" .
وتؤيد منى الجوهري - 18 سنة طالبة بالمرحلة الثانوية - ما سبق وتضيف قائلة: "أمي تزوَّجت في سن 16 عاماً، والحمد لله أنجبت ثمانية أطفال وهي في شبابها، وكبرنا، وهي الآن بصحة جيدة، وتحب أبي، وتستمع لكلامه، وتلتزم بما يأمر عن قناعة وطيب خاطر، وأنا أتمنى أن أكون كذلك".
وتقول هدى لاشين - 21 سنة طالبة بكلية العلوم -: "لدينا أستاذات جامعيات في مختلف التخصصات العلمية ولم يتزوجن، وقد تجاوز عمرهن الخامسة والثلاثين، ومنهن من تجاوزت الأربعين عاماً "عوانس"، وكثيرات منهن جميلات، ولكن الذي حدث أنهن تمسكن أولاً بالتعليم دون الزواج، وكانت شروطهن في طالبي الزواج صعبة، فتركهن القطار ومعظمهن نادمات، فالمملكة الحقيقة التي تسعد بها المرأة هي الزوجية والأمومة وأنا أفضل الزواج المبكر، وأتمنى أن يكون الزوج يناسبني: اجتماعياً ومادياً وثقافياً".(/3)
أما مها حمدي - طالبة بكلية الزراعة - فتقول: "لقد تزوجت وأنا في السنة الأولى، وكانت مسؤولية البيت والحمل بالنسبة لي صعبة في الشهور الأولى فقط؛ لكني تكيفت بعد ذلك مع زوجي الذي كان يساعدني في استذكار دروسي؛ حيث إنه يعمل معيداً بالكلية، ولكن يكفيني الاستقرار النفسي الذي أعيش فيه، والوقت ثمين في حياة المسلم، وحسن الاستفادة منه أثمن وأغلى، وبتنظيم الوقت يتم الزواج ولا تفوت الدراسة، وقد لاحظت أن معظم زميلاتي في الجامعة يطمحن إلى الزواج، فمن التحقت بالجامعة لا يقلقها التعليم أو المستقبل العلمي كثيراً، ولكن الزواج وصورة فتى الأحلام هي التي تهمها، وخصوصاً مع ارتفاع نسبة العنوسة".
* مؤيدون:
إذا كان يصعب على الفتاة تحديد سن زواجها لأن هذا متوقف على من يتقدمون لخطبتها؛ فإن معظم الأمر متعلق بالشباب، وهناك نوعان منهم: نوع يعيش في حرية واختلاط ولا يريد أن يتحمل مسؤولية أسرة ورعاية أطفال، وآخر ملتزم دينياً ويريد الزواج؛ لكن تحكمه الظروف.
يقول حسنين التهامي - 20 سنة - : "ظروفي المعيشية صعبة، ولكني أتعفف بالصيام حتى أستطيع الزواج".
أما شوقي إبراهيم - 23 سنة - فيقول: "القول بأن الشاب يجب أولاً أن يدَّخر مبلغاً من المال ثم يتزوج قول خاطئ؛ لأنني تزوجت بالقليل وبأثاث يسير، وكافَحَتْ معي زوجتي، وبفضل تدبيرها ورعايتها أكرمنا الله، وأنا الآن أعمل بجانب إكمال دراستي، وزوجتي تهيئ لي الجو المناسب، فالزواج معين على الدراسة ومهيئ لها؛ لأنه سبب الاستقرار والسكن، والتفرغ الحقيقي للدراسة لا يحصل بترك الزواج، ولكن بالتجرد من المشاغل الأخرى وإضاعة الوقت سدى".(/4)
أحمد جمال - شاب فلسطيني يعيش بالقاهرة منذ 18 سنة - يقول: " الزواج المبكر وسيلة شريفة، وغض للبصر، وعفة، و تكثير للنسل، وقد روي عن رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- قوله: "تزوجوا الولود الودود". وسلاح المسلمين يجب أن يكون الزواج المبكر والنسل؛ لكي نواجه أعداء الإسلام الذين تكاثروا علينا، ويجب ألا نحتج بالظروف المادية والاقتصادية، ففي اليسر بركة".
* رأي العلماء:
الدكتور جلال عجوة - أستاذ الحديث بكلية أصول الدين جامعة الأزهر - يقول: "الزواج المبكر له أهمية خاصة، وفي هذا الوقت الذي تنتشر فيه الإغراءات وفرص الفتنة والاختلاط، وما تبثه وسائل الإعلام؛ يجب على الشاب أن يؤهِّل نفسه مبكراً من الناحية التربوية والنفسية لأن يتحمل مسؤولية الزواج والإنجاب، ويكون بحق أميناً على نفسه وأسرته.
وقد كان سلفنا الصالح وصحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتزوجون مبكراً، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج". وقد خُطِبَت السيدة عائشة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهي دون العاشرة، وأصبحت أُماً للمؤمنين، تَروي الحديث عن رسول الله، وتعلم المسلمين أمور دينهم".
ويؤكد الدكتور عبد العظيم المطعني- الأستاذ بالأزهر- هذا الكلام بقوله : "لابد من تشجيع الشباب والفتيات على الزواج المبكر، فالزواج مطلب فطري وشرعي دعا إليه الإسلام، وشرَّع ما ينظمه، فهو السبيل لإعمار الأرض، وعبادة الله جيلاً وراء جيل، فعلى مجتمعاتنا أن تعي أهمية الزواج، وتيسر السُبل إليه، وتسرع الخطا نحوه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً".(/5)
وأضاف المطعني: "لابد من العمل على خفض تكاليف الزواج، والرجوع إلى السُنَّة النبوية الشريفة، ويكون تقييم الرجل من خلال دينه وتمسكه بصحيح الإسلام، وليس من خلال مقدرته المالية، ولا بد أيضاً أن تتمسك المرأة المسلمة بتعاليم الإسلام، وأن تضع نصب عينيها اختيار الرجل على أساس دينه ومعاملته، وليس من أجل قدراته المادية، كما يجب على الآباء مساعدة أبنائهم وعدم المغالاة في المهور، أو في متطلبات الحياة الزوجية".
وفي دراسة للدكتور فهد السنيدي - أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - أشار إلى أهمية الزواج المبكر، وعدم تأخير الزواج بحجة الدراسة، فالجمع بين الزواج والدراسة يحقق مطلبين شرعيين في آن واحد، فالزواج رغَّب فيه الشارع وحث عليه، فهو حاجة فطرية للإنسان، كما أن تحصيل العلم مطلب شرعي، ولم يأت من الشارع ما يمنع الجمع بينهما، ما دام الوقت متسعاً لهما معاً، فهما كأداء الصلاة والزكاة والصيام في الوقت المتسع لها جميعاً.
ويضيف الدكتور فهد: "إن الزواج أمر فطريٌّ ومطلب شرعيٌّ، يُخشَى بسبب تركه أو تأخيره حدوث الفتنة، بخلاف الدراسة فلا ضرر في تأخيرها، ولا شك أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولعل في الجمع بين الدراسة والزواج استغلالاً لأفضل مراحل العمر في تحقيق ما لا بدَّ منه على أفضل وجه ممكن، وكذلك توظيف لقدرات الشخص الجسمية والعقلية والفكرية في آن واحد، وإشباع كل منها في مجالاتها".
* فوائد جمَّة:(/6)
الدكتورة أسماء يونس - أستاذة علم الاجتماع - تقول: "إنني أفضِّل زواج الفتاة وعمرها ما بين 20- 25 سنة، أما إذا تأخرت عن ذلك فلا تستطيع أن تتكيف مع زوجها نفسياً واجتماعياً، فمرونة التكيف تكون أكثر مع الزوجة صغيرة السن، أما الفتاة كبيرة السن فقد حددت أهدافها مسبقاً، ولها نظرة ثابتة في الحياة؛ مما يشكل عائقاً في تأقلمها مع حياتها الجديدة، كما أن الزواج المبكر يتيح فرصة أكبر للحمل والولادة وتنظيم الأسرة؛ لإعطاء كل طفل حقه في الرعاية والاهتمام؛ حيث تكون الفتاة في قمة نشاطها البدني والعقلي، وتكون قدرتها على التحمُّل أكبر.
إلى جانب وجود طاقة وقدرة على العطاء العاطفي والنفسي والحركي، ومقدرة أيضاً على ممارسة الأمومة بنضج أكبر، وأنصح الفتيات بالزواج المبكر إذا أتاهن من يرضين دينه وخلقه؛ فبالزواج تحفظ الفتاة نفسها وتستقر نفسياً".
الدكتور يسري عبد المحسن - أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة - يقول: "لا أعتقد أن هناك شاباً سويّاً - أو فتاة - يرفض أو يؤجل الزواج، فالزواج المبكر مطلب طبيعي للشباب، فالقوة الجسمية والاستعداد البدني أمور ترغِّب في النكاح، ووقت تكاملها مرحلة الشباب، وكلما تقدم العمر قلَّت العوامل الفطرية الدافعة إلى النكاح، لكن هذا يتوقف على الظروف الاقتصادية والاجتماعية" .
أما الدكتورة ناهد الطويل - المتخصِّصة بالنساء والتوليد - فتقول: "من الناحية الصحِّية الزواج المبكر أفضل للمرأة وهي ما بين 18- 25 سنة؛ لأنه بعد ذلك توجد صعوبات في الحمل والولادة ونسبة العقم، وتزيد هذه الصعوبات كلما ارتفع سنُّ الزواج".
وتضيف الدكتورة ناهد: "من ناحية أخرى ثبت أن الزواج يقي الرجال والنساء متاعب الصداع العارض والمزمن؛ حيث يساعد الشعور النفسي بالعلاقة المستديمة المستقرة على تخفيف حدة اضطراب الجسم، وعلى إفراز هرمونات السعادة بكمٍّ أكبر من هرمونات القلق والخوف والحزن".(/7)
العنوان: الزواج والأحلام الوردية
رقم المقالة: 1293
صاحب المقالة: مروة يوسف
-----------------------------------------
لم تكد (منال) تكملُ عامَها العشرين حتى بدأت تلك الدعواتُ تطرق مسامعها كثيرا من فم الوالدة الحنون.. فأصبحت تسمعها كثيرًا تدعو في صلاتها وفي أوقات مختلفة: اللهم ارزق ابنتي زوجًا صالحًا، وفرّح قلبي بها..
أخذت (منال) تفكر كثيرًا في كلام أمها، وتحول تفكيرها إلى أحلام وردية جميلة، ولا تغيب عن ذهنها صورتها وهي ترتدي فستانها الأبيض، وفي يدها زهور عطرة وقد تزينت في أجمل زينة لتزف إلى من تحلم به زوجًا صالحًا..
كانت (منال) فتاة طيبة، حسنة الخُلق، ملتزمة بحجابها، لكنها كانت رومانسية وعاطفية إلى حد بعيد..
ولما حان الوقت الذي تحلم به واقترب موعد الزفاف، زادت الأحلام وأخذت تتوالى على ذهن تلك الفتاة الصغيرة، بل تعدى الأمر إلى ما بعد الزواج من حياة رومانسية هانئة لا يعكر صفوَها شيءٌ، حياة الحب والحنان الذي لمحته في شخصية زوجها المرتقب، لذلك فقد رضيت به زوجا..
وفي الليلة المحددة، لم تعرف للنوم طريقا، ولم تذق للراحة طعما، لكنها كانت تعيش في عالم آخر، عالم من الخيال رسمته لنفسها في أبهى حلة وأجمل صورة، فكرت كثيرا في حياتها المقبلة، وكيف ستسعد زوجها بالكلام الطيب، وكيف سيفيض عليها بأخلاقه الكريمة، وكلامه العاطفي الرقيق، وحنانه الذي سيغرقها في مزيد من السعادة..
ولم تمض على ذلك اليوم السعيد سوى أيام معدودة، وإذا بها قد تغير حالها وتبدل قلبها وذلك لما وازنت بين ما يحدث في الواقع وما كان يحدث في تخيلاتها وأحلامها..
فالزوج الحنون ذو الكلام المعسول، ينتظر منها الكثير!!!(/1)
مضى الشهر الأول من حياتها الزوجية لا يعكر صفوَه إلا تلك العاطفة الزائدة وتلك الأوهام الزائفة التي كانت تحلم بها كأي فتاة لا تعي عن الزواج إلا أنه حياة سعيدة مليئة بالعطف والحب، كانت كثيرًا ما تبكي لأتفه الأسباب، وتلجأ إلى وسادتها فتدفن فيها وجهها وتغرقها بدموعها؛ لأن زوجها الحبيب لم يتذكر أن يسأل عن حالها وهو يعلم أنها كانت مصابة بالصداع في بداية اليوم!! بل إنه عند عودته من العمل كان ينتظر منها أن تعد الطعام كعادتها وتنظف البيت وغيرها من المهام المنوطة بها!!
تعجبت (منال) من قسوة زوجها في كثير من المواقف، وتألم قلبها كثيرا وفكرت في حلول حتى بدا لها أنه ليس هناك من حل إلا الطلاق!! فما فائدة الحياة مع إنسان طيب ذي خلق ولكنه لا يملك قلبا حنونا!! لا يملك عاطفة ترويني، إنه ليس رومانسيا كما كنت أتمنى!!
مضت الأيام تباعا على تلك الزوجة الحالمة حتى مر عام كامل.. تفكرت فيه في حالها وفي مشكلاتها التي مضت في هذا العام وفي والدتها كيف كانت حنونا وتحمل قلبا طيبا...
لكن فكرت مع نفسها: لقد غاب عن أمي أن تعلمني أن الزواج ليس مجرد أحلام وردية وأيام رومانسية، وكيف سيحيا الأزواج في رومانسية بحتة وظروفُ الحياة تفرض عليهم ضغوطا لم تكن تخطر لنا على بال؟!
فكرت في نشأتها كيف كانت غير صحيحة، كيف تربت على تلك الأفلام والمسلسلات التي تأخذ الناس من عالم الواقع لتغرقهم في أوهام لا حقيقة لها، فتغدو الفتاة لا تعلم عن الزواج ومسؤولياته شيئا، وكيف كانت الأم فيما مضى تربي بناتها على تحمل المسؤولية وعلى أن الزواج هو مسؤولية جديدة يجب أن تتوخى الفتاة حذرها وأن تكون هي المعطاء بدلا من انتظار العطاء من الطرف الآخر.
جلست (منال) بجانب ابنتها التي لم تكمل شهرين وأحضرت ورقة وقلم وبدأت تكتب:
ابنتي..(/2)
لعلكِ ستقرأين كلماتي هذه وأنا في طي النسيان ولكن تحتم علي أن أنبهكِ على أمر هام، قد تغفُلين عنه وإن كنتِ تعلمتِ كيف تكوني زوجة ناجحة وماهرة ومجيدة لأعمال المنزل، لكنها يا حبيبتي غلطة كثير من الفتيات، تظن أن الزواج ما هو إلا حب وهيام وحياة مليئة بالعواطف الجياشة والكلمات الرقيقة التي ستسمعها ليلاً نهاراً!!
ابنتي..
-لا تتعجبي إن أنتِ أعددت لليلة رومانسية بذلتِ فيها كل ما استطعتِ من جهد وفعلتِ ما لم يكن لزوجكِ على بال، قد جلستِ تتخيلين حالته والذهول الذي سيصيبه بمجرد دخوله المنزل، وإذا به يدخل كأن شيئا لم يكن وإن حاولتِ لفت انتباهه قال لكِ بكل فتور وهدوء: ليس لدي وقت لهذا، أو بالي مشغول الآن..
-لا تتعجبي إن كان زوجك يعلم أنكِ تشكين ألما ثم نسي أن يسألكِ عن حالكِ.
-لا تتعجبي إن لم يبدِ اهتماما بجمال مظهركِ أو حسن ترتيب المنزل.
-لا تتعجبي إن لم تسمعي منه ما كنتِ تحلمين به من كلام الحب والغزل.
-لا تنتظري أن تبحر السفينة على اليبس فانتظاركِ للعاطفة من قبل الزوج مع عدم المبادرة منكِ شيء مستحيل عند أغلب الرجال.
- تذكري: بنيتي أن بيئته غير بيئتكِ؛ فقد يكون نشأ في بيئة قاسية نوعا ما أو في جو انشغال الأب والأم فلم ير في حياته أو يسمع كلاما بين والديه أو من والديه للأبناء عن الحب والعطف والحنان وغير ذلك.
- تذكري: أن الرجل يدخل إلى عش الزوجية وهو متوجس خيفة من أن لا يستطيع تحمل المسؤولية، فمسؤولية الرجل أكبر من المرأة بفرق واضح بين؛ إذ إن الإنفاق على الأسرة وسد حاجاتها أمر قد يخيف ويثير القلق في نفوس الكثير من الشباب فهي مسؤولية لم يعتدها ولم ينشأ عليها، ويكون لديه لوقت ما شعورٌ بالقلق من أن يظهر بمظهر غير رجولي أمام زوجته أو أمام الناس، فعقل مشغول بكل هذا هل يكون لديه وقت للتفكير في ما تفكرين به؟!!(/3)
- تذكري: أن طبيعة الرجل تختلف كثيرًا عن طبيعة المرأة وهذه فطرة في كل منهما، فلا تنتظري تغيير تلك الطبيعة والفطرة التي فطر عليها، إذ إن الله أعد الرجال لما هو أعظم وأهم.
- تذكري: أن العمل مليء بالمشاكل التي تثقل كاهله وتثير أعصابه ربما كل ساعة في العمل فتكون أعصابه في أغلب الأوقات متوترة مشدودة.
- تذكري: أن الرجال يختلفون في طريقة التعبير عن مشاعرهم فهذا قد يجيد فن الكلام وآخر قد يعبر بأفعاله وغيره قد تبوح عيناه بما لم يقدر أن ينطق فمه، فتقبلي زوجكِ على أي حال كان، واحمدي الله ولا تنتظري المزيد.
- تذكري: أنه هو أيضا بحاجة للحب والعطف والحنان؛ فقد قال الله تعالى مبينا أن الزوجة الحنون من نعم الله على العبد: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ يْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكروُن} [الروم: 21].
فبادريه بالحب والكلام الطيب حتى تعتاده أذنه إن لم يكن قد تعوده، ولا تنتظري الرد، بل اغمريه بالكلام اللطيف والمشاعر الطيبة.
- تذكري: أن الحياة لا تستقيم إن كانت قائمة على العواطف فقط، فهذا لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع، فكوني واقعية ولا تغرقي قبل زواجكِ في عالم من الأحلام الوردية والأفكار الرومانسية.(/4)
العنوان: السباق النهائي في رمضان
رقم المقالة: 1190
صاحب المقالة: أبو وائل أكرم أحمد عمير
-----------------------------------------
أخي في الله.. كن وقفًا لله تعالى في السر والعلن في المنشط والمكره!
أنت الآن في مضمار السباق (3000 متر موانع)، لا ... بل أنت في سباق مع الزمن ، ثلاثون يومًا من الصيام والقيام، الحواجز فيها هي المغريات والخطايا والمعاصي. مضمار السباق مكتظ بالملائكة المسبحين لله، المستغفرين لأمثالك من المؤمنين.
أنت أخي أحد المتسابقين في سباق حاد، وتنافس شديد ( التنافس في الأيام الباقية على الأعمال الصالحة، والتقرب إلى الله ).
أخي المؤمن .. لم تبقَ إلا دورة واحدة، والسباق قد دخل في مرحلته الأخيرة، ولم يبقَ من رمضان إلا الشيءُ اليسير، حتى نتعرف على الفائز بالجائزة الكبرى "العتق من النار".
أخي المؤمن .. أيرضيك أن تكون ممن أعرض عن السباق، أو تخاذل فيه قبل نهايته، أو انسحب منه وقد بلغ ذروته؟ لا تستسلم، وثِقْ أن جمهور الملائكة يشجعك بالتسبيح والاستغفار.
إن الاقتراب من نهاية شهر التوبة والغفران، يجب أن يكوِّن فينا مزيدًا من التضحية والثبات، وبذل جهد أكبر؛ حتى نصل إلى خط الوصول "رضى الله والتقوى" مع الفائزين بالعتق من النيران، الفَرِحين بما آتاهم الله من فضله.
• الجائزة الكبرى أو الكأس:
أخي المؤمن .. إن كل سباق أو تظاهرة تُختم بجائزة معتبرة مادية أو معنوية، ويفرح لها الفائز أيما فرحة عند الحصول عليها. ولله المثل الأعلى، فالله - جل وعلا - أكرم الأكرمين، لم يخرج بنا عن التقاليد الإنسانية؛ حيث جعل لنا في نهاية شهر رمضان ليلةَ القدر، وهي في الوتر منه، فمن صادفها بالحرص والاجتهاد؛ فقد فاز فوزًا عظيمًا، وهي تضاهي عبادة ثمانين ونيِّف سنة (حوالي 84 سنة).(/1)
أخي المؤمن .. مَن منا يفرط في هذه الجائزة الغالية جدًّا، والتي لا تقدر بثمن مهما بلغت عبادتنا لله طوال حياتنا. فاغتنم أخي المسلم، أختي المسلمة هذه الفرصةَ الذهبية فلا تضيعها؛ فنصبح على ما فعلنا نادمين، ولا ينفع الندم حينها.
فما بال قوم تقدم لهم الجائزة، وصك الدخول إلى الجنة، فيعرضون عنها، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! فيكتفون بصلاة أو صلاتين فقط من الفرض مع الإمام - هذا إن فعلوها - ويفرطون في قيام الليل، والمبرات الأخرى. أيبتغون الفضل عند غير الله؟!.. وهو القائل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].
أخي المؤمن .. هل استيقظت من سباتك العميق، واستفقت من غفلتك؟ فتعوِّد نفسك اغتنام الفرص؛ فتقوم هذه الليلة حقَّ القيام، وتشغلها بالذكر، وقراءة القرآن، والتضرع إلى الله بالدعاء لنفسك ولجميع المؤمنين، وخاصة المستضعفين في العراق وفِلَسطين وأفغانستان والشيشان، وغيرها من بلاد المسلمين المضطهدين..(/2)
العنوان: السبعة الذين يظلهم الله في ظله
رقم المقالة: 1300
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))[1].
يجمع الله الخلائق يوم القيامة، الأولين منهم، والآخرين {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] في يوم طويل قدره، عظيم هوله، شديد كربه، حذر الله منه عباده وأمرهم بالاستعداد له، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1، 2].(/1)
في ذلك اليوم العظيم تدنو الشمس من الخلق، حتى تكون منهم قدر ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقْوَيْه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا[2].
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ))[3].
في ذلك الموقف العظيم يظل الله في ظله هؤلاء السبعة، فلنتأمل أعمالهم التي أوجبت لهم هذا الجزاء العظيم.
فالأول: الإمام العادل، الذي يحكم بين الناس بالحق ولا يتبع الهوى، كما قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
ممتثلاً أمر ربه له – سبحانه - إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا))[4].
فهذا ثواب مَن عدل في حكمه وأعطى الحق أهله، فانظر إلى جزاء من جار في حكمه وظلم ولم يعدل.(/2)
قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَتَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَغْلُولاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))[5].
وعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ))[6].
والثاني: شاب نشأ في عبادة الله، وقد وفقه الله منذ نشأ للأعمال الصالحة، وحببها إليه، وكره إليه الأعمال السيئة وأعانه على تركها، إما بسبب تربية صالحة، أو رفقة طيبة، أو غير ذلك، وقد حفظه مما نشأ عليه كثير من الشباب من اللهو واللعب، وإضاعة الصلوات، والانهماك في الشهوات والملذات، وقد أثنى الله على هذا النشء المبارك بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].
ولما كان الشباب داعيًا قويًّا للشهوات، كان من أعجب الأمور الشاب الذي يلزم نفسه بالطاعة والاجتهاد فيها، فاستحق بذلك أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله.
لقد علم أنه مسؤول عن شبابه فيم أبلاه، فعمل بوصية نبيه - صلى الله عليه وسلم - التي أوصى بها حيث يقول: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ))[7].(/3)
والثالث: رجل قلبه معلق بالمساجد، فلا يكاد إذا خرج من المسجد أن يرتاح لشيء حتى يعود إليه، لأن المساجد بيوت الله، ومن دخلها فقد حلَّ ضيفًا على ربه، فلا قلب أطيب ولا نفس أسعد من رجل حل ضيفًا على ربه في بيته وتحت رعايته.
وهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتَكَفَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ كَانَ الْمَسْجِدُ ببَيْتَهُ بِالرَّوْحِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إلى رِضْوَانِ اللهِ إلَى الجَنَّةِ))[8].
وهذه الضيافة تكون في الدنيا بما يحصل في قلوبهم من الاطمئنان والسعادة والراحة، وفي الآخرة بما أعدَّ لهم من الكرامة في الجنة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ[9] مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ))[10]
والرابع: رجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، لأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].(/4)
وفي الحديث عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ))[11]
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ))[12]
وهذه إحدى الخصال التي يجد بها العبد حلاوة الإيمان ولذته، فهذان الرجلان لم تجمعهما قرابة ولا رحم ولا مصالح دنيوية، وإنما جمع بينهما حب الله تعالى، حتى فرق بينهما الموت وهما على ذلك.(/5)
فعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهمْ ومَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ)) فجثى رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا نبي الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياءُ والشهداءُ على مجالسهم وقربهم من الله؟! انْعَتْهُمْ لنا – يعني صفهم لنا – فسُرَّ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسؤال الأعرابي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ القَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللهِ وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهَمْ نُورًا، وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يَفْزَعُونَ؛ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))[13].
والخامس: رجل دعته امرأة إلى نفسها، وليست كأي امرأة، بل هي امرأة لها مكانة ومنزلة رفيعة، وقد أعطاها الله من الجمال ما يجعل الفتنة بها أَشَدَّ، والتعلق بها أعظم فيا الله! كيف ينجو مَن وقع في مثل ذلك الموقف إلا بإيمان عميق وبصيرة نافذة؟!
قال القاضي عياض: "وخص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها، وعسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال، لا سيما وهي داعيةٌ إلى نفسها طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاقّ التوصّل إلى مراودة ونحوها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى، وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال من أكمل المراتب، وأعظم الطاعات، فرتب الله تعالى عليه أن يظله في ظله. وذات المنصب هي ذات الحسب والنسب الشريف"[14](/6)
قال تعالى في هذا وأمثاله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً فَفَرَجَ لَهُمْ... الحديث))[15].
والسادس: رجل تَصَدَّقَ بصدقة، وما أكثر المتصدقين، وما أعظمَ أجورَهُم عند الله، لكن الذي تميز به هذا المُتَصَدّق ونال به هذا الأجر العظيم – وهو إظلال الله له -، إخلاصه في صدقته، فقد بلغ به الإخلاص حتى كاد أن يخفيها عن نفسه لو استطاع. وقد مدح الله المتصدقين، فقال: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} ثم خص المُسِرِّين فقال: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].(/7)
وعن عبدالله بن جعفر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِيءُ غَضَبَ الرَّبِّ))[16].
أما السابع: فرجل امتلأ قلبه بمحبة الله وخشيته وتعظيمه، فذكر الله بمكان خالٍ لا يراه إلا هو، ذكر عظمته وفضله عليه ورحْمَتَهُ فدمعت عيناه شوقًا إليه، وفي هذا وأمثاله يقول الله - تبارك وتعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[17].
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير البكاء من خشية الله، وكذلك الصالحون من قبل ومن بعد، وقد توعد الله أصحاب القلوب القاسية بِأَشَدِّ الوعيد، فقال: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري (1/440) رقم (1423)، وصحيح مسلم (2/715) برقم (1031).
[2] معنى حديث أخرجه مسلم في صحيحه (4/2196) رقم (2864).
[3] صحيح البخاري (4/197) رقم (6532)، وصحيح مسلم (4/2196) رقم (2863).
[4] صحيح مسلم (3/1458) رقم (1827).
[5] مسند الإمام أحمد (5/267)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (5718).(/8)
[6] صحيح البخاري (4/331) رقم (715)، وصحيح مسلم (1/125) رقم (142) واللفظ لمسلم.
[7] مستدرك الحاكم (4/341) رقم (7844)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (1/244) رقم (1077).
[8] حلية الأولياء لأبي نعيم (6/176)، وقال المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" (1/298): رواه الطبراني في الكبير والأوسط، والبزار وقال: إسناده حسن وهو كما قال رحمه الله. وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (716).
[9] نزله : مكانًا ينزله.
[10] صحيح البخاري (1/20) رقم (662)، وصحيح مسلم (1/463) رقم (669).
[11] سنن أبي داود (4/220) برقم (4681)، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (2/1034) برقم (5965).
[12] صحيح مسلم (1/74) برقم (54).
[13] مسند الإمام أحمد (5/343) و"شرح السنة" للبغوي (13/50-51) برقم (3464)، وقال محققاه شعيب، وزهير: وأخرجه أحمد (5/341، و343) وشهر بن حوشب مختلف فيه وله شاهد بنحوه من حديث ابن عمر، أخرجه الحاكم في المستدرك (4/170-171) وصححه وأقره الذهبي، وآخر من حديث أبي هريرة عند ابن حبان في صحيحه (2508) وإسناده صحيح.
[14] صحيح مسلم بشرح النووي (3/122).
[15] قطعة من حديث في صحيح البخاري (2/117) برقم (2215)، وصحيح مسلم (4/210) برقم (2743).
[16] المعجم الصغير للطبراني (2/95)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (3759).
[17] سنن الترمذي (4/175) برقم (1639)، وقال : حديث ابن عباس حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/756) برقم (4113).(/9)
العنوان: السبيل إلى الأمن والرزق (1)
رقم المقالة: 1630
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: بعث اللهُ - تعالى - محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه القرآن هُدًى لِلنَّاس وبينات من الهدى والفرقان، فما من شيء ينفع الناس، ويحقق مصالحهم إلا دلت عليه شريعة الله - تعالى - وحذرتهم من كل ما يضرهم أو يسبب شقاءهم {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].(/1)
شريعة كاملة شاملة، اختارها ربُّنا - جل جلاله - ورضيها، وأمر الناس بالأخذ بها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125].
شريعةٌ أنزلها وفرضها من يملك السموات والأرض، ويحي ويميت، ويقدر الأرزاق والآجال والسعادة والشقاوة {وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126].
شريعةٌ تحقق الأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة، فمن تمسك بها، ووقف عند حدودها؛ فله الأمنُ في الدنيا والآخرة، ولن يشقى أو يخاف، ولو اجتمع أهلُ الأرض كلهم على إخافته وشقاوته فلن يستطيعوا ذلك؛ لأن السعادة والشقاوة، والأمن والخوف، محلها القلب، ومن يملك القلوب إلا الله - تعالى - {أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء))[1].
وإذا أراد الله - تعالى - أمان شخص، وطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، وراحة باله؛ فلن تستطيع أية قوة إخافته أو زعزعته، ومهما كان أسيرًا أو طريدًا أو معذبًا أو مشردًا، فإنه يعيش في نعيم ما دام الله - تعالى - قد ربط على قلبه، وثبَّت نفسه، على حد قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - لما سجن في القلعة: "ماذا يفعل بي أعدائي، إن جنتي في صدري، أنَّى ذهبت فهي معي"[2].(/2)
وتأمل يا عبد الله عجيب تدبير الله - عزَّ وجلَّ - وتأمينه لعباده المؤمنين في مواطن الخوف وملاقاة العدو، كما في غزوة "بَدْر" {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11]، وفي غزوة "أُحُد" {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154]، كان أحدهم من شدة نعاسه يسقط سيفُه من يده، ويُطأطأ رأسُه على راحلته[3].
عجيبٌ والله تدبير الله - تعالى - إنه تدبيرٌ على خلاف حسابات البشر وظنونهم، فالمعارك تحتاج إلى اليقظة والقوة. والنعاسُ عنوانُ الضعف والغفلة، التي تسبب الفشلَ والهزيمةَ، ولكن الله - تعالى - بقدرته يجعل النعاس مصدر قوةٍ؛ لأن فيه أمنًا للقلوب من الخوف، وراحة للأجساد من التعب، ولو كان ذلك النعاس على أرض المعركة، وفي أصعب الساعات؛ فسبحان الله العليم القدير!(/3)
في مقابل ذلك فإن الله - تعالى - إذا خذل عبدًا، وسلب منه الأمن والطمأنينة؛ فلن يأمن ولو تحصن بحصونِهِ، ولبس دروعه، وحرسه البشرُ كلُّهم؛ كما لم يأمن بنو النضير عندما حاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نقضوا العهد مع المسلمين، وحاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحصَّنوا في حصونهم، وخزنوا مؤنهم، وأغلقوا عليهم أبوابهم، وحرسوا قلاعهم، ولا خوف عليهم من جوعٍ أو قلة أو نقصِ سلاحٍ أو قوةِ عدوٍّ أو كثرته؛ مما يحتم عليهم عسكريًّا الثبات والقتال، ولا سيما أن من يحاصرونهم هم أقل منهم سلاحًا وطعامًا، وقد لا يصمدون طويلاً في العراء والحصار، ولكن الله - تعالى - سلَّط على يهود بني النضير رعبًا اخترق حصونهم من دونِ اقتحام، واستقرَّ في قلوبهم بلا قتال؛ فنزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلاهم عن المدينة {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
إن تحقيق الأمن على مستوى الأفرادِ والدول والأمم صار في هذا العصر هاجسًا ينفقُ فيه البشرُ من الأموال أكثرَ ممَّا ينفقون على مآكلهم ومشاربهم ومراكبهم وعمرانهم وأي شيء آخر؛ إذ لا فائدة من أي شيء بلا أمن، ولا طعمَ لأي حلوٍ في حالة الخوف.(/4)
ولن يتحقق الأمنُ للبشر إلا بالإيمان بالله - تعالى - والتزام الإسلام شريعةً ومنهجًا، فمن حقق الإيمانَ فلن يخاف، ومن كفر بالله - تعالى - فلن يأمن، وكيف يأمنُ من أراد الله - تعالى - خوفه؟! وكيف يخافُ من أراد اللهُ - تعالى - أمْنَه؟! وهذا ما قاله الخليل - عليه السلام - حينما أخافه المشركون بأصنامهم وطواغيتهم قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82]، ما كان أمنهم إلا لأن الله - تعالى - أراد أمنهم؛ بسبب إيمانهم وإخلاصهم.
وإذا تجمعت الحشود، وعظمت الخطوب، وتجبر الأقوياء، ودنت ساعةُ الخطر؛ لاذَ المؤمنونَ بحمى الله - تعالى - فأمَّنهم - سبحانه وتعالى - بإيمانهم ويقينهم، وربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وحفظهم من السوء والمكروه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173-174].(/5)
إن العالمَ المعاصرَ قد أسس بنيانه على ما يكون سببًا في الذعر والخوف، واستبعد ما يحقق الأمن والسلام؛ فهو عالمٌ في أكثره - أفرادًا ودولاً وأممًا - مؤسسٌ على الإلحاد والمادية، بعيد عن الإيمان بالله - تعالى - ومعرفة أوامره ونواهيه، والتزام حدوده وحرماته، فأضحى أكثر أفراده يلهثون في الدنيا؛ لأنهم لا يرجون الآخرة، واستباحوا كلَّ محرم من ربا وغش ونهبٍ؛ لتأمين هذه الدنيا التي لا يرجون غيرها، وصار عالمهم بين اثنين لا ثالث لهما؛ إمَّا لصٌّ غني، يتاجر في المحرمات، ويأكل السحت والربا، ويلتهمُ بشركاته العملاقة صغار التجار حتى يفقر الناس، ويسيطر على الأسواق، وإمَّا فقير محترق قد مص الأول دمه، وسحق عظمه، وشرد أسرته، ورمى به على قارعة الطريق، بما حمَّله من أغلال الربا، وكبله باحتكار السلع، ثم يقومُ هذا الطاغية المستكبر بشراء الذمم بأمواله، وصياغة القوانين بجاهه وسلطانه، وتوجيه الإعلام للدعاية إلى أفكاره وآرائه؛ من أجل تنمية ماله، وجمع المزيد والمزيد حتى يضمن تربعه على عرش المال والأعمال!! ثم ماذا بعد ذلك؟ وهل أمِنَ مَن بلغ هذا العرش؟ كلا، إنه لم يحقق الأمن، ولن يأمن ما دام يفقدُ الإيمان.
أوَليسَ يدفعُ طائلَ الأموال للتأمين على حياته وعلى شركاته ومساكنه ومراكبه وكل شؤونه، فلو كان آمنًا ما احتاج إلى التأمين؛ ولكن الله - عزَّ وجلَّ - شاء أن يأتيه الخوفُ من مأمنه، فمأمنه ما جمعه من أموال يضمن بها رفاهيته في الدنيا التي لا يرجو غيرها؛ ولكن هذه الأموال التي جمعها صارت مصدر رعبٍ وخوف، لا يعرف كيف يحافظ عليها من الضياع، ولو ضاع بعضُها لربما ضاعت نفسه معها!!(/6)
ولأنه جمع ثرواته، وسن القوانين التي تخدمه بالطرق المحرمة؛ فإن ضحايا قوته وبطشه سينتقمون منه، والمنافسون له سيتطلعون إلى ما يملك، فاحتاج إلى أن يؤمن خوفه من الحاقدين عليه، والمنافسين له، ويؤمن على أمواله بدفع بعضها لضمان بقائها؛ فصار مصدرُ الأمن هو مصدر الخوف عند هؤلاء الملاحدة الماديين!! هكذا أصبح الحال عند أفرادهم وأممهم، والبلادُ الغربية ومن سار في فلكها المادي الإلحادي لا تعدو ذلك.
أمَّا المؤمنون الصادقون فإنهم موقنون بأن الرزاق هو الله - تعالى - وأن رزقه ينال بطاعته وتقواه، وأن الحافظ هو الله - تعالى - فلا يتعلقون بسواه {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق: 2-3].
فنسأل الله - تعالى - أن يؤمِّن خوفنا، وأن يربط على قلوبنا، وأن يحسن خواتيمنا، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى وآله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - فمن حقَّق التقوى أمن في الدنيا والآخرة {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزُّمر: 61].(/7)
أيها المسلمون: لما كانت قيادةُ العالم بيد المسلمين كانت البشرية تنعم بالأمن والسلام، فلما تحوَّلت القيادة إلى غيرهم انتشر الذعرُ والخوفُ والظلمُ والبغيُ والعدوان؛ ذلك أن الإسلام من الاستسلام لله - تعالى - بالخضوع والطاعة، والانقياد لشرعه وأمره، ومن استسلم لله - تعالى - سلَّمه الله من الخوف، وسلَّم النَّاس مِن ظلمه وبغيه؛ لأنه يعمل فيهم بحكم الإسلام الذي هو مصدر الأمن والسلام. والإيمانُ من الأمان، فأصحابه آمنون في الدنيا والآخرة، ويأمنهم غيرهم؛ ولذا صح عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))[4].
وفي الحديث الآخر: ((المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم))[5]. فمن دخل في الإسلام دخل في دائرة الأمن والأمان؛ كما قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله - تعالى - حرُم دمُه وماله، وحسابه على الله))[6].
ومن دخل من الكفار تحت حكم المسلمين بعقد أمانٍ أو ذمة نالته بركة الإسلام؛ فأمِنَ على نفسه وعرضه وماله وولده. وكل أمةٍ أو طائفة تحقق الإسلام والإيمانَ فإن الأمن سيتحقق لها لا محالة؛ وذلك بموجب قول الله - تعالى -: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].(/8)
كما أنَّ كُلَّ أمَّةٍ أو طائفةٍ تفقد الإيمان، ولا تلتزم الإسلام شرعة ومنهاجًا؛ فلن تأمن أبدًا مهما عمِلتْ منِ احترازات، ومهما ملكت من أسلحة وقوات؛ وذلك بموجب قول الله - تعالى -: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
فيا ليت شعري من يهدي جمهور البشرية التائه، الهائم على وجهه يبحث عن الأمن والسلام، من يهديه إلى الإسلام؛ ليحظى بالأمن والسلام؟!
ماذا جرَّت سيادة المادّيّين على العالم، وإلى أين ستوصله؟ إنَّها جرَّت البشرية إلى مكامن الخوف، ومواطن الرعب.
ظلَّت القوتان الشرقية والغربية ردحًا من الزمن، تستبقان في ميادين التسلح، وتتنافسان في صنع الدمار؛ حتى صنعوا من أسلحة الدمار الشامل ما يدمرُ الأرض عشرات المرات، ثم صار ما صنعوا وبالاً عليهم وعلى البشرية، ومصدر رعبٍ وخوف في حفظه من أن يقع في يد من يستخدمه ولا يبالي، وكما أنفقوا المليارات على صنعه باتوا ينفقون أضعافها على حفظه وحراسته ونزعه.(/9)
ثُمَّ لما ملكوا القوة ما سخروها في خدمة البشرية، وبسط العدل فيما بينهم، والسعي في تحقيق الأمن والسلام لهم؛ بل عملوا على ابتزازهم واستغلالهم، ومصادرة حقوقهم، وتكريس الظلم بإعانة الظالم على ظلمه؛ كما فعلوا ذلك في فِلَسطين وفي الشيشان وكشمير والبوسنة وكوسوفا وتيمور الشرقية وغيرها من بلدان مسلمة وغير مسلمة، ما رأت الأمن والسلام في ظلّ سيادتهم وحضارتهم؛ لأنهم يدورون مع المصالح حيث تدور، وكم من حرب أشعلوها من أجل مصالحهم المادية أهلكت ألوفًا من البشر، وشردت ملايين! وكم من قرار صنعوه، وقانون وضعوه ليس فيه من العدل شيء إلا أنه يحقق مصالحهم، فكيف يأمن البشر في ظل سيادتهم؟! وإذا لم يأمن غيرهم بسبب ظلمهم وعسْفهم فلن يأمنوا، فيا ليتهم يعقلون!!
أسأل الله - تعالى - أن يحفظ المسلمين بحفظه، وأن يؤمِّنهم بتأمينه، وأن يربط على قلوبهم، ويثبت أقدامهم.
{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [البقرة: 286].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ} [الصَّافات: 180-181].
---
[1] جاء ذلك من حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - عند مسلم في القدر باب تصريف الله - تعالى - القلوب كيف شاء (2654)، وأحمد (2/168)، وابن حبان (902)، ومن حديث النواس بن سمعان عند أحمد (4/82)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/525).
[2] "الوابل الصيب" لابن القيم (60).(/10)
[3] جاء ذلك في عدة أحاديث منها: حديث أبي طلحة - رضي الله عنه - قال: "كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أُحُد، حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه"؛ أخرجه البخاري في المغازي (4068).
[4] أخرجه البخاري في الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (10)، ومسلم في الإيمان باب: بيان تفاضل الإسلام (40)، من حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - وجاء أيضًا من حديث جابر - رضي الله عنه - عند مسلم (40)، ومن حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عند البخاري (11)، ومسلم (42). ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند الترمذي (2629)، والنسائي (8/104 ـ 105).
[5] أخرجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الترمذي في الإيمان باب (12) وقال: هذا حديث حسن صحيح (2629)، والنسائي في الإيمان باب صفة المؤمن (8/104 ـ 105)، والحاكم وصححه وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (1/10)، وصححه ابن حبان (180).
[6] أخرجه مسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله... (23)، وأحمد (6/395)، من حديث أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق عن أبيه رضي الله عنه.(/11)
العنوان: السبيل إلى الأمن والرزق (2)
رقم المقالة: 1631
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله – تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: بعد ما خلق الله آدم - عليه السَّلام – وأسجد له ملائكته {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: 11]؛ استكبارًا على الله – تعالى - واحتقارًا لمن خُلِق من طين أن يسجدَ له من خُلق من نار؛ جرى التكليف على آدم وذريته، وسُلط الشيطان وجنده على إغوائهم، وصدهم عن سبيل الله تعالى؛ فمن أطاع الله – تعالى - دخل الجنة برحمته سبحانه، ومن سلك طريق إبليس وعصى الله - تعالى - استحق النَّار {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].(/1)
لقد جعل الله – تعالى - الدنيا ميدانًا لهذا الابتلاء، وجعل الآخرة جزاءً عليه، فمن خاف الله – تعالى - فأطاعه، وعمِل بشريعته كان له الأمن الكامل، والرزق الدائم، والنعيم المقيم في الآخرة {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 45-46] ، وفي الآية الأخرى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ} [الدخان: 55]، آمنين من فقدانها، وآمنين من الموت، وآمنين من كل ما يُخاف منه، نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا منهم.
لقد جمع الله – تعالى - لهم بين الأمن والرزق، الأمن التام الشامل، والرزق المتتابع الذي لا ينقطع {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزُّخرف: 71].
إن قِوامَ حياةِ البشر، ومنتهى سعادتهم وفرحهم، وغاية مطلوبهم ومرادهم، يرتكز على الأمن والرزق، وإن منتهى تعاستهم وشقائهم يكمن في انعدامِ الأمن، وقلة الرزق؛ ولذا جاءت الآيات القرآنية تكرِّسُ هذا المفهوم في قلوب المكلفين، وتغرسه في أفهامهم، وتدلهم على الطريق التي يحصلون بها على الأمن والرزق الأبدي، الذي لا يعتريه خوف ولا وجل ولا قلة ولا ذلة، وهي طريق الله - تعالى - التي بينتها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وابتلي من أجلها المكلَّفون: توحيد الله – تعالى - وعبادته؛ فمن حقَّق ذلك من المكلفين توفتهم الملائكة طيبين {يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] ، {لَا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103]، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصِّلت: 30].(/2)
كما جاءت الآيات القرآنية تحذرهم من سلوك طريق الخوف والجوع، وهي الطريق التي يدعوهم إليها الشيطان، وتبين لهم أن من سلكها فلن يأمن مهما عمل، وسيُخلد في الجوع والخوف والحزن والعذاب {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المَصِيرُ} [التغابن: 10]، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزُّخرف: 77].
وكما أن النعيم في الجنة يرتكز على الأمن والرزق، والعذاب في الآخرة يكون بالخوف والحزن والحرمان· فإنَّ حياة البشر في الدنيا لا تستقيم إلا بتوافر الأمن والرزق، وبفقد أحدهما يفقد الآخر، وبفقدهما تستحيل حياة الناس شقاءً وعذابًا نسأل الله العافية؛ ولذلك فإن من حكمة الله – تعالى - ورحمته بالبشر لما أهبط آدم - عليه السلام - إلى الأرض أن جعل فيها من مقومات الأمن والرزق ما يُمَكِّنُه وذريته من العيش فيها {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف: 24]، والأرض لا تكون مستقرًّا لبني آدم إلا بتوافر الأمن؛ لأن من نتائج الخوف: الاضطراب وعدم الاستقرار، والمتاع ما يتمتع الناس به من رزق الله تعالى، ولو لم تكن الأرض آمنة - إلا من عدوان الناس بعضهم على بعض، وإخافة بعضهم بعضًا - لاستحال عيشهم فيها، ولو كانت خالية من الأرزاق لهلكوا.
ولأهمية هاتين النعمتين - الأمن والرزق - نبَّه الأنبياء - عليهم السلام - أقوامهم عليها، وبيَّنوا عظيم منَّةِ الله – تعالى - عليهم بها؛ فهذا صالح - عليه السَّلام - يقول لقومه: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 146-148].(/3)
ودعا إبراهيم - عليه السلام - ربه أن يؤمّن بيته الحرام، ويجبي إليه الأرزاق فقال - عليه السلام -: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ} [البقرة: 126]. وفي الآية الأخرى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] .
ويوم أن ألهم الله – تعالى - الخليل - عليه السلام - أن يدعو بهذه الدعوات المباركة لم تكن مكة آهلةً بالسكان؛ بل كانت واديًا مهجورًا؛ فأراد الله – تعالى - بحكمته أن تعمر ويُعمر فيها بيته، وأن تصير مهْيع الحضارات، ومهوى أفئدة الناس، وذلك لا يكون إلا بحلول الأمن فيها، وتدفق الرزق والخيرات عليها، فالبشر يستوطنون ويعمرون حيث يوجد الأمن والأرزاق.
فاستجاب الله – تعالى - دعوة الخليل - عليه السلام - وجعل البيت مثابةً للناس وأمنًا، يثوب الناس إليه من كل مكان آمنين، بما قدره – سبحانه - فيه من أسباب الأمن والرزق، وبما توارثه سكانه من تعظيم للبيت عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام[1].
وحتى بعد شركهم وانحرافهم عن الحنيفية، بقي فيهم تعظيم البيت على مرّ العصور، وتتابع الأجيال، من عهد إبراهيم - عليه السلام - إلى بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - فكانوا إذا دخلوا البيت وضعوا السلاح، وكفّوا عن الثأر، حتّى إنّ الرّجل ليرى قاتل أبيه فلا يمسّه بِسوءٍ تعظيمًا للبيت الحرام.(/4)
إن ما نعمت به مكة من أمن وأرزاق منذ دعوة إبراهيم - عليه السلام - إلى يومنا هذا ما كان إلا بقدر من الله – تعالى - واختيارًا لهذه البقعة المباركة، التي ما كانت صالحة للعيش قبل ذلك، ثم جاءت شرائع الأنبياء - عليهم السلام - لتؤكد على أمنها، وتحث الناس على قصدها لعبادة الله – تعالى - فيها، فحصل الأمن والعمران، وتدفقت عليها الخيرات في وقت كان مَن حولهم لا يأمنون ولا يشبعون {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67].
ولما رفض المشركون دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان من تعليلاتهم في رفضها أنهم إن تركوا إرث الآباء والأجداد اجتمعت العرب على حربهم؛ ففقدوا الأمن والرزق، {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] كان جواب الله – تعالى - عليهم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].
قال ابن زيد: "كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها بعضًا، فأمنت قريش من ذلك لمكانة الحرم، وقرأ {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]"[2].
وقال ابن جزي: "وكان غيرهم من الناس تؤخذ أموالهم وأنفسهم"[3].
ولما فتحت مكة، ودانتْ بالإسلام؛ أمنت وأمن أهلها بما شرع الله – تعالى - من الشرائع والحدود، والواجبات والحرمات؛ فكانتْ بلدًا آمنًا مطمئنًّا، تجبى إليها الأرزاق من كل مكان، ما دام أهلها قائمين بأمر الله – سبحانه - مستمسكين بشريعته.(/5)
وكانت هذه الشريعة المباركة التي أنزلت في البلد الأمين محققةً لما يحتاجه البشر من الأمن والرزق في الدنيا والآخرة؛ ولذا كانت دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - عامَّةً إلى الناس كلهم، منذ إرساله إلى قيام الساعة؛ ليعبدوا الله – تعالى - ولا يشركوا به شيئًا، فإن هم حققوا هذه العبودية حقق الله – تعالى - لهم الأمن والرزق في الدنيا والآخرة.
وبقدر انتقاصهم من عبودية ربّهم، وتفلتهم من شريعته يحل عليهم ما يوازيه من الخوف والقلة، ويرفع عنهم من الرزق والأمن بقدر تفريطهم وعصيانهم، فالمشركون لا أمن لهم ولا رزق في الآخرة، وفي الدّنيا لا يكتمل لهم الأمن والرزق من كل وجه؛ بل يعتريه من النقص والخلل ما ينغّصه عليهم، ولا تكمل به لذتهم.
والعصاة من المؤمنين قد يُعاقبون في الدنيا على عصيانهم برفع الأمن والرزق عنهم، وحلول الخوف والحرمان عليهم. وقد يؤخر الله – تعالى - عقوبتهم لتكون في الآخرة، فيصيبهم فيها من الحرمان والخوف ما يكفر سيئاتهم، ثم مآلهم إلى الجنة برحمة الله تعالى.
والطائعون لهم الأمن والرزق في الدنيا والآخرة، وإذا أصابهم في الدنيا ما ظاهره القلة والخوف فإن الله – تعالى - يربط على قلوبهم، ويزيدهم يقينًا به؛ فلا يخافون في مواضع الخوف، ويكون ما أصابهم من نقص الأمن والرزق ابتلاءً تكفر به سيئاتهم، وترفع درجاتهم؛ ليكون لهم الأمن الكامل، والرزق التام، والنعيم المقيم في جنات عدن، جعلنا الله – تعالى - بكرمه من الآمنين في الدنيا والآخرة، ووقانا وبلادنا وبلاد المسلمين الفتن والخوف والجوع، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيها كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.(/6)
أما بعد: فاتقوا الله – تعالى - وأطيعوه، واحذروا عذابه فلا تعصوه؛ فإنه – سبحانه - عزيز ذو انتقام {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]. أيها الناس: هاجس الأمن والرزق هاجس لازَمَ البشرَ طوال تاريخهم؛ إذ لا يقوم لهم عيش إلا بأمْنٍ ينعمون به، ونِعَمٍ يرتعون فيها، وفي عصرنا هذا نجد أن جُلَّ موارد الأرض، وأرزاق الناس إنما تنفق لتحقيق هذين المطلبين؛ فأكثر خزائن الأمم، وميزانياتِ الدول تنفق على السلاح؛ لاستخدامه في الحماية، ورد العدوان، وردع الأعداء؛ ليتحقق الأمن. وليس خافيًا على أحد ما يُنفق على الاقتصاد والصناعة والتجارة من أموال طائلة؛ حتى صاروا يستغلون النفايات ويصنعونها من جديد، وليست نفايات البيوت والمصانع فحسب؛ بل حتى نفايات الإنسان والحيوان؛ وذلك بقصد الاستفادة من كل شيء لتوفير الأرزاق، وتحقيق الرفاهية.
وعلى الرغم من ذلك كله فإن البشرية في مجملها تجد الخوف، وتحس بالجوع، ومن كان عنده قدر من الرزق والأمن فهو يعاني خوفًا آخر، وهو خوف فقده مع كثرة الحروب والقلاقل، وتقلبات الدول، واضطرابات الاقتصاد، فالحرمان من الأمن والرزق، أو الخوفُ من فقدانهما صار سمة من سمات هذا العصر المتقدم! وسبب ذلك أن البشرية باتت تحكم على الصعيد العالمي بما يخالف منهج الله تعالى، وصار يقرر مصيرها من لا يقيم للشرائع الربانية أي وزن. وسيطر على عقول الناس العيشُ للدنيا، والاستمتاع بها بلا ضوابط دينية، ولا قيود أخلاقية، إلا عند المؤمنين المتمسكين بدينهم، وهم يُحارَبون من أمم الأرض على تمسكهم هذا.(/7)
ولأن كثيرًا من المسلمين وقعوا فيما وقع فيه غيرهم من حب الدنيا والتعلق بها؛ فإن هاجسَ الأمن والرزق صار مصدر رعب وقلق يقض مضاجعهم، فراح أكثرهم يستجلبون الأمن والرزق بالطرق المحرمة، والكسب الخبيث، والركون إلى الذين ظلموا ليؤمنوهم، في بُعْدٍ تام عمن بيده ملكوت كل شيء، وهو من يهب الأمن والرزق جلَّ في علاه!!
إن الأمة التي تريد تحقيق الأمن، وبسط الرزق، وكثرة الخيرات، وانعدام المشكلات عليها أن تتقي الله - عزَّ وجلَّ - وأن تأخذ بأحكام شريعته في كل شيء؛ ليتحقق لها ذلك.
وإن من أعظم مما يسبب زوال الأمن، وقلة الرزق: كفر النعم، وكثرة العصيان، وقلة الاستغفار، وضعف التوبة والأوبة إلى الله – تعالى -: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
لاحظوا قوله – تعالى -: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} ، الأنعم جمع قلة، أي: كفرت بأنعمٍ قليلة فعذبها الله – تعالى - بسلب الأمن، ورفع الرزق، وحلول الخوف والجوع مكانهما، والمقصود: التنبيه بالأدنى على الأعلى، أي: أن كفران النعم القليلة لما كان موجبًا للعذاب؛ فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب[4]. وكم في المسلمين من كفران للنعم، وعصيان للمنعِم في هذا العصر؟! نسأل الله العافية والسلامة، ونسأله أن لا يؤاخذنا بذنوبنا، ولا بما فعل السفهاء منا.(/8)
وعبَّر – سبحانه - عن عظيم ما أصابهم بالذوق واللباس {فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ} [النحل: 112]، لإحاطة ما غشيهم من الجوع والخوف، وملازمته إياهم، أراد – سبحانه - إفادة أن ذلك متمكن منهم، ومستقرٌّ في بلادهم استقرار الطعام في البطن؛ إذ يُذاق في اللسان والحلق، ويُحس في الجوفِ والأمعاء، فاستُعير له لفظ الإذاقة تلميحًا، وجمعًا بين الطعام واللباس، والمعنى: أن الجوع والخوف محيطان بأهل القرية في سائر أحوالهم، وملازمان لهم، وقد بلغا منهم مبلغًا أليمًا[5].
ألا فاتقوا الله ربكم، واشكروه على نعمه، فلن يحقق عبدٌ الأمنَ الشامل الكامل، الذي لا ينغصه خوف بوجه من الوجوه في نفسه وأسرته وماله، إلا بإقامة شريعة الله – تعالى - في نفسه وبيته وماله، ولن تحقق أمة من الأمم الأمن الشامل بين رعاياها؛ حتى تقوم فيهم بشريعة الله – تعالى - في عَلاقاتهم مع أنفسهم ومع إخوانهم، ومع غيرهم من مسلمين وغير مسلمين. وبغير ذلك ستكون المحن والفتن، والقلاقل والاضطرابات، التي ينتج عنها اختلال الأمن، وانتشار الخوف، وقلة الأرزاق، وكثرة الجوع. نسأل الله أن يحفظنا وإخواننا المسلمين في كل مكان من ذلك {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ} [الأعراف: 96-99].
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1]انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1/709).(/9)
[2] "جامع البيان" (30/309)، و"الجامع لأحكام القرآن" (20/209)، و"فتح القدير" للشوكاني (5/498).
[3] "التسهيل لعلوم التنزل" (4/433).
[4] انظر: "التفسير الكبير" للرازي (20/102).
[5] انظر: "التحرير والتنوير" (14/307).(/10)
العنوان: "ألستَ شيخاً"؟!!
رقم المقالة: 591
صاحب المقالة: إبراهيم العسعس
-----------------------------------------
أنتَ شيخٌ أو متدينٌ أو ملتزمٌ، أو أياً كان الوصفُ الذي يُعطى لك، تعبيراً عن التزامك بالدين، فالمُفترض أن يكون فيك - ما دمتَ كذلك - مجموعة من الصفات تُثبت صدق مشيختك، أو تدينك، أو التزامك، وإلا فالويل لك؛ فستكون متناقضاً مُدَّعياً، وقد تكون كاذباً منافقاً!
وهذه الصفات تقتضي منك أن تلغي الكلمات التالية من قاموسك: "لا، آه، أخ، حقي، مالي، كرامتي، شخصيتي، رفع رأسي، أن أغضب، أن أنتصر لنفسي، طباعي النفسية، أحاسيسي، غِنايَ، وأخذي من الدنيا بالحق، ابتسامتي..."، وغيرها مما يدل على وجودك، ويعبر عن بشريَّتك.
وسبب هذه الافتراض أمران:
الأول: السَّمْتُ والسلوك اللذَان يُظهرهما كثيرٌ من المشايخ والعلماء، وكثيرٌ من المتدينين؛ مما زرع في نفوس كثير من الناس مفهوماً معيناً للتدين، ومنظراً محدَّداً للمتديّن.
الثاني: السقفُ المرتفع عمَّا ينبغي أن يكون عليه الشيخ أو المتدين من الواقع، وذلك بسبب الفهم الخاطئ لمفهوم التدين، ولطبيعة الإنسان التي خلق اللهُ الناسَ عليها.
ولنتحدث عن هذين السببين بشيء من التفصيل:
أما الأول: فإن سلوك كثير من المشايخ والعلماء أوقع الناس في هذا الخَلْط؛ فالعالِم - أو الشيخ - عندما يقدِّم نفسه للناس في صورة توحي بالتفرُّد والتميُّز، ويحاول أن يُظهر نفسَه على أنه شيء كالملاك، أو قريبٍ منه؛ فلا شك عندئذٍ أن الناس سيتوقعون منه سلوكاً خالياً من الأخطاء.
وكثيرٌ من المشايخ يعرضون الإسلام على أنه دين الآخرة، وأن المتدين يعيش في الدنيا منتظراً الموت الذي سينقذه من هذا النكد، ومن هذه الأقذار، فإذا ما أخذ منها - وهو لابدَّ آخذ - فسيوقع الناس في تناقض، وسيقولون له مستغربين: ألستَ شيخاً؟! كيف تأخذ من هذه الأقذار؟!(/1)
وأما الثاني: فبسبب البُعْد عن الدين، ولقلة ظاهرة التدين؛ صار المتدين أو الملتزم - كما يسميه بعض الناس - مخلوقاً غريباً يتوقع منه الناس العجائب، وكأنه سقط من كوكب آخر!! ثم هم ينظرون إليه على أنَّه حقَّق ما يُحبُّون لكنَّهم لا يقدرون عليه؛ إنه يذكِّرهم بالقصص التي سمعوها عن السلف، وبما أنهم في شوق لهذه النماذج؛ فإنهم يتوقعونهم في شخص هذا الذي تديَّن، وبما أن هذه النماذج تُطرح على الناس - كما أشرت في مقالة سابقة - بصورة ملائكية؛ فالويل له إن خالف هذه الصورة. وتحليل هذه الأسباب يطول بنا؛ فلنكتفِ بما أشرتُ إليه.
ونسأل بعد ذلك: ما هي النتيجة؟ النتيجة قاسية وشديدة الخطر، وقد تُسبب أزمةً في الحياة، وأزمةً في ظاهرة التدين، وأزمةً في العلاقة بين الناس، وعللاً في التدين لا يعلمها إلا الله.
فالمتدين في نظر الناس يعطي ولا يأخذ، لا وجود لـ (لا) في معجمه، فإن قالها اتُّهِمَ بأنه بخيلٌ مُتمسِّكٌ بالدنيا الفانية، وهو فقيرٌ مسكينٌ، ينظر إلى الدنيا من عَلٍ، فإذا سوَّلت له نفسه يوماً أن يأكل منها بالحلال، قال له المراقبون: ألستَ شيخاً؟!
وقد رأيتُ مَنْ يسألُ أحدَ طلبةِ العلم عن مكان سكنِه، فلما عرف أنه يسكن في منطقة جيدة تعجب وانبهر، وقال: "شيخٌ وتسكن في هذه المنطقة"؟! هكذا؛ لأنَّه شيخ عليه أن يسكُن في كهف، أو في الصحراء - على أحسن تقدير.
وهو حليمٌ دائماً، ليس من حقه أن يغضب أو ينتصر لنفسه، مهما فعلنا به؛ فإن خطر على باله مرةً أن يغضب، بعد أن نكون قد أكلنا لحمه؛ صرخنا به: "ويحك، وثكلتك أمُّك، وفُضَّ فوك، ألم تسمع وصيته - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل: ((لا تغضب))! أيُّ شيخٍ أنت؛ تحفظ الحديث ولا تطبِّقه! لا جَرَمَ أنَّ الدين في تأخُّر! وكلُّ ذلك منكم مَعشر من آمنتم بألسنتكم، ولمَّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم! يا هذا: ألستَ شيخاً"؟!(/2)
وهذه الأمثلةُ غيضٌ من فيض، لكنها تعبِّر عن المشكلة، وتُنبئ أنَّ القائمة المذكورة آنفاًً ممنوعةٌ عن المشايخ منعاً باتّاً.
أقول أيها الناس، يا قومنا: إنَّ المشايخ، أو الملتزمين، أو المتدينين، - أو ما شئتم بعدُ من أسماء ناسٌ من الناس وبشرٌ من البشر، فهم يحملون ضعف البشر، وآمال الناس، وحبَّ الدنيا الغريزي الضروري؛ للعيش في الدنيا، وهم إذا استُغضِبوا غضبوا، وإذا أُكل حقُّهم طلبوه، وإذا أُسيء إليهم جاز لهم أن ينتصروا، مثلهم في ذلك مثل الناس جميعاً.
والمجتمع المسلم - في نظر الإسلام - لا ينقسم إلى قسمين؛ قسمٍ يُمارس الإنسانية ويتفاعل مع طبائعها، وقسمٍ يعيش في المُثل، يحارب غرائزه، ويُفني طبائعه. لا يوجد في المجتمع المسلم أناس اسمهم متدينون وأناس غير ذلك؛ إذ المتوقَّع من أفراد المجتمع التديُّن والالتزام.
والإسلام لا يتعامل مع المسلم على أنَّه ملاك، ولا يُريد منه تركَ الدنيا بالمعنى الذي يفهمه التدين المُنحرف، والشريعةُ جاءت لضبط سلوك الناس - كلِّ الناس - وَفق مراد الله - سبحانه وتعالى - ورتبت على هذا السلوك ثواباً وعقاباً، لا فرق في ذلك بين إنسانٍ وآخر.
فلا تطلبوا من (الشيخ) المستحيل، ولا تتوقعوا منه خلاف طبعه، وعاملوه بما تعاملون سواه من الناس؛ فلا تقولوا له - كلما أردتم أن تسلُبوه حقه -: "ألستَ شيخاً"؟!(/3)
العنوان: السَّرير ، وُجُوه (ثلاثة نصوص)
رقم المقالة: 1658
صاحب المقالة: مازن محمود عبدالحميد غراب
-----------------------------------------
ثلاثة نصوص، لـ مازن محمود غراب
السَّرير
حين أرقدُ على السَّريرْ
أتذكرُ رقاديَ الأخيرْ
أتذكرُ المصيرْ
(أبردٌ وسلامٌ هو أم نارٌ وهجيرْ ؟!)
ينهمرُ من عيني بكائي المرير
ينسالُ علي قلبي الكسير
فتنبتُ أمنيةُ المستحيل:
"ليتني نجمٌ فى السما أو على الأرضِ غديرْ !"
سرعان تذبُلُ* قائلةً لقلبي:
وداعًا ، أيها المخيَّرُ الأسيرْ!!.
• • • •
في الصباحْ
كان ظِلاّنا في عناقْ
في المساءْ
يحضنُني لحافِي
يحضنُهُ القبرْ!.
• • • •
وُجُوه
الغرفةُ نفسُها
المقاعدُ نفسُها
وجوهٌ مضتْ
وجاءتْ وجوهْ
نتصافحُ.. نتعانقُ..
على فراقْ!!
مهما طالَ السلامُ
والابتسامُ
مهما طال اللقاءُ
يَئِدْهُ الفراقْ!
وَ تُطلُّ الوجوهُ فى الذاكرةْ
كمُهَندٍ شقَّ القلبَ إلى العيون؛
لتهطلَ الدموعْ
هل من رجوعْ؟!
(الذهابُ رجوعْ).
تزحفُ الثوانْ**
تحسَبُها جامدةً
وهي تمرُّ مرَّ السحابْ
تعصرُ العذابْ
ليسكرَ الفؤادُ الظمآنْ.
يفعلُ الزمنُ فِعْلتَهُ؛
يُنسينا نسْيَتَهُ
.. وتبقى الوجوهْ!
تعليق "حضارة الكلمة":
الأخ/ مازن،
نشكرك على التواصل مرة أخرى مع "حضارة الكلمة".
محاولات أخرى طيبة في الشعر المنثور، اخترنا منها ثلاثة نصوص، وقد نميز منها النص الثاني؛ لاقتناصه وتكثيفه لحظاتٍ تكاد تهرب من الذاكرة، على طريقة نصوص الومضة.. ولاقترابه من قصيدة النثر؛ واختلافه عن النصّين الآخرين اللذين يقتربان من الشعر المنثور، ويحويان استلهامات وومضات إيمانية جميلة وتصويرات معتنى بها..
وكما أشرنا سابقاً؛ نشير هنا إلى أنه لم يعد في الشعر المنثور وقصائد النثر مجال للتقفية..(/1)
وبالنسبة إلى شكل الكلمات في أواخر الأسطر الشعرية، من أمثال: (الصباحْ، عناقْ، المساءْ)؛ فإما أن نتركها بلا شكل، أو نَشكُلها بحركات الإعراب الحقيقية؛ لأننا نتعامل مع نثر لا مع شعر موزون.
*الصحيح: سُرعانَ ما.
**الصحيح: الثواني.
أخي الكريم..
ننتظر منكم الجديد الأجمل...(/2)
العنوان: السلاح النووي وتطور العقيدة القتالية الإسرائيلية
رقم المقالة: 1830
صاحب المقالة: د. حامد ربيع
-----------------------------------------
السّلاح النَّوويّ وتطوُّر العقيدة القِتاليَّة الإسرائيلية من استراتيجية الردع عام 1973.. إلى استراتيجية الانتحار في حرب لبنان 1982 .. إلى استراتيجية الهجوم [*]
تحت هذا العنوان كتب المؤلّف – رحمه الله -: "مشكلة التحليل الاستراتيجي من أعقد الموضوعات التي يتعيَّن علينا التَّعرّض لها، ورغم أن الثقافة الاستراتيجية - كعلم متخصص له تقاليده وقواعده - من أحدث العلوم، الذي لا يزال يبحث عن رجاله، إلا أنه كفكر وممارسة وجد منذ أقدم العصور، فالاستراتيجية في أوسع معانيها: هي فن التعامل مع المشاكل. والتعامل مع المشاكل يفترض مسبقًا التفكير والتصور والتأمل، أو بعبارة أدق الإدراك المسبق، ولعله ليس من قبيل المصادفة، أن نلاحظ أن أعظم القادة الاستراتيجيين ينتمون إلى الماضي، وعلى وجه التحديد إلى العصور القديمة، فالحضارة الرومانية قدمت لنا سادة العالم في التصور الاستراتيجي، لقد عاشت الحضارة الأنجلوسكسونية على مفاهيم قياصرة روما؛ بل ولم يكن سر نجاح الدولة العثمانية إلا هضمها لمفاهيم القياصرة، وأولئك الذين يَحْكُمون في واشنطن رغم كل ادعاءاتهم هم طلبة مطيعون لتلك المفاهيم، لم يستطيعوا الفكاك منها. وقبل قياصرة روما عرفنا الإسكندر الأكبر في اليونان، وكليوباترة في مصر، وكِلاهما ينتمي إلى الثقافة الهللينية.(/1)
وفي أرض الفراعنة خرج أكثر من عملاق واحد، نستطيع أن نذكر (تحتمس) و(رمسيس)، وكلاهما يعترف له الفكر المعاصر بالقدرات الفكرية الخلاَّقة؛ بل إن (أيزنهاور) عندما حاول أن يعرف كيف يجب التعامل مع منطقة الشرق الأوسط، لم يجد مساعدوه سوى رمسيس الثاني يسألونه: كيف يجب أن تتم الصياغة الاستراتيجية للسلوك الدولي، في هذه المنطقة؟ رغم ذلك فإن علم الاستراتيجية لا يزال ينقصه الكثير من عناصر التقدم والكمال، على أن أخطر ما يجب أن نلاحظه، أن الفكر الاستراتيجي[1] في العالم العربي بصفة خاصة على قسط ضخم من التخلّف، يكفي أن نتذكَّر أنَّ هذه المادَّة لا وجود لها في أيّ تعليم جامعي، حتَّى في الكُلّيَّات المُتَخَصِّصَة، لماذا؟ سؤال آخر جدير بنا أن نتصدَّى له، ولكن ليس هذا موضعه، فَلْنَتَذَكَّر فقط أنَّ من يتعامل لدينا مع المشاكل الاستراتيجية، يعكس حالة التردي والهوة الفكرية التي وصلنا إليها، في أغلب الأحيان نجد أنفسنا أمام شخص فاشل في تخصُّصِه، فوجد في هذا العلم بابًا واسعًا يستطيع أن يدخل من خلاله، ليس هدفنا فتح الجروح، ولكنَّنا نريد فقط أن نضع النقط أسفل الحروف، ونحن بصدد تحليل بعض المشاكل الاستراتيجيَّة التي تسيطر على الفكر الإسرائيلي، ولْنتذكَّر أيْضًا مؤقتًا أنه في جميع المعارك التي خضناها عام 1956 ثم عام 1967 وأخيرًا عام 1973 لم يَكُنْ لَدَيْنا فكر استراتيجي، أو على الأقل كان فكرنا الاستراتيجي ليس على مستوى التعامل الحركي، وأنَّ هذا أحد أسباب الهزيمة. دقة الفكر الاستراتيجي وقدرته على تخطي مشاكله، أحدُ عناصر القوة في الجانب الإسرائيلي.
ومِنْ ثَمَّ يَجِبُ أن نُلاحِظَ منذ البداية، أن التحليل الاستراتيجي له مستوياته، وكل من هذه المستويات يملك وظيفة، ولا يَجُوزُ أن نَتَصَوَّر أن أحد المستويات يغني عن المستوى الآخر في إطاره العام، وبكثير من التبسُّط، هناك ثلاثة مستويات كل منها عُلِم خصائصها:(/2)
الأول وهو المستوى القومي، أو ما عبّر عنه بالاستراتيجية العليا، هذه تعني تحديد الأهداف القومية؛ أي الأهداف العليا، ثم ترتيب هذه الأهداف بطريقة تصاعدية، تسمح بتحديد الأهمّ فالأقلّ أهمّيَّة، وأخيرًا تصوّر محدَّد، ليس فقط للبَدَائِل لِكُلّ من هذه الأهداف؛ بل وكذلك لحدودها بمعنى الحد الأقصى الذي لا يجوز تجاوزه، والحد الأدنى الذي يجب أن تقف عنده التنازلات، كذلك يدخل في هذه الدائرة عملية صياغة الأهداف كخُطَّة صالِحة للتنفيذ، سواء من حيث مضمونُها أو من حيث مداخلُها، وكذلك أدواتها، هذه الدائرة تتضمَّن أيضًا ما يُسمى بالأمن القومي، الذي هو أحد عناصر الاستراتيجيَّة القومية، هذا المستوى الأول.
يعقبه المستوى الثاني: والذي يدور حول قطاعات الدولة، في كل قطاع من قطاعات الدولة هناك استراتيجية مستقلة ومتميزة، تندرج في إطار الاستراتيجية العليا؛ ولكنها تستقل عنها دون أن تتعارض معها، وبهذا المعنى لدينا استراتيجية عسكرية وأخرى اقتصادية وهكذا. الاستراتيجية العسكرية تصير بهذا المعنى تحويل وصياغة عسكرية للاستراتيجية القومية.
المستوى الثالث وهو ما يُسمَّى بالاستراتيجية الميدانيَّة؛ ونقصد بذلك تحويل الاستراتيجية الخاصة بقطاع معين إلى خطة للتعامل وقد تحدد القطاع والمكان والموقف، ومن ثَمَّ فإنَّ الاستراتيجيَّة العسكريَّة يَجِبُ بِدَوْرِها أن تتحوَّل إلى استراتيجيَّة مَيْدانية تبعًا للسلاح المستخدم والمكان، أو موقع المعركة المتوقَّعة. هذا الذي حدَّدْنَاهُ، هو تبسيط مُطلقٌ؛ ولكنَّ الفِكْرَة الأساسيَّة واضحةٌ، والتي تعنِي أنَّ التَّعامُل العسكريَّ يفترض تعدّدًا وتناسُقًا.(/3)
هناك استراتيجيَّة قومية يتدخل فيها العنصر العسكري، ثم هناك استراتيجية عسكرية، يجب أن تكون من حيثُ طبيعَتُها تحويلاً للاستراتيجيَّة القوميَّة، إلى إدراكٍ عَسْكَرِيٍّ ثُمَّ هُناكَ استراتيجيَّة ميدانيَّة تَدُورُ حَوْلَ نَقْلِ تِلْكَ الاستراتيجيَّة العَسْكَرِيَّة إلى مَيْدَان التنفيذ الفِعْلي سواء بمعنى استخدام سلاح معين، أو مُوَاجَهَة العدُوّ في مَوْقِعٍ مُعَيَّن. الاستراتيجيَّة الميدانية بهذه المعنى تفترض بدورها مستويات ثلاثة: استراتيجية كل سلاح على حدة، ثم استراتيجية كل ميدان من ميادين المعركة، تصير بدورها نوعية أخرى، وفي داخل ذلك فإن كل موقف يفرض بدوره مستوى ثالثًا سواء كان الموقف مرتبطًا بميدان المعركة، أو بلحظة التعامل، أو بظَرْف التعامل.
الذي يعنينا أن نذكر به أيضًا، أن هذا العدد لا يعني الاستقلال والانفصام. فن إدارة الحرب، يقوم على أساس كيفيَّة التفاعل والتداخل بالتأثير والتأثُّر بين جميع المستويات للاستراتيجية، بحيث لا يحدث تناقُضٌ، ولا يؤدّي التعدُّد إلى خَلْق الشعور بالفرقة أو الاستقلالية.
فهم الاستراتيجية الإسرائيلية يفترض الفَهْمَ الواضِحَ لِما قدَّمناه وهو يعني أنَّنا نستطيع أن نكتشف تلك الاستراتيجيَّة وجوهرها الحقيقي، يجب أن نسلك منهاجية أساسها التنقُّل من الجزء إلى الكل، بتدرج معين، وبحساسية وعلمية واضحة. ولذلك فإننا لنستطيع أن نصوغ تصورنا للاستراتيجية العليا والكلية للدولة اليهودية، سوف نتبع المنهاجية التالية:
أ - تحليل استراتيجية كل سلاح من الأسلحة التي تعرضنا لذكرها سابقًا.
ب - ومن ثم ومن خلال تجميع تلك الاستراتيجيات الخمس، نستطيع أن نكتشف خصائص الاستراتيجية العسكرية لتل أبيب.
ج - وهذا سوف يسمح لنا بتحديد خصائص الاستراتيجية القومية للدولة الإسرائيلية.(/4)
د - وعلى هذا الضوء نستطيع أن نكتشف أيضًا خصائص استراتيجيات أخرى فرعية، وبصفة خاصَّة استراتيجية التعامُل الاقتصادي مع المنطقة من جانب، واستراتيجية التعامُل مع مصر من جانب آخر.
نبدأ باستراتيجية التعامل النووي
مراحل تطوّر الإدراك العسكري الإسرائيلي
سبق وذكرنا أكثر من مرة، أنَّ السِّلاح النَّوَوِيَّ هو أحد العناصر الأساسية في العقيدة القتالية الإسرائيلية، ليس هذا موضع تحليل المشاكل العديدة التي يُثِيرُها الخيارُ النَّوَوِي، إلا أنَّ مجموعة من الحقائق يجب أن نقدم بها، ونحدد دلالتها في الاستراتيجية الإسرائيلية المُعاصرة، نحن لا نزال وكما سبق وحدَّدنا، نتعامل مع الاستراتيجية المُرتبطة باستخدام هذا السلاح، وليس الاستراتيجية الكلية القتالية.
أولاً - أولى هذه الحقائق أن الإدراك الإسرائيلي بصدد السلاح النووي تطوَّر تطوّرًا خطيرًا، ونستطيع بصفة عامة أن نميّز بين مراحِلَ ثلاثٍ:
أ - المرحلة الأولى: منذ وجود إسرائيل حتَّى عام 1973: حيث كان السلاح النووي سلاحًا رادعًا، القَصْد منه تخطّي عناصر الضعف التي يُعاني منها الجسد الإسرائيلي، وإرهاب العالم العربي، بحيثُ يَصِيرُ هذا السّلاح إحدى أدوات الحرب النفسية الاستراتيجية، ومن ثَم يمكن أن توصف بأنها استراتيجيَّة الردع.
ب – المرحلة الثانية: وهي منذُ حرب أكتوبر حتَّى حرب لبنان أي عام 1982: أضْحَت الاستراتيجيَّة الإسرائيليَّة أساسُها الخَوْفُ، والسّلاح النووي هو سلاح محور استخدامه أنه السلاح الأخير، حيث لا يعنيني سوى القضاء على الخصم، ولو من خلال الانتحار الذاتي، إنَّها عقدة الماسادا، وهكذا نستطيع أن نسمي هذه الاستراتيجية بأنها استراتيجية الانتحار.
ج - المرحلة الثالثة: وقَدْ بَرَزَتْ فيها القنبلة التكتيكية، لتصير هذه القنبلة أداة لاستراتيجيَّة هُجومية، تسمح بتحقيق الهيمنة الأرضية والاستئصال البشري للقدرة المعادية.(/5)
الكثير مِمَّن تعرَّض للاستراتيجيَّة الإسرائيليَّة النوويَّة، لا يزال غيرَ واعٍ بحقيقة التطور الأخير، وهو لا يزال يناقش موضوع السياسة النووية الإسرائيلية على ضوء المُعطيات السابقة على امْتِلاك القنبلة النووية التكتيكية.
ثانيًا - رغم كل ما سوف نُقدمه من تفاصيل ومصادرها موثقة؛ كما سوف يرى القارئ، فإن معلوماتنا المتوافرة والمتداولة بخصوص السلاح النووي الإسرائيلي على وجه الخصوص محدودة الأهميَّة، وكما سوف نَرَى فِيما بَعْدُ. رَغْمَ ذلك فالثَّابت أنَّ إسرائيلَ تَمْلِك القنبلة النووية ومُنْذُ فترة غير قصيرة، وهي قد توجَّهت إلى ذلك بصفة خاصة عقب فشل العدوان الثلاثي، وبمعونة القيادة الفرنسية لتستطيعَ إسرائيل أن تحمي نفسها.
تقاريرُ أكثَرِ الخُبَراءِ حِيادًا عقِبَ الكثير من التقاريرِ الدقيقة، بعضها مصدره نفس وكالة المخابرات الأمريكية، وبصفة خاصَّة عقب الأنباء التي سربها (فانونو)، والتي أخضعت لتحليل دقيق من أعظم علماء الذرة، وبصفة خاصة الصور التي قدمها الفني الإسرائيلي المذكور، فإن إسرائيل تملك اليوم ما يزيد على (مِائَتَيْ رأس نووي)؛ بل والبعض يصل به الأمر إلى القول بأن إسرائيل حاليًّا تملك القدرة على إنتاج قنابل نيوترونية. على كلٍّ فإسرائيل اليوم هي الدولة السادسة في العالم؛ كدولة نووية بكل ما يعنيه ذلك من نتائج. فسياسة إسرائيل النووية، حتى وقت قريب كانت تقوم على أسس خمسة:(/6)
أولاً - من جانب أول الغموض حول امتلاك إسرائيل للقنبلة النووية، فهي تارة تترك أخبارًا تتسرَّب عن امتلاكها لتلك القنبلة، سرعان ما تكذبها المصادر الرسمية، حتى إن اعترافات العامل الفني السابق ذكره، البعض بل والكثير من المعلقين من يعتبرها من قبيل الإخراج المسرحي، والسبب في ذلك واضح، فالسياسة الإسرائيلية تستخدم هذا السلاح وما يثار حوله وسيلة لخلق البلبلة والاضطراب في الجانب العربي، ثم هي تستخدمه أداة للابتزاز، وقد حدث ذلك في علاقة تل أبيب بواشنطن، أثناء حرب أكتوبر للحُصُولِ على السلاح الذي يسمح لإسرائيل بمواجهة التفوُّق المصري على جبهة القناة.
ثانيًا - وهي كانتْ وظلَّتْ حتَّى وقت قريب تعتبر السلاح النووي في صورته التقليدية سلاحًا للردع وليس للممارسة، ولعلَّ ما يؤكّد ذلك سلوك السلطات المسؤولة في تل أبيب أثناء حرب أكتوبر كما ذكرنا. لقد هدَّدَتْ به وباستخدامه، وبذلك استطاعت وبسرعة أن تحصل على سلاح متقدّم من واشنطن، ولا يوجد ما يمنع أن يكون تسريب هذا النبأ من جانب كيسنجر أثناء حرب أكتوبر وسيلةً يبرر بها السلاح الكثيف الذي عمل هو شخصيًّا على وصوله، وبسرعة إلى إسرائيل عقب الهجوم الأول الناجح من الجانب المصري.
ثالثًا - وهي مصمّمة على أن تظل هي - أي إسرائيل - صاحبة الاحتكار الوحيد لهذا السلاح، في منطقة الشرق الأوسط، ولذلك فهي في نفس اللحظة التي تساعد فيها، وتقدم معونتها الفنية لبعض دول العالم الثالث؛ كتايوان فهي مصمّمة على ألا تسمح لأي دولة عربية بأن تملك تقدُّمًا فَنّيًّا في هذا المجال؛ تدمير المفاعل النووي العراقي بالقرب من بغداد يدخل في هذا النطاق، واحتمالات تدمير أيّ محاولة لإعادة بناء ذلك المفاعل في المستقبل يجب أن يؤخذ بكثير من الجدية.(/7)
رابعًا - نقل المادَّة المتفجّرة النَّوَوِيَّة، والَّتِي نستطيع أن نَصِفَها بالسلاح النووي، في الفكر التقليدي الإسرائيلي يجب أن يتم باستخدام الطائرة هي وحدها التي تسمح بالوصول إلى الهدف وإصابته بدقة، ومن هنا الترابط الوثيق بين السلاح الجوي والسلاح النووي.
خامسًا - استخدام السلاح النووي من جانب إسرائيل في صورته التقليدية، يفترض توافر ثلاثة شروط؛ أن تكون هناك حرب قد هزمت فيها إسرائيل، ثم أن تكون الهزيمة وصلت إلى حدّ لم يَعُدْ مِنَ المُمْكِنِ بِخُصوصه تجنُّبُ اسْتِئْصال الدولة اليهودية، أي استئصال الوجود العبري كدولة، وكنظام سياسي في المنطقة. وأخيرًا أن تكون القوى الدولية العظمى وبصفة خاصَّة موسكو وواشنطن، قد أعلنتْ أوْ أَظْهَرَتْ إرادَةَ التَّخَلّي عن إسرائيل في تلك اللحظة، فإنَّ إسرائيلَ لن تَتَرَدَّدَ في استخْدام السلاح النووي، ولَنْ يَعْنِيها ما يَفْرِضُه ذلك من مخاطِرَ مَرَدُّها انتشار الإشعاعات النووية في نفس الأرض الإسرائيلية، وهي لذلك تُعَبّر عن مفهوم الانتحار الذاتي، كَمِحْوَر لِلتعامل القومي، وهو ليس جديدًا في التاريخ اليهودي، وبصفة خاصة في قصة المجتمع اليهودي، وتعامله مع الإمبراطورية الرومانية.
المتغيرات الجديدة والاستراتيجية الإسرائيلية:
مجموعة من المتغيرات برزت بصفة خاصة في الأعوام الخمسة الأخيرة، كان لابد وأن تفرض إعادة النظر في هذه الاستراتيجية التقليدية في الإدراك الإسرائيلي للسلاح النووي.(/8)
أولاً - وُضُوح تَدَهْوُر القُدُرات القِتاليَّة لِلْجُنْدِي الإسرائيلي، ظهر ذلك واضحًا في حرب لُبْنان، لقدِ اختفت الأسطورة التي أحاطت بالجيش الذي لا يقهر، في حرب أكتوبر، رغم ذلك فقد انطلقت الإشاعات من نفس بَعْضِ القِيادات العربية، وعرفت الدعاية الإسرائيلية أن تعيد من تنظيف الصورة المترسبة في الذهن حول هذا الجندي، بفضل قصة الثغرة وحصار الجيش المصري؛ ولكن أحداث لبنان جاءت فأعادت الأمور إلى نِصابها، ظهر الجندي الإسرائيلي على حقيقَتِه جبانًا لا يَخْشَى قدر ما يهاب القتال أو المواجهة في ميدان المعركة، حيث تكون هذه المواجهة شَخْصًا لِشَخْص، وكان لا بدَّ لِلْقِيادة العَسْكَرِيَّة من ثَمَّ أن تُعِيدَ حساباتها.(/9)
ثانيًا - برزت بوضوح كذلك حقيقةٌ لم تعد موضع مناقشة؛ السلاح النووي سوف يدخل إن آجلاً أو عاجلاً، إلى منطقة الشرق الأوسط، وسوف تستطيع دول عربية عديدة أن تمتلك هذا السلاح، سواء من خلال تَطْوِير قُدُرَاتِها الذاتيَّة، أمْ بشرائه من دول أخرى إسلامية، أو غير إسلامية، أو بالحصول عليه من السوق الدولي للسلاح من الدول التي يرشحها الخبير الأمريكي المعروف "ليفيفر" لإنتاج القنبلة الذرية وخلال فترة لا تتعدَّى نهاية القرن الحالي إلى جوار مصر، هناك العراق، وليبيا؛ بل البعض يعتقد أنَّ العراق بفضل المساعدات السخية السعودية، والتعاون المصري، والاتفاقيات بين كُلّ من الأرجنتين والبرازيل، سوف تملك هذه القنبلة خلال خمسة أعوام؛ بل وسوف تملك كل ما تَحْتَاجُه لتدمر به أجزاءً عديدة من إسرائيل، فهل سوف تقف تل أبيب منتظرة أن تصاب بالضربة الأولى؟ وما هو أهمّ من ذلك ما هي النتائج المتوقعة لانتشار السلاح؟ هل هو تحييد للسلاح فلا يُسْتَخْدم من أي من الجانبين، أم التصعيد بحيث لا بد وأن يستخدم إن آجلاً أو عاجلاً، ومن جانب أحد الطرفيين؟ ولا يجوز أن ننسى أن طهران بدورها بدأت تعد نفسها لاستخدام هذا السلاح في حروبها القادمة؛ والقيادة الإسرائيلية تعلم أن طهران هي في دائرة الصداقة مع تل أبيب؛ ولكن الصداقة المؤقتة، والموقوتة، وأنَّها مرشَّحة ومنذ الآن أن تندرج في دائرة العداوة أيضًا للدولة اليهودية.
ثالثًا - أمر آخر، لا بُدّ وأن يقلب جميع الموازين بالنسبة للسلاح النووي، كشفت عنه التحقيقات الصحفية، ويَدُور حول امتلاك اسرائيل لقنابل ذرية تكتيكية تستخدم للتدمير في مساحات محدودة.(/10)
رابعًا - وفي خلال ذلك فإن العين الدقيقة لاحظت أن الصراع الفكري الذي كان قائمًا بين الصقور والحمائم حول استخدام السلاح النووي من الجانب الإسرائيلي قد اختفى تدريجيًّا، ولم يعد يثيره أحد، هل ذلك مردّه ذلك الاكتشاف بالنسبة للقنبلة النووية التكتيكية؟ وجاء مع ذلك حادث (فانونو) فكان لا بُدّ وأن يطرح التساؤل؟ هل هو تسريب مقصود؟ أم أنه نوع من التسيب في الجهاز المشرف على التعامل مع السلاح النووي؟ وإذا كان تسريبًا مقصودًا فلماذا؟ ما الذي تَبْغِيه إسرائيل من إقناع العالم بأنَّ لَدَيْهَا أكْثَرَ من مِائَتَيْ رأس نووي؟ وإذا كان تعبيرًا عن حالة تسيب فما هي الدلالة التي يمكن أن نستخلصها من مثل هذا الموقف؟
ولكنْ ما المقصود بدِقَّة مِن أنَّ إسرائيل تملك القنبلة النووية التكتيكية لحسابها، بحيث إن القيادة العسكرية اليهودية هي التي تتحكم في كل ما يتصل بها؟
القنبلة النووية التكتيكية الإسرائيلية:
يجب منذ البداية أن نميّز بين مجموعة من الحقائق:
أ - القنبلة التكتيكية: ليست هي السلاح النووي، فالقنبلة التكتيكية هي سلاح نووي؛ ولكنه محدود الفاعلية، بمعنى أن آثاره المدمرة محدودة، بتبعية مساحية معينة، وبحيث أن الآثار المدمرة لا تتجاوز تلك البقعة؛ حدها الأدنى قرابة خمسين كيلو مترًا مربعًا، وحدها الأقصى لا يتجاوز خمسمائة كيلو مترًا مربعًا، فلو تَصوَّرنا مربعًا آخر أحد أضلاعه خمسة وعشرون كيلو مترًا، نستطيع أن نحصر آثارَ القنبلة الذَّرّية سواء المباشرة أو غير المباشر؛ بل وفي الأمد القصير نسبيًّا.(/11)
ب - كذلك علينا أن نتذكر الفارق بين القنبلة التكتيكية النووية المخزنة في إسرائيل من جانب الولايات المتحدة، وتلك التي استطاعت أن تتوصَّل إليها إسرائيل، مستقِلَّة عنِ اتّفاقها مع الولايات المتحدة ولحسابِها الخاص، سبق وذكرنا موضع القنبلة النووية التكتيكية في الترسانة المخزنة في إسرائيل، بمقتضى اتفاقيَّة التعاون بين واشنطن وتل أبيب، وهي قنبلة لا نعلم عن خصائصها الكثير؛ ولكن هناك قنبلة أخرى قد تَمَّ إنتاجُها وَتَمَّتْ تَجْرِبَتُها لحساب إسرائيل، وفي اتحاد جنوب إفريقيا، هذه هي التي تعنينا في هذا المقام.
ج - رغم ذلك فيجب أن نعترف بأن معلوماتنا المتوافرة والمتداولة بخصوص السلاح النووي الإسرائيلي على وجه الخصوص، لا تساوي قلامة ظفر، إنها قديمة من جانب، وهي لم تخضع لتحليل جدي حيث يتوفر السياسي المتخصص، والعلمي النابه، ثم العسكري الميداني من جانب آخر، ولنقدّم لذلك نموذجًا، خرجت علينا الصحافة تهلل وتبشر بخصوص ترجمة كتاب "بيتر براي" عن التّرسانة النووية الإسرائيلية (انظر الشعب بتاريخ 25/4/1989). هذا الكتاب طبع بتاريخ 1984، وتنتهي معلوماتُه عِنْدَ عام 1982 في إسرائيل، وفي جنوب إفريقيا توقف عند ذلك العام.(/12)
بدء التساؤل عن امتلاك إسرائيل للقنبلة النووية التكتيكية، كان في أواخر عام 1979 (سبتمبر)، عندما سجلت أجهزة الرصد حدوث برق ضوئي ساطع في عرض البحر بالقرب من الطرف الجنوبي لدولة جنوب إفريقيا، وقد رجح في وقته الخبراء أنَّ سبب هذا البرق الضوئي هو اختبار قنبلة ذرية، ثم كشفت عقب ذلك مصادر المعلومات - عقب هذا الانفجار مباشرة - وصول وفد عالي التخصص من إسرائيل إلى جنوب أفريقيا، وظلت المعلومات تتوافر وتتجمع حتَّى خرجت علينا مجلَّة "دير شبيجل" الألمانية منذ ثلاثة أعوام بمقال كتبه أستاذ سابق في جامعة تل أبيب، يكشف عن حقيقة التعاون بين الدولة اليهودية واتحاد جنوب إفريقيا، الذي كان أحد أبعاده إنتاج هذه القنبلة التكتيكية.
القنبلة النووية التكتيكية التي توصلتْ إليها إسرائيل بالتعاون مع جنوب إفريقيا تتميز بخصائص معينة بحيث يمكن تحديد مواصفاتها بالتالي:
أولاً - قوتها التدميرية: لا تتجاوز 2 كيلو طن، وهو الأمر الذي يَعْنِي أنَّ حُدُودَها المكانية من حَيْثُ التَّدمير لن تَتَجاوَزَ خَمْسِينَ كيلو مترًا مربعًا، أي مساحة لا تَتَجَاوَزُ من حيث اتّساعُها سبعةَ كيلو مترات طولاً في سبعة كيلو مِتْرات عرضًا، فإذا أَضَفْنا إلى تلك المساحة عَشَرَةَ أمثالها من قبيل الاحتراز المبالَغِ فيه لفهمنا إلى أيّ مدًى تستطيع إسرائيل أن تستخدم هذه القنبلة في حربها القادمة، ودون أن تَخْشَى على نفسها، ولفهمنا ولو مؤقتًا لماذا سوف تكون الخطوة الأولى في الحرب القادمة، ضرب الدول الثلاث البعيدة عن حدودها العراق وليبيا واليمن.
ثانيًا - هذه القنبلة يمكن إطلاقها من مدفع هاوبتس من عيار 155 ميلليمترات، أو من مدفع محمول على متن سفينة، أو من صاروخ جو / أرض.
هذا التطور قلب رأسًا على عقب جميع الاحتمالات، ومعه بدأ التفكير الجدي في استراتيجية إسرائيلية جديدة.
ما هي هذه الاستراتيجية؟
وما هو موضع السلاح النووي في هذه الاستراتيجية؟(/13)
وما هو موضع القنبلة التكتيكية في السياسة النووية الإسرائيلية؟
وكيف يستطيع العالم العربي تحييد هذا السلاح؟
وأين مصر من ذلك؟
الأسئلة تتداعى ولكل سؤال إجابة.
التعقيب
أين استراتيجية العالم العربي والإسلامي في مواجهة استراتيجيات الأعداء?
مصادر المقالة:
.LEFEVRE. les armees nuclearies dans le monde. 1981
. BIATIA. Unclear livals in the middle east. 1988
NASHIF. Unclear warefate in the middle east , 1986
---
[*] مؤلف المقالة أ . د . حامد ربيع ـ رحمه الله ـ قد اغتيل على يد الصهيونية العالمية في بيته .
[1] راجع كتاب "نهضة أمة كيف نفكر استراتيجيًّا" – لواء أ. ح. د. فوزي محمد طايل: الناشر مركز الإعلام العربي.(/14)
العنوان: السمنةُ.. مرضُ العصر
رقم المقالة: 1392
صاحب المقالة: مروة يوسف
-----------------------------------------
يشكو الكثير منا في هذا العصر من أعراض غريبة، أو هي كذلك تبدو له، كأن يشعر بالإجهاد عن أداء أقل جهد أو كثرة الخمول وزيادة غير طبيعية في الرغبة في النوم والكسل أو تسارع نبضات القلب بصورة لم يعتدها، فتراه يذهب بأسرع وقت والخوف يملؤه لإجراء التحاليل والفحوص والأشعة على أغلب أجزاء الجسم، ويزداد تعجبه إن لم يجد ما كان يجول بخاطره من أمراض مستعصية أو أورام أو غيرها مما يدمر الصحة!!
ولا يعلم هذا وغيره أنه مصاب بالسمنة؛ إذ لا يهتم ولا يبالي بشكل جسمه، فلا وقت لديه للتفكير في هذا الأمر مع سرعة نمط حياته وشدة انشغاله للحصول على لقمة العيش.
وإذا ما فكر البعض ممن يشكو هذه السمنة –سواء أكانت مفرطة أم متوسطة– يجد أنه ليس شرها ولا يأكل كثيرا إلى حد يصيبه بهذا المرض المزعج.
في الحقيقة يعاني كثير من الناس المداومة على بعض السلوكيات الخاطئة والعادات غير الحميدة في تناول الطعام، إذ نجد أن أغلب الناس –خاصة في الدول العربية– لا تهتم إلا بأصناف اللحوم وعلى وجه الخصوص الحمراء منها مع الأرز، وتعتبر هذه هي الوجبة الرئيسة لهم، ولا تكاد ترى للخضر الطازجة مكانا، وإن احتوت الوجبة عليها فلا يجعل لها في معدته مكانا بعد ملئها بكمية من اللحم والأرز لا تدع مجالا لغيرها من الطعام ولا تبقي لها مكانا!
ثم بعد معرفة هذا الداء يحاول الكثير تعديل نظام الغذاء وذلك بالذهاب إلى أطباء التغذية ومحاولات متكررة لإيجاد الحل المناسب، ويذهب أحدهم إلى الطبيب وفي ظنه أنه سيجد له الحل بكل سهولة وبلا تعب أو بذل جهد في إعادة جسمه لحالته الطبيعية.(/1)
وكما يقال فالوقاية خير من العلاج، فمعرفة بعض المعلومات عما يحتويه غذاؤنا من قيمة عذائية وسعرات عالية لسنا في حاجة إليها، مع معرفة القدر الذي نحتاجه وفقا للعمر والوزن والجهد المبذول يوميا قد تجنبنا الكثير من المشقة والمال في محاولات يائسة للرجوع إلى الحالة الطبيعية أو الوزن المثالي وتجنب الكثير من الأمراض –بإذن الله– التي قد تسببها السمنة.
وهذه بعض المعلومات الميسرة التي يجب على كل من يهتم بصحته أن يعلمها ويضعها في ذهنه قبل الجلوس على مائدة الطعام، وهي مكونات الغذاء الأساسية:
1- الدهون: أنواعها:
أ- دهون مشبعة: تزيد من كمية الكولسترول في الدم؛ ولذلك ينصح كثير من العلماء بتحديد ما يؤخذ من الأغذية الغنية بالكولسترول وبالدهون المشبّعة.
ب- دهون غير مشبعة: تخفض الكولسترول في الدم؛ فقد نشر بعض الباحثين دليلاً يفيد أن انخفاض مستويات الكولسترول العالية في الدم يقلل من مرض القلب.
2- الكربوهيدرات:
تشمل الكربوهيدرات جميع السكريات والنشويات بالإضافة إلى بعض المواد الأخرى مثل السليلوز والجليكوجين.
وتكون 5 5% أو أكثر من مجمل عدد السعرات في أي نظام غذائي متكامل.
ومن الأغذية الغنية بالكربوهيدرات: الموز والخبز والذرة الشامية والمكرونة والبطاطس والأرز. وتحتوي بعض مصادر الكربوهيدرات -مثل الفواكه والخضراوات والحبوب- على كميات من الفيتامينات والمعادن. وتحتوي معظم أنواع الحلويات والمشروبات على نسبة عالية من السكر. وهذه المواد تفيد الجسم لأنها مصادر للطاقة فقط، ولذا فهي لا تعطي الجسم الفوائد الصحية التي يحصل عليها الجسم من الأغذية الكربوهيدراتية الأخرى.
3- البروتينات:(/2)
البروتينات موجودة في كل خلية، وهي أساسية لحياة النبات والحيوان. وأفضل مصادر البروتينات هي الجبن والبيض والسمك واللحم والحليب. وتسمى البروتينات الموجودة في هذه الأغذية البروتينات الكاملة؛ لأنها تحتوي على كميات كافية من جميع الحموض الأمينية الأساسية.
ويحصل الجسم على معظم احتياجاته من الطاقة من الكربوهيدرات والدهون، لكنه يستخدم البروتينات أيضًا للحصول على الطاقة عندما لا تستطيع الكربوهيدرات والدهون أن تفي باحتياجاته من الطاقة. وتنتج البروتينات حوالي أربعة سعرات من الطاقة لكل جرام أي نفس المقدار الذي تنتجه الكربوهيدرات.
إذن ما هي مفاتيح التغذية الصحية؟
يجب علينا أن نأكل وجبات متوازنة، أي تحتوي على جميع أنواع المغذيات ولكن في حدود، وذلك يختلف اختلافًا بيّنًا بحسب نوع الجنس والعمر، وأيضا بحسب النشاط الذي يبذله الشخص.
وباختصار شديد هذه بعض النصائح المفيدة في تحسين سلوكيات الطعام:
1- اجعل في وجبتك الألياف: فهي تنظم حركة الطعام داخل المعدة والأمعاء، وبذلك تساعد على منع الإمساك وعلى تفريغ الأمعاء، وتساعد على تخفيض الاضطرابات في المعى المستقيم والأمعاء الأخرى مثل داء البواسير، وربما أيضًا سرطان القولون والمستقيم. ومن بين مصادر الألياف الجيدة خبز الحبوب الكاملة والرقاق والفاصوليا والبازلاء والخضراوات والفواكه.(/3)
2- قلِّل من تناول الصوديوم والسكر: فالطعام المحتوي على كثير من الصوديوم قد يزيد من مخاطر ضغط الدم العالي، ويوجد في الخضراوات المحفوظة في العلب، وفي الوجبات المجمدة والمخللات، والجبن المصنع وملح الطعام والوجبات الخفيفة مثل شرائح البطاطس والمكسرات، فالحصول على الطعام الطازج قد يفيد من مخاطر زيادة الصوديوم، وأما السكر فيوجد في الحلوى والفطائر، وكثير من الرقائق التي تؤكل في وجبات الإفطار، والفواكه المعلبة المحلاة، كما أن استبدال هذه الحلوى بالفاكهة الطازجة قد يكون حلا لمن اعتاد تناول الحلوى بكثرة.
3- تقليل الدهون المشبعة في الطعام واستبدال الدهون غير المشبعة بها وأهم مصادرها زيت الزيتون وزيت السمك.
4- تعرَّفْ محتويات طعامك أكثر من حيث عدد السعرات والقيمة الغذائية حتى لا تضر جسمك بمواد قليلة القيمة الغذائية مرتفعة السعرات الحرارية.
5- لا تكثر من تناول الأطعمة المحفوظة أو المجمدة، واستبدل بها الطازجة، ولا تحفظها في بيتك لأوقات طويلة.
6- الإقبال على الخضراوات الطازجة والفاكهة خير لك من الحصول على الفيتامينات والمعادن عن طريق الأدوية والمغذيات الصناعية.
7- أكثر من شرب الماء، فهو عصب الحياة، ومفيد لكثير من حالات السمنة، وينقي الجسم من السموم، فحاول الحصول على كمية لا تقل عن 8 أكواب من الماء يوميا.
8- لا تأكل أكثر من احتياجاتك؛ فإن شعرت بالاكتفاء فقم من فورك وابتعد عن المائدة؛ فعن مقدام بن معدي كرب قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن؛ بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" [صحيح الترمذي].
9- حاول الانتظام في أداء بعض التمارين الرياضية وبخاصة المشي فهو أيسر الرياضات على أصحاب الأوزان الثقيلة الذين قد يشق عليهم ممارسة الرياضات الأخرى.
المراجع:
- مجلة الغذاء.
- الموسوعة العربية العالمية، الطبعة الثانية.(/4)
- ألف باء الغذاء، تأليف: هبة عطية.(/5)
العنوان: السمو الروحي والجمال الفني في البلاغة النبوية
رقم المقالة: 1817
صاحب المقالة: مصطفى صادق الرافعي
-----------------------------------------
السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية
لما أردتُ أن أَكْتُبَ هذا الفضل وهمَمْتُ به، عرضتْ لي مسألةٌ نظرتُ فيها جوابَها، ثم قدَّرْتُ أن يكون أبلغُ فلاسفة البيان في أوربا لعهدنا هذا رجلاً يُحسِن العربية المُبِينَةَ، وقد بَلَغَ فيها مَبْلغَ أئمتها عِلْمًا وذَوْقًا، ودَرَسَ تاريخَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دَرْسَ الروح لأعمال الروح، وتَفَقَّهَ في شريعته فِقْه الحِكمة لأسرار الحِكمة، واستوعَبَ أحاديثه واعتبرَها بفنِّ النقد البيانيّ، الذي يبحث في خصائص الكلام عن خصائص النفس؛ وتمثلتُ أنِّي لَقِيتُ هذا الرجل فسألتُهُ: ما هو الجمال الفنيُّ عندك في بلاغة محمَّد صلى الله عليه وسلم؟ وماذا تستخرج لك فلسفةُ البيان منه؟ وما سِرُّه الذي يجتمع فيه؟
ولم يكد يَخْطِرُ[1] لي ذلك حتى انكشف الخاطر[2] عن وجه آخَرَ، وذلك أن يكون معنى هذا السؤالِ بعينه، قد وقع في شيء من حديث النفس لأَبْلَغِ أولئك العرب الذين رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به، واتبعوا النور الذي أُنزل معه، وقد صَحِبَهُ فطالت صُحبته، لا يفوته من كلامه في الملأ شيءٌ، وخالطه حتى كان له في الإحاطة بأحوال نفسه كبعض التاريخ، فتدبرْ ما عسى أن يكون سِرَّ الجمال في بلاغته - صلى الله عليه وسلم - وما مرجعه الذي يُردُّ إليه؟(/1)
لو دار السؤال دَوْرِتَّيَهُ في هذه السليقة[3] العربية المحكمة، التي رجعت أن تكون فلسفة تشعر وتحس، وفي تلك الفلسفة البيانية الملهمة، التي بلغت أن تكون سَليقة تدرس وتفكر، لَمَا خلص من كلتيهما إلا برأي واحد، تلتقي عليه حقيقة البيان من طرفيها: وهو أن ذلك الجمال الفنيَّ في بلاغته - صلى الله عليه وسلم - إنما هو أثر على الكلام من روحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها.
وبعدُ: فأنا في هذه الصفحات لا أَصنع شيئًا غيرَ تفصيل هذا الجواب وشَرْحِهِ، وباستخراج معانيه، واستنباطِ[4] أدلَّته، والكشْفِ عن أسراره وحقائقه؛ ولقد درسْتُ كلامه - صلى الله عليه وسلم - وقضيت في ذلك أيامًا أَتَتَبَّعُ السرَّ الذي وقع في التاريخ القفر المجدِب، فأَخْصَبَ به وأَنْبَتَ للدنيا أزهاره الإنسانيةَ الجميلة، فكانوا ناسًا إن عِبْتَهُم بشيء لم تَعِبْهُمْ إلا أنهم دون الملائكة، وكانوا ناسًا دارت الكرة الأرضية في عَدِّهم ثلاث دورات: واحدة حول الشمس، وثانية حول نفسها، وثالثة حول أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم.
ثم تركتُ الكلام النبوي يتكلم في نفسي، ويُلهِمَني ما أُفصِح به عنه؛ فلَكَأَنِّي به يقول في صفة نفسه: إني أصنَعُ أُمَّةً لها تاريخُ الأرض مِن بعدُ، فأنا أُقبِل من هنا وهناك، وأذهب هناك وهنا مع القلوب والأنفس والحقائق؛ لا مع الكلام والناس والوقت.
إن هاهنا دِنيًا الصحراء سَتَلِدُ الدنيا المتحضرةَ التي من ذُرِّيَّتها أوربا وأمريكا؛ فالقرآن والحديث يعملان في حياة أهل الأرض، بنور مُتَمِّمٍ لما يعمله نور الشمس والقمر.
وقد كان المسلمون يَغْزُون الدنيا بأسلحة، هي في ظاهِرِهَا أسلحة المقاتلين؛ ولكنَّها في معانيها أسلحةُ الأطباء؛ وكانوا يحمِلون الكتاب والسُّنة، ثم مَضَوْا إلى سبيلهم، وبَقِيَ الكلام من بعدِهِمْ غازيًا محاربًا في العالم كلِّه حَرْبَ تغيير وتحويل، إلى أن يَدْخُلَ الإسلام على ما دخل عليه الليل.(/2)
هذا منطق الحديث في نفسي، وقد كنت أقرؤه وأنا أَتَمَثَّلُهُ مُرْسَلاً بتلك الفصاحة العالية مِنْ فَمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيث يَمُرُّ إعجاز الوحي أوَّلَ ما يخرج به الصوتُ البَشَرِيُّ إلى العالم، فلا أرى ثَمَّ إلا أن شيئًا إلهيًّا عظيمًا متصلاً بروح الكَوْن كلِّه اتصالَ بعض السرِّ ببعض السرِّ، يتكلم بكلامٍ إنسانيٍّ، هو هذا الحديث، الذي يجئ في كلمات قوية رائعة، فنها في بلاغتها كالشباب الدائم.
كنتُ أتأمَّله قِطعًا منَ البيان؛ فأراه ينقلني إلى مثل الحالة التي أتأمَّل فيها روضةً تتَنَفَّسُ على القلب، أو منظرًا يَهُزُّ جمالُهُ النفس، أو عاطفة تَزِيد بها الحياةُ في الدمِ، على هدوء ورُوح وإحساس ولذَّة؛ ثم يَزيد على ذلك أنه يصلح من الجهات الإنسانية في نفسي، ثم يرزق الله منه رزقَ النور، فإذا أنا في ذَوْقِ البيان؛ كأنما أرى المتكلِّم - صلى الله عليه وسلم - وراء كلامه.
وأَعْجَبُ من ذلك أني كثيرًا ما أقف عند الحديث الدقيق، أتعرف أسرارَهُ، فإذا هو يشرح لي ويهديني بهَدْيِهِ؛ ثم أُحِسُّهُ كأنَّما يقول لي ما يقول المعلِّم لتلميذه: أَفَهِمْتَ؟
وقفتُ عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ قومًا ركبوا في سفينة فاقتسموا، فصار لكلّ رجل منهم موضع، فَنَقَرَ رجل منهم موضِعَهُ بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟! قال: هو مكاني أصنع فيه ما شئت، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا)).(/3)
فكان لهذا الحديث في نفسي كلامٌ طويل عن هؤلاء الذين يخوضون[5] معنا البحر، ويُسَمِّون أنفسهم بالمجدِّدين، ويَنتحلون ضروبًا من الأوصاف: كحرية الفكر، والغَيْرَةِ، والإصلاح، ولا يزال أحدهم يَنْقُرُ مَوْضِعَهُ من سفينة دِيننا وأخلاقنا وآدابنا بفأسه؛ أي: بقلمه... زاعمًا أنه مَوْضِعُهُ من الحياة الاجتماعية، يصنع فيه ما يشاء، ويتولاه كيف أراد، موجِّهًا لحماقته وُجُوهًا من المعاذير والحُجَج؛ من المدنِيَّة والفسلفة، جاهلاً أنَّ القانون في العاقبة دون غيرها؛ فالحُكْم لا يكون على العمل بعد وقوعه؛ كما يحكم على الأعمال الأخرى؛ بل قبل وقوعه، والعقاب لا يكون على الجُرم يَقْتَرِفُهُ المجرم؛ كما يعاقَب اللص والقاتل وغيرهما؛ بل على الشروع فيه؛ بل على تَوَجُّهِ النية إليه، فلا حرية هنا في عمل، يُفْسِدُ خشب السفينة، أو يَمَسُّهُ من قُرْب أو بُعْدٍ، ما دامت مُلْجِجَةً في بحرها، سائرةً إلى غايتها؛ إذ كلمة "الخَرْق" لا تَحمل في السفينة معناها الأرضي، وهناك لفظة (أَصْغَرُ خَرْقٍ) ليس لها إلا معنى واحد، هو (أَوْسَعُ قَبْرٍ)...
فَفَكِّرْ في أعظم فلاسفة الدنيا مَهْما يكن من حريته وانطلاقه، فهو هاهنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد، تفسيرها في لغة البحر: حدود الحياة والمصلحة، وكما أن لفظة "الخَرْق" يكون من معانيها في البحر القَبْر والغَرَق والهلاك، فكلمة "الفلسفة" يكون من بعض معانيها في الاجتماع: الحماقة والغفلة والبلاهة، وكلمة "الحرية" يكون من معانيها: الجناية والزيغ والفساد، وعلى هذا القياس اللغوي، فالقلم في أيدي بعض الكتاب من معانيه الفأس، والكاتب من معانيه المُخَرِّب، والكتابة من معانيها الخيانة؛ قال لي الحديث: أفهمتَ؟(/4)
هكذا يجب تَأَمُّل الجمال الفنّيِّ في كلامه - صلى الله عليه وسلم - فهو كلام كلما زِدْتَهُ فِكرًا زادك معنًى، وتفسيرُه قريب قريب؛ كالروح في جسمها البشري؛ ولكنه بعيد بعيد؛ كالروح في سِرِّها الإلهي؛ فهُو مَعَكَ على قَدْرِ ما أَنْتَ مَعَه؛ إن وقفْتَ على حدٍّ وَقَفَ، وإن مَدَدْتَ مَدَّ، وما أَدَّيْتَ به تَأَدَّى[6]، وليس فيه شيء مما تراه لكل بُلَغاء الدنيا من صناعة عَبَثِ القول، وطريقة تأليف الكلام، واستخراج وضعٍ من وضع، والقيام على الكلمة حتى تُبَيَّضَ كلمة أخرى... والرغبة في تكثير سواد المعاني، وتَرْك اللسان يَطِيشُ طَيْشَهُ اللُّغَوِيَّ، يتعلق بكل ما عَرَضَ له، ويَحْذُو الكلام على معاني ألفاظه، ويجتلب له منها ويَستكرِهُها على أغراضه، ويطلب لصناعته من حيث أدرك وعجز، ومن حيث كان ولم يكن؛ إنما هو كلام قيل لتصير به المعاني إلى حقائقها؛ فهو من لسانٍ وراءَهُ قَلْبٌ، وراءه نور، وراءه الله - جل جلاله - وهو كلام في مجموعه كأنه دنيا أصدرها - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه العطيمة، لا تَبْرَح ماضيةً في طريقها السَّوِيِّ على دين الفطرة؛ فلا تتَّسع لخلاف، ولا يقع بها التنافر؛ والخلاف والتَّنافُر إنَّما يكونانِ من الحيوانيَّة المختَلِفة بطَبِيعَتها؛ لقيامِها على قانون التَّنازُع، تَعْدُو به وتجترم[7] وتأثم، فهي نازلة إلى الشرِّ، والشرُّ بعضه أَسفلُ من بعض، أمَّا رُوحانية الفطرة فمُتَّسِقَة[8] بطبيعتها، لا تقبل في ذاتها افتراقًا ولا اختلافًا؛ إذ كان أوَّلها العلوَّ فوق الذاتية، وقانونُها التعاونَ على البِرِّ والتقوى، فهي صاعدة إلى الجهير، والخير بعضه أعلى من بعض.
فكلامه - صلى الله عليه وسلم - يجري مَجْرَى عمله: كلُّه دين وتقوَى وتعليم، وكلُّه رُوحانيَّة وقوة وحياة؛ وإنَّه يخيَّلُ إليَّ وقد أُخِذْتُ بِطُهْرِه وجمالِه، أنَّ منَ الفنِّ العجيب أن يكون هذا الكلام صلاة وصيامًا في الألفاظ.(/5)
أما أُسلوبه - صلى الله عليه وسلم - فأجد له في نفسي روحَ الشريعة ونظامها وعزيمتها، فليس له إلا قوة، قوَّة أمْرٍ نافذ لا يتخلَّف، وإنَّ له مع ذلك نَسَقًا هادئًا هُدُوءَ اليقين، مُبِينًا بيانَ الحكمة، خالصًا خُلوص السرِّ، واقعًا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكرها؛ وكيف لا يكون كذلك وهو أَمْرُ الروح العظيمة الموجهة بكلمات ربها ووَحْيِهِ، ليَتَوَجَّهَ بها العالم كأنه منه مكان المحور: دورَتُه بنفسه، هي دورته بنفسه وبما حوله؟! رُوح نبي مصلِح رحيمٍ، هو بإصلاحه ورحمته في الإنسانية، وهو بالنبوة فوقَها، وهو بهذه وتلك في شمائله وطِباعه مجموعٌ إنسانيٌّ عظيم لو شُبِّهَ بشيء لَقيل فيه: إنه كمجموع القارات الخمس لعمران الدنيا.
ومَن دَرَس تاريخه - صلى الله عليه وسلم - وأعطاه حقَّهُ منَ النظر والفِكْر والتحقيق، رأى نَسَقًا منَ التاريخ العجيب؛ كنظام فَلَكٍ منَ الأفلاك، مُوَجَّه بالنور في النور من حيث يبدأ إلى حيث ينتهي، فليسَ يَمْتَرِي عاقِلٌ مُمَيِّز أنَّ هَذِه الحياةَ الشريفةَ بذلك النظام الدقيق في ذلك التوجُّه المحكَم، لا يُطِيقُها بَشَر من لحمٍ ودمٍ على ناموس الحياة؛ إلا إذا كان في لحمه ودمه معنى النور والكهرباء على ناموسٍ أقوى من الحياة.
ولم يكن مثله - صلَّى الله عليه وسلم - في الصبر والثبات، واستقرارِ النفس، واطمئنانها على زلازل الدنيا، ولا في الرحمة ورقةِ القلب والسُّمُوِّ فوقَ معانِي البقاء الأرضيِّ، فهو قد خُلِق كذلك ليغلب الحوادث ويتسلط على المادة، فلا يكون شأنه شأنَ غيرِهِ منَ الناس: تَدْفِنُهُم معاني التراب وهم أحياء فوق التراب، أو يَحُدُّهُمُ الجسمُ الإنسانيُّ من جميع جهاتهم بحدودِ طِباعه ونَزَعاته، وبذلك فقد كان - عليه الصلاة والسلام - مَنْبَعَ تاريخ في الإنسانية كلِّها دائمًا، ولِرَأْسِ الدنيا نظام أفكاره الصحيحة.(/6)
عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((انطلق ثلاثة رهط[9] مِمَّن كان قبلكم، حتَّى أَوَوُا المبيت إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرتْ صخرة منَ الجبل فسَدَّتْ عليهمُ الغارَ، فقالوا: إنه لا يُنْجِيكُم من هذه الصخرة؛ إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان شيخانِ كبيرانِ، وكنتُ لا أغبق قبلهما أهلاً ولا[10] مالاً، فنأى[11] بي في طلب شيء يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غَبُوقَهُمَا، فوجدتهما نائمَيْنِ، فكرهتُ أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي، أنتطر استيقاظَهُما حتى بَرَقَ الفجر[12] ، فاستيقظا فشربا غَبُوقهما، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففَرِّجْ عنا[13] ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج)).
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وقال الآخَرُ: اللهم كانت لي بنت عمٍّ كانت أحبَّ الناس إليَّ، فأردتُها عن نفسها[14] فامتنعت مني، حتى ألمَّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتُها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، فَفَعَلَتْ، حتَّى إذا قدرتُ عليْها قالتْ: لا أُحِلُّ لكَ أن تَفُضَّ[15] الخاتَمَ إلا بحقِّهِ فتَحَرَّجْتُ[16] منَ الوقوع عليها، فانصرفتُ عنها وهي أحبُّ الناس إليَّ، وتركت الذهب الذي أعطيتُها، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فافْرُجْ عنا ما نحن فيه، فانفرجتِ الصخرةُ غيرَ أنهم لا يستطيعون الخروج منها)).(/7)
قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((وقال الثَّالثُ: اللَّهمَّ إنّي استأْجَرْتُ أُجَراءَ فأعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ؛ غير رجل واحد تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فثمَّرتُ[17] أَجْرَهُ، حتَّى كثُرَتْ مِنْهُ الأموال، فجاءني بعد حينٍ فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أَجْرِي، فقلت له: كلُّ ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كلَّهُ فاستاقه فلمْ يترك شيئًا، اللَّهُمَّ فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافْرُجْ عنَّا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون)). انتهى الحديث.(/8)
وأنا فلستُ أدري أهذا هو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتكلَّم في الإنسانية وحقوقها بِكلام بيِّن صريح لا فلسفةَ فيه، يجعل ما بين الإنسان والإنسان من النية هو ما بين الإنسان وربِّه منَ الدين؛ أم هي الإنسانية تَنْطِقُ على لسانه بهذا البيان العالي، في شعر من شعرها ضاربة فيه الأمثال، مشيرةً فيه إلى الرموز، واضعة إنسانَها بين شِدَّة الطبيعة ورحمة الله، مُحَكِّمَةً عناصر روايتها الشِّعْرِيَّة، مُحَقِّقَةً في بيانِها المكشوفِ أَغْمَضَ معانِيها في فلسفةِ الحاسَّة الإنسانية حين تتَّصل بأَشْيائِها فتظهر الضرورة البشرية، وتختفي الحِكمة، وفلسفة الروح حين تتصل بهذه الأشياء ذاتها، فتظهر الحكمة وتختفي الضرورة، مُبِينَة أثر هذه وتلك في طبيعة الكون، مقَرِّرَة أنَّ الحقيقة الإنسانية العالية لن تكون فيما ينال الإنسان من لذَّتِه، ولا فيما يُنجِح من أغراضه، ولا فيما يُقنِعه من مَنْطِقِهِ، ولا فيما يَلُوح من خياله، ولا فيما ينتظم من قوانينه؛ بل هي السُّمُوُّ على هذه الحقائق الكاذبة كلِّها، وهي الرحمة التي تَغْلِبُ على الأَثَرَةِ فيُسَمِّيها النَّاسُ بِرًّا، والرحمة التي تغلب على الشهوة فيُسمّيها الناس عِفَّة، والرحمة التي تغلب على الطمع فيسميها الناس أمانة؛ وهي في ضبط الروح لَثَلاثٌ من الحواسِّ: حاسة الدَّعَة، التي يقوم بها حظُّ الخُمُول، وحاسَّة اللَّذَّة التي يقوم بها حظُّ الهوى، وحاسة التملُّك التي يقوم بها حظُّ القوة.(/9)
وتَزيد الإنسانية على ذلك في نَسَقِ شِعرها أنها تُثبِت أن البِرَّ من العِفَّة والأمانة هو على إطلاقه كالأساس لهما؛ فمَن نشأ على بِرِّ أبويه كان خَلِيقًا أن يتحقق بالعِفَّة والأمانة، وأن العِفَّة من الأمانةِ والبِرِّ هي مِساكُهُما وجامعتهما في النفس، وأن الأمانة من البِرِّ والعِفَّة هي كمال هذه الفضائل، وكلُّهن درجاتٌ لحقيقة واحدة؛ غيرَ أنَّ بَعْضَهَا أَسْمَى من بعض في الشأنِ والمَنْزِلَةِ، وبعضها طريقٌ لبعض يَجُرُّ سببٌ منها سببًا منها، وأن الرحمة الإنسانية التي هي وَحْدَها الحقيقةُ الكبرى، إنَّما هي هذا الحبّ بادئًا من الولد لأبويه، وهو الحبّ الخاصّ؛ ثم من المُحِبُّ لحبيبته وهو الحبُّ الأخص، ثم من الإنسان للإنسانية، وهو الحبّ مطلقًا بعمومه وبغير أسبابه الملجِئة من الحاجة والغريزة؛ وهي درجاتٌ كدرجات الحياة نفسها من طفولتها إلى شبابها إلى الشيخوخة، ومن العاطفة إلى الرغبة إلى العقل.
ثُمَّ إنَّه ما دام كمالُ الفضيلة هو الأمانةَ، فما قَبْلَهَا أنواعٌ منها؛ فَبِرُّ الولد أمانة الطبع المتأدِّب، وعِفَّة المحبِّ أمانة الكريم، والثَّالِثة أمانة الخُلُق العالي وهي أسماهُنَّ؛ لأنها لن تكون خُلُقًا ثابتًا إلا وقد خضع لقانونها الطبعُ والقلب، ودخل في أسبابها الأدبُ والكرم؛ فالأمانة الكاملة في هذه الفلسفة هي الأمانة للإنسانية العامة المتصلة بالمرء من أبعد جهاته، دون الإنسانية الخاصة بكل شخص من أب، أو أم أو قريب، ودون التي هي أخص وهي إنسانية الحب.(/10)
ونرى في لفظ الحديث أن كل رجل من هؤلاء الذين مثلوا رواية الإنسانية الفاضلة في فصولها الثلاثة، لا يقول: إنه فعل ما فعل من صالحِ أعمالِهِ إلا (ابتغاء وجه الله) وقد تطابقوا[18] جميعًا على هذه الكلمة، وهي من أدقِّ ما في فلسفة الإنسانية في شِعرها ذلك؛ فإن معناها أنَّ الرجل في صالحِ عملِهِ إنما كان مجاهدًا نفسَه، يمنعها ما تحرص عليه من حظِّها أو لَذَّتها أو منفعتها؛ أي: منخَلِعًا من طبيعته الأرضية المنازِعةِ لسِواها المنفردةِ بذاتها، متحقِّقًا بالطبيعة السماوية التي لا يرحم الله عبدًا إلا بها، وهي رحمة الإنسان غيرَهُ؛ أيِ: اندماجه باستطاعته وقوته، وإعطاؤه من ذات نفسه ومعاونته كفّ أذاه.(/11)
والحديث كالنَّصِّ على أنَّ هذه الرحمة في النفس هي الدين عند الله، لا يصلح دين بغيرها، ولا يقبل الله صَرفًا ولا عَدْلاً من نفس تخلو منها؛ وإذا كانت بهذه المنزلة، وكانت أساسَ ما يُفَوَّضُ على الإنسان من الخير والحقِّ، فهي من ذلك في معنى الحديث أساسُ ما يُصلِح هذه الإنسانيةَ من الشرِّ والباطل؛ وبهذا كلِّه تكون الغايةُ الفلسفيةُ التي ينتهي إليها كلامه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ تَنْشِئَةَ الناس على البِرِّ والعِفَّة والأمانة للإنسانية هي وَحْدَهَا الطريقةُ العملية الممكنة لحَلِّ معضِلة الشرِّ والجريمة في الاجتماع البشريِّ، وانظر كيف جعل نهاية السمُوِّ في رحمة المال، الذي يصِفُونه بأنه شقيق الروح؛ فكأنَّ الإنسان لا يَخرُج فيها لغيره من بعض ماله؛ بل يَنْخَلِعُ من بعض رُوحه؛ وهذا يقرر لك فلسفةً أخرى: أن السعادة الإنسانية الصحيحة في العطاء دون الأخذ، وأنَّ الزائفة هي في الأخذ دون العطاء، وذلك آخِر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق، فما المرء إلا ثمرة تنضج بموادِّها، حتى إذا نضجت واحلولتْ، كان مظهرُ كمالِها ومنفعتها في الوجود أن تَهَبَ حلاوتها، فإذا هي أمسكتِ الحلاوة على نفسها لم يكن إلا هذه الحلاوةُ بعينها سببٌ في عَفَنِها وفسادها من بعدُ، أَفَهِمْتَ؟...
وما دمنا قد وصفنا رحمة المال، فإنَّا نُتِمُّ الكلام فيها بهذا الحديث العجيب في فنِّ تمثيله وبلاغةِ فنِّه:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَثَلُ البخيلِ والمنفِقِ كمَثَل رجلينِ عليهما جُبَّتانِ من حديد، من ثديهما إلى تَراقيهما؛ فأما المنفِق فلا ينفق إلا سَبَغَتْ[19] أو وفرت على جلده حتى تُخفِي بنانه[20] وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفِق شيئًا إلا لزِقت كلُّ حَلْقَةٍ مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع)). انتهى.(/12)
فأنت ترى ظاهر الحديث، ولكنَّ فنَّه العجيب في هذا الحديد الذي يراد به طبيعة الخير والرحمة في الإنسان، فهي من أشَدِّ الطبائع جمودًا وصلابة واستعصاء، متى اعترضَتْها حظوظُ النفس الحريصة وأهواؤُها، ومع ذلك فإن السخاء بالمال يَبسط منها، وينتهي في الطبع إلى أن يجعلها لَيِّنَةً، فلا تزال تمتدُّ وتُسبِغ حتى يكون كمال طَبْعِ السخاء هو كمالَ طَبْعِ الخير في النفس الكريمة، فمَن ألزم[21] نفسَه الجود والإنفاق، رَاضَها[22] رياضة عملية؛ كرياضة العَضَلِ بأثقال الحديد، ومعاناة القوة في الصراع ونحوِهِ، أمَّا الشُّحُّ[23] فلا يناقض تلك الطبيعة؛ ولكنه يَدَعُها جامدةً مستعصِيَةً، لا تَلِينُ ولا تستجيب ولا تتيسَّر.
وقد جعل الجُبَّة منَ الثُّدي إلى التراقي، وهذا من أبدع ما في الحديث؛ لأن كلَّ إنسان فهو منفِق على ضروراته، يستوي في ذلك الكريم والبخيل، فهما على قَدْرٍ سواءٍ من هذه الناحية؛ وإنما التفاوُت فيما زاد وسبغ من وراء هذا الحد، فههنا[24] يبسط الكريم بَسْطَهُ الإنسانيَّ، أمَّا البخيل فهو يريد لأنه إنسان، والإرادة علم عقلي لا أكثر، فإذا هو حاول تحقيق هذه الإرادة، وقع من طبيعة نفسه الكزَّة فيما يعانيه مَن يُوَسِّع جُبَّةً منَ الحديد، لزقت كل حلقة من حلقاتها في مكانها، فهي مستعصية متماسكة، فهو يوسعها فلا تتسع.
ألا ترى كيف تَتَوَجَّهُ الحُجَّة، وكيف تَدِقُّ الفلسفة، وهي في أظهر البيان وأوضحه؟ وهل تَحْسَبُ طبيعة البخيل في دقائقها النفسية لو هي نطقت - بالغةً من وصف نفسها هذا المبلغَ من جمال الفنِّ وإبداعه؟ وهو بعدُ، وصف لو نُقِلَ إلى كل لغات الأرض لَزَانَهَا جميعًا، ولكان في جميعها كالإنسان نفسه؛ لا يختلف تركيبه؛ فلن يكون بثلاثة أعين، لا في بلاد شكسبير ولا في بلاد الزنوج.(/13)
إن كلام نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يُتَرْجَمَ بفلسفة عصرنا وآدابه، فستراه حينئذ كأنما قيل مرة أخرى من فم النبوة، وستراه في شرحه الفلسلفيِّ كالأزهار الناضرة: حياتها بَشَاشَتُها في النور؛ وتعرِفُهُ إنسانيةٌ قائمة، تُصَحَّحُ بها أغلاط الزمن في أهله، وأغلاط الناس في زمنهم؛ وتجِدُه يَرِفُّ على البشريَّة المسكينة بحنانٍ كحنان الأم على أطفالها، والناس الآن كالأطفال غابت أمهم، فهُمْ في تنافُر صِبيانِيٍّ ... وما الأم بطبيعتها إلا الميزانُ لاستبدادهم، والحِكمةُ لطَيْشِهِمْ، والائتلافُ لتنافرهِم[25] والنظامُ لعَبَثِهِمْ[26] وبالجملة: فحنان قلبها الكبير هو القانون لكل قضايا هذه القلوب الصغيرة.
وقد كتبنا في فلسفة الأدب وحقيقته ومعانيه الإنسانية، وأن الأديب التامَّ الأداةِ هو الإنسان الكونيُّ، وغيره هو الإنسان فقط، وأن عِلْمُ الأديب هو النفسُ الإنسانية بأسرارها المتجهةُ إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فمَوْضِعُهُ من الحياة موضعُ فِكرةٍ حدودُها من كل نواحيها الأسرار، وأن الأديب مكلَّفٌ تصحيحَ النفس الإنسانية، ونَفْيَ التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات، ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق ثم إلى فوق، ودائمًا إلى فوق.(/14)
فإذا تدبَّرْتَ هذا المقال، واعتبرتَ كلامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما بيَّنَّا وشَرَحْنا، وأخذتَهُ من عصره ومن العصر الذي نعيش فيه، ونظرتَ إلى ألفاظه ومعانيه واستبرَأْتَ[27] ما بَيْنَها من خواصِّ الفَنِّ بِمِثْلِ ما نبَّهناكَ إليه من التأويل الذي مرَّ بِكَ، وعلمتَ أنَّ كُلَّ حقيقةٍ فنية لا تكون كذلك إِلا بخاصة فيها، وأنَّ سِرَّ جمالِها في خاصتها، إذا جمعتَ ذلك لم تَرَ مذهبًا عن الإقرار بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو أعظم نبيٍّ وأعظمُ مصلِحٍ، فهو أعظم أديب؛ لأن فنَّه الأدبيَّ أعظم فنٍّ يحقِّق للإنسانية حياة أخلاقها، وهو بكل ذلك أعظم إنسان، صلى الله عليه وسلم.
فالفنُّ في هذه البلاغة هو في دقائقه أثرُ تلك الروح العليا بكل خصائصها العظيمة، التي يحتاج إليها الوجود الروحانيُّ على هذه الأرض، ولذا ترى كلامه - صلى الله عليه وسلم - يخرج من حدود الزمان؛ فكل عصر واجدٌ فيه ما يقال له، وهو بذلك نُبُوَّةٌ لا تنقضي، وهو حي بالحياة ذاتها؛ وكأنما هو لون على وجه منها - كما ترى - البياضُ مثلاً، هو اللون على وجه طائفة من الجنس البشري..
فإذا نظَرْتَ فِي هذا الفَنِّ فانظرْه في حديثه، وفي عمله، وفي الدنيا التي أَلَّفَها من التاريخ تأليفَ القطعة البليغة النادرة من الكلام، ورُدَّ كلَّ ما تدبَّرْتَهُ[28] من ذلك إلى الروح الجديدة على تاريخ الأرض؛ فَلَتَعْلَمَنَّ حينئذ أنَّ كل بليغ هو شمعة مضيئة، صنعتْ لها مادةُ النور نورًا وجمالاً، بجانب هذه الشمس التي خُلِقَتْ فيها مادة النور نورًا وجمالاً وحياةً وقوَّة؛ هناك نور لذي عينين، وهنا النور لكل ذي عينين؛ وذاك يتخايل كالحُلم، وهذا يفصح كالحقيقة؛ وذلك ضوء من حوله الظلمة دانية، وهذا قد طَرَدَ الظلمة عن نصف الدنيا إلى نصف الدنيا، والأوَّل نور بلا روح، والثاني هو روح النور.(/15)
تلك في رأينا هي الطريقة التي كان يفهمه بها أصحابه - صلى الله عليه وسلم - كما يفهم الشاعر نور القمر في ليلة صيف بمعانٍ من الزمان والمكان، ومن النفس والحالة، ومن الهيئة والشكل، ومن العين والفِكر، ومن السماء والأرض؛ ففيه النور وزيادة؛ أيِ: الحقيقة وما ترتفع به على نفسها، وبهذه الطريقة كانوا معه كأعظم فلاسفة الفَنِّ مع الفَنِّ؛ إعجابًا وحُبًّا وانقيادًا وطاعةً؛ حتى انخلعوا[29] من عصرهم ودنياهم، وخرجوا من أحوالهم وطبائعهم، وانجذبوا إليه أشدَّ انجذاب عرفه التاريخ، وأصبحوا مُصَرَّفِينَ معه تصريفَ الحوادث؛ لا تصريف الأشخاص، وعادت أنفسهم وكأنَّ تأثير الأرض يلتقي فيها بتأثير السماء، فيُغْسَلُ في سُحُب عالية، فلا يكون فيها كما يريده الناس؛ بل كما يريد الله، ورجعت قلوبهم لا تُلَبِّسُ على دينها رأيًا ولا هوًى، وكأنما وُضِعَ لها هذا الدينُ حرسًا على كل سَمْعٍ وعلى كلِّ بَصَر؛ وبالجملة فأولئك قوم كأنما تناولهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأَفْرَغَهُم ثم ملأهم، وما انتقلوا إلى منزلتهم العالية في التاريخ؛ إلا بعد أن نقلهم هو إلى منزلة من منازل نفسه الشريفة.
وناهيك من رجال يُمَثَّلُ لهم بهذا المَثَل، الذي يَضرِبه لهم في الإيمان ليبلغوه أو يقاربوه؛ فعن خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ - رضي الله عنه - قال: "شَكَوْنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكعبة، قلنا: ألا تَستنصِر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! قال: ((كان الرجل فيمن قبلَكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيجاء بالمِنشار، فيوضع على رأسه، فيُشَقُّ باثنين، وما يَصُدُّهُ ذلك عن دِينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عَظْمٍ أو عَصَبٍ، وما يَصُدُّه ذلك عن دِينه)).(/16)
فانظر يا هذا، فإنه لو اجتمعتْ قُوَى الكون فجاءت يَشُدُّ بعضُها بعضًا فنزلت في عبارة من الكلام لتملأ نفوس المؤمنين بقوَّتها، لما وضعت إلا هذا الوضع من هذا التمثيل بأمشاط المسامير، وأسنان المنشار في عظم الإنسان الحي ولحمه، وظاهر التمثيل على ما رأيت من العَجَبِ، ولكنَّ له باطنًا أَعْجَبَ من ظاهره، وهو البلاغة كلُّ البلاغة، والبيانُ حقُّ البيان فإنَّما يريد - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحديد لا يأكل، ولا يمزع من أولئك الأقوياء بإيمانهم عظمًا، ولحمًا، وعصبًا؛ بل هو حديد يأكل حديدًا مِثْلَهُ، أو أَشَدَّ منه؛ فإنَّ للروح المؤمنةِ المُسَلَّطَةِ على جِسْمِها قُوَّةً تَصنع هذه المعجزةَ؛ فيَمُرُّ الحديد في العَظْم واللحم والعَصَب، يَسْلُبُها الحياةَ، ولكنها تَسْلُبُهُ شِدَّتَهُ، وجَلَدَهُ، وصَبْرَهُ!.
وكل ما جاء منَ التمثيل في كلامه - صلى الله عليه وسلم - يَنْطَوِي فيه من إِبْدَاعِ الفَنِّ البَيَانِيِّ، وإعجازِهِ ما يَفُوتُ حُدودَ البُلَغاءِ حتَّى لا تَشُكَّ إذا أنت تدبَّرْتَهُ بحقِّهِ منَ النظر والعلم أنَّ بلاغته إنَّما هي شيء كبلاغة الحياة في الحيِّ: هي البلاغة، ولكنها أبدع مما هي؛ لأنها الحياة أيضًا.(/17)
وأنت خبيرٌ أن هذا النبيَّ الكريمَ - صلى الله عليه وسلم - كانت تأخذه عند نزول الوحي عليه أحوالٌ وُصِفَتْ في كُتُبِ الحديث: قالت عائشة - رضي الله عنها -: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فَيَفْصِمُ[30] عنه، وإن جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ[31] عَرَقًا"، وفي حديث آخَرَ عنها قالت: "فأخذه ما كان يأخذه من البَرْحَاءِ[32] حتى إنه لَيَتَحَدَّرُ[33] عنه مِثْلُ الجُمَانِ[34] منَ العَرَق في يومٍ شاتٍ"، وفي حديث زيد بن ثابت: "فأنزل الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفَخِذُهُ على فَخِذِي فثَقُلَتْ عليَّ حتى خِفْتُ أن تَرُضَّ[35] فَخِذِي"، وفي حديث يَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ حين قال لعمر: "أَرِنِي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حين يوحى إليه: فأشار عمر إليَّ، فجئتُ وعلى رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبٌ قد أظلَّ به فأدخلتُ رأسي فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُحْمَرُّ الوجهِ، وهو يَغُطُّ"[36] أي: يُرَدِّدُ نَفَسَهُ من شِدَّةِ ثِقَلِ الوَحْيِ".
فهذه كلُّها أحوال تَصِفُ عَمَل الدِّماغ بكل ما فيه من جُهد القُوى العَصَبِيَّة؛ ليرتفع بالحياة إلى ما فوقها، ويتركها لوعي الروح وحدها، لا يشاركها في هذا الوعي فِكْر، ولا هاجس[37]، ولا يتَّصل به شيء من حياة الحيِّ، فيتحقَّق للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجودٌ آخَرُ غيرُ وجوده المحدود بجسمه، وطباعه، ودُنياه؛ ويخرج بوَعْيِهِ من هذه الجاذبية الأرضية إلى ما وراء حدود الطبيعة من قُوى الغَيْب، وبذلك يتلقى عن روح الكون ثم يَفْصِمُ عنه وقد وعى ما أُوحِيَ إليه.(/18)
وما وصفه زيد بن ثابت - من أن فَخِذَهُ كادت تَرُضُّ - برهانٌ قاطع على أنَّ روحه - صلى الله عليه وسلم - تَنْسَرِحُ[38] من جسمه ساعةَ الوحي فَيَثْقُلُ الجسم؛ لأنَّهُ إنَّما يخفُّ بِالرّوح، وتَبقى وظائفُ الحياة عاملةً أعمالَها بعُسْر وبُطْءٍ؛ لاتصالها بشعاع من الروح دُون الروح بجملتها؛ ولسنا هنا بصَدَد الكلام عنِ الوحي؛ فله موضع إن شاء الله في كتابنا "أسرار الإعجاز" وإنما نريد أن ندلُّ على أنَّ هذه التهيئة الإلهية لذلك الجهاز العصبي، لها أثرها العظيم في فنِّ بلاغته - صلى الله عليه وسلم - وبها امتاز عن كلِّ بُلَغاء الدنيا؛ فإن المُلْهَمَ[39] من أفذاذ العَبْقَرِيِّينَ على هذه الأرض إنَّما يبلغ ما يبلغه ببعض هذا الذي رأيت، وفي بعض هذا أَبْدَعُ ما وَرِثَتِ الدّنيا من فنون البيان، وكأن في الدماغ مادَّةً في موضعٍ منه يَمِيزُ بها مَنْ تَخْتَارُهُمُ السماء لحكمتها وإلهامها، وإذا كان فنُّ العَبْقَرِيِّينَ هو أسمى الكلام الإنسانيِّ لما خُصُّوا به من هذه التهيئة فإنَّ فنَّه - صلى الله عليه وسلم - يكون - ولا جَرَمَ - من باب الأكبر مما هو أكبر في إلهام الإنسانية كلها.(/19)
ولهذه القوة النادرة كان بيانُهُ قويًّا على مزج معانيه بالنفس بما فيه من صَنْعَة الحياة، وإنَّما فلسفة البيان الفَنّيِّ أن تَمْتَدَّ الحياةُ من النفس إلى اللفظ، فتصنعَ فيه صُنْعَها، فتَفْصِلَ العبارة الفَنّيَّة عن كاتِبِها، أو قائِلها، وهي قطعةٌ من كلامه لتستحيل عند قارئها، أو سامعها قطعة من الحياة في صورة من صور الإدراك؛ فالبيان الفنيُّ هو الوسيلة لحمل الوجود وبَعْثَرَتِهِ في مواضعَ غيرِ مواضِعِهِ، وخَلْقِهِ خَلْقًا آخَرَ في النفس الإنسانية؛ وبذلك يؤول[40] قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ مِنَ البيانِ لَسِحْرًا))، جَعَلَ نَوْعًا من البيان هو السحرَ، لا البيانَ كلَّه؛ فالحديث كالنَّصِّ على ما تُسَمِّيهِ الفلسفة الأوربية اليوم "بالبيان الفَنّيِّ" كأنه قال: إنَّ من البيان فَنًّا هو سحر من عمل النفس في اللغة تُغَيِّر به الأشياء، وله عَجَبُ السحر وتأثيره وتصرُّفه؛ وهذا معنًى لم يَتَنَبَّهْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، ولا يذكر معه كل ما قالوه في تفسير الحديث، وبذلك التأويل يكون هذا الحديث قدِ احْتَوَى أَسْمَى حقيقةٍ فلسفية للفن.
ومن أثر تلك القُوَّةِ أَيْضًا: ما تراه من شِدَّة الوضوح في كلامه - صلى الله عليه وسلم - ولقد رأينا هذه البلاغةَ النَّبويَّةَ العجيبةَ قائمةً على أنَّ كُلَّ لفظ هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة؛ فالعِنايَةُ فِيها بِالحقائِق ثم الحقائق هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها؛ وبذلك يأتي الكلام كأنه نُطْقٌ للحقيقة المعَبِّرُ عنها، والكلمة الصادقة تُنْطَقُ مرةً واحدة؛ فصورتها اللغوية لا تكون إلا صريحة منكشفة عن معناها المضيء كأنَّما ألقي فيها النور.(/20)
وهو معلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلف ولا يتعمَّل، ولم يكتب ولم يؤلف ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعًا يَقبل التنقيح[41] أو تعرف له رِقَّةً من الشأن كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياسٌ وميزانٌ، أو كأنَّ هذه البلاغةَ تَنْبَثِقُ بالكلام على طبيعة عاملة فيه بِقُواها الدائبة الثابتة ففنُّها الجميلُ هُوَ التَّركيبُ الذي تجئ فيه كما ترى الشجر مثلاً كاسيًا من ورقِهِ وزَهْرِهِ؛ فأنت منه بإزاء عَمَلٍ جميل؛ لأنَّك بِإِزاءِ حقيقةٍ طبيعيَّةٍ قَدِ انفردت في ذاتها، ومعنى انفرادها في ذاتها أنَّها كذلك هي؛ فليس فيها موضعٌ لِشَيْءٍ غيرُ ما هو فيها.
ثُمَّ لا تَنْسَ أنَّ النّبوَّة أكبر السبب في ذلك الوضوح البياني العجيب؛ فإنَّ الحياة لا تستغلق في البلاغة بإنسان إلا وهي غَنِيَّةٌ عنه، ولعلَّ غموض بعض الفلاسفة، وبعض الشعراء وهو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعة... ألا ترى أن من أساليبهم الفلسفية والشعرية ما يجعل معنى الكلمة أحيانًا هو نَقْضَ معناها؛ إذ يتصنعون للفِكْرِ، ويستجلبون له، ويُشَقِّقُون فيه كما يفعل أهل صناعة الألفاظ بالألفاظ؛ فهاهنا البديع اللفظيُّ، وهناك "البديع الفكريُّ"، ولا طائل وراءهما إلا صناعة وبَهْرَجَة.
ومتى كان النبي قِسْمًا من الحياة، بل مادَّةً لمعانيها الجديدة، فلن يكون بيانُهُ إلا على ما وصفْنا لك جمالاً، ووضوحًا، ومنفعةً، ودقةً، وسُمُوًّا بقَدْر ذلك كلِّه.(/21)
وهنا معنى نريد أن نُنَبِّهُ إليه، ونتكلم في سِرِّه وحقيقته، فإنك تقرأ ما جُمِعَ منَ الكلام النبويِّ، فلا تصيب فيه ما تصيبه في بلاغة أدباء العالم مِمَّا فَنُّه الكلام في المرأة، والحُبِّ، وجمال الطبيعة، وهو في بلاغة الناس كالقلب في الجسم: لا تخلو منه ولا تقوم إلا به، حتى تجد الكلام في المرأة وحدها شَطْرَ الأدب الإنسانيِّ، كما أنَّ المرأة هي شطر الإنسانية, ولا يعرف له - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأغراض إلا كلماتٌ بيانيةٌ جاءت بما يَفُوتُ الوصفَ من الجمال والدِّقَّة، متناهيةً في الحُسْنِ، طاهرةً في الدَّلالة، يظهر في وجه بلاغتها ما يظهر في وجه العذراء من طبيعة الحياءِ والخَفَرِ؛ كقوله في النساء: ((رِفْقًا بِالقَوَارِيرِ))، وقولِهِ لأُسامة بن زيد - وقد كساه قبطية[42] فكساها امرأته -: ((أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا))، قال الشريفُ الرَّضِيُّ - في شرح هذه الكلمة -: "وهذه استعارة، والمراد أن القِبْطِيَّةَ برِقَّتِها تَلْصَقُ بالجسم فتُبَيِّنُ حجم الثديَيْنِ، والرادِفَتَيْنِ، وما يشتدُّ من لحم العَضُدَيْنِ والفَخِذَيْنِ فيعرِفُ الناظر إليها مقاديرَ هذه الأعضاء حتى يكون كالظاهرة لِلَحْظِهِ، والممكنةِ للَمْسِهِ فجعلها - عليه الصلاة والسلام - لهذه المحالِّ كالواصفة لما خَلْفَها، والمُخْبِرَةِ عمَّا اسْتَتَرَ بها، وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، ولهذا الغرض رمى عمر بن الخطاب في قوله: "إياكم ولُبْسُ القَبَاطِيِّ فإنها إلا تَشِفَّ تَصِفْ"، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عُذْرَةِ هذا المعنى، ومَنْ تَبِعَهُ فإنما سلك فَجَّهُ.(/22)
قلنا: وهذا كلام حَسَن، ولكنَّ في عبارة الحديث سِرًّا هو من معجزات البلاغة النبوية لم يَهْتَدِ إليه الشريفُ على أنَّه هو حقيقة الفنِّ في هذه الكلمة بخاصَّتِها، ولا نظن أن بليغًا من بُلغاء العالم يتأتى لمثله فإنه - عليه الصلاة والسلام -لم يقل: أخاف أن تصف حجم أعضائها، بل قال: "حجم عظامها" مع أنَّ المراد لحم الأعضاء في حجمه وتكوينه، وذلك منتهى السُّمُوِّ بالأدب، إذ ذِكْرُ "أعضاء" المرأة في هذا السياق وبهذا المعرِضِ هو في الأدب الكامل أشبَهُ بالرَّفَثِ[43] ولفظةُ "الأعضاء" تحت الثوب الرقيق الأبيض تنبه إلى صور ذهنية كثيرة هي التي عدها الرَّضِيُّ في شرحه، وهي تومئ إلى صور أخرى من ورائها، فتَنَزَّهَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذلك، وضرب الحجاب اللغويَّ على هذه المعاني السافرةِ، وجاء بكلمة "العظام"؛ لأنها اللفظ الطبيعية المبرَّأَةُ من كل مَزْغَةٍ لا تَقبل أن تَلْتَوِي، ولا تُثِيرُ معنًى ولا تَحمل غَرَضًا؛ إذ تكون في الحيِّ والميِّتِ بل هي بهذا أخصُّ؛ وفي الجميل والقبيح بل هي هنا أَلْيَقُ، وفي الشباب والهرم بل هي في هذا أوضح، والأعضاء لا تقوم إلا بالعظام فالمجاز على ما ترى والحقيقة هي ما علمت.(/23)
ومن كلماته في الوصف الطبيعيُّ قولُهُ - صلى الله عليه وسلم وهو يذكر أوقات الصلاة -: ((العصر إذا كان ظلُّ كلِّ شيءٍ مِثْلَهُ، وكذلك ما دامت الشمس حيَّةً، والعشاء إذا غاب الشَّفَقُ إلى أن تَمْضِيَ كَوَاهِلُ الليل))، وكواهل الليل: أوائِلُهُ، وفُرُوعه المتقدِّمَةُ منه، كالذي يتقدم المطايا من أعناقها الممتدة بعض الامتداد، وقوله وقد سأله رجل: "متى يُصلِّي العشاء الآخِرَةُ؟"، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا ملأ الليلُ بَطْنَ كلِّ وادٍ))، وقوله: ((إذا طلع حاجب الشمس فأَخِّرُوا الصلاة حتى ترتفع))، وقوله: ((إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربَّه في الزرع، فقال له: ألستَ فيما شئتَ؟ قال: بلى، ولكني أُحِبُّ أن أزرع، قال: فبَذَرَ فبادر الطرفَ نباتُهُ، واستواؤه، واستحصاده فكان أمثال الجبال)).
وقوله: ((بَيْنَا رجل يمشي فاشتدَّ عليه العَطَشُ، فنزل بِئرًا فشَرِبَ منها ثم خرج فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خُفَّهُ ثم أمسكه بِفِيهِ، ثم رقي[44] فسقَى الكلبَ فشكر الله له، فغفر له)) قالوا: "يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟" قال: ((في كل كبدٍ رطبةٍ أجر)).(/24)
فهذا ونحوه من الفنِّ البديع النادرِ وهو مع ذلك لا يأتي في كلامه - صلى الله عليه وسلم - إلا في مثل ما رأيت فلا يراد منه استجلابُ العبارة، ولا صناعةُ الخيال فيظن من لا يُمَيِّزُ، ولا يُحَقِّق أن خُلُوَّ البلاغة النبوية من فنِّ وصف الطبيعة والجمال والحبِّ دليل على ما يُنكره، أو يَسْتَجْفِيهِ[45]، ويقول: بَدَاوَةٌ، وسَذَاجَةٌ، ونحو ذلك مما تُشَبِّهُهُ الغفلةُ على جَهَلَةِ المستشرقين، ومَن في حكمهم مِن ضِعاف أدبائنا وجَهَلَةِ كُتَّابِنَا، وإنما انتفى ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لانتفاء الشِّعْر عنه، وكونه لا ينبغي له كما بسطناه في مَوْضِعِهِ؛ فعمله أن يَهْدِيَ الإنسانيةَ لا أن يُزَيِّنَ لها، وأن يَدُلَّها على ما يجب في العلم، لا ما يحسن في صناعة الكلام، وأن يَهْدِيَهَا إلى ما تفعله لتَسْمُوَ به، لا إلى ما تتخيله لتَلْهُوَ به، والخيال هو الشيء الحقيقيُّ عند النفس في ساعة الانفعال، والتأثُّر به فقط، ومعنى هذا أنه لا يكون أبدا حقيقة ثابتة، فلا يكون إلا كذبًا على الحقيقة.
ثم هو - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره من بُلغاء الناس: يتصل بالطبيعة ليستملي منها؛ بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليملي فيها، وقد كانت آخِرُ ابتسامة له في الدنيا ابتسامتَه للصلاة يَتَهَلَّل لطهارة النفس المؤمنة، وجمالها قائمة بين يدي خالقها، مُنْسَكِبًا في طهارتها روحُ النور، وكل إنسان إنما يبدو الكون في عينه على ما يرى مما يشبه ما في نفسه، فكُلَّمَا رآه المصلي الخاشع في صلاته يبدو له كأنه يصلي في ضرب من العبادة على نحوٍ منَ الدين، وكُلَّمَا رآه السكران في سُكْرِهِ يكاد يراه متخبطًا يُعَرْبِدُ ما يتماسَكُ.(/25)
ثم إن الكلام في وصف الطبيعة والجمال والحُبِّ على طريقة الأساليب البيانية، إنما هو باب من الأحلام؛ إذ لا بد فيه من عينَيْ شاعر، أو نَظْرَةِ عاشقٍ، وهنا نبيٌّ يوحى إليه، فلا موضع للخيال في أمره إلا ما كان تمثيلاً يراد به تقويةُ الشعور الإنسانيِّ بحقيقة ما في بعض ما يَعْرِضُ من باب الإرشاد والموعظة، كما مر بك من أمثلته، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذُبَابٍ مرَّ على أنفه))، وهذا كلام أبلغ ما أنت واجدٌ من تفسيره تلك النفس المؤمنة بإحساسها الرقيق، كأنه حاسَّةٌ منَ النور كُبَّت في شعورها، وتلك النفس الفاجرة بإحساسها الغليظ، كأنه حاسة من التراب...
ويكاد المؤمن الذي يسمع هذا الوصف يُذَكِّرُهُ ذنوبَهُ أن يُحِسَّ بحركة جبل يهم أن ينقلع فيميل عليه أما الفاجر فيسمعه يُذَكِّرُهُ ذُنُوبه فإذا هي في خياله نُقَطٌ سُودٌ تَمُرُّ مرورَ الذباب ليس منه الحسُّ به كما يُحِسُّ مَن يُضْرَبُ على أنفه برِجْلِ ذُبابة... وجَعَلَ الذبابُ يمر على أنفه دون عينه أو فمه، وذلك منتهى الجمال في التصوير؛ لأن الذباب إذا وقع على الفم أو العين ثبت وألحَّ فإذا وقع على قَصَبَةِ الأنف لم يكد يقف ومر مروره.(/26)
الكون في نظر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - آية الحكمة لا آية الفنِّ، ومنظر المستيقِنِ لا منظر المتخيِّلِ، ومادَّة العُبودية لله لا مادَّة التألُّهِ للإنسان، وبذلك حَرَّمَ الإسلامُ أشياءَ، وكره أشياء لا يكون الفنُّ بغيرها فَنًّا، في ضروب من الشِّعر، والتصوير، والموسيقى، والحب؛ لأنه إنما ينظر للإنسان واحدًا وجمعًا وحاضرًا وآتيًا؛ وواجبًا ومنفعةً، ولذةً وألمًا؛ وهذه كلُّها لا إطلاق فيها إلا من أجل القيد، على حينِ أن الفنَّ لا قيد فيه إلا من أجل الإطلاق، وأساس الدين حظُّ الجماعة وقيودها، وأساس الفن الفردُ وحريَّتُهُ، وهذه الحياة لا تبدو في حالة تركيب وانتظام إلا إذا كانت للكلِّ، فإذا كانت لفرد ظهرت في هيئة انحلال وانتفاض، وأصبحت في الكون كلِّه كأنَّها عمر إنسان واحد.
ثُمَّ إنَّ للفَنّ ألوانًا لا بد منها لتصويره الجميل الذي تَعْجَبُ به النفس، والشيطان هو اللون الأحمر فيها... أي هو أَشَدُّها زهْوًا وإشراقًا وجمالاً في التصوير الفنيِّ لكل ما في المرأة، والحب، والجمال، وشهوات النفس، ولسنا نُنْكِرُ أن الحياة القوية حين تُمازجها هذه الفنونُ تَكْسِبُ مَرَحًا ونشاطًا، ويكون لها رَوْنَقٌ، وفيها متاع؛ ولكن الحياة لا تكون بها كذلك إلا من أنها تَحْتَسِي[46] خَمْرَهَا... فلها بعدُ - من عاقبة هذه الفنون - شبيهٌ بما يكون للجسم القوي من عاقبة الخمر إذا تغلغلت الخمر في شعاب كَبِدِهِ، وأحاطت رطوبتها يابسة، كما وقع في أطوارٍ كثيرة من تاريخ الأمم؛ فليس الاعتبار في هذا التشبيه بما يَعْرِضُ من تأثير الساعة الزائلة بأفراحها، وفنِّ حياتها؛ بلِ الشأن للعاقبة المحتومة متى جاءت ساعتُها الباقيةُ بأحزانها، وفن هلاكها؛ فالإسلام فيما حرَّم وكَرِهَ من ذلك لم يزد على أن أراد للحياة أن تحيا؛ لأنه لا يقر صورة من صور انتحارها.(/27)
ومَنْ كان أكبرُ عَمَلِه إنشاءَ الحقائق الإنسانية، وتقريرَها شريعةً، وعاطفةً، وأعمالاً، فلا جرم كان فنُّهُ غيرَ الذي أكبرُ عملِهِ تَمْوِيهُ تلك الحقائق، وزخرفتها ليقع الإحساس بها على غير وجهها، فتَخِفَّ بالواقع منها على النفس خِفَّةَ الكذب في ساعة تصديقه، وهذا هو أكبر عمل الشِّعر.
وهاهنا سِرٌّ دقيقٌ لا يتمُّ كلامنا إلا بشرحه؛ لنقطع القول في هذا المعنى، فيظهر حقُّهُ من باطله:
قلنا آنفًا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره من بُلغاء الناس: يتصل بالطبيعة يستملي منها، بل هو نبيٌّ مرسَل متَّصِل بمصدرها الأزليِّ؛ ليملي فيها.
ومعنى هذا أنه لا يَعْرِضُ له من زَيْغِ النفس ما يَعْرِضُ لغيره منَ الناس، فأَحْكَمُ حُكَمَاءِ الدنيا لا يستطيع أن يَتَبَيَّنَ جزءًا صغيرًا منَ الكون على حقيقته؛ إذ كانت حواس الجسم غيرَ مُهَيَّأَةٍ لذلك، فَفَهْمُ جزء مِنَ الكون فهمًا صادقًا جزمًا لا يتم إلا بفهم الكون بأجمعه، فهو كله ذَرَّةٌ مكبَّرَةٌ إلى ما لا ينتهي ولا يُحَدُّ، وليستِ النبوةُ شيئًا غير الاتصال بالسرِّ.(/28)
والحاضرُ الذي يكون في إنسان من الناس، هو حاضر ليس غيرُ؛ لأنه يتحوَّل ويَفْنَى؛ فهو منَ الزيغ الذي يَعْتَرِي النفسَ، ومنه كل أغراض الحياة البشرية الفانية؛ ولهذا كان طابع الله على نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - هو تجريدَهُ من زيغ الهوى[47] وسَرَفِ الطبيعة، فهو من الناس، ولكنه متخلِّق بأخلاق الله سبحانه، وله في هذا الباب ما ليس لأحد، ولا يُطِيقُهُ أحدٌ، ويجب على مَنْ يَقْرَأُ سِيرته، وشمائله، وحديثه أن يبحث دائمًا عن طابع الله في كل شيء منها، فإنَّه سَيَرَى حينئِذٍ كأنَّهُ يَدْرُسُها مع الملائكة لا مع الناس، وسيظهر له من تفسيرها أن الدنيا لم تستطِعْ تحقيق غايتها الأخلاقيةِ العُليا إلا فيها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إنسانًا وكان أيضًا حركة في تقدم الإنسانية؛ وأن من معجزاته أنه أطاق في تاريخه ما عجزت عنه البشرية في تاريخها، وأن كل أموره - صلى الله عليه وسلم - موضوعةٌ وَضْعًا إلهيًا كأنها صفاتٌ كوَّنها الله، وعلَّقَها في التاريخ لمعاني الحياة، تعليق الشمس في السماء لمواد الحياة.(/29)
إن الشهواتِ والمصالحَ إنما هي حَصْر النفس في جانب من الشعور محدودٍ بلذاتٍ، وهُموم، وأحاسيسَ تجعل غَرَضَ الإنسان في الإنسان نفسِهِ، فهو كما يملأ مَعِدَتِهِ، ويتأنَّقُ في الاختيار لها، يُريدُ من كل ذلك أن يملأ شَخْصَهُ على هذه الطريقة بعينها، طريقة إشباع مَعِدَتِهِ... وبهذا تسخر منه حقائق الكون؛ لأنها لا تُحَدُّ بشخص، ولا تنحصر في أحد، وكلُّ مَن كانت حُدُودُهُ الإنسانيةُ، جسمَهُ، ولذاتِ جسمِهِ -: فهو في مقدار هذا الكون كالميِّت المحدود من الأرض كلِّها بقَبْرِه، وتُرابِ قَبْرِهِ؛ وإنه لَيَجِدُ جِسْمَهُ، وأكاذيب الطبيعة عليه، ولكنه لن يجد الروح وحقائقها؛ وإذا لم يجد هذه فَلَنْ يَعْرِفَ الكَوْنَ وأسراره، وإذا فَقَدَ هذا فهو الحاضر الضيِّقُ المُشَوَّهُ المكذوب، ومن ثَمَّ فَفَنُّهُ شهوة إحساسه وإن كان مخدوعًا، وشهوة نظره وإن كان مُلَبَّسًا عليه، وشهوة خياله وإن كان التمويه، والمزوَّر، والحاضر الضيق المشوَّه المكذوب الخادع هو المسمى في لغة القرآن والحديث "بالدينا" فإذا اتَّسع الإنسان لروحه، وأدرك حقيقتها، ووعى ما بينها وبين الكون، وأخذ يحقق هذه الروح السماويةَ في أعماله، وتَخَطَّى حدودَ جسمه إلى فِكْرَةِ الخلود، فهذا كلُّه هو المسمَّى في لغة القرآن والحديث "بالآخرة" فهما كلمتان في منتهى الإبداع من الفَنِّ، والفلسفة وعلى ذلك يُؤَوَّلُ قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: ((من كان هَمُّهُ الآخرةَ جَمَعَ الله شَمْلَهُ، وجعل غِناهُ في قَلْبِه، وأَتَتْهُ الدُّنيا وَهِيَ راغمةٌ[48] ومن كان هَمُّهُ الدنيا فَرَّقَ الله أمره، وجعل فَقْرَهُ بين عينيه، ولم يأته من الدينا إلا ما كُتِبَ له)).(/30)
وأنت إذا فَسَّرْتَ هذه الكلمات بما وَصَفْنا لك ووَجَّهْتَهَا على ذلك التأويل، رأيت عجائبَ معانِيها لا تنقضي، وأدركتَ سرَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني على علم من الله عَلَمَنِيهِ))، فاتساع الذات الإنسانية، ومادَّتها لحقائق الكون يجعل الإنسان كالكون نفسه، مجتمِعًا غيرَ مُفَرَّقٍ على هُموم الحياة، ويجعل الغِنَى معنًى لا مادَّة، ولو امتلك إنسانٌ منَ الناس كلَّ ما طلعت عليه الشمس، وكان له كَنْزٌ في المشرق، وكنز في المغرب لما بلغ شيئًا قليلاً من لَذَّةِ هذا المعنى في قلبه، وفي هذه الحالة تصبح الدنيا العريضةُ التي يَهْلِكُ الناس في تحصيلها، وليست إلا ضرورة صغيرة قد تكون في ثوب، ولُقَيْمَاتٍ، ونحوها مما لا خطر له، وهذا هو إرغامها وهي مالكةُ الملوك، فإذا ضاق الإنسان عن روحه أصبحت النفس كالمنخل يوضع الدقيق الناعم فيه ليخرج منه فيُمْسِكُهُ كلَّه ولا يُمْسِكُ منه شيئًا، وُضِعَ بين عينيها معنى الفقر، فهي تعمل أبدًا لتمتلئ، ولا تمتلئ أبدًا، وإذا كان المنخل متَّخَذًا على الطريقة التي صُنع بها ففَقْرُهُ - ولا جَرَمَ - مُعَلَّقٌ عليه من ذات تركيبه "أَفَهِمْتَ"؟(/31)
ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - متساوقًا[49] مع الحقيقة، متَّصِلاً بها محدودًا بربَّهِ لا بنفسه كان لذلك خارجًا من حاضر ما نحن فيه، ممتدًا بمعناه الإنساني الكامل إلى المستقبل الذي وراء الحياة، فما نحصره نحن بطبيعتنا في بعض الأسماء لا يلتفت هو إليه بطبيعته، ومن ذلك أوصاف الغنى، والحِلْيَةِ، والنعيم، والمتاع، والجمال، والمَطْعَمِ، والمَشْرَبِ، وما داخَلَ الطبيعة من مثل معانيها، وما جرى هذا المَجرى فهذا كله يراه الناس من جهة الحاجة إليه والمطمع فيه؛ إذ كان ضعف إدراكهم، وضِيق وَعْيِهم، مما يُبْدِعُ لهم أكاذيبَ الخيال، فتجيء من ذلك أوصافهم وفنون أوصافهم، أما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيرى ذلك من ناحية الغِنى عنه والسمُوِّ عليه إذ كان لا ينظر بطبيعة روحه العظيمة إلا أعلى النظرين، وأَطْهَرَهُما فآخِر إدراكنا للحقيقة والطبيعة أوَّلُ إدراكه هو الطبيعة، والحقيقة وما تَعْجِزُ عنه الإنسانية تبدأ منه النبوَّة.
وعلى هذا: فإن من أقوى البراهين على كماله - صلى الله عليه وسلم – ونُبُوَّتِهِ، واتساع روحه، ونفاذِ إدراكه لحقائق الكون، أنه لم يتبسط في تلك الفنون كما يصنع البُلغاء، ولم يأخذ مأخذهم فيها؛ إذ كانت كلها من أكاذيب القلب، والفِكر، والعين.
وفي قانون الحقيقة أن الأشياء هي كلُّ الأشياء، وهي كما هي، أما في قانون الكذب، فالأشياء كلها هي ما تختاره أنت منها، وكما تختاره.(/32)
بحَسْبِ الدنيا من جمالِ فنِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ما يضيف إلى الحياة عَظَمَةَ الأشياء العظيمة، ويدفع الإنسانية في طريقها الواحد الذي هو - بين الأب والأم - طريقُ الأخ إلى أخيه يكون في الدنيا بين الرجلين كما هو في الدمِ بين القلبين رحمةً ومَوَدَّةً، وبِحَسْبِنَا من جمال هذا الفَنِّ ما يَهْدِي الإنسانَ إلى حقيقةِ نَفْسِه فيُقِرُّهُ في الحقيقيِّ من وجوده الإنسانيِّ، ويجعل الفضائل كلَّها تربيةً للقلب يَكْبُرُ بها، ثم يَكْبُرُ، ثم لا يزال يَكْبُرُ حتى يَتَّسِعَ لحقيقة هذه الكلمة الكبرى: ((اللهُ أكبرُ)).
---
[1] يخطر لي : يطرأ علي بالي
[2] انكشف الخاطر: ظهر وبان
[3] السليقة: الموهبة اللغوية
[4] استنباط : استخراج
[5] خاض البحر: ركب متنه مغامرا
[6] تأدى: وصل إلى الغاية المرجوة منه
[7] تجترم: تقع في الجريمة
[8] متسقة: متجانسة
[9] رهط: أفراد
[10] يقصد أنه كان لا يسقي أحدا من عائلته قبل والديه ، والغبوق ما يشرب في العشي
[11] نأى : بعد
[12] برق الفجر : انبلج وأشرقت الشمس
[13] فرج عنا : اكشف عنا
[14] أردتها عن نفسها : راودتها
[15] تفض: تفتح
[16] تحرج: احترس وخشي
[17] ثمرت: جعلته ينمو
[18] تطابقوا: توافقوا
[19] سبغت: اتسعت
[20] بنانه: أصبعه
[21] ألزم: أجبر
[22] راضها: مرنها وعودها
[23] الشح: البخل
[24] يبسط الكريم: يمد يد المساعدة
[25] تنافرهم: تنابذهم واختلافهم.
[26] عبثهم : لعبهم.
[27] استبرأت: خلصت.
[28] تدبرته : تدارسته.
[29] انخلعوا: خرجوا.
[30] يفصم البرد : يقلع.
[31] يتفصد عرقا: يجري عرقه.
[32] برحاء الحمى : شدتها.
[33] يتحدر: ينهمر
[34] الجمان: اللؤلؤ
[35] ترض : تحطم.
[36] يغط: يغيب عن عالم المحسوسات.
[37] هاجس: فكر طارئ.
[38] تنسرح: تنفلت
[39] الملهم: الموهوب.
[40] يؤول : يفسر ويتحول.
[41] التنقيح: التصحيح.
[42] ضرب من الأردية المصرية.
[43] الرفث: هو ما بذؤ من الكلام.(/33)
[44] رقي: صعد.
[45] يستجفيه: يجده قاسيا جافيا.
[46] تحتسي: تشرب قليلا قليلا.
[47] زيغ الهوى: ميله.
[48] راغمة: ذليلة ، خاضعة.
[49] متساوقا: منسجما.(/34)
العنوان: السنة الهجرية الجديدة
رقم المقالة: 351
صاحب المقالة: عدنان الطرشة
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أخواني المسلمين/ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
فها نحن نودع سنة هجرية ونستقبل سنة هجرية جديدة وقد ترك معظم المسلمين التأريخ بها فنسوها ونسوا بدايتها ونهايتها فتركوا معايدة بعضهم بعضًا بها وصارت المعايدة بين المسلمين - إلا من رحم الله - بالسنة الميلادية، بل لقد هزل الأمر حتى وصل ببعض المسلمين إلى أن يتبادلوا التهاني بالتهنئة المزدوجة: عيد الميلاد ورأس السنة! وذلك بالبريد الإلكتروني وبطاقات المعايدة وغير ذلك...
التقويم الهجري والتقويم الميلادي:(/1)
إن الكثير من المسلمين قد نشؤوا في بلاد لا تستخدم حكوماتها التقويم الهجري، ولم يعد هناك سوى قلة قليلة من الدول التي ما زالت تستخدم التقويم الهجري رسميّاً وما زال شعبها يستخدمه ويحفظ أسماء أشهر السنة الهجرية وترتيبها، أما بقية الدول الإسلامية فهي لا تستخدم سوى التقويم الميلادي، أو بالأحرى (الغريغوري) الذي بدأ العمل به في العام 1582 الموافق (990 هجرية) بأمر من البابا غريغوري الثالث عشر، الذي كان قد أصدر قرارًا بحذف عشرة أيام من السنة وأن يكون اليوم الذي يلي يوم 4 أكتوبر 1582 هو يوم 15 أكتوبر 1582! وقد عورض ذلك بشدة من الجماهير، ولم يعترف بهذا التقويم سوى بضع دول كاثوليكية تتبع البابا هي: إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، واعترضت على ذلك بقية الدول والشعوب، ثم اعتمدت هذا التقويم دول بروتستانتينية في العام 1700 وكان قد أصبح الفارق في التقويم أحد عشر يومًا، ثم أخيرًا اعتمدت بريطانيا والمستعمرات الأميركية هذا التقويم في العام 1752، ويوم الأربعاء 2 سبتمبر (أيلول) 1752 تبعه مباشرة يوم الخميس 14 سبتمبر (أيلول) 1752 فأحدث ذلك شغبًا واسع الانتشار وصاحت الجماهير: (أعيدوا لنا الأحد عشر يومًا!).
والتقويم الغريغوري معدَّل عن التقويم القيصري الذي أصبح عدد أشهر السنة فيه اثني عشر شهرًا بإضافة شهري يناير وفبراير، بعد أن كانت السنة عشرة أشهر تبدأ بشهر مارس (إله الحرب عند الرومان)! ومعنى الأشهر الأربعة: سبتمبر، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر؛ هو على التوالي: السابع، الثامن، التاسع، العاشر. ولكن ترتيب هذه الأشهر في السنة الميلادية المعروفة اليوم هو على التوالي: التاسع، العاشر، الحادي عشر، الثاني عشر، وهذا خطأ جسيم مستمر ما لم يقوموا بتعديل ترتيب الأشهر بحيث يصبح الشهر السابع هو سبتمبر كمعناه وهكذا الأشهر الثلاثة الأخرى، أو يقوموا بتغيير أسمائها.(/2)
وعمومًا فإن المسلمين ليسوا بحاجة إلى هذا التقويم فلديهم التقويم الهجري المعتمد على الأشهر القمرية الذي سيستمر اللجوء إليه إلى آخر الزمان، وذلك لتحديد بداية شهر رمضان، ويوم عيد الفطر، وبداية شهر ذي الحجة، ويوم عرفة ويوم عيد الأضحى، وغير ذلك من المناسبات الدينية الإسلامية.
المسلمون والتقويم الهجري:
لم يعد معظم المسلمين يعرف من السنة الهجرية إلا شهر رمضان لوجود الصيام فيه، وربما بعضهم لا يعرف أنه اسم لأحد أشهر السنة الهجرية، والبعض الآخر قد يعرف أيضًا شهرًا آخر هو ذو الحجة لوجود الحج فيه... لكن معظم المسلمين لا يحسن أن يذكر أسماء أشهر السنة الهجرية كما يعدد أسماء أشهر السنة الميلادية ويحفظ ترتيبها عن ظهر قلب! قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لسلكتموه)) قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن))[1]. والمقصود بالسنن: المناهج والعادات، وشبرًا بشبر: كناية عن شدة الموافقة لهم في عاداتهم، وما أروع هذا التشبيه الذي صدق معجزة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فنحن نشاهد أجيالاً من أمة المسلمين تقلد اليهود والنصارى في كثير من الأمور حتى وإن كان بعضها مخالفاً لتعاليم الإسلام...!.
إن للصينيين تقويماً خاصّاً بهم يؤرخون به ويحترمونه وكذلك لليابانيين بل ولليهود تقويم خاص بهم يؤرخون به ويقدسونه...(/3)
أما المسلمون فلديهم التقويم الهجري الذي سمي نسبة إلى هجرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من مكة إلى المدينة، وهذا التقويم يذكرهم بهذه المناسبة التي هاجر فيها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يكن معه إلا صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى المدينة وكان المسلمون قلة، ثم انتشر الإسلام في أرجاء الأرض حتى تعدى عدد المسلمين الألف مليون مسلم.. فها هي ألف وأربع مئة وسبع وعشرون سنة قد مضت على هجرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وقد أقبلت السنة الثامنة والعشرون بعد الأربع مئة والألف... وستبدأ السنة الجديدة بشهر المحرم الذي فيه يوم عاشوراء في العاشر منه، وهو اليوم الذي كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يصومه وأمر بصيامه فقال: ((صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله))[2]. فعلى المسلمين أن يغتنموا مثل هذه الفرص التي أنعم الله بها على عباده لكي يكفِّر عنهم سيئاتهم ويغفر ذنوبهم.
تهنئة بالسنة الهجرية الجديدة:
أهنئ جميع المسلمين بالسنة الهجرية الجديدة (1428) وأدعو الله تبارك وتعالى أن تكون سنة مباركة على المسلمين، وأن يمن عليهم بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.
اللهم اجعل هذا العام الهجري الجديد عام عزة ونصرة للإسلام والمسلمين. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك وطاعة رسولك محمد صلَّى الله عليه وسلَّم.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى ويسر لنا اتباع سنة نبيك صلَّى الله عليه وسلَّم فنطيعه فيما أمر وننتهي عما نهى عنه وزجر. اللهم أحينا ما دامت الحياة خيراً لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا. وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا. وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا. واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير. واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم إنَّا نسألك حسن الخاتمة.(/4)
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.
ـــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
[2] صحيح سنن ابن ماجه، رقم: 1413.(/5)
العنوان: السنة ومكانتها
في الإسلام وفي أصول التشريع
رقم المقالة: 593
صاحب المقالة: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا بحث مهم يتعلق بالسنة، وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام؛ يجب الأخذ بها والاعتماد عليها إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول: من المعلوم عند جميع أهل العلم أن السنة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأن مكانتها في الإسلام الصدارة بعد كتاب الله عز وجل، فهي الأصل المعتمد بعد كتاب الله عز وجل بإجماع أهل العلم قاطبة، وهي حجة قائمة مستقلة على جميع الأمة، من جحدها أو أنكرها أو زعم أنه يجوز الإعراض عنها والاكتفاء بالقرآن فقط فقد ضل ضلالاً بعيداً وكفر كفراً أكبر وارتد عن الإسلام بهذا المقال، فإنه بهذا المقال وبهذا الاعتقاد يكون قد كذَّب الله ورسوله، وأنكر ما أمر الله به ورسوله، وجحد أصلاً عظيماً فرض الله الرجوع إليه والاعتماد عليه والأخذ به، وأنكر إجماع أهل العلم عليه، وكذَّب به، وجحده.
وقد أجمع علماء الإسلام على أن الأصول المجمع عليها ثلاثة:
الأصل الأول: كتاب الله، والأصل الثاني: سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، والأصل الثالث: إجماع أهل العلم. وتنازع أهل العلم في أصول أخرى، أهمها: القياس، والجمهور على أنه أصل رابع إذا استوفى شروطه المعتبرة.
أما السنة: فلا نزاع ولا خلاف في أنها أصل مستقل، وأنها هي الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأن الواجب على جميع المسلمين، بل على جميع الأمة الأخذ بها، والاعتماد عليها، والاحتجاج بها إذا صح السند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/1)
وقد دل على هذا المعنى آيات كثيرات من كتاب الله، وأحاديث صحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، كما دل على هذا المعنى إجماع أهل العلم قاطبة على وجوب الأخذ بها، والإنكار على من أعرض عنها أو خالفها.
وقد نبغت نابغة في صدر الإسلام أنكرت السنة بسبب تهمتها للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، كالخوارج، فإن الخوارج كفَّروا كثيراً من الصحابة، وفسَّقوا كثيراً منهم، وصاروا لا يعتمدون بزعمهم إلا على كتاب الله؛ لسوء ظنهم بأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتابعتهم الرافضة، فقالوا: لا حجة إلا فيما جاء من طريق أهل البيت فقط، وما سوى ذلك لا حجة فيه.
ونبغت نابغة بعد ذلك، ولا يزال هذا القول يذكر فيما بين وقت وآخر، وتسمى هذه النابغة الأخيرة القرآنية، ويزعمون أنهم أهل القرآن، وأنهم يحتجون بالقرآن فقط، وأن السنة لا يحتج بها؛ لأنها إنما كتبت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة، ولأن الإنسان قد ينسى وقد يغلط، ولأن الكتب قد يقع فيها غلط، إلى غير هذا مما قالوا من الترهات، والخرافات، والآراء الفاسدة، وزعموا أنهم بذلك يحتاطون لدينهم؛ فلا يأخذون إلا بالقرآن فقط. وقد ضلوا عن سواء السبيل، وكذبوا، وكفروا بذلك كفراً أكبر بواحاً.
فإن الله عز وجل أمر بطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، واتباع ما جاء به وسمَّى كلامه وحياً في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[1] ولو كان رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتبع ولا يطاع لم يكن لأوامره ونواهيه قيمة.(/2)
وقد أمر صلى الله عليه وسلم أن تبلغ سنته، فكان إذا خطب أمر أن تبلغ السنة؛ فدل ذلك على أن سنته صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع، وعلى أن طاعته واجبة على جميع الأمة، كما تجب طاعة الله تجب طاعة رسوله عليه الصلاة والسلام. ومن تدبر القرآن العظيم وجد ذلك واضحاً، قال تعالى في كتابه الكريم في سورة آل عمران: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[2] فقرن طاعة الرسول بطاعته سبحانه، وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[3] فعلق الرحمة بطاعة الله ورسوله، وقال سبحانه أيضاً في سورة آل عمران: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}[4]، وقال سبحانه في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[5] فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله أمراً مستقلا، وكرر الفعل في ذلك: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}، ثم قال: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} ولم يكرر الفعل؛ لأن طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله وإنما تجب في المعروف حيث كان ما أمروا به من طاعة الله ورسوله ومما لا يخالف أمر الله ورسوله، ثم بين أن العمدة في طاعة الله ورسوله فقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} ولم يقل سبحانه إلى أولي الأمر منكم، بل قال: {إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}؛ فدل ذلك(/3)
على أن الرد في مسائل النزاع والخلاف إنما يكون لله ولرسوله. قال العلماء معنى إلى الله: الرد إلى كتاب الله، ومعنى والرسول: الرد إلى الرسول في حياته، وإلى سنته بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
فعُلِمَ بذلك أن سنته مستقلة، وأنها أصل متبع. وقال جل وعلا: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}[6] وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[7] وقبلها قوله جل وعلا: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[8] فجعل الفلاح لمن اتبعه عليه الصلاة والسلام؛ لأن السياق فيه عليه الصلاة والسلام: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فذكر أن الفلاح لهؤلاء المتبعين لنبي الله عليه الصلاة والسلام دون غيرهم؛ فدل ذلك على أن من أنكر سنته ولم يتبعه فإنه ليس بمفلح وليس من المفلحين، ثم قال بعدها: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يعني قل يا محمد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[9] فعلق الهداية باتباعه عليه الصلاة والسلام؛ فدل ذلك على وجوب طاعته، واتباع ما جاء به من الكتاب والسنة عليه الصلاة والسلام. وقال عز وجل في آيات أخرى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[10] وقال(/4)
جل وعلا أيضاً في هذه السورة سورة النور: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[11] فأفرد طاعته وحدها بقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قال في آخر السورة سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[12] فذكر جل وعلا أن المخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم على خطر عظيم من أن تصيبه فتنة بالزيغ والشرك والضلال أو عذاب أليم، نعوذ بالله من ذلك، وقال عز وجل في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[13].(/5)
فهذه الآيات وما جاء في معناها كلها دالة على وجوب اتباعه وطاعته عليه الصلاة والسلام، وأن الهداية والرحمة والسعادة والعاقبة الحميدة كلها في اتباعه وطاعته عليه الصلاة والسلام، فمن أنكر ذلك فقد أنكر كتاب الله، ومن قال إنه يتبع كتاب الله دون السنة فقد كذب وغلط وكفر؛ فإن القرآن أمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبعه فإنه لم يعمل بكتاب الله، ولم يؤمن بكتاب الله، ولم يَنْقَد لكتاب الله، إذ كتاب الله أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر باتباعه، وحذر من مخالفته عليه الصلاة والسلام، فمن زعم أنه يأخذ بالقرآن، وحذر من مخالفته عليه الصلاة والسلام، فمن زعم أنه يأخذ بالقرآن، ويتبع القرآن دون السنة فقد كذب؛ لأن السنة جزء من القرآن، فطاعة الرسول جزء من القرآن، وقد دل على الأخذ بها القرآن، وأمر بالأخذ بها القرآن، فلا يمكن أن ينفك هذا عن هذا، ولا يمكن أن يكون الإنسان متبعا للقرآن بدون اتباع السنة، ولا يكون متبعاً للسنة بدون اتباع القرآن، فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. ومما جاء في السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ما رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمة الله عليهما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني))[14]. وفي صحيح البخاري رحمة الله عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) قيل: يا رسول الله، ومن يأبى، قال: ((من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى))[15]. وهذا واضح في أن من عصاه فقد عصى الله، ومن عصاه فقد أبى دخول الجنة والعياذ بالله. وفي المسند وأبي داود وصحيح الحاكم بإسناد جيد عن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا وإني أوتيت(/6)
الكتاب ومثله معه)) والكتاب هو القرآن، ومثله معه يعني: السنة، وهي الوحي الثاني: ((ألا يوشك رجل شبعان يتكئ على أريكته، يُحدَّث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينهم كتاب الله؛ ما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه))[16]، وفي لفظ: ((يوشك رجل شبعان على أريكته، يُحدَّث بالأمر من أمري؛ مما أمرت به ونهيت عنه، يقول بيننا وبينكم كتاب الله؛ ما وجدنا فيه اتبعناه. ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله))[17]. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على جميع الأمة أن تعظم سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن تعرف قدرها، وأن تأخذ بها، وتسير عليها، فهي الشارحة والمفسرة لكتاب الله عز وجل، والدالة على ما قد يخفى من كتاب الله، والمقيدة لما قد يطلق من كتاب الله، والمخصصة بما قد يعم من كتاب الله، ومن تدبر كتاب الله وتدبر السنة عرف ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[18] فهو المبين للناس ما نزل إليهم عليه الصلاة والسلام، فإذا كانت سنته غير معتبرة ولا يحتج بها فكيف يبين للناس دينهم وكتاب ربهم، هذا من أبطل الباطل؛ فعلم بذلك أنه المبين لما قاله الله، وأنه الشارح لما قد يخفى من كتاب الله، وقال في آية أخرى في سورة النحل: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[19] فبين جل وعلا أنه أنزل الكتاب عليه ليبين للناس ما اختلفوا فيه. فإذا كانت سنته لا تبين للناس ولا تُعتَمد بطل هذا المعنى، فهو سبحانه وتعالى بين أنه صلى الله عليه وسلم الذي يبين للناس ما نُزَّل إليهم، وأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي يفصل النزاع بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ فدل ذلك على أن سنته لازمة الاتباع، وواجبة الاتباع.(/7)
وليس هذا خاصاً بأهل زمانه وصحابته رضي الله عنهم؛ بل هو لهم ولمن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة، فإن الشريعة شريعة لأهل زمانه ولمن يأتي بعد زمانه عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، فهو رسول الله إلى الناس عامة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[20] وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[21] فهو رسول الله إلى جميع العالم، الجن والإنس، العرب والعجم، الأغنياء والفقراء، الحكام والمحكومين، الرجال والنساء، إلى يوم القيامة، ليس بعده نبي ولا رسول، بل هو خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام.
فوجب أن تكون سنته موضحة لكتاب الله وشارحة لكتاب الله، ودالة على ما قد يخفى من كتاب الله، وسنته أيضاً جاءت بأحكام لم يأت بها كتاب الله، جاءت بأحكام مستقلة شرعها الله عز وجل لم تذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى، من ذلك: تفصيل الصلوات وعدد الركعات، وتفصيل أحكام الزكاة، وتفصيل أحكام الرضاع، فليس في كتاب الله إلا الأمهات والأخوات من الرضاع وجاءت السنة ببقية المحرمات بالرضاع، فقال صلى الله عليه وسلم ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب))[22]، وجاءت السنة بحكم مستقل في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وجاءت بأحكام مستقلة لم تذكر في كتاب الله في أشياء كثيرة، في الجنايات، والديات، والنفقات، وأحكام الزكوات، وأحكام الصوم والحج، إلى غير ذلك.
ولما قال بعض الناس في مجلس عمران بن حصين رضي الله عنهما: ((دعنا من الحديث وحدثنا عن كتاب الله)) غضب عمران رضي الله عنه وأرضاه، واشتد إنكاره عليه، وقال: ((لولا السنة كيف نعرف أن الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث...)) إلى آخره.(/8)
فالسنة بينت لنا تفاصيل الصلاة، وتفاصيل الأحكام، ولم يزل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يرجعون إلى السنة ويتحاكمون إليها ويحتجون بها، ولما ارتدَّ من العرب من ارتدَّ وقام الصديق رضي الله عنه وأرضاه ودعا إلى جهادهم توقف عمر في ذلك، وقال: كيف نقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها))[23]، قال الصديق رضي الله عنه: ((أليست الزكاة من حقها – من حق لا إله إلا الله – والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها)) قال عمر رضي الله عنه: ((فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر لقتالهم فعرفت أنه الحق))[24]، ثم وافق المسلمون، ووافق الصحابة، واجتمع رأيهم على قتال المرتدين؛ فقاتلوهم بأمر الله ورسوله.(/9)
ولما جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله عن إرثها، قال: ما أعلم لك شيئاً في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سوف أسأل الناس، يعني عما جاء في السنة، فسأل الناس؛ فأُخبِر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لها بالسدس، فقضى لها بالسدس رضي الله عنه وأرضاه. وهكذا عمر رضي الله عنه لما أشكل عليه حكم إملاص المرأة: (وهو خروج الجنين ميتاً بالجناية على أمه) ما حكمه؟ توقف حتى سأل الناس، فشهد عنده محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة، فقضى بذلك. ولما أشكل على عثمان حكم المعتدة من الوفاة، هل تكون في بيت زوجها أو تنتقل إلى أهلها؟ فشهدت عنده فريعة بنت مالك الخدرية أخت أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت زوجها، فقضى بذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه. ولما سمع علي رضي الله عنه عثمان في بعض حجاته ينهى عن المتعة ويأمر بإفراد الحج، أحرم علي رضي الله عنه بالحج والعمرة جميعاً وقال: لا أدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس. ولما سمع ابن عباس بعض الناس ينكر عليه الفتوى بالمتعة ويحتج عليه بقول أبي بكر وعمر أنها يريان إفراد الحج، قال: ((يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر)). ولما ذُكِر لأحمد رحمه الله جماعة يتركون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان الثوري ويسألونه عما لديه وعما يقول، تعجب! وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته – يعني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – يذهبون إلى رأي سفيان، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[25]. ولما ذكر عند أيوب السختياني رحمه الله رجل يدعو إلى القرآن ويثبط عن السنة، قال: دعوه فإنه ضال.(/10)
والمقصود أن السلف الصالح قد عرفوا هذا الأمر، ونبغت عندهم نوابغ بسبب الخوارج في هذا الباب، فاشتد نكيرهم عليهم، وضلَّلوهم، وحذروا منهم، مع أنه إنكار ليس مثل الإنكار الموجود الأخير؛ لأنه إنكار له شبهة بالنسبة إلى الخوارج وما اعتقدوه في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في بعضهم دون بعض، أما هؤلاء المتأخرون فجاءوا بداهية كبرى، ومنكر عظيم، وبلاء كبير، ومصيبة عظمى؛ حيث قالوا: إن السنة برمتها لا يحتج بها بالكلية، لا من هنا ولا من هنا، وطعنوا فيها، وفي رواتها، وفي كتبها، وساروا على هذا النهج الوخيم، وأعلنه كثيراً أحد الزعماء، فضل وأضل، وهكذا جماعة منتشرة في بعض الديار الإسلامية، قالوا هذه المقالة فضلوا وأضلوا وسمَّوا أنفسهم بالقرآنيين، وقد كذَّبوا وجهَّلوا ما قام به علماء السنة؛ لأنهم لو عملوا بالقرآن لعظَّموا السنة وأخذوا بها، ولكنهم جهلوا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضلوا وأضلوا.(/11)
وقد احتاط أهل السنة كثيراً للسنة، حيث تلقوها أولاً عن الصحابة حفظاً، ودرسوها وحفظوها حفظاً كاملاً، وحفظاً دقيقاً حرفياً، ونقلوها إلى من بعدهم، ثم ألَّف العلماء على رأس القرن الأول وفي أثناء القرن الثاني ثم كثر ذلك في القرن الثالث، ألَّفوا الكتب، وجمعوا فيها الأحاديث؛ حرصاً على بقائها وحفظها وصيانتها؛ فانتقلت من الصدور إلى الكتب المحفوظة المتداولة المتناقلة التي لا ريب فيها ولا شك، ثم نقَّبوا عن الرجال، وعرفوا ثقاتهم من كذَّابيهم وضعفائهم، ومن هو سيئ الحفظ منهم، حتى حرروا ذلك أتم تحرير، وبيَّنوا من يصلح للرواية، ومن لا يصلح للرواية، ومن يحتج به ومن لا يحتج به، وأوضحوا ما وقع من بعض الناس من أوهام وأغلاط، وسجلوها عليهم، وعرفوا الكذابين والوضاعين، وألَّفوا فيهم، وأوضحوا أسماءهم؛ فأيد الله بهم السنة، وأقام بهم الحجة، وقطع بهم المعذرة، وزال تلبيس الملبِّسين، وانكشف ضلال الضالين، فبقيت السنة بحمد الله جلية واضحة لا شبهة فيها، ولا غبار عليها، وكان الأئمة يعظمون ذلك كثيراً، وإذا رأوا من أحد أي تساهل بالسنة أو إعراض أنكروا عليه. حدَّث ذات يوم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله))[26]، فقال بعض أبنائه: والله لنمنعهن – عن اجتهاد منه – ومقصوده أنهن تغيرن، وأنهن قد يتساهلن في الخروج، وليس قصده إنكار السنة، فأقبل عليه عبد الله وسبه سباً سيئاً، وقال: أقول: قال رسول الله، وتقول: والله لنمنعهن.
ورأى عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه بعض أقاربه يخذف، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال: ((إنه لا يصيد صيداً، ولا ينكأ عدواً))[27]. ثم رآه في وقت آخر يخذف، فقال: أقول إن الرسول نهى عن هذا ثم تخذف، لا كلمتك أبداً.(/12)
فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يعظمون هذا الأمر جداً، ويحذرون الناس من التساهل بالسنة أو الإعراض عنها أو الإنكار لها برأي من الآراء أو اجتهاد من الاجتهادات. وقال أبو حنيفة في هذا المعنى رضي الله عنه ورحمه: إذا جاء الحديث عن رسول الله فعلى العين والرأس وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى العين والرأس.. إلى آخر كلامه. وقال مالك رحمه الله: ما منا إلا رادٌّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر. يعني النبي عليه الصلاة والسلام.(/13)
وقال أيضاً: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وهو اتباع الكتاب والسنة. وقال الشافعي رحمه الله: إذا رويتُ عن الرسول حديثاً صحيحاً ثم رأيتموني خالفته فاعلموا أن عقلي قد ذهب. وفي لفظ آخر، قال: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولي يخالفه فاضربوا بقولي الحائط. وقال أحمد رحمه الله: لا تلقدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي، وخذوا من حيث أخذنا. وسبق قوله رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[28]. فالأمر في هذا واضح، وكلام أهل العلم في هذا جلي ومتداول عند أهل العلم. وقد تكلم المتأخرون في هذا المقام كلاماً كثيراً، كأبي العباس ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم، وأوضحوا أن من أنكر السنة فقد زاغ عن سواء السبيل، وأن من عظَّم آراء الرجال وآثرها على السنة فقد ضل وأخطأ، وأن الواجب عرض آراء الرجال مهما عظموا على كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فما شهدا له أو أحدهما بالقبول قُبل، وما لا فإنه يرد على قائله. ومن آخر من كتب في هذا الحافظ السيوطي رحمه الله، حيث كتب رسالة سماها: (مفتاح الجنة في الاحتفاء بالسنة)، وذكر في أولها أن من أنكر السنة وزعم أنه لا يحتج بها فقد كفر إجماعاً، ونقل كثيراً من كلام السلف في ذلك.(/14)
فهذه منزلة السنة من الإسلام، وهذه مكانتها من الشريعة، وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأنها حجة مستقلة قائمة بنفسها، يجب الأخذ بها والرجوع إليها، وأنه متى صح السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب الأخذ به مطلقاً، ولا يشترط في ذلك أن يكون متواتراً أو مشهوراً أو مستفيضاً أو بعدد كذا من الطرق، بل يجب أن يؤخذ بالسنة ولو كانت من طريق واحدة، متى استقام الإسناد وجب الأخذ بالحديث مطلقاً، بسند واحد أو بسندين أو بثلاثة، أو بأكثر، سواء سمِّي خبراً متواتراً، أو خبر آحاد، لا فرق في ذلك، كلها حجة يجب الأخذ بها، مع اختلاف ما تقتضيه من العلم الضروري أو العلم النظري أو الظني إذا استقام الإسناد وسلم من العلة فالعمل بها واجب، والأخذ بها متعين، متى صح الإسناد وسلم من العلة عند أهل العلم بهذا الشأن. أما كونه متواتراً، أو كونه مشهوراً، أو مستفيضاً، أو آحاداً غير مستفيض ولا مشهور، أو غريباً، أو غير ذلك، فهذه أشياء اصطلح عليها أهل الحديث في علم الحديث، وبينوها في أصول الفقه أيضاً، وأحكامها عندهم معلومة، والعلم بها يختلف بحسب اختلاف الناس؛ فإنه قد يكون هذا الحديث متواتراً عند زيد وعمرو، وليس متواتراً عند خالد وبكر؛ لما بينهما من الفرق في العلم، واتساع المعرفة؛ فقد يروي زيد حديثاً من عشرة طرق، أو من ثمانية، أو من سبعة، أو من ستة أو خمسة، ويقطع هو أنه بهذا متواتر؛ لما اتصف به رواته من العدالة، والحفظ، والإتقان، والجلالة. وقد يروي الآخر حديثاً من عشرين سنداً، ولا يحصل له ما حصل لذلك من العلم اليقيني القطعي بأنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو بأنه متواتر. فهذه أمور تختلف بحسب ما يحصل للناس من العلم بأحوال الرواة وعدالتهم، ومنزلتهم في الإسلام، وصدقهم، وحفظهم، وغير ذلك. هذا شيء يتفاوت فيه الرجال حسب ما أعطاهم الله من العلم بأحوال رواة الحديث، وصفاتهم، وطرق الحديث، إلى غير ذلك. لكن أهل العلم(/15)
أجمعوا على أنه متى صح السند وسلم من العلة وجب الأخذ به، وبينوا أن الإسناد الصحيح هو ما ينقله العدل الضابط عن مثله، عن مثله، عن مثله إلى الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من دون شذوذ ولا علة، فمتى جاء الحديث بهذا المعنى متصلاً لا شذوذ فيه ولا علة، وجب الأخذ به والاحتجاج به على المسائل التي يتنازع فيها الناس، سواء حكمنا عليه بأنه غريب أو عزيز أو مشهور أو متواتر، أو غير ذلك؛ إذ الاعتبار باستقامة السند وصلاحه وسلامته من الشذوذ والعلة، سواء تعددت أسانيده أم لم تتعدد.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا جميعاً الفقه في دينه، والاستقامة على ما يرضيه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه جل وعلا جواد كريم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة النجم، الآيات 1 – 4.
[2] سورة آل عمران، الآيتان 131، 132.
[3] سورة آل عمران، الآية 132.
[4] سورة آل عمران، الآيتان 31، 32.
[5] سورة النساء، الآية 59.
[6] سورة النساء، الآية 80.
[7] سورة الأعراف، الآية 158.
[8] سورة الأعراف، الآية 157.
[9] سورة الأعراف، الآية 158.
[10] سورة النور، الآية 54.
[11] سورة النور، الآية 56.
[12] سورة النور، الآية 63.
[13] سورة الحشر، الآية 7.
[14] رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7386)، والبخاري في (كتاب الأحكام) برقم (7137)، ومسلم في (الإمارة) برقم (1835).
[15] رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8511)، والبخاري في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) برقم (7280).
[16] رواه أبو داود في (السنة) برقم (4604)، والترمذي في العلم برقم (2464).
[17] رواه ابن ماجه في المقدمة برقم (12).
[18] سورة النحل، الآية 44.(/16)
[19] سورة النحل، الآية 64.
[20] سورة الأنبياء، الآية 107.
[21] سورة سبأ، الآية 28.
[22] رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) برقم (2486)، والبخاري في الشهادات برقم (2645).
[23] رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (68) ومسلم في (الإيمان) برقم (21).
[24] رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (337)، والبخاري في (الزكاة) برقم (1400)، ومسلم في (الإيمان) برقم (20) بلفظ (عقالاً) بدلاً من (عناقاً).
[25] سورة النور، الآية 63.
[26] رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) برقم (4641)، ورواه البخاري في (الجمعة) برقم (900)، ومسلم في (الصلاة) برقم (442).
[27] رواه الإمام أحمد في (أول مسند البصريين)، حديث عبدالله بن مغفل برقم (20028)، والبخاري في (الأدب) باب النهي عن الخذف برقم (6220)، ومسلم في (الصيد والذبائح) باب إباحة ما يستعان به على الإصطياد برقم (1954)، وأبو داود في (الأدب) باب الخذف برقم (5270) واللفظ له.
[28] سورة النور، الآية 63.(/17)
العنوان: السهم القاتل
رقم المقالة: 281
صاحب المقالة: د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
-----------------------------------------
عجباً لمن تجرأ على نفسه فاحتسى سماً زعافاً, فبينا هو قد قارب الهلاك, إذا به يرمق بعينين ضامرتين, وينظر نظر المغشي عليه من الموت, يرمق جاراً له آمناً في سربه, معافىً في بدنه, غذاؤه شفاء, وشرابه دواء, يدفع إليه كأس السم القاتل، مُغوياً له ليرتشفه , ولك أن تزداد عجباً بعدها من قبول السليم سم السقيم , بل وإدارته الكأس للأصحاء من حوله.
لا ريب عندي البتة بفطنة القراء ومزيد حصافتهم, وإلا لما قدمت بكلامي ذاك مقالتي.
إنه السهم القاتل الذي ما فتئ أهل الغرب ونافخو أبواقهم, ومرددو دعواتهم يصمّون آذاننا بمروقه، محاذياً لأفئدةٍ رقيقة لا تلبث أن تحترق بلظى ذلك الشهاب الثاقب , أو يمسها من حره مس، إنه سهم "تحرير المرأة", يمرق محاذياً أفئدة نساء المؤمنين , وقد طالعتنا به صُحف الغرب مجدداً من بعد (قاسم أمين), الذي – وعلى التحقيق – لم يكن هو كاتب " تحرير المرأة " بتمامه، بل حرّر جزءاً من كتابه وأعانه على تحرير كثير منه قوم آخرون[1] !! مؤكدة تلك الصحف حرصها المستميت على منح المرأة المسلمة – وبخاصة في المملكة الحبيبة – حريتها في التعلم, وحقها في إبداء الرأي, وضرورة افتكاكها من القيود المفروضة عليها اجتماعياً, وتسلمها حقوقها تامة غير منقوصة كما مُنحتها المرأةُ الغربية.
فلبثتُ ملياً عند تلك الدعوة, وأحببتُ أن أكون منصفاً لكلتا المرأتين , العربية والغربية, لأُمايزَ بينهما, وقد وجدت أن المرأة الغربية قد فاقت فعلاً المرأة العربية، إنما بإعجام الغين وحسب , ونقصت عنها العربية بإهمال العين فقط . ولم أجد مزية للغربية على العربية إلا هذا , بل لقد وجدت مزيد عناية لدينا بأمر المرأة طلباً لكمالها, ومزيد عناية لديهم بالمرأة طلباً لامتهانها.(/1)
وهاك – إن أخذتك العزة بالغرب – مصداق كلامي واقعاً تاريخاً ومعاصرة :
إن بلداً أوروبياً – هو رأس الفرانكوفونية[2] في العالم – لم يشرع في دستوره منح حق الملك والتصرف للمرأة إلا في القرن العشرين, لكنها لم تمنحها ذلك ابتداءً، بل كان ذلك جرّاء النضال بعد النضال، وتكسر النصال على النصال, خضوعاً لضرورة اقتصادية داعية إلى ذلك. وإن ملكة عليها يوماً قالت لما صفعها زوجها الملك: "سيدي إذا كان هذا يرضيك فأعد لطمي ثانية".
"وقد اعترفت منظمة اليونسكو – المرجع الثقافي الأهم في العالم – بأنْ ليس ثمة شك في أن مركز المرأة هو أدنى من مركز الرجل في كل مكان, وإلا لما غدت المرأة هدفاً محدداً للمشاريع الإنمائية, وفي المؤتمر العالمي للعام الدولي للمرأة (المنعقد في مكسيكو سيتي 1975م) أقر المؤتمر بأن الهدف – المعلن – للمؤتمر هو: إثبات أن المرأة في عملية الإنماء هي الشريك الكامل المادي للرجل "[3], ولتتأمل – أخي القارئ – في الشراكة المادية, وما يكمن في الحرص عليها من توظيف لقدرات المرأة, أياً كانت هذه القدرات, ولو لم تتفق ومكانتها الاجتماعية وكرامتها المفترضة, وفي ذلك الهدف المعلن إشارة إلى اعتراف مبطّن بتدني مكانة المرأة على المستوى العالمي, وتهميش دورها لا في المملكة على الأخص, ولا في المنطقة العربية فحسب، بل على صعيد العالم بأسره.
ولننظر بعدها إلى "تقرير نشرته وزارة العدل الأمريكية أواخر حزيران (1994م), حول معدلات الاغتصاب في واشنطن وفي إحدى عشرة ولاية أخرى خلال عام واحد (1992م) وقد بلغت عشرة آلاف حالة!. وأن نسبة 4% فقط من هذه الحالات قد تمت من قِبل أشخاص مجهولين! وتوازع البقيةَ منها المحارمُ والأقرباء والأصدقاء !!(/2)
وفي تقرير مشترك أُعِدّ من قِبَل: "مركز الأبحاث ومعالجة ضحايا الاغتصاب" و"مركز الضحايا الوطني الأمريكي" تبين فيه أن إجمالي من تعرض من النساء الأمريكيات للاغتصاب لمرة واحدة على الأقل قد بلغ 12.1 مليون أمريكية "[4]. وقد أشارت صحيفة " كريستيان ساينس مونيتور " الأمريكية في تقرير نشرته في ديسمبر 1996م, إلى أن ظاهرة ذهاب الأمهات إلى العمل تشكل تهديداً خَطِراً على حياة الأسر الأمريكية, وتشير دراسات أخرى إلى أن ثلاثاً من بين أربع أسر أمريكية تعيش حياة أسرية متفككة, إما بسبب الطلاق أو ظروف العمل المفرِّقة للأبوين"[5].
ولن أبالغ في سرد نتائج تقارير رسمية وغير رسمية صادرة عن أهل الغرب, لكني أحببت بيان جرعة من السم القاتل الذي تتجرعه المرأة الغربية ولا تكاد تسيغه, ولأشير إلى موت يأتيها من كل مكان وليست بميتة, وأزيدك – إن رغبت الاستزادة – " أن المؤتمرات المنعقدة لإنقاذ المرأة - بزعمهم - بدءً من 1975م في المكسيك إلى مؤتمر المستوطنات البشرية الثاني في تركيا 1996م, هذه جميعها لا هدف لها إلا تفتيت مجتمعات لا زالت متماسكة، ومن أهمها مجتمعات الدول الإسلامية, والحدّ من معدلات الزيادة السكانية فيها، حيث إن معدلات النمو السكاني في الدول الغربية هي بانخفاض مطّرد, فلا بد من العمل إذاً على نشر ما يفتت الأسر المسلمة وما يحدد النسل فيها، كيما تلحق سراعاً بانهيار المجتمعات الغربية, وإلا فإنها بحفاظها على تماسكها سوف تشكل – ولا شك – خطراً داهماً على هيمنة المجتمعات الغربية عليها.(/3)
ونحن نذكر هنا - إنصافاً - تلك الصرخة المدوية التي أطلقتها الأمريكية "دالي أدلياري" رئيسة جمعية الأمهات الصغيرات, في المؤتمر الدولي للسكان المنعقد في القاهرة (سبتمبر 1994م), قائلة: لقد دمروا المجتمع الأمريكي، وجاؤوا الآن بأفكارهم للمجتمعات الإسلامية ليدمروها, ويدمروا المرأة ودورها فيها, أما " بيل شيروين " فقد نعتَ الداعين إلى تحديد النسل بمدمري الأسر, وأن هدفهم هو الحد من الإنجاب بشتى الطرق"[6]. نقول: شكراً لهما على تجردهما, ويا حبذا لو ينطق مقلدو الغرب عندنا بمثل ما نطقا به !!
عذراً إليكم - أهل الغرب - فالمقام لا يحويه المقال, ذلك أن نساءنا عزيزات علينا, أكثر مما تحسبون، ويعز علينا أن يصلحهن دول وهيئات ومفكرون أقروا مبدأ المساكنة, وألغَوا قدر الأمومة من وجدان غالب الفتيات الغربيات, وارتضَوْا بالتضحية بتماسك الأسر, وحولوا المرأة إلى آلة صماء في العمل, وبتدرج منحدر في المناصب من رئاسة وزراء, إلى ما دون ذلك مما يربأ بالمرأة عن عمله !! طلباً للاستقرار الاقتصادي في المجتمع, فأوقعوها فريسة وَهْم كبير مؤداه مرض نفسي, وكراهية متدرجة مبرمجة تبدأ بكره المراهق الذي حاول الاعتداء عليها صغيرة, ومروراً بالأب الذي لا يسمح لها بالسكن في منزله بعد الثامنة عشرة حتى تؤدي له بدل إيجار مناسب, ثم بخليل يتصورها مصب شهوة وقضاء نزوة, ثم زوجاً يُلزمها بالمشاركة في العمل لأداء ما يلزمها من نفقات بيتية وشخصية, ويريد منها بعد ذلك أن تحنو في أحشائها على طفله وتولده وتربيه وترعى شؤون المنزل, ثم يتجرأ بعد ذلك كله على هجرها واتخاذ خليلات له, هذه الحياة البائسة للمرأة الغربية تحب وسائل الإعلام الغربية في الآونة الأخيرة أن تلبسها لبوساً براقاً وتكسو بها المرأة العربية, لكن لهم نقول: لم لا نستطلع سوياً – ولو من باب العلم بالشيء – حال المرأة المسلمة التي ارتضتها المرأة في بلادنا قدوة لها:(/4)
- " المرأة المسلمة: لها الحق الكامل في العمل المشروع – المتناسب مع قدراتها وكفاءاتها, وبما يحفظ عليها كرامتها – إذا هي أرادته, على الرغم من أنها قد أعفيت من أعباء الكسب, مع الحفاظ على التوازن بين واجب الأمومة ورعاية الأسرة, حفاظاً بذلك على كيان المجتمع بأسره.
- المرأة المسلمة: هي الوحيدة في تاريخ الحضارات التي اهتمت بالشؤون العامة مثل اهتمامها – إن لم يزد – بالشؤون لخاصة.
- المرأة المسلمة: تقوم عزة الأمة بها، بقيام فريضة الجهاد, وذلك بإيثارها رفعة المبدأ على محبة الزوج ومحبة الولد, باحتساب وفداء, بل وبمساهمة فاعلة بالنفقة, والتمريض, وتوصيل المؤن, وبالقتال أيضاً، إن احتيج إلى ذلك.
- المرأة المسلمة: أعطيت حق البيعة (وهو حق فكري وسياسي رفيع المستوى) تقدمه لرأس السلطة, منذ عهد الإسلام الأول.
- المرأة المسلمة: مُنِحَتْ حق الهجرة – ولو كانت متزوجة – عند اقتناعها التام بمبادئ الإسلام، فتلحق مهاجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو نضال ما بعده نضال لمن عقل النضال، وحرية ما بعدها حرية لمن أدرك معناها .
- المرأة المسلمة: علّمت العلماء, وأدبت الأدباء, وتعلمت الطب, ولا تعجبوا يا أهل الغرب فهاكم السيدة عائشة رضي الله عنها مصداقاً لما نقول.
- المرأة المسلمة: قد خالفت باجتهادها الخليفة الراشد (عمر رضي الله عنه) إيجابه تقليل المهور, فنزل عند رأيها, فنحن قوم نقدر أهل الرأي والاجتهاد، فقد تصيب فيه امرأة ويخطئ أعظم الرجال .
- المرأة المسلمة: وقفت خطيباً بين يدي حامل الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم, تسأله في أمر دينها, وتستأذن في مشاركة الرجل في الجهاد, فدلها عليه الصلاة والسلام على أن " حسن تبعلها لزوجها وطاعتها له بالمعروف, تعدل ذلك كله "، تأسيساً للأسرة التي بها قوام المجتمع بأسره .(/5)
- المرأة المسلمة: نالت حق الإجارة (اللجوء السياسي), تمنحه هي لمن شاءت من غير المسلمين, في الحرب والسلم, وهذا ما لم تنله امرأة قط لا في شريعة حمورابي، ولا في مبادئ بوذا، ولا في تحرير المرأة على النمط الغربي اليوم، وقد فعلت ذلك أم هانئ بنت أبي طالب, وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ". فلم يجرؤ أحد بعدُ على أن يخفر ذمة امرأة أجارت، أو أن ينقض فعلها.
- المرأة المسلمة: تساوت مع الرجال في حقوقها الدينية تكليفاً وجزاءً .
- المرأة المسلمة: نالت حق المخاصمة إلى القضاء استحصالاً للحق ودفعاً للضر.
- المرأة المسلمة: زادت عن الرجال في عدم إيجاب المهر عليها, وفي عدم إلزامها بالنفقة حتى على نفسها وأولادها . مع أنها قد نالت حقاً من الميراث تملّكته نصيباً لها مفروضاً .
- المرأة المسلمة: لا وصاية عليها في مالها , ولها التبرع, ولها التصدق, ولها الوقف, ولها الاتجار، ولها الكفالة, كما أن لها جميع حقوق الملك المشروع , والتصرف المشروع.
ومن تأخير ما حقه التقديم : فإن قدوة المرأة المسلمة, في إعداد الرجال : امرأة جاوزت أعوامها المائة, تنصح ولدها المعارض لظلم الحاكم فتقول : " يا ولدي لضربة بسيف في عز أحب إلي من ضربة بسوط في ذل", فلما صلب الظالم ولدها وكُفّ بصرُها حزناً عليه جاءت الظالم لا لتستجديه إنزال ولدها, بل لتعلمه كلمات يعجز أعظم الرجال عن قولها. قالت أسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) والدة عبد الله بن الزبير للظالم الحجاج بن يوسف الثقفي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج من ثقيف كذّاب ومبيرٌ " (مهلك), أما الكذاب فمسيلمة , وأما المبير فهو أنت "[7].(/6)
أخي القارئ, لا أدّعي عصمة لنسائنا, ولا اكتمالاً لنيل المرأة حقوقها لدينا إلا أني أضع بين يديك ما سبق, وما يلحق لتحكم بنفسك, وحيث إني لم أُحِطْ علماً بحال المرأة العربية, فسأقتصر هنا على إيراد بعض شواهد لحال المرأة في المملكة العربية السعودية :
- عدد السجلات التجارية المسجلة بأسماء سيدات سعوديات يقدر بـ (70.000) سبعين ألف سجل تجاري"[8].
- يصل عدد المنتسبات لغرفتي التجارة في الرياض وجدة, إلى أكثر من (13.000) ثلاثة عشر ألف سيدة.
- بلغت نسبة إجمالي النساء من إجمالي العاملين بالدولة : 34.6% [9].
- عدد النساء العاملات في المملكة قارب ثلاثة ملايين (3.000.000) أي ما يقارب نصف النساء السعوديات, بلغ عدد شاغلات الوظائف التعليمية منهن (228.000) مئتان وثمان وعشرون ألفاً .
- الخريجات من المعاهد العلمية والجامعات وصل تعدادهن إلى (170.000) مئة وسبعون ألفاً.
- بلغ عدد الطالبات في مختلف مراحل التعليم (1.832.969) تسع وستون، وتسعمائة، وثمانمائة واثنان وثلاثون ألفاً، ومليون طالبة، وهو ما يمثل نسبة تزيد عن معدل نصف عموم الطلبة في المملكة[10].
أخي القارئ: نحن لا ندعي كمالاً في حالنا, غير أن لنا في تاريخنا وحاضرنا ما يُسْمننا ويُغْنينا من جوع الغرب , والمملكة تسعى – بحمد الله – دوماً إلى مقاربة بلوغ الكمال في تكريم المرأة والعمل الحثيث الجاد، لتأخذ دورها الكريم في مجتمع يقدرها ويحفظ عليها أمر دينها وكرامتها. وإن المرأة في بلادنا ليست بحاجة البتة لما تقرع به آذانَنا طبولُ الإعلام الغربي الأحادي التوجه المتأثر بما يمليه عليه " مكتب التأثير الاستراتيجي " فهل يحمل ذلك الإعلام الغربي مشعل الحرية ويدعو إليها , أم ترانا نواجه إعلاماً يحمل مشعل الرأي الواحد الساقط من أعلى على رؤوس أهل مجتمعاتنا ؟ ! .
ـــــــــــــــــــــــــــ(/7)
[1] إن هذا الكتاب : "تحرير المرأة " إنما جاء ثمرة عمل مشترك بين الشيخ محمد عبده وقاسم أمين كما حقق ذلك د. محمد عمارة في مؤلفه (الأعمال الكاملة لمحمد عبده) .
[2] مصطلح يُعنى به : منظومة البلدان ذات الشعوب الناطقة باللغة الفرنسية أصلاً، أو التي اعتمدت اللغة الفرنسية لغة ثقافية أولى لأهلها .
[3] الإسلام ومكانة المرأة، د. محمد مرسي، ص 42 .
[4] سقوط الحضارة الغربية، رؤية من الداخل، أحمد منصور . ص 43 .
[5] المرجع السابق، ص 57 .
[6] سقوط الحضارة الغربية : رؤية من الداخل، أحمد منصور، ص 61 - 62 .
[7] انظر : الإسلام ومكانة المرأة، د محمد مرسي ملخصاً من الفصل الثامن ص 225 .
[8] جريدة اليوم، العدد 10629، تاريخ الاثنين 12/5/1423هـ .
[9] نقلاً عن تقرير (العاملون بالدولة) الصادر عن مجلس الغرف التجارية الصناعية السعودية 1420-1421 هـ .
[10] نقلاً عن الكتاب الإحصائي السنوي، وزارة التخطيط، مصلحة الإحصاءات العامة 2001م .(/8)
العنوان: السياق القرآني وأثره في الكشف عن المعاني
رقم المقالة: 486
صاحب المقالة: زيد عمر عبد الله
-----------------------------------------
ملخص البحث:
يعرض البحث لقضية تفسير النصوص, ويسلط الضوء علي السياق؛ كونه من أبرز القرائن المعينة على فهم النص وتفسيره تفسيراً صحيحاً يكشف عن المراد منه.
عرض البحث لتعريف السياق، وبيان منزلته ومجالاته, وبين أن كثيراً من المفسرين عُنوا به قديماً وحديثاً، وأنزلوه منزلته بإزاء القرائن الأخرى، وطائفة أخرى قليلة ربما أهملته, أو تجاوزت في توظيفه, فنتج عن هذا خلل في فهم النص, وقد بين ذلك كله بالأمثلة القرآنية.
وخلص البحث إلى أن للسياق أثراً بارزاً في ترجيح المحتملات، وبيان المجملات, وفي عود الضمير والقراءات, وفي تنقيح التفسير من الدخيل والإسرائيليات, ودفع ما يتوهم أنه تعارض بين الآيات، وإن كان هذا البحث لم يتسع من ذلك كله إلا إلى إشارات.
وكان لمفسري القرآن فضل السبق في الكشف عن دور السياق مما يظن أنه من نتاج الدراسات اللسانية الحديثة، ومن مبتكرات مدارس تحليل الخطاب.
مقدمة
الحمد لله الذي نصب للحق دليلاً, والصلاة والسلام علي النبي الأمين أعلم الناس بمراد الله, ورضي الله عن صحابة رسوله الكرام الأمناء علي الوحي, ومن تبعهم بإحسان، وبعد.
كان تفسير النصوص - وما زال - الشغل الشاغل للعلماء، كلٌّ في مجال اختصاصه؛ لأن فهم المراد من النص الهدف الأولى, والغاية الكبرى؛ لما له من الآثار والثمار, فلا غرو بهذا الاعتبار أن تتجه الأنظار إلى تفسير النصوص منذ وجدت.
صاحب تفسير النصوص تباين في الوسائل والغايات, فمن طائفة حرصت على الكشف عن المراد من النص في ضوء ما أتيح لها من معالم وقرائن معينة على فهمه, وطائفة أخرى أهمتها أغراضها؛ فغدت على النص تفسره كيفما ترى أو يحلو لها, بعيداً عن الضوابط والقرائن، جاهلة بها، أو متجاهلة لها؛ فكانت الجناية على النص.(/1)
حرص أهل الشأن علي الحيلولة دون العبث بالنصوص؛ فعمدوا بعد استقراءٍ وجمعٍ إلى وضع مجموعة من القواعد والمعالم التي تعين على التفسير السليم للنصوص, ولتكون بمثابة الميزان الذي يعرف به التفسير المقبول من غيره.
لقد آتت هذه القواعد ثمارها, وبرزت آثارها, فصار لها حضور مشهور لدى مفسري النصوص, بخاصة مفسرو القرآن الكريم, الذين عنوا بها منذ وقت مبكر؛ تفصيلاً وتأصيلاً وتطبيقاً, فحازوا فضل السبق في ذلك كله.
كان السياق من أبرز هذه القواعد والقرائن, وقف المفسرون على دوره المتميز, فأنزلوه منزلته اللائقة به في الجملة, مع شائبة مردها الإفراط والتفريط أحيانا, سنعرض لها ونحن نكشف عن معنى السياق, وعن منزلته ومجالاته وغاياته، في بحث يدور حول أثر السياق القرآني في الكشف عن المعاني, وسيكون هذا كله في نطاق ما يتسع له المقام من بسط وضرب للأمثلة, في محاولة لإبراز ما اندثر, وجمع ما انتثر من مسائل تتصل بالسياق، لعلها تعطي بمجموعها صورة واضحة المعالم, وتعين علي الإفادة منه دون إفراط أو تفريط, وهي خطوة سبقتها من غيري خطوات متناثرات؛ سوغت لي الكتابة في هذا الموضوع.
آمل أن تكون هذه الدراسة خطوة نحو تفسير سليم. والله سبحانه أعلم.
السياق: أهميته ومجالاته
يعتمد فهم النص - أي نص - على مجموعة من العوامل والمعالم, سواء أكانت داخله أم خارجه, وقد تنبه لها العلماء - كلٌّ في مجال اختصاصه - فعرضوا لها تفصيلاً وتأصيلاً؛ بغية الوصول إلى تفسير للنص يكشف عن المراد منه.
إن هذه العوامل - على تفاوت بينها في الآثار والثمار - ذات تأثير مباشر على المعنى الدقيق للكلمات "وهذا أمر لم يعارض فيه أحد معارضة جدية" [1, ص75], ويعد السياق من أبرزها، وأكثرها أثرا في تحديد المعنى؛ "لأن اللغة ظاهرة اجتماعية، فيكون الفهم متوقفاً على النظر إلى الكلام في ضوء السياق" [2, ص 464], سواء أكان هذا السياق كلامياً أم غير كلامي [3, ص 100].(/2)
تتسع دائرة السياق بعامة, ويمتد نفوذه فيؤثر في جوانب متعددة في النص, فهو يسهم في تحديد المعنى ودفع اللبس، كما في كلمة "السائل" [4, ص282] مثلاً, ففي قولنا: "الدواء السائل أسلم للأطفال. تكون "السائل" اسم فاعل من "سال", وفي قوله تعالي: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] تكون "السائل" اسم فاعل من "سأل", وفي قولنا: "سائل العلياء عنا" يكون "سائل"فعل أمر, ويعود الفضل للسياق في ضبط هذه الدلالات للكلمة الواحدة , ودفع ما قد يتوهم من لبس.
للسياق كذلك أثر في تحديد الزمن النحوي [5, ص 242], وفي حل بعض مشاكل التنافر، وتوالي الأضداد [5, ص 262], كما يحول السياق دون إنشاء جمل مستقيمة نحوياً ولا معنى لها، كقولنا: تأكل التفاحة الولد [6, ص148], إلى غير ذلك من المجالات التي نعرض عنها؛ لأنها خارج دائرة هذا البحث[1].
للسياق حضور أيما حضور في مجال تفسير النصوص القانونية, ولهذا تسالم رجال القانون على أنه "يجب أن تفهم الكلمات الواردة في النص القانوني، في ضوء المعنى الذي يعبر عنه سياق النص" [7, ص92].
لقد عُني العلماء بنظرية السياق كثيراً, حتى صارت عندهم الركن الرئيس في تحليل الخطاب، وفهم النص, حين أدركوا أهمية السياق في هذا المجال، ولو متأخراً, وفي هذا يقول براون ويول: "إن الفكرة القائلة بإمكان تحليل سلسلة لغوية (جملة مثلاً) تحليلاً كاملاً بدون مراعاة السياق قد أصبحت في السنين الأخيرة محل شك" [3, ص 32].
إذا كان بروز هذا الاهتمام متأخراً عند غيرنا - كما يفهم من العبارة السابقة - فإن عناية علمائنا بالسياق كانت مصاحبة لنزول القرآن الكريم, وكان له استحضار مؤثر في فهم النص العربي بعامة.
يحسن بنا قبل أن نفصل القول فيما نحن بصدده أن نحدد المقصود من السياق الذي سنعرض له؛ "لأن هذه الكلمة استعملت حديثاً في عدة معاني مختلفة [1, ص 57].(/3)
يتكون السياق - موضوع دراستنا - من السباق واللحاق, أما السباق: فهو من السبق, وهو التقدم, ويطلق على التقدم في السير [8, جـ 3, ص129؛ 9 , ص395], ونعني به موضع الشيء [10, ص 508] ما قبل النظر؛ أما اللحاق: فهو من لحقته ولحقت به، أي: أدركته, وهو كل شيء لحق شيئاً، أو ألحق به [11, جـ10, ص327], ويطلق على ما بعد الشيء موضع النظر.
إن السياق الذي نعني هو ذلك السياق الداخلي الذي يُعنى بالنظم اللفظي للكلمة، وموقعها من ذلك النظم، آخذاً بعين الاعتبار ما قبلها وما بعدها في الجملة, وقد تتسع [1, ص 57] دائرته إذا دعت الحاجة, فيشمل الجمل السابقة واللاحقة, بل والقطعة كلها، والكتاب كله.
يمكن في ضوء ما تقدم أن نتفهم دور السياق القرآني في الكشف عن المعاني ونحن نستحضر أن ترتيب الآيات في السور القرآنية توقيفي[2], وأن المناسبة في الأصل قائمة بين هذه الآيات, وهذا يحمل على الاطمئنان إلى النتائج التي تسفر عنها مراعاة السياق في نظم معجز تكلم به الحكيم الخبير, ولا غرو من ذلك بعد أن ظهرت الآثار الإيجابية لمراعاة السياق في تحليل الخطاب الصادر عن البشر كما قال أولمان: "إن نظرية السياق إذا طبقت بحكمة؛ تمثل الحجر الأساس في علم المعنى, وقد قادت بالفعل إلى الحصول على مجموعة من النتائج الباهرة بهذا الشأن" [1,ص61].
فإذا كان قد ظهر هذا في كلام البشر والذي لا يخلو من نقص وخلل, فإنه في كلام الله تعالى أشهر وأظهر، في ظل تميزه بنظمه المعجز. {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
إن لكل كلمة في القرآن معنى في ضوء سياقها، قد لا يصح هذا المعنى لسياق آخر؛ لأن [12, جـ3, ص 138] مراعاة مساق الكلام ومنحى القول مهم، وإن كان المعنى الآخر صحيحاً؛ لهذا عد صاحب (المنار) السياق أفضل قرينة تكشف عن حقيقة معنى اللفظ [13, جـ 1, ص 22].(/4)
تضيء هذا التوجه نظرة إلى كتب الأشباه والنظائر التي جمعت للكلمة الواحدة في القرآن دلالات متعددة، يعود للسياق الفضل في اكتسابها لهذه المعاني في ضوء الدلالة اللغوية، ذلك أن "دلالة اللفظ في كل موضع بحسب سياقه, وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية" [14, جـ6,ص 14], بخاصة أن دلالته تختلف، كونه مفرداً أو مقروناً [15, جـ1، ص 260].
إن لكلمة "أمر" في القرآن الكريم ستة عشر معنى [16, ص 38], ولكلمة "الرحمة" أربعة عشر معنى [16, ص 347], ولكلمة "فتن" أحد عشر معنى [16, ص 347], أدت كل كلمة منها المعنى المراد الذي يفرضه السياق.
لقد عُني المفسرون منذ وقت مبكر بالسياق القرآني؛ لما له من أثر فاعل في الكشف عن مراد الله تعالى في كتابه, وكان له - السياق - حضور بارز إلى جانب القرائن الأخرى؛ كأسباب النزول, واللغة، والعموم, وربما قُدم على بعضها، أو تحكم بها؛ لتوقف المعنى العام عليه؛ "فإنه عند التفاضل بين هذه القواعد؛ لابد من مراعاة السياق دائماً، فهو المقصود بهذه القواعد، حتى يفهم على وجهه" [17, جـ1، ص 98].
جعل الشاطبي مراعاة السياق مظهراً من مظاهر الاعتدال في التفسير المفضي إلى الفهم السليم، حين قال: "فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله, وأوله على آخره, وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف, فإن فرق النظر في أجزائه؛ فلا يتوصل به إلى مراده, ولا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض [18, جـ3, ص855؛ 19, جـ1، ص 156].
إن هذا القانون الذي يجعل السياق محل اعتبار كان سمة صاحبت التفسير منذ بداياته الأولى - وبجهد متميز من شيخ المفسرين الإمام الطبري؛ تأصيلاً وتطبيقا - وإلى العصر الحديث.(/5)
على الرغم من أن التفسير في عهد الصحابة الكرام كان ذا طابع تجزيئي يُعني بتفسير المفردة القرآنية, إلا أنه لم يكن يغفل سياقها؛ ولهذا جاء تفسيرهم سليماً خالياً من الخلل بعامة, وإن لم يكن قد ورد عنهم صراحة ما يعد توصيفاً للسياق وتأصيلاً له، عدا إشارات قد تدل علي ما نحن بصدده, منها إنكار عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - علي الخوارج، ونعته لهم بأنهم شرار الخلق، حين عمدوا إلي آيات نزلت في الكفار؛ فجعلوها في المسلمين [18, جـ3, ص 807], وهذا لا يكون إلا بتجاهل السياق.
يتضمن تفسير الإمام الطبري إشارات أخري تدل علي استحضار السياق في وقت مبكر؛ فإن كثيراً من اختياراته في التفسير، والتي جاءت في ضوء السياق كان موافقا فيها لابن عباس - رضي الله عنهما[3], وتزداد هذه المسالة وضوحاً بما روي عن تابعي متقدم روى عن ابن عباس وتتلمذ عليه، ذلكم هو مسلم بن يسار البصري، المتوفى سنة 100 هـ، حين قال وهو ينبه إلي ضرورة الاهتمام بالسياق: "إذا حدثت عن الله؛ فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده" [21, جـ1, ص 17]. وهذا طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) يستند إلي السياق في تحديد المراد بالنفس في قوله تعالي: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21], فيقول: "إنما يراد بهذا الكافر, اقرأ ما بعدها يدلك على ذلك" [20, جـ26, ص 162].
لقد بقي هذا المنهج محل عناية المفسرين قديماً وحديثاً - على تفاوت بينهم؛ "لأن دلالة السياق متفق عليها في مجاري كلام الله تعالي" [22, جـ6,ص52], فلم يكن يسع أحداً منهم تجاهلها, وإن حصل شيء من هذا؛ عوتب أصحابه، وصاروا موضع نقد واستدراك.(/6)
هذا الذي أشرنا إليه وجد شيء منه عند أبي عبيدة (ت 209هـ) في كتابة (مجاز القرآن)؛ فإنه عني في مواطن متعددة منه بدراسة المفردة القرآنية من الجانب اللغوي، دونما اعتبار لسياقها القرآني, فجاءت دراسته في هذه المواطن إلى البحث اللغوي أقرب منها إلى التفسير المفضي إلي الكشف عن مراد الله, ولهذا تعاقبت عليه الاستدراكات، والتي صاحبها تشنيع أحياناً[4].
لسنا في هذا المقام بصدد تقويم منهج شخص بعينه, وإنما نهدف إلى بيان أن ثمة توجهاً ظهر في وقت مبكر أيضاً لم يُعن كثيراً بالسياق, وربما أهمله, فتسرب الخلل إلى التفسير من هذا الوجه, ولن نعدم أمثلة لهذا من تفسير التابعين ومن بعدهم, لكنها لم تكن تؤلف ظاهرة.
يحسن التنبيه - احترازاً - إلى أن تفسير الصحابة - والذي عُني بتفسير المفردة القرآنية كما أسلفنا - سلم من هذا الخلل؛ بسبب توافر مجموعة من الصفات كان يفتقر إليها من جاء بعدهم, وهي أنهم تتلمذوا على الرسول صلي الله عليه وسلم, وعايشوا الجاهلية, وعاصروا تنزيل القرآن, وكانوا عربا خلصاً, فكانوا أعرف الناس بمقاصد القرآن وسياقه العام, وكان تفسيرهم على أية حال قليلاً.
كان هذا بخلاف طائفة ممن جاء بعدهم؛ فإن هؤلاء - إضافة إلى ما تقدم - كانوا يرغبون في تجميع الأقوال, وكانوا حريصين على تكثير المعاني, فأدى هذا إلى عدم الحرص على تجاوز معاني المفردات إلى ما هو أبعد من ذلك، كتتبع السياق.(/7)
يُلحظ شيء مما ذكرنا عند أبي عبيدة وابن قتيبة والأخفش من المتقدمين, ومن المتأخرين نسبياً: البيضاوي والخازن وابن الجوزي, وهي أحكام لا تخلو من تجوُّز؛ لأننا لا ندعي أنها صادرة عن تتبع واستقراء, وإنما هي ملحوظات تتابعت من مداومة النظر في كتبهم, وقد يشهد لها ما سيأتي من أمثلة في ثنايا هذا البحث، يرى الحذاق من العلماء أن في هذا المسلك قصوراً؛ لأن بعض أصحابه "راعوا مجرد اللفظ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به وسياق الكلام" [15, جـ1, ص 67], وللشاطبي كلام قريب من هذا [18 , جـ3 , ص 853], ومن قبل الإمام الطبري الذي عُني بالسياق تأصيلاً وتطبيقاً كما أسلفنا, ونعى على من تجاهله [ 20, جـ12 , ص234], وتبعه في ذلك كثيرون؛ كابن عطية [25, جـ 10, ص 20] والزمخشري [26, جـ3, ص118].
ومن الذين أسهموا في إبراز دور السياق واستثمروه الراغب الأصبهاني (ت 502 هـ)، في كتابه (مفردات القرآن), فقد أثنى الزركشي على منهجه وهو يتحدث عن تفسير بعض آي القرآن الذي لم يرد فيه نقل, حيث قال: "وطريق التوصل إلى فهمه: النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب، ومدلولاتها، واستعمالاتها، بحسب السياق, وهذا يعتني به الراغب كثيراً في كتاب (المفردات), فيذكر قيداً زائداً على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ؛ لأنه اقتنصه من السياق" [27, جـ2, ص172].
يمكن القول على هدًى مما تقدم: إن السياق قرينة متميزة في مجال تحليل الخطاب، والكشف عن المراد، إذا أحسن استعماله, ووضع في نصابه, بأن لا يهمل اكتفاء بتحليل البناء اللغوي؛ لأن هذا وحده لا يرشد إلى دلالة الكلمة، لا مفردة ولا مقرونة بغيرها، لما أسلفنا.(/8)
يعد - بإزاء هذا - الخروج بالسياق عن مكانته؛ بأن يقدم على غيره من القرائن مطلقاً, يعد هذا انحرافاً بالسياق عن دوره ووظيفته, وهذا مسلك الذين يرون: "بأن الكلمات لا معنى لها على الإطلاق خارج مكانها في النظم" [1, ص57], ولا شك أن في هذا التوجه مبالغة تسيء إلى السياق أكثر مما تحسن إليه, والناظر في كتب التفسير يلحظ ملامح الاتجاهات الثلاثة بادية فيها ثمة آيات كثر في القرآن الكريم للسياق أثر في تفسيرها, وتحديد المعنى المراد منها, ويكثر هذا في الآيات التي تتضمن ألفاظاً مشتركة, وحسبنا في هذا المقام مثال يوضح ما نحن بصدده؛ لأن أمثلة هذا النوع أكثر من أن يستوعبها بحث كهذا.
إن كلمة البلوغ لفظ مشترك، يطلق في اللغة على المقاربة، وعلى الانتهاء إلى الشيء, وقد ورد هذا اللفظ في آيتين متجاورين, كان للسياق الفضل في اختيار المعنى المناسب لهذه اللفظة في الموضعين.
جاء في الآية الأولى، قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231], فالخطاب هنا للأزواج, والمراد ببلوغ الأجل: قرب انتهاء العدة؛ لأن الأجل إذا انقضى زال التخيير بين الإمساك [28, جـ2, ص 421] والتسريح, فلما خير الزوج دل على أن المعنى ما ذكرنا بالإجماع.(/9)
نرى في الآية التالية أن السياق يحتم حمل المعنى على الانقضاء, وهي قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232], فالخطاب هنا للأولياء, والمعنى: أن الزوج إذا طلق زوجته، وانقضت عدتها, وأراد أن ينكحها من جديد؛ فليس لولي أمرها أن يمانع, فلو كان معنى بلوغ الأجل هنا المقاربة؛ لراجع الزوج مطلقته دون حاجة إلى ولي أمرها, ورحم الله الشافعي حين قال: "دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين" [29, جـ4, ص 87]؛ فقد جعل السياق البلوغ في الآية الأولى بمعنى مشارفة بلوغ الأجل, وجعله في الآية الثانية بمعنى انتهاء الأجل, وكل الذي ذكرنا محل إجماع المفسرين.
السياق والقصص القرآني
يظهر أثر السياق جلياً في الآيات التي تحتمل أكثر من معنى, وربما كان بعضها أقرب إلى الصواب من بعض, وليس ثَمَّ دليل في سياقها الخارجي من آية أخرى, أو حديث، أو إجماع يُستند إليه في اختيار واحد منها, فيلزم والحالة هذه ويحسن أن يُتوجه إلى سياق الآية الداخلي؛ بغية استنطاقه؛ "لأن السياق قوة تحرك التركيب؛ فتنبعث من إشعاعاته ما يلائم"[30, ص112]. وقد قيل: "إن مصدر الإخراج الأول لمحلل السياق هو ثراء السياق نفسه" [3, ص70], وذلك بما يتضمنه من إشارات ترجح معنى على آخر, ينبغي أخذها بعين الاعتبار؛ "لأنه إذا احتمل الكلام معنيين, وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق؛ كان الحمل عليه أولى" [31, جـ1, ص 277].
لقد أدى تجاهل هذا المسلك من قِبَل طائفة من المفسرين إلى عثرات وثغرات في تفاسيرهم, حين رضي هؤلاء بسرد الأقوال الواردة في الآية, وإيراد ما في مفرداتها من معان دون مراعاة للسياق في الغالب, دون ترجيح بين هذه المعاني.(/10)
زين هذا المسلك لأصحابه أنها أقوال محتملة, والقرآن حمال ذو وجوه, وتكثير معاني الآيات غاية مقصودة, وقبل هذا وذاك استحضار هؤلاء المفسرين الحذر من القول على الله بغير علم.
بيد أن ما يستحسن ذكره بإزاء هذا الذي تقدم, أن حكاية الخلاف وذكر الأقوال في تفسير الآية، دون تنبيه على الراجح منها يضيع الحق, ويظهر النقص على حاكيه [15, جـ1, ص80؛ 32 , ص149], ويجعل القارئ لكتب التفسير في حيرة من أمره، حين لا يتبين له مراد الله تعالي, وتزداد الحيرة إذا كانت هذه الأقوال متعارضة.
يكثر صنيع المفسرين المشار إليه آنفاً في آيات القصص القرآني بخاصة, وقد تكون الحجة أن منهج القرآن يقوم في ذكره للقصص على العرض الإجمالي وتجنب التفصيلات, وقد يسهم هذا في تكثير الأقوال المحتملة, والذهاب بالفهم كل مذهب, بخاصة عند من يبحث عن التفصيلات والجزئيات, والتي سيجدون بعضها في كتب الأمم السابقة؛ لاتفاقها مع القرآن الكريم في ذكر أصل بعض هذه القصص مع الاختلاف في العرض والمنهج.
يبدو لنا أن المخرج من هذا هو العودة إلى السياق الداخلي للقصة, والاحتكام إلى النص بسياقه, بعد أن تعذر الاستئناس بالسياق الخارجي؛ لعدم الثقة بأكثره, في حين يمكن للمفسر وهو يستعين بالسياق الداخلي أن يستبعد الأقوال الدخيلة، ويختار المعنى المناسب والمتجه مع مقاصد القرآن العامة.
نوضح هذا الذي عرضنا له من خلال بعض المشاهد من القصص القرآني, ونبدأ بدعوة زكريا عليه السلام؛ حيث طلب من ربه أن يهبه ذرية طيبة, قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء * فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 38-39].(/11)
ورد في سياق الحديث عن يحيى وأوصافه وصفه بأنه "حصورا", والحصر لغة: الحبس والمنع, وقد اختلف المفسرون في دلالة هذا الوصف في ضوء المعنى اللغوي:
قال بعضهم: الحصور هو الذي يكتم السر, واستدلوا بقول جرير:
وَلَقَدْ تَسَاقَطَنِي الْوُشَاةِ فَصَادَفُوا حَصْرًا بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمُ ضَنِينَا
[33, جـ2, ص 268].
قال آخرون: الحصور الذي لا يلعب، ويحصر نفسه عن المعاصي [34, جـ3, ص 148]. وقيل: بل الذي لا يدخل مع القوم في الميسر, واستدلوا بقول الأخطل:
وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالكَأْسِ نَادَمَنِي لا بِالْحَصُورِ وَلا فِيهَا بِسَآر
[20, جـ6, ص 376؛ 25, جـ3, ص 104].
تعود هذه الأقوال الثلاثة إلى معنى واحد, وهو التنزه عن الأفعال القبيحة, وهي لا تتناسب مع السياق الذي تضمن وصفه بالنبي والسيد والصالح, لأنها تستلزم براءته من الأفعال القبيحة؛ لأن السيد هو القدوة في الدين؛ فلا يكون في وصفه بالحصور على المعاني الماضية جديد, والأصل حمل معاني القرآن الكريم على التأسيس لا على التأكيد.
ذهب جمع المفسرين إلى أن الحصور هو الذي لا يأتي النساء, واستدلوا بقول الشاعر:
وَحَصُوراً لا يُرِيدُ نِكَاحَا لا وَلا يَبْتَغِي النِّسَاءَ الصَّبَاحَا
[33, جـ2, ص 468].
وهذا المعنى هو الشائع في الاستعمال, قال ابن عطية [25, جـ3,ص104]: "أجمع من يعتد بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى - عليه السلام - إنما هي الامتناع عن وطء النساء.(/12)
إن هذا المعنى هو الأنسب للسياق في هذا المقام؛ فإنه ليس معنى مكروراً كسابقيه, إذ الحصر بهذا المعنى ليس من مستتبعات النبوة والصلاح؛ بل الأصل خلاف هذا، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد,38], فلما انفرد يحيى عليه السلام بهذه الصفة نُصَّ عليها, ثم إن أصحاب هذا الرأي اختلفوا في سبب هذا الحصر, فقال بعضهم: إنه لا يأتي النساء عجزاً, وقد نسب إلى بعض الصحابة والتابعين قولهم: إنه كان عنيناً لا ذكر له, وقيل: بل كان ذلك لصغر الآلة [35؛ جـ8؛ ص32؛ 36 , جـ4 , ص 78؛ 37؛ جـ 3 , ص 275], ونسب لأبي هريرة وسعيد بن جبير قولهما: "كان ذكره مثل هذه القذاة". يشير إلى قذاة من الأرض [21, جـ2 , ص 38], وعن سعيد بن المسيب: كان له مثل هدبة الثوب [20, جـ6؛ ص 378؛ 38، جـ2, ص 35], وعلى هذه الأقوال تكون (حصور) بمعنى: مفعول, أي ممنوع بمانع خارجي، لا إرادة له فيه [24, جـ1, ص 394], وأنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء" [21, جـ2, ص 38].
إن صح هذا عمن نقل عنهم من الصحابة والتابعين بإحسان؛ فإنه موضع استهجان؛ إذ لا سبيل إلى معرفة شيء مما ذكر إلا بنقل صحيح, وليس ثَمَّ, وليست تتقوى هذه الآراء بتوجيه صاحب (التحرير والتنوير) حين قال: "إن الله تعالى وهب زكريا ولداً إجابة لدعوته, وأتم الله تعالى مراده من انقطاع عقب زكريا لحكمة علمها" [28 , جـ3 , ص 241].
إن الطريق الأسلم للخروج من هذه الاختلافات والوقوف على مراد الله هو الاحتكام إلى السياق، وهو هنا سياق مدح وبشرى وامتنان, وتلك صفات نقصان, ولهذا أحسن الرازي حين حكم على الأقوال المتقدمة بالفساد، قائلاً: "وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز, ولأنه على هذا لا يستحق ثواباً ولا مدحاً" [35 , جـ8 , ص 33].(/13)
ذهب أصحاب هذا التوجه من المفسرين إلى أن يحيى - عليه السلام - كان حصوراً لا يأتي النساء, لا عجزاً في أصل الخلقة, بل زهداً وانصرافاً إلى العبادة, فالحصور بهذا المعنى حاصر، من فعول بمعنى فاعل, وهو الذي يكثر من حصر النفس ومنعها، كالأكول الذي يكثر منه الأكل والشرب، والظلوم، والغشوم.
إن المنع إنما يحصل لو كان المقتضى قائماً, فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين, وإلا لما كان حاصراً لنفسه, فضلاً عن أن يكون حصوراً [35, جـ 8, ص33].
لقد تضمن السياق في ثناياه ما يرجح هذا المعنى, فقد طلب زكريا من ربه ذرية طيبة, واستجاب الله تعالى له, ولا تكتمل هذه الصفة إن صاحبتها صفة نقص, وكان قد جاءه الخبر عن طريق الملائكة وهو يصلي في المحراب, ولا يحسن أن يقال إن الملائكة نقلت إليه هذا الخبر - وهو صفة النقص - وزكريا على هذه الحالة المباركة.
جاء في سياق الآية أيضاً: {أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ} [آل عمران: 38 - 39]. وكيف تتم البشري إذا كانت بغلام عنين لا ذكر له؟! بخاصة أن هذه الصفة (حصوراً) جاءت في سياق صفات مدح وكمال, فيجب حملها على هذا الكمال، وإبقاء النص كله في سياق واحد.
إذا كان السياق قد أنصف يحيي - عليه السلام - ونزهه عن صفات النقص, فقد أنصف أمه الكريمة في موضع آخر مشابه, يتضح هذا في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}، قال بعضهم: أصلح الله تعالى خُلُقَها ودينها, لأنها كانت سيئة الخُلُق [36, جـ11, ص336؛ 37 , جـ3 , ص 275؛ 39 , جـ 4 , ص 212], وقال بعضهم: أصلح الله لها لسانها؛ لأنها كانت بذيئة الكلام [40 , جـ4 , ص368؛ 35, جـ21 , ص 236].
أغرى أصحاب هذا التفسير أمران:(/14)
الأول: أن استعمال القرآن لكلمة الإصلاح إنما يكون في إصلاح أمور الدين والخلق [35 , جـ 22 , ص 188].
الثاني: أن أصلحنا عطفت على وهبنا, والعطف يقتضي التغاير, فدفعهم هذا على حمل أصلحنا على معنى بعيد عن سياق الآية.
كلا الأمرين غير لازم, فإن الدلالة العامة لمعنى الإصلاح [9, ص 489] تستوعب المعنى الذي سيقت من أجله المفردة, حتى لو فرض وجود شيء من التجوز في الاستعمال, فلا ضير إذا كان السياق يستوجب هذا, فالأمر كما قال الزركشي أن يكون "محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع اللغوي؛ لثبوت التجوز" [27, جـ1, ص 317].
جاء تقديم "وهبنا" على "أصلحنا" من باب تقديم الأهم وما تتوق النفس إليه, كما أن العطف لا يقتضي الترتيب.
إذا كان ذلك كذلك، فيترجح في ضوء السياق أن المراد بالإصلاح في الآية: أن الله جعلها ولودا مهيأة للإنجاب، بعد أن كانت عاقراً كما دل على هذا سياق القصة [25, جـ10 , ص 20؛ 21 , جـ 3 , ص 203؛ 41 , جـ 17 , ص 187؛ 28 , جـ 17 , ص 136].
إن السياق ناطق بما ذكرنا؛ فإن دعوة زكريا كانت خاصة بطلب الذرية فقط، فإنه لم يجر ذكر لزوجه، ولم يدع لإصلاحها [41, جـ17 , ص 187], وكلمة "استجبنا" تؤكد هذا, ثم إن السياق نفسه يتضمن مدحاً لها، لا يستقيم معه بحال القول بأنها كانت سيئة الخُلُق بذيئة اللسان, فقد قال سبحانه في تعليل سرعة استجابته: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}, ولا شك أن زوج زكريا داخلة ضمن هؤلاء الذين دل السياق على أنهم كانوا على خير صلاح قبل الدعوة، والاستجابة لها.
لا يتسق مع هذا الذي ذكر ما ذهب إليه عدد من المفسرين[5], حين أوردوا الأقوال كلها دونما ترجيح، بحجة أن النص يحتملها, ولا تعارض بينها، وهو المنهج الذي تقدم عرضه ونقضه, وهكذا نرى السياق أسهم في دفع نقيصتين عن نبي كريم، وعن أمه.(/15)
يسهم في مواطن كثيرة المقرر السابق الذي ينظر إلى الآية في ضوئه في تجاهل السياق, وهذا المسلك يحول دون الكشف الأمين عن مراد الله عز وجل.
يظهر هذا من خلال توجيه المفسرين لمعنى كلمة "فارغاً" في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10], فقد اختلفوا في توجيه المعنى, ومرجع اختلافهم كما يقول ابن عاشور [28, جـ20 , ص 80] يعود إلى ناحيتين: ناحية تؤذن بثبات أم موسى، ورباطة جأشها, وناحية تؤذن بتطرق الضعف والشك إلى نفسها.
يرى أصحاب التوجه الأول أن المقام يقتضي المدح والثناء على موقف أم موسى, وهذا يستدعي أن يكون المعنى أن فؤاد أم موسى أصبح فارغاً من الهم والحزن والخوف, لأن الله تعالى وعدها برده لها [23, جـ2 , ص98؛ 26, جـ3 , ص 159], والمقام عندهم - فيما يبدو - يقتضي هذا التفسير؛ لأنه حديث عن صراع بين الحق والباطل, وأم موسى تمثل طرفاً من جانب الحق في هذه القصة؛ فلا يحسن - والحالة هذه - أن توصف بغير ما ذُكر.
يرى الفريق الثاني أن فؤاد أم موسى أصبح فارغاً من الصبر عليه [26, جـ3, ص 158؛ 41 , جـ20 , ص 48؛ 43 , جـ13, ص 96؛ 44 , جـ 20 , ص 20], أو فارغاً من وعد الله تعالى لها، حيث نسيت هذا الوعد [45, جـ2, ص432؛ 37, جـ3, ص 398], مما يعنى أنها لم تبد جلداً أو صبراً على فراقه, لولا أن تداركها الله؛ فربط على قلبها.
لما كان سياق النص لا يتضمن من أي شيء أصبح فؤادها فارغاً، وليس بين أيدينا دليل خارجي يُركن إليه في تقديم معنى على آخر, فليس أمامنا إلا السياق، نحتكم إليه دونما اصطحاب لمقرر سابق في الذهن؛ لأنه يلقي بظلاله على دلالة النص لا محالة, وهو ما يمكن ملاحظته عند أصحاب الرأي الأول.(/16)
أن الذي يبدو بعد النظر والتأمل في سياق القصة، العام منه والخاص: أن المعنى الثاني هو الأليق بأحداث القصة, والأنسب للسياق, وندلل على هذا القول بعدة قرائن أذن بها السياق, نمهد لها بالإشارة إلى أن الوحي الوارد في أول القصة إنما هو - فيما يظهر لنا - إلهام وانشراح صدر تجاه الفعل.
وليس هو كوحي الله تعالى لأنبيائه, وإذا كان ذلك كذلك؛ فإنه لن يحول دون شعور أم بالخوف والاضطراب بعد أن ألقت ابنها في الماء, وليس في هذا منقصة لها.
لقد نسب القرآن الكريم الخوف إلى موسى نفسه في عدة مواطن: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18]
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} [طه: 67], وليس في ذلك ما يضير, وإنما هو الصدق في الإخبار, والواقعية في العرض, فلا غرو أن يكون القصص القرآني أحسن القصص.
إن في السياق قرائن تدل على أن أم موسى انتابها شيء من الخوف والقلق على ابنها؛ فإن فؤادها أصبح فارغاً, ويعبر بفراغ الفؤاد عن ذهاب العقل, ومثله قوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم: 43]. لا عقول فيها [25, جـ11, ص 267], وإن شاع في كلام الناس "فلان خلي البال", إذا كان لا هم بقلبه [26, جـ3, ص158], لكن السياق يأباه, ثم لا أدري: هل هذا المعنى حادث بعد نزول القرآن، أو لا؟ فإن كان كذلك؛ فلا يحمل عليه القرآن البتة.
صُدِّرت الآية بقوله تعالى (فأصبح), وهى مستعملة هنا بمعنى "صار", فاقتضى تحولاً من حالة إلى أخرى, أي: كان فؤادها غير فارغ، فصار فارغاً [28, جـ20, ص80], وجاء الإخبار عن فراغ فؤادها بعد الإخبار عن إلقاء موسى في الماء؛ فكان من مستتبعاته.(/17)
ورد في الآية أن الله ربط على قلبها, والربط على القلب توثيقه من أن يضعف، كما يشد العضد الوهن [28, جـ9, ص280], وهذا لا يكون إلا في حالة الخوف والاضطراب, ويؤكده أن علة الربط: كي لا تبدي شيئاً مما من شأنه أن يكشف من أمرها شيئاً, ولكي يحملها على التصديق بوعد الله. ومن التكلف البارد قول بعضهم: إنها كانت تبدي فرحها بما حصل لموسى [26, جـ3, ص 159]. قال النحاس: "وقول أبى عبيدة: فارغاً من الغم. غلط قبيح؛ لأن بعده: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [24, جـ5, ص 160], وبمثل قوله قال ابن قتيبة [46, ص328], وهنا يظهر الفرق بين منهج من انتزع اللفظة من سياقها، وبين منهج من نظر إليها في ضوء هذا السياق.
قول أم موسى لأخته "قصيه" يدل على لهفها عليه، وتشوقها إلى معرفة الحال التي آل إليها, وهذا نابع من خوف وقلق, وبين الله تعالى علة رد موسى إلى أمه؛ فقال: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}[القصص: 13], وهذا يومئ إلى أنها كانت قبل رده محلاً لشيء من البكاء الذي به تسخن العين, وهو عكس قرة العين, وكانت كذلك حزينة على فراقه.
لابن القيم كلمة تعين على تفهم هذا الاعتماد على دلالات الألفاظ، وتسوغ تتبع السياق كما مر بنا في الأمثلة, فهو يقول: "كما أن ألفاظ القرآن ملوك الألفاظ, فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها, فلا يجوز تفسيره بالمعاني التي لا تليق به, كما لا يجوز حمله على المعاني القاصرة, ثم يبين أن استحضار هذه المعالم يعين على معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها, ويقطع المرء بأنها ليست مراده لله تعالى" [47, ص 269].(/18)
لم يقتصر أثر السياق على ما ذكرنا من مواطن, وإنما له حضور حيثما وجدت الاحتمالات في معنى الآيات, وما يترتب عليها من اختلافات, فقد كان له دور بارز في تحديد عود الضمير, وهو من الأساليب التي يكثر دورانها في التفسير, وله صور متعددة[6], وحسبنا بعض الصور التي يتضح من خلالها أثر السياق بما يتسع له المقال.
تأتي في بعض الآيات ضمائر متعددة في سياق واحد, وتحتمل في مرجعها أقوالاً متعددة, فتوحيد مرجعها وإعادتها إلى شيء واحد أولى وأحسن؛ لانسجام النظم واتساق السياق [17, جـ2, ص 613], من ذلك عود الضمائر في قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42].
للمفسرين في عود الضمير في قوله (فأنساه) وقوله (ربه) أقوال: فقد ذهب بعضهم [35, جـ18, ص 117, 41 , جـ12, ص 248] إلى أن الضميرين يعودان على يوسف - عليه السلام - ويكون المعنى: أنسى الشيطان يوسف ذكر الله تعالى, فلبث في السجن بضع سنين عقاباً له على سؤاله غير الله.
وذكر بعض المفسرين [25, جـ7, ص517] أن الضميرين يعودان إلى ساقي الملك, ويكون المعنى: أنسى الشيطان الساقي أن يذكر قصة يوسف للملك, ولهذا لبث يوسف في السجن بضع سنين.
إن سياق الآيات يشهد للمعنى الثاني؛ فإن الاتفاق قائم على أن مرجع الضمير في قوله {عِندَ رَبِّكَ} يرجع للساقي, فكان المناسب للسياق أن يكون ما بعده {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} عائداً على الساقي؛ حتى لا تتفرق الضمائر, والذي يرى الزمخشري أنه يؤدى إلى تنافر النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي [26, جـ2 , ص 536].(/19)
جاء في سياق القصة قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، وهذا شاهد قوي على أن الذي نسي، ثم ذكر بعد عدة سنوات هو الساقي, وبهذا التوجيه ينتظم السياق؛ فتصبح (اذكرني) الأولى و(ذكر ربه) الثانية مسندة إلى الساقي, ويكون (عند ربك) و(ربه) أيضاً مراداً بهما الملك رب الساقي.
إن هذا التوجيه أنسب إلى الساقي, وأليق بحال يوسف - عليه السلام, وأقرب إلى شخصية الساقي, وما ذهب إليه صاحب (التحرير) [28, جـ12 , ص 278] حين جعل الضميرين يعودان على يوسف والساقي في آنٍ واحد بعيد, وفيه اضطراب, وإن بدا أنه جمع بين التوجيهات السابقة.
يسهم السياق أيضاً في الانتصار لقاعدة عود الضمير إلى أقرب مذكور في مواطن كثيرة, منها ما جاء في قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم: 24].
تباينت وجهات نظر المفسرين في تعيين المنادي لمريم, فقال بعضهم: المنادي هو جبريل - عليه السلام - [36,جـ11, ص 93؛ 40 , جـ8 , ص 151], لأنه أخبرها بما من شأنه أن يكون توجيهاً من الله تعالى.
قالت طائفة [35, جـ21, ص 174]: المنادي هو عيسى - عليه السلام, ودليلهم سياق الضمائر, وعودة الضمير في (فنادها) إلى أقرب مذكور، وهو عيسى - عليه السلام.
يؤيد هذا أن الضمائر السابقة في سياق واحد, وكلها تعود إلى عيسى, (ولنجعله) (ورحمة منا), (فحملته), (فانتبذت به), (فنادها), فهذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر، كلها عائد إلى عيسى عليه السلام اتفاقاً, إلا ضمير (فنادها), فإلحاقه بها أنسب للسياق [17,جـ2, ص 628].(/20)
ويشهد لهذا التوجيه أيضاً ما جاء في الآية التي بعدها: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29]، أي ليتكلم, فلو لم يكن قد سبق له الكلام لما أشارت إليه, وواضح أنها أشارت إليه ليكلموه؛ لأنهم قالوا لها في السياق نفسه: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم: 29], وعندها تكلم فقال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30], يضاف إلى دليل السياق هذا قراءة متواترة، وهي: (فنادها مَنْ.....) [48, جـ2, ص 86] على أنها اسم موصول بمعنى: الذي. وهي نص في التعيين.
نصٌّ من آية، أو حديث صحيح, أو إجماع للمفسرين, أو دليل من اللغة صريح, وهذا من تمام إقامة الحجة على الناس بهذا الكتاب الكريم, "فإن ما يحتاج الناس إلى معرفته؛ نصب الله على الحق فيه دليلاً" [15, جـ1, ص55].
التنازع بين السياق وغيره من القرائن
قد يكون السياق هو الدليل الوحيد الماثل أمام المفسر، فيستند إليه حينئذ؛ لأنه يرشد إلى تبيين المجملات وترجيح المحتملات [22,جـ6, ص 52], كما رأينا هذا في الأمثلة السابقة, وقد يحدث أن يتنازع الآية أكثر من عامل، وتزدحم عليها أكثر من قرينة يكون السياق واحداً منها.
تباينت وجهات نظر المفسرين في هذه المواضع, فمنهم من قدم السياق على غيره لتميزه في هذا المقام - كما رأينا في المقدمة - وكونه كذلك عودة إلى النص, ومظهراً من مظاهر تفسير القرآن بالقرآن, وقد برز هذا الاتجاه عند كثير من مفسري العصر الحديث، بخاصة لدى مدرسة المنار.(/21)
لقي السياق من مدرسة المنار عناية خاصة, فقد فتحت له الباب على مصراعيه, وقدمته على غيره من قرائن التفسير, ووسعت دائرة الاستعانة به لأسباب كثيرة تتناسب مع توجهات المدرسة بعامة، لعل من أبرزها أن التفسير بالمأثور لم يكن أكثره محل ثقة المدرسة، حتى الأحاديث النبوية منه, وهذا يأذن لهم بالإعراض عن تفسير السابقين، بخاصة المأثور منه, وفي هذا يقول الأستاذ محمد عبده: "لا حاجة لنا في فهم كتاب الله إلى غير ما يدل عليه بأسلوبه الفصيح" [13, جـ 1, ص 340], والانفراد بالنص والنظر إليه في ضوء السياق، والذي يعد عندهم - كما أسلفنا - مظهراً من مظاهر تفسير القرآن بالقرآن.
انتصر لهذا الاتجاه أصحاب مدرسة التفسير البياني, وعلى رأسهم د. عائشة عبد الرحمن, فيما قدمت من دراسات في مجال التفسير البياني, والذي أقامته على السياق وحده, وجعلته الميزان بينها وبين المفسرين المتقدمين, وفي هذا تقول: "نحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم, ملتزمين ما يحتمله نصاً وروحاً، ونعرض عليه أقوال المفسرين" [51, جـ1, ص10]. وقد التزمت بهذا المنهج في كتابها التفسير البياني[7], ولم يسلم منهجها من النقد؛ بسبب انحيازها المبالغ فيه للسياق، وبسبب حملتها على المفسرين المتقدمين وعلى نتاجهم[8], على الرغم من جهودها المتميزة.
يلحظ الباحث أن للسياق حضوراً بارزاً في اتجاهات التفسير المعاصرة, ذلك "أن قاعدة السياق تشكل أساساً رئيساً من أسس الاتجاه الأدبي والمنهج الموضوعي في تفسير القرآن, وتعد المحور الحقيقي لأحد تيارات الاتجاه الأدبي، ونعني به تيار (البيانية) الذي حاولته بنت الشاطئ في التفسير البياني" [52, ص 262].(/22)
إن الغاية الكبرى هي فهم النص، ومجموعة العوامل والمعالم التي تعين على فهمه ما هي إلا وسائل, وهي متفاوتة في قيمتها, فإذا كان أحد هذه المعالم نصاً من آية تعذر تجاوزه؛ إذ ليس أحد أعلم بمراد الله من الله, وإن كان حديثاً أهلاً للاحتجاج به حيث الثبوت والدلالة؛ لم يكن لأحد تجاهله كذلك؛ لأنه ليس أحد من البشر أعلم بمراد الله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان الدليلُ على المعنى إجماعَ الحجة؛ فإن الإجماع معتبر.
يصاحب هذا الذي ذكرنا سؤال حول موقع السياق ومكانته في المواطن المشار إليها، وعن مدى اعتباره عند التنازع, ولعل في الأمثلة التي سنعرض لها ما يصلح للإجابة عن هذا السؤال وأمثاله.
بين أيدينا آية تنازعها حديث وسياق، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2].
نظر طائفة من المفسرين [25, جـ10, ص222؛ 36, جـ11, ص3] إلى هذه الآية في ضوء سياقها؛ فقالوا: إن هذه الزلزلة وهذه الأهوال تكون في آخر عمر الدنيا, وأول أحوال يوم القيامة, فإن من أحوال الزلزلة وأهوالها أن تذهل المرضعة عما أرضعت, ويؤكد هذا مجيء المرضعة بالتاء" والمرضعة: هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، والمرضع: التي من شانها أن ترضع, وإن لم تباشر الإرضاع " [26, جـ3, ص24]، وهذا إنما يكون في الدنيا.
يؤكد هذا التفسير ما في سياق الآية: من أن الحامل تسقط حملها من هول الزلزلة, ويصيب الناس فزع وذهول، حتى كأنهم سكارى, لا من شرب، ولكن من جزع وخوف, وهذا كله إنما يكون في الدنيا أيضاً.(/23)
ذهب جمع من المفسرين [20, جـ17, ص ص 110-111؛21, جـ3 , ص124؛ 39, جـ4, ص 9] إلى أن هذه الأحوال والأهوال التي عرضت لها الآية السابقة إنما هي كائنة يوم القيامة, وبعد البعث من القبور, وحجة هذا الفريق ورود حديث صريح حال دون اعتبار السياق.
صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. قال: يقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين, فذلك حين يشيب الصغير, وتضع كل ذات حمل حملها, وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد[9])).
وفي حديث عمران بن الحصين: ((أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ....}، ثم قال: أتدرون أي يوم هذا؟ وساق الحديث[10].
لما عرض الإمام الطبري القولين السابقين, وذكر أدلة كل فريق، أبدى إعجابه بالقول الأول المستند إلى السياق, ولم يحل بينه وبين الأخذ به إلا "مجيء الصحاح من الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلافه, ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بمعاني وحى الله وتنزيله" [20, جـ17, ص 111], وتبعه في ذلك صاحب (أضواء البيان) حين قال: "هذا القول - يعني: الأول - من حيث المعنى له وجه من النظر, ولكن الثابت من النقل يؤيد خلافه" [39, جـ4, ص9].
لم تحل هذه الأخبار الصحاح بين ابن عطية [25, جـ10, ص222], وبين الأخذ بالقول الأول مستنداً إلى السياق؛ لأنه يرى أن هذه الأحاديث ليست تفسيرا للآية, وإنما أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقراءته الآية ابتداء أمر الساعة، ثم قصد في تذكيره وتخويفه إلى فصل من فصول يوم القيامة, وهو بهذا يرى أن دلالة السياق في هذا المقام أقوى من دلالة الحديث.(/24)
اجتهد بعض المفسرين [39, جـ4, ص14؛ 56, جـ3, ص451] في التوفيق بين دلالة الحديث ودلالة السياق, بأن جعلوا ما ورد في الآية يحدث مرتين, أو أنها حالات خاصة تحدث لمن ماتت وهي ترضع، أو وهي حامل, أو أن ما يحدث يوم القيامة مما تضمنته الآيات عبارة عن تمثيل وتخييل لبيان هول الموقف.
و ليس يبعد بعض ما ذكر من تأويل لولا افتقاره إلى الدليل, يبد أن ما يعنينا هنا حرص المفسرين على عدم إهمال دلالة السياق، حتى مع وجود أحاديث صحيحة ذات صلة بالآية, وهذا يدل على مكانة السياق عندهم.
يندرج تحت هذا القسم توجيه أسباب النزول وتقويمهما في ضوء السياق؛ كونها من الآثار, وقد سلك هذا المسلك كثيرون من آخرهم وأكثرهم توسعاً الطاهر ابن عاشور في تفسيره، حين عرض كثيراً من أسباب النزول على سياق الآية, وردها لعدم مناسبتها لهذا السياق من وجهة نظره, ولا يتسع المقام للعرض لهذا المنهج وتقويمه[11].
وقد يحول الإجماع دون اعتبار السياق أيضا, وتجاهل هذا يفضي إلى ضرب من ضروب التفسير المذموم, بخاصة إذا كانت دلالة هذا السياق ضعيفة, وهو ما نجده عند مدرسة المنار في تفسيرها لقول الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106].
الآية لغة: العلامة والأمارة، وأطلقت على المعجزة؛ لأنها علامة دالة على صدق الرسول, وهي في هذه الآية المذكورة: القطعة من القرآن. ونقل الرازي إجماع المفسرين على هذا, وشذ أبو مسلم (ت322هـ) [35, جـ3, ص208؛ 28, جـ1, ص 656] فحملها على التوراة والإنجيل، وخلافه غير معتبر.(/25)
للأستاذ محمد عبده رأي مخالف لما عليه الجمهور, تابعه فيه محمد رشيد، ومحمد أبو زهرة في تفسيره, ترى مدرسة المنار أن تفسير الآية هنا بالقطعة من القرآن لا يتناسب مع السياق, وإنما المناسب تفسيرها بالمعجزة الدالة على النبوة, ويمكن تلخيص حجتهم بما يلي:
1- أن آية {مَا نَنسَخْ} ختمت بالحديث عن القدرة, وهذا يناسب المعجزات الحسية، ولا يناسب الأحكام الشرعية, يؤيده أن آية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ} [النحل: 101] ختمت بما يناسب النسخ، وهو العلم.
2- لا يلتئم السياق بتفسير {نُنسِهَا} على قراءة [48, جـ1, ص 106] بالترك على ما هي عليه، مع الوعد بالإتيان بخير منها أو مثلها.
3- في معرض الاستدلال بالسياق العام ذكروا أنه جاء بعد آية النسخ هذه قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 107], وهذا السياق يرجح أن الآية كونية.
4- ورد في السياق نفسه: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} [البقرة: 108], وهو لوم على طلب آية أخرى, وإنما سئل موسى آيات حسية ومعجزات [13, جـ1, ص ص 416 - 418][12].
هذا التفسير الذي حُمل عليه السياق الخاص والعام، والمخالف للإجماع، سبق مدرسة المنار إليه محيي الدين بن عربي، كما ذكر أحد تلاميذ هذه المدرسة [34, جـ15, ص 188], والذي لم يتابع شيخه محمد عبده في تفسيره هذه الآية.
إن تفسير مدرسة المنار لهذه الآية - مستندة إلى السياق - مردود من وجهين:(/26)
الأول: أنه تفسير مخالف لما أجمع عليه الحجة من المفسرين؛ إذ لم يقل بهذا القول أحد من المفسرين المتقدمين [20, جـ2, ص 472؛ 25, جـ1, ص 428؛ 36, جـ2, ص64؛ 41, جـ1, ص 354؛ 26, جـ1, ص 87]؛ فلا يقوى السياق - والحالة هذه - على منازعة إجماع الحجة, إلا عند مدرسة المنار، والتي سبقت الإشارة إلى مسلكهم القائم على الاعتماد المطلق على السياق، وتقديمه على تفسير السلف, وهو مسلك غير محمود، ومعارض للقاعدة المشهورة بين المفسرين، وهي: (تفسير جمهور السلف، مقدم على كل تفسير شاذ) [17, جـ1, ص288].
الثاني: أن ما ذهب إليه المفسرون في تفسيرهم لهذه الآية ملتئم مع سياقها لمن تدبر؛ فإن تبديل الأحكام ونسخها يستدعي قدرة, والنسخ تصريف لبعض شؤون الكون؛ فيناسبه الحديث عن ملك الله للسموات والأرض, وفي قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ} [البقرة: 108] تحذير مما قد يقع من اعتراض على الأحكام والمجادلة فيها؛ لأن النسخ مظنة لهذا [25, جـ2, ص 431؛ 26, جـ1, ص87؛ 57, جـ1, ص129؛28, جـ1, ص666].
خالفت المدرسة نفسها كذلك جمهور المفسرين قديماً وحديثاً في تفسير الموت والحياة في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243].(/27)
لقد فسروا الموت بالتيه والصغار وزوال عزهم, وفسروا الحياة بالخروج من التيه, وعودة العزة والكرامة لهم, واعتمدوا في تفسيرهم هذا على السياق؛ فإنه في الحث على الجهاد والتحريض عليه، وليس في مقام الحديث عن البعث والنشور, ولم تتضمن الآية الإشارة إلى قدرة الله تعالى التي تصاحب عادة الحديث عن البعث, وإنما ختمت الآية بالحديث عن فضل الله تعالى على الناس، المتمثل في تأديبهم، ثم في إعادة الكرامة والعزة لهم[13].
وحسبنا دليلاً على بطلان هذا التفسير أنه مخالف لما أجمع عليه المفسرون قديماً وحديثاً[14], عدا الشيخ محمد عبده ومن تابعه, فلا يقوى السياق على منازعة هذا الإجماع, كما لا يقوى هذا السياق على صرف اللفظ عن ظاهره، وحقيقته إلى معنى مجازي, حتى لو صح أن في الآية تنازعاً بين الظاهر والسياق, "فإنه إذا تُنوزع في تأويل الكلام؛ كان أولى معانيه في أغلبه على الظاهر, إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليل واضح على أنه معني به غير ذلك" [20, جـ8, ص 91], ولا يشفع للمخالفين الاستدلال بأن الموت ورد في القرآن بالمعنى المجازي، وكذا الحياة؛ لأن السياق هناك أسهم في الحمل على هذا المعنى.
يضاف إلى هذا أن سياق الآية ملتئم تماماً مع تفسير الحياة والموت على الحقيقة؛ لأنهم خرجوا خائفين من الموت, مترددين في الجهاد، فأماتهم الله؛ ليبين لهم أن الحذر لا يغني, ثم أحياهم بفضله؛ ليتوبوا ويرجعوا عما كانوا عليه, وما دفع مدرسة المنار إلى تجاهل هذا كله إلا التفسير العقلي الذي يضيق باب المعجزات وخوارق العادات.
قد يرد أن يتنازع معنى الآية السياق والعموم, وجرت العادة عند كثير من المفسرين على تقديم العموم على غيره؛ لأنه الأصل، ولا يصار إلى التخصيص إلا بدليل معتبر [12, جـ1, ص50؛ 25, جـ16, ص 41؛ 39, جـ1, ص280], ويحصر بعضهم دليل تخصيص العموم بالكتاب والسنة والإجماع [17, جـ1, ص66].(/28)
يفهم مما مضى أن العموم مقدم على السياق, وهو ما صرح به الطبري [20, جـ28, ص144], وعمل به في مواطن كثيرة من تفسيره.
وصرح بهذا بعض الباحثين بقوله: "قواعد العموم مقدمة على قواعد السياق وغيرها؛ لأن قواعد العموم أقوى من قواعد السياق" [17, جـ1, ص66].
تحسن الإشارة إلى أن تقديم العموم على السياق ليس محل اتفاق بين المفسرين, فإن المقصود من الخطاب حصول الفهم, ولا يتيسر هذا إلا بمراعاة السياق كما سبق بيانه؛ ولهذا قدم بعض العلماء السياق على قرائن متمكنة, فقد قال الزركشي: "ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له, وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز" [27, جـ1, ص 317].
يتأكد هذا الذي ذكر إذا أدى الحمل على العموم إلى إشكالات في الفهم، وقصور في الدلالة على الحكم, ويتضح الذي أشرنا إليه في تفسير قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233]
تباينت أقوال المفسرين في تحديد المراد بالوالدات في الآية؛ فقالت طائفة منهم: الوالدات لفظ عام, واللام فيها للجنس, فهي تشمل كل مرضعة، سواء أكانت ذات زوج أم لا؛ لأنه لم يرد على العموم مخصص معتبر [35, جـ6, ص 99؛ 21, جـ1, ص 291؛ 34, جـ2, ص 185؛ 57, جـ1, ص 276].(/29)
يرى هؤلاء أن لا اعتبار للسياق هنا؛ لأن العموم مقدم عليه, والكلام مستأنف مقطوع عما قبله من أحكام الطلاق؛ فصار حمله على العموم أولى [41, جـ2, ص 146][15].
يرد على القول بالعموم إشكالات, منها: أن الآية رتبت النفقة والكسوة على الرضاع, ومعلوم أن الزوجة المرضعة غير معينة؛ لأنها تستحق النفقة والكسوة بالزوجية، أرضعت أم لم ترضع.
تكلف بعضهم في الرد، فقال: إن النفقة خاصة ببعض أفراد هذا العموم, وهن المطلقات بخاصة [36, جـ3, ص 160]. وأجاب آخرون بأن النفقة والكسوة الواردة في الآية زيادة للزوجة على ما تستحقه أصلاً، ليكون بمثابة أجرة على الرضاع [35, جـ6, ص100], فكأن لها نفقتين وكسوتين, وهو تكلف بارد، يسمو عنه النظم الكريم, قال صاحب المنار: "ونحن لا نستفيد من جعل الآية عامة زيادة عما نستفيد بجعلها خاصة" [13, جـ2, ص409].
ذهبت طائفة أخرى من المفسرين إلى تخصيص الوالدات، ثم اختلفوا, فمنهم [36, جـ3, ص 160] من جعلها في الزوجات خاصة؛ لأن الآية نصت على النفقة والكسوة, والمطلقة لا تستحق إلا النفقة, ويشكل عليهم الربط بين الرضاع والنفقة والكسوة, وهذا - كما أسلفنا - غير متصور في حق الزوجة.
أغرب هذا الفريق في الرد، فقال: نصت الآية على النفقة والكسوة للزوجة المرضع مع أنها ثابتة بالزوجية؛ حتى لا يتوهم متوهم أن اشتغال الزوجة بالإرضاع يسقط النفقة والكسوة؛ لأنه قد يؤدي إلى تضييع شيء من حقوق الزوجة [35, جـ6, ص 100], وفي هذا الرد برود وتكلف، وجرأة على النص، دفع إليه التمسك بالعموم وتجاهل السياق. قال صاحب المنار: "وهذا الترجيح مرجوح لا يلتفت إليه؛ لأنه مبني على الاحتجاج بقول الفقهاء، وهو أن المطلقة المرضع تستحق الأجرة دون النفقة والكسوة على القرآن، وهذا القول أضعف الأقوال " [13, جـ2, ص 409], ويرى أبو زهرة أنه قول لا حجة له[16].(/30)
إن الإشكالات البارزة التي وردت على القولين السابقين, وما أعقبها من ردود متكلفة مردها تجاهل السياق القرآني, وتفسير المفردات بعد انتزاعها من سياقها, والدخول إلى النص بمقرر سابق.
ترى طائفة ثالثة من المفسرين أن الوالدات في الآية هن المطلقات بخاصة, ودليلهم السياق العام منه والخاص, أما العام فإن الآية جاءت في سياق الحديث عن أحكام الطلاق, فقد بدأ هذا الحديث من الآية 226 من السورة، واستمر إلى الآية 243 من السورة نفسها, وجاءت آية الرضاع في الوسط منها (233)، وغير جائز - كما قال الإمام الطبري في أكثر من موضع - صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجة يجيب التسليم لها [20, جـ9, ص 389]. ولا يعكر على هذا وجود بعض آيات خارج أحكام الطلاق جاءت بعد آية الرضاع؛ فإن علم المناسبات كفيل بالكشف عن سر الترابط بينها, وقد كان.
أما السياق الخاص الذي انتظمت فيه لفظة الوالدات فإنه ناطق بأنها في المطلقات, ويمكن الكشف عن دلالة السياق على هذا من خلال المعالم الموجزة التالية:
1- مجيء الوالدات معطوفة عما قبلها يشير إلي إتحاد السياق، فكأن النص بعد أن عرض لطائفة من أحكام المطلقات قال: والوالدات ممن يرضعن. وهذه الأحكام عند الطلاق [20، جـ5، ص30؛ 12، جـ1، ص402؛ 38، جـ2، ص277؛ 25، جـ2، ص292؛ 58، جـ1، ص248].
2- مجيء (يرضعن) بصيغة الخبر تجنباً للأمر المباشر؛ يومئ بأن الحديث عن المطلقات - وقد يدخل غيرهن لبعض الاعتبارات - والآية تشهد بهذا كما سيأتي.
3- النص على الحولين، وتأكيدهما بـ(كاملين) يشعر بوجود خلاف، واحتمال تفريط من أحد الأبوين، وهذا لا يتصور إلا في حالات الطلاق [35، جـ6، ص100].
4- قد يدل التعبير بالمولود له دون الزوج على انقطاع الزوجية.
5- فرض النفقة والكسوة للمرضع يدل على أنها مطلقة؛ إذ لو كانت زوجة لكان ذكر هذا لغوا، وقد سبق بسط هذا الكلام.(/31)
6- النهي عن الإضرار الوارد في سياق الآية دليل علي أن الحديث في المطلقات؛ إذ لا يتصور شيء منه مع بقاء الزوجية، وسواء حملت (تضار) علي المفعولية أو الفاعلية في قراءتيها المشهورتين [48، جـ1، ص296]، وسواء حملت "الباء" علي معني الإلصاق [28، جـ2، ص434؛ 26، جـ1، ص142] أو غيره، كل ذلك في قوله تعالي: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} الواردة في سياق الآية، فإن دلالتها لا تخرجها علي أي وجه عن المطلقات، إذ أن مجمل ما يستفاد مما سبق: النهي عن الإضرار بالأم عن طريق الرضاع، سواء من الأب أو من المولود، وكذا العكس، لا ينبغي أن تلحق الأم ضرراً بالأب ولا بالمولود. وصور ذلك كثيرة متوقعة[17] يحول طلب الإيجاز دون تفصيلها، وهي كلها لا تتصور مع بقاء الزوجية.
7- قوله تعالى في سياق الآية: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} دليل على أنها في المطلقات؛ فإنهم - وبغض النظر عن الخلاف في مدلولها - إلا أنها تتحدث عن من تلزمه نفقة المرضع حين فقد الأب، وهي عند الجمهور على وارث الطفل [28، جـ2، ص434].
8- يدل قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} على انتقاء الزوجية؛ لأن الآية تجيز اتفاق الأبوين على ترك إرضاع المولود، وهذا لا يتصور إلا في حالة الطلاق.
9- ختمت الآية بالحديث عن جواز أن ترضع الولد غير والدته، وهذا يحدث غالباً عند تفرق الأبوين.
إن هذه المعالم المنتزعة من سياق الآية فقط تبين - على تفاوتٍ في دلالتها - أن العموم غير مقصود في هذه الآية، وأن الاعتماد على قرينة السياق كان أولى في التقديم، وفى الكشف عن مراد الله فيها.(/32)
إن النظر في معنى الآية في ضوء السياق أدى إلي تجنب ما ظهر في الآية من إشكالات، حين حكم العموم فيها، وليس في الاحتكام إلي السياق ما يخل في أحكام الرضاع بعامة؛ لأن حكم إرضاع الوالدات غير المطلقات أولادهن يؤخذ من الآية بالطريق الأوْلى [13، جـ2، ص409]، والعكس متعذر، كما أن حكم إرضاع الوالدات غير المطلقات أولادهن قد يؤخذ من غير هذه الآية [28، جـ2، ص430]، وليس من غرض هذا البحث تتبع هذا، بخاصة أننا توسعنا قليلاً في التفصيل في هذا المثال، وسوغ لنا هذا - فيما نرى - الحرص على بيان أثر السياق، وتسويغ تقديمه على العموم في بعض المواضع.
الخاتمة
يمكن أن نقرر على هدًى مما سبق عرضه: أن فهم النص دوَّار مع السياق، وأن له فيه قسطاً من التحكم، بخاصة إذا لم تزاحمه قرينة أخرى نصبها صاحب النص دليلاً على المعنى المراد، الذي هو أعلم به، وقد يكون هذا الدليل - في مجال تفسير القرآن - آية ذات معنى صريح، أو حديث صحيح، ويلحق بهما إجماع الحجة.
عُني كثير من المفسرين بالسياق، ورعوه حق رعايته، وأنزلوه منزلته من لدن الإمام ابن جرير الطبري، الذي أجاد وأفاد في مجال التأصيل والتطبيق، ووصولاً إلي مدرسة المنار التي رفعت شعار العودة إلي النص والاحتكام إليه، والتي كانت العناية بالسياق أبرز مظاهره.
إن المجالات التي يستحضر فيها السياق كثيرة، فهو يعين على ترجيح المحتملات، وبيان المجملات، وفى تحديد عود الضمير، وفى القراءات، وله حضور عند تنقيح التفسير من الدخيل والإسرائيليات، ودفع ما يتوهم أنه تعارض بين الآيات، وإن كان هذا البحث لم يتسع من ذلك كله إلا إلى إشارات.
أسيء إلي السياق - على الرغم من أهميته - مرتين:
الأولى: حين تم تجاهله من قِبَل بعض من اشتغل بالتفسير التحليلي التجزيئي، وحرص على تكثير المعاني، وذلك بانتزاع اللفظ من نظمه وسياقه، وتفسيره تفسيراً لغوياً معجمياً، دون التفات إلى مدى مناسبة هذا المعنى للسياق.(/33)
كانت الثانية حين قدم السياق على غيره من القرائن مطلقاً، كما صنعت مدرسة المنار في مواطن متعددة، تحت تأثير المقررات السابقة، فكان أن أخطأت في تفسير هذه المواضع.
لقد حاز مفسرو القرآن الكريم منذ وقت مبكر فضل السبق في الكشف عن أثر السياق وأهميته، وفى بيان أن الأصل بيان النص في سياق واحد، وفى التفريق بين دلالة الكلمة مفردة ومقترنة بغيرها داخل النظم، وفى مسائل أخرى تتصل بالسياق، مما يظنه البعض أنه من نتاج الدراسات اللسانية الحديثة، ومن مبتكرات مدارس تحليل الخطاب.
أحسب أن ما ورد في هذا البحث دعوة إلى الباحثين لكي يقدموا دراسات مستقلة لكل مجال من المجالات التي عمل فيها السياق، تكون استقرائية تطبيقية، وأحسب مرة أخرى أنها ستأتي بنتائج باهرة.
وأستغفر الله تعالى إن ساء فهمي، أو زل قلمي، هو سبحانه من وراء القصد.
المراجع
[1] أولمان، ستيفن. دور الكلمة في اللغة. ترجمه وقدم له وعلق عليه د. كمال بشر. القاهرة: مكتبة الشباب، د.ت.
[2] رضوان، محمود. نظرات في اللغة. ط1. بني غازي: د.ت، 1976م.
[3] براون، جيليان ب.، وج يول. تحليل الخطاب. ترجمة وتعليق د.محمد لطفي الزليطني ود. منير التريكي. الرياض: جامعه الملك سعود، 1418هـ/1997م.
[4] الموسى، نهاد. العربية نحو توصيف جديد في ضوء اللسانيات الحاسوبية. ط1. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000م.
[5] حسان، تمام. اللغة العربية: معناها ومبناها. الدار البيضاء: دار الثقافة، د.ت.
[6] رواندا، بلوار. مدخل إلي اللسانيات. ترجمة بدر الدين القاسم. دمشق: مطبعة جامعة دمشق 1400هـ/1980م.
[7] الحواء محمد سليم. تفسير النصوص الجنائية. ط1. جدة: عكاظ، 1401هـ/1981م.
[8] ابن فارس، أحمد. معجم مقاييس اللغة. القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1366هـ.
[9] الأصبهاني، الراغب. المفردات في غريب القرآن. تحقيق صفوان داوودي. ط1. دمشق: دار القلم، د.ت.(/34)
[10] أبو البقاء، أيوب بن موسى. الكليات. تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري. ط1. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1412هـ.
[11] ابن منظور، جمال الدين. لسان العرب، بيروت: دار صادر، د.ت.
[12] ابن العربي، أبو بكر محمد. أحكام القرآن، تحقيق محمد على البجاوي. بيروت: دار المعرفة، د.ت.
[13] رضا، محمد رشيد. تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار. القاهرة: دار المنار، د.ت.
[14] ابن تميمة، أحمد عبد الحليم. مجموع الفتاوى. جمع عبد الرحمن بن قاسم. الرياض: د.ن، د.ت.
[15] ابن تميمة، أحمد عبد الحليم. دقائق التفسير. جمع وتحقيق د.محمد السيد الجليند. ط1. القاهرة: دار الأنصار، 1398هـ/1978م
[16] الدامغاني، الحسين بن محمد. إصلاح الأشباه والنظائر. تحقيق عبد العزيز سيد الأهل. ط2. بيروت: دار العلم للملاين، 1977م.
[17] الحربي، حسين بن على. قواعد الترجيح عند المفسرين. ط1. الرياض: دار القاسم، 1417هـ.
[18] الشاطبي، أبو إسحاق. الموافقات في أصول الشريعة. تحقيق عبد المنعم إبراهيم. ط1. مكة المكرمة: مكتبة الباز، 1418هـ.
[19]القاسمي، محمد جمال الدين. محاسن التأويل. عناية محمد فؤاد عبد الباقي. بيروت: دار الفكر، د.ت.
[20] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل أي القرآن. تحقيق محمود شاكر. القاهرة: دار المعارف، د.ت.
[21] ابن كثير، أبو الفدا إسماعيل. تفسير القرآن العظيم. ط2. الرياض: دار طيبة، 1420هـ.
[22] الزركشي، بدر الدين. البحر المحيط. تحقيق عبد القادر القاني وآخرين. ط2. الكويت: وزارة الأوقاف، 1413هـ.
[23] أبو عبيدة، معمر بن المثني. مجاز القرآن. تحقيق فؤاد سزكين. ط2. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1401هـ.
[24] النحاس، أبو جعفر. معاني القرآن. تحقيق محمد علي الصابوني. ط1. مكة المكرمة: مركز إحياء التراث الإسلامي، 1410هـ/1989م.
[25] ابن عطية، عبد الحق بن غالب. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. ط1. الدوحة: د.ن، 1409هـ.(/35)
[26] الزمخشري، محمود بن عمر. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التاؤيل. بيروت: دار المعرفة، 1391هـ.
[27] الزركشي، بدر الدين. البرهان في علوم القرآن. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. ط21. بيروت: دار المعرفة، 1391هـ.
[28] ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير. د.م: د.ن، د.ت.
[29] المزني، محمد بن أحمد. مختصر المزني في فروع الشافعية بهامش الأمر. القاهرة: دار الشعب، د.ت.
[30] أبو موسى، محمد. دلالات التراكيب. دراسة بلاغية. ط1. القاهرة: مكتبة وهبة، 1399هـ.
[31] العز بن عبد السلام. الإشارة إلي الإيجاز في بعض أنواع المجاز. دمشق: دار الفكر، د.ت.
[32] ابن الوزير، محمد بن مرتضي اليماني. إيثار الحق علي الخلق. ط2. بيروت: دار الكتب العلمية، 1407هـ.
[33] أبو حيان، محمد بن يوسف الأندلسي. البحر المحيط. ط3. د.م. دار المعرفة، بيروت: 1393هـ.
[34] المراغي، أحمد مصطفي. تفسير المراغي. ط2. د.م: دار إحياء التراث العربي، 1985م.
[35] الرازي، فخر الدين محمد بن عمر، التفسير الكبير. ط1. د.م: دار الكتب العلمية، 1411هـ.
[36] القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن. الرياض: مكتبة الرياض، د.ت.
[37] الخازن، علاء الدين علي. لباب التأويل في معاني التنزيل. بيروت، دار المعرفة، د.ت.
[38] البغوي، أبو محمد الحسين، تحقيق محمد النمر عثمان ضميرية، وسليمان الخرش. الرياض: دار طيبة، 1412هـ.
[39] الشنقيطي، محمد الأمين. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. د.م: د.ن.، 1403هـ.
[40] خان، صديق حسن. فتح البيان في مقاصد القرآن. عُني بطبعه عبد الله الأنصاري. بيروت: المطبعة المصرية، 1412هـ.
[41] الألوسي، أبو الفضل شهاب الدين. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. ط4. بيروت: دار إحياء التراث، 1405هـ.
[42] ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي. ط4. بيروت: المكتب الإسلامي، 1407هـ.(/36)
[43] دروزة، محمد عزة. التفسير الحديث. القاهرة: دار إحياء التراث، 1383هـ.
[44] حجازي، محمود محمد. التفسير الواضح. القاهرة: دار الكتب الحديثة، د.ت.
[45] الأخفش الأوسط، أبو الحسن سعيد بن مسعده البصري. معاني القرآن. تحقيق فائز فارس. ط3. دمشق: دار البشير ودار الأمل، 1401هـ/1981م.
[46] ابن قتيبة، محمد بن عبد الله. تفسير غريب القرآن. تحقيق أحمد صقر. القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، د.ت.
[47] ابن القيم، محمد بن أبي بكر. التفسير القيم. جمعه محمد أوس الندوي. تحقيق محمد حامد الفقي. مكة المكرمة: مطبعة السنة المحمدية، د.ت.
[48] القيسي، مكي بن أبي طالب. الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها. تحقيق محيي الدين رمضان. ط4. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1407هـ.
[49] ابن الجزري، محمد بن محمد. النشر في القراءات العشر. د.م.:دار الفكر للطباعة والنشر، د.ت.
[50] أبو شامة، عبد الرحمن بن إسماعيل. إبراز المعاني في حرز الأماني. تحقيق إبراهيم عطوة. القاهرة: مصطفي البابي الحلبي، د.ت.
[51] عبد الرحمن، عائشة، التفسير البياني. ط3. القاهرة: دار المعارف، 1968م.
[52] شريف، محمد إبراهيم. اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر. ط1. القاهرة: دار التراث. 1402هـ.
[53] البخاري، محمد بن إسماعيل. الجامع الصحيح. ط2. الرياض: دار السلام، 1421هـ.
[54] النيسابوري، مسلم بن حجاج، صحيح مسلم. ط2. الرياض: دار السلام، 1421هـ.
[55] الترمذي، الحافظ أبو عيسى. سنن. ط2. الرياض: دار السلام، 1421هـ.
[56] الجزائري، أبو بكر جابر، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير. ط3. المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، 1418هـ.
[57] الخطيب، عبد الكريم، التفسير القرآني. د.م: دار الفكر، د.ت.
[58] قطب، سيد إبراهيم. في ظلال القرآن. ط13. جدة: دار العلم، 1406هـ.
[59] مجلة لواء الإسلام- شهرية، تصدر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - القاهرة.(/37)
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] يعمل السياق بدلالته العامة خارج دائرة النص أيضاً، فإن اللون الفاتح إذا وضع بإزاء ألوان أفتح منه؛ فإنه يبدو غامقاً، والشخص القصير إذا وقف مع من هم أقصر؛ فإنه يبدو بينهم طويلاً، وهكذا [3، ص146].
[2] شهد لهذا أحاديث وإجماع، انظر [22، ج1، ص291].
[3] ينظر [20, جـ 2 , ص82؛ جـ9, ص 212؛ جـ17, ص19].
[4] ينظر على سبيل المثال: [23, جـ1, ص91], ورد الطبري [20, جـ3, ص 253], وينظر أيضاً [23, جـ1, ص313], ورد الطبري [20, جـ12, ص 233], وينظر كذلك [23, جـ2, ص98], ورد النحاس [24, جـ5, ص160].
[5] [26, جـ3, ص ص 19؛ 275؛ 42, جـ 5, ص 385؛ 36, جـ 11, ص 336؛ 40, جـ 8, ص 368].
[6] لمزيد من التفسير يراجع [17, جـ2 , ص ص 585 ـ 631], وعود الضمير من الموضوعات التي تستحق أن تفرد بدراسة مستقلة.
[7] انظر أمثلة على احتكامها للسياق، وتقديمها له في كتابها [51, جـ 1, ص ص 16, 77, 126 , 162, 182, 208], وغيرها كثير.
[8] عرض لمنهجها كثيرون بالدرس والنقد, منهم د. محمد إبراهيم شريف في كتابه (اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر), ود.فهد الرومي في كتابه (اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري).
[9] متفق عليه [53, ص 826, كتاب التفسير؛ 54, ص113,كتاب الإيمان].
[10] أخرجه الترمذي [55, ص 716, كتاب التفسير].
[11] انظر أمثلة لما ذكرنا من رد أسباب النزول بسبب السياق [28, جـ2, ص ص 324 ,376؛ جـ5, ص183؛ جـ6, ص138؛ جـ14, ص6؛ جـ14, ص6؛ جـ 17, ص 154.
[12] ينظر تفسير أبي زهرة لهذه الآية في ضوء هذا الفهم، وانتصاره له [59, ص 240].
[13] انظر الرأي مفصلاً في [13, جـ2, 456؛ 57, جـ1, ص129] وتابعهما أبو زهرة في تفسيره لهذه الآية [95, ص 734], السنة السادسة, سنة 1372هـ, وأطال الاستدلال لهذا القول بالسياق، وقال: ونحن إليه أميل.(/38)
[14] انظر على سبيل المثال لا الحصر: [20, جـ5, ص 275؛ 21, جـ1, ص 305؛ 26, جـ1, ص 147؛ 35, جـ3, ص 139؛ 36، جـ3، ص 230؛ 19 , جـ3, ص 396].
[15] انتصر لهذا القول أبو زهرة في تفسيره لهذه الآية في [59, ص 402].
[16] انظر رأيه هذا في [59، ص402].
[17] انظر بعضاً من هذه الصور والحالات في [26، جـ1، ص142؛ 13، جـ2، ص408].(/39)
العنوان: السيرة النبويَّة والدعوة إلى الله (1)
رقم المقالة: 1101
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
إنَّ جانبَ الدعوةِ إلى الله في السيرةِ النَّبويَّة الشَّريفَةِ يَشمَلُ السيرةَ كلَّها؛ فرسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – شاهدٌ ومبشِّرٌ ونذِيرٌ وداعٍ إلى اللهِ، بل هو إمامُ الدُّعاةِ وسيِّدُهُم صلوات الله وسلامه عليه؛ يقول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45-46].
عن عَطَاءِ بْنِ يَسَار قال: "لَقِيتُ عبدَالله بن عمرو بن العاص؛ فقلتُ: أخبِرْني عن صِفَةِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في التَّوْرَاةِ؛ فقال عبدالله: أَجَلْ، إنه لَمَوْصوفٌ في التَّوْرَاةِ بصِفَتِهِ في القُرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وحِرْزًا للأُميِّينَ، أنتَ عبدي ورسولي، سميتُكَ المُتَوَكِّلَ، لستَ بفَظٍّ ولا غليظٍ، ولا سَخَّاب في الأَسْواق، ولا يَدْفَع السَّيِّئَةَ بالسَّيِّئَةِ، ولكنْ يَعفو ويَغفِر، ولن يَقبِضَه الله حتى يُقِيمَ به المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيَفتَح به أعْيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا"؛ رواه البُخَاري برقم (4838)، وأحمد (2/174).
وهذا وصْفٌ يَنطبِق عليه، صلى الله عليه وسلم.
هذا؛ وقد روى ابن أبي حاتِم، ونَقَلَه عنه ابنُ كَثِيرٍ - في تفسير هذه الآيةِ - نصًّا جميلًا عن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ معناه صحيحٌ، نورِده هنا لصِحَّةِ مَعناه، ودِقَّة وصفِهِ لسيِّدِنا رسولِ الله، الداعيةِ الرسولِ.(/1)
قال وهْبٌ: "إنَّ الله أَوْحَى إلى نبيٍّ من أنبياءِ بني إِسْرَائِيلَ:... وَأَبْعَثُ نَبِيًّا أُمِّيًّا, ليس أَعْمَى من عُمْيَانٍ, أَبْعَثُهُ لَيْسَ بفَظٍّ ولا غَليظٍ, ولا صَخَّابٍ في الأسواقِ, لو يَمُرُّ إلى جَنْبِ السِّرَاجِ لم يُطْفِئْهُ مِنْ سَكِينَتِهِ, ولو يَمْشِي على الْقَصَبِ الْيَابِسِ لم يُسْمَعْ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ, أَبْعَثُهُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لا يَقُولُ الْخَنَا, أَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا, وَآذَانًا صُمًّا, وَقُلُوبًا غُلْفًا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمْرٍ جَمِيلٍ, وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ, وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ, والبِرَّ شِعَارَهُ, وَالتَّقْوَى ضمَيرَهُ, وَالحِكمةَ مَنطِقَهُ, والصدقَ والوفاءَ طبيعَتَهُ, والعَفوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ, والحقَّ شريعَتَهُ, والعَدلَ سِيرتَهُ, وَالهُدَى إمامَهُ، والإسلامَ مِلَّتَهُ, وأحمدُ اسْمَهُ, أَهْدي به بَعْدَ الضلالةِ, وأُعَلِّمُ به بَعْدَ الجَهالةِ, وأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الخَمالَةِ, وأُعَرِّفُ به بَعْدَ النُّكْرَةِ, وأُكَثِّرُ به بَعْدَ القِلَّةِ, وأُغْنِي به بَعْدَ العَيْلَةِ, وأَجْمعُ به بَعْدَ الفُرْقَةِ, وأُؤَلِّفُ به بَيْن أُممٍ مُتَفَرِّقةٍ وقلوبٍ مُخْتَلِفَةٍ, وأَهْوَاءٍ مُتَشَتِّتَةٍ, وأَسْتَنْقِذُ به فِئَامًا منَ الناسِ عظيمةً مِنَ الْهَلَكَةِ, وأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ, يَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عنِ المُنكَرِ, مُوَحِّدِينَ مُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ, مُصَدِّقِينَ بما جَاءَتْ بِهِ رُسُلِي، أُلْهِمُهُمُ التسبيحَ والتحميدَ، والثَّنَاءَ والتَّكبيرَ والتوحيدَ، في مَساجِدِهم ومَجالِسِهم ومَضاجِعِهم ومُنقَلَبِهم ومَثْواهم يُصَلُّون لي قيامًا وقعودًا، ويقاتِلون في سبيل الله صُفوفًا وزُحُوفًا، ويَخْرُجُونَ من ديارهم ابتغاء مرضاتي أُلوفًا، يُطهِّرونَ الوجوه(/2)
والأطرافَ، ويَشُدُّون الثيابَ في الأَنْصافِ، قُرْبَانُهم دماؤهم، وأَنَاجِيلُهم في صُدورِهم، رُهْبانٌ بالليل، لُيُوثٌ بالنهار، وأَجْعَلُ في أهل بَيْتِهِ وذُرِّيِّتِهِ السابقِينَ والصِّدِّيقِينَ والشهداءَ والصالحينَ، أُمَّتُهُ مِن بَعْدِهِ يَهْدُون بالحقِّ، وبه يَعدِلون، أُعِزُّ مَن نَصَرَهم، وأُؤَيِّدُ مَن دعا لهم، وأَجْعَلُ دَائِرَةَ السَّوْءِ على مَن خالَفَهم أو بَغَى عليهم، أو أراد أن يَنْتَزِعَ شيئًا مما في أَيْدِيهم، أَجْعَلُهم وَرَثَةً لنبيِّهم، والدعاةَ إلى ربهم، يَأمرون بالمعروفِ ويَنْهَوْنَ عنِ المُنكَرِ، ويُقيمونَ الصلاةَ ويُؤْتونَ الزكاةَ، ويُوفُونَ بعَهْدهم".[1]
إنه نصٌّ جميل، وردتْ فيه جُملةٌ مِن صفات الرسول – صلى الله عليه وسلم – الدعويَّةِ، ووَرَدَ فيه ذِكْرٌ لفضلِهِ العظيم على أُمَّتِهِ التي هداها الله به، فكان فيها - بفضل الاقتداء به.
صفاتُ الدُّعاةِ الصادِقِينَ:
إِنَّ مَوْضوعَ الدعوةِ في السيرة النبويَّةِ يَشمَلُ السيرةَ كُلَّها؛ ولِذا فلن أَستطِيعُ في هذه الكلمةِ عَرْضَ مَوَاقفِ الرسولِ الدَّعَوِيَّةِ، أَسرِدُها سردًا كَاملًا، لأن ذلك يقتضيني عَرْضَ السيرة النبويَّة عَرْضًا كاملًا، مِن أوَّلِها إلى آخِرها، ولكنني سأَعْرِض إمكانيَّةَ استفادةِ الداعيةِ منَ السيرة في دَعْوتِهِ ومخاطَبَتِهِ النَّاسَ، وإلى إمكانيَّةِ استفادةِ المَدْعُوِّينَ منَ السيرة.
والموضوع – حتى بهذه الحدودِ – واسعٌ جدًّا؛ ولذا فسآتي ببعض الأفكارِ والخواطرِ عن هذا الموضوعِ.
وأَوَدُّ أن أَذْكُرَ عَلاقَتِي بالسِّيرةِ أولاً:(/3)
إنَّ مَوْضوعَ السيرةِ ليس غريبًا عَلَيَّ؛ فمنذ أيامِ الطفولةِ المُبَكِّرةِ كانت لي صِلةٌ وثيقةٌ بأحداثِ السيرة عن طريق السَّمَاع، وما زِلْتُ أَذْكُرُ تلكَ القَصَصَ الرائعةَ المحبَّبَة عنِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – التي كُنْتُ أَسْمَعُها من والِدَتي - رحمها الله - فقد كانت تَقُصُّها عَلَيْنا بأسلوبٍ محبَّبٍ جَذَّابٍ، وبلُغَةٍ مَفْهومةٍ من قِبَلِنا، ولقد كانت تلك القَصَصُ أَحَبَّ شَيْءٍ إلَيْنا، نَنْتَظِرها بفارغِ الصبر، رحمها الله رحمة واسعة، وجزاها عني وعن إخوتي وأخواتي الخَيْر الجزيل.
ورَحِمَ اللهُ سيدي الوالد، الذي كان يَجْمَعنا بعدَما جاوزْنا مرحلة الطفولة، ودخلْنا مرحلة الفُتُوَّةِ والشباب، كان يَجمعُنا على قراءة السيرةِ، وغالبًا ما كان يَعْهَدُ إليَّ بقراءةِ الجزءِ المُخَصَّصِ لتلك الجَلْسَةِ تشجيعًا مِنْه وتعليمًا، وكان لذلك التَّصرُّفِ الأثرُ الكبيرُ في نَفْسي وفي تكويني العلميِّ، رَحِمَهُ الله رَحْمَةً واسعة، وجزاه عني الخَيْر. (ربِّ اغفر لي ولوالديَّ، رب ارْحَمْهُما كما رَبَّيَانِي صغيرًا).
ثمَّ بعدَ أنْ بدأْتُ بطلبِ العِلْمِ، وصِرْتُ أَخْطُبُ الجُمَعَ وأُلقِي الدروسَ في المَسجِد، كانت السيرةُ النبويَّةُ مَرْجعًا مُهِمًّا لي.
ولما رَزَقَنِي الله أولادًا، من بَنِينَ وبناتٍ كنتُ أَعقِدُ لهم درسًا يَوْميًّا، وكان عِمادُ هذا الدرْسِ السيرةَ النبويَّةَ.
وتَعَلَّقَ الأولادُ بحضورِ هذه الجَلْسَةِ تَعَلُّقًا شَديدًا، حَتَّى كانت عُقُوبةُ مَن يُذنِبُ مِنَ الأولادِ حِرْمانَه حُضُورَ الدرسِ.
لقد كانت هذه العُقُوبةُ هي العُقُوبةَ الكبرى عندهم؛ فكان الولدُ المحرومُ يَبْكِي ويُوسِّط أُمَّهُ ويَتَعَهَّدُ بالتَّوْبة وبألا يَعودَ إلى مُقَارَفة هذا الذنبِ مقابِلَ أن يُسمَحَ له بالحُضُور.(/4)
وكانت هذه الجَلْسَةُ نافعةً للأولادِ أعظمَ النفعِ ولله الحمدُ والمِنَّةُ، حتى أكمَلْنا دراسةَ السيرةِ كلِّها.
وبقِيتُ آنَسُ بالسيرةِ فأَفزَعُ إليها، أَقْرَؤها بَيْنِي وبَيْن نفْسي، وأَستَشْهِدُ بأحداثِها في كِتاباتِي وأحادِيثِي.
وصلَّى الله على محمدٍ، وآله وصَحْبه وسلِّم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: تفسير ابن كثير. سورة الأحزاب الآيتان {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ}... الآية.(/5)
العنوان: السيرة النبوية .. والدعاة (2)
رقم المقالة: 1593
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
إن الحديث عن جانب الدعوة في السيرة النبوية يمكن أن يكون في جانبين: جانب الدعاة، وجانب المدعويين.
ونريد أن نتحدث أولاً عن جانب الدعاة:
إنّ لدراسة السيرة واستحضار أحداثها من قبل الدعاة فوائد عدّة تعود عليهم بالخير العميم والتوفيق في عملهم.
1 – إنّها تملأ صدورهم بالأمل الواسع عندما يُلاقون المصاعب والمتاعب والعقبات، وتنأى بهم عن اليأس، وتدفعهم إلى العمل، وذلك عندما يتذكرون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم واجه الدنيا كلّها التي كانت تموج بالشرك والظلم والعدوان.. واجهها صلى الله عليه وسلم بصبر عظيم، وعمل دائم، وحزم ورفق وأمل واسع بنصر الله له، فدانت له الدنيا، وخضع لسلطانه الوجود، ولم يمضِ على وفاته مئة عام حتى كانت دعوته صلى الله عليه وسلم قد عمّت الكون المعمور، وأصبحت كلمة التوحيد والتكبير تعلو المآذن من حدود فرنسا إلى حدود الصين، تتردد في أجوائها الكلمة العظيمة الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله.
2 – إنّها تبيّن لهم المراحل التي ينبغي أن يسلكوها في الدعوة متأسّين بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلقد أخذت دعوته صلى الله عليه وسلم في المدينة منحًى يختلف عن المنحى الذي كانت عليه الدعوة في مكة.
3 – إنّها توضح لهم الأوليات ومراتب الواجبات والمحرّمات، وتحدّد لهم الأمور التي يبدؤون بها، وهي الأمور المتصلة بالعقيدة. فلقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة العهد المكي يدعو إلى التوحيد ونبذ الشرك.
4 – إنّها تبيّن الصفات الأساسية المهمة التي ينبغي أن يتصفوا بها وتدعوهم إلى ذلك. وهذه الصفات كثيرة نذكر منها ما يأتي:
1 - العلم: فلقد كان صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه أحكام الدين، ويدعوهم إلى التعلّم بالقول والفعل:(/1)
فمن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى التعلم:
قوله صلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ العِلمِ فَرِيضَةٌ عَلى كُلِّ مُسلِم" رواه ابن ماجه برقم (224).
وقوله صلى الله عليه وسلم: " مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا سَهَّلَ الله له بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ…" رواه مسلم برقم (2699)، وأبو داود برقم (4946)، والترمذي برقم (1930).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لم يُوَرِّثُوا دِينَارًا ولا دِرْهَمًا، إنما وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" رواه أبو داود برقم (3641)، والترمذي برقم (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (5/196).
ومن فعله صلى الله عليه وسلم تحقيق ذلك وحضّه على تعلّم الصلاة عمليًّا كما جاء في الحديث: "صَلُّوا كما رأيتمُوني أصلِّي". رواه البخاري برقم (6008).
وتعلم مناسك الحج عمليًّا كما جاء في الحديث: "خُذُوا عني مناسككم". رواه مسلم (1297)، وأبو داود برقم (1970).
وحضّه على تعلّم الكتابة والقراءة كما جاء في حادثة فداء الأسارى فقد روى أحمد[1] بسند صحيح عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: كان نَاسٌ مِنَ الأَسْرَى يوم بَدْرٍ لم يَكُنْ لهم فِدَاءٌ، فَجَعَلَ رسول اللَّهِ صَلَّى الله عَليه وسَلّم فِدَاءَهُمْ أن يُعَلِّمُوا أَوْلاَدَ الأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ.
2 – التخطيط: تُعلِمنا السيرة أن على الدعاة أن يصدروا في أعمالهم عن تخطيط، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطط ويحكم التخطيط.
فمن ذلك ترتيبه الهجرة:
لقد خطّط رسول الله صلى الله عليه وسلم لهجرته إلى المدينة، ورسم الخطة، وحدّد الوقت، وأعدّ العدة من الدليل والزاد والراحلة على النحو الذي تذكره كتب السنّة وكُتُب السيرة.(/2)
لما اشتد الأذى على المسلمين في مكَّة، وأصبح لهم مُهَاجَرٌ في المدينة بعد ظهور الإسلام شرَع أفراد من المسلمين يهاجرون إليها بصورة فردية، وقد أراد سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يهاجر، فلمّا علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استبقاه وأشعره أنه ربما سيكون صاحبه في هذه الرحلة.. فاستعدّ أبو بكر لذلك، فاشترى راحلتين وشرع يعلفهما، ولم يرض النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يدفع ثمن الراحلة التي سيركبها...
ولما جاءه الإذن من الله بالهجرة أتى سرًّا إلى بيت أبي بكر وأخبره بعزمه على الهجرة، فطلب أبو بكر الصحبة فوافق النبي صلى الله عليه وسلم، وفرح أبو بكر فرحًا شديدًا حتى صار يبكي من الفرح.
ولإحكام الخطة أمر صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه أن يبيت مكانه كي لا يقع الشك في وجوده، ذلك أن المشركين كانوا يحاصرون البيت يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تعاهدوا أن ينقضُّوا عليه إذا خرج ويضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد، كي يضيع دمه في القبائل، فكانوا يرددون النظر من خلال شقوق في الجدار، وكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا أن يؤدي الأمانات إلى أهلها.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده من مكة ليلاً وتقابل مع الصّديق خارج مكة، وانطلقا.
وكان استأجر عبدالله بن أريقط، وهو رجل خبير بالطرق ليدلهما على الطريق، وأعطاه الراحلتين وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال.
وانطلق صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه ومعهما عامر بن فهيرة الذي كان يتبعهما بغنم كي يعفي على أثرهما.
وأعد صلى الله عليه وسلم لهذه الرحلة عدتها من الزاد، فوضع في جراب، وقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها نطاقها وربطت به على فم الجراب.(/3)
وأقاما في الغار ثلاثة ليال حتى ينقطع عنهما الطلب، وكان عبدالله بن أبي بكر يبيت معهما، ثم يقوم من آخر الليل ويعود إلى مكة فيصبح بها ليقف على كيد المشركين ثم يأتي الغار في المساء ويذكر لهما ما سمع من القوم.
وهذا التخطيط لا يتعارض مع التوكل على الله، ذلك لأن الأخذ بالأسباب مطلوب، ثمّ بعد ذلك يكون التوكل على الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله أيعقل ناقته أم يتوكل على الله ويتركها هكذا: قال صلى الله عليه وسلم: "اعقلها وتوكل". رواه الترمذي برقم (2517).
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، وقد خطّط هذا التخطيط العظيم لرحلة الهجرة إنَّ هذا درس للدعاة إلى الله.. إن عليهم أن يصدروا في برامجهم الدعوية عن تخطيط مدروس محكم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن تكون أعمالهم ردود فعل لما يفعله الأعداء المخالفون فقط، بل عليهم أن يكون عملهم قائمًا على الخطة التي وضعوها بعد معرفة الواقع والظروف التي يعيشون فيها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مسند أحمد الطبعة القديمة (1/247)، وفي طبعة شاكر (4/47 برقم 2216)، وانظر "طبقات ابن سعد" (2/22) ط بيروت، و"البداية والنهاية" (5/256) ط هجر، و"المنتقى" لعبدالسلام ابن تيمية برقم (4387)، وكتابنا "الحديث النبوي" ط 8 ص 40-41.(/4)
العنوان: السيرة النبوية.. والدعاة (3)
رقم المقالة: 1646
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
السيرة النبوية.. والدعاة (3) (العقبةُ الأولى)
التَّخْطيط:
ذَكَرْنا أنَّ السيرة النبوية تُبَيِّنُ للدُّعاة الصفاتِ الأساسيةَ التي ينبغي أن يَتَّصِفُوا بها، وهي كثيرة، وقد ذَكَرْنا في الحلقة السابقة: العِلْم، وأنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يُعَلِّمُ أصحابه أحكامَ هذا الدين بالقول والفعل، وأَوْرَدْنا الشواهدَ الكافية على ذلك، وَذَكَرْنا أيضًا أنَّ على الداعية أن يَصْدر في أعماله كلِّها عن خُطَّة مَدْرُوسة؛ اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَضَرَبْنا لذلك مثلاً: ما فَعَلَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ التخطيط لهِجْرته إلى المدينة المُنَوَّرَة.(/1)
ومنَ التخطيط الذي تُطَالِعُنا به السيرةُ النبوية أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يَتْرُك فُرصة، ولا مَجالاً للدَّعوة إلاَّ سَلَكه، فلمَّا قُوبِلَ مِنْ قومِه بالتكْذيبِ، والإعْرَاض، والعِنَاد، وتعذيب أصحابه، وإيذائِه - صلى الله عليه وسلم - حتى بَلَغ بِهِمُ الأمرُ أن يَهُمُّوا بقتله، شرع يبحث عن مجال آخَرَ، فذَهبَ إلى الطائف، وعَمَدَ إلى نَفَر من ثَقِيف فدعاهم إلى الله فلم يَقْبَلُوا دعوته؛ بل أَغْرَوْا به سُفهاءَهم، وعبيدهم؛ يسبُّونَه ويَصيحُون به، فلَجَأ إلى بستان وقال: "اللهُمَّ إليكَ أشْكُو ضعف قوتي، وقلة حِيلَتي، وهَوَاني على الناس، يَا أرحم الرَّاحمينَ، أنت رب المستضعفينَ، وأنت ربي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟! إلى بَعِيد يَتَجَهَّمُنِي؟! أَم إلى عدو مَلَّكْتَهُ أمري؟! إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أُبَالي، ولكن عافيتك هي أَوْسَع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشْرَقَتْ له الظُّلمات، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبَك، أو يحلّ عليَّ سَخَطُكَ، لك العُتْبَى حتى تَرْضى، ولا حول ولا قوة إلا بِكَ"[1].
فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مَكَّة، وقومه أشدّ ما كانوا عليه من العَدَاء، ومُفارقة دينه إلا قليلاً ممن آمن به من المُستضعفينَ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِض نفسَه على قبائل العرب في المواسم يَدْعُوهم إلى الله، ويُخْبِرُهم أنه نبيٌّ مُرْسَل، ويسألهم أن يُصَدِّقُوه ويمنعوه حتى يُبَيِّنَ لهم ما بَعثَهُ الله به.
وفي "سيرة ابن هشام" تفصيلٌ لتلك القبائل التي عَرَض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه عليها؛ فمن ذلك النَّصّ الآتي:
"قال ربيعة بن عَبَّاد الدِّيلِيّ: إني لَغُلامٌ شابٌّ مع أبي بِمِنًى، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقفُ على منازل القبائل من العرب، فيقول:(/2)
((يا بني فُلان إني رسولُ الله إليكم، يأمُرُكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تَخْلَعُوا ما تعبدون من دُونه من هذه الأنْدَاد، وأن تُؤمِنُوا بي، وتُصَدِّقُوا بي، وتمنعوني حتى أُبَيِّنَ عن الله ما بَعَثَنِي به)).
قال: وخلفه رجل أَحْوَل وَضِيء، له غَدِيرتَان، عليه حُلَّة عَدنِيَّة. فإذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قوله وما دعا له، قال ذلك الرجل: يا بني فُلان: إنَّ هذا إِنَّما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللاَّت والعُزَّى من أعْناقِكم، وحلفاءَكم من الجِنِّ... إلى ما جاء به من البِدْعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسْمَعُوا منه.
فقلتُ لأبي: يا أبتِ مَنْ هذا الذي يَتْبَعُهُ، ويرُدُّ عليه ما يَقُول؟
قال: هذا عمُّه عبدالعُزَّى بن عبدالمطلب، أبو لَهَب"[2].
- وَعَرض نفسه على بني كلب فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
- وأتى بني حنيفة فدَعاهُم إلى الله، فلم يكن أحدٌ من العرب أقبحَ عليه ردًّا منهم.
- وأتى بني عامر بن صَعْصَعَةَ فدعاهم إلى الله، وعرض نفسه عليهم فردُّوه.
- وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُلَّما اجتمع له الناسُ بالموسمِ أتاهم يَدْعُو القبائل إلى الله وإلى الإسلام، ويَعرض عليهم نفسَه، وما جاء به من الله من الهُدَى والرحمة، وهو لا يسْمَع بقادم يَقْدَمُ مكة منَ العرب له اسم وشرف إلا تَصَدَّى له، فدعاه إلى الله، وعَرَضَ عليه ما عنده.
- وما زال الرسول العظيمُ - صلى الله عليه وسلم - يعمل وَفْق هذه الخُطَّة، ولا يُداخِلُه اليأْسُ على الرَّغْم مما كان يَلْقَى من الإعراض والصَّدِّ.. حتى خرج في الموسِم على عادته يدعو، ويَعرِض نفسه على القبائل.. فبينمَا هو عند العَقَبة لَقِيَ رهْطًا منَ الخَزْرَج.
- فقال لهم: ((مَنْ أنتم؟)).
- قالوا: "نَفَر مِنَ الخزرج".
- قال: ((مِنْ موالي يَهُود؟)).
- قالوا: "نعم".
- قال: ((أفلا تَجْلِسُون أُكَلِّمُكُم؟)).
- قالوا: "بلى".(/3)
فجلسوا معه فدعاهم إلى الله - عز وجل - وعَرَض عليهمُ الإسلام، وتلا عليهم القُرآن... فلما كَلَّمَهُم رسولُ الله ودعاهم، قال بعضُهم لبعض: "يا قوم، واللهِ إنه لَلنَّبِيُّ الَّذِي تَتَوَعَّدكم به اليهودُ، فلا تَسْبِقَنَّكم إليه. فأجابوه وصدَّقُوه وقبلوا منه ما عَرَض عليهم منَ الإسلام. ودَعَوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيَهم إلى المدينة.. ثم انْصَرَفُوا إلى بلادهم.
فلمَّا قَدِمُوا المدينة ذكروا لقَوْمِهِمْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ودَعَوْهُم إلى الإسلام حتَّى فَشَا فيهم، فلم تبقَ دارٌ من دُور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى إذا كان العامُ المقْبِلُ وَافَى الموسمَ مِن الأنصار اثنا عَشَرَ رجلاً، فَلَقُوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعَقَبَة – وهي العَقَبَة الأُولى – فبايَعُوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بَيْعَة النساء، وذلك قَبْل أن تُفْرَض الحربُ عليهم.
وبَيْعَةُ النساء هي الوَارِدة في سورة الممتحَنة، وذلك في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الممتحنة: 12].
قال عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه -:(/4)
"كنتُ فيمن حَضَر العَقَبَة الأُولى على أن لا نُشْرِكَ بالله شيئًا، ولا نَسْرِقَ، ولا نَزْنِيَ، ولا نقتلَ أولادَنا، ولا نَأْتِيَ ببُهْتان نَفتريه بين أيدينا وأرجُلِنا، ولا نَعْصِيَه في معروف. فإن وفَّيْتُم فلَكُمُ الجنةُ، وإن غَشيتم من ذلك شيئًا فأُخِذْتُم بِحَدِّه في الدنيا فهو كَفَّارة له، وإن سُتِرْتُم عليه إلى يوم القيامة فأَمْرُكم إلى الله - عزَّ وجلَّ - إن شاءَ عَذَّب، وإن شاء غَفَر[3].
وأرسل لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُصْعبَ بنَ عُمَيْر العَبْدَريَّ، وعبدالله بنَ أمِّ مَكْتُوم – وهو ابن خالة خديجةَ – يُقرِئانِهمُ القُرآن، ويُفَقِّهانِهم فِي الدِّين.
وكان مصعب - رضي الله عنه - رجلاً حكيمًا، يَعْرِف كيف يدعو إلى الله بالحكمة والموعِظَة الحسنة، وحُسْنِ التأتِّي، وقد سبق له أنْ هاجَر إلى الحبشة وعادَ.. ونزل مصعب على أبي أُمامة أسعدَ بنِ زُرَارة، وصار يَدْعُو إلى الله الناسَ جميعًا؛ منَ الأَوْس والخزرج وغيرهم، ويَبْدُو أنه نَجَح في الدعوة، واستجاب له الجَمُّ الكثير.
وبينما هو في بستان مع أسعدَ بنِ زُرَارةَ، فُوجِئ بدخُول رجلٍ قويّ يُريد الإساءَة إليه.
ذلك أنَّ سعد بن معاذ - رئيس قبيلة الأَوْس - قال لابن عمه أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ: "ألا تقوم إلى هَذينِ الرجلينِ – يريد مُصْعبًا وابنَ أمِّ مكتوم – اللَّذَيْنِ أَتَيَا يُسَفِّهَانِ ديننا، ويُغْريانِ الضُّعفاءَ من قومنا بالدخول في دينِهما، فقُمْ وازْجُرْهُمَا.
فاستجابَ أُسَيْدٌ لدعوة سعد، وقام يحمل حَرْبته وجاء إلى البُسْتان الذي فيه مُصعبٌ.. فلمَّا رآه أسعدُ بنُ زُرَارةَ قال لمصعب:
"هذا سيد قومه، وقد جاءَك فاصْدُقِ اللهَ فيه".
فلمَّا وقف عليهِما قال: "ما جاء بكما؟! تُسَفِّهَان ضُعفاءَنا؟! اعْتَزِلا إن كان لكما بأنفُسكُما حاجة".(/5)
فقال مصعب: "أَوَتَجْلِس فتَسْمَع، فإن رَضيتَ أمرًا قَبِلْتَه، وإنْ كرِهْتَه كَفَفْنا عنكَ ما تَكْره".
فقرأ عليه مُصْعبٌ القرآنَ، فاسْتَحْسن دِينَ الإسلام، وهَداهُ الله وقال: "أشهد أن لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسول الله". ورجع إلى سعد. فسأله سعدٌ عمَّا فَعَل.
فقال: "واللهِ ما رَأَيْتُ بالرجلينِ بأسًا".
فغضب سعد وقام لهما مُتَغَيِّظًا، ففعل معه مصعبٌ كسابِقِه، فهداهُ الله للإسلام أيضًا.
ورَجَعَ سَعْدٌ لِرِجالٍ من بني عبدالأَشْهَل – وهم أهله، وهم بطنٌ منَ الأَوْس – فقال لهم: "ما تَعُدُّونَنِي فيكم؟"
قالوا: "سيدنا وابن سيدنا".
فقال: "كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تُسْلِمُوا".
فلم يبقَ بيتٌ من بيوت بني عبدالأشهل إلا أجابَه.
ولما كان وقتُ الحجِّ في العامِ الذي يَلِي البيعةَ الأولى، قدم مَكَّةَ كثيرُون منهم.
وهكذا نَجَحَتْ خُطَّة الرسول العظيم في دَعْوَتِه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] "سيرة ابن هشام" 2/ 61 – 62، تحقيق السقا، والإبياري، والشلبي – مصطفى البابي الحلبي 1355/ 1936.
[2] "سيرة ابن هشام" 2/ 64 – 65، ورواه أحمد في "المسند" 3/ 492 و4/ 341، وروى نحوه طارق بن عبدالله المحاربي؛ كما جاء في "المستدرك" للحاكم 2/ 611 – 612، وابن حبَّان 14/ برقم 6562
[3] "سيرة ابن هشام" 2/ 76، وهذا الحديث أخرجه البُخاري برقم 18، ومسلم برقم 1709.(/6)
العنوان: السيرة النبوية.. والدعاة (4)
رقم المقالة: 1725
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
السيرة النبوية.. والدعاة (4) (العقبة الثانية)
التخطيط:
مازلت أكرِّر الدرس، الذي ينبغي أن يعرِفَه الدعاة من السيرة وأن يعملوا به، ألا وهو التخطيط؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - عندما رأى إعراض قريش عن الحق، وتكذيبها لدعوته، وصدَّها عن سبيل الله، اتَّجه إلى عرض نفسه على قبائل العرب في المواسم.. وكانت العقبة الأولى التي تحدثنا عنها - آنِفًا - الخُطْوة الأولى في إعداد المُهاجَر: المدنية المنورة؛ لتكون الأرض التي يقيم عليها دولة الإسلام ومجتمعه.. وقد نَجَح مُصعب بن عمير – رضي الله عنه - في دعوته، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.. فلمَّا كان العام الذي يلي البيعة الأولى، قَدِم مكةَ كثيرٌ من أهل يثربَ: منهم مؤمنون؛ ومنهم مشركون يريدون الحجّ. فقابل وفد منهم رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم - وطلبوا اللِّقاء معه، واتَّفقوا على أن يكون اللِّقاء بعد الانتهاء من الحج عند شِعب العقبة، فأوصاهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أن يكتموا أمر هذا اللقاء عن رفاقهم المشركين الذين جاؤوا معهم؛ خشية أن تعلم قريش فتُفْسد الأمر.
وقد تجمعوا بعد الانتهاء من الحج بعد ثلث اللَّيل الأول، وكان عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً: اثنان وستون من الخَزْرَج؛ وأحد عشر من الأَوْس، ومعهمُ امْرأتان هما: نسيبة بنت كعب من بني النجَّار، وأسماء بنت عمرو من بني سَلَمة.
وذهب إليهم رسول الله ومعه عمّه العباس، وهو على دين قومه، ولكنه أراد أن يحضُر الجلسة؛ ليتوثق لابن أخيه.(/1)
فلمَّا اجتمعوا قال العباس: "إنَّ ابن أخي ما زال في مَنَعة من قومه، ولم يستطع أحدٌ من أعدائه أن ينال منه، وقد تحملنا من ذلك شدَّة عُظْمَى، فإنْ كنتم تَرَوْن أنكم دافّون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه فأنتم وما تحمَّلتُمْ من ذلك، وإلاَّ فدعوه بين عشيرته فإنهم لبمكان عظيم.
فقام البَرَاء بن معرور، وتكلَّم كلامًا طيّبًا جدًّا.
ثم قالوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: :خُذْ لنَفْسِكَ ولربِّكَ ما أحببتَ".
فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدوهُ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَلِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، مَتَى قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ)).
فقال له أبو الهيثم بن التّيّهان: "يا رسولَ الله، إنَّ بيننا وبين الرجال عُهودًا. وإنا قاطعوها، فهل عَسَيْت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسَّم النبي – صلى الله عليه وسلم - وقال: ((لا بَلِ الدَّم الدَّم، والهَدْم الهَدْم، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ)).
أي إن طالبتم بدم طالبتُ به، وإن أهدرتموه أهْدَرْتُه.
وابتدأت المبايعة وهي التي عُرِفَتْ بالعقبة الثانية، فبايعه الحاضرون على ما طلب، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أخْرِجُوا إِليَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَر نَقِيبًا؛ ليَكُونُوا عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ)) فأَخْرَجوا منهم اثْنَيْ عَشَر نقيبًا: تسعة من الخَزْرَج؛ وثلاثة من الأوس.
ثُمَّ قال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أَنْتُمْ كُفَلاءُ عَلَى قَوْمِكُمْ؛ كَكَفَالَةِ الحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بن مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي)).
قال العلاَّمة محمد الخُضَري:(/2)
"ولأمرٍ ما أرادَهُ الله، بلغ خبرُ هذه البيعة مُشْركي قريش، فجاؤوا وَدَخلوا شِعب الأنصار، وقالوا: يا مَعْشَرَ الخَزْرَج. بَلَغَنَا أنَّكم جئتم لصاحبنا تُخْرجونه من أرضنا، وتبايعونه على حربنا؟ فأنكروا ذلك، وصار بعضُ المشركين الذين لم يَحْضُروا المبايعة، يحلفون لهم أنهم لم يَحْصُلْ منهم شيءٌ في ليْلَتِهِمْ، وعبد الله بن أُبَيٍّ كبير الخزرج يقول: "ما كان قومي ليَفْتاتُوا عليّ بشيء من ذلك"[1].
قال العلامة محمّد الغزالي:
"تِلْكُمْ بَيْعَة العقبة، وما أُبْرِم فيها من مَوَاثيق، وما دَار فيها من مُحَاوَرَات.. إنّ روح اليقين، والفداء، والاستبسال سادت هذا الجمع، وتمشّت في كلِّ كَلِمَة قيلت، وبدا أنّ العواطف الفائرة ليست وحدها التي توجِّه الحديث، أو تملي العهود. كلاَّ؛ فإنَّ حساب المستقبل رُوجِع مع حِسَاب اليوم، والمغارم المتوقَّعة نُظر إليها قبل المغانم الموهومة. مغانم؟ أين موضع المغانم في هذه البيعة؟؟.
لقد قام الأمر كلُّه على التجرُّد المَحْض، والبَذْل الخالص.
هؤلاء السبعون، مُثُلٌ لانتشار الإسلام عن طريق الفكر الحرّ، والاقتناع الخالص...
فقد جاؤوا مِنْ يَثْرِبَ مؤمنين أشدّ الإيمان، وملبِّين داعيَ التضحية، مع أنّ معرفتهم بالنبي – صلى الله عليه وسلم - كانت لمَحْةً عَابِرَة، غبرت عليها الأيامُ، وكان الظن بها أن تزول.
لكنَّنا لا يجوز أن نَنْسَى مصدر هذه الطاقة المُتأجِّجَة من الشجاعة والثقة؛ إنَّه القرآن!
لئن كان الأنصار قبل بيعتهم الكبرى، لم يصحبوا الرسول إلا لمامًا. إنّ الوحي المُشِعّ من السماء أضاء لهم الطريق، وأَوْضَحَ لهم الغاية.. لقد نزل بمكة قريب من نصف القرآن، سال على أَلْسِنَة الحفَّاظ، وتداولته صحائف السفرة الكرام البررة. والقرآن النازل بمكة صوَّر جزاء الآخرة رأي العَيْن.(/3)
فَتُوشِكُ أن تَمُدَّ يدك، تقطف من أثمار الجنّة، ويستطيع الأعرابيُّ المتعشق للحق أن ينتقل - في لحظة فداءٍ - من رمْضَاء الجزيرة إلى أنهار النعيم، والرحيق المختوم.
وحكى القرآن أخبار الأولين، وكيف أخلص المؤمنون لله فنَجَوْا مع رسلهم، وكيف طغى الكفَّار وأسكرهم الإمهال فتعنتوا وتجبَّروا، ثم حلَّ العدل الإلهي فذهب الظالمون بَدَدًا، وتركوا وراءهم دُنيا مُدْبِرة، ودورًا خَرِبَة.
فَأَدْبَرُوا وَوُجُوهُ الأَرْضِ تَلْعَنُهُمْ كَبَاطِلٍ مِنْ جَلالِ الحَقِّ مُنْهَزِمِ
ثم إنَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم - جعل من هذا الإيمان بالحقّ رباطًا، يَعْقِد - من تلقاء نفسه - صلة الحب، والتناصر بين أشتات المؤمنين في المشرق والمغرب.
فالمسلم في المدينة – وإن لم ير أخاه المستضعف في مكة – يَحْنو عليه، ويتعصب له، ويغضب من ظالمه، ويقاتل دونه... "[2].
إنها خُطَّة مُحْكَمَة طويلة المدى.. وقد أثمرت مراحلها، ونجحت في تحقيق قيام الدولة الإسلاميَّة.
وجدير بالدُّعَاة إلى الله أن يلتزموا بهذا الدرس الدعوي. وفقنا الله وإياهم إلى الخير، والحمد لله ربِّ العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] نور اليقين ص 77 – 78.
[2] فقه السيرة 159 - 161(/4)
العنوان: الشاعر الأميري... وكلمة "بابا"
رقم المقالة: 502
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
للشاعر الأميري - عمر بهاء الدين (1916-1992م) - ولعٌ خاص بكلمة "بابا" ولا غروَ فهو شاعر الإنسانية المؤمنة, بل هو شاعر الأبوة الحانية في أدبنا العربي الحديث, فقد استبدَّت به هذه العاطفة, أعني عاطفة الأبوة, فأعطاها مالم يعطه شاعر آخر فيما نعلم, حتى لقد خصَّها بديوان أطلق عليه اسم "أب" نفَحَهُ بكل ما حباهُ المولى سبحانه من حنوِّ الأبوة, ورحمة الأبوة, وعطف الأبوة, وشفقة الأبوة, ومسؤولية الأبوة, وأمانة الأبوة, وتربية الأبوة, وجمال الأبوة, وجلال الأبوة...إلى غير ذلك مما تختصُّ به الأبوة, وما أكثرَ ما تشتمل عليه كلمة الأبوة من معان! وما أروع ما تشتمل عليه كلمة الأبوة من عواطف! ولله در شوقي إذ قال مشبها رسول الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم بالأب والأم:
وإذا رحمتَ فأنتَ أمٌّ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحَماءُ
ولما كان الأمر كذلك عند شاعرنا الأميري كثرت في معجمه اللفظي الكلمات المعبرة عن الأبوة, من مثل قوله:
وأنا أب في أضلعي مِزَعٌ تسعٌ من الأطفال تهتف بي
هل في حنان الناس منزلةٌ أسنى وأرفع من حنان أبِ
وقوله:
يا فتيةً آذَوا أباً أفنى ببرِّ بنيه عمرَهْ
وأبوكمُ ما بينكم ضيفٌ وفيمن مات عبرَهْ
بل لقد تعدى ذلك إلى تلك الكلمة الدائرة على لسان كل طفل حين ينادي أباه, أو حين يحكي عن أبيه, أو حين يدعوه أبوه. إنها كلمة "بابا" التي تصلح عنوانا لرائعته ودرة ديوانه (قصيدة أب) التي يقول فيها مصورا فراق بنيه بعد أن ملؤوا عليه دنياه لعبا.. وشغبا.. وحبا.. وطربا:
أين الضجيج العذبُ والشغبُ؟ أين التدارسُ شابهُ اللعبُ؟
أين الطفولةُ في توقُّدِها؟ أين الدُّمى في الأرضِ والكُتُبُ؟
أين التشاكُسُ دونَما غَرَضٍ؟ أين التشاكي ما لهُ سَبَبُ؟(/1)
أين التباكي والتضاحُكُ، في وَقْتٍ معاً، والحُزنُ والطَرَبُ؟
أين التسابُقُ في مُجاورَتي شَغَفَاً، إذا أكلوا وإنْ شربوا؟
يَتَزاحمونَ على مُجالستِي والقُربِ مِنِّي حيثُما انقَلَبوا
يتوَجَّهونَ بسَوقِ فِطْرتِهم نَحْوي إذا رَهبوا وإن رَغبوا
فنشيدُهُم "بابا" إذا فَرحوا ووعيدُهُم "بابا" إذا غَضِبوا
وهتافُهُم "بابا" إذا ابتَعدُوا ونَجِيُّهُم "بابا" إذا اقتَرَبُوا
* * *
بالأمس كانوا مِلءَ منزِلِنا واليومَ - ويح اليوم - قدْ ذهبُوا
وكأنَّما الصمتُ الذي هَبَطتْ أثقالُه في الدارِ إذ غَرَبُوا
إغفاءةُ المَحْمُومِ هَدْأتُها فيها يَشيعُ الهَمُّ والتَّعَبُ
ذهَبُوا، أجَلْ ذهبوا، ومَسْكنُهم في القَلبِ، ما شطُّوا وما قَرُبوا
إني أراهم أينما التفتتْ نفسي وقد سكنوا، وقد وثبوا
وأحِسُّ في خَلَدي تلاعُبَهُمْ في الدَّار، ليس ينالهمْ نَصَب
وبَريقَ أعيُنِهم، إذا ظَفِروا ودُموعَ حُرقتِهم إذا غُلِبوا
في كلِّ رُكنٍ مِنهُمُ أثَرٌ وبكلِّ زاويةٍ لَهُم صَخَبُ
في النافِذات، زجاجَها حَطموا في الحائِط المَدْهونِ، قد ثَقَبُوا
في البابِ، قد كسروا مَزَالجَهُ، وعليه قد رَسَمُوا وقد كتَبُوا
في الصحنِ فيه بعضُ ما أكلُوا في عُلبةِ الحلوى التي نَهبُوا
في الشَطرِ مِن تُفاحة قضموا في فَضلة المَاءِ التي سَكَبُوا
إني أراهُمْ حَيثُما اتجَهَتْ عيني كأسرَاب القَطَا سَرَبوا
بالأمْسِ في "قرنايلٍٍ" نَزَلُوا واليوم قد ضمَّتْهمُ "حَلَبُ"
* * *
دمْعي الذي كتَّمْتُهُ جَلَدَاً لمَّا تباكَوا عندما ركِبوا
حتَّى إذا سارُوا وقد نَزَعُوا من أضلُعي قلباً بِهمْ يَجِبُ
ألفَيتُني كالطِفْل عاطِفَةً فإذا بِه كالغيثِ ينسكِبُ
قد يَعجَبُ العُذَّال من رجُلٍ يَبْكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ
هَيهْاتَ ما كلُّ البُكا خَوَرٌ إنِّي وَبِي عَزْمُ الرجالِ، أبُ(/2)
ولا يكاد قارئ للشعر, أو مستمع له, أو مستمتع به, أو متذوق لمعانيه, أو مفتون بمبانيه, ينكر على شاعرنا استعماله لهذه الكلمة, وتكراره لها,على نحو ما قرأتَ..وسمعتَ.. وتذوقتَ.. وفُتِنتَ! كيف لا وقد طار ذكر هذه القصيدة في الآفاق, ونالت من الشهرة والذيوع والانتشار ما جعل صاحبها نفسه يعجب من ذلك, حتى سماها (القصيدة المحظوظة)! بل لقد أعجب بها عملاق الأدب والنقد عباس محمود العقاد, على قلة ما يعجبه من شعر المعاصرين, وعدَّها من عيون الشعر الإنساني, وقال عنها في ندوة من ندوات منزله في مصر الجديدة في رمضان 1381هـ: "لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة في طليعته..!". وترجمت إلى اللغة الفرنسية وقورنت بقصائد فيكتور هوغو في الأطفال, وعرضت في برامج تلفازية خاصة, ونشرت في الكثير من المجلات والكتب المدرسية.وكانت هذه القصيدة الدافع لإخراج الشاعر الأميري ديوان "أب".
ومع ذلك فقد أنكر قوم على شاعرنا استعماله كلمة "بابا" في هذه القصيدة, وذهبوا في ذلك كل مذهب.
إذ كيف يجوز لفصيح مثله أن يستعمل كلمة عامية؟؟
بل كيف يجوز لبليغ مثله أن يرطَنَ بكلمة أعجمية؟؟
بل كيف يجوز لشاعر كبير مثله أن يناغي بكلمة طفولية؟؟(/3)
كان من سوالف الأقضية أني حضرت حفلا بهيجاً.. ضمَّ ثلَّةً من العلماء والأعيان والأفاضل، وتقاطَرَ فيه الخطباء يتحفوننا بأفانينَ من القول والوعظ والإرشاد، وكان منهم خطيب فاضل أديب* استهلَّ كلمته وما أحسن ما استهلها بقصيدة الأميري هذه, وما إن وصل الخطيب إلى كلمة بابا في القصيدة حتى همس لي صاحبي بالجَنْبِ في أذني يسأل مستنكراً: أليست كلمة بابا أعجمية؟ فأشرت إليه أن لا، وتابعت الاستماع مستمتعاً بالقصيدة والخطبة، ثم بدا لي أن أنبِّه على أصالة هذه الكلمة في العربية فقمت شِبْهَ خطيب, وعلّقت على الأستاذ الأديب, مبيناً أن كلمة بابا عربية الأصل كريمة النِّجار والمَحْتِد مستدلاً بما جاء في المعاجم العربية من أنه: (بأبأ الصبيُّ إذا قال بابا). وكثر الهمس والتعليق، وتعدّى صاحبي بالجَنب إلى أصيحابٍ جُنُبٍ, بل إلى أساتذة أجلاء, ما كانوا ليوافقوني على ما ذهبت إليه بعد أن أتى عليهم حين من الدهر يسمعون هذه الكلمة تتردد على ألسنة أعجمية أو ترطَن بها ألسنة عامية لا عهد لها بالفصحى وأهلها.
وأدركت لتوّي أن ما سقته من حديث المعاجم في تلك العجالة لم يُجْدِ عندهم نفعاً, ولم يجِدْ لديهم مقنعاً، في أصل كلمة غَبَر على الناس زمان يعتقدون فيه أنها أعجمية تسرّبت إلينا من اللغة الفرنسية (papa) أو من غيرها, بل لقد نادى بعض الخواصّ بإلغاء تعليمها لأطفالنا في مراحل تعليمهم الأولى لما تحمله من أوضار العجمة!
وإن تعجَبْ فعجَبٌ أمرُ مَن يُنكرُ وجود هذه الكلمة في المعاجم العربية، ثم حين يتبدّى له على وجه اليقين أنها موجودة يُعجزه استخراجُها، لأنه لا يعلم من أي باب تخرج أوتحت أيِّ أصلٍ تندرج!. مع أن الأمر في غاية السهولة واليسر، ولو أنه فتح الجزء الأول من معجم اللسان لقرأ في صفحاته الأولى (مادة بأبأ) الكلامَ التالي:(/4)
(... وبأبأتُهُ أيضاً، وبأبأتُ بِهِ قلت له: بابا. وقالوا: بأبأ الصبيَّ أبوه إذا قال له: بابا. وبأبأه الصبيُّ إذا قال له بابا. وقال الفرّاء: بأبأتُ بالصبيِّ بِئْباءً إذا قلت له: بِأَبي. قال ابن جني: سألت أبا عليّ فقلتُ له: بأبأتُ الصبيَّ بأبأةً إذا قلت له بابا، فما مثالُ البأبأةِ عندك الآن؟...) [لسان العرب (بأبأ)].
وتكاد معاجمنا العربية القديمة والحديثة تجمع على هذا الذي نقله صاحب اللسان، فقد أورد المادة بهذا المعنى كلٌّ من الفيروزآبادي في قاموسه والزبيدي في تاجه، كما جاءت في معجم متن اللغة للشيخ أحمد رضا والمعجم الوسيط [انظر مادة (بأبأ) في القاموس المحيط، وتاج العروس، ومتن اللغة، والمعجم الوسيط].
ولو ذهب الباحث ينقِّرُ في كتب اللغة وعلومها لظفر بكثرةٍ كاثرة من النصوص تثبت هذه اللفظة بمعناها الذي تعارف عليه الناس اليوم، فقد جاء في نوادر اللغة لأبي زيد الأنصاري (119 - 215هـ وهو المعنيُّ بقول سيبويه في الكتاب: حدثني الثقة):
(قال العنبريّون بأبأ الصبيُّ أباه، وبأبأه أبوه: إذا قال له: يا بابا، ومأمأ الصبيُّ أمه فهو يُمأمئُها ويبأبئُ أباه بأبأةً ومأمأةً. ويقال: دأدأتُ الصبيَّ دأدأةً إذا سكتُّه تسكيتاً). [نوادر اللغة لأبي زيد الأنصاري ص254].
وجاء في رسالة الاشتقاق لابن السرّاج (316هـ):
(ومنه أن تجيءَ اللفظة يُرادُ بها الحكاية، فهذا الضرب لا يجوز أن يكون مشتقًّا، وذلك نحو: بأبأ الصبيَّ إذا قال له: يا بابا، وكذلك غاقِ وما أشبهه) [رسالة الاشتقاق لابن السراج ص31].
وفي كتاب الأفعال للسرقسطي (توفي بعد المئة الرابعة للهجرة):
(بأبأ: قال أبو عثمان: قال أبو زيد: بأبأ الصبيُّ أباه وبأبأه أبوه: إذا قال له: بابا) [كتاب الأفعال للسرقسطي: 4/133].(/5)
ولا أخفي على القارئ الكريم أن هذه النقول والنصوص، على كثرتها وتنوّعِها وقطعيةِ دلالاتها، لم تكن لتشفي غلّة الباحث الصدي، فقد أنكر عليَّ بعض الفضلاء كلَّ ما سقته من هذه النقول, وطالبوني بنصٍّ عربي قديم وردت فيه لفظة بابا على نحو صريح لا لبسَ فيه ولا مظنة تحريف أو تصحيف، وأغراني البحث فرحت أنقِّبُ وأنقِّرُ في المعاجم الأمات وموسوعات النحو والصرف واللغة.
ولكن هيهات! لقد كنت كمن يعمل في غير مَعِمَل، أو ينفخُ في غير فحم، فما في هذه الكتب، على سَعتها وبسط الكلام فيها، شاهدٌ واحد على ما أنا بسبيله.
وربَّ رميةٍ من غير رام، فقد عثرت على ضالّتي خلال مطالعة عرضت لي في كتاب عبقرية اللغة العربية للدكتور عمر فروخ، وكانت أبياتاً رقيقة للشاعر العربي الغَزِل العباس بن الأحنف (192هـ) جاء فيها:
وكانتْ جارةً للحُو رِ في الفردوس أحقابا
فأمسَتْ وهْيَ في الدنيا وما تألفُ أترابا
لها لُعَبٌ مصفَّفَةٌ تُلقبُهُنَّ ألقابا
تنادي كلّما رِيعت مِن الغِرّةِ يا بابا
[جاءت في الأصل: (من العزة) انظر عبقرية اللغة العربية ص219. والتصحيح من ديوان العباس بن الأحنف طبعة دار الكتب المصرية شرح وتحقيق عاتكة الخزرجي حيث وردت القصيدة ص16، 18].
وما كان أشدَّ فرحي بأبيات ابن الأحنف هذه, لقد تأبَّطتها وانطلقت إلى شيخ العربية في بلاد الشام الأستاذ سعيد الأفغاني رحمه الله, ولما التأم المجلس سألته عن كلمة بابا وأصالتها في العربية, فبادر الأستاذ يوسف الصيداوي - وكان من رواد المجلس عليه رحمة الله - إلى إثبات عربيتها وتوثيقها محتجا بذكر الجاحظ لها في البيان والتبيين, غير أن الأستاذ الأفغاني عقب بأن الجاحظ ليس بحجة، عند ذلك أنشدته أبيات ابن الأحنف هذه, ونسبتها إلى صاحبها العباس بن الأحنف, فقال الأستاذ سعيد الأفغاني: أما هذا فنعم!(/6)
ومع كل هذا الذي قدمت فلستُ أزعم أن هذه اللفظة جذر عربيّ خِصب أو مادة عربية قابلة للاشتقاق و التوليد، وإنما هي اسم من أسماء الأصوات يُروى على سبيل الحكاية. وأسماء الأصوات، كما هو معلوم، جانب من جوانب اللغة تشترك فيه مع غيرها من اللغات، بل لقد عده بعض اللسانيين في علم اللسانيات الحديث والقديم أصل اللغة الإنسانية، منه استمدت ألفاظها، وعن محاكاة الأصوات الطبيعية كدويِّ الريح وخرير المياه نشأت كلماتها. وهي إحدى النظريات المشهورة في نشأة اللغات، وبها أخذ ابن جني في بعض أقواله [انظر الخصائص 1/46 - 47] واللغوي الألماني هردر كما جاء في المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي للدكتور رمضان عبد التواب ص112. كما أخذ بها من المتأخرين آدم سميث (متن اللغة /18).
دع ذا وتدبَّر معي بنية لفظة بابا تجدها تعتمد على حرف الباء، وهو حرف شفوي سهل النطق طيّع المخرج، ولذا سارع الطفل إلى ترديده والمَذْلِ به، فكان أول الحروف تردداً بين شفتيه وكذا حرف الميم، وقد علَّل علماء الصوت ذلك بأن الطفل يرى حركة الشفتين حين يسمع هذه الأصوات من أمه أو أبيه، في حين ذهب الدكتور إبراهيم أنيس إلى أن عضلات النطق بهذه الأصوات هي نفس العضلات التي يستخدمها في الرضاعة [الأصوات اللغوية 216 - 217 وانظر كتاب الألسنية ولغة الطفل العربي لجورج كلاس ص80. وفقه اللغة للدكتور علي عبد الواحد ص131] يستوي في ذلك الطفل العربي مع الأعجمي، والتركي مع البربري، فلا غرو بعد ذلك إن وجدت هذه اللفظة في كثير من اللغات العالمية، ولا ضير على العربية إن اشتركت في استعمال لفظ ما مع غيرها من اللغات.
جاء في تكملة المعاجم العربية لدوزي: (وبابا بالبربرية والتركية: الأب (ابن بطوطة 2/416) وكذلك هي في لغة الفولة أو الفولان أو فلان (هجسون) وكذلك في العربية (شيرب لغة العرب 32، ومحيط المحيط)). [معجم دوزي 1/225 - 226].(/7)
على أن ما يدور في فلك بحثنا هذا هو التأكيد على أن أسلافنا العرب الفصحاء الذين عنهم أخذت اللغة حاكَوا أطفالهم فيما تردد بين شفاههم كما تؤكد معظم النقول السابقة، وما الغرابة في ذلك؟ ألم يحاكوا ما هو أقلُّ من الطفل منزلةً وفصاحةً، وهي الأنعام والسوائم على اختلاف أنواعها؟ بلى فقد حاكَوا صوتَ الغراب فقالوا: غاقِ، ودعَوا الحمارَ للشرب فقالوا: سَأْ. ومن أمثلتهم: (قفِ الحمار على الردهة ولا تقل له سَأْ) [جمهرة اللغة 3/293. والرواية في مجمع الأمثال 2/94 (قرِّبِ الحمار من الردهة...) يضرب للرجل يعلم ما يصنع]، وزجروا البغل فقالوا: عَدَسْ، وعليه شاهد النحاة المشهور:
عَدَسْ، ما لعبَّادٍ عليكِ إمارةٌ أمنتِ وهذا تحملينَ طليقُ
[انظر في أسماء الأصوات: شرح المفصل 4/15 وشرح الكافية 2/79 وجامع الدروس العربية 1/192 والنحو الوافي].
بل لقد تعدَّوا ذلك إلى تسميةِ صاحب الصوت باسم صوته المنسوب إليه، فسمَّوا الغرابَ غاقِ، والبغلَ عَدَسْ، وعلى ذلك قول الشاعر:
إذا حملتُ بدني على عَدَسْ
على الذي بين الحمارِ والفَرَسْ
فلا أبالي مَنْ غزا ومَنْ جَلَسْ
[جامع الدروس العربية 1/163، وشرح المفصل 4/79]. وزادوا فألحقوا أسماء الأصوات بأشرف الكلمات أي بالأسماء ليكون أدل على دخولها في ظاهر أقسام الكلمات فصرفوها تصريفَ الأسماء [انظر شرح الكافية 2/81].
ولعل خير ما أختم به الكلام طائفة من الأبيات لشعراء قدامى ومحدثين, كان لكلمة "بابا" في شعرهم نصيب.
أما أولهم فهو ابن الوردي (691 - 749هـ) عمر بن مظفر, صاحب اللامية المشهورة, حيث يقول:
أيا دادا حكت صِدغاكَ واوا فما أحلى ثناياكَ العذابا
لقد صدتْكَ أمُّكَ عن رضانا فيا ماما دعي للصلح بابا
وأما ثانيهم فهو أحمد تقي الدين (1888 - 1935م) الشاعر القاضي,حيث يقول:
هو طفل فوق السرير صغيرٌ ذابل الطرف يسحر الآناما
وعليه من الجمال غشاءٌ نسجته بنات موسى اليتامى(/8)
إنما يقظة الغرام غشته فرمت قلبه صريعا غراما
تهموه بالحب وهو يتيمٌ أعجميٌّ يقول بابا وماما
وأما آخرهم فهو أميرهم, أحمد شوقي، حيث يقول:
هناك ألقت بالصغير للورى واندفعت تبكي بكاءً مفترى
تقول بابا أنا دحّا وهو كخّ معناه بابا لي وحدي ما طبخْ
فقل لمن يجهل خطب الآنيهْ قد فطر الطفل على الأنانيهْ
ـــــــــــــــــــــــــ
*هو خطيب الأدباء وأديب الخطباء بدمشق الشام الأستاذ الحُفَظَة هشام عبد الرزاق الحمصي حفظه الله وأمتع به, وأشهد أني لم أرَ أحفظ منه للشعر.(/9)
العنوان: الشاعر محمد إقبال وصلته بالعرب
رقم المقالة: 902
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
يستغرب الباحث عندما يعلم أن إقبالاً لم ينظِمِ الشعرَ بالعربية مع أنه تعلَّم العربيةَ، فقد كان عالماً بآدابها، كما أنه مارس تعليم اللغة العربية لطلابه، أما اللغةُ الفارسية فقد كتب بها كثيراً من أشعاره، مع أنها لم تكن لغتَه الأم!!
فقد دَرَسَ العربيةَ عام 1895م بعد أن أكمل تعليمه الثانوي في الكلية الحكومية بـ(لاهور)، وأتم دراسته إلى أن حصل على شهادة (الماجستير)، فعُين أستاذاً للغة العربية في الكلية الشرقية بـ(لاهور)، في (مايو/أيار)، عام 1899م تسعة وتسعين وثمان مئة وألف للميلاد، مدة أربع سنوات[1].
ولدى إقامته في جامعة لندن؛ درَّس اللغة العربية مدة قصيرة، وفي لندن اضطُر الأستاذ (أرنوج) إلى الانقطاع عن عمله أستاذاً للغة العربية في جامعة لندن بضعةَ أشهر؛ فاختار محمد إقبال ليحل محله أستاذاً للغة العربية مدة ستة أشهر[2].
أما عن الشعر العربي وأدبه؛ فقد كان له باعٌ طويل فيه، فكيف لا يكون وهو الشاعر الذي لا يُشَقُّ له غبار؟! وهو المُطَّلِع على الكثير من آداب الشعوب الإسلامية والأجنبية؟! وهو القارئ الجيد للثقافة العالمية؟!
يقول عنه أبو الحسن النَّدْوِيُّ: "كان إقبالُ معجباً أشد الإعجاب بالشعر العربي القديم، فقد أعجبه صدقُ الشعر العربي وواقعيتُه، وما يشتمل عليه من معاني البطولة والفروسية، وكان يحفظ الكثيرَ من أبيات ديوان الحماسة وغيرها، وكان يرى أن العقلَ العربي كان أقوى على فهم الإسلام فهماً صحيحاً، وأجدر بحمل أمانته"[3].
أما لماذا لم ينظِم شعرَه بالعربية؛ فهي قضية في غاية الغرابة، يجيب الندوي:
"وبرغم أن أدب إقبال لم يصدُر باللغة العربية؛ إلا أنه حمل فكرةَ الإسلام، وعاطفةَ الإسلام، كما أن اللغة العربية ظلَّلت أدبَ إقبال، بفرعيه الفارسيِّ والأُرْدِيِّ"[4].(/1)
وهكذا كان شعر إقبال ينبض بالعربية، المستمدَّة من روح الإسلام وتعاليمه السمحة، ونجد أن محورَ فلسفته قام على هذا الروح.
وينقل أبو الحسن الندوي حديثَ إقبال إليه عن اللغة العربية، فيقول:" قال: أشرتُ على بعض أمراء المسلمين، أصحابِ الإمارات الهندية؛ بنشر الإسلام في غير المسلمين، ونشر الثقافة الإسلامية، وإحياء اللغة العربية وآدابها في هذه البلاد"[5]
ويقول عنه د. عايض القرني: "هو يحب العرب كثيراً، ويقول: يا ليتني أُجيد اللغة العربية مئة في المئة. ولو أجادها مئة في المئة؛ لأبكانا كما أبكى الهنودَ، ولأبدع لنا في أدبنا، وفي ثرواتنا، ولجعلنا نعيش أدباً رائداً جميلاً.
ولكن لا زلنا والحمد لله نتمتَّع بمقطوعاته الجميلة الإيمانية، ونسأل الله أن يغفرَ له.
يقول في قصيدته واصفاً حاله:
أنا أعجميُّ الدَّنِّ، لكِنْ خَمرَتي صُنْعُ الحجازِ وكَرمِها الفَينانِ
إن كان لي نَغَمُ الهنودِ ولحنُهم لكنَّ ذاك الصوتَ من عدنانِ[6]
إقبال والعرب:
عرف إقبال العربَ قبل أن يعرفوه، فما من شكٍّ أن أيَّ مسلم على وجه البسيطة تهفو روحُه لمهبط الوحي ومرقد المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما أنها تهفو للقِبلة الأولى ومَسرى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن أي مسلمٍ غَيورٍ آلمه ما حلَّ بفلسطين من تهجير واحتلال واغتصاب، وما حصل لأكثر بُلدان العرب من استعمار من قِبَل الاحتلال، لذا نجد محمد إقبال قد تنبَّه إلى العرب، واتصل معهم قبل أن يتصلوا به، كما سيأتي لاحقاً.
يرى إقبال أنَّ أي شعب يرنو إلى التقدُّم والحضارة لا بدَّ أن يكون حُرّاً أبِيّاً، يحرص على التئام الروابط والأواصر بين أفراده. ويرى أن العربَ والمسلمين تربطهم أواصرُ قلما توجد في أي شعب آخر.(/2)
خاطب إقبال العرب خاصة، والمسلمين عامة، قائلاً لهم: "إنكم الآن تجتازون أدقَّ مرحلة، وتقومون بأصعب دور في حياتكم السياسية؛ فعليكم أن تحتفظوا بالارتباط الشامل، والاتحاد القويم، في العزائم والجهود، وفي الوسائل والغايات، إنني لا أستطيع أن أخفيَ عنكم شعوري بأنكم -في سبيل تدارك هذه الحال الخطرة- لابد أن تناضلوا كِفاحَ الحرية.
ولا سبيل إلى محاولة أخيرة لكسبٍ سياسي؛ إلا حيث تكون العزائم عزماً واحداً، والقلوب المتباعدة قلباً واحداً، وأن تتركز مشاعركم في مَطلب لا تختلفون عليه.
إنكم تستطيعون ذلك، وبقوَّة -إن شاء الله- يوم تتحرَّرون من القيود النفسية، وحين تضعون أعمالكم الفردية والاجتماعية في ميزان ما تَنشدونه من الأهداف العالية، والمثُل الرفيعة"[7].
اتصال إقبال بالعرب:
يبدو أن إقبالاً في بادئ أمره، وفي مرحلتيه الأولى والثانية؛ لم يكن على نُضج كبير في الرؤية الإسلامية الواضحة؛ إذ لم يَظهَر فيها إعجابُه وحبُّه للعرب وبلاد العرب!
أما في مرحلته الثالثة نجد أنه نزع نحو العالمية الإسلامية، وبها أصبح عربياً، وهندياً، وفارسياً، وما إلى ذلك من جنسيات المسلمين!! وربما الدعواتُ القومية، قبل سقوط الخلافة عام 1924م؛ لم تكن قد نضِجَت بعدُ، وقلما يجد الباحث مفكرين ينزعون للدعوات الإقليمية أو القومية، أو الوطنية.
بالرغم من إعجاب إقبال بالعرب وبلاد العرب؛ نجد أن اتصاله ببلاد العرب كان في حدود ضيِّقة، فهو لم يزر إلا مصرَ و فلسطينَ بجسده وروحه، والحجاز بروحه فقط.
ولعل أولَ زيارة لإقبال للعالم العربي كانت عام 1905م، إذ توقَّفت الباخرة التي كانت تُقِلُّه إلى إنكلترا في عدن وبورسعيد، "لم يخرج إقبال من الباخرة في عدن؛ بسبب شدَّة حرارة الجو، ولكنه خرج متنزِّهاً في بورسعيد فزار بعض المدارس والمساجد"[8].
ولدى توقفه هناك؛ كتب رسالة في قناة السويس إلى حاكم مصر، وكان يومها الملكَ فؤاد (1917 - 1936) فكتب:(/3)
"بسم الله الرحمن الرحيم، من إقبال إلى فاروق مصر: يا فاروق مصر! إنك لن تكونَ كالفاروق عمر، حتى تحمل دِرَّةَ عمر! والسلام!! "[9].
وربما أطلق على الملك فؤاد لقبَ (الفاروق) تيمُّناً بالفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
العرب واتصالهم بإقبال:
تأخَّر تعرُّف إقبال كثيراً في البلاد العربية، فمع أنَّ رحيله كان عام 1938م؛ فإن التعريفَ به الذي يستحقُّه جاء بعد أكثر من عِقد من الزمن، بيد أن التعريف به - في حياته - كان مقتصراً على النخبة المثقفة فقط، التي كانت تهتم باللغة الفارسية والأُردية.
ويبدو أن أول تكريم لإقبال في بلاد العرب كان في مصرَ، وهو في طريقه إلى فلسطين، لحضور المؤتمر الإسلامي الأول، عام 1931م؛ إذ رسا مركبُ إقبال في قناة السويس، شأنه شأنُ أي مسافر على متن باخرة في الطريق نفسه، ثم عرَّج على الإسكندرية، حيث أقامت له "جمعية الشبان المسلمين" احتفالاً هناك، يقول عزام:
"وكان من سعادة الجَدِّ، وغِبطة العين والقلب؛ أن قَدِم إقبالُ مصرَ في طريقه إلى المؤتمر الإسلامي، الذي اجتمع في المسجد الأقصى، سنة 1931م؛ ودعت "جمعية الشبان المسلمين" إلى الاحتفال بالرجل العظيم. واقترح أستاذنا الشيخ عبد الوهَّاب النجار - رحمه الله - أن أُقدِّم محمد إقبال إلى الحضور"[10].
من الواضح إن أول من عرَّف العالمَ العربي بإقبال هو الأستاذُ عبدُ الوهَّاب عزام، في أول زيارة رسمية له للعالم العربي - كما سبق - ويبدو أن الآفاق تفتَّحت لدى الأستاذ عزام بعد تقديمه للرجل، فبدأ الاهتمام جليّاً بفِكر إقبال بعد هذا التقديم.
يقول عزام: "سمعت، وأنا في بلاد الإنكليز، قبل وفاة الشاعر بأكثرَ من عشر سنين؛ أن في الهند صُوفياً اسمه إقبال، له نظرات في التصوف، وله فلسفة في النفس، وأن ذكره جاء في بعض المجلات الأوروبية، وكلامه نشر فيها!!"[11].(/4)
ويضيف: "وشرعتُ أنشرُ ترجمةً منثورة لشعره في مجلة (الرسالة)، ولا أدري كم واليتُ نشرَ قطع من شعر إقبال، وعَرَّفتُ به! وقد دُعيت قبل وفاة الشاعر ببضع سنين، وأنا في مدينة الإسكندرية؛ إلى التحدُّث عنه. وكان الأدباء في بلاد العرب عرَّفوه بي، وعرفوني به. فتحدثت بما راع السامعين من فلسفة الشاعر وشعره، وشرعت - سنة 1936م- أنْظِمُ منظومةً، سميتها: "اللمعات"، وأهديتها إلى إقبال، ونُشِرَت مقدمتُها في مجلة (الرسالة)"[12].
قام الأستاذ عزام بترجمة روائع إقبال، فترجم له ديوان "ضرب كليم"[13]، عام 1937م، إذ كان ممن أتقنوا اللغة الفارسية، واهتمَّ بفكر الرجل، ولم يترك وسيلةً إلا عرَّفَ فيها بالرجل، فكتب المقالات، وألف الكتب، وعقد المهرجانات والندوات؛ تكريماً للرجل، يقول:
"ولبثت أكتب عن إقبال، وأترجم من شعره، ما وسع وقتي، وعلى قدر فقهي وعلمي بسيرته، حتى نُعِيَ إلينا في نيسان، من سنة 1938م.
وقد احتفلت جماعة (الأُخوَّة الإسلاميَّة) بتأبينه - وكنت يومئذٍ رئيسَ الجماعة - فكان لها حفلتان (بقية الغوري) و(جمعية الشبان المسلمين) . وتكلَّمت في الحفلين، وأنشدت من منظومة (اللمعات) التي نظمتها وأهديتها إلى إقبال"[14].
وقد خَصَّ عزامٌ مجلةَ (المنهل) السعودية، في عام 1948م، الموافق 1367هـ؛ بمقال عن إقبال، ومما جاء فيه:
"وقد سمعت بإقبال في أوروبا قبل عشرين عاماً، ثم قرأت كتبه في مصر منذ خمسة عشر عاماً، فقلت: هذا الرجل الحُرُّ الذي نفتقده، هذا العالِمُ الناقدُ الذي نتطلَّع إليه، هذا الهادي المرشدُ الذي يهدي نشءَ المسلمين في هذه المجاهل، ويعصمهم من هذه الفتن، ويُنير لهم الطريق في هذه الظلمات"[15].(/5)
أما الرجل الثاني الذي له الفضلُ في تعريف العالم العربيِّ بإقبال، فهو الشيخ أبو الحسن النَّدْوِيُّ، الذي بدأ بالتعريف به في المحاضرات والندوات، في كثيرٍ من بلدان العرب والمسلمين.. يقول أبو الحسن الندوي: "كنت مدرِّساً في (دار العلوم) التابعة لندوة العلماء، ومقيماً مع أخي الأستاذ مسعود الندوي، مؤسسِ مجلة (الضياء العربية)، وكنا نتناشد شعرَ إقبال، وكان يَغيظُنا أن (طاغوراً) أشهرُ في الأقطار العربية من إقبال، وأن إعجابَ إخواننا العرب والأدباء بشعره أكبر، وكنا نعدُّ ذلك تقصيراً منا في التعريف بشعر إقبال، وكلما رأينا تنويهاً بشعر (طاغور)، وإطراءً له في مجلة عربية؛ قَوِيَ عزمُنا على ترجمة شعر إقبال"..
وقد قدَّر الله أن اجتمع الندويُّ بالشاعر العظيم قبل وفاته، يقول الشيخ الندوي: "وأذكر أنني استأذنته في ترجمة شعره إلى العربية في ذلك المجلس، فتكرَّم بذلك، وأنشدته بعض قصائده من "ضرب الكليم"، وذَكَرَ إقبالُ الأستاذَ عبدَ الوهَّاب عزام، وأنه ينوي ترجمة شعره[16].
جال الندويُّ معرِّفاً بإقبال، في شبه القارة الهندية، وفي البلدان العربية، ولا سيما مصر وسورية، ففي القاهرة ألقى محاضرةً عنه في جامعة الملك فؤاد - جامعة القاهرة الآن - بعنوان: (الإنسان الكامل في نظر إقبال)، وذلك عام 1951م، ثم كتب مقالات عديدة، ونشرها في عدد من الصحف المصرية.
وفي دمشق، وفي الاحتفال بإقبال عام 1964م؛ حضر الندويُّ معرِّفاً بالشاعر، وقد أحضر معه ترجمةً رائعةً لقصيدته (حديث الروح)، وقام المحتفِلون بطبعها في كتيِّب مستقل، وتوزيعها على المشاركين، ونشرها في المكتبات، كما أن الندويَّ أصدر قبلها - في دمشق - عدةَ كتب تتحدث عن الرجل، وفكره وفلسفته، منها: (روائع إقبال)؛ عن (دار الفكر بدمشق)، عام 1960م.(/6)
وإنصافاً للحقيقة أقول: لا يقتصر التعريفُ بإقبال على عزام والندوي فقط - وإن كانا أكثرَ من تصدَّى لذلك - ولكن بجهودهما برز عددٌ من المهتمين بإقبال، فظهرت عشرات الدراسات والمقالات والندوات التي اهتمَّت بإقبال، وحاز بعضُ الدارسين على الإجازات العالمية الرفيعة، في دراسة إقبال وشعره وفلسفته[17].
فعلى سبيل المثال لا الحصر: صدر في مصر كتاب (فلسفة إقبال، والثقافة الإسلامية في الهند وباكستان) للصاوي علي شعلان ومحمد حسن الأعظمي؛ عن دار (إحياء الكتب العربية) عام 1950م.
كما صدر كتاب (إقبال.. الشاعر الثائر) لنجيب الكِيلاني عام 1959م؛ عن الشركة العربية للطباعة والنشر.
ومن المؤلفين الذين كتبوا عن إقبال: سمير عبد الحميد إبراهيم، وحسين مجيب المصري، وأحمد ماهر البقري، وعادل التل، وغيرهم، بالإضافة إلى عشَرات المقالات التي نُشرت على صفحات المجلات المصرية؛ مثل: "الرسالة"، و"الأزهر"، و"المقتطف"، و"المسلمون"، وغيرها.
أما في سوريا؛ فنجد أن الاهتمامَ به بدأ متأخراً عنه في مصر، ولعل السبب يرجع إلى الطرح القومي الذي كان سائداً في تلك الأيام هناك، والمراقب يلاحظ أن مجلةَ (حضارة الإسلام) نشرت عام 1960م؛ مقالاً لأبي الحسن الندوي بعنوان "إقبال في مدينة الرسول" - صلى الله عليه وسلم - وتتابعت المقالات في المجلة نفسها عن الرجل وأدبه.
وفي عام 1964م أقيم احتفالٌ كبير لإقبال، برعاية الدولة، فأُعطي الرجل بعض حقِّه من البحوث والدراسات المستفيضة، وقد صدرت تلك البحوثُ في كتاب خاص عن المناسبة .
وفي عام 1985م أقيم احتفال ثانٍ بالمناسبة نفسها، سمِّي: (نداء إقبال)، وقد طبعت (دار الفكر بدمشق) المقالات التي قيلت في المناسبة.
ومن المؤلفين السوريين الذين اهتموا بإقبال نذكر: عمر بهاء الدين الأميري، وعبد المعين الملوحي، وزهير ظاظا، ود. سمر روحي الفيصل، وغيرهم.(/7)
ومن الجدير ذكره: أن كثيراً من المجلات الخليجية اهتمَّت بأدب الرجل وشعره؛ فمجلة (المنهل) السعودية دأبت - في كثيرٍ من أعدادها - على التعريف بالرجل، وكذا مجلة (الأمة) القطرية، و(العربي) الكويتية، وغيرها من المجلات.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: "لا أعرف شخصية، ولا مدرسة فكرية، في العصر الحديث، تناولها الكُتاب والمؤلفون والباحثون؛ مثلما تناولوا هذا الشاعر العظيم!".
ويضيف: "إن عدد ما صدر عن إقبال، من الكتب والرسائل، في لغات العالم؛ قد بلغ 2000 ألفين! ما بين كتاب ورسالة، هذا عدا ما نُشر عنه من بحوث ومقالات"[18].
وهكذا غدا الشاعرُ إقبال موضعَ اهتمام من قبل العرب، تُكتب عنه مئات المقالات، وتقام من أجله عشراتُ الندوات والمؤتمرات، ناهيك عن الإصدارات العربية التي امتلأت بها رفوفُ المكتبات العربية، بالإضافة إلى عشرات الرسائل التي تحدثت عنه.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] سمير عبد الحميد إبراهيم، إقبال والعرب، مكتبة دار السلام، الرياض، ط1، 1413هـ.
[2] المصدر السابق، نقلاً عن زده رود ج 1، ص 125.
[3] الندوي، روائع إقبال، ص 14.
[4] المصدر السابق.
[5] الندوي, روائع إقبال, ص 16.
[6] عايض القرني، مملكة البيان، دار ابن حزم، الرياض، ط1، 1422هـ.
[7] من خُطبة إقبال في الحفل السنوي للرابطة الإسلامية، بمدينة "الله آباد"، عام 1930م. وقد اخترنا عبارات من هذه الخطبة بتصرف.
(انظر نص الخطبة في ص37 وما بعد من: "الكتاب الوثائقي" الذي أعده "محمد برويز عبد الرحيم" بمناسبة ذكرى ميلاد إقبال، وأصدرته السفارة الباكستانية في دمشق عام 1985م. نقلاً عن مقال للدكتور سمر روحي الفيصل.
[8] سمير عبد الحميد، مصدر سابق.
[9] مملكة البيان، للشيخ عائض بن عبد الله القرني، مصدر سابق.
[10] عبد الوهاب عزام، موقع "رابطة أدباء الشام".
[11] عبد الوهاب عزام، مصدر سابق.
[12] عزام، مصدر سابق.
[13] الصادر عن جماعة الأزهر، بمصر.(/8)
[14] عزام، مصدر سابق.
[15] عزام، مجلة "المنهل" السعودية، ع 8، م 8، 1367هـ.
[16] الندوي، روائع إقبال، ص 19، نقلاً عن سمير عبد الحميد.
[17] مثال: الطاوس ألغام: "منهج تغيير الإنسان عند محمد إقبال"، (رسالة جامعية)، سنة 1995م.
وحافظ محمد أكرم أحمد: "الأمة الإسلامية العربية في شعر محمد إقبال المترجَم إلى اللغة العربية"، دراسة تحليلية، (رسالة جامعية)، سنة 2002م.
وشركان عبد الله: "الفيلسوف الهندي محمد إقبال"، (رسالة جامعية)، سنة 1967م.
وعطية سلمان عودة، أبو عاذرة: "مشكلتا الوجود والمعرفة في الفكر الإسلامي الحديث؛ عند كل من محمد عبده ومحمد إقبال: دراسة مقارنة"، (رسالة جامعية).
[18] أبو الحسن الندوي، مقال في مهرجان إقبال المئوي، الذي عُقد في مدينة "لاهور".(/9)
العنوان: الشبَاب الموَهُوبون وَكيفيَة تَوجيههم نَحو العَملِ المبدع
رقم المقالة: 268
صاحب المقالة: عاصم محمود الحياني
-----------------------------------------
المقدمة:
((الشباب هم قاعدة القوة في الأمة والتجدد والوثوب وهم العقل الراجح فيها)).
من هذه المقولة للرفيق القائد صدام حسين (حفظه الله) نستطيع أن ندرك أهمية الشباب ودورهم الفاعل في رفد الأمة العربية بكل ما يملك الشباب من طاقات هائلة تقف في قوتها وصلابتها بوجه الأعداء الحاقدين وهم قاعدة الأمة لما لها من خصوصية حددها الرفيق القائد هي أن ((الشباب يعيش فترة أطول بالمقارنة مع غيره من مراحل عمر الإنسان الأخرى لذا فإن الفترة التي ستوكل إلى الشباب في بناء المستقبل المطلوب ضمن عملية التغيير الثوري ستكون فترة أطول. (6 ص5- 6).
إن الدور المؤثر للشباب في اغناء المجتمع بكل ما هو جديد ومبدع لغرض دفع الأمة للحاق بالتطور العالمي من خلال رعاية أصحاب المواهب وتوجيههم نحو العمل المبدع الذي يجعل من الشباب العقل الراجح. إن مسألة الاهتمام بتنمية الطاقات البشرية وتوجيهها من أشد المطالب الحيوية في هذا العصر.
ويسعى قطرنا لتطوير قواعده البشرية والمادية خدمة للوطن والأمة وقد أولت قيادة الحزب والثورة أهمية كبيرة للعناية بالثروة البشرية ورفع كفاءتها العملية لكي تكون قادرة على أن تؤدي دورها الوطني والقومي في دفع عملية التنمية إلى الامام.(/1)
وإن رعاية الموهوبين والاهتمام بهم ما هو إلا تجسيد حي لاعتبار الانسان قيمة عليا بالمجتمع له الدور الكبير في بناء الوطن والدفاع عنه. والموهوبون في كل مجتمع الطاقة الدافعة نحو التقدم والبناء فعن طريقهم يمكن أن تصل الانسانية إلى أعلى ما تطمح فيه في حقل المخترعات التي تنقل الإنسان من حالته المتخلفة إلى الحالة المتقدمة التي نسعى جميعاً للوصول إليها. فالموهوبون هم ذخيرة الوطن ومصدر سعادته وثروته وهم عدة الحاضر وقادة المستقبل في شتى الميادين وبهم ازدهرت الحضارة وتقدمت الانسانية واستخدم الانسان الذرة وغزا الفضاء فقد اهتمت بعض الأقطار العربية ومنها العراق أيضاً بتوجيه الموهوبين.
ويجب ألا ننسى أن توجيه الموهوبين الشباب وإرشادهم (مطلب ديمقراطي يعكس إيماناً مطلقاً بالحق المطلق لكل فرد في اتاحة الفرصة لتنمية قدراته إلى المستوى الذي توصله إليه إمكانياته) (11 ص425): وإن العراق أحوج ما يكون إلى جهود ابنائه الذاتيه في الميادين كافة ولذلك فإن الضرورة تقتضي رعاية الموهوبين الشباب قدراتهم وتوجيههم نحو العمل المبدع لمواكبة التقدم الحالي.
إن توجيه الموهوبين الشباب والاهتمام بهم له ما يبرره فهم وسيلتنا إلى مواجهة التحديات ومقاومة التخلف ورعايتها وتوجيهها أمر تفرضه الشرائع وتمليه المبادئ التي تعتمد عليها الثورة وقد أكدت قيادة الثورة على أهمية بناء الانسان المبدع المبتكر المؤمن والمستوعب لعقيدة الثورة وقائدها الرفيق القائد صدام حسين (حفظه الله) ومطلوب ابتداع وتوظيف كل الوسائل والأساليب التي توصلنا إلى الهدف والذي يصب في البناء الحضاري للعراق العظيم. وبالوقت الذي نعمل في ضوء بناء الانسان المبدع والمبتكر المؤمن والمستوعب الذي يقوم بدور قيادي يجب علينا اعتماد كل القنوات والمسارات العلمية المطلوبة لترصين الحالة العلمية لمطلبه.
ولكي يأخذ البحث جوهره الحقيقي لابد من تفسير ما يلي:(/2)
الموهبة – الابداع – التوجيه.
أولاً: الموهوبون...
قبل البدء بتعريف الموهبة لابد لنا من أن نعرف:
1-1 الموهوب:
فالموهوب هو كل فرد امتلك نشاطاً يميزه عن أقرانه بتفوقه عليهم ويبدي إمكانية ابداع مستمرة في مناشط الحياة المتعددة فيبرز ويتفوق وفق هذا النشاط. وقد جاء في (دراسة معوض) أن الموهوب هو كل ذي موهبة سواء أكان ذكاءاً ممتازاً أو قدرة ابتكارية عالية أو استعداد أو قدرة خاصة متميزة (11 ص5) وعلى هذا الأساس أن الأفراد الذين يحصلون على درجات عالية في اختبارات الذكاء ولديهم القدرة الابتكارية العالية من خلال تطبيق اختبارات القدرة الابتكارية ولديهم قدرات خاصة كالقيادة والقدرة الموسيقية أو الفنية يسمون بالموهوبين. وجاء في دراسة العامري والندا أن الموهوب يجب أن يتصف بقدرة ابداعية وابتكارية مستمرة في أحد المناشط الانسانية ثم امتيازه بالسرعة والدقة غير المتوقعة في انجاز الأعمال اليدوية والميكانيكية أو الفكرية وكذلك التفوق المدرسي ثم الاستعداد القيادي (8 ص103).
أما الموهبة:
وكما عرفها جابلن (Chaplin ) هي قدرة مثل القدرة الموسيقية التي تؤهل صاحبها لأن يكون قادراً من خلال حصوله على درجات عالية في التدريب (13 ص495).
وجاء في الموسوعة التربوية أن الموهبة عند الفرد يمكن حصرها في القدرة العامة للذكاء، القدرات الخاصة مثل (الفنون) العلاقات المكانية، القياد – الخ (14 ص139).
1-2 إكتشاف الموهوبين:
هنالك أساليب عديدة يمكن من خلالها الكشف عن المواهب منها:
1 - عن طريق السلوك الملاحظ يشارك في تحديده.
2 - الأسرة والمجتمع اللذان تستطيعان أن يحدد السلوك الابداعي الموهوب.
- والمدرسة من خلالها التحصيل الدراسي والاختبارات التحصيلية المقننة يمكن تحديد السلوك الابداعي.
- السلوك القيادني:
- الأعمال اليدوية والميكانيكية والتي تصاحبها دقة وسرعة في الانجاز غير متوقعة.(/3)
اختبارات القدرات الخاصة عندما تكون القدرات الخاصة غير واضحة أما إذا كانت القدرات الخاصة واضحة ((القدرة الموسيقية، العددية أو القدرة على إدراك العلاقات، فيمكن تشخيص الموهوب من خلالها)).
اختبارات الذكاء: إن استخدام مقاييس الذكاء مطبق في دول الغرب ويعتمدون عليه فكل من يحصل على 135? فما فوق في اعتبار ستنافورد – بينية للذكاء) يمكن اعتباره، موهوباً..
اختبارات الابداع كاختبار تورانس للتفكير الابتكاري.
واكتشاف أصحاب المواهب لابد أن يتم في وقت مبكر لكي نستطيع تربيتهم وتربية، مواهبهم: إلا أن هذا لا يمنع من رعاية الموهوبين الذين يتم اكتشافهم في المراحل الأولى وهذا ما ينطبق على الموهوبين الشباب الذين يصلون إلى الجامعة وهم بعيدون عن الرعاية والعناية.
1-3 خصائص الموهوب:
يتصف الموهوب وأصحاب القدرة العقلية العالية بالخصائص المثالية التي استنتجت من خلال دراسات أجريت لهذا الغرض.
1-3-1 الخصائص الجسمية العامة:
يتمتع أكثر الموهوبين بصحة جسمية عالية تؤهلهم لتأدية كل ما تميليه الموهبة عليهم فلديهم، أعضاء حس على درجة ممتازة من الانتباه وللاستجابة السريعة، ومما يؤكد ذلك دراسة طولية أجريت في الولايات المتحدة قام بها لويس ترمان وميلتا أودن استمرت الدراسة خمسة وثلاثين عاماً تتبع فيها الباحثان نمو مجموعة من الأطفال المعوقين وحين بلغ عددهم 1528 طفلاً واستنتجا من الدراسة ما يأتي مجموعة المتفوقين أكثر تميزاً عن العاديين من حيث النمو الجسمي (16 ص122) وقد كان هناك اعتقاد سابق في أن الموهبة لا تظهر مع من يعانون نقصاً أو عيباً في نموهم الجسمي لأنهم كانوا يفسرون التفوق على أساس التعويض عن النقص.
1-3-2 الخصائص الانفعالية والاجتماعية:(/4)
لقد ساد الاعتقاد سابقاً في أن أصحاب المواهب يعانون من اضطرابات انفعالية وعدم مواءمة اجتماعية إلا أن الدراسات أثبتت عكس ذلك فمثلاً ((دراسات ميلر الذي وجد أن الأطفال الموهوبين أكثر سيطرة على انفعالاتهم من العاديين)) (16 ص127).
(وتدل دراسات كرودر وجالاجر على أن الموهوبين أكثر شعبية وأكثر تكيفاً مع البيئة من الأطفال العاديين). (12 ص106) وفي دراسة (معوض) الميدانية، التي طبقت على 310 طلاب من طلاب الثانوية في عام 1983 في القاهرة استخدم فيها مقياس العلاقات الاجتماعية في مقياس الارشاد النفسي وجد أن النابغين والمبتكرين والأذكياء يشعرون بميل للاجتماع بالآخرين. وحب لهم وعقد علاقات اجتماعية ناجحة، كذلك هم يشعرون بالسعادة والراحة في وجود رفاقهم، يتمتعون بمهارات اجتماعية ويتحدثون بسهولة وطلاقة ويتميزون بصفات حميدة يوجهون سلوكهم الاجتماعي وجهات طيبة – وإن نفس المجموعة تتميز بالثبات الانفعالي والثقة بالنفس، فهم قليلو قلق وأميل إلى الهدوء والاسترخاء قادرون على اتخاذ القرارات بأنفسهم، ولا يخافون المواقف الجديدة وغالباً ما يتصرفون بكفاءة في المواقف الغريبة. في حين أن مجموعة العاديين يحتمل أن يكونوا على نفس الدرجة من هذه الدرجة فهم أقل نضجاً ومقدرة في عقد العلاقات الاجتماعية وأقل في مستوى ثبات الانفعالي ((11 ص217- 225)).
هذا يستنتج أن الموهوبين لديهم القدرة على التكيف مع المجتمع ولديهم السيطرة التامة على انفعالاتهم إلا أن هذا لا يمنع من وجود بعض الحالات الشاذة.
1-3-3 خصائص العقلية:(/5)
يتمتع الموهوبون بقدرات عقلية تفوق القدرة العقلية عند العاديين وإن أكثر أصحاب المواهب يكون عمرهم العقلي أكبر من عمرهم الزمني والنمو العقلي لديهم يعادل 1.3 سنة عقلية مقابل سنة زمنية واحدة في الأقل في حين أن النمو العقلي للعاديين متساو عقلياً وزمنياً – لو طبقت اختبارات الذكاء على الموهوبين يحصل على درجات أعلى من العاديين ويلخص ويتي الخصائص العقلية فيما يلي:
1 - ازدياد حصيلتهم اللغوية في سن مبكر.
2 - ازدياد قدرتهم على استخدام اللغة التامة في سن مبكر عندما يعبرون عن أفكارهم.
3 - الدقة في الملاحظة.
4 - الشغف بالكتب.
5 - القدرة على تركيز الانتباه مدة أطول.
6 - القدرة على إدراك العلاقات السببية.
7 - القدرة على تعلم القراءة في مبكر.
8 - تعدد الميول (102 ص105).
1-4 تربية ورعاية الموهوبين:
في عام 1983 بدأت أول رعاية منظمة ومبرمجة لتربية ورعاية الموهوبين في العراق، وكانت وما تزال في بداياتها وقد سبقتنا الدول المتقدمة في هذا المجال وقد كان للاتحاد السوفيتي السبق في رعاية الموهوبين وتلته أمريكا وبلدان العالم الأخرى.
ففي كل بلد كانت التربية والرعاية تأخذ أشكالاً متعددة وهنالك أساليب تتبع لرعاية الموهوبين أهمها:
1-4-1 أولاً:
التسريع والتعجيل من أهم الأركان الأساسية في رعاية الموهوبين وهو أن نقدم لهم برنامجاً مرناً قابلاً للتغير وهذا متمثل في التسريع والتعجيل أي منحه فرصه للموهوبين تدعم موهبتهم وترعاهم ويتم ذلك عن طريق:
(أ) القبول المبكر في المدرسة: يقبل الطفل الموهوب في المدرسة الابتدائية في سن الخامسة أو قبلها.
(ب) اجتياز الصفوف: بعد أن يدخل الطالب المدرسة ويستمر في التعلم وتظهر عليه قدرة تفوق عالية يمتحن الطالب وفي حالة اجتيازه للموضوعات بنجاح يسمح له باجتياز صف أو صفوف دراسية من غير أن يقضي فيها المدة المقررة.(/6)
(جـ) يسمح للطلبة باداء الامتحانات المدرسية المختلفة كلما أحسوا بأنهم قادرون على اجتيازها وهذا يدفعهم لاجتياز عدة صفوف من غير النظر إلى السنوات التي قضاها في الدراسة.
(د) دخول الجامعة في سن مبكر.
1-4-2 الاغناء والاثراء:
هو أحد الأركان الأساسية في رعاية الموهوبين وتربيتهم يعني إضافة مواد جديدة تتحدى قابليات وقدرات الموهوبين في حقول الرياضيات والفيزياء والعلوم واللغات أو غير ذلك فعن طريق الكتب والمجلات العلمية الحديثة ومن خلال الاستغلال الكامل للمختبرات وعمل البحوث نستطيع أن نثري المنهج، والاثراء نوعان والمشاركة في المؤسسات العلمية.
(أ) اثراء عمودي وهو إضافة نشاط ذي مستوى أعلى إلى التعلم القائم.
(ب) اثراء أفقي وهو إضافة خبرات تربوية إلى التعلم القائم.
1-4-3 المدارس الخاصة أو الصفوف الخاصة:
من الأساليب الأخرى والمطبقة في بلدان العالم المتقدم المدارس الخاصة أو الصفوف الخاصة وهي الطلبة في مدارس خاصة تنظم برامجها ومناهجها وفقاً لتحدي قدرات وإمكانات الشخص الموهوب، وترضي طموحاتهم وتشبع حب الاستطلاع عندهم أو عزلهم في صفوف خاصة داخل المدارس تقدم فيها برامج علمية للطلبة الموهوبين.
1-4-4 تخطيط لمناهج للموهوبين:
يكون كالآتي: -
1 - التأكيد على البنية الكلية والمبادئ الأساسية لمجالات الموضوعات الدراسية، وليس على الحقائق المنفردة.
2 - أخذ المنبهات والمؤشرات من ميول واستعدادات الطلبة.
3 - التأكيد على كيفية اشتقاق المعلومات وليس على المعلومات نفسها أي التفريق بين الحفظ والتذكر وبين الفهم والسماح للطلبة على الربط بين الحقائق العلمية واستنتاج أفكار جديدة.
4 - توسيع المنهج الدراسي ومده أفقياً وعمودياً أي أن توسع المنهج وتعمق المادة العلمية التي يحتويها ذلك المنهاج.(/7)
5 - توفير وتقديم الارشاد والتوصية، كحماية الطلبة الموهوبين من الانحراف والزلل الذي قد يحدث نتيجة للرعاية الزائدة وشعور بعضهم بأنهم أعلى مستوى من الآخرين.
ثانياً: الابداع.
2-1 تعريف الابداع:
يتجلى الابداع من خلال السلوك ويشمل السلوك الابداعي. والاختراع: والتصميم والاستنباط والتأليف والتخطيط. والأشخاص الذين يظهرون مثل هذه الأنواع من السلوك وإلى درجة واضحة هم الذين يوصفون بالمبدعين (7 ص20).
وعرفه (الزوبعي) بأنه قدرة الفرد على انتاج شيء جديد لم يكن معروفاً في السابق (5 ص151).
2-2 خصائص التفكير الابداعي:
إن الإبداع ليس هو بالقدرة الواحدة ولكنه بالأحرى مجموعة من القدرات أرسى أسسها جيلفورد وقد حددت فيما بعد بأربعة عوامل محددة للتفكير الابداعي: الطلاقة الفكرية – الأصالة – المرونة التلقائية – الحساسية للمشكلات.
فإن ما كشفه سويف من عامل خامس ينظم في هذه المنطقة من التفكير أسماه (بعامل الاحتفاظ بالاتجاه).
وفيما يأتي تعريف لهذه القدرات الخمسة:
1 - الطلاقة الفكرية: هي القدرة على تقديم أكبر عدد ممكن من الأفكار من التي تتمثل فيها بعض المقتنيات الخاصة ذات المعنى خلال وحدة زمنية معينة.
2 - المرونة التلقائية: إنها إستعداد أو ميل ما لدى الشخص للتحرر من التصور يمكنه من إنتاج تنوع فيما يصدره من استجابات أي القدرة على الابتعاد عن التقليد.
3 - الأصالة: القدرة على تقديم استجابات ماهرة أو غير شائعة.
4 - الحساسية للمشكلات: قدرة الشخص على رؤية المشكلات في أشياء أو أدوات أو نظم اجتماعية قد لا يراها الآخرون فيها أو التفكير في تحسينات يمكن إدخالها على هذه النظم أو هذه الأشياء.
5 - الاحتفاظ بالاتجاه. إنه يعني إمكانية الفرد على التركيز فترة من الزمن في مشكلة معينة من غير أن يتحول المشتتات بينه وبينها.
2-3 القيم الخاصة للمبدعين:(/8)
قيمة الاصلاح: وتمثل بالاحساس بوطأة المشكلات التي يزخر بها عالم الانسان ثم حاجة العالم إلى النظام أي خلق عالم أفضل وكذلك إيمانهم بامكانيات الفرد ومسؤوليته وقدره في إضفاء معنى على العالم مع توجه، دائم. إلى الإصلاح وقضاياه.
قيمة الاستقلال:
الاستقلال قد شكل قيمة هامة لهم في مسارهم الحيوي والابداعي وقد كشفت هذه القيمة عن نفسها لديهم في شكل: القدرة على التفرد، عدم الايضاح إلى المواصفات الاجتماعية. وعدم الاذعان للضغوط العائلية أو أي نظام تنشئة آخر، والتعبير الحاسم عن الرغبة في الاستقلال وحرية الإرادة وهو أمر يقطع بوضوح هذه القيمة لديهم على مستوى التصريح المباشر لهم.
قيمة الانجاز والعمل الابداعي:
أن يكون المبدع قادرا على العمل كل يوم ورغبته في ممارسة امكانياته وانهماكه في العمل حتى في ظل ظروف لا يستطيع آخرون أن يعملوا في ظلها.
قيمة الاعتراف:
قيمة له حجم واضح أمر لا يمكن التقليل منه في حياة المبدعين كذلك وجود جانبين أساسيين لهذا البعد القيمي جانب التقدير وجانب الاحتضان للمبدعين لكفاءات نادرة.
قيمة الصدق:
قيمة هامة بالنسبة للمبدعين وأن الالتزام بها أمر ضروري جداً وهي الحاكم في توجهاتهم وعن طريقها يستطيعون التعبير عن ذواتهم. (4 ص83- 84).
2-4 تطوير وتربية الابداع:
هناك العديد من ميادين التعليم التي تتاح فيها الفرص لدفع الطالب إلى تمارين التفكير المبدع وتشتمل هذه الميادين على العلوم التطبيقية والعلوم الانسانية والدراسات الاجتماعية والفنون بطبيعة الحال. وطبيعي أن بعض الميادين تتيح الفرصة للتفكير المبدع أكثر من سواها ولكن في جميعها تتوقف الفرص بصورة أساسية على كيفية تعليم الموضوع وعلى المواقف التي يتخذها المدرس. إن فهم طبيعة الانجاز المبدع على ضوء القدرات وغيرها من الصفات التي تساهم فيه تعين عوناً كبيراً على اختيار مواد التعليم وطريقة تقديم هذه المواد تكوين المواقف المناسبة عند الطالب.(/9)
ونستطيع القول بأن تنمية الابداع عند الطلاب تتوقف في معظمها على المواقف المتغيرة لكل من المدرس والطالب.
فقد يكون لدى الطالب مبالغة في احترام قداسة الطرائق. وكم من طلابنا يعاقبون لأنهم يخرجون على الطرائق المتبعة التقليدية ؟ وكم منهم يكافأون لالتزامهم بالطرائق المألوفة ؟ إن من واجب المدرس أن يشجع الأصالة عند طلابه وأن لا يفسرهم على طرائق الكتاب.
وثمة طريقان رئيسيان تستطيع المدرسة أن تزيد وفقاً لهما في قابليات الطالب الابداعية أولهما أن تتيح المدرسة للطالب خبرات تربوية خاصة من أجل التدريب على التفكير المبدع أو المهارة في حل المشكلات أما الطريق الآخر فهو توليد (روح ابداعية) في المدرسة وتبني طريقة في التعليم تجريبية وخلاقة ومفتوحة الأطراف وذلك في كل مجال (7 ص116- 117- 103).
ثم توجيه الطالب الوجهة التي تساعده على بناء الثقة في نفسه والتحرر من القلق ومحاولة معالجة المشكلات بطريقة الطالب الخاصة ((أن الطلاب المبدعين قد يجدون أنفسهم في مواقف من سوء التوافق غير المقصودة في علاقتهم بأساتذتهم. وتزداد مظاهر سوء التوافق لدى المبدعين إذا نظرنا إليهم في علاقاتهم بأقرانهم. فمن النادر أن نطلع على سيرة شخصية لأي مفكر ابداعي فلا غير أن نجد ما يدل على الصراع والمشاحنات في علاقته بزملائه وقد أيد علماء النفس التجريبي في بحوثهم ذلك ويقترح ((تورانس))، المبادئ الآتية إذا شئنا تشكيل مناخ تربوي مقبول لنمو القدرات الابداعية وتقبلها من هذه المبادئ:
1 - احترام الأسئلة غير العادية أو الأفكار مهما بدت شاذة.
2 - ربط الأفكار باطار له معنى وهذا يساعد التلميذ على أن يدرك قيمة أفكاره ويعتز بها.
3 - تشجيع فرص التعلم الذاتي والمباداة.
4 - إتاحة جلسات تعلم ومناقشات حرة (1 ص190- 191).(/10)
ونتيجة لما سبق يرى الباحث إعادة النظر في العملية التربوية بحيث تساعد على تحسين عملية التفكير من خلال وجود (التفريق بين مجرد الحفظ والتذكر وبين الفهم وأن نسمح لطلابنا أن يستخلصوا التمثيلات من مواضيع أخرى وأن نحثهم على الربط بين رموزهم الحسية المختلفة وفتح الفرص لاكتشاف الحقائق وعدم الاكتفاء بتحفيظهم إياها ونشجعهم على اللعب بالأفكار والحقائق وألا نقتصر على مطالبتهم باعادتها فنعلمهم كيف يكونون حساسين بالمشكلات ونعلمهم أن المشكلة يكون لها عادة تفسيران وحلول متعددة وبالتالي نسمح لهم بالسير في طرق مختلفة للوصول إلى الجواب المنشود.
ثم نغرس في نفس المتعلم عادة التشكك في نقد المعلومات والآراء، ويجب أن نشجع ونستثير التفسيرات غير الاتفاقية للخبرة وأن نشجع الأفكار الجديدة والتطبيقات الصادقة ولا نسارع إلى نقدها وشجبها كما يجب أن نشجع تنمية العادات والمهارات في البحث عن الأفكار وإمكان ترابطها والاهتمام بتحقيق النتائج والتثبت من صحتها (7 ص157- 167).
2-5 صفات المدرس:
يجب أن يكون هناك مدرس مبدع حتى يستطيع تنمية روح الابداع لدى الموهوبين الشباب وأن يتصف بالصفات الآتية:
1- العقل المتسائل:
وهي صفة ولادية في المدرس المبدع تعززها التربية الباكرة وحين تكون هذه الصفة موجودة عند الطفل وبشكل يتجاوز مجرد الفضول فإن الأسرة تلعب دوراً هاماً في توضيحها وإنضاجها.
2- القدرة على التحليل والتجميع:
يصبح التحليل والتجميع عند المدرس الناجح طريقة حياة، ولمادة راسخة وتقوي التربية هذا الموقف كما يقويه التدريب. بيد أن مجرد التجميع مضر ولابد من التحليل.
3- الحدس:
هو الذي يجعل المدرس مبدعاً حقاً، لابد للحدس من مخزون واسع من المعلومات التي جمعها عقل متساءل ثم قومها وحللها فيما مضى من عمره. أن الحدس بحاجة للشجاعة شجاعة مخالفة لما هو متفق عليه، وشجاعة وضع المنطق في موضعه الحق.
4- النقد الذاتي:(/11)
يرى (براون) أن العمل المبدع وحرية العقل والنفس اللذين يقومان على الحدس لابد لهما من أن يكونا مسبوقين بالتركيز ومتبوعين به. وأن يكونا مسبوقين بالتركيز من أجل تهيئة الذات للابداع ومتبوعين بالتركيز من أجل تقويم الفكرة المبدعة وتصنيفها. وهذ يتطلب صفة النقذ الذاتي الدائم الدائب (7 ص172- 173).
إن الاهتمام في عملية إعداد المدرس المبدع الذي يتولى رعاية الشباب الموهوب ضرورة ملحة لانماء العمل الابداعي الموجود بين الطلبة الموهوبين.
(ويعتبر توجيه الموهوبين نحو الحياة والتعلم الناجحين مسؤولية هامة وصعبة ملقاة على عاتق المدرس. فلابد أن يكون مدرس الموهوبين قادراً على إشباع اهتمامهم وكشف مواهبهم ودفعهم للاعتماد على أنفسهم باستمرار كما يوجههم إلى تحري الأصالة وإلى الاستعانة بخبرات الآخرين وإلى الابداع) (9 ص75، 76).
ثالثاً: الخدمات التوجيهية والارشادية للموهوبين الشباب:
3-1 التوجيه:
لقد عرف ميلر (Milier ) التوجيه: بأنه عملية تقديم المساعدة للأفراد لكي يصلوا إلى فهم أنفسهم واختيار الطريق الصحيح والضروري للحياة وتعديل السلوك لغرض الوصول إلى الأهداف الناضجة والذكية والتي تصحح مجرى الحياة (15 ص97).
والتوجيه التربوي هو مساعدة الفرد على التوافق الذاتي والاجتماعي من أجل أن تكون لديه صحة نفسية عالية تدفعه إلى العمل المبدع.
3-2 كيفية توجيه الموهوبين الشباب:
يحتاج الموهوبين إلى رعاية تمكنهم من تنمية طاقاتهم إلى أقصى مستوى ممكن وهذا يتطلب وجود خدمات متكاملة تتجه إلى تنمية شخصية الموهوب.
وهذه الخدمات هي:
1 - إقامة مسابقات أو معارض علمية خاصة بالشباب نستطيع من خلالها معرفة، المواهب والأعمال الابداعية.
2 - تشكيل لجنة من الأساتذة المختصين في النواحي العلمية ومن البارزين مهمتها تقويم العمل الابداعي لدى الشباب وحصر إعدادهم.(/12)
3 - تزويد المدارس والجامعات بأجهزة علمية يستطيع الشباب الموهوب من استغلالها في عملية الابداع (مثل التلفزيون – الفيديو – أفلام علمية عالمية تهتم بالمبدعين والاختراعات المختلفة.).
4 - توفير مكتبة ملحقة بالمدارس والمؤسسات الشبابية مزودة بمصادر كافية، يديرها كادر كفؤ ومحب لعمله.
5 - أن نعرف الشباب المبدع بكل ما يجري في العالم من تقدم في جميع النواحي، العلمية عن طريق صحافة الشباب، (3 ص71).
6 - توفير أجواء مناسبة يستطيع المبدع من خلالها أن ينمي قابلياته الابداعية ومواهبه.
7 - إقامة دورات صيفية خاصة بالطلاب الموهوبين تحت إشراف أساتذة جامعيين في إحدى جامعات القطر.
8 - إعداد برامج هادفة لكي تشبع في الشباب المبدع رغبة حب الاستطلاع.
9 - تنمية جميع جوانب شخصية المبدع من خلال رعايتهم والعناية بهم وتوفير، الخدمات النفسية والتربوية والصحية والاجتماعية.
10 - أن نثير فيهم التفكير الابداعي من خلال الكتابة في المجلات العلمية والشبابية والمشاركة في المعارض.
11 - توفير المناهج التي تثير فيهم روح البحث العلمي وتنمي قدرتهم على التفكير الابتكاري وتوسيع المنهج ومده أفقياً وعمودياً.
12 - أن يكون الكتاب المنهجي مفتاحاً يعين الطالب على التعامل مع اختصاصه ولا يمثل الحالة النهائية بل هو أقل من الحد الأدنى لأنه لا يخلق الابداع والابتكار.
13 - التأكيد على كيفية اشتقاق المعلومات وليس على المعلومات نفسها.
14 - توفير وتقديم الإرشاد النفسي والتوجيه التربوي.
المصادر
1 - إبراهيم، عبدالستار، آفاق جديدة في دراسة الابداع، وكالة المطبوعات، الكويت 1978.
2 - الجبوري، محمود شكر محمود، من الموهوبين ولماذا نرعاهم؟ رسالة الخليج العربي، الرياض 1985.
3 - جعفر، نوري، الأساليب المتبعة في رعاية الموهوبين في الغرب وبالنسبة للمشروع العراقي، ندوة رعاية الموهوبين، مطبعة وزارة التربية، بغداد 1984.(/13)
4 - حسين، محي الدين أحمد، القيم الخاصة لدى المبدعين، دار المعارف، مصر 1981.
5 - الزوبعي، عبدالجليل وآخرون، علم نفس الطفل، أوفيست الرشيد، بغداد 1979.
6 - صدام حسين، نكسب الشباب لنضمن المستقبل، دار الحرية بغداد 1976.
7 - عاقل، فاخر، الابداع وتربيته، دار العلم للملايين، بيروت 1975.
8 - العامري، عدي، الندا، عاصم الموهوب تشخيصه، ندوة رعاية الموهوبين. مطبعة وزارة التربية بغداد 1984.
9 - كروكشانك. ن. ج تربية الموهوب والمتخلف، ترجمة يوسف ميخائيل، أسعد. مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة 1971.
10 - القاضي، يوسف مصطفى، الارشاد النفسي والتوجيه التربوي، دار المريخ الرياض، 1981.
11 - معوض خليل ميخائيل، قدرات وسمات الموهوبين دار الفكر الجامعي، الاسكندرية 1983.
12 - الشيخ يوسف محمود، عبدالغفار عبدالسلام، سيكولوجية الطفل غير العادي والتربية الخاصة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1975.
13 - Chap Lin, d. Dietonary of peyc hohgg new York 1905.
14 - The Encyclyollid of Education LEE-C. Dgheu bon edtor- in chalf polume The Macmdlan Comp anw and The free press 1977.
15 - Miller Frank w. Cuidance prime iyle and Serwui erd Edition. CHARLESE. MERRILL PUBLISHING Com 1978.
16 - Samuel Akikk- Educeting E ec lio anl Clild and Edation U.S.A 1972.(/14)
العنوان: الشباب والتيارات المعاصرة
رقم المقالة: 563
صاحب المقالة: د. محمد بن سعد الشويعر
-----------------------------------------
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي البشير النذير، سيد الأولين والآخرين، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.. أما بعد:-
فإن الحديث في موضوع كهذا، له أهمية كبيرة من حيث الاستيعاب والاستعداد، لأن ما يعترض الشباب، ويشوش أفكارهم، وخاصة في عصرنا الحاضر، الذي تكاثرت فيه التيارات المتعارضة، بحيث أصبحت الأفكار المتصارعة من نماذج متعددة، سمة من سمات العصر الذي نعيش فيه، يجب أن تؤخذ الأهبة له.
ولذا فإن على المهتمين بتأدية الأمانة العلمية والقيادية واجباً يحسن بهم أن يأخذوا الحيطة من أجله. وجهوداً يجب أن يبذلوها من أجل حماية الشباب، وتحصين عقولهم من تلك الأفكار المسلطة. وتنقية أفكارهم عن تلك التيارات الجارفة. وإحلال أذهانهم بأفكار إسلامية مكانها، حتى يكون لدى الشباب في البيئة الإسلامية مناعة في التصدي، وقدرة على المجابهة.
وهذا الموضوع في نظري هام وخطير، وأستميح القارئ عذراً فيما قد يبدر من قصور، أو يلمس من نواقص، لأن الإِحاطة بجوانب هذا الموضوع، والاستشهاد بالوقائع، يحتاج لقدرة أمكن، واطلاع أكثر.. ولذا فإن ما أطرحه في هذه العجالة، ما هو إلا جهد المقل، مسترشداً بالتعليق والإِضافة والتوضيح والإِبانة ممن له إحاطة ودراية.. ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، إذْ حسبي في هذا التعرض الحماسة والرغبة في المشاركة، وطرح الموضوع للإِبانة عن أهمية الحاجة إلى حلول مريحة، تطمئن الأمة على شبابها، وتعين في حمايتهم من المخاطر المحدقة بهم.(/1)
ذلك أن شباب اليوم يمرون بعقبات متعددة، وتحيط بهم مدلهمات خطيرة، وتكتنفهم تيارات عديدة أكثر مما أحاط بشباب الأمس، لأنه قد ركز نحوهم غزو متعمد، بقصد بلبلة أفكارهم، ونصبت لهم الشباك بطرق شتى لمباعدتهم عن دينهم، وتشكيكهم في قدرة شرائعه على حل ما يعترضهم، ومحاولة صم آذانهم عن فهم تعاليمه فهماً صحيحاً، أو أخذها من مصادرها الموثوقة.
ولذا فإن الحماية من تلك الأخطار تحتاج إلى جهد يبذل، وعمل يتواصل، وجهود تتظافر، مع فهم عميق، وإدراك وروية.
شباب اليوم انفتحت أمامهم مصادر المعرفة، وتكاثرت عليهم الآراء المتباينة. وانتشرت في ثقافاتهم الأفكار والنوايا المغرضة، التي يراد بها تشكيك المسلمين في دينهم، وانحرافهم عنه، ما بين مسموع ومرئّي ومقروء.
وقد تعددت المصادر التي تأتي منها الأفكار والعلوم، وأصبحت المعرفة الموجهة إلى الشباب ذات أبعاد متنوعة من فكرية إلى عقدية إلى مادية وابتزاز، إلى ملذات ودعوة لتسليم النفس قياد الهوى، والنفس أمارة بالسوء.
ترابطت أطراف العالم بثقافاته، وتشابكت الطرق المؤدية لذلك، وتعددت الوسائل الحاملة لهذه الثقافات، وخلف كل ثقافة بعداً عميقاً في الجذور العقدية، والمنطلقات الفكرية. وغالبها خلفه أيد نشطة تحركه وتغذّيه، وتدفع في سبيله الشيء الكثير من جهد ومال ووقت وتخطيط.
أصبحت وسائل الثقافة الموجهة، متوفرة في كل صقع من الأرض، بل دخلت كل بيت في أنحاء المعمورة، حتى أكواخ الفقراء، ومضارب البادية، وحصون النساء المخدَّرات، لقد تسربت إلى كل مكان تحركها عوامل متعداة: من نفس وهوى وشيطان.. وشياطين الإِنس أشد خطراً من شياطين الجن.
أصبحت وسائل الثقافة اليوم سلاحاً ذا حدين في التوجيه والاهتمام، وهو إن روعي فجانب خير ومفيد.. وهذا لن يتأتّى إلا بجهود مبذولة في التوجيه والإِعداد، ومغالبة للنفس في العمل، وهو قليل في أرض الله الواسعة، إلا ما رحم ربي.(/2)
وجهود أخرى في المراقبة والحيطة.. وهذا الجانب المهم، مهما بذل فيه فإن له طرقاً للإِفلات يدركها المتمرسون فيه، والمدفوعون إلى ترويجه لأي هدف، وبأي مصلحة شخصية أو جماعية.
وعندما نجيل النظر، فإننا لا نجد شخصاً لا يملك جهاز راديو، أو يحتفظ بجهاز للتسجيل، كما أن الأجهزة المرئية من تلفاز وفيديو، وغيرها قد سرت في المجتمعات الإِسلامية سريان النار في الهشيم.
أما الصحف والثقافات المتعددة، المهتمة بالصورة المثيرة، والمعلومات التي تتلاعب بأوتار الحواس عند الشباب، وتثير العواطف والشهوات، فهي المصدر المحبب إليهم أخذاً من قول الشاعر:
منعت شيئاً فأكثرت الولوع به أحب شيء إلى الإِنسان ما منعا
فكان لابد من معرفة ذلك، ثم التعرف على السبل المعينة على حماية المجتمع، وتسليح الفرد لمجابهة تلك الأخطار المحدقة والأعمال المسلطة.
فالإِنسان لابد أن يكون حذراً مستعداً للمعركة بما يناسب المقام من سلاح وقوة: قوة في الفهم والإِدراك، وقوة في الحجة ورد الشبهات، وسلاح يقارع به ما سلط نحوه، وما نصب له من أهداف، كما يقال في المثل العربي: إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب. والموجَّهُ للأمة الإِسلامية شرور كثيرة يجب أن يتقى سلاحها بالتحصن والمدافعة.. مع الحذر والحيطة.
ونستطيع أن نجمل مسارب التيارات المعاصرة في الأمور التالية:
1 - الهجمة الشرسة على الإِِسلام والعداء للمسلمين.
2 - قسر الأمور الإِسلامية حتى توافق الأهواء.
3 - التشكيك في التشريعات الإِسلامية.
4 - ما تنطوي عليه أفكار المبشرين والمستشرقين.
5 - الحرب على اللغة العربية.
6 - تسليط المغريات، والترغيب في الملذات.
7 - إظهار شعارات مختلفة لتكوِّن مجالات للترابط والتقارب مع الإِسلام.
8 - إيجاد هوة بالنفرة بين الشباب وبين قادتهم وعلمائهم.
9 - تحريك النزعات العقدية، والنزعات العرقية.
10 - تجسيم التيارات الفكرية، ونشرها وتمجيد أصحابها.(/3)
11 - تبني التيارات الأدبية بمذاهبها وأهدافها.
12 - تثبيط همم الشباب، وتشكيكهم في قدرة أمتهم الإِسلامية في مسايرة الأمم الأخرى حضارياً وعلمياً.
وسوف نمر بكل واحد من هذه الأمور على عجل، لأن الوقت المخصص لا يسمح بالإِطالة والاستقصاء لعل من معرفة الداء، يوفقنا الله للوصول إلى الدواء، واستعماله فأقول وبالله الاستعانة:
1 – الهجمة الشرسة على الإسلام: فمنذ أن أشرقت أنوار الإِسلام الساطعة في بطاح مكة والهجمة عليه وعلى رسول الهداية شرسة، ونارها مستعرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}[1].
لكنها في العصر الحاضر أخذت طرقاً أخرى كاختلاق الأوصاف والنعوت للمنتمين إليه، والحريصين على التمسك بشعائره. ذلك أن يقظة المسلمين، وعودتهم لصفاء تعاليم دينهم، النقية من الشوائب والرجوع لكتاب الله، والصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر لإِبعاد ما أدخل على الإِسلام في عصور الجهل والتقليد.
هذه الأمور تقض مضاجع أعداء الله، وأعداء دينه في كل مكان، وفي مقدمتهم إمامهم وزعيمهم إبليس اللعين، الذي أخذ على نفسه عهداً بصد عباد الله عن الطريق المستقيم، بعد ما أعطاه الله الوعد بالإِنظار إلى يوم الدين، فقال جل وعلا، على لسان عدو الله، وعدو عباده: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[2].
وفي سورة أخرى جاء قول الله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[3].
ويسهل مهمته أعوانه من شياطين الإِنس والجن، الذين: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}[4].(/4)
إذْ نلمس فيما يقدم من آراء وأفكار تنال الإِسلام وشرائعه أن خلفها اختلاقاً وترويجاً ومتابعة مصدرها اليهود منذ بعث صلى الله عليه وسلم وحتى اليوم.
ولذا فإن الشيطان يفتح لأوليائه طرقاً في الهجوم على الإِسلام بأساليب متنوعة ذات ملمس ليّن، ومخبر سيء، يخاطب بها عقولاً متباينة، فيعطي لكل عقل ما يتلاءم معه إدراكاً وتفكيراً، ويفتح له مغاليق الرغبات والنزعات، ليرضي أثَرَةً في نفس ذلك الشخص، ويحبب إليه العلوّ والتسلط.
ولذا نهى جل وعلا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن سبّ آلهة الذين كفروا، لأن هذا يدفعهم إلى التعصب الأعمى، فيسبوا الله عدواً بغير علم[5].
ومن تنزيه الله تبارك وتعالى عن سفههم المقيت، جاء الأمر الرباني بتوجيه أكرم خلق الله، والمؤمنين المتبعين له، بأن يكونوا قدوة صالحة، ونموذجاً فريداً حتى يحتذي الآخرون ذلك المنهج، فقال جل وعلا: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[6].
ولن تتوقف تلك الهجمات مادام في الدنيا خير وشر، إلا أن المسلمين يستطيعون التصدّي لذلك بفهم دينهم، حيث تنمو الحجة، لتقطع بالبرهان، والدليل القوي.
وفي هذا الموقف فإن على الشباب دوراً هاماً في تقوية الملكة: تعلماً وتدريباً وسؤالاً وأخذ منهج القرآن الكريم في التوجيه وطريقة النقاش نبراساً، ومشعل هداية. لأن في تعليماته خير مدرسة، وفي نقله صورة ما حصل من المشركين واليهود من حوار وشبهات، وإجابة على ذلك خير معين، يشد العزائم، ويقوي النفوس، فيما تريد المسيرة نحوه، حيث طرحوا أقوى ما لديهم من شبهة، دحضت بالحجة القوية والدليل المقنع.
يدرك هذا كل من لديه عقل سليم، وفهم عميق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}[7].(/5)
2 – محاولة قسر الأمور الإسلامية حتى توافق الأهواء: وفي هذا الجانب يحاول المتربصون بالإِسلام وأهله، تحريك أنصاف المتعلمين، وأرباعهم باستثارة نقطة معينة أمامهم. ليفسروا الأمور المحيطة بهم، بما تصف الأهواء، ويلين في الألسن، تقليداً لأهل الكتاب في بدء إعراضهم عما جاءتهم به رسلهم من الهداية والنور المبين، واستهانة بشرع الله، ومخالفة رسله فيما أمروا به، فيسايروهم في ذلك الأمر، ويسيروا خلفهم حذو القذة بالقذة.
والشباب تبهرهم مسارات الأمم الأخرى، وما لديهم من مظاهر براقة، فيلتفون حول كل دعوة تربط الجديد في حياتهم بالدين، والمظاهر المدنية بنصوص الشرع، وقد لا يميزون بين الصحيح المقنع، والغريب المتكلف. ففي فترة من الزمن برزت على الساحة الثقافية كتب كثيرة تمجد الاشتراكية وتصفها بأنها من الإِسلام، وأن الدين الإِسلامي يدعو لها، وقد أخرِجَتْ كتبٌ باسم أبي ذر الغفاري ووصفه بأنه أول اشتراكي في الإِسلام، وقسرت دراسات وأفكار لتتفق مع ما يدعو له زيد وعبيد، لشحن الأذهان بأن ما دعا إليه هو متلائم مع الإِسلام، وضربت النماذج برجال من الزهاد وأهل الورع والتقى كأهل الصفة الذين منهم أبو هريرة، وبمكانة بعض الصحابة كبلال ومصعب بن عمير وغيرهما.(/6)
وما أكثر اغترار شباب ذلك الجيل بالعبارات المنّمقة والأساليب الخدّاعة، والتأثر بالأسماء اللامعة من الأدباء والعلماء الذين كتبوا وشجّعوا. وكأنه قد خفي على هؤلاء وأولئك منحى الإِسلام في تصريف المال، وطريقته في حماية الفرد والجماعة وما تعنيه اشتراكية كارل ماركس اليهودي، من أمور أساسها وقوامها فكرة الإِلحاد في العقيدة، وإنكار وجود الله جل وعلا وتقدّس وتعظم، عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ويستطيع الشاب اليقظ أن يدرك حقيقة ما يطرحون لأنهم يسمّونه نظرية، والنظرية تعرف بأنها ما يقبل الخطأ والصواب، أما المسلم فيعتبر القرآن والسنة في الشريعة حقيقة لا يتطرق إليهما الشك. فالحقيقة تنفي النظرية والشباب في كل عصر ومصر تتجدد أمامهم أمور، ينبري لتبنيها أصحاب الأهواء، وتنطلي بمظهرها على ضعاف الثقافة، وبسطاء الإِدراك.
والحق لا يتبع الأهواء، ولا يخضع للرغبات الشخصية، كما قال جل وعلا: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[8].
والجهلة من العلماء أو المتجاهلون، هم المطيّة التي يركبها أعداء الله وأعداء دينه وفي مقدمتهم اليهود، لتحقيق المآرب، وهم الدمية التي تحرك من وراء الستار لتدار في الاتجاه الذي يريده المتخفِّي. لأن أعداء دين الله يدركون عدم قبولهم في المجتمع الإِسلامي، وعدم الإِصغاء لما يقدمون من وجهة نظر، بل العكس محاربة كل ما يأتي عن طريقهم ومقته، كما قال بذلك أحد المستشرقين عندما حاول دراسة نفسيات المسلمين في دولة أفريقية فقيرة.(/7)
ولقد استغل هذا المركب الاستعمار في بعض ديار الإِسلام، فارتفع قدر الدور الصوفي وزاد الاهتمام بالطرقية في البلاد التي دخل، وشجعت الفرق الصغيرة الخاملة لتكون ذات صوت إسلامي كالقاديانية والبهائية وغيرهما، ووجدوا في الشباب خير معين في تحقيق الهدف الذي قصدوه: لحماستهم، واندفاعهم، وسطحية ما لديهم من معارف وعلوم. فأصبح البغاث مستنسراً في ديار الإِسلام، ونجح أعداء الله في تغذية مجال التنافر والتناحر بين المسلمين، وهم بذلك مدركون حقيقة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من إدراك المسلمين له، وذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة: سألت ربي ألاّ يهلك أمتي بسنة عامة، فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها وسألته ألا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها" أخرجه الترمذي ومسلم عن خبّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه.
3 – التشكيك في التشريعات الإِسلامية، وفي قدرتها على مواءمة الحياة الحاضرة: بحجة أن العصر قد تطور، وأن متطلبات الحياة، وأسلوب تعامل الناس فيها، يدعو إلى الأخذ بما في حياة الأمم من أسلوب في التعامل القانوني والربوي والاجتماعي والإِداري والتربوي، وتنظيم الضرائب والغرامات والتأمينات إلى غير ذلك من أمور حسبها أصحابها جديدة، وأن الإِسلام بعيد عن الأخذ بها، لأنهم لم يفهموه، وقصر بهم علمهم عن استظهار ما تنطوي عليه شريعة الإِسلام من أمور تحل بها المشكلات الاقتصادية وغيرها مما بدأ وسيجد في تنظيم الحياة، وتسيير أمور الناس فيها، وغاب عنهم مفهوم قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[9].(/8)
وشمولية هذا الدين الذي جعله الله خاتم الأديان، في حل كل معضلة تعترض أو مشكلة تنشأ فوصفوا الإِسلام وتشريعات الله فيه، بما وصفوا به دياناتهم النصرانية واليهودية وغيرهما، مما دخلته يد الإِنسان تعديلاً وتبديلاً. وهم بذلك يريدون إلباس الثوب الجاهز في انتقاداتهم لدياناتهم وتصرف رجال الكهنوت فيها وتعديلات العلماء ورجال الدين في تشريعاتهم وما أنزل عليهم من كتب، برسالة الإِسلام والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وما جاء في القرآن الكريم الذي حفظه الله من العابثين، وحماه من أصحاب الأهواء. فهم قد وجدوا في أحبارهم ورهبانهم صفات وأعمالاً متباينة، جعلت العقلاء والمفكرين يعددون مآخذ كثيرة مما أوجد في تاريخهم الطويل – لمن يقرؤه – ثورات متعددة على الكنيسة وحماتها، والمنتفعين من ورائها.. بدءاً بمحاكم التفتيش والتسلط ونهاية بالثورة العلمية، حيث اتجهت أفكار شبابهم إلى المبادئ والأيدولوجيات المختلفة من: علمانية في العقيدة، ورأسمالية في المال والعمل، إلى إلحادية في العقيدة واشتراكية في المال والتوجيه.. ثم تبع ذلك أفكار ومبادئ متعددة كالماسونية والوجودية وغيرها كثير، ((إذ خلف كل مبدأ غاية وهدف يرمي إلى جذب المنتمين إليه))[10].
وما ذلك إلا أن عقولهم كانت فارغة من الإِيمان بالله، ومما تعنيه قوة الإِيمان، وناقصة في فهم العقيدة الصافية الصادقة بتوجهها لله، حيث يحث على ذلك الإِسلام وتجعل تعاليمه سياجاً يحمي النفوس من المؤثرات.
وإذا كان قد جاء في المثل العربي: كل إناء بالذي فيه ينضح، وقولهم: كل ينفق من معين داره.. فإنما يتحمسون له من باطلهم، جعلهم يلفقون التهم حول الإِسلام تشكيكاً وافتراء وتهويلاً، وتلبيساً على الذين لا يعرفون شيئاً عن تعاليم الإسلام وأثرها في حياة الفرد ونماء المجتمع، واستقامة شئون الحياة.(/9)
في الوقت الذي انساق معهم ضعاف القدرة العلمية، والتمييز والإِدراك، لأبعاد ما طرح أمامهم، كجزء من الاستجابة للتيارات الموجهة.
ووافقهم عليه المنبهرون بمظاهر حضارتهم، المنخدعون بلحنهم في القول، وما جسّموه من أوهام، في مثل نعتهم آثار الحدود الشرعية في الإِسلام: في الزنا والسرقة، والقذف، وشرب الخمر والردة عن الإِسلام وغيرها بنعوت عديدة كالقسوة والظلم والوحشية، وأن البدائل التي لديهم أرحم وأكثر التصاقاً بالإِنسانية، وتوجيهاً للمنحرف.
ودورنا في هذا هو تعبئة أذهان الشباب وثقافاتهم، بالنظرة الشمولية من الإِسلام، واهتمامه بحفظ الفرد والجماعة، وصيانة الأعراض والأموال، بوضع الحواجز التي تردع جماح النفوس، وتحمي الحقوق عن التعدي أو التطاول، ومناقشتهم من المنطلق الذي يعرفونه بآثار الجريمة والاعتداءات في ظل نظام الإِسلام، بعد مقارنتها بما لديهم في بيئاتهم، إذ جعل الله لكل تشريع حكمة وغاية.
والشباب هم الأرض الخصبة لهذه الشبه، وهم أيضاً الدرع الواقية، إذا عرفوا وأدركوا نظرة الإِسلام لهذه الأمور، ليذبّوا عن دينهم شبهات المبطلين، ويحموا مجتمعهم من نفثات المغرضين الحاقدين، ويوضحوا لغيرهم خفايا ما يقال حول الإِسلام، إذا صدروا في فهمهم عن علم حقيقي مستمد من الفطرة الإِسلامية الشمولية لكل أمر يطرح.
4 – ويدخل في النقطة السابقة: ما تنطوي عليه أفكار المبشرين، وما تنفثه سموم المستشرقين: نحو تراث الإِسلام، وما جاء في تعاليم الإِسلام بمصدريه، حيث نلمس أمثال ذلك عند: غوستاف لوبون الفرنسي، وجولد زيهر الألماني، وصموئيل زويمو القسّ الانجليزي، الذي قيل عن أصله بأنه يهودي، ووول ديورانث صاحب قصة الحضارة، وغيرهم كثير.. أوائلهم وأواخرهم من الذين هاجموا الإِسلام وأرادوا تقويض دعائمه بكل ما أوتوا من قدرة علمية[11]، في الكتابة والتدريس وفي المناقشة، ووضع الشبهات أمثال:(/10)
- تعدد الزوجات، ووصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن جاء بعدهم بنعوت منها الشهوانية والتلذذ، وامتهان كرامة المرأة.
- إطلاق الحرية للمرأة بالاختلاط في العمل، والعلاقة بمن تشاء، والتصرف بنفسها بما تريد مادامت تجاوزت الثامنة عشرة، ووصفهم الإِسلام بالتحجير والتضييق على حركة المرأة وفكرها.
- اتهامهم عائشة رضي الله عنها بالفحش رغم أن القرآن الكريم برأها، كما هي تهمتهم من قبل لمريم عليها السلام، واختلاق الأكاذيب حول مواقف إسلامية لكثير من القادة الإِسلاميين كخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم.. والكذب في سير حياتهم بأن رغبتهم في القتال أساسه الحرص والاهتمام بالحصول على نساء من يقاتلون، بحيث يطرحون شبهاً حول شرعية الجهاد وتحويله إلى رغبات شخصية لا حباً في نشر دين الله، وإعلاء كلمة التوحيد، ومحاربة ما نهى الله عنه من عقائد ومعتقدات.
- إشاعتهم أن الإِسلام لم ينتشر إلا بالسيف والقوة، واصفين المجاهدين في سبيل الله بحب القتل من أجل التسلط والسيطرة وكسب المغانم، ووصفهم الحدود الشرعية بالقسوة وامتهان كرامة النفس البشرية.
- ترغيبهم في الخمر والزنا واللواط، وأن ذلك لم يحرم في الإِسلام إلا لسبب انتهى وقته، وزالت المؤثرات الداعية إليه.
- تشكيك أبناء المسلمين ممن يسافر إليهم للدراسة أو العمل أو السياحة حول لحم الخنزير، وأنه حرم في الإِسلام لعلة صحية أمكن السيطرة عليها بالطب الحديث، وأساليب الطهي والتعقيم.(/11)
- فريتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تعلم على أيدي اليهود والنصارى في الشام والمدينة، وأنه استقى ما في القرآن الكريم – الذي يصفونه بأنه كتاب ألفه محمد. كما ذكر ذلك صاحب المنجد وغيره – من علومهم متأثراً بما تلقى عنهم، حيث جاء من أكاذيبهم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم تعلم على أيدي اليهود والنصارى ليوهموا من يقتنع بكلامهم أن الدين الإِسلامي تبع لدياناتهم، وأن القرآن الكريم أصله ما في أيديهم من التوراة والأناجيل المحرفة، ومن هذا الكلام يتوصلون إلى الاهتمام بالأصل وترك الفرع، الذي يعنون به القرآن الكريم. وصدق الله جل وعلا في قوله الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}[12].
- تشبيههم حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما يأتيه الوحي بالمصروع أو بمن مسّ من الجن. وهذا من المساس بالوحي وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقصد الإِنقاص من مكانتها في النفوس.
- تشويههم لتاريخ الإِسلام، ووصفه بنعوت منفِّرة ومشككة في صحة نوايا قادة الإِسلام وعلمائه، كوصفهم لهارون الرشيد بأنه زير نساء وتجسيمهم الرقّ في الإِسلام، وخوضهم في سير رجالات الإِسلام بإدخال هنات تقدح في شخصياتهم، وتجسيمهم الأخطاء، وتعمد الكذب في هذا التاريخ بما يدسونه من أمور تختلف من عصر إلى عصر حتى نهاية الدولة العثمانية.
- حرصهم على إشاعة ونشر كتب السحر والمجون والطرق الصوفية، والقصص الخرافية، والموسيقى وأنواع الغناء، وإبراز ذلك على أنه تراث إسلامي، وجعل ذلك مجالاً للقدح في حضارة العرب وتاريخ الإِسلام.(/12)
- سرقة تراث المسلمين وكتبهم، وما تنبئ عنه من علومهم المختلفة، وتسمية ذلك لرجال منهم، ونسبتها إليهم اختراعاً وتأليفاً وفكراً. كما في الدورة الدموية لابن النفيس، وطب الأطفال لابن ربن، وعلاج الشقيقة وغير ذلك من العلوم المختلفة، وخاصة العلمية منها[13].
- دسهم الكثير في تاريخ الدولة الأموية، وأجزاء من تاريخ الدولة العباسية، وبث المعلومات الملفقة لتشويه سمعة الدولة العثمانية ليبرروا التعدي عليها وتقسيم ممتلكاتها غنيمة بينهم من جانب، ولتحقيق أطماع اليهود في إيجاد موضع استيطان كنواة لدولتهم، حيث عارض السلطان عبدالحميد في الموافقة على إعطاء وعد بذلك على أرض فلسطين لتكون مقراً لدولة اليهود.
- إلى غير ذلك مما يلمسه من يتتبع دراساتهم وتحليلاتهم عن مجريات الأحداث التاريخية، وآراءهم في وقائع الأمة الإِسلامية، ونظرتهم إلى المجتمعات الإِسلامية مبثوثة في وسائل الثقافة المختلفة.. وتطرح أمام الشباب شبهات تشكك، أو ثقافة مدسوسة. فيجب تهيئة النفس لإِدراك كل ما يطرح، وتحضير الإِجابة المسكتة من المعلومات الصحيحة الكاشفة لما وضعوه.
ولن يكون الجواب مهيئاً إلا بثقافة جيدة في التاريخ الإِسلامي، ومعرفة حقيقية لتراث الإِسلام ومكانة رجالات الأمة، وذلك بتوسيع المدارك، واستقصاء المعلومات والسؤال والمناقشة. فثقافة الشاب ليست حصيلة يوم أو يومين، ولكنها مرحلة طويلة تحتاج إلى صبر واستيعاب، وحسن اختيار، حتى لا يضيع العمر في أمور غير نافعة.. وإن من نباهة الشاب أن يكثر المساءلة عن النافع مع من تقدموه عمراً وعلماً وتخصصاً.. فالعلم لا يناله مستحٍٍ ولا متكبّر.(/13)
5 – محاربة اللغة العربية بمحاولة نزعها من ديار الإِسلام وتجسيم صعوبتها نطقاً وإدراكها فهماً، وذلك لأنها لغة القرآن الكريم، الرابط المتين بين المسلمين في أي مكان. واستبدالها بلغة المستعمر بحجة الضرورة للتنظيم وسهولة التفاهم والتخاطب، مع الاهتمام باللهجات المحلية، وتنمية العامية في ديار العرب، حتى ينفصم الشباب المسلم في كل مكان من إدراك المعاني العميقة في دينهم، فيسهل توجيههم إلى كل ما يريده الأعداء من ثقافات وعلوم، وربطهم فكرياً باللغة التي فرضت عليهم، كما يتيح هذا العمل فرصة لدخول التبشير في صفوفهم لخلو الأذهان من السلاح المضاد.
ولقد بلغ الأمر في صرف الشباب عن اللغة العربية إلى إيجاد جوائز للآداب الشعبية والأدب العامي، وتشجيع هؤلاء الشباب بتنظيم اهتمامات علمية بالدراسة والتأليف في اللهجات وخلفياتها، وجائزة سعيد عقل نموذج لذلك.
وقد ظهر مثل هذا العمل مصاحباً لإِثارة النعرات الإِقليمية والقبلية في كثير من ديار الإِسلام، فوجد من يتعصب للعامية، وينمي آدابها ولهجاتها، ويهتم بجذورها، ويدعو إلى التخاطب بها والكتابة بها.
كما وجد من يدعو إلى استبدال الحروف العربية بالكتابة، إلى الحروف اللاتينية حيث نجح عملهم هذا في تركيا وأندونيسيا وغيرهما، باستبدال الحرف العربي الذي كانت تكتب به هذه اللغات إلى الحروف الإِفرنجية.
كما حرصت كل أمة من الأمم على إنشاء معاهد لتسهّل بذلك دراسة لغاتها في ديار الإِسلام، ويسّرتْ على الشباب هذه الدراسة وما تتطلبه من كتب وأجهزة وتبسيط في التعليم، سواء في بلد الشاب أو في بلد الدولة الأم لهذه اللغة، ثم تحبيبهم في هذه اللغة التي ارتبطوا بها: محادثة وكتابة وسماعاً بتوفير كل الأسباب الرابطة للشاب بهذه اللغة بالإِهداء أو تسهيل مهمة السفر، أو بالمغريات الأخرى، والمتابعة بعد ذلك، أو بوسائل الإِعلام.(/14)
وهذا كله من أجل إضعاف صلة الشاب باللغة العربية لغة الدين والثقافة، لغة القرآن والنور اليقين، ليتجزأ العالم الإِسلامي، وليضعف الرابط المتين، الذي يشده للوحدة والتماسك.
ثم يسلكون طرقاً أخرى في تجسيم صعوبة قواعد العربية وفروعها وألفاظها. وعدم القدرة على استيعابها، وأن الواجب ترك ذلك لأهل الاختصاص مستشهدين على ذلك بحالات شاذة في هذا الصدد كقرينة على ما أرادوه.
ذلك أن من كَلُفَ بشيء اهتم به، ومن اهتم بشيء أنساه ما سواه، وهدفهم الاهتمام بلغاتهم لربط شباب المسلمين بثقافاتهم وأفكارهم، وإنسائهم ما له صلة بدينهم، وجذور تاريخهم وأمجادهم.
وهم في هذا التوجيه يتحصلون على هدفين رئيسين:
1 - تفريغ العقول من الأمور الهامة التي تربط بالدين الإِسلامي.
2 - سهولة جذب شباب المسلمين إلى معتقداتهم وأفكارهم.
والثاني لا يتحقق إلا بالأول، وهم في غزوهم هذا لا يطمعون في تحويل الجيل الأول من المسلمين إلى معتقداتهم، لأن هذا مستحيل حسبما أدركوه عملياً، وهو مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي والنسائي، وجاء فيه أن المسلم لا يرجع للكفر بعد أن أنقذه الله منه، حتى يعود اللبن في الضرع.
فقد قال أحد المنصرين[14] إنه لا يشرفنا أن يدخل المسلم في المسيحية بعد أن ترك دينه الإِسلامي، لأن من ترك دينه لا خير فيه، ولكن أهم ما يجب عمله هو أن نشكك المسلم في دينه، حتى يكون خالياً من الدين، ثم نجذب الجيل الثاني بعد ذلك لديننا.(/15)
6 – تسليط المغريات والترغيب في الملذات: وهذا مدخل من مداخل الشيطان حيث يسلط أعوانه لاقتناص الفرص لمعرفة نقاط ضعف النفس البشرية، وإيقاعها في الموبقات التي نهى الله عنها فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأن الجنة حفت بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات[15] ونحمد الله أن ديننا الإِسلامي لم ينه عن الزينة، ولا عن التمتع بالطيبات من الرزق، ولم يأمر الله المسلم بترك الحلال مهما كان نوعه، أو الزهادة فيه مادام مصدره طيباً، ولا يتعارض مع نص شرعي بالتحريم أو الإِباحة كما قال جل وعلا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[16].(/16)
ويأتي من تسليط المغريات، ترغيب الشباب في الغناء والرقص، وربطهم بالموسيقى والتصوير وغيرها، بحجة أنها مواهب يجب أن تنمَّى، وطاقات يجب الاستفادة منها، تقليداً لما هو سائد في بلاد غير المسلمين، فهم لا يرِّغبون في الحلال وإنما يدفعون بالمغريات، ويحببونها إلى النفوس لتأنس إليها، وترتاح لعملها بأساليب مختلفة، لتقع فيما حرم الله، وفيما نهى عنه شرعه الذي شرع لعباده، والتماس الأعذار والتسويفات لإِماتة القلوب، حتى لا تبتئس بما تعمل، ويقل إحساسها عما فعلته، ومن ذلك قولهم بأن الموسيقى تفيد في علاج بعض المرضى، وتعين النساء على تسهيل الولادة وغير هذا مما نسمعه ونقرؤه في بحوث، يلمس منها تحليل ما حرم الله من الشهوات وتهوين عقابها. ولاشك أن النفوس قد حبب إليها كل شيء ممنوع، ويكون لطعمهِ مذاق خاص، إذا تعاون على ترغيبه في النفس الأعداء الثلاثة: النفس الأمارة بالسوء، والهوى الذي يعمي ويصم، والشيطان الذي نذر نفسه لإِغواء الإِنسان، وإبعاده عن طريق الرشاد والفلاح. وأعوان الشيطان من الإِنس أشد خطراً من جنوده من الجن؛ لأن الجن يطردهم تكرار ذكر الله، أما الإِنس فلابد من مجاهدتهم بالعلم القوي، والإِيمان الراسخ، والفهم العميق، والحجة الداحضة، وفي مقدمة ذلك مدافعة النفس ومحاسبتها، وردعها عن غيها كما قال الشاعر ((البوصيري)) في حكمته:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم(/17)
فإذا تعاون مع النفس والهوى والشيطان جماهير من البشر يسلطون غزواً من المغريات التي تتوق إليها النفوس، وسلكوا في هذا السبيل ألواناً عديدة وجذابة، وزينت المداخل لذلك بطرق متنوعة تفتح مغاليق النفس.. ثم أمام هذا لم تكن هذه النفوس محصنة بسياج إيماني يحميها، ولا بعلم قوي يوضح لها، فهي بلاشك سوف تنهار أمام المغريات، وتجبن على الصمود أمام الملذات، وأعداء الله وأعداء أمة الإِسلام يحرصون في الدرجة الأولى على غزو الشباب بهذه المغريات، وتكسير حدة المنعة لديهم، لأنهم درع الأمة القوي وسبيل التغلغل إلى مختلف حصون المجتمع المنيعة. وما ذلك إلاّ لأنهم يهدفون من مغرياتهم تلك لأمور كثيرة منها:
- المكسب المادي: إذْ الغاية عندهم تبرر الوسيلة، وأمثال هذه الأمور ذات مردود كبير، ولذا تجد أن المخططين لها، والعاملين فيها من اليهود، سواء كانوا أفراداً أو جماعات منظمة، واليهود قد عرفوا بأنهم عباداً للمال، ولا يهمهم الطريق الموصل إليه، لأن الغاية في نظرهم تبرر الوسيلة.
- إفساد شباب المسلمين وإبعادهم عن دينهم بالانشغال بأمور ينهى الله عنها، حتى يرفع عنهم عونه وتأييده، فيسهل على العدوّ السيطرة على أمتهم من مداخل الضعف التي فتحتها المغريات والملذّات، كما جاء في الحديث القدسي: "من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني"[17].
- الهدف العقدي بإفساد الأمم.. وهذا منهج صهيوني يهودي تحركه أفكار، وتعمل فيه منظمات تبذل الكثير من ربحها في تحقيق المطلب، ذلك أن من وقع في الرذيلة لا ترتاح نفسه حتى يوقع الآخرين معه.
- التسلط والسيطرة، ولا يتحقق هذا إلا مع الهدفين الأولين، فالعقيدة غاية، والمادة وسيلة، أما التسلط والسيطرة فنتيجة لذلك.(/18)
من هنا نلمس أنهم أوجدوا لذلك في تياراتهم الموجهة مسارب عديدة، ومطايا مسرجة، كلها مهيأة للوصول للغاية المرسومة، بأساليب ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها يحمل السم الزعاف، توجه للمجتمعات الإِسلامية في كل مكان تحت غايات مختلفة مثل:
الترويح عن النفس، شغل الفراغ، التكريم، إحياء التراث، الفنون الشعبية، مسايرة الأمم الأخرى. وغير ذلك من التفنن في الأساليب المؤدية للغاية، والشباب هم أول من توجه هذه الأمور إليه، ويخاطب بها عقله قصداً، لأن انغماس الشباب مكسب للإِغواء، وطريق للموافقة عن بُعد مرماهم، ولا سبيل لإِحباط هذه الأمور، وتعثر ما أرادوه بالأمة الإِسلامية، إلا بوضع بدائل تمتص وقت الشباب، وتقضي على فراغهم، وتستهلك طاقاتهم، وتفتح آفاقاً لمواهبهم: عملاً وتسلية وإرضاء نزعات، وفي منهج الإِسلام وتنظيمه لحياة الفرد، وتوزيع الجهد بين العمل النافع، وتنمية المهارات ما يحقق الهدف الذي ينشده الحريصون على حماية شباب الإِسلام من المنزلقات. إذْ منهج ديننا بأن: صنعة في اليد أمان من الفقر، وخير العمل عمل داود، كان يأكل من عمل يده.
والتركيز على عمق دلالة هذا الحديث: الذي رواه أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه" أخرجه الترمذي.(/19)
وإن من سلاح الشباب في محاربة هذه الأمور، تحبيب شرع الله الذي شرع إلى نفوسهم، وتمكين العبادة من حواسهم حتى يشعروا لها بطعم خاص، كما روي عن مالك بن دينار في دعائه: اللهم أذقني حلاوة الإِيمان. فإن للإِيمان حلاوة تمد النفوس بقوة، تقف دون تقبلها لما يسلط عليها من ملذات، وما يوجه إليها من مغريات أو يحبب إليها من شهوات، والإِيمان القوي هو الذي يدفع نفوس الشباب للعمل والفهم العميق، ووضع السبل القديرة في مجابهة ما يسلط عليهم، بإدراك أبعاده والابتعاد عنها.
7 – إظهار شعارات مختلفة تتجدد في كل عصر بمسميات متباينة، بدعوى الترابط مع الإِسلام، وجذب فئة من أهله إلى دعواتهم للشعارات والمسميات والجمعيات، ذات الأهداف البعيدة: فقد لمسنا في قرننا الحاضر، بل وفي السنوات الأخيرة، دعوات جديدة للتقارب مع المسلمين، ومحاولة جذبهم إلى الزعامة اليهودية أو الزعامة النصرانية في العقيدة، وتجميع الديانات الأخرى من وثنية وإلحادية مع الإِِسلام، تحت مظلة هؤلاء تارة، وقيادة هؤلاء تارة أخرى، لإِِشعار الأمم الأخرى بأن الإِِسلام منظوٍٍ تحت تبعية هذه الزعامة لتي يتحمس لها قادتها من يهود ونصارى، وهدفهم من هذا أن يقولوا: بلسان الحال، أو منطق المقال، بأنهم على حق وغيرهم – ويعنون بهذا الغير الإِِسلام في الدرجة الأولى – على باطل، وإذا حصلت القناعة بأنه على باطل فإن أهله دعاة لهذا الباطل حسب مفهومهم، أو ما يريدون إقناع العالم به.
والشباب هم الغرض المرمي في هذا الأمر، وهم الجهة المخاطبة بما أطلق من شعارات، أو قصد من أهداف، لأن بقناعتهم يمكن بث الفكرة وترويجها، بل وإدخالها للمجتمع الإِسلامي نفسه.(/20)
ويبرز هذا الاتجاه في مؤتمرات وندوات دعي إليها كثير من المسلمين، ووجهت إعلامياً لجذب المسلمين على الخصوص، واستقطاب اتجاهات الشباب بالذات، باسم التقارب، والقضاء على المشكلات العالمية، موهمين من يخاطبون بأن المشكلات سطحية يمكن السيطرة عليها، والتغلب على مسبباتها، متناسين أن الخلاف بين هذه الطوائف وبين الإِسلام خلاف عقدي، لا ينهيه إلا إدراك مفهوم شرع الله والعمل بموجبه، وفي مقدمة ذلك إخلاص الوحدانية لله بإدراك ما تنطوي عليه كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، من عمق الدلالة، وسلامة المقصد، ونبل الاتجاه، وصدق التوجه.. وجعل الحوار للتقارب ضمن مفهومها، وعمق معناها وأن ما أحدثوه من شعارات لا تحقق شيئاً، لأنها بعيدة عن الالتقاء مع مفهوم كلمة الإِخلاص: لفظاً ومعنى، حيث برز ذلك البعد في نداءاتهم إلى:
1 - المؤمنون متحدون: وهي جماعة عالمية للمؤمنين بالله يتزعمها البابا، وقد تأسست في شهر مارس من عام 1987م بهدف جمع الديانات بما فيها الإِسلام، تحت مظلة النصرانية بزعامة البابا.
2 - اللقاء الإِبراهيمي: الذي دعا إليه قبل الجارودي – المسلم الفرنسي – يهود فرنسا، وأوروبا بتجميع الأديان في الديانة البراهيمية نسبة لإِبراهيم الخليل عليه السلام الذي يرى اليهود أنه جدهم وحدهم وليقولوا للناس بأننا الأصل فعليكم أن تتبعونا، وقد عقد في فبراير من 1987م في قرطبة بأسبانيا.
3 - صلاة البابا المشتركة التي أقيمت في قرية أسيس في 27/10/1986م، الذي اخترعوا فيه صلاة ونشيداً ليكونا مشتركين بين جميع الأديان، وفي حقيقة أمرهما أنهما على طريقة وعقيدة النصارى، وقصدهم من ذلك تحويل العالم للنصرانية بما فيهم المسلمون.
4 - نادي الشباب المتدين الذي أقيم صيف عام 1987م.(/21)
5 - جمعية ((الناس متحدون)) أقيمت في شهر ابريل سنة 1987م، وهي تالية لتأسيس الجماعة العالمية للمؤمنين بالله ((رقم واحد هنا))، التي أنشئت قبلها بشهر واحد، لتقطع الطريق على جماعة الموحدين، الذين بدأ صوتهم يرتفع في أمريكا، حيث تقارب بعضهم مع المسلمين هناك لأنهم لا يؤمنون بعقيدة التثليث.
وغير هذا من المسميات التي قصد بها عدم تنفير شباب المسلمين في صحوتهم الجديدة، حسبما يرى من تواريخ تأسيس هذه الجمعيات، التي زامنت رغبة الشباب في العالم بأسره لمعرفة دين الإِسلام والتعمق فيه، ودخول مجموعات كبيرة من شباب الغرب فيه عن قناعة ودراية، ودفاع بعض المفكرين في ديار الغرب عن وجهات نظر إسلامية ارتاحوا إليها فإذا ضمنوا مشاركة شباب وعلماء المسلمين في أمثال هذه اللقاءات التي يديرها ويوجهها مفكرون ورجال دين من اليهود والنصارى، كان هذا أكبر دليل على أحقية باطلهم الذي يدعون إليه، وأشعروا الآخرين بأسلوب عملي بعدم الفائدة من العمق في الإسلام وتعاليمه، لأنه لا خلاف بينهم وبين تعاليمه وتشريعاته.
ثم يخلصون في دعوتهم هذه إلى أن البابا، هو القادر على توجيه هذا اللقاء، وهو المهيأ له لأنه حامل رسالة السلام للبشرية جميعاً كما يقولون في ابتهالاتهم.
وبهذا الأسلوب لا يصبح شباب الإِسلام ومفكروهم أنداداً في التوجيه والمقارعة. بل أتباعاً لا يتحرجون من لقاء اليهود بل وزعماء الصهيونية، ولا من الاستفادة والتبعية من النصارى، وحملة رايات الصليب، والديانات الأخرى من وثنية وإلحادية وذلك على مستوى الأفراد ثم المؤسسات الإِسلامية.(/22)
وهذا من أول الخطوات لهدم جدار العقيدة الذي يتحصن به الشباب في ديار الإِسلام وصدق الله إذْ يقول في تصوير دخائل نفوس أهل الكتاب: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَو يُحَآجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[18].
لأنه يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، ولأنهم لن يرضوا عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يكونوا لهم من التابعين.
ودور المفكرين والعلماء من المسلمين، إدراك هذه الحقائق، وعدم الاستسلام لما يعرضون عليهم، أو المشاركة في المناقشة الواعية لفضح أعمالهم، وإبانة وجهة نظر الإِسلام فيها، وكيفية معالجته للأمور، بما يسعد النفوس، ويعلي مكانة المجتمعات ويحقق الأمن والرفاهية للجميع في ظل عدالته، ونظرته للأمور قاطبة.(/23)
8 – إيجاد هوة بالنفرة بين الشباب: وبين علمائهم وولاة أمورهم: ويدخل في هذا حقوق الأبناء لآبائهم، وعدم امتثال الطالب توجيهات مدرِّسه، وذلك بتفسير الأمور على غير وضعها، وتجسيم الصغائر، واختلاق أشياء لا أصل لها، حتى يحدثوا هوة بين الشباب وولاة أمرهم، فيفقد التعاون، ويقل السمع والطاعة. وهذا فيه فساد للمجتمع لأنه مخالفة لمنهج القرآن الكريم، وما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بوجوب السمع والطاعة لأوامر الله، وتوجيهات رسوله وطاعة من ولاه الله أمور العباد، فانتظام الحياة الاجتماعية، والأمن لا يتمان إلا مع الانقياد الذي أمر الله به. فقد تكرر في كتاب الله الكريم، الأمر بطاعة الله، وطاعة رسوله، أكثر من عشرين مرة.. مما يدل على أهمية الطاعة ومكانتها في الإِسلام.
فولاة الأمور جعلهم الله حماة لشرعه تعليماً وتوجيهاً وقدوة وتنفيذاً. وفي كل شريعة الإِسلام يؤدي العالم والوالد والمعلم والولاة أعمالهم بأمانة وإخلاص، ومن مفهوم الشريعة أيضاً يعرف كل شاب ما يجب عليه تجاه هؤلاء من السمع والطاعة، وحسن الأدب، وأداء الواجب، وحسن الأخذ والاستجابة.
وبذلك ينتظم المجتمع وتسعد الأمة جمعاء.. لأن أمر الله واجب، والاستجابة لرسوله الكريم في دعوته من أسس الإِسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد والعمل. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[19].
ويقول سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[20].
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله" رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه.(/24)
وأعداء الله، وأعداء دينه، هم أعداء المسلمين، يريدون بعملهم الموجه ضد المسلمين بث الفوضى في المجتمع الإِسلامي، وشق عصا الجماعة، وإثارة هذا كمشكلة لدى الشباب، ليتحول مجتمعهم إلى الفوضى والبلبلة، حتى يسهل التغلغل فيه، والسيطرة عليه، عندما يبتعد أبناؤه عن أوامر ربهم، بما شرع لهم من وجوب السمع والطاعة للقيادة، والنصح لها، والتعاون معها.
وما كان ديننا الإِسلامي ليؤكد على السمع والطاعة إلا لأن قوام المجتمع وسلامته بالسمع والطاعة، فإذا كان أقل الجماعة اثنين فإنهما في السفر لابد أن يؤمرا أحدهما، وعلى الآخر السمع والطاعة، فعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" رواه أبو داود.
كما أن هذا الدين يركز على أهمية الجماعة في الصلاة، وهي عبادة بين العبد وخالقه، فيحث على الجماعة، وأن ينقادوا مع الإِمام، يقول صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً" وفي رواية فلا تختلفوا عليه. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والصلاة توطن النفوس عملياً على ما يجب أن ينقادوا فيه مع قياداتهم استسلاماً وتنفيذاً، وتعويد الأطفال عليها منذ حداثة أعمارهم تنمي عندهم الولاء والطاعة عندما يكونون شباباً، وتحبب إليهم في سن التكليف مع الحرص على فهم ما تنطوي عليه من خيرات ومصالح. فهي تؤصل الطاعة والانقياد لولي الأمر.(/25)
ووجوب التمسك ببيعة ولي الأمر والسمع والطاعة له، وعدم الخروج عليه من الأمور التي تؤصلها عقيدة الإِسلام، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة منها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بايع إماماً فأعطاه صفقة يمينه وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه[21].
والذي يجب أن يدرك الشباب خاصة وغيرهم عامة أن لزوم الجماعة في البيئة الإِسلامية جزء من العقيدة التي يجب أن تؤصل في النفوس، حتى لو بدر من القيادة ما يكرهه المرء، مما يحرص أعداء الأمة الإِسلامية على تجسيمه سواء كان له أساس أو مختلق، مما يقصد من ورائه التفريق، وإذكاء النزاعات، وإفساد المجتمع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية"[22].
ودورنا أن نتأدب بأدبه صلى الله عليه وسلم، ونتأسى بأعماله، حيث نهى أن يتحدث إليه أحد في أصحابه حتى يخرج إليهم، وقلبه سليم، ونفسه صافية، بدون حقد أو ضغينة، أما أعداء الأمة المسلمة، فهم يريدون لقلوب المسلمين أن تحمل الضغينة على العلماء، والبغضاء بعضهم لبعض، وشق عصا الطاعة لولاة الأمر حتى يفسدوا المجتمع الإِسلامي، ويبثوا الفتنة في أرجائه. وبذلك يسهل عليهم تحقيق مآربهم في البيئة الإِسلامية، من نقاط الضعف التي أوجدوا مداخلها. وإن السبيل الوحيد الذي يفسد عليهم عملهم، هو تحصّن شباب الأمة بالعلم والإِدراك وبث روح الوعي لما تنطوي عليه تعاليم الإِسلام في النفوس، حتى تقوى على التصدي لكل ما يبث، وإدراك ما يراد بأمة الإِسلام، فإذا عرف الداء، أمكن معرفة الدواء. وبذلك تتقارب النفوس، وتتحقق الألفة والمحبة بين فئات المجتمع.(/26)
9 – النزعات العقائدية: وهي مدخل دقيق من مداخل النفس وعواطفها، فالولاء العقدي جزء من أجزاء النفس المتأصلة، فكما أن النفس البشرية لا تستغني عن الهواء والماء، لأنهما أهم مقومات الحياة، فكذلك الارتباط العقدي، والولاء الوجداني من لوازم النفس. ومقومات كيانها.
والدارسون لخصائص النفوس، يدركون أهمية العقيدة، وحاجة النفس إليها. فالإِنسان يأخذها منذ حداثة سنه ممن حوله بدءاً بالأبوين، ثم بمن يرتبط به تعليماً وتقليداً. وقد فطر الله الخلق على العقيدة الصافية. كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه، أو ينصرانه"[23].
ويأتي التأثير في العقيدة للطفل، ثم الشباب اللذين هما كالصلصال القابل للتكيف على الشكل الذي يضعه فيه من يتصرف فيه – كل من يحيط بهما، ويؤثر فيهما -.
ولا وقاية تحمي الشاب من النزعات الموجهة إليه سواء كانت عقائد دينية، أو اتجاهات فكرية في شئون الحياة المختلفة إلا بتوفيق الأمة بإعطائه حصانة ضد هذه الأسلحة الموجهة إليه، كما يعطى الطفل تحصينات ضد كثير من الأمراض في سن معينة من عمره، وتحصيناته تتم في حسن التوجيه والرعاية: في البيت والمجتمع والمدرسة.
وأعداء الإِسلام يدخلون على أبنائه من طرق شتى، فيتحينون نقاط الضعف لينفذوا منها، كالشيطان الذي يحاول جذب الإِنسان إلى منهجه بقدر ما يستطيع، فإذا عجز عن الدخول من طريق الإِغواء إلى المعصية، دخل عن طريق الطاعات والعبادات، ليفسدها على صاحبها: مبالغة وإغواء وتشديداً، وتشكيكاً ووسوسة، وغير هذا من الأعمال المفسدة لجوهر العبادة، وسلامة العمل.(/27)
والذين يكيدون للإِسلام من الإِنس، يحرصون على معرفة خصائص نفوس شباب الإِسلام، باعتبارهم العمود الفقري للأمة، والوتد الذي يثبت به المبنى، فيحاولون دراسة نفسيته، وتقويم اتجاهاته، والتعمق في رغبات نفسه، لعلهم يجدون منفذاً يدخلون معه، أو نقطة ضعف تسهل عليهم غايتهم.
ودراسة نفسية الفرد المسلم، والمؤثرات فيه، كانت متأصلة لدى الغرب نحو شباب المسلمين، في محاولة لمعرفة مواطن الضعف فيهم، والنفاذ منها لبواطن عقولهم، ثم تحريك ما يضرّ بهم، ويخدم أعداءهم حتى يجدوا لأنفسهم مستقراً في ديار الإِسلام، وهيمنة ذات آثار قديمة قدم العداء بين الإِسلام والكفر، لكن الحروب الصليبية زادتها رسوخاً وإلحاحاً، ذلك أنه لم يمتد مكث الصليبيين في بلاد الشام إلا بعد إثارتهم للنزعات العقائدية. واتكائهم على فئات تنتمي للإِسلام اسماً وهي بعيدة عنه عمقاً وعملاً.. بل تطعن الإِسلام وأهله بخنجر مسموم.
وأصحاب النزعات المتعددة هم العضد المساند لأعداء الإِسلام في كل وقت وزمان، وهم الذين ثبّتوا أقدام الاستعمار في كل بلد إسلامي، أو بلد به فئات كبيرة من المسلمين في أنحاء المعمورة. والتاريخ خير شاهد على ذلك، فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله دور أصحاب النزعات في خدمة النصارى في بلاد الشام، ومساندتهم لهم[24]. كما ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية شيئاً عمن خدموا التتار في دخول بغداد. وتقويض الخلافة الإِسلامية العباسية، والزحف على ديار الإِسلام قتلاً وتدميراً، وفي سقوط الأندلس وإقصاء الإِسلام من تلك البلاد، كان للمتعاطفين مع الإِفرنج من أصحاب النزعات أثر في فتح باب التعاون والتساهل، ثم التخاذل بعدما مكنوهم من رقاب المسلمين، كما جاء في كتب المؤرخين الغربيين، الذين نقل عنهم بول ديورانت في كتابه قصته، وكما نقل أطرافاً من ذلك محمد عبدالله عنان في كتابيه نهاية الأندلس، ودولة الإِسلام في الأندلس. وغير هذا كثير في سجلات التاريخ.(/28)
ولذا فإن الاستعمار في القرن الحاضر وما قبله، قد وجد في أصحاب المعتقدات الشاذة عن منهج الإِسلام سنداً قوياً، فأرضى لديهم نزعة حب العلو، وأمدهم بقوته، فمهدوا له السبيل للبقاء، وكانوا شوكة في جنب الإِسلام، يحركهم العدو في الاتجاه، الذي يريده ليحقق بهم غرضه، ويطعن بهم أبناء الإِسلام، ويحارب بهم مبادئ هذا الدين وشريعته.
ومع انتهاء الاستعمار العسكري جاء الاستعمار الفكري، فكانت دراساتهم تخدم ذوي النزعات العقدية، وتسهل لهم الإِثارة، لأنهم أدركوا من مضمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة ؟ فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق ؟ فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها". وفي رواية مالك في الموطأ بدل الغرق: "أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم"[25].
ومن تحريك النزعات: سواء كانت عقدية أو قبلية، أو طائفية تشتعل فتيلة البأس، وتتوقد نار الفتنة النائمة، فيجدها أعداء الإِسلام في تحريك الأمر من وراء ستار لتكبير الصغير، وتوسيع الخرق الضيّق.
وفي هذا شق لعصا الجماعة، وخروج على أوامر الإِسلام الذي يدعو للاعتصام والتماسك. فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن عصبية الجاهلية، وعن التفاخر بالأحساب والأنساب ليجمعهم حول الإِسلام ومكانته في تأليف القلوب، وتوحيد الصفوف، والانصهار تحت قيادة واحدة، والسمع والطاعة لهذه القيادة، ضمن الإِطار الإِسلامي وفي بوتقته.(/29)
أما تحريك النزعات العقدية، فهي من الدعوات الجاهلية التي يغتنمها أعداء الأمة عندما تطغى الأثرة، وتضعف مكانة الإِسلام في القلوب: عقيدة وفهماً. ويضعف الوازع الديني بتغليب رغبات النفس على تعاليم الدين، وتقديم العاطفة والمصلحة الذاتية، على ما شرع الله، عند ذلك يصبح الإِنسان سريع التأثر، لأنه فتح على نفسه باباً يسهل الولوج معه، وثغرة تجد الأفكار والآراء طريقاً للنفاذ معها.
10 – أما التيارات الفكرية المتنوعة، ونشرها وتمجيدها، فإن مما لاشك فيه أن كل أمة من الأمم لها فكر ينبعث من عقيدتها، وما تدعو إليه من مبادئ، ووجهات نظر، وهذه الأفكار تتنوع بحسب الاتجاه الذي ينزع إليه الداعون، ولعل أهم تلك التيارات ما يرتبط بالعقيدة، وما يمس الدين الإِسلامي، وخاصة لدى أبناء المسلمين الذين درسوا في بلاد الشرق والغرب، الذين يحرص مدرسوهم على شحن أذهانهم بأفكار تشكك في قدرة الإِسلام ومناخه في التقدم العلمي والتكنولوجي، وأن خصائص النمو الاقتصادي، لا تتلاءم مع الفكر الإِسلامي، وأن السياسة والحكم، وما ينجم عن ذلك من أسس ينتظم بها المجتمع، وتساس بها الرعية، وتكافح بها الجريمة، يجب أن تكون بعيدة عن نظرة الإِِسلام وقيوداته، التي تتسم بالقسوة فيما فرض من حدود. وما يطبق على الجاني من عقوبات كقطع يد السارق، ورجم الزاني المحصن، وإتلاف كل ما حرم في الإِسلام. وهو مال أو عرض يمكن الاستفادة منه، إلى غير ذلك من أمور، يتأثر بها بعض الشباب، أو تفرض على الشاب في تعليمه أو بوسائل الإِعلام المختلفة، قبل أن تتحصن نفسه بما يعينه على مجابهة الموقف، والتصدي لمثل هذه التيارات.
وأخطر من ذلك أن يحملها شباب المسلمين لديارهم ليقنعوا بها غيرهم: فكراً مقلداً، أو ينشروها بين أضرابهم كشيء جديد وافد ليرفع المجتمع، ويعلي مكانة الأمة، وليبث ذلك كله منسوخاً من البيئة المصدرة، كأي بضاعة ذات نفع في شئون الحياة.(/30)
ولذا فإن على المهتمين بأمور الشباب، أن يسلحوهم بما يعينهم لفهم الحقيقة، وإدراك كمال الإِسلام، وشمول تعاليمه لما يصلح أحوال الناس في معاشهم ومعادهم، وأن تكامل العقيدة، مما يسمو بالنفس البشرية، إلى الإِدراك المتكامل لما في الإِسلام من حل لجميع القضايا المطروحة، إذْ قصور البعض عن تخطي العقبات المجسّمة، لم يكن من نقص في تعاليم الإِسلام، ولكنه قصور في المعرفة، وضعف في التطبيق. ذلك أن هدف الإِسلام النزوع إلى الحق، والإِرشاد إلى الطرق المؤدية إليه.
ولو مثّلنا لذلك بالحالة الاقتصادية، المبنيّة في المجتمع الغربي على الربا، والأرباح المركبة.. فإن المسلم يستطيع أن يرد عليهم عن سبب تحريمه، واعتباره محاربة لله عز وجل، ورسوله[26] المصطفى صلى الله عليه وسلم، لما فيه احتكار للمال، وإضرار بالمجتمع، وتضييق على الفقير، وزيادة فقره فقراً، وبطر للغني وزيادة غناه غنىً.
ذلك أن المال الذي ينتشر في المجتمع، ويوسّع فيه على المحتاج: إحساناً وصدقة، وإنظاراً لمن أعسر، وتشغيلاً بالأجرة والعوض وغير هذا من الأمور التي شرعها الإِسلام في التعامل، لما يجعل في المجتمع حركة، ويزيد فرص العمل، ويدخل السعادة على أسر هي في أمس الحاجة إلى التماس الطريق الشريف لكسب لقمة العيش.
وهذا ما ينظر إليه الإِسلام ويهتم به لأنه من التعاون والترابط الاجتماعي، ومن عدم نقمة الفقير على الغني، كما قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[27].
فالمال مال الله، والبشر مؤتمنون عليه، وجاءت شريعة الإِسلام لترسم للنفس طريقة الأمانة للتصرف في هذا المال، أخذاً وعطاء، ورأفة بالعباد، وأداء لحق الله فيه.(/31)
ولأن المال هو عصب الحياة، وشريانها النابض، كما يقول المختصون في هذا المجال، فإنه يجب أن يرسخ في أذهان الشباب، ركائز الإِسلام في تمكين قواعد التوجيه فيه، واختلاف منهجه عن نظرة الماديين، وأصحاب المبادئ الأخرى والإِبانة عن وسطية الإِسلام في تسيير المال لشئون الحياة بين المذهبين المتحكمين عالمياً اليوم: الرأسمالية والاشتراكية.. وأن تسخير المال، وتوزيعه في البيئة الإِسلامية، لم يكن خاضعاً لأنظمة بشرية، تخطئ أكثر مما تصيب، ولكنه توجيه من رب العالمين، الذي يعلم ما يصلح أحوال الناس وما يتلاءم مع متطلبات حياتهم، أو تنتظم به معيشتهم.
وما يقال عن المال، يقال مثله عن حاجة المجتمعات إلى الأمن، وعقوبة الإِسلام الشديدة والرادعة، لمن يزعزع راحة المجتمعات، أو يتعدى على الممتلكات والحرمات، إذْ الرخاء والاستقرار، واتساع الحضارة، وانتظام المعيشة وغير هذا من شئون الحياة المتعددة، لا يهدأ وضعها، ولا يفسح المجال أمامها للنمو بدون الأمن. والموجهون للشباب في المجتمع الإِسلامي، عليهم دور كبير في تلقيح أذهانهم بما يضاد تلك السموم الموجهة، وتعبئة الأوعية المتهيئة، بما يكفيها عن استقبال كل وافد، ليكون في المجتمع سدّ منيع، ضد التيارات الموجهة، وإيقاف زخرف نشرها، أو تمجيدها، بفكر أقوى، وإدراك أشمل وأصلح، والبقاء كما يقال: للأصلح. وحتى يدرك الشباب بأن فكر الإِسلام هو الأصلح، فلابد من مخاطبة عقولهم من منطوق الشبهات المطروحة، وتوضيح نظرة الإِسلام الحقيقية للأمور مقرونة بالنتائج والأسباب والمسببات، وموثقة بالبراهين والأرقام، حتى تكبر تعاليم الإِسلام في نفوسهم ويجدون ما يعينهم في دحض الفكر الوافد، المرتكز على عناصر مادية وإلحادية بحته، كإنكار ما وراء الطبيعة من العوالم، أو الفكر المنقول مع التقنية، المصحوبة بمناهجها، وأصولها المادية.(/32)
إذْ أخطر ما يواجه الشباب المسلم، وخاصة الذي يدرس في بلاد لا تدين بالإِسلام، بل تحاربه، وتحارب أفكاره، ما يجده من أفكار ونظريات علمية، تغاير الفكر الإِسلامي وحقائقه، فالطالب على مقاعد الدراسة، يتشوق لدراسة العلوم المختلفة، ويرغب في نقل التكنولوجيا إلى بلاده، لكنه يتعرض لنظريات وقوانين، قد صيغت بأسلوب إلحادي يشككه في دينه.
ولذا فإن على علماء المسلمين مسئولية كبيرة في تغيير الصياغة العلمية، بمختلف الفنون بما يتمشى مع الإِيمان الصحيح، الذي بموجبه يتنقّى فكر الشباب المسلم وتتركز مصادر الأخذ بما يطمئن على سلامة العقيدة.. وهذا ما يدعو إليه المخلصون باسم أسلحة المعرفة.
11 – أما تبني التيارات الأدبية بمذاهبها وأهدافها: فإن هذا من أخطر ما يواجه الشباب اليوم، عندما قلّدوا كل وافد، إذْ التأثير العلمي قد يكون أخف، فهو مصحوب بأمور مادية ونتائج تجريبية، لكن الأدب فكر وثقافة، ولذا نلمس في الحداثة قدحاً للتراث الإِسلامي ونعوتاً لمصادر الشريعة الإِسلامية، وإبرازاً لشخصيات عرفت من قبل بجنوحها العقدي كالحلاج والأسود العنسي ومهيار الديلمي، وميمون القداح وغيرهم حيث يرفعون من قدرهم ويعلون مكانتهم.. وكل واحد من هؤلاء وغيرهم له في التاريخ الإِسلامي سجل أسود.
حيث أطلق عليهم علماؤنا القدامى الكفر، ووصموهم بالمروق من الدين، وبانت أفكارهم الجدلية وعلاقاتهم بأديان ومعتقدات الأمم التي غلبتها الجيوش الإِسلامية، وانطوت تحت لواء الدولة التي يحكمها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من باب محاولة إفساد الإِسلام من داخله.(/33)
وإذا كان المنتمون لهذا الخطر منذ الدولة العباسية، هم أصحاب النزعات البعيدة عن الوفاق مع تعاليم الإِسلام، ليعبروا في أدبهم عن مكنون نفوسهم، وارتباطهم بمن خلفهم، كما يلمس مثل ذلك في شعر بشار بن برد، ومحاولته الرفع من المانوية، وهي عقيدة وثنية، تمثل إله النور والظلام، وتعمده السخرية من النسب العربي، فإن مثل هذه الحركة قد كثرت في عهد المنصور وابنه المهدي، وحاربوها باسم الزندقة، وكثر المنتمون إليها، وممن قتل من الأدباء لأفكاره: بشار بن برد، وابن المقفع وصالح بن عبدالقدوس، وغيرهم..
ولذا كان مثل هذا المنهج مطية في بلاد الشرق والغرب، يعبر بها الأدباء المنفلتون من قيود الدين والأمانة عن خلجات نفوسهم، ورغباتهم الذاتية، وانتقاداتهم الاجتماعية، وانتماءاتهم الفكرية والعقدية.
ولأن عذر هؤلاء في الالتزام بمثل هذه الشهوات، فإن من سايرهم من أبناء المسلمين في اتجاهاتهم فإنهم غير معذورين، لأن لهم فكراً غير فكرهم، ومنطلقاً غير منطلقهم، وثقافة غير ثقافتهم.
واتباع بعض الشباب في ديار الإِسلام لما سار عليه أولئك، من تسخير الأدب: فكراً وأسلوباً وألفاظاً. للتعبير والدعوة عما يختلف عن منهج الإِسلام، وحرص تعاليمه على حماية الفرد، وسلامة المجتمع، لمما يضر بهما، أو يخلخل كيانهما، وهو قصور في الفهم، ونقص في الإِدراك، وتقليد جاء من غير روية، ومركب نقص، يعبر عنه صاحبه بشيء قد لا يدرك أبعاده. ومن هنا يلمس المتتبع لمسيرة بعض الشباب الأدبية؛ أفكاراً تطرح، وألفاظاً يؤتى بها، تخدم مذاهب وأهدافاً تأباها تعاليم الإِسلام، وينهى عنها شرع الله، وتتنافر مع صحيح اللغة وقواعدها.(/34)
ذلك أن من منهج شرع الله الذي شرع لعباده، ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه ضمن وصية يجب أن يأخذ بها كل مسلم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "كف عليك هذا.. وأشار إلى لسانه. فقال معاذ: أنحن مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟! فقال ثكلتك أمك يا معاذ.. وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم".. وما يرصده القلم هو جزء من حصاد اللسان.
والذي يجب أن ينمى عند شباب المسلمين، أن الفكر يجب أن يكون مأخذه إسلامياً، ومستمداً مما يدعو إليه الدين بمصدري التشريع فيه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بما فهمه وسار عليه سلف الأمة.. وأن تكون الحصيلة الأدبية، أداة تخدم هذا الفكر، سواء كانت شعراً أو نثراً، وسواء كانت خطابة أو مشاركة كتابية.
وأن تعالج القضايا التي تمر بالفرد والجماعة، من زاوية الامتثال لذلك الشرع، وتثبيت دعائمه في النفوس. لأن القرآن الكريم، لم يكن بمعزل عن الحياة، مهما جد في كل عصر ومهما تغيّرتْ أساليب وأنماط العيش فيها، لأن الله جل وعلا يقول وقوله الحق: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[28].
وعمل الأديب في المجتمع الإِسلامي، يجب أن يكون متشبعاً بفكره، منطلقاً من أسلوب دعوته، مدافعاً عن كل دخيل على هذا المجتمع، لأن أعداء الإِسلام يحرصون على تغيير شخصية والتزام أبناء المسلمين، ويرون الأدب وسيلة من تلك الوسائل، وأقصرها منفذاً.(/35)
وإيقاف الزحف الفكري، الموجه للشباب عن طريق مسارب الأدب، يحتاج إلى تنمية الأصالة في الشباب، وربطهم بجذور لغتهم، ومكانة دينهم، وسمو تعاليمه، وشمولية فوائده، وإثبات ذلك بالوقائع والبراهين، وتعميق الجذور التراثية من نفوسهم، ذلك الوتر الذي يضرب عليه أعداؤهم ليباعدوا بينهم وبينه، وليجعلوا نفوسهم في شك من الماضي، وقدرة على تحمل الواقع بدون استناد على هذا الفكر والثقافة الوافدين إليهم من بلاد توسم بالرقي والحضارة والتقدم.
وإذا أدرك الموجهون للشباب، ثم بثوه بينهم عقيدة ومنهجاً مثل هذا النص الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[29].
فإنه سيكون منهم من يدرك الحجاب الذي يجب الاحتماء به، والشخصية المستقلة التي تُحْسِنُ مجابهة تلك التيارات سواء كانت من هاتين الملتين، أم من غيرها. وأول ذلك عدم القدوة بغيرهم مظهراً وسلوكاً، وفكراً وسيرة عمل.
12 – ويأتي دور: تثبيط همم الشباب: وتشكيكهم في قدرة أمتهم الإِسلامية في مسايرة الأمم الأخرى حضارياً وعلمياً: إذْ هذا التثبيط مبعثه قصور المعرفة لدى الشباب، فمن يناقش الجاهل يغلبه، ومن يطرح شبهات على من هو خالي الوفاض، يشككه في أمره..
وشباب المسلمين الذين بهرتهم الحضارات الحديثة، وأساليب الصناعة والمخترعات، ثم بما يحجزه عنهم الغربيون والشرقيون على السواء، من أسرار العلوم والتكنولوجيا، كل هذا وأكثر منه، يدفع شباب المسلمين إلى التعلق بأولئك وفكرهم، وتبنى انتقاداتهم وتشكيكهم في قدرة الأمة المسلمة، على مسايرة هذه الأمم حضارياً وعلمياً، وذلك بوصم الإِسلام وتعاليمه بنعوث كثيرة، وبقصوره في الميدان: الاقتصادي، والقانوني، والتنظيمي، والإِعلامي وغير هذا من سبل الحياة الحاضرة.(/36)
وهذه النغمة لم تكن جديدة، بل بدأها اليهود في المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبثونها فكراً بين المشركين المعاندين للرسالة، وتشكيكاً مع بعض الصحابة في النقاش والشبهات التي تطرح.. ثم كبرت واتسع نطاقها مع الحملات الصليبية.. ولما بدأ الاستشراق يأخذ سمة الثقافة والإِفادة مع النهضة الأوروبية، ساق الحقد وسوء الفهم كثيراً من المستشرقين لينفثوا سموماً، وينشروا شبهات حول رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم، وعدم صدق دلالة ما جاءا به، والأساليب التي نظمت ذلك من حدود وزواجر.. فطرحت المسائل الكثيرة على أنها شبهات تصم الإِسلام بعدم القدرة، ورجاله القائمين عليه، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنعوت تقلل من قدرهم، وتضعف من مكانة الاتجاه الذي ساروا إليه، والهدف الذي قصدوه.. وذلك بإطلاق المطامع الدنيوية، والرغبات الشخصية على أعمالهم، ووصمهم بالعنف والشدة، ونعت تعليم دينهم وحدوده الشرعية بالقسوة، وعدم ملاءمة العصر الذي نعيش فيه لتلك الأحكام.. ثم وضع مقاييس ومعايير تخدم هدفاً ثانوياً وقام بها رجال في مجتمعاتهم عرفوا بالظلم والشدة، كنماذج لرجال الإِسلام وتعاليمه، مع أن البون شاسع، والهدف متغاير.
فرجال الإِسلام يريدون ما عند الله، والجزاء الأوفى في الآخرة، وهؤلاء يريدون التسلط والتشفي والمتعة، والانتقام.
وفي العصر الحاضر، الذي أخذ سمة التقنين لكل نظام، والتخصص لكل فن، والتعقيد لكل أمر، يوضع أمام شباب المسلمين وجهات نظر مجسمة، عن قصور الشريعة الإِسلامية، في التكيف مع تلك النظم، وقدرتها في الصمود لتسيير الأحوال، لأنها – حسب مفهومهم – شريعة تقتصر على العبادة.(/37)
والحياة الصناعية والعلمية، وأساليب التعامل في الحضارة الراهنة، تتطلب مرونة واتساع أفق، لا يتيسر وفق تعاليم الإِسلام المحصورة في نطاق ضيق لا يستوعب شئون الحياة الحاضرة.. ولكي يجدوا لأقاويلهم مدخلاً في أذهان بعض الشباب الفارغة، فإنهم يضربون لهم الأمثال بتمرد رجال العلم والتكنولوجيا في الغرب، على الكنيسة، التي حصرتهم في نطاق ضيق، وشددت على العلم والعلماء في محاكم التفتيش إبان النهضة الأوروبية الحديثة، حتى ظهر عندهم شعار التمرد على الكنيسة ورجالها باسم: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله..
وغير هذا من نماذج وشبهات، يجدر بالموجهين للشباب الإِسلامي، أن يحصنوهم ضدها، ليدركوا، أن الدولة الإِسلامية صلحت وأصلحت المجتمعات منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى قرون متطاولة. استوعبت خلالها العلم والتقدم والحضارة، بشتى مناحيها، وسعدت المجتمعات، واستقامت أحوال الناس في معاشهم وتنظيم حياتهم، بل سعد الغرب بما أخذ من المسلمين من علوم ومعارف، وبما استفاده من تنظيم وتقنين لنواحي أعمال الحياة. ولم تقف حضارة الغرب، إلا على أسس متينة مما أرساه الإِسلام والمسلمون وما عرفت الإِنسانية منهجاً سليماً في العدالة وحسن الاستقامة، إلا تحت ظل الشريعة الإِسلامية، وقد شهد جم غفير من مفكري الغرب والشرق بمكانة الإِسلام، ودوره في إسعاد البشرية، ومنهم أديسون الذي قال: إن الإِسلام لم يكن ديناً للعرب، وإنما هو دين الإِنسانية من أقصى الأرض إلى أقصاها، ولا هو مختص بجيل دون جيل، بل هو لعامة الأجيال إلى منتهى الدهر.(/38)
ذلك أن الدين الإِسلامي يحث على العلم بجميع فروعه، وليس علم الحديث والفقه والمنطق والشرع فقط وإنما كل ما تناله الكلمة من علم الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وجميع العلوم، والدين الإِسلامي لا يختلف هو والعلم، ولا يمكن أن يختلفا، بل الذي نعلم أن أكبر العلماء وأرسخهم علماً هم أقربهم إيماناً وخشية لله سبحانه – كما قال بذلك قبيسي -.
ويقول ماركوس دودز: ليس في الدين نفسه ما يتعارض مع التقدم العقلي، فالعقيدة التي يتمسك أتباعها بالمبدأ القائل: أوصى الله إلى رسله، تترك أوسع مجال للتفكير والتأمل، والدين الذي يخص كل جندي يقع في ميدان القتال في سبيل الله بتاج الاستشهاد، ويعلن في الوقت نفسه أن مداد العالم أغلى من دم الشهيد، ليس من العدل في شيء أن يوصم بأنه دين ظلام.
ولذا فإن الشباب في المجتمع الإِسلامي في حاجة إلى أن ينور ذهنه، وتوسع مداركه بمثل هذه الأقوال، وبما صدره كثير من مفكري الغرب، اعترافاً للحق على أنه الحق، حيث أن أمثال: كتاب: شمس العرب تسطع على الغرب للكاتبة الألمانية زيفريد هونكه، والقرآن والتوراة والإِنجيل والعلم للدكتور الفرنساوي موريس بوكاي، وروح الإِسلام للمسلم المؤرخ الهندي سيد أمير علي، والطريق إلى مكة للمسلم المجري محمد أسد، وغيرها من الكتب التي اقترن فيها الفكر بالعلم، وهذا من باب مخاطبة الناس بما يعرفون، وإلا فإن في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم رجال السلف الأول من هذه الأمة ما يغني ويثري: ثقافة وعلماً، وردوداً وتوضيحاً، كما كان الإِمام مالك يقول: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وفهم الشباب للإِسلام هو الذي سيصلح أحوالهم ونظراتهم للأمور، لأن بذلك العزة والارتقاء، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومتى ابتغينا العز بغيره أذلنا الله.(/39)
وإن أهم ما يقف أمام الشباب البلبلة الفكرية، ونقل الفكر إليهم مع التقنية مصحوبة بمناهجها وأصولها المادية، ذلك أن الفكر في النظريات العلمية والفيزياء، ينكر ما وراء الطبيعة، ويرتكز على عناصر مادية إلحادية بحته، حسب صياغاتها، وذلك لقلة المؤمنين في الميدان العلمي.
ويمكن للعالم المسلم تغيير تلك الصياغات بما يتمشى مع الإيمان الحقيقي، وتقديمها للشباب كمادة محببة، مرتبطة بالجذور العقدية، والأصل الإيماني في التفكر الذي أمر الله به الفئة المؤمنة، ومتأصلة في العلماء خشية لله، واعتقاداً في كمال قدرته، وإحاطته بكل شيء، وأن ما علمه البشر ما هو إلا قليل في علم الله جل وعلا، الذي وسع كل شيء علما.
ــــــــــــــــــــــ
[1] سورة التوبة آية 32.
[2] سورة ص الآيتان 82 – 83.
[3] سورة الأعراف الآيتان 16 – 17.
[4] سورة الأنعام الآية 112.
[5] اقرأ الآية 108 من سورة الأنعام والآية 46 من سورة العنكبوت، ونموذجاً من الحوار العقدي في سورة آل عمران، الآيات 18 – 32.
[6] سورة الأنعام آية 108.
[7] سورة النساء آية 87.
[8] سورة المؤمنون آية 71.
[9] سورة الأنعام آية 38.
[10] في عام 1965م – 1385هـ خرجت الطبعة الثانية من كتاب: اعرف مذهبك تأليف مارتين دودج وتعريب أحمد المصري، وفيه تعريف بـ37 مذهباً جديداً في الفكر والسياسة، ولم يذكر ما أوضحناه أعلاه منها، مما يدل على كثرة الأفكار والمذاهب، وأنها تزداد مع الأيام لأنها تنطلق من الأهواء ولابد أنها زادت بعد تأليف هذا الكتاب أضعافاً.
كما صدر في عام 1398هـ - 1978م كتاب المذاهب المعاصرة وموقف الإِسلام منها أورد فيها 15 مذهباً فكرياً وعقدياً وأبان موقف الإِسلام منها.
[11] من أراد توسعاً عن المستشرقين فليراجع بعض الكتب أمثال:
1- الإِسلام في وجه التغريب: مخططات الاستشراق والتبشير لأنور الجندي.
2- الإِسلام والمستشرقون عدد خاص من مجلة البعث الهندية رمضان عام 1402هـ.(/40)
3- الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية للدكتور قاسم السامرائي.
4- مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإِسلامية جزأين صدر عن مكتبة التربية العربي.
5- الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم للدكتور مصطفى السباعي.
6- أضواء على الاستشراق للدكتور محمد عبدالفتاح عليان.
7- الاستشراق والخلفية الفكرية للدكتور محمود حمدي زقزوق كتاب الأمة قطر.
8- السنة مع المستشرقين والمستغربين للدكتور تقي الدين الندوي.
9- معاول الهدم والتدمير في النصرانية وفي التبشير لإِبراهيم سليمان الجبهان.
10- بحث بعنوان: المستشرقون والتراث للدكتور عبدالعظيم محمود الديب حوليه جامعة قطر: كلية الشريعة والدراسات الإِسلامية ص703- 747 عام 1405هـ وغير هذا كثير.
[12] سورة البقرة آية 120.
[13] من أراد توضيحاً أكثر فليراجع ما يكتبه الدكتور علي الدفاع من مقالات عديدة في تراجم رجال الإِسلام وعلمائه.
[14] تسمية أنفسهم مبشرين غير مناسب لأن الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً. والأفضل جعلهم منصرين لأنهم يدعون للنصرانية والله سماهم نصارى ولم يسمهم مسيحية.
[15] حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، ورواه مسلم والترمذي عن أنس بن مالك ولفظ البخاري حجبت.
[16] سورة الأعراف آية 32.
[17] يروى هذا الحديث ضمن أحاديث أهل الكتاب كما جاء: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.
[18] سورة آل عمران الآيتان 72- 73.
[19] سورة النساء آية 59.
[20] سورة الأنفال آية 46.
[21] انظر جامع الأصول في أحاديث الرسول جـ4 ص67 وهامش ص68.
[22] نفس المصدر ص69.
[23] رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أوسع ابن عبدالبر الكلام على هذا الحديث في كتابه التقصي.
[24] راجع فتاواه الأجزاء الخاصة بالتوحيد والعقيدة.
[25] الحديث سبق تخريجه.
[26] اقرأ آيات الربا في سورة البقرة من 275- 279.
[27] سورة الزخرف آية 32.
[28] سورة الأنعام آية 38.
[29] سورة البقرة آية 120.(/41)
العنوان: الشتاء الغنيمة الباردة
رقم المقالة: 329
صاحب المقالة: د. محمد السقا عيد
-----------------------------------------
نعيش الآن فصل الشتاء، نحُسُّ بنفثات برْدِه، نستنشق نسمات هوائه اللاذع، نتأمل في كيفية تدرج برودته على بني البشر؛ فكم لله من آيات في كل ما يقع الحس عليه، ويبصره العباد، وما لا يبصرونه.
تأمل معي هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد، وفكِّر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه فجأةً لأضنَّ ذلك بالأبدان وبالنبات وأهلكها، ولولا العناية، والحكمة، والرحمة، والإحسان لما كان ذلك، فهل من متأمل ومتفكر؟!
إن هذا الفصل نعيشه جميعا ولابد أن نستشعر أن هناك من هو أحوج بالرأفة والمساعدة منا، لابد أن نتذكر أولئك الذين لامس بل اخترق بردُ الزمهرير عظامهم.
إن هناك مسلمين لا يحلم بل لا يتصور أحدهم، وإن شئت قل لا يتوقع في الحسبان أن يصل إليه ثوب قد جعلته أنت مما فضل من ثيابك وملابسك.
قل لي بربك كم يملك أحدنا من ثوب؟ وكم يُفصِّل أحدنا من ثوب؟
وكم، وكم، وكم؟ خير كثير كثير، ونِعَمٌ لا تحصى، ولكن أين العمل؟
إلى الله المشتكى!
لاَ تَحْقِرَنَّ صَغِيْرَةً إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى
فهيا أخي؛ امضِ وتصدق ولو بشيء يسير؛ فربما يكون في نظرك حقيراً، وعند ذلك الفقير المحتاج كبيراً وعظيماً.
فرح السلف بالشتاء:
قال عمر - رضي الله عنه –:((الشتاء غنيمة العابدين))، وقال ابن مسعود: ((مرحباً بالشتاء؛ تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام)).
ومن درر كلام الحسن البصري: ((نِعْم زمان المؤمن الشتاء؛ ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه))، ولذا بكى المجتهدون على التفريط - إن فرطوا - في ليالي الشتاء بعدم القيام، وفي نهاره بعدم الصيام.(/1)
ورحم الله معاذاً حيث قال: ((لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله ما باليت أن أكون يعسوباً)).
وإنما كان الشتاءُ ربيعَ المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميَسَّرة فيه، ويصبر المؤمن في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة تحل به من جوع ولا عطش، وكان أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه – يقول: (( ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى. فيقول: الصيام في الشتاء)).
وقيام ليل الشتاء يسير؛ لطوله فيمكن للنفس أن تأخذ حظها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة؛ قال ابن رجب - رحمه الله -: "قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف"، ومن فضائل الشتاء أنه يُذكِّر بزمهرير جهنم، ويوجب الاستعاذة منها.
ذكر ابن رجب في حديث أبي هريرة، وأبي سعيد - رضي الله عنهما - عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا كان يوم شديد البرد فإذا قال العبد: لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله تعالى لجهنم: إن عبداً من عبادي استجار بي من زمهريرك وإني أشهدك أني قد أجرته، قالوا: وما زمهرير جهنم؟ قال: بيت يلقى فيه الكفار فيتميز من شدة برده)).
وفي الحديث عند الشيخين وغيرهما عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((اشتكت النار إلى ربها؛ فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف؛ فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير))، ورُوي عن ابن عباس قال: ((يستغيث أهل النار من الحر؛ فيغاثوا بريح باردة يصدع العظامَ بردُها؛ فيسألوا الحر ويستغيثوا بحر جهنم))[1].
هذا خبر من قبلنا، أما خبر أهل زماننا؛ فنسأل الله أن يصلح الأحوال؛ تضييع للفرائض والواجبات، واجتراء على حدود رب الأرض والسموات، وسهر على ما يغضب الله، ويُظْلِم القلب، ويطفئ نور الإيمان.
الغنيمة الباردة:(/2)
فيا إخوتي، جدّوا في طلب مرضاة الرحمن في ليال الشتاء الطوال وفي غيرها، وأكثروا من صيام نهاره؛ فقد قال – صلى الله عليه وسلم –: (( الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)) رواه أحمد وحسنه الألباني إنها لغنيمة فأين المشمرون المخلصون؟![2]
قال الخطابي: الغنيمة الباردة أي السهلة؛ لأن حرة العطش لا تنال الصائم فيه.
قال ابن رجب: معنى أنها غنيمة باردة: أنها حصلت بغير قتال، ولا تعب، ولا مشقة؛ فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفواً صفواً بغير كلفة.
فحري بك اقتناص هذه الغنيمة، لاسيما في الأيام الفاضلة مثل الاثنين والخميس، أو الأيام البيض ونحو ذلك.
وصية عمر الشتوية:
كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم بالوصية: إن الشتاء قد حضر، وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف، والخفاف، والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا - وهي ما يلي البدن - ودثارًا - الملابس الخارجية - فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه، ومن كلام يحيى بن معاذ: الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك. وعن عبيد بن عمير - رحمه الله - أنه كان إذا جاء الشتاء قال: "يا أهل القرآن طال ليلكم طويل لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا".
أحاديث ضعيفة في الشتاء:
تتردد على ألسنة بعض الناس من العامة، ومن أهل الصحافة أحاديث ضعيفة، بل باطلة سنداً ومعنى ومتناً، وإن كان منها ما هو صحيح معنى، لكن لا يصح رفعه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - ومنها:
1 - ((الشتاء ربيع المؤمن)).
2 - ((أصل كل داء البرد)).
3 - ((إن الملائكة لتفرح بذهاب الشتاء لما يكون على الفقراء والبلاد من الشدة)).
4 - ((اتقوا البرد فإنه قتل أخاكم أبا الدرداء)).
5 - ((تلين في الشتاء قلوب بني آدم وذلك أن الله خلق آدم من طين والطين يلين في الشتاء))[3].
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] http://saaid.net/mktarat/sh/02.htm.(/3)
[2] http://saaid.net/mktarat/sh/2.htm.
[3] http://saaid.net/mktarat/sh/1.htm.(/4)
العنوان: الشرط الجزائي
رقم المقالة: 427
صاحب المقالة: هيئة كبار العلماء
-----------------------------------------
المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه:
الشرط الجزائي لم يكن معروفاً بهذا الاسم لدى فقهائنا الأقدمين، وإنما جاء ذكره في صور مسائل فقهية، ولعل أول وجود له في الفقه الإسلامي ما روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريه: أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا أو كذا فلك مائة درهم فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه، وقال أيوب، عن ابن سيرين: أن رجلاً باع طعاماً وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع فلم يجيء فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه. اهـ.
أما الفقهاء المعاصرون فقد تعرضوا لبحثه في كتبهم بهذا الاسم وبينوا العوامل التي أدت إلى التوسع في الأخذ به فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء[1]:(/1)
في أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوربا وتطورت أساليب التجارة الداخلية والصنائع وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة كامتياز المؤلف والمخترع وكل ذي أثر فني جديد في استثمار مؤلفاته، أو مخترعاته، أو آثاره الفنية مما سمى بالملكية الأدبية والصناعية، واحتاج أصحاب هذه الحقوق والامتيازات إلى بيعها والتنازل عنها لغيرهم من القادرين على استثمارها – إلى أن قال: واتسع مجال عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء على المصنوعات مع المعامل والمصانع الأجنبية وكذا عقود المتعهد بتقديم اللوازم والأرزاق والمواد الأوليه إلى الدوائر الحكومية والشركات والمعامل والمدارس مما سمى ((عقود التوريد)) وكل ذلك يعتمد على المشارطات في شتى صورها. وقد ازدادت أيضاً قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية فأصبح تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضراً بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما قبل. فلو أن متعهداً بتقديم المواد الصناعية إلى صاحب معمل تأخر عن تسليمها إليه في الموعد المضروب لتَعَطّل العمل وعماله. ولو أن بائع بضاعة لتاجر تأخر في تسليمها حتى هبط سعرها لتضرر التاجر المشتري بخسارة قد تكون فادحه. وكذا تأخر الصانع عن القيام بعمله في وقته. وكل متعاقد إذا تأخر أو امتنع عن تنفيذ عقده في موعده.
ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الملتزم بتنفيذ التزامه الأصلي لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه وليس فيه جبر لضرر التعطل أو الخسارة، ذلك الضرر الذي يلحقه من جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاوناً منه أو امتناعاً، وهذا قد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه، ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي الشرط الجزائي. اهـ.(/2)
وذكر الدكتور عبدالرزاق السنهوري تعريف الشرط الجزائي وسبب تسميته بذلك فقال[2]: ((يحدث كثيراً أن الدائن والمدين لا يتركان تقدير التعويض إلى القاضي كما هو الأصل بل يعمدان إلى الاتفاق مقدماً على تقدير هذا التعويض، فيتفقان على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم يقم المدين بالتزامه وهذا هو التعويض عن عدم التنفيذ أو على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه وهذا هو التعويض عن التأخير. هذا الاتفاق مقدماً على التعويض يسمى بالشرط الجزائي. وسمى بالشرط الجزائي لأنه يوضع عادة كشرط ضِمْنَ شروط العقد الأصلي الذي يستحق التعويض على أساسه)). اهـ.
وفي الموسوعة العربية الميسرة ما نصه: ((شرط جزائي)): اتفاق يقدر فيه المتعاقدان سلفاً التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم ينفذ المدين التزامه أو إذا تأخر في تنفيذه. اهـ.
2- ما للشرط الجزائي من صور مختلفة:(/3)
الشرط الجزائي وإن كان يعني اشتراط التعويض عن الضرر اللاحق في طريقة تنفيذ العقد – إلا أن له صوراً مختلفة باختلاف العقود والالتزامات، وقد أشار الدكتور عبدالرزاق السنهوري إلى شيء من هذه الصور فقال[3]: ((والأمثلة على الشرط الجزائي كثيرة ومتنوعة: فشروط المقاوله قد تتضمن شرطاً جزائياً يلزم المقاول بدفع مبلغ معين عن كل يوم أو عن كل أسبوع أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه. ولائحة المصنع قد تتضمن شروطاً جزائية تقتضي بخصم مبالغ معينة من أجرة العامل جزاء له على الإخلال بالتزاماته المختلفة. وتعريفة مصلحة السكك الحديدية أو مصلحة البريد قد تتضمن تحديد مبلغ معين هو الذي تدفعه المصلحة للمتعاقد معها في حالة فقد طرد أو فقد رسالة واشتراط حلول جميع أقساط الدين إذا تأخر المدين في دفع قسط منها هو أيضاً شرط جزائي ولكن من نوع مختلف، إذ هو هنا ليس مقداراً معيناً من النقود قدر به التعويض، بل هو تعجيل أقساط مؤجله)). اهـ.
وقال في الحاشية في الصفحة نفسها ما نصه: ((هذا والأصل في الشرط الجزائي هو أن يكون تقديراً مقدماً للتعويض كما أسلفنا، ولكن قد يستعمله المتعاقدان لأغراض أخرى: من ذلك أن يتفقا على مبلغ كبير يزيد كثيراً على الضرر الذي يتوقعانه فيكون الشرط الجزائي بمثابة تهديد مالي. وقد يتفقان على مبلغ صغير يقل كثيراً عن الضرر المتوقع فيكون الشرط الجزائي بمثابة إعفاء أو تخفيف من المسئولية... وقد يكون الغرض من الشرط الجزائي تأكيد التزام المتعهد عن الغير بتحديد مبلغ التعويض الذي يكون مسئولاً عنه إذا لم يقم بحمل الغير على التعهد. وقد يوضع شرط جزائي في الاشتراط لمصلحة الغير لتقدير التعويض المستحق للمشترط في حالة إخلال المتعهد بالتزامه نحو المنتفع، فيمثل الشرط الجزائي في هذه الحالة المصلحة المادية للمشترط في اشتراطه لمصلحة الغير)). اهـ.(/4)
وجاء في نظام المناقصات والمزايدات السعودي ما نصه: ((إذا تأخر المقاول عن إتمام العمل وتسليمه كاملاً في المواعيد المحددة ولم تر اللجنة صاحبة المقاولة داعياً لسحب العمل منه توقع عليه غرامة عن المدة التي يتأخر فيها إكمال العمل بعد الميعاد المحدد للتسليم إلى أن يتم الاستلام المؤقت دون حاجة إلى أي تنبيه للمقاول ويكون توقيع الغرامة على المقاول كما يلي: 1% عن الأسبوع الأول 1.5% عن الأسبوع الثاني 2% عن الأسبوع الثالث 2.5% عما زاد عن ثلاثة أسابيع 3% عن أية مدة تزيد على أربعة أسابيع))[4]. اهـ.
3- ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج:
نستعرض فيما تحت هذا العنوان ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود من حيث الجملة وما ذكره بعض العلماء في تفسيرها وما بنوه عليها من تقسيم الشروط إلى قسمين: شروط صحيحة وشروط فاسدة، وما وضعوه من الضوابط لكل منهما، ليتسنى معرفة ما يندرج تحته الشرط الجزائي من هذه الضوابط، وما يلتحق به من المسائل التي يشبهها وأدرجوها تحتها أو جعلوها أمثلة شارحة لها.(/5)
روى البخاري في صحيحه تحت باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله: عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءتْ تَسْتَفْتِيهَا في كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئاً. فَقَالَتْ لها عَائشَةُ: ارْجِعِي إلىَ أَهْلِكِ فَإنْ أَحبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤكِ لي فَعَلتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأهْلِهَا فَأبَوا وَقَالُوا: إنْ شَاءتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونُ وَلاؤُكِ لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لهَا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ابْتَاعي فَأعْتِقي فَإنّما الولاء لمنْ أَعْتَق))، قال: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ في كِتَابِ الله، مَنْ اشْتَرطَ شَرْطاً لَيسَ في كِتَابِ الله فَلَيْسَ لَهُ وإنْ شَرَطَ مائَةَ شَرْط شَرْطُ اللهِ أَحَقُ وَأَوْثَق))– وَفِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عَنْهَا أَنْ تَشْتَرِي جَارِيَةً لتُعْتِقَهَا فَقَالَ أَهْلُهَا عَلىَ أَنَّ وَلاَءهَا لَنَا، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَمْنَعُكِ ذَلِكَ فَإنّما الوَلاَء لِمَنْ أَعْتَق)).(/6)
قال ابن حجر في الفتح قوله باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله، جمع في هذه الترجمة بين حكمين وكأنه فسر الأول بالثاني، وأن ضابط الجواز ما كان في كتاب الله، وسيأتي في كتاب الشروط أن المراد بما ليس في كتاب الله، ما خالف كتاب الله. وقال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه: من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع الأمة. وقال ابن خزيمة ليس في كتاب الله أي ليس في كتاب الله جوازه أو وجوبه، لا أن كل من شرط شرطاً لم ينطق به الكتاب يبطل؛ لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شروطاً من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك، فلا يبطل. قال النووي: قال العلماء: الشروط في البيع أقسام:
أحدهما: يقتضيه إطلاق العقد كشرط تسليمه.
الثاني: شرط فيه مصلحة كالرهن وهما جائزان اتفاقاً.
والثالث: اشتراط العتق في العبد، وهو جائز عند الجمهور، لحديث عائشة وقصة بريرة.
الرابع: ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري، كاستثناء منفعته فهو باطل.
وقال القرطبي: ((قوله ليس في كتاب الله، أي ليس مشروعاً في كتاب الله تأصيلاً ولا تفصيلاً ومعنى هذا أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله، كالوضوء ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله، كالصلاة ومنها ما أصل أصله كدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع، وكذلك القياس الصحيح فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلاً فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلاً – إلى أن قال – وقال القرطبي: قوله ولو كان مائة شرط، يعني أن الشروط الغير مشروعة باطله ولو كثرت)). اهـ[5].
وقال البخاري في صحيحه (باب الشروط التي لا تحل في الحدود):
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بنِ خَالِدِ الجُهَنيِّ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنّهُمَا قَالا: إِنَّ رَجُلاً مِنَ الأعْرَابِ أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ الله إلاَّ قَضَيْتَ لي بِكِتَابِ الله.(/7)
فَقَالَ الخصْمُ الآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ: نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ الله، وائْذَنْ لي، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ, قَالَ: إنَّ ابْني كَانَ عَسِيفاً عَلىَ هَذَا، فَزَنى باِمْرَأَتِهِ، وإني أُخْبرْتُ أَنَّ عَلىَ ابْني الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمائَةِ شَاةٍ وَوَلِيده، فَسَألْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَأخْبَرُوني: أَنَّ مَا عَلى ابْني جَلْدُ مائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَام، وأَنَّ عَلى امْرأةِ هَذَا الرَّجْم، فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((والّذِي نَفْسي بِيّدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلىَ ابْنِكَ جَلْدُ مائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَام، أُغْدُ يَا أُنَيْسٍ إلى امْرَأَةِ هَذَا، فإنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)). قَالَ: فَغَدا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَأمَرَ بها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فرجمت.
قال ابن حجر في الفتح وقد ترجم له في الصلح إذا اصطلحوا على جور فهو مردود. ويستفاد من الحديث أن كل شرط وقع في رفع حد من حدود الله فهو باطل، وكل صلح وقع فيه فهو مردود. اهـ[6].
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.(/8)
قال ابن حجر: وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع مالا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه، قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك، وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع: لأن الدليل يتركب من مقدمتين والمطلوب بالدليل، إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه، لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل نافٍ لحكم. مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود. فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث وإنما يقع النزاع في الأول، ومفهومه أن من عمل عملاً عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها النزاع فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد فإذاً حديث الباب نصف أدلة الشرع. ((والله أعلم)).
وقوله: ( رد ) معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول مثل: خلق ومخلوق، ونسخ ومنسوخ، وكأنه قال: فهو باطل غير معتد به. واللفظ الثاني وهو قوله: من عمل، أعم من اللفظ الأول وهو قوله: من أحدث، فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه رد المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها، ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر لقوله: ليس عليه أمرنا، والمراد به أمر الدين وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد ا.هـ[7].
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة في العقود والشروط منها، فقال[8]:(/9)
القاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد. ومسائل هذه القاعدة كثيرة جداً.
والذي يمكن ضبطه فيها قولان، أحدهما: أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك: الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته. فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد. فإن أحمد قد يعلل أحياناً بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس. كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه. وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون: ما خالف مقتضى العقد فهو باطل. أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقداً ولا شرطاً إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع. وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك طرداً جارياً. لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم.
- وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه يصحح في العقود شروطاً يخالف مقتضاها في المطلق. وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه. ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار، ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال. ولهذا منع بين العين المؤجرة. وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته. وإنما جوز الإجارة المؤخرة، لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة، أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به، أو أن يشترط المشتري بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره. ولم يصحح في النكاح شرطاً أصلاً، لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ. ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما. ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقاً. وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر، وهو عنده موضع استحسان.(/10)
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص. فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع، حتى منع الإجارة المؤخرة، لأن موجبها – وهو القبض – لا يلي العقد ولا يجوز أيضاً ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق، لما فيه من السنة والمعنى، ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه، كبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك. ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، ولا يجوِّز اشتراطها دارها أو بلدها، ولا أن يتزوج عليها ولا يتسرى، ويُجوِّز اشتراط حريتها وإسلامها. وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه، كالجمال ونحوه. وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار، وانفساخه بالشروط التي تنافيه، كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار. بخلاف فساد المهر ونحوه.
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها، ونحو ذلك من المصالح. فيقولون: كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل. إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين.
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه يجوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي. فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض.(/11)
هؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم، لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر. وعمدة هؤلاء: قصة بريرة المشهورة. وهو ما خرجاه في الصحيحين عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيْرَةُ فَقَالَتْ كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِ عَامٍ أُوقِيّة فَأَعِيْنِينيِ فَقُلْتُ إنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُون وَلاَؤُكِ ليِ فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيْرَةُ إلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ فَأَبَوا عَليْهَا فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَتْ إِنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوا إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُم الْوَلاَء فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُم الوَلاَءَ فإنّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَفَعَلتْ عَائِشَة ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النّاسِ فَحَمِدَ الله وأَثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((أَمّا بَعْدُ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ الله ؟ مَا كَانَ مِن شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُو بَاطِلٌ وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإنّمَا الْوَلاَءُ لِمنْ أَعْتَقَ))وَفِي رِوَايةٍ لِلْبُخَارِي ((اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَلْيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا))فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْها وَاشْتَرط أَهْلُهَا وَلاَءَها فَقَالَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الْوَلاَءُ لِمنْ أَعْتَق وَإنِ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْط))– وَفِي لَفْظٍ ((شَرْطُ اللهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ))وَفِي الصَّحِيحَيْنِ ((عن عَبْدِاللهِ بنِ عُمر، أَنَّ عَائِشَةَ أمَّ المؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ(/12)
تَشْتَري جَارِيَةً لِتُعْتِقَهَا فَقَالَ أَهْلُهَا نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلاَءَهَا لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ((لاَ يَمْنَعَنّكِ ذَلِكَ فَإنّما الوَلاَءُ لِمنْ اَعْتَقَ)). وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَريَ جَارِيَةً فَتُعْتِقَها فأبى أَهْلُهَا إلا أَنْ يكُونَ لَهُمُ الْوَلاء فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: ((لاَ يَمْنَعَنّكِ ذَلِكَ فَإنّمَا الْوَلاءُ لِمنْ أَعْتَقَ)).
ولهم من هذا الحديث حجتان:
إحداهما قوله: ((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل))فكل شرط ليس في القرآن، ولا في الحديث، ولا في الإجماع: فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة، أو في الإجماع. فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع.
ومن قال بالقياس – وهم الجمهور – قالوا: إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة، أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله: فهو في كتاب الله.(/13)
الحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء، لأن العلة فيه: كونه مخالفا لمقتضى العقد. وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييراً لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات. وهذا نكتة القاعدة. وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع. ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي – في أحد القولين – لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطاً يخالف مقتضاها. فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر، ومتابعة لعبدالله بن عمر، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج. ويقول: ((أليس حسبكم سنة نبيكم ؟)) وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. وقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعدٍ لحدود الله، وزيادة في الدين.
وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا: ذلك منسوخ. كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية. أو قالوا: هذا عام أو مطلق. فيخص بالشرط الذي في كتاب الله.
واحتجوا أيضاً بحديث يروي في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهىَ عَنْ بَيْعٍ وَشرْطٍ)) وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء. وذكروا أنه لا يعرف أن الأحاديث الصحيحة تعارضه. وأجمع الفقهاء المعروفون – من غير خلاف أعلمه عن غيرهم – أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتباً أو صانعاً، أو اشتراط طول الثوب، أو قدر الأرض، ونحو ذلك: شرط صحيح.(/14)
القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط: الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله، نصاً أو قياساً، وعند من يقول به. وأصول أحمد المنصوصة عنه، أكثرها يجيء على هذا القول. ومالك قريب منه، ولكن أحمد أكثر تصحيحاً للشروط. فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحاً للشروط منه.
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعاً من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطاً يخالف مقتضى العقد، أو لم يرد به نص. وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة مالا تجده عند غيره من الأئمة. فقال بذلك وبما في معناه قياساً عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص، فقد يضعفه أو يضعف دلالته. وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط. كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقاً، فمالك يجوزه بقدر الحاجه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، يجوز شرط الخيار في النكاح أيضاً. ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه. ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق، فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط. والنقص منه بالشرط مالم يتضمن مخالفة الشرع. كما سأذكره إن شاء الله.
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك، وإذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير، اتباعاً لحديث جابر، لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله واستثنى ظهره إلى المدينة.
- ويجوز أيضاً للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما، اتباعاً لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة، واشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش.(/15)
- ويجوز – على عامة أقواله –: أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها. كما في حديث صفية. وكما فعله أنس بن مالك وغيره، وإن لم ترض المرأة، كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع، لكنه استثناها بالنكاح، إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز، بخلاف منفعة الخدمة.
واستمر رحمه الله في ذكر الأمثلة إلى أن قال:
- وجماع ذلك: أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة. فكلما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع يجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، وجوز أيضاً استثناء بعض التصرفات.
وعلى هذا فمن قال: هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، قيل له: أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقاً ؟ فإن أراد الأول: فكل شرط كذلك. وإن أراد الثاني: لم يسلم له، وإنما المحذور: أن ينافي مقصود العقد، كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد، فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده. هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي.(/16)
- أما الكتاب: فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} والعقود هي العهود. وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله، وبالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، بدليل قوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله، وبالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، بدليل قوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد، كالنذر والبيع، إنما أمر بالوفاء به.
- ولهذا قرنه بالصدق في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر، والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل، كما قال تعالى: {ومِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
واستمر رحمه الله في ذكر آيات في الحث على الوفاء بالعهود والتحذير من نقضها إلى أن قال:(/17)
- والأحاديث في هذا كثيرة، مثل ما في الصحيحين عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَان مُنَافِقَاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاق حَتّى يَدَعَهَا: إذَاَ حَدَّثَ كَذَب، وَإذَ وَعَدَ أَخْلَف، وَإذَا عَاهَدَ غَدر وَإذَا خَاصَمَ فَجَر))وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يُنْصَبُ لِكُلِ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَة))وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبي سَعِيدٍ عَنِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالْ: ((لِكُلِ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اِسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة))وفِي رِوَايةٍ ((لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ أَلاَ وَلاَ غَادِرَ أَعْظَمُ غَدَرةً مِنْ أَمِيرِ عَامّة))وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ بنِ الحَصِيْبِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمّر أَمِيراً عَلى جَيْشٍ أَوْ سَرِيّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقَوى اللهِ وفِيمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمينَ خَيْراً ثُمَّ قَالَ: أُغْزُوا بِاسْمِ اللهِ وفِي سَبِيلِ اللهِ وَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللهِ أُغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلا تَغْدُرُوا وَلاَ تُمَثِّلُوا وَلاَ تقْتُلُوا وَلِيداً وَإذَا لَقِيتَ عدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ فادْعُهُمْ إلى ثلاَثِ خِصَالٍ أَوْ خِلاَلٍ فأَيّتُهُنَّ ما أَجابُوكَ فاقْبلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عنْهُمْ))– الحديث. فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول.(/18)
- وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل يغدر؟ فقال: لا يغدر، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئاً إلا هذه الكلمة. وقال هرقل في جوابه: سألتك: هل يغدر؟ فذكرت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر))فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين.
- وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: ((إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوْج))فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، أن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها.
- وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ الله تَعَالى: ((ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَه: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَر وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اِسْتَأجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أجْرَه))فذم الغادر. وكل من شرط شرطاً ثم نقضه فقد غدر.
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك.
ولو كان الأصل فيها الحظر والفساد، إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقاً ويذم من نقضها وغدر مطلقاً، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجباً، كالصلاة والزكاة، فإنه يؤمر به مطلقاً. وإن كان لذلك شروط وموانع. فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك. كذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحياناً لعارض، ويجب السكوت أو التعريض.(/19)
وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأموراً به: علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده. ومقصود العقد: هو الوفاء به فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.
وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سلمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((الصُّلْحُ جائز بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلاَّ صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً، وَالمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ))وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية: هو ثقة. وضعفه في رواية أخرى.
وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: ((الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمينَ إلاَّ صُلْحَاً حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً))قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وروى ابن ماجه منه الفصل الأول، لكن كثير ابن عمرو ضعفه الجماعة. وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به. فلعل تصحيح الترمذي له بروايته من وجوه. وقد روى أبو بكر البزار أيضاً عن محمد بن عبدالرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((النّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَ الْحَقّ))– وهذه الأسانيد – وإن كان الواحد منها ضعيفاً – فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضاً.(/20)
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله. فإن شرطه حينئذ يكون مبطلاً لحكم الله وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط مالم يكن واجباً بدونه، فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجباً ولا حراماً، وعدم الإيجاب ليس نفياً بالإيجاب حتى يكون المشترط مناقضاً للشرع، وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب مالم يكن واجباً، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الأقباض مالم يكن واجباً، ويباح أيضاً لكل منهما ما لم يكن مباحاً، ويحرم على كل منهما مالم يكن حراماً. وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين. وكذلك إذا اشترط صفة في البيع، أو رهناً، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها، فإنه يجب، ويحرم ويباح بهذا الشرط مالم يكن كذلك.
- وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، قال: لأنها إما أن تبيح حراماً، أو تحرم حلالاً، أو توجب ساقطاً، أو تسقط واجباً، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كل ما كان حراماً بدون الشرط: فالشرط لا يبيحه، كالربا وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح، أو ملك يمين، فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز، وكذلك الولاء، فقد ((نَهَى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ)) وجعل الله الولاء كالنسب، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد.(/21)
- وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنِ ادَّعَى إلى غيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَليْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِين، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفَاً وَلاَ عَدْلا))وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، وانتساب المعتق إلى غير مولاه. فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراماً، وأما ما كان مباحاً بدون الشرط: فالشرط يوجبه، كالزيادة في المهر والثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء. فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالأنظار، ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجباً، وإذا وجب فقد حرَّم المطالبة التي كانت حلالاً بدونه، لأن المطالبة لم تكن حلالاً مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقاً فما كان حلالاً وحراماً مطلقاً فالشرط لا يغيره.
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصية ولم يبحه مطلقاً، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله، كذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة، ولم يحرمه مطلقاً، لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب.
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر رضي الله عنه ((مقطع الحقوق عند الشروط)).
وأما الاعتبار فمن وجوه. أحدها: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية. والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم، كما أن الأعيان: فيها عدم التحريم. وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} عام في الأعيان والأفعال، الأصل وإذا لم يكن حراماً لم تكن فاسدة، وكانت صحيحة.(/22)
وأيضاً فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط، إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالاً وإما عفواً، كالأعيان التي لم تحرم.
وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة، والاستصحاب العقلي، وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها، سواء سمي ذلك حلالاً أو عفواً على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم، فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع: منه ما سببه تحريم الأعيان، ومنه ما سببه تحريم الأفعال. كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسياً ويأمرونه بالتعري، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل إمرأته في فرجها إذا كانت مجنبة، ويحرمون الطواف بالصفا والمروة، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع. فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم.(/23)
فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة، وإن لم يثبت حلها بشرع خاص، كالعهود التي عقدها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها، وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين مالم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه الله. فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي، كنا محرمين ما لم يحرمه الله. بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله. فإن الله حرم أن يشرع من الدين مالم يأذن به. فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر. فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع. كالعتق والصدقة.
فإن قيل: العقود تغير ما كان مشروعاً، لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتاً على حال فعقد عقداً أزاله عن تلك الحال: فقد غير ما كان مشروعاً، بخلاف الأعيان التي لم تحرم، فإنه لا يعتبر في إباحتها.
فيقال: لا فرق بينهما. وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكاً لشخص أو لا تكون. فإن كانت ملكاً فانتقالها بالبيع إلى غيره لا يغيرها، وهو من باب العقود. وإن لم تكن ملكاً فملكها بالاستيلاء ونحوه: هو فعل من الأفعال مغير لحكمها، بمنزلة العقود.
وأيضاً فإنها قبل الزكاة محرمة. فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال. فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة: الأصل فيه الحل، وإن غير حكم العين. فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها: الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك.(/24)
وسبب ذلك: أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا، لم يثبته ابتداء، كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة، فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم، ولم يحرم الشارع علينا رفعه: لم يَحْرُم علينا رفعه. فمن اشترى عيناً فالشارع أحلها له وحرمها على غيره، لإثباته سبب ذلك. وهو الملك الثابت بالبيع. وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك، فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب، مالم يحرمه الشارع عليه. كمن أعطى رجلاً مالاً: فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه. وإن كان مزيلاً للملك الذي أثبته المعطي مالم يمنع مانع. وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها، وهو أن الأحكام الجزئية – من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو – لم يشرعها الشارع شرعاً جزئياً، وإنما شرعها شرعاً كلياً، مثل قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وهذا الحكم الكلي ثابت، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد. فإذا وجد بيع معين أثبت ملكاً معيناً. فهذا المعين سببه فعل العبد. فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته الله من الحكم الجزئي، إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط، لأن الشارع أثبته ابتداء.
وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام. وليس كذلك فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته الشارع. وأما هذا المعين فإنما ثبت؛ لأن العبد أدخله في المطلق، فإدخاله في المطلق إليه، فكذلك إخراجه. إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبداً، مثل أن يقول: هذا الثوب بعه أو لا تبعه، أو هبه أو لا تهبه، وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين.(/25)
فتدبر هذا، وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد. وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع، فإنما وجب الوفاء بها لايجاب الشارع الوفاء بها مطلقاً، إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل والعقلاء جميعهم وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن، ولايجاب العقل أيضاً.
وأيضاً فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد، لأن الله قال في كتابه العزيز: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}. وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه فدل على أنه سبب له، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم. وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات، قياساً عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن. وكذلك قوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة. وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع: ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك.(/26)
وأيضاً فإن العقد له حالان: حال إطلاق، وحال تقييد. ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود، فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به ينافي العقد المطلق. فكذلك كل شرط زائد. وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد: احتاج إلى دليل على ذلك، وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد. فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود. فقد جمع بين المتناقضين: بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء. ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل العقد عندنا.
تعاد الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصود الملك، والعتق قد يكون مقصوداً للعقد. فإن اشتراءَ العبد لعتقه يقصد كثيراً. فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقْ))فإذا كان الشرط منافياً لمقصود العقد كان العقد لغواً. وإذا كان منافياً لمقصود الشارع كان مخالفاً الله ورسوله. فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما، فلم يكن لغواً، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله، لأنه عمل مقصود الناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.
وأيضاً فإن العقود والشروط لا تخلو، إما أن يقال لا يحل ولا يصح، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص، من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور. كما ذكرناه من القول الأول، أو يقال: لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعي، وإن كان عاماً، أو يقال: تصح ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام.(/27)
والقول الأول: باطل، لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم. فقال سبحانه في آية الربا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل مفهوم الآية – الذي اتفق العمل عليه – يوجب أنه غير منهي عنه. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّمَا قَسْمٍ قُسِمَ فِي الجَاهِليّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمْ وَأَيُّمَا قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الإِسْلاَمُ فَهُو عَلى قَسْمِ الإسْلاَم))وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل: هل عقد به في عدة أو غير عدة؟ بولي أو بغير ولي؟ بشهود أو بغير شهود؟ ولم يأمر أحداً بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته، إلا أن يكون السبب المحرم موجوداً حين الإسلام.. كَمَا أَمَرَ غَيْلاَنَ بنِ سَلَمَةَ الثّقَفِيِ الّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَنْ يُمْسِكَ أَرَبَعاً وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنَّ وَكَما أَمَرَ فَيْرُوزاً الدَّيْلَمِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا وَيُفَارِقَ في الأُخْرَى، وَكَمَا أَمَرَ الصَّحَابَة مَنْ أَسْلَمَ مِنَ المْجُوس أَنْ يُفَارِقَ ذَوَاتِ المَحَارِم)) ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع. ولو كانت العقود عندهم كالعبادات، لا تصح إلا بشرع، لحكموا بفسادها، أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع.(/28)