|
المؤلف : مجموعة من العلماء والدعاة والمفكرين
حتى آخر شهر صفر من عام 1429هـ
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
ثالثًا: القوى المعادية للإسلام وأهله:
ومن أهمها الاستشراق والتنصير والماسونية والصهيونية، حيث يبحث علم الثقافة الإسلامية شبهات هذه القوى والرد عليها وبيان ضررها على الإسلام والمسلمين.
رابعًا: المذاهب والنظريات الحديثة:
ومن أهمها الرأسمالية الاشتراكية وأما النظريات فأهمها العلمانية والتطويرية والوجودية والفرويدية، حيث يسعى علم الثقافة الإسلامية إلى بيان ما يتفق من تلك المذاهب مع الإسلام وما يختلف معه كما يسعى إلى نقد مبادئها الفاسدة وإثبات إخفاقها في إسعاد البشرية ونجاح الإسلام ومبادئه.
وأما أثرها في الحياة المعاصرة فلا شك أنه أثر كبير جدًا حيث كان المسلمون في العصور المتأخرة قد حصر بعضهم الإسلام في قضايا العقيدة والعبادة والحدود وانزوى المسلمون عن ممارسة الحياة العامة في ضوء الإسلام فجاءت الثقافة الإسلامية في ثوبها الجديد لتوضيح أن الإسلام نظام شامل وكامل للحياة وأن العبادة في الإسلام كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. كما تم تبيين مفاهيم الحرية والديموقراطية والمدنية وغيرها من المفاهيم بما يتفق ومبادئ الدين الإسلامي.
كما ناقشت الثقافة الإسلامية المذاهب المعاصرة وناقشت شبهها ومناهجها نقاشًا علميًا هادئًا ومن هنا نشأت ثقافة إسلامية متميزة واستطاع الكتَّاب الإسلاميون أن يصنعوا الشخصية الإسلامية المتميزة التي تسعى إلى بناء حضارة وثقافة إسلامية خاصة مع الاستفادة من النظريات الأخرى بما لا يتعارض مع عقيدتنا الإسلامية الصافية[17].
(/9)
وأدى إلى تصنيف الثقافة الإسلامية في المجال العقدي دراسة تأصيلية لقضايا الجهاد وشروطه وضوابطه حيث كثر الخلط في هذه النقطة عند كثير من شبابنا المعاصرين وكذلك الولاء والبراء وفي المجالات العامة التركيز على قضايا حقوق الإنسان بمفهومها الإسلامي وتطبيقاتها في أنظمتنا المعاصرة والتركيز على بيان حقوق غير المسلمين من المواطنين وغيرهم والتحدث عن المواطنة وبيان منهج الفكر الإسلامي فيها وأنها في محصلتها لا تتعارض مع أصول وقواعد الشريعة الإسلامية، وكذلك الحديث عن قضايا الإرهاب وموقوف الإسلام منها والشبهات التي تثار في هذا الجانب والحديث عن مفهوم الأمن في الإسلام ومبادئه وركائزه.
وقد قامت كلية الملك فهد الأمنية بمناقشة هذه القضايا في منهج الثقافة الإسلامية الجديد وكذلك منهج مادة حقوق الإنسان.
خامساً: الضرورة المعاصرة لتأصيل علم الثقافة الإسلامية كتخصص من برنامج الدراسات العليا:
(/10)
بما أننا قد توصلنا إلى أن الثقافة الإسلامية علم جديد ومعاصر وأنه أصبح مستقلاً عن غيره من العلوم الإسلامية له موضوعاته الخاصة وأسلوبه الخاص وكتابه الخصوصيون فإن بقاءه وتطوره مرهون بتخريج أجيال تقوم بتأصيله وتطويره وتدريسه في جميع المراحل وخاصة المراحل الجامعية، فقد دأبت بعض الجامعات الإسلامية كجامعة الأزهر، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة إلى جعل الثقافة الإسلامية قسمًا متخصصًا ولكن مع الدعوة فسمته قسم الدعوة والثقافة الإسلامية ومنحت جامعة الأزهر رسائل الماجستير والدكتوراه في الثقافة الإسلامية، وأما جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فقد أنشأت قسمًا خاصًا سمته قسم الثقافة الإسلامية في كلية الشريعة وكان يمنح رسائل الماجستير والدكتوراه في مجال الثقافة الإسلامية ولكنها أوقفت الدراسات العليا في هذا التخصص ولا ندري ما السبب. ولكن بقاءه مغلقًا يمثل تراجعًا كبيرًا لهذه الجامعة العظيمة ولكن بعض التيارات الفكرية التي تدعي السلفية كان لها دور في هذا الأمر.
وإني لأرجو من جميع الجامعات الإسلامية أن تحرص على الدراسات العليا في مجال الثقافة الإسلامية حتى نخرج المفكرين الإسلاميين الذين يتصدون للقضايا المعاصرة في مجالات الفكر والمذاهب الفكرية المعاصرة.
وإني لأرجو أن تكون جامعة الملك فيصل بالأحساء سباقة إلى هذا الأمر والله أسأل للجميع التوفيق والسداد.
الخاتمة:
توصلت في هذه الورقة المختصرة إلى نتائج من أهمها:
1- أن علم الثقافة الإسلامية علم جديد نشأ في القرن العشرين نتيجة الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين.
2- اختلف الباحثون المعاصرون في تعريف الثقافة الإسلامية لكن رجحت أن تعريف الثقافة الإسلامية هو: ((معرفة التحديات المعاصرة المتعلقة بمقومات الأمة الإسلامية ومقومات الدين الإسلامية بصوره مقنعة وموجهة)) وبهذا التعريف تكون الثقافة الإسلامية علمًا مستقلاً.
(/11)
3- تبحث الثقافة الإسلامية الإسلام بصفته كلاً مترابطًا ووحدة متكاملة وأن الثقافة الإسلامية تؤصل وتنقد، تؤصل الإسلام من خلال نظمه الإسلامية لتنتقد المناهج المعاصرة نقدًا علميًا.
4- الثقافة الإسلامية لها مصادر أصلية هي القرآن والسنة وفرعية هي المصادر التشريعية الأخرى والتراث الإسلامي والخبرات الإنسان التي لا تتعارض مع الدين الإسلامي.
5- تناقش الثقافة الإسلامية نظم الدين الإسلامي والمفاهيم العامة مثل الحرية والتسامح الديني والعلم والقوى المعادية للإسلام والمذاهب والنظريات الحديثة.
6- أن الضرورة تقتضي تأصيل علم الثقافة الإسلامية كتخصص دقيق في الدراسات العليا لتخريج معلمي الثقافة الإسلامية في الدراسات العليا والجامعية وتخريج المتخصصين والمفكرين الإسلاميين في هذا المجال.
ـــــــــــــــــــــ
[1] معالم الثقافة الإسلامية، تأليف عبدالكريم عثمان، ط3، الرياض، مؤسسة الأنوار، 1399هـ-1979م، ص(3).
[2] سورة القصص، الآية (77).
[3] انظر: معالم الثقافة الإسلامية، ص(7-8).
[4] سورة الحج، الآية (77).
[5] سورة الأعراف، الآية (29).
[6] سورة آل عمران، الآية (104).
[7] سورة الحديد، الآية (25).
[8] راجع مقدمات في الثقافة الإسلامية لمفرح بن سليمان القوس، ط2، دار الغيث للنشر، الرياض، 1418هـ-1998م، ص(30)، وراجع مدخل إلى الثقافة الإسلامية لعبدالرحمن الزنيدي، ص(2-3).
[9] مقدمات في الثقافة الإسلامية، ص(31).
[10] راجع دراسات في الثقافة الإسلامية، تأليف محمد عبدالسلام محمد وآخرون، ط5، الكويت، مكتبة الفلاح، 1408هـ-1987م، ص(12-13).
[11] راجع فيما مضى دراسات في الثقافة الإسلامية، ص(11-13)، ومقدمات في الثقافة الإسلامية، ص
(/12)
(27-29)، ومدخل إلى الثقافة الإسلامية، تأليف سعود بن سلمان آل سعود ونعمان السامرائي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1419هـ-1998م، ص(29)، ونظرات في الثقافة الإسلامية، تأليف محفوظ على عزام، الرياض، دار اللواء، 1404هـ-1984م، ص(28-23)، وأضواء على الثقافة الإسلامية، لنادية شريف العمري، ط7، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1477هـ-1997، ص(17).
[12] راجع: مقدمات في الثقافة الإسلامية ص(33-34)، وأضواء على الثقافة الإسلامية ص(49-50)، ودراسات في الثقافة الإسلامية ص(12).
[13] راجع: مقدمات في الثقافة الإسلامية ص(35-35)، ودراسات في الثقافة الإسلامية ص(12، 13).
[14] سورة الأنعام، الآية (38).
[15] سورة الإسراء، الآية (9).
[16] راجع فيما سبق دراسات الثقافة الإسلامية ص(26 حتى 28)، ومدخل إلى الثقافة الإسلامية ص(47)، ومقدمات في الثقافة الإسلامية ص(35-36)، ونظرات في الثقافة ألإسلامية ص(33).
[17] راجع: مقدمات في الثقافة الإسلامية ص(32-33)، ونظرات في الثقافة الإسلامية ص(31-32)، ودراسات في الثقافة الإسلامية ص(24-25).
(/13)
العنوان: الثقافة الإسلامية وقضايا المرأة
رقم المقالة: 1326
صاحب المقالة: د. أحمد الشرقاوي
-----------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ)[1]، { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }[2] وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةَ حقٍّ نسألُهُ عَلَيْهَا الثبات، في الحياةِ وعِنْدَ الممات، ونشهد أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وخليلُه، بعثَهُ بعدَ دُرُوسِ السُّبُل، وطُمُوس الملل، وفترةٍ مِنَ الرُّسُلِ؛ رحمةً لجميعِ الكائناتِ، وأرسله بالهدى ودين الحق لِيُظْهِرَهُ على سائر الدياناتِ، وأنزل عليه آياتٍ بيناتٍ، وبراهينَ نيراتٍ؛ عصمةً ونجاة، ودستورًا للحياة، مَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِهِ فَازَ بالجنَّاتِ، ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَدْيِهِ مُنِيَ بالحَسَرَاتِ، وطُرِحَ في الدَّرَكَاتِ.
صَلَواتُ ربِّي وسلامُهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِه أّهْلِ الفَضْلِ والمَكْرُمَات، ومن تبعهُ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ والسَّموات. { قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }[3].
سُبْحَانَكَ الَّلهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بالقلمِ القُرُونَ الأُولى
أَخْرَجْتَ هذا العَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيْتَهُ النُّورَ المُبِينَ سَبِيلاً
أَرْسَلْتَ بالتَّورَاةِ مُوسَى هَادِيًا وابنُ البَتُولِ تعلَّمِ الإٍنجيلَ
وَفَجَّرْتَ يَنْبُوعَ البيانِ مُحَمَّداً فَسَقَى الحديثَ وَنَاوَلَ التنزِيلَ[4]
(/1)
أما بعد: فمادة الثقافة الإسلامية من المواد الأساسية التي تدرس بالمملكة العربية السعودية في المرحلة الجامعية فضلا عن مرحلة ما قبل الجامعة، لذا كانت أهمية عقد هذا المؤتمر للنظر في مقرراتها،ودراسة محتوياتها، والتركيز على القضايا المهمة والمسائل الملحة التي تهم الدارسين، ومن أهم القضايا التي ينبغي أن تعالجها مقررات الثقافة الإسلامية قضايا المرأة؛ وذلك نظرا لأهمية دراستها والبحث فيها؛ فالمرأة نصف المجتمع، و"النساء شقائق الرجال"[5]، وللمرأة دورها العظيم في صلاح المجتمع وإصلاحه.
ولقد أدرك ذلك أعداء الإسلام: فسعوا إلى استقطاب المرأة وتغريبها بكل الوسائل والأساليب وبكل ما لديهم من طاقات وإمكانيات.
ولقد اطلعت على كثير من المقررات التي تدرس في العديد من الجامعات والكليات فوجدت اقتضابا شديدا عند الحديث عن قضايا المرأة، بل إن بعض المقررات قد خلا تماما من أي معالجة لتلك القضايا المهمة، رغم ما تقتضيه الضرورة أن تعالج قضايا المرأة من خلال مقررات الثقافة الإسلامية وتعطى المساحة الكافية؛ وذلك لما يلي:
• تبصير المرأة بحقوقها في الإسلام لتعرف مدى تكريم الإسلام لها وعدالته ورحمته بها ومراعاته لطبيعتها، ولتحصن نفسها وأسرتها من كيد الأعادي، كما يجب عليها معرفة واجباتها حتى تؤديها على أتم وجه، وحين تعرف ما لها من حقوق فإنها تدافع عن هذا الدين الذي كرمها وأنصفها.
(/2)
• تذكير النساء بفضل الله تعالى عليهن وإكرامه لهن فيزددن إقبالا على الطاعات وقرباً وحباً وحمداً لرب العالمين، وتنافسا على نصرة هذا الدين، ولذلك لما أنزل الله براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وقالت لها أمها قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت رضي الله عنها وَاللّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ، لاَ أَحْمَدُ إِلاّ اللّهَ[6]، فطنت عائشة إلى أن هذه البراءة نزلت من عند الله وأن الواجب عليها أن تبادر إلى شكر الله تعالى، وعلى المسلمة أن تستحضر دائما تلك النعم قال تعالى في سورة البقرة { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } سورة البقة: آية (231).
• تفنيد العديد من الشبهات التي أثارها وروَّجها أعداء الإسلام وأدعياؤه - بسوء نية وخبث طوية حول موقف الإسلام من المرأة؛ سعيا إلى تشويه صورة الإسلام، ودفع المرأة في طريق لا تحمد عقباه؛ تحت شعارات براقة ودعوات هدامة ودعاوى زائفة.
• دعوة غير المسلمات إلى اعتناق هذا الدين العظيم الذي تجد المرأة فيه الأمن والأمان والسكينة والاطمئنان والسعادة والهناء وتتمتع فيه بحقوقها الطبيعية الشرعية.
• تحصين المسلمة من الدعوات الهدامة وتحذيرها من الاغترار بالشعارات البراقة التي تُرفع في الظاهر باسم حرية المرأة ومساواتها بالرجال، وما هي إلا دعوة إلى شقاء النساء وثورة على فطرتهن وتجاهل لطبيعتهن.
• بيان الفرق بين الحقوق التي تدعو إليها الفطرة وتقبلها العقول، وبين الحقوق التي تأباها الفطرة وتمُجُّها العقول.
• كشف زيف الأديان الوضعية والمحرفة، ونظرتها القاصرة وأحكامها الجائرة، وتصوراتها الحائرة عن المرأة وحقوقها وواجباتها.
(/3)
• معرفة مدى شقاء المرأة ومعاناتها في ظل المذاهب الوضعية والفلسفات النظرية التي فشلت في تحقيق السعادة والطمأنينة للمرأة، ومع ذلك فما زال هناك من يدين بها ويدعو إليها، مع فشلها الذَّريع في عقر دارها كالشيوعية البائدة والوجودية البائسة وغيرهما من المذاهب والفلسفات الهدامة التي ابتليت بها الإنسانية وأضحت المرأة من أكبر ضحاياها وأعظم المتضررين منها.
هي لو علمتِ ضحيّةُ لعصابةٍ ذهبتْ لجني المال أسوأ مذهبِ
هي صورةٌ لمجلّة، هي لعبةٌ لعبت بها كفّ القصيّ المذنبِ
هي لوحة قد علِّقت في حائطٍ هي سلعةٌ بيعتْ لكلّ مخرّبِ
هي شهوةٌ وقتيّة لمسافرٍ هي آلةٌ مصنوعةٌ لمهرّبِ
هي رغبةٌ في ليلةٍ مأفونة تُرمَى وراءَ البابِ بعد تحبُّبِ
هي دُمْيَةٌ لمسابقات جمالهم جُلبت، ولوعصت الهوى لم تجلبِ
• تبصير المسلمة بخطر تلك المؤامرات التي تُحاك ضد المرأة باسم المؤتمرات التي تعقد في الشرق تارة وفي الغرب تارة أخرى والتي تخرج بقرارات مدمرة للمرأة والأسرة والمجتمعات الحاضرة.
يا ربّة البيت الكريم لواؤها بالطّهر مرفوع عظيم الموكبِ
البيت مملكة الفتاة وحصنُها تحميه من لصِّ العفاف الأجنبي
لا تركني لقرار مؤتمر الهوى فسجيّة الداعي سجيّة ثعلبِ
لا تخدعنّك لفظة معسولةٌ مُزجت معانيها بسمِّ العقربِ
(/4)
• بيان بطلان بعض التقاليد البالية والممارسات الخاطئة المنتشرة في بعض الأقطار والتي تكشف عن ظلمٍ بيِّن للمرأة؛ باسم العادات والتقاليد: فنجد من يحرم الإناث من الميراث ليستأثر به الذكور، ونسمع عمن يمنع المرأة من الميراث في الأراضي والعقارات، ونسمع عمن يمنعون المرأة من الخروج بالنهار في أيام عدتها لقضاء مصالحها أو لطلب العلم أو لكسب العيش باسم العادات والتقاليد، وفي بعض البلدان تحرم المرأة المتوفى عنها زوجها من الزواج، فإذا تزوجت اتهموها بالتصابي والتَّنكُّر لزوجها الراحل! وربما حرموها من أولادها، وقد جرت عادة بعض البلدان ألا تتزوج المرأة قبل سنة من وفاة زوجها، مخالفين بذلك ما جاء به الكتاب والسنة أن المرأة تنقضي عدتها بأقرب الأجلين الوضع إذا كانت حاملا أو الأربعة أشهر وعشرة أيام ن كما نسمع عن الآباء الذين يعضلون البنات ليستأثر براتبها أو لتقوم بخدمته فيفوتها قطار الزواج، فإذا وافق على زواجها حرمها من صداقها واستأثر به ليبدده على ملذاته أو يضيفه إلى رصيده وثرواته، كما نسمع عن حرمان المرأة من حقها في الاختيار، ونسمع أيضا عمن يصادر حرية زوجته ويمنعها من إبداء رأيها في أي أمر يخص البيت متعللاً بأحاديث واهية مثل شاوروهن وخالفوهن، أو بناء على فهمه الخاطئ للأحاديث الصحيحة الواردة في شأن المرأة، وتجد أيضاً من لا يعدل بين زوجاته فيميل إلى إحداهن، ويهمل الأخريات فيساهم بذلك في إعطاء صورة سيئة للتعدد يستغلها أعداء الإسلام في الهجوم على هذا التشريع الرباني والدعوة إلى تحريمه وتجريمه كما حدث في بعض البلدان مثل تونس وغيرها!
(/5)
• وتجد من يبكي ويتألم ويصرخ حين يرزقه الله عز وجل بأنثى فيعاملها بقسوة ويفرط في حقوقها الشرعية، بل وربما تمنى رحيلها مردداً بعض الأحاديث الموضوعة مثل: "دفن البنات من المكرمات" ويميز ولده عليها في كل شيء حتى في المأكل والمشرب، وربما خرجت تلك الفتاة معقدة كارهة لأبيها ولأخيها بل ولجنس الرجال، ناهيك عن نظرة بعض المجتمعات للمطلقة وتحميلها كل المسئولية عن طلاقها وربما حرمانها من حقها المشروع في الزواج، وأذكر أن أمًّا موسرة قاطعت ولدها المُعْدِم لأنه تزوج من مطلقة! والأمثلة على هذا الظلم الاجتماعي كثيرة، ومما يؤسف له محاولات بعض المارقين أن يلصقها بالدين ليضع لها مبرراً شرعياً وبعض أعداء الإسلام وأدعيائه يحاولون الخلط بينها وبين تعاليم الإسلام حتى يتوهم العوام والجُهَّال، أنها من الإسلام وليست من الإسلام في شيء، وفي بعض المجتمعات يصبح اسم المرأة عورة لا يجوز الإفصاح عنه، وهذا أمر مخالف لتعاليم الإسلام وإلا فمن أين لنا معرفة أسماء أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابيات والتابعيات، فمن حق المرأة أن تعرف باسمها وكنيتها ولقبها إن كان لها كنية ولقب، فيا عجبا كيف تتخبط بعض المجتمعات في ظلمات التقاليد البالية وبأيدينا دستور للحياة ونور لكل درب كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
• إبراز محاسن هذا الدين والحديث عن سماحته وتيسيره وشموله لجميع جوانب الحياة، وهذا مقصد شرعي وأمر ضروري سِيَّما أمام غير المسلمين؛ فإن الواجب علينا أن نعرفهم بسماحة الإسلام ويُسره: روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت"وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبه لأنظر زَفْنَ الحبشة حتى كنت الذي مللت وانصرفت عنهم قالت: وقال يومئذ: لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، أي أرسلت بحنيفية سمحة"[7].
(/6)
• معالجة كل ما يستجد من قضايا وأطروحات حول المرأة في ضوء الشريعة الإسلامية الغراء مثل قيادة المرأة للسيارات وإمامة النساء للرجال وتولي المرأة الولاية العامة والقضاء.
• من هنا كانت أهمية دراسة قضايا المرأة في ظل الثوابت والمتغيرات مع ضرورة مراعاة هذه المقاصد والأهداف عند الكتابة عن قضايا المرأة، والتأصيل الشرعي لقضايا المرأة في ضوء الكتاب والسنة.
• ضرورة توحيد مناهج الثقافة الإسلامية بجامعات وكليات المملكة.
• فكرة تخصيص منهج مستقل بعنوان "ثقافة المرأة المسلمة" تدرَّس فيه حقوق المرأة وواجباتها وجهودها على مر التاريخ، ودورها في نشر الإسلام وبناء الحضارة الإسلامية، ورد الشبهات المثارة حول موقف الإسلام منها، ومعالجة كل القضايا المستجدة في عالم المرأة، والإفادة من محتويات هذا المنهج في دراسة قضايا المرأة ضمن مقررات الثقافة الإسلامية.
خطة بحث حول: ثقافة المرأة المسلمة
وتشتمل هذه الدراسة على مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة:
مقدمة: وتشتمل على أهمية الموضوع وخطة البحث ومنهجه
الباب الأول: حول الثقافة الإسلامية
ويشتمل على خمسة فصول:
الفصل الأول: مفهوم الثقافة الإسلامية.
الفصل الثاني: أهداف دراسة الثقافة الإسلامية.
الفصل الثالث: خصائص الثقافة الإسلامية.
الفصل الرابع: مصادر الثقافة الإسلامية.
الفصل الخامس: مقارنة بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى.
الباب الثاني: حقوق المرأة المسلمة
تمهيد: وهو بعنوان: المرأة بين الماضي والحاضر
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المرأة بين الأديان الوضعية والمحرفة.
المبحث الثاني: المرأة في ظل الفلسفات والحضارات الزائفة.
المبحث الثالث: المرأة في رحاب الإسلام: ويشتمل على أربعة مطالب:
المطلب الأول: تكريم الإسلام للمرأة.
المطلب الثاني: إنصاف الإسلام للمرأة.
المطلب الثالث: رحمة الإسلام بالمرأة.
المطلب الرابع: وصية الإسلام بالمرأة
(/7)
الفصل الأول: الحقوق الاجتماعية ويشتمل على مبحثين
المبحث الأول: حقوق عامة:
حق الحياة.
حق الحرية.
حق العلم.
حق الكرامة.
حق المساواة.
حقوق المسلمات.
حقوق غير المسلمات.
المبحث الثاني: حقوق خاصة
حق الأم.
حق البنت.
حق الأخت.
حق الزوجة.
حقوق المطلقة والأرملة.
حق الجارة.
الفصل الثاني: الحقوق الاقتصادية
حق التملك.
حق التصرف.
حق العمل.
حق الميراث.
الفصل الثالث: الحقوق السياسية
1 - حق إبداء المشورة لولي الأمر.
2 - حق إسداء النصح للحاكم.
3 - الإنكار على الحاكم الظالم.
4 - حق المرأة أن تجير.
5 - حق متابعة الأحداث الجارية.
6 - حق استشراف المستقبل السياسي.
7 - حق المطالبة بحقوقها والدفاع عنها.
8 - حقوقها القضائية.
9 - حقها في البيعة.
10 - حق المشاركة في الجهاد.
الباب الثالث: واجبات المرأة المسلمة:
الفصل الأول: واجبات المرأة المسلمة نحو ربها.
الفصل الثاني: واجبات المرأة المسلمة نحو بيتها.
الفصل الثالث: واجبات المرأة المسلمة نحو مجتمعها.
الباب الرابع: مناقشة لأهم قضايا المرأة المعاصرة
ويشتمل على الفصول الآتية:
الفصل الأول: حكم تولي المرأة الولايات العامة والقضاء.
الفصل الثاني: حجاب المرأة المسلمة.
الفصل الثالث: حكم قيادة المرأة للسيارات.
الفصل الرابع: تعدد الزوجات.
الفصل الخامس: ظاهرة العنوسة أسبابها والحلول الشرعية لها.
الفصل السادس: اقتصاديات الأسرة.
الفصل السابع: المرأة في وسائل الإعلام.
الفصل الثامن: دور المسلمة في الدعوة إلى الله.
الفصل التاسع: دور المرأة في إصلاح المجتمع والنهوض به.
الفصل العاشر: المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة.
الفصل الحادي عشر: المرأة المسلمة في مواجهة التحديات: ويشتمل على مبحثين
المبحث الأول: التحديات الداخلية.
المبحث الثاني: التحديات الخارجية.
نبذة عن الموضوع:
(/8)
• للمرأة في رحاب الإسلام مكانةٌ عظيمة، ومنزلةٌ كريمة، فهي المعلمة الأولى في مدرسة الأجيال، وهي الدعامة الأساسية في بناء المجتمعات، وهى حصن ركين، وركن حصين لهذا الدين، هي الزوجة الصالحة، والأخت الناصحة، والأم الرءوم، والبنت الحانية، هن ينابيع الحنان وحصون الأمان ومصابيح البيوت، ودعائمها.
• أنصف الإسلامُ المرأة وأوصى بها خيرًا وكرَّمها أسمى تكريم، كرَّمها أمًّا وزوجةً وبنتًا وأختًا: كرَّمها أمًا: بأن جعل الجنة تحت قدميها، وجعل برَّها سبيلا للجنة، وكرَّمها زوجةً بأن جعلها مودةً ورحمةً، وواحةً وسكنًا، وكرمها بنتًا وأختًا بأن جعل تأديبها والإحسان إليها حجابًا من النار[8].
• ومع هذه المكانة السامقة والمنازل الباسقة، التي تبوأتها المرأة في الإسلام والرعاية والعناية التي حظيت بها في ظلال تعاليمه السمحة الكريمة إلا أن أعداء الإسلام وَمِنْ ورائهم أدعياؤه افتعلوا وجود خصومة بين السنة والمرأة سعيا إلى التشكيك في السنة والإعراض عنها وصرف المسلمة عن شريعة ربِّها، وحرمانها مما جاءت به من عدل ورحمة.
• واستعانوا بأعوانهم من المأجورين في تصويب سهامهم المسمومة وإثارة شبهاتهم المزعومة نحو هذا الجانب المشرق الوضاء الذي يُعَدُّ مفخرةً ومكرُمةً لهذا الدين، وكلُّ ما في الإسلام مشرقٌ وضاء، ولكن:
وما ضرَّ الورودَ وما عليها إذا المزكومُ لم يَطْعَمْ شَذَاهَا
(/9)
فأعداء الإسلام يكابرون ويجحدون وعن آيات الله يستكبرون، { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } ( النحل 83 )، {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ *وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} ( سورة الأنعام 32، 33 ).
فالعجب كيف أعرض أكثرهم وهم يعلمون أنه الحق من عند ربهم والعجب كيف صارت محاسن الإسلام هدفًا لسهام أعداء الله ! ومثارا لاستخفافهم، على حد قول الشاعر:
إذا محاسني اللاتي أُدِلُّ بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذرُ[9]
إنه سوء النية وخبث الطوية التي دفعتهم إلى تلك الحملة الشرسة على روائع هذا الدين، والهجمة الضارية على أحكام النساء؛ "فإنَّ وَرَاءَ الأكَمَةِ مَا وَرَاءَهَا"[10].
وكما يرمي الصيادُ بالطُّعم لفريسته فيقدم لها ما تشتهيه وتقبل عليه وهي لا تعلم أن فيه أسرها وحتفها كذلك رفع أعداؤنا شعاراتٍ براقةً تميل لها القلوب المتعطِّشة، وتحِّنُّ إليها النفوسُ المُتشوِّقة إلى أجواءِ الحرية وآفاق الحضارة وميزان العدالة، فتسارع إلى الوقوع في الشَّرَك[11] التي نصبت من أجلها: وباسم الحرية والمساواة وتحت شعار العدالة والإنصاف تتم المؤامرة على المرأة المسلمة فيسلبونها عزتها وكرامتها.
• فباسم التحضر: يريدون أن يخلعوا عنها تاج عزها وعفتها ويُلقون بها في مستنقعات الرذيلة.
• وباسم مواكبة روح العصر: يريدونها مقلدة تجعل من الغربية أنموذجا لها في ملابسها ومجالسها ومشيتها وأكلتها وطريقتها في الحياة لتشارك النساء الغربيات في الشقاء والضياع.
(/10)
• وباسم الصحة الإنجابية ينفق أعداء الإسلام المليارات في بلاد المسلمين لترويج الثقافة الجنسية بين الفتيان والفتيات في سن المراهقة، ويسعون إلى تجريم الزواج المبكر، وإلى تحديد النسل، وتحريم التعدد.
• وباسم الحقوق: يريدونها أن تنشغل عما طلب منها بما لم يطلب منها ولم يفرض عليها، يريدونها أن تتخلى عن أعمال لا يمكن أن يقوم بها غيرها، وتزاحم الرجال في أعمالهم.
• وباسم المساواة أشعلوا نار الصراع بين الرجل المرأة فصارت الحياة معارك حامية بين الرجال والنساء، وتسابقا محموما على المناصب والدرجات.
• وباسم محاكاة الغربيات يريدون أن يوصِّلوا المرأة إلى ما وصلت إليه المرأة الغربية لتصبح فريسةً سهلة المنال بين أيادي العابثين.
• وباسم النظام الدولي الجديد ومن بعده باسم العولمة والإصلاحات، يسعون إلى إملاء أوامرهم وتنفيذ مخططاتهم؛ إرضاءً لشياطين الإنس، ورضوخًا لأوامرهم التي لا تنتهي.
• وباسم الحرية يسعون إلى التحرر من الأخلاق والقيم النبيلة والتمرغ في أوحال الهوى ومستنقعات الرذيلة، وهم لا يريدون تحرير المرأة وإنما يريدون تحرير الوصول إليها والنيل منها! والله تعالى يحذرنا من مكائدهم وأهدافهم فيقول سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا *يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا} ( سورة النساء: 28).
• أبعد هذا كله تتعلق المرأة المسلمة بأهداب الغرب الواهنة وحباله البالية، أتريد أن تجني هذا الحصاد المر وتتجرع من المذلة والهوان كؤوسا مترعات، وتصل إلى هذه الدروب الملتوية والطُّرق المسدودة؛ باسم التغريب تارة وباسم الحرية تارة أخرى ؟
(/11)
هَرَبُوا مِنَ الأمرِ الذي خُلِقُوا لَهُ وَرَضُوا بِِرقِّ النَّفسِ والشيطانِ
أختَاه كيفَ ظننتِ أنَّ مُعَرْبداً يَسْعَى بِمُؤْمِنَةٍ لِأَمْر سَام ؟
• وإذا كنا قد ألمحنا إلى موقف الغرب المتعصِّب من الإسلام عامة ومن قضية المرأة على سبيل الخصوص ولسوف تتبين لنا الكثير من الحقائق والتفاصيل حول هذا الموضوع، فلا يفوتنا أن نشير إلى أن هناك تعصبا من نوع آخر وتعصبا مقيتا وظلما بيِّناً للنساء؛ باسم العادات والتقاليد: فقضايا المرأة في العالم الإسلامي يتجاذبها طرفان كل منهما على طرفي نقيض، أما أحدهما فإنه متمسك ببعض التقاليد الراكدة وبعض الأفكار المظلمة، فهم يحجرون على المرأة ويلزمونها البيت ويمنعونها من طلب العلم باسم الدين وهم ولا شك أصحاب عقول متحجرة ومفاهيم قاصرة ونظرات متحيرة، وهذا الفريق في حاجة إلى إعادة النظر وإمعان الفكر والتحرر من تلك القيود، وإذا كان أصحاب هذه الأفكار قد ضربوا الحصار على أنفسهم، وحجروا على عقولهم وعطَّلوا أفكارهم، ولم ينظروا للإسلام نظرة شمولية فارتفعت أصواتهم وتعالت صيحاتهم تطالب بإغلاق جميع الأبواب والعزلة المطلقة عن جميع المجتمعات، فإن هناك من آمنوا بالغرب إيمانا مطلقا وأقبلوا على جميع التعاليم الغربية ودعوا إلى الانفتاح على الغرب، واستهوتهم الحضارة الغربية فأقبلوا عليها ونهلوا من معينها ورضوا بما فيها من خير وشر وحلو ومر.
(/12)
• إن قضايا المرأة من أهم القضايا التي عالجها الإسلام، فالمرأة نصف المجتمع والمرأة هي الأم والأخت والبنت والعمة والخالة والزوجة والقريبة والجارة والمسلمة،.. ولما كانت المرأة تمثل جانبا كبيرا من جوانب المجتمع، ولما كان دورها في الحياة دورا عظيما، على اختلاف مسئولياتها وتبعاتها، ولما كانت هي الركن الركين في المجتمع المسلم: على محورها تدور أقطاره وتتلاقى أطرافه وتجتمع أقطابه، فقد كان العمل على صبغها بالصبغة الغربية وتحويل فكرها وعواطفها في اتجاه الغرب من أعظم أهداف أعداء الإسلام، ولقد أسعف هؤلاء الحاقدين وساعد على تحقيق بعض أغراضهم ورواج أفكارهم ما عليه العالم الإسلامي الآن من تخلف وضعف، فقاموا بالربط بين الإسلام وبين تخلف المسلمين زاعمين أن الإسلام هو سبب التأخر وأن الطريقة المثلى أمام المسلمين هي التخلي عن دينهم والتحرر من سلطانه كما تحرر الغرب من سلطان الكنيسة، ونحن وإن كنا نوافقهم في أن القيود التي فرضتها الكنيسة في عصور سلطتها وهيمنتها كانت من أسباب تأخر الغرب وتخلفه وكانت دعوة إلى الرجعية والجمود، ولكننا نختلف معهم اختلافا جوهريا في زعمهم الكاذب أن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين، والحقيقة التي لا مراء فيها: أن سبب تخلف المسلمين في هذا العصر هو بعدهم عن الإسلام، ويزعم الغرب حاليا أن حضارتهم قدمت الكثير للمرأة وحققت لها ما لم تحققه حضارة أخرى، أما الإسلام عندهم فهو عدو المرأة وهو الذي حرمها من حقوقها وأثقل كاهلها بالواجبات، ويخلصون من ذلك إلى أن المرأة المسلمة لابد أن تتحرر وتثور على هذا الموضوع، وأن تحتج على هذا الظلم وأن تقلد المرأة الغربية التي نالت كلَّ ما تصبو إليه وتساوت مع الرجل في الحقوق والواجبات.
إنَّ البناءَ وإنْ تَسَامَى واعتَلَى ما لم يُشَيَّدْ بالتُّقَى ينهارُ
تبقى صروحُ الحقِّ شامخةً وإِنْ أَرْغَى وَأَزْبَدَ حَوْلَهَا الإِعْصَارُ
(/13)
قد يحصدُ الطغيانُ بعضَ ثمارِهِ لكنَّ عُقْبَى الظالمين دَمَارُ
• ونحن اليوم نتساءل: لماذا كانت هذه الدعاوى المحمومة في سبيل تحرير المرأة ؟ هل لتنهض بالأمة ؟ هل لتسمو ببيتها وتعلو بأولادها وزوجها إلى مراقي السعادة، أم لكي تذوب المرأة المسلمة في خضم تقليدها للمرأة الغربية، والتي ضاعت وأصبحت متاعاً مباحاً وكَلأً ليس له من يحرسه ولكن تنتهك حرماته !!
زعموا السفور والاختلاط وسيلةً للمجدِ قومٌ في المجانةِ أُغْرِقُوا
كَذَبُوا متى كان التعرضُ للخَنَا شيئاً تعِزُّ به الشعوبُ وتسبِقُ
والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــ
(/14)
[1] رواه ابن ماجة في السنن ونصه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يُحِبُّ قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحاتُ " وإذا ما يكره قال: " الحَمْدُ لِلَّهِ على كلّ حالٍ " سنن ابن ماجة كتاب الأدب باب فضل الحامدين حديث 3803 وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح، ورجاله ثقات" ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص 334حديث 378 والحاكم في المستدرك 1/499 وقال: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه، كما أورده الذهبي في تلخيصه وذكره النووي في الأذكار باب ما يقول إذا رأى ما يحب وما يكره ص499 حديث 837 وقال: " روينا في كتاب ابن ماجة وابن السني بإسناد جيد "، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أبي نعيم في حلية الأولياء 3/157 وفي إسناده الفضل بن عيسى الرقاشي وهو متروك وأخرجه البغوي في شرح السنة 5/189، 180 عن محصن الفهري عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ومن طريقه البغوي في شرح السنة 5/180 وفي إسناده عبد الله بن أبي رافع مجهول وله شاهد آخر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 3/131، وله شاهد آخر من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخرجه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم 1/403 145حديث، وقال محقق الكتاب الشيخ صالح الونيان بعد دراسة إسناده بهذا الإسناد ضعيف لجهالة حال عبد الله بن أبي رافع وابنه محمد، والحديث صحيح من طريق ابن ماجة " والحديث بمجموع طرقه وشواهده حديث حسن، وأورده الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجة 3066 وصحيح الجامع 4727 وصحيح الكلم الطيب 113.
[2] سورة الشورى: (25).
[3] سورة البقرة آية (32).
[4] الأبيات من قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي ومطلعها قم للمعلم وفِّهِ التبجيلَ - الشوقيات 1/180.
(/15)
[5] الحديث " إنما النساء شقائق الرجال " رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أم سلمة 6 / 256 والترمذي في السنن أبواب الطهارة باب ما جاء في من يستيقظ فيرى بللاً ولا يذكر احتلاما 1 / 232 حديث 113 - وأبو داود في السنن عن عائشة كتاب الطهارة باب في الرجل يجد البلة في منامه 1/ 101 حديث 236 –والدارمي في السنن كتاب الطهارة باب في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل 1/ 214 حديث764 - وفي المنتقى لابن الجارود 1/ برقم 90- ومسند أبى عوانة 1/244 برقم 832، والحديث بمجموع طرقه صحيح، صححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي 1 / 189 وصححه الألباني وأورده في صحيح سنن الترمذي 1 / 35 – برقم 98.
[6] رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه " قَالَتْ: فَلَمّا سُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوّلَ كَلِمَةٍ تَكَلّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: "أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللّهُ فَقَدْ بَرّأَكِ" فَقَالَتْ لِي أُمّي: قُومِي إِلَيْهِ. قَالَتْ: وَاللّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ. لاَ أَحْمَدُ إِلاّ اللّهَ. هُوَ الّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي " صحيح البخاري كتاب الشهادات باب: تعديل النساء بعضهن بعضا 2/173 حديث 2661 وصحيح مسلم كتاب التوبة باب في حديث الإِفك، وقبول توبة القاذف 4/2129 حديث 56 - ( 2770 ).
[7] رواه الإمام أحمد في مسنده 6/116 وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط حديث قوي وهذا سند حسن ط مؤسسة قرطبة القاهرة بتعليق الشيخ شعيب وأورده الألباني في الصحيحة – 4/443 حديث 1829 وقوله: زَفَنَ: أي رَقَص ولعب، وفي النهاية وأصل الزَّفْن: اللَّعبُ والدفعُ.
[8] سيأتي في ثنايا البحث بيان ذلك إن شاء الله عند الحديث عن حقوق الأم والبنت والأخت.
[9] البيت للبحتري.
(/16)
[10] قال في المصباح: الأكمة تل والجمع أكم وأكمات، مثل قصبة وقصب وقصبات. وجمع الأكم إكام مثل جبل وجبال وجمع الإكام أكم مثل كتاب وكتب وفي مجمع الأمثال: " إنَّ وَرَاءَ الأكَمةِ مَا وَرَاءَهَا " أصله أن أَمَةً واعدت صديقها أن تأتيه وراء الأكمة إذا فرغَت من مهنة أهلها ليلا، فشغلوها عن الإنجاز بما يأمرونها من العمل، فقالت حين غلبها الشوقُ: حبستموني وإن وراء الأكَمَة ما وراءها، يضرب لمن يُفْشِي على نفسه أَمْرَاً مستوراً".
[11] الشَّرَك فخُّ الصياد.
(/17)
العنوان: الجبرتي المؤرخ وموقفه من الدعوة السلفية
رقم المقالة: 270
صاحب المقالة: حمد الجاسر
-----------------------------------------
الدعوة الإصلاحية المباركة التي قام بها الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – وتولى نشرها الأئمة المصلحون من آل سعود حتى أتت ثمارها الطيبة أطيب ما تكون الثمار، وأجزلها نفعاً، هذه الدعوة لا يزال تاريخها في حاجة إلى دراسات عميقة، تعتمد على مختلف المصادر، لأن الباحث متى تعمق في البحث وجد من المصادر على اختلافها ما يضيف إلى تاريخ تلك الدعوة جوانب هامة فيها العبرة وفيها الإعجاب بالمثل العالية وبما قام به رجال تلك الدعوة من علماء وملوك وقادة من أعمال مجيدة. لقد كتب عنها كثير من الكتاب وتناولها المؤرخون من جوانب مختلفة غير أن أكثر من كتب عنها يرتكز – أقوى ما يرتكز – على مصادر تنظر إلى تلك الدعوة النظرة الصحيحة وفات كثير من مؤرخيها أن من استكمال عملهم الرجوع إلى مختلف المصادر أيّاً كانت نظرتها إلى تلك الدعوة فالحق يتضح عند معرفة الباطل (وبضدها تتميز الأشياء).
ولقد مضى الزمن الذي كان يخشى فيه من تأثير بعض المؤلفات المناوئة لتلك الدعوة الكريمة بعد أن أصبحت أرفع ما تكون عزة وإنتصاراً، واتضح لكل الناس أنها هي عين ما دعا إليه محمد عليه الصلاة والسلام من التوحيد الخالص، لا يماري في ذلك إلى من أعمى الله بصيرته. {ومن يضلل الله فما له من هاد}.
إن في بعض المؤلفات التي كتبت عن تلك الدعوة والتي لم تدرس الدراسة الوافية مواقف لا يصح إغفالها لمن يحاول أن يعرف تاريخها متكاملاً.
(/1)
هذا بالإضافة إلى إبطال كل ما ألصق بها من باطل، وإظهار زيفه، وإبراز الجوانب المفيدة، في أي مصدر كان، ومن الأمثلة على ذلك أن مؤرخ مصر أثناء قيام حكامها بمحاربة القائمين بالدعوة ونشرها والاستيلاء على قاعدة بلادهم (الدرعية) وقتل أئمتهم من علماء ورؤساء، ونفي آخرين عن أوطانهم، كان ذلك المؤرخ يسجل تلك الحوادث وهو بين سمع ألدّ أعداء الدعوة وبصرهم، ويعيش في كنفهم، وتحت سيطرتهم ونفوذهم، ومع ذلك سجل أشياء لا يصح إغفالها للمعنيين لا بتاريخ الدعوة نفسها بل بتاريخ المسلمين عامة في مختلف أقطارهم في ذلك العهد.
والجبرتي وإن كان يكتب عن تلك الدعوة كتابة المؤمن بها، وبأنها هي الحق إلا أنه وهو يكتب عن تأثير الحركات التي قام بها محمد علي للقضاء عليها وما جرَّته على بلاد مصر وغيرها من الخراب والدمار في الحياة الاقتصادية يبرز ناحية هامة جديرة بعدم إغفال المؤرخين لها.
إن الجبرتي يكتب عن الدعوة الإصلاحية كتابة المؤرخ المنصف ولا يقلّل هذا كلمات نابية تخللت بعض نصوصه، نرى عدم صحة نسبتها إليه، ولن نقول مع القائلين بأنه كان يتخذ منها (تقية) فقد صرح في مواضع كثيرة برأيه تصريحاً لا مواربة فيه.
وما كتبه هذا المؤرخ المنصف وصرح به في أحرج أوقات تلك الدعوة شدها بلاء عليها في عنفوان سيطرة أعدائها وانتصارهم وقوتهم يعتبر موقفاً رائعاً لهذا المؤرخ. يرتفع به إلى مصاف المجاهدين.
ولا غرابة إذن أن يتصدى صديقنا الأستاذ محمد أديب غالب لاستخلاص ورد في مؤلف ذلك العالم من أخبار هذه الدعوة وأهلها، وما يتصل بها، والتعليق عليه وتقديمه للقاريء، مرتباً على السنوات مجموعاً في كتاب، ليتسنى دراسته والاستفادة منه، واستخلاص العبرة من أن صولة الباطل مهما بلغت من القوة ستضمحل، وأن النصر دائماً للحق.
(/2)
وعمل الأستاذ هذا جدير بأن يجد التقدير من كل معنيٍّ بتاريخ هذه الدعوة الإصلاحية، بل بتاريخ الأمة الإسلامية في عصورها المتأخرة، اعتبار تلك الدعوة المباركة أبرز حركات التطور الإسلامي وأقواها وأعمقها في حياة المسلمين عامة.
وليس عمل الأستاذ بالأمير اليسير، إذا نظرنا إلى قيمة الوقت نظرة صحيحة، فتصفح كتاب يقع في أربعة مجلدات لاستخلاص تلك النصوص، وجمعها، مع التعليق عليها يحتاج إلى زمن لا يتوفر لكل باحث. يضاف ذلك أن الأستاذ محمد أديب أوضح من حياة المؤرخ الجبرتي – بما أورد نصوصه – جانباً ما كان واضحاً إلا لقليل من الباحثين من مناصري دعوة الحق والإصلاح، وممن قرأ كتابه، كمؤلف هذا الكتاب، زاده الله توفيقاً وعوناً.
والحمد لله أولاً وآخراً.
(/3)
العنوان: الجديد في تعقيب جمال خاشقجي
رقم المقالة: 1983
صاحب المقالة: د. سعد بن مطر العتيبي
-----------------------------------------
الجديد في تعقيب جمال خاشقجي على توهين روايته عن ابن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد؛
فقد قرأتُ ما جاء في ملحق الدين والحياة جوابًا من الكاتب الإعلامي جمال خاشقجي على مقالي في نفي صحة ما نسبه إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- من القول بأن ولاية بناظير بوتو لرئاسة مجلس الوزراء ليست ولاية عامة! ذلك القول الذي يتعارضُ صراحةً مع ما حرّره الشيخ ابنُ باز -رحمه الله- بنفسه من جواب خطي لمجلة المجتمع -آنذاك- أكَّد فيه أن ولاية مجلس الوزراء ولاية عامة.
وهنا أشكر الكاتب جمال خاشقجي على هذا التفاعل مع الموضوع؛ ومن فوائده أنَّنا اطلعنا على تفاصيل جديدة عن ذلك اللقاء؛ إذْ قرأنا في العدد التالي مداخلة فضيلة الشيخ صالح السحيباني؛ أجزل الله مثوبته، فقد أتحفنا بتفاصيلَ مهمةٍ عن قصة لقائهم بسماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله-، وهي المداخلة التي جاءت تعقيبًا واستدراكًا على الرواية التي نشرتها جريدةُ الحياة عن الكاتب جمال خاشقجي والرواية التي جاءت في تعقيبه في ملحق الدين والحياة بصحيفة عكاظ.
وهنا أريد أن أقف مع تعقيب الكاتب الإعلامي جمال خاشقجي، ومع مداخلة فضيلة الشيخ صالح السحيباني وقفاتٍ أرجو أن تكون نافعةً ومفيدة لنا جميعًا. وهي كما يلي:
أولاً: مدار النقّاش وصلب الموضوع هو: التحقق من دقة ما نسبه الكاتب جمال خاشقجي إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- من القول بأن ولاية بناظير بوتو لرئاسة مجلس الوزراء ليست ولاية عامة! وذلك في قوله في جريدة الحياة إن الشيخ ابن باز -رحمه الله- قال: "إن الولاية المنهي عنها في الحديث هي الولاية العامة، وولاية بوتو ليست كذلك".
(/1)
وقد جاء في التعقيب والمداخلة ما يثبت عدم صحة هذا القول عن الشيخ أيضاً، ومما يؤكِّد ذلك ما يلي:
1) جاء في تعقيب الكاتب جمال خاشقجي ما يكشف وقوعَ وهم في نقله عن الشيخ -رحمه الله- ويبدو أن من أسباب ذلك: وجود لَبْس في تصور المسألة السياسية لديه؛ فقد أورد في تعقيبه روايةً تختلف اختلافًا واضحًا عما قاله في جريدة الحياة، فقد جاء في تعقيبه في ملحق الدين والحياة بعكاظ، ما نصّه: "واستفتيته في أمر ولاية بنازير فرد رحمه الله دون تردد (إن رئاسة الوزارة ليست الولاية العظمى)، وإنه على الرغم من تحفظه على ولايتها كامرأة، فإنه لا يجوز الخروج عليها خوفا من الفتنة"؛ وقد أحال في ذلك إلى مقالٍ له نشره قبل بضع سنوات (مع تحفظي على ما ورد في مقاله ذاك، من معلومات وأحكام وأسلوب خطاب). بينما جاء في تصريحه لجريدة الحياة ما نصّه: "وسألته [يعني الشيخ ابن باز رحمه الله] عما إذا كانت ولاية بوتو شرعية، وأنه يتعين على الباكستانيين خلعها، وحاولت دفعه لإصدار فتوى ضدها، لكنه رفض، وقال: إن الولاية المنهي عنها في الحديث هي الولاية العامة، وولاية بوتو ليست كذلك".
(/2)
ووجه الاختلاف بين الروايتين يكمن في الفرق بين الولايتين: (الولاية العامة) و(الولاية العظمى)، وهو فرق واضح ومعروف عند المتخصصين وغيرهم ممن لهم عناية بالثقافة الإسلامية، وتوضيحا لذلك –بعيدًا عن التعريفات العلمية الأكاديمية– أقول: تعد الولاية العظمى رأس الولايات وأساسها، فهي منصب الرجل الأول في الدولة كالملك في نظام الحكم الملكي والرئيس في النظام الجمهوري مثلا، أما الولايات العامة فهي وإن كانت تشمل الولاية العظمى أو الإمامة العظمى عند الإطلاق، إلا أنها أوسع مدلولا، فإنَّها تطلق على الولايات المتفرعة عن الولاية العظمى مما يتعلق بتدبير شؤون الجميع، كولاية الوزراء مثلا، فالوزير صاحب ولاية عامة في وزارته، مع أن ولاية الوزارة ليست ولاية عظمى، وبعض الباحثين يلحق رئيس الوزراء بمنصب الإمام الأعظم، في الدساتير التي يكون تفويض الرئيس فيها لرئيس الوزراء عامًّا، فيشترط فيه ما يشترط في الإمام الأعظم.
وعلى كل حال؛ فمحل الإشكال في موضوعنا هو إخراج منصب رئاسة الوزراء من (الولاية العامة)، لا رئاسة الوزراء من (الولاية العظمى)؛ والحقيقة أنَّ رئاسة الوزراء من الولاية العامة، وهو ما أثبته الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- في جوابه الذي حرّره مكتوبًا لمجلة المجتمع، والذي نقلت نصّه في المقال الأول.
والتفريق بين منصب رئيس الدولة ورئيس الوزراء موجود أيضا لدى القانونيين، فإنهم يفرقون بين المنصبين، حتى لو كان شخص رئيس الدولة هو نفسه شخص رئيس الوزراء، ولدينا –الآن- في المملكة: نجد أن الملك هو نفسه رئيس مجلس الوزراء؛ ولكنه يتولّى مهام منصب الملك، بصفته ملكًا، ومهام منصب رئيس مجلس الوزراء بصفته رئيسًا لمجلس الوزراء لا بصفته ملكًا؛ وكلها من الولاية العامة.
(/3)
2) ما جاء في تعقيب الأخ جمال خاشقجي من توضيحٍ لسبب فتوى الشيخ بعدم سحب الثقة من حكومة بوتو، فقد قال في النص الذي أوردته عنه في الفقرة السابقة: "وإنه على الرغم من تحفظه على ولايتها كامرأة، فإنه لا يجوز الخروج عليها خوفًا من الفتنة"، وهو ما بيَّنه أكثر في تأكيد ما ذكرته في سبب منع الشيخ -رحمه الله- للخروج على بناظير بوتو في حال ثبوت الفتوى عنه. فقد قال الأخ جمال في تعقيبه على ما ذكرته بهذا الشأن: "هذا التحليل صحيح، فالشيخ لم يوافق على ولاية بوتو بالشكل المطلق، وفتواه التي نشرت بالمجتمع كانت عن ولاية المرأة بشكل مطلق فكان رده الشرعي المتوقع ولكنه كان واقعيًا، وعندما كان السؤال عن حكم الخروج عليها أو نقض ولايتها والتظاهر ضدها كانت إجابته متفقة أيضا مع النهج السلفي الصحيح بعدم الخروج عليها درءًا للفتنة".
وهنا يكون الأخ جمال قد أوضح أنَّ منع الشيخ للخروج على بوتو ليس لأنه يرى جواز ولاية المرأة، وهو بهذا ينقض ما يفهم من تصريحه لجريدة الحياة بهذا الشأن، وهو ما كان محلا لتعليق كاتب جريدة الحياة على تصريحه. وهذا اضطراب يؤثرُ في دقة ثبوت الرواية.
3) جاء في تعقيب الشيخ صالح كشف لعدد من المسائل المهمة، في نقد رواية الأخ جمال خاشقجي، ومن أهمها: المسألة محل النقاش مع الشيخ -رحمه الله-، فقد بيّن لنا الشيخ صالح أنَّها كانت: سحب الثقة عن حكومة بوتو، لا الخروج على ولايتها؛ وفرق بين الأمرين، فالأول سياسي قانوني، والثاني غير قانوني، والأمر ليس كذلك في مسألة الخروج على الولاية، واستعمال المسائل المتاحة قانونًا الجائزة شرعًا أمرٌ مشروع بخلاف عكسه. وهذه المسألة وما جاء في جواب الشيخ لها من تفاصيل تكشف الفقه السياسي الشرعي للواقعة بظروفها، فالشيخ -رحمه الله- قد صرح بسبب منعه من سحب الثقة، وهو الأمر الذي يفهمه من له معرفة بمنهج الشيخ وتراثه العلمي السياسي.
(/4)
4) أنَّ الرواية التي رواها الأخ جمال خاشقجي -سلمه الله- كانت غريبة جداً على (مجموعة العلماء؟!) الذين ذكر أنَّهم كانوا معه حينها؛ فقد نفى الشيخ صالح السحيباني علمَه بأي طرح لها فضلاً عن جواب الشيخ عليها، وقد أكَّد هذا النفي رفيقُهما في الذهاب إلى الشيخ المهندس وائل جليدان. وهذا ما يزيد تأكيدَ تعارض تلك الرواية مع فقه الشيخ -رحمه الله-، وهو الأمر الذي حسمه من قبل ما حرَّره سماحة الشيخ –رحمه الله- من جواب خطي يناقض مضمونها؛ فقد جاء في مداخلة فضيلة الشيخ صالح السحيباني -سلمه الله- ما نصّه: "أما بالنسبة للولاية العامة والخاصة فلا أتذكر أن الحديث مع سماحته تعرَّض لذلك، وإن كان من نقاش حول هذه، فأجزم قاطعًا أني لم أسمعه ومن باب التأكد والحرص فقد اتصلت بأخي الأستاذ وائل لعله يتذكر هذا النقاش والحوار في موضوع الولاية فأخبرني بأنه لا يتذكر شيئا من هذا القبيل.
ولعله من المستحسن في هذا الخصوص أن يعود الأستاذ جمال إلى الشريط الذي سجل فيه الحوار مع سماحته آنذاك أو يرجع إلى الأرشيف في جريدة (المسلمون) لعله يعثر على نص الحوار المنشور في الجريدة مع سماحته.".
ابن باز والديمقراطية
ثانياً: ورد في تعقيب الأخ جمال وسؤالات الملحق ما يحسن التعليق عليه، لعموم الفائدة، ولا سيما أنَّه تضمن مسائل ينبغي توضيحُها من وجهة نظر شرعية. وأجملها في قضايا ثلاث:
(/5)
1) أؤكد ما ذكره الأخ جمال خاشقجي من أنَّ الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- يرفض الديمقراطية كفِكْر، ولكني أريد أن أوضح أنَّ موقف الشيخ -رحمه الله- من الديمقراطية كمنظومة فكرية مرفوضة، يختلف عن موقفه من الانتخابات كآلية مشروعة لاختيار أهل الولاية، إذ لا تلازم بين الأمرين عند عامة فقهائنا. وما يزعمه بعضُ الكتاب من أن العلماء في بلادنا يمنعون الانتخابات مطلقًا كلامٌ غير صحيح، والحديث في بيان ذلك يطول، وإنَّما أردت التنبيه على هذه القضية التي يرددها بعضُ الكتاب في الداخل والخارج، ولو رجعوا إلى فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية لتأكد لهم بطلانُ هذا الزعم. فقد أفتت اللجنة الدائمة بعدة فتاوى في مشروعية الانتخابات وقيودها وضوابطها، وسبقت بذلك مجمع الفقه الإسلامي.
مصادرة التسامح
2) جاء في خاتمة تعقيب الأخ جمال خاشقجي ما نصّه: "أرجو ألا يقع بعضُنا في فخ مصادرة التسامح الذي تميز به الشيخ -رحمه الله- وفقهه السياسي الذي يغلب المصلحة العامة على هوى الجمهور فنصادر فكره ومنهجه المتسامح لخدمة تيار الغلو الذي ساد وذلك بانتقاء فتاوي الشيخ وتصريحاته التي تخدم غرضهم الذي أتعبنا وأشقانا سامحهم الله وردهم إلى جادة الاعتدال والوسطية".
وهنا أريد أن أعقب بأمرين:
أولهما: أنَّ لفظة (التسامح) من الألفاظ التي تحتمل معنيين:
أ- معنى صحيح يتفق مع ديننا، وهو ما يعرف بالمعنى الشرعي للتسامح، ومداره على حقيقة العدل الإسلامي الذي يجمع بين الصدق في القول والحكمة في الدعوة وعدم الخروج على ثوابت العقيدة وأحكام الشريعة. ومن خصائصه: الرحمة والإحسان والوفاء بالعهود والمواثيق.
(/6)
ب- معنى فاسد وافد، وهو ما عُرّف به في بعض وثائق التسامح الأجنبية: "التسامح شكل من أشكال التحرر، التحرر من التحيز، والتحرر من العقيدة الجامدة!". وهو المعنى الذي عبّر عنه شاتليه في قوله: "مما يدعو إلى الاغتباط والسرور أننا اقتطفنا ثمرات أعمالنا في كل منطقة من مناطق التبشير، فالأوهام تبدّدت وحل محلها التسامح! والاهتمام الحقيقي بالتعاليم النصرانية.." وهو أيضاً ما عبّرت عنه مخططات مؤتمر كلورادو عام 1978م: "ثبت أنَّ الإسلام أرض وعرة صلبة، وأنّ الطريق مسدود، وأنّ مواجهة الكتاب والسنة لم يأتِ بنتيجة، فلنبدأ الاختراق من الداخل، بمعنى: عدم مواجهة القرآن، بل اختراقه! ولنبحث عن المصطلحات المشتركة بين الإسلام والمسيحية"، وذكروا لذلك عدة أمثلة.
وإنَّ مما دعاني للتذكير بهذا التقسيم للمعنى المحتمل للحق والباطل، ما نشاهده من استعمال لكلمة التسامح في غير موضعها، وما نراه من تفسير لها بغير معناها الشرعي؛ فعلينا أن نوضح المراد من الكلمات التي قد تُخترق بها ثوابتُ الأمة، والتنبيه على خطورة المعاني الفاسدة، كما هو النهج الشرعي في التعامل معها، كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] مع أن مؤدى الكلمتين في الأصل واحد، لكن لما استعملها اليهودُ استعمالاً فاسدًا، أمر الله تعالى المؤمنين بالعدول عنها.
ومما يلطف ذكره أن الأمم المتحدة قد استعملت في عنونة بعض مطبوعاتها حول التسامح عبارة (ما هو إلا العدل)! ونقول: العدل شريعة الله، والتسامح هو العدل والوسطية فيها.
وثانيهما: أنَّ التسامح لا يعني بحال من الأحوال التساهل في نقل الفتاوى عن العلماء، ولا السكوت عن بيان الخطأ في نقلها، مهما كانت النيات. ولا يتعارض هذا مع الأصل في حمل المسلم على المحمل اللائق به. فالسكوت على الخطأ شيء والتسامح مع المخالف في الرأي السائغ شيء.
(/7)
الانتقائية مع العلماء
3) نبّه الأخ جمال خاشقجي -في جوابه- على موضوع مهم، كشف فيه النقاب عن سوء تعامل فئة الغلو مع فتاوى العلماء، التي تقوم على الانتقائية؛ ومع تأكيدي لما قاله أضيف: إن الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل وجدنا منهم من يحكم على العلماء ويصفهم بما لا يليق بهم..
وكم كنت أتمنى أن يكون الأخ جمال خاشقجي أكثر إنصافًا وشجاعة، فلا ينسى الفئة المقابلة في الفكر: فئة الجفاء التي تسير في ذات الطريقة الممقوتة، فتنتقي من فتاوى العلماء ما يناسب خططها وأغراضها التي أساءت كثيرًا لسياسات الوطن وأنظمته ومؤسساته الشرعية وشوهتها أمام العالم، تلك الفئة التي تُشغِّب على الفتاوى الشرعية التي لا تخدم جفاءها، وإن كانت صادرة من العلماء الذين تنتقي بعض فتاويهم، وقد وجدنا من فئة الجفاء من يُحرّف فتاوى العلماء مع التعمدّ عن قصدٍ لا عن سوء فهم، وقد رددت على بعضهم من قبل.
كتب عن ولاية المرأة
4) فيما يخص موضوع ولاية المرأة لم أتحدث عن وجهة نظرٍ تخصني؛ ومن ثم فإنني أحيل إلى بعض الرسائل العلمية المحكمة التي تكشف الحقائق وتبين مواطن الإجماع في المسألة، وتحرِّر أقوال الفقهاء فيها، وتناقش الأدلة التي تطرح من كل فريق بأسلوب موضوعي، ووفق منهج علمي، بعيدًا عن اللغط الإعلامي والمغالطات الصحفية التي لا يجيزها المنهج العلمي. فمن تلك الرسائل العلمية المطبوعة، التي فيها مناقشة لما يردِّده بعض الكتّاب حول موضوع ولاية المرأة وحقوقها السياسية:
- ولاية المرأة في الفقه الإسلامي، لحافظ محمد أنور، وهي رسالة علمية بإشراف الشيخ الدكتور صالح السدلان. تقع في أكثر من ثمانمائة صفحة.
- المرأة والحقوق السياسية في الإسلام. للدكتور مجيد محمود أبو حجير. وقد حكمها كل من الأستاذ العلامة فتحي الدريني، والأستاذ محمد عثمان شبير.
(/8)
هذا ما رأيتُ التعقيب به ختمًا لما طرحته من قبل وجوابًا على ما جاء من تعقيب، ابتغاء الوصول للحقيقة، وبيان فقه السياسة في هذه الشريعة، والله الموفق.
(/9)
العنوان: الجزء الثامن من سلسلة لقاء العشر الأواخر
رقم المقالة: 264
صاحب المقالة: د. محمد بن تركي التركي
-----------------------------------------
صدر الجزء الثامن من سلسلة لقاءات العشر الأواخر بالمسجد الحرام (الرسائل من 81 إلى 95) ، عن دار البشائر الإسلامية ببيروت، 1427هـ - 2006م.
عناوين الرسائل :
1- جزء فيه أجوبة الإمام أبي العباس أبن سريج، في أصول الدين، بتحقيق الدكتور الشيخ وليد بن محمد بن عبد الله العلي.
2- التحفة اللطيفة في حادثات البعثة الشريفة، لابن الديبع الشيباني.
3- ومعها: تحفة النساك بنظم متعلقات السواك، للعلامة أبي بكر الأهدال، كلاهما بتحقيق الدكتور عبد الرؤوف الكمالي.
4- منظومة الأقفهسي فيما يحل ويحرم من الحيوان، للإمام شهاب الدين الأقفهسي، بتحقيق محمد خير رمضان يوسف.
5- كتاب الذبح والاصطياد المنتخب من كتب الشيخين ووجوه المتأخرين أهل التحقيق والاجتهاد، لبعض أئمة الشافعية.
6- ومعها: أخبار الثقلاء، للإمام الحسن بن محمد الخلال، كلاهما بعناية نظام محمد صالح يعقوبي.
7- المعين على معرفة الرجال المذكورين في كتاب الأربعين للنووي، لابن علان المكي، بتحقيق وتعليق الشيخ محمد بن ناصر العجمي.
8- بيان ما للحديث من مصطلح بشرح منظومة ابن فرح في مصطلح الحديث النبوي الشريف، للعلامة عبد القادر الغنيمي، بتحقيق الشيخ نور الدين طالب.
9- مسألة الغنائم، لابن الفركاح الفزاري، بتحقيق الدكتور عبد الستار أبو غدة.
10- إعانة القريب المجيب للطالب اللبيب في معرفة الوصية بالنصيب أو بمثل النصيب، للإمام أحمد بن داود الأهدل، بعناية الدكتور المهدي الحرازي.
11- إجازة العلامة الشيخ سعد بن حمد بن عتيق للعلامة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ.
12- إجازة العلامة الشيخ محمد أبي القاسم البنارسي للعلامة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، كلاهما بعناية الشيخ بدر بن علي بن طاف العتيبي.
(/1)
13- جزء فيه شروط النصارى، للقاضي عبد الله بن أحمد بن زبر الربعي، وبذيله: أحاديث لأبي محمد عبد الوهاب الكلابي، بتحقيق الشيخ أنس بن عبد الرحمن العقيل.
14- تشنيف السمع بأخبار القصر والجمع، للعلامة يوسف بن محمد الأهدل، بتحقيق الشيخ راشد بن عامر الغفيلي.
(/2)
العنوان: الجليس الصالح وجليس السوء
رقم المقالة: 544
صاحب المقالة: د. سعد بن عبدالله الحميد
-----------------------------------------
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70، 71].
أما بعد أيها الناس:
(/1)
فإن الإنسان في هذه الحياة لابد له من مخالطة الناس، واتخاذ بعضهم جليساً له، وعوناً على مشاكل الحياة، ولكن الناس متفاوتون في أخلاقهم وطباعهم، فمنهم الخيِّر والفاضل الذي يُنتفع بصحبته وصداقته، ومجاورته ومشاورته، ومنهم الرديء الناقص العقل، الذي يُتضرر بقربه وعِشْرته وصداقته، وجميع الاتصالات به ضرر وشرٌّ ونكد؛ ولذا يقول - صلى الله عليه وسلم - في وصف بني آدم واختلافهم: ((إن الله تعالى خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسَّهْل، والحَزْن، والخبيث، والطيب، وبين ذلك))؛ رواه أحمد، وأبو داود، وغيرهما.
إذا عُلم هذا أيها الإخوة؛ فاعلموا أن كثيراً من الناس إنما حصل له الضلال وجميع المفاسد بسبب خليله وقرينه؛ ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل))؛ رواه أحمد، والترمذي، وغيرهما.
فما من شيءٍ أدلُّ على شيءٍ من الصاحب على صاحبه، وقديماً قيل:
عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مَثَلَيْن للجليس الصالح، وجليس السوء:
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ الجليس الصالح وجليس السوء؛ كحامل المسك ونافخ الكِير، فحامل المسك: إما أن يُحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافح الكِير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة))؛ متفقٌ عليه.
(/2)
فهذا الحديث يفيد أن الجليس الصالح جميعُ أحوال صديقه معه خير وبركة، ونفع ومَغْنَم، مثل حامل المسك الذي تنتفع بما معه، إما بهبة، أو ببيع، أو أقل شيءٍ: مدة الجلوس معه وأنت قرير النفس، منشرح الصدر برائحة المسك، وهذا تقريبٌ وتشبيهٌ له بذلك، وإلا فما يحصل من الخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأَذْفَر: فإنه إمَّا أن يعلِّمك أموراً تنفعك في دينك، وإما أن يعلِّمك أموراً تنفعك في دنياك، أو فيهما جميعاً، أو يُهدي لك نصيحةً تنفعك مدة حياتك، وبعد وفاتك، أو ينهاك عمَّا فيه مضرَّةٌ لك؛ فأنت معه دائماً في منفعة، وربحك مضمون - بإذن الله. فتجده إن رأى أنك مقصِّرٌ في طاعة الله؛ أرشدك، فتزداد همَّتك في الطاعة، وتجتهد في الزيادة منها، وتراه يبصِّرك بعيوبك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، بقوله وفعله وحاله.
فالإنسان مجبولٌ على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنودٌ مجندةٌ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: ((الأرواح جنودٌ مجندةٌ، فما تعارف فيها ائتلف، وما تناكر منها اختلف))؛ فإن بعضها يقود إلى الخير، وبعضها يقود إلى الشرِّ.
وأقل نفعٍ يحصل من الجليس الصالح: انكفاف الإنسان بسببه عن السيئات والمساوئ والمعاصي؛ رعايةً للصحبة، ومنافسةً في الخير، وترفُّعاً عن الشرِّ. ومما يستفاد من الجليس الصالح: أنه يحمي عِرْضَك في مغيبك وفي حضرتك، يدافع ويذبُّ عنك، ومن ذلك أنك تنتفع بدعائه لك حياً وميتاً.
(/3)
وأما مصاحبة الأشرار: فهي السمُّ النَّاقع، والبلاء الواقع، فتجدهم يشجعون على فعل المعاصي والمنكرات، ويرغِّبون فيها، ويفتحون لمن خالطهم وجالسهم أبواب الشرور، ويزيِّنون لمجالسيهم أنواع المعاصي، ويحثُّونهم على أذيَّة الخلق، ويذكِّرونهم بأمور الفساد، التي لم تَدُرْ في خَلَدِهم، وإن همَّ أحدهم بتوبةٍ وانزجارٍ عن المعاصي، حسَّنوا عنده تأجيل ذلك، وطولَ الأمل، وأن ما أنت فيه أهون من غيره، وفي إمكانك التوبة والإنابة إذا كبرت في السن، وما يحصل من مخالطتهم ومعاشرتهم أعظم من هذا بكثير.
وتأمَّل في حال أبي طالب ومن كان يجالس، وكيف سرى أثر جلسائه عليه في خاتمة أمره - نسأله تعالى حسن الختام - وفيه نزل قوله تعالى: (إنك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)، وقوله تعالى: (ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ماتبيَّن لهم أنهم أصحاب الجحيم).
(/4)
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سَعِيدُبن الْمُسَيَّبِ عن أبيه قال لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رسول اللَّهِصلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بن أبي أُمَيَّةَ بن الْمُغِيرَةِ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إلا الله كلمه أَشْهَدُ لك بها عِنْدَ اللَّهِ فقال أبو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بن أبي أُمَيَّةَ يا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبد الْمُطَّلِبِ فلم يَزَلْ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عليه وَيُعِيدُ له تِلْكَ الْمَقَالَةَ حتى قال أبو طَالِبٍ آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ هو على مِلَّةِ عبد الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إلا الله فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَا والله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عَنْكَ فَأَنْزَلَ الله عز وجل: (ما كان لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى من بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لهم أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، وَأَنْزَلَ الله تَعَالَى في أبي طَالِبٍ فقال لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يَشَاءُ وهو أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
فوازن رحمك الله بين هذا وبين مايجنيه الجليس الصالح من جليسه، حتى وإن كان المجالِسُ كلبًا، وذلك فيما قصَّه الله علينا في كتابه من حال أهل الكهف، ومعهم كلبهم، وكيف صار لهذا الكلب ذكر في القرآن بسبب مجالسته هؤلاء الفتية الصالحين (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم...) الآيات.
وإذا أردت معرفة الأمر الواقع؛ فانظر إلى فرعون معه هامان وزيره، وانظر إلى الحجاج معه يزيد بن مسلم شرٌّ منه، وانظر إلى يزيد بن معاوية معه مسلم بن عقبة المريِّ شر منه.
(/5)
ولكن انظر إلى سليمان بن عبد الملك؛ صحبه رجاء بن حَيْوَة الكِنْدِيُّ - أحد الأعلام الأفاضل - فقوَّمه وسدَّده، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما بعث الله من نبيٍّ، ولا استخلف من خليفةٍ، إلا كانت له بطانتان: بطانةٌ تأمره بالمعروف وتحضُّه عليه، وبطانةٌ تأمره بالشرِّ وتحضُّه عليه، والمعصوم مَنْ عَصَم اللهُ))؛ رواه البخاري.
ويقول أيضاً في حديث آخر: ((إذا أراد الله بالأمير خيراً؛ جعل له وزيرَ صدقٍ؛ إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك؛ جعل له وزيرَ سوءٍ؛ إن نسي لم يذكِّره، وإن ذكر لم يُعِنْهُ))؛ رواه أبو داود والنَّسائي.
فانظروا أيها الإخوة إلى مدى تأثُّر الجليس بجليسه، واختاروا لأنفسكم ولمن وُلِّيتم أمرَهم أهل التُّقى والصلاح، وتجنبوا أهل الشرِّ والفساد؛ ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقيّ))؛ رواه الإمام أحمد والترمذي.
وعن وَدِيعَة الأنصاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول وهو يعظ رجلاً: "لا تتكلم فيما لا يعنيك، واعتزل عدوَّك، واحذر صديقك، إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله عزَّ وجلَّ ويطيعه، ولا تمش مع الفاجر فيعلِّمك من فجوره، ولا تطلعه على سرِّك، ولا تشاور في أمرك إلا الذين يخشون الله سبحانه ".
ووعظ بعضهم ابنه، فقال له: "إياك وإخوان السوء؛ فإنهم يخونون مَنْ رافقهم، ويفسدون من صادقهم، وقُرْبُهم أعْدَى من الجَرَب، ورفضهم والبعد عنهم من استكمال الدين الأدب، والمرء يعرف بقرينه، والإخوان اثنان: فمحافظ عليك عند البلاء، وصديقٌ لك في الرخاء؛ فاحفظ صديق البلية، وتجنَّب صديق العافية، فإنهم أعدى الأعداء".
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
فَمَا أَكْثَرَ الإِخْوَانَ حِينَ تَعُدُّهُمْ وَلَكِنَّهُمْ فِي النَّائِبَاتِ قَلِيلُ.
(/6)
وقد حذَّرنا الله من مجالسة أهل السوء، ونهانا عن الجلوس في مجالسهم التي تنتهك فيها الحرمات، فقال سبحانه: (وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا).
وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
وأخبرنا سبحانه عن حال هؤلاء الجلساء وبراءة بعضهم من بعض في الآخرة، فقال تعالى: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ).
(/7)
ومما قيل في معنى هذه الآية: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - في قوله تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) – قال: خليلان مؤمنان، وخليلان كافران؛ توفي أحد المؤمنين فبشر بالجنة، فذكر خليله فقال: اللهم إن خليلي فلانًا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر وينبئني أني ملاقيك، اللهم فلا تضلَّه بعدي حتى تريه ما أريتني وترضى عنه كما رضيت عني، فيقال له: اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرًا ولبكيت قليلاً، ثم يموت الآخر، فيجمع بين أرواحهما، فيقال: لِيُثْنِ كل واحد منكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل، وإذا مات أحد الكافرين بشر بالنار فيذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلانًا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير وينبئني أني غير ملاقيك، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت عليَّ، فيموت الآخر، فيجمع بين أرواحهما، فيقال: لِيُثْنِ كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: كل واحد لصاحبه: بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل. أخرجه عبدالرزاق وعبد بن حميد في تفسيريهما، وغيرهما.
(/8)
وأخرج ابن أبي شيبة عن كعب رضي الله عنه قال: يؤتى بالرئيس في الخير يوم القيامة فيقال: أجب ربك، فيُنطلق به إلى ربه، فلا يحجب عنه، فيؤمر به إلى الجنة، فيرى منزله ومنازل أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويعينونه عليه، فيقال: هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعد الله في الجنة من الكرامة، ويرى منزلته أفضل من منازلهم، ويكسى من ثياب الجنة، ويوضع على رأسه تاج، ويَعْلَقُه من ريح الجنة، ويُشرق وجهه حتى يكون مثل القمر ليلة البدر، فيخرج، فلا يراه أهل ملأ إلا قالوا: اللهم اجعله منهم، حتى يأتي أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويعينونه عليه فيقول: أبشر يا فلان، فإن الله أعد لك في الجنة كذا، وأعد لك في الجنة كذا وكذا، فلا يزال يخبرهم بما أعد الله لهم في الجنة من الكرامة حتى يعلو وجوههم من البياض مثل ما علا وجهه، فيعرفهم الناس ببياض وجوههم فيقولون: هؤلاء أهل الجنة.
ويؤتى بالرئيس في الشر فيقال: أجب ربك فيُنطلق به إلى ربه، فيحجب عنه، ويؤمر به إلى النار، فيرى منزله ومنازل أصحابه، فيقال: هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعد الله فيها من الهوان، ويرى منزلته شرًّا من منازلهم، فيسودُّ وجهه، وتزرقُّ عيناه، ويوضع على رأسه قلنسوة من نار، فيخرج، فلا يراه أهل ملأ إلا تعوذوا بالله منه، فيقول: ما أعاذكم الله مني، أما تذكر يا فلان كذا وكذا، فيذكِّرهم الشر الذي كانوا يجامعونه ويعينونه عليه، فما يزال يخبرهم بما أعد الله لهم في النار حتى يعلو وجوههم من السواد مثل الذي علا وجهه، فيعرفهم الناس بسواد وجوههم فيقولون: هؤلاء أهل النار.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}.
(/9)
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في "الدلائل" من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلاً حليمًا، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط، وقدم خليله من الشام ليلاً، فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد مما كان أمرا أبو معيط، فحيَّاه، فلم يردَّ عليه التحية، فقال: مالك لا تردّ عليَّ تحيَّتي؟ فقال: كيف أردّ عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أَوَقد فعلتها قريش؟ قال: نعم، قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلت؟ قال: تأتيه في مجلسه وتبصق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلمه من الشتم، ففعل، فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم أن مسح وجهه من البصاق، ثم التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجًا من جبال مكة أضربْ عنقك صبرًا.
فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا، قال: قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجًا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرًا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طِرْتَ عليه، فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحل به جمله في جدد من الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيرًا في سبعين من قريش، وقدم إليه أبو معيط، فقال: تقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم، بما بصقت في وجهي، فأنزل الله في أبي معيط: {ويوم يعض الظالم على يديه}، إلى قوله: {وكان الشيطان للإنسان خذولاً}.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها، وأن يصلح نيَّاتنا وذرياتنا، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لاإله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
(/10)
العنوان: الجمعية العالمية للكتاب الإسلامي (مشروع مقترح)
رقم المقالة: 1531
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الجمعية العالمية للكتاب الإسلامي
(مشروع مقترح)
قصتي مع الكتاب الإسلامي قصةُ حياةٍ، وشوق، وألم.
فقد بدأ اهتمامي به منذ سِنِي فُتوَّتي، واستمرَّ حتى يومي هذا، لا أنفكُّ عنه ولا ينفكُّ عني!
ولو تحدَّثتُ عن ذكرياتي مع "صديق العمر" هذا، فلعلها تجيءُ في كتاب ذي أجزاء.
لكني سأقتصرُ في مقال مختصر هنا على جانب "الألم" ومعه "الأمنية"، معرضاً عن جانب "الحياة" و"الشوق"، وفي الأول تكمن الفائدةُ إن شاء الله.
ولعل قارئاً متابعاً للنشر يرمي بسهمه في أول الحديث ويقول: الكتاب الإسلامي بخير، وهو أكثر انتشاراً من سائر الكتب الأخرى، ومتوفر، وتوزيعه جيد، وقد كثرت دورُ النشر التي تهتم بنشره أكثر من الكتب الأخرى...
وهذه نظرة تفاؤلية صائبة، وواقع حقيقي لا يُنكر، باستثناء ما هو في دُولٍ، ولكن المشكلة أننا استمرأنا الفوضى، واكتفينا بالنظرة الظاهرة دون التعمق في الواقع، واستبعدنا التخطيط من كثير من مشاريعنا العلمية والثقافية، وأهملنا التوجيه فيما يمكن توجيهه وتوظيفه دعوياً وعالمياً... وأعني التخطيط السليم النافع، الذي يتبعه عمل وتطبيق ومتابعة نتائج ودراسات جدوى وتقويم.
لكن أشير أيضاً إلى أن هناك مشاريعَ تربوية ودعوية ينظر فيها نقّاد متخصصون، وخبراء متمرِّسون، وكتّاب متعمِّقون، فيقعِّدون وينظِّرون، ويوازنون ويدرسون، وينبِّهون على لزوم التخطيط وما يمكن عمله أو اجتنابه، بأسلوب علمي ناجح، محذِّرين من الشعارات والعواطف التي لا حدود لحركاتها، فيلزم ضبطها وتوجيهها، وإلا فُقدت بسرعة أو انحرفت إلى ما لا يُحمد...
وقد استأثر بعضها باهتمام العلماء والمفكرين المسلمين، ليتداركوا ما أُهْمِل، بما يقدرون عليه من طاقات بشرية وقدرات مالية.
(/1)
ومما لا أعرف أنه استأثر باهتمامهم مطبقا في واقع وعملٍ في تنظيمٍ مشرِّف ولائق، هو قضية "الكتاب الإسلامي"، الذي لا تكاد تخلو منه مكتبة شخصية أو عامة أو متخصصة، في الشرق والغرب، مسلماً كان صاحبها أو غير مسلم.
وكان هذا ما دفعني إلى الاهتمام به وإصدار دراسات وببليوجرافيات وتحقيقات فيه، بجهود شخصية وقدرات متواضعة، مع التنبيه على لزوم القيام بأعمال جماعية لخدمة الكتاب الإسلامي، ليؤتي ثمارَه بطريقة أفضل.
ولما رأيت أن هذا غير كاف، وأن الاستجابات قليلة تجاه هذا العمل، وهي لا تتجاوز الأعمال الفردية أو القريبة منها، مما يعني أنه لا يلبي طموحات المجتمع الإسلامي في صحوته المتنامية، وخاصة الطبقة العلمية المتقدمة منه، آثرتُ أن أطرح فكرة "مجلة" تهتم بهذا الأمر، فكتبت إلى دار نشر نشيطة لها تجربة جيدة في نشر وتوزيع الكتب الإسلامية، لإصدار "مجلة الكتاب الإسلامي"، ذاكراً ما يمكن تقديمه فيها، من تبويب موضوعات، وتقديم قوائم بمفردات، ومعالجة علمية لجوانب في ذلك... ولكن الناشر رفض، وعلل ذلك بأن هناك دُورَ نشرٍ أصدرت مجلات فلم تنجح وتوقفت...
ولهذا وغيره أرى الأنسب في هذا أن تُطرح فكرة أكبر من المجلة لاحتواء هذا المشروع، وهي كبيرة تناسب عزائمَ رجال، وهمَّةَ أقوياء، وجهودَ مخلصين، وتعاوناً على البرّ، مع إدارة وتخطيط، وصبر ومثابرة... ألا وهي مشروع "الجمعية العالمية للكتاب الإسلامي" أو "رابطة الكتاب الإسلامي العالمية"، كرابطة الأدب الإسلامي مثلاً... أو أي مسمى لهذا المشروع، في تنظيم إداري إسلامي جماعي للكتاب الإسلامي، الذي ما زال مشتتاً أمرُه، وهو نتاج أمة ننتمي إليها، وثقافة إسلامية كبيرة، وفكر عظيم يقدِّره أهلُه، ووسيلة ناجحة لنشر الدين الذي كُلِّفنا أن نبلغه...
(/2)
وما أذكرُه هنا ليس طرحاً لمشروع إداري قائم على لوائح وتنظيمات، فهذا لن يُعدمَ له أهلٌ يقومون على تنظيمه أحسنَ تنظيم إن شاء الله، وإنما هو صورةٌ عامة لما يدور في خاطري من هذا المشروع، الذي سيبدو من خلاله أهميته وفائدته، لأصِلَ به إلى فكر القارئ وقلبه، عسى بذلك أن يحرِّك قلوباً، ويلفِت عقولاً، وينير دروباً... وهذه صورٌ وخواطرُ وإشارات في ذلك، والله المستعان:
1- لقد أغلق الأعداءُ أمام الأمة الإسلامية أبواباً كثيرة في الوحدة، أقساها ما عُرف بـ"الحدود السياسية"، وكان الأولى أن تسمى "الحدود الخارجية"، يعني الخارجة عن إرادة الأمة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يغلقوا نوافذ الإيمان في قلوب المسلمين التي تطلُّ على كل مسلمي الأرض، وما علينا إلا أن نبحث -تحت هذه الظروف- عن روابط تُبقي هذه الوحدة التي ثبتت عليها القلوبُ في صور عملية ودعوية تناسب عصرنا وظروفنا، أمثال الجمعيات والمنظمات والرابطات العالمية التي تنطق بقلب واحد وقلم واحد...
وعلى المسلم أن يتذكر دائماً أنه عضو في رحاب أمة، وأن له إخواناً يلزمهم ما يلزمه، ويُهِمّهم ما يُهِمّه، وعليه أن يمدَّ إليهم يده، ويسعفهم بما يقدر عليه من قوة.
والكتابُ ليس غايةً في حدِّ ذاته، بل هو وسيلة إلى رضى الله، من الدعوة والتعاون على ما فيه خير المسلمين.
وبالانطلاقة إلى عالم الإسلام الرحب بمثل هذه الروابط الفكرية والإيمانية يتعرّفُ المسلمون بعضَهم بطلب ربّاني حكيم؛ {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 49]، وهذا التعارف ليس نظرياً، بل إنه يتحول إلى عمل ومؤازرة وتعاون، إذا صدقت النيات، وتعاضدت الأيدي، واستمرَّ التناصح...
(/3)
وما ذكرته في هذه الفقرة إشاراتٌ إلى موضوع كبير في الوحدة الفكرية لدى الأمة، ليس هنا موضع تفصيله، لكن الكتاب الإسلامي أحد الوسائل في ذلك، فهو يساعد على التنمية الفكرية للأمة، ويشجع الحركة الثقافية على الاهتمام بالأصول والمصادر الإسلامية، ويزيد من التواصل والتقارب بين الشعوب الإسلامية ومفكريها...
2- أعني بـ"الكتاب الإسلامي" كل كتاب أو ما في حكمه من بحث ورسالة له علاقة بالإسلام وعلومه وتاريخه وأرضه وأهله، سواء مما كتبه المسلمون أو غيرهم، وكان في مصلحتهم أو ضدها. ويكون المعنى: تضمن الكتاب أو معالجته لموضوع إسلامي، إيجاباً كان أو سلباً. فلا يعني تزكيته عموماً.
3- ما أشير إليه هنا من "الجمعية العالمية" مشروع كبير، ولكن لا يعني هذا أن لا نبدأ إلا به، بل قد يكون الأفضل البدء بجمعيات محلية وقومية، تكون نواة وانطلاقة إلى ما هو إسلامي عام، وهذه الجمعيات تتعاون فيما بينها كما هو مخطط له في هذه المقالة، وقد تختار رئيسًا لها ينسق بينها، كما هو مسمى "رابطة الجامعات الإسلامية" وما إليها، ويمكن أن يأتي اليومُ الذي تتحدُ فيه تحت إدارة عامة إن شاء الله... وبالصبر والمتابعة والعزيمة القوية يُصنع كل شيء، بعد حسن التوكل عليه.
4- إن الكتاب لا يعني ورقاً وحبراً وتسويقاً ومالاً، إنه دين وفكر وحضارة وعلم وقوة... فإذا تراكم كل هذا وتوحَّد صار جبالاً لا جبلاً.. وهو نتاجُ أمة واحدة ولو فرَّقتها الحدود المصطنعة. والرابطة التي تجمع هذه القلوب هي التي تجمع هذه الكتب أيضاً.
5- "الجمعية العالمية للكتاب الإسلامي" يكون هدفها معرفة ما ينشر عالمياً عن الإسلام في صورة كتب مطبوعة ورسائل جامعية وبحوث قيِّمة، وذلك من خلال وسائل وأساليب مكتبية وإعلامية ووسائل نشر مطوَّرة، بمتابعات شخصية واتصالات إلكترونية وتعاون بحثي متنوع مع دور النشر والمؤسسات والمراكز العلمية والثقافية العامة والخاصة.
(/4)
6- تنظم الإدارة العليا للجمعية الهيكل الإداري فيها، وتحدد المهام الأساسية للرؤساء والمديرين واللجان المنبثقة عنها، كما تحدد وظيفة الجمعيات المتفرعة عنها، وتختار خبراء ومتدربين في الترجمة لتترجم وتواكب ما ينشر باستمرار وتوزعه على البلدان بحسب لغاتها، وتتولى الجمعيات الفرعية في كل بلد هذه المهمة، ما عدا مهمات تكلف بها لجان متخصصة في الإدارة العليا نفسها لتوصيل المعلومات إلى أصحابها مباشرة.
7- يكون القائمون على هذه الجمعية أو الرابطة أعلاماً متخصصين، وعلماء معروفين، لهم خدمة حسنة، ومشهود لها في الساحة الإسلامية، يوثق بهم وبأعمالهم وتوجهاتهم الخيِّرة، وتكون لهم علاقة طيبة مع المجتمع ووجهائه.
8- يكون للجمعية فروع في كل بلد، تتابع ما ينشر عن الإسلام، وتفيد الباحثين المسلمين بما يلزمهم بلغاتهم، وتزود الإدارة العامة بكل جديد، حسب الخطة المرسومة لها، وتشير إلى الإصدارات المهمة، وإلى ما أثار منها نقداً للإسلام وأهله، وما صاحَبَ ذلك من كتابات وردود، لتعلن عنها الإدارة العليا بطريقتها الخاصة، وتترجم ما يهم منها إلى لغات عالمية، لتثقيف الأمة الإسلامية وتزويد عقول أفرادها بالفكر الإسلامي الصحيح، والمجابهة العلمية القوية أمام الشبهات والتشكيكات، وتنبيههم على المخاطر التي تحدق بهم، كما تحذر من الإعلاميين والمفكرين الذين اتخذوا من الطعن في الإسلام هدفاً لهم وغاية، وتحذر من الكتب التي ظاهرها ثناء على الإسلام وباطنها هدم وتدمير.
9- كما تُزوَّد الإدارة العليا ببيانات ورقية مما سبق من كتب إسلامية، لتبوَّب وتنظَّم موضوعياً ومعجمياً، وليترجم ما يختار منها إلى لغات أخرى، كما تفيد الباحثين وطلاب الدراسات العليا الذين يشكون من شح المصادر في موضوعات معينة...
(/5)
10- يكون في كل مكتب مخزن أو مكنز منظم يحوي بيانات بالكتب الإسلامية في كل بلد بلغته، وعند الإدارة العليا مكنز عام يجمع شتات المكاتب الأخرى، ويكون هذا دعماً عالمياً لثقافة إسلامية.
11- ومن فوائد هذا العمل التعريف بأعلام الأمة ومفكريها بكل لغة، وبيان آثارهم العلمية وخبراتهم ليُستفاد منها.
12- يكون للجمعية لجنة تهتم بالنشر كما أشير إليها، فتنشر وتترجم أهم الكتب الإسلامية، ويمكن أن توزع هذه المهام على فروعها.
وهذ يذكرنا بما كتب في السيرة النبوية وشمائل الرسول -عليه الصلاة والسلام- والدفاع عنه، ثم طُبع ووُزع على نطاق واسع بمئات الألوف أو الملايين، والجمعية يمكن أن تفعل ذلك مع كل موضوع يثار ضد الإسلام، حتى يتبين للناس الحق، وسيكون هذا إعلاماً قويا ومتماسكاً يقف في وجه شلاّل الإعلام المضلِّل المنتشر في العالم.
13- تنشر الإدارة أيضاً ما يلزم في موقعها الخاص بالإنترنت وخاصة الكتب الإلكترونية أو المصوَّرة، وتوزعها على مواقعها الفرعية، ومواقع أخرى. وهذا يختصر الطريق ويوفر على الجمعية أموالاً وتتخطى به عراقيل كثيرة.
14- تصدر الجمعية مجلة أو مجلات ونشرات علمية متتالية ومستخلصات كتب يُظنُّ فائدتها أو الحاجة إليها، كما تقدِّم فهارس حولية بأهم الكتب الإسلامية الصادرة في العالم، بلغات، وتوزعها على المكتبات التجارية والعامة، لتصل إلى أيدي الباحثين من جميع الطرق في نقاط توزيع مدروسة. وينسَّق هذا مع الجمعيات الفرعية لعدم التكرار والازدواجية في العمل.
15- وهذا يقودنا إلى لزوم أن يكون للجمعية جهاز توزيع قوي، أو أن تتعاقد مع شركات ومؤسسات توزيع عالمية ومحلية ذات قدرات وجهود توزيعية ممتازة.
(/6)
16- الحصول على المطبوعات المنشورة صار أسهل مما سبق بكثير، وخاصة في أمريكا وأوربا، ومعظم الدول –إن لم تكن كلها- تصدر ببليوجرافيات وطنية في كل سنة، وصار تخزينها في أقراص مدموجة معروفاً. والدول العربية كذلك مهتمة بنشر نتاجها القومي...
ويوجد فهرس بمحتويات مكتبة الكونغرس –أضخم مكتبة في العالم- في مئات المجلدات.
وهناك مشروع رائد لمكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض، لو أنجزته لقدَّمت خدمة كبيرة للباحثين، وهو مشروع "الفهرس العربي الموحد" الذي يهدُف إلى تقديم كل الكتب المؤلفة باللغة العربية للمستفيدين في بيانات كاملة، وهي تعمل فيه منذ سنوات، وتصطدم بمعوقات ومنغصات، واجتمع لديها الكثير مما يمكن أن تقدمه، ولو أنها أبرزته هكذا وأضافت إليه كلما استجدَّ عندها شيء لكان أجدى وأنفع، فإنَّ مجموعَ ما تريدُه ربما لا يتحقق، أو يستغرق مدة طويلة، وما يعترضها دليلٌ على ذلك.
ومثل هذا المشروع يوفِّر جهداً كبيراً على العاملين في الجمعيات العربية للكتاب الإسلامي، إذا كان هناك تجاوب في التعاون، بل إن عملها سيقتصر على الانتقاء والترتيب والتقسيم الموضوعي والترجمة والنواحي الدعائية والإعلامية، وتزويد الجمعيات الفرعية بما يلزمها، مع متابعة الجديد ومواكبة ما تقذفه المطابع، فإن الببليوجرافيات الوطنية تتأخر أحياناً. والمهم هو التبادل المعلوماتي بين المسلمين...
كما أشير إلى أن قسماً من هذا يدخل تحت مسمى "مصادر المعلومات عن العالم الإسلامي"، التي تشكو منها الحكومات نفسها، نظراً لفوضى المعلومات، أو نقصها، أو عدمها، أو عدم التعاون الجدي في شأنها. وقد دعا مثلُ هذا إلى أن تعقد مكتبة الملك عبدالعزيز ندوةً عالمية حول هذا الموضوع عام 1420 هـ، واستفادت من خبرات عالمية في ذلك، وصدرت أعمالُ هذه الندوة في أربعة مجلدات، ربما بالعربية والإنجليزية.
(/7)
ولا أدري إذا كان الكتاب من بين موضوعات هذه الندوة أو لا، وما إذا كانت أوصت بلزوم أن تكون هيئة إسلامية عامة تتابع هذه الأمور، لتتيح أمام القارئ المسلم معرفة ما في البلدان الشقيقة من موضوعات إعلامية وثقافية وغيرها، وهل أنتجت هذه الندوةُ فوائدَ عملية أو ذهبت أبحاثُها أدراجَ الرياح؟ والأمر الأخير هو المهم.
17- إذًا فالأمر يتعلق بأمر موجود ومتاح على الساحة الإسلامية والدولية، حيث الكتب والرسائل والبحوث العلمية المتوفرة. والعالمُ الإسلامي لديه طاقاتٌ بشرية وخبراتٌ علمية وقدراتٌ مالية وإدارية للقيام بمهام هذه الجمعية وغيرها من الجمعيات العلمية النافعة، وما تنهض به هنا سيكون قاعدة معلومات للباحثين عموماً، وليس للمسلمين وحدهم.
18- يُختار من الفقرات السابقة ما يهم وما يلزم، فهي مشروع مبدئي قابل للتعديل والنقاش.
19- ليس لدي اطلاعٌ كافٍ على الهيئات والجمعيات الإسلامية في العالم التي يمكن أن تقوم بمثل هذا المشروع، والمجال مفتوح للتنافس فيه... وهذه رسالة إلى كل من يقدر على إيصال الفكرة لمن له قدرة على ذلك...
20- وأعود إلى التذكير بما أشرت إليه، وهو أنه إذا ظهر ابتداءً أن هذا المشروع كبير، وأنه قد يستغرق وقتاً...أو لا يُظن فيه التجاوب... إلى غير ذلك من الأعذار، فلا أقلَّ من أن يبدأ بأقلَّ منه؛ كجمعية خاصة بالكتاب الإسلامي في كل بلد، أو إصدار مجلة في هذا الشأن أولاً، وتطرح هذه الفكرة وتناقش في الساحات الإعلامية الثقافية، وفي الندوات والمؤتمرات الإسلامية، ويفعل الله ما يشاء.
(/8)
العنوان: الجمل التي لها محل من الإعراب والتي لا محل لها
رقم المقالة: 429
صاحب المقالة: طه محسن عبدالرحمن
-----------------------------------------
تقديم
تحتفظ المكتبة الوطنية بباريس بمجموعة خطية مؤلفة من سبع رسائل، ذكرها المستشرق البارون دى سلان في الفهرس الذي صنعه لمخطوطات المكتبة المذكورة[1]. ولفت نظري وأنا أطالع هذا الفهرس الضخم كتاب بعنوان (القواعد الثلاثون في علم العربية) لشهاب الدين القرافي[2]، وهو محطوط ضمن هذه المجموعة.
طلبت المجموعة الخطية مصورة بالمايكروفلم، وشرعت اقرأ ما يهمني منها، وقد عجبت حين قرأت في الصفحة المرقمة (117أ) بعد البسملة: (قال الشيخ بدر الدين ابن أم قاسم رحمه الله تعالى: سألت وفقك الله عن التي لها محل من الإعراب، لأن الجملة أصلها...)، ويستمر الكلام في هذا الموضوع إلى نهاية الورقة (121).
سررت بما قرأت، لأن أثراً جديداً عثرت عليه للمرادي، كان في عداد المفقودات، إذ لم يذكر أحد أن للمرادي مصنفاً بهذا العنوان. وحتى المستشرق دي سلان عندما وصف رسائل المجموعة عميت عليه رسالة المرادي، وظنها تكملة لكتاب (القواعد الثلاثون)، وكذلك جاز هذا الأمر على الأستاذ سعيد الأفغاني حينما وصف المجموعة في مقدمته لكتاب (الأغراب في جدل الإعراب) لأبي البركات ابن الأنباري[3]. و(الإغراب) واحد من المصنفات التي تضمها المجموعة الخطية، فقد عد رسالة المرادي جزءاً من (قواعد) القرافي.
ولما كنت قد درست المرادي وحياته، واطلعت على أسلوبه في البحث، وتتبعت آثاره كلها وأخباره في كتب النحو والطبقات وفهارس المخطوطات، فقد آثرت تحقيق هذا الأثر النفيس، وتصحيح نسبته إلى (ابن أم قاسم). وها أنذا أقدم بين يدي التحقيق بدراسة موجزة للرسالة ومؤلفها.
مؤلف الرسالة هو بدر الدين حسن بن قاسم بن عبدالله بن علي المرادي المراكشي المغربي فالمصري ثم المالكي[4].
(/1)
كنيته (أبو محمد)[5]. ولا نعرف عن شخصية (محمد) هذا شيئاً. إذ لم يذكر المؤرخون أن المرادي تزوج أو نجل ولداً بهذا الإسم. وكنى في كشف الظنون بـ(أبي علي)[6]. ومن المحتمل أن يكون ذا كنيتين، وأنهما أطلقا عليه كما هو المعتاد بين الناس الذين يكتنون قبل زواجهم.
إشتهر المرادي بـ(ابن أم قاسم)، وذلك لامرأة تبنته إسمها (زهراء) كانت من بيت السلطان[7]. وذكروا أن (أم قاسم) هذه كانت جدته أم أبيه، جاءت من المغرب فعرفت بالشيخة[8]، فكانت شهرته تابعة لشهرتها.
ولد المرادي بمصر[9]، فعرف بالمصري. ولم نقف على تاريخ يحدد سنة ولادته، كما أن المصادر لم تسعفنا بأخبار شافية عنه، فنحن لا نعرف شيئاً عن طفولته ونشأته شأنه في ذلك شأن كثير من كبار علمائنا القدامى، وكذلك لم نجد في المصادر التي بين أيدينا ما يشير إلى أسرته غير الخبر الذي ذكرناه آنفاً، وهي تبني (أم قاسم) ورعايتها له في طفولته بسبب جاهها ومكانتها.
وإذا ما رحنا نتلمس نشاطه في فترة الشباب فلا نجد ما يعيننا على الحديث، إذ لم نصادف في المراجع التي تناولته ما يتيح لنا التعرف إلى حياته بالتفصيل. وإذا كان قد ترجم له عدة من أصحاب الطبقات، وكان له ذكر بين النحويين واللغويين والقراء، فإن الذي ذكروه قليل ومعاد ينقل فيه بعضهم عن بعض.
عاش المرادي في النصف الأول من القرن الثامن الهجري بمصر، وكانت حينذاك تحت ظل المماليك البحرية الذين استطاعوا أن يردوا هجمات المغول عن مصر والشام، وينشئوا دولة ضمت إليها علماء الأقطار الإسلامية الذين رحلوا إليها تخلصاً من هجمات المغول والصليبيين، وشجعتهم على مواصلة الدرس والبحث بما فرضت لهم من رواتب هيأت لهم الفراغ للتأليف والتدريس.
(/2)
في هذه البيئة استمر المرادي ينتقل في مساجد القاهرة ومدارسها ويتردد على حلقات العلم والأدب والوعظ، متصلاً بعلماء أفادوه في اللغة والنحو والأصول والقراءات والوعظ. وقد تتبعت أسماء العلماء الذين ذكروا شيوخاً له، فوجدتهم قلة لا يتجاوزون أصابع اليدين عدداً، وهم[10]: أبو عبدالله الطنجي[11]، وأبو زكريا يحيى بن أبي بكر ابن عبدالله الغماري التونسي النحوي (ت724هـ)[12]، وشرف الدين عيسى بن مخلوف ابن عيسى المغيلي (ت647هـ)[13]، وسراج الدين عمر بن محمد بن علي الدمنهوري (ت752هـ)[14]، ومجد الدين إسماعيل بن محمد بن عبدالله التستري النحوي المقرئ (ت748هـ)[15]، وشمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عبدالمؤمن المشهور بابن اللبان (ت749هـ)[16]، وأثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان، أبو حيان الأندلسي (ت745هـ)[17].
استفاد المرادي من هؤلاء الشيوخ، ونهل من علوم عصره، وأخذ يتابع الدرس والتحصيل، حتى أصبح ذا أهلية للتدريس والتصدر في حلقات العلم، فظل في مصر يعلم ويصنف حتى وافاه الأجل في يوم عيد الفطر سنه (749هـ) ودفن بسر ياقوص[18] بعدما خلف كتباً ومصنفات تزيد على الثلاثين في التفسير والعروض والقراءات، إلى جانب ما خلفه في اللغة والنحو، وأهم مصنفاته[19]:
1 - أرجوزة في أصول قراءة أبي عمرو.
2 - أرجوزة في مخارج الحروف وصفاتها، وله شرح عليها.
3 - إعراب البسملة.
4 - تفسير القرآن الكريم. في عشر مجلدات.
5 - تلخيص شرح أبي حيان على تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد.
6 - توضيح مقاصد الألفية. وهو شرح على ألفية ابن مالك.
7 - جمل الإعراب.
8 - الجمل التي لها محل من الإعراب والتي لا محل لها – وهي الرسالة التي بين يدي القارئ وسنتكلم عليها مفصلاً.
9 - الجنى الداني في حروف المعاني.
10 - رسالة في (الألف).
11 - رسالة في (كلا وبلى).
12 - رسالة في (لو).
13 - شرح الإستعاذة والبسملة.
(/3)
14 - شرح باب وقف حمزة وهشام على الهمز من الشاطبية.
15 - شرح تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد – لابن مالك.
16 - شرح الجزولية – لأبي موسى الجزولي.
17 - شرح القصيدة الشاطبية – للشاطبي.
18 - شرح الفصول النحوية – لابن معط.
19 - شرح الكافية في النحو – لابن الحاجب.
20 - شرح الكافية الشافية – لابن مالك.
21 - شرح المفصل – للزمخشري.
22 - شرح المقصد الجليل في علم الخليل – لابن الحاجب.
23 - شرح الواضحة في تجويد الفاتحة – لبرهان الدين الجعبري.
24 - منظومة في الدال والذال مع شرحها.
25 - منظومة في الظاء والضاد.
26 - المفيد في شرح عمدة المجيد في النظم والتجويد – لعلم الدين السخاوي.
- 2 -
لم يفرد أحد من النحاة – فيما أعلم – قبل المرادي مصنفاً يبحث فيه (الجمل التي لها محل من الإعراب والجمل التي لا محل لها): إذ لم أجد ما يشير إلى ذلك. كما لم يصل إلينا شيء من المصنفات التي تبحث الموضوع مستقلاً. إلا أن العيني (ت855هـ) ذكر في عمدة القاري أبياتاً لأبي حيان النحوي نظم فيها الجمل المذكورة وهي قوله[20]:
وخذ جملاً ستاً وعشراً فصنفها لها موضع الإعراب جاء مبيناً
فوصفية حالية خبرية مضاف إليها واحك بالقول معلنا
كذلك في التعليق والشرط والجزا إذا عامل يأتي بلا عمل هنا
وفي غير هذا لا محل لها كما أُتت صلة مبدوءة فاتك
مفسرةً أيضاً وحشواً كذا أتت كذلك في التخصيص نلت به الغنا
وفي الشرط لم يعمل كذاك جوابه حواب يمين مثله في سرك المنى
على أن السيوطي (ت911هـ) ينسب هذه الأبيات إلى الشيخ سراج الدين الدمنهوري[21] وهو من شيوخ المرادي.
يضاف إلى هذا أن السيوطي نفسه في (باب الكلام والجملة) من كتاب: (الأشباه والنظائر) نقل عن أبي حيان كلاماً ملخصاً في (الجمل التي لها محل من الإعراب..)[22].
(/4)
ويبدو أن السيوطي نقل هذا الكلام من أحد كتب أبي حيان الموسوعية، ولا نستطيع القول بأن أبا حيان قد ألف كتاباً مستقلاً في الموضوع، لأننا لم نجد من أشار إلى ذلك على كثرة ما راجعنا من مصادر قديمة وحديثة، ومن فهارس المخطوطات المتوفرة بين أيدينا[23].
فالمرادي من أوائل الذين وضعوا بين أيدي المتعلمين رسالة تشتمل على أحكام الجمل وإعرابها ليكون الموضوع سهل التناول ميسوراً لدى هؤلاء. بعد أن كانت مادته مبعثرة ضمن موضوعات متفرقة في الكتب المتعددة، فألف هذه الرسالة وقدم لها بتمهيد أوضح فيه سبب إختياره الموضوع فقال: (سألت – وفقك الله – عن بيان [الجمل] التي يكون لها محل من الإعراب، لأن الجملة أصلها أن تكون مستقلة لا تتقدر بمفرد ولا تقع موقعه. وما كان من الجمل له محل من الإعراب فإنما ذلك لوقوعه موقع المفرد..) ثم شرع يذكر القسم الأول، وهو الجمل التي لها محل من الإعراب، وأنواعها سبعة: الخبرية، والحالية، والمحكية بالقول، والمضاف إليها، والمعلق عنها العامل، والتابعة لما هو معرب أوله محل من الإعراب، والواقعة جواب ذات الشرط مصدرة بالفاء أو باذا. وبعد أن شرح هذه الأنواع تكلم على القسم الثاني، وهو (الجمل التي لا محل لها من الإعراب) وأنواعها تسعة: الإبتدائية، والصلة، والإعتراضية، والتفسيرية، وجواب القسم، والواقعة بعد أدوات التحضيض، والواقعة بعد أدوات التعليق غير العاملة، والواقعة جواباً لها، والتابعة لما لا موضع له.
(/5)
استعرض المؤلف في الرسالة مجموعة من آراء النحاة، وناقش طائفة منها، وكثيراً ما يقوده النقاش إلى إصطناع أسلوب الجدل والحوار، وغالباً ما يتخذ في معالجته الموضوع طريقة السؤال والجواب. فهو يتصور أسئلة تطرح فيجيب عنها، ويستعمل في مثل هذا قوله: (فإن قلت...) ويورد الإعتراض ثم يعرج عليه بقوله: (قلت... أو فالجواب...) وهي طريقته في كتبه الأخرى مثل شرح الألفية. وشرح التسهيل والجنى الداني في حروف المعاني.
ولم يشر المرادي خلال البحث إلى المصادر التي ينقل عنها، وإنما اكتفى بذكر إسم المؤلف دون كتابه، واستشهد بآراء مجموعة من النحاة، أمثال الزمخشري وابن مالك والسيرافي وابن جني والفارسي وسيبويه وابن الطراوة والمبرد وابن عصفور... وغيرهم وربما استعمل عبارات عامة كالجمهور وبعضهم والبصريين والكوفيين والأكثرين وقوم...
وكان يتوخى في رسالته القصد، ويتجنب التكرار لأجل الإختصار، فنراه يحيل القارئ إلى الموضوع السابق دون تكرار مادته كقوله مثلاً: (وقد تقدم ذكرها آنفاً...). وهو يشعر أن رسالته ليست موسوعة، فهو كثيراً ما ينبه على أن هذا القسم مختصر، ويذكر أنه مفصل في غيره، وأن هذا لا يستدعي بسط الكلام وذكر الأمثلة، كقوله في الجملة الخبريه (والتمثيل سهل فلا نطول به). وقوله في الجملة الحالية: (وليس هذا موضع بسط الكلام على ذلك). وقوله: (وكل ذلك واضح لا يحتاج بسط الأمثلة). وقوله: (ومن ذلك قوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا} ونحو ذلك كثير). وقوله: (والكلام على هذه الجمل المذكورة مبسوط في موضعه من كتب العربية وهذا المقدار كاف هنا...).
ويستعين المؤلف بالنظم، لتقريب المادة إلى القارئ، وتسهيل حفظ القاعدة، فنراه يبدأ موضوعه بأبيات يضمنها ما سيشرحه من المعاني، سالكاً طريقة ابن مالك، مثال ذلك قوله في الجمل التي لها محل من الإعراب: وقد جمعت في هذين البيتين:
خبرية حالية محكية بالقول ذات إضافة وتعلق
(/6)
وجواب ذي جزم بفاء أو إذا ولتابع حكم المفدم أطلق
وقوله: (وجمعت أيضاً في هذه الأبيات...).
إن مسائل الرسالة مفهومة في عرضها وأفكارها، وأسلوب المرادي فيها سهل، ومنهجه واضح، وليس بينه وبين أسلوب كتابه (الجنى الداني) إختلاف أو تنافر[24] وذلك واحد من الأدلة التي تؤيد بأنه هو مؤلف هذه الرسالة.
- 3 -
رجعت في تحقيق النص إلى نسخة خطية وحيدة لم أقف على غيرها في مكتبات العالم. وهي موجودة في المكتبة الوطنية بباريس ضمن مجموعة رقمها (1013) مؤلفة من سبع رسائل في (203) أوراق، قياس (18.5*14سم). دون على المجموعة إسم (محمد القادري الشافعي) وتحته عبارة (آل إلى نوبة الحقير محمد أبو الوفا الكواكبي عفي عنهما). وهاك بيان الرسائل السبع والتواريخ المثبتة على بعضها:
1 - شرح منهاج النووي – لشمس الدين محمد بن علي القاياني الشافعي.
2 - رسالة أولها: (هذا ما وجد بخط الشيخ بدر الدين الزركشي على نسخته من قواعد العلائي). فرغ من نسخها في ثامن صفر سنة (878) الحسين بن محمد بن الشحنة الشافعي. وتنتهي بظهر الورقة (19).
3 - رسالة في الفقه. تنتهي بوجه الورقة (98). تم نسخها في 13 جمادي الأولى سنة 878 بالقاهرة.
4 - الإغراب في جدل الإعراب – لأبي البركات بن الأنباري. ينتهي بوجه الورقة (109).
5 - القواعد الثلاثون في علم العربية – لشهاب الدين القرافي. ينتهي بظهر الورقة (117).
في آخره: علقها لنفسه الحسين بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن الشحنة الشافعي بتاريخ سادس عشر جمادي الآخرة سنة 878هـ.
6 - الجمل التي لها محل من الإعراب والتي لا محل لها – للمرادي. تنتهي بظهر الورقة (121).
(/7)
7 - التهذيب في المنطق – لسعد الدين التفتازاني. ينتهي بالورقة الأخيرة من المجموعة (203) حيث نقرأ هذه الخاتمة: وكان الفراغ من تعليق هذا الكتاب في يوم الإثنين خامس عشر ذي الحجة (887)[25] على يد مالكه أحوج الخلق إلى عفو الحق الحسين بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن الشحنة الشافعي...
وهذا وتشتمل رسالة المرادي على (5 أوراق = 10 صفحات) من هذا المجموع في كل صفحة (21) سطراً. تبدأ بوجه الورقة (117) وتنتهي بظهر الورقة (121). وهي خالية من صفحة العنوان. أولها بعد البسملة: (قال الشيخ العلامة بدر الدين بن أم قاسم رحمه الله تعالى: سألت وفقك الله عن بيان التي يكون لها محل من الإعراب...) وفي الخاتمة كتب الناسخ: (علقه لنفسه الفقير إلى الله تعالى أبو الطيب الحسين بن الشحنة الشافعي غفر الله له ولوالديه والمسلمين وذلك في يوم الإثنين رابع عشر جماد – كذا – الآخرة سنة ثمان وسبعين وثمان مائة).
وآل الشحنة أسرة حلبية مجيدة عرف منها أعلام في العلم والقضاء والوجاهة والغنى والنفوذ، ولهم في حلب آثار كثيرة وأوقاف ومعاهد ومدارس ومساجد مما يدل على ما كان لهم من جليل الشأن ورفيع المقام)[26].
ومن هذه الأسرة ناسخ رسالتنا الحسين بن محمد... وقد ترجم له صاحب الضوء اللامع بقوله: حسين بن محمد... بن محمود عفيف الدين أبو الطيب ابن أثير الدين بن المحت الحلبي الشافعي، ويعرف بابن الشحنة، حفظ القرآن والمنهاج وغيره، وسمع من جده ومن البرهان بن أبي شريف والبقاعي وعبدالقادر بن يوسف الكردي، وقدم القاهرة غير مرة، منها بعد موت جده وبعد موت أخيه. وخطب بالجامع الكبير[27].
- 4 -
أما نسبة الرسالة إلى المرادي فلم نجد خلافاً فيها، ولا يصادف الباحث صعوبة في تحقيق صحتها، وذلك للأمور الآتية:
(/8)
8 - أن إسم المرادي ورد صريحاً على الصفحة الأولى من المخطوطة، حيث نقرأ العبارة الآتية: (قال الشيخ الإمام العلامة بدر الدين ابن أم قاسم رحمه الله تعالى....).
9 - وإن أسلوب المؤلف في العرض والشرح فيها هو أسلوب المرادي في كتبه الأخرى، ولا سيما (الجنى الداني) فلا تنافر ولا خلاف بين المصنفين – كما قدمنا – وإن كانت الرسالة أصغر حجماً.
10 - وأن المصنف نظم نوعي الجمل بأبيات إحتوتها الرسالة، وهذه الأبيات ذكرها العيني والسيوطي منسوبة إلى المرادي، فقال الأول: وقد نظم ابن أم قاسم النحوي الجمل التي لها محل من الإعراب والتي لا محل لها منه بثمانية أبيات هي قوله[28]:
جمل أتت ولها محل معرب سبع لان حلت محل المفرد
خبرية حالة محكية.
وقال الثاني بعد أن ذكر أنواع الجمل. وقال الشيخ بدر الدين ابن أم قاسم[29]:
جمل أتت ولها محل معرب ...................................
وهذا يجعلنا نطمئن إلى نسبة الرسالة إلى المرادي، إذ ليس ثمة ما يقدح في هذه النسبة، كما أن سكوت كتب الطبقات لا ينهض دليلاً على عدم صحة نسبتها إلى صاحبنا، لأن هذه الكتب لم تلتزم بإستقصاء مؤلفات الأقدمين كلها، وحسبنا أن المرادي نفسه ذكر كتابه (الجنى الداني) رسائل لم نجد لها ذكراً في غيره من الكتب، وهي: رسالته في (الألف) ورسالته في (لو) ورسالته في (كلا وبلى) و(إعراب البسملة).
ولما كانت مخطوطة باريس لا ثانية لها، فقد اعتمدتها في التحقيق وحدها. وحرصت على الإشارة إلى بدء كل صفحة منها، فوضعت الأرقام الدالة على ذلك، ورمزت لوجه الورقة بالرقم مقروناً بالحرف (أ) ولظهرها بالرقم مقروناً بالحرف (ب). وكتبت النص على ما نعرف اليوم من قواعد الإملاء. وكانت جملة من كلماته على خلاف ذلك، لا سيما في كتابة الهمزة وإهمال النقاط والألفات، مثل (جزؤا=جزءاً. شا=شاء. مارا=مارأوا. جزى=جزءي. مسئلة=مسألة. هل لا=هلا. ثلثه=ثلاثة).
(/9)
وحاولت التقيد بالنص الأصلي ومع ذلك اضطررت إلى تصحيح ألفاظ وردت مخالفة للقواعد الصحيحة. وأضفت كلمات إقتضاها السياق. وأشرت إلى كل تغيير في الحاشية مهملاً الإشارة إلى ما لا فائدة في ذكره، كسقوط نقط أو ألفات أو غيرها. ووضعت ما أضفته بين قوسين [] مستعيناً على التصحيح والإضافة بكتب النحو غالباً. والذي يسر لي هذا التدخل أن ناسخ الرسالة غير مؤلفها، ولو كان الناسخ هو المؤلف نفسه لما سمحت لنفسي بمثل هذا التدخل لأن المخطوطة آنذاك صورة لثقافة المؤلف.
وعنيت بعزو الشواهد إلى أصحابها، وخرجت الآيات المستشهد بها. ولم أهمل التعريف بالأعلام التي يمر ذكرها بصورة موجزة. وأهملت الإشارة إلى طبعات المصادر التي استعنت بها، لأني سأذيل هذه النشرة بثبت أبجدي بالمراجع وطبعاتها، ليسهل الرجوع إليها على المعني هذا العلم.
والله الموفق إلى أهدى السبل.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العلامة بدر الدين ابن أم قاسم رحمه الله تعالى:
سألت – وفقك الله – عن بيان [الجمل] التي يكون لها محل من الإعراب، لأن الجملة أصلها[30] أن تكون مستقلة لا تتقدر بمفرد ولا تقع موقعه، وما كان من الجمل له[31] محل من الإعراب فإنما ذلك لوقوعه موقع المفرد، وسده[32] مسده، فتصير الجمل الواقعة موقع المفرد جزءاً لما قبلها، فيحكم على موضعها بما يستحقه المفرد الواقع في ذلك الموضع. مثال ذلك أنك إذا قلت: زيد أبو قائم، فـ(أبوه قائم) جملة وقعت خبراً للمبتدأ، وأصل خبر المبتدأ أن يكون مفرداً، فالجملة المذكورة واقعة موقع المفرد، فيحكم على موضعها بالرفع كما يحكم على لفظ المفرد لو حل محلها.
إذا فهمت هذا فنقول: كل جملة يسد المفرد مسدها فلها موضع من الإعراب، وكل جملة لا يسد المفرد مسدها فلا موضع لها من الإعراب، وها أنا أذكرها مفصلة[33] إن شاء الله تعالى:
(/10)
فالجمل التي لها محل من الإعراب سبع: الخبرية والحالية، والمحكية بالقول، والمضاف إليها، والمعلق عنها العامل، والتابعة لما هو معرب أوله محل من الإعراب، والواقعة جواب ذات الشرط مصدرة بالفاء أو بـ((إذا)). وقد جمعت في هذين البيتين:
خبرية حالية محكية بالقول ذات إضافة وتعلق
وجواب ذي جزم بفاء أو إذا ولتابع حكم المقدم أطلق
وجمعت أيضاً في هذه الأبيات:
جمل أتت ولها محل معرب سبع، لأن حلت محل المفرد
خبرية حالية محكية وكذا المضاف لها بغير تردد
ومعلق عنها وتابعة لما هو معرب أو ذي محل فاعدد
وجواب شرط جازم بالفاء أو ب((إذا)) وبعض قال غير مفيد[34]
أما الخبرية فيحكم على موضعها بما يستحقه الخبر الذي سدت مسده، فتكون تارة/117ب/ في موضع رفع، كالجملة الواقعة خبر المبتدأ أو خبر ((إن)) وأخواتها، وخبر ((لا)) التي لنفي الجنس. وتكون تارة في موضع نصب، كالجملة الواقعة خبر ((كان)) وأخواتها، وخبر ((ما)) الحجازية وأخواتها. ويندرج في قولنا (الخبرية) الجمل الواقعة مفعولاً ثانياً لظننت وأخواتها وثالثاً لا علمت وأخواتها، لأنها كانت خبراً للمبتدأ قبل دخول الناسخ والتمثيل سهل فلا نطول به.
وأما الحالية فلا تكون إلا في موضع نصب على إختلاف أنواعها، لأن الحال منصوبة دائماً، مثال ذلك: جاء زيد ويده على رأسه، وكذا ما أشبه ذلك من الجمل الواقعة بعد معرفة. وأما الجملة الواقعة بعد نكرة فهي صفة لها. وفي الجملة الواقعة بعد المعرف بـ((أل)) الجنسية وجهان، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}[35] ففي (نسلخ) وجهان: أحدهما أن تكون صفة نظراً إلى المعنى إذ لم يرد ليل معين. والثاني أن تكون حالاً نظراً إلى اللفظ لأنه معرفة بـ((أل)) وهو الأظهر. ونظير الآية في إحتمال الوجهين قول الشاعر:
ولقد أمر علي اللئيم يسبني .....................................[36]
(/11)
وإذا وقعت الجملة بعد النكرة وتصدرت بواو الحال فهي جملة حالية وليست بصفة، كقوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}[37] وسوغ ذلك تقدم النفي. وزعم الزمخشري[38] أن الجملة صفة، واعتذر عن دخول الواو[39]. ورده ابن مالك[40] وليس هذا موضع بسط الكلام على ذلك.
واختلف النحاة في الجمل [المصدرة بمذ ومنذ][41] فذهب السيرافي[42] (إلى) أنها في موضع نصب على الحال، وذهب الجمهور إلى أنها لا موضع لها من الإعراب.
واختلفوا أيضاً في الجملة الواقعة في الإستثناء بالفعل[43]، فقيل لا موضع لها. وقيل: في موضع نصب على الحال.
وأما الجمل المحكية بالقول فلها حالان:
أحدهما – أن يكون القول المحكي به غير موضوع للمفعول فحينئذ يكون محله نصباً بإتفاق، نحو: قل الحمدلله. وقد يحذف بعض الجملة بالقول ويبقى بعضها كقوله تعالى/118أ/: {قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ}[44]، وكقوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}[45].
(/12)
والثاني – أن يكون موضوعاً للمفعول، نحو: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا}[46]. فهذا فيه خلاف، ذهب بعضهم إلى أن مرفوع (قيل) مميز تفسيره الجملة بعده وهي (آمنوا) فلا موضع لها من الإعراب، والتقدير: وإذا قيل لهم هو، أي قول هو آمنوا. وكذلك[47] بقدر في نظائر هذه الآية، وهذا من باب (فعل) نظير قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآْيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}[48]. في باب (فعل). قيل: وهذا مذهب البصريين[49]. وذهب الكوفيون إلى أن الجملة في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، فهي على هذا في موضع رفع، وقيل: القائم مقام الفاعل (لهم). ورد بأن الكلام لا يتم به والجملة على هذا في موضع نصب، وزعم الزمخشري أن الجملة قائمة مقام الفاعل. وقرره بأن الإسناد إلى لفظه، كأنه قيل: وإذا قيل لهم هذا اللفظ، قال: وهذا الكلام نحو قولك: ألف ضرب من ثلاثة أحرف، ومنه: زعموا مطية الكذب[50]. وهذا قول حسن.
وأما المضاف إليها فهي في موضع جر، لأن إعراب المضاف إليه هو الجر، وذلك قسمان: قسم متفق عليه وقسم مختلف فيه:
فالمتفق عليه أنها في موضع جر الجملة المضاف إليها أسماء الزمان غير الشرطية. وأما ((إذا))[51] ففي الجملة بعدها خلاف، ذهب الأكثرون إلى أنها في موضع جر بإضافة ((إذا)) وذهب قوم إلى أنها لا محل لها، وهو خلاف مشهور.
والمختلف فيه الجملة الواقعة بعد ((إذا)) كما سبق، وبعد (آية) بمعنى علامة، كقوله: بآية يقدمون الخيل شعثا....[52].
فمحل الجملة جر بإضافة (آية) إليها، وهو مطرد عند سيبويه[53]. وذهب أبو الفتح[54]. إلى أن ذلك على تقدير ((ما)) المصدرية، وليست إضافة للجملة، كما جاز في قوله:
بآية ما[55] يحبون الطعاما[56].... .................................
فعلى هذا لا محل للجملة بعدها، لأنها صلة ((ما)) المقدرة.
(/13)
ومن المختلف فيه الجملة الواقعة بعد ((ذي)) في قوله: (اذهب بذي تسلم). ذهب الجمهور إلى أنها بمعنى (صاحب) وأن الجملة في[57]/ 118ب/ موضع جر بالإضافة، والمعنى: اذهب في وقت ذي سلامة. وذهب بعضهم إلى أن (ذو) موصولة على لغة طيئ، وأعربت على لغة بعضهم، و(تسلم) صلة لـ(ذي)[58]، والمعنى: اذهب في الوقت الذي تسلم فيه، فلا محل للجملة على هذا، وهو مذهب ابن الطراوة[59]. ومن المختلف فيه الجملة الواقعة بعد ((لما)) التي هي حرف وجوب لوجوب. فذهب سيبويه [إلى] أنها لا محل لها من الإعراب، لأن ((لما)) عنده حرف[60]. وذهب الفارسي[61] إلى أنها في موضع جر بالإضافة، لأن ((لما)) عنده ظرف، بمعنى ((حين))[62].
وأما الجملة التي علق عنها العامل فهي في موضع نصب. ولا يكون التعليق[63] إلا في الأفعال القلبية وما ألحق بها. والجملة بعد المعلق في موضع نصب بإسقاط حرف الجر إن تعدى به، نحو: فكرت أصحيح هذا أم لا؟ ومنه: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا}[64]. وفي موضع مفعوله إن تعدى إلى واحد، نحو: عرفت أيهم عندك، ومنه: (أما ترى أي برق ههنا)[65] وسادة مسد مفعوليه إن تعدى إلى اثنين، نحو: علمت[66] أزيد عندك أم عمروا؟ ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}[67]، وبدل من المتوسط بينه وبينها إن تعدى إلى واحد بعدما أخذ مفعوله، نحو: عرفت زيداً أبو من هو؟ فالجملة بدل زيد، وهي بدل شيئ من شيئ، أي عرفت قصة[68] زيد أبو من هو. وقيل: بدل اشتمال. وذهب بعضهم إلى أن هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وهو مذهب المبرد[69] والأول للسيرافي[70] واختاره ابن عصفور[71].
وأما الجملة التابعة فحكمها حكم المتبوع، إن كان معرب اللفظ والمحل فلها محل من الإعراب، وإلا فلا محل لها، وهي أقسام:
(/14)
منها الوصفية، وهي الجملة التي لها محل الإعراب، وإنما [أعربت][72] لأنها لا يوصف بها إلا ما هو معرب أوله محل من الإعراب. وتكون في موضع رفع ونصب وجر بحسب المنعوت. مثالها في موضع رفع {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ}[73] / 119أ/ فـ((أنزلناه)) جملة في موضع رفع، لأنها صفة (كتاب)، لأن الجمل بعد النكرة صفة كما سبق. ومثالها في موضع نصب رأيت رجلاً أبوه عالم، ومثالها في موضع جر، مررت برجل أبوه عالم، ولذلك عطف عليها في قوله:
يارب بيضاء من الفواهج أم صبي قد حبا أو دارج[74]
فعطف (دارجاً) على موضع (قد حبا)، لأنه في موضع جر، لكونه صفة لـ(صبي).
ومنها المعطوفة وهي بحسب المعطوف عليه إن كان مرفوعاً أو في موضع رفع فهي مرفوعة، وإن كان منصوباً أو في موضع نصب فهي منصوبة، وإن كان مجروراً أو في موضع جر فهي مجرورة، وإن كان مجزوماً أو في موضع جزم في مجزومة، وإن لم يكن لها محل من الإعراب فلا محل لها، فهذه خمسة أحوال. مثال الرفع: جاء رجل أبوه فاضل وأخوه عالم فـ(أبوه فاضل) جملة في موضع رفع لأنها صفة رجل و(أخوه عالم) كذلك، لأنها معطوفة عليها، ومثال النصب رأيت رجلاً أبوه فاضل وأخوه عالم كذلك، لأنها معطوفة عليها. ومثال الجزم: إن جاء زيد فأنا أكرمه وأنت تحسن إليه، فقولك (أنا أكرمه) جملة في موضع جزم و(أنت تحسن إليه) معطوفة عليها، فهي أيضاً في موضع جزم. ومثال المعطوفة على ما لا محل لها من الإعراب: زيد قائم وعمرو ذاهب، فإن ومنها الجملة المؤكدة، ولا تكون إلا في التوكيد اللفظي، فإن أكدت ماله موضع من الإعراب فلها موضع، وإلا فلا، مثال الأول: زيد أبو قائم [أبو قائم] ومثال الثاني:
................................... أتاك أتاك اللاحقون أحبس أحبس[75]
(/15)
ومنها الجملة الواقعة بدلاً، فإن كان بدلاً من معرب أم من شيء له محل من الإعراب فلها محل/ 199ب/ وإلا فلا. ومن أمثلة الواقعة بدلاً ولها محل قولك: عرفت زيداً أبو من هو على ما سبق بيانه ولا تقع الجملة عطف بيان.
وأما الجملة الواقعة جواب أداة شرط جازمة مصدرة بالفاء أو بـ(إذا) فإنها في موضع جزم مثال المصدرة بالفاء: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}[76] فـ(ماله من مكرم) جملة في موضع جزم لأنها جواب أداة جازمة. ومثال المصدرة بـ(إذا) أعني الفجائية: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}[77] فـ(إذا هم يقطنون) جملة في موضع جزم. وإنما قلت: (جواب أداة): ليشمل الحرف وغير الحرف. وإنما قلت: (جازم) احترازاً من نحو (إذا)[78] و(كيف) و(حيث) و(لما) و(لولا) فإنها من أدوات الشرط والتعليق، ولكنها لا تعمل الجزم، فليس الجملة الواقعة (بعدها) لها موضع من الإعراب. وإنما قلت (مصدرة بالفاء أو بإذا) إحترازاً من المصدرة بالفعل لأنها لا محل لها وذلك لأن المصدرة بالفعل على قسمين: قسم ظهر فيه الجزم، نحو: إن تقم أقم معك فالظاهر أنه لا محل لها من الإعراب لظهوره في لفظه. وقسم لم يظهر فيه جزم لأنه مبني فهو مقدر في محله، نحو: إن قمت قمت، جملة [قمت] لا محل لها، ولكن الفعل وحده مجزوم المحل.
فإن قلت: ما الفرق بين الجملة المصدرة بالفاء أو (إذا)[79] وبين المصدرة بالفعل الماضي؟
(/16)
قلت: المصدرة بالفاء أو ((إذا)) لم تصدر بما يقبل أن يكون مجزوماً لا لفظاً ولا محلاً. وأما المصدرة بالفعل الماضي فهي مصدرة بما يقبل الجزم محلاً، ولو كان معرباً لقبله لفظاً، فهي كالإسم المبني، لما لم يمكن ظهور الإعراب في لفظه حكم على محله بالإعراب، ويدل على صحة ذلك أنه لو حكم على الجملة المصدرة بالفعل الماضي بأنها في موضع جزم لزم أن يكون الفعل الذي في أولها لا محل له[80]، لأن المحكوم على موضعه بالجزم هو مجموع الجملة، وحينئذ لا يصح العطف عليه بالجزم قبل ذكر فاعله لأنه لا موضع له [مستقلاً، إذ][81] الموضع له مع الفاعل. فعلى هذا يمتنع إن قام ويذهب زيد أحسن إليه. و[على إهمال قام وأعمال يذهب في زيد بل] على أعمال (قام) وإضمار الفاعل في (يذهب). وهذا من باب التنازع، وهذا التركيب غير ممتنع/ 120أ/ فدل عطف الفعل[82] المضارع بالجزم على الماضي الواقع [شرطاً][83] قبل أخذ فاعله أنه مجزوم المحل، وأن الجملة ليس لها محل من الإعراب، والله أعلم بالصواب.
وقد فهم مما تقدم أن جملة الشرط ليس لها موضع مجزوم، بل الفعل الذي صدر في محل جزم كما تقرر في جمل الجزاء. وقد جعل بعضهم الجمل الشرطية في موضع جزم إذا لم يظهر فيها الجزم، وذلك إذا كان فعلها ماضياً، ولذلك أطلق في جملة الجواب ولم يقيد بأن تكون مصدرة بالفاء أو بـ((إذا)).
والظاهر أن جملة الشرط في مثل: (إن قام زيد عمرو) لا موضع لهما، ولكن الفعل وحده في موضع جزم. وفي كلام بعضهم أن الواقعة موضع جزم هي الواقعة غير مجزوم [فعلها] جواباً للشرط العامل أو عطفت على مجزوم أو على ما موضعه جزم، فلم يذكر الشرطية ولكنه أطلق في الواقعة جواباً، ولهذا أشرت بقولي في الأبيات:
وجواب شرط جازم بالفاء أو ب((إذا)) وبعض قال غير مقيد[84]
فهذا تمام الكلام على الجمل التي لها موضع من الإعراب.
(/17)
وأما الجمل التي لا محل لها من الإعراب فتسع، وهي الإبتدائية، والصلة، والإعتراضية، والتفسيرية، وجواب القسم، والواقعة بعد أدوت التحضيض، والواقعة بعد أدوات التعليق غير العاملة، والواقعة جواباً لها، والتابعة لما لا موضع له. ويجمعها هذه الأبيات وهي تتمة الأبيات المتقدمة:
وأتتك تسع ما لها من موضع صلة ومعترض وجملة مبتدى
وجواب أقام وما قد فسرت في أشهر والخلف غير مبعد
وبعيد تحضيض وبعد معلق لا جازم وجواب ذلك أورد
وكذاك تابعة لشيء ما له من موضع فاحفظه غير مفند
وأنا أذكرها مفصلة:
أحدها الإبتدائية، فلا محل لها من بإجماع، وهي ثلاثة أقسام/ 120ب/ مبتدأة لفظاً، نحو زيد قائم أبوه. ومبتدأةً نيةً، نحو راكباً جاء زيد، لأن الجملة في نية التقديم، والحال في نية التأخير، ومبتدأة حكماً وهي الواقعة بعد أدوات المبتدأ، وهي ((إن)) وأخواتها إذا كفت بـ((ما)) و((إذا)) الفجائية و((هل)) و((بل)) و((لكن))، و((ألا)) الإستفتاحية و((أما)) أختها و((ما)) النافية غير الحجازية و((بينما)) و((حتى)) الإبتدائية. فالجملة بعدها لا موضع لها من الإعراب.
وذهب الزجاج[85] وابن درستويه[86] [إلى] أن الجملة بعد ((حتى)) في موضع جر بـ((حتى)) وذلك خلاف الجمهور[87]. ومثال الجملة بعد ((حتى)) الإبتدائية قول الشاعر:
فما زالت القتلى تمج دماءها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل[88]
ومن ذلك قوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا}[89] ونحو ذلك كثير.
(/18)
وأما الجملة الواقعة صلة فهي أيضاً لا محل لها بإتفاق. وهي قسمان: صلة موصول إسمي، وصلة موصول حرفي. فالأول [نحو]: جاء الذي أبوه عالم. والثاني نحو: يعجبني أن يذهب زيد، فـ(أن) مع صلتها في موضع رفع، لأنها مؤولة بمصدر هو فاعل (يعجبني) و(يذهب زيد) لا محل لها، لأنها صلة موصول حرفي. وكذلك الجملة الواقعة صلة (ما) المصدرية وغيرها من الحروف المصدرية. ومن ذلك الجملة الواقعة بعد لام (كي) لأنها صلة (أن) المقدرة الناصبة، فلا موضع لها، ولكن (أن) مع صلتها في موضع جر بلام (كي).
وأما الإعتراضية فقال ابن مالك: هي المفيدة تقوية بني جزءي صلة، نحو: جاء الذي جوده – والكرم[90] زين – مبذول أو إسناد[91] كقوله:
وقد ادركتني والحوادث جمة – أسنة قوم لاضعاف ولا عزل[92]
أو مجازاة [كقوله تعالى]: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ}[93] أو نحو[94] ذلك. ووقوعها بين نعت ومنعوت، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[95].
وأما التفسيرية فهي[96] الكاشفة لحقيقة ما تليه مما يفتقر إلى ذلك. وتفسر الجملة كثيراً وقد تفسر المفرد [كقوله تعالى]: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}[97] وقوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ}[98] ثم قال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
والمشهور أنه لا موضع للجملة المفسرة من الإعراب. وقال الأستاذ أبو علي[99]:
(/19)
التحقيق أنها على حسب ما تفسره، فإن كان له محل من الإعراب كان لها موضع من الإعراب وإلا فلا، فمثل زيداً ضربته لا موضع له من الإعراب. ومثل {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[100]. له موضع من الإعراب، لأن المفسر في موضع (أن) والمفسر في موضع رفع. ويدل على ذلك مسألة أبي علي، وهي: (زيد الخبز آكله) فـ(آكله) مفسر للعامل في (الخبز) وله موضع لكونه خبراً عن (زيد) فكذلك مفسره، وبين ذلك ظهور الرفع في المفسر. وكذلك مسألة الكتاب: أن زيداً تكرمه يكرمك، فـ(تكرمه) تفسير للعامل في زيد[101] وقد ظهر الجزم.
فإن قلت: على هذا يلزم أن تكون أداة الشرط عملت الجزم في فعلين قبل الجواب وليس الثاني تابعاً للأول.
فالجواب، قال ابن مالك: أن العامل[102] في مثل هذا لما إلتزم حذفه وجعل المتأخر عوضاً منه صار نسياً منسياً، فلم يلزم من نسبة العمل إليه وجود جزمين قبل الجواب، على أنه لو جمع بينهما على سبيل التوكيد لم يكن في ذلك محذوفاً لا يكون مجزوماً من تعليق الذهن بهما وأحدهما غير منطوق به ولا محكوم بجواز النطق به أحق وأولى. انتهى.
وقال غيره: جملة الإعتراض........[103] بالمفعول بحيث يكون كالتأكيد أو التنبيه على حال من أحواله.
/121أ/ وجملة الإعتراض [قد تشتبه بالجملة الحالية][104] ويميزها من الحالية إمتناع قيام مفرد مقامها، ولذلك كانت لا محل لها. وجواز إقترانها بالفاء و(لن) وحرف التنفيس، وكونها طلبية كقوله:
ان سليمى – والله يكلؤها – ضنت بشئ ما كان يرزؤها[105]
وأما الجملة الواقعة بعد القسم فلا محل لها كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الإْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[106] فقوله: {إِنَّ الإْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} جملة لا موضع لها من الإعراب، وكذلك ما أشبهها، فإنها في محل لا يحله المفرد.
(/20)
فإن قلت/ 122ب/ قد وقعت الجملة القسمية خبراً للمبتدأ في نحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[107].
فالجواب أن الذي وقع موقع الخبر هو مجموع الجملتين: جملة القسم وجملة الجواب، فمجموعهما[108] في موضع رفع لا الجوابية وحدها. وهذا واضح.
وأما الواقعة بعد أدوات التحضيض ((هلا)) و((الا)) و((لولا)) و((لوما)) فإذا قلت: هلا تنزل عندنا، فلا محل لهذه الجملة، لأن أدوات التحضيض لا عمل لها. وقد تحذف الجملة بعد أدوات التحضيض ويبقى عملها[109] كقوله:
تعدون عقرا لنيب أفضل مجدكم تعدون عقرا لنيب أفضل مجدكم[110]
وأما الجملة الواقعة بعد أدوات التعليق غير العاملة فنحو الواقعة بعد ((لولا)) التي هي لإمتناع الشيء لوجود غيره وبعد ((لو)) الإمتناعية وبعد ((لما)) التي هي حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه[111]. فهذه لا محل لها إذ لا عمل لهذه الأحرف.
وأما الجملة الواقعة جواباً لأدوات التعليق غير العاملة فنحو[112] الجملة الواقعة [جواباً] لـ((لولا)) و((لو)) و((لما)) وقد تقدم ذكرها آنفاً.
وأما الجملة بعد ((إذا)) فقد تقدم الخلاف فيها وكذلك الجملة الواقعة جواباً لـ((حيث)) لا محل لها، لأنها لا تجزم إلا مع ((ما)).
وأما التابعة لما لا موضع له فقد تكون توكيد لما لا موضع له، نحو: [قام زيد قام زيد. وقد تكون معطوفة على ما لا موضع له نحو] قام زيد وجاء عمرو. ولا يتأتى ذلك في النعت، لأن الجملة الوصفية لها موضع من الإعراب دائماً. ولا تكون الجملة عطف بيان.
وقد تم الكلام على الجمل التي لا محل لها من الإعراب على سبيل الإختصار دون الإكثار والكلام على هذه الجمل المذكورة مبسوط في موضعه من كتب العربية، وهذا القدر كاف ههنا والله سبحانه وتعالى أعلم والحمدلله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه وذريته والتابعين لهم أجمعين وسلم.
(/21)
علقه لنفسه الفقير إلى الله تعالى أبو الطيب الحسين بن الشحنة الشافعي غفر الله له ولوالديه والمسلمين وذلك في يوم الإثنين رابع عشرى جماد[113] الآخرة سنة ثمان وسبعين وثمان مائة.
– مصادر البحث –
1 - أخبار النحويين البصريين السيرافي، تحقيق طه محمد الزيني ومحمد عبدالمنعم خفاجي، القاهرة 1955م.
2 - الأشباه والنظائر في النحو السيوطي الطبعة الثانية 1360هـ.
3 - الإغراب في جدل الإعراب، أبو البركات بن الأنباري تحقيق سعيد الأفغاني، مطبعة الجامعة السورية 1957م.
4 - الأمالي الشجرية، ابن الشجري، حيدر آباد الدكن 1349هـ.
5 - انباه الرواة على أنباه النحاة، القفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1950م وما بعدها.
6 - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، ابن هشام الأنصاري، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، الطبعة الخامسة، بيروت 1966م.
7 - البحر المحيط أبو حيان النحوي، القاهرة 1318هـ.
8 - البداية والنهاية ابن كثير بيروت 1966م.
9 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1964 – 1965م.
10 - البيان والتبيين الجاحظ، تحقيق عبدالسلام هارون الطبعة الثانية، القاهرة 1961م.
11 - تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، مطبعة السعادة بمصر 1931م.
12 - تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، تحقيق أحمد صقر، القاهرة 1954م.
13 - تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، ابن مالك، تحقيق محمد كامل بركات، القاهرة 1968م.
14 - الجنى الداني في حروف المعاني، المرادي، تحقيق طه محسن، رسالة ماجستير مطبوعة على آلة الرونيو بغداد 1971م.
15 - جواهر الأدب في معرفة كلام العرب، علاء الدين الأربلي، الطبعة الثانية، النجف، 1970م.
16 - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1967م.
17 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ابن حجر العسقلاني، حيدر آباد الدكن، 1349هـ.
(/22)
18 - الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، ابن فرحون، مطبعة السعادة بمصر، 1329هـ.
19 - ديوان إبراهيم بن هرمة، تحقيق محمد جبار المعيبد، النجف 1969م.
20 - ديوان جرير، شرح محمد إسماعيل عبدالله الصاوي، دار الأندلس – بيروت.
21 - ديوان الشماخ بن ضرار، تحقيق صلاح الدين الهادي، دار المعارف بمصر 1968م.
22 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد، مطبعة السعادة بمصر 1329هـ.
23 - شرح ألفية ابن مالك، ابن عقيل، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد الطبعة الرابعة عشرة 1964م.
24 - شرح ألفية ابن مالك، ابن الناظم، بيروت 1312هـ.
25 - شرح ألفية ابن مالك، الأشموني (مع حاشية الصبان) دار إحياء الكتب العربية.
26 - شرح التسهيل، المرادي، مخطوطة مصورة في مكتبة الدراسات العليا في جامعة بغداد، ومخطوطة الأوقاف – بغداد (رقم 1426).
27 - شرح التصريح على التوضيح، ياسين العليمي، دار إحياء الكتب العربية.
28 - شرح شواهد المغني، دمشق 1966م.
29 - شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات أبو بكر بن لأنباري، تحقيق عبدالسلام هارون، الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر 1969م.
30 - شرح قطر الندى وبل الصدى، ابن هشام الأنصاري تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، الطبعة العاشرة القاهرة 1959م.
31 - شرح الكافية، الرضي الإسترابادي 1310هـ.
32 - الصاحبي في فقه اللغة وسنن العربية في كلامها، أحمد بن فارس، تحقيق مصطفى الشويمي. بيروت 1963م.
33 - طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي، القاهرة 1324هـ.
34 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، إدارة المطبعة المنيرية بمصر.
35 - غاية النهاية في طبقات القراء، ابن الجزري، نشره برجستراسر مطبعة السعادة بمصر 1932م.
36 - الفهرست ابن النديم، مكتبة خياط بيروت 1964م.
37 - الكامل في اللغة والأدب، المبرد، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة.
38 - الكتاب، سيبويه، طبعة بولاق، 1316 – 1317هـ.
(/23)
39 - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل... الزمخشري، بيروت.
40 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، الحاج خليفة، الطبعة الثانية، طهران، 1967م.
41 - لسان العرب، ابن منظور، بيروت، 1955م.
42 - مراتب النحويين، أبو الطيب اللغوي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 1955م.
42 - مراصد الإطلاع في الأمكنة والبقاع، ابن عبدالحق، ليدن.
44 - المرتجل في شرح الجمل، لابن الخشاب، تحقيق: علي حيدر، دمشق، 1972م.
45 - معجم الأدباء، ياقوت الحموي، بعناية مرجليوث، الطبعة الثانية، 1923م وما بعدها.
46 - معجم البلدان، ياقوت الحموي، بيروت، 1957م.
47 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، تحقيق الدكتور مازن المبارك ومحمد علي حمدالله، دمشق، 1964م.
48 - المقرب، ابن عصفور، تحقيق: عبدالستار الجواري وعبدالله الجبوري، بغداد 1971 و1972م.
49 - منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك أبو حيان الأندلسي، تحقيق: سدني جليزر، فيوهافن، 1947م.
50 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، أبو المحاسن، دار الكتب المصرية.
51 - نزهة الألباء في طبقات الأدباء، أبو البركات بن الأنباري، تحقيق: الدكتور إبراهيم السامرائي، الطبعة الثانية، 1970م.
52 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب... المقرى، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، بيروت.
53 - همع الهوامع مع شرح جمع الجوامع، السيوطي، مطبعة السعادة بمصر 1327هـ.
54 - الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي، بعناية هبرنبرغ وجماعته، 1949م وما بعدها.
ـــــــــــــــــــــ
[1] يراجع:
Catalogue des manuscrits arabes de la biblioth:
Eque natianal a paris v.1.p. 201.
[2] فرغت من تحقيق هذا الكتاب وسيقدم إلى الطبع إن شاء الله.
[3] يراجع: الإغراب في جدل الإعراب – لابن الأنباري، ص27 – 28.
[4] الدرر الكامنة 2/32. غاية النهاية في طبقات القراء 1/227.
[5] غاية النهاية 1/227.
[6] كشف الظنون 1/406.
(/24)
[7] الدرر الكامنة 2/32.
[8] الدرر الكامنة 2/32. بغية الوعاة 1/517.
[9] حسن المحاضرة 1/536.
[10] يراجع الدرر الكامنة 2/33. غاية النهاية 1/227. بغية الوعاة 1/517. شذرات الذهب 6/160.
[11] ترجمته في بغية الوعاة 2/70.
[12] ترجمته في بغية الوعاة 2/331.
[13] ترجمته في الديباج المذهب، ص184، وحسن المحاضرة 1/460.
[14] ترجمته في غاية النهاية 1/597، وشذرات الذهب 6/172.
[15] ترجمته في غاية النهاية 1/168، وبغية الوعاة 1/455.
[16] طبقات الشافعية الكبرى 5/513، الوافي بالوفيات 2/168.
[17] تفصيل ترجمته في كتاب: أبو حيان النحوي – للدكتورة خديجة الحديثي. ويراجع: طبقات الشافعية 6/31؛ والدرر الكامنة 4/302.
[18] غاية النهاية 1/228. وسرياقوص: بليدة في نواحي القاهرة. يراجع: مراصد الإطلاع 2/29، ومعجم البلدان 3/218.
[19] تفصيل الكلام على هذه المصنفات في مقالنا الموسوم بـ(المرادي النحوي: حياته وآثاره) المنشور في مجلة (المورد) البغدادية: المجلد الثالث – العدد الثاني، ص87 – 92 (1974).
[20] عمدة القاري 1/252.
[21] الأشباه والنظائر 2/21.
[22] المصدر السابق 2/17 – 21.
[23] يقتضينا المقام ونحن نسجل من ألف في الموضوع الذي طرقه المرادي أن نشير إلى أن ابن هشام الأنصاري (ت761هـ) تكلم بالتفصيل على (الجمل التي لها محل من الإعراب والتي لا محل لها) في الباب الثاني من كتابه: مغني اللبيب 2/427 – 478، مستفيداً من الذين سبقوه، ومناقشاً كثيراً من المسائل، مع استطرادات في مواضع عدة.
وللدكتور فخر الدين قباوة كتاب ممتع عنوانه (إعراب الجمل وأشباه الجمل) طبع في حلب سنة 1972م، لونه بالنصوص الأدبية الرفيعة التي إستقاها من القرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال العرب الاقحاح، وأشعار أئمة الأدب والبيان، وجمع فيه – كما يقول – جهود عشرين سنة من البحث والتتبع والدراسة والتصنيف.
(/25)
[24] يراجع مقدمتنا لكتاب الجنة الداني، ص22 – 26، مبحث: (منهج الكتاب وأسلوبه).
[25] كذا في المخطوط. والذي يتفق وتاريخ الرسائل السابقة هو (878).
[26] الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب، ص4 نقلاً عن مقدمة : الإغراب في جدل الإعراب بقلم سعيد الأفغاني، ص28.
[27] الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 3/158، رقم الترجمة 600 (بتصرف).
[28] عمدة القارى 1/252.
[29] الأشباه والنظائر 2/16 – 17.
[30] مكررة في المخطوط.
[31] مكررة في المخطوط.
[32] في المخطوط: وسد.
[33] سيذكر المؤلف في خاتمة الرسالة أن الكلام على الجمل قد تم على (سبيل الإختصار دون الإكثار).
[34] في المخطوط: مفند. والتصويب عن عمدة القاري 1/252، والأشباه والنظائر 2/16.
[35] سورة يس 36/37.
[36] تمام البيت: (فمضيت ثمت قلت لا يعنيني). وقائله رجل من بني سلول. وهو من شواهد المغني 1/107 و2/480 و717. ابن عقيل 2/1. عمدة القاري 1/189. ويراجع شرح شواهد المغني – للسيوطي 1/310.
[37] الحجر 15/4.
[38] محمود بن عمر بن محمد أبو القاسم جارالله الزمخشري (467 – 538هـ) يراجع: معجم الأدباء 7/147. انباه الرواة 3/265. النجوم الزاهري 5/274. وكتاب الزمخشري – للدكتور أحمد محمد الحوفي.
[39] في الكشاف 2/570: (ولها كتاب: جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ}، وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب).
[40] جمال الدين محمد بن عبدالله بن مالك (600 – 672هـ). يراجع: فوات الوفيات 2/227. غاية النهاية 2/180. بغية الوعاة 1/130. نفح الطيب 2/241.
(/26)
[41] في المخطوط: (الواقعة بعد مذ ومنذ) وهو خطأ صوبناه عن شرح التسهيل – للمرادي جـ1 الورقة 125 (مخطوطة الأوقاف – بغداد/ 1426) والمغني 2/431 – 432، والأشباه والنظائر 2/20. هذا والجملة الواقعة بعد (مذ ومنذ) في محل جر بالإضافة كما صرح المرادي نفسه في الجنى الداني ص438. ويراجع: الكتاب 1/460. منهج السالك ص256. شرح الألفية – لابن الناظم ص145. همع الهوامع 1/216.
[42] أبو سعيد الحسن بن عبدالله بن المرزبان (284 – 368هـ). يراجع: الفهرست ص62. تاريخ بغداد 7/341. انباه الرواة 1/313.
[43] الأفعال التي يستثنى بها هي: (ليس – لا يكون – خلا – عدا – حاشا). ويراجع: المغني 2/437.
[44] هود 11/69.
[45] الشمس 91/13.
[46] البقرة 2/13.
[47] في المخطوط: وذلك.
[48] يوسف 12/35.
[49] نسبه إليهم ابن عصفور. يراجع المغني 2/44.
[50] الكشاف 1/64.
[51] في المخطوط: من.
[52] تمامه (كأن على سنابكها مداما). نسبه سيبويه 1/460 إلى الأعشى، وليس في ديوانه. وهو من شواهد المغني 2/469. شرح المفصل 3/18. ويراجع: شرح شواهد المغني 2/811.
[53] الكتاب 1/460 – 461.
[54] أبو الفتح عثمان بن جني (320 – 392هـ). يراجع: نزهة الالباء ص244. معجم الأدباء 5/15. وكتاب ابن جني النحوي – للدكتور فاضل السامرائي.
[55] في المخطوط: مما.
[56] صدره: (ألا من مبلغ عني تميماً). وقاتله يزيد بن عمرو بن الصعق. وهو من شواهد سيبويه 1/460. شرح المفصل 3/18. المغني 2/469.
[57] في: مكررة في المخطوط.
[58] في المخطوط: لذا.
[59] أبو الحسين سليمان بن محمد بن عبدالله المالقي (ت528هـ). صنف: الترشيح في النحو. المقدمات على سيبويه وغيرهما. يراجع: بغية الوعاة 1/602. كشف الظنون 1/399.
[60] الكتاب 2/312.
[61] الحسن بن أحمد بن عبدالغفار الفارسي (288 – 377هـ). يراجع: الفهرست ص64. معجم الأدباء 3/9. انباه الرواة 1/273. وكتاب أبو علي الفارسي – للدكتور عبدالفتاح شلبي.
(/27)
[62] البحر المحيط 1/15 و265 و3/106 و7/11.
[63] وهو إبطال العمل لفظاً لا معنى.
[64] الكهف 18/19.
[65] ورد المثال في المقرب ص120 والمغني 2/465. ويرجح أن يكون شطراً من الرجز هو: (أما ترين أي برق ههنا).
[66] في المخطوط: أعلمت.
[67] طه 20/7.
[68] في المخطوط: قصته. والتصويب عن شرح التسهيل – للمرادي الورقة 69ب.
[69] أبو العباس محمد بن يزيد التمالي (210 – 282هـ). كان أما البصريين في عصره. يراجع: مراتب النحويين ص83. أخبار النحويين البصريين ص72. الفهرست ص590. وكتاب: المبرد، تأليف أحمد حسنين القرني وعبدالحفيظ فرغلي.
[70] في المخطوط: السيرافي.
[71] أبو الحسن علي بن مؤمن بن محمد بن علي الحضرمي (597 – 663هـ). نحوي، صرفي، لغوي، من تصانيفه: الممتع في التصريف. المقرب. شرح جمل الزجاجي. يراجع: فوات الوفيات 2/184. بغية الوعاة 2/210. شذرات الذهب 5/330. ويراجع رأيه في المقرب 1/120.
[72] فراغ في الأصل. وكتب الناسخ فيه كلمة (كذا).
[73] الأنعام 6/92 و155.
[74] من أرجوزة لجندب بن عمرو يعرض فيها بامرأة الشماخ بن ضرار، وهي في ديوان الشماخ ص360 – 364. ويراجع: شرح القصائد السبع – لابن الأنباري ص37. أوضح المسالك 3/61. شرح التصريح 2/152. شرح الأشموني 3/120.
[75] صدره: (فأين إلى أين النجاة ببغلتي) وقائله مجهول. يراجع: شرح قطر الندى ص290. أوضح المسالك 2/24. ابن عقيل 2/214. شرح التصريح 1/318.
[76] الحج 22/18.
[77] الروم 30/36.
[78] في المخطوط: إذ.
[79] في المخطوط: وإذا.
[80] في المخطوط: لها.
[81] فراغ في الأصل. وكتب الناسخ قربه كلمة (كذا)، وما اثبتناه ملائم للسياق.
[82] في المخطوط: الفاعل.
[83] في المخطوط: (جواب الشرط). وما اثبتناه يلائم السياق.
[84] في المخطوط: غير مفند.
[85] إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج (ت311هـ) يراجع: الفهرست ص60. نزهة الألباء ص244. بغية الوعاة 1/411.
(/28)
[86] عبدالله بن جعفر بن درستويه (258 – 347هـ) صحب المبرد ولقي ابن قتيبة. من مصنفاته: الإرشاد في النحو. شرح الفصيح. غريب الحديث، يراجع: تاريخ بغداد 9/428. انباه الرواة 2/13 بغية الوعاة 2/36.
[87] يراجع: المرتجل – لابن الخشاب ص345 – 346 – المغني 2/432.
[88] البيت لجرير، ورواية الديوان ص457 (تمور دماؤها)، ويراجع: شرح المفصل 8/18. شرح الألفية – لابن الناظم ص265. شرح الكافية – للرضي 2/327. لسان العرب 2/24 و11/357. البحر المحيط 4/294. الجنى الداني ص471. المغني 1/137 و2/432. والأشكل: الذي فيه بياض وحمرة.
[89] الأعراف 7/5.
[90] في المخطوط: والكرام. والتصويب عن شرح التسهيل – للمرادي الورقة 119أ.
[91] في المخطوط: مستناد. والتصويب عن التسهيل – لابن مالك ص113.
[92] البيت لجويرية بن زيد أو لحويرثة بن بدر. يراجع: المغني 2/432. شرح شواهد المغني 2/807.
[93] البقرة: 2/24.
[94] في المخطوط: ونحو ذلك.
[95] الواقعة: 56/76.
[96] في المخطوط: وهي.
[97] آل عمران 3/59: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
[98] الصف 61/10 – 11: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنَجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
[99] أبو علي عمر بن محمد بن عمر بن عبدالله الأزدي الأندلسي الشلوبيني (562 – 645هـ). كان إمام عصره في العربية. صنف تعليقاً على كتاب سيبويه وشرحين على الجزولية، وله كتاب التوطئة في النحو. يراجع: انباه الرواة 2/332. البداية والنهاية 13/173. بغية الوعاة 2/224. ويراجع رأيه في المغني 2/450. همع الهوامع 1/248.
[100] القمر 54/49.
(/29)
[101] في المخطوط: في تفسير. والتصويب عن شرح التسهيل – للمرادي الورقة 118ب.
[102] في المخطوط: إن الحذف.
[103] فراغ في الأصل: وكتب الناسخ بحانبه كلمة (كذا).
[104] في المخطوط: (من تشبيه الجمل الحالية) وهو تحريف. وعبارة المغني 2/411: (كثير ما تشتبه المعترضة بالحالة، ويميزها منها أمور).
[105] البيت لإبراهيم بن هرمه. ديوانه ص48. البيان والتبيين 2/213. المغني 2/434 و442. شرح الشواهد – للسيوطي 2/826.
[106] العصر 103/1 – 2.
[107] العنكبوت 29/69.
[108] في المخطوط: فمجموعها.
[109] يعني أن الفعل قد يحذف بعد لولا ويبقى معموله، لأن أدوات التحضيض لا عمل لها. ويراجع: الجنى الداني ص513.
[110] البيت منسوب في الامالي الشجرية 2/210 إلى الأشهب بن رميلة. وهو في ديوان جرير ص338 برواية:
تعدون عقرا لنيب أفضل سعيكم بني ضوطرى هلا الكمي المقنعا
ويراجع: الكامل 1/387. تأويل مشكل القرآن ص411. الصاحبي ص164. ابن الناظم ص280. شرح الكافية 1/177 و2/387. البحر المحيط 5/192. لسان العرب 15/470. المغني 1/304. جواهر الأدب ص231. ابن عقيل 2/396.
[111] الكتاب 2/312.
[112] في المخطوط: فمجوز.
[113] كذا في المخطوط، وصوابه: جمادى.
(/30)
العنوان: الجنة
رقم المقالة: 1544
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أولا: القرآن الكريم
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82]
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42]
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]
{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49]
(/1)
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26]
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود: 23]
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الرعد: 35]
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]
{مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60]
{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63]
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90]
(/2)
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت: 58]
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 55 - 57]
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 73 - 74]
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40]
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف: 70 -73]
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13 - 14]
(/3)
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15]
{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]
{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 15]
{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]
(/4)
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57]
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]
{لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 12]
{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85]
{غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الزمر: 20]
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119]
(/5)
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]
{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 88 - 89]
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 22 - 23]
{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 23]
(/6)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 31]
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31]
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 107 - 108]
{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 61 - 63]
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 76]
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]
{فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج: 56]
(/7)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12]
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12]
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10 - 12]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 17 - 20]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15 - 16]
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الفتح: 17]
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 5]
(/8)
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [محمد: 12]
قال عز وجل - في وصف الجنة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 118 - 120]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:51 - 57]
{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص: 50 - 52]
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 40 - 49]
(/9)
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 68 - 78].
ثانيا: الحديث الشريف
الحديث الأول:
عَبْداللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: ((جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ: ثِنْتَانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَثِنْتَانِ مِنْ فِضَّةٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَشْخُبُ مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي جَوْبَةٍ ثُمَّ تَصْعَدُ بَعْدُ أَنْهَارًا)).
الحديث الثاني:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً فِي السَّمَاءِ)).
الحديث الثالث:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ وَلا يَبُولُونَ، وَلَكِنْ طَعَامُهُمْ ذَاكَ جُشَاءٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ)).
(/10)
الحديث الرابع:
عن أسامة بن زيد قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم لأصحابه: ((ألا هل مُشَمِّر للجنة، فإنَّ الجنَّة لا خَطَرَ لها، هي - ورب الكعبة - نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبدًا في حبرة ونضرة في دار عالية سليمة بهية)), قالوا: "نحن المُشَمِّرُون لها يا رسول الله، قال: ((قولوا: إن شاء الله)), ثم ذكر الجهاد وحضَّ عليه.
الحديث الخامس:
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَة مِائَة عَامٍ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يَقْتُلُ نَفْسا مُعَاهَدا، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّة أَنْ يَجِدَ رِيحَهَا)).
الحديث السادس:
عَنْ عُتبَة بن عَمْرو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((الْجَنَّة لَهَا ثَمَانِيَة أَبْوَاب، وَالنَّارُ لَهَا سَبْعَة أَبْوَاب)).
الحديث السابع:
عَنْ سَهلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((فِي الْجَنَّة ثَمَانِيَة أَبوَاب، فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّان لا يَدْخُلُهُ إِلاَّ الصَّائِمُونََ)).
الحديث الثامن:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم –: ((لِكُلِّ أَهْل عَمَل بَابٌ مِنْ أَبوَابِ الْجَنَّة يُدْعَونَ مِنهُ بِذَاكَ الْعَمَلِ، فَلأهلِ الصِّيَامِ بَابٌ يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّان)). فَقَالَ أَبُو بَكْر: "يَا رَسُولَ اللهِ، فَهَل مِن أَحَد يُدْعَى مِن تِلكَ الأَبوَابِ كُلِّها؟" قَالَ: ((نَعَمْ، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْر)).
الحديث التاسع:
(/11)
عَنْ قَيس بْنِ سَعدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:((أَلا أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِن أَبوَابِ الْجَنَّة؟)). قُلتُ: "بَلَى"، قَالَ: ((لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ)).
الحديث العاشر:
عنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((عَلَيْكُم باِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّة يُذْهِبُ اللهُ بِهِ الْهَمَّ وَالْغَمَّ)).
الحديث الحادي عشر:
عَنْ مُعَاوِيَة بْنِ حَيدَة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا بَينَ مِصْرَاعَينِ مِنْ مَصَارِيع الْجَنَّة مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ عَامًا)).
الحديث الثاني عشر:
عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ سَلام - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ مَا بَيْنَ مِصَراعَي الْجَنَّة مِقْدَارُ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ يُزَاحَمُ عَلَيْهِ؛ كَازْدِحَامِ الإبل وردت لخمسٍ ظمأ)).
الحديث الثالث عشر:
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((أَنْتُمْ مُوفونَ سَبْعِينَ أُمَّة أَنْتُمْ خَيْرها وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَمَا بَينَ مِصْرَاعَينِ مِنْ مَصَارِيع الْجَنَّة مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَومٌ وَإِنَّهُ لَكَظِيظٌ))
الحديث الرابع عشر:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَر - أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى -)).
الحديث الخامس عشر:
(/12)
عَنْ عَبدِاللهِ بْنِ قَيس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ أَبوَابَ الْجَنَّة تَحتَ ظِلال السُّيُوف)).
الحديث السادس عشر:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّة فَرَأَى عَلَى بَابِهَا مَكْتوبًا: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثاَلِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَر)).
الحديث السابع عشر:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا: "الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ"، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: "لأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لا يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ)).
الحديث الثامن عشر:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّة كُلَّ اثْنَينِ وَخَمِيس، وَتُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ اثْنَينِ وَخَمِيس)).
الحديث التاسع عشر:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا دَخَلَ رَمَضَان فُتِّحَت أَبْوَابُ الْجَنَّة، وَغُلِّقَت أَبْوَاب جَهَنَّم، وَسُلْسِلَت الشَّيَاطِين)).
الحديث العشرون:
عَنْ سَهلِ بْنِ سَعدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)).
الحديث الحادي والعشرون:
(/13)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((لَقَابُ قَوسٍ أَوْ سَوطٍ فِي الْجَنَّة، خَيرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُب)).
الحديث الثاني والعشرون:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْينٍ})).
الحديث الثالث والعشرون:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لا يَبْأَسُ، لا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلا يَفْنَى شَبَابُهُ)).
الحديث الرابع والعشرون:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم –: ((فِي الْجَنَّةِ مِئَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَينِ مِئَةُ عَامٍ)).
الحديث الخامس والعشرون:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: ((الْجَنَّةُ مَائَةُ دَرَجَة، مَا بَيْنَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)).
الحديث السادس والعشرون:
عَنْ عبَادَة بْنِ الصَّامِت - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((الْجَنَّة مِائَة دَرَجَة مَا بَينَ كُلّ دَرَجَتَينِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ، وَالْفِردَوس أَعْلاهَا دَرَجَة، وَمِنهَا تفَجَّرُ الأَنْهَارُ الأَرْبَعَة، وَالْعَرشُ مِن فَوقِهَا، فَإِذَا سَأَلْتُم اللهَ فَاسأَلُوهُ الْفِردَوس الأَعْلَى)).
الحديث السابع والعشرون:
(/14)
عنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: ((مَنْ بَلَغَ الْعَدُوَّ بِسَهمٍ، رَفَعَ اللهُ بِهِ دَرَجَةً لَهُ)). فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَن بْن النَّحَّامِ: "يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الدَّرَجَة؟"، قَالَ: ((أَمَا إِنَّها لَيْسَتْ بِعَتَبَةِ أُمِّكَ! مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَينِ مِئَةُ عَامٍ)).
الحديث الثامن والعشرون:
عنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، يَرَاهُمْ مَنْ أَسْفَل مِنْهُمْ كَمَا يُرَى الْكَوْكَبُ الطَّالِعُ فِي الأُفُقِ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا)).
الحديث التاسع والعشرون:
عَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((الْفِردَوْس رَبوَة الْجَنَّةِ، وَأَعْلاهَا وَأَوْسَطُهَا، وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ)).
الحديث الثلاثون:
عَنِ الْعَرْبَاضِ بْنِ سَارِيَة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِذَا سَأَلتُمُ الله - تَعَالَى - فَاسْألوهُ الْفِردَوسَ، فَإِنَّهُ سِرُّ الْجَنَّةِ)).
الحديث الحادي والثلاثون:
عن أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ: فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ)).
الحديث الثاني والثلاثون:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ، اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ قوله - تعالى -: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ})).
ثالثا: الشعر:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا
(/15)
طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرابُهَا
والرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا
كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا
عَلَيَّ إِنْ لاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا
ويقول ابن القيم في وصف الجنة:-
يَاخَاطِبَ الْحُورِ الحِسَانِ وَطَالِبًا لِوِصَالِهِنَّ بِجَنَّةِ الْحَيَوَانِ
لَوْ كُنْتَ تَدْرِي مَنْ خَطَبْتَ وَمَنْ طَلَبْ تَ بَذَلْتَ مَا تَحْوِي مِنَ الأَثْمَانِ
أَوْ كُنْتَ تَعْرِفُ أَيْنَ مَسْكَنُهَا جَعَلْ تَ السَّعْيَ مِنْكَ لَهَا عَلَى الأَجْفَانِ
أَسْرِعْ وَحُثَّ السَّيْرَ جَهْدَكَ إِنَّمَا مَسْرَاكَ هَذَا سَاعَةٌ لِزَمَانِ
فَاعْشَقْ وَحَدِّثْ بِالْوِصَالِ النَّفْسَ وابْ ذُلْ مَهْرَهَا مَا دُمْتَ ذَا إِمْكَانِ
وَاجْعَلْ صِيَامَكَ دُونَ لُقْيَاهَا وَيَوْ مَ الْوَصْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانِ
وَاجْعَلْ نُعُوتَ جَمَالِهَا الْحَادِيْ وَسِرْ نَحْوَ الْحَبِيبِ وَلَسْتَ بِالْمُتَوَانِي
واسْمَعْ إِذَنْ أَوْصَافَهَا وَوِصَالَهَا وَاجْعَلْ حَدِيثَكَ رَبَّةَ الإِحْسَانِ
يَا مَنْ يَطُوفُ بِكَعْبَةِ الْحُسْنِ الَّتِي حُفَّتْ بِذَاكَ الْحِجْرِ وَالأَرْكَانِ
وَيَظَلُّ يَسْعَى دَائِمًا حَوْلَ الصَّفَا وَمُحَسِّرٌ مَسْعَاهُ كُلَّ أَوَانِ
وَيَرُومُ قُرْبَانَ الْوِصَالِ عَلَى مِنًى وَالْخَيْفُ يَحْجُبُهُ عَنِ الْقُرْبَانِ
فَلِذَا تَرَاهُ مُحْرِمًا أَبَدًا وَمَوْ ضِعُ حِلِّهِ مِنْهُ فَلَيْسَ بِدَانِي
يَبْغِي التَّمَتُّعَ مُفْرِدًا عَنْ حُبِّهِ مُتَجَرِّدًا يَبْغِي شَفِيعَ قِرَانِ
وَيَظَلُّ بِالْجَمَرَاتِ يَرْمِي قَلْبَهُ هَذِي مَنَاسِكُهُ بِكُلِّ زَمَانِ
والنَّاسُ قَدْ قَضَّوْا مَنَاسِكَهُمْ وَقَدْ حَثُّوا رَكَائِبَهُمْ إِلَى الأَوْطَانِ
وَحَدَتْ بِهِمْ هِمَمٌ لَهُمْ وَعَزَائِمٌ نَحْوَ الْمَنَازِلِ رَبَّةِ الإِحْسَانِ
رُفِعَتْ لَهُمْ فِي السَّيْرِ أَعْلامُ الْوِصَا لِ فَشَمَّرُوا يَا خَيْبَةَ الْكَسْلانِ
(/16)
وَرَأَوْا عَلَى بُعْدٍ خِيَامًا مُشْرِفَا تٍ مُشْرِقَاتِ النُّورِ والْبُرْهَانِ
فَتَيَمَّمُوا تِلْكَ الْخِيَامَ فَآنَسُوا فِيهِنَّ أَقْمَارًا بِلا نُقْصَانِ
مِنْ قَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لا تَبْغِي سِوَى مَحْبُوبِهَا مِنْ سَائِرِ الشُّبَّانِ
قَصَرَتْ عَلَيْهِ طَرْفَهَا مِنْ حُسْنِهِ وَالطَّرْفُ مِنْهُ مُطْلَقٌ بِأَمَانِ
وَيَحَارُ مِنْهُ الطَّرْفُ فِي الْحُسْنِ الَّذِي قَدْ أُعْطِيَتْ فَالطَّرْفُ كَالْحَيْرَانِ
وَيَقُولُ لَمَّا أَنْ يُشَاهِدَ حُسْنَهَا سُبْحَانَ مُعْطِي الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ
وَالطَّرْفُ يَشْرَبُ مِنْ كُؤُوسِ جَمَالِهَا فَتَرَاهُ مِثْلَ الشَّارِبِ النَّشْوَانِ
كَمُلَتْ خَلائِقُهَا وَأُكْمِلَ حُسْنُهَا كَالْبَدْرِ لَيْلَ السِّتِّ بَعْدَ ثَمَانِ
وَالشَّمْسُ تَجْرِي فِي مَحَاسِنِ وَجْهِهَا وَاللَّيْلُ تَحْتَ ذَوَائِبِ الأَغْصَانِ
فَيَظَلُّ يَعْجَبُ وَهْوَ مَوْضِعُ ذَاكَ مِنْ لَيْلٍ وَشَمْسٍ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ؟!
وَيَقُولُ سُبْحَانَ الَّذِي ذَا صُنْعُهُ سُبْحَانَ مُتْقِنِ صَنْعَةِ الإِنْسَانِ
لا اللَّيْلُ يُدْرِكُ شَمْسَهَا فَتَغِيبَ عِنْ دَ مَجِيئِهِ حَتَّى الصَّبَاحِ الثَّانِي
وَالشَّمْسُ لا تَأْتِي بِطَرْدِ اللَّيْلِ بَلْ يَتَصَاحَبَانِ كِلاهُمَا أَخَوَانِ
وَكِلاهُمَا مِرْآةُ صَاحِبِهِ إِذَا مَا شَاءَ يُبْصِرُ وَجْهَهُ يَرِيَانِ
فَيَرَى مَحَاسِنَ وَجْهِهِ فِي وَجْهِهَا وَتَرَى مَحَاسِنَهَا بِهِ بِعِيَانِ
حُمْرُ الْخُدُودِ ثُغُورُهُنَّ لآلِئٌ سُودُ الْعُيونِ فَوَاتِرُ الأَجْفَانِ
والْبَرْقُ يَبْدُو حِينَ يَبْسِمُ ثَغْرُهَا فَيُضِيءُ سَقْفُ الْقَصْرِ بِالْجُدْرَانِ
رَيَّانَةُ الأَعْطَافِ مِنْ مَاءِ الشَّبَا بِ فَغُصْنُهَا بِالْمَاءِ ذُو جَرَيَانِ
لَمَّا جَرَى مَاءُ النَّعِيمِ بِغُصْنِهَا حَمَلَ الثِّمَارَ كَثِيرَةَ الأَلَوَانِ
(/17)
فَالْوَرْدُ وَالتُّفَّاحُ وَالرُّمَّانُ فِي غُصْنٍ تَعَالَى غَارِسُ الْبُسْتَانِ
والْقَدُّ مِنْهَا كَالْقَضِيبِ اللَّدْنِ فِي حُسْنِ الْقَوَامِ كَأَوْسَطِ الْقُضْبَانِ
فِي مَغْرِسٍ كَالْعَاجِ تَحْسَبُ أَنَّهُ عَالِي النَّقَا أَوْ وَاحِدُ الْكُثْبَانِ
لَا الظَّهْرُ يَلْحَقُهُ وَلَيْسَ ثُدِيُّهَا بِلَوَاحِقٍ لِلْبَطْنِ أَوْ بِدَوَانِي
لَكِنَّهُنَّ كَوَاعِبٌ وَنَوَاهِدٌ فَثُدِيُّهُنَّ كَأَحْسَنِ الرُّمَّانِ
والْجِيدُ ذُو طُولٍ وَحُسْنٍ فِي بَيَا ضٍ وَاعْتِدَالٍ لَيْسَ ذَا نُكْرَانِ
يَشْكُو الْحُلِيُّ بِعَادَهُ فَلَهُ مَدَى الْ أَيَّامِ وَسْوَاسٌ مِنَ الْهِجْرَانِ
والْمِعْصَمَانِ فَإِنْ تَشَأْ شَبِّهْهُمَا بِسَبِيكَتَيْنِ عَلَيْهِمَا كَفَّانِ
كَالزُّبْدِ لِينًا فِي نُعُومَةِ مَلْمَسٍ أَصْدَافُ دُرٍّ دُوِّرَتْ بِوِزَانِ
وَالصَّدْرُ مُتَّسِعٌ عَلَى بَطْنٍ لَهَا وَالْخَصْرُ مِنْهَا مُغْرمٌ بِثَمَانِ
وَعَلَيْهِ أَحْسَنُ سُرَّةٍ هِيَ زِينَةٌ لِلْبَطْنِ قَدْ غَارَتْ مِنَ الأَعْكَانِ
حُقٌّ مِنَ الْعَاجِ اسْتَدَارَ وَحَشْوُهُ حَبَّاتُ مِسْكٍ جَلَّ ذُو الإِتْقَانِ
وَإِذَا نَزَلْتَ رَأَيْتَ أَمْرًا هَائِلاً مَا لِلصِّفَاتِ عَلَيْهِ مِنْ سُلْطَانِ
لا الْحَيْضُ يَغْشَاهُ وَلا بَوْلٌ وَلا شَيءٌ مِنَ الآفَاتِ فِي النِّسْوَانِ
فَخِذَانِ قَدْ حَفَّا بِهِ حَرَسًا لَهُ فَجَنَابُهُ فِي عِزَّةٍ وَصِيَانِ
قَامَا بِخِدْمَتِهِ هُوَ السُّلْطَانُ بَيْ نَهُمَا وحَقٌّ طَاعَةُ السُّلْطَانِ
وَهُوَ الْمُطَاعُ إِذَا هُوَ اسْتَدْعَى الْحَبِي بَ أَتَاهُ طَوْعًا وَهْوَ غَيْرُ جَبَانِ
وَجِمَاعُهَا فَهُوَ الشِّفَاءُ لِصَبِّهَا فَالصَّبُّ مِنْهُ لَيْسَ بِالضَّجْرَانِ
وَإِذَا أَتَاهَا عَادَتِ الْحَسْنَاءُ بِكْ رًا مِثْلَ مَا كَانَتْ مَدَى الأَزْمَانِ
(/18)
وَهُوَ الشَّهِيُّ أَلَذُّ شَيْءٍ هَكَذَا قَالَ الرَّسُولُ لِمَنْ لَهُ أُذُنَانِ
يَا رَبِّ غَفْرًا قَدْ طَغَتْ أَقْلامُنَا يَا رَبِّ مَعْذِرَةً مِنَ الطُّغْيَانِ
أَقْدَامُهَا مِنْ فِضَّةٍ قَدْ رُكِّبَتْ مِنْ فَوْقِهَا سَاقَانُ مُلْتَفَّانِ
وَالسَّاقُ مِثْلُ العَاجِ مَلْمُومٌ بِهِ مُخُّ الْعِظَامِ تَنَالُهُ الْعَيْنَانِ
والرِّيحُ مِسْكٌ والْجُسُومُ نَوَاعِمٌ والْلَّوْنُ كَالْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ
وَكَلامُهَا يَسْبِي الْعُقُولَ بِنَغْمَةٍ زَادَتْ عَلَى الأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ
وَهِيَ الْعَرُوبُ بِشَكْلِهَا وَبِدَلِّهَا وَتَحَبَُبٍ لِلزَّوْجِ كُلَّ أَوَانِ
فَاجْمَعْ قُوَاكَ لِمَا هُنَاكَ وَغُضَّ مِنْ كَ الطَّرْفَ وَاصْبِرْ سَاعَةً لِزَمَانِ
مَا هَاهُنَا وَاللهِ مَا يَسْوَى قُلا مَةَ ظُفْرِ وَاحِدَةٍ مِنَ النِّسْوَانِ
وَنَصِيفُهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِذَا كَانَتْ مِنَ الأَثْمَانِ
لَا تُؤْثِرِ الأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَإِنْ تَفْعَلْ رَجَعْتَ بِذِلَّةٍ وَهَوَانِ
وَإِذَا بَدَتْ فِي حُلَّةٍ مِنْ لُبْسِهَا وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ
تَهْتَزُّ كَالْغُصْنِ الرَّطِيبِ وَحَمْلُهُ وَرْدٌ وَتُفَّاحٌ عَلَى رُمَّانِ
وَتَبَخْتَرَتْ فِي مَشْيِهَا وَيَحِقُّ ذَا كَ لِمِثْلِهَا فِي جَنَّةِ الرِّضْوَانِ
وَوَصَائِفٌ مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا وَعَلَى شَمَائِلِهَا وَعَنْ أَيْمَانِ
كَالْبَدْرِ لَيْلَةَ تَمِّهِ قَدْ حُفَّ فِي غَسَقِ الدُّجَى بِكَوَاكِبِ الْمِيزَانِ
فَلِسَانُهُ وَفُؤَادُهُ وَالطَّرْفُ فِي دَهَشٍ وَإِعْجَابٍ وَفِي سَبَحَانِ
تَسْتَنْطِقُ الأَفْوَاهَ بِالتَّسْبِيحِ إِذْ تَبْدُو فَسُبْحَانَ الْعَظِيمِ الشَّانِ
وَالْقَلْبُ قَبْلَ زِفَافِهَا فِي عُرْسِهِ وَالْعُرْسُ إِثْرَ الْعُرْسِ مُتَّصِلانِ
(/19)
حَتَّى إِذَا مَا وَاجَهَتْهُ تَقَابَلا أَرَأَيْتَ إِذْ يَتَقَابَلُ الْقَمَرَانِ
فَسَلِ الْمُتَيَّمَ هَلْ يَحِلُّ الصَّبْرُ عَنْ ضَمٍّ وَتَقْبِيلٍ وَعَنْ فَلَتَانِ
وَسَلِ الْمُتَيَّمَ أَيْنَ خَلَّفَ صَبْرَهُ فِي أَيِّ وَادٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ؟
وَسَلِ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ حَالَتُهُ وَقَدْ مُلِئَتْ لَهُ الأُذُنَانِ وَالْعَيْنَانِ؟
مِنْ مَنْطِقٍ رَقَّتْ حَوَاشِيهِ وَوَجْ هٍ كَمْ بِهِ لِلشَّمْسِ مِنْ جَرَيَانِ
وَسَلِ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ عِيشَتُهُ إِذًا وَهُمَا عَلَى فَرْشَيْهِمَا خِلْوَانِ؟
يَتَسَاقَطَانِ لآلِئًا مَنْثُورَةً مِنْ بَيْنِ مَنْظُومٍ كَنَظْمِ جُمَانِ
وَسَلِ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ مَجْلِسُهُ مَعَ الْ مَحْبُوبِ فِي رَوْحٍ وَفِي رَيْحَانِ
وَتَدُورُ كَاسَاتُ الرَّحِيقِ عَلَيْهِمَا بِأَكُفِّ أَقْمَارٍ مِنَ الْوِلْدَانِ
يَتَنَازَعَانِ الْكَأْسَ هَذَا مَرَّةً والْخَوْدُ أُخْرَى ثُمَّ يَتَّكِئَانِ
فَيَضُمُّهَا وَتَضُمُّهُ أَرَأَيْتَ مَعْ شَوْقَيْنِ بَعْدَ الْبُعْدِ يَلْتَقِيَانِ
غَابَ الرَّقِيبُ وَغَابَ كُلُّ مُنَكِّدٍ وَهُمَا بِثَوْبِ الْوَصْلِ مُشْتَمِلانِ
أَتُرَاهُمَا ضَجِرَيْنِ مِنْ ذَا الْعَيْشِ؟ لا وَحَيَاةِ رَبِّكَ مَا هُمَا ضَجِرَانِ
يَا عَاشِقًا هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ إِذْ بَاعَهَا غَبْنًا بِكُلِّ هَوَانِ
أَتُرَى يَلِيقُ بِعَاقِلٍ بَيْعُ الَّذِي يَبْقَى وَهَذَا وَصْفُهُ بِالْفَانِي؟
وقال آخر:
لا تَأْسَفَنَّ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَالْمَوْتُ لا شَكَّ يُفْنِينَا وَيُفْنِيهَا
وَاعْمَلْ لِدَارِ الْبَقَا رِضْوَانُ خَازِنُهَا وَالْجَارُ أَحْمَدُ وَالْجَبَّارُ بَانِيهَا
قُصُورُهَا ذَهَبٌ وَالْمِسْكُ طِينَتُهَا وَالزَّعْفَرَانُ حَشِيشٌ نَابِتٌ فِيهَا
مَنْ يَشْتَرِي الدَّارَ فِي الْفِرْدَوْسِ يَعْمُرُهَا بِرَكْعَةٍ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ يُحْيِيهَا
(/20)
العنوان: الجهاد في الإسلام
رقم المقالة: 874
صاحب المقالة: محمد عيد العباسي
-----------------------------------------
ورد ذكر الجهاد كثيراً في الكتاب والسنة، فمن ذلك قول الله - تعالى - في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[1] وقوله - سبحانه -: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[2].
ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) [3]، وقوله: ((تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة)) [4].
فما هو الجهاد وما حقيقته وما أهدافه وما أحكامه وما دورنا في واقعنا المعاصر؟
لبيان ذلك أقول:
معنى الجهاد لغة واصطلاحاً:
قال العلامة ابن حجر العسقلاني: "الجهاد أصله لغةً: المشقة، وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق" [5]. ثم أخذ يذكر أنواعه ومراتبه.
أنواع الجهاد ومراتبه:
وقد سبق الإمام ابن القيم إلى بيان هذه الأنواع والمراتب، فجعلها أربعة أنواع، أولها: جهاد النفس، وثانيها: جهاد الشيطان، وثالثها: جهاد الكفار ورابعها: جهاد المنافقين.
وقد قسم جهاد النفس إلى أربع مراتب أولاها: تعلم الدين الحق، وثانيتها: العمل به، وثالثتها: الدعوة إليه، ورابعتها: الصبر على كل ذلك.
وقسم جهاد الشيطان إلى مرتبتين، أولاهما: دفع الشبهات، ويكون بالعلم واليقين. وثانيتها: دفع الشهوات، ويكون بالصبر والاحتمال.
(/1)
ثم قسم جهاد الكفار والمنافقين إلى أربع مراتب، أولاها: بالقلب، وثانيتها: باللسان، وثالثتها: بالمال، ورابعتها: بالنفس.
وأضاف إلى أنواع الجهاد جهاد أصحاب الظلم والبدع والمعاصي والمنكرات، وجعل مراتبه ثلاثاً، باليد إذا قدر. فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب[6].
فأما قتال الدفع فالهدف منه واضح جلي، وليس بحاجة إلى تبرير، فكل الشرائع تقره، وجميع العقول تسيغه، ذلك "أن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال، والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان. والشر جامح والباطل مسلح، وهو يبطش غير متحرج، ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه، فلابد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش، وتقيها الفتنة، وتحرسها من الأشواك والسموم.
(/2)
ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عُزَّلاً، تكافح قوى الطغيان والشر والباطل، اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس، فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر، وللعبد حد وللاحتمال أمد وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه، ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة، إلا ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيؤون للدفاع، ويتمكنون من وسائل الجهاد، وعندئذ أذن لهم في القتال"[7]. وفي هذا يقول الله - تبارك وتعالى -: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[8]، ويقول: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[9].
إذن فالغرض من جهاد الدفاع ضمان حرية العقيدة والعبادة، وحماية الشعائر وأماكن العبادة بما فيها معابد اليهود والنصارى والرهبان، ليس لتحقيق مطامع دنيوية وأغراض زائلة وغايات شخصية، وإنما هو لإصلاح الحياة ومنع الإفساد، وإيقاف الظلم والطغيان وقد سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))[10].
(/3)
وأما جهاد الفتح والطلب فهدفه إزالة العقبات التي تحول بين الناس وبين دعوة الإسلام، وتقف مانعا لهم من الاهتداء بهدي الله، وتصدهم عن سبيله، وتفتنهم عنه، وتحرمهم من أعظم نعمة وأكبر خير أنعم الله - تعالى - بهما بواسطة أنبيائه ورسله على عباده.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الصف: الآيتان 10، 11.
[2] الفرقان: 52.
[3] رواه أحمد (5/231، 246) والترمذي رقم 2616 وابن ماجه 3973 عن معاذ بن جبل وسنده جيد.
[4] رواه البخاري (8/188) ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة.
[5] فتح الباري (6/3)
[6] من زاد المعاد (3/9-11).
[7] عن كتاب "في ظلال القرآن - 4/2424 للكاتب الإسلامي الكبير سيد قطب - رحمه الله تعالى
[8] سورة الحج: 39-41
[9] البقرة: 251
[10] رواه أحمد (4/303و 397) والبخاري (3/206) ومسلم (1513) وابن ماجه (2783).
(/4)
العنوان: الجوانب الشرعية والخلقية
في علاقة الولد بوالديه
رقم المقالة: 571
صاحب المقالة: د. عبدالرحمن بن حسن النفيسه
-----------------------------------------
لقد ظل نظام الأسرة القاعدة الأساسية للتشكيل الاجتماعي في أي موقع من مواقع الإنسان، وما زال هذا النظام هو المصدر الأساسي لهذا التشكيل برغم ما طرأ على المجتمعات الإنسانية من عقائد ونظريات حاولت التدخل فيه.
ولم يكن هذا النظام مجرد تشكيل من ذكر وأنثى أملته نزعة فطرية مشتركة، بل ظل ولا يزال مبنياً على عدد من القواعد، وأهمها قوامة الرجل على زوجه، وسلطته على أولاده، وتسييره لشؤون أسرته. ولم يشذ عن مفهوم هذه السلطة إلا قلة قليلة من المجتمعات.
وفي كل الأحوال التي يتعرض فيها هذا النظام لأي خلل أو يطرأ عليه طارئ تتدخل القواعد الاجتماعية لإصلاحه، أو على الأقل التعبير عن موقفها منه، فلقد فزع الإنكليز عندما أصدرت إحدى محاكمهم حكماً يقضي بالسجن على أحد الآباء عقاباً له على ضربه ابنه البالغ من العمر عشر سنين، ومنهم من رأى في ذلك الحكم بداية لخطر تجب مواجهته برغم ما للقضاء عندهم من حرمة وحصانة.
وفي العالم الغربي عموماً رؤية واضحة تعكس تبرم البقية الباقية من جيل الحرب العالمية بما آل إليه حال الأسرة هناك، وانعكاس آثاره على النظام الاجتماعي. ومع ما يبدو من عدم السيطرة عليه فإن الجمعيات الدينية والإنسانية هناك ما تزال تعالج الخلل بطرق عدة للعودة بنظام الأسرة إلى وضع يعيد للأسرة معناها وانضباطها.
العلاقة بين الوالدين وأولادهم:
وإذا كان الجانب المهم في تشكيل الأسرة ينصب على الإنجاب فإن ما يهمنا هنا هو التعرض للعلاقة بين أطراف هذه الأسرة، وعلى الأخص الوالدين وأولادهم[1]، ومعرفة الحاكم لهذه العلاقة.
(/1)
وفي مبتدأ القول ينبغي البيان بأن هذه العلاقة واقع فطري لا يمكن تبديله، أو تعديله بأي نظام بشري مهما كانت دوافعه، فالوالدان يحبان أولادهم محبة فطرية غرسها الله في الإنسان في أي زمان ومكان.
وقد بين الله ذلك في قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة}[2]. كما بين أن محبة الوالد للبنين وضع متأصل في رغباته ومطالبه كما في قوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين}[3] وفي قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}[4].
وليست هذه المحبة الفطرية أثراً مجرداً لواقعة الإنجاب بعد حدوثها بل هي واقع ملازم للإنسان في شبابه وشيخوخته. وقد بين الله مدى ما تركه الإنجاب من أثر على نبيه إبراهيم بعد أن ظن صعوبته في حال الكبر كما في قوله تعالى: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء}[5]. وقوله تعالى: {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين}[6].
وإذا كانت محبة الوالدين لأولادهم واقعة فطرية فهل يمكن أن تتأثر هذه الفطرة بما قد يطرأ على التعامل بينهم؟ والجواب على هذا من وجهين:
أولهما: أن علاقة الوالد بولده قد تتأثر بما يمكن وصفه بأدنى درجات المحبة أو الكره، ويدرك هذا من خلال العلاقة القائمة بينهما، فمن كانت علاقته بوالديه علاقة بر وإحسان سيكونان معه في علاقة تختلف في طبيعتها عن علاقة من سواه وهكذا.
(/2)
وثاني الوجهين: أن هذه العلاقة قد تتأثر بأعلى درجات الكره ولهذا أسباب مختلفة تنتج عن خلل اجتماعي أو اقتصادي. وقد أدركنا هذا في قضيتي الوأد، والقتل في العصر الجاهلي؛ فالذين وأدوا بناتهم خوفاً من عارهن، أو قتلوا أولادهم خشية فقرهم، كانوا يعيشون في واقع فرض عليهم ما فعلوا وكانوا من الضعف والعجز بحيث لم يستطيعوا مقاومته. وقد بين الله ما سيكون عليه حالهم جزاء فعلهم في قوله تعالى: {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت}[7] وفي قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم إن قتلهم كان خطئاً كبيرا}[8].
وإذا كانت قضايا قتل الأولاد خشية الفقر قد زالت مع زوال العصر الجاهلي فإن قضايا الخوف من مسئولية الإنفاق ما زالت تحدث في العصر الحاضر ولكن على نحو محدود كما هو حال بيع الأطفال للخلاص من نفقتهم، وعلى الأخص في عدد قليل من البلدان التي تواجه أوضاعاً إقتصادية قاسية.
وعلى أي حال فإن ما حدث في الماضي أو يحدث في الحاضر أو المستقبل من خلل في علاقة الوالد بولده لا يعني انتفاء الغريزة الفطرية التي أودعها الله في الوالد نحو ولده؛ لأنه جزء مادي منه يرتبط به ارتباط الفرع بأصله والجزء بكله.
وسيظل الخلل في هذه العلاقة وضعاً استثنائياً لا يعدل ولا يبدل في سنة الله في خلقه {سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً}[9].
الظواهر المادية في علاقة الولد بوالديه:
(/3)
هناك قصص ووقائع كثيرة تتسرب من وسائل النشر في عدد من بلدان الشرق والغرب، أو تتسرب من الطرح المتداول في بلد وآخر عما تطفح به دور الرعاية الإنسانية للمسنين، وتحكي هذه القصص ما يمكن وصفه بـ((الصدمات)) في علاقة الولد بوالديه، وتخليه عنهما في حال كبرهما أو مرضهما. ومع ما في هذه الصدمات من معاناة إلا أن الإفصاح عنها يظل محصوراً في نطاق محدود، فقد يصعب على الوالدين أو أحدهما سوق ولده إلى القضاء لمطالبته بنفقته، أو قد يريا أن مدتهما في الحياة الدنيا محدودة لا تستحق الاهتمام بقضية نفقتهما، أو حتى معاناتهما. ولهذا يلملمان وضعهما بطريقة مّا حتى يأتيهما اليقين.
ومع إخفاء وقائع هذه العلاقة من جانب الوالدين إلا أن طبيعة بعض هذه الوقائع تجعل من الصعب إخفاءها أو التستر عليها. ومن هذه الوقائع قضية أم مسنة وجدها المارة فيما يشبه الغيبوبة في أحد المنعطفات بعد أن ضربها ابنها وزوجته وألقيا بها خارج المنزل. وقضية أم مبصرة صحبها ابنها للصلاة في أحد أماكن العبادة ثم تركها للمحسنين، ومع ذلك أصرت على عدم ذكر اسمه مخافة التشهير به أو عقابه.
وقضية أم مسنة تسكن وحدها في كوخ برغم كثرة أولادها، وغناهم ولم يعرفوا عن وفاتها إلا من جيرانها. وقضية أب تقاسم أولاده ثروته ف أثناء مرضه العضال ثم تخلوا عنه، وتنكروا له بعد أن شفي من مرضه. وقضية أب آخر اضطره تخلي أولاده عنه إلى كسب قوته بنفسه برغم شيخوخته وآلامه.
(/4)
وإذا كانت هذه القضايا غير محصورة في مكان أو زمان مّا – كما ذكرنا – فإن أمر قبولها من عدمه يختلف من مكان لآخر، فعندما وجد مواطنو إحدى البلدان الصناعية مواطناً منهم قد توفي في إحدى الحدائق العامة بسبب البرد والجوع صاحوا ضد جمعيات الرعاية، واتهموها بالتقصير مع علمهم بوجود أولاد له. وذلك لمعرفتهم بما يجري في مجتمعهم من ضعف العلاقة بين الوالد وولده بعد بلوغ الأخير سن الرشد، واستقلاله عنه، وافتراضهم كذلك بأنه كان على الأب ((حساب)) وضعه في كبره وعدم الاعتماد على ولده أو تكفل دور الرعاية بهذا الوضع في حال عجزه.
ولكن الأمر يختلف في بلاد أخرى ففي البلاد الإسلامية أو الغالب منها – مثلاً – لا تتوقف العلاقة بين الوالد وولده عند زمن معين بل ربما يُذهب الأب عمره في الكسب على أولاده مع قدرتهم وكسبهم لعيشهم، بل إن قصده وهمه من جمع المال ينصب دائماً على محاولة إسعادهم في حياته وبعد مماته، فلهذا لا يفرق بين ما يختص به وما يختصون به من مال وهنا تكون صدمته أقسى وأشد عندما يتخلون عنه وهو في حال من الحاجة ليس لأنهم أخلوا بواجبهم الشرعي في بره والإحسان إليه فحسب، بل لأنهم أخلوا كذلك بواجبهم الخلقي فنسوا ما فعله، وجحدوا ما صنعه.
ولقد نقل أبو عبدالله القرطبي صورة لصدمة الأب الذي شكاه ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومفاد هذه القصة ما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي. فقال له عليه الصلاة والسلام: ((فأتني بأبيك))، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه)).
(/5)
فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بال ابنك يشكوك، أتريد أن تأخذ ماله؟)) فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إيه دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك؟)) فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي. قال: ((قل وأنا أسمع)) قال: قلت:
غَذَوتُكَ مَولوداً ومُنْتُكَ يافِعاً تُعَلُّ بما أَجني عليكَ وتَنهَلُ
إذا ليلةٌ ضافَتكَ بالسُّقم لم أَبِتْ لسُقمِكَ إلَّا ساهِراً أَتمَلمَلُ
كأنِّي أنا المطروقُ دونَكَ بالَّذي طُرِقتَ بهِ دُوني فعَيني تَهمِلُ
تَخافُ الرَّدى نفسي عليكَ وإنَّها لتعلَمُ أن الموتَ وَقتٌ مُؤَجَّلُ
فلمَّا بَلَغتَ السنَّ والغايةَ الَّتي إليها مَدى ما كُنتُ فيكَ أُؤَمِّلُ
جَعلتَ جَزائي غِلظَةً وفَظاظَةً كأنَّكَ أنتَ المنعِمُ المتَفَضِّلُ
فليتَكَ إذْ لم تَرعَ حَقَّ أُبُوَّتي فعَلتَ كما الجارُ المصاقِبُ يَفعَلُ
فأولَيتَني حَقَّ الجِوارِ ولم تكُن عليَّ بمالٍ دونَ مالكَ تَبخَلُ
قال: فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: ((أنت ومالك لأبيك))[10].
موقف الإسلام من علاقة الولد بوالديه:
وإذا كان الوالد يحب ولده بحكم فطرته، فهل الولد يحب والديه بدرجة محبتهما له؟ والجواب عن هذا يُدرك من توجيه الله وأمره للولد ببر والديه والإحسان إليهما، وعدم توجيهه للوالد بالحرص على ولده إلا في مواضع قليلة، وذلك لعلمه وحكمته أن الوالد محكوم بفطرته في حبه لولده وحرصه عليه، ومع حكمة الله وعلمه أن الولد قد يبر بوالديه ويحسن إليهما كما أثنى على نبيه يحيى في قوله تعالى: {وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصيا}[11] إلا أن حكمته اقتضت أن يكون أمره للولد بالبر بوالديه أكثر من أمره للوالد بالبر بولده.
(/6)
ولعظم الحق المترتب على الولد نحو والديه قرن الله الإحسان إليهما بما ورد من تحريم الشرك به كما في قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً}[12]، وقوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً[13] واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً}[14]، وفي قوله تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك إلىّ المصير}[15].
ففي هذه الآيات الكريمة دلالتان متلازمتان؛
الأولى: دلالة الأمر بالبر والإحسان إلى الوالدين وهذا أمر جامع يشمل كل ما يقتضيه البر من واجبات مادية كالنفقة، والسكن، ونحوهما. وما يقتضيه كذلك من واجبات أدبية كالتواضع لهما، واحترامهما.
والدلالة الثانية: النهي عن كل فعل أو قول يتعارض مع مفهوم البر والإحسان، وقد مثل الله لذلك بالتأفف منهما أو معاملتهما بالخشن من القول. ومع أن النهي في دلالته ومقتضاه شامل حكماً لما هو أكبر من هذه الأفعال إلا أن في التمثيل بالأدنى تعظيم لحرمة الفعل الأشد بدلالة النهي عن الأخف منه.
وكما ورد تأكيد حق الوالدين في القرآن الكريم، ورد كذلك في السنة بأحاديث عدة منها ما يتعلق بتحذير الولد من ضياع فرصته في بر والديه أو أحدهما في حياته. من ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: آمين آمين آمين، فقيل له يا رسول الله، علام أمَّنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد، رَغِمَ أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليك، قل آمين فقلت آمين. ثم قال: رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يُغفر له، قل آمين فقلت آمين. ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل آمين فقلت آمين[16].
(/7)
ومنها ما يبين أن الولد لا يجزي والده بعمل يتساوى مع ما فعله إلا في حالة تخليصه من العبودية، كما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجزئ ولد عن والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه))[17].
ومنها ما يبين أن بر الولد مهما بلغ في مقداره لا يتساوى مع جهد بذله الوالد في مسار علاقته مع ولده. ومن ذلك ما روي أن رجلاً كان يطوف بأمه وهو يحملها فسأل النبي عليه الصلاة والسلام عما إذا كان قد أدى حقها فقال له عليه الصلاة والسلام: ((لا، ولا بزفرة واحدة))[18].
ومنها ما يؤكد فضل بر الوالدين على غيره من فعل مأمور به ولو كان هذا الفعل في العلو من درجات الفضل، وفي ذلك ما روي أن جاهمة السلمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئتك أستشيرك، فقال: ((هل لك من أم؟))، قال: نعم. قال: ((فالزمها؛ فإن الجنة عند رجليها))[19]. وفي وجه آخر قال عبدالله بن مسعود: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال الصلاة لميقاتها، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله. ثم سكت عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني[20].
ومنها ما يقرر أن البر والإحسان إلى الوالدين حكم دائم الوجوب في حياتهما وموتهما، وفي ذلك ما روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما))[21].
الحقوق المترتبة بمقتضى الأمر بالبر والإحسان:
(/8)
وإلى جانب الحكم المقتضي للتلطف بالوالدين والتأدب معهما أوجب الله لهما النفقة بما قضى به من الإحسان إليهما في قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً}[22]. وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولدَه من كسبه))[23].
وللفقهاء أقوال، وخلاف في مسألة النفقة على الوالدين، ومتى تجب على الولد. فمنهم من يرتبها في حال الفقر، وعدم الكسب، وعدم وجود المال[24]، ومنهم من يرتبها بما يفضل عن نفقته ونفقة زوجته[25].
وقد أفاضوا كثيراً في مسألة الوالد الكسوب، وهل تجب له النفقة على ابنه؟ وفي ذلك يرى السرخسي أن الأب إذا كان كسوباً والابن أيضاً كسوباً يجبر الابن على الكسب والنفقة على الأب، وفرق بين نفقة الولد والوالد، فإن الولد البالغ إذا كان قادراً على الكسب لا تجب على الأب نفقته، والفرق بينهما فضيلة الوالد على الولد[26].
وإذا كان المقام لا يتسع لذكر أقوالهم – رحمهم الله – باعتبار أن هذه المسألة ((قضية للبحث وتستدعي الاختصار)) فإن من المهم القول بأن الله – جل وعلا – قد قرَّر قاعدة واضحة في مسألة العلاقة بين الوالدين، وأولادهم هي أمر الولد وإلزامه بالبر، والإحسان إليهما، والنهي عن إيذائهما بأي صورة من صور الإيذاء مهما صغرت، مع مصاحبتهما بالمعروف إن كانا غير مسلمين.
والحق أن يُقال: إنه ليس من البر والإحسان في شيء أن يترك الولد والديه – خاصة في كبرهما – يتعبون؛ وينصبون لكسب قوتهم، وهو يتلذَّذ الحياة مع زوجته وأولاده.
وليس من البر والإحسان في شيء أن يلقي عبء رعايتهم على جمعيات البر والصدقات بعد أن رعوه وحفظوه وحافظوا عليه في صغره.
(/9)
وما دام حكم البر، وتحريم الإيذاء واضحاً في كتاب الله وفي سنة رسوله بما لا مجال فيه للتأويل أو التفسير، فهل من البرِّ أن يلجئ الولد القادر والديه للعمل في وهج الشمس، وقسوة البرد، أو يلجئهما للإقامة في دور الرعاية أو يضطرهما إلى السؤال؟
والجواب واضح: إن هذا ليس من البر ولا من الإحسان في شيء، بل هو من العقوق والجحود.
وفي هذا قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله: وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((عقوق الوالدين من الكبائر))، وليس من العقوق أكثر من أن يكون الابن غنياً ذا مال ويترك أباه أو جده يسوس الدواب، ويكنس الزبل، أو يحجم أو يغسل الثياب للناس، أو يوقد في الحمَّام، ويدع أمه أو جدته تخدم الناس، وتسقي الماء في الطرق. فما خفضَ لهما جناح الذل من الرحمة من فعل ذلك بلا شك[27].
قلت: إن علاقة الوالد مع والديه قضية مهمة في هذا الزمان وما يسيطر عليه من تفاعلات وضغوط نفسية ومادية. وإن ما يحدث من مشكلات، ومعاناة وقسوة في هذه العلاقة يوجب البحث فيها على نحو أكثر تفصيلاً.
ولعل أحد الإخوة الباحثين يولي هذا الموضوع ما يستحقه من تفصيل.
والله المستعان...
ـــــــــــــــــــــ
[1] المقصود بالولد هنا الذكر على وجه الخصوص.
[2] سورة النحل من الآية 72.
[3] سورة آل عمران من الآية 14.
[4] سورة الكهف من الآية 46.
[5] سورة إبراهيم الآية 39.
[6] سورة الأنبياء الآية 89.
[7] سورة التكوير الآية 8.
[8] سورة الإسراء الآية 31.
[9] سورة الأحزاب آية 62.
[10] الجامع لأحكام القرآن لأبي عبدالله القرطبي جـ10 ص245 – 246.
[11] سورة مريم – آية 19.
[12] سورة النساء من الآية 36.
[13] سورة الاسراء الآية 23.
[14] سورة الاسراء الآية 24.
[15] سورة لقمان من الآية 14.
[16] تفسير ابن كثير جـ3 ص37.
[17] سنن الترمذي جـ4 ص278.
[18] تفسير ابن كثير جـ3 ص38.
[19] سنن النسائي جـ6 ص11.
[20] سنن الترمذي جـ4 ص274.
(/10)
[21] رواه أبو داود جـ4 ص336.
[22] سورة الاسراء من الآية 24.
[23] سنن ابن ماجة جـ2 ص723.
[24] المغني والشرح الكبير جـ9 ص256.
[25] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج جـ7 ص218.
[26] شرح فتح القدير جـ3 ص347.
[27] المحلى جـ10 ص108.
(/11)
العنوان: الحبّ بين الالْتِزام الديني ومحدثات العصر
رقم المقالة: 1838
صاحب المقالة: د. محمد داود
-----------------------------------------
المجتمع الجديد وأصداؤه:
اختفاء حدود الخصوصية:
لا نغالي إذا قلنا إن المجتمع بصورته المعاصرة التي نحياها – مجتمع جديد سريع التغير، تتلاحق فيه الأحداث وتتنوَّع بسرعة رهيبةٍ.. مُجْتَمَع ضاقَتْ فيه مِساحة الخصوصية حتى كادت تختفي فيه الحدود؛ فتداخلت الأمور واهتزت كثير من القيم.
إن المجتمع العالمي يعيش اليوم حالة إعصار مادي جارف يجتاح كل شيء، فعلى الرغم من تحقّق الإشباع المادي، إلا أن جوعة القلب والروح زادت واشتدت وطأتها، واهتزت القيم النَّبيلة، فتباعدت المسافات بين القلوب، وأصبح لكل قيمة خلقية ثمن. وكل هذا ترك أصداءه على إنسان العصر.
وعلى الرغم من أن الملتزمين يحاولون الثبات والصمود والتمسك بالقيم الأصيلة، والمحافظة على الثوابت الدينية، إلا أنهم لم يسلموا من جائحة الإعصار المادّيّ الذي يعولم كل شيء ويكتسح في طريقه كل شيء، فأصابهم منه شظايا.
أَثَرُ التقنيات الحديثة في تغير المجتمع:
أقوى أسباب التغير والتحول الذي أصاب المجتمع الإنساني في عصرنا هذا – مستحدثات التكنولوجيا، وبخاصة وسائل الاتصالات المختلفة من المحمول والكمبيوتر والفضائيات وشبكات المعلومات... إلخ، ذلك النسيج العنكبوتي الذي أحال العالم إلى قرية صغيرة، واختزل المسافات، وأوجد بعدًا جديدًا لتلاقي المشاعر والأفكار.. وما أدراك ما رسائل المحمول والحوارات المفتوحة في "غرف الدردشة" !
صور من العلاقات المستحدثة:
في الماضي كانت وسائل الغواية والانحراف بسيطةً ومُباشرة وبطيئة، وكانت خطوات إبليس في إغواء بني آدم بطيئة تَأْتِي على مراحل وتأخذ في اسْتِدْراجِ الإنسان إلى شَرَكِ الغواية خطوةً خطوةً، كما تروي لنا كتب التفسير والحديث في سبب نزول قوله تعالى:
(/1)
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
تقول الروايات: إن رجلين خرجا للجهاد، وكانت لهما أخت ليس لها من يرعاها سواهما، فلم يجدا من يُؤمَن على أُخْتِهما سوى راهبٍ يَتَعَبَّدُ في صومعته، فتركا أُخْتَهُمَا عِنْدَهُ.. وكان الرَّاهِبُ يضع لها الطعام بجوار الباب ثم يعود إلى صومعته، فأتاه الشيطان ووسوس له أن صنيعه هذا من فعل المتكبرين، فلماذا لا يقدم إليها الطعام بنفسه؟!
وفعل الراهب، ثم أتاه إبليس فوسوس إليه أن يعلِّم هذه المرأة قواعد الدين، وهذا أمر لا غُبار عليه.. واستطاع إبليسُ بِهَذِه الحيلة أن يستدرجه إلى طول المجالسة والخلوة، وما يتبع ذلك من نظرات وهمسات، تطوَّرت بعد ذلك إلى الوقوع في الفاحشة، وحَمَلَتِ المرأة منه، فلمَّا جاءها المخاض أمر إبليس الراهب أن يَقْتُلَ الطِّفْلَ كَيْ يَسْتُرَ فضيحته عن الناس، ففعل!
ولما عاد الأخوان ذَهَب الشيطان إلى أحدهما في المنام وأخبره بشأن أخته مع الراهب، ودلَّه على مكان دفن الطفل.. ثم ذهب الرجلان إلى القاضي ليحكم في قضية أختهما مع ذلك الراهب الفاسق.. ولم يترك إبليس الفرصة تَفِرّ من يده، فها هِيَ الضَّحيَّة بين أصابعه يعبث بها كيف يشاء، ذَهَبَ إِبْلِيسُ إِلى الرَّاهِبِ وَأَوْهَمَهُ أَنَّ بِإِمكانِهِ أَنْ يُخَلّصه من مِحْنَتِه في مُقابل أن يسجد له سجدةً واحدةً.. ومرَّة أخرى قَبِلَ الراهب إغواء إبليس ودعوته للكفر، فسجد للشيطان، وعندها قال له الشيطان: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}!
هكذا كانتْ طُرُق الغَواية بسيطةً لا تعقيد فيها، ومرحلية تتدرج خطوة فخطوة حتى يتحقَّق لإبليس غرضُه الأكبر، وهو دعوة الإنسان إلى الكفر والعياذ بالله.
(/2)
لكنَّ التقنيَّات الحديثة اخْتَصَرَتِ المَسافاتِ أمام إِبْلِيسَ ومهَّدَتْ له سُبُلَ الغواية، ويسَّرت له مُهِمَّتَهُ كي يؤدّيِهَا في أسرع وقت وعلى أكفأ درجة في الأداء!
يستطيع إبليس – في إطار تقنيات العصر – أن يستدْرِجَ ضَحَايَاهُ إلى السقوط في حبائله بطرقٍ مُتَعَدِّدَة ومعقدة وغير مباشرة وبسرعة خاطفة.
فهذا شاب ملتزم بدينه مطيع لربه، توقظه صديقته لصلاة الفجر، برسالة أو رنة من المحمول، ويتعاهدان على ذكر الله وإقام الصلاة! وتبدو هذه خطوةً نحو تعميق الإيمان بالله والإخلاص في عبادته.. وشيئًا فشيئًا تضيق مساحة الذكر والطاعة، وتنمو مساحة الخصوصيَّة في العلاقة، وتزداد خطوات إبليس في غَوايتهما، وتنتهي المسألة بقصة غرام وعلاقة غير شرعية، ولا يبقى أمام الشابين سوى أحد طريقين: إما السقوط في فاحشة الزنا، أويلبِّس الشيطان عليهما الأمر وتنتهي المسألة بزواج عرفي، وثيقة سرية ليس فيها رُكْنٌ من أركان عقد النكاح الشرعي.
إنَّهُما بِذَلِكَ يَصنعان ما يشبه عملية غسيل الأموال، فهما يحاولان تبرير علاقتهما غير الشرعية بغطاء وهميّ، مع أن الأصل باطل، وما بُنِي على باطل فهو باطل.
وقد تصحو الضمائر وتفيق من الغواية، فيشعر كلٌُّ منهما بالندم والرغبة في الرجوع إلى الله، ولكن بعد فوات الأوان، لقد أدْمَنَ هذا المخدر فلا يستطيع الإقلاع عنه، وَكُلَّما حاول أن ينهض من كبوته، راح إبليس يستدرجه لإسقاطه في شركه.
أيضًا مع كساد سوق الزَّواج رأينا سعيًا من حواء وراء آدم تلاحقه باقتحام خصوصِيَّاته وتقديم خدمات خاصة، أملاً في لفت انتباهه ليتزوجها، ورُبَّما انتهت المسألة بعلاقة غير مشروعة يغلق معها باب الزواج حتى إشعار آخر.
كُلّ هذه الصور من اختلال العلاقات والقيم تدعونا إلى التساؤل: أين الخلل؟!
- هلِ الآداب الإسلامية في العلاقة بين الجنسين أصبحت غير واضحة للشباب في إطار التقنية الحديثة؟!
(/3)
- أهو نَقْصٌ فِي الوَعْيِ بِالقِيَمِ الدّينيَّة التي تحمي الإنسان من السقوط في مهاوي الرذيلة وحَبَائِل الغَواية؟
- أم هو الفراغ؟
وقديمًا قال الشاعر العربي:
إِنَّ الفَرَاغَ وَالشَّبَابَ والْجِدَهْ مَفْسَدةٌُ لِلْمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهْ
- أم هو عسر الحال وضيق ذات اليد؟!
- أم أن الخلل كامن في صميم هذه الحضارة الماديَّة التي لا يهمها سوى إشباع النزوات والشهوات دون أن تلقي بالاً لحاجات الإنسان الروحية؟!
والإجابة عن كل هذه التساؤلات تكمن في كلمة واحدة: الله، كما قال الله عزَّ وجل لنبيه – صلى الله عليه وسلم -:
{قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91].
فَلْنَنْتَبِهْ إلى خطورة الأمر؛ لأنه يتعلَّقُ بِمَصِيرِ الإِنْسَانِ، وَلْتَسْأَلْ نَفْسَكَ أَيُّها الشاب ولتسأل كل فتاة نفسها قبل أن يسقطا في حبائل الغواية والانحراف:
• ما موضوع الحوار بينكما؟
• هل هو نقاش علمي؟
• هل هو نقاش حول قضية اجتماعية؟
• وما حظ العقل فيه؟!
• وما حجم العواطف والمشاعر فيه؟!
• وهل هناك فارق بين الكلام وجهًا لوجه، والكلام عبر الهاتف أو الإنترنت؟!
• وقت الاتصال: هل اختفت حدود الوقت المناسب هنا وأصبحت بلا حدود في الليل والنهار؟!
• هل هو مفتوح أم محدود كما أن الزيارات لها مواعيد، أم أن لها مواعيد مثل اللقاءات الجسدية؟
• هل استكملت عُدَّتك لتحقيق حياة مستقرة لا يشوبها قلق ولا إحساس ٌبالإثم، كي لا تنقلبَ اللَّذَّةُ العاجِلَةُ إلى عذابٍ في الدنيا والآخرة؟!
• هل تشغل وَقْتَكَ وَتَمْلأُ حياتك بأعمال نافعة لك ولغيرك؟ فإن من لم يشغله عملُه شغله الشيطان!
• هل تدرك الفجوة القائمة بين القديم والجديد؟ وهل تحاول تحقيق معادلة التوفيق بين مطالب الدين والدنيا؛ فلا تفقد آخرتك ودنياك، ولا تحرم رضا الله عز وجل وتوفيقه.
(/4)
سل نفسك هذه الأسئلة، ولا تخدع نفسك، ولا تدع لشياطين الغواية عليك سبيلاً، وتأكد أن الشيطان يجرك إلى الغواية خطوة خطوة، فانتبه واحذر فإن الشيطان يأتي الملتزم من باب الطاعة، والإنسان ضعيف حين يُتْرَكُ لِهَواه وشهواتِه وَنَزَوَاتِه وشيطانه، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28]. ولا حول ولا قُوَّةَ إلا بِاللَّه، بحول الله وقوته يعود الضعف قوةً، ويَنْقَلِبُ العَجْزُ عَزِيمةً وإِرَادةً إذا ما تحلَّى الإنسان بالإيمان واستجاب لهدى ربه وتأتَّتْ له الأوصافُ الإيمانيَّة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
واعلمْ أنَّ التقنيات الحديثة سلاحٌ ذو حدَّين، يمكن استعمالها في الخير، كما يمكن أن تكون وسائل للشر وحبائل للشيطان.
والله تعالى أرشدنا إلى الخير، قال عز من قائل: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة/148].
(/5)
العنوان: الحب في الله... عندما يغبطنا النبيون والشهداء
رقم المقالة: 1214
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
من القرآن:
{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]
{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَأَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]
ماذا قال الحبيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؟
• عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون اللَّه ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه اللَّه منه كما يكره أنْ يُقْذَفَ في النَّار))؛ متفق عَلَيْهِ.
• وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال، قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((إن اللَّه تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابّون بجلالي؟ اليوم أُظِلّهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي))؛ رواه مُسْلِمٌ.
• وعن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال سمعت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يقول: ((قال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: المتحابّون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء))؛ رواه التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ صحيح.
(/1)
• وعن أبي إدريس الخولاني - رحمه اللَّه - قال دخلت مسجد دمشق، فإذا فتًى برَّاق الثنايا وإذا النَّاس معه فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان من الغد هجَّرت فوجدتُهُ قد سبقني بالتهجير، ووجدتُه يصلي، فانتظرته حتَّى قضى صلاتَهُ ثم جِئْتُه من قِبَلِ وَجْهِهِ فَسَلَّمْتُ عليه ثم قُلْتُ: والله إني لأُحِبُّكَ لله! فقال: آلله؟ فقلت: ألله. فقال: آلله؟ فقلت: ألله. فأخذ بخبوة ردائي فجبذني إليه فقال: أبشر فإني سمعت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يقول: ((قال اللَّه تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ))؛ حديث صحيح رواه مالك في الموطَّأ بإسناده الصحيح.
أحلى ما قال السلف:
• الحسن البصري:
- كنَّا نعد البخيل فينا الذي يُقرض أخاه، وكان يقول: إخواننا أحبُّ إلينا من أهلينا؛ فأهلونا يُذَكِّرُونَنَا بالدنيا وإخوانُنا يُذَكِّرُونَنَا بالآخرة.
• سفيان بن عيينة:
- مَنْ أَحَبَّ رَجُلاً صالِحاً فإنَّما يُحِبُّ اللهَ.
• عمر بن الخطاب:
- إذا رزقكم الله مودَّةَ مُسْلِمٍ فَتَشَبَّثُوا بها... وكانَ يَذْكُرُ الأَخَ مِنْ إِخْوانِهِ فيقول: يا طولَها مِنْ لَيْلَةٍ, فإذا صلَّى المكتوبةَ غدا إليْهِ فَعَانَقَهُ.
• أبو الدرداء:
- إنَّ العبد المسلم ليُغْفَرُ له وهو نائم ... يقوم أخوه من الليل فيتهجد فيدعو الله فيستجيب له ويدعو لأخيه فيستجاب له
درس اليوم 9
الحب في الله ... والبغض في الله ........ عمر عبد الكافي
http://media.islamway.com/lessons/omar//bukhary/bukhary47.rm
الحب في الله ..... معا تحت عرش الرحمن
(/2)
أحبائي في الله ....الحب من طبيعة الإنسان، فالحب عمل قلبي، ولذا كان الحب موجود منذ وجد الإنسان على ظهر هذه الأرض، فآدم يحب ولده الصالح، وابني آدم كان ما بينهما بسبب المحبة، وتظل المحبة على وجه الأرض ما بقي إنسان.
ولما كانت المحبة بتلك المنزلة جاء الإسلام ليهذبها، ويجعل هذا الرباط من أجل الله، فالمؤمن يحب من أجل الله ويبغض لله يوالي له ويعادي له، وهكذا الحياة كلها لله {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162 - 163].
يجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه فيقول: ((وَدِدْتُ لو أنّي رأيت أحبابي، قالوا: يا رسول الله ألسنا أحبابَكَ؟ قال: أنتمْ أصحابي، أحبابي يأتون بعدي آمنوا ولم يروني))
تَخَيَّلْ .. بل تأمل .. النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبك أنت ويشتاق لك.
وهذه المحبَّة الخاصَّة بالنَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ممتدّة لأهل الإيمان وإن كانت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن تقدم على النفس والأهل والمال، فإنَّ محبة المُؤْمِنِينَ أَيضًا هي من الإيمان.
• نعم المحبة لها علاقة بالإيمان؛ في الصحيحين من حديث البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الأنصار: ((لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق)).
• بل إن بها حلاوة الإيمان؛ في الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))
• وبها يستكمل الإيمان فعن أبي أمامة رضي الله عنه ((من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان))؛ رواه أبو داود.
(/3)
• بل هي أوثق عرى الإيمان؛ عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا: ((أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله))؛ رواه الطبراني وحسَّنَهُ الأرناؤوط.
• وهي طريق إلى الجنة؛ روى مسلم من حديث أبي هريرة: ((والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)).
• وتجلب محبة الله؛ روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - «أنَّ رَجُلا زار أَخًا له في قريةٍ أُخْرَى فأرسل الله له على مدرجته ملكًا..... فقال: إن الله قد أحبك كما أحببته فيه».
• بل تجلب محبة الملأ الأعلى أجمعين مع القبول في الأرض؛ في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه – ((إذا أحب الله عبدا دعا جبريل فقال يا جبريل إني أحبه فأحبَّه، فَيُحِبُّه جبريلُ ثم يُنادِي جبريلُ في أَهْلِ السَّماءِ: إنَّ الله يَحِبُّ فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)).
• يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وتأمَّل في هذا الرابط الوثيق بين كون المحبة لله وكون الظل في ظل عرش الله.
• الحب في الله سبب في دخول الجنة، فهي من الأعمال الصالحة التي تستوجب حسن الثواب، ولها ثواب خاص ...
أحبتي: لِلمحبَّة في الله شروط منها:
1- أن تكون لله، فكل عمل لغير الله لا يقبله الله.
2- أن تكون على الطاعة، فالحب في الله طاعة لله، فهل تستغل طاعة الله لشيء محرم؟!.
3- أن تشتَمِلَ على التَّناصُحِ، فالمُؤْمِنُ ناصحٌ للمؤمنين أجمعين.
أحبتي..... للمحبة في الله واجبات منها:
1- إخبار من يحب.
2- أن تحب له ما تحب لنفسك.
3- الهديَّة ... تهادَوْا تَحابّوا.
4- إفشاء السلام ...
5- البذل والتَّزاوُر .... والمقصود البذل بمعناه الواسع بذل من الوقت والجهد والعلم والمال.
6- حرارة العاطفة.
التطبيق العملي?
(/4)
- تهادَوْا تحابُّوا.... أهد أخًا لك في الله شريطًا أو كتابًا أو أي شئ مهما كان بسيطا بنية تآلف قلبيكما...
- تعرَّفْ على مَنْ تلقاه من إخوانك، وإنْ لم يَطْلُبْ منكَ ذلك.
- زُر أخا من إخوانك في الله بنية نيل حبه وحب الله.
- ادع لأخيك في الله بظهر الغيب حتى تؤمن الملائكة على دعائك.
هيا معا نحيي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم?
سنن عند الشرب...
1- التسمية.
2- الشرب باليد اليمنى.
3- التنفس خارج الإناء... أي على ثلاث مرات فلا تشرب مرة واحدة.
4- الشرب جالساً... ((لا يشربنَّ أحد منكم قائمًا))؛ رواه مسلم.
5- قول الحمد لله بعد الشرب... ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها))؛ رواه مسلم.
الدعاء:
((اللَّهمَّ إنَّا نسألك الفردوس الأعلى من الجنَّة وما قرَّب إليْها من قولٍ أَوْ عَمَلٍ)).
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين.
(/5)
العنوان: الحبُّ والاحترام.. في رباط الزوجية..! (استطلاع رأي)
رقم المقالة: 1626
صاحب المقالة: هيفاء الوتيد
-----------------------------------------
معانٍ كثيرة.. وأخلاقيات عظيمة.. يحويها كلُّ رباط زوجي.. يطمح إلى سعادة وطمأنينة وألفة..
فإذا تفهمها كلا الزوجين.. وحرَصا على إحيائها بَدَلَ وأدِها.. أصبحت حياتُهما حديقةً غناء.. تتغزلُ فيها الطيور.. وتنافس حلاها البدورُ..!!
الحياةُ الزوجيةُ هي كالعجينة اللينة.. يشكّلها الزوجان بالشكل الذي يريدان أن يعيشا عليه.. فإن أرادا السعادةَ والألفة كانت لهما.. وإن أرادا الشقاء والسيطرة والأثرة وأن يعيش كلٌ منهما لنفسه فقط، كانت لهم كذلك..!
الحبُّ والاحترام.. والمصارحةُ والحوار.. والصدقُ.. معانٍ كثيرة.. لا بد من غرسها في كل رباط زوجي تهيأ لذلك، لتتورد بها الحياة..!
لكنّ أضواءنا في هذا الموضوع سلّطناها على الحب والاحترام.. فتعارضت حولهما الآراءُ، وأهمية كل منهما في رباط الزوجية.. فكانت هذه الآراء..
أم خالد (متزوجة منذ عشرين سنة):
رأت أن السعادة الزوجية لا تكتمل إلا بالحب.. وأن يحرص كلا الزوجين على فهم متطلبات الآخر وفهم حقوقه، كما أن الاحترامَ مهم؛ لأنه ينشئ أسرة متماسكة، وترى أن الحياة الزوجية لا يمكن أن تستمر إذا لم يكن فيها حبٌّ، وإذا فُقِد الحبُّ فُقِد الاحترامُ.
أما الأخت فوزية عبد الله (متزوجة منذ خمس عشرة سنة) فتقول:
إن الاحترام هو الأهم في الحياة الزوجية؛ لأن الاحترام هو الذي يولد الحبَّ بين الزوجين، فكلما احترم الزوجُ زوجتَه أحبته، وكذلك الزوجة كلما احترمت زوجَها أحبها أكثر وأكثر، وهو مهم أكثر من الحب.
ووافقتها في هذا الرأي أم إبراهيم (متزوجة منذ عشر سنوات) إذ قالت:
الاحترامُ أولا؛ لأنه هو الذي يجلب الحب والمودة، وإذا احترمت الزوجةُ زوجَها أحبها، والعكس صحيح.
وتقول داليا محمد (متزوجة منذ سنتين):
(/1)
إن الاحترام هو سيد المبادئ، وهو الذي يفتح نافذة واسعة يمكن من خلالها رؤيةُ الكثير من المبادئ؛ كالتعاون، والانتماء، والوضوح، والحب، والصداقة، والتنازل وغيرها، بوضوح وبطريقة تحدد ملامح تلك العلاقة، وأن يعي كل من الطرفين الآخرَ ويفهمه، وألا يجعل شخصيته هامشية، وأن يستطيع فهم الطرف الآخر دون إذلال له أو اقتحام لشخصيته، ففي هذه الحالة يشعر كل من الطرفين بقيمته مع الآخر وتقبل الآخر له بدرجة يصلُ فيها إلى تقبل عيوب الآخر قبل مزاياه، مع السعي الجاد لتعديل تلك العيوب بأساليبَ مهذبةٍ، مع وجود مساحة واسعة من الحوار والإقناع الهادئ الذي يغرس في كل منهما بذرة المودة والألفة ليجنيا ثمرة تلك البذرة وهي الحب، وعلى الرغم من وجود دلائل المحبة من مشاعر انجذاب وقبول وميل من أحد الأطراف للآخر، إلا أن تلك المشاعر إذا فقدت الاحترامَ فقدت تلك المشاعرَ، ومن ثم فقدت المحبة..
فيجب على كلا الطرفين احترامُ الآخر ليصل إلى المحبة الصادقة التي تعني العطاء بلا حدود، وكذلك من الواجب عليهما الشعورُ بقيمة ذلك الاحترام، وأقول (لمن يقول: إن المحبة تأتي قبل الاحترام): كيف تحب الشيء ما لم تحترمه؟؟
ووقفت أم سلمان (متزوجة منذ ثلاث سنوات) بين الأمرين فقالت:
الحب وشيء من الاحترام للذات والرغبات والاختلافات ينتج أفراحًا وسعادة، فلا انفكاك بين حب واحترام.
أما عن رأي الأخت وسمية فتقول:
الاحترامُ أساسُ الحياة الزوجية، أما ما يسمى بالحب فيُعَدُّ عند الناس هو العشق الذي قد يطغى على حب الله؛ يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، ومن ثم يترتب عليه كثيرٌ من الأضرار والآثار.
أما إن كان هناك احترام فسيولد المودة التي ذكرها الله في القرآن، ويتحقق قولُ الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يفرَك مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خلقاً رضي منها آخرَ)).
(/2)
فيحترم كل من الزوج والزوجة حقوقَ وواجباتِ الآخر، ومن ثم إن أحبها أكرمها وإن كرهها لم يظلمها حتى تسير القافلة.
والعكس تمامًا تراه حياة عبد اللطيف (متزوجة منذ تسعة عشر عاما):
تقول بحماس: الزوجة التي تطلب أن يكون زوجُها محبًا في المقام الأول امرأةٌ غير ناضجة، ولم تعرف الحياة الحقيقية بعد، حين نلتفت حولنا نجد كثيرًا من القصص الزوجية المؤلمة -التي في الغالب تكون المرأة هي المتألمة فيها- نجد الأزواجَ يزعمون أنهم عشاق لهن وليسوا محبين فقط!! تجد الزوج يخون زوجته مع عدة نساء ويقول: إنه يحبها وهي الأصل!! وقد يضربها، وعندما تهجره يقول: إنه يحبها ولا يستطيع الاستغناء عنها!! أمور كثيرة لو وُجد الاحترامُ لما فعل الزوجُ هذه الأمور، حتى عندما يرغب في امرأة أخرى، عندما يحترم الأولى ويرى أنه لا يريد أن يغضبها في حالة كشفها الأمر، فإنه يصارحها أيا كانت النتيجةُ، والمصارحة تكون بطريقة لطيفة ووقورة، كما أن الاحترام حالة دائمة لا ينهيها إلا فعلٌ شائن من أحد الطرفين، أما الحب فهو حالة متغيرة مقرها القلب، والقلب متقلب.
وحول هذه الآراء المختلفة نختم الجدلَ بقول الدكتورة تغريد سمان:
(/3)
إن الحياة الزوجية لها شكلها وسماتها الخاصة، وتختلف عن أي علاقة إنسانية أخرى، فلو نظرنا إلى الكتب السماوية جميعها، وجدنا أنها وصفت العلاقة بأنها علاقة سامية، وعلاقة أمان، وسكينة، ومودة ومحبة، وتفاهم وراحة بال، فالاحترامُ يعزز مشاعر الحب سواء كان بكلمة حلوة أو موقف رحيم أو نظرة دافئة أو لمسة حنون، وهذا جوهر الحياة الزوجية، والحب فطرة فطر الله عليها قلوبَ عباده بداية من حب الله -سبحانه وتعالى- ثم حب الرسول –صلى الله عليه وسلم- وحب الوالدين، وحب الإخوة، وحب الأبناء، وبلا شك حب شريك الحياة، أما الاحترامُ فهو مناخ صحي للحياة الزوجية؛ يولد الحب والمودة بين الزوجين وهي البنية الأساسية التي يجب أن تبدأ من أول يوم من أيام الزواج؛ فالاحترام لغة إنسانية بين الأفراد والمجتمعات والشعوب، وهو الميزان الذي يقاس عليه طبيعة الحياة الزوجية ومدى استمرارها، والاحترام في الحياة يؤدي إلى مكاسبَ ونتائجَ عظيمةٍ؛ منها المودة والحب، والقدرة على تسوية المشاكل، فهو يحد كل طرف إلى حد لا يتجاوزه، فن انتقاء الكلمات، احترام مسؤوليات وأدوار كل فرد في العلاقة، تقبل الطرف الآخر كما هو وإن اختلف عنا، احترام مساحة حرية الطرف الآخر في هواياته.
(/4)
العنوان: الحب والحنان في الحياة الزوجية
رقم المقالة: 876
صاحب المقالة: منى السعيد الشريف
-----------------------------------------
أودع الله - تعالى - في قلوب النساءِ رحمةً وليناً يميز طباعهن؛ لأن المرأةَ هي الأمُّ الراعيةُ، التي تحملُ، وتلدُ، وتُرضِعُ، وتحتضنُ؛ ولذلك فإن عالم المرأة الخاصَّ - بأنوثتها وأمومتها - هو عالَمٌ به لمسةُ حنان زائدة عن عالم الرجولة والخشونة.
فحبُّ المرأةِ الحنانَ جزءٌ أصيل فيها، أما الرجلُ فقد يفيض قلبه حناناً؛ إلا أنه لا يجيد التعبير عنه! وقد يرتبك إذا طُلب منه لمسةٌ رقيقة أو دافئة.. وإذا فعل فإنه لا يفعل ذلك طيلة الوقت!
والمشكلة أن كثيراً من النساء يعرفن أن أزواجهن يحبونهن, لكنْ تكمنُ القضية في التعبير عن هذا الحب.. ولذلك نؤكد دائماً: أن العلاقة بين الزوجين لا تستقيم إلا بركنين أصيلين، هما: المودة، والرحمة؛ أما المودة فشعور في القلب، وأما الرحمة فسلوك يَنُمُّ عن المودة، ويترجمها إلى اللمسة الحانية، واللفتة العطوفة.. لا نريد الحب فقط! نريد حبّاً.. وحناناً!!
رفقاً بالقوارير!
مَن مِنا لا يحب الورود؟! بل أكثرنا يعشقها، ويعشق رائحتها، فمثلما تحتاج الورود إلى الماء والهواء لتنمو وتتفتح؛ تحتاج النساء إلى الحب ليشع منها عبير الورد!.....
نعم! تُسقَى النساءً حباً؛ لأن النساء ورودٌ، ورياحين الحياة! لكن أصعب ما في هذه المعادلة هو أن يكون حباً نابعاً من قلبٍ صادقٍ، قلبٍ عاشقٍ، وألا يكون كذباً، أو مشاعر مزيفةً لأغراض دنيئة.
إن الحب الحقيقي هو الشيء الوحيد الذي يجعل المرأة تتخلى عن كل شيء لأجله! لذا فإن حقيقة كون الشخص قادراً على الحب الحقيقي تعني أن يصبح ناضجاً، وذا توقعات واقعية من الطرف الآخر. ويعني ذلك قَبولَ المسؤولية عن سعادتنا وحزننا، وعدمُ توقعِ أن يجلب لك الشخصُ الآخر السعادةَ، أو إلقاءِ اللوم عليه؛ بسبب المزاج السيئ أو الإحباط الذي قد تواجهه.
(/1)
لمزيد من الحب والحنان..
• يختلف النجاح في الحب الحقيقي والعلاقة الزوجية - في واقع الحال - عنه في الأفلام السينمائية؛ فهو أفضل بكثير في الحياة الحقيقة؛ لأن الحب الحقيقي إذا تم تبادله بين الزوجين بحرص وعناية؛ يأخذهما إلى آفاق لم يحلما بها من قبل. وبدون دعم وإلهام من الشخص الذي يشاركنا حياتنا؛ فإننا لن نعرف طعماً للسعادة.
• شركاء الحب الناضجين تعلموا عدم توقع الكمال من بعضهم البعض. والاختلافات لدى كل المحبين تجرب قدرةَ الطرف الآخر على القَبول والصَّفح والتفهم. فهما لا يحومان أبداً حول القضايا، بل يقومان - عند الضرورة - بمناقشة جوانب النقص لديهم، بطريقة تنم عن الحب، والحرص على عدم إصدار أحكام بكلمات مؤذية... إن القبول والتسامح يقربان الشريكين في منظومة حب غير مشروط.
• إذا كنت أو شريكك تتمسكان بقضايا عالقة دون إيجاد حل لها؛ فحاولا التحدث بشأنها بصراحة وشفافية، وعندها ستدهشان من سهولة المصالحة، وستشعران أن كليكما رابحٌ. لكن إذا ما اخترتما التصعيد والتعنت وعدم طرح الخلافات جانباً؛ فإن علاقتكما ستذهب مع الريح.
• الكلمة العذبة اللطيفة المريحة تجذب الرجل إلى المرأة، في حين أن الكلمة المؤلمة، أو التي تدعو إلى الشك في الوفاء الزوجي؛ تبعث في نفس الرجلِ القلقَ. تبادلا الثقة، وتخلصا من أية شكوك تؤدي بكما إلى تبادل كلمات جارحة، قد تجرح علاقة سنوات وتنهيها!
• لا تكوني مستبدة، وجارحة في تصرفاتك مع زوجك! خاصة إذا كنت تتمتعين بثقافة أكبر، أو وظيفة أفضل من وظيفته، أو كنت أكثر غنى، أو كنت أصغر منه بسنوات كثيرة، فالمرأة الحصيفة الذكية تتغاضى عن كل الفوارق، في سبيل إنجاح حياتها الزوجية.
(/2)
• الوقاية من الملل العاطفي تبدأ بإدراك أن لكل مرحلة طبيعتُها، وأن الملل يبدأ في التسرب إلى الحياة الزوجية عندما لا يدرِك أطرافُها أنهم قد انتقلوا من مرحلة إلى مرحلة، وعليه؛ فإنه ليس مطلوباً منهم أن يتوقعوا في مرحلة؛ ما يتوقع في مرحلة سابقة أو لاحقة. هذه هي النقطة الأساسية في المسألة، لذا؛ سيصبح لكل مرحلة مظاهرُها، التي تدل على التفاعل، وتمنع الملل من الحياة الزوجية... فغير مقبولٍ أن نطلب في مرحلة العقد ما كان يحدث في مرحلة الخطبة، أو نطلب في سنوات الزواج الأولى ما كان يحدث عند العقد، وهكذا؛ لأنه عندما تختلف توقعاتنا بين واقعنا وما نطلبه؛ فهذا يصيبنا بالملل، ويجعلنا غير راضين عن حياتنا.
• (الرومانسية) لا تعني الإغراق في كلمات الحب والإعجاب! فنظرة امتنان، ولحظة فرح مشترك بين الزوجين؛ هي في الحقيقة تعميق للعلاقة بين الزوجين. فلنجعل (للرومانسية) معنى آخر، غير المعنى الذي كنا نتصوره قبل الزواج، ولنجعل الواقع مغذياً لهذه الحالة التي نحتاجها... المشكلةُ أن تصورنا (للرومانسية) محدود، يقف عند حد الكلمات، أو التعبير السطحي عن الحب، في حين أن لحظات القرب بين الزوجين - سواء في الفرح أو الشدة - هي - بالتأكيد - إضافةٌ للرصيد العاطفي بينهما.
• المعاملة الطيبة وحسن التَّبَعُّلِ للزوج، الذي يجعله لا يرى إلا الطيب، ولا يسمع إلا الطيب؛ هو الذي يجعل الزوج يستقر في بيته، ويعود إليه مهما طال الزمن.
• قليل من النساء بإمكانهن التعبير عما في أنفسهن؛ إذا شعرن بأنهن لسن على ما يرام، ويشعرن بالاستياء والغضب؛ لأن شركاءهن لم يكتشفوا ذلك!! لكن على المرأة التروي؛ فالرجل لا يجيد قراءة الأفكار التي ترغب المرأةُ سماعَها! وحل ذلك في الشفافية، ومصارحته بكل ما يجول في الخاطر، في جميع الأوقات، وليس فقط عندما نقع في مشكلة كبيرة.
(/3)
• الحواجز ضرورية في بداية العلاقة الزوجية؛ لذلك؛ ليخبرْ أحدُكما الآخرَ بالأمور التي يمكن التسامح فيها، وتلك التي لا يمكن غفرانُها. على سبيل المثال: متى تغضبان؟ وكيف سيتصرفُ إذا تأخرتِ عن موعدِك معه ساعةً؛ لأنكِ غيرتِ رأيك فيما سترتدينه؟ وما هي ردة فعله؟ فإذا عرف كل منكما حدود الآخر، وأين يقف من تلك الحدود؛ فإنه يمكنه المضي - على نحو سليم - في تلك العلاقة.
• السخرية من المظاهر الجسمية أو الاجتماعية تُولِّدُ الكراهيةَ في نفس شريك العمر؛ لأنها تقلل من شأن الطرف الآخر، وبالتالي ينعدم الاحترام، ويحل محله النزاعاتُ والمُشادّات. فمن أهم أدوار الزوج والزوجة في الحياة الزوجية: حفظُ كرامةِ الشريك في حضوره وغيابه، وإشعارُه الدائمُ بالثقة بالنفس، ودفعُه إلى النجاح، وذلك لا يتأتى بالمؤاخذة الدائمة، والتعليق السلبي على سلوكه ومظهره بطريقة مؤذية .
• الغيرةُ إذا تجاوزت الحدودَ تهددُ العلاقةَ الزوجية تهديداً شديداً، وقد تصل بالزوجين إلى منحدرات سيئة العواقب، كالعنف، وتكذيب أحدهما للآخر باستمرار، والشك، وذلك يعتبر أقوى مهلِكٍ للعلاقة بينهما.
• إذا استشعر الزوج أن زوجته دائمة الشكوى، وتكثر الحديث عن المشكلات التي لا تجد لها حلاًّ؛ فقد يَمَلُّ من التحدث إليها، وربما يلجأ إلى "الصمت الزوجي" طلباً للسلامة وراحة البال، فالزوج يشعر بالرضا باختياره زوجتَه؛ حينما يلمس فيها التعقل، والذكاء، والقدرة على اتخاذ قرارات حكيمة في مواجهة المشاكل المنزلية البسيطة، ويثق في أن لديه من يعاونه ويؤازره في الحياة، لا من يضيف إلى أعبائه حملاً جديداً!!
(/4)
العنوان: الحث على الاستسقاء
رقم المقالة: 1358
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى -، وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون: يزهدُ الناس في الخير إذا تعلقوا بالدنيا وزخرفها، وضعفَ يقينهم بالآخرة ونعيمها؛ حتى تُفتحَ أبوابُ الخير فتبصرَ قلة الداخلين، وتظهر طرقُ الآخرة فتحس ضعف السالكين، وإذا ما انفتح بابٌ من أبواب الدنيا رأيت كثرة المتنافسين، وأبصرت شدة المتزاحمين.
(/1)
وما صلاة الاستسقاء إلا باب من أبواب الخير مفتوح، وطريقٌ للذكر والاستغفار والذل والخضوع. والله - تعالى - يُعِزُ من ذلَّ له، ويعطي من سأله، ويحب الخاشعين الذاكرين المستغفرين؛ ولكنك لا ترى منهم إلا قليلاً.. يُعلَنُ عن صلاة الاستسقاء فلا يتوافد إليها إلا أفرادٌ لا يكادون يملؤون أرباع أو أثلاث مساجدها ومصلياتها على رغم قلتها، حتى يظن من أقبل على المصلى أو المسجد أن لا استسقاء فيه من قلة الحاضرين.
أرأيتم لو كان في وقتها أموالٌ توزع، أو أراض توهب، أو دنيا تقسم، أيكون العددُ فيها؛ كالعدد في الاستسقاء؟!
لا أظن ذلك؛ ولو أقسم المقسم أن أنفسًا تهلك من الزحام؛ خشية أن يفوتها ذلك العَرَض من الدنيا لما رأيته يحنث في قَسَمه. وإذا كان أكثرُ الناس قد فرطوا في الواجبات؛ فكيف سيحافظون على المندوبات؟!
إنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. وإن من أعظم الذنب أن يتكبر الخلق على خالقهم، ويتقاعسوا عن مواطن الذل له، والانطراح بين يديه، ورفعِ الحاجات إليه؛ حتى ظنَّ الظانون منهم أنهم ليسوا مُحْتَاجِين إليه، وأنهم في غِنًى عن رحمته وفضله. فالماء يأتيهم في دورهم، والخيرات من كل بلاد الأرض تمتلئ بها بلادهم، ولا ينقصهم شيء فلِمَ يستسقون؟ وماذا يسألون؟
إن هذا الأمن هو البلاء، وتلك الغفلة هي المصيبة؛ ذلك أن القحط قد يكون نوعًا من العذاب، قال البخاري - رحمه الله تعالى -: "باب انتقام الرب – عز وجل - من خلقه بالقحط إذا انتُهِكَتْ محارمُ الله"[1].
(/2)
وروى عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "إن قريشًا أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي - صلى الله عليهم -. فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، وفي رِوَاية: فقال: ((اللهُمَّ أعنِّي عليهم بسبعٍ؛ كسَبْعِ يُوسُفَ))، فأصابَتْهُمْ سنةٌ حصَّت كل شيء حتَّى كانوا يأكلون الميتة، وكان يقوم أحدُهم فكان يرى بينه وبين السماء مثلَ الدخان مِنَ الجهد والجوع"[2]، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمرُ بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا، فادع الله فقرأ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدُخان: 10] ثم عادوا إلى كفرهم فذلك قوله - تعالى - {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى} [الدُخان: 16] - يوم بدر - قال: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعًا، وشكا الناس كثرة المطر فقال: ((اللَّهُمَّ حوالينا ولا علينا))، "فانحدرت السحابة عن رأسه، فَسُقُوا الناسُ حولَهم"؛ متفق عليه[3].
هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذنبه مغفور، وسعيه مشكور، ودعاؤه مسموع، ومع ذلك لم يأمن مكر الله. إن هاجت الريح ظل يدخل ويخرج، ويقبل ويدبر؛ خوفًا من عِقاب الله؛ حتى يُعرفَ ذلك في وجهه. وإن أبطأ المطر؛ هرع إلى الاستسقاء، واستغاث الله - تعالى -، فرُبَّما صعِد المنبر فاستسقى بلا صلاة ولا خطبة[4]، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه استسقى وهو جالس في المسجد رفع يديه فدعا فأمطرت السماء[5]، واستسقى عند أحجار الزيت من الزوراء وهي خارج المسجد[6]، واستسقى في بعض غزواته حين عطش المسلمون[7].
(/3)
فبان أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يستسقي كثيرًا، وعلى أحوال متعددة. وكثير من الناس لا يستسقي الواحد منهم وحدَه، ولا يدعو الله في خلوته أن يغيث العباد والبلاد؛ بل يظنون أن طلب السقيا لا يكون إلا في خطبة الاستسقاء أو خطبة الجمعة، مع أن دعاءَ العبد وحدَه أكثر إخلاصًا، وأعظمُ أثرًا. وإذا كان العبدُ يندب له أن يدعو لإخوانه بِظَهْرِ الغيب، فدعاؤه بالسقيا دعاءٌ للعباد والبلاد والبهائم.
وإن أعظم صور الاستسقاء التي أثرت عنه - صَلَّى الله عليه وسلم - خروُجه بالناس إلى المصلى، وصلاتُه بهم، وموعظتهم، والدعاءُ والتضرعُ والانطراحُ بين يدي الله - تعالى - مع كثرة الاستغفار، وتجديد التوبة.
(/4)
قالت عائشة - رضي الله عنها -: "شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبرٍ فوِضعَ له في المُصَلَّى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه. قالت عائشة: فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر، فكبّر - صلى الله عليه وسلم - وحمد الله – عز وجل - ثم قال: ((إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطرِ عن إبّانِ زمانه عنكم، وقد أمركم الله – عز وجل - أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: ((الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتَّى بدا بياضُ إبطيه، ثم حوَّل إلى الناس ظهره، وقلب أو حول رداءه وهو رافعٌ يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين. فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت - بإذن الله - فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكِنّ ضحك - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه فقال: أشهد أن الله على كل شيءٍ قدير، وأني عبدالله ورسوله))؛ أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان والنووي[8].
(/5)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يستسقي أحيانًا في خطبة الجمعة كما روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "أصابت الناس سَنَةٌ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا أن يسقينا، قال: فرفع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وما في السماء قَزَعَةٌ، قال: فثار سحاب أمثالُ الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته - وفي رواية: "فمُطِرْنا فما كدنا نصل إلى منازلنا"؛ أي من كثرة المطر، وفي رواية: "فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا" - قال: فمطرنا يومنا ذلك، وفي الغد، ومن بعد الغد والذي يليه، إلى الجمعة الأخرى. فقام ذلك الأعرابيُ أو رجلٌ غيره فقال: يا رسول الله تهدَّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: ((اللَّهُمَّ حوالَيْنَا ولا عَلَيْنَا)) قال: فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرَّجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة حتى سال الوادي - وادي قناة - شهرًا، قال: فلم يجئْ أحد من ناحية إلا حدَّث بِالْجَوْدِ"؛ أخرجه الشيخان والروايات للبخاري[9].
(/6)
وهكذا سائرُ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وعبادُ الله الصالحون يستغيثون الله ويستسقُونه، ويطلبون رحمته، ويسألونه من فضله، فلا غِنَى لأحدٍ عن رحمة خالقه كائنًا من كان؛ بل إن البهائمَ فُطِرت على معرفة بارئها وخالقها، فلا تلتجئُ إلا إليه وحده على رغم أنها لم تكلف. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خرج سليمانُ - عليه السلام - يستسقي، فرأى نملة مستلقيةً على ظهرها، رافعةً قوائمها إلى السماء تقول: "اللهم إنَّا خلق من خلقك، ليس بنا غنىً عن سقياك"، فقال: "ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم"))؛ أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي[10].
فالله - تعالى - إذا رأى من عِبَاده صدق التوجه إليه، والتعلق به رَحِمَهُمْ فسقاهم وأعطاهم، ورفع البلاء عنهم. خزائنه لا تنفد، وخيره لا ينقطع، وعطاؤه لا يُحْظَر: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} [الشُّورى: 28] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه -، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أمَّا بَعْدُ: فإنَّ صلاة الاستسقاء سُنَّةٌ مُؤَكَّدةٌ؛ فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون؛ كما قال الفقهاء، ونقَل الإجماع على ذلك بعضهم[11].
وقبل خروج المسلمين إليها، فإنه ينبغي أن يزيلوا ما في قلوبهم من أكدار الشحناء والبغضاء فذلك أرجى للإجابة.
(/7)
وينبغي أن يخرجوا خاشعين متذللين خاضعين لرب العالمين[12]. تشبه حالتُهم حالة المسكين المحتاج الذي يريد السؤال. ويخرجون بالشيوخ الكبار الذين أفنَوْا عمرًا مديدًا في الإسلام فدعوتهم مرجوة، وبالصبيان الصغار؛ لأنهم لا ذنوب عليهم فدعاؤهم قريب من الإجابة. ولا يخرجون بالبهائم؛ لعدم ثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[13]. وأمَّا النساء فلا بأس بخروج العجائز الكبيرات؛ كما ذكر ذلك الفقهاء[14]. وإن قدّموا صدقة قبل صلاتهم فذلك حسن؛ لأن الصدقة تطفئ غضب الرب، ولأن المطر رحمة من الله، والله - تعالى – يقول: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56][15].
والتوبةُ والاستغفارُ من أعظم أسباب نزول الغيث؛ كما قال نوح - عليه السلام -: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10 – 11]. وكما قال هود - عليه السلام -: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52].
ومن أسباب نزول الغيث: الاستقامة على أمر الله - تعالى - كما قال – سبحانه -: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجنّ: 16].
كما أن من أعظم ما يمنع المطر كثرةُ الذنوب والمعاصي، وضعفُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
(/8)
وعدم إخراج الزكاة يمنع نزول الغيث؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر المهاجرين: خمس إذا بليتم بهن وأعوذُ بالله أن تُدْرِكُوهُنَّ)) وذكر منها ((ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا القَطْر من السماء ولولا البهائمُ لم يمطروا))؛ أخرجه ابن ماجه بسند حسن[16].
فإذا استَسْقَوْا فلم يمطروا أعادوا الاستسقاء مرة أخرى، وإن مُطروا شكروا الله - عزَّ وجَلَّ - على نِعَمِه، وحمِدُوهُ على فَضْلِه، ودَعَوْا بالبركة؛ لأنَّ البَرَكَةَ إذا نُزِعَتْ لم ينفع. ولِذا كانَ - عليه الصلاة والسلام - إذا رأى المطر قال: ((اللَّهُمَّ صيِّبًا نافعًا))؛ أخرجه البخاري[17].
ويسن للعباد أن يصيبوا من ماء المطر، قال أنس - رضي الله عنه -: "أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطر فحسر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبَهُ حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لِمَ صَنَعْتَ هذا؟ قال: ((لأنه حديثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ - تعالى -))؛ أخرجه مسلم[18].
والغيث رحمةٌ، فكان وقتُ نزولِه وقت إجابة لمن دعا فيه؛ كما جاء في الحديث «اطلبوا استجابةَ الدعاء عند التقاءِ الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث» مرسل صحيح أخرجه البيهقي وغيره[19].
أيها الإخوة: هذا بعض ما يقالُ في هذه السنة العظيمة التي فرط فيها كثيرٌ من الناس كما فرَّطوا في غيرها من الواجبات والمندوبات، نسأل الله - تعالى - لنا ولهم الهداية والتوفيق والسداد، وصلاحَ القلوبِ والأعمال إنه سميع مجيب، ألا وصلوا وسلموا على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم بذلك رب العزة والجلال.
---
[1] وذلك في كتاب الاستسقاء من صحيحه، انظره مع "الفتح" (2/581).
[2] هذه الرواية أخرجها البخاري في التفسير باب: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدُخان: 13] (4823).
(/9)
[3] أخرجه البخاري في الاستسقاء؛ باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط (1020)، ومسلم في صفات المنافقين؛ باب الدخان (2798)، والترمذي في التفسير؛ باب ومن سورة الدخان (3251)
[4] كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند ابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها باب ما جاء في الدعاء في الاستسقاء (1270)، قال البوصيري في "الزوائد": إسناده صحيح ورجاله ثقات (1/417-418).
[5] كما في حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - عند أبي داود في الصلاة باب رفع اليدين في الاستسقاء (1169)، والبيهقي في "الكبرى" (3/355)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/327).
[6] كما في حديث عمير مولى أبي اللحم عند أحمد (5/223)، وأبي داود في الصلاة باب رفع اليدين في الاستسقاء (1168)، والترمذي في أبواب الصلاة باب ما جاء في صلاة الاستسقاء (557)، والنسائي في الاستسقاء باب رفع الإمام يده في الاستسقاء (3/159)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/327).
[7] كما في حديث استسقائه في غزوة تبوك الذي رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأخرجه البيهقي في "الكبرى" (9/357)، وفي "الدلائل" (5/231)، وصححه ابن حبان (1370)، والحاكم وقال: على شرطهما (1/159)، وقال ابن كثير في "السيرة": إسناده جيد (4/16)، وعزاه الهيثمي للبزار، والطبراني في "الأوسط" وقال: ورجال البزار ثقات (6/194-195)، وعزاه الحافظ في "مختصر زوائد البزار" لابن خزيمة (1406).
[8] أخرجه أبو داود في الصلاة باب رفع اليدين في الاستسقاء، وقال: هذا حديث غريب إسناده جيد (1173)، وأبو عوانة في "مسنده" (2519)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/325)، وفي "شرح المشكل" منها (4505)، والحاكم وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي (1/328)، وصححه ابن حبان (991) و(2860)، والنووي في "الأذكار"، وأبو علي ابن السكن كما في "التلخيص الحبير" (1/149).
(/10)
[9] أخرجه مالك في "الموطأ" (1/191)، والبخاري في مواضع من صحيحه وهذا اللفظ بتمامه في الاستسقاء باب من تمطَّر في المطر حتى يتحادر على لحيته (1033) والروايتان للبخاري أيضًا انظر: "فتح الباري" (2/585)، ومسلم في الاستسقاء باب الدعاء في الاستسقاء (897)، وأبوداود في الصلاة باب رفع اليدين في الاستسقاء (1174)، والنسائي في الاستسقاء باب متى يستسقي الإمام (3/154).
[10] أخرجه أحمد في "الزهد" (87)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (10/312)، وعبدالرزاق (3/95)، والطبراني في "الدعاء" (967)، والدارقطني في "الاستسقاء" من سننه (2/53) برقم (1779)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (875)، وأبونعيم في "الحلية" (3/101)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/65)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/326).
[11] انظر: "المغني" لابن قدامة (3/334)، وقد حكى الإجماع على سنيتها ابن عبدالبر فقال: "أجمع العلماء على أن الخروج للاستسقاء والبروز عن المصر والقرية إلى الله – عز وجل - بالدعاء والضراعة في نزول الغيث عند احتياجه سنة مسنونة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعملها الخلفاء من بعده". ا. هـ من الاستذكار (7/131).
[12] انظر: "الروض المربع مع حاشية ابن قاسم" (2/545).
[13] قاله ابن قدامة في "المغني" (3/335).
[14] انظر: "المغني" (3/335).
[15] انظر: "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (5/275).
[16] أخرجه ابن ماجه في "الفتن" باب العقوبات من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - (4019)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/333)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (4/540)، وقال البوصيري في "الزوائد": هذا حديث صالح العمل به (3/246)، وله شاهد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه الطبراني في "الكبير" (11/45)، وله شاهد آخر من حديث بُرَيْدَة مرفوعًا أخرجه البيهقي في "الكبرى" (3/346)، والحاكم وصححه وقال: على شرط مسلم ووافقه الذهبي (2/126).
(/11)
[17] أخرجه أحمد (6/41)، والبخاري في الاستسقاء باب ما يقال إذا أمطرت (1032)، والنسائي في "الاستسقاء" باب القول عند المطر (3/133)، وابن ماجه في "الدعاء" باب ما يدعو به الرجل إذا رأى السحاب والمطر (3890).
[18] أخرجه مسلم في "الاستسقاء" باب الدعاء في الاستسقاء (898)، وأبو داود في "الأدب" باب ما جاء في المطر (5100)، والبغوي في "شرح السنة" (1171)، والحاكم وصححه على شرط مسلم (4/285)، وهذا من أوهامه - رحمه الله - تعالى -؛ لأن مسلمًا خرّجه في الصحيح.
[19] أخرجه الشافعي في "الأم" (1/253)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار" (7236) مرسلاً عن مكحول، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1026).
(/12)
العنوان: الحث على الإيمان بأسماء الله
رقم المقالة: 618
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي كتب الإيمان في قلوب المؤمنين حتى شاهدوا بعين البصيرة ونور العلم ما كان غائباً عن العيون وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي الكامل في حياته العليم الكامل في علمه القدير الكامل في قدرته فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله إمام المتقين وخاتم النبيين وسيد الموقنين آمن فأيقن وعمل فأتقن واستمر على ذلك حتى أتاه اليقين فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وآمنوا به وحققوا ايمانكم بمعرفة ربكم بأسمائه وصفاته وأفعاله وبالعمل بما تقتضيه وتوجبه تلك الأسماء والصفات آمنوا بأن الله حي قيوم حياته كاملة لم يسبقها عدم ولا يلحقها فناء فكل شيء هالك إلا وجهه فهو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء هو قيوم السماوات والأرض قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد من خلقه وفي الحديث الصحيح أنه تبارك وتعالى يقول: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) وهو الذي قامت السماوات والأرض بأمره ولم يستغن عنه أحد من خلقه فالعباد مضطرون إليه في جميع أحوالهم وأوقاتهم لا غنى لهم عن ربهم طرفة عين.
(/1)
آمنوا بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء حفيظ رقيب وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] فجميع حركاتكم وسكناتكم وأقوالكم وأفعالكم معلومة عند ربكم محفوظة لكم مسجلة عليكم في كتاب مبين. فحققوا رحمكم الله الإيمان بهذه الصفة صفة العلم حققوها تحقيقاً عملياً تطبيقياً كما أنكم مأمورون بتحقيقها تحقيقاً علمياً. فإذا علمتم أن الله يعلم سركم وجهركم ويحفظ ذلك لكم فإن مقتضى ذلك أن تعبدوه سراً وجهراً وأن تقدموا طاعته وخشيته على كل خشية وشريعته على كل شريعة ونظام.
أيها المسلم: ربما تعصي الله جهاراً علناً من غير مبالاة وربما تعصي الله سراً وخفاء خوفاً أو حياء من الناس فاعلم أنك في كلتا الحالتين لا تخفى على الله حالك وأن الله يعلم بك ويسمع ما تقول ويرى ما تفعل ويحفظ ذلك في كتاب مبين. فهل يليق بك أن تعصيه بعد ذلك بمخالفة أمره أو ارتكاب نهيه.
(/2)
عباد الله: آمنوا بأن الله على كل شيء قدير وأنه جواد كريم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44] فهو قدير على تغيير الأمور وتحويلها وعلى منع الأمور وتيسيرها. قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وكأين من آية في السماوات والأرض تبرهن على قدرته وأن جميع الأمور بيده فإذا حققتم ذلك أوجب لكم أن تعلقوا رجاءكم به عند الشدائد وأن تسألوه ما تحبون عند المطالب وأن تعلموا أن قدرته وإرادته فوق الأسباب وكم من أمور حدثت مع استبعاد الناس حدوثها وكم من أمور عدمت مع استبعاد الناس عدمها كل ذلك دليل على أن قدرته فوق كل تقدير وتدبيره فوق كل تدبير.
عباد الله: آمنوا بأن الله حكيم يضع الأمور في مواضعها فلم يخلق خلقاً عبثاً ولم يشرع شرعاً سفهاً فكل ما قضاه وقدره فلحكمة وكل ما شرعه لعباده من أمر ونهي فلحكمة فإذا آمنتم بذلك حق الإيمان أوجب لكم أن تقفوا عند أفعال الله وأحكامه وأن لا تعترضوا على شرعه وخلقه وأن تتأدبوا بالأدب الواجب تجاه حكمة الله فإن تبينت لكم الحكمة فذلك من فضل الله ومن نعمته وإن لم تتبين لكم الحكمة فكلوا الأمر إلى العليم الحكيم واعرفوا كمال علم الله وحكمته ونقص علمكم وحكمتكم وقولوا رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا. كيف يعترض على شرع الله من كان مؤمناً بالله وعلمه وحكمته.
(/3)
أيها المسلمون: آمنوا بأن الله حكم عدل قهار فإذا حققتم الإيمان بذلك أوجب عليكم الإنصاف من أنفسكم والامتناع عن الظلم لأن فوق أيديكم يد الواحد القهار واعلموا أن لكم موقفاً بين يدي الله عز وجل يقضي فيه للمظلوم من الظالم حتى يتمنى القاضي العادل أنه لم يقض بين اثنين في تمرة لما يرى من أخذ الظلمة فيخاف أن يكون قد ظلم فيتمنى أن يكون قد سلم لكن القاضي العادل الذي علم الحق فقضى به ليس عليه إثم ولا وبال بل هو في الجنة وغير القاضي من الولاة مثله فليحذر من ولاه الله على شيء أن يظلم وليتذكر أن الله حكم عدل قهار. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، بارك الله لي ولكم.. الخ.
(/4)
العنوان: الحث على الجمعة والجماعة
رقم المقالة: 697
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الحكيم في خلقه، وأمره القوي في أخذه، وقهره شرع لعباده الشرائع لينالوا بها أعلى الدرجات، وينجوا بها من الهلاك والدركات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذوالفضل العظيم، والخير العميم، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأقيموا الصلاة، فإنها عمود الدين، وهي العهد الذي بين المؤمنين والكافرين، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة أقيموها بفعلها في وقتها بجميع أركانها وواجباتها وشروطها اطمئنوا فيها في القراءة والركوع والسجود والقيام والقعود، فلا صلاة لمن لا طمأنينة له، فالمصلي قائم خاشع بين يدي ربه، وكلما كان الإنسان أعظم راحة وفرحاً بالصلاة كان إيمانه أكمل، ولذلك كانت الصلاة قرة عين النبي - صلى الله عليه وسلم - وراحة قلبه، أقيموا الصلاة، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد، وأدوا الصلاة جماعة في المساجد، فإن ذلك من واجبات الصلاة كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة: قال الله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} وأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الجماعة في أصحابه وهم في الحرب عند التقاء الصفوف، ((وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن أعمى جاءه، وليس له قائد يقوده إلى المسجد، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب))، ((وأخبر أن أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، وأنهم لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، وإن أحدهم لو يعلم أنه يجد عرقاً سميناً، وهوالعظم عليه بقية اللحم، أو مرماتين حسنتين، وهما ما بين ظلفي الشاة، أو أضلاعها لشهد العشاء))، فالمنافق تثقل عليه صلاة الجماعة لكن لو يجد شيئاً زهيداً من الدنيا لبادر إليه وذلك؛ لأنه لا إيمان في قلبه، ولو كان مؤمناً لبادر إلى فضل الآخرة، وسارع إليه؛ لأن الآخرة هي المآل، وهي المستقبل، فاحذروا أيها المسلمون من صفات المنافقين، وجاهدوا أنفسكم على الطاعات، ومرنوها عليها تكونوا من المفلحين، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو
(/2)
أنكم صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر، فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، أومريض، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين، حتى يقام في الصف هكذا حال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتخلف منهم أحد عن صلاة الجماعة إلا بعذر، ومن تخلف بلا عذر، فهو معلوم النفاق عندهم، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً الصبح، فقال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولوعلمتم ما فضيلته لابتدرتموه)). وهذ حديث صحيح. أيها المسلمون حافظوا على صلاة الجمعة، وإياكم والتهاون بها، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)). وقال: ((من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه)). ولقد كان بعض الناس يخرجون بأهليهم أو مع أصحابهم في هذا اليوم المبارك الذي من الله به على أمة محمد، وأضل عنه اليهود والنصارى، فيفوتون صلاة الجمعة، وهؤلاء قد عرضوا أنفسهم لعقاب الله، وسخطه، فليحذروا ذلك، فليحذروا ذلك، فليحذروا ذلك، ((ولقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الراعي يتخذ الغنم على رأس ميل أو ميلين، فيتعذر عليه الكلأ، فيرتفع، ثم تجيء الجمعة، فلا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها حتى يطبع على قلبه))، فهؤلاء الذين يخرجون إلى البر في يوم الجمعة إن كانوا يصلون الجمعة في بلدهم أو غيرها، فقد أدوا ما بينهم وبين الله، ولكنهم قد عرضوا أنفسهم لكلام الناس فيهم، وإن كانوا لا
(/3)
يصلون الجمعة، ولا يبالون بها، فما أعظم خسارتهم لقد فوتوا الخير الكثير، وعرضوا أنفسهم للعذاب الأليم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9،10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.
(/4)
العنوان: الحث على الصلاة وأدائها جماعة
رقم المقالة: 692
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي فرض الصلاة على العباد رحمة بهم وإحساناً، وجعلها صلة بينهم وبينه ليزدادوا بذلك إيماناً، وكررها كل يوم حتى لا يحصل الجفاء، ويسرها عليهم حتى لا يحصل التعب والعناء، وأجزل لهم ثوابها، فكانت بالفعل خمسا وبالثواب خمسين فضلاً منه وامتناناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالقنا ومولانا، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أخشى الناس لربه سراً وإعلاناً الذي جعل الله قرة عينه في الصلاة، فنعم العمل لمن أراد من ربه فضلا ورضواناً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً.
(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين. عباد الله الصلاة عمود دينكم وقوامه، فلا دين لمن لا صلاة له، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، إقامة الصلاة إيمان، وإضاعها كفر، من حافظ عليها كانت له نورا في قلبه ووجهه وقبره وحشره، وكانت له نجاة يوم القيامة، وحشر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور، ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف. أيها المسلمون كيف تضيعون الصلاة، وهي الصلة بينكم وبين ربكم إذا لم يكن بينكم وبين ربكم صلة، فأين العبودية، وأين المحبة لله والخضوع له لقد خاب، وخسر قوم إذا سمعوا داعي الدنيا وزهرتها لبوا سراعاً، وإذا سمعوا منادي الله يدعو: حي على الصلاة، حي على الفلاح تغافلوا عنه، وولوا دبارا. أيها المسلمون، ألم تعلموا أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله. يا أمة محمد من منكم عنده أمان من الموت حتى يتوب، ويصلي، أليس كل منكم يخشى الموت ولا يدري أيصبحه أم يمسيه، ألم يكن الموت يأخذ الناس بغتة وهم لا يشعرون، أما هجم على أناس وهم في دنياهم غافلون، أما بغت أناساً خرجوا من بيوتهم، ولم يرجعواً، فمن منكم أعطى أماناً ألا يكون حاله كهؤلاء. أيها المسلمون وماذا بعد هذا الموت الذي لا تدرون متى يفجؤكم؟ لا شيء بعده سوى الجزاء على ما قدمتم إما خير، فتسرون به، وإما شر فتساؤن به، وتندمون، فإن الإنسان إذا مات انقطع عمله، ولم يبق إلا الجزاء.
(/2)
أيها المسلمون، إذا كنتم تعترفون بذلك، ولا تنكروه، أفليس من الجدير بكم أن تبادروا التوبة إلى ربكم والرجوع إليه، والقيام بطاعته واجتناب معصيته. أيها المسلمون، أيها المؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل إليه من ربه إن مما هو واجب عليكم في صلاتكم أن تؤدوها في المساجد جماعة مع المسلمين، فإن ذلك من واجباتها، ومن إقامتها، ومن حفظها المصلي مع الجماعة قائم بما فرض الله عليه والمتخلف عن الجماعة بلا عذر عاص لربه مخاطر بصلاته، فإن بعض علماء المسلمين يقول: من ترك الصلاة مع الجماعة بدون عذر، فصلاته باطلة لا تبرأ بها ذمته.
(/3)
والمصلي في الجماعة هو الكيس الحازم الحائز للغنمية، فإن الصلاة مع الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، والمتخلف عن الجماعة كسول مهمل محروم، وما أشبه حاله بحال المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى}. وقال فيهم نبيه - صلى الله عليه وسلم -: ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، والذي نفس محمد بيده لو يجد أحدهم عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء والعرق عرموش العظم)). والمرماة ما بين الضلعين من اللحم والمعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن هؤلاء المنافقين لو يعلمون أنهم يجدون شيئاً حقيراً من الدنيا لسارعوا إليه، والواقع أن حال كثير من هؤلاء المتخلفين هي كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حال المنافقين، فإن أحدهم لو كان له شغل من الدنيا وقت طلوع الفجر لوجدته يرقب النجوم، ويعد الساعات لعله يأتيه هذا الموعد. المصلي مع الجماعة يصليها بنشاط وطمأنينة، فإن الناس بلا شك ينشط بعضهم بعضاً على العبادة والمتخلف عن الجماعة تثقل عليه الصلاة، فيصليها بكسل، وإسراع ينقرها نقر الغراب، وربما آخرها عن وقتها هو الخسار والدمار. صلاة الجماعة تجلب المودة والألفة والاتفاق، وتنير المساجد بذكر الله، وتظهر فيها شعائر الإسلام في صلاة الجماعة تعليم الجاهل وتذكير الغافل وعدد من المصالح الدينية والدنيوية. أرأيتم لو لم تكن الجماعة مشروعة، وسبحان الله أن يكون ذلك، فماذا تكون الحال؟ إن الحال أن تكون الأمة متفرقة والمساجد مغلقة والناس ليس لهم مظهر جماعي في دينهم، ولكن الحمد لله الذي شرعها، وأوجبها على المسلمين، فاشكروا ربكم أيها المسلمون على هذه النعمة، وقوموا بهذا الواجب، واخجلوا من إضاعتها، واحذروا من عقاب ربكم وسطوته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا
(/4)
الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
(/5)
العنوان: الحث على العلم والعمل به
رقم المقالة: 607
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، والحمد لله الذي فضل العلم على الجهل، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم بمن يصلح للعلم والدين، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، القائل: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
(/1)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتعلموا أحكام شريعته بطلب العلم النافع، فإن العلم نور وهدى، والجهل ظلمة وضلال، تعلموا ما أنزل الله على رسوله من الوحي، فإن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء ما ورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر من ميراثهم، تعلموا العلم فإنه رفعة في الدنيا والآخرة، وأجر مستمر إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له)) انظروا إلى آثار العلماء الربانيين لم تزل موجودة إلى يومنا هذا طوال الشهور والسنين، آثارهم محمودة وطريقتهم مأثورة، وذكرهم مرفوع، وسعيهم مشكور، إن ذكروا في المجالس ترحم الناس عليهم ودعوا لهم، وإن ذكرت الأعمال الصالحة والآداب العالية فهم قدوة الناس فيها. أيها الناس تعلموا العلم واعملوا به فإن تعلم العلم جهاد في سبيل الله والعمل به نور وبصيرة من الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
(/2)
أيها الناس: إننا على أبواب عام دراسي جديد يستقبل فيه المتعلمون ما يلقى إليهم من العلوم ويستقبل فيه المعلمون من يتلقى عنهم العلوم والآداب والأخلاق، فيا ليت شعري ماذا أعد كل واحد منهم لما يستقبله؟ إن على المتعلمين أن يعدوا لهذا العام الجد، والنشاط، وأن يحرصوا ما استطاعوا على تحصيل العلم من كل طريق وباب، وأن يبذلوا غاية الجهد لرسوخ العلوم في قلوبهم فيجتهدوا عليها من أول العام ففي ذلك سبب لرسوخ العلم وتيسير حصوله لأنه إذا اجتهد من أول العام أخذ العلم شيئاً فشيئاً فسهل عليه وأما إذا توانى في أول السنة فإنه يصعب عليه بعد ذلك وتتراكم عليه العلوم ويكون تصوره لها تصوراً سطحياً لا يرسخ في قلبه ولا يبقى في ذهنه وإن من واجب المتعلم إذا أحاط علماً بالمسألة أن يطبقها على نفسه ويعمل بها ليكون علمه نافعاً له فإن العلم النافع هو ما طبقه الإنسان عملياً والعمل بالعلم هو ثمرة العلم ولجاهل خير من عالم لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فإن العلم سلاح فإما أن يكون سلاحاً لك على عدوك وإما أن يكون سلاحاً عليك أيها المتعلم إذا علمت مسألة دينية فاعمل بها وإلا فما فائدة العلم أرأيت لو أن شخصاً تعلم الطب ولكن لم يتطبب ولم يعالج نفسه ولا غيره فما فائدة علمه إذن فهكذا العلوم الشرعية إذا لم تطبقها بل هي أبلغ فإنك إذا عملت بها كانت أنفع العلوم وإن خالفتها كانت حجة عليك. أيها المعلمون إن عليكم لأمتكم ومن يتعلمون منكم حقوقاً عظيمة فقوموا بها لله مخلصين وبه مستعينين ولنفع أبنائكم ومن يتلقون العلم منكم قاصدين أخلصوا في التعليم واسلكوا أسهل السبل وأقربها للتفهيم ونزلوا الفصول منازلها فليس تعليم المنتهين مثل المبتدئين وعليكم أن تمثلوا أمام الطلبة بكل خلق فاضل كريم وأن تتجنبوا كل خلق سافل لئيم فإن المتعلم يتلقى من معلمه الأخلاق كما يتلقى منه العلوم ووجهوا أبناءكم الطلبة في كل مناسبة ترون فيها الفرصة لذلك فإن المعلم
(/3)
الناصح من يجمع بين التعليم والتربية الحسنة والله يحب المحسنين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم:1،2]. بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم .
(/4)
العنوان: الحث على زيارة مسجد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -
رقم المقالة: 1737
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
الحث على زيارة مسجد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم -
الحمد لله فاطر السموات والأرض ، أحمده سبحانه ، وهو للحمد أهل ، وأشكره وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ، أرسله الله بالحق بشيرًا ونذيرًا .
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد : فالكثير من الحجاج يرغبون في السفر إلى المدينة ، لزيارة مسجد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بها ، وقد جاء عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في الترغيب في ذلك قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « صلاة في مسجدي هذا ، خير من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام » ، فزيارة المسجد النبوي للصلاة فيه ، مستحبة ومرغب فيها ، فالقصد من الزيارة وشد الرحال إلى المدينة هو المسجد النبوي .
(/1)
أما القبر الشريف فلا يجوز قصده وحده بسفر ، ولا شد الرحل إليه ، لأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قد نهانا عن ذلك ، كما نهانا أن نتخذ قبره عيدًا ، نعتاد زيارته في أوقات معينة ، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى » ، وجاء عن علي بن الحسين رضي الله عنه ، أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، فيدخل فيها ، فيدعو ، فنهاه ، وقال : ألا أحدثكم حديثًا عن أبي ، عن جدي ، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه قال : « لا تتخذوا قبري عيدًا ، ولا بيوتكم قبورًا ، وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » ، فالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، نهانا بهذا الحديث أن نجعل قبره عيدًا نعتاده في وقت معين كرجب مثلًا ، وقد خص الله نبيه من دون الناس ، بأن صلاة المصلي عليه وسلامه ، يبلغه ولو لم يكن المسلم عند قبره ، أو في المدينة ، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : « وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » .
فالزيارة إذن ، ليست واجبة ، وليست من لوازم الحج كما يظنه البعض من الناس ، وقد شاع بين العوام أحاديث في زيارة قبر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، حتى ظنوها أحاديث صحيحة ، فهم لذلك يتكبدون المشاق في الزيارة ، ويظنون أن زيارة المدينة من تمام الحج ، فمن الأحاديث الشائعة المكذوبة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : " من زارني بعد موتي ، فإنما زارني في حياتي . من زار قبري وجبت له شفاعتي . من حج ولم يزرني فقد جفاني " ، وأمثالها لم تصح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ولم تثبت ، وأهل العلم عدوها من الموضوعات المختلقة .
(/2)
فعلى من أراد الزيارة : أن يقصد المسجد النبوي بزيارته ، ثم يصلي فيه ما تيسر ، ثم يسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إن أراد بأدب واحترام ، وعدم رفع الصوت ، فإن رفع الصوت بالسلام والضجيج ليس من الأدب المطلوب عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ، ثم يسلم على صاحبيه أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، ثم ينصرف ولا يستقبل القبر عند الدعاء ، ومن لم يتيسر له الزيارة ، فلا حرج عليه ، وحجه تام ، وقد أدى ما عليه ، إذ لم يوجب الله ولا رسوله إلا حج بيته الحرام .
ومن أتى المدينة وصلى في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - استحب له أن يصلي في مسجد قباء ويزور قبور أهل البقيع واحدًا واحدًا ولا يشرع تتبع المساجد التي هناك ، رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أناسًا يذهبون إلى مكان فقال أين يذهب هؤلاء قالوا إلى مكان صلى فيه رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال منكرًا فعلهم : ومكان صلى فيه رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ؟ ! تريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد إنما هلك من كان قبلكم بهذا .
وفقني الله وإياكم للأعمال الصالحة ، وجعل أعمالنا مقبولة نافعة ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم . (1)
_________
(1) انظر من أحاديث المنبر لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ ص 167 .
(/3)
العنوان: الحج المبرور وعلامات القبول
رقم المقالة: 1700
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
الحج المبرور وعلامات القبول
أخي الحاج، كيف يكون حجك مبرورًا تحقيقًا لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))؟
فأقول - وبالله التوفيق -: الحج المبرور هو الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، وله علامات يتحقق بها بر الحج، كما أن هناك أمورًا تنافي ذلك، والناس يتفاوتون في حجهم تفاوتًا عظيمًا، على حسب قربهم وبعدهم من هذه الصفات والعلامات.
وأول الأمور التي يكون بها الحج مبرورًا إخلاصُ العمل لله: وهو ميزان الأعمال وأساس قبولها عند الله؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغِيَ به وجْهُه، فعليك - أخي الحاج - أن تفتش في نفسك، وأن تتفقد نيتك، ولتحذر كل الحذر من أي نية فاسدة تضاد الإخلاص، وتحبط العمل، وتذهب الأجر والثواب؛ كالرياء والسمعة وحب المدح والثناء والمكانة عند الخلق، فقد حج نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم ثم قال: ((اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة))؛ كما عند ابن ماجة.
المتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم –: فيجب على الحاج أن يحرص على أن تكون أعمال حجه موافقة لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولن يتم لك ذلك إلا بتعلم صفة حجه - عليه الصلاة والسلام - فهو القائل كما في حديث جابر - رضي الله عنه -: ((لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه))؛ رواه مسلم.
الإعداد وتهيئة النفس قبل الحج: وذلك بالتوبة النصوح، واختيار النفقة الحلال والرفقة الصالحة، وأن يتحلل من حقوق العباد، إلى غير ذلك مما هو مذكور في آداب الحج.
(/1)
طِيب المعشر، وحسن الخلق، وبذل المعروف، والإحسان إلى الناس بشتى وجوه الإحسان؛ من كلمة طيبة، أو إنفاق للمال، أو تعليم لجاهل، أو إرشاد لضال، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وقد كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "إن البر شيء هين: وجه طليق، وكلام لين".
ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج -كما يقول ابن رجب - ما وصَّى به النبي - صلى الله عليه وسلم- أبا جُرَيٍّ الهُجَيْمِي حين قال له: ((لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أن تُفرِغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض))؛ رواه أحمد.
(/2)
ومنها الاستكثار من أنواع الطاعات، والبعد عن المعاصي والمخالفات، فقد حث الله عباده على التزود من الصالحات وقت أداء النسك، فقال – سبحانه - في آيات الحج: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، ونهاهم عن الرفث والفسوق والجدال في الحج فقال - عز وجل -: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه))؛ متفق عليه، والرفث: هو الجماع وما دونه من فاحش القول وبذيئه، وأما الفسوق: فقد رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغير واحد من السلف أنه المعاصي بجميع أنواعها، والجدال: هو المِراء بغير حق، فينبغي عليك - أخي الحاج - إذا أردت أن يكون حجك مبرورًا أن تلزم طاعة ربك، وذلك بالمحافظة على الفرائض، وشغل الوقت بكل ما يقربك من الله - جل وعلا - من ذكر ودعاء وقراءة قرآن، وغير ذلك من أبواب الخير، وأن تحفظ حدود الله ومحارمه، فتصون سمعك وبصرك ولسانك عما لا يحل لك.
أن يستشعر حِكَم الحج وأسراره، وفرقٌ كبير بين من يحج وهو يستحضر أنه يؤدي شعيرة من شعائر الله، وأن هذه المواقف قد وقفها قبله الأنبياء والعلماء والصالحون، فيذكر بحجه يوم يجتمع العباد للعرض على الله، وبين من يحج على سبيل العادة، أو للسياحة والنزهة، أو لمجرد أن يسقط الفرض عنه، أو ليقال: "الحاج فلان"!
أما علامات الحج المبرور فأن يستقيم المسلم بعد حجه فليزم طاعة ربه، ويكون بعد الحج أحسن حالاً منه قبله، فإن ذلك من علامات قبول الطاعة، قال بعض السلف: "علامة بر الحج أن يزداد بعده خيرًا، ولا يعاود المعاصي بعد رجوعه"، وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "الحج المبرور أن يرجع زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة".
(/3)
فاجتهد أخي الحاج في طلبها وتحصيلها؛ عسى أن تفوز بثواب الله ورضوانه، أسأل الله أن يجعل حجك مبرورًا، وذنبك مغفورًا، وسعيك مشكورًا.
(/4)
العنوان: الحج عبادة و ميدان دعوة
رقم المقالة: 1726
صاحب المقالة: الشيخ صالح آل الشيخ
-----------------------------------------
الحج عبادة و ميدان دعوة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في كتابه {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتِ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96]، والحمد لله الذي قال أيضا في كتابه {جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97].
فله الحمد على آلائه حمدا كَثْرا لا ينقطع ما دامت الأنفاس مترددة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن إذا أُعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، وأسأله جل وعلا أن يعيذنا أن نزل أو نزل أو نضل أو نضل أو نجهل أو يجهل علينا.
وهذه دعوة العلماء وطلاب العلم العظيمة؛ أن يستعيذوا بالله من أن يزلوا أو يزلوا أو أن يضلوا أو يضلوا أو يجهلوا و يجهل عليهم.
هذا الموضوع:
موضوع الحج عبادة وميدان دعوة
انبثق من قول الله جل وعلا لإبراهيم عليه السلام {وَأَذِّنْ فِي النَّاِس بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27-28]، وقد تكلَّم أهل العلم من المفسرين وغير المفسرين أنّ الله جل جلاله في هذه الآية جعل العلّة من تأذين إبراهيم في الناس بالحج أن يشهدوا منافع لهم.
وقالوا اللام هنا لام التعليل أي من أجل أن يشهدوا منافع لهم.
وقالوا أيضا (مَنَافِعَ) هنا نُكّرت ولم تعرف ولم تضف إضافة تخصيص؛ وذاك لتكون مطلقة فتكون عامة في أنواع المنافع، فكل منفعة جعلها الله جل وعلا منفعة في الحج فإنها مقصودة.
(/1)
ولهذا اختلف المفسرون في رؤية هذه المنافع، واختلافهم من باب اختلاف التنوع:
فقالت طائفة منهم: إن المنافع في قوله {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أنها التجارة. وذلك منهم نظر إلى قول الله جل وعلا في سورة البقرة {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
وقال آخرون: بل المنافع هي أن يأكلوا من اللحوم وأن يدّخروها وأن يتمونوها؛ لأن الله جل وعلا قال في سورة الحج {وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافّ} [الحج: 36].
وقالت طائفة: المنافع هنا هي العفو والمغفرة والخروج عند الحج من الذنوب كما ولدت الإنسان أمه؛ وذلك لقول الله جل وعلا {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، وما دلت عليه الأحاديث الصحيحة في ذلك منها ما خرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عبدالرحمن بن صخر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد))، وقال أيضا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ: ((العمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))، وقال أيضا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه))، فمعنى ذلك أن الحاج إذا حج فاتقى فلم يرفث ولم يفسق رجع بأعظم المنافع؛ وهي أنه يرجع خاليا من الذنوب، ولاشك أن هذا شهود منفعة عظيمة.
(/2)
ولهذا كان الصحيح من أقوال أهل العلم في قول الله جل وعلا {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} يعني أن الحاج سواء تعجل أو لم يتعجل فتأخر فإنه يرجع من حجه ولا إثم عليه بشرط أن يكون متقيا، لهذا قال بعدها (لِمَنِ اتَّقَى)، فقوله (لِمَنِ اتَّقَى) يرجع إلى نفي الإثم في الموضعين، وليس راجعا إلى نفي الإثم فيما إذا تأخر؛ يعني أن الحاج ينتفع أعظم الانتفاع بأنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه وهذه منفعة عظيمة.
وهذا كله صحيح.
وأيضا مما قيل في تفسير الآية: أن المنافع أن يشهد الحجاج الكعبة وأن شهدوا الطواف والسعي ورمي الجماع وذكر الله جل وعلا، فيقيمَهم ذلك الشهود على توحيد الله جل جلاله؛ لأنهم يرون الكعبة ويتذكرون إبراهيم عليه السلام الذي بناها، فيتذكرون بذلك حق الله جل وعلا الذي هو توحيده سبحانه وخلع الأنداد والبراءة من الشرك وأهله.
ومن المنافع التي تتحصل -كما ذكره الشيخ الشنقيطي في تفسيره-: شهود الأمة بعضهم لبعض، والتقاء المسلمين بعضهم لبعض، وما في ذلك من الوحدة الإسلامية التي جاءت فيها الآية {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] يعني أن الدين واحد، وهذه الأمة إذا التقت على دين واحد واجتمعت على دين واحد فهذا أعظم المنافع.
وهكذا في أقوال كثيرة.
وابن جرير - رحمه الله - إمام المفسرين لما أتى لهذه الآية وساق بعض الأقوال التي ذكرت قال ما حاصله: إن هذه الآية لا يصار فيها إلى قول دون قول؛ بل إن المنافع تشمل ما ذكر وتشمل كل ما فيه منفعة للحاج، فكل ما فيه منفعة للحاج في أمر دينه ودنياه في أمر دنياه وفي أمر آخرته، فإن شهوده ذلك في الحج من مقاصد الحج.
(/3)
وهذا التأصيل مهم حتى نرى أن الله جل جلاله جعل من مقاصد الحج الشرعية أن يشهد الحجاج المنافع لهم، وهذه المنافع منها أن يؤدوا فرضهم، أو أن يؤدوا نفلهم، وأن يرجعوا بالأجر والغنيمة من الخيرات، أو أن يرجعوا بالمال، أو أن يرجعوا وقد خلوا من الذنوب والآثام، وقد التقى بعضهم ببعض إلى آخر ذلك.
فإذن المنافع كثيرة.
وإذا كان كذلك كان من تحقيق المقاصد الشرعية في الحج أن يحقق المسلمون كل هذه المنافع ما استطاعوا، ما كان منها مباحا فهو مباح لهم كالتجارة، وما كان منها مستحبا فهو مستحب لهم كنشر العلم والدعوة وأشباه ذلك، وما كان منها واجبا فهو واجب عليهم وهكذا.
والحاج أيًّا كان يجب عليه أن يكون مخلصا لله جل جلاله في الحج، وقد جاء في الأثر؛ بل في الحديث ((لا تقوم الساعة حتى يكون حج فقراء أمتي للمسألة وحج أغنيائهم للسياحة))، والحج ركن الإسلام الخامس، والإخلاص فيه واجب بل شرط صحته.
ولهذا لما تكلم العلماء على الذين يُستأجرون للحج قالوا: إن من أخذ المال ليحج فإن هذا جائز؛ ولكن من حج ليأخذ المال فهذا الأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق؛ يعني من نصيب.
(/4)
يعني أن المرء إذا أراد أن يحج ولكن ليس عنده نفقه وله رغبة في رؤية الكعبة ورؤية المشاعر والتعرض لنفحات الله في تلك المواقف العظام، وحضور يوم عرفة وشهود تلك الساعة الأخيرة، والقيام بما يتعبد به المسلمون في تلك المناسك والمشاهد العظيمة، ولكن ليس عنده مال، فليس ثَم بأس أن يأخذ من المال ما يعينه على الحج عن نفسه أو عن غيره؛ لكن من ليس له رغبة في الحج أصلا؛ ولكن إنما حج ليأخذ وإنما ليس له رغبة في رؤية الكعبة ولا رؤية المشاعر ولا أن يكون مع المتعبدين هناك، فهذا قال فيه شيخ الإسلام وغيره قال هذا الأشبه -يعني من حج ليأخذ- الأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق. وهذا لأجل أنه فاته الإخلاص لله جل جلاله في هذه العبادة أو ضعف الإخلاص فيه جدا حتى كان رغبته في أمر الدنيا.
(/5)
التجارة أُبيحت في الحج، ولو كان الحاج ذهب ليتاجر فليس عليه جناح، كما قال جل وعلا {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَات} [البقرة: 198] الآية، قال العلماء: إرادة الأمر الدنيوي فيما يراد به وجه الله جل وعلا إذا كان مأذونا به من جهة الشارع فلا يُعَدُّ قصده إخلالا بالإخلاص، ولا يدخل ذلك في قول الله - جل وعلا - في سورة هود: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّار} [هود: 15-16]، وقد ذكر العلماء إمام الدعوة وذكر أبناؤه وتلامذته أربع صور تدخل تحت هذه الآية، وليس منها أن يكون الأمر الدنيوي قد رتّبه الشارع على العبادة، مثل أن يصل رحمه امتثالا لأمر الله؛ ولكن أيضا ليحصل على الثر الذي رغب فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه))، من جاهد لإعلاء كلمة الله ولكن له رغبة في المال فهذا قد حث عليه - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ – فقال: ((من قتل قتيلا فله سلبه)) ترغيبا في أن يقاتل وأن يجاهد ولكن يكون قصده الله جل وعلا ويكون هذا معه.
وكذلك من أراد بالحج أن يكون حاجا أو أن يتعبد؛ ولكن مع ذلك أن يربح ما يربح من التجارة فلا بأس بذلك ولا يعد ذلك منافيا لإخلاص لأن الله جل جلاله أذن بذلك وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}، بخلاف الذي ليس له همة في الحج إلا أن يكون رابح للمال فلم يقصد أن يتقرب إلى الله بالحج وإنما قصده إلى المال فهذا الشبه أن يكون ممن يريد حرث الدنيا.
(/6)
المنافع كثيرة ولهذا نقول: إذا تحقق الإخلاص ورام العبد الحج فلا بد أن يرتب نفسه في أن يكون ممن تعرَّض لهذه المنافع العظيمة التي هي مقصد الحج، فيكون متعرِّضا من أول ما يذهب مستحضرا أن يرجع من حجه وقد خلا من الذنوب، ((من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) والحج حج البيت يبدأ من قصدك البيت؛ لأن الحج في اللغة هو القصد المكرر لمكان معظم.
إذا كان كذلك فمنذ أن تذهب للحج تكون أول منفعة تريد أن تشهدها وتحظى بها أن ترجع وقد خلوت من الذنوب، والحج المبرور يكفر ذنوب السنة التي سلفت.
الحج المبرور: يعني الذي ليس فيه معصية -يعني من الكبائر أو من إدمان الصغائر-.
فإذا كان كذلك كان أول منفعة يجب أن نشهدها أن تخلى من الذنوب والمعاصي، وأن نسعى في أن لا نرفث ولا نفسق.
الرَّفَثُ: اسم جامع للحديث مع النساء، قد يكون الحديث عن مقدمات الجماع، أو قد يكون في تبسيط المرأة، أو قد يكون في الحديث مع المرأة، إلى آخر ذلك، فكل ما يتعلق على الحديث مع النساء مما يكون معه شهوة، فإن ذلك من الرفث، واجتنابه مما هو مؤكد في الحج.
وهذه الوصية أو هذه المنفعة تحتاج إلى تواصٍ بها وإلى دعوى إليها؛ لأن كثيرين يحجون ويكثرون في حجهم من الرفث، يكثرون من المزاح، يكثرون من القيل والقال وكأنهم في زمن لهو، وهذا لاشك من تعريض الحاج نفسَه لعدم شهود هذه المنفعة العظيمة؛ لأنه لابد من التقوى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203].
من منافع الحج العظيمة التي تشملها هذه الآية أن يتعلم الحجاج ما به تكون منفعتهم في الآخرة.
أما به منفعتهم في الدنيا فالناس تقريبا أساتذة في ذلك.
لكن ما به تكون منفعتهم في الآخرة هذا الذي الناس اليوم بأشد الحاجة إليه، وإذا كان زمن الحج قصيرا، فإن الواجب أن يكثف العبد جهده في الحج في التعليم؛ تعليم الجاهل وفي تبصير الغافل وما أشبه ذلك.
والتعليم هو الذي تحتاجه أن تبثه في الحجاج.
(/7)
ولهذا أطرحُ رأيا لعله أن يكون مجالا للتطبيق لكل من يذهب إلى الحج ويكون عنده فضل علم في أن يبلغ هذا العلم؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - نادى في الناس يوم عرفة فقال ((اللهم هل بلغت اللهم فاشهد))، وقال ((نضَّر الله امرؤا سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى له من سامع)).
فتبليغ العلم هذا من الضروريات، وأين تجتمع لك هذه الأمم وهذه الوفود حتى تكون في مكان واحد فتسعى فيها بالعلم؟
ولهذا من الغريب أن يكون ثم من طلبة العلم أو من الحجاج الذي عندهم فضل علم، بينهم أو فيما حولهم مخيمات كثيرة فيهم من المسلمين من هو جاهل بأمر التوحيد وأمر العقيدة -يعني العقيدة العامة- وكذلك بأمر العبادة وأمور أركان الإسلام والمعاملات إلى آخره.
وأعظم ذلك أمر العقيدة، لهذا لو توطن نفسك على أن تكون في هذه الحجة أن تكون في بعد ما فرض ناشرا للعلم ومعلما للجاهل، وقد ذكر أهل العلم أن طلب العلم وتعليم العلم أفضل النوافل، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد، فأفضل نوافل العبادات طلب العلم وتعليم العلم، ولهذا لما انصرف الناس عن الإمام مالك فذهبوا يصلون وهو يتحدث يحدث الحديث ويبين العلم قال: ما الذي ذهبوا إليه بأفضل مما تركوه.
فأنت قد تختار في الحج أن تكون مثلا ذاكرا أو أن تكون تاليا، وهذا أفضل إذا لم تكن المنفعة عندك متعدية يعني لم يكن العلم عندك واسعا فتستطيع أن تؤديه لغيرك، أما إذا كنت طالب علم فإن الأفضل في حقك أن تسعى في تبليغ العلم؛ في تبليغه في أصل الأصول وهو العقيدة.
(/8)
ولهذا الأخ الإمام لما تكلم في أول الكلمة وقال: إن المسلمين في هذه الأزمان يحتاجون أشد الحاجة إلى أن يعلَّموا وأن يدعوا وهذا أمر متفق عليه، والحج هو الميدان الأول، والبلاء الذي أصاب المسلمين ليس من جهة عدو خارجي فحسب؛ بل البلاء من شيء بينهم في أنفسهم من الإضلال عن العقيدة الصحيحة وعن التوحيد الخالص، فهناك من شبه لهم في أمر الاعتقاد، وهناك من شبه عليه في أمر التوحيد، فجعلهم يسعون في عبادة غير الله، وجعلهم لا ينكرون البدع، وجعلهم لا يفرحون بالسنن، إلى آخر ما هنالك.
وهذا من البلاء الذي تولَّد في الأمة من جراء دعاة الباطل فيها من قرون.
ولهذا أعظم ما يدعى إليه بالاتفاق العقيدة، فالعقيدة أولا لأنها هي الواجب الأول، فلهذا لو عملنا شيئا من التركيز في أن ينطلق كل أصحاب حملة، وأن لا يتكلموا طول الوقت مع أنفسهم أو يأتوا يحضرون يسمعون كلمات تلقى في الحملات مثلا أو تلقى في المخيمات ربما كانت كلمات يمكن أن يسمعوها في غير هذا الوقت؛ لكن الأهم في ميدان الحج أن يكون العلم الصحيح الذي معك في العقيدة بأدلتها، في العبادات بأدلة ذلك مما تيقنت منه وليس عندك فيه شك أو شبهة أن تبلغه لمن هو جاهل.
المسلمون اليوم ليسوا بحاجة إلى تفريعات، المسلمون اليوم بحاجة إلى أن يعلموا ألف باء في العقيدة والتوحيد، يعلمون أوائل ومقدمات ومهمات الإخلاص، والعبادة والديمومة لله جل وعلا وحده دونما سواه، وذلك لأن الشرك فشى في الناس الشرك الأصغر والأكبر.
فلهذا كان من المتأكَّد شهودا للانتفاع وإشهاد له وانتقالا به أن تسعى في تحصيل هذا المقصد العظيم من مقاصد الحَجّ الذي شرعه الله - جل وعلا - في قوله {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} وأن تشهد الناس أعظم منفعة لهم بأن تدله على توحيد الله جل وعلا وأن تعلمهم ذلك.
الحاصل أن الذين يعلمون لتوحيد وينشرون العقيدة في الحج على أقسام:
(/9)
منهم من ينشر ذلك بالإنكار؛ يعني إذا سمع منكرا في العقيدة أو شيء أنكر واشتد وغلظ أو أغلظ في الإنكار على من فعل ذلك، ولا يسعى في التعليم ابتداء، وإنما عنده الإنكار فقط.
وصنف لا يُنكِر ولكنه يعلم.
وصنف ثالث يعمل في ميدان التعليم، وإذا وجد منكرا من المنكرات المتعلقة بالعقيدة أو بالتوحيد أو المتعلقة بالعبادات فإنه ينكر ذلك، وينصح بالأسلوب الحسن الذي معه الانتفاع.
وتذكَّر في هذا كله أن الناس بحاجة دائما إلى أن تمتثل قول الله - جل وعلا -: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]، فأمر جل وعلا أن يقول العباد التي هي أحسن {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فإذا وجدتَ كلمة حسنة وكلمة أحسن منها فقد أمرت بالأحسن فاترك الحسنة إلى الأحسن؛ لأنك لا تتكلم عن نفسك، وإنما تتكلم تريد أن ترغب الناس في دين الله جل جلاله، وهذا يلزمك أن تتلفظ بأحسن الألفاظ، وقد قال جل وعلا {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنْ إِلاَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
فإذن ميدان التعليم في الحج يكون بتعليم الجاهل مع الصبر عليه، فتسعى في ذلك تنتشر من المخيم الذي أنت فيه أو الحملة التي أنت فيها أو المكان الذي أنت فيه، تتفقد من حولك، فتصادق هذا أو تخاطب هذا، وتتعرف عليه وتبدأ تتكلم معه في مناسبات وتتلقف حتى تدخل العقيدة الصحيحة في قلبه.
(/10)
ولا تظن أنك لما أنعم الله جل وعلا عليك بهذه العقيدة الصحيحة أن الآخرين لو تكلمت معهم لن ينتفعوا، هذا من تخييل الشيطان وقد قال الله جل وعلا {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94].
كذلك كنا من قبل في دعوة الإمام المصلح رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة؛ لكن بالتعليم وبالدعوة وبتواصل جهود أهل العلم مع جهود الولاية في هذه البلاد انتشر الخير في الناس.
كذلك هنا ينطبق عليه ما انطبق علينا، فلا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، الكلمة الطيبة صدقة؛ فإذن:
الخطوة الأولى: أن تنتشر من المكان الذي أنت فيه إلى ما جاورك في تعليم لأصول العقيدة، في تعليم لمعنى الشهادتين، في تعليم التوحيد بالأسلوب الحسن وبالأدلة لا تستعجل في الحكم؛ يعني أن تقول له: أن هذا شرك وهذا كفر وهذا ضلال وهذا طاغوت، إلى آخره.
فإن النفوس فيها من عدم الاقتناع بالحق ما يجعلها لا تقبل هذا الأسلوب؛ ولكن قل كما قال المصلحون من قبل مثلا: الله خيرٌ من هذا، إذا سمعت كلمة شركية، أو تأتي بأدلة فيها تحريم دعوة غير الله - جل وعلا -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. وتدخل بالألطف فالألطف حتى تصل معه بعد حين إلى النتيجة.
(/11)
في أمر العقيدة تحتاج معها إلى إيضاح وإلى توسع شيئا فشيئا، ومن المهم أن تكون مقدما للأهم فالمهم، لا تبحث مثلا في الشرك الأصغر، وأنت لم تتيقن من أن الذي أمامك قد كفر بالطاغوت، وقد فهم معنى كلمة التوحيد، هذا يكون من البداءة من المهم؛ ولكن تترك الأهم، وقد قال إمام الدعوة في كلامه على حديث ابن عباس في إرساله معاذ إلى اليمن على قوله ((فليكن أول ما تدعوهم إليه)) قال الشيخ - رحمه الله - في كتاب "التوحيد": فيه البداءة بالأهم فالأهم، وهذا من أصول الدعوة والتي سماها بعض المعاصرين فقه الأولويات؛ يعني أن تدرج الفرد وكذلك أن تدرج المجتمعات فيما هو أهم، أما أن تأتي إلى ما هو أقل وأن تترك المهمات فلا بد أن يكون ثم سوء في التصرف ونتيجة سيئة في هذا التصرف؛ لأنك أخللت بأمر شرعي وهو البداءة بالأهم فالأهم، وكثيرين ممن دعوا كانت هناك شبه في قلوبهم من أثر دعوة من دعاهم؛ لأنه لم يحسن الأسلوب ولم يبدأ بالأهم فالأهم لم بدأ بالأهم بالأدلته تاركا الحكم إلى فترة لاحقة.
الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - لما خاطب الناس لم يأت بالحكم أولا، وإنما بين لهم الأدلة أولا وشرح لهم آيات الكتاب وأحاديث النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأوضح لهم ذلك شيئا فشيئا، حتى أقيمت عليهم الحجة، ثم بعد ذلك حكم عليهم الحكم المعروف بحسب ما يناسب الحال.
إذن فأول الأمر أن تنظر حالة المدعو هذا، تنتقل من ماكنك الذي أنت فيه إلى ما حولك، وهذا لاشك أنه من المهمات.
إذا كان من الموحدين وعرفت ذلك تلحظه في عبادته، الحظه في صلاته، الحظه في تلاوته، وهكذا تنمي معه الخير شيئا فشيئا.
(/12)
من المهمات أيضا أن تلحظ أن زمن الحج قصير لا يمكن أن تشرح فيه كل مسائل التوحيد وكل مسائل العقيدة، فإذا تلقيت مع جار لك في الحج وأخذت معه، رجل من هذه الأمصار المتفرقة، فحبذا لو أخذت عنوانه وقمت بجهد شخصي معه مع شخص واحد أو مع أكثر بما قواك الله بأن تسعى في مراسلته، تأخذ العنوان وتسعى في مراسلته، ترسل له كتيبات في العقيدة في التوحيد تبدأ معه الدعوة في مراسلات.
وقد جُرّب هذا في بعض الميادين بمراسلات مع أناس مفتوحين غير معروف، فجاءت الأجوبة بما يُنتِج معه أن المراسلات عظيم من ميادين الدعوة تُرك في هذا الزمن، ولم يغشه إلا الأقلون، لم؟ لأن الرسالة ليس فيها مخاطبة، ليس فيها حجاج، ليس فيها وجه أمام وجه، ليس فيها تعبيرات إلا تعبيرات القلم أمام الورق، فهذه تستطيع أن تتصرف فيها وأن تدخل فيها إلى قلب المتحدث إليه.
مثلا من ميادين الدعوة التي أخذ بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - ميدان المراسلات، فله مع كثير ممن حوله طلبة العلم والعلماء ومن الناس والأمراء فيما حوله له معهم مراسلات حَبَّبَ إليهم الخير، وكان من تلك المراسلات مثلا أن كتب إلى أحد القضاة في الأحساء واسمه عبدالله بن عبداللطيف، وكتب للشيخ ينتقد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في بعض أقواله، فكتب له الشيخ رسالة لو قرأتموها لكانت نبراسا لنا في كيف يكون التحبيب بالرسائل؛ لأن الرسالة فيها لطف اللفظ وفيها عدم مواجهة الوجه للوجه وفيها وفيها مما يتيسر معه قبول الحق.
قال الشيخ - رحمه الله - في رسالة له: وأنا منذ رأيتك قد كتبت على أول صحيح البخاري في مسائل الإيمان إن هذا هو الحق، ما زلت أدعو لك لأنَّ ما كتبته مخالف لما عليه أهل بلدك من العقيدة؛ يعني الأشاعرة، وما زلت أدعو لك وقد دعوت لك في صلاتي، وكنت أقول لعلّ الله - جل وعلا - يجعلك فاروقًا لدين الله في آخر هذه الأمة، كما جعل عمر بن الخطاب فاروقًا لها في أولها.
(/13)
هذا الأسلوب والرسائل ولين اللفظ لاشك له أثر في النفوس عظيم، لهذا ينبغي لكل واحد منَّا أن يسعى في أخذ ولو عنوان واحد يتعرّف عليه ويراسل، وأن يكون الغرض من ذلك غرض ديني دعوي صحيح، وأن يبين له شيئا فشيئا ويدرجه على مدى سنة سنتين ليس هذا بالكثير في سبيل إصلاح النفوس.
أيضا من المنافع التي ينبغي أن نشهدها في الحج: أن الحج ميدان يأتي فيه المسلمون من كل مكان، ويأتي فيه علماء من أماكن كثيرة، ويأتي فيه دعاة من بلاد كثيرة، ويجتمعون، فإذا تعرف العلماء على العلماء والدعاة على الدعاة، كان في هذا سبيلا لاجتماع الأمة على كلمة سواء وعلى نصرة للدين وللعقيدة وللمنهج الصحيح، لم؟ لأن تلاقح الأفكار يكون بالالتقاء، وقد يكون الداعية في بلد له ظروفه لا يسمع في عمله الرأي الآخر؛ لكن لو سمع الرأي الآخر لكان عنده تصحيح لمنهجه وتصحيح لطريقته.
مثلا بعض الدعاة قد لا يهتم أصلا بمسائل البراءة من المشركين، أو لا يهتمّ أصلا بدعوة الناس إلى التوحيد، تراه مثلا يرى قبة على قبر فلا يتغيَّر قلبه؛ ولكن إذا رأى صورة في مجلة عارية تغيّر قلبه وقام وقعد، مع أنَّ هذه معصية وكبيرة من الكبائر ولكن تلك وسيلة إلى الشرك أعظم وأعظم، وهذا من الخلل الذي في النفوس أن يكون في القلب عدم غيرة على حرمات الله العظمى، عدم غيرة على التوحيد، عدم غيرة على السنة، وأن لا يتحرك القلب إذا رئيت عبادة غير الله، أو إذا رئي الشرك أو رئيت البدع؛ لكن يتغير إذا رأى فسادا في الأخلاق أو فسادا في الاقتصاد أو نحو ذلك.
هذا خلل في المنهج؛ لأنه رُبِّي على أن يغار على الأخلاق، وأن لا يغار على التوحيد.
(/14)
وهذا لاشك أنه إذا قامت الأمّة على ذلك فإنه خلل في التربية عظيم، فكيف تَفْقَهُ الأمة أن يكون تصحيح الوضع بتصحيح القاعدة، متى تفقه ذلك؟ وأن يكون تصحيح القاعدة بتصحيح قلوبها بتصحيح قلب الناس {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89]، والقلب السليم هو القلب المخلص لله جل وعلا، والإخلاص يتبعه السلامة من الشبهات والسلامة من الشهوات.
متى يربى الناس على ذلك؟ لاشك أن الحج ميدان لأنْ تكون هناك تبادل في الأفكار تبادل في الآراء في أن نجعل في مستقبلنا الدعوة في منهج هو منهج السلف الصالح، وأننا في هذا الزمن بحاجة أشد ما نكون إلى الدعوة المتفق عليه إلى المجمع عليه إلى ما تتفق عليه الأطراف جميعا، وأننا إذا اجتمعنا على ذلك وسرنا بالناس على هذا زمنا طويلا، فإن انتشار الصحوة وانتشار الدعوة سيكون أكثر وأكثر، وإنما تعبت الأمة في أن كل طائفة تتعصب إلى فرع من الفروع، يعذر المرء يتركه، وتترك أصل الأصول الذي جاءت الأنبياء والمرسلون بتحقيقه والدعوة إليه.
لاشك أن هذا كل واحد منا بحاجة إلى أن يعتقده، وإلى أن يدعو إليه.
وأهل هذه البلاد كما يقول القائل عليهم الشرهة يعني عليهم التبعة الكبيرة في أن يؤصلوا هذا في الناس.
إن لم تنطلق دعوة التوحيد واجتماع الجماعات واجتماع الفئات والطوائف على كلمة واحدة أو على التقاء على مجمع عليه وهو منهج السلف لصالح والدعوة إلى التوحيد والعقيدة، نستمر على ذلك سنين طويلة، إن لم نجتمع تجتمع الصحوة ويجتمع الدعاة في البلاد على ذلك، فنظل نكرر أنفسنا.
(/15)
وإذا لم يقم أهل هذه البلاد بهذه المهمة، فإنّ غيرهم لن يقوم، والحساب عليهم أشد؛ لأنهم قد رضعوا هذه العقيدة مع لبان أمهاتهم، وقد درسوها وهم لم ينبت لهم ريش، فدرسوها في الابتدائي ودرسوها في المتوسط، وسمعوها ليل نهار، وسمعوها في الدروس؟ فمتى ينطلقون بها متى يحببون للناس أن هذا الأصل هو الذي يجب أن يجتمعوا عليه الناس وأن يدعى إليه؟
نعم يحتاج الداعية في ذلك إلى أن يجعل الحج موسما لأنْ يكون التقاء الجميع على العقيدة الواحدة، على التقوى، على الصلاح الذي قال الله جل وعلا فيه {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] يعني الأمة في هذا يعني الدين دين واحد وليس بدين متعدد.
وهذا الدين الواحد الذي يجب أن نجتمع عليه هو ما أجمعت عليه الأمة، أما ما صار فيه اختلاف فهذا يؤجل تؤجل مناقشته ويؤجل البحث فيه إلى مرحلة أخرى من مراحل الدعوة إلى دين الله.
أما أن نكرر أنفسنا وأن يكون كما صار في حج مضى ومضى ومضى، أن يُسمع في محاورات وأن يسمع في ندوات الكلام على أمور فرعية وتؤصل وتنمى، هذا لاشك أنه ليس مطلوبا إلا لمن تحقق فيه الأصل، فينتقل بعد تحقيق الأصل فيه إلى الأهم الثاني ثم الأهم الثالث وهكذا.
أما أن يأتي بالنسبة لعموم المسلمين وأن تترك أصول الديانة وأصول العقيدة وأن يترك الدعاة غرس الملة وغرس العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص في النفوس، هذا لاشك أنه تضييع لأهم المهمات التي رشد إليها؛ بل أمرها بها النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ معاذا حين قال ((إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله جل جلاله)) كما هي رواية في البخاري في كتاب التوحيد.
فإن هذا قاعدة عظيمة من القواعد.
إذا انطلقت وأنت في الحج تشهد الناس المنافع في أمور شتى.
(/16)
أصحاب الحملات أيضا عليهم مسؤولية في أن يشهدوا من معهم منافع، وهذه المنافع هي المنافع الدينية، في أن يجعلوا حجهم - حج الناس - وفق السنة وأن يكون هذا الحج ييسر لهم، وأن لا يشغلوا الناس بأمور لا طائل تحتها، وأن لا يتعبوا الناس في عدم تحقيق شروط العقود التي تعاقدوا معهم عليها؛ لأن الحاج رغب في حملة كذا وكذا حتى يتيسر له حجه، فصاحب الحملة ليحتسب وليجعل عمله مخلصا فيه لله جل وعلا مع ما قد يناله من الربح والتجارة؛ لكن ييسر للناس الحج حتى يتفرغوا لشهود المنافع التي جعلها الله جل وعلا من مقاصد مشروعية الحج العظيمة.
فالحج عبادة عظيمة، والحج به يحصل للعباد أيضا منافع في دينهم بأنواعه وفروعه وكذلك في دنياهم.
فإذن الحملات تحتاج إلى ترتيب، تحتاج إلى أن يكون هناك فيها إشهاد لمن معهم المنافع بقدر الإمكان في التوجيه والتربية والدعوة على وفق المنهج الصحيح طريقة السلف الصالح وألا يسلكوا البدع والمحدثات والآراء المختلفة؛ لأن هذه تشتت الناس.
فالناس اليوم مع هذا المد الذي ترونه من صرف الناس عن الدين أصلا بالهجوم من جهات كثيرة من جهات خارجية من الشرق أو من الغرب كما ترون.
نحن بحاجة الآن إلى أن نحبب الدين للناس حتى لا يبعدوا عنه، هذا الذي نحن بحاجة إليه فلنسعى إلى أن تكون هذه الحملات ميدانا للدعوة الصحيحة حتى يستقيم الناس بعد الحج على طاعة الله جل وعلا ويكونوا من أصحاب الاستقامة وممن رضي الله عنهم.
(/17)
مسائل العبادات كثيرة والتوجيه فيها بإشهاد المنافع كثير، والعبادات تحتاج إلى فقه في الإرشاد، والذي يحصل في الحج أن يتكلم من يتكلم في إفتاء وهو ليس مؤهل للإفتاء، إما مفتي في حملة، أو مفتي مع مجموعة مع زملائه أو نحو ذلك، وهذا لاشك أنه مما يرغب عنه الصالحون، فالتعجل في الفتوى أو أنه إذا قرأ شيئا أو تعمله بأنه يحق له عند نفسه أن يفتي، هذا ليس بصحيح وليس بمطرد؛ بل لابد أن يتعلم ما عليه الفتوى في هذه البلاد، ما يفتي به أهل العلم وما كان عنده فيما قرأ يشكل عليه في شيء مشكل عليه الفتوى فإنه يسأل أهل العلم ويراجعهم، فليس ملزما هو بأن يفتي وليس هذا بفرض عليه، فإن الحديث ((من سئل عن علم فكتمه)) هذا إذا تعين عليه، فأما إذا لم يتعين عليه فهو في سعة، والحوادث عن الصحابة كثيرة رضوان الله عليهم في إحالتهم المستفتي إلى آخر وإلى ثالث وإلى رابع حتى ربما رجع المستفتي إلى من استفتاه أولا بعد سبعة أو أكثر.
وهذا هو الذي ينبغي، والذي يحصل من الإخلال مما ينبغي في الحج أن نجعل الحج ميدانا للتفاخر بالقراءات وبالعلم، هذا لا ينبغي وهو من ضعف الورع؛ لأنه يقرأ قليلا ثم بعد ذلك يأتي يكون هو مفتي المخيم أو مفتي الحملة ونحو ذلك، هذا لا شك أنه مما يتورع عنه الصالحون ويتورع عنه الأتقياء.
أما من لديه علم ويعلم ما عليه الفتوى ويعرف أقوال أهل العلم ويتجنب الأقوال الشاذة، فهذا فعه لإخوانه فيما عمله من المسائل بحجته أو بإحالته على من قاله من أهل العلم فهذا لاشك أنه من تيسير الفتوى على الناس.
أيضا مما ينبغي التنبه له في الحج أنْ نحفظ ألسنتنا في الحج من القيل والقال، والقيل والقال والغيبة والبهتان إذا كان موجودا قبل الحج فإنه لا يجوز أن يكون في الحج، إذا كان موجودا بظلم من الناس واكتساب للمحرم من نيل بعضهم ببعض، حتى صالح من صالح، وشخص طيب من آخر أيضا مثله، وهذا يغتاب هذا وهذا ينم على هذا إلى آخر ذلك.
(/18)
فإن الحج ميدان لأن نربي فيه ألسنتنا وأعمالنا على أن لا نقول ولا نتصرف إلا على وفق الشرع، هناك أهواء متعددة وهناك آراء مختلفة؛ ولكن لا يجوز أن جعل هذه الأهواء مسيطرة علينا وحكم على الشرع، الله جل جلاله قال {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، فقط، هذا هو الذي فيه الخير: صدقة أو معروف وهو ما عرف حسنه في الشرع أو إصلاح بين الناس، وأما ما عدا ذلك فهو عليه وقد تدخل في أن تكون من أهل الفسوق؛ لأن الفاسق اسم فاعل الفسق وهو ضد الصلاح، والصالح من عباد الله هو القائم بحقوقه وحقوق عباده، فالذي يفرط في حقوق العباد يفرط في أعراضهم يفرط في أموالهم إلى آخره، فليس من أهل الصلاح، وبالتالي كان من أهل الفسق، فيرجع من حجه وليس من أهل تلك الفضيلة العظيمة.
لهذا لابد من ضبط اللسان في أن لا تتكلم في أحد إلا بما أُذن به في الشرع، تتكلم في مدح في الثناء عليه حتى ترغب الناس على الخير هذا طيب، أما الغيبة أما البهت أما القيل والقال، حتى ولو جعل ذلك في لباس الديانة، فإن هذا ينبغي التخلص منه في الحج إلا ما كان منه مما أذن فيه شرعا فإن هذا مطلوب في كل وقت، قال جل وعلا {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53].
ولاحظ قول النبي - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - لمن قال له: يا رسول الله أوصني. قال ((لا تغضب)) قال: أوصني، قال ((لا تغضب))، والغضب يكون ابتداء، ويكون أكثر عند الحوار وعند النقاش وإذا غضب المحاوِر أو المحاوَر أو غضب الاثنان اللذان يناقشان المسألة، فإن الغضب يجعل المتخاصمين يسيران إلى غير الصواب، والقاضي لا يقضي وهو غضبان.
كذلك من يجادل فيغضب فلا بد أن يحيد قليلا أو كثيرا، فلهذا إذا تناقشت مع أحد فاضبط نفسك مع هذه القضية العظيمة ((لا تغضب)).
(/19)
وفي الحج قد يأتي من يطعن فيك أو يطعن في العلماء أو يطعن من يطعن أهل البدع والضلال ولكن عليك بان تضبط نفسك بأن لا تغضب، فما نجح غاضب في الحوار قط.
ولهذا أوصي بأن تعوِّد نفسك على عدم الغضب، وإذا أردت أن تناقش أو تحاور أخا في الحج فإن الغضب قد يؤدي إلى هُجِر من القول، ثم قد يؤدي إلى قول سيئ، ثم يؤدي إلى كبيرة، وهكذا فلا بد من الانتباه للسان في ذلك.
إذن الحج لاشك أنه عبادة عظيمة ولابد فيها من إخلاص القصد والنية لله جل جلاله، ويسعى المرء بعد ذلك في أن يُشهد نفسه وإخوانه المسلمين المنافع فيما ذكرنا من أمور الدين، وفيما يترتب عليه المغفرة للحاج ورجوعه مغفورا له ذنبه.
هذه كلمات ربما عند كثيرين منكم تفصيلات للواقع العملي كيف ننتقل وننتشر بالدعوة في الحج؛ ولكن هي توجيه لابد أن نسعى إلى إنفاذه؛ لأجل أن نحظى بالأجر العظيم وأن نكون ممن دعا إلى الله جل جلاله، ولا تنسَ أبدا قول الله جل جلاله {مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إٍنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
هذا وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعا ممن غفرت له الذنوب والآثام، وعظِّمت له الحسنات.
اللهم فاجعلنا من الأبرار.
اللهم من حج منا هذا العام فأرجعه من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
اللهم لا تؤاخذا إن سينا أو أخطأنا، واجعلنا اللهم من عبادك المتقين ومن الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم اختم لنا بالصالحات واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
كيف نستثمر الحج دعويًّا؟
د. يونس الأسطل
(/20)
إن أكبر موسم للدعوة وأسنح فرصة لها هي في الأيام المعلومات، ثم في الأيام المعدودات؛ وهي أيام فريضة الحج من كل عام، سواء كان ذلك في أوساط ضيوف الرحمن الآتين رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، أو كان في معشر الإنس والجن القابعين فوق هذا الكوكب فيما بلغ الليل والنهار.
أفضل أيام السنة
ذلك أن الأيام العشر الأولى من ذي الحجة هي أفضل أيام السنة على الإطلاق، وما من أيام العمل الصالح أحب فيهن إلى الله من هذه الأيام، حتى الجهاد في سبيل الله لا يضاهي الاجتهاد في نوافل الطاعات، إلا جهاد رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء؛ فقد أنفق المال في عدة القتال، ثم نفقت نفسه بأيدي عدوه، مقبلا غير مدبر؛ فكان قد صدق ما عاهد الله عليه، فقضى نحبه وما بدل تبديلا.
وقد حاول ابن حجر صاحب "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" أن يتلمس السبب في تفوق هذه الأيام على جميع السنة، فوجدها قد جمعت أمهات العبادات، ففيها الحج الأكبر، وفيها الصلوات بطبيعة الحال، كما استُحب صيام التسعة الأولى منها، وكان ثواب كل يوم منها بثواب سنة، كما جُعل صوم يوم عرفة مكفرا لآثام سنتين، ليسد مسد يوم النحر، حيث يحرم فيه الصيام لما ينطوي عليه من الإعراض عن ضيافة الله في أيام جعلها سبحانه أيام أكل وشرب وذِكر لله تعالى، يضاف إلى ذلك أنها أيام صدقة وإنفاق؛ فالناس يشترون أضاحيهم، ويزورون أرحامهم، ويقدمون الهدايا المالية والعينية، كما أن الذين يريدون وجه الله ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية، ويفتشون عن الذين أحصروا في سبيل الله، لا يستطيعون ضربا في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا.
الوقوف على أطياف الدعوة
(/21)
إن من أهم المنافع التي يشهدها الحجيج والمعتمرون في تلك الرحلة الميمونة إلى بلاد الحرمين؛ حيث يشدون الرحال إلى المسجد الحرام، ثم يذهبون إسراء بالليل أو ركضا بالنهار إلى المسجد النبوي أن يقفوا على أطياف الدعوة؛ فقد انطلق نبينا وحيدا في هذه الديار، وأمضى ثلاث سنين مستخفيا بدعوته لا يكلم إلا من يطمئن إليه؛ حتى لا يعلم به صناديد الكفر فيثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، وقد اتخذ من بيت شاب في السابعة عشرة من العمر مقرا للانزواء والالتقاء؛ ذلك أنه لا يخطر ببال أئمة الكفر أن بيت الأرقم بن أبي الأرقم يحتضن رجالا في سن أبيه.
ثم كان الصدع بالحق، واحتمال الأذى، وتتابع الهجرات؛ حتى استقر به المقام في المدينة المنورة بعد بيعتي العقبة الشهيرتين على الإسلام ثم الجهاد والحماية. ولولا أن أهل مكة أخرجوه منها ما خرج، ولكنها حكمة الله في كشف حقيقة الإسلام، إنها التضحية بكل شيء، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله؛ فيتأهبون بذلك لجنة عرضها السماوات والأرض، فيها العزاء عن كل مفقود، والعوض الأكبر عن كل ما يفوت.
إن المقام في المدينة لم يحُل دون أن تغِير عليهم قريش في حروب متلاحقة، وأن يجدوا خصوما آخرين من اليهود والمنافقين. وإذا كان الصحابة في مكة قد اشتكوا الاضطهاد طالبين الدعاء والنصرة؛ فإنهم في المدينة كانوا يبيتون في السلاح ويصبحون فيه، فاشتكوا كذلك: هل يا رسول سنظل أبد الدهر خائفين هكذا؟
(/22)
وإذا كان في مكة قد طمأنهم أنه يوشك أن تنطلق الظعينة من الحيرة إلى مكة فتطوف بالبيت ثم تعود الى رحالها آمنة، وأن الراكب سوف يسير من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنهم يستعجلون؛ فإنه كذلك في المدينة قد بشرهم أنه يوشك أن يجلس أحدهم في المجلس العظيم ليس فيه حديدة؛ فقد وعدهم ربهم ليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنا، وليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم.
إن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يغادر هذه الحياة حتى جهز قريبا من مائة غزوة وسرية، شارك في كثير منها، ولولا أن يشق على أمته ما قعد خلاف سرية أبدًا.
استحضار ذكريات المكان
إن الحجاج كما يقفون على تلك الأطياف فيوقنون أن الله ناصرٌ أولياءه ومظهر دينه، يقفون كذلك على ذكريات أبي الأنبياء وهو يضع زوجه ووحيده في هذه الديار؛ حيث لا مظهر للحياة بذلك الوادي غير ذي الزرع، ولم يكن من سلاح له ولها إلا التوكل على الله، والدعاء له سبحانه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وأن يرزقهم من الطيبات؛ لذلك فقد كان السعي بين الصفا والمروة للتذكير بالبحث عن الأسباب، في هضاب قد انقطعت بها الأسباب، ولم يبق إلا باب واحد، ذلك الذي عبرت عنه أمنا هاجر، وهي تسمع أن الله تبارك وتعالى هو الذي أمر بنقلها هنا مع رضيعها، فقالت كلمة اليقين: "إذن لا يضيعنا الله"، ثم كانت زمزم وجرهم، وكانت من بعد قريش وأهل الحجاز.
(/23)
ولعل أعظم صورة تحضر في أذهان الطائفين والعاكفين والبادين تلك التي تصور حقيقة الإسلام، حين يؤمَر سيدنا إبراهيم أن يذبح ولده الوحيد بيديه، وقد جاء هذا التكليف في الوحي المنامي في الوقت الذي بدأت ثمرة هذا الولد تظهر؛ فقد بلغ مع أبيه السعي، وصار قادرا على اكتساب الرزق، والوالد شيخ كبير، وإن العجب المدهش كان في موقف أبينا إسماعيل؛ فقد حرَّض أباه على التنفيذ قائلا: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
هذا هو الإسلام؛ شيخ يطيع ربه في أشق تكليف، فيجود بولده لله، وولد يجود بنفسه لله، والجود بالأنفس والبنين أقصى غاية الجود؛ فقد أسلما وتلَّه للجبين، فناداه ربه أن يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا، وفداه بذبح عظيم. ونحن من بعده نفدي أنفسنا من الهلاك والردى بذبح الأضاحي، ونحر الهدي لمن حج قارنا أو متمتعا، ممن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
الحج تذكير بالحشر
إن استثمار موسم الحج للدعوة مزدحم بما فيه من الدروس والعبر، ولن يتسع المقام إلا لمفاهيم معدودة، ومالا يُدرَك كله لا يُترَك جُلّه؛ لذلك فإني أحاول أن أتصيد طائفة منها في البنود التالية زيادة مما ذكر.
(/24)
1- إن الحج نموذج مصغر ليوم الحشر، ومن مات فقد قامت قيامته؛ لذلك فإن المتلبس بحج أو عمرة يبدأ رحلته بارتداء الأكفان بعد التجرد من المخيط، ويقطع رحلة تشبه البعث من القبور والقيام لرب العالمين، وإن ساحة عرفات تذكّر بأرض المحشر؛ حيث إن الناس يأتون إليها من كل فج عميق ليروا أعمالهم، وليجزي الله الذين أساءوابما عملوا، كما يجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وهم يتنقلون بين عرفات ومزدلفة ومنى والبيت العتيق للتذكير بعرصات يوم القيامة؛ حيث في الحشر الحساب والميزان والمرور في الظلمات، واجتياز الصراط، والحبس فوق قنطرة بين الجنة والنار لاقتصاص المظالم، وقد يفلس الكثيرون فيردون على أعقابهم إلى الجحيم من بعد أن نجوا من كلاليب الصراط وحدته ورقته.
إن هذا المقصد من مقاصد الحج ليس اجتهادا يستنبط، ولكنه المنصوص عليه في قوله سبحانه: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. فقد طلب إلى الحجاج -وقد قضوا مناسكهم- أن يتأكدوا من أنهم إلى ربهم يحشرون، وقد خاضوا تجربة تشبهه. ولعل مما يؤيد ذلك أنه كما ينتهي يوم الحشر بعد سَوْق كل فريق إلى مثواه أو مأواه زمرا، ترى الملائكة حافّين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وكذا الحج ينتهي بطواف الوداع الذي ينفض الناس بعده مباشرة إلى أوطانهم.
الحج تدريب على الجهاد
(/25)
إن من دروس الحج كذلك تدريب الآمّين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا على عبادة الجهاد في سبيل الله؛ ذلك لأن الحجيج يصيبهم الظمأ والنصب والمخمصة، ويطئون موطئا يغيظ الكفار بكثرة سوادهم وعظيم جمعهم، كما أنهم ينفقون أموالهم، ويقطعون الفيافي والأودية تلبية لنداء الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وهذا عين ما يصيب المجاهدين، بالإضافة إلى أن المقاتلين ينالون من العدو نيلا فيَقتلون ويُقتلون، ولنقرأ ذلك في قوله سبحانه: {مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ ومَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ ولا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ ولا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * ولا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً ولا يَقْطَعُونَ وادِيًا إلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120].
إنَّ كلا من الحجيج والمجاهدين يهجرون الأهل والأوطان، ويذرون المساكن والتجارات، ويفارقون الشهوات واللذائذ؛ فيخرجون من بيوتهم مهاجرين إلى الله ورسوله؛ فلا عجب إذن أن يكون جهاد النساء هو الحج والعمرة، وهو الجهاد الذي لا شوكه فيه.
(/26)
إن أي إطلالة على مواقع الحج في القرآن الكريم نجدها متجاورة مع مواضع الجهاد، ويكفي أن نلقي نظرة على سور البقرة وآل عمران والتوبة؛ حتى إذا جئنا لسورة الحج وجدناها تفتح باب الجهاد بعد الفراغ من أحكام الحج ونسكه؛ معللة ذلك بأنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، وهذا يعني أن مناسك الحج يمكن أن يعطلها الطغاة والمجرمون، فتحتاج إلى الشوكة والجهاد لدحر أولئك المفسدين عن الهيمنة على مواضع العبادة، أو القعود بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن وأراد الحج أو العمرة.
ولكنها من طرف آخر تشير إلى أن جهادنا وتمكيننا في الأرض هو الذي يحمي جميع المعابد والديانات من التهديم؛ لأننا نؤمن أنه لا إكراه في الدين، وأن الذميين والمعاهدين لهم مطلق الحرية الممنوحة لنا في ظل الخلافة الإسلامية الراشدة؛ فجهادنا إذن من رحمة الله بالعالمين، ولا غرر أن يعقب المولى سبحانه على قصة طالوت فيقول: {ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ}.
الحج مؤتمر دعوي
إن الحج مؤتمر إسلامي دعوي كبير، يلتقي فيه أبناء الإسلام والإخوة في الدين، يتعارفون ويتآلفون ويتعاهدون على التعاون على البر والتقوى؛ فتتهيأ الفرصة لدعم المستضعفين ماديا وأدبيا؛ فلطالما كان موسم الحج غطاء لاجتماعات يلتقي فيها المجاهدون فيتشاورون ويدبرون، ثم يعودون إلى ثغورهم لدفع أعداء الله وأعدائنا عن أهليهم وأوطانهم.
ومهما حاول البعض أن يُحكِم الخناق على هذه العبادة لتكون أفعالا صروية وحركات جوفاء، فإن الواقع يشهد أن كيد الشيطان كان ضعيفا، وأن بركات اللقاء بين الإخوة لا تُحصى كثرة.
فلنرجم شياطين الإنس
(/27)
وليس من غرضي أن أعرج على سرد الحِكَم الجزئية في مفردات هذه الشعيرة؛ بل هذا الركن، لكن المهم هو ضرورة التخطيط لاستثمار هذا الموسم إلى أبعد الحدود. أخاطب بذلك القادة الميدانيين في الأمة، ورموز الحركات الدعوية؛ فقد نفضتُ يدي من المنافقين والراتعين على موائد الظالمين، وهذا ما أقرؤه في رمي الجمار؛ لأن شياطين الإنس أخطر على دين الله وعلى أمة الإسلام من شياطين الجن بمائة مرة ومرة، وهم في نظري أولى بالرجم والمقاومة؛ إذ الخطر الداخلي أشد وأنكي من الخارجي.
اقتراحات ووسائل عملية
وإذا كان لا بد من الاجتهاد في وسائل الانتفاع من هذا الموسم في الديار الحجازية أو في ميادين الدعوة الإسلامية؛ فإنني أشير بهذه النقاط:
1- في أرض الحرمين:
أولا- على الدعاة الواعين في كل بلد أن يعدوا دراسة موجزة عن واقعهم، وما فيه من تحديات، وكيف يمكن التغلب عليها، وماذا يمكن أن يقدموا لإخوانهم في الأقطار الأخرى؛ فإذا التقوا هناك تعاهدوا على أن يتعاونوا على البر والتقوى.
ثانيا- ينبغي أن نعد دراسات تحليلية للمؤامرات السرية التي تحاك في الخفاء للأمة، من خلال ما يمكن تصيده من أفواه أصحابها وأقلامهم، أو من خلال اختراق مواقعهم بالرجال الذين يكتمون إيمانهم، وأن نُفشل تلك التدابير بأقصى ما نستطيع من الحول والقوة، وأن يجري تبادل هذه الدراسات في موسم الحج وجها لوجه أو في غيره بالطرق الممكنة.
ثالثا- إعداد المشروعات التي تنهض بمستوى الدعوة في كل بلد؛ كإنشاء المدارس الشرعية أو الجامعات الإسلامية، أو حتى المؤسسات الخدمية التي نتألف بها قلوب الناس، وتسويقها في هذا الموسم لدى المؤسسات الخيرية في أرض الحرمين، أو عند الوفود القادمة من الخليج والدول الإسلامية التي مَنَّ الله على أهلها بشيء من الثراء؛ كالتجربة الاقتصادية الماليزية وغيرها.
2- في غير الحرمين:
(/28)
أولا- إصدار دراسات تكشف عن الأسرار الحقيقية لهذه الفريضة، وما يحفها من الشعائر، -وقد قدمت في هذا المقال اليسير منها- وتوزيعها في الأمة ليدركوا المعاني الكامنة فيها، ويقوموا بحقها في حياتهم؛ حتى لا تكون شعائر الحج مجرد أفعال تعبدية يؤديها الناس دون المعرفة بفقهها الأكبر، وليدركوا أنها رحلة جهادية يعودون منها من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
ثانيا- ضرورة التواصل بين الدعاة في الأقطار الإسلامية المختلفة، ويوفر موسم الحج فرصة للتآخي والتعارف، ويتم تبادل العناوين ووسائل الاتصال؛ لتكون اللقاءات في بلدان أخرى؛ حيث تتهيأ الفرصة للاجتماع والائتمار والتشاور في وجوه النهوض بالدعوة والأمة معا، كما يمكن في هذا المضمار استضافة كبار الدعاة للتجول بين شعوب العالم الإسلامي، واستنهاض هممها دعوة وجهادا.
ثالثا- لا بد من الالتفات إلى ضرورة إيجاد مؤسسات اقتصادية خاصة؛ ليكون ريعها في خدمة الدعوة دعما للدراسات من ناحية، وتوفيرا لنفقات التواصل من ناحية أخرى، ولعلها تسهم ولو بصورة متواضعة في التفريج عن الشعوب مما تعانيه من الضائقة الاقتصادية، وإن أكثر الجماهير الإسلامية على هذه الشاكلة.
وأعتقد أنه من الواجب على ذوي الاختصاص أن يضعوا الدراسات اللازمة، وأن تكون قائمة على التعاون وتبادل الخبرات والتسويق في البلدان المختلفة، ويوفر موسم الحج هذه الفرصة للالتقاء والتعاون بين رموز الدعوة والقيادات الشعبية، بدون الحاجة إلى تدخل الأنظمة. والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
** العميد السابق لكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بغزة.
http: //www.islamonline.net/Arabic/index.shtml
صور دعوية في موسم الحج
وفاء سعداوي
(/29)
من فضل الله تعالى ورحمته أن جعل لعباده مواسم للخير، له فيها نفحات تغتنمها النفوس، وتلين فيها القلوب؛ فتذوق حلاوة الإيمان، وتجد لذة الطاعات، وتستقبلها بالتوبة الصادقة؛ فتكون الدعوة فيها مثمرة، ونرى العديد من الصور الدعوية في هذا الموسم..
الحج حملة دعوية
يقول د.محمد المختار رئيس الجمعية الشرعية بمصر: إنه مع بداية شهر ذي القعدة تبدأ الجمعية حملة تتعلق بالحج؛ فتوزع على الدعاة والوعاظ دروس وبرامج موسم الحج التي تتناول أسرار الحج ومقاصده، وكيفية أداء المناسك، والفوائد التي يجب أن يحرص الحاج وغير الحاج على اغتنامها في هذا الموسم.
ومن أول ذي الحجة نركز على المعاني التي يجب أن نعيشها جميعًا في موسم الحج، مثل وحدة الأمة وقوتها، وتحقيق المساواة وتحقيق العبودية، والامتثال لأوامر الله عز وجل، وتذكير الناس بيوم الحشر، وفضل العمل الصالح في العشر الأيام الأول من ذي الحجة، من صيام وذكر ومسارعة بالطاعات، والتشبه بالحجيج.
وقبل سفر وفد الحجاج التابع للجمعية نلتقي بهم ونعلمهم عمليا كيفية أداء المناسك والسلوكيات التي يجب التحلي بها أو اجتنابها حتى يصير حجهم مبرورًا، ويصاحبهم أثناء رحلة الحج أحد وعاظ الجمعية.
وبعد انتهاء الموسم تتناول الدروس والخطب موضوع "وماذا بعد الحج؟".
حفلات منزلية
وترى "نادية شاهين" مديرة معهد الدعوة بالقاهرة أن للدعوة في موسم الحج صورا مختلفة؛ ففي درس المسجد نتناول كل ما يهم الحاج، وأهمها ما يجب عليه قبل سفره، من رد المظالم، وقضاء دينه، والرجوع إلى الله، والتوبة النصوح، كما ندرس مناسك الحج عمليًّا، ونوزع الكتيبات التي تتناول رحلة الحج منذ إعداد جواز السفر حتى انتهاء الرحلة.
ونؤكد على محظورات الحج، وحسن الخلق عن طريق الدروس والتجارب العملية للحجاج، ونحثهم على التصدق بالجسد؛ حيث قد يتعرض الحاج للزحام والمضايقات التي يجب أن يصبر عليها.
(/30)
ونستضيف أحد العلماء لوعظ الحجاج وإرشادهم في المسجد والأماكن العامة كالجمعيات الخيرية.
ومن الصور الناجحة أيضًا الحفلات المنزلية؛ حيث نعرض شريط فيديو لمناسك الحج، أو أسطوانات ليزر، ونستخدم وسائل تعليمية كالخرائط لشرح أماكن المناسك وتتابعها، ونستضيف بعض من أدَّيْن الحج ليتحدثن عن ذكرياتهن، والمشكلات التي واجهتهن، وكيف تغلبن عليها، وينصحن المسافرات للحج ليكون حجهن مبرورًا.
إفطارات جماعية
ومن الصور الدعوية الطيبة في العشر الأوائل من ذي الحجة: الإفطارات الجماعية في المساجد والعمارات السكنية؛ إذ تكون فرصة للوعظ والإرشاد وفق برنامج سابق الإعداد.
فيمكن أن تقوم الداعية بإعداد إفطار جماعي للأقارب من عائلتها وعائلة زوجها، وتتعاون النساء للانتهاء من إعداد الطعام عصرًا؛ حيث تنظم برنامجًا عبارة عن درس عن فضل العشر الأوائل من ذي الحجة، وما يستطيع أن يناله غير الحاج من ثواب في هذه الأيام المباركة، ومسابقة وإجابة على أسئلة الحاضرات واستفساراتهن، وترديد أذكار المساء والدعاء، وتوزيع مطويات تتعلق بهذه الأيام، ونفس البرنامج ينظمه زوجها مع الرجال.
كما يمكن تنفيذ الفكرة بمسجد الحي؛ حيث تشترك الداعية مع جاراتها في إقامة إفطار لأهالي الحي لتحقيق التواصل بينهم وربطهم بالمسجد، ودعوة الفقراء لتوطيد صلاتهم بالأغنياء؛ حثًّا لهم على مساعدتهم، ويرسل طعام الإفطار إلى العاملين بالمحلات المحيطة بالمسجد.
وبعض الداعيات يحرصن على استقبال شهر ذي الحجة بتهنئة الجيران، وتوزيع مطويات وكتيبات خاصة بالعشر الأوائل من ذي الحجة، وتعليق اللافتات داخل المنازل، ومجلة حائط على جدران العمارة لتذكير السكان بفضل هذه الأيام، وحثهم على المسارعة بالطاعات فيها.
فوائد تربوية
(/31)
وترى "أم عبدالرحمن" - إحدى الداعيات المصريات - أن موسم الحج فرصة للارتقاء بالأولاد روحانيًّا؛ فلله في هذه الأيام نفحات؛ حيث تكون النفوس مهيأة للتقرب إلى الله وأداء طاعات لا يأتونها في غيرها من الأيام؛ فلنغتنم هذه الفرصة لتعوديهم المواظبة على الطاعات، فأتفق مع أولادي على أن يُعِدّ كل منهم لافتة يعلقها في حجرته، تحمل طاعة يواظب عليها أو أدبًا من الآداب التي سيتحلى بها في هذه الأيام، ويعاهد الله تعالى أن يصير خلقًا له طوال حياته، كما أحثهم على صيام التسع الأوائل من ذي الحجة، أو على الأقل صيام يوم عرفة، ونقوم بتزيين المنزل بنية استقبال أيام نفحات وبركة يمن الله بها على المسلمين.
وفي اليوم التاسع ندعو أولاد الجيران والأقارب، ونُعِدّ أكياسًا نزينها بشرائط الستان، ونضع بها الحلوى ونوزعها على الجيران في بيتنا والعمارات المجاورة.
(/32)
وتعقد "إيناس عبدالعزيز" - مسئولة دار لتحفيظ القرآن بالقاهرة - حلقات علم للحاجّات قبل سفرهن؛ لأنها ترى أن الدعوة للحجاج يجب أن تبدأ قبل الذهاب إلى الأراضي المقدسة، وتركز فيها على مقاصد الحج وفوائده والآداب التي يجب أن يلتزمها الحاج ليكون حجه مبرورًا؛ لأنه مما يؤذي النفس ما نراه لدى البعض من فساد عقدي وسلوكي؛ فالكثير من الحجاج لا يفهمون آداب الاستئذان وحدود التعاملات مع الأجنبية، وحقوق الآخرين من حولهم؛ فهناك للأسف انفصال تام بين أداء الحج كعبادة، وبين السلوكيات والأخلاق؛ فبعض الحجاج يؤدون المناسك دون أن يدروا الحكمة من الحج، فنراهم يغضبون لأتفه الأسباب ويؤثرون أنفسهم على غيرهم، ويؤدون المناسك بأسلوب ليس فيه مراعاة للغير، فيتسابقون ويتزاحمون على الرجم وزمزم والحجر الأسود، والصلاة في الروضة، ويتشاجرون في السكن من أجل أمور تافهة، ويختلفون في الأحكام الشرعية، ويسفه بعضهم البعض، وهم ليسوا أهلاً للفتوى، وقد ينشغلون بالشراء أو القصص والحواديت بدلا من ذكر الله الذي جعلت هذه الأيام خصيصًا له، وخصوصًا أيام مِنَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203].
وتناشد "إيناس" الدعاة وأهل العلم في كل المساجد أن يهتموا بتوجيه هذه السلوكيات قبل سفر الحجاج؛ فالمناسك يسهل تعلمها؛ حيث تتناولها وسائل الإعلام ليلا ونهارا، فليبثّوا في نفوسهم الخشوع والخوف من ضياع حجتهم، وأن أجر الحج ليس على المناسك والعبادات فقط، وإنما الدين المعاملة.
تصحيح المفاهيم
(/33)
الدكتورة عبلة الكحلاوي - أستاذة الفقه بجامعة الأزهر - أخذت على عاتقها في أثناء الحج تصحيح المفاهيم الخاطئة، وإشعار زميلاتها من المسلمات بأهمية الفريضة؛ لأن هناك من تؤديها كرحلة سفر، ولا تفقه المقصود الأسمى، وكانت تشرح للنساء أن الحج هو الركن الوحيد الذي يوضح مدى التزام المسلم وتمكن الإيمان من قلبه، وفهمه للإسلام وحقيقته؛ فهو الفريضة الوحيدة التي يؤديها بانتقال وأسفار ومشقة، وعدا هذا الركن فكل الأركان تؤدى في أي مكان، وهذا يدل دلالة واضحة على أنه مؤمن حقًّا؛ فكل نسك نؤديه اعترافًا وإذعانًا واستسلامًا ويقينًا بالإيمان الذي وَقَرَ في قلوبنا.
فلا بد من تعليم الناس وتصحيح المفاهيم وإبراز هذه الحقيقة، إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لمواجهة الممارسات الخاطئة للحجاج.
موسم عطاء علمي وروحاني
وترى د. عصمت أبو سنة - الأستاذة بجامعة أم القرى بمكة سابقًا - أنَّ حلقات العلم من أطيب الصور الدعوية في رحلة الحج؛ فهو موسم عطاء علمي وروحاني؛ لأنه موسم هداية وإنابة إلى الله؛ فالمسلم يكون متلهّفًا على ما يقربه إلى الله عز وجل، والحجاج يحتاجون إلى دروس العلم خاصة النساء؛ فنجدهم يبحثون عن العلماء في كل مكان، ويلتفون حولهم كلما سنحت الفرصة، خاصة في الحرم المكي؛ حيث يوجد العلماء في أركان الحرم، وفي السكن بعد صلاة الظهر، ويوم التروية بعد صلاة العشاء، ويوم عرفة بعد صلاة الظهر؛ حيث تتضمن الوعظ والتذكرة والإجابة على أسئلة الحجاج والدعاء، وهكذا حتى انتهاء الموسم.
الداعية قدوة للحجاج
(/34)
وتضيف سمية رمضان - داعية مصرية - أن أكثر ما يحتاجه الحجاج الصبر، ودور الداعية أن يثبتهم حتى لا يتفوهوا أو يفعلوا ما يضيع أجرهم؛ فيستوعبهم بسعة صدره ليشعروا بالأمان النفسي؛ ليقصوا عليه مشكلاتهم، ويشغل وقتهم بالطاعات، ويذكرهم في كل موقف بالدعاء والسنن الخاصة به، وأن يكون قدوة لهم؛ فيجدوا الابتسامة على وجهه مهما لاقى من صعاب، ويقضي حوائجهم وييسر أمورهم على حساب نفسه ويتودد إليهم، كل ذلك له انعكاس طيب على نفوسهم، ويحرص أن تكون حلقات العلم مراجعة لحياتهم وسلوكياتهم، وتغيير مفاهيمهم حتى يلتزموا بمنهج الله بعد العودة من الحج.
كما ينبغي أن يحرص على التعارف؛ فالله تعالى خصص مواسم لتجمع المسلمين، والحج مؤتمر المسلمين للتعارف، وإشعارهم أنهم صحبة في الخير، ويؤدي ذلك إلى ترابطنا وتواصلنا في الله سبحانه
http: //www.islamonline.net/Arabic/index.shtml
الدعوة إلى الله تعالى في الحج و مجالاتها
الشيخ سلمان العودة
الحج مناسبة كبرى، والأمم العقائدية تفرح أن يكون لها مثل هذا الموسم العظيم، الذي تحتشد فيه مثل هذه الملايين بدافع التعبد لله تعالى؛ فإنهم ما جاءوا إلى تجارة، ولا سياحة.. وإنما تكبدوا المشاق، وانفقوا الأموال، وغيرها، حتى يصلوا إلى هذه الأماكن والبقاع، طلبًا لما عند الله - عز وجل -. فمثل هؤلاء هم - في الغالب - من صفوة المسلمين وخيارهم، ويُعتَبَرون نموذجًا لمن تركوا وراءهم من المؤمنين، فقد جاءوا بدافع التعبد لله تعالى. أليس من المناسب أن نحشد كل ما نستطيع لإيصال الخير إليهم؟ وأن نوصل إليهم من البر، والإحسان، والخير، والمعروف الديني والدنيوي؛ ما عجزنا على إيصاله إليهم في بلادهم؟
(/35)
مثلاً: نشر الدروس، والمحاضرات، والندوات، خاصة من خلال الحملات، أو في المخيمات التي تقوم عليها حملات التطويف، وإشاعة مثل هذه الأمور، ومخاطبة المسلمين - من خلالها - بالكلام الطيب المفيد، الذي يبدأ بحمد الله تعالى على مجيئهم هنا، وتيسير هذا الأمر إليهم، والثناء على ما فيهم من الخير، ثم دعوتهم إلى تحقيق هذا الإسلام بالأسلوب الحكيم اللائق المناسب.
مثال ثانٍ: توزيع الكتب المفيدة مما يتعلق بالحج وأحكامه، أو يتعلق بتصحيح عقائد المسلمين وأعمالهم، أو يتعلق بتوعية المسلمين بأوضاعهم، وما يلاقيه إخوانهم في كل مكان، أو يتعلق بغير ذلك من الأمور، ويكون ذلك باللغات المختلفة التي تخاطب المسلمين جميعًا.
وأنت لو أردت أن تتواصل مع هذا الكم الهائل من المسلمين، لوجدت هذا أمرًا صعبًا عسيرًا. فها هم قد جاءوك هنا، وأمكن أن توصل إليهم هذه القضية المهمة بكل سهولة ويسر.
ومن وسائل الدعوة: النصيحة الفردية لكل مسلم، في أية مناسبة التقيت به؛ في سيارة، أو في مكان عند البيت، في منى.. في مزدلفة.. في عرفة.. وفي أية مناسبة.
ومن وسائل الدعوة في الحج أيضًا: زيارة المسلمين في بلادهم للتوعية بالحج وغيره، فلو أن المسلمين كانوا أكثر نضجًا ووعيًا وقدرةً مما هم عليه الآن، لكانوا يسيرون حملات علمية إلى سائر بلاد الإسلام قبل الحج بزمن، تقوم بتوعية الناس بالحج وآدابه وأحكامه.
ومن وسائل الدعوة: تلاقي الدعاة إلى الله تعالى في موسم الحج، وتدارس أمورهم، وسبل حل المشكلات التي يواجهونها، وكذلك التقاء العلماء الذين لا يتسنى لهم اللقاء بهم - أحيانًا- إلا في مثل تلك المواسم لبحث المسائل العلمية، والعملية، والدعوية، والواقعية، وغيرها، مما يحتاجون إليه.
المصدر: كتاب رسائل إلى الحجيج وصيد الفوائد
برنامج دعوة موسم الحج
مكتب الأنشطة الدعوية والتربوية بمقديشو - الصومال
أولاً: المقدمة
(/36)
الحج موسم دعوي رابح للدعاة والمصلحين، فالناس فيه مقبلون على الخير وقد تجردوا عن مشاغل الدنيا وملهياتها، ولمشاهد الموسم ومناسكه أثر عجيب على قلب كل حاج، وتمس حاجة الحجاج إلى فقه العلماء وإرشادات الدعاة، ويقصد البيت ويحج إليه فئات كثيرة كان احتكاك الدعاة بهم قليلا في السابق من سياسيين وزعماء وأعيان قد يكون للتاثير عليهم ما بعده، والدعاة أنفسهم يأتون من شتى المناطق بأعداد كبيرة تكفي القيام بأعباء الدعوة في الموسم، فتفويت هذه الفرصة الدعوية من قبل الدعاة تفريط لا مبرر له، وينبغي أن يندموا على ما فاتهم في ذلك، وأن يعدوا عدتهم في هذا العام؛ لتعويض ما مضى. وإسهاما منا بجهد المقل في ذلك نتقدم بهذا المقترح الذي نأمل أن يكون عونا للإخوة الدعاة على دعوتهم في الموسم.
ثانيًا: قبل الموسم
1- الحث على الحج والعمرة والترغيب فيهما في المساجد والمحاضرات.
2- توجيه الحجاج وتفقيههم فيما يقبلون عليه من الأعمال قبل السفر.
3- إرشاد الحجاج أثناء الرحلات وعند أداء مناسك العمرة أو طواف القدوم وذلك بأن يرافق كل رحلة داعية أو أكثر.
4- استعداد الدعاة المسبق للقيام بدور توجيه الحجاج، وتجهيز التسهيلات اللازمة لذلك كالمكبرات والكتب وغير ذلك.
5- إعداد برنامج دعوي شامل للموسم وحصر الدعاة القاصدين إلى الحج وتوعيتهم به، وتوزيع الأعمال والدروس عليهم.
6- طباعة كتيبات عن الحج وأعماله وترجمتها إلى لغات أخرى، وكذلك الأشرطة وتوزيعها على الحجاج مجانا أو إرشادهم إلى اقتنائها.
ثالثًا: أثناء الموسم
1- إعداد مجموعة من الخيام ذات استيعاب كبير في منى؛ لإقامة الصلوات فيها وإلقاء الدروس والمحاضرات.
2- التنسيق مع مكاتب الدعوة في مكة والمدينة في شؤون التوعية.
3- إعداد هدايا دعوية للحجاج كالأشرطة والكتيبات وغيرها بالتعاون مع مكاتب الدعوة.
4- إلقاء محاضرات ودروس في أماكن إقامة الحجاج في مكة والمدينة قبل الحج وبعده.
(/37)
5- تعيين مجموعة من العلماء للإفتاء في الخيام بمنى وعرفات وفي منازل الحجاج بمكة والمدينة.
6- الاهتمام بدعوة الوجهاء والأعيان وذلك باستضافتهم وعقد لقاءات خاصة بهم، وتوجيههم وإشعارهم بمسؤوليتهم تجاه دينهم وأمتهم، وربطهم بالدعوة والدعاة.
7- تمثيل الحجاج لدى المؤسسات الرسمية، والاعتناء بخدمتهم ومساعدتهم في شؤونهم العامة والخاصة قدر الإمكان.
8- عقد لقاءات توجيهية عامة للدعاة لتحريضهم على القيام بواجب الدعوة ويقوم بذلك كبار المشائخ والدعاة.
موضوعات ينبغي التركيز عليها:
1- التوحيد وما يضاده
2- الحج والعمرة والزيارة وما يتعلق بذلك؛ لأنه واجب الوقت.
3- أركان الاسلام وأركان الإيمان.
4- الاتباع وترك الابتداع
5- التوبة النصوح
6- الجنة والنار
7- الدعوة إلى الله.
8- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
9- العمل للإسلام مسؤولية الجميع.
10- الإسلام هو الحل.
11- وذكرهم بأيام الله.
12- الخروج من المظالم.
13- القبلية وأضرارها.
14- الإصلاح بين الناس.
15- الإنفاق في وجوه الخير.
16- ضرورة مقاومة الغزو السافر على عقيدة الأمة وعقولها وأخلاقها.
17- اعتداء الكفار على المسلمين و بلادهم وضرورة التصدي لذلك.
من موقع صيد الفوائد
الحج فرصة دعوية
محمد بن عبدالله الهبدان
أيها الإِخوة الأكارم: استمعوا إلى هذه الأرقام:
عدد المشاركين في أعمال النظافة في المشاعر المقدسة أكثر من اثنين وعشرين ألف عامل، وهذه نسبة ولله الحمد يشكر المسؤولون عليها.
فالعناية بنظافة المشاعر أمر في غاية الأهمية حتى يؤدي الحاج منسكه في أماكن نظيفة وسليمة.
وعدد المشاركين في الأعمال الصحية والإسعافات الأولية تسعة آلاف وخمسمائة عامل هؤلاء غير القطاعات الخاصة كوزارة الدفاع والحرس وغيرها من القطاعات وهذا أيضًا مطلب مهم لخدمة حجاج بيت الله الحرام، والعناية بصحتهم، والمحافظة عليها.
(/38)
بقي علينا أن نعرف أيها الأكارم ما هو أهم من ذلك كله..نعم أهم من ذلك كله!!
لأنَّ هؤلاء الحجاج ما قدموا لهذه البلاد من كل فج عميق، من أجل الحرص على صحتهم؟!! كلا؛ ولا من أجل العناية بنظافة أماكنهم..ولكنهم قدموا لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام.. قدموا استجابة لنداء الله - تعالى -.. ورجاء أن يعودوا وقد غفرت لهم ذنوبهم.. ويرجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم.. لقد جاءوا من كل مكان.. جاءوا من أطراف الدنيا الواسعة.. جاءوا وقد أنفق بعضهم كل ما يملك ليقيم فرض الله - تعالى -.. جاءوا وقد أضنوا أعمارهم، و أفنوا شبابهم، لجمع ما يحتاجونه لإقامة الركن الخامس من أركان الإسلام!! جاءوا وقد تركوا عيالهم، وبذلوا جهدهم، وتكبدوا مشاق السفر، ومتاعب الحلّ والترحال، والنزول والانتقال يرجون رحمة ربهم والفوز برضوانه!!
نعم لقد جاءُوا وقد كانوا ينتظرون هذه الفرصة بأحر من الجمر، وقد رأيناهم وهم يبكون فرحًا وشوقا لرؤية بيت الله الحرام.. رأيناهم والدموع تنهال من أعينهم.. رأيناهم وفي صدورهم أزيز كأزيز المرجل من البكاء.. هؤلاء الذين قدموا إلينا.. يا ترى كم سخرنا لهم من الدعاة إلى الله - تعالى -؟ كم من الموجهين والناصحين هيأنا لهؤلاء؟!! كم من العلماء وطلبة العلم نحتاجه لتقييم سلوك هؤلاء، وتفقيههم في دينهم، وتعليمهم هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - في حجه ونسكه.
(/39)
ضع يدك على قلبك، حتى لا تُصدم بهذا الرقم.. نعم ضع يدك على قلبك؛ لأنها والله مأساة عظيمة أن يحدث مثل هذا.. أتعلم كم عدد الدعاة التابعين لوزارة الشؤون الإسلامية لأداء الإرشاد والتوجيه لحجاج بيت الله الحرام في العام الماضي فقط مائة وسبعون داعية!! وإذا أضفنا الدعاة الآخرين.. والذين يتبعون قطاعات أخرى كالحرس ونحوه يبلغ عددهم حوالي سبعمائة داعية!! عمال النظافة أكثر من اثنين وعشرين ألفًا!! والدعاة إلى الله - تعالى - الذين هم من ينيرون الطريق للناس فقط سبعمائة داعية!!
ومع هذا العدد الضخم من عمال النظافة نرى في المشاعر من الأوساخ والقذر الشيء الكثير.. بمعنى أن هذا العدد الضخم لم يكف لتغطية العمل المطلوب.. فكيف بسبعمائة داعية.. قل ألف داعية! قل ألفين داعية.. فماذا يصنع هؤلاء مع هذه الأعداد الضخمة؟!!
أيها المسلمون: مليونا مسلم قدموا من كل فج عميق يسخر لهم فقط هذا العدد؟!! مليونا مسلم يتعطش معظمهم للكلمة الطيبة، والتوجيه السليم، والمحاضرة الهادفة ومع ذلك نستقبلهم بمثل هذا العدد اليسير؟!!
مليونا مسلم فرصة سانحة وغنيمة باردة.. فلا يحتاج إلى تذاكر سفر ولا تأشيرات دخول، ولا قيمة السكن في الفنادق، ولا مصروفات المآكل والمشارب ومع ذلك نفرط في هذا الخير العظيم.
أيسركم يا أهل التوحيد أن يرجع هؤلاء بمثل ما جاءوا به؟!! أيسركم يا أهل الإيمان أن يعود هؤلاء ولم نصنع لهم برامج مفيدة، ترسخ فيهم معاني التوحيد الخالص، وتوضح لهم حقائق الإيمان، وتبين لهم بجلاء نواقضه؟!! أيسركم يا أهل الإسلام أن يعبث الأعداء بعقائد المسلمين المستضعفين فلما قدموا إليكم تخاذلتم في تعليمهم مسائل الاعتقاد؟!!
(/40)
أيها الأخوة في الله: إنها مسؤولية الجميع في استغلال هذا الموسم العظيم للدعوة إلى الله - تعالى -، إننا نتحمل مسؤولية هؤلاء الذين قد غُرر بهم في بلدانهم، وقد ضمرت هوية الإسلام من بعضهم، وأصبحت عبادات بعضهم حركات وتمتمات تؤدى بصورة رتيبة بدون خشوع ولا خضوع، ولا استشعار لعظمة هذه العبادات، ومن ثم لا أثر لها في واقع الحياة، مسؤوليتنا في وضع برامج مفيدة، مسؤوليتنا في التخطيط المسبق لكيفية استثمار هذا الموسم!! مسئوليتنا أن نتبنى وضع لجان على مدار العام لوضع مقترحات ووسائل جديدة لهذه الأعداد الغفيرة!!
هذا الموسم العظيم.. وهذا الجمع الغفير.. تصور لو كان للنصارى هل كانوا سيفرطون به مثل ما فرطنا نحن؟!! تصور لو كان الذي يتولى أمره الرافضة هل يتصور أن يحصل عندهم العشوائية في العمل والفردية مثل ما نفعل؟!! تصور لو كان الذي يتولى شأنه الصوفية، هل يتصور أن تكون أعمالهم في الحج فوضوية؟!!
إذا كان الرافضة والصوفية قد استغلّوا هذا الموسم بكافة الوسائل الممكنة، فماذا قدمنا نحن؟!! لقد اشتكى رجال الجمارك من كثرة الكتب والنشرات التي يحضرها الرافضة من بلادهم لنشرها في المشاعر؟!! لقد بلغ بهم الحرص على الدعوة لباطلهم أن يأتوا إلى رجال الأمن ليدعوهم إلى مذهبهم الباطل؟
يا دعاة الإسلام.. يا حملة الشريعة.. يا طلبة العلم.. الله الله في الأمانة التي حملتم إياها.. الله الله في تبليغ دين الله - تعالى -للناس.. فقد رأينا عامة السائلين في كل واد يهيمون، للبحث عن من يحل إشكالاتهم، ويجيب على استفساراتهم.. الله الله في تربية الناس على دين الله - تعالى -، وإذكاء روح الحماس لديهم للعمل به، والدعوة إليه، والذود عن حياضه.
(/41)
إلى متى يا دعاة الإسلام يظل الواحد منا متقوقعًا على مجموعة من طلبة العلم، في إحدى الحملات ليتحول الاجتماع فيها.. إلى اجتماع للمؤانسة والمحادثة والخلطة!! في وقت يحتاج فيه إلى كل وحد منهم حاجة جد والله ماسة.
إلى متى يا طلبة العلم تنفق الساعات الطوال في مطارحات علمية كان لها موقع غير هذا الموقع، وربما ثارت معركة داحس والغبراء في جدل فقهي حول مسألة فرعية، وكأنه لم يسبق أن اختلف فيها مالك والشافعي، ولا أحمد وأبو حنيفة - رحمهم الله - تعالى -.. إلى متى يا حملة الشريعة يظل هم الواحد منا نقل الأخبار فيما جرى له من الزحام، وإضاعة الأوقات بالكلام.. في وقت يتطلع الحجاج فيه إلى هاد يهديهم.. ومفت يفتيهم.. ومرشد يرشدهم.
أيها الأخوة في الله: إن حديثي مع العلماء وطلبة العلم لا يعني خروج غيرهم من المسؤولية والمساءلة.. فكل من عنده طاقات وإبداعات فهو مطالب أن يخرجها في هذا الموسم.. فمن كانت عنده قدرة علمية، فهو مطالب بأن يلقي الدروس العلمية، ويفتي للناس، ويبين لهم أحكام المناسك، وما يجب عليهم، وما يحرم عليهم فعله.
ومن كانت عنده قدرة وعظية فيذهب إلى الحملات وتجمعات الناس في المساجد لتذكيرهم بالله - تعالى -، ويحثهم على تقوى الله - تعالى -والتمسك بدينه، والمداومة على ذكره واستغفاره، ويحثهم على الاجتهاد في الدعاء والتضرع والمناجاة لله - تعالى -، ويحثهم على اجتناب أذية الناس وحفظ اللسان، والإحسان إلى الخلق ونحو هاتيك الموضوعات.
(/42)
ومن كانت عنده خبرة في المشاعر والأماكن فيخرج للناس ليرشد الضال، ويهدي الحيران، ويوصل الشيخ الكبير إلى مكانه. عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والجلوس بالطرقات قالوا يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها قال فأما إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))؛ متفق عليه، وقد زيد على هذه الخمسة المذكورة - زاد أبو داود - وإرشاد ابن السبيل وتشميت العاطس إذا حمد الله - وزاد سعيد بن منصور- وإغاثة الملهوف - وزاد البزار- الإعانة على الحمل - وزاد الطبراني - وأعينوا المظلوم واذكروا الله كثيرا.
ومن كانت عنده قدرة مالية حتى ولو لم يحج فإنه يستطيع أن يساهم بماله في الدعوة إلى الله - تعالى -فيعطي المؤسسات الخيرية أو من يثق بهم من الدعاة إلى الله - تعالى -لشراء الكتب النافعة، و الأشرطة المفيدة، ومن ثم توزيعها على حجاج بيت الله الحرام، أو أن يتبنى مجموعة من الدعاة إلى الله ليقوموا بدعوة بني قومهم فيتكفل بنفقة حج بعض الدعاة من أفريقيا أو من إندونيسيا أو الفلبين أو غيرها من بلاد المسلمين فينسق مع مكاتب الدعوة في الداخل حتى يتم تفريغ هذا الداعية ليقوم بإلقاء المحاضرات والدروس هناك.
ومن كانت عنده قدرة بدنية فيقوم بتوزيع الطعام في أماكن المشاعر المختلفة، ويسقي الحاج، ويعين المسكين، ويساعد أهل الخير في توزيع الكتب والأشرطة على الناس، ويا حبذا لو نسق هؤلاء مع المؤسسات الخيرية
ومن كانت عنده قدرة على التنسيق مع الدعاة إلى الله - تعالى - فليستعن بالله - تعالى -، فينسق مع أصحاب الحملات، على أن يعد لهم محاضرات تربوية، أو دُرُوسًا علمية لبعض العلماء والدعاة إلى الله - تعالى -، فيكون مفتاح خير للناس، ومشعل هداية.
(/43)
وَمَنْ كانت عنده خبرة في شبكة الإنترنت فينشر فيها ما يتعلق بأحكام الحج ويجمع المقالات المفيدة في هذا الموضوع ويطرح بعض الأفكار الدعوية، سواء كان ذلك باللغة العربية أو بغيرها من اللغات، ولا ننسى أن نشكر الإخوة القائمين على بعض المنتديات على تخصيصهم بعض المنتديات للحج وما يتعلَّق به وما ذاك إلا لشعورهم بأهمية هذا الركن العظيم فنسأل الله - تعالى - أن يوفق القائمين عليها.
ومن كان منا يحسن اللغات الأجنبية فينبغي أن يكون صلة بمن يحجبنا عنهم حاجب اللغة فيحادثهم، ويخاطبهم بلسانهم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [ابراهيم: 4] خاصَّة إذا علمنا أن بعض طلاب الدنيا من أصحاب الحملات الخارجية يسعون للتأكل والانتفاع وتحقيق مزيد من المكاسب الدنيوية على حساب إخلال الحجيج بنسكهم واستمرار جهلهم بدينهم وتخلفهم.. فتشعر بثقل التبعة، وعظم المسؤولية.
ولذا من استطاع أن ينسق مع وزارة الشؤون الإسلامية في ترتيب البرامج الدعوية لهذه الحملات فقد فعل خيرا كثيرا، يقول الله - تعالى -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
(/44)
أيها الأخوة في الله: إننا لا ننكر الجهد المشكور الذي يبذله العلماء والدعاة هناك، وما يفعله أصحاب الأموال من الإنفاق العظيم في خدمة حجاج بيت الله الحرام، ولكن مهما عظمت جهود العلماء والدعاة في هذا السبيل فلن تكفي للقيام بالحد الواجب؛ نظرًا لضخامة شيوع المنكرات، وانتشار المخالفات، وعامتها نابع عن جهل وقلة معرفة، لا عن سوء نية وخبث طوية، ولذا فلا بد من قيام كل حاج رأى تركًا لواجب أو مواقعه لمحرم بدوره في هذا السبيل، امتثالا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))؛ رواه البخاري ومسلم، فكن يا رعاك الله ممن يغضب لله إذا انتهكت محارمه، ويسعى بصدق لإحياء هذه الفريضة الغائبة فإنه: ((من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء))؛ رواه مسلم.
وهكذا كان هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - في الحج فقد كان آمرا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، فعندما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يهل بالحج عن غيره، وهو لم يحج عن نفسه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)).
وأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على من تأخَّر في الحل من الإحرام من أصحابه ممن لم يسق الهدي - رضي الله عنهم - وغضب لذلك، حتَّى أمرهم بالحل فحلوا فاستجابوا لذلك - رضي الله عنهم -، فحلوا وسمعوا وأطاعوا، وإنكاره - صلى الله عليه وسلم - على الفضل بن عباس عندما كان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وجه الفضل إلى الشق الآخر.
(/45)
وما أجمل والله أن يتأسَّى الدعاة والمصلحون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الخلق العظيم، ويجعلوا من أنفُسِهم قدوة حسنة للناس، في كافة الأعمال وبخاصة في موسم الحج، بحيث يكونون أسبق الناس إلى فعل الخير الذي يأمرون به، وأبعدهم عن مواقعه ما ينهون عنه، وأشدهم حذرًا منه.
وأخيرًا.. يا دعاة الإسلام لا تنسوا الفرصة العظيمة التي سنحت لكم بوجود المرأة المسلمة، فخصصوا لها برامج تخصها، وأحاديث توجه إليها، ولتكن عنايتكم بالتركيز على المفاهيم الخاصة والتي تعالج ما تتعرض له المرأة من هجوم فكري وتضليل يمارس عليها على المنابر الإعلامية المختلفة.
المصدر: http: //alhabdan.islamlight.net
الدعوة إلى الله في الحج
فيصل بن علي البعداني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الدعوة إلى الله - تعالى - في موسم الحج سنة نبوية منذ فجر الإسلام؛ إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض دعوته على الناس في مواسم الحج، كما أرسل العديد من أصحابه - رضي الله عنهم - لذلك. وفي حجة الوداع نصح الأمة غاية النصح وبلغ البلاغ المبين، وقد استمر علماء الإسلام ودعاته الصادقون على مر العصور في استغلال هذا الموسم العظيم دعويًا مستفيدين منه في إيقاظ القلوب وإنارة البصائر وعرض الإسلام النقي والتحذير من مخاطر الشرك وشوائب البدع والمنكرات.
وفي عصرنا نرى في الحج جهودًا دعوية مباركة، وأعمالاً مشكورة يقوم بها العديد من الجهات والأفراد؛ ولكنها مع كثرتها لا تزال غير كافية وتحتاج إلى مزيد لأسباب عديدة أهمها:
1 - توارد الأعداد الضخمة من الحجيج والتي تتزايد موسمًا بعد آخر، وهو مما يهيئ لإحداث نقلة دعوية نوعية في العالم الإسلامي متى استغل ذلك.
(/46)
2 - تفشي الأمية الشرعية وعموم الجهل بعقائد الإسلام وأحكامه، وانتشار الشركيات والبدع والخرافات بشكل مذهل في أوساط كثير من الحجاج.
3 - نوعية الحجيج؛ إذ كثير ممن يأتي للحج من البلدان المتفرقة هم من ذوي العواطف الدينية الجياشة الذين توفَّرَ لديهم نوع من اليسار النسبي والوجاهة في أوساط أقوامهم، مما يرجى أن يكون لدعوتهم أثر على أقوامهم بعد عودتهم.
4 - استعداد الحجيج وتهيؤهم للاستماع والتلقي.
5 - نظرة كثير من المسلمين لأبناء الحرمين نظرة تقدير وإجلال، وتقليدهم لهم فيما يرونهم يفعلونه ويدعون إليه، وهذا مِمَّا يضاعف المسؤولية ويزيد العبء على عاتق الدعاة والمخلصين في بلاد الحرمين.
كل ذلك يحتم إعطاء الدعوة والإرشاد في موسم الحج أولوية تفوق أولوية الاهتمام بشؤون تغذية الحجيج وإسكانهم وتوفير النقل لهم، كما يحتم تكثيف البرامج الدعوية ومراجعة القائم منها ومحاولة إدخال التجديد عليها بما يتلاءم وأهمية الدعوة في هذا المقام المبارك.
ورغم توفر العديد من الأمور المشجعة على الدعوة في أوساط الحجيج كخصوصية المكان وإقبال الناس على الخير وتهيئهم لسماع كلام الله والعمل به إلا أنه يكتنفها العديد من العوائق التي يجب التنبه لها وتلافيها، ومن أبرزها:
أ - جهود أهل البدع والخرافات في تحصين أتباعهم من التأثر بدعوة الحق وتحذيرهم إياهم من الأخذ عن علماء أهل السنة.
ب - المشقة البدنية الناتجة عن السفر، والجهد المبذول في أداء المناسك، مما يقلل من الفرص الملائمة للدعاة للالتقاء بالحجاج ما لم يكونوا مخالطين لهم وعائشين في أوساطهم.
ج - خشونة بعض الدعاة وعدم تلطفهم مع المدعوين وقلة صبرهم عليهم، مما يجعل الكثير من الحجيج يتهيبون من سؤالهم والأخذ عنهم، بل قد توجد لدى كثير منهم ردود فعل تمنعهم من قبول توجيههم والاستماع إلى نصحهم وإرشادهم.
(/47)
د - كثرة الكتيبات والمطويات والأشرطة التي في متناول الحجيج بما لا يتفق مع منهج أهل السنة والجماعة وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا النسك العظيم.
وقبل أن أبدأ باقتراح بعض الوسائل الدعوية في الحج والتي يمكن للجهات أو الأفراد تطبيق بعضها كلٌ حسب ما يناسبه ويتلاءم مع وضعه أُحِبُّ أن أذكِّر إخواني العاملين في حقل الدعوة في الحج بالأمور الآتية:
* أهمية قيام الدعاة بمراجعة أحوالهم ومحاسبة أنفسهم من ناحية إخلاصهم في دعوتهم لله - تعالى - ومتابعتهم فيها للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
* أهمية حرص الداعية على فقه أحكام المناسك والتحلي بالأخلاق الفاضلة من صبر وهدوء وحسن معاشرة ليكون داعية بسلوكه وأخلاقه قبل أن يكون داعية بلسانه.
* أهمية إدراك العلماء والدعاة - جهات وأفرادًا - عظم المسؤولية الملقاة على عواتقهم والأمانة المنوطة بهم تجاه الحجيج وضرورة جدهم في استغلال هذا الموسم العظيم ومثابرتهم في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة والدعوة إليها، وكشف عوار الباطل والتحذير منه.
* أهمية ترتيب أولويات الدعوة في أوساط الحجيج والبدء بالأهم قبل المهم بحيث يتم التركيز على بيان العقيدة الصافية ومبادئ الإسلام الأساسية والتحذير من الشرك والبدع والمعاصي، والعناية بإيضاح أحكام المناسك وصفة الصلاة والحجاب الشرعي ونحو ذلك مما تمس الحاجة إليه.
* تنفيذ كثير من الوسائل فوق طاقات الأفراد وكثير من الجهات؛ ولذا فلا بد من تضافر الجهود وقيام الجهات الدعوية بالتنسيق فيما بينها للوصول إلى أفضل النتائج الممكنة.
* كثير من الوسائل الدعوية تحتاج إلى تخطيط وإعداد مسبق قبل موسم الحج بوقت كافٍ وما لم يتم ذلك فإن تطبيقها لن يؤتي الثمار المنشودة منها.
(/48)
* الانتباه إلى أن الدعوة ليست توزيع كتاب أو إقامة نشاط أو إلقاء كلمة، بل محاولة تأثير على المدعو وسعي لتفهيمه الإسلام النقي ليعمل به، وتغيير لما يوجد لديه من معتقدات وسلوكيات مخالفة للشرع.
* الدعوة في الحج جهد ضخم وعمل مضنٍ فوق طاقة كثير من الجهات والأفراد؛ ولذا فلا بد من النظرة العالمية والعمل على أساسها بحيث يتم استيعاب كل صاحب جهد سليم وجاد والاستفادة من علماء أهل السنة ودعاتهم في البلدان المختلفة.
* أهمية تفهيم الحجيج بواجبهم تجاه دينهم، وضرورة قيامهم بحمل همِّ هذا الدين والدعوة إلى الله ومناصرة علماء أهل السنة والجماعة ودعاتهم الصادقين في مجتمعاتهم، وإفهامهم بأن الدعوة إلى الإسلام مسؤولية مشتركة بين كافة أبنائه كل حسب وسعه وطاقته.
* لا بد من مراعاة أحوال الحجيج ونظرة بيئاتهم الثقافية والاجتماعية التي نشؤوا فيها إلى بعض المنكرات والمواقف التي لا يرتضيها الداعية، وأن لا يقوم الداعية باستصحاب خلفيته التربوية والاجتماعية عند دعوته لهم وقيامه بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بينهم.
* لا بد من الاهتمام بسلامة محتوى الكتيبات والمطويات والأشرطة الموزعة على الحجيج والتأكد من سلامتها عقديًا وفقهيًا، كما لا بد من الاهتمام بحسن العرض والإخراج حتى يكون ذلك أدعى لقبول الحاج لها واستفادته منها.
(/49)
وأحب أن أشير إلى أن القصد من إيراد هذه الوسائل التمثيل لا الحصر، وأن الأمر قابل للتنمية والزيادة خاصة متى توفرت الركائز الأساسية لذلك، والتي تتمثل بحمل همِّ الدعوة إلى الله والممارسة الفعلية، والتنبيه على أن هدف ذلك تفتيح أذهان الدعاة ولفت انتباههم إلى وجود جوانب دعوية كثيرة في الحج لم تطرق أو أنها طرقت ولكنها تحتاج إلى المزيد، والتنويه إلى أن هذه الوسائل تحتاج إلى تحسين ومراجعة وذلك بعد عرضها على محك التجربة والتطبيق. وقد يلحظ القارئ الكريم تكرارًا في إيراد بعض الوسائل، وهذا مما يقتضيه مثل هذا الموضوع سعيًا إلى جمع الوسائل التي يمكن استخدامها في مقام معين في مكان واحد.
وسائل دعوية في الحج:
الوسائل الدعوية المقترحة في الحج كثيرة، وللاستفادة منها سأوردها كما يلي:
أولاً: وسائل دعوية والحجاج في بلدانهم:
* السعي إلى التنسيق مع مسؤولي الحج في الجهات والمشيخات والمجالس والمؤسسات والمراكز الإسلامية في الدول المختلفة لعقد دورات شرعية عن صفة الحج وآدابه، ومتطلبات الحاج في السفر، والأمور التي يشرع فعلها قبل السفر، وتهيئة الأجواء الملائمة لإنجاحها.
* تكليف الجهات الدعوية والمؤسسات والمراكز الإسلامية بعضَ دعاتهم في البلدان المختلفة بمرافقة الحجاج القادمين من بلدانهم وتعليمهم والقيام بتوعيتهم.
* إيجاد حقيبة إرشادية للحاج بلغته تتكون من مصحف وبعض الكتيبات والأشرطة والخرائط الخاصة بمكة والمشاعر، والتنسيق مع الجهات التي تتولى سفر الحجيج في البلدان المختلفة لتوزيع هذه الحقائب.
* توفير الكتيبات والأشرطة والخرائط الخاصة بمكة والمدينة والمشاعر بلغات مختلفة وعرضها للبيع في البلدان التي يقدم منها الحجاج قبل زمن الحج بوقت كافٍ.
(/50)
* الاستفادة من التقنيات الحديثة لشرح معالم الحج وأركانه وآدابه، كأشرطة الفيديو والمجسمات والشرائح الفلمية؛ لأن كثيرًا من الأخطاء التي يقع فيها الحجيج ناتجة عن الجهل بكيفية المشاعر ومواقعها.
ثانيًا: وسائل دعوية في وسائل التنقل المختلفة إلى بلاد الحرمين:
* عرض أفلام فيديو وتشغيل أشرطة كاسيت حول صفة الحج وآدابه عند القدوم إلى المشاعر، وعند المغادرة وحول أهمية الاستمرار في العمل الصالح، وأن يكون العبد بعد الحج خيرًا منه قبله، والحث على تجنب البدع والمنكرات التي يقع فيها بعض الحجيج عند عودتهم إلى بلدانهم، وأن يكون للحاج عند عودته دور في إصلاح أهله ومجتمعه وبث الوعي الشرعي ومجابهة الفساد.
* توزيع حقائب إرشادية على الحجاج تتضمن مصحفًا وسواكًا ومجموعة من الكتيبات والأشرطة الإسلامية المعتمدة من جهات علمية موثوقة.
* توزيع حقائب توعية خاصة بالمرأة تتضمن بالإضافة إلى ما تتضمنه الحقيبة الإرشادية كتيبات وأشرطة عن صفة الحجاب الشرعي وكيفية الالتزام به، ودور المرأة المسلمة، كما يمكن أن يضاف إلى هذه الحقيبة حجاب شرعي.
* في الرحلات التي تستمر وقتًا طويلاً ويكون العدد مناسبًا يمكن التنسيق مع المطوفين وأصحاب الحملات وشركات النقل لتعيين داعية أو أكثر من الذين يجيدون لغة الركاب لشرح صفة الحج وآدابه والأخطاء التي يقع فيها الحجيج لتجنبها، وطرح بعض الموضوعات العقدية والفقهية، والإجابة عن استفسارات الحجاج ونحو ذلك مما يهمهم.
* الاقتراح على شركات النقل الجوي والبحري وضع مكتبة شرعية صغيرة مقروءة ومسموعة وعرضها على الركاب للشراء أو الاستعارة أثناء الرحلة.
* التأكيد على شركات النقل الجوية والبحرية بأهمية تنبيه الحجيج عند محاذاة الميقات؛ لأن كثيرًا منها لا يقوم بذلك، كذلك عدم عرض أو تقديم ما لا يحل شرعًا.
ثالثًا: وسائل دعوية في منافذ بلاد الحرمين الحدودية:
(/51)
* توزيع المصاحف والكتيبات والأشرطة الإسلامية والخرائط الإرشادية عند قدوم الحجاج ومغادرتهم.
* وضع لوحات توجيهية، وأخرى تحمل عبارات الترحيب والوداع باسم الجهات والمؤسسات الدعوية.
* توزيع دليل بعدة لغات يتضمن أرقام هواتف الجهات الدعوية والخدمية الهامة وأرقام هواتف طلبة العلم والدعاة، ولابد من تضمنه أرقام هواتف بعض الدعاة الذين يتحدثون بلغات مختلفة والإشارة إلى اللغة التي يتحدث بها كل منهم.
رابعًا: وسائل دعوية في مدن الحجاج والمواقيت:
* تكثيف الدعاة في هذه المواقع وبلغات مختلفة؛ بحيث تكون مهمتهم تعليم الحجاج ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، وتوجيههم إلى ما ينفعهم، ومساعدتهم في تصحيح الأخطاء التي تُرَى عليهم، والإجابة عن استفساراتهم، ونحو ذلك.
* تكليف دعاة ميدانيين للرجال وداعيات ميدانيات للنساء يتخاطبون بلغات مختلفة يتجولون في مدن الحجاج بالسيارات وعلى الأقدام بحيث تكون مهمتهم التعليم المباشر للحجاج والدعوة لهم بحكمة ولين.
* الإكثار من مكاتب الإرشاد الشرعي الصغيرة في مدن الحجاج والمواقيت بقدر المستطاع؛ مع أهمية تخصيص بعضٍ منها للرجال وأخرى للنساء.
* توزيع المصاحف وما يستطاع توزيعه من الكتيبات والنشرات والأشرطة الإرشادية بحيث يُضمن وصولها إلى كل حاج بلغته.
* وضع لوحات إرشادية تتضمن صفة الحج وآدابه ونماذج من الأخطاء العقدية والسلوكية التي يقع فيها الحجاج، ويمكن أن يكون بعضها لوحات إلكترونية حتى يتمكن الدعاة القائمون عليها من تحديد التوجيهات الملائمة بلغات مختلفة.
* إقامة الدروس العلمية والدورات الشرعية في مدن الحجاج بعد انتهاء موسم الحج في وقت انتظار الحجيج زمن المغادرة إلى بلدانهم.
* التنسيق مع المجلات الإسلامية لأخذ مسترجعاتها لتوزيعه على الحجاج في مدن الحج بعد انتهاء موسم الحج.
(/52)
* التنسيق مع مكاتب دعوة الجاليات والمكتبات والتسجيلات الإسلامية لإقامة معارض للكتاب والشريط الإسلامي بلغات مختلفة في مدن الحجاج.
خامسًا: وسائل دعوية في النقل الداخلي بين المدن وفي المشاعر:
* إلزام الجهات المعنية جميع أصحاب السيارت بإصلاح مكبرات الصوت وأجهزة العرض والتسجيل المرئي والمسموع.
* توجيه رسائل إلى السائقين تذكرهم بالله، وتحثهم على القيام بالدور المنوط بهم في توجيه الحجاج وإرشادهم، والحرص على أداء الحجاج لنسكهم حسب الوجهة الشرعية.
* إعداد قائمة بالمخالفات الشرعية التي تقع في وسائل النقل، وحث السائقين وشركات النقل على تحاشي وقوعها.
* حث شركات النقل والسائقين على توفير الأشرطة النافعة مرئية ومسموعة، ووضع الكتيبات والمطويات داخل سياراتهم لتزويد الحجاج بها.
* وضع مكتبة شرعية صغيرة مقروءة ومسموعة في الطائرات والحافلات يُمكَّن الركاب من الشراء منها أو الاستعارة أثناء الرحلة.
* وضع لوحات إرشادية تُجعَل خلف الكراسي بشكل أنيق ومناسب في سيارات الأجرة والحافلات تتضمن بعض التوجيهات والإرشادات الشرعية.
* التنسيق مع شركات النقل وأصحاب الحافلات للاستفادة من حافلاتهم في وضع بعض اللوحات والملصقات الإرشادية عليها بلغات مختلفة من الخارج.
* قيام المطوفين وأصحاب الحملات بتعيين داعية في الحافلات الخاصة بهم بلغة الركاب للتوجيه والإرشاد وإقامة البرامج الدعوية والإجابة على الاستفسارات.
سادسًا: وسائل دعوية في الحرمين الشريفين:
* تكثيف الدروس والمحاضرات المقامة في الحرمين بلغات مختلفة.
* تخصيص أمكنة معروفة في الحرمين لترجمة خطب الجمعة بعد أداء الصلاة ودروس كبار العلماء إلى لغات المسلمين الحية عبر مكبرات الصوت الداخلية.
* إلقاء كلمات لكبار علماء الأمة ودعاتها بعد الصلوات المفروضة.
* الاستفادة من ساحات الحرمين وأعمدتهما وجدرانهما وأسقفهما بوضع لوحات إرشادية إلكترونية وعادية بلغات مختلفة.
(/53)
* تعيين جملة من الدعاة الميدانيين والداعيات الميدانيات من ذوي اللغات المختلفة في ساحات الحرمين الداخلية والخارجية لتعليم الحجاج وإرشادهم.
* تفعيل دور رجال الحسبة للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات الشرعية التي يقع فيها بعض الحجيج.
* تخصيص مكاتب للدعوة والفتوى في جنبات الحرمين الداخلية وساحاتها الخارجية.
* إقامة مكتبات مصغرة في جنبات الحرمين بلغات مختلفة وتخصيص عدد من الخزانات (الدواليب) والأرفف لوضع جملة من ترجمة معاني القرآن الكريم والكتيبات والمطويات الإسلامية بلغات مختلفة.
سابعًا: وسائل دعوية في مساجد منطقتي مكة والمدينة:
* قيام الأئمة والمؤذنين بدورهم في توجيه الحجاج الذين يصلون في مساجدهم وتعليمهم، ومحاولة التأثير عليهم وإزالة ما قد يكون لديهم من أخطاء شرعية.
* تفعيل دور جماعة المسجد في الاختلاط بالحجاج وإكرامهم وزيارتهم في مساكنهم، والقيام بتوعيتهم وإرشادهم.
* تفعيل دور نساء جماعة المسجد في الاختلاط بالنسوة القادمات من مناطق مختلفة للحج، وحثهن على تعلم الدين والدعوة إليه والقيام بدورهم في تربية النشء تربية صالحة، والتمسك بالحجاب، وعدم الانسياق وراء الدعوات المشبوهة التي تهدف إلى إفساد المرأة المسلمة وإبعادها عن دينها.
* الاهتمام بإقامة المحاضرات والدروس والكلمات التوجيهية في المساجد بلغات مرتاديها.
* التنسيق مع مكاتب دعوة الجاليات لترجمة خطب الجمعة والمحاضرات والدروس العلمية كل مسجد بلغة مرتاديه من الحجيج.
* إقامة الحلقات القرآنية والدورات العلمية المناسبة باللغات المختلفة.
* اختيار بعض الكتب العقدية والفقهية الملائمة للحجيج للقراءة منها عليهم بعد الصلوات.
* عرض بعض الدروس والمحاضرات المسجلة باللغات المختلفة عبر مكبر صوت المسجد.
(/54)
* الاعتناء بتوفير ترجمات معاني القرآن الكريم والكتيبات والأشرطة ووضع ملصقات ولوحات إرشادية ومكتبة مصغرة للاطلاع بلغة مرتادي المسجد من الحجيج.
ثامنًا: وسائل دعوية في مساكن الحجاج في مكة والمدينة:
* وضع مكتب للدعوة في كل عدد مناسب من المجمعات السكنية يعمل فيه مجموعة من الدعاة الذين يجيدون لغة القاطنين فيها؛ بحيث تكون مهمتهم توعية الحجيج وإقامة البرامج الدعوية والعلمية لهم، والإجابة عن استفساراتهم.
* وضع مقسم (سنترال) ضخم للدعوة والإرشاد يضم مجموعة من الدعاة بلغات مختلفة بحيث يكون لكل لغة جملة من خطوط الهاتف برقم موحد من ثلاث خانات، ويتم إلزام المجمعات السكنية بتشغيل المقاسم (السنترالات) الخاصة بها، ووضع جهاز في كل غرفة أو جناح ووضع ملصق بجواره يتضمن جملة من الإرشادات الشرعية وأرقام هواتف مقسم (سنترال) الدعوة والإرشاد بكل لغة، وإلى أن يقام هذا المقسم (السنترال) يمكن التنسيق مع شركة الاتصالات السعودية للاستفادة من مقاسم (سنترالات) الاستعلامات لديها في منطقتي مكة والمدينة في موسم الحج في هذا الأمر.
* قيام المطوفين وأصحاب الحملات بوضع مكتبة مقروءة وسمعية بلغة القاطنين تتضمن جملة من المصاحف والكتيبات والأشرطة في كل مجمع سكني.
* وضع لوحات إرشادية في الأجنحة والأدوار والمجمعات السكنية تتضمن بعض الملصقات والنشرات التوجيهية بلغة الحجيج القاطنين فيها.
* التنسيق مع طلبة العلم والدعاة الذين يتحدثون بلغات مختلفة للقيام بزيارة الحجاج في مساكنهم للنصح والتوجيه وإلقاء دروس ومحاضرات وكلمات في المصليات، إن وجدت.
* مشاركة بعض الدعاة لإخوانهم الحجيج في السكنى في أماكن إقامتهم واستغلال ذلك في تعليمهم وتوجيههم الوجهة الراشدة.
(/55)
* وضع ركن للدعوة والفتوى في مداخل المجمعات السكنية يتضمن رفًّا توضع عليه الكتيبات والمطويات والأشرطة الخاصة بالتوزيع، ولوحة للفتوى وصندوقًا لجمع الأسئلة والاقتراحات الدعوية على أن تكون الكتابة بلغة ساكني
المجمع.
تاسعًا: وسائل دعوية في المخيمات في المشاعر:
* الاقتراح على المطوفين وأصحاب الحملات بوضع مكتبتين تتضمنان عددًا مناسبًا من المصاحف وترجمة معاني القرآن الكريم، والكتيبات والأشرطة بلغة رواد المخيم في المخيمات التابعة لهم؛ بحيث تكون واحدة في جناح الرجال وأخرى في جناح النساء.
* قيام المطوفين وأصحاب الحملات بتوفير عدد من الدعاة المعتمدين من قِبَلِ الجهات المعتبرة بحيث يكون على الأقل نصيب كل مئتي حاج داعية يخالطهم معلمًا إياهم ومبينًا لهم هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته في أداء المناسك ومحذرًا إياهم من البدع والمخالفات التي يقع فيها كثير من الحجيج.
* التنسيق مع المطوفين وأصحاب الحملات لإيجاد إدارة للإشراف الدعوي والثقافي في مخيماتهم تتولى وضع سلسلة من البرامج الدعوية والعلمية التي تتعلق بالحج وغيره مما يهم المسلم في دينه ويقربه إلى ربه بلغة الحجيج.
* قيام مكاتب دعوة الجاليات ببلاد الحرمين بتنظيم جولات لدعاتها الذين يتحدثون بأكثر من لغة على مخيمات الحجيج الأعاجم الذين يجيدون التخاطب معهم لتوعيتهم وإرشادهم والإجابة على استفساراتهم.
* تنظيم زيارة للعلماء وطلبة العلم إلى مخيمات المطوفين وأصحاب الحملات لوعظهم وإرشادهم وإلقاء الدروس والمحاضرات عليهم.
* العمل على إيجاد قنوات تلفزيونية داخلية في منطقة المشاعر تبث بلغات مختلفة وتكون تابعة للمؤسسات الدعوية في بلاد الحرمين ليقوم من خلالها العلماء والدعاة بتوجيه الحجيج وإرشادهم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم.
ويساعد على نجاح هذه الفكرة بقاء الخيام في الفترة الأخيرة في منطقة منى وجزء من منطقة مزدلفة على مدار العام.
(/56)
* وضع لوحات إرشادية في المخيمات تتضمن بعض التوجيهات الشرعية بلغات قاطنيها.
* وضع أرفف توضع عليها المصاحف والكتيبات والأشرطة الخاصة بالتوزيع.
* تفعيل دور طلبة العلم الموجودين في المخيمات، ومطالبة من يستطيع منهم بإلقاء دروس ومحاضرات وكلمات بعد الصلوات في مخيماتهم والمخيمات المجاورة.
* تفعيل درو طالبات العلم والداعيات الموجودات في المخيمات باعتبارهن الأقدر على التأثير في أوساط النساء ودعوتهن.
* الاهتمام بالمرأة المسلمة وتوعيتها وتنبيهها إلى أهمية اهتمامها بتعلم دينها واعتزازها بهويتها ومحافظتها على الحجاب وترك الاختلاط بالرجال والابتعاد عن التشبه بالكافرات ومن سار في فلكهن.
* إيجاد مجسمات وخرائط للمشاعر للاستفادة منها في بيان الصورة الصحيحة والطريقة السهلة لأداء المناسك.
* ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مخيمات الحجيج بحكمة ولين.
* توفير الأجواء الملائمة والأدوات اللازمة لإنجاح عملية الدعوة والتوجيه داخل المخيمات.
* وضع صناديق للاقتراحات الدعوية في المخيمات في أقسام الرجال والنساء تكون تابعة لهيئة التوعية في الحج والجهات الدعوية في بلاد الحرمين لكي تستفيد من اقتراحات الحجاج في خططها الدعوية للأعوام القادمة.
* زيارة العلماء والدعاة القادمين من مناطق مختلفة للاستفادة منهم والاستماع إلى أخبارهم ومؤازرة أنشطتهم الدعوية معنويًا وماديًا بما يستطاع.
* تفريغ خطوط هاتفية في كل مخيم في قسمي الرجال والنساء تكون خاصة بالاستفسار وطلب الفتوى من أهل العلم.
* وضع لوحة للفتوى، وصندوق لوضع الأسئلة في قسمي الرجال والنساء على أن تكون الإجابة بلغة قاطني المخيم.
عاشرًا: وسائل دعوية في الطرقات والأماكن العامة في مكة والمدينة ومنطقة المشاعر:
(/57)
* وضع مواقع صغيرة في الطرقات والأماكن العامة وبجوار المخيمات للوعظ والإرشاد عبر مكبرات الصوت والإجابة على الاستفسارات وتوزيع الكتيبات والأشرطة في الطرقات وبجوار المخيمات.
* وضع لوحات إرشادية إلكترونية وعادية على الجسور وفي الطرق
والأماكن العامة بلغات مختلفة.
* التنسيق مع الجهات ذات الاختصاص في منطقتي مكة والمدينة للاستفادة من اللوحات الإعلانية الموجودة بها في توعية الحجيج وإرشادهم بلغات مختلفة.
* تكثيف جهود طلبة العلم والدعاة الميدانيين الذين يجولون الطرقات والأماكن العامة بالسيارات وعلى الأقدام للتوعية والإرشاد عبر مكبرات الصوت وبلغات مختلفة.
* الاستفادة من أسوار المخيمات في المشاعر وواجهات وأسطح المجمعات السكنية بوضع لوحات إرشادية يكتب عليها نصوص شرعية وعبارات توجيهية بلغات مختلفة.
* وضع ملصقات للتوعية الشرعية على أجهزة الهواتف العمومية وأبواب المستشفيات والجهات الخدمية المختلفة.
* وضع أجهزة عرض تلفزيوني وتسجيل في أماكن تجمعات الناس العامة كالمطاعم والمستشفيات وجوار كبائن الهواتف العمومية ونحو ذلك لعرض برامج دعوية وعلمية.
* إعداد خرائط بمواقع هيئة التوعية في الحج والجهات الإرشادية لتسهيل عملية الوصول إليها والاستفادة منها.
* تفعيل دور جهات الحسبة للقيام بدورها في وسط هذه الأعداد الضخمة من البشر لزيادة الخير وردع ضعاف النفوس من استغلال هذا التجمع الضخم بفعل ما لا يحل.
* حث طلبة العلم والدعاة والعامة على إحياء السنن التي يُتساهل فيها كالتلبية والتكبير ونحو ذلك.
وأخيرًا:
فالمسؤولية جسيمة، وعلى المطوفين وأصحاب الحملات ومن له تعامل مباشر مع الحجيج خوف الله فيهم والمبادرة بالإحسان إليهم والحرص على صلاح أحوالهم وصحة نسكهم وتعليمهم ما ينفعهم وتحاشي ظلمهم أو التقصير في حقهم خصوصًا في هذا المقام العظيم - زمانًا أو مكانًا -.
(/58)
نسأل الله - تعالى - للجميع قبول العمل والتوفيق لكل خير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر: http: //www.albayan-magazine.com
الحج مؤسسة دعوية
وحيد الدين خان
الحج إعادة للتاريخ الإبراهيمي، فالحاج يقلد بصورة رمزية مختلف مراحل الخطة العالمية التي نفذت بواسطة إبراهيم- عليه السلام -، معاهدًا ربه بأنه سيسخر نفسه للرسالة الإلهية التي سخّر إبراهيم نفسه من أجلها، وأنه سيظل يقوم بالعمل الدعوي الذي قام به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاتمًا للأنبياء .
وكان إبراهيم- عليه السلام- قد خرج من وطنه لتنفيذ خطة إلهية دعوية.. وهكذا يقول الحاج بلسان حاله إنه مستعد – هو الآخر – ليترك وطنه من أجل الدين. وكان إبراهيم عليه السلام قانعًا راضيًا بحياة بسيطة، وهكذا يعلن الحاج بواسطة الإحرام أنه سيكتفي بالحاجات الضرورية ليركِّز نظره على الهدف الأصلي . وكان إبراهيم- عليه السلام- قد أعلن ولاءه لله –تعالى- بالطواف حول البيت الحرام، وهكذا يعلن الحاج ولاءه لله- تعالى- بالطواف حول الكعبة المعظمة .
وكانت زوج إبراهيم قد سعت بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء، وهكذا يُظهر الحاج بسعيه بين هذين الجبلين أنه مستعد للذهاب في سبيل الله إلى آخر الحدود، ولو يحدث لأهل بيته ما حدث لهاجر وإسماعيل. وقد رمى إبراهيم الشيطان بالجمرات حين حاول أن يثنيه عن عمل الله- تعالى-، وهكذا يعلن الحاج برميه الجمار بغضه للشيطان، وبأنه هو الآخر سيعامل الشيطان معاملة مماثلة لو حاول أن يغويه مثلما حاول إغواء إبراهيم. وكان إبراهيم قد استعد ليضحي بحياة ابنه ابتغاء مرضاة الله، وهكذا يعلن الحاج – بتقديم الأضحية – بأنه مستعد للذهاب إلى أقصى حدود التضحية من أجل الدين .
(/59)
وكانت رسالة الدعوة التي قام بها إبراهيم- عليه السلام- تهدف إلى تذكير البشر بيوم الآخرة، وهكذا يتجمع الحجاج في أرض عرفات؛ ليذكروا يوم الحشر ويجعلوا هذه الحقيقة الكبرى جزءًا من وعيهم؛ وليخبروا الآخرين بأمرها.. وكلما نادى الله إبراهيم وجده مستعدًا لتلبية دعوته، وهكذا يقول الحاج عند أداء كل شعائر الحج: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والمُلك" وبهذا يعلن الحاج أنه مستعد لتلبية نداء ربه في كل آن .
والحقيقة أن بيت الله الحرام مركز الدعوة الإسلامية، وأن الحج هو المؤتمر العالمي لدعاة الإسلام. والأفعال التي نقوم بها في الحج هي كلها علامات على مراحل من حياة إبراهيم في سبيل الدعوة.. ومناسك الحج إعادة رمزية لكل الوقائع التي وقعت لإبراهيم -عليه السلام- في مختلف مراحل نشاطه من أجل الدعوة. ويقلد الحاج هذه الوقائع "شعارًا" – أي رمزًا وعلامة – في أيام الحج؛ فيعقد العزم على أنه سيعيش داعيًا كما كان إبراهيم- عليه السلام- داعيًا إلى الرسالة الإلهية.. وبعض هذه الأفعال مراحل مباشرة لحياة الدعوة، بينما يعتبر البعض الآخر من هذه الأفعال مراحل غير مباشرة .
وتخبرنا حياة إبراهيم أن مناسك الحج كانت جزءًا من حياته لأجل الدعوة، أو كانت محطات على مسيرته من أجل الله، ولكن الحج وزيارة الكعبة قد أصبحا نوعًا من نسك ديني سنوي لدى مسلمي العصر الحاضر. ولو قام في المسلمين شعور بالدعوة وروح التبليغ؛ لاكتسب الحج تلقائيًّا أهمية دعوية، ولتحول إلى مؤتمر سنوي للدعوة، ولكن حين تنعدم روح الدعوة بين المسلمين يتحول الحج إلى عمل بلا روح، مثلما هو عليه الآن في الغالب، إنهم يرمون الشيطان الحجري بالجمرات، ولكنهم لا يقومون بشيء لهزيمة الشيطان الحي، إنهم يقلدون أعمالاً رمزية، ولكن تكاد تنعدم فيهم رُوح أداء الأعمال الحقيقية .
الحج وسيلة للوحدة
(/60)
إن أهم ما يميز مسلمي العصر الحاضر هو اختلافهم وانتشارهم، فما السبب في انعدام الوحدة الداخلية بينهم بينما توجد لديهم مؤسسة اجتماعية نادرة كالحج؟! وكان ينبغي أن يكون الحج – بمؤتمره السنوي العالمي – وسيلة قوية لاتحاد المسلمين تذيب كل الخلافات الأخرى. ويعود السبب في هذا إلى أن الحج قد أصبح تجمعًا تقليديًّا بدلاً من أن يكون مؤتمرًا حيًّا لحملة رسالة عظيمة .
وتتطلب الوحدة أن يُوجَد بين الناس هدف مشترك يركِّز أنظارهم وتوجهاتهم نحو الهدف الأعلى.. فتوجهات الناس تتشتت في قضايا تافهة عندما يختفي الهدف الأعلى عن الأنظار.. وهم لن يتحدوا فيما بينهم مهما عُقِدَت المؤتمرات الكبرى. والدعوة هي الهدف الأعلى للأمة المسلمة، وستتجه الأمة كلها إلى هدف أعلى لو برزت فيهم هذه العاطفة الدعوة. وعندئذٍ سيصبح مؤتمر الحج وسيلة لتحقيق الوحدة العالمية بين المسلمين، وبالتالي سيصبح الحج مركز الدعوة الإسلامية العالمية .
الحج عمل حي
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أدى حجة الوداع سنة 10 هـ، وألقى في التاسع من ذي الحجة خطبة تفصيلية في وادي عرفات أمام أكثر من مائة ألف من المسلمين، وتُعرَف هذه الخطبة بخطبة حجة الوداع، كما أن حجه هذا يعرف بحجة البلاغ؛ لأنه- صلى الله عليه وسلم- أبلغ أمته كل التعاليم الإسلامية الأساسية في هذه الخطبة، وأخذ منهم عهدًا بإبلاغها إلى الآخرين. وقال في آخر الخطبة: ((ألا فليبلغ الشاهد الغائب، فرُب مبلغ أوعى من سامع. وأنتم تُسألون عني، ماذا أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد أديت الأمانة وبلغت الرسالة ونصحت، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)).
(/61)
وتُوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد شهرين من هذا. وكان الإسلام قد انتشر في بلاد العرب وحدهم في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم-، وخرج أصحابه الكرام إلى خارج بلاد العرب، وجعلوا رسالة حياتهم تبليغ الإسلام، وسخَّروا أنفسهم بكل ما يملكونه لأجل نشر الدين الإلهي.. وكانت النتيجة أن انتشر الإسلام في جزء كبير من العالم القديم خلال خمسين سنة من وفاته - صلى الله عليه وسلم -.
والناس لا يزالون يؤدون وبدون انقطاع فريضة الحج بصورة منتظمة، ويردد الإمام كل سنة كلمات مماثلة لما قاله رسول الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا، ولكن كلمات هؤلاء الأئمة لا تؤدي إلى نتيجة ما هذه الأيام.. فما الفرق بين الحالتين؟! إن الفرق يعود إلى أن الحج كان عملاً حيًّا في الماضي، وقد تحول اليوم إلى عمل تقليدي. والذين كان رسول الإسلام يخاطبهم في حجة الوداع كانوا قد تجمعوا هناك لكي يسمعوا ويطيعوا. أما جموع الحجاج التي تتوجه إلى مكة والمدينة هذه الأيام فلا يهمها إلا أن تؤدي بعض الطقوس لتعود مرة أخرى إلى بلدانها؛ فتعيش كما كانت تعيش من قبل .
ومن هنا ندرك أن إحياء الحج كفاعل مؤثر في الحياة الإسلامية اليوم يقتضي إحياء الحجاج، وما لم نُحِي شعور الحجاج، وبكلمة أخرى شعور المسلمين، فستظل عبادة الحج بدون أثر تمامًا كبندقية فاسدة لا تطلق النار عندما يُضغط على زنادها .
تنظيم جديد للحج
وإحياء الحج بروحه الأصلية يقتضي إحياءه كمؤسسة للدعوة؛ فينبغي تسخير الحج كمركز للتخطيط العالمي للدعوة الإسلامية، وينبغي أن يعرض الناس من مختلف البلاد أحوال الدعوة في بلدانهم في هذه المناسبة العالمية، فينبغي أن يطلع الناس على تجارب المناطق الأخرى ويستفيدوا بها. ويجب على خطب الحج أن تركز على بيان أهمية الدعوة وتشرح إمكاناتها الجديدة، وأن تُعدَّ مؤسسة الحج مكتبة دعوية بمختلف اللغات؛ ليتم نشرها على المستوى العالمي…إلخ .
(/62)
وينبغي أن ندرك أن توجيه الحج على هذه الخطوط الجديدة لن يتم بدون توجيه حياة المسلمين على خطوط جديدة، فمسئولية المسلمين الأساسية هي الشهادة على الناس، وعلاقاتهم مع الشعوب الأخرى هي علاقة الداعي والمدعو، ولكن هذه الحقيقة قد غابت عن مسلمي العصر الحاضر. ويجب إحياء المسلمين كجماعة داعية؛ لكي يتم إحياء الحج كمؤسسة للدعوة، ويجب إقناع المسلمين بأن يُنهوا أنشطتهم القومية في كل أنحاء العالم التي تحول دون قيام جو الداعي والمدعو بينهم وبين الشعوب الأخرى، ولو لم يتوفر مثل هذا الجو بينك وبين الشعوب الأخرى، فمن ستدعو ومن سينصت إلى دعوتك؟
ثم يقتضي هذا الهدف أن نقيم جامعات من الطراز الأعلى وتكون مناهجها وأنظمتها موجهة للدعوة بصورة كلية، وأن تقام مؤسسات تربي الدعاة تربية دعوية صحيحة، وأن تنشأ مكتبة تخلق بين الناس العقلية الدعوية وتسلحهم بمعلومات الدعوة، بل ويقتضي هذا الهدف أن ننشئ من جديد المكتبة الإسلامية الأساسية؛ لأن كتب التفسير والسيرة التي ألفت في العصر الحاضر قد كتبت بدافع رد الفعل على وجه العموم.. فقد ظهرت هذه الكتب ردًّا على حملات الشعوب الأخرى الفكرية والعملية، ولم تظهر لأجل الدعوة إلى الإسلام بصورة إيجابية .
ولو عدتَ بمخيلتك إلى الوراء، إلى بدء العصر المكي؛ فسترى رسول الإسلام يطوف حول الكعبة وحيدًا. فكان للإسلام تابع واحد في العالم كله.. أما اليوم فستشاهد جموعًا غفيرة كل يوم تطوف حول الكعبة، ثم ترى الجموع تتقاطر إلى مكة من كل أنحاء العالم في أيام الحج؛ لدرجة أن المسجد الحرام يضيق بهم كل سنة على توسعته المستمرة. فكيف تحققت هذه الكثرة؟! والرد هو أن هذا تحقق بالدعوة .
(/63)
فالحقيقة هي أن مؤتمر الحج العالمي مظاهرة سنوية لقوة الدعوة الإسلامية، وهو يخبرنا بأن الله- تعالى- قد أودع أسرار كل الرقي والعظمة في قوة الدعوة الإسلامية.. فنجاة أهل الإسلام دنيويًّا وأخرويًّا رهن بقيامهم بهذا الواجب. ونعرف من دروس التاريخ أن قوة الإسلام كانت دائمًا في دعوته، صحيح أن الإسلام لم يتمكن في بدايته من التأثير في عوام الناس بمكة إلا أن كل الأفراد ذوي القيمة، الذين أصبحوا فيما بعد أعمدة التاريخ الإسلامي هم أولئك الذين وجدهم الإسلام في بداية العصر المكي، وهذا يعود إلى الدعوة الإسلامية وحدها؛ لأن الإسلام لم يكن يمتلك قوة ما غيرها حينذاك، ورجال مكة الذين أسلموا فيما بعد هم أيضًا تأثروا بأحقية الإسلام الفكرية مثل: عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما.
واستحكم أمر الإسلام في المرحلة الثانية، أي في العصر المدني بواسطة الدعوة نفسها، فلم يغزها الرسول ولم يفتحها عسكريًّا، بل آمن البعض من أهل المدينة بالإسلام ورجعوا دعاة إلى الإسلام؛ فبدءوا يدعون الناس بأسلوب بسيط، بالإضافة إلى جهود الداعية مصعب بن عمير، ونتج عن هذا دخول الناس أفواجًا إلى الإسلام إلى أن أصبحت المدينة المركز الفكري والعملي للإسلام .
والحج وبيت الله علامتان على خطة دعوية عظيمة، فعندما لم يسمع صوت إبراهيم- عليه السلام- في مناطق العراق والشام ومصر "المتحضرة " ، أسكن أسرته – بأمر الله – بمكة وبنى بها الكعبة لتكون مركزًا دائمًا للهداية الإلهية {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين} [سورة آل عمران: 96]
(/64)
ويروي عمرو بن عوف- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الدين ليأزر إلى الحجاز كما تأزر الحية إلى جحرها وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي))؛ أخرجه الترمذي: أبواب الإيمان، باب بدأ الإسلام غريبًا.
وهذا يعني أنه كما كان الحجاز مركز الدعوة الإسلامية في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- فكذلك سيصبح الحجاز مركز إحياء الدين الإلهي، حين يختفي أثره من حياة الناس. فالحج مقام العبادة الإلهية كما هو مركز الدعوة إلى دين الله وتجديده. وتقتضي الحاجة أن نحيي الحج ومركز الحج مرة أخرى من هذه الناحية .
وقد فتحت الثورة العلمية كثيرًا من الإمكانات الجديدة. ويمكن نتيجة لهذه الإمكانات أن نستخدم مؤتمر الحج العالمي لأجل التخطيط للدعوة على مستوى أعظم من أي وقت مضى؛ فنجعل منهج الفكر الإسلامي هو المنهج الفكري الغالب على العالم مرة أخرى تمامًا كما كان في العصور الماضية.. هذا هو المعنى الذي يعبِّر عنه القرآن الكريم بكلمات "إظهار الدين" و "إعلاء كلمة الله"، ولا يتحقق هذا الهدف إلا بإحياء أهمية الحج الدعوية مرة أخرى .
شرط ضروري
هناك شرط ضروري لتحويل مؤسسة الحج إلى مؤسسة عالمية للدعوة، وهو إبقاء فريضة الحج بعيدة عن السياسة بصورة كلية .
وقد أديتُ فريضة الحج في سبتمبر سنة 1982 .. ورأيتُ ذات يوم، وأنا في بيت الله الحرام، أن أناسًا من بلد معين دخلوا المسجد الحرام بدءوا يرفعون شعارات بحياة زعيم بلدهم، فتجمع حولهم كثير من الحجاج وبدأت بينهم مناقشات خلافية.. واستمرت هذه المناقشات فترة طويلة.. وجو بيت الله هو جو الذكر والعبادة ولكن هذه الجهالة حولته إلى جو النزاع السياسي !!
(/65)
وحدثت هذه القصة في المدينة أيضًا.. وكنتُ أقيم بأحد الفنادق في المدينة، وهنا جاء بعض الشبان إلى غرفتي وكانت لديهم كتيبات مطبوعة بالإنجليزية والعربية.. وكانت هذه الكتيبات تحتوي على هجوم على حاكم بلد إسلامي معين، وقدم هؤلاء الشبان هذه الكتيبات إليَّ فقلتُ لهم: إنكم تضيعون وقتكم الثمين، وتسيئون استخدام أيام الحج أيضًا.. واستمر هؤلاء الشبان يتجادلون معي بعض الوقت إلى أن انصرفوا غاضبين .
وقد أصبح هذا الاتجاه خطيرًا في الزمن الحاضر، فتنظر بعض المنظمات والحكومات إلى الحج من زاوية أنه تجمع عدد كبير من المسلمين في وقت واحد ومكان واحد، ولذلك تريد هذه المنظمات والحكومات أن تستخدمه لأهدافها السياسية المحدودة.. ولكن هذا الأسلوب خاطئ تمامًا، وهو يعارض أهداف الحج بصورة كلية. فينبغي أن ننظر إلى المسلمين، الذين يتجمعون للحج، من زاوية أنهم جاءوا لأداء هذه الفريضة وحدها. والطريق الصحيح للاستفادة من هذا الاجتماع العالمي هو أن نبعث في الناس رُوح الدعوة لكي يعودوا إلى بلدانهم دعاة إلى دين الله بدلاً من أن ينشروا هناك دعايات سلبية ضد بعض المسلمين .
إن الحج قوة عظيمة ويمكن استخدامها لأجل الدعوة الإسلامية العالمية بطريقة مؤثرة للغاية، ولكن بشرط ألاَّ يكون مسرحًا للخلافات بين المسلمين .
http: //www.islamonline.net/Arabic/index.shtml
الأفكار الجلية للجان الدعوية بمخيمات الحج
صوت الدعوة
1. توزيع أشرطة مناسبة أو توزيعها في كل خيمة بالإضافة إلى توفير بعض المسجلات إن أمكن.
2. إعداد برنامج صوتي خاص بالمصلى فقط ويخصص له وقت محدد.
3. توفير مكتبة صغيرة بالمصلى (للرجال. للنساء) يتوفر بها كل ما يناسب الحاج مع وضع شروط للاستفادة من الكتب. (توفير بعض المجلات الإسلامية أيضًا).
4. تيسير الفتوى إما بوضع رقم اتصال خاص بذلك أو تحديد موعد مع أحد المشائخ أو وضع صندوق للأسئلة يتابع كل 3 ساعات مثلا.
(/66)
5. تنظيم بعض الزيارات للمشائخ والدعاة وهذه تحتاج إلى تنظيم وتنسيق متقن ولا تنفذ عادة إلا في أيام التشريق لوجود فسحة في الوقت واتحاد المكان.
6. العبارات الحائطية الدعوية.. وتختم كل لوحة باسم (اللجنة الدعوية بالمخيم)... ويشمل لذلك عبارات الترحيب بالمشايخ الزائرين للمخيم، ومن المقترحات: وضع بعض العبارات في حافلات النقل
7. توفير الفلم الوثائقي المخصص للحج مع جهاز عرض.وكذلك يتوفر عرض لأعمال الحج على برنامج الباوربوينت.
8. وضع برنامج توزيع للمطويات والكتيبات يتناسب مع الوقت والمكان.
9. من المهم وضع جدول زمني لنشاط اللجنة الدعوية.
10. الاهتمام بالأطفال وهذا يعتمد على عددهم في المخيم.
11. لوحة (أعمال الحج) و (صفة الصلاة) و (صفة الوضوء) توزع في الأماكن المناسبة في قسمي الرجال والنساء.
12. يتوفر بالأسواق كتاب (فتاوى ورسائل الحج) بسعر (7) ريال يمكن عرضه على لوح فلين وتغير الموضوعات باستمرار.
13. تفعيل دور طلبة العلم الموجودين بالمخيم سواء في الكلمات أو المواعظ أو المشاركات الكتابية أو جلسات الحوار.. الخ.
14. إعداد هدية دعوية توزع في نهاية رحلة الحج.
15. الاستفادة من مقر رابطة العالم الإسلامي في منى سواء بالزيارة أو حضور المحاضرات أو لقاء الدعاة... الخ.
16. تطبيق بعض الأفكار الأخرى المتوفرة بموقع صيد الفوائد.
http: //www.saaid.net/afkar/index.htm
خطوات إعداد البرنامج الصوتي:
1. اختيار الوقت المناسب.
2. اختيار المادة المناسبة سواء من الأشرطة أو من إذاعة القرآن الكريم.
3. توفير المادة قبل البرنامج بوقت كافٍ.
4. يقسم البرنامج على قسمين للرجال والآخر للنساء هذا عن وجود مادة مستقلة لأحد القسمين.
5. جهاز مسجل مع سماعات أو الاكتفاء بسماعات الإذاعة المتوفرة بالمخيم.
6. يركز في المواد الصوتية على الجوانب المتعلقة بالنواحي التربوية واستشعار مقاصد الحج التعبدية.
(/67)
7. البعد عن الإطالة والتكرار للمادة الصوتية.
8. تقبل الاقتراحات من أعضاء المخيم.
خطوات إعداد المصلى:
1. رفوف للمصاحف وترتب بعناية في أرجاء المصلى.
2. دولاب صغير في آخره للكتب.
3. التجهيز المبكر قبل الصلاة.
4. توزيع السماعات بعناية ودقة.
خطوات إعداد برنامج التوزيع الدعوي:
1. اختيار المطويات المناسبة.
2. توفير الكميات المطلوبة مبكرًا.
3. وضع أرفف (خذ نسختك) أو تخصيص مكان معين للتوزيع.
4. الاهتمام بكروت الأذكار.
من الأشرطة المقترحة:
1. من كنوز الحج للدويش.
2. عرفات عبر وعظات للدويش أيضًا.
ومن الكتب:
1. فتاوى للحجاج والمعتمرين جمع دخيل الله المطرفي.
2. أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج لفيصل البعداني.
آفاق عملية للداعية في الحج
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده أما بعد
معشر الدعاة: أحييكم والتحايا مفاتيح القلوب فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وبدون إطالة ومقدمات فالجميع يدرك أن الحج موسم وغنيمة وفرصة وتجارة للدعاة في تبليغ دين الله لجميع الطبقات والمستويات ومساهمة مني في عطاء أكبر وثمرة أجود ونتاج أعظم ونفع أقوى لذا فهذه إشارات يسيرات ونتف سريعات كتبتها على عجل قد يعتريها الخلل وقد ينقصها جودة الترتيب وحسن العبارة و الأسلوب فعذرا عذرا وأستغفر الله من الزلل.
هي ذكرى ولا بأس أن يذكر المفضول الفاضل.
آفاق عملية للدعاة في الحج وورقة عمل أقدمها لمشايخنا الأجلاء ودعاتنا الفضلاء وطلبة العلم النبلاء فإليكها عبد الله رضي الله عنا وعنك:
1- الإعداد الجيد والمتميز والمؤثر في الطرح.
2- إعداد أكثر من موضوع يتنقل بها الداعية في مساجد مكة والمشاعر ومخيماتها من أمور عقدية أو فقهية أو وعظية أو تربوية.
3- مراعاة أحوال المستمعين فيطرح ما يناسبهم من المواضيع السابقة.
(/68)
4- يحاول الداعية قبل زيارة المخيم معرفة ماهي الفئة الغالبة من الناس عوام أم شباب وإن كانوا شبابا فما صفتهم وأعمارهم حتى يكون الطرح مناسبا فتفهمه القلوب وتصل الرسالة التي يريد ويحاول معرفة ما طرح في المخيم أو المسجد من محاضرات وكلمات حتى لا يكون الطرح مكررا فتمله الأسماع وتنشغل عنه القلوب والأبدان.
5- التنسيق المسبق والترتيب المنظم بحيث يجعل جزءا من اليوم أو يوما لعدة مساجد أو مخيمات متقاربة وذلك بسبب قلة الوقت وكثرة المخيمات وتباعدها وصعوبة التنقلات فإذا كان التنسيق جيدا والترتيب رائعا استطاع الداعية بإذن الله أن يحقق كثيرا من الزيارات و اللقاءات.
6- محاولة استخدام بعض وسائل النقل السريعة لئلا يختل برنامج المواعيد وحتى يكون العطاء أكبر واللقاءا ت أكثر.
7- عدم إهمال المخيمات العربية وغير العربية من اللقاءات ولو كلمات بعد الصلوات.
8- من المشاهد والمعلوم أن أصحاب المخيمات يحرصون على أن يرافقهم بعض طلبة العلم والدعاة لكي يجيب على أسئلتهم واستفساراتهم ففي رأيي القاصر أن الداعية الزائر لا يجيب على الأسئلة المتعلقة بالحج إذا وجد في المخيم من ذكرت سابقا وذلك له فوائد عدة:
أ - الإجابة على أكبر قدر من الأسئلة المتعلقة بغير الحج.
ب - أنك في الغالب تجد الحاج فد سئل عن مسألته أكثر من شخص طلبا للاطمئنان أو تتبعا للرخص.
ج- بعدا عن إحداث التشويش الذهني عند الحاج لأن جملة من مسائل الحج محل خلاف وخاصة حملات البلدان العربية الأخرى أو غير العربية للاختلاف المذهبي الفقهي.
د- محاولة الاستفادة مما تبقى من الوقت في أماكن أخرى.
9- محاولة التعرف عند زيارة الحملات عمن فيها من طلبة العلم والدعاة
(/69)
والجلوس معهم ولو لدقائق معدودة للاستفادة والتواصل المستقبلي وتبادل شيئا من الأرآء والأفكار والمواضيع فقد يكونون من نفس البلد فيزداد التواصل أو بلد آخر أو دولة أخرى فيتم التعارف فلعلك تلتقي بأحد الدعاة التي تتمنى أن تلتقي به مما تسمع عنه أوله أو تقرأ عنه أوله.
10- يلاحظ أن بعض الحملات مشتهرة بإستضافة كبار الدعاة وطلبة العلم وبعضها فقيرة بذلك بل قد لا يزورها أحد ففي ظني تقدم الثانية في الإجابة والزيارة أولى ولذا على الداعية أن يسأل عن برنامج الحملة في الاستضافات.
وليكن إجابة تلك اللقاءات مبنية على المصالح العامة لا الخاصة.
11- على الداعية وطالب العلم إذا دعته بعض الحملات للحج معها أن يسأل من معها من الدعاة فإن كان معها أحد فليذهب للتي ليس معها أحد حتى يتم النفع أكثر ويستفيد أكبر عدد من الحملات من الدعاة وطلبة العلم من علمهم وتوجيههم فما الفائدة حين يكون في الحملة الواحدة عددا من الدعاة وفي المقابل أخرى ليس بها أحد والحكم العقل لا العاطفة والمصلحة العامة لا مراعاة الأشخاص ولا ننساق وراء بعض المخادعات والأساليب الملتوية والإغراءات من بعض أصحاب الحملات معشر الدعاة فالحذر الحذر.
إشكال: قد يتردد الداعية مع من يحج من الحملات أيحج مع حملات بلده أو حملات من غير بلده؟ ففي رأيي أن ينظر إلى أمور:
أ - في أيهما سيكون أكثر نشاطا وهمة.
ب - في أيهما سيكون له أثر إيجابي ورائع في نفوسهم.
ج- في أيهما الحاجة أكثر.
د- مراعاة فقه الأولويات.
12- نجد تضييق دائرة العقيدة والتوحيد عند الطرح في قضايا الشرك والتبرك الممنوع مع أن التوحيد والعقيدة أشمل من ذلك كله ولا نهمل جانبا دون آخر فليس من العقل والمنهجية والواقعية أن تحصر له الإسلام والدين والعقيدة طيلة بقاءه قبل الحج وأثناءه وبعده في قضيتين أو ثلاث حتى يقول أحدهم (إن الدعاة يظنون أننا لا نعرف من التوحيد شيئا وأن حياتنا شرك في شرك)؛ فالتوازن مطلوب.
(/70)
13- يحسن بالداعية قبل أن يقدم على مسجد أو مخيم لتذكيرهم أن يعرف جنسيتهم ليأتي بمترجم يترجم للمستمعين حديثه ويكون ذا ثقة وأمانة وعلم حتى لا يخون أو يلبس أو يخطئ في ترجمته وحتى تبلغ رسالته على أكمل وجه.فإنه يلاحظ أن بعض الدعاة يقدم على مسجد أو مخيم ليتكلم فيجد الغالب غير عرب فيلقي ولا مستفيد أو يجد مترجما منهم مجهول الحال فيحاول قدر المستطاع يسدد ويقارب ويفيد.
14- زيارة الحجيج في أماكن نزولهم وإقامتهم.
15- وضع جدول لبرنامجه الدعوي يتضمن ما يلي:
أ- مكان المخيم بوضوح حتى لا يذهب الوقت في البحث.
ب- نوعية الحجاج.
ج- اليوم والوقت.
د- الموضوع.
ه-اسم المنسق ورقم هاتفه.
16- يحسن بالداعية أن يكون له رفيقا من طلبته أو الشباب الأخيار الثقات في برنامجه الدعوي ليكون عونا له في كثير من الأمور و حتى يؤدي رسالته على الوجه المطلوب دون خلل أو كلل أو ملل.
17- يحسن بالداعية أن يتأخر الثالث عشر ليكثر نفعه.
18- زيارة المخيمات الحكومية كالأمن العام بجميع قطاعاته وغيره فقد تكون منسية وخاصة أن حضورهم قبل الحج يكون مبكرا وبقاؤهم بعد الحج يطول.
19- إنشاء دورات علمية في المساجد التي يكثر بها الحجاج وتكون في مالا يسع المرء جهله من الدين في التوحيد والفقه وغيره وإن تيسر ذلك في المخيمات بأنواعها العربية وغير العربية.
20- يشاهد إسراف كبير مؤلم جدا في موضوع توزيع الكتب والأشرطة حتى تجد أن الحاج منذ نزوله وهو يكدس بالكتب والأشرطة حتى يمتلئ ثم يتركها في مخيمه ملقاة فلو جعل آلية للتوزيع من حيث ما يحتاجه الحاج عند دخوله فيعطى وعند خروجه فيعطى وتوحيد الجهود في ذلك بين الشئوون الإسلامية والمؤسسات الخيرية الأخرى من حيث مكان وزمان التوزيع والمادة الموزعة سواء مسموعة أو مقروءة فليكن للدعاة موقفا من ذلك بطرح ودراسة واقتراح.
(/71)
21- يلاحظ أن كثيرا من الأصوات في المشاعر توجيها وإرشادا وتعليما في جميع النواحي باللغة العربية ونادرا بغير العربية. فلماذا لا يكون في مكاتب الإفتاء المنتشرة والمتنقلة في السيارات وغيرها التي تستخدم مكبرات الصوت إعادة التوجيه والفتوى بعدة لغات بعد ذكره بالعربية.
22- يلاحظ من بعض طلبة العلم والدعاة حين توضيح الفتوى الشرعية يغفل عن جانب التوجيه من حيث تخويف المتعمد في فعل الخطأ وترك الواجب بالله عز جل وأنه يكثر من التوبة والاستغفار و يذكر الجاهل بالتعلم وسؤال أهل العلم قبل العمل وأن يذكر الناسي بالتنبه واليقظة وعدم التفريط، فلا بد من ربط القلوب بذلك واستشعار عظمة المعبود سبحانه وتعالى فليست القضية أقوال وأفعال وحين المخالفة المتعمدة دماء تراق فتنتهي القضية ولذا نجد على عظم أعمال الحج إلا أنها لا تغير في سلوك الحجاج وحياتهم شيئا كبيرا بعد العودة إلا من رحم الله.
23- يلاحظ ربط الحجاج حين التعليم بأفعال وأقوال وحركات مجردة من معاني تحقيق العبودية لله من صدق وإخلاص و خوف ورجاء ورضا في تلك الأحوال والمقامات وتحقيق معنى الإتباع والإقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام فحري بالداعية أن يربط الناس بذلك.
24- إعداد ورقة عمل بشكل أوسع للدعوة في الحج يقدمها الدعاة للشئون الإسلامية.
أخيرا: داعية الإسلام الجهد الجهد والبذل البذل والعطاء العطاء وإن كلت النفس أو أحسست بتعب ونقص فتذكر حال الرسول المختار وصحبه الأبرار والعلماء الأخيار كيف بذلهم وعطاؤهم واحتسابهم.
تذكر أنها ماهي إلا أيام والجميع يتلهف إلى الرحمة والتوبة والقبول فلعلك تفز بتلك القلوب وترحل بها إلى علام الغيوب.
فكلما خرجت من لقاء وحملة فإلى آخر وحديث النفس والحال: لعل في التي بعدها الأجر والقبول، لعل في التي بعدها رجل مسرف بالمعاصي والذنوب، أهلكته الأوزار والآصار فتكون سببا في نجاته وسعادته وفلاحه وهدايته وصلاحه فنعمت الغنيمة !!.
(/72)
معشر القراء الفضلاء نأمل المزيد من إثراء الموضوع من خلال جميع الوسائل وفق الله الجميع لمايحبه ويرضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن وآلاه.
www.saaid.net
رسالة إلى داعية بمناسبة قدوم موسم الحج
صلاح نور عبدالشكور
إلى الدعاة الفضلاء.. إلى الأساتذة الكرام.. إلى إمام المسجد المبارك.. إلى سائر ساكني بلد الله الحرام إلى العاملين في حقل الدعوة أيًّا كانوا.. تحايا القلب المعطرة تكاد تخرج من غير استئذان.. وكلمات السلام تتزاحم على الشفاه وهي تدعوا لكم بالتوفيق والنجاح.. وأحرفي هذه أراها تتفاخر نشوة بلقائكم عبر هذه الأسطر التي نلتقي في ظلالها...
أخي الداعية - وكلنا ذاك -: هاهي الأيام تطوي بعضها بعضًا.. وهاهي الأشهر تتوالى علينا سراعًا لنقف جميعًا على مشارف شهر عظيم وموسم فضيل.. تهفو النفوس لذكراه.. وتتلهف الأفئدة للقياه لتنعم بحج البيت العتيق...
أيها المبارك: هذا موسم الحج قد أطل علينا من جديد.. وهاهي نفحات السعادة انبعثت لتنشر بين جوانحنا فوح الطاعة وأريج العمل الصالح.. وأنت أيها الداعية لي معك حديث أخصك به.. كيف لا وقد حملت على كاهلك أعظم ما اختُص به أنبياء الله ورسله ألا وهي مهمة الدعوة إلى الله وتبليغ دينه...
(/73)
أخي: يا من منّ الله عليك بهذه النعمة الجليلة.. أظن أنه لا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغل الفرص في دعوته إلى الحق وينتهز المواقف ليسخرها في الوعظ والتذكير، وقد كان صلى الله عليه وسلم يترقب تجمعات الناس في المواسم ويذهب إليها ليبلغ دين الله.. وكان لا يدع أية فرصة إلا وسخرها في الدعوة.. ويراعي في ذلك أحوال الصحابة الكرام.. فلما مرّ ذات يوم على جدي أسكّ (الغنمة الميتة) ذكرهم بحقارة الدنيا.. وعندما بعث خالد بن الوليد بديباج مخوص بالذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الصحابة يتعجّبون من نعومته ولينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا)) ولو ذهبنا نستقرأ مواقفه صلى الله عليه وسلم في هذا لطال بنا الحديث.
فهل أدركت أخي الغالي هذه الفرصة الدعوية التي لا تتأتى في العام إلا مرة واحدة.. فماذا أعددنا لها من خطط وأفكار وبرامج وأهداف لنهدي الناس إلى الخير؟!.. ونستقطبهم إلى شاطئ الهداية.. وننقذهم من طوفان الرذيلة.. فكم هم أولئك الذين قد عقدوا العزم من الآن لحج بيت الله العتيق في أنحاء العالم وكم من أفواج وأفواج قد أخذت تتوافد إلى حرم الله استعدادًا لذلك المجمع الميمون الذي يباهي الله به ملائكته الله.. فمتى سندعوا إلى الله إن فرطنا في مثل هذه الفرص المواتية المباركة...
أخي: أيها الداعية إلى الحق: اسمع لهذا الخبر الهام يقول أحدهم: قدّر لي أن أتواجد أثناء إجازتي في مكان ومع أناس كانوا يشاهدون نهائي كاس العالم في اليابان وبالتالي فقد تسنّى لي مشاهدة أجزاء من اللقاء الختامي ثم بعضًا من مراسم تتويج بطل العالم.. إلى هنا والأمور طبيعية جدًّا..
(/74)
ولكن لا أدري هل تابع البعض ما حدث عقب نهاية المباراة فورًا أم لا؟؟؟ هل لاحظتم تلك الفانيلات البرازيلية التي استبدلت بفانيلات بيضاء مكتوب عليها عبارات باللغة الإنجليزية ربما لم ينتبه إليها البعض وربما لم يفهمها البعض الآخر.....
ولكن هل تدرون ماذا كانت تقول:
We belong to jesus .. jesus loves you
وغيرها
والعبارات تعني بالعربية "نحن ننتمي للمسيح.. المسيح يحبكم"
وغيرها مما لم يتسنَّ لي رصده في تلك اللقطات العابرة ولكن من المؤكد وجودها حيث كثرت تلك القمصان البيضاء واختلفت الرسومات والكلمات التي فيها..
ربما ظن البعض أنَّ ذلك كان حدثًا فرديًّا عابرًا لا دلالة فيه.. فليس دعاة النصرانية على تلك الدرجة من الغباء..
فهم يعلمون جيدًا أن اليابان بلد لا ديني ومعظم سكانها ملحدون وفي نفس الوقت هم يعلمون تعلُّق الشباب والنشء العالمي بالأداء البرازيلي الكروي الرفيع...
ولذلك كانت أحسن فرصة للدعوة إلى النصرانية بإبراز تلك العبارات أمام اليابانيين والعالم أجمع حتى تكون بداية انطلاقة وتفكر ونقطة تحول لكثير ممن تأثر بأحداث المونديال وأيضًا لكل من عاش محتارًا يبحث عن دين ليجد المسيح يستقبله بكل عبارات الحب والترحيب في الوقت الذي نام المسلمون وانشغلوا إما برغيف خبزهم أو بالبحث عن مصارف لشهوتهم أو بتفاهات وكماليات لا عد لها ولا حصر وآخرها المتابعة والتصفيق وبحرارة لهؤلاء الدعاة إلى النصرانية..
وبعد هذا فماذا تنتظر أخي الداعية.. وأنت الذي تملك مشعل الحق وعنوان الهداية فقم أخي المفضال من لحظتك وشمّر عن ساعديك داعيًا إلى الله وهاك بعض الاقتراحات والأفكار التي أدلك عليها عسى الله أن يكتب لي أجر دلالتي عليها:
1) تعليم الناس أمور الدين وخاصة أمور العقيدة وما يقع في فهمها وتطبيقها من أخطاء وبيان مقاصد الشريعة وعاني الإسلام الرفيعة.
(/75)
2) إلقاء المواعظ والدروس في المساجد وخاصة عن التوبة والرجوع إلى الله والإقلاع عن بعض الذنوب التي اعتادها بعض الناس.
3) توزيع الأشرطة والمطويات والكتيبات النافعة بشتى اللغات
4) زيارة أماكن الحجاج ومساكن إقامتهم للتعرف عليهم وإهدائهم الكتب والأشرطة النافعة والتي سيحملونها تباعًا إلى بلدانهم.
5) كسب قلوب الحجاج بالابتسامة الصادقة والمساعدة وحسن الاستقبال.
6) استغلال خطب الجمعة بإلقاء المواضيع ذات الأهمية بواقع المسلمين.
7) الاهتمام بلوحة الفوائد في المساجد وتعليق فتاوى الحج ما يحتاجه الحاج من معرفة أحكام الحج وكذلك عمل صندوق فتاوى للمصلين للإجابة على أسئلتهم
8) تذكير الناس بأهمية صلاة الجماعة واستغلال العشر الأول من ذي الحجة
9) الحث على أداء فريضة الحج لمن استطاع والتحذير من التكاسل والتأخير مع بيان فضائل الحج وأجر الحاج.
10) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلمة الطيبة وخاصة في المشاعر أيام الحج.
وهناك العديد العديد من الأفكار والاقتراحات في هذا الباب ولا أخالك إلا أعلم مني بما ذكرت نسأل الله أن يوفقنا للخير ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل فقم أخي المبارك وقدم ما تستطيع وتذكر قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه))؛ رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
www.saaid.net
من وسائل الدعوة في الحج
وسائل الدعوة
الاستفادة من خدمات البث الحي على الانترنت كقنوات سمعية إذاعية تتميز بإرسال البث واستقباله، يمكن توظيفها لتوعية الحجاج بلغاتهم المختلفة في دينهم ودنياهم.
الطريقة:
(/76)
1- إيصال خط هاتفي خاص للإنترنت إلى كل مخيم، أو يكون هناك مركز لتزويد المخيمات بخدمة الإنترنت عن طريق كيابل نقل البيانات من ذلك المركز، ويتم تزويد كل مخيم بجهاز كمبيوتر واحد على الأقل.
2- إنشاء مخيم أو مبنى مصغر يتم تزويده بأجهزة الكمبيوتر مع خدمة الإنترنت بحيث يكون هذا المبنى هو مقر الدعاة بلغاتهم المختلفة الذين سيقومون بتوجيه الحجاج واستقبال تساؤلاتهم وحل قضاياهم الشرعية بمتابعة لجنة شرعية متخصصة.
3- حجز غرف البث الصوتية على الشبكة العالمية من الشركات التي تقدم هذه الخدمة مثل: البال توك أو الآي بول أو الريل بلاير ونحوها.
4- إعداد جداول منظمة لأوقات الدروس والأسئلة والاستفسارات بلغات مختلفة توزع على مسؤولي المخيمات.
5- يكون عند جهاز الكمبيوتر في كل مخيم مسؤول عن تنسيق الاتصال بين الداعية وبين الحجاج في المخيم، وتكون له خبرة في استعمال الكمبيوتر في هذا الجانب أو يثقف بإعطائه خطوات مبسطة لهذا العمل.
6- ربط الكمبيوتر في المخيمات بسماعات صوتية لتوزيع الصوت على أرجاء المخيم.
المزايا:
1- يمكن للداعية بهذه الطريقة توصيل إرشاداته لكثير من المخيمات التي تتحدث نفس اللغة في آن واحد.
2- يستطيع الداعية استقبال الاستفسارات من الجماهير المتفرقة في المخيمات والإجابة عليها مع كونه متواجدًا بعيدًا عنهم في مقر خاص، ويتم تنظيم الاستفسارات عن طريق مسؤول الكمبيوتر في كل مخيم.
3- تتيح للحجاج الحصول على احتياجاتهم المعرفية وهم في أماكنهم دون دواعي الازدحام والتكتل أو مغادرة أماكنهم.
4- يمكن من خلال هذه الطريقة استقطاع وقت لبث أخبار الحج وبيان جهود المبذولة لمتابعة وبذل جميع السبل لخدمة ضيوف الرحمن وتيسير أداء مناسكهم وتلبية احتياجاتهم.
5- ويتم من خلالها توعية الحجاج في النواحي التنظيمية والصحية والاجتماعية والأمنية وتدابير السلامة والوقاية وغيرها.
(/77)
6- تبين حرص بلد الحرمين الشريفين على استغلال كل ما يستطاع من مجالات التكنولوجيا والتطور لخدمة حجاج بيت الله الحرام.
7- يمكن للدعاة بهذه الطريقة أن يشاركوا في التوعية وإن لم يكونوا في المشاعر المقدسة، بل قد يكونون في بيوتهم أو مكاتبهم في أي مكان بالعالم.
8- هذه الطريقة أفضل من طريقة الاتصال الهاتفي مع الداعية حيث تعمم الفائدة على أماكن كثيرة متفرقة ومتباعدة، بل يستفيد منه المسلمون في أرجاء المعمورة عبر متابعتم خلال شبكة الإنترنت.
9- هي من أقل الطرق تكلفة في الاتصالات.
والله تعالى أعلم.
www.saaid.net
وفي الختام يتمنى لكم موقع مفكرة الدعاة التوفيق والسداد
www.aldoah.com
(/78)
العنوان: الحج من محاسن الإسلام
رقم المقالة: 1738
صاحب المقالة: محمد بن ماجد القحطاني
-----------------------------------------
الحج من محاسن الإسلام
فقه الحج والعمرة
القويعية.
جامع الفرشة.
محامد وأدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة:
1- أمر الإسلام بالاعتصام.
2- الحج مظهر من مظاهر الوحدة والائتلاف.
3- من معاني الحج وأسراره.
4- فضل البيت الحرام.
5- الحج المبرور.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، واشكروه على ما هداكم إليه من نعمة الإسلام، الذي هو دينه الذي ارتضاه لنفسه، ومنَّ عليكم به وأتم عليكم به النعمة، وجعلكم خير أمَّةٍ أخرجت للناس.
إنَّ ديننا يأمرنا بالاعتصام بحبل الله جميعًا، وينهانا عن التفرق، وقد شرع لنا الاجتماع والتعارف، والاتحاد والتآلف، فأمرنا بصلاة الجماعة في كل يوم وليلة خمس مرات، وفرض علينا اجتماعًا أعمَّ من ذلك في كل أسبوع لأداء صلاة الجمعة، وشرع لنا ما هو أشمل من ذلك في العيدين من كل عام، وكل هذه الاجتماعات التي دعانا إليها ديننا فمن شأنها أن تجمع أهل الحي أو سكان البلد، وذلك من أجل التواصل والتواد وعدم التقاطع، ولتتفق الكلمة وتتوثَّق الروابط، وتسود المحبة والوئام بين هذه المجتمعات الإسلامية.
(/1)
عباد الله، إن من محاسن ديننا أنه لم يكتفِ بذلك؛ بل شرع ما هو أعم وأشمل من هذا كلِّه، فدعانا إلى اجتماع عالمي شامل، يجمع المسلمين من سائر أنحاء الدنيا على اختلاف أجناسهم، وتعدد لغاتهم، وتباين عاداتهم، وتباعد أقطارهم، يؤمُّون هذا البيت العتيق الذي شرَّفه الله وفضله وجعله مثابةً للناس وأمنًا؛ ليجتمعوا في هذه المشاعر المقدسة في صعيد واحد، متمسكين بملة واحدة، متبعين شريعة نبي واحد، بمظهر واحد، قد زالت عنهم الفوارق الجنسية، وظهرت فيهم الأخوة الإيمانية، ملبين لربهم، خاضعين له، يرفعون أصواتهم بالتوحيد وإخلاص العبادة لله، علموا أن الأمر كله لله، وأن غيره لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فإن الله وحده هو النافع الضار المحيي المميت، قال الله - جل وعلا -: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 - 14]، علموا أنه – سبحانه - المجيب لمن دعاه، المغيث لمن ناداه، فأنزلوا حوائجهم به وحده، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
(/2)
إخوة الإسلام، في هذه المواقف المشرِّفة يتذكَّرون دعوة خليل الرحمن، حينما أمره الله بالنداء لحج بيته الحرام بقوله - تعالى -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 27 - 29]. في هذا الموقف العظيم يتذكر المسلم ما هو قادم عليه من أحوال الآخرة وأهوالها، من أول ساعةٍ يوضع في قبره إلى يوم وقوفه بين يدي ربه، يوم يحشر الخلائق في صعيدٍ واحد حفاءً عراةً غُرْلاً، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]، عند استشعار ذلك الموقف العظيم يخاف المرء من ذنبه، ويندم على سابق فعله، فيجدد لله توبةً نصوحًا، يعاهد ربه على إخلاص العبادة له وحده، ويندم على ما فرط من عصيانه، ويعزم على الكف عن جميع الذنوب والآثام.
(/3)
عباد الله، إن الحاج من حين يتجرد من المخيط، ويدخل في إحرامه يتذكر أهوال يوم القيامة، يتذكر نشره وحشره؛ لأنه يكون تاركًا أهله وولده، مفارقًا ماله ووطنه، بعيدًا عن عاداته، نائيًا عن مألوفاته، متجردًا من مخيط ثيابه، كاشفًا رأسه، مبقيًا شعره وظفره، معرضًا عن زخرف الدنيا ونعيم الحياة، أشعث أغبر، خائفًا وجلاً لا يدري هل كان سعيه مشكورًا، وحجه مبرورًا، وذنبه مغفورًا؛ فيرجع إلى أهله وقد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أو يُرد حجُّه عليه؛ فيرجع خاسئًا محسورًا، قد باء بالخيبة والحرمان، لم يحصل له إلا التعب والمشقة؟! وهكذا - يا عباد الله - يكون الناس يوم القيامة، كما قال الله - تعالى -: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 7 - 12].
عباد الله، إن هذا البيت الحرام هو أول بيتٍ وضع للناس، إنه مبعث أفضل المرسلين، ومهبط الوحي المبين، وقِبلة المسلمين، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96 - 97].
(/4)
عباد الرحمن، التزموا الأدب مع الله، فلا تلتفتوا لأحدٍ سواه بطلب المدد والحاجات، واتصفوا بالأدب مع نبيه الكريم ، فلا تقدِّموا على قوله قولَ من سواه، ولا تؤذوا إخوانَكم المسلمين، وقد حرّم الله أذية المؤمنين بقوله – سبحانه -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، فلا تقعوا في الإثم وأنتم لا تشعرون، ولا تبطلوا أعمالكم وأنتم لا تعلمون.
أسأله – سبحانه - أن يمنَّ علي وعليكم بالبصيرة في الدين، وينفعني وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، أحمده سبحانه وأشكره أن دعانا لحج بيته الحرام، وجعل الحج كفارة لجميع الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بطاعته، وأدوها بأدبٍ وانشراح صدر وسرور، فإنه ليس في الإعمال أحسن من عمل صالح مقبول يتقرب العبد فيه إلى مولاه، فيجني ثماره يوم القيامة، ويجزيه الله عليه الجزاء الأوفى، وينال به عند الله الحسنى.
(/5)
ألا وإن من أعظم الأعمال ثوابًا، وأجزلها عطاءً هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وهو حج بيت الله الحرام، فإن الله يكفر به الذنوب، ويمحو به الخطايا، ويجزل به العطايا، فهل هناك أفضل من عمل يكون جزاؤه الجنة، التي هي غاية المطلوب ونهاية المنى؟! يقول : ((الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة))، يا له من جزاءٍ عظيم، وثواب جسيم، يتنافس فيه أولو العقول الزاكية، والهمم العالية، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، ولكن للحج شروطًا، وله التزامات يجب الالتزام بها، فمن قام بواجباته، وكمَّل لوازمه، حصل له المقصود من تمام الأجر، ورضا الله سبحانه، وإذا لم يبالِ به فاته جُلُّ المطلوب، وقد بيَّن لنا القرآن الكريم ذلك، وأوضحته سنة النبي الكريم، يقول – سبحانه -: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]؛ يعني من نوى فيها الحج، ويقول – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حج فلم يرفث ولم يفسق؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
(/6)
العنوان: الحج.. وفصاحة الأعراب
رقم المقالة: 1798
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
اجتمع البيان والفصاحة والبلاغة لدى الأعراب قديماً..
فكانت الصحراء بحرَهم الزخّار الذي يستخرجون منه دُرر الفصحى!
وبحثَ الرواة عنهم بحثاً، ودوّن المهتمّون كلام العابرين منهم.. فروَوا لنا ما تفخر به مكتبتنا الأدبية التراثية مما يدهشنا ويفيدنا كلما قرأناه..
أقوال موجَزة، وطُرف عابرة، وأخبارٌ نادرة، ودقائق في اللغة والأدب، وإيمانٌ بالله واعتزاز بدينهِ عجيب!
مِن الكِتاب القيّم (جمهرة خطب العرب) لجامِعه (أحمد زكي صفوت)، نعيش موسم الحج مع بعض هؤلاء الأعراب البلغاء:
• في عرفات:
سمع أعرابي بعرفات عشية عرفة وهو يقول:
اللهم إن هذه عشية من عشايا محبتك وأحد أيام زلفتك، يأمل فيها من لجأ إليك من خلقك أن لا يشرك بك شيئاً، بكل لسان فيها يدعى، ولكلِّ خير فيها يُرجى، أتتك العُصاة من البلد السحيق، ودعتك العناة من شعب المضيق؛ رجاءَ مالا خلف له من وعدك ولا انقطاع له من جزيل عطائك، أبدتْ لك وجوهَها المصونة صابرةً على وهج السمائم وبرد الليالي، ترجو بذلك رضوانك يا غفار، يا مستزاداً من نعمه ومستعاذاً من نقمه ارحم صوتَ حزينٍ دعاك بزفير وشهيق.
ثم بسط كِلتا يديه إلى السماء وقال: اللهم إن كنتُ بسطت يدي إليك داعياً فطالما كفيتني ساهياً بنعمتك التي تظاهرت علي عند الغفلة، فلا أبأس بها عند التوبة، لا تقطع رجائي منك لما قدمت من اقتراف آثامك...
• وقال سفيان بن عيينة سمعت أعرابيا يقول عشية عرفة:
اللهم لا تحرمني خيرَ ما عندكَ لشرِّ ما عندي، وإن لم تتقبل تعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المُصاب على مصيبته.
• عند الكعبة:
قال ورأيت أعرابيًّا متعلقاً بأستار الكعبة، رافعًا يديه إلى السماء وهو يقول:
ربِّ، أتراك معذبُنا وتوحيدُك في قلوبنا؟ وما إخالك تفعل.. ولئن فعلت لتجمعنّا مع قوم طالما أبغضناهم لك.
(/1)
• دعاء أعرابي وقال رأيت أعرابيا أخذ بحلقتي باب الكعبة وهو يقول:
سائلك عند بابك.. ذهبت أيامُه، وبقيتْ آثامه، وانقطعت شهوته، وبقيت تباعته، فارْضَ عنه.. وإن لم ترض عنه فاعف عنه غيرَ راضٍ.
• قال ودعا أعرابي عند الكعبة فقال:
اللهم إنه لا شرفَ إلا بفعالٍ، ولا فعالَ إلاّ بمال؛ فأعطِني ما أستعين به على شرف الدنيا والآخرة.
• دعاء أعرابي وقال الأصمعي:
رأيت أعرابيا يطوف بالكعبة وهو يقول: إلهي، عجّت إليك الأصوات بضروب من اللغات يسألونك الحاجات، وحاجتي إليك إلهي أن تذكرني على طول البكاء إذا نسيني أهل الدنيا. اللهم هب لي حقكَ وأرضِ عنى خلقك، اللهم لا تُعْيِني في طلب ما لم تقدّره لي، وما قدّرته لي فيسِّرْهُ لي.
• في الطريق إلى مِنى:
وقال الأصمعي: خرجت أعرابيّة إلى مِنى فقُطع بها الطريق، فقالت:
يا رب، أعطيتَ وأخذت، وأنعمتَ وسلبت، وكلُّ ذلك منكَ عَدلٌ وفضل، والذي عظم على الخلائق أمرك لا بسطت لساني بمسألة أحد غيرك، ولا بذلت رغبتي إلا إليك، يا قرّةَ أعْيُن السائلين، أغنِني بجودٍ منك أتبحبح في فراديس نعمته وأتقلب في رواقِ نضرته، أحملني من الرجلة، وأغنني من العيلة، وأسدل عليّ سترَك الذي لا تخرقه الرماح ولا تزيله الرياح، إنك سميع الدعاء.
• خطبة الأعرابى السائل في المسجد الحرام!
عن أبي زيد قال بينا أنا في المسجد الحرام إذ وقف علينا أعرابي فقال:
(/2)
يا مسلمون إن الحمد لله، والصلاة على نبيه، إني امرؤٌ من أهل هذا الملطاط الشرقى المواصي، أسياف تهامة عكفت على سنون محش فاجتبت الذرى وهشمت العرى، وجمشت النجم وأعجت البهم، وهمت الشحم والتحبت اللحم وأحجنت العظم، وغادرت التراب موراً والماء غوراً، والناس أوزاعاً والنبط قعاعاً، والضهل جزاعاً والمقام جعجاعاً، يصبحنا الهاوي ويطرقنا العاوي، فخرجت لا أتلفع بوصيدة ولا أتفوت هبيدة، فالبخصات وقعة والركبات زلعة والأطراف قفعة، والجسم مسلهم والنظر مدرهم، أعشو فأغطش وأُضحي فأخفش، أسهل ظالعاً وأحزن راكعاً.. فهل من آمر بمير، أو داعٍ بخير؟ وقاكم الله سطوة القادر وملكة الكاهر، وسوء الموارد وفضوح المصادر، قال فأعطيته دينارا وكتبت كلامه واستفسرته ما لم أعرفه!
(/3)
العنوان: الحداثة وما بعدها
رقم المقالة: 314
صاحب المقالة: كمال بن سالم الصريصري
-----------------------------------------
المقدمة
الحمد لله الذي خلق الناس ولم يجعلهم هملاً والصلاة والسلام على نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل الله عليه الهدى ليخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله وحده وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن مما ابتليت به البشرية إتباع الهوى وترك الهدى مما أورده مهاوي الردى، ولعل أبرز ما جر على الناس الويلات في القرون الأخيرة هو تسلط الغرب على العالم وفرض رؤيتهم العلمانية للأمور وجعلهم واقعاً معاشاً في حياة الناس.
وفى هذا الزمان تطورت العلمانية وشملت جميع المجالات وسميت بأسماء مختلفة ولكن المعاني ثابتة ألا وهي البعد عن كل القيم والأهداف الإنسانية، وأبرز الأسماء التي أصبحت تطلق على العلمانية في هذا الزمان الحداثة وما بعد الحداثة.
ولقد حصل قصور في التعامل مع هذه المصطلحات وغيرها حيث حصر التعامل معها في نطاق الأدب- أو هكذا صور- ولو كان الأمر مقتصراً على ذلك لهان الأمر قليلاً لأنه يخص طائفة معينة في مجال معين، ولكن المصيبة أنها فرضت على المجتمعات وأصبحت واقعاً ملموساً، ولعل الإنسان لو تلفت حواليه لشاهد التغير الذي يحصل سريعاً في المجتمعات.
ومن فضل الله علي أنني اخترت أن أكتب في موضوع الحداثة وما بعدها والذي استفدت منه كثيراً وتبين لي أمور كنت جاهلاً عنها سابق فلله الحمد والمنة، ولكن اعترضتني صعوبات لعل من أبرزها قلة المراجع التي تتكلم عن هذه الاتجاهات وإن وجدت حصرته في صعوبات لعل من أبرزها قلة المراجع التي تتكلم عن هذه الاتجاهات وإن وجدت حصرته في مجال معين ولم تتجاوزه، ولأجل ذلك كان الجهد مضاعفاً والكتابة صعبة، ولإرجاع الحق إلى أهله وجدت من أعمق الدراسات التي تتكلم عن العلمانية وما تطور منها هي كتابة الدكتور المسيري ولأجل ذلك كان الاعتماد عليها كثيراً.
(/1)
والبحث سوف يتطرق إلى النقاط التالية:
1) تعريفات ومفاهيم: والذي سيعرض به تعريفات الحداثة وما بعدها وذكر الفرق بين مراحل العلمانية.
2) أسباب العلمانية في الغرب: وبيان أن هذا أمر طبيعي وله ظروف هناك.
3) مقارنات بين الحداثة وما بعدها.
4) مرحلة ما بعد الحداثة النتائج والممارسة: وفيه طرق فرض العلمانية ونتائج ذلك على المجتمعات.
5) نشوء الفكر العلماني في العالم العربي وطرق فرضه واقعاً.
وأخيراً أسأل الله العلي القدير السداد والتوفيق فما كان من صواب فمنه وحده وما كان من خطء فمن نفسي والشيطان.
الفصل الأول: تعريفات ومفاهيم
إن الحداثة وما بعد الحداثة مصطلحان لمرحلتين مرت بهما الحضارة الغربية ولكنهما في حقيقة الأمر تطور لمفهوم سابق وممارساته التي استمرت أكثر من أربعة قرون، ولا يمكن بحال لمن أراد أن يتكلم عن الحضارة الغربية ومراحلها أن يفصل كل مرحلة عن أختها بل الصحيح أن المنظومة الغربية متوالية مستمرة مازالت في كل فترة تؤدي إلى نتائج سابقتها ولا توجد حدود فاصلة تماماً بين مرحلة وأخرى بل هي تشخيص لواقع يطلق عليه هذا المصطلح أو ذاك.
فهذان المصطلحان في حقيقة أمرهما يدخلان تحت ما يسمى بالعلمانية ولكن بعد أن وصلت العلمانية إلى درجة عالية من ممارساتها وأفكارها التي فصلت كل القيم عن الأعمال والاتجاهات والأهداف.
(/2)
يقول المسيري (العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للوقائع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيبات بكل مجالات الحياة، ويتفرع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون وأن المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي ويطلق عليها أيضاً العلمانية الطبيعية المادية.. ومع التغلغل الشديد للدولة ومؤسساتها في الحياة اليومية للفرد انفردت الدولة العلمانية بتشكيل رؤية شاملة لحياة الإنسان بعيدة عن الغيبات، واعتبر بعض الباحثين العلمانية الشاملة هي تجلي لما يطلق عليه "هيمنة الدولة على الدين" وقياساً على ذلك فلقد مرت العلمانية بثلاث مراحل أساسية:
1) مرحلة التحديث: حيث اتسمت هذه المرحلة بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة بصورة عامة، فلقد كانت الزيادة المطردة في الإنتاج الهدف النهائي من الوجود في الكون ولذلك ظهرت الدولة القومية العلمانية في الداخل والاستعمار الأوروبي في الخارج لضمان تحقيق هذه الزيادة الإنتاجية، واستندت إلى رؤية فلسفية تؤمن بشكل مطلق بالمادية وتتبنى العلم والتكنولوجيا المنفصلين عن القيمة، وانعكس ذلك على توليد نظريات أخلاقية ومادية تدعو بشكل ما لتبسيط الحياة، وتأكل المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة.
2) مرحلة الحداثة: وهي مرحلة انتقالية قصيرة استمرت فيها سيادة الفكر النفعي مع تزايد وتعمق آثاره على كافة أصعدة الحياة، فلقد واجهت الدولة القومية تحديات بظهور النزعات الأثنية، وكذلك أصبحت حركيات السوق (الخالية من القيم) تهدد سيادة الدولة القومية، واستبدل الاستعمار العسكري بأشكال أخرى من الاستعمار السياسي والاقتصادي واتجه السلوك العام نحو الاستهلاكية الشرهة.
(/3)
3) مرحلة ما بعد الحداثة: حيث الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود ومحركه اللذة الخاصة واتسعت معدلات العولمة لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرر إلى قضايا البيئة والإيدز وثورة المعلومات، وتضعف المؤسسات الاجتماعية الوسيطة مثل الأسرة لتحل محلها تعريفات جديدة للأسرة: "رجلان وأطفال، امرأة وطفل، امرأتان أطفال) كل ذلك مستنداً على خلفية من غياب الثوابت والمعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع والتطور التكنولوجي الذي ينتج بدائل لم تكن موجودة من قبل في مجال الهندسة الوراثية[1]
(/4)
وقد عرف علي وطفة مراحل العلمانية، وأشار إلى غموض المصطلحات التي تعرف بها مراحلها وأراد أن يوجد بعض الفروقات بين المراحل وذلك وفق الرؤية الغربية لمراحل العلمانية وهو لا يختلف كثيراً عن تعريف المسيري السابق، يقول علي وطفة: "يطلق مصطلح الحداثة بوجه عام على مسيرة المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم ويغطي مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية. لقد أدخل التقدم المستمر للعلوم والتقنيات، وثورة التكنولوجيا، إلى الحياة الاجتماعية عامل التغيير المستمر والصيرورة الدائمة التي أدت إلى انهيار المعايير والقيم الثقافية التقليدية. وفي ظل هذه الصيرورة الاجتماعية بمختلف اتجاهاتها تحدد السياق العام لمفهوم الحداثة بوصفه ممارسة اجتماعية ونمطاً من الحياة يقوم على أساسي التغيير والابتكار.. ويمكن القول بأن الحداثة هي غير بعدها الزمنى، إنها مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، وبحث لا يتوقف أبداً عن إجابات تغطي مسألة القلق الوجودي وإشكاليات العصر التي تثقل على الوجود الإنساني.. ويرتكز المفكرون عادة في تعريف الحداثة إلى فكرتين أساسيتين هما: فكرة الثورة ضد التقاليد، وفكرة مركزية العقل.. يصوغ أوزفالد شبغلر في كتابه انحطاط الغرب مفهوماً للحداثة أطلق عليه حضارة الرجل الفاوستي (نسبة إلى فاوست) والفاوستية هي محصلة خصائص الإنسان الغربي الحديث، أما فاوست فهو العملاق المبدع النهم الذي لا يشبع طموحه وظمأه إلى المعرفة، ولا يتوقف عن البحث عن الحقيقة المطلقة، وفاوست عند الشاعر الألماني (غوته) هو العبقري المغامر دوماً وبلا هوادة نحو المعرفة..
(/5)
والحداثة مفهوم متعدد المعاني والصور، يمثل رؤية جديدة للعالم مرتبطة بمنهجية عقلية مرهونة بزمانها ومكانها، فهي رفض الجمود والانغلاق والقبول بمبادئ الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الإنسانية، وهي تعني إطلاق الحرية وفسح المجال لكل التعبيرات الاجتماعية للقيام بدورها.. يتمايز مفهوماً الحداثة Modernity عن مفهوم التحديث Modernization في اللغتين الفرنسية والإنجليزية. فالحداثة هي موقف عقلي تجاه مسألة المعرفة وإزاء المناهج التي يستخدمها العقل في التوصل إلى معرفة ملموسة. أما التحديث Modernization فهو عملية استجلاب التقنية.
والمخترعات الحديثة حيث توظف هذه التقنيات في الحياة الاجتماعية دون إحداث أي تغيير عقلي أو ذهني للإنسان من الكون والعالم. فأنصار التيارات السلفية المتطرفة يوجدون في المعاهد العلمية ويتعاملون مع التقنية الحديثة دون أن يأخذوا بالروح العلمية أو الفلسفية لهذه التقانة. ومن أجل أن تفهم جوهر الحداثة يتوجب علينا أن ندركها كطاقة مجددة متحركة منطلقة تتمثل الماضي والحاضر وتعيد إنتاجهما بروح مستقبلية جديدة.
التطورات التي تسجل في مستويات الإنتاج والاستهلاك وفي البنية التحتية تشكل صورة لعملية تحديث وشتان ما بين الحداثة والتحديث، فالتحديث يعنى مظاهر الحداثة وقشورها بينما تعنى الحداثة في الأصل اللحظة الواعية التي تتمثل في انتظام العقلانية والفردية والعلمانية والقيم الحرة في اندفاعة حضارية قادرة على إحداث تحولات عميقة في البنية الاجتماعية والبنائية للمجتمع. فالحداثة هي حالة تعتمل في بوتقة الروح الاجتماعية وتتجلى في مظاهر الجسد الاجتماعي. أما التحديث فقد يكون حالة من حالات الاستيراد المنظم لشكليات الحداثة مثل: استيراد السيارات والطائرات وأنظمة التعليم وبدع الاستهلاك الاجتماعي..
مفهوم ما بعد الحداثة:
(/6)
غالباً ما يحاصر المفكرون المفاهيم الجديدة بإيقاعات تصوراتهم الفكرية ومن هذا المنطلق نجد أن مفهوم الحداثة قد تشبع بتصورات وحدود عدد كبير من المفكرين العمالية الذين وظفوا هذا المفهوم في منظوماتهم الفكرية، ومن هذه الزاوية نجد حالة من التنوع والاضطراب في تحديد مفهوم ما بعد الحداثة بصورة واضحة وجلية. لقد شكلت الانتقادات المنهجية التي وجهت إلى مفهوم الحداثة الأرضية العلمية التي تنامي في تربتها مفهوم ما بعد الحداثة ليأخذ صورته النقدية التي تغذيها روح فكرية نقدية نشطة ومتطورة. وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن هذه الانتقادات التي تنامت في حقل الحداثة شكلت أيضاً ينبوعاً للتنظير العلمي المتقدم والإبداعي في ميدان ما بعد الحداثة. وتأسيساً على ذلك يمكن القول بأن مفهوم ما بعد الحداثة لا يأخذ أهميته بوصفه امتداداً زمنياً لحالات حضارية متعاقبة بل هو نسق من التصورات النقدية التي أبدعتها روح العصر المتجدد في مختلف ميادين الحياة الفكرية. وفي غمرة الانتقادات التي وجهت إلى الحداثة وفي ملامح الأزمة التي تعيشها الحداثة دفعت بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن الإنسانية خرجت، تحت تأثير هذه الاختناقات الحضارية، من مرحلة الحداثة وبدأت مرحلة جديدة أطلق عليها ما بعد الحداثة، ويقدر فريق من هؤلاء الباحثين أن هذه المرحلة قد بدأت تاريخياً منذ عام 1968 وهي المرحلة التي عرفت بثورة الطلاب في مختلف عواصم العالم، وعلى خلاف ذلك يرى الفريق الآخر من هؤلاء الباحثين أن مرحلة الحداثة قد بدأت مع سقوط جدار برلين تعبيراً عن سقوط منظومة الاشتراكية. وفي هذا الخصوص يشير إيهاب حسن، أحد المنظرين في هذا المجال، إلى صعوبة تحديد مفهوم ما بعد الحداثة، ولكنه مع ذلك يقدم مجموعة من التصورات العلمية التي يمكنها أن تشكل العناصر الأساسية في بنية هذا المفهوم ومنها: إن لفظ ما بعد الحداثة يوحي بفكرة الحداثة وهو بالتالى يتضمن بعد التوالي الزمني
(/7)
للعلاقة بين المفهومين، لا يوجد إجماع بين النقاد على تعريف واضح لمفهوم ما بعد الحداثة، مفهوم ما بعد الحداثة عرضة كغيره للتغير والصيرورة التي نلاحظها في المفاهيم الوليدة حديثا[2]
يقوم نديم رمسيس "لقد حازت الحداثة (المجتمع الصناعي الحديث) على تحليل شامل في كتابات المفكرين الاجتماعيين الرئيسيين من القرن التاسع عشر، أمثال هيجل، ماركس، توكيفيك، فيبر، سيمل، ودير كهايم. ويبقى لتحليل هؤلاء المفكرين علاقة وثيقة بأوضاع مجتمعات هذا اليوم. إلا أن نمو معالم جديدة في يومنا هذا، مثل عالمية الاقتصادية نتراجع الدولة القومية، والهجرات السكانية الكبيرة، قد أدت ببعض المفكرين إلى افتراض نهاية الحداثة. لقد شدد جيفري باراكلاو على أن التاريخ المعاصر هو شيء مختلف عن التاريخ الحديث. كما قال آخرون مثله أن الحداثة قد انتهت وأننا في عصر ما بعد الحداثة.
العديد من الأكاديميين المعاصرين يصرون على أن هذه الإدعاءات غير مقنعة، وذلك بسبب قناعتهم بأنه يمكن إرجاع جذور التطورات التي سبق ذكرها إلى الحداثة الكلاسيكية. وهم في هذا يشددون على أننا لا نستطيع أن ننظر إلى تقليد الحداثة على أنه شيء ثابت غير متحرك. فقد سعى المفكران السوسيولوجيان سيمل وفيير إلى إثبات ديناميكية الحداثة من خلال إبراز ما هو موجود من صراعات داخلية مستمرة في أجزائها مما يعطيها حركة مستمرة وتجديداً مستمراً في بناها الداخلية، الأمر الذي يعزز فكرة أن الحداثة مبنية على مفهوم التجديد المستمر، وبالتالى، مسالة إعطاء اسم جديد للتطورات التي حدثت وتحدث في يومنا هذا هي مسألة تتناقض والمفهوم الديناميكي للحداثة.
(/8)
وما يجدر ذكره في هذا الصدد أن كثير مما يظهر في إطار ما بعد الحداثة عبر في البداية عن نفسه في الثورة الثقافية ضد الحداثة والتي كانت مؤشراً للحركة التي عرفت بالتحديثية (Modernism) . ترجع جذور هذه الحركة إلى بداية القرن العشرين، وقد سعت منذ بدايتها إلى تبنى ورفض بعض معالم الحداثة مبينة في ذلك مظاهر الجديد وبانية، اعتماداً على هذا، صحة ضرورة إعطاء اسم جديد لحقبة تاريخية جديدة في بناها الداخلية ومختلفة عن ما هو موجود في سابقتها "الحداثة[3]
ما لا يمكن إنكاره هو أن مجتمع الحداثة في يومنا هذا ليس نفسه الذي كان سائداً في الفترة التاريخية التي عاش فيها ماركس وفيير. إلا أنه كما ذكرناً سابقاً: الحداثة هي مبدأ المجتمع الغربي ولهذا لا نستطيع أن ننظر إلى الفترة المعاصرة كحقبة بعيدة كل البعد عن مبادئ الحداثة، فهي استمرار لها في التطورات الجديدة التي أحدثتها. إن التزام تقليد الحداثة بالنمو والتجديد المستمرين يتطلب اعتبار المعالم والأشكال الحالية لمجتمع الحداثة على أنها مؤقتة. ولهذا فإنه من الضروري التوقع المستمر لنمو معالم جديدة في المجتمع في الإطار العام للحداثة نفسها.
مما سبق يتضح ما يلي:
1) غموض مصطلح الحداثة وما بعد الحداثة، وسبب الغموض أن المصطلحين هما في الحقيقة يدخلان تحت مسمى العلمانية، وهذا المسمى هو نتيجة متوالية تراكمية ليست ذات صيغة زمنية معينة بل هي نتاج ممارسة طويلة المدة، ففصل مرحلة عن أختها ينتابها كثير من الغموض والتعسف، والدليل على ذلك الاختلاف فيما بينهم في تحديد زمن لكل مرحلة.
2) نبذ التراث وعدم الاعتماد عليه في صياغة الأفكار والسلوك وإنما المحرك للإنسان المصلحة الذاتية.
3) إنهما منهج حياة وسلوك اجتماعي يقع تحت ثقل اللحظة الراهنة وعدم تجاوزها بأي قيمة من القيم.
(/9)
4) يتضح أثر الأزمات والثورات في صياغة أفكار الغرب وهذا يدلل على أنه ليس فكراً حضارياً يصدق على المجتمعات الأخرى بل هو نتاج ما تعانيه الحضارة الغربية.
5) مصطلح (ما بعد) يعني نهاية مرحلة سابقة وهذه المرحلة الموصوفة تدل على اسمها أنها قمة الفكر الغربي وأعني (الحداثة)، فنستنتج من هذا اللفظ أن الحداثة قد شكلت أزمة في الحضارة الغربية على جميع الأصعدة لأن الما بعد شملت جميع الأصعدة، فما بعد الحداثة إلا نقيض الحداثة وهو البدائية، ولأجل ذلك نرى كثيراً منهم يبحث عن الأماكن البعيدة عن الحضارة الغربية ويدرسها ويجعلها النموذج الأعلى- كما فعل شتراوس- بل واتجه البعض إلى الديانات الوثنية البدائية، ولا يعنى هذا القول أن هذا ما يعنون به بما بعد الحداثة ولكن هذا تصوير لحقيقتها الواقعية.
ورغم خروج مصطلح "علمانية" من رحم التجربة الغربية، إلا أنه انتقل إلى القاموس العربي الإسلامي، مثيراً للجدل حول دلالاته وأبعاده، والواقع أن الجدل حول مصطلح "العلمانية" في ترجمته العربية يعد إفرازاً طبيعياً لاختلاف الفكر والممارسة العربية الإسلامية عن السائد في البيئة التي أنتجت هذا المفهوم، لكن ذلك لم يمنع المفكرين العرب من تقديم إسهاماتهم بشأن تعريف العلمانية.
وتختلف إسهامات المفكرين العرب بشأن تعريف مصطلح "العلمانية، على سبيل المثال يرفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويرى استبداله بفكرة الديموقراطية "حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية "الممارسة السياسية الرشيدة".
(/10)
فى حين يرى د. وحيد عبد المجيد- الباحث المصري- أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية- منهج عمل- وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. ويميز د. وحيد بين "العلمانية اللادينية"- التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل- وبين "العلمانية" التي نحت منحى وسيطاً، حيث فصلت بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.
وفى المنتصف يجيء د. فؤاد زكريا- أستاذ الفلسفة- الذي يصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة، ملتزماً الصمت إزاء مجالات الحياة الأخرى (الاقتصاد والأدب) وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع مقابل المادية "القيم الإنسانية والمعنوية"، حيث يعتبر أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية.
ويقف د. مراد وهبة- أستاذ الفلسفة- وكذلك الكاتب السوري هاشم صالح إلى جانب "العلمانية الشاملة" التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبي وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد، مرتكزاً على العلم والتجربة المادية.
ويتأرجح د. حسن حنفي- المفكر البارز صاحب نظرية "اليسار الإسلامي"- بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ويرى أن العلمانية هي "فصل الكنيسة عن الدولة" كنتاج للتجربة التاريخية الغربية، ويعتبر د. حنفي العلمانية- في مناسبات أخرى- رؤية كاملة للكون تغطي كل مجالات الحياة وتزود الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، مما يعطيها قابلية للتطبيق على مستوى العالم.
من جانب آخر، يتحدث د. حسن حنفي عن الجوهر العلماني للإسلام- الذي يراه ديناً علمانياً للأسباب التالية:
- النموذج الإسلامي قائم على العلمانية بمعنى غياب الكهنوت، أي بعبارة أخرى المؤسسات الدينية الوسيطة.
(/11)
- الأحكام الشرعية الخمسة [الواجب- المندوب- المحرم- المكروه- المباح] تعبر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وتصف أفعال الإنسان الطبيعية.
- الفكر الإنساني العلماني الذي حول بؤرة الوجود من الإلة إلى الإنسان وجد متخف في تراثنا القديم عقلاً خالصاً في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف، وكسلوك عملي في علم أصول الفقه. ويمكن الرد على تصور علمانية الإسلام، بأنه ثمة فصلاً حتمياً للدين والكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الإنسانية تقريباً، إلا في المجتمعات الموغلة في البدائية، حيث لا يمكن أن تتوحد المؤسسة الدينية والسياسية في أي مجتمع حضاري مركب. وفي الواقع، هذا التمايز مجرد تمايز المجال السياسي عن الديني لكن تظل القيمة الحاكمة والمرجعية النهائية للمجتمع (وضمن ذلك مؤسسات صنع القرار) هي القيمة المطلقة (أخلاقية- إنسانية- دينية) وهي مرجعية متجاوزة للدنيا وللرؤية النفعية.
هذا وقد تبلور مؤخراً مفهوم "ما بعد العلمانية" بالإنجليزية: بوست سيكولاريزم Post-secularism ، وصاغه البروفسير جون كين، و"ما بعد" هنا تعني في واقع الأمر "نهاية" وتشير إلى أن النموذج المهيمن قد فقد فعاليته، ولكن النموذج الجديد لم يحل محله بعد، حيث يرى أن العلمانية لم تف بوعودها بشأن الحرية والمساواة حيث تنتشر العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية (وأخفقت في العالم الثالث) حيث تحالفت الأنظمة العلمانية مع الاستبداد والقوى العسكرية، ولم تؤد إلى الجنة العلمانية الموعودة، وذلك في حين ظلت المؤسسات الدينية والقيم المطلقة فاعلة على مستوى المجتمع وحياة الناس اليومية، في معظم بلدان العالم الثالث[4]
الفصل الثاني: أسباب ظهور العلمانية في الغرب ودعماتها
لابد من البحث في أسباب ظهور العلمانية في الغرب حتى يعلم أن الواقع الإسلامي يختلف عن الواقع الأوروبي، فهناك قد تكون أسباب موضوعية لثورة أوروبا على قديمها.
(/12)
وكذلك ليعلم أن ما يعيشه الغرب من تطورات للعلمانية في الأزمنة المتأخرة هو نتاج الابتعاد عن نور الله ودينه، فأصبح الغرب يعيش مآزق هي نتيجة طبيعية لما تبنته من العلمانية وتراكماتها، ويمكن إيجاز العوامل المساعدة في ظهور العلمانية واستمرارها في الغرب بما يلي[5]
1) أن أوروبا في حقيقة الأمر لم تعرف دين الله بل عرفت نصرانية بولس والتي فرضت بواسطة الدولة الرومانية، فأخذت هذه الديانة لأنها لا تصادم وثنيتها، فالدين لدى الأوروبيين ما كان موجوداً ومفروضاً بواسطة الدولة الرومانية، فكل ما وجد من ظلام وظلم تصور أنه هو الدين كالطغيان الكنسي ورجال الدين والإقطاع الممارس على الناس.
2) النفسية الأوروبية التي أنغرس فيها أن الدين هو ما كان واقعاً في الدولة الرومانية بعد الملك قسطنطين، وقد حدث بعد اعتناقها النصرانية أن نقلت عاصمتها من روما إلى القسطنطينية وحصل بعد ذلك الاجتياح البربري الشمالي للدولة الرومانية والتي سقطت عام 410م أي بعد 85 عاماً من اعتناقها للنصرانية مما جعلهم يعتقدون بأن سبب انهيار الإمبراطورية الغربية هو تحولها من الوثنية إلى النصرانية بل قد صرح بذلك أحد مؤرخيها (إدوارد جيبون).
3) العنصرية الأوروبية التي لا ترى إلا نفسها، فهي ترى غيرها وثني بربري بعيد عن الله، غير متحضر ولأجل ذلك عند الحروب الصليبية أصيبت بصدمة حضارية جعلتها تربط بين التمدن والحضارة بالوثنية لأنها ترى أن المسلمين وثنيون فالواقع الإسلامي في ذلك الوقت قوي مخالف تماماً للواقع الأوروبي، فأوروبا لا تملك المدن الكبيرة كما تملكها الدول الإسلامية وكذلك الثقافة وكثرة الكتب وحرية العبادة والانتقال وغيرها مما جعلها تشعر بأن ذلك مرتبط بالوثنية أو كذلك صور لها. بل أيضاً أن نشوء المدن الكبرى والطباعة في عصر النهضة كان له الدور الكبير في السير في اتجاه العلمنة.
(/13)
4) ظهور حركات أرجعت نوعاً ما بعض التفاؤل للإنسان وحررته من زيف العبودية الفكرية التي كانت مسيطرة في العصور الوسطى. فبدأت تظهر النزعة الإنسانية في الفلسفات وكذلك ظهرت حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر وظهر التجريب.
هذه الأمور ساعدت على الاتجاه إلى العلمانية فشعر الإنسان أنه باستطاعته الخروج على نطاق الكنيسسية فالعبادة ممكنة بل إن هناك ما هو موجود في الكنيسية مخالف لدين الله إذن لا حقيقة دينية يمكن الرجوع إليها إلا من خلال ما يراه الإنسان ويعرفه. وكذلك النزعات الإنسانية والتي جعلت الإنسان هو الحاكم على الأشياء بعد أن كان محكوماً. والتجريب استطاع اكتشاف بعض قوانين الطبيعة مما جعل الإنسان يظن بقدرته على التحكم بالطبيعة والسيطرة عليها.
5) التقديس للأشخاص والأفكار فمثلاً كانت أوروبا تقدس البابوات والقساوسة لأنهم هم الذين يعلمونهم دينهم ويغفرون لهم، وفي الجانب الآخر هناك سلوكيات للبابوات لا يستحقون من خلالها التقدير مما جعل في نفوس الناس أن القضاء على الدين قضاء عليهم.
وأما الأفكار فالفكر اليوناني هو المسيطر في تلك الأزمنة من خلال علم الكلام الكنسي، بل حتى الجوانب الأدبية التي تعبر عن العواطف كانت محكومة بقوانين أرسطو في الشعر والنقد وغيره مما قيدت حتى أحلام الناس وعواطفه، فجعلته يثور على هذه القيود التي تربطه لأنه يراها مانعاً له حتى عن إبراز ما لديه.
هذه الأمور وغيرها كانت المساعد في انتشار العلمنة داخل أوروبا.
ولكن الذي دعم هذا الاتجاه وجعله يظهر على السطح هو الثورات الثلاثة التي حررت الإنسان الأوروبي من ذلك القيد وهي الثورة العلمية والفرنسية والصناعية.
ولعل الكلام في أثر هذه الثورات معروف لدى الجميع ولأجل ذلك اكتفي بهذا.
الفصل الثالث: مقارنات بين الحداثة وما بعدها
إن كلمة (ما بعد) أصبحت الآن تعم أغلب العلوم وتعني نهاية أمر سابق وتعني أن المرحلة الحالية هي ضد مرحلة سابقة.
(/14)
فما بعد الحداثة مصطلح تكاد تجمع المراجع على عدم إعطائه تعريفاً دقيقاً، ولكن يمكن محاولة معرفة ما يعنيه هذا المصطلح من خلال مقارنته بالمصطلح السابق ومن خلال التوصيف لما هو عليه الواقع الآن وما يطرح من نتاج. فالحداثة وما بعدها تجاوزت كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية فهي نظرة موغلة في المادية جعلت من الإنسان شيئاً من الأشياء وساوته بالأمور الأخرى الطبيعية فما يصدق على أمر طبيعي يصدق عليه ولأجل ذلك أنتجت الحداثة وما بعدها ما أنتجته في العالم من تمزق وضياع.
هذا الجانب المعرفي في الحداثة وما بعدها وهو النظر إلى الإنسان على أنه كائن طبيعي لا يختلف في حقيقته عن الأمور المادية، هذه النظرة هي التي صاغت جميع مناحي الحياة في عصر الحداثة وما بعدها مما جعلها تترع القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية من الدوافع، فهذه النظرة أوجدت أمراضاً على جميع الأصعدة في عصر الحداثة فخرجت ما بعد الحداثة التي تبشر بزوالها ولكنها عمقت المأساة لأنها تخرج من نفس النظرة بل أوغلت فيها.
لأجل ذلك كله سوف يتم الكلام بالمقارنة بين التيارين لمعرفة الاختلاف بينهما في نظرتهما في تكوين المعرفة والحقيقة والعلم والإنسان والعقل ثم نرى ما جرته هذه النظرة على الواقع الإنساني وكيف تم فرضها على الناس.
(/15)
الحداثة ونظرتها للإنسان[6]إن الثورة العلمية في أوروبا جعلت الإنسان ينظر إلى العلم وإلى الطبيعة نظرة مخالفة عن النظرة السابقة لعصر النهضة، وساعدت الاكتشافات العلمية التي استطاعت أن تكتشف شيئاً من القوانين التي تسير الكثير من الظواهر الطبيعية، هذه الظواهر التي كان يفسرها المتدينون بأنها قدرة الله، فرأى هؤلاء أن هذه الظواهر ممكن تفسيرها والتنبؤ بها بل بعضها ممكن عمله في المعامل، مما جعل الإنسان ينكر الإلة المسير لهذه الأمور أو إن أثبته يثبته كأمر ماضي ولا حاجة له الآن مما جعل العلوم تبتعد عن الهدف الأخلاقي والديني ويتجه إلى البحث عن القدرة على التحكم بالطبيعة.
وساعدت نظرية دارون وقوانين مندل في الوراثة إلى نقل العلم الإنساني والحياة الإنسانية إلى المعامل وأن النشاط البشري تحكمه عوامل طبيعية سواء خارجية أو داخلية ممكن التحكم بها.
ففي عصر الحداثة رأوا أن الإنسان ما هو إلا إنسان طبيعي تصدق عليه قوانين الطبيعية ولا يمكن له أن يخرج منها ويمكن دراسته بيولوجيا، بل حتى علم النفس وعلم الاجتماع تدرس الجوانب المادية وعلى أنها هي المسير للنشاط البشري دون النظر إلى الجانب الآخر من الإنسان.
هذه النظرة للإنسان جعلته شيئاً من الأشياء لا فرق بينه وبين أي شيء من المخلوقات، بل ساعدت هذه النظرة إلى المحاولة على إنتاج بعض النشاطات البشرية خارج حدود الإنسان كعمل الروبوت (الإنسان الآلي) والحاسب الآلي فمنها ذكاء اصطناعي يمكن صناعته، وكذلك مجالات الخيال العلمي والسيطرة على مستقبل الإنسان جعلت الحداثة تنظر إلى الإنسان بأنه لا يخرج عن المنظومة الطبيعية ويمكن صناعته والتحكم في مستقبله وسلوكه من خلال هذه الأنشطة الطبيعية، إذن الحداثة تنظر في الإنسان بأنه جزء من هذه الطبيعة وتتحكم قوانينها به.
(/16)
الحداثة ونظرتها للعلم والحقيقة والعقل[7]الحداثة أوغلت في تقديس العلم وترى أن العلم التجريبي هو الطريق الوحيد للمعرفة وقد ساعدت الاكتشافات على هذه النظرة مع إغفال الجوانب التي ترد هذه الحتمية.
ولكن كيف يحصل العلم أو كيف تحصل المعرفة وما هو السبيل إلى الحقيقة؟
الحداثيون يرون أن العقل وحده كاف وقادر على الوصول إلى الحقيقية فهم يرون أن عقولنا يمكنها أن تدرك وتدرس الواقع وتصل إلى نتائج موضوعية، بمعنى أنهم يعتقدون أننا قادرون على فهم الواقع حقيقة غير متأثرين بتحيزنا أو سوء فهمنا أو معتقداتنا السابقة، فالنتائج التي تتوصل إليها تعكس الحقيقة كما هي في الخارج والواقع.
إذن الحقيقة هي الحقيقة الخارجية التي تدركها بواسطة الحواس فلا شيء يقبله العقل أو يصلح في العقل ما لم يكن أولاً في حواسنا، فلا طريق للمعرفة إلا من خلال الحواس وما وراء الحواس يرفض ويترك.
فهذه النظرة الشاملة الحديدية للأشياء أصبحت منهجاً تصاغ به الحياة كلها من سياسة ودين وآداب وقيم وغير ذلك.
فالحداثة تعلي جانب العقل وترى أن الحقيقة الخارجية حقيقة مطلقة وترى أن العلم هو السبيل الوحيد للتقدم وأن الإنسان لا يخرج عن الأشياء الطبيعية بحال.
وقد حدد بعض العلمانيين ما يتميز به عصر الحداثة، فقسطنطين زريق يرى أن الحداثة تنطلق من المواقف التالية:
- الإيمان بأن العالم الطبيعي هو العالم لحقيقي. فهو ليس عالماً زائلاً وليس مجرد جسر نعبره إلى العالم الآخر، أنه عالم يمتلك الجدارة والأصالة وهو قمين بأسباب اهتمامنا وعنايتنا.
(/17)
- الإيمان بأن الإنسان هو أهم كائن في العالم الطبيعي وأنه معيار الأشياء جميعاً وغاية الوجود. ولكونه غاية يتوجب على المجتمع أن يحيطه بكل أسباب الرعاية والحماية وأن يوفر له شروط الإبداع والحياة الحرة الكريمة. وهذا يتأسس من منطلق أن الإنسان هو العامل الفاعل في التاريخ في ميادين التحضر والتطور، إنه سيد قدره وحاكم لصيرورة وجوده إبداعاً وعطاءً.
- الإيمان بأن العقل هو مصدر تفوق الإنسان وتفرده في مملكة الكائنات الحية، ومن ثم الإيمان بأن الإنسان يستطيع عبر هذا العقل أن يطور العلوم والمعارف باتجاه السيطرة على الوجود والمصير.
أما لوي ديمون فيرى الحداثة ترتكز إلى المحاور التالية:
- الفردانية (مقابل حلول الفرد في الجماعة Holism ).
- أولوية العلاقة مع الأشياء مقابل أولوية العلاقة بين البشر.
- التمييز المطلق بين الذات والموضوع.
- فصل القيم عن الوقائع والأفكار.
- تقسيم المعرفة إلى مستويات (فروع معرفية) مستقلة متناظرة ومتجانسة.
ويحدد هايدغر خمسة مظاهر للأزمنة الحديثة وهي: العلم، التكنولوجيا، الفن، الثقافة، ومن ثم الانسلاخ عن المقدس.
يحدد عياض بن عاشور عدداً من الأسس المركزية للحداثة ويحددها بأهمية العقل ودوره في الحياة الإنسانية، ومن ثم بأهمية الفردية الإنسانية، والإرادة البشرية، وبالتالي التأكيد على دور الطبيعة وأهميتها، وأخيراً الزمن بوصفه رصيداً يتجدد ويزيد بالتدريج.
وتعتمد الحداثة على ركيزتين أساسيتين كما يرى تورين A. Touraine هما العقلانية والانفجار المعرفي.
يقصد بالعقلانية: حالة رفض للتصورات القديمة التي تقوم على أساس ديني، وتمثل في الوقت ذاته حالة قطيعة مع الغائبة الدينية التقليدية، إنها انتصار للعقل في مختلف مجالات الحياة والوجود، في مجال العلم والحياة الاجتماعية، وغاية الحداثة هي بناء مجتمع عقلاني.
(/18)
ويقصد بالانفجار المعرفي كما ذكره في كتابه نقد الحداثة: تستبدل الحداثة فكرة الله بفكرة العلم، وتقصر الاعتقادات الدينية على الحياة الخاصة بكل فرد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يكفي أن تكون هناك تطبيقات علمية وتكنولوجية للعلم كي نتكلم عن مجتمع حديث ينبغي أيضاً حماية النشاط العقلي من الدعايات السياسية ومن الاعتقادات الديني[8]
الحداثة زادت من تعقيد الواقع المعاش وأكثرت من الأزمات الإنسانية والأخلاقية ويمكن أن نبرز أهم المآخذ التي كانت سبباً في إعادة النظر فيما طرحته الحداثة ومحاولة الخروج من الأزمات التي فرضتها:
1) في ظلها نشأت الأيدلوجيات العنصرية والاستبدادية مثل الفاشية والنازية.
2) لم تستطع أن تحل المشاكل العسيرة التي تواجهها البشرية.
3) ظهور النزعة الفردية المبالغ فيها.
4) إساءة استخدام العلم والتكنولوجيا على حساب مصلحة الشعب.
5) لم يستطع الإنسان في ظلها تلبية حاجاته الأساسية.
6) إنها فكر جامد اتسم بصوغ الأنساق الفكرية الجامدة التي اتخذت شكل الأيدلوجيات.
يقول سيتورات سيم: من المعلوم أن فلسفة التنوير التي ظهرت في القرن الثامن وعدتنا بتحرير الكائن البشري فكرياً ومادياً وتحقيق السعادة الكاملة له على هذه الأرض.. ولكننا وصلنا الآن إلى الخيبة الكبرى بعد مرور مئتي سنة على هذا الوعد. فالحداثة لم تف بوعودها في الواقع.
ولهذا السبب فنحن مضطرون للبحث عن شيء آخر يتجاوزها أو يقف فيما وراءها، وهذا الشيء هو: ما بعد الحداثة. نحن نريد أن نخرج من سجن الحداثة الذي لم نعد نستطيع أن نتنفس داخله!
إن جان فرانسوا ليوتار يعتقد بأن الحداثة بعد أن كانت أداة تحرير في البداية تحولت إلى شيء جامد وقمعي. وأكبر دليل على ذلك أن الإنسان في المجتمعات الحديثة المتقدمة أصبح مراقباً في كل حركاته وسكناته من قبل أجهزة سرية لا مرئية.
(/19)
وبالتالي فظاهرياً يبدو الإنسان حراً في المجتمعات الرأسمالية الحديثة. ولكنه في الواقع مقيد بالأصفاد دون أن يدري. وهذا ما برهن عليه ميشيل فوكو في كتابه الشهير (المراقبة والعقاب) فقد درس آليات السلطة في المجتمعات الأوروبية واكتشف أن الإنسان كان أكثر حرية في العصور السابقة لأنه كان يستطيع أن يهرب من السلطة. أما الآن فإن آليات التدجين والمراقبة السلطوية قد انتشرت في كل مكان، ولم يعد بإمكان أحد أن يفلت منها. ولهذا السبب قال فوكو عبارته الشهيرة: "إن الأنوار التي خلقت الحريات هي التي خلقت السلاسل والأغلال أيضاً[9]
إذن أصبحت الحداثة سجن وأصبح ما بعدها هو الملاذ فأصبح القوم يبشرون بأن هناك في مجتمع ما بعد الحداثة انفتاح فكري ومرونة فكرية، وأن ما بعد الحداثة لا تصدر أحكام كلية حتى لا يصاغ الناس وأفكارهم بصياغة واحدة، وأهم ما يبشرون به هو أن الإنسان سوف يكون في استطاعته اختيار مصيره، وسوف يتضح عن عرض ما بعد الحداثة أن ما يقولونه ما هو إلا وهم والواقع يزداد تعاسة.
ما بعد الحداثة نظرتها للإنسان:[10]النظرة لا تختلف عن النظرة الحداثية بأن الإنسان تحكه القوانين الطبيعية. ولكنهم يرون أن الإنسان أقل من أن يربط بقوانين الطبيعية العامة بل هو مربوط بالأثر الاجتماعي وخاصة الأثر اللغوي.
فهم يرون أنه لا توجد ذات إنسانية مستقلة عن حقيقتها الاجتماعية فهم يرون أن الثقافة والمجتمع يصنعان الأفراد كما يصنعان أفكارهم واتجاهاتهم، ومن طرق صياغة للأفراد اللغة.
فيما بعد الحداثة ترى أن الإنسان ما هو إلا السلوك الخارجي الذي تتحكم فيه البيئة وقد ساعد على ذلك النظريات السلوكية في علم النفس التي ترى أن السلوك الإنساني محكوم بقوانين علمية كقوانين الطبيعة، فأصبح يجري على الإنسان التجارب كما تجري على العناصر الطبيعية، وتجري التجارب أيضاً على الحيوان وتعمم نتائجها إلى درجة كبيرة على الإنسان.
(/20)
ما بعد الحداثة ونظرتها للعلم والعقل والعلم التجريبي:
ترى (ما بعد الحداثة) أن العلم التجريبي وما يدعيه من موضوعية غير موجودة أصلاً وذلك لأن العلم التجريبي يعتمد على رصد الإنسان بواسطة حواسه والتعميم يكون بواسطة العقل على الظواهر الخارجية ولا يمكن التحقق من صدق الصور التي انطبعت في الأذهان عن الواقع الخارجي فلا يوجد مرجح للصدق والكذب إلا الإنسان نفسه ومن أين لنا التأكد من ذلك فالنتيجة الشك. ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد على العقل في الوصول إلى الحقيقة- إن وجدت- فلابد من الاتجاه إلى طريق آخر غير طريق الحواس للوصل إلى النتيجة المرتضاة.
فقالوا إن الناس يرون الشيء نفسه بطريقة مختلفة والسبب في ذلك يعود إلى اختلاف الثقافات وهذه الثقافات تقوم على اللغة، إذن كل النشاطات العقلية قائمة على اللغة فنحن نفكر من خلال الكلمات ونتواصل من خلالها، وكذلك الناس مرتبطون بالحقيقة من خلال الأسماء التي يعطونها لإدراكهم وأفكارهم وهذه الأسماء تطلق بشكل عشوائي أو اتفاقي من المجتمع.
فإذا كانت اللغة هي طريقة الناس للارتباط بالواقع فلابد إذن أن نفهم طبيعة اللغة.
وما بعد الحداثة تهتم عند دراستها اللغة بجانبين من جوانبها:
(/21)
1- علم الدلالة: ترى (ما بعد الحداثة) أنه علم معاني الكلمات وهو يهتم بالعلاقة بين الكلمات والواقع، لأن الكلمة عندهم هي الدال وهي الرمز والحقيقة الخارجية هي المدلول ويجعلونها كالخريطة والأرض. فهم يرون لا سبيل للوصول إلى المعاني دون الكلمات (أو الأرض دون الخريطة) ولكن المشكلة كيف يتم التأكد من أن الألفاظ تحتوي جميع الحقيقة مع أن الحقيقة في لغة قد تقصر عنها لغة أخرى، فمثلاً الجمل عند العربي له عدة أسماء لا تستطيع اللغات الأخرى التفريق بينها، وكذلك الثلج عند الإسكيمو له أكثر من اسم، فالألفاظ لا توصل إلى الحقيقة المطلقة ولأجل ذلك يصبح لدى الإنسان من الحقيقة بحسب ثقافته التي تحتويها لغته، ولأجل ذلك يرى الحداثيون أن كل أفراد ثقافة محصورون خارج الثقافة الأخرى فاللغة كما يزعم أحدهم سجن فلا نستطيع الخروج عن نطاق لغتنا من حيث الفكرة والخبرة، فعلم الدلالة يضعف تصورنا للواقع فالواقع له جوانب كثيرة لا تحيط بها لغة.
2- التركيب: هو تركيب اللغة أي القواعد التي تحكم استخدام اللغة وترى ما بعد الحداثة أن أسلوب تركيب الجملة في اللغة ينشئ منطق داخل اللغة ويقولون إن هذا المنطق يقضي بشكل كبير على قوانين التفكير الموضوعي نفسه.
فالإنسان يصف إدراكه وأفكاره بناء على اللغة التي يستخدمها وهي مختلفة التركيب والمنطق اللغوي عن اللغات الأخرى، فكل ثقافة معزولة عن الأخرى وتفسر الأفكار بشكل مختلف، فعلم التركيب يضعف استنتاج الواقع.
وعلى ذلك لا يمكن أن يصل الإنسان إلى الحقيقة المطلقة لأن اللغة لا يمكنها تعميم ما تصل إليه من حقائق وينبني على ذلك أمور:
1- أن الإنسان يطلق ما خلال اللغة مسميات على بعض الظواهر الطبيعية فمثلاً يسمي الشيء سبباً والآخر يسميه نتيجة، ولا يمكن أن يجزم بأن هذه هي حقيقة الشيء الفعلية.
(/22)
فليس لدى الإنسان القدرة على الترجيح بأن ما يحكم اللغة هو ما يحكم الطبيعة، فلا يمكنه بحال الوصول إلى الحقيقة المطلقة، فالحقيقة نسبية.
2- الإنسان محكوم بثقافته والوصول إلى ما يراه حقيقة مرتبط بلغته ولا يمكن الوصول إلى حقيقة مطلقة للأشياء، فعلى ذلك من الواجب إقرار كل مجتمع على ما يراه مناسباً له من أديان وثقافات وغيرها لأنه لا يمكن إيجاد معيار للحق والباطل لاختلاف الرؤى فالحقائق متساوية وليس من حق الإنسان أن ينتقد حقائق ثقافة أخرى.
الفصل الرابع: مرحلة ما بعد الحداثة النتائج والممارسة
مرحلة ما بعد الحداثة هي المرحلة التي نعيشها اليوم وهي مرحلة حرجة تمر بها الإنسانية جمعاء، وفي هذا الزمن بدأت تظهر نتائج الفكر الغربي الذي كان يبشر بالتقدم والخير ولكن لأبنائه فقط دون غيرهم، ونحن صدقنا الدعوة وظننا أننا مقصودون من ضمن الموعودين، علماً حتى أبنائه الآن يتجرعوا الكأس بل الواقع عليهم صعباً للغاية.
فزمن ما بعد الحداثة يتميز بأمور[11]
1- إلغاء الحقيقة المطلقة وأن جميع الأشياء متساوية بل تسويه كل شيء. وهدمه حقيقة، فجميع الأفكار صحيحة وجميع الأديان صحيحة لأنها بنى ثقافية فلا أحد يملك أن يحكم على شيء في ثقافة أخرى أنه خطأ.
فالقتل الجماعي والتطهير العرقي والتعذيب والاغتصاب وعنصرية البيض كلها مميزات للقرن العشرين فلا يحكم على هذه الأعمال بأنها شر أو غير أخلاقية لاختلاف الثقافات، فالثقافة الغربية ترى ذلك خيراً لها بل للعالم فلا تلزم الثقافة الغربية بما يخالف ثقافتها.
2- جعل الإنسان مادة استعمالية بحيث تحوله إلى مستهلك، فمثلاً العمل الإنسانى أصبح هو العمل الذي يقوم به المرء نظير أجر نقدي محسوب، خاضع لقوانين العرض والطلب على أن يؤديه في رقعة الحياة العامة أو يصب فيه في نهاية الأمر.
(/23)
والإنسان أصبح مادة استعمالية حقيقة وذلك من خلال إجراء التجارب عليه بل وقتله في الأفلام حقيقة وتجربة الأسلحة والأغذية والأدوية عليه.
3- زوال القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية عن الدوافع الإنسانية بل أصبح المحرك للإنسان المنفعة واللذة.
4- تعميم الشقاء والصراع والتعاسة على الناس وذلك من خلال ثورة المعلومات فما يحصل في شرق الأرض لا يغيب عمن في غرب الأرض وإعاشته واقع غيره على أنه واقعه. وكذلك نشر المخدرات وأمراض المجتمعات الأخرى من خلال المحاكاة.
5 - نفي كل ما يغيب عن الحواس لأنه لا توجد حقائق مطلقة.
6- أن إسقاط القيم المجاوزة للواقع جعل النظر للحقوق الإنسانية على أنها حقوق طبيعية أكل وشرب وجنس لا علاقة له بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلاقية بل هو مجموعة من الحاجات المادية البسيطة المجردة.
ومن خلال ذلك يمكن أن نعرف ما يطالب به الآن من حقوق المرأة- وذلك عندما اسقطوا أهمية فكرة المعنى باعتبارها فكرة ليست كمية أو مادية- نظروا إلى المرأة بما تنتجه مادياً، ويمكن حسابه دون النظر إلى ما لا يمكن حسابه.
جعلوا للمرأة قضية صراعها مع الرجل وربطها بالذات الأنثوية والحاجات الأنثوية دون النظر إلى ما يتفرع من أمومة وغيرها.
هذه النظرة جعلت هناك تعريفاً جديداً للأسرة (رجل وامرأة وأطفال، ورجلان وأطفال، امرأتان وأطفال).
ولعل هذه المسألة كانت لها جذور سابقة بما يسمى (تأنيث الفقر أو تأنيث المعاناة) حيث كانت هناك ظاهرة معروفة في أمريكا يعيش الرجل مع المرأة وتنجب ثم يمل منها مع طول المدة ويتركها فتحمل المعاناة وتقوم بالصرف عليها وعلى أبنائها مما يعيشها في فقر وأزمات نفسية وغيرها مما جعلها تنظر إلى القضاء على هذه الظاهرة بزيادة السحاق فتفرغ طاقتها دون الحاجة إلى لرجل.
(/24)
7- نشر ثقافة الاستهلاك فأصبح الإنسان يستمع بذلك وتحكمه اللذة غالباً فيما لا حاجة له فيه مما يجعله منهكاً ولا يمكن أن يكون منتجاً.
وثقافة الاستهلاك واسعة الجوانب والمناحي فلا تختص بالسلع الغذائية أو الملبوسات بل دخلت حتى في الخدمات والإعلام والسياحة وغير ذلك، فالهدف من الأمور الاستهلاك وهذا ما تفرضه المنظومة الغربية.
8- زوال ما يسمى بالخصوصية أو الحياة الخاصة فقد استطاعت الحداثة الغربية وما بعدها القضاء على ذلك من خلال الدولة المركزية والإعلام وقطاع اللذة.
ولعل أبرز ما كرسته ما بعد الحداثة هو تفتيت الإنسان وجعله مهتماً بنفسه ومستهلكاً لا منتجاً ومنفصلاً عن مجتمعه حيث يبني نفسه في معزل عن ذاكرته التاريخية التي تتناقلها الأجيال، فيحدث داخل المجتمعات ألوان من الشقاء والبؤس والمنكرات ما لا تعرف في السابق، ويخرج نتيجة لذلك مواطنون ضد أوطانهم، فيحاربونه ويحاربون قيمه، وذلك لعيشهم منعزلين عن مجتمعاتهم وتغذيتهم بالأفكار الغربية التي يصبها الإعلام عليهم مع الانبهار بما عند الآخرين.
ويمكن ذكر بعض الممارسات التي يمارسها الغرب في زمن ما بعد الحداثة في صياغة الحياة كلها بالصياغة العلمانية[12]
1- الإعلام: يبث من خلاله الأعمال التليفزيونية والسينمائية التي تعيد صياغة الأفكار وجعلها أمور نسبية، فالبرامج والأفلام التي تنتج في عصر ما بعد الحداثة تتميز بأنها تجعل المقصد الرئيسي أكثر إيهاماً، فالهدف غير محدد فمثلاً تتكلم عن إنسان اللامكان الذي يبحث عن هويته التي محيت تماماً من قبل المصالح الكونية القوية، فيشعر الإنسان بالضياع وعدم وجود الهدف إلا المتعة الآنية.
وكذلك يتجه الإنتاج في هذه المرحلة إلى الأكثر من صناعة الترفيه والتي تعمل على تشكيل المستقبل من خلال تكريس الفردية والبعد عن أهداف في الحياة إلا إشباع الرغبات الجسدية.
(/25)
وكذلك من الملاحظ أن الموجة السائدة في الإعلام الآن هي "النقاش" بغض النظر عن النتيجة من هذا النقاش فكل شيء وله وجهان وربما أكثر من وجه ومن ثم لا حقيقة هناك ولا مضمون، وهذا كاف عند مروجي ما بعد الحداثة لتمييع أبرز الأفكار التي تشكل أهم مقومات الآخر. وكذلك يقوم الإعلام بتغييب الواقع وإخفائه وتجاوزه لصالح واقع افتراضي يجري بسرعة تتعدى قدرة الإنسان على استيعابها وتوصيفها وكأن ثمة ماكينة للإبصار تحل محل وعينا وإدراكنا وستقوم بهذه المهمات نيابة عنا، مما يؤدي إلى عدم الثقة بواقعنا فلا يقطع الإنسان إلا بما تعرضه تقنيات المعلومات فتنفي قيمة المكان لحساب الزمن فلم يعد مجدياً الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل بل ثمة زمنان زمن البث المباشر والبث اللاحق.
2- التعامل مع التاريخ: حيث يقولون بأن التاريخ غالباً ما يكتبه المنتصر، بمعنى أنه آحادي الوجه وليس موضوعياً تماماً، ولأجل ذلك نرى ما بعد الحداثة أن المنطق هو نهاية التاريخ.
فما بعد الحداثة تعمل على إعادة تمثيل التاريخ بانتقائية مقصودة بتشكيل ما بعد حداثي يفرغ التاريخ من مضمونه كسجل للوقائع الزمنية، وفي إطار تحويل كل شيء إلى سلعة والاهتمام بالأسلوب تعتبر أفلام هوليود خاصة الرسوم المتحركة المصدر الرئيس لمعرفة التاريخ كما يعاد تشكيله طبعاً، ففي إحدى أفلام والت ديزني تعاد صياغة إحدى أساطير الهنود الحمر بشكل يصور الأنجلو ساكسون كمنقذين لتلك القبائل الأصلية. وليسوا جيوش إبادة استولت على أراضيهم، مع محافظة والت دينزي على الرموز الرئيسية للحكاية "بوكا هونتاس". فالمقصود إعادة صياغة التاريخ ليخدم المرحلة الحالية (الآن) وليس التاريخ كذاكرة للأمة والقوميات، ولعل فيلم (الإغواء الأخير للمسيح) يبرز ذلك حيث يظهر فيه المسيح وكأنه مرآة لتمحور الأوروبي حول الذات.
(/26)
3- إعادة إنتاج الآخر فما هو في الثقافات الأخرى يسوَّق على أنه أوروبي أو أمريكي ولعل أفضل مثل لذلك ذا بودي شوب. حيث يؤخذ إنتاج الآخرين ويغلف في شكل استهلاكي ما بعد حداثي والهدف من ذلك إشعار الآخر بالدونية تجاه الغرب وثقافته، وكذلك القضاء على الأصالة وبلد المنشأ كما يقال.
الفصل الخامس: نشوء الفكر العلماني في العالم العربي وطرق فرضه واقعاً
إن من الأخطاء التي لازالت مستمرة في معرفة حقيقة المصطلحات التي ترد علينا من الغرب والشرق تؤخذ دون تمحيصها ومعرفة حقيقتها من كل جوانبها وليس كما نتصورها أو كما يصورها لنا الآخرون.
إن العلمانية وما دخل تحتها من مسميات (الحداثة وما بعد الحداثة) ليست هي مجرد أفكار محصورة في طائفة معينة وشرها مقتصر عليها بل هي مع ذلك ممارسات تفرض الأسلوب العلماني دون أن يعي الإنسان المراد علمنته[13]بحقيقة ما يراد له.
إن العلمانية في حقيقة أمرها أصبحت كامنة في جميع المجتمع والدول وذلك من خلال ممارسات فرضت عليها أدت إلى ما نراه اليوم من انحلال أخلاقي والبعد عن الدين وفقدن أي قيمة يرجع إليها الإنسان إلا قيمة النفع المادي البحت ومدى جدوى ذلك مادياً من عدمه.
وهذه العلمنة الكامنة في المجتمعات العربية قامت على عدة ممارسات والتي يمكن إيجازها بما يلي[14]
1- الاستعمار- القديم والحديث.
2- الدولة المركزية. المؤسسات الإعلامية.
3- قطاع اللذة.
4- النخب المتعلمنة.
(/27)
أولاً: الاستعمار القديم والحديث:[15]العلمانية والإمبريالية صنوان ولا يمكن أن نفرق بينهما لأن الإمبريالية هي نتيجة طبيعية للعلمانية وممارسة لها، فالعلمانية حولت العالم إلى مادة استعمالية، والقيم المسألة نسبية، وجعلت الصراع الآلية الأساسية حسم كل التناقضات أي أنها ولدت عقلية إمبريالية هيمنت على الإنسان الأوروبي ودفعت به إلى غزو بقية العالم والاستيلاء عليه واقتسامه فيما بينهم، ونهب المصادر الطبيعية والبشرية لكل شعوب الأرض، وقد أفرزت هذه النظرة الإمبريالية رؤية عنصرية قامت بتصنيف الناس على أساس صفات مادية كامنة فيهم: حجم الجمجمة، لون الجلد... الخ.
فنظرت إلى الشعوب غير الغربية وأراضيها ومواردها باعتبارها مادة استعمالية يمكن للغرب أن يوظفها لحسابه.
ولقد قام الغرب في مرحلة الاستعمار القديم- حتى يتسنى له استغلال العالم العربي الاستغلال الأكمل ويضمن استمرار هذا الاستغلال- بالقضاء على كل المؤسسات الحكومية والأهلية التقليدية التي كانت تنظم الحياة السياسية والاجتماعية لشعوب العالم العربي. وغيرت نظام التعليم ومعمار المنازل وتخطيط المدن وإعادة صياغة البنية الاقتصادية والسياسية والقضاء على النخب السياسية والثقافية التقليدية، وأحلت محل كل هذا مؤسسات يديرها مديرون أجانب وزودتهم بأدوات القمع والإكراه للحفاظ على الأمن الداخلي وكل هذا يتم لمصلحة الدول الغربية وهي عمليات علمنة دون تحديث، فالعلمنة تقوم بتفكيك أوصال المجتمع وهذا ما يخدم مصالحها.
ثم جاءت مرحلة الاستقلال ولم يتغير الأمر كثيراً إذا جاءت نخب محلية صعدت من عمليات التفكيك بالقضاء على البقية الباقية من الجماعات المدنية وزادت هيمنة الدولة القومية.
(/28)
وفى مرحلة الاستعمار القديم كان الاعتماد فيه القوة التدميرية والفرض العسكري للأمور، ولكن تغير الأمور في المجتمعات الغربية من شمول العلمنة فيها لجميع مناحي الحياة، وكذلك ظهور قوى أخرى في العالم ليست عربية أدى ذلك إلى تغيير أسلوب الممارسة الذي كانت تفرض به العلمانية على العالم بما يوافق المرحلة الحالية.
فالغرب أدرك عمق أزمتها العسكرية والثقافية والاقتصادية وأحس بالتفكك الداخلي وبعجزه عن فرض سياساته بالقوة، فلابد من تغيير الاستراتيجية التي يفرض من خلالها العلمانية في العالم الإسلامي.
الأزمة العسكرية يمكن إيضاحها بالنقاط التالية:
- فبسبب الحرب الباردة خرجت منها أمريكا منهكة اقتصادياً، هذا مع أن الحروب الحديثة أصبحت مكلفة للغاية مما يجعل من الصعوبة على الشعوب الغربية القبول بتخصيص اعتمادات عسكرية كبيرة.
- وكذلك تراجعت القدرات العسكرية للاستعمار الغربي بسبب تصاعد معدلات العلمنة والتوجه الحاد للإنسان الغربي نحو المنفعة الشخصية واللذة المباشرة التي لا يمكن إرضاؤها إلا بالإشباع الفوري وقد أدى هذا إلى انخفاض الروح النضالية لدى الإنسان الغربي وإلى ارتفاع تكاليف الحملات العسكرية.
- وكذلك تراجعت الهيمنة العسكرية الغربية بسبب ظهور دول لها قوة عسكرية ضاربة وقوة نووية غير خاضعة للهيمنة الغربية ولأجل ذلك نعرف مدى رفض أمريكا الحصول على القوة العسكرية لمن هو خارج المنظومة الغربية.
- مع إدراكهم عبث المواجهة العسكرية مع القوى المجاهدة غير الرسمية وظهور أسلحة دمار رخيصة لا يحتاج مستخدمها إلى تخصص أو دورات تدريبية.
أما على المستوى الثقافي: تراجعت المركزية العسكرية مع القوى المجاهدة غير الرسمية وظهور حركات البعث؛ بسبب تزايد الوعي بالذات الثقافية وبسبب أزمة الغرب الذي لم يعد نموذجاً جذاباً، كما كان في الستينات بل وظهور أقليات ثقافية أثنية داخل العالم الغربي ذاته لا تقبل بهيمنة الثقافة الغربية.
(/29)
على المستوى الاقتصادي: تواجه الولايات المتحدة مشاكل المديونية وعجز الميزان التجاري لديها، وكذلك أصبحت دول العالم الثالث أكثر وعي بمصالحها الاقتصادية وبثبات السوق المحلية وكيفية السيطرة عليها مما جعل عملية النهب الاستعماري القديمة صعبة.
وكذلك وجود أزمات عالمية لا يمكن مواجهتها إلا على إطار دولي كثقب الأوزون وسخونة الغلاف الجوي والمخدرات.
ويضاف إلى الأسباب السابقة أن الغرب أدرك استحالة المواجهة مع دول العالم الثالث التي أصبحت جماهيرها أكثر صحواً ونخباً أكثر حركية وصقلاً وفهماً لقواعد اللعبة الدولية.
هذه الأزمات جعلت الغرب يبحث عن عوامل تساعده على النفوذ في العالم الثالث والتي أدركها من خلال عوامل تفكك بدأت تظهر في دول العالم الثالث، فقد ظهرت نخب محلية مستوعبة تماماً في المنظومة القيمية والمعرفية والاستهلاكية الغربية يمكنه أن يتعاون معها ويجندها وهي نخب يمكن أن تحقق له من خلال السلام والاستسلام ما فشل في تحقيقه من خلال الغزو العسكري.
بسبب هذه الأمور مجتمعة نوع الغرب عملية الاستعمار الجديدة حيث قام بفرض علمنته من خلال اللجوء للإغواء والإغراء بدلاً من القمع والاستفادة من التفكك لضرب التماسك بدلاً من الهجوم التدميري المباشر وبذا يحل إشكالية عجزه عن المواجهة ويتخلى عن مركزيته الواضحة وهيمنته المعلنة ليحل محلها هيمنة بنيوية تغطيها ديباجات العدل والسلام والديمقراطية.
وقد تم ممارسة هذا التغير من خلال:
1- الدولة المركزية لفرض ما يراه مناسباً وإيهامها بأنها شريك مع الاستعمار الغربي في عمليات الاستعمار، بل وشريك صغير في عمليات النهب ومستفيد منها.
2- إغواء النخبة عن طريق إفسادهم ورشوتهم واستخدامهم في نشر المفاهيم الغربية.
3- إغواء الشعوب إما مباشرة عن طريق وسائل الإعلام الغربية أو المستغربة أو عن طريق النخب المحلية.
(/30)
4- تفكيك الدولة القومية كإطار لتجميع القوى الشعبية المختلفة ضد الإمبريالية أو ضد الهيمنة الغربية وذلك عن طريق المنظمات الدولية أو إثارة الأقليات وإثارة مشاكل الحدود.
ولابد من التنبيه إلى نقطة مهمة في الفرق بين الاستعمار القديم والاستعمار الحديث من حيث الوسيلة وليس من حيث الهدف.
فالاستعمار القديم كان يحاول إيقاف عمليات التحديث في أي مكان في العالم يجعل العالم الغربي متقدماً منتجاً ومستهلكاً ويصبح العالم الثالث متخلفاً بدائياً مصدراً للمواد الخام والعمالة الرخيصة ومستهلكاً ضعيفاً لبعض البضائع الأوروبية.
أما النظام الجديد فيرى تحويل العالم كله إلى حالة المصنع والسوبر ماركت ولذا فلابد أن تتقدم شعوب الأرض بما فيه الكفاية لتصبح شبه منتجة وشبه مستهلكة ولا يمكن أن تسمح بخروج أي جماعات أو أشخاص عن دائرة الاستهلاك الغربي لأن من لا يحتاج إلى المنتجات الغربية لا يمكن تجويعه أو الضغط عليه فهم يشكلون ثغرة في نظام يشبه الإله ولا يحتمل ثغرات.
فلابد للجميع من دخول النظام العالمي عن طريق بيع الأحلام الوردية عن الرضا الاقتصادي وتعظيم اللذة أو الوعد بها والتصعيد المستمر للرغبات الاستهلاكية والجنسية.
ولكن التقدم يجب أن يكون تحت مظلة البنك الدولى وصندوق النقد داخل الإطار العالمي الجديد ولا يسمح بالتنمية المستقلة، فالتنمية المستقلة قد تعيق توسع الشركات متعددة الجنسيات وقد تعوق التنمية تحت مظلة البنك الدولى، وأما التنمية تحت الاستعمار الجديد تجعل شعوب العالم الثالث نصف منتجة ونصف مستهلكة حتى يستمر اعتمادها المذل على الغرب.
(/31)
وهذا التقدم الوهمي والذي يكون قائماً على الاستهلاك أداة من أدوات الاستعمار حيث إن نشر الاستهلاكية العالمية تحول العالم إلى سوق كبير للعرض والطلب وتعظيم المنفعة المادية واللذة الجسدية، أو هذه الاستهلاكية وجدت أن من صالحها أن تفتح الحدود وأن تختفي القيم والمرجعيات تماماً حتى يفقد الجميع أي خصوصية. وهذا يتم من خلال الحديث عن الديمقراطية بطريقة انتقائية، والتي تسهل لهم فتح الحدود وإضعاف الدول القومية المركزية الصغيرة.
وإذا تم ذلك بحيث تختفي الخصوصيات وتنتشر قيم المستعمر تجعل الإنسان يتخفف من عبء الهوية والضمير والاختيارات المركبة، وهنا تكمن خطورة الاستعمار الجديد لأنه يشعر الإنسان بأنه في كامل حريته مع أنه مستعمر بل قد فقد خصوصيته كإنسان فيصبح أقرب إلى البهيمية مع ظنه أنه وصل إلى مرحلة من التقدم المادي الهش.
ثانياً: الدولة المركزية:
كانت الدولة القومية في بداية نشوئها دولة ضعيفة ليست مركزية بمعنى أنه لم تتدخل في الحياة الخاصة، ولكن الدولة القومية الحديثة أحكمت بمؤسساتها الأمنية قبضتها على الفرد وعلى كل المؤسسات الأهلية بما في ذلك المؤسسات الدينية من الخارج، كما أحكمت مؤسساتها التربوية قبضتها عليه من الداخل.
فلا مجال للخروج من سيطرتها فما يتم في التعليم وفق الرؤى المرادة وما يعرض في الإعلام يخدم هذا الجانب وكذلك أدوات القمع والأمن لمعاقبة المخالف والخارج عن القالب الحكومي للأشياء.
فالنخب الحاكمة لا يمكنها الخروج عما يفرضه عليها المستعمر الخارجي والذي حكم هذه النخب من خلال الأدوات الدولية هيئة الأمم المتحدة واليونسكو وغيرها من الأدوات التي تفرض العلمنة على المجتمعات بوعي أو بدون وعي.
ثالثاً: وسائل الإعلام:
(/32)
وهي التي تقوم بإعادة صيانة صورة الإنسان لنفسه بشكل جوهري وبإشاعة مجموعة من القيم خارج أي إطار قيمي أو معرفي ودون التزام اجتماعي أو حضاري فالدافع الوحيد المحرك للقائمين على وسائل الإعلام هو دافع الربح.
ويمكن أن نضرب مثلاً لما نقوم بالإعلانات التليفزيونية فهي تترع القداسة عن الإنسان وتحوله إلى إنسان اقتصادي وجسماني فهي تعيد صياغة رؤيتهم لأنفسهم وللعالم بطريقة قد لا يوافقون هم أنفسهم عليها إن أدركوا تضميناتها الفلسفية والمعرفية والأخلاقية.
رابعاً: قطاع اللذة:
لابد من إيضاح أمر مهم وهو ترابط الحلقات التي تفرض من خلالها العلمانية في المجتمعات، فالحلقات السابقة ليست منفصلة بل هي مترابطة تصب كلها في مجرى واحد وقد تستخدم كلها متزامنة، فتغول الدولة وأجهزتها الأمنية والإعلام وقطاع اللذة نجم عنه تقويض رقععة الحياة الخاصة وانكماشها، كما أن الدولة بأجهزتها والإعلام وقطاع اللذة لا تترك الأمور النهائية وشأنها بل تتدخل فيها وتحاول صياغتها بشكل نشيط.
قطاع اللذة هو إحدى الأدوات التي يعاد من خلالها صياغة حياة الناس ونقصد بقطاع اللذة (سينما، مجلات إباحية، شركات سياحية، صناعة، أزياء..) وهذا القطاع هو أهم أدوات العلمانية الكامنة.
ويتضح ذلك من خلال الأمثلة، فمن خلال الأفلام الأمريكية (خصوصاً) والبرامج التليفزيونية التي تصل إلى السواد الأعظم من البشر تعاد صياغة رؤيتهم لأنفسهم عادة في إطار دارويني أو فرويدي أو برجماتي.
ومثالاً لذلك الفيلم الكرتون المسمى (توم وجيري) الفأر اللذيذ الماكر يستخدم كل الحيل- التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقياً- قضاء على خصمه القط الغبي الثقيل فالقيم المستخدمة براجماتية نسبية لا علاقة لها بالخير والشر وكذلك الصراع لا ينتهي فالفيلم يبدأ بالصراع ولا ينتهي بنهايته فالعالم وفق هذه الرؤية الكرتونية ما هو إلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التي تلبس ثياب القط والفأر.
(/33)
ومثال آخر أفلام رعاة البقر والتي تغرس دوام الصراع وأنه لا يكتب البقاء إلا للأصلح، وهذه مجموعات من الصفات لا دخل لها بأى منظومة دينية أو أخلاقية أو إنسانية.
ولعل أبرز ما يوضح مدى فعالية التغلغل العلماني في المجتمعات هو حقل الملابس فالعلمنة في الملابس تبدأ بعملية تغريب الزي فيصبح ارتداؤه دليل على اتساع الأفق الحسي الواقعي والعملي مع ملاحظة أن الزي الغربي كان مركباً في منتصف القرن العشرين وهذا يدل على أن العلمنة الشاملة لم تكن قد سيطرت تماماً فمازال هناك مجال للجمال والأخلاق.
وكما هو معلوم أن هدف اللباس هو تغطية الجسد وستره ولكن أصبح بعد ذلك هو إما جذب الأنظار إلى الجسد وتعميق الإحساس باللذة والتسخين الجنسي أو مساعدة الإنسان على أداة وظيفته وأصبحت الملابس تتجه إلى التبسيط إلى أن تصل إلى التيشيرتات الذي يحول الإنسان إلى حيز يمكن الإعلان من خلاله.
وظهر الجيتر الذي ليس له أي انتماء حضاري وظهر المينى سكيرت التي تقترب من حالة الطبيعة ثم ظهر أخيراً الميكروسكيرت التي تعلن نهاية الملابس والتاريخ والحضارة وهي ملابس ما يسمى فوق البطن وأخذت تنتشر لدينا.
إن متابعة الموضة عينى غزواً كاملاً للحياة الخاصة والذوق الخاص.
خامساً: النخب المتعلمنة:[16]وهذه كما ذكر في السبب الأول أداة غير مباشرة في الكلام عن القيم الغربية لهم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا فكلامهم قد ينطلي على من لا يعرف حقيقتهم.
والخطورة في هذه النخب أنهم ممكنون في إيصال أفكارهم إلى الناس إما بسبب مناصبهم أو بسبب السماح لهم ممن بيده الحل والعقد، أو من خلال الدعم الخارجي المباشر أو غير المباشر، بل قد وصلت الوقاحة بهم إلى التعامل مع التراث الإسلامي من خلال النظريات العلمانية وانظر إن شئت إلى أصحاب المشاريع مثل محمد أركون والجابري وحسن حنفي وغيرهم.
(/34)
هل من الممكن أن يتوافق التراث مع العلمانية؟ لا. لا يمكن وسوف نتركهم يعبرون عن حقيقة موقفهم، "كانت النهضة تعني استيعاب الحضارة ضمن التراث، أي نهضة للذات التراثية نفسها، أما الحداثة فهي تفترض أن هذه الذات تخفي خطر الخصوصية المبعدة عن الحضارة والمبررة للتقاليد. فالحداثة ليست مشروعاً تاريخياً اجتماعياً كالنهضة وإنما هي سياسة وممارسة يومية، هي تغيير في كل الاتجاهات لبني الواقع والفكر العربيين. إنها اندراج دون أوهام في العالمية والحضارة المادية، وأولوياتها هي إنهاء هذه الخصوصية وهذا التراث.
تأخذ الحداثة طابع الإبداع والتجديد وعلى خلاف هذا يكون التقليد حالة من التكرار وهي إنتاج وإعادة إنتاج ما هو قائم. فالحداثة تعني ظهور الفردية والوعي الفردي المستقل والاهتمامات الخاصة وذلك بالقياس إلى المجتمع التقليدي الذي يتميز بالطابع السحري والديني. فالمجتمع التقليدي يبالغ عادة في احترام وتقديس الطرق والأنماط التقليدية التي توارثها الآباء والأجداد والتي اعتادوا عليها لفترات طويلة، حيث تكون أفضل طريقة يسلكها الفرد أو الجماعة هي الطريقة التي رسمها واتبعها الآباء والأولون، وما هو شرعي ليس سوى كل ما انبثق عن التراث وحفظ عن الماضي.
وعندما تواجه الأنماط التقليدية طوفان الحداثة المتدفق فإن هذا لا يخلو من مظاهر التوتر والاضطراب، ويرجع هذا إلى استمرارية الأنماط التقليدية، حيث تكون متأصلة تأصلاً عميقاً في نفوس الأفراد خلال عملية التنشئة ومن ثم لا يمكن تغييرها في يسر دون أن يتم تحويل وتغيير أنماط التنشئة السائدة في المجتمع. وهكذا فمع تدفق العناصر الحديثة يتوقع استمرار بعض الأنماط التقليدية.
(/35)
وعلى خلاف اللحظة التراثية تتميز اللحظة الحداثية بتفردها، وتأخذ هذه اللحظة خطاً تصاعدياً ينطلق من الماضي إلى الحاضر ومن ثم إلى المستقبل، خط الأصل والغاية، وهذه اللحظة قابلة للقياس، ولكنها غير قابلة للتراجع، إنها لحظة في البحث الدائم عن الجدة، وفي قلب الزمن اللامحدود والذي لا يعرف معنى للخلود فإن الأشياء في الحداثة تريد أن تأخذ طابع المعاصرة، وهذا ما تنفرد به الحداثة، حيث تأخذ الحالية والفورية واليومية اللحظة الخالصة في الزمن الحداثي. فالحداثة هي صيغة انفصال وإبداع فردي وتجديد يسم الظاهرة الاجتماعية وهي محاولة دائمة لهدم القديم وتدميره (الصيغ الأدبية، وأنظمة التوازن، السلطة والشرعية والأشكال الأدبية القائمة).
يرى زكي نجيب محمود أن هذا التراث فقد مكانته في عصرنا لأنه يدور أساساً على محور العلاقة بين الله والإنسان، في حين أن محور العلاقة في عصرنا هذا تدور بين الإنسان والإنسان. ومن جهة أخرى يرى زكي نجيب محمود مفكر الجيل أن تراثنا لا يشكل مصدر الثقافة العلمية المطلوبة حيث يتوجب علينا أن نبحث عن قيم هذه الثقافة ومعاييرها في ثقافة الغرب المعاصرة وفي حضارته ويجب أن ننهل منها ما استطعنا إليها سبيلاً. أما طه حسين فيرى أن الأعراف والتقاليد وطرائق التفكير هي التي تمنع العرب من بناء حداثتهم وتكوين حضارتهم ولابد من إزالة هذه العوائق وتغييرها حتى يتاح للوعي الحديث العلمي أن يأخذ مكانه ودوره في حياتنا ووجودنا[17]هذه الأسباب جمعيها تجعل العلمانية كامنة في المجتمعات فالأفكار تصاغ من خلال التعليم والإعلام والمخالف لما يطرح يؤدب ويراقب والدين يجدد بتغييره وتبديله.
(/36)
ولكن من الملاحظ ولله الحمد أن العالم كله الآن يشهد عودة قوية للدين لأسباب عديدة ولكن المهم العودة، وقد شعر بذلك الغرب أنفسهم بقول سيم بعد أن ذكر المعاناة التي ابتليت بها البشرية رأى أن الحل بالعودة إلى الدين يقول سيم: "إن ما بعد الحداثة ترفض كل الأنظمة السياسية التي شكلتها الحداثة كالليبرالية والشيوعية والفاشية. وتستبدل بها كلها الدين. إن أي شخص يعتقد ذلك ينتمي بالفعل إلى ما بعد الحداثة فهو متواضع من الناحية الفكرية، وجائع من الناحية الروحانية. أقصد بأنه جائع إلى الروحانيات على عكس إنسان الحداثة الذي لا يشبع من الماديات"[18]
الخاتمة
بعد هذا البحث البسيط في الحداثة وما بعدها يمكن الخروج بالنتائج التالية:
1- إن العلمانية وصف لجميع ما يخرج من الحضارة الغربية والذي يعني آخر تطوراته نزع القيم من الأعمال.
2- إن الحداثة وما بعدها مصطلحان مبهمان لا يمكن الكلام عنهما إلا من خلال توصيف الواقع.
3- إن العلمانية والإمبريالية صنوان لا يمكن إنفكاكهما وما يحصل من فرض الهيمنة هو نتيجة طبيعية لهذه العلمانية.
4- لا يوجد مكان في العالم بمعزل عن العلمانية وآثارها.
5- لا يظن الداعية أن الواقع بسيط كما يتصوره بل يجب عليه معرفة الواقع حقيقة ليعرف ثقل مسئوليته.
6- خطورة الإعلام والنخب المتعلمنة على الواقع الإسلامي.
7- إن الدعوات التي تطلق لإصلاح التعليم والاقتصاد والسياسة ليست بريئة في كل الأوقات بل يجب النظر لقائلها والنظر إلى الغرب وما يريد حتى نستطيع الحكم الصحيح.
8- أن ما نراه الآن من العودة إلى الدين في العالم ردة فعل للمأزق الذي تعيشه البشرية.
وأخيراً أسأل الله العلي القدير أن يعيد الأمة إلى سابق عهدها وأن يمكن لها في أرضه، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المراجع
1) موسوعة اليهودية والصهيونية، عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، مصر، ط1، 1999.
(/37)
2) من الذي دفع الثمن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والحرب الباردة الثقافية لفرانسيس ستوفور سونديرز، ترجمة أسامة اسبر، دار الطليعة، دمشق، ط1، 2002م.
3) المشروع النهضوي العربي مراجعة نقدية، للجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1996، بيروت.
4) الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، للمسيري، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1423هـ.
5) المرايا المحدبة من البنوية إلى التفكيك، عبد العزيز حمودة، المجلس الوطنى للثقافة والفنون، الكويت، ط1، 1996.
6) البنوية والتنوع البشري، كلود ليفي شتراوس، مجدي الجزيري، دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية.
7) مقاربات بين مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، لعلي وطفة، بحث على موقع محمد الجابري.
8) مذهب ما بعد الحداثة، لمحمد عبد الكريم، بحث على موقع وزارة المعارف.
9) ما بعد الحداثة مقدمة قصيرة جداً، لكريستوفر بتلر، البيان، الإمارات، 2003.
10) صدى الحداثة، رضوان زيادة، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 2003.
11) فى النقود والنقد الألسني، إبراهيم خليل، منشورات أمانة عمان الكبرى، 2002، وغير ذلك.
المصدر:بحث بعنوان"الحداثة وما بعدها" جامعة أم القرى/ كلية الدعوة وأصول الدين/ قسم العقيدة. الصفحات :من ص1 إلى ص 43
---
[1]مقال العلمانية للمسيري ، وانظر موسوعة اليهودية 1/209 – 222 ، وانظر الفلسفة المادية ص 117 وما بعدها.
[2]مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة بحث لعلي وطفة.
[3]الفكر الأوربي المعاصر ، جامعة بئر زيت ص 87.
[4]انظر موسوعة اليهودية 1/222 وما بعدها.
[5]انظر مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة للشيخ سفر الحوالي ، والمشروع النهضوي العربي للجابري 22-34 ، والعلمانية تحت المجهر للمسيري.
[6]انظر مذهب ما بعد الحداثة لمحمد عبد الكريم ، ومقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة لعلي وطفة ، والبنيوية والتنوع البشري للجزيري.
[7]السابق.
(/38)
[8]مقاربات لعلي وطفة.
[9]السخرية والأزمة لستيورات سيم.
[10]انظر مذهب ما بعد الحداثة لمحمد العبد الكريم ، والمقاربات لعلي وطفة.
[11]انظر العلمانية تحت المجهر للمسيري من 34-149 ، وانظر مذهب ما بعد الحداثة محمد العبد الكريم ، ومقاربات في مفهوم الحداثة وما بعدها لعلي وطفة والنقد الأدبي لعبد الله أبو هيف ، المرايا المحدبة لعبد العزيز حمودة.
[12]السابق ، وانظر لماذا يحرص اليهود على الفلسفة التفكيكية للمسيري ، تيار ما بعد الحداثة وصلته بالواقع العربي لتيسير الناشف ، الحداثة الغربية مطلب أم تحد إبراهيم غرايبة ، العرب وعصر المعلومات محمد قيراط ، بين الإنسان الطبيعى والإنسان للمسيري ، الحداثة ورائحة البارود للمسيري ، ما بعد الحداثة مقدمة قصيرة جداً كريستوفر بتلر ، الحداثة والآخر الإمبريالية الجديدة للثقافة الغربية ضياء الدين سردار.
[13]ليس المقصود أنه يكون علمانياً فكراً بل المقصود بأنه يتأثر بما يمارس عليه وينفذ دون أن يكون مصادماً لديه أو معادياً له بل تكون جوانب أصبغت عليه منها.
[14]انظر العلمانية تحت المجهر للمسيري 21-30 ما بعد الحداثة لسردار ، الحداثة ورائحة البارود للمسيري ، صدى الحداثة رضوان زيادة.
[15]السابق
[16]انظر موسوعة اليهودية للمسيري 1/222 وما بعدها ، وانظر من الذي يدفع الثمن وكالة الاستخبارت الأمريكية والحرب الباردة الثقافية لفرانسيس ستونور سونديرز.
[17]انظر مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة لعلي وطفة.
[18]السخرية والأزمة تاريخ ناقدي لثقافة الحداثة ، ستيورات سيم.
(/39)
العنوان: الحذاء الكبير
رقم المقالة: 822
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
هل حصل أن لبست حذاءً أكبر من قدمك؟ أو ثوباً أوسع من بدنك؟ هل أحسست بذلك الضيق وأنت تمشي بذلك الحذاء؟ أو تلملم أطراف ذلك الثوب؟ هل دخل عليك يوماً أحد الأطفال وقد لبس حذاء الكبار فسقط أو كاد؟ إن ذلك الضيق الذي نحس به عندما نستعمل ما لا يتناسب مع أعضائنا نتيجة طبيعية؛ لأننا كسوناها ما هو أكبر منها، ولا يقتصر ذلك على المحسوس فحسب بل يشمل النواحي المعنوية كذلك.
فتهويل وتضخيم ما نحقق من نجاحات هو في الحقيقة ثوب أوسع من أبداننا، أو حذاء أكبر من أقدامنا، ولن نجني منه غير الضيق والعنت، وأي خير يرجى مع فساد التقدير، أو سوء التقييم؟!
إن أقل ما ينتج عن هذا التهويل في نجاحاتنا، أو فشل أعدائنا؛ زراعة الإحباط بعد أن ينكشف الغطاء، فنجد طموحاتنا تعلقت بالسماء وعلت على الجوزاء، ونحن لم نجاوز بعد إحدى مآذننا.
فهذا يوسف - عليه السلام - باشر مسؤولية حفظ خزائن الأرض بعد انجلاء المحنة، فلم يسارع إلى الإرسال في طلب أبيه، الذي كان يتقلب حرقة على فقده، حتى كاد يهلكه الحزن عليه: {قَالُوا تاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف:85]، واستمر يوسف عليه السلام في هذا المنصب مدة طويلة، وهي أعوام العمل والدأب، وأعوام الجدب والقحط، كما قال الله تعالى عنها:{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} [يوسف:47-49].
(/1)
إذاً، مضى نحو عقد من الزمان ويوسف الكريم صاحب القلب الشفيق لم يرسل في طلب أبيه! بل لم يحدث ذلك إلى أن جاء إخوانه، ثم رجعوا، ثم عادوا مرة أخرى، لتنتهي فصول تلك القصة باجتماع الشمل: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100].
إن ذلك التأخير لم يكن من يوسف - عليه السلام - جفاءً - حاشا وكلا - ولكنه تريث العاقل، وتأني اللبيب، الذي لا يضخم ما حصل له من نجاح، ولا يعطي نفسه أكبر من حجمها، أو يسيء تقدير نجاحاته، إنه يرى نفسه دائماً محتاجاً لمزيد من النجاحات حتى يكون الطريق آمناً لتحقيق الرغبات الخاصة والعامة.
إن كثيراً من الناس يبلغ به تهويل النجاح - ولو كان قليلاً - مبلغاً يحسب أنه بلغ عنده نهاية المطاف؛ ومن ذلك ما تسمع من بعض الناس أن مقاومة المحتل - في العراق مثلاً - قد حققت من النجاحات كذا وكذا، وأن رحلتها القادمة إلى القدس الشريف، ويهول بعضهم من ذلك فيزعم أنها خاتمة المطاف لهيمنة أمريكا واستبدادها.
إنني لا أقلل من شأن المقاومة، ولا أراها غير وجه مشرق للأمة؛ ولكن ليس من مصلحة المقاومة أن نضخم نجاحاتها على حساب الحقيقة، نعم! لقد أدت دوراً كبيراً، وقامت بتضحية عظيمة، ولكن ليس إلى حد تدمير أمريكا.
وما أعقل الشيخ محمد بشار الفيضي، الناطق الرسمي باسم هيئة علماء المسلمين في العراق، عندما سأله مراسل موقع (المسلم) قائلاً: يرى البعض أن العراق سيكون أول ضربة تفكك الولايات المتحدة الأمريكية؛ هل تشاطرونهم الرأي؟
(/2)
فأجاب فضيلته: "ليس بهذه الصيغة! فأمريكا دولة عظمى، وتملك من مقومات القوة ما يجعل الحديث عنها بهذه اللغة أشبه بالوهم، لكن من دون شك؛ إن خروجها من العراق مهزومة سيضعف نفوذها في المنطقة إلى حد كبير. وما سيتمخض عن ذلك من تداعيات إذا لم تتم لملمته من قبلها؛ فمن الممكن أن ينقلب إلى عامل من عوامل كثيرة مفترضة، تفضي - بالمحصلة - إلى تفكك الدولة العظمى، على نحو ما جرى للاتحاد السوفييتي السابق، كما أن ذلك يتوقف على متغيرات كثيرة في المنطقة والعالم".
بهذه العبارات أوضح الشيخ الذي صقلت السنون تجاربه، وأذكت فكره، وعمقت تفكيره، قائلاً لأولئك المحبين الحَدِبين على نجاح المقاومة: لا تعطونا أكبر من حجمنا! نحن لسنا الخطوة الأخيرة في الطريق!!.
إن تضخيم النجاحات الذي نراه ونسمعه كل يوم - على المستوى الفردي والمجتمعي - له ما يسوغه، من قلة النجاحات وكثرة البلاء، والغريق يتعلق بالزبد كما يقولون، ولكن؛ ليكن لنا في يوسف - عليه السلام - أسوة حسنة، فلقد نقل من السجن إلى الوزارة مباشرة، إنها نقلة كبيرة، وقفرة غير متوقعة، ولكن؛ مع هذا لم تدهش صاحبها؛ بدليل أنها لم تدفعه ليتخذ قرارات في حياته لها من الأهمية مكان، كاستقدام والده وذويه وهم بأمس الحاجة إلى المعين، في سبع شداد أكلن ما قدموا لهن، حتى قالوا: {يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88].
لقد كان يوسف - عليه السلام - عندما عُيِّن في ذلك المنصب الرفيع في حاجة إلى كسب ثقة من حوله، خاصة أنّ العيون تنظر إليه على أنه ذلك الخارج من السجن، كان في حاجة إلى أن يحافظ على النجاح، وأن يرعاه.
ولعل من مفاسد تهويل النجاحات:
(/3)
1- مجافاة الحقيقة: فالمرء إن اتضحت له الحقائق كان ذلك أول الطريق لهدايته للخير، ولذا كان من دعاء الأخيار: "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه"، والإنسان إذا جانب الحقيقة لن يصل إلى مبتغاه. إن الحقيقة وإن كانت مرة إلا أنها أفضل من الخداع، ومَن جانبها - لأنه لا يستسيغها - فلن يكون حاله إلا كحال ذلك الذي فقد بعض النقود في أحد الشوارع، فذهب يبحث عنها في شارع آخر؛ لأن الشارع الذي أضاع فيه نقوده مظلم!!
ولما جاء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بغلامين أسيرين قبل معركة بدر، وجعلوا يسألونهم عن القوم وعددهم، فأجاب الغلامان: القوم بين تسع مئة وألف، فما كان من الصحابة إلا أن أوسعوهما ضرباً، حتى اضطر الغلامين لتغيير أقوالهما، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي، فلما فرغ من صلاته قال: (إذا صدقوكم تكذبونهم، وإذا كذبوكم تصدقونهم؟!).
2- استعجال المراحل: إن التأني صفة يحبها الله تعالى، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشجِّ عبدِ القيس: (إنَّ فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى؛ الحلم والأناة)[1]، فمن غُرِّر بنجاحاته - التي ربما لم تكتمل - سعى ليضع رجله في العتبة التي بعدها، وربما أدى ذلك إلى سقوطه، وكما يقولون: قدِّر لرجلك قبل الخَطو موضعَها! فمن عرف قيمة ما حقق من النجاح وثقله؛ استطاع تحديد الخطوة القادمة بنجاح لتتواصل النجاحات.
3- زراعة اليأس: إن كثيراً من الناس - لتفاؤلهم غير المنضبط - يحملون راية تضخيم الإنجازات، وتسليط الأضواء، أكثر مما تستحقه تلك النجاحات، ثم يعطي - على ضوء هذه النجاحات، التي لم تصل إلى ذلك المستوى – الوعودَ، ويطلق لآمال الناس العنان، فإذا انكشف الغطاء عن هذه النجاحات، وحجمها الحقيقي، وصعوبة تحقيق تلك الآمال على ضوئها، بل أحياناً قد يُفقَد هذا النجاح الصغير بسبب تضخيمه؛ فيُحدِث ذلك في النفوس حالة من اليأس يصعب محوها.
(/4)
4- فقد الثقة بالنفس: فإن من بنى آمالاً عراضاً على نجاح ليس بذلك السقف؛ يوشك أن تبين له الحقائق، كما قيل:
ستَعلمُ إذا انجلى الغبارُ أفرسٌ تحتَكَ أم حمارُ
فيَعلم من ظن نفسه على فرس أن ما تحته حمار! وليس ما كان يؤمل، فيحدث ذلك عند الكثيرين من زعزعة الثقة في النفس والإحجام ما يكون له الأثر السيئ، بل ربما كان الفشل عائقاً عند الكثيرين عن تحقيق النجاحات فيما بعد.
5- الاستعجال وترك التأني: فإن كثيراً ممن لا يحسنون تقييم النجاحات يبنون على تقييمهم الفاسد أفعالاً، فتكون عاقبة أمرهم بعد ذلك خسراً لفعلها، والسبب في ذلك سوء تقييم نجاح بني عليه من التصرفات مالا يصح أن تبنى عليه، وقد تقدم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس.وكثير من النجاحات تحولت إلى فشل ووبال، وعادت بنتائج عكسية؛ لما أسيء تقييمها.
فلننظر بعين الإنصاف إلى أنفسنا، وإلى من نحب، ولنعلم أنه ليس من البر في شيء إهداء أحذية إلى أحبتنا لا تناسب أقدامهم!
ــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم: (17)، 1/46.
(/5)
العنوان: الحرب الدافئة... حرب الكلام وألغام المصطلحات
رقم المقالة: 336
صاحب المقالة: وفاء محمد النجار
-----------------------------------------
في السنوات الأخيرة ظهرت حرب جديدة ألا وهي حرب الكلام , تستعمل فيها ألغام المصطلحات. وهذا التطور في شن الحروب ظهر مع التقدم و الازدهار , وهي حرب قائمة في كل رقعة من العالم , بل تشن حرب الكلام بألغام المصطلحات على أوراق الصحف , وعلى صفحات المجلات ، ولم تنجُ منها حتى صفحات الكتب , إنها حرب تشن عبر الفضائيات في كل آن . إنها حرب ضارية تنشر ألغامها عبر شبكات الإنترت , إنها حرب ضارية تستهدف العقول ، إنها حرب فكرية , نيرانها مشتعلة في كل آن ولم يسلم منها أي كان .
لا تسألوني عن ضحايا هذه الألغام , لأن هذه الألغام من نوع خاص فهي ألغام جوالة , تتحرك من مكان إلى آخر ولا يلزم الضحية أن يمر فوقها بل هي من تحلق فوق رأسه وتخترق فكره أينما حلَّ وارتحل .
من ضحايا هذه الحروب الدافئة التي تستعمل فيها الألغام الجوالة :
من شلت الألغام فكره - نسأل الله العفو والعافية - فصار كلما رأى إنساناً تبدو عليه سمات الالتزام والرغبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشار إليه بإصبع الاتهام واصماً إياه بالإرهاب , ومن المؤسف أن الشلل يتمكن من ضحاياه بقوة عجيبة ، فإذا سألت المصاب باللغم , ما معنى الإرهاب في اللغة ؟
فوالله لن يجيبك جواباً صحيحاً بل يُربَك ويأتي بمبررات علقت به من أثر اللغم الذي أصابه ولن يعطيك جواباً صائباً أبداً .
وإذا سألت المصاب عن معنى الرجعية , والله لن يعطيك جواباً مقنعاً ؛ لأن الرجعية عنده هي الالتزام بالشرع الإسلامي , الرجعية عنده في حجاب المرأة الكامل , الرجعية عنده في الحفاظ على كرامة المرأة , الرجعية عنده في الحفاظ على كيان الأسرة , الرجعية عنده هي عفة المرأة , الرجعية عنده هي رفض المرأة العاقلة للاستلام لدعاة التفسخ والانحلال ....
(/1)
أما إن سألت المصاب باللغم عن التقدمية , فستظهر على وجهه ملامح الفرحة ؛ إنها هستيريا يخلِّفها اللغم بعد أن يتمكن من فكر المصاب نسأل الله العفو والعافية!!
ويجيبك : إنه في خروج المرأة لكل الأعمال- حتى ما لا يوافقها - نعم من أجل المساواة لابد أن تشتغل المرأة ليلاً ، لا بد أن تشتغل المرأة نادلة في المقاهي لتقدِّم القهوة وتمسح الطاولات للزبائن ، وهي معطرة متجمِّلة ، وأعين الزبائن تلتهمها وكلماتهم النابية تطارد أذنيها ، وهم يسخرون منها ويرمون لها بعض القروش مع كلمات الغزل !
هذه التقدمية !! وعلى المرأة المتقدمة أن تسوق الحافلات والقطارات و....
وعليها أن تشتغل في الفنادق وتقدم الخدمات و... حتى تكون صفقاتهم مربحة فالمقهى الذي تشتغل به نادلة يجلب عدداً أكبر من الزبائن وكذلك المطعم والفندق ....إنها صفقة مربحة ! فلم لا يدعون إليها ويكافحون من أجلها ! ؟
لكن السؤال : أيطالبون بحقهم أم بحق المرأة ؟ والجواب واضح لا غبار عليه ...
وبجوابك سوف تصنَّف إما رجعياً أو تقدمياً ...
ولا تستغرب أن الحرب مازالت قائمة ! وعلى المرأة أن تتبرج وتخرج لتعرض نفسها سلعة رخيصة في كل مكان لكل من هبَّ ودبَّ ، أجل إنها التقدمية !!
وبهذا تجد الرجال المصابين بلغم المصطلحات وضحايا الحرب الدافئة , نسأل الله العفو والعافية !! يمسك أحدهم بيد زوجته وهي في كامل تبرُّجها وزينتها ، والرجال ينظرون إليها وهو فرح مسرور ؛ لأنه متقدم وليس رجعياً !!
ولأنه يمشي في كل مكان بغير رجعية فهو يعرض زوجته لأعين الآخرين باسم التقدمية ! عجيب أمر هذا اللغم إذا ما أصاب الفكر شلَّ صاحبه عن التفكير ، فتختلط المفاهيم عنده , تجده رجلاً من دون غيرة ولا نخوة !
(/2)
ومن شيم الرجال العظام الغيرة على الأعراض , لكن هو لا يحركه ساكن , فقد تجد زوجته تصافح إخوانه وأصدقاءه وتراقص الغرباء في الحفلات وهو في غاية السعادة ، لأنه يمارس التقدمية , وإذا مر بقريب له ملتزم وزوجته مرتدية الحجاب الكامل استهزأ به وعيَّره بأنه رجعي ومتخلف وإرهابي ومتزمت و.....
سبحان الله إنه لغم يفتك بالدماغ الذي يصدر الأفكار . لا حول ولا قوة إلا بالله !
وأما إذا حدث زلزال أو فيضان فإن المصابين بهذا اللغم يرون أنه من غضب الطبيعة . والعجب كل العجب أن الطبيعة تغضب . وماذا عن خالق الطبيعة ؟!
سبحان الله ! لو لاحظتم معي لصعب عليكم حال المصابين , مساكين !! يتقبَّلون ويقتنعون بكل ما يصل إليهم إذا كان العنوان هو التقدم والمصدر هو من يدعي التقدم . ويرفضون كل شيء يعاكس قناعتهم المقتبسة باسم الرجعية .
أما عن الديموقراطية فهذا مصطلح فضفاض بل هو جد فضفاض !! يمكن أن يضعه المصاب في أي مكان وفي كل زمان كما يطيب له , حتى إن اخترق مبادئ الديموقراطية فهو ديموقراطي , لأن المصطلح مثل المطاط يتغير حجمه على حسب الشيء الذي تستعمله فيه , فقد يراك المصاب أنك لست ديموقراطياً وتصبح دكتاتورياً , بمجرد أن تكون تغار على عرضك وهذا من أبسط ما يتميز به الرجل العادي وهو أحرى بالمسلم الملتزم .
إذاً لابد أن تتجرَّد من بعض أخلاقياتك حتى لا تمارس الدكتاتورية على زوجتك وبناتك , باختصار : كي تكون ديموقراطياً لابد أن تدعوَ إلى الانحلال الخلقي وأن تصير ديوثاً.
وقد تدعو الديموقراطية إلى الحفاظ على الأخلاق في يوم آخر ومكان آخر لا بأس !! لا بأس في ذلك ! إنها الديموقراطية .
فالمصطلحات كما قلنا صارت بضعة من أمتار المطاط شكِّلها كما شئت ، لكن إذا كنت ديموقراطياً أو تقدمياً .!!
ولا تنسَ أنه يمنع عليك منعاً كلياً أن تستفيد من تمديد المصطلحات والاستفادة من مكونها المطاطي المرن إذا كنت رجعياً !!
فما الرجعية الحقة ؟
(/3)
وما التقدمية الحقة ؟
وما الديموقراطية الحقة ؟
وما معنى الديكتاتورية ؟
وما مفهوم الإرهاب ؟
وما مفهوم السلام ؟
وما معنى العدل ؟
وما معنى ....؟
كل هذه المصطلحات وغيرها قابلة للتمدُّد والتشكُّل .... والمعجم لم يعد له نصيب في تحديد المصطلحات إلا على صفحاته .
وأرجو ألا نصحوَ ذات صباح فنجد أوراق معجمات اللغات كلها صارت من مادة المطاط تتمدَّد في شرح المصطلحات على حسب المكان والزمان !!
(/4)
العنوان: الحركات النسوية الغربية ومعركة التحيز اللغوي
رقم المقالة: 886
صاحب المقالة: أسماء عبدالرازق
-----------------------------------------
كما هو معروف؛ فإن المرأة الغربية ذاقت أنواعاً من الهوان، وقاست صنوفاً من الظلم، في الحقبة التي يسمونها (القرون الوسطى)، وكانت الكنيسة تحتقر المرأة، وتعدها سبباً للخطيئة الأولى؛ يقول (بولس): (ولم يُغْوَ آدمُ، بل المرأة هي التي أُغوِيت، فوقعت في المعصية!)[1] ، ويأمر (بولس) المرأة - في أكثر من موضع من رسائله - بالانقياد الأعمى للرجل؛ لأنه (رأس المرأة، كما أن المسيح رأس الكنيسة)[2] ، ولأن (المرأة خُلِقَتْ لأجل الرجل، وليس العكس!)[3].
وفي بداية الربع الأخير من القرن الثامن عشر ظهرت حركات التحرر النسائية في الولايات المتحدة، وبعد عشرين سنة في فرنسا، ثم بقية الدول الأوربية، ومنها انتقلت إلى كثير من البلاد.
إلا أن حركات التحرر هذه بدلاً من المطالبة بحقوق المرأة، التي تناسب طبيعتها وإنسانيتها؛ قادتها ردة الفعل غير المتعقلة إلى افتراض أن كل عمل يكله المجتمع للرجال؛ هو – بالضرورة - عمل رفيع، ينبغي أن تشاركه فيه؛ وإن شق عليها ولم يناسب خِلقتها! وبالمقابل؛ كل مهمة يكلها المجتمع للمرأة هي مهمة وضيعة، يجب أن تتخلص منها جهدها، أو تقتسمها مع الرجل!
حتى صار المبدأ العام لهذه الحركات: أن أي إخلال بالمساواة التامة بين الجنسين، في كل جوانب الحياة، حتى في عدد المرات التي يذكر فيها كل من الجنسين في المعاجم، والروايات، والكتب المدرسية؛ ظلمٌ للمرأة، وامتهانٌ لها، وتمييز يجب التصدي له.
ثم صارت ثنائية (تمييز - مساواة) شبيهةً بثنائية (رجعية - تقدمية) التي ابتدعت أيام الظهور الشيوعي، ولاكتها وسائل الإعلام وألسنة المثقفين، ثم اندثرت لما ذهبت ريح مبتدعيها.
(/1)
فالتمييز في أيامنا هذه سُبَّةٌ يوصم بها كل من يحاول أن يتكلم عن أي نوع من الفروق بين النساء والرجال، حتى لو كان معه الدين، والمنطق، والأحياء، والواقع!
ويبدو أن هذه الحركات النسائية استمرأت لعبةَ التظلُّم ،ووصْمِ المجتمع بالتمييز، في جانب من جوانب الحياة، ثم المطالبةَ بسلسلة من الحقوق، حتى إن بعضهن اعترضن على تقسيم البشر إلى ذكور وإناث! وزعمن أن هذه الفروقات من صنع المجتمع، وأنه لا داعي لهذا التقسيم من أصله[4]، وما إلى ذلك مما يمكن أن نسميه بـ (هرطقة الألفية الثالثة).
من الجوانب التي طالتها أيدي هؤلاء المحرِّرات: اللغة؛ فاللغة هي المرآة التي تعكس ثقافة المجتمع.
وأولى اللغات التي صُبَّ عليها جامُ الغضب النسائي هي اللغة (الإنجليزية)، أو (اللغة الذكورية) كما تسميها بعض الثائرات!
ومن جملة المطالب التي طالبن بها:
1. الدعوة إلى تحييد اللغة؛ بالتخلص من مظاهر احتقار المرأة من جهة، وأشكال التفوق الذكوري من جهة أخرى.
2. الدعوة إلى إزالة جميع صور القهر اللغوي للمرأة، والعمل على تحسين صورتها في المجتمع! كأنها ليست المسؤولة عن تربية هذا المجتمع، وتنشئته على فضيلة بر الأم، واحترام الزوجة، والإحسان إلى البنت!!
3. نفي الصفات التي ألصقت بالمرأة وأظهرتها جنساً تابعاً، ضعيفاً، متزعزعاً، وإنكار معاملتها معاملة الأقليات؛ برغم زيادة عدد النساء على الرجال في كل المجتمعات!
أما السبل المقترحة لرفع هذا التمييز فمنها:
1- التخلي عن استعمال لفظ (man) بالمعنى العام (إنسان)، وقصره على معناه الخاص (رجل)، ويستبدل بـ:
(someone) أو (human) أو (person)، أو تحويل الاسم أو الصفة لتكون محايدة، مثل:
(working man = worker) (manmade = handmade) (mankind = humankind)
2- استعمال ضمائر محايدة بدلاً من استعمال الضمير المذكر؛ في حال احتمال أن يكون المشار إليه ذكراً أو أنثى، مثل:
(/2)
...a doctor should be careful that he...= that thon-
...Everybody bring his...= their-
3- الدعوة إلى وضع معاجم محايدة (nonsexist dictionaries)، تخلو من التحيز الجنسي، وتقوم على الأسس التالية:
- مراعاة التوازن الجنسي في المعجم، والاهتمام بالأمثلة التي تكشف عن الصفات الإيجابية للنساء، مثل: الاختراع والمغامرة! وهي عادة صفات تحتفظ بها المعاجم للرجال والأولاد!!
- الحَيْدَة في تعريف الكلمات؛ فلا يفسر لفظ: (adulthood) مثلاً بـ: (manhood)؛ لئلا يُتَوَهَّم عدمُ وصول البنات لهذه المرحلة!
ومن أمثلة هذه المعاجم: (The Handbook of Nonsexist Writing) الذي استهله المؤلفان بقولهما: "الكتاب موضوع لكل من يحاول أن يفرغ لغته من التحيز اللاواعي، الموجود في اللغة (الإنجليزية)، الذي يستمد وجوده من الاتجاهات الثقافية نحو المرأة".
وقد أصبحت كثير من الكلمات التي ابتدعتها الحركات النسائية ذائعة متداولة، مثل:
(chairperson spokesperson) بدلاً من (chairman, spokesman).
4- تبني خطوط عامة لتحسين صورة المرأة، واستعمال لغة غير متحيزة في الكتب الدراسية والمعاجم، وفرض هذه الخطوط عن طريق المؤسسات الرسمية، ودور النشر، والجمعيات اللغوية؛ وفي سبيل ذلك برزت الأنشطة التالية:
- أصدر المجلس الوطني الأمريكي لمعلمي اللغة (الإنجليزية) عام 1975م عدداً من التوصيات، للوصول إلى لغة غير متحيزة جنسياً، في مطبوعات المجلس ومراسلاته، منها: تجنب استعمال لفظ (man) في أي تركيب يحتمل أن يكون المشار إليه فيه ذكراً أو أنثى، والإشارة إلى الرجال والنساء بصورة متعادلة، وتجنب الكلمات التي تمتهن المرأة، وإظهار النساء في صورة فعالة، وتجنب ربط أنواع من الوظائف بجنس معين.
(/3)
- عقدت الجمعية اللغوية الأمريكية الحديثة مؤتمراً عاماً سنة 1978م، تناول بالبحث موضوع المرأة واللغة، وركز على اشتراك المرأة مع الرجل بالتساوي في دراسة اللغة، وفي مجالات الأدب والنقد.
وقد خَطَتْ التنظيماتُ المهنيةُ خطوات كثيرة في سبيل تحييد اللغة، مثل:
• الجمعية الأمريكية لعلم الإنسان؛ التي وافقت سنة 1973م على عدم التوسع في استخدام لفظ (man) بمعناه العام.
• الجمعية الأمريكية الحرة؛ التي رأت سنة 1975م تجنب استخدام اللغة المتحيزة في كل مطبوعاتها، وفي الوثائق الرسمية كذلك.
- حتى بعض المؤسسات الدينية؛ رأت أهمية التخلص من سُبَّة التمييز والرجعية؛ فغيرت اللغة المستعملة في نشراتها في أمريكا. بل أعلنت بعض الكنائس سنة 1973م أنها ستقلل من التفرقة بين الجنسين في خطابها، فعدلت كل موادها المطبوعة، بما في ذلك كتب التراتيل وإجراءات القداس! كما عُدِّل كتابُ الصلوات اليهودي سنة 1975م بغرض المساواة بين الجنسين! فبدلاً من: "إله آبائنا" وضعوا: "إله كل الأجيال"!! وبعضهم أضاف: "إله أمهاتنا، وإله سارة"، لتعادل: "إله آبائنا، وإله إبراهيم"!!
وانتقل هذا الاتجاه إلى بريطانيا سنة 1985م، على يد "حركة المنهجيين"، وترتب على ذلك حذف بعض التراتيل الكنسية التي تتحيز للذكورة!
- ألف عدد من الباحثين كتاباً بعنوان:
(The Role of Women in Foreign-Language Textbooks)
سجلوا فيه نماذج من التحيز للرجال في كتب النصوص الأجنبية (غير الإنجليزية)، فكان مما أخذوه على الكتب المدرسية الروسية:
• أول جملة يتعلمها الطفل في المدرسة: "الأب يعمل، والأم في المنزل!" وذكروا أن أحد الأطفال علق قائلاً: "كان أبي وأمي يعملان، ولم أكن أعرف أن هناك امرأة تمكث في المنزل!!"
كأنهم أرادوا أن يقولوا: "حتى الأطفال يتعجبون من هذه الإهانة، ويستنكرون هذا التمييز، كأن المنزل عندهم يعني السجن الذي لا يقبع فيه إلا العاجزون، والعاطلون، وضعيفو القدرات"..
(/4)
وكأن العمل خارج المنزل دليل على التعلم والتحضر، حتى ولو كان كنساً للشوارع، أو صباً للبنزين في سيارات العابرين، أو صباً للراح في كؤوس المخمورين!
• ظهر من تحليل عدد من الكتب الأجنبية أن:
1- الأب طويل والأم قصيرة!
2- الأم لا تقرأ الصحيفة، ولكنها تعد الشاي في المطبخ!
3- لا توجد أمثلة لأم تعمل في المكتب، أو تذهب إلى المسرح!
كذلك من مظاهر التحيز اللغوي للرجال: المأثورات الشعبية، التي تحتقر المرأة، وتتهمها بالثرثرة، ومن أمثلة ذلك:
- لسان المرأة آخر عضو يموت في جسدها!
- اجتماع ثلاث نساء يعني الجلبة والضجيج!
- لسان المرأة يتحرك مثل ذيل الغنم!...إلخ.
قد يكون للثورة على كون لفظ (man) جزءاً من التراكيب التي تدل على الإنسانية وجهٌ؛ إن كانت هذه التراكيب قد اصطلح عليها نتيجة لاعتبار الكنيسة - في بعض الأزمان - أن المرأة ليست إنساناً، وليس لها روح!!
أما إن لم يكن الأمر كذلك - وهذا ظاهر بعض اعتراضاتهن على تراكيب أخرى- فلا معنى لمثل تلك المطالب، لأن الكلمات التي أثارت حفيظتهن بسهولة كلمات مجردة لا تدل على تشريف أو وضاعة، ولا تظهر قيمتها إلا باعتبار ما يضاف إليها، فلو قيل: "جنس إنساني" عُبِّرَ عنه بـ (mankind)، لما دل هذا بمجرده على مدح أو ذم، فإذا قيل: "جنس إنساني سيء"؛ لم يكن هذا تشريف قطعاً! ولو استبدلت لفظة (woman) بـ (man)، لما ازدادت النساء بذلك رفعة، ولما تغير من واقعهن شيئاً، فهل رأيت كيف قاد الفراغ وسفه العقول أولئك النسوة إلى هذا الضرب من الجدل العقيم في حقيقته!
إن المسألة في النهاية تعود للنفسية التي تحرك أولئك النسوة؛ فهن يعتبرن أن الرجل والمرأة طرفان متصارعان، فلا يكففن عن افتعال المشكلات، والمطالبة بما يسمينه حقوقاً، ولو بمثل هذا السخف.
(/5)
بالطبع؛ يَعِزُّ تقصي جهود المحرِّرات في هذا الميدان في مقال واحد، لكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح: كيف ستتمكن المحررات العربيات من اقتفاء آثار قدواتهن الغربيات في هذا الميدان؟
فاللغة العربية ليست ذكورية على الإطلاق، والعرب في جاهليتهم كانوا يعدونها إنساناً، بل قد يقتتلون بسببها سنين طويلة، لكنهم ربما جاروا عليها لاستضعافهم لها، كدأبهم في ظلم الضعفاء. أما في إسلامهم، فلم ينصف المرأة أحدٌ قطُّ إنصافَهم لها.
إذاً؛ ليس أمام محرراتنا سوى خيارين: إما أن يأتيننا بمنطق غريب عجيب يثبتن به التحيز اللغوي، وهذا بالطبع لن يعيي الراسخات في الفن، من أمثال نوال السعداوي، وميرفت التلاوي، وغيرهن.. أو يصبرن على الوقوف خارج جُحر الضَّبِّ الخرب، في هذه المرة... بل وفي مرات كثيرة!!
ــــــــــــــــــــــ
[1] رسالة بولس إلى ثيموثاوس 2/12.
[2] رسالة بولس إلى أهل أفسس5/2.
[3] المصدر السابق.
[4] وهي (Anne Fausto-Sterling)، الأستاذة في جامعة (براون)، بالولايات المتحدة، وذلك في كتابها:
(Sexing The Body: Gender Politics and the Construction of Sexuality).
(/6)
العنوان: الحركة الإسلامية والتاريخ الذي لم يقع
رقم المقالة: 1992
صاحب المقالة: د. أحمد الريسوني
-----------------------------------------
الحركة الإسلامية والتاريخ الذي لم يقع
لقد رحَّبتُ بالفكرة التي اقترحها الإخوة في هيئة التَّحرير بجريدة "التَّجديد" بفتح نقاشٍ تقويميٍّ عنِ الحركة الإسلاميَّة المغربيَّة[1] باعتبار ذلك عَمَلاً ضروريًّا؛ لترشيد هذه الحركة وتطوير أدائها، وإصلاح مواطن الخلل، والتَّخلُّص من مظاهر الزَّلل في مسيرتها.
غير أنَّ وضع الحركة الإسلاميَّة في الميزان لا ينبغي أن يتركَّز وينحصر في رصد النَّقائص والسَّلبيَّات، ولا ينبغي أن يتحوَّل من النَّقد الذَّاتيِّ إلى الجَلْدِ الذَّاتيِّ، بل ينبغي أن يتمَّ على منهج التَّوازُن والعدل والإنصاف؛ وذلك بإبراز المحامد والمآخِذ على حدٍّ سواء، امتثالاً لقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152]، وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وقوله كذلك {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 - 9].
فعلى هذا الأساسِ أحببتُ أن أُسْهِمَ، مع بداية هذا النقاش بما يمكن أن يُعَزِّزَ انطلاقته السَّليمةَ وسَيْرَهُ المُتوازِنَ البنَّاء؛ وذلك بالتَّنبيه على جانبٍ منَ الموضوع قَلَّما يتمُّ الانتباه إليه، وأَخْذُهُ بعين الاعتبار في تقويم الأحداث والحركات، وهو ما أَسميته بـ "التَّاريخ الذي لم يقع"، وأعني بالتَّاريخ الذي لم يقع في موضوعنا، ذلك المسارَ الذي كان منَ المفروض أن تَسْلُكَه، وتسيرَ فيه الأحداثُ والتَّطورات، لولا ظهورُ الحركة الإسلاميَّة، ولولا تأثيراتُها منذ مطلع السبعينيَّات.
(/1)
ولكي نستحضِرَ في أذهاننا ونستوعب في تفكيرنا "التَّاريخ الذي لم يقع" خلال الثَّلاثين سنةً المُنصرِمَةِ، علينا أن نتذكَّر ونستحضِرَ ملامح الحالة المغربيَّة خلال فترة الستينيَّات إلى مُنتصف السبعينيَّات، وهي كما عشتها ووعيتها تتلخَّص كما يلي:
1– سيطرت التَّوجهات الإلحاديَّة واللاَّدينيَّة على النُّخبة المُثقَّفة: ولا أعني أنَّ عامَّة المُثقَّفين أصبحوا ملاحدة أو لادينيين، ولكنَّ الإلحادَ واللاَّدينيَّة أصبحا حركة مهيمِنَةً وطاغِيَةً على الطَّبقة المُثقَّفة وعلى المُناخ الثَّقافيِّ، وخاصَّة في المُؤسسات التَّعليميَّة، وبصفة أخصَّ في الجامعة.
لقدِ التحقتُ بالجامعة في السَّنة الدراسيَّة 72 – 73، ووجدتُ فيها فكرة وعقيدة طُلاَّبيَّة تقول: "الاتحاد الوطنِيُّ هو الممثل الشَّرعيُّ والوحيد للجماهير الطلاَّبيَّة"؛ ولكنَّ الذي اكتشفته فيما بعد عند "الأوطميين"[2] هو أنَّ الماركسيَّة يومئذ كانت هي الدِّينَ الشَّرعيَّ والوحيدَ المسموحَ به في الجامعة المغربيَّة، وبمُقتضى هذا الدِّين كان يُمنَع الأذان، وتُمنَع الصَّلاة، ويُهاجَم ويُطْرَد مَن يقول "بسم الله الرَّحمن الرَّحيم"، وقِسْ على ذلك.
لقدِ استسلمت الجماهير الطلاَّبيَّة وانساقت أو سِيقَتْ مع مَوْجَةِ الإلحاد والماركسيَّة، ومع الأفكار والمُعتقدات اللاَّدينيَّة عمومًا، وكان هذا حاصلاً أيضًا في صفوف الأساتذة، وأصبح المُتديِّنون – إن وجدوا – مُتخفِّينَ وخائفينَ، لأنَّهم إن عُرِفُوا سيُسَبُّون ويُلْعَنُون، ويُتَّهَمون ويُحاكَمون، ويوصَفون بالرَّجعيَّة والعَمَالَة، وبعَرْقَلَة التَّقدُّم والتَّقدميَّة، وبترويج أَفْيُونِ الشعوب.
(/2)
تحت هذه السَّطوة وهذه السَّيطرة تَرَبَّتْ وتخرَّجتْ أفواجٌ وأفواج، فاحتلُّوا مواقعهم في كافَّة الإدارات والمُؤسَّسات العُمُوميَّة التي كانت مُبتَدِئَةً وفارغةً، وبواسطة هؤلاء الخِرِّيجِينَ انتقلتِ السَّيطرةُ والسَّطوةُ إلى المؤسسات التَّعليميَّة، وأصبح الإلحادُ الثَّوريُّ مَوْجَةً ومُوضة في الثَّانويَّات، ينشرها الأستاذ، والبرنامج الدراسيُّ، والكتاب المدرسيُّ.
تصوَّروا معي التَّاريخَ الذي لم يقع، ماذا لو استمرَّ الأمر على هذه الحال، وعلى هذه الوَتِيرَةِ إلى الآن، أي حوالَيْ ثلاثين سَنَةً أخرى؟ هذه واحدة.
2 – الأحزاب المَغْربيَّة، التي كانت في بداياتها مَغْربيَّة حقًّا، أي: مسلمةً وإسلاميَّة، هي أيضًا خضعتْ للموجة اللاَّدينيَّة، وتأثَّرتْ بها وسارتْ في ركابها، على تفاوُتٍ في ذلك إلاَّ مَن رَحِمَ ربُّكَ، وقد تمثَّل ذلك خاصَّة في الأحزاب والتَّنظيمات الشيوعيَّة والاشتراكيَّة، فتناسلتْ وتنافَسَتْ في هذا الاتِّجاه، وبعض الأحزاب الأخرى بدأتْ تتملَّص وتفكُّ الارتباط مع شعاراتها وخطاباتها الإسلاميَّة.
ويمكن هنا أن أُشِيرَ إلى التجربة البَئِيسَةِ لحزب الشورى والاستقلال، وقد حكى الأستاذ إدريس الكتَّاني - حفظه الله - عن تجربة الانتقال إلى اللاَّدينيَّة لدى هذا الحزب، وذلك في كتابه القَيِّمِ "المغرب المسلم ضد اللاَّدينيَّة".
تصوَّروا معي، ماذا لو استمرَّتِ الأحزابُ المغربيَّةُ تتحوَّل وتسير في هذا الاتجاه؟ ولكن هذا لم يقع. هذه ثانية.
3 – لقد حُورب العلماء – حماة العقيدة والشَّريعة ودُعاة الدِّين والتَّدَيُّنِ – حُورِبوا حَرْبًا شَرِسَةً وقَذِرَةً، وحوصروا وهُمِّشوا، وغُلِبُوا على أمرهم واسْتَسْلَمُوا.
(/3)
وتوقَّف تقريبًا تكوينُ عُلماءَ جُدُد[3]، وهكذا دخل العلماء الذين صنعوا المغرب، وحكموه على مرِّ التَّاريخ في طَوْرِ الانكماش والانسحاب والانهزام، وأصبح انقراضُهم، أوِ انقراضُ دورهم مسألةَ وقت، هو على كل حال ليس بالطويل، هكذا كان الأمر يسير.
تصوَّروا معي، ماذا لو استمرَّ هذا الوضع وسار نحوَ نتيجتِهِ المحتومة، ماذا لو لم تأتِ الصَّحوة الإسلاميَّةُ التي قلبتِ المسار؟ وهذه ثالثة.
4– التَّدين الفِعْليُّ في المجتمع، كان آخِذًا في الشَّيخُوخة والذُّبُول؛ لقد أصبح التَّديُّن سُلوكًا مُتلاشيًا، ورُوتينيًّا تقليديًّا، وشأنًا من شُؤون الشيوخ، أو بعضِ الكُهول بنسبة أقلَّ، أمَّا تَدَيُّن الشَّباب وخاصَّة مِنْهُمُ المُثقَّفين، فقد كان آخذًا في التَّراجُع مُتَّجهًا نحوَ الاختفاء، وباختصارٍ جاءتِ الحركةُ الإسلاميَّة فقامت بعمل لا يعلم قَدْرَهُ وفَضْلَه إلاَّ اللهُ تعالى؛ لقد قامت بتَشْبِيبِ التَّدين، وبتجديد التَّديُّن، وبنفخ الروح في التَّديُّن، وبدأ الشَّباب بالمئات وبالآلاف يعُودون إلى عقيدتهم، وإلى ربهم، وإلى دينهم وثقافتهم بعد أنِ اجتالتهمُ الشَّياطين.
تصوَّروا معي ماذا لو لم يقع هذا؟ ماذا لو استمرَّ المسارُ الآخَرُ؟ ماذا لو وقع التاريخ الذي لم يقع؟
هذه المسارات كلُّها وأخرى غيرها، كانت قد قطعت أشواطًا، وأصبحت جزءًا بارزًا من واقع المغرب ومن تاريخ المغرب، وكان من الطبيعيِّ جدًّا أن تستمرَّ وتمتدَّ وتشتدَّ، لولا لُطْفُ الله، ولولا دعاءُ من دَعَوْا ويدعون "اللَّهُمَّ يا لطيفُ، نسألُكَ اللُّطْفَ فيما جَرَتْ به المقادير".
وباختصارٍ مرَّةً أُخرى: جاءتِ الحركةُ الإسلاميَّةُ فأَرْبَكَتْ، وغَيَّرَتْ هذه المساراتِ السَّوداءَ؛ ولكنَّ المعركةَ لا زالت قائمةً، واللهُ غالبٌ على أَمْرِه.
---
(/4)
[1] كانت جريدة "التَّجديد" قد دشنت في بدايات إصدارها اليومي سلسلة من المقالات حول الحركة الإسلاميَّة في المغرب تقويمًا وترشيدًا تحت عنوان "الحركة الإسلاميَّة في الميزان"، وشارك فيها نُخبة من الكُتَّاب والمُهتمِّين، وهذه هي مساهمة الدكتور أحمد الريسوني (مدير الجريدة آنذاك).
[2] نسبة إلى "أوطم" الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الهيئة التي سيطر عليها الشيوعيون واليَساريُّون حينًا من الدَّهر فحاربوا واضطهدوا كل أشكال الدين والتَّدين في الوسط الطلاَّبي.
[3] لم تكن آنئذ لا دار الحديث الحسنيَّة، ولا شعب الدراسات الإسلاميَّة، وكانت القرويين أقرب إلى الموت منها إلى الحياة.
(/5)
العنوان: الحزب الجديد للمليونير الروسي وآماله الإسرائيلية
رقم المقالة: 1082
صاحب المقالة: توفيق أحمد
-----------------------------------------
لم يمر وقت طويل على إطلاق حزب جديد في الكيان الصهيوني -وهو الذي تزعمه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (آرييل شارون)- حتى بدأ الإعلام الإسرائيلي يروّج لحزب جديد، تُعقد عليه الآمال لتحسين وضع الإسرائيليين، وإخراج الحالة الإسرائيلية الداخلية والخارجية من حالة "الدوران المفرغ" التي دخلتها منذ عدة سنوات.
الإعلان الجديد للحزب أثار الكثير من التساؤلات داخل الكيان الصهيوني، هي محل جدل في الحقيقة، خاصة في ظل عدم كفاءة القيادة السياسة الحالية في تل أبيب، وخروج الرئيس الإسرائيلي بطريقة غير مشرّفة، بسبب فضيحة جنسية تتعلق "بالتحرش" بالموظفات!.
الحالة السياسية:
يعيش الكيان الصهيوني حالياً حالة من فِقدان الاتزان السياسي الواضح، فالرئيس الإسرائيلي الذي أجبر على الاستقالة بعد "صفقة" قانونية عقدها محاميه مع الادعاء العام، أفقد الإسرائيليين الثقة بأخلاقيات القادة السياسيين، ورفع موجة الغضب في الشارع لدرجة شنّت فيها الصحف الإسرائيلية حَمَلات تشهير وتقريع لـ(كاتساف)، في حين يواجه الآن آخر حائط مقاومة ضده، وهو الكنيست، إذ تجري الاستعدادات على عجل من قبل نواب في البرلمان الإسرائيلي من النساء والرجال، لسَنّ قوانين تحظر على (كاتساف) الاستفادة من مزايا التقاعد التي سيحصل عليها من رياسته للكيان الصهيوني، وتشمل هذه المزايا رواتب شهرية، وإيجار منزل فخم، وبدل ضيافة، ومستخدمين وسيارات، وغيرها من المزايا.
(/1)
أما الحكومة الإسرائيلية، فلم تعش أجواء سيئة أكثر من التي تعيشها الآن، بدءًا من شلل شارون الذي عقد عليه الإسرائيليون آمالا في التوصل لتسوية إسرائيلية فلسطينية تُنهي العنف الذي يقلق الإسرائيليين، ومن ثم خروجه مع أفكاره وطموحاته وقوته السياسية من حزب (كاديما) الذي كونه لأجل هذا الغرض، تاركاً زعامة الحزب والحكومة لإيهود أولمرت، الذي بدا غيرَ قادر على إدارة الدفة السياسية بالحد الأدنى لتسيير الأمور.
وصولاً إلى لجنة فينوغراد الحكومية، التي حطّت من القادة العسكريين الإسرائيليين، واتهمت وزير الدفاع وقائد الأركان بقلة الخبرة، واللجوء إلى مغامرة غير محسوبة النتائج.
وعلى الصعيد الآخر، لا يزال الأسرى الإسرائيليون الذين أسرتهم المقاومة الفلسطينية (جلعاد شاليط) أو الذين أسرهم حزب الله، خارج سيطرة الحكومة، دون أن تتمكن من التقدم في المفاوضات الخاصة بإطلاق سراحهم، وذلك يعني إخفاقها عسكرياً وسياسياً في هذا المجال أيضاً.
الحزب الجديد وسياسة جديدة:
على خلاف الأحزاب الأخرى السابقة، يبدو أن حزب العدالة الاجتماعية الذي أطلقه الملياردير الروسي أركادي جيداماك يوم الخميس الماضي (12 من يوليو) يعتمد على مبادئ اجتماعية وإحصائية في سبيل الفوز بعدد كاف في مقاعد الكنيست الإسرائيلي، تضمن له أداء دور أساسي في تشكيل الحكومة القادمة.
ولا يخفي جيداماك مطامعه الخاصة بالوصول إلى مناصب "محورية" في العملية القانونية والسياسية الداخلية، إذ أعلن مؤخراً عن نيته عدم الدخول في انتخابات الكنيست -وذلك يعني عدم وجود طموح له بأن يكون رئيساً للحكومة أو وزيراً مثلاً- قائلاً للصحفيين يوم الخميس: "ليس لي النية في أن أصبح رئيسا للوزراء، لكنني أريد القيام بدور رئيس على الساحة السياسة في إسرائيل". وبدلاً من ذلك، يفكر بالتقدم لمنصب "محافظ مدينة القدس المحتلة"، وهو منصب يعطيه قدرة على أن يكون أقرب للإسرائيليين في الداخل.
(/2)
هذا المبدأ لم يكن وليد الصدفة، بل هو مبدأ اتخذه (جيداماك) منذ عدة سنوات، من خلال شركاته الخاصة العملاقة، التي دأبت على تقديم معونات خاصة للإسرائيليين في أوقات حرجة. منها: الإعانات، والمدينة الاصطناعية التي قدمها لسكان المناطق الشمالية من الكيان الصهيوني، والتي تضررت من جراء الحرب الأخيرة مع لبنان في صيف عام 2006، في حين عرض دفع نفقات قضاء عُطَل لسكان بلدة سديروت الجنوبية، التي غالبا ما تتعرض لهجمات الصواريخ التي تطلقها المقاومة الفلسطينية المسلحة من غزة.
وخلال الحفل الخاص بافتتاح حزبه، قال جيداماك للصحفيين: "هذه الليلة تشهد بداية التغير في هذه البلاد باتجاه العدل الاجتماعي"، وأضاف أنه "يريد تحقيق أمل أغلبية الإسرائيليين وذلك بإدخال تغييرات جذرية في إسرائيل".
كما يملك جيداماك فريق "بيتار جيروسليم"، أبرز فريق لكرة القدم في الكيان الصهيوني، ويرعى فريق "هبوعيل جيروسليم" لكرة السلة.
ويشترك ابن جايداماك (أليكساندر) في ملكية فريق بورسمث الإنجليزي مع رجل الأعمال (ميلان مانداريك) الأمريكي من أصل صربي.
أمام هذه الأموال الكبيرة التي يملكها جيداماك، قرر أن يعتمد في عمله السياسي على "الإحصاءات والبيانات الرقمية" التي يعلن نتائجها بين الحين والآخر، منها ما أطلقه المتحدث الرسمي باسم حزبه الجديد بالقول: "إن جيداماك قد نظم أخيرا مسحا أظهر بأن لحزبه حظوظا للفوز بما بين 17 و23 مقعدا في الكنيست في الانتخابات العامة المقبلة".
ومنها الإحصاءات التي اعتمدها أخيرا، والتي أشارت له بأن دعم حزب العمل أوفرُ حظاً بالفوز من دعم حزب الليكود بقيادة نتنياهو.
اللعبة السياسية:
(/3)
لم يقدم جيداماك حتى الآن قائمته المختارة من المرشحين لدخول الكنيست الإسرائيلي، وذلك يبقي الكرة في ملعبه إلى حين قرب الانتخابات. ويفسّر ديفيد ناروديتسكاي (مستشار الحزب القانوني) عدم إعلان البرنامج الانتخابي أو أسماء المرشحين المحتملين حتى الآن بالقول: "إن حزب العدالة الاجتماعية قد صاغ بالفعل أهدافه- كلها اجتماعية تقريباً- ولكنه لا يزال يعمل على إنهاء برنامجه العام"، مدعياً أنه لن يتعامل مع القضايا الأمنية والسياسية.
ويرى جيداماك أن الحاجة الإسرائيلية الآن كبيرة لوجود حزب جديد، يحدث تغييرات في السياسة الإسرائيلية، الداخلية والخارجية.
وتشير التحركات السياسية داخل الكيان الصهيوني، إلى احتمال إجراء انتخابات مبكرة، تطيح على الأغلب بحزب كاديما، الذي لم يحقق أيا من الأهداف التي أعلنها منذ إنشائه العام الماضي. وهو هدف يعلن عنه جيداماك بكل صراحة، إذ قال خلال حفل افتتاح حزبه: "إن شغل الحزب الشاغل هو الإطاحة برئيس الوزراء أولمرت، زعيم حزب كاديما"، متهماً أولمرت وحكومته بضعف القيادة خصوصا خلال الحرب الأخيرة في لبنان.
جيداماك الذي قرر عدم خوض الانتخابات الحكومية بنفسه، مشيراً إلى عدم رغبته بأن يكون رئيساً للحكومة الإسرائيلية، أكد أنه يدعم رئيسَيْ قادة حزبي الليكود والعمل، بنيامين نتنياهو وإيهود باراك، لتولي الحكومة القادمة، معتبراً أنهم الأكفأ في ذلك.
وهو بهذا الإعلان يعطي لنفسه فرصة لركوب قارب الحزبين الرئيسين المعارضين لكاديما، (العمل والليكود) وذلك قد يؤمن له فرصة للوصول إلى ساحة السياسة والمشاركة في تكوين الحكومة المقبلة بنسب أكبر مما لو قرر خوض الانتخابات كحزب معارض للجميع، أو موال لكاديما.
(/4)
ونقلت صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية نهاية الأسبوع الماضي، عن شركاء لجيداماك قولهم: "إنه على الرغم من إعلان رئيس الحزب الجديد لنتنياهو، إلا أنه قد يدعم إيهود باراك، خاصة وأن الناخبين الإسرائيليين ربما لا يصوّتون لحزب الليكود بقوة هذه المرة".
وتضيف الصحيفة الإسرائيلية بالقول: "إن جيداماك قرر دخول الميدان السياسي كعضو رئيس، إما من خلال قيادة حزب مستقل، وإما من خلال الاندماج مع حزب آخر". مشيرة إلى أنه وقبل خمسة أشهر من الآن، قرر الدخول إلى هذا الميدان، عبر إنشاء حركة أطلق عليها اسم "حركة العدالة الاجتماعية" والتي ستتحول إلى حزب بعد اجتماع الخميس.
وتوقعت الصحيفة أن يسجّل جيداماك حزبه أيضاً مؤسسة غير ربحية (خيرية)، ويركز جهوده على التفاعل مع الجمهور ومساعدة الإسرائيليين والتقرب منهم.
التعريف بـ(جيداماك):
هو مليونير يهودي، روسي المولد، من أكثر الشخصيات الإسرائيلية داخلياً شهرة وحيوية. تنامت شعبيته منذ توليه أحد أكبر النوادي الرياضية في الكيان الصهيوني، في الوقت الذي تنامى فيه السخط الشعبي على حكومة وحزب أولمرت.
قدم جيداماك إلى الكيان الصهيوني عام 1972، ومنذ ذلك الوقت، أنشأ مستعمرته المالية عبر سلسلة شركات ضخمة، تكاد تدخل في مختلف مجالات الاقتصاد الإسرائيلية. بينما انتشرت شعبيته في بادئ الأمر بين المهاجرين الروس، الذين يبلغ عددهم مليون يهودي تقريباً.
استغل جيداماك أحداث الحرب الأخيرة مع لبنان، ليظهر بمظهر السخي والكريم في تقديم بعض أموال شركاته لمساندة الإسرائيليين المتضررين من الحرب، وهو ما زاد من شعبيته بين اليهود. وخلال النداءات التي أطلقتها الحكومة قبل أشهر لسكان مستعمرة سديروت لإخلائها بسبب الصواريخ اليومية الفلسطينية، دفع جيداماك لقرابة 3 آلاف صهيوني للبقاء في منتجع (إيلات) على البحر الأحمر.
(/5)
لذلك يقول جيداماك: "أنا الرجل الأكثر شعبية في إسرائيل"! حسبما نقلت شبكة البي بي سي عن مقابلة أجريت معه في نوفمبر الماضي.
سياسياً،
يعد جيداماك حليفاً مقرباً من زعيم حزب الليكود "بنيامين نتنياهو" رئيس الوزراء السابق، والذي يرى فيه "الشخصية الأحق بتولي الحكومة القادمة"!
ويقول المحللون السياسيون في الكيان الصهيوني: "إن الليكود سيكون أحد المستفيدين الأساسيين إذا ما دخل حزب العدالة الاجتماعية الانتخابات القادمة" مشيرين إلى أن نتنياهو سيكون الأقرب لتولي قيادة الحكومة القادمة.
وبرغم دعمه لحزب متطرف "الليكود" إلا أن جيداماك يحاول اللعب على أكثر من حبل سياسي، إذ يعلن على الدوام أن أحد أهم أهدافه، هو تحقيق السلام بين العرب واليهود في المنطقة. ويبدو في مناسبات كثيرة أحد الداعمين لفلسطينيي الداخل.
ويحمل جيداماك الجنسية الأنجولية والفرنسية والإسرائيلية، حسب ذكر الصحافة الإسرائيلية، بسبب أعماله وصفقاته الخارجية، التي كانت إحداها سببا في ملاحقة الشرطة الفرنسية له. ولا يزال جيداماك يعتبر مطلوباً للسلطات الفرنسية، على خلفية صفقة أسلحة غير شرعية عقدها مع أنجولا في أوائل التسعينيات.
داخلياً،
يركز جيداماك أساسا على البرامج الاجتماعية والاقتصادية، مشيراً إلى أن الإسرائيليين يحتاجون لدعم اقتصادهم أولاً، ويؤكد حزب جيداماك أن 20% من سكان الكيان الصهيوني يعيشون تحت مستوى خط الفقر.
(/6)
العنوان: الحسُّ الدعوي في قصص (من غير كلام) للعريني
رقم المقالة: 991
صاحب المقالة: محمد شلال الحناحنة
-----------------------------------------
قراءات في الأدب السعودي المعاصر
الحسُّ الدَّعْوي في المجموعة القَصصية (من غير كلام)
للأديب الدكتور عبدالله العريني
الأديبُ السعودي الدكتور (عبد الله بن صالح العريني) من الأدباء الذين صدَر لهم عدةُ أعمال إبداعية تحتاج إلى وَقَفاتٍ وقراءاتٍ متأنيةٍ، وقد كتبَ ثلاثَ رواياتٍ هي: "دِفْءُ الليالي الشاتية"، و"مهما غلا الثمن"، و"مثل كل الأشياء الرائعة"، أما مجموعته القصصية "من غير كلام" فقد صدرت عام 1425هـ عن دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع بالرياض، وجاءت في خمسين صفحةً تقريباً من القَطْع المتوسط، وضمَّت خمسَ قِصَصٍ هي: "من غير كلام-1"، و"من غير كلام -2"، و"من غير كلام -3"، و"كان له ما أراد -1"، و"كان له ما أراد -2".
لماذا (مِن غير كلام)؟!
(من غير كلام) هو عُنوان هذه المجموعةِ، وقد أخذ ثلاثةَ عناوينَ داخليةٍ لقِصص ثلاث أيضاً، فما المغزى من هذا؟!
لا شك أن القاصَّ د. العريني جعل الأُسوةَ الحَسَنَة هي القيمةَ المحرِّكةَ لأشخاص قِصصه الثلاثة الأولى؛ وهي قيمةٌ ذاتُ بُعدٍ إسلاميٍّ، وتأثيرٍ عميق في الدعوة إلى الله التي ظلت مُرتَكَزاً أساسياً في مجموعته، وهنا ينتفي الكلامُ، والتوجيهُ، والنصيحةُ المباشِرةُ التي قد تؤثِّر سلباً إن لم تُقَدَّم بأسلوب فيه إيحاءٌ ورِقَّةٌ وصِدْقٌ، وهذا ما يتجلَّى كثيراً في واقع الدعوة.
البُعد الاجتماعي:
(/1)
إن أولَ ثلاثِ قِصَصٍ من مجموعة "من غير كلام" تنمو من خلال بُعْدِها الاجتماعيِّ في بلاد الغربة، في بلاد غير إسلامية حين تحاصِرُنا ذاكرةُ المكان، وذاكرةُ الوجوه، ونكادُ نفقد حميمية الأخُوَّة والتواصل، ولكنْ قد تكون هذه الغربةُ أعظمَ تأثيراً في النفوس كي تتآلفَ وتتآزر؛ وهذا ما نراه في قصة "من غير كلام -1" إذ تحكي قصةَ طالب عربيٍّ مسلم يَدرُس في بريطانيا، وقد مَرِض، ودخل المستشفى، وفي غرفته رقد إنكليزيان مريضان هما (ديفيد) و(إلن)، ومن المفارقات كثرةُ زُوَّار هذا الطالبِ، وكثرةُ ما يُقدِّمون له من هدايا، ونقود، واهتمام، وندرةُ زُوَّار المريضين الإنكليزيين برُغْم أنهما في بلدهما, وبين أهلهما!.
وكان (ديفيد) لا يكاد يُصَدِّق ما يجري أمامه من هذه المحبَّةِ؛ لذلك نَقرَأُ في القصَّة على لسانه:
((قال لي:
- يبدو أنك شخص مهم.
أجبته:
- لا لست مسؤولاً كبيراً ولا ثرياً من الأثرياء حتى أكون مُهِمّاً؛ لكن الأمر لا يتوقف على المركز الاجتماعيِّ فقط، فربما لقي الفقيُر عنايةً أكبرَ؛ لأن الجميعَ يزورونه، ويقدِّمون له المساعدةَ رجاءَ أجر الله - سبحانه وتعالى.
- لم أفهم.
- هذا جُزء من عقيدتنا، اختلط هذا المبدأُ بدمنا وعَظْمنا ولَحْمنا، وما تراه دليلٌ على ما أقول.
- قال لي: لقد حضر إليك أصدقاءُ بعضهم ليسوا عرباً مِثلَكَ.
رددتُ عليه بأن المسلمين إخوةٌ مَهْمَا كانتْ جنسيَّاتُهم وبلادُهم وألوانُهم)).
وبعد مُضِيِّ زمنٍ فوجِئ هذا الطالبُ برسالةٍ من (ديفيد) تبدأ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) يخبره بإسلامه، وأنه مَدِينٌ له بذلك بعد تلك الأيامِ التي قضاها في المستشفى معه، ورأى ما رأى من حبٍّ وإيثار وأُلْفَةٍ بين المسلمين، مما جعله يَقرَأ في هذا الدينِ، ويُعْجَب بأفكاره، ويُسْلِم أخيراً.
(/2)
ولم تغادِر قصةُ "من غير كلام-2" هذا الحِسَّ الدَّعْوِيَّ، والبُعْدَ الاجتماعيَّ، فهي تُبْرِز إحسانَ جار مسلم مُغتَرِب يَدرُس في مدينة أمريكية لجاره غير المسلم الذي غاب عن منزله مدَّةَ أسبوعين، وقد عَرَف بطلُ القصَّة ذلك من خلال تكاثرِ زجاجاتِ الحليب التي تضعُها شركةُ الحليب كلَّ يوم عند باب جاره إلى درجة تُثير وتنبِّه من يمرُّ أمام هذا البيتِ.
والشركة لا يُهِمُّها بالطبع؛ أُخِذَتْ تلك الزجاجاتُ أو لا! أما تَرْكُها على باب المنزل فله دَلالةٌ على أنه غيرُ موجود، مما اضْطَرَّ هذا الجارَ المسلم أن يجمعَ هذه الزجاجاتِ ويضعَها في ثلاجته، وكُلما انتهت صلاحيةُ واحدةٍ تَخَلَّص منها كي تتسعَ الثلاجةُ لغيرها، وحين حضرَ هذا الجارُ الأمريكيُّ ذهب إليه، وقصَّ عليه ما فعله خوفاً على بيته من السرقة؛ لأن تَجَمُّعَ هذه الزجاجاتِ رسالةٌ صريحةٌ لأي لِصٍّ لدخول المنزل مستغِلاً غَيبته عنه.
وقد سُرَّ هذا الجارُ بهذا الفعلِ، ودعاه إلى بيته أكثرَ من مرة، وعرَّفَهُ بزوجته الرَّاهِبَة، وقد بَيَّن الجارُ المسلم لجاره أنه لم يفعل ذلك إلا استجابة للدين الإسلامي الذي يأمر بالإحسان للجار، وشَرَحَ عِدَّةَ آياتٍ وأحاديثَ تُوصِي بالجار وتُعَظِّمُ من حقوقه، مما جعلهما يستغربانِ ظانَّيْنِ أن المسيحيةَ وحْدَها هي دينُ المحبة، ثم طلب منه الزوجُ بعضَ الكتب الإسلامية ليَتَعَرَّف الإسلام، فأحضر له من المركز الإسلامي في تلك المدينةِ.
وبعد مدة قصيرة اتصل به أحدُ أصدقائه من المركز الإسلامي يخبره بأن لديهم حفلةَ إسلامِ جاره وزوجته اللَّذَينِ حدثهم عنهما، مما أسْعَدَه كثيراً، وجعله يَتَكفَّل بهذا الحفلِ العظيمِ.
(/3)
أما قصة "من غير كلام -3" فهي شهادةٌ عظيمةٌ من شهادات برِّ الوالدَين، وهي تُحدِّثنا بضمير المتكلم, كالقصتَيْنِ السابقتَيْنِ عن شابٍّ مسلم مغترِب للدارسة في ألمانيا بارٍّ بوالدته المُقْعَدَةِ، فهو يَخْدُِمُها، ويُخْرِجُها معه بسيارته، ويأخُذُها إلى الحديقة، ويقبِّل يدَيْها ورأسَها دائماً, طالِباً رضاها، وكان جاره الألمانيُّ رجلاً كبيرَ السنِّ, يعيش وحدَه بعد أن طلَّق زوجتَه، وتُرِكَ من ابنه وابنته، كان يُراقِب هذا المشهدَ العجيبَ من البِرِّ يوميّاً، فسأل جارَه عن هذه المرأةِ التي يَخْدُِمُها دون كَلَلٍ أو مَلَلٍ، وكم تدفع له من الأجرة؟
فقال له: هي والدتي. ودعاه للدخول عنده، وشُرْبِ قَدَح منَ القَهْوَة، ثم حدَّثه أن بِرَّه بوالدته من أساسيات الدين الإسلامي مستجيباً لأمر الله، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنه يَعُدُّ ذلك نِعْمَةً كبيرةً أنْعَمَها اللهُ عليه لينال رضا اللهِ, ثم رضا هذه الأمِّ، وهو يَبَرُّها بِكُلِّ سعادة ومحبة، سائلاً اللهَ أن يَبَرَّه أبناؤه عندما يَكْبَر، مما جعل هذا الألماني يَقرَأُ عن الإسلام، ويُعْجَبُ به، ثم يُعْلِن إسلامَه.
وقفات وإشراقات:
استطاع القاصُّ د. عبد الله العريني أن يَرْبِطَ رَبْطاً مُحْكَماً بين قِصصه، فالجوُّ العامُّ جوٌّ واحدٌ، هو جوُّ الغربة، أما العلاقاتُ الاجتماعية بين أبطال قِصصه والآخَرِينَ فكانت علاقاتٍ باردةً في كثير من الأحيان، وكان هؤلاء الأبطالُ يبادرون بالفعل, لا بالقول؛ لإنعاش هذه الصلاتِ مع الجيران، وهم يُلِحُّون على عَظَمَة القِيَم الإسلامية من: تآزُرٍ, وأُخُوَّةٍ بين المسلمين، وإحسانٍ للجيران، وبرٍّ بالوالدين، وتسامحٍ، وحبِّ الهداية للآخَرِينَ، وقد وُفِّقَ القاصُّ في المزاوجة بين السرد الوصفي والحِوار في نُمُوِّ الأحداث وتطوُّرها.
كما بدَتْ لغتُه سهلةَ التراكيب، عفويةً دون تكلُّفٍ أو غوص إلى الغرابة.
(/4)
أما صورة الآخَرِ فهي صورةٌ متوجِّسةٌ في فهمها للإسلام، غريبةٌ عن فكره وأحكامه وقِيَمِه، ولكنها بحاجة إلى المبادرة والجلاء والإقناع - وهذا ما تجلَّى في مشاهدَ كثيرةٍ في القِصص - مستجيبة لدعوة الإسلام.
ولعل ما يؤخذ على القاصِّ في القصَّة الثالثة تدخُّلُهُ في الخاتَمَةِ فنقرأ:
((ولم يُخَيِّبِ اللهُ رجائي؛ إذ لم تمضِ ثلاثةُ أشهُرٍ إلا وهو يأتي إليَّ يُعْلِنُ فيه رغبَتَه في اعتناق الإسلام. هذه الرغبةُ التي أشعلَتْها في نفسه - بعد توفيق الله - رؤيته لرعايةِ والدتي بكلِّ حُبٍّ وحنان. لقد جاءت به المشاهدُ التي رآها لمعاملتي لوالدتي ليكونَ من المسلمين من غير أن أُكَلِّمَه بأيِّ كَلِمَة عنِ الإسلام!)).
وأرى أن القصَّة انتهت بعبارة:
(يُعلِن فيه رغبتَه باعتناق الإسلام) لتكون أكثرَ وقعاً وعَفْويةً وإشراقاً، أما ما تلاها من عباراتٍ فيها شرحٌ وتسويغٌ لإسلام هذا الألماني، فقد أَثْقَلَت القِصَّةَ، وجاءت مباشِرَةً قَسْرِيَّةً، ولو تأمَّلها القاصُّ بِحِسِّه الفنِّيِّ المرهَفِ لحذفها بكل اطمئنان، وهذا ما وجدناه في قصَّتَيْهِ السابقتَيْنِ.
وكان لهُ ما أراد:
(/5)
(وكان له ما أراد) عُنْوانُ آخِرِ قصَّتَيْنِ في مجموعة الأديب الدكتور عبد الله العريني، أمَّا القصَّة الأولى فهي عن رجل خفيف الظلِّ, لديه قدرةٌ كبيرةٌ على إضحاك الآخَرِين، وكان يشكو اضطراباً في الهضْمِ، وحين عرض نفسَه على الطبيب نَصَحَه بِحِمْيَة تقتصر على الخَضْرَاواتِ المسلوقة، والفواكِهِ، والقليلِ من الدسم، مما أثار سُخْرِيَتَه؛ لأنه لا يستطيع الصبرَ عن الأكل؛ لأنه أكولٌ بطبعه، وقد ازداد الألمُ والاضطرابُ لديه، فعاد ثانيةً للطبيب، فحذَّره مما يُعانِي، وأن عليه الالتزامَ بالحِمْيَة، ولما أبدى له عدمَ قدرته وصبرِه أشار إليه أن يَدخُل المستشفى لتطبيق ذلك، فدَخَلَه متحسِّراً، وكان يؤلمه أن يرى الآخَرِين يأكلون المشوِيَّاتِ والحلوى، وهو محرومٌ منها، وكان يتنَقَّل بين طَوابِق المستشفى، وحين وجد أن مَرْضَى الكُسور تُوَزَّعُ عليهم وَجَباتٌ دَسِمَةٌ من اللحوم تمنى ودعا الله أن يُصاب بكسر ليَأْكُل مِثْلَ أَكْلِهِم، وقال ذلك مازحاً، ولكنَّ اللهَ استجاب دُعاءَه بعد خروجه من المستشفى، بعد أن خَفَّتْ آلامُ سوءِ الهَضْم، فعاد ثانيةً إلى قِسْم العظام في المستشفى بعد أن أصيبَ بكسر في حادث، وفي هذه المرةِ سَمَح له الطبيبُ أن يأكُل ما يشاء.
(/6)
وجاءت القصَّة الأخيرة لتُؤكِّد العنوانَ أيضاً، فهي تَحْكِي قصَّة رَجُلٍ مَفْتُون بحب المال برُغْم أنه ليس فقيراً, ولديه من الرزق الشيءُ الكثيرُ, إلا أنه كان في صراع مع زوجته في حبِّه العظيم للمال؛ إذ كانت امرأةً تقيَّة صالِحةً تخشى على زوجها ونفسها وأولادها من فتنة المال، وفي يومٍ شاهَدَ دِعايَةً في التلفاز, وقُدِّمت الجائزةُ الأولى بمليونِ ريالٍ، وحينها - وبعد حِوار ساخن مع زوجته - دعا الله أن يرزقَه مليونَ ريالٍ، ولْيَكُنْ بعد ذلك ما يكون حتى لو أُصِيبَ بمرض السرطان، وبعد سنواتٍ معدودة رزقه اللهُ من خلال تِجارته مليونَ ريال، ولكنها أيامٌ قليلة، وإذا به يُصاب بالسرطان، فندِمَ ندماً عظيماً على دعوته، ولكن أنَّى ينفعُ النَّدمُ؟!
وعموماً تظل القصتانِ نموذجاً حياً للنفوس البشرية الضعيفة أمام سَطْوَة الشهوة!
التأثر بقَبَس القرآن الكريم:
القاصُّ د. عبد الله العريني له رؤاه ولغته الخاصة؛ فهو لا يُوْغِل في الصُّوَر الفنية في قِصصه، ولكنه يتحرَّى الواقعية، فنجد التبايُن في لغةِ ورؤى شخصيَّاتِه حَسَبَ مستوياتها وفِكْرها؛ فالشخصياتُ الأجنبية في قِصصه تنُمُّ رؤاها عن الحَيْرَة والدهشة والاستغرابِ أمام قيم الدين الإسلامي، في حين نرى الشخصياتِ الدعويةَ في قصصه الثلاثة الأولى، تُشرق دائماً بآثار القرآن الكريم وأنواره في مضامِينِها الفكرية وأساليبها الجمالية، ولم يكن هذا ممكناً لولا تسخيرُ قدراتِه الفنية، وفكره الواعي فيما يهْدُف إليه، ولم تخرج القصتانِ الأخيرتانِ عن هذا الحسِّ الدعْوِيِّ السامي الذي ينتظم نسيجَه القَصصيَّ، فقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم- عن الدعاء على النفس والأهل والأبناء، وهو توجيهٌ نَبَويٌّ ما أعظمَ أن نتَدَبَّرَه!!
أخيراً تبقى هذه القِصصُ وَمَضاتٍ فنيَّةً راقيةً في فضاء القصَّة الإسلامية.
(/7)
العنوان: الحسبة والمحتسبون (1)
رقم المقالة: 444
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
احتساب الأنبياء عليهم السلام
الحمد لله العليم الخبير؛ أمر بالإصلاح وأثنى على المصلحين، ونهى عن الفساد وذم المفسدين، نحمده على نعمه وإحسانه، ونشكره على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛أرسل الرسل مبشرين بدينه سبحانه وبرحمته وثوابه، ومنذرين عن مخالفة أمره، والوقوع في نهيه، ومحذرين من شدة انتقامه، وأليم عقابه {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فاتقوه حق التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى؛ فتلك وصية الرسل عليهم السلام إليكم {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
أيها الناس: لما خلق الله تعالى البشر قسمهم إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} ولا وجود لفريق آخر غير هذين الفريقين.
وفريق الجنة هم الأنبياء وأتباعهم المؤمنون، وفريق السعير هم الشيطان وأتباعه الكافرون، وفريق الجنة يسعى في الأرض بالصلاح والإصلاح، وفريق السعير يسعى فيها بالفساد والإفساد؛ ولذا كان أكثر الناس صلاحا وإصلاحا الرسل عليهم السلام؛ لأنهم أفنوا أعمارهم في السعي بالصلاح، ومقاومة الفساد, وقد قال الله تعالى عن الصالحين من آل إبراهيم عليه السلام {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} وقال شعيب وهو يحتسب على قومه {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}.
(/1)
وهؤلاء الصالحون من البشر الذين يحتسبون على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وفضح المفسدين، وبيان فسادهم؛ قد أُمرنا بالنظر في سيرتهم، واتباع هديهم، واقتفاء أثرهم في الاحتساب على الناس، والسعي بالإصلاح، والأخذ على أيدي المفسدين والمفسدات؛ وذلك حين ذكرهم الله تعالى مبينا فضلهم وصلاحهم، وما اختصوا به من النبوة والرسالة ثم أعقب سبحانه ذلك بقوله عز وجل {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}.
ومن قرأ القرآن بتدبر، واستقرأ أحوال الأنبياء فيه؛ علم أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا للاحتساب على الناس، ومراقبة أحوالهم، وتقويم سلوكهم وأخلاقهم، والأخذ بأيديهم إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال، وردهم عما يضرهم في الدنيا والآخرة.
والموضوعات التي احتسب فيها الرسل عليهم السلام على أقوامهم شاملة لما يصلح الدين والدنيا، ابتداء بتوحيد الله تعالى ونبذ الشرك، وانتهاء بتقويم سلوك الناس، وتصحيح معاملاتهم وأخلاقهم.
لقد أمروهم بكل معروف فيه صلاح أحوالهم في الدارين، ونهوهم عن كل منكر يضرهم في الدنيا والآخرة.
لقد احتسب الرسل على أقوامهم في مسألة التوحيد، وهي أعظم مسألة وأجلها، وحذروهم من الشرك وعاقبته، وهو أخطر معصية وأكبرها، وما من رسول منهم إلا قال لقومه {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.
وكان احتسابهم شاملا لكبراء القوم وملئهم، كما شمل عامة الناس وضعفتهم؛ لأنهم يريدون صلاح الناس كلهم، ومثال ذلك من سيرتهم: إنكار إبراهيم عليه السلام على النمرود بن كنعان، ومناظرته إياه في الربوبية والألوهية، وأنكر موسى عليه السلام على فرعون ظلمه وتعبيده الناس له من دون الله تعالى .
وتحمل هذان النبيان الكريمان عليهما السلام في سبيل إنكارهما على الطاغيتين ما تحملا من الأذى في سبيل الله تعالى مما قصه الله تعالى في كتابه العزيز.
(/2)
وأنكر موسى عليه السلام على قوم فرعون تزويرهم للحقائق، وتزويق الباطل، والدجل على الناس، وإضلال العامة فقال لهم {أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون}، وفي الآية الأخرى {قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} فكان موسى عليه السلام قدوة لمن يتصدون لعلماء السوء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه لإرضاء البشر من دون الله تعالى، كما كان قدوة صالحة لمن يفضحون الكتاب والمفكرين والإعلاميين الذين يفترون الكذب، وينشرون الضلال، ويبثون الشبهات، ويدعون إلى الشهوات!! وكم يفترى في هذا العصر على الإسلام، وتؤول نصوصه لا لشيء إلا لموافقة مناهج المنحرفين المستكبرين!! وكم يفترى على المصلحين المحتسبين من أكاذيب كما افتري على الأنبياء من قبل؟!
وكما احتسب الرسل على كبراء الناس ورؤوسهم فإنهم قد احتسبوا على أهل بيوتهم وقرابتهم، فأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، وما كانوا عليهم السلام ليحتسبوا على الناس ويتركوا المقربين منهم!!
هذا نوح عليه السلام يخاطب ابنه وقد بدت بوادر العذاب لينقذه من الكفر إلى الإيمان فيقول له {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين}.
واحتسب إبراهيم عليه السلام على أبيه فخصه بالخطاب، وأكثر القول عليه، حتى غضب أبوه منه وهمَّ برجمه، وأمر بهجره {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا}.
واحتسب إسماعيل عليه السلام على أهل بيته كما ذكر الله تعالى عنه ذلك بقوله {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة}.
(/3)
واحتسب الرسل كذلك على عامة الناس، وأنكروا عليهم ما ساد فيهم من الشرك والمعاصي؛ فنوح عليه السلام أنكر على قومه شركهم، وإبراهيم عليه السلام أنكر على قومه اعتقادهم في النجوم وفي أصنامهم، وناظرهم في ذلك، فأبطل حجتهم، وبين ضلالهم وضلال آبائهم، وأتبع الإنكار بالقول الإنكار بالفعل، فكسر أصنامهم، وسفه أحلامهم، وهدم مذاهبهم {فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون} ولما جادلوه في ذلك أغلظ في الإنكار عليهم وقال لهم {أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون}.
وهود عليه السلام احتسب على قومه، فأنكر عليهم الشرك، كما أنكر عليهم اغترارهم بقوتهم، ومفاخرتهم بعمرانهم، وتباهيهم بأموالهم، وهم القائلون {من أشد منا قوة} فبين لهم عليه السلام أن الله تعالى أقوى منهم، وحذرهم من مغبة عبثهم، وقال منكرا عليهم{أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون}.
واحتسب صالح عليه السلام على قومه فأنكر عليهم شركهم، وسرفهم في العمران على سبيل الأشر والبطر والرفاهية والمفاخرة، فقال عليه السلام لهم {وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، فاتقوا الله وأطيعون}.كما أنكر عليهم طاعة أهل الفساد والانحراف، فقال لهم {ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}.
وأما قوم لوط عليه السلام فانتشرت فيهم الفواحش، وأعلنوا بها في الناس، وأظهروها في مجالسهم ونواديهم، مع شركهم بالله تعالى؛ فاحتسب لوط عليهم، وأنكر شركهم، وما يأتونه من الفواحش {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون} وكانوا يقطعون الطريق على الناس لنهبهم، ولفعل الفاحشة بهم، فأنكر لوط عليهم ذلك بقوله عليه السلام {إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر}.
(/4)
وأما شعيب عليه السلام فمع إنكاره لشرك قومه أنكر عليهم كذلك غشهم في البيع والشراء، وبخس الناس حقوقهم، فقال عليه السلام لهم {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم} كما أنكر عليهم قطع الطريق لأخذ أموال المسافرين بالقوة فقال عليه السلام لهم {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} وفي الآية الأخرى {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون}.
وكما احتسبت الرسل عليهم السلام على أقوامهم فنهوهم عن هذه الموبقات؛ فإنهم احتسبوا عليهم في المعروف فأمروهم بكل ما يرضي الله تعالى، ويوصل إلى جنته..
أمروهم بشكر الله تعالى على نعمه، والإقرار بفضله، وإخلاص الدين له، فهذا هود وصالح عليهما السلام يقولان لأقوامهما {اذكروا آلاء الله}.
وموسى عليه السلام فعل ذلك أيضا {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون}.
وأمروا أقوامهم بالتوبة والاستغفار؛ فهود وصالح عليهما السلام قالا لأقوامهما {استغفروه ثم توبوا إليه} وقال شعيب عليه السلام لقومه {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه}.
ومن احتساب الرسل على أقوامهم أنهم نهوهم عن متابعة المفسدين في فسادهم {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}.
وما أشد غضب الرسل عليهم السلام حين تنتهك حرمات الله تعالى..يغضبون غيرة على دين الله تعالى ولا يغضبون لأنفسهم أو دنياهم، فكم عذبوا وأوذوا فلم يغضبوا، فإذا رأوا المنكر في أقوامهم ظهرت غيرتهم على حرمات الله تعالى، واشتد غضبهم له سبحانه.
(/5)
ولما أوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه إلا القليل الذي آمن معه دعا عليهم بالهلاك غيرة لله تعالى، وانتصارا لدينه {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا}.ولم يكن دعاؤه عليهم بالهلاك انتصارا لنفسه، أو انتقاما منهم لما لم يستجيبوا له، بدليل أنه علل دعاءه عليهم بقوله عليه السلام {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}.
ولما عاد موسى عليه السلام من ميقات ربه، وتكليمه إياه وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل، فاحتملته الغيرة على التوحيد حتى رمى بالألواح وفيها كلام الله تعالى؛ غضبا لله تعالى أن يخلفه هذا المنكر العظيم في قومه {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه} هكذا غضب كليم الرحمن لما رأى المنكر في قومه، وكم من منكرات في بلاد المسلمين لا تحرك قلوب أكثر الناس!! فالله المستعان.
والرسل عليهم السلام قضوا أعمارهم كلها في وظيفة الاحتساب والإصلاح، ومقاومة الفساد والإفساد، حتى مكث نوح عليه السلام محتسبا على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وليعلم من احتسب على الناس مرة أو مرتين، أو سنة أو سنتين ثم كف عن ذلك أن الرسل عليهم السلام ما توقفوا عن الاحتساب على الناس حتى فارقوا الدنيا.
ولقي الرسل عليهم السلام في سبيل احتسابهم أنواع الصدود والأذى؛ فنوح عليه السلام سخر منه قومه، ونبذوا أتباعه، وإبراهيم عليه السلام أُلقي في النار، ورمي هود عليه السلام بالجنون، واتهم موسى عليه السلام بالسحر، وطارده فرعون وجنده، وكاد شعيب عليه السلام أن يرجم لولا منعة قومه، وقتل زكريا ويحيا عليهما السلام، وطورد الرسل وأتباعهم بسبب احتسابهم على أقوامهم، فتلك سنة الله تعالى في المحتسبين أن ينالهم من الأذى على أيدي المفسدين والمستكبرين ما ينالهم.
(/6)
ومن عادة المستكبرين والمفسدين محاولة إغراء المحتسبين بدنيا يبذلونها لهم مقابل إيقاف احتسابهم عليهم، وإخراس أصواتهم، وشراء أقلامهم، وما كان الرسل عليهم السلام ليقبلوا المساومة في دينهم، ولا تركوا الاحتساب لكمال دنياهم بنقص دينهم، وكان سليمان بن داود عليهما السلام قدوة للمحتسبين في ذلك؛ إذ رفض مصانعة ملكة سبأ له بالهدية مقابل الكف عن الاحتساب عليها وقومها {فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون}.
جعلنا الله تعالى من أتباع الرسل عليهم السلام، ووفقنا للصلاح والإصلاح،ورزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
أيها المسلمون: أنصح الناس للناس هم أهل الحسبة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على أيدي السفهاء؛ لأنهم يحفظون المجتمعات من الضلال والانحراف، ويمنعون تنزل العذاب والعقوبات.
ومن نظر في سير الأنبياء عليهم السلام ظهرت له تلك الحقيقة؛ إذ إن الأنبياء عليهم السلام وهم يحتسبون على أقوامهم كانوا يعلنون فيهم أن الدافع إلى احتسابهم عليهم هو النصح لهم ليس إلا.
قال نوح عليه السلام وهو يدعو قومه {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} وقال هود عليه السلام {وأنا لكم ناصح أمين} وقال صالح شعيب عليهما السلام {ونصحت لكم}.
(/7)
وأغش الناس للناس، وأخطرهم عليهم، هم من يقفون في وجه أهل الحسبة، ويودون نشر الفاحشة؛ لأنهم سبب انحراف الناس وضلالهم، وبسببهم تتنزل العقوبات من السماء، وكل الأمم السالفة التي أهلكت من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام إنما أهلكوا بسبب إصرار المفسدين على إفسادهم، والحيلولة بين الرسل وبين الناس، وتضييق منافذ الإصلاح وإغلاقها، مع فتح أبواب الفساد على مصارعها.
والحجة التي يحتج بها أهل الفساد والإفساد على أفعالهم القبيحة في هذا العصر هي توسيع دائرة الحريات، واحترام خصوصيات الناس، وزعمهم أن الحسبة تدخل فيما لا يعني، سبحان الله!! ما أضعف عقولهم، وما أشد ضلالهم وانحرافهم؛ إذ كيف تكون الحسبة تدخلا فيما لا يعني وبسببها يحفظ المجتمع، وبزوالها يهلك الناس؟!
والحريات التي يريدها المفسدون هي الحريات التي تضمن لهم إلغاء الشريعة، وتعطيل أحكامها، والتسلط على عقول الناس وقلوبهم بأنواع الشبهات والشهوات؛ لنقلهم من الإيمان إلى الإلحاد، ومن الطهر والعفاف إلى الخنا والانحراف والشهوات، ومن أنواع الخير والإحسان، إلى دركات الشر والإثم والعدوان.
وتلك الحجة السامجة التي يحتج بها المفسدون في هذا العصر قد احتج بها قبلهم المعذبون من الأمم السالفة، فزعموا أن الرسل عليهم السلام يتدخلون فيما لا يعنيهم، وأنهم يحدون من حرياتهم، وينتهكون خصوصياتهم، فقال قوم شعيب له {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو نفعل في أموالنا ما نشاء} أي: نريد أن نفعل في أموالنا ما نشاء، ونحن أحرار فيها، فلماذا تأمرنا وتنهانا؟ والمفسدون في هذا العصر يكررون تلك المقولة بصورة أو بأخرى، ويريدون أن يفعل الناس ما يشاءون دون قيود أو ضوابط دينية أو أخلاقية!!
إنها نفس الحجة التي احتج بها الأقدمون فكانت سببا في هلاكهم، وهلاك الناس معهم.
(/8)
إن من نظر في سير الأنبياء عليهم السلام، والمعاصي التي احتسبوا على الناس فيها، ونهوهم عنها، يجد أنها معاص متنوعة، وإن كان الشرك موجودا في كل الأمم التي عذبت؛ ولذا أمر الرسل كلهم بالتوحيد ونهوا عن الشرك.وكل المعاصي التي سلفت في الأمم الغابرة قد اجتمعت في الحضارة المعاصرة، وهي حرية بالهلاك والعذاب، مما يجعل التبعات على أهل الإيمان كبيرة في إنكار هذه المنكرات المجتمعة؛ رفعا للعذاب، وإصلاحا للناس، وإلا لهلكوا ببعض هذه الموبقات، فكيف إذا بجميعها؟!
ونجد أن كل مجال من مجالات المنكرات قد انتشر في أمة من الأمم السالفة دون الأخرى، فتصدى له نبي من أنبياء الله تعالى منكرا له، ومحتسبا على قومه فيه:
فَمَثَّلَ احتسابُ إبراهيم وموسى عليهما السلام على الطاغيتين المستكبرين مقاومة الفساد السياسي، ومكافحة الظلم والطغيان، والوقوف في وجوه الطغاة المتجبرين، سواء كانوا أفرادا أم دولا.
ومَثَّلَ احتسابُ هود وصالح عليهما السلام مقاومة الفساد العمراني والحضاري، والنهي عن الرفاهية والسرف في البنيان، والتباهي بالقوة، والبطش بالناس.
ومَثَّلَ احتساب لوط عليه السلام مقاومة الفساد الأخلاقي والاجتماعي، والمحافظة على طهر الناس وعفافهم.
ومَثَّلَ احتساب شعيب عليه السلام مقاومة الفساد الاقتصادي، ومكافحة الغش في المعاملات، والسرقة بأي سبيل كان.
كما مَثَّلَ احتساب لوط وشعيب عليهما السلام مقاومة الفساد الأمني الذي هو سبب للخوف والجوع.
(/9)
فمن قاوم في هذا العصر مجالات المفسدين كلها، فأنكر على الكفار كفرهم ودعاهم للإسلام، وأنكر على العاصين معصيتهم وأمرهم بالطاعة، وأنكر على الظلمة ظلمهم وأمرهم بالعدل، وأنكر على المسرفين إسرافهم، وعلى أهل الفساد المالي فسادهم، وعلى أصحاب الفواحش والمروجين لها فحشهم وفجورهم. وما من فساد إلا وله فيه إنكار بقول أو فعل فقد اقتدى بالأنبياء كلهم، وسار سيرتهم، وامتثل قول الله تعالى {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وكفى بذلك شرفا وفضلا.
ومن اختار مجالا من مجالات الفساد، واحتسب على الناس فيه، ووقف في وجه المفسدين، وتحمل السخرية والأذى في سبيل ذلك، فقد اقتدى برسول من رسل الله تعالى، وشارك في حفظ المجتمع من الانحراف والعذاب.
ومن لم يكن هذا ولا ذاك، وليس له في مقاومة الفساد والمفسدين أي نصيب، فقد حرم خيرا كثيرا، وسيسأل يوم القيامة عن تقصيره وخذلانه.
وأقبح منه من سلَّ قلمه، وأطال لسانه بالكذب والتجني، والافتراء والتشفي في أهل الاحتساب، واختلق القصص عليهم، أو سمعها ثم روجها في المجالس وهو لا يعلم صدقها، ولربما زاد عليها من نفسه للإثارة وشدِّ الناس إليه، وكم من فرية سوِّدت بها الصحف، وضجت بها القنوات والإذاعات، على أهل الخير والاحتساب، وعند التتبع والتحقيق بان أنها محض افتراء واختلاق، أراد منه المفسدون تأليب العامة على أهل الصلاح والإصلاح!!
ومن روج الشائعات على أهل الاحتساب فليعلم أنه مشارك في نشر الفساد وإعانة المفسدين، وأنه قد سار من حيث يشعر أو لا يشعر سيرة المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وانحاز وهو يعلم أو لا يعلم إلى صف المنافقين والشهوانيين، ويخشى على دينه ولو كان في عداد المصلين.
(/10)
فاعرفوا رحمكم الله تعالى مقام الحسبة من الدين، واعلموا أنها وظيفة المرسلين، فقوموا بها، وأعينوا أهلها، وخذوا على أيدي المفسدين، طاعة لله تعالى، وحفظا لمجتمعاتكم من البلاء والعقوبة. وصلوا وسلموا.....
(/11)
العنوان: الحسبة والمحتسبون (2)
رقم المقالة: 955
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحسبة فيصل بين الحق والباطل
الحمد لله العليم الحكيم؛ ابتلى عباده فجعل للحق منهم أنصارا، وجعل للباطل منهم أعوانا، وكتب الصراع بينهم فتنة لهم واختبارا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20] نحمده سبحانه على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كتب العز لمن نصر دينه، وقضى بالذل على من حارب شريعته {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ختم الله تعالى به الرسالات، فلا دين إلا دينه إلى آخر الزمان، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإنها الأنيس في الغربة، والنجاة من الكربة، والجليس في القبر حين الوحشة {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق:3].
أيها الناس: من حكمة الله تعالى في البشر تكليفهم بالشرائع، ومن رحمته تعالى بهم هدايتهم لها، ودلالتهم عليها بما أرسل لهم من الرسل، وما أنزل عليهم من الكتب، فأقام بها حجته عليهم، وقطع أعذارهم {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
(/1)
والرسل عليهم السلام جاءوا أقوامهم بما لم يعهدوا، ونهوهم عما تعودوا؛ ولذا أنكر المشركون ما جاءتهم به رسلهم، وقال قائلهم {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [الأعراف:70] وأخبر الله تعالى عنهم أنهم قدَّموا ما توارثوه عن آبائهم على ما جاءتهم به رسلهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} [المائدة:104].
إن الظاهر من أحوال المشركين في كل الأمم السالفة أنهم ما رفضوا تنسك الأنبياء وتعبدهم، ولا أنكروا عليهم عدم مشاركتهم في شركهم، ولا ألزموهم بعبادة أصنامهم، وإنما أنكروا عليهم أمرهم بالمعروف الذي رأسه توحيد الله تعالى، ونهيهم عن المنكر الذي غايته شركهم بالله تعالى؛ مما يدل على أن ما يسمى في العصر الحاضر بالحرية الدينية كان موجودا عند المشركين، وهذا ما لا يفهمه كثير من الناس فيستغربونه وقد ينكرونه.
إن الرسل عليهم السلام ما نزلوا من السماء، ولا جاءوا إلى الأرض من غيرها، ولا نزحوا إلى قبائلهم من خارجها، بل هم من صليبة أقوامهم: ولدوا فيهم، وعاشوا بينهم، حتى أرسلهم الله تعالى إليهم، وقبل بعثهم أنبياء كانوا يرون أقوامهم على الشرك، وما كانت الرسل لتشرك بالله تعالى شيئا فقد عصمهم الله تعالى من الشرك قبل بعثتهم وبعدها، ولو قُدِّر وقوعُ الشرك منهم لاحتج به المشركون عليهم لما دعتهم رسلهم إلى التوحيد، ولقالوا لهم: أتنهوننا أن نعبد ما كنتم تعبدون معنا؟ ولما احتاج المشركون إلى إحالتهم على ما كان يعبد الآباء.
(/2)
إن المشركين ما كان يجبرون الرسل قبل مبعثهم على عبادة أصنامهم وإلا لوجدت العداوة بين المشركين وبين الرسل قبل أن يبعثوا، ولنقل ذلك. بل ما حكاه القرآن يدل على أن الرسل كانوا على وفاق مع أقوامهم قبل أن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، ومن أدلة ذلك قول قوم صالح عليه السلام {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62].
فهذه تزكية منهم لصالح عليه السلام، وثناء عليه إلى أن أمرهم ونهاهم، فرفضوه، وتنكروا له، وانقلبوا عليه.
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام تحكي سيرته الخالدة أنه اجتنب المشركين وما يعبدون، وكان يتعبد لله تعالى في غار حراء، وما نُقل أن المشركين أنكروا ذلك عليه ، أو ضايقوه في عبادته، أو ألزموه بشركهم. بل كان عليه الصلاة والسلام محل إعجابهم وثنائهم، وموضع تقديرهم وثقتهم؛ حتى إنهم كانوا يستودعونه أماناتهم، ويُحكِّمونه بينهم، ولقبوه بالأمين.
وكان في مكة قبل المبعث بعض الحنفاء الذين بقوا على دين إبراهيم عليه السلام، ومنهم من تنصر وقرأ الإنجيل بالعبرانية كورقة بن نوفل، وما عُرف أن أهل الشرك من كبار قريش كانوا يؤذونهم، أو يجبرونهم على الشرك، أو يحولون بينهم وبين عبادتهم.
(/3)
كل هذا يدل على أن المشركين كانوا يتحلَّون بما يسمى في هذا العصر بالحرية الدينية، وما نقموا على من يوحد الله تعالى أن يوحده إذا لم يأمرهم أو ينههم، كما يدل على أن الذي نقمه المشركون من رسلهم، وعارضوهم فيه، وآذوهم من أجله هو ما يسمى في هذا العصر بالتدخل في الخصوصيات، وهي التي أمر الشارع الحكيم رسله عليهم السلام أن يتدخلوا فيها بالأمر والنهي، فيأمروهم بكل معروف، وينهوهم عن كل منكر، وقد أنكر المشركون هذا الأمر والنهي بشدة، وحاربوا رسلهم من أجله، قال قوم شعيب عليه السلام له {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87].
فهم ما نقموا عليه إلا تدخله في خصوصياتهم، وتقييده لحرياتهم في عباداتهم وأموالهم، وهذا ما يرى المشركون أنه عين الإفساد لأقوامهم، كما قال فرعون أخزاه الله تعالى {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} [غافر:26].
إن الاحتساب على الناس، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، هو دين الله تعالى الذي جاءت به الرسل، وهو سبب العداوة بين أهل الحق وأهل الباطل منذ أن وجد على الأرض حق وباطل، وأهل الحسبة من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر في كل زمان ومكان هم أتباع الرسل ، والمعارضون للحسبة والأمر والنهي الشرعيين هم إما من أتباع المشركين، أعداء المرسلين، أو فيهم شبه منهم.
(/4)
ومن نظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، واطلع على أوامره ونواهيه علم أنه إنما جاء بالاحتساب على الناس، وغرض احتسابه عليهم إصلاح أحوال معاشهم ومعادهم؛ وذلك بإصلاح عقائدهم وتطهيرها من أدران الشرك إلى التوحيد، وإصلاح عباداتهم بتنقيتها من أوضار البدع والخرافات، وإصلاح معاملاتهم وأخلاقهم بتخليصها من كل ما يوجب الظلم والفساد. وذلك لا يكون إلا بأمر ونهي وتدخل فيما يسمى بالخصوصيات، وذلك هو مقتضى كلمة التوحيد، ولازم شهادة الحق بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولا يكون الله تعالى معبودا للناس لا شريك له حتى يخضعوا لأمره ونهيه، ولا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام متبوعا إلا بطاعته في أمره ونهيه.
ورسولنا عليه الصلاة والسلام لم يجعل الاحتساب على الناس من انتهاك الخصوصيات، أو من التدخل فيما لا يعني، بل جعله من الدين ومن التدخل فيما يعني، وأخبرنا بما أُنزل عليه من الكتاب أن الاحتساب على الناس، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، هو من الخير الذي فضلت به هذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران:110].
وأمرنا عليه الصلاة والسلام بذلك فقال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وعن قيس بن أبي حازم رحمه الله تعالى قال: قرأ أبو بكر الصديق هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] قال: إن الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه - أو قال: المنكر فلم يغيروه - عمهم الله بعقابه) رواه أحمد وصححه ابن حبان.
(/5)
وفي حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يكون في قوم يُعمل فيهم بالمعاصي يَقْدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا) رواه أبو داود.
فهل نطيع في هذا الأمر العظيم ربنا جل جلاله، ونطيع رسولنا الذي أُمرنا باتباعه عليه الصلاة والسلام، أو نطيع سفلة من الإعلاميين والصحفيين تاريخهم حافل بترويج التخلف والانحلال والضياع، ومحاربة ما جاءت به الرسل عليهم السلام من الهدى والنور والرشاد؟! نسأل الله تعالى أن يكفي المسلمين شرهم، وأن يشغلهم في أنفسهم، إنه سميع مجيب.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ وفق من شاء من عباده لفعل الخيرات وترك المنكرات، فكان سعيهم مشكورا، وعملهم مأجورا، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأخلصوا له دينكم، واستسلموا لأمره، واجتنبوا نهيه، واحذروا عقابه {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الأنفال:25].
(/6)
أيها المسلمون: لا يستغرب على دعاة الفساد والإفساد والانحلال، وخفافيش التخلف والظلام والضياع في هذا العصر من المنافقين والشهوانيين؛ حملتهم المسعورة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة إبطاله في الأمة، وتقرير مذهب أئمة الشرك المتقدمين والمتأخرين في الحرية الدينية، ومطالبتهم بعدم التدخل فيما يسمونه الخصوصيات، مع سعييهم الجاد في نشر المنكرات بكل وسيلة، والأمر بها، والدعوة إليها، والنهي عن المعروف الذي جاءت به الرسل عليهم السلام من عند الله تعالى، وما هم إلا المذكورون في قول الله تعالى {المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [التوبة:67].
إن الواحد من المؤمنين لو أمر بمعروف أو نهى عن منكر لزلقوه بأبصارهم، وسلقوه بألسنتهم، ورموه بالتدخل فيما لا يعنيه، واحتجوا عليه بأن لهذه المهمة جهة مسئولة وهو ينتهك تخصصها، ويتدخل في عملها.
ثم إذا هم لم يحترموا هذه الجهة المسئولة، ولا يتركونها تقوم بعملها، بل يحاربونها سرا وعلانية، وينفرون الناس منها، ويفترون الكذب عليها، ويضخمون أخطاءها، ويظهرون معايبها، ويخفون محاسنها، وفي النهاية يطالبون بإلغائها، فبذلك علم ماذا يريدون؟ وإلى أي مدى سينتهون؟
إنهم يسعون جادين لإبطال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما حاول إبطاله أعداء الرسل من قبلهم، ومطلوبهم الأكبر من هذه الحملة الصليبية الليبرالية رأس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى امتدت رأفتهم وشفقتهم إلى قتلة الشباب من مروجي المخدرات، ولم يرحموا ضحايا هؤلاء المجرمين، فمن هو المفسد؟ ومن هو المصلح؟
(/7)
إنها حملة إعلامية فاجرة تركز على بعض الأخطاء التي هي محل البحث والنظر لدى جهات التحقيق، وتتعامى عن سيل من المنجزات والإبداعات، في كشف شبكات ترويج الخمور والمخدرات والتزوير والدعارة وغيرها.
ويا ليت هذا التركيز على الأخطاء القليلة المحتملة كان بدافع الإصلاح، ورفع الضرر، وإحقاق الحق، ومحاسبة المخطئين والمقصرين، لو كان الأمر كذلك لكانوا محل الشكر والثناء والتأييد والمعونة ، ولكنهم قوم لا خلاق لهم قد تسلقوا على هذه الأخطاء المحتملة، التي يقع ما هو أكثر وأكبر منها في جهات أخرى؛ لتحقيق مآرب خسيسة، من نفوس خبيثة، تريد وأد الفضيلة، ونشر الرذيلة، وإغراق الناس في لجج من الفساد والانحلال والضياع!!
والعجب كل العجب من صفاقتهم ووقاحتهم حين جعلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجالا لتصويت الناس عليه، وأخذ رأيهم فيه، وهو شعيرة كبرى من شعائر الله تعالى، ورأس في دينه عز وجل!! يصوتون عليه في قنوات لو صُوِّت عليها في بلاد المسلمين لأغلقت في لحظتها؛ لأنها لا تمثلهم وإنما تمثل أعداءهم، وتروج لكل دين ونحلة خلا الإسلام، وتدافع عن جرائم الأعداء أكثر من دفاعها عن حقوق من تنطق بلسانهم، وتتسمى باسمهم.
يا له من فساد في العقول، وخلل في التفكير، وانحراف في الفطر من قوم ما عُرف عنهم إلا أنهم الآمرون بالمنكر، الناهون عن المعروف، وما لسانهم إلا لسان قوم لوط حين قالوا {أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].
العهر عندهم فضيلة، والآمرون به مطاعون ومقدسون، والطهر في مذهبهم رذيله، والآمرون بالطهر المحافظون عليه غير مرغوب فيهم؛ ولذا يريدون إغلاق مؤسستهم، كما نادى قوم لوط بإخراجه عليه السلام من قريتهم.
(/8)
إن حقدهم على الفضيلة، وضغينتهم على الآمرين بها قد بلغ بهم حدا أغلق عقولهم وأسماعهم وأبصارهم، فجعلهم ينطقون بما لا يعقلون، ويهرفون بما لا يعرفون، وإلا هل ينادي عاقل بإغلاق جهاز الحسبة لأن أخطاء محتملة وقعت من بعض أفراده، لولا أن مطلوبهم الأكبرَ شعيرةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!!
ماذا لو أن بعض الأطباء أخطأوا فقتلوا بعض المرضى فكتب بعض الناس أن تُغلق المستشفيات، وتُلغى كليات الطب ووزارة الصحة؟ أليس حق المطالب بذلك أن يُحجر عليه ويعالج في مستشفيات الصحة النفسية، لا أن يُصَدَّر في وسائل الإعلام المختلفة؟! وقل مثل ذلك في كل الدوائر والمؤسسات والوزارات، تُلغى لأجل ما فيها من الأخطاء والتجاوزات، أيقول عقلاءٌ من البشر بذلك، فالحمد لله على نعمة العقل.
إنها -يا عباد الله- مواجهة بين أتباع الرسل الذين ينادون بالطهر والعفاف، ويحافظون على نقاء المجتمع وتماسكه وبين أعداء الرسل الذين يروجون للخنا والمواخير، ويحاولون جر الناس إلى الرذائل والموبقات، وليختر كل مسلم مع أي الفريقين يكون، وإلى أي الطائفتين ينحاز، أإلى أتباع الرسل، وأنصار الفضيلة أم إلى أتباع المشركين، وأنصار الرذيلة؟!
حمى الله بلادنا وبلاد المسلمين من شر الفاسدين المفسدين، وردهم على أعقابهم خاسرين، إنه سميع مجيب.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد....
(/9)
العنوان: الحسد
رقم المقالة: 1632
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أولاً: القرآن الكريم
قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: [البقرة: 109].
قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54].
قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الفتح: 15].
قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5].
ثانيًا: الحديث الشريف
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ)).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((الْعَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ)).
(/1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا، وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا)).
وعن عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: "أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: ((نَعَمْ))، قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ)).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا)).
(/2)
وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: ((يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ؛ مِثْلَ الْمَرَّةِ الأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبِعَهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: "إِنِّي لاحَيْتُ أَبِي؛ فَأَقْسَمْتُ أَنْ لا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ؛ فَعَلْتَ"، قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا؛ غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ – وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلاةِ الْفَجْرِ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلاَّ خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلاثُ لَيَالٍ، وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَكَ ثَلاثَ مِرَارٍ: ((يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَطَلَعْتَ
(/3)
أَنْتَ الثَّلاثَ مِرَارٍ؛ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ؛ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟!!"، فَقَالَ: "مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ"، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: "مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ؛ غَيْرَ أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ"، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: "هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لا نُطِيقُ".
وعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، حَالِقَةُ الدِّينِ لا حَالِقَةُ الشَّعَرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟! أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ)).
ثالثًا: الشعر
كتب ابن المبارك إلى علي بن بسر المروزي هذه الأبيات:
كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إِمَاتَتُهَا إِلاَّ عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ
فَإِنَّ فِي الْقَلْبِ مِنْهَا عُقْدَةً عُقِدَتْ وَلَيْسَ يَفْتَحُهَا رَاقٍ إِلى الأَبَدِ
إِلاَّ الإلَهُ فَإِنْ يَرْحَمْ تُحَلَّ بِهِ وَإِنْ أَبَاهُ فَلا تَرْجُوهُ مِنْ أَحَدِ
وقال البحتري:
وَلَنْ تَسْتَبِينَ الدَّهْرَ مَوْضِعَ نِعْمَةٍ إِذَا أَنْتَ لَمْ تُدْلَلْ عَلَيْهَا بِحَاسِدِ
ولقد أحسنَ القائل:
إِنْ يَحْسُدُونِي فَإِنِّي غَيْرُ لائِمِهِمْ قَبْلِي مِنَ النَّاسِ أَهْلُ الْفَضْلِ قَدْ حُسِدُوا
(/4)
فَدَامَ لِي وَلَهُمْ مَا بِي وَمَا بِهِمُ وَمَاتَ أَكْثَرُنَا غَيْظًا بِمَا يَجِدُ
أَنَا الَّذِي يَجِدُونِي فِي صُدُورِهِمُ لا أَرْتَقِي صَدَرًا عَنْهَا وَلا أَرِدُ
وقال آخر:
هُمْ يَحْسُدُونِي عَلَى مَوْتِي فَوَاحَزَنِي حَتَّى عَلَى الْمَوْتِ لا أَخْلُو مِنَ الْحَسَدِ
وقال آخر:
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّي كَامِلُ
وقال آخر:
أَيَا حَاسِدًا لِي عَلَى نِعْمَتِي أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْتَ الأَدَبْ
أَسَأْتَ عَلَى اللهِ فِي حُكْمِهِ لأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ
فَأَخْزَاكَ رَبِّي بِأَنْ زَادَنِي وَسَدَّ عَلَيْكَ وُجُوهَ الطَّلَبْ
وقال الشاعر:
يَا طَالِبَ الْعَيْشِ فِي أَمْنٍ وَفِي دَعَةٍ رَغْدًا بِلا قَتَرٍ صَفْوًا بِلا رَنَقِ
خَلِّصْ فُؤَادَكَ مِنْ غِلٍّ وَمِنْ حَسَدٍ فَالْغِلُّ فِي الْقَلْبِ مِثْلُ الْغُلِّ فِي الْعُنُقِ
وقال آخر:
اصْبِرْ عَلَى حَسَدِ الْحَسُو دِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهْ
كَالنَّارِ تَأْكُلُ بَعْضَهَا إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهْ
وقال نصَّار بن سيار:
إِنِّي نَشَأْتُ وَحُسَّادِي ذَوُو عَدَدٍ يَا ذَا الْمَعَارِجِ لا تَنْقُصْ لَهُمْ عَدَدَا
إِنْ يَحْسُدُونِي عَلَى مَا بِي لِمَا بِهِمُ فَمِثْلُ مَا بِيَ مَمَّا يَجْلِبُ الْْحَسَدَا
وقال آخر:
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ
لَوْلا اشْتِعَالُ النَّارِ فِي جَزْلِ الْعَصَا مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ رِيحِ الْعُودِ
لَوْلا التَّخَوُّفُ لِلْعَوَاقِبِ لَمْ يَزَلْ لِلْحَاسِدِ النُّعْمَى عَلَى الْمَحْسُودِ
(/5)
العنوان: الحصانة الشرعية وأهميتها في تشكيل الشخصية الإسلامية
رقم المقالة: 344
صاحب المقالة: خباب بن مروان الحمد
-----------------------------------------
الحمد لله الواحد الأحد، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... أمَّا بعد:
يعيش المسلمون في زمن انفتحت فيه الدنيا على مصراعيها؛ فقد تعدَّت مقولة العيش في قرية واحدة مرحلتها ثأ، وصرنا في حقيقة الأمر نعيش في عالم يجتمع في غرفة واحدة، فالقنوات الفضائية دخلت البيوت، والمواقع الإلكترونية استقطبتها أروقة الدور والعمل، فصار المرء يتلقَّى آراء عديدة، وتوجهات متغايرة، تجعله يتابعها وهو في غرفته ليل نهار.
وفي خِضَمِّ هذه التحديات، والاختلافات البينيَّة يجدر بالمرء الذي منَّ الله عليه بالإسلام، أن تكون لديه رؤية ناضجة في كيفية التعامل مع هذه التحديات، فإنَّ فيها الحق والباطل، ومواجهتنا لهذه التحديات الثقافية تتطلَّبُ منَّا قوَّة عقدية، وركائز ثابتة، تأخذنا لبرِّ الأمان، وشاطئ النجاة.
وليس من شكٍّ أنَّ الله - تعالى - قد منَّ علينا بنعمة عظيمة، وهي:نعمة العقل، والتي يُعرف من خلالها - في كثير من المسائل- الخير من الشر، والهدى من الضلالة، والصواب من الخطأ، بيد أنَّ الإنسان إذا استقلَّ بها وأعرض عن الوحي، فسيرتكب ما تهواه النفس، ولذا نزلت الشريعة الإلهية على عباد اللَّه، لتميِّز للناس ما يفيدهم ويضبط عقولهم، فتتوازن الحياة، وتنضبط المسيرة.
والعقل على شرف منزلته، لن يستقلَّ بالهداية إلاَّ باتِّباعه لشريعة الإسلام، وشريعة الإسلام لن تتبين مراداتها إلّا بواسطة العقل، فكلا الأمرين يحتاج أحدهما إلى الآخر، ولن يعارض العقل الصحيح النقل الصريح أبداً كما بيَّنه علماء الإسلام.
*التعريف بـ:(الحصانة الشرعية)، وأهميَّة هذا الموضوع:
(/1)
من أهمِّ القضايا العلميَّة في دين الإسلام معرفة حقائق الأشياء وتعريفاتها؛ لتكون الصورة واضحة في الذهن، جليَّة في الفكر (إذ المرء ما لم يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة)كما قال الإمام ابن تيميَّة "الفتاوى10/368".
ومن خلال تأمُّل فكري لاستخراج تعريف لهذا المفهوم:(الحصانة الشرعية) وتبيين المقصود منه، أرى أنَّه: (البناء العقدي المتين من خلال الفهم الدقيق الناضج لمنهاج الله كتاباً وسنَّة، ووقاية الفكر والعقل من كلِّ ما يخلُّ بهما من الآراء الفاسدة، المخالفة لمنهج أهل السنَّة والجماعة في التلقي والاستدلال).
فالحصانة الشرعيَّة مشابهة لجهاز مناعة واقٍ من أن يتسرَّب إليه شيء من الخلل والعطب، فيفسده ويخلُّ به. وهكذا المسلم، فإنَّه محتاج إلى ما يحوط عقيدته ويرعاها حقَّ رعايتها من أن تتلقَّى شيئاً من شُبه أهل الضلال، فيقع في قلبه شيء من الانخداع بها، فيزيغ قلبه - عياذاً بالله من ذلك - فيهلك مع الهالكين.
*تتجلَّى أهميَّة الموضوع - فيما أرى - بأنَّه منذ خروج المرء من بطن أمِّه، ليس في ذهنه رصيد معرفي، ولا خبرة عملية، كما قال الله - تعالى -:(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلَّكم تشكرون) (النحل78) فالمرء المسلم ما دام أنَّه سيبدأ بالتلقي والاتصال مع بني الإنسان، فسيجد اختلافات في الآراء، وتباينات في المناهج، وكلٌّ يدَّعي الحق والصواب، فما موقفه إذن من هذه التضاربات الفكرية ؟وكيف يستطيع أن يميِّز بين الصواب والخطأ ؟هناك خطوات لتحقيق ذلك، منها:
*ضرورة تلقي العلم من منابعه الأصيلة:
(/2)
ليس من شك في أنَّ الإنسان المسلم إذا لم يتلقَّ العلم من منابعه الأصيلة، وروافده الصحيحة، أخذاً من الكتاب والسنة على هدي السلف الصالح، فإنَّه سيخبط خبط عشواء ويتلقَّى العلم من جهات لا يعلم توجُّهاتها العقدية، ولا أصولها الشرعية، ويقع في عدة مزالق يتباين حجم خطئها وضلالها، ولهذا كان علماؤنا السابقون يوصون بتلقي العلم ممَّن صدقوا الله في تعلمهم وتعليمهم، ولاحت قوة حججهم أمام خصومهم، وفي المقابل يحذِّرون طلابهم من أهل الزيغ والهوى، لئلا يقعوا فيما وقع فيه أولئك المبتدعة، فكان الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود - رضي اللَّه عنه - يقول: (لا يزال النَّاس بخير ما أخذوا العلم عن الأكابر، وعن أمنائهم وعلمائهم؛ فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا. قال ابن المبارك - رحمه اللَّه - في تفسير ((الأصاغر)):(يعني أهل البدع) (أخرجه ابن المبارك في الزهد: ص815، و عبدالرزاق في المصنَّف (20446و20483، بسند صحيح).
وهذا الإمام عبدالله بن المبارك - رحمه الله - يوصي طالب العلم قائلاً له:
أيها الطَّالب علماً ائت حمَّادَ بن زَيد
فاكتسب علماً وحِلماً ثمَّ قيِّده بقَيد
ودَعِ الفتنةَ من آثارِ عمرو بن عُبَيد
(ديوان ابن المبارك، للدكتور مجاهد مصطفى: ص45، وانظر البداية والنهاية:10/79).
وممَّن نبَّه على ذلك الإمام الغزالي - رحمه الله - حيث ألمح للمسلم الذي يريد أن يكون ذا عقليَّة واعية بأنَّه لا بد أن يعمل على تحصين عقله من الانحرافات الفكرية، وخصوصاً إن كان في منطقة يكثر بها أهل البدع والهوى، فقال: (فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يُصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق؛ فإنه لو أُلقي إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك، كما أنه لو كان هذا المسلم تاجراً وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا) إحياء علوم الدين للغزالي:(1/29)
(/3)
وحين يفتش المراقبُ ضلال من ضلَّ وحادَ عن طريق الهدى وعلائم الحق، فسيجد أنَّ من أسباب ذلك ضعف الحصانة الشرعية، ممَّا يؤدِّي لولوج المشتبهات في فكره وعقله، وقد نبَّه على ذلك الإمام ابن بطَّة العُكبَري فقال: (اعلموا إخواني أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواماً من السنة والجماعة واضطرَّهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم وحجب نور الحق عن بصيرتهم فوجدت ذلك من وجهين:
أحدهما: البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا ينبغي، ولا يضر العاقلَ جهلُه، ولا ينفع المؤمنَ فهمُه.
والآخر: مجالسة من لا تؤمَن فتنتُه، وتفسد القلوبَ صحبتُه) "الإبانة:1/390".
وقد يتساءل بعض المستشكلين عن علَّة الاهتمام والتَّشبُّث تجاه مصادر التلقي؛ والسبب في ذلك، لئلاَّ تختلط المناهج في الذهن، وتتضارب التصورات، فتكون النتيجة المنطبعة بعد ذلك في العقل الإسلامي منهجاً غوغائياً لا تلزمه ضوابط، ولا تحكمه قيود.
(/4)
فالمطلوب لمن أراد الهداية والتثبيت على سلَّم الشريعة، ليدفع بها الأهواء، ومكائد أهل الضلال، أن يكون معتنياً بحماية عقله، بسياج الشريعة الإسلاميَّة وأصولها، والتي تكوِّن له ثوابتَ عقدية تحميه - بعون الله - من سريان الأفكار المضلِّلَة إلى منهجه، من أهل الأهواء والعصرنة والعلمنة. أمَّا أن يظنَّ العبد بنفسه حين قرأ شيئاً في عقيدة أهل السنة والجماعة أنَّه صار مدركاً لها بالكليَّة، أو مفكِّراً ألمعياً، ثمَّ يطالع كتب أولي الأهواء والبدع، ويشاهد بعض البرامج الدينية أو الفكرية في بعض القنوات الفضائية، بحجَّة الاستنارة وعدم التعصُّب الفكري، أو بغية العثور على فكرة ضالة، فيبدأ مشاهداً ومطالعاً متوجساً من كلام المتحدث، وما أن تمضي عدَّة شهور أو سنوات، حتَّى يدمن ذاك الذي ظنَّ أنَّه قد أحاط علماً بأصول الإسلام، على مشاهدة الفضائيات وملاحقة الصحف والمنتديات الثقافية، فتبدأ الشبهات تقع في ذهنه، لقلَّة علمه، بل قد يأتي بعضهم لأهل العلم في مجالس خاصة أو عامة، يحدثونهم سراً أو علانية، بأنَّ في ذلك البرنامج الفلاني، أو الصحيفة الفلانيَّة، ذكر الكاتب كذا، وأقام الأدلة على حديثه، فهل كلامه صواب ؟ وكيف نرد عليه؟! والحقُّ أنَّ هؤلاء أحسنهم، وإلاَّ فقد ينخدع هؤلاء ببعض أهل الهوى ممَّن أوتوا فصاحة وبياناً بل علماً، فتختلط المعايير لديهم، ويضطربون فكرياً، ثمَّ يلتفتون مرَّة أخرى إلى منهجهم الذي ساروا عليه سنوات فيدَّعون أهمِّية نقضه ونسفه، ومعاودة النظر في كلام علمائه بحجَّة أنَّهم رجال وعلماء السلف رجال؛ لأنَّه لم يقم على الأصول العلمية الصحيحة!! وصدق عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - حين قال: (من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل) (تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة/ص115).
* الحذر من مخالفة منهج أهل السنَّة والجماعة:
(/5)
من يتابع مسيرة سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم - يجدهم يتحاشون الاستماع لأهل البدع والهوى، أو محادثتهم، أو مجالستهم، وفي هذا يقول سفيان الثوري: (من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووُكِل إلى نفسه. وقال كذلك: من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم.
علَّق الإمام الذهبي على مقولة الإمام سفيان الثوري بقوله: أكثر الأئمة على هذا التحذير يرون أن القلوب ضعيفة والشُّبه خطَّافة ) "السير7/261"، وقد أحسن من قال:
لا تستمع إلاَّ لقول صادق يُغنيك عن خَطَل من الأقوالِ
فالأذنُ نافذةُ العلوم وخيرها أذنٌ وعَت ذِكراً تلاهُ التَّالي
بل إننا نجد أنَّ من منهج أهل العلم الراسخين تجاه المدارس الضالَّة؛ التحذير منها، بله محاولة انتزاعها من أيدي أصحابها، لئلاَّ تفسد عقول الناس بتلك الأفكار المضلِّلة، ويذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - شيئاً من هذا قائلاً: (وقد أمر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذُها منهُ أفضلُ من أخذِ عكا - وقد كانت بأيدي الصليبيين - مع أن الآمدي لم يكن في وقته أكثر تبحراً في الفنون الكلامية، والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاماً، وأمثلهم اعتقاداً) "مجموع الفتاوى 18/53"
وقد يقول قائل: أليس ذلك مصادرة للرأي، وحجراً على الأفكار ؟
(/6)
وإجابة على ذلك: إنَّ هذه المصادرةَ لرأي الآخر ليس كما يظنُّه بعض أهل الهوى أو المنهزمين ممَّن ينتسبون إلى الإسلام؛ بسبب الخوف والجبن من الاستماع لأهل البدع والهوى، بل لأنَّه حفظ لعقول المسلمين، والاحتياط لدينهم من سماع كلام أهل الضلال والكفر، استدلالاً بقوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإمَّا ينسينَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)، وقوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها (فلا تقعدوا معهم حتَّى يخوضوا في حديث غيره) "النساء/140".
ومن الأدلَّة على ذلك قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (وإنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة) أخرجه أحمد في مسنده (4/126)والترمذي برقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح، فإنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - حذَّرنا من محدثات الأمور، ودعانا إلى اجتنابها.
ومن الأدلة كذلك ما رواه عمران بن حصين عنه - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال:(من سمع بالدجَّال فلينأ عنه، من سمع بالدجَّال فلينأ عنه، من سمع بالدجَّال فلينأ عنه، فإنَّ الرجل يأتيه وهو يحسب أنَّه مؤمن، (فما يزال به بما معه من الشبه حتَّى يتَّبعه) أخرجه الإمام أحمد في المسند(4/431)بسند صحيح،وجوَّد إسناده الإمام ابن مفلح في الآداب الشرعية(1/220).
(/7)
بل إنَّ المصطفى - عليه الصلاة والسلام - حين أتاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، غضب - عليه الصلاة والسلام - وقال: (أوَ في شكّ يا ابن الخطَّاب ؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقيَّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به. والذي نفسي بيده، لو أنَّ موسى كان حيَّاً ما وسعه إلاَّ أن يتبعني) أخرجه أحمد في مسنده (3/338)، وابن أبي شيبة في مصنَّفه(6/228) بسند حسَّنه الألباني.
كان ذلك منه - عليه الصلاة والسلام - تربية لأصحابه على أن يكون الينبوع الذي يتلقون منه واحداً عذباً نقيَّاً: (يسقى بماء واحد)، ليفارقوا أهل الضلالة ويستقوا المنهج من غيرهم، لأنَّ مفارقتهم منهج لأهل السنة والجماعة، وليست من إنشاءات بعض المتشدِّدين كما يزعمه بعضهم، ويكفينا أنَّه - سبحانه وتعالى - يقول في محكم التنزيل لمن يطلب النظر في غير كتاب بدعوى عدم الحَجر الفكري: (أولم يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم)!!
وأمَّا ما يدَّعيه بعضهم من أولي التوجهات الحديثة العصريَّة: بأنَّ ذلك التحفُّظ من باب الحَجر على الأفكار، والاسترقاق الفكري، والإرهاب الثقافي تجاه الناس، وأنَّه لا بأس بأن يستمع من شاء إلى من يشاء، سواء أكان سنِّيَّ المنهج أو نقيضه، بلا توجيه أو رعاية أو تربية أوعناية؛ بزعم أنَّ الحق أبلج ناصع، ومن خلال نصاعة الحق سيتبين للناس أنَّه حق ويأخذون به، لأنَّ الله يقول: (فأمَّا الزبد فيذهب جُفاء وأمَّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ويقولون: إنَّه ليس من إشكال أن يقلِّب المرء بصره في كلام الناس، ويستمع لجدال المجادلين، ثمَّ يرى من كان كلامه حقاً فيأخذ به.
(/8)
فالجواب عن ذلك: بأنَّ هذا الطرح متولد من العقلية الغالية في تحكيم النصوص، والتي تبالغ في إعطاء العقل ما لا يقدر عليه، ولم يُبْنَ على الأصول الشرعية، وإلَّا فإنَّ هدي رسول الهدى - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصحابة والتابعين ممن بعده يقوم على تحصين الأفكار، وصيانة العقول من الاستماع لكلِّ من هبَّ ودبَّ، وعلى هذا قام منهج أهل السنَّة والجماعة، ورحم الله عمر بن عبد العزيز، حين قال: (سنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعته، وقوَّة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، (ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنُّوا فقد اهتدى، ومن استبصر بها بصر، ومن خالفها واتَّبع غير سبيل المؤمنين ولَّاه الله ما تولى وأصلاه جهنَّم وساءت مصيراً) أخرجه الآجري في الشريعة ص48، والَّلالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة برقم (134) (1/94)، وعبدالغني المقدسي في الاقتصاد في الاعتقاد ص216) وحين جاء رجل للإمام الأوزاعي - رحمه الله - فقال: أنا أجالس أهل السنَّة، وأجالس أهل البدع. قال الأوزاعي: (هذا رجل يريد أن يساوي بين الحقِّ والباطل) أخرجه ابن بطَّة في الإبانة (2/456)، والَّلالكائي (252) في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة.
(/9)
ولنفترض جدلاً أنَّ علماء أهل السنَّة والجماعة فتحوا المجال للنَّاس أجمعين ليطالعوا ما يشاؤون، ويشاهدوا مايريدون، فالظنُّ أنَّه سيخرج كلُّ واحد منهم بمنهج يدَّعي أنَّه الحق الذي لا مرية فيه، وخاصة إذا استصحبنا أنَّ في القلوب ركيزة الهوى، وتزيين السوء باسم المصلحة تارة والحق أخرى ووجهة النظر ثالثة والحرية رابعة، وتكون النتيجة المحصِّلة لنا من هذه الآراء؛ التمذهب بمذهبية الـ(حيص بيص!) في المعتقدات والأفهام، والكل يقول أنا الذي ! دع عنك حبَّ الاستئثار بالرأي لدى البشر، وتعظيمهم لأقوالهم، ومن ثمَّ إخراجهم للكتب والمؤلفات لنصرة رأيهم، والانتصار لفكرتهم (وكم كتاب صنع ليطعن حقَّا) كما قاله الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه: (نقض كتاب الشعر الجاهلي ص4).
والحقيقة أنَّنا إذا نظرنا فيمن يعظِّم الذي يظنُّ أنَّه عقلاني، فسنجدهم قد صاروا إلى أقوال متباينة، وأفكار غريبة، وقلَّ أن نراهم يوافقون الحق والصواب المدَّعى من قِبَلِهم؛ لأنَّ المعيار بلا معيار لا يكون، والعقول تختلف، والآراء تتباين، والأفكار تتضارب، فتتكون لديهم رؤية مبعثرة غير متَّزنة، تسفُّها الرياح العاتية، وتتلاعب بها الأعاصير الجارفة، وقد قيل: (للناس بعدد رؤوسهم آراء !) ولهذا فلم نرَ من كبارهم إلَّا الندم والحسرة على تلك الأيام التي خلت حين كانوا يضربون الأخماس لأسداس في ماهية المنهج الصائب، حتَّى انتهوا بلا نهاية، وقالوا:
ولم نستفِد من بحثِنا طولَ عمرِنا سوى أن جَمعنا فيه قيلَ وقالوا
(/10)
وللَّه درُّ الإمام ابن قتيبة حيث قال عن هؤلاء المتَّبعين للمنهج "الأرأيتي": (وقد كان يجب - مع ما يدَّعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر - ألا يختلفوا كما لا يختلف الحُسَّاب والمسَّاح والمهندسون، لأن آلتهم لا تدلُّ إلاَّ على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذَّاق الأطبَّاء في الماء وفي نبض العروق؛ لأنَّ الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد؛ فما بالهم أكثر الناس اختلافاً، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين) (انظر:تأويل مختلف الحديث/ص63) وصدق الله: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً).
وأمَّا ما ادَّعاه بعضهم من صحَّة الفكرة القائلة: بأن يقلِّب المرء ناظريه بين الأقوال المتضاربة، ويرى الحق الذي يبدو له في بعضها فيختاره، ثم يرى أنَّ هناك شخصاً تَعَقَّبَ ذلك الحق الذي اتَّبعه فجعله باطلاً، ثمَّ أبدى ما لديه من حق، فيأتي المرء ليختار الحق الذي اختاره ذلك الشخص المتعقِّب لكلام من قبله، ثمَّ يأتي شخص ثالث فيبطل القولين ويصوِّب القول الذي اختاره بعناية وتحقيق، فيأتي هذا المرء المسافر بين عقول هؤلاء ليختار قول هذا الرجل، لأنَّه قوي في المناظرة، رابط الجأش في المجادلة، وهكذا....فإنَّ هذا الرأي المطروح ليس صواباً، لأنَّ دين الله لم يأت ليحاكمه العقل البشري، بل ليسمع له ويطيع، ولهذا فإنَّ المنهج العقلي وإنْ صوِّر لأصحابه في البداية بأنَّه منهج المنطقية والعقلانية، هو في الحقيقة منهج الحيرة والضلالة، لأنَّ
هذا المنهج وإن كانت له قيود، فقيوده متفلِّتة، وقواعده متسيِّبة، فينتج من ذلك ثلاثة أمور:
1- إمَّا أن يصاب أصحابه بتبلُّد الإحساس فيختاروا قولاً، يبقون عليه إلى أن يُقْبَضُوا مع تعصُّب مقيت، وهوى متَّبع.
2- وإمَّا أن يصطدموا بما لا طاقة لعقولهم به فيردُّوا الشريعة جملة وتفصيلاً.
(/11)
3- وإمّا أن يصاب أصحابه بالارتحال الفكري، والتجوال بين عقول البشر، ومناهج الفلاسفة أو المفكرين العصريين، فيعانوا من الدُّوار مع القلق الفكري، وتغلب عليهم الحيرة والاضطراب المنهجي - عياذاً بالله من ذلك - وقد ابتلي بعض من سار على هذا المنهج بذلك مثل: الفخر الرازي، والشهرستاني، والجويني، والكرابيسي، والخونجي، وشمس الدين الخسروشاهي، وابن واصل الحموي، والآمدي، وإبراهيم الجعبري، وغيرهم، وإن كان بعض هؤلاء قد منَّ الله عليهم بالرجوع لمنهج أهل السنة والجماعة قبل وفاتهم، ولله الحمد والمنَّة.
وحين جاء رجل للإمام مالك يقال له أبو الجويرية - متَّهم بالإرجاء - فقال له: اسمع منِّي، فقال مالك: احذر أن أشهد عليك. فقال هذا الرجل: والله ما أريد إلَّا الحق، فإن كان صواباً، فقل به، أو فتكلَّم. فقال مالك: فإن غلبتني. فقال الرجل: اِتَّبِعْني فقال مالك: فإن غلبتك، قال:اتَّبعتك. فقال مالك: فإن جاء رجل فكلَّمنا، فغلبنا؟ قال: اتَّبعناه. فقال مالك: يا هذا، (إنَّ الله بعث محمداً - صلَّى الله عليه وسلَّم - بدينٍ واحد، وأراك تتنقل!!) (سير أعلام النبلاء 8/99-106) (الفتوى الحموية الكبرى/ ص277).
ولا يعني ذلك بحال ألاَّ يتطلب المسلم الحقَّ ويبحث عنه، فإنَّ هذا الأمر غير ذاك، والفارق بينهما أن من يريد تتبع الحق في أصول الإسلام وقضاياه الكلية يرجع إلى كتاب الله، وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيستقي منهما الحقَّ والصواب، على طريقة علماء أهل السنَّة والجماعة، ومنهجيَّتهم في الاستدلال.
* حتى لا نقع في الانحرافات:
(/12)
صفة متَّبع الحق أنه يدور مع الأدلة الشرعية حيث تدور،فهمُّه التسليم لكلام الله ورسوله؛ لأنه عابدٌ لله، ولا يكون العبد مسلماً لله إلا إذا ابتعد عن هواه وسلَّم عقله ونفسه لحكم الله وأمره، أمَّا من يريد تتبع الحق لأقوال من عرفوا بالزيغ والهوى، فإنَّه قلَّ أن يصل للمنهج الإسلامي الصحيح، ومن دلائل معرفة هؤلاء أنَّهم يُبعدون النَّجْعَة كثيراً في معرفة الأدلة الشرعية، ولا يتحاكمون إلاَّ إلى عقولهم، ومن ثمَّ يختارون من الشريعة ما يوافق هواهم، بل لو قيل لبعضهم: إنَّ هذا القول خطأ والدليل عليه من كتاب الله كذا وكذا، لضجُّوا وأكثروا وقالوا: أنت رجل مماحك؛ فما أشبههم بقوله تعالى: (وإذا ذُكر الله وحدَه اشمأزَّت قلوبُ الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر الذين من دونه إذا هُم يَستبشرون) نسأل الله العافية والسلامة!
(/13)
ومن هنا يلزم كلَّ متبع لمنهج أهل السنة أن يكونَ فكره مبنيّاً على كتاب الله وسنة رسول الله بالفهم المنضبط على منهج أهل السنة والجماعة، خشية الوقوع في الشبهات ووصولها إلى ذهنه، ومن ثمَّ صعوبة الانفكاك عنها، حيث ترسَّخت في العقل، ولعلَّ هذا يفسِّر لنا ما ذكره الإمام أبو بكر بن العربي عن أبي حامد الغزالي - رحمهما الله - فمن المعلوم أنَّ الإمام الغزالي تنقل في عدة أطوار عقدية ومنهجية من اعتزالية فلسفيَّة، إلى كُلاَّبيَّة، فصوفية، فأشعريَّة، ثمَّ أراد الانفكاك عنها والخروج من لوازمها، لكنَّه لم يستطع أن يتقيأ كلَّ ما انغرس في فكره من تلك العقائد البدعية، فقال عنه أبو بكر بن العربي: (شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثمَّ أراد أن يخرج منهم فما قدر) "درء تعارض العقل والنقل 1/5"، ومثله الإمام أبو الحسن الأشعري فقد كان معتزليّاً، ثم تبنَّى الفكر الأشعري، وبعد هذه التنقلات الفكرية ترك أبو الحسن الأشعري ذلك كلَّه وأقبل على منهج أهل السنَّة والجماعة وألَّف كتابين جليلين فيه هما: (الإبانة عن أصول الديانة) و(مقالات الإسلاميين واختلاف المصلِّين)، ولكنَّه مع ذلك لم يخل من بعض الأخطاء بسبب التكوين العقدي المركَّب في عقله، وممَّن ألمح لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: (لم يستطع التخلُّص من مذهب المعتزلة لأنَّه نشأ عليه مع قلَّة خبرته بمذهب أهل السنَّة وعدم تمكنه من علم الكتاب والسنة) (فتاوى ابن تيميَّة).
عرضت هذين النموذجين لأبيِّن دور البناء والتأصيل للتكوين العقدي في الخريطة الذهنية لدى الفرد المسلم، وأنَّ الانفكاك عن كلِّ ما يثبت بالذهن من الأخطاء العقديَّة قد يكون صعباً، إلاَّ من أراد الله له ذلك وتفلَّت فكره من كلِّ مخالفة شرعيَّة.
* استدراك لابدَّ منه:
(/14)
لا يعني التحذير من القراءة لكتب أهل الزيغ والهوى، أو متابعة آرائهم وأفكارهم بأي حال؛ ألاَّ يُنتَدَب أناس منَّ الله عليهم بالعمق العلمي والإحاطة بمعرفة منهج أهل السنة، ورصانة الدفاع عنه، مع ما آتاهم الله من قوة وحجَّة في الكلام، وجزالة في المعاني والتبيان، بالتصدِّي لأهل البدع والضلالات، وكشف زيف شبههم؛ فإنَّ أهل السنةمحتاجون أشد الحاجة إلى أولي العلم الربانيين المتمكِّنين، وخاصة في هذا الزمان، الذي كثرت فيه الشبهات وتسلط فيه الجهال على منابر الإعلام، وانتشر فيه الرويبضة الذين ينطقون في أمر العامة، فإننَّا بحاجة ماسَّة إلى من منَّ الله عليهم بذلك وتكونت لديهم الحصانة العقدية، لأن يُنتدَبوا لجدال الزائغين، ومناقشة المغرضين، وقد كان في السابق من أهل العلم من ينتدب لذلك إذا رأى الشبهات قد كثرت، بل قد يناظر ويجادل أمام العامة، إذا خشي أن تتسرب الفكرة الضالة إلى عقولهم من أهل الضلال، حماية لهم منهم، ورداً لكيد الضُّلاَّل في نحورهم، كما ناقش الإمام أحمدُ ابنَ أبي دؤاد، وكما جادل الكنانيُّ بِشْرَ المِرِّيسِي، وابنُ تيميةَ علماءَ الأشاعرة، وغيرهم كثير. وكانت هذه الحالة عند العلماء استثنائية، من أصل عدم مناظرة هؤلاء، أو الاستماع إليهم، إلاَّ إن اضطروا إلى ذلك، وخشوا أن تستفحل الفتنة أكثر فأكثر؛ فإنَّ أهل السنَّة استحبُّوا أن ينهض الربَّانيون لمجادلة الضلاَّل.
(/15)
وممَّن نبه على ذلك من علماء الإسلام: الآجرِّي - رحمه الله - بقوله عن أهل الضلالة والبدع: (فإن قال قائل: فإن اضطر في الأمر وقتاً من الأوقات إلى مناظرتهم، وإثبات الحجة عليهم ألا يناظرهم؟ قيل: الاضطرار إنَّما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس، ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل من مضى، في وقت الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بدّاً من الذبِّ عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورةً لا اختياراً، فأثبت الله - عزَّ وجل - الحق مع الإمام أحمد بن حنبل، ومن كان على طريقته، وأذلَّ الله العظيم المعتزلة وفضحهم، وعرفت العامة أنَّ الحقَّ ما كان عليه أحمد بن حنبل ومن تابعه إلى يوم القيامة) (الشريعة للآجرِّي/ص66)، ولهذا فلا يُذْكَر أنه أُفحِمَ أهل السنة في مناقشاتهم لأهل البدع، أو مناظراتهم لهم - ولله الحمد والمنة - لأنَّ الله هاديهم، ومنوِّر طريقهم، وحقَّاً:
إذا تلاقى الفحول في لَجَبٍ فكيفَ حالُ البعُوضِ في الوسطِ
أمَّا من أرادوا جرَّ أهل البدع والهوى لمناقشات لا يحسنون الجدل معهم فيها، بل يلقون في أذهانهم شبهاً تلجلج في عقولهم أيَّاماً حتى يفرجها الله بإزالة تلك الإشكالات من أهل العلم الربانيين، بعد أن يطوف عليهم هؤلاء المغمورون...إنَّ هؤلاء القوم لا يقال لهم إلاَّ: لا تعرضوا أنفسكم للفتنة، فتكونوا للناس فتنة، حين لا يجدون لديكم قوَّة في الحجَّة، وعمقاً في المناظرة، وكم أُتي أهل السنة والجماعة من أمثال هؤلاء !
وقد قيل: (كثيراً ما يكون الباطل أهلاً للهزيمة، ولكنَّه لا يجد من هو أهل للانتصار عليه).
(/16)
وحين كان يتحدَّث الإمام ابن تيميَّة عن مناظرة أهل السنة لأهل البدع والهوى، بيَّن - رحمه الله - أنَّ أهل السنة والجماعة لا يؤيِّدون أن يتصدى لمناظرة أهل البدع من كان قليل العلم، فقال: (وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجَّة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضلُّ، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل عِلجاً قويّاً من عُلوج الكفَّار، فإنَّ ذلك يضرُّه ويضرُّ المسلمين بلا منفعة) "درء تعارض العقل والنقل7/173".
وعلَّة ذلك أنَّه حين النقاش يظهر السنِّي أمام أهل الضلال والهوى بمظهر ضعف، وعدم قوَّة في الاحتجاج والطرح، فيسبِّب ذلك له ولبعض أهل السنَّة حيرة وفتنة في دينهم، وقد تحدَّث ابن تيمية في موضع آخر عن هذه القضيَّة قائلاً: (وكثيراً ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحقِّ والباطل، ولا يقيم الحجَّة التي تدحض باطلهم، ولا يبيِّن حجَّة الله التي أقامها برسله، فيحصل بسبب ذلك فتنة) "مجموع الفتاوى35/19".
* حلُّ إشكال قد يقع في البال:
قد يقول قائل: إنَّنا نعيش في زمن الانفتاح، والقرية الكونية الواحدة؛ التي فرضت نفسها على المجتمعات، وقد يصلح ما أكتبه لبعض المجتمعات المنغلقة على كينونتها الخاصَّة بها، أو أزمنة سابقة، وكثير من الناس يعيش في بلاد يكثر بها أهل الهوى والابتداع، فليس من بدٍّ إلا أن يستمع للأفكار حسنها وسيئها، وقد يكون غير محصَّنٍ فكرياً وعقدياً، كما تزعم أهميَّته، فما قولك؟!
(/17)
فالجواب عن هذا الإيراد: أنَّ هذا الطرح فيه شيء صحيح و فيه باطل، فأمَّا الصحيح فإنَّ هناك مجتمعات لها خصوصيَّتها الفكرية والعقدية، وهناك مجتمعات تكثر فيها المذاهب العقديَّة، والآراء الفكرية المغايرة لمنهج أهل السنَّة والجماعة، ولكن...هل نقف عند هذا الحد، ولا ننتقي ونختار علماء أهل السنَّة الموجودين في كلِّ مكان من الأرض، ممَّا يساعدنا على البناء العقدي المتين ؟
ثمَّ من الذي قال لهؤلاء احضروا لمن تشاؤون، لقلَّة أهل السنَّة والجماعة في أراضيكم ؟
أليس النَّبيُّ - عليه الصلاة والسلام - أخبرنا بأنَّه سيأتي زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر؟! وذلك لأنَّ صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجدون على الخير أعواناً وهؤلاء القابضون على الجمر لا يجدون على الحقِّ أعواناً.
ألم يخبرنا بأنَّه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه حتى نلقى ربنا ؟ وأوصانا بأن نصبر حتَّى نلقاه على الحوض غير مبدلين ولا مغيرين؟ كما قال القائل:
تزولُ الجبالُ الراسياتُ وقلبُه على العَهدِ لا يَلوي ولا يتغيَّرُ
ثمَّ هناك فرق بين أن يجلس إنسان مسلم في مجلس فيتحدَّث متحدثٌ بكلام خاطئ، ويكون جلوس المسلم في ذلك المجلس عَرَضاً لا قصداً، فإنَّ الأعمال بالنيَّات كما أخبرنا المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - والأمور بمقاصدها، وقد رُفِعَ الحرج عن هذا وأمثاله حين حضر هذا المجلس، ولكن ليس له إن علم ضلال قول ذلك المتحدِّث أن يبقى في المجلس ذاك، بل يجب عليه مفارقته، وخاصَّة إن كان قليل العلم، وقد قال أبو قلابة - رحمه الله -: (لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإنِّي لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبِّسوا ماتعرفون) (الإبانة 2/437).
(/18)
إنَّ فرضيَّات الواقع التي يغلب عليها اللغة الانهزاميَّة، والأفكار المضلِّلة، تقتضي أن نكون أشدَّ إصراراً في مفاصلاتنا العقدية، وأصلب عوداً في التلمُّس الجادِّ لوجود أهل السنة المعينين لنا بالإبقاء على استنبات الفطرة التي ولدنا عليها، وأهميَّة معرفة مصادر التلقِّي لنتصورها ونعتقدها مستمسكين بها، ولدينا أهل العلم وحملته الربانيُّون، فلنسألهم ولنستوضح منهم ما أشكل من أصول ديننا.
* حلول وأصول في حماية العقل المسلم من شبهات المغرضين:
وبعد هذه الأطروحة التي عرضت قضيَّة أحسب أنَّها من مهمَّات قضايا الفكر الإسلامي، لابد لسائل أن يقول: وكيف نحصِّن أنفسنا وفكرنا من الداخل، خشية أن يضلَّنا ما هو زائغ عن المنهج القويم، وما الأسس والأصول التي تكوِّن لدينا حصانة شرعيَّة، نستطيع - بإذن الله - بعدها أن نردَّ الغلط إذا أوردت الشبهات، وخصوصاً في ظلِّ ما يمارس الآن من الحرب الإعلاميَّة الغازية للأفكار والعقول المسلمة؟
لعلَّ الجواب يكمن في عدَّة نقاط أرى أنَّها - بإذنه تعالى - تساهم في بناء الحصانة الشرعية للعقليَّة الإسلامية، وهي كالتالي:
(/19)
1- التعلُّق باللَّه - عزَّ وجل - والاستعانة والاستعاذة به، وسؤاله الهداية والثبات والممات على دين الإسلام من غير تبديل ولا تغيير، ولنا في رسول الله أسوة وقدوة، فقد كان يسأل ربَّه الهداية، وكان كثيراًَ ما يسأله الثبات على هذا الدين، وعدم تقلُّب قلبه عن منهج الإسلام، ويستعيذ به من أن يضلَّ أو يُضلَّ، كما كان - عليه السلام - يستعيذ من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فالدعاء الملازم لذلك والانطراح على عتبة العبوديَّة، وملازمة القرع لأبواب السماء بـ:(ربَّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهاب) إذا اجتمعت هذه كلَّها، فلاشكَّ أنَّ رحمته سبحانه سابقة لغضبه وعقابه، ومحال أن يتعلق العبد بربِّه حقَّ التعلُّق، ويعرض عنه الله - سبحانه وبحمده - وهو الكريم الوهاب.
2- الثِّقة بمنهج الله ووعده وحكمه وأوامره، واليقين به ومراقبته، والشعور بالمسؤوليَّة عن حفظ الدين من شبهات المغرضين، وعدم خلطه بالباطل، أو لبسه إياه، ومن ثمَّ الصبر على مكائد المنفِّذين والمسوِّغين للشُّبهات، فإنَّه سبحانه وتعالىيقول: (وإن تصبروا وتتَّقوا لا يضرُّكم كيدهم شيئاً)، وقد قال الإمام سفيان الثوري: (بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين) وممَّا يشهد لذلك قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمَّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة(24).
(/20)
3- تلقِّي العلم عن العلماء الربَّانيين، وإرجاع المسائل المشكلة إليهم ليحلُّوها ويوضِّحوا ما أبهم على صاحبها، فلا يستعجل في قبول فكرةٍ أطلقها من لا يُؤمَن فكرُه، ولا يبقي تلك الشُّبهة في صدره حتَّى تعظم، بل ينبغي عليه أن يضبط نفسه بالرجوع للراسخين من أهل العلم؛ فإن الله - تعالى - يقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون) وذلك لأنَّ هذا العلم دين يدين به العبد لربِّه ويلقاه به إذا مات عليه، ولهذا قال الإمام محمد بن سيرين - رحمه الله -: (إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم) (أخرجه مسلم في مقدِّمة صحيحه1/14)
4- البناء الذاتي بمعرفة مصادر التَّلقي، ومناهج الاستدلال الصحيحة، وملء القلب بنور الوحي من الكتاب والسنَّة، مع ملازمة إجماع أهل السنَّة والجماعة، فإنَّ هذه المصادر عاصمة من قاصمة الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وسبب أكيد لسدِّ باب الشبهات المظلمات، وذلك - بعونه تعالى - مساعدٌ لحماية العقل المسلم من مضلاَّت الفتن.
قال أبو عثمان النيسابوري: (من أمرَّ السُّنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمرَّ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأنَّ الله تعالى يقول: (وإن تطيعوه تهتدوا) مجموع الفتاوى (14/241).
(/21)
ومن ذلك إرجاع المجمل إلى المبيَّن، والمطلق إلى المقيَّد، والمؤوَّل إلى الظاهر، والجمع بين الأدلَّة التي ظاهرها التعارض، بالرجوع لكتب أهل العلم، واستقاء معاني الألفاظ من العلماء الربَّانيين، وكذا بردِّ المتشابه إلى المحكم، وقد روت عائشة -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – قرأ: (هو الذي أنزل إليك الكتاب منه آيات محكمات هنَّ أمُّ الكتاب وأخر متشابهات فأمَّا الذين في قلوبهم زيغ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنَّا به كلٌّ من عند ربِّنا وما يذَّكر إلاَّ أولو الألباب) ثم قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله؛ فاحذروهم) أخرجه البخاري برقم:(7454).
(/22)
5- التعلَُّق بكتاب الله قراءة وفقهاً وتدبُّراً وعملاً، ولو أقبل الخلق على كتاب الله والانتهاج بنهجه، لأجارهم - سبحانه - من الفتن، فالقرآن شفاء لما في الصدور، ومن يعرض عنه فسيصيبه من العذاب بقدر ابتعاده عنه (وألَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً * لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربِّه يسلكه عذاباً صعدا). ورضي الله عن ابن عبَّاس إذ قال: (من قرأ القرآن فاتَّبع ما فيه هداه الله من الضَّلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة الحساب) أخرجه عبد الرزاق في المصنَّف(6033). وصدق الله: (فمن اتَّبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى* ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشة ضنكاً). ويكفي أنَّ آثاراً كثيرة وردت عن السلف بأنَّه من ابتغى الهدى من غير كتاب الله، فإنَّ الله سيضلُّه، كما أخرج ابن أبي شيبة في المصنَّف (12/165) وصحَّحه الألباني في الصحيحة (713) أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: (إنَّ هذا القرآنَ سببٌ طرفُه بيد الله، وطرفُه بأيديكم، فتمسَّكوا به، فإنَّكم لن تضلُّوا ولن تهلكوا بعده أبداً) وأخبر - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلُّوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) أخرجه مالك وأحمد في مسنده.
كتاب الله عزَّ وجلَّ قَولي وماصحَّت به الآثارُ ديني
فدَع ما صَدَّ من هَذْيٍ وخُذها تَكُن منها على عَينِ اليَقينِ
(البيتين السابقين في:نفح الطيب للمقَّري2/127)
6- إصلاح القلب ومجاهدته، ومن حاول ذلك وجدَّ واجتهد في تحصيله، فليبشر بالهداية واليقين، فاللَّه - تعالى - يقول: (والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا وإنَّ الله لمع المحسنين).
7- معرفة مقاصد الشريعة، ومرامي الدين الإسلامي، لأنَّها تمنح المسلم قوَّة منهجيَّة كبيرة، ولقاحاً ضدَّ الانحرافات.
(/23)
8- تكثيف البرامج التوجيهيَّة، وأخصُّ بالذكر وسائل الإعلام بشتَّى أصنافها، ومحاولة زرع الثقة في قلوب المسلمين بالاعتزاز بدينهم وعقيدتهم، وتمكين قواعد الإسلام في قلوبهم، والرد على ما يضادها، وحتماً سيولِّد ذلك قناعة بأولويَّة الأصول الإسلاميَّة في قلوب المسلمين، وبناء الرسوخ العقدي في قلوبهم، وذاك التحصين الذي نريد.
9- إنشاء مراكز الأبحاث والدراسات المعنيَّة برصد الانحرافات الفكريَّة، والتعقيب عليها بتفنيد الشُّبه، والجواب عن الشكوك و الإثارات التي تخرج من بعض المارقين من قيم الإسلام ومبادئه، والجهاد الفكري ضدَّها، من منطلق قوله تعالى: (وجاهدهم به جهاداً كبيرا)، وتفعيلُ هذه المراكز بقوَّة البحوث، وضخِّ المال الداعم لها، وتوظيف الباحثين المتمكِّنين فيها، وإعطاؤها قدراً من الشهرة والانفتاح على الوسائل الإعلاميَّة.
(/24)
10- فسح المجال لأهل السنة للظهور في وسائل الإعلام المختلفة، وعرض رأيهم تجاه الآراء الأخرى، وبخاصَّة من الأقوياء المتمكِّنين منهم، وإنَّ ممَّا يؤسف له، أن تجد بعضاً من وسائل الإعلام، تستضيف رجلاً بأفكار منحرفة، وتقابله بآخر من المنتسبين لمنهج أهل السنَّة لا يكون مستواه في الطرح الفكري بتلك القوَّة اللاَّزمة،، ممَّا يؤثر سلباً تجاه الناظرين لتلك المحطَّات الإعلاميَّة لطرح هذا الرجل السُّنِّي، كما أنَّه من اللازم حقيقة لبعض أهل العلم ألا ينأى بنفسه عن تلك المواجهات بل يغلِّب جانب المصلحة العظمى والكبرى في نصرة أهل السنَّة وقضاياهم، على عدم الخروج بسبب بعض السلبيات أو المفاسد الصغرى، مع الإدراك والمعرفة بأنَّ كثيراً من المهيمنين على الوسائل الإعلاميَّة يأتوننا بمفكرين ومنتسبين للعلم، ليفصِّلوا لنا إسلاماً على المزاج الغربي، أو ما يسمُّونه بـ(الإسلام الليبرالي)! وما الدعوات السيئة التي تخرج منهم أو من بعض أذنابهم بما يسمى بـ (تطوير الخطاب الديني) إلاَّ ليصدوا المسلمين عن تمسكهم بدينهم الحق، وليستبدلوا به الانهزامية والتراخي، والذي لن ينصر حقاً ولن يكسر باطلاً، بل مقصوده الأساس تحريف المفاهيم لدى المسلمين، وتحريف المفاهيم أشدُّ خطراً من الهزيمة العسكرية، ومن هنا كانت مخطَّطات أعداء الإسلام (لأنَّ هزيمة الأمَّة في أفكارها تجرِّدها من الحصانة وتتركها فريسة لأي مرض أو وباء فيسهل بعد ذلك احتواؤها وتفكيك معتقديها)كما يقول الأستاذ المفكِّر: محمد قطب - حفظه الله - في واقعنا المعاصر:ص356).
(/25)
11- ملازمة الجلوس مع الصالحين، والمنتمين لمنهج أهل السنَّة، وقد نهانا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن صحبة ضعاف الإيمان، وأمرنا بصحبة المؤمنين فقال: (لا تصاحب إلاَّ مؤمناً ) أخرجه الترمذي (4/600) برقم (2395)، وأحمد في مسنده (3/38) و(4/143)، وصحَّحه الحاكم في المستدرك (4/143)، وابن حبَّان في صحيحه (2/314)، وحسَّنه الترمذي و ابن مفلح في الآداب الشرعيَّة،وكذا الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم: (7341).
فينبغي الحذر من الجلوس إلى أهل الزيغ والهوى والالتفات إليهم، وخاصَّة إن كانت الخلفيَّة لذاك الجالس مهلهلة في الجانب العقدي، وقد كان أهل السنَّة يوصون تلاميذهم بمجالسة الأخيار والصالحين، والإعراض عن أهل الزيغ والفسق والهوى، ورحم الله الإمام أبا الحسن البربهاري حين قال: (وعليك بالآثار، وأهل الآثار، وإياهم فاسأل، ومعهم فاجلس، ومنهم فاقتبس) (شرح السنة للبربهاري/ص102).
ويكفي أنَّ من فضائل ذلك أنَّ أصحاب الخير يدلُّون رفقاءهم على سبل الهدى، ولهذا فحين كان ابن القيم يورد على شيخ الإسلام ابن تيميَّة بعض كلام أهل الهوى إيراداً بعد إيراد، أوصاه ابن تيميَّة قائلاً: (لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السِّفَِنْجَة، فيتشرَّبَها، فلا ينضحَ إلاَّ بها، ولكن اجعله كالزجاجة المُصمَتَة تمُرُّ الشبهات بظاهرها، ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلاَّ فإذا أَشْرَبْت قلبك كلَّ شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات أو كما قال.) - ثمَّ قال ابن القيم -: فما أعلم أني انتفعت بوصيَّة في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك) مفتاح دار السعادة (1/443).
(/26)
12- الدراسة الواعية والناقدة للأفكار والملل والنحل المغايرة لمنهج أهل السنَّة، مع الحذر من أهلها، وتمكين العقلية الإسلاميَّة من أدوات الفهم والنظر والمعرفة لرصد الانحرافات الفكرية، ومعالجتها على ضوء الشريعة، وممَّا يبيِّن أهميَّة ذلك أنَّه تعالى فصَّل لنا وسائل وأساليب وحجج المجرمين، وردَّ عليها داحضاً لها، فمعرفة وفقه المداخل التي يدخل بها أهل الزيغ والهوى لإقناع من يريدون ضمَّه إليهم، أصلٌ نبَّه عليه تعالى فقال: (وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)، ولهذا يقول حذيفة بن اليمان: (كان الناس يسألون رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني) أخرجه البخاري في صحيحه برقم: (7084)، ومسلم برقم: (1847). فمعرفة الشرِّ وأهله منهج أساس لأهل السنة والجماعة وكشف خُدَعه، كما يقول قائلهم:
عرفتُ الشَّرَّ لا للشَّرِّ لكن لتَوَقِّيهِ ومَن لا يَعرفُ الخيرَ منَ الشَّرِّ يقَعْ فيهِ
(/27)
13- إذا شعر المرء أو غلب على ظنِّه بأنَّه قد يُفتن في دينه؛ فلا ينبغي له قراءة كتب أهل الهوى والزيغ، ولو قصد بذلك الردَّ عليهم، ومناقشة شبههم، لأنَّ درء المفاسد عن هذا المرء مقدَّمة على جلب المصالح في الذبِّ عن هذا الدين، بل ينأى المسلم بنفسه عن الشبهات، ولا يجعلها متهافتة على قلبه، ويجعل نفسه مطمئنَّة إلى الاستيقان بعظمة هذا الدِّين، وثبات أصوله، فيخلِّي قلبه ونفسه من متابعة الشبهات، ولا يجعلها لاقطة لأي تشكيك في دين الإسلام، ومن تأمَّل قوله تعالى: (فلمَّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم )، وقوله: (ولكنَّكم فتنتم أنفسكم وتربَّصتم وارتبتم) علم أنَّ بعض النفوس تتطايرُ على منافذ الشبهات والضلالات - عياذاً باللَّه - وحين بلغ عمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً يقال له: صبيغ بن عسْل قدم المدينة وكان يسأل عن متشابه القرآن، بعث إليه عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه وجلس قال: من أنت ؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. قال عمر: وأنا عبد الله عمر، وأومأ عليه، فجعل يضربه بتلك العراجين؛ فما زال يضربه حتى شجَّه، وجعل الدم يسيل عن وجهه، قال: حسبُك يا أمير المؤمنين ! فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي» أخرجه الآجرِّي في الشريعة/ص75، واللالكائي بسنده في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4 / 703)، وقد صحَّح ابن حجر إحدى روايات هذا الأثر في الإصابة (5/169) كما ذكره محقِّق كتاب اللالكائي.
(/28)
14- تربية للنشء بما يرضي الله، والتحاور معه بتبيين فساد شبهات أهل الزيغ والهوى، مع قوَّة الإقناع، وأدب الحوار، فالتنشئة الصحيحة على التحصين العقدي هي أول عمليَّة في التربية؛ بتربيتهم على العقيدة الصحيحة، وحماية ذواتهم من العبث الفكري، وبناء الشخصية الإسلاميَّة التي لا تؤثِّر فيها تيَّارات التشكيك، وإرسالهم إلى المربِّين الثقات لتربيتهم على أصول ديننا، وقد قال أيوب السختياني: (إنَّ من سعادة الحَدَث والأعجمي، أن يوفِّقهما الله لعالم من أهل السنَّة) شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة للالكائي (1/60) ليكون أهل التربية معينين لهم على تقوية عقيدتهم، ودرء عبث غزاة الأفكار والعقول عنها، مع التحذير الملازم لهم بخطر الأخذ عن غير أهل السنَّة، وإن استطعنا منعهم من ذلك فهو الأحسن، إلاَّ أنَّ المنع لابد أن يكون بإقناع لهم، وقد يكون منعهم متعذراً في هذا الزَّمن، لأنَّهم قد يمنعوا فتأتيهم ردَّة فعل تجعلهم يصرُّون على ما سيطالعونه أو يسمعونه، ولكن الأسلوب التربوي يرجِّح أن يناقش الأب أو المربِّي ذلك الشاب ويبيِّن له أوجه الخطأ التي وقع بها أهل الضلال، فلا منع مطلق، ولا إباحة مطلقة، بل إباحة وفق ضوابط وتحذير ودعم تربوي.
وقد يقول قائل: إنَّ منهج جمع من السلف الصالح منع الناس من سماع البدع والشبهات؛ وحقّاً فإنَّ ذلك الأفضل ولا شك، ولكنَّ السلف الصالح في ذاك الزمن كانت قاعدته هي الإسلام وقيمه ومبادئه، وكان الأمر إليهم وبيدهم، أمَّا الآن ليس لنا من قوَّة الإسلام ما كان، وحقيقة فإنَّ النَّاس في هذا الزمن للفتنة أقرب منهم للإسلام، وتربيتهم الآن تكون بقوَّة الكلمة الحقَّة التي تصنع المنهج، وتقنع المخاطب...
(/29)
إنَّها حكمة في الأمور وتربية تستدعي التَّأمل والنظر في المآلات (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) فمن الضروري إذاً أن نبني جيلاً محصَّناً - بإذن الله - من لقاحات الشبهات، وطُعمِ الشكوك، ليكونوا على قوَّة في دينهم تجاه الهجمات الشرسة التي يواجهها أهل الإسلام من أعدائه.
ولعلِّي في هذا المقام أذكر قصَّة حدَّثتني بها إحدى القريبات الداعيات، توضح كيف أنَّ العامل الثقافي له دوره الرئيس في تشكيل هويَّة النشء، فقد كانت هذه القريبة مدرسة للمواد الشرعيَّة، وفي أحد الأيَّام دخلت على أحد صفوف المرحلة الابتدائيَّة الأولى لتدرِّس الطلاب كتاب التوحيد، وحين بدأت بشرح عقيدة المسلمين بأنَّ الله عالٍ على عرشه، انتفض أحد الطلاَّب وقال: كلا يا أستاذة، فلا يجوز لنا أن نقول: إنَّ الله فوق السماء عالٍ على عرشه، بل هو في كلِّ مكان، ومن قال بأنَّ الله فوق السماء، فقد كفر ! فأجابته المعلِّمة قائلة له: لا يجوز أن تقول ذلك؛ لأنَّ اعتقاد المسلمين: أنَّ الله عال على عرشه وهو - جلَّ وتعالى - فوق خلقه، ومن خالف هذه العقيدة فإنَّه كافر، وإياك أن تقول هذا الكلام مرَّة أخرى، فأجابها ذلك الطالب قائلاً: كلا سأقول ذلك، لأنَّ هذه عقيدتي وهكذا ربَّاني والدي وهو شيخ، وأنا مقتنع بكلامه، وبقيت هذه المعلمة تجادل ذلك الطالب، وفي اليوم التالي جاءت المعلمة للفصل، وحين قالت للطلاب: أخرجوا كتاب التوحيد، رفض بعض الطلاَّب وقالوا: يا أستاذة، كيف تدرِّسيننا هذا الكتاب وفيه كفر، ووالد زميلنا شيخ وهو يقولُ بأنَّ كتابنا فيه كفر، وفي أثناء محاورة الطلاب لمعلمتهم بذلك الشأن، كان الطالب يشير لأصدقائه بإشارات النصر، ويوافقهم على حديثهم، ويؤيدهم على ألاَّ يخرجوا الكتاب من الدرج!
(/30)
ما أحببت التنبيه عليه: أنَّ هذا الطالب تبيَّن أنَّه من فرقة الأحباش الضَّالَّة، التي جمعت من الكفر والضلال الشيء الكثير، ولو تأمَّلنا كيف أنَّ أهل البدع يدرِّسون أبناءهم العقائد الضَّالة المنحرفة، ويحصِّنونهم من أي عقيدة واردة عليهم، بل يدعونهم لمناقشة من يخالفهم، فضلاً عن التحذير منهم ومن كتبهم، ويعلمون أبناءهم حقَّ الرد والجرأة في الدعوة لملَّتهم ونحلتهم؛ لرأينا من ذلك شيئاً عجباً، فأين أهل السنَّة من دعوة أبنائهم إلى مثل ذلك؟
وأين هم من ترسيخ العقيدة الصافية الصحيحة في عقول أبنائهم، وتعليمهم كيف يثبتون عليها ويناضلون عنها؟
إنَّ من المهمات التي يجدر التنبيه عليها، ما للوالدين من كبير الأثر على تنشئة الولد تنشئة إسلاميَّة خالصة من كدر الشبهات والشهوات قدر المستطاع، وتعميق الإسلام وأسسه العقدية في أنفسهم، ووصيَّتهم بالثبات عليه، وممَّا يستدلُّ به لذلك ما قاله تعالى عن الأنبياء والمرسلين حين كانوا يوصون أبناءهم بالثبات على الإسلام، ومن ذلك: (ووصَّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيَّ إنَّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنَّ إلاَّ وأنتم مسلمون) (البقرة/132). وكل مولود يولد على فطرة الإسلام، فإن كان الوالدان مسلمين حصَّنوه بترسيخ الإسلام، وإن كانا كافرين فإنَّه لابدَّ أن يكون لهما دور كبير في إفساد فطرة ذلك المولود، وقد أخبرنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بذلك فقال: (كلُّ مولود يولد على الفطرة، وإنَّما أبواه يهوِّدانه أو يمجِّسانه، أو ينصرانه) أخرجه البخاري ومسلم.
(/31)
ومن جميل الكلام عن طريقة ترسيخ الوجود العقدي في النشء؛ ما قاله الإمام الغزالي: (وليس الطريق في تقويته وإثباته أن يعلم صنعة الجدل والكلام، بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره، وقراءة الحديث ومعانيه، ويشتغل بوظائف العبادات، فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخاً بما يقرع سمعه من أدلَّة القرآن وحججه، وبما يَرِدُ عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها، وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها) (إحياء علوم الدين1/94-95)[1]
وختاماً: ممَّا يحسن التنبيه عليه: أنَّ المستمسك بهذا المنهج يجب أن يكون قوياً في طرحه لدى الناس بتعامل لطيف، مبيناً له بلا عنف، عارفاً للحق، راحماً للخلق، يريد لهم الهداية، بلا جباية أو وصاية، فالحق أبلج، والباطل لجج، وماذا بعد الحقِّ إلَّا الضلال!
نسأله تعالى أن يمنَّ علينا بهدايته، وأن يثبتنا على دينه، وأن يحفظنا من مضلاَّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وعياذاً بالله أن نكون ممَّن قال فيهم ربُّهم: (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) المائدة (41) والله المستعان...
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــ
[1] كتاب ( إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي - رحمه الله - مع ما فيه من خير كثير، لم يخلُ من أخطاء عقدية وسلوكية، ولذا اهتمَّ كثير من العلماء بتهذيبه للاستفادة مما فيه من خير، ومن أحسن كختصراته: (مختصر منهاج القاصدين) للإمام ابن قدامة المقدسي، و(موعظة المؤمنين) للشيخ جمال الدين القاسمي - رحمهم الله جميعاً، وصدر كتاب للشيخ عبدالرحمن دمشقية يناقش فيه بعض الأخطاء التي وقع بها الغزالي في إحياء علوم الدين - فلينتبه لذلك -.
(/32)
العنوان: الحصانة المنهجية والمعرفية لصحيح البخاري
رقم المقالة: 1863
صاحب المقالة: د. محمد بنيعيش
-----------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
تمهيد
كثيرةٌ هي مظاهرُ التطاولِ على الحديث النبوي عند بعضِ المشرقيين أو المغربيين؛ من حيث النيل من روايته أو تحريف معاني نصه، سواء في عصر بَرَزَ فيه ما يُعرف بالشعوبية وألوان الزندقة أو في عصرنا هذا؛ الذي يتقمَّص كثيرٌ من أقزام مثقفيه العلمانيةَ، ويدَّعون الحريةَ الفكرية وحقوقَ الإنسان والتفلسفَ القاصر الذي يؤدي بالضرورة إلى زندقة مقصودة أو غير مقصودة.
فقد كثر الطعنُ في الأحاديث الصحاح التي أفرغ العلماءُ فيها جهدَهم عبر التاريخ جرحًا وتعديلا وشرحًا وتفسيرًا وتمحيصًا وتحقيقًا وضبطًا وعدالة، ولم يُبقوا لمن يريد الطعنَ في أصولها مدخلاً، كمن تتوقُ أنفسُهم للبروز بإظهار سوءاتهم للعالم على نمط ما يبرزُها متطرفو الشهوات في عصرنا عبر الإنترنت أو القنوات الفضائحية!..
ولكي يكون نقاشُنا وموقفُنا علميًا موضوعيًا وغيرَ واقف مع الأشخاص أو محدد لها، لأن مسألة الطعن في الأحاديث النبوية الصحيحة -وخاصة صحيح البخاري- ليست من طرح فرد أو نكرة، وإنما هي توجه فكري وعقدي مقصود ومرصود منذ عدة سنوات، بل منذ عدة قرون! وحتى تعم الفائدةُ ونطرح القضيةَ على أصولها الثابتة وبتلخيص علمي ومنهجي ليستفيد الجميع، أرى أن أقسم هذا الموضوع باختصار شديد إلى العناصر التالية:
أولا: صحيح البخاري على محك المنهج التاريخي:
إن المنهج التاريخي الاستردادي يتضمَّن نقدَ النص من الخارج والداخل.
(/1)
فالنقدُ الخارجي للنص يقتضي البحث في الطرق التي حصل بها تخريج الحديث على مستوى المعاصرة والمباشرة والمشافهة والمناولة، وبالجملة على مستوى اتصال السند الذي يعني أن الخبر حقيقي وواقعي، مرصود رصدًا موضوعيًا من خلال تسلسل الرواية وعدالة الرواة وضبطهم، وما إلى ذلك مما يعد من أهم خصوصيات منهج المحدثين ودقته، وهو المنهج الذي لم يَعرف العالمُ له مثيلاً عبر التاريخ في استخلاص النصوص الصحيحة من النصوص المدسوسة والمختلقة، والحكم على قضاياها بالواقعية والحدوث الفعلي.
1) فمنهجُ المحدثين -وعلى رأسهم محمدُ بنُ إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى- قد اعترف به المسلمُ والكافر والمشرقي والمستشرق والمغربي والغربي على حد سواء، بل قد كان الملهمَ لعلماء التاريخ المحدَثين والمعاصرين لأن يحددوا عناصر منهجهم في نقد النصوص التاريخية والحكم عليها بالواقعية أو الطوباوية والاختلاق..
خاصة وأن البخاري -رحمه الله تعالى- لم يكن مؤلفًا ولا مختلقًا أو متفلسفًا، وإنما كان راويًا ومخرجًا، ومن ثم شهد له العالم بالحصانة المنهجية في ضبط الحديث الصحيح، ونال رتبة الإمامة وإمارة المؤمنين في الحديث،كما يذكر ابنُ خلدون -المؤرخ الموضوعي- في مقدمته:
"وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمامُ المحدثين في عصره، فخرّج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وكرَّر الأحاديث يسوقُها في كل باب بمعنى ذلك الذي تضمنه الحديثُ فتكررت لذلك أحاديثه..." [المقدمة - المكتبة العصرية - ط1425هـ-2004م ص413].
من هنا فقد كان منهجه يستعصي فهمُه على كثير من العلماء والأذكياء، فما بالك بالأغبياء والسفهاء من المتطفلين على أرفع العلوم وأرقاها، وفي هذا يقول ابن خلدون أيضا:
(/2)
"فأما البخاري -وهو أعلاها رتبة- فاستصعب الناس شرحه، واستغلقوا منحاه من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق، ومعرفة أحوالهم واختلاف الناس فيهم، ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه؛ لأنه يترجم الترجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق، ثم يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب، وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرر الحديثُ في أبواب كثيرة بحسب معانيه واختلافها" [ص414].
ثم يمضي ملخصًا هذا المنهج ونتائجه قائلا: "واعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبُها لهذا العهد؛ بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها، ولهذا كان الأئمةُ في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها، بحيث لو رُوي حديثٌ بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه، ولقد وقع مثلُ هذا للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد وقصد المحدثون امتحانَه فسألوه عن أحاديث قلبوا أسانيدها فقال: لا أعرف هذه ولكن حدثني فلان، ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح، وردَّ كل متن إلى سنده، وأقروا له بالإمامة" [ص415].
ويقول أبو الأزهر: "كان بسمرقند أربع مئة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين فما تعلقوا منه بساقطة لا في الإسناد ولا في المتن".
يقول أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام) معلقا :"وقد رزق البخاري خصلتين بارزتين مكنتاه من أن قرب من غرضه:
أ- حافظة قوية لاقطة وخاصة فيما يتعلق بالحديث.. وكان يستعين على حفظه بالتقييد وكثرة الفكر، فقد رووا عنه أنه كان يقول: "ما تركتُ حديثًا في البصرة إلا كتبته".. وذكر عنه أنه كان يقوم في الليل مرارًا يأخذ القداحة فيوري نارًا ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها ثم يضع رأسه!.
(/3)
ب- مهارته في تعريف الرجال ونقدهم، وفي ذلك وضع كتابه "التاريخ" لتمييز الرجال، ورووا عنه أنه قال: "قَلَّ اسمٌ في التاريخ إلا وله عندي قصة" [ضحى الإسلام - دار الكتب العلمية ط1ج3ص90].
كما أنه إن اعترض بعضُ المحدثين على جملة من أحاديثه لا تتجاوز المئتين فذلك من باب التزامه بالشروط المنهجية التي اشترطها أو لم يلتزم؛ وليس طعنًا في صحة الأحاديث؛ لأنها قد وجدت لها طرق شتى لتخريجها وتصحيحها، ولم يعد حولها أي التباس فيما يذكره جهابذة المحدثين، إذ سلموا بقوة منهج البخاري وأسبقية الجامع الصحيح في باب صحة الحديث كما يصنفه ابنُ الصلاح في المقدمة وغيره كثير.
2) هذه الامتحانات وهذه الشواهد مذكورة ومشهورة في جل كتب التاريخ ومناهج المحدثين، ومن ثم فلم يكن البخاريُّ يعمل في الظلام أو يكتب في الخفاء حتى يتهم صحيحُه بوقوع الدس فيه؛ لأن هذه سخافة وبلادة ما بعدها من بلادة.
خاصة إذا علمنا أن علم الحديث مما تعم به البلوى عند المسلمين؛ لأنه أصل التشريع لديهم، ومن ثم فكان ما يكتب في الحديث يطلع عليه العلماءُ من المشرق والمغرب في حينه.
كما أن الدس لو طال صحيحَ البخاري فسرعان ما سينكشف؛ لأن المستنسخين للنص الأصلي كثيرون، ولهذا فعند المقابلة يتبينُ الاختلافُ بين النسخ؛ ولكن الأمر غير ذلك، إذ صحيح البخاري موزع عبر العالم ومنذ قرون ولم يحدث أن سربت نسخة مدسوسة تخالف ما عليه النسخ المتداولة عند المحدثين والعلماء، فلعل مدعي الدس على البخاري يكون مدسوسًا على وطنه وأمته وليس بأصيل فلينظر في حاله قبل فوات الأوان.
إذن فالدس موجود في العقل الفاسد لزاعمه، وليس موجودًا حقيقة، وهو بهذا يساير مزاعم الزنادقة من الشيعة الإسماعيلية الباطنية والرافضة المتطرفة الذين يقولون بأن القرآن قد بُدِّل، ويكفي هذا ضربًا من الزندقة والمروق من الدين، الذي سبق أن بينا نموذجه عند متفلسفة عصرنا في كتابنا "البطالة الفكرية في مجتمعنا".
(/4)
3) من هنا فلم يكن البخاريُّ مجردَ راوٍ شخصي أو مؤلف، وإنما كان عملُه مبنيًا على قواعد موضوعية وعلمية، ابتداء من الضابط النفسي والكمال الجسدي، إلى الضابط العقدي الأخلاقي الذي لبه الصدقُ والإخلاص، ومن ثم التخصص في الشهادة التي لا تتم إلا بمبدأ العدالة المبنية عليها الأحكام والأنساب والمواريث وما إلى ذلك من العقود.
ولهذا فمن شك أو طعن -تفسيقًا وتعريضًا بسوء القصد- في روايات البخاري كرواية وإثبات، فالأولى به أن يطعن أو يشكك في نَسَبه إلى أبيه ما دام الإنكارُ يكون من أجل الإنكار، والهوى هو ديدنه.
فلا ينبغي للبعض -ممن يسلك هذا التطرفَ- أن يحكم على البخاري وغيره من كبار المحدثين؛ لأنه قد يقال له: إن أنت أنكرت روايةَ البخاري في صحيحه، فأنت لقيط أو دعيّ بهذا المقياس، مع أن أباك وأمك قد يكونان معروفين، وثابت زواجُهما بشهادة العدلين أو بينة السماع!!!
هذا وإن كثيرًا ممن يطعنون في رواية البخاري -مع أن جل الأحاديث التي خرّجها موجودة في صحيح مسلم وباقي كتب السنن- يكونون إما من الشيعة المتطرفة والرافضة، وإما من الزنادقة القدامى أو الجدد، ربائب الباطنية الإسماعيلية وفراخها، وكذلك قد يكونون من المتفلسفة المعاصرين قطاع الأصول والأنساب، وأيضا المستشرقين اليهود، وعلى رأسهم جولدتسيهر.
ولهذا فحينما يأتي بعض الأغبياء والسخفاء في عصرنا لكي يرددوا تلك الزندقات على شكل ببغائي فإنهم يقعون على أم رأسهم؛ لأنهم منطقيًا يعرضون نسبهم وأصلهم للتشكيك والإنكار؛ إذ لم يقنعهم أي منهج أو طريق في الرواية وأوجهها الموضوعية عند الإثبات.
4) فإذا كان الطعنُ في رواية المحدث المتخصص قد يؤدي لزومًا إلى هذه النتيجة السيئة التي تعود على صاحبها سلبًا بالتشكيك في أصله وجذوره، فإن الطاعن في الصحابي يكون حاله أسوأ وألأم، بل أكثر عرضة للاتهام بالزندقة والكفر والإنكار.
(/5)
وذلك لأن الصحابي هو الواسطة المباشرة بيننا وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ثمرة مدرسته في الإيمان والعدالة والصدق والتثبت.
فالصحابي قد يعد صحابيًا ولو جالس النبي -صلى الله عليه وسلم- ساعة وصدق به؛ لأنه يكون قد نظر إلى وجهه الكريم واستضاء بنوره السني، فاغترف منه ما لا يمكن إدراكُه بالعقول والأفهام ولو عبر السنين والقرون، وذلك مصداقا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوا لي أصحابي؛ فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبًا فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، رواه البخاري ومسلم في فضائل الصحابة.
وعن هذا التفاضل للزمن والتاريخ والفضل يقول ابن حزم الأندلسي: "وأما الزمان فكَمَنْ عَمِلَ في صدر الإسلام أو في عام المجاعة أو في وقت نازلة بالمسلمين، وعَمِلَ غيرُه بعد قوة الإسلام وفي زمن رخاء وأمن؛ لأن الكلمة في أول الإسلام والتمرة والصبر حينئذ وركعة في ذلك الوقت تعدل اجتهاد الأزمان الطوال وجهادها وبذل الأموال الجسام بعد ذلك" [ابن حزم - الفصل في الملل والأهواء والنحل - دار الكتب العلمية بيروت ج3ص35].
ثم يمضي قائلا: "وأما الإضافة فركعة من نبي، أو ركعة مع نبي، أو صدقة أو ذكر معه، وسائر أعمال البر منه أو معه، فقليلُ ذلك معه أفضلُ من كثير الأعمال بعده، ويبين ذلك ما قد ذكرنا آنفًا من قول الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10]".
وإخباره عليه السلام أن أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ نصف مُدّ من أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فبهذا فضل الصحابة -رضي الله عنهم- من جاء بعدهم".
عند هذا نسأل: أبو هريرة أكان صحابيا أم لا؟ فلا بد من الجواب بنعم! لوجود الدلائل التاريخية المتواترة والثابتة عنه.
إذن فالطعنُ فيه مخالفة لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وطعن في رمز العدالة والثقة، وهذه وقاحة لا تليق بمسلم أو مؤمن.
(/6)
ولهذا فحينما يطعن في رواية الصحابي الجليل أبي هريرة بصفة خاصة، من دعوى أنه لم يصاحب النبي سوى واحد وعشرين شهرًا، فذلك يكون هو لب السخافة والغباء والتعبير عن الانحطاط الفكري؛ حينما تقاس النتائجُ بطول المدة وبالكم من العمل وليس الكيف! لأن هؤلاء يحسبون الرواية بالزمن، إذ البليدُ لا يوازن بالذكي، وزمن الصحابي لا يقارن بزمن الغبي، وإلا فلم يعد للمقدرات والاستعدادات أي معنى في علم النفس ومقاييس الذكاء!.
بحيث إن حفظ خمسين ألف حديث لا يتطلب بالضرورة قرنًا حتى يتم المراد، كما أنها بالنسبة للصحابي لم تكن تمثل جهدًا فكريا من تأليف وتمحيص وتحقيق، وإنما هي حفظ واستظهار لا غير؛ وهذا من أيسر الأعمال الذهنية، وخاصة لدى ذوي المواهب والصفاء الذهني في الحفظ.
فأبو هريرة قد كانت له حافظة لاقطة لا تنسى ما تراه أو تسمعه، وهذه كانت من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- في حقه وفضله عليه، وذلك حينما طلب منه بسط ردائه، لترسيخ الحفظ والاستظهار لديه.
إضافة إلى هذا فقد كان من أهل الصُّفَّة، وهؤلاء قد كانوا متفرغين كليًا للعلم والعبادة، ومن ثم كانوا من أبرز الرواة بين الصحابة الآخرين الكبار، وكذلك قد شهد رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة بسبقه وحرصه على رواية الحديث عنه، فكان يُمده بكل ما هو ضروري في الدين ليبلغه لمن لم يشهده عنده؛ كما أورد البخاري في صحيحه "باب الحرص على الحديث" عن أبي هريرة أنه قال: قلت يا رسول الله من أسعدُ الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه" [صحيح البخاري - كتاب العلم].
فصفة الحرص طبيعيًا قد تؤدي دائما إلى كثرة الجمع والتخزين، شأن الحريص على جمع المال والاجتهاد في اكتشاف طرقه.
(/7)
5) هذه المبادئ قد تؤسس للتخصص في رواية الحديث سواء لدى الرجال أو النساء كما هو شأن السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- وذلك لأنها كانت أكثرَ نساء النبي ملازمة له ومن أفقههن، ومن ثم كان صغرُ سنها في زواجها به صلى الله عليه وسلم إيذانًا بتحقيق هذه الغاية، ألا وهي تمام التَّذكار ودقته، وطول أمده والحرص على تحصيل المعارف؛ وخاصة في سن التاسعة من العمر، بحيث ستكون أكثر نساء النبي عشرة له وستبقى بعده مدة طويلة كي يتسنى لها نشرُ أحاديثه وإفادة السائلين عن قضايا الطهارة وشؤون المنزل والأسرة والعلاقة بين الزوجين.
هذه الروايات كانت تدخل من باب بيان أحكام الشرع في تلك العلاقة، وليس نشر الأسرار الزوجية، كما قد يحلو لبعض الزنادقة ومريضي القلوب تأويلُه به لكي يجعلوا منه ذريعةً لرفض الأحاديث الواردة في الموضوع.
ولهذا فزواجه صلى الله عليه وسلم بها لم يكن زواج شهوة، وإنما كان -كما جاءت الروايات- اختيارًا إلهيا رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام وسلم به، وما دخوله بها في سن التاسعة إلا من هذا الباب، وهو ثابت بالروايات الصحيحة، ومن خصوصياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المشرع؛ كما قد أباح له الزواج بأكثر من أربع نسوة.
من ثم فالطعنُ فيه زندقة ومروق، وذلك لأن المشرع هو الذي يحدد ما هو حلال وما هو حرام وما هو معقول وغير معقول، في حين إن البيئة قد تختلف من حيث تحديد سن الزواج وقيمة وخصائص المتزوجين جسديًا ونفسيًا.
فالمتزوج هنا هو النبي! وشتان بينه وبين سائر البشر! إذا قسنا المسألة بالسن أو بالشخص، كما أن السيدة عائشة حكمها حكم أمهات المؤمنين، أي لها طابع روحي قبل أن يكون جسديا، ومن هنا فهيهات هيهات التساوي بين الملائكة والحدادين! كما يقول أبو حامد الغزالي -رحمه الله تعالى-.
(/8)
هذا المعنى قد أوردناه بنوع تفصيل في كتابنا المتواضع "أحكام النسب لحماية الأسرة في الإسلام"؛ فحددنا مفهومَ المشروعية وحق التشريع من عهد آدم عليه السلام إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وذلك في تناولنا لمسألة أبناء وبنات آدم وزواجهم، وأثبتنا أن الزواج كان شرعيًا وليس خطيئة، كما يريد أن يوهم بذلك بعضُ الزنادقة والمتفلسفة لتسويغ الفساد في الأرض ودون الوعي بعلاقة التشريع بالمسار الكوني والتحول البيولوجي للكائنات الحية وخاصة الإنسان، وأيضا بالميل نحو إشاعة الفاحشة وإثارة الشكوك في الأنساب الأصلية للبشرية ومن ثم قطع كل متصل وإهدار للقيم وما معها من تفاصيل.
هكذا قد يتسلسل بهم فكرُهم الفاسدُ إلى أن يحاولوا قطعَ صلة الصحابي بالنبي، وهي مقدمة ماكرة لقطع الصلة بالدين وهدمه من جذوره، ولكن هيهات هيهات! فالعلمُ أقوى من الوهم الفاسد، والسندُ المتصل أقوى من بيت العنكبوت الواهي.
ثانيا: النصوص الحديثية وتوسيع دائرة العقل
بعدما عرضنا باختصار للمنهج الاستردادي المتعلق بصلة النص بالمشرع الذي هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقوة الصحابي في توصيله ومن ثم قوة العالم الراوي المتخصص في تمحيصه؛ لأن "العلماء ورثةالأنبياء"، أنتقل إلى النظر في المنهج العقلي التحليلي وأسسه المختصرة لكي يتسنى لنا الحكمُ أو نقد النص داخليًا بدعوى موافقته للعقل أو مخالفته له، فهناك في عصرنا من الجهال المنسوبين للعقل ما لا يحصى كثرة وجرأة بغير عدة أو سلاح علمي رصين، وقد سبق أن انتقدتُ هذا النوع من الآرائيين والمتفلسفة الأقزام في كتابي المتواضع "البطالة الفكرية في مجتمعنا: الأسباب والانعكاسات".
فأقول وبالله التوفيق:
1) مما اتفق عليه عقلاءُ البشرية أن أحكام العقل تنقسم إلى ثلاثة أقسام لا رابع لها وهي: الوجوب والاستحالة والجواز.
(/9)
فالوجوب ما لا يمكن تصورُ عدمه، والاستحالة ما لا يمكن تصور وجوده، والجواز ما يحتمل الوجود والعدم على حد سواء.
من هنا يتأسس العلم الضروري لكل إنسان ولو كان صبيًا، أعني العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وهذا يرسخ مبدأ الثالث المرفوع حسب تعبير المناطقة، وعليه تنبني الأقيسة المختلفة..
فحينما تقول 1 + 1 = 2 فلا يمكن مراجعة هذه النتيجة البتة، وإلا اتهم الشخص إما بالجنون الذي هو ضد العقل أو بالوقاحة والسخافة والهزل، وهذا ضد الأخلاق والقيم.
فالواجب حكمه واحد وقارّ وهو المطلوب حينما تكتمل آلة التفكير وينتظم القياس ببنائه على تصور صحيح وكلي ثابت.
لكن المستحيل والممكن يتفرعان إلى مستويين قد يتداخلان فيما بينهما، ومن ثم قد يقع ناقص العقل والتفكير في غلط الحكم عليهما.
هذان المستويان هما: الاستحالة العقلية والاستحالة الواقعية من جهة، والإمكان الذهني والإمكان الواقعي من جهة أخرى.
بحيث يمكن أن نقول للشيء: هذا مستحيل فيتطلب حينئذ منا النظر هل هذه الاستحالة عقلية أو واقعية.
فإذا قلنا بأنها عقلية فإنها لا يمكن تصورها واقعًا مهما ادعى الشخصُ المعاند ذلك، كالمثال الذي ضربناه سابقا حول العدد 1+1=2
إذ يستحيل عقلا أن يأتي شخص فيقول: 1+1=3 أو 1+1=0 ما دامت الأعداد عقلية وليست تواضعية أو اصطلاحية رياضية مفترضة.
لكن حينما نخبر عن إنسان يمشي على رأسه أو يطير في الهواء بغير أجنحة أو طائرة فتقول حينئذ بأن هذا مستحيل، فتكون هذه الاستحالة واقعية وليست عقلية؛ لأننا لم نرَ إنسانا في الواقع يطير في الهواء بغير أجنحة أو طيارة، لكننا في الوقت نفسه نستطيع أن نتخيل إنسانا يطير في الهواء على هذه الشاكلة.
(/10)
إذن فالحكمُ هنا ليس عقليًا محضًا، وإنما يسير حسب الواقع وما تعوده الإنسان منه، فلو حدث وطار شخصٌ كما ذكرنا فالعقلُ السليم لا يعد ذلك مستحيلا؛ لأنه ممكنٌ تصوره في الذهن والخيال، وهذا ما عبرنا عنه بالإمكان الذهني أو العقلي الذي هو تمديد وتمطيط للإمكان الواقعي، ويفتح المجال للتوسع العلمي والإبداع الفكري وإنتاج الروايات والأفلام الخيالية واكتشاف الأفلاك والأجرام السماوية...
باختصار شديد، لأن هذه المسألة معرفية محضة (إبستمولوجية)، نربط الموضوع بمسألة التشريع والعقل، وذلك للتأكيد على أنه لا تناقض بين العنصرين عند التحقيق والتدقيق.
ولكن ينبغي أن يعلم بأن أحكام الشريعة لها صورتان من ناحية إمكان النظر العقلي وهما: الحكم التوفيقي بإدراك الحكمة من بعض قضايا التشريع وأسراره بواسطة العقل المجرد، والحكم التوقيفي الذي يتوقف العقلُ عن الخوض فيه حتى يأتي المشرع ليبينه: إما تخصيصًا أو تقييدًا أو نسخًا أو رخصة أو عزيمة وما إلى ذلك، مما هو مذكور في أصول الفقه وعلوم التفسير...
2) وبعد ما سبق من نموذج ملخص لبعض الاعتراضات، من بعض من لا يستحيون من جهلهم، ينبغي التعريف أو التمييز بين الطهارة الشرعية المتعلقة بأحكام المني والودي والحيض وما إلى ذلك، وكذلك أنواع المياه لإزالة النجاسات من البدن والثوب والمكان أو ما يعرف بطهارة الحدث والخبث، وبين النظافة العامة، هذا إذا أضفنا موضوع التيمم في باب الطهارة وموازنة حكمه بحكم الغسل الذي يكون بالماء.
ونقف عند التيمم ونتساءل: هل للعقل المادي فيه مدخل لتبيين حكمته، وهل هو يدخل في باب النظافة العامة بمجرد لمسة أو ضربة باليد؟
فكيف سيرد العقلاني القزم على حكمه لما يرد في صحيح البخاري حديث عن التيمم يبين حكمه ووصفه مرويًا عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة الكرام والأطهار؟
(/11)
هل سيعد الحديث مدسوسًا أو ترهات وأوهامًا، أم هل سينكر التيمم أصلا؟ أم هل يسلم بأن التيمم مسألة تعبدية توقيفية؟
فالذي يدعي الإسلام والإيمان به حقيقة لا بد له من التسليم بهذه الأحاديث وأخذها كما هي من غير تعليل أو تحليل؛ لأنها تتعلق بالعبادة المرتبطة بالغيب والتشريع، والغيب لا مجال للعقل في تحديد أحكامه وعناصره بقياسه على ما هو معهود في عالم الشهادة، أو كما يعرفه الفلاسفة بعالم الكون والفساد، حيث يسود المنطقُ الفاسد الذي يريد أن يزن الجبال بميزان الذهب، فهل هذا معقول أيها العقلاء؟
ناهيك عن أن ما في الجنة مما في الأرض -فيما وصفه الشرع- إلا الأسماء، وإلا ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
3) ومن الغباء والسخافة أن يقف البعضُ عند قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصف الحورية من الجنة بأنها: "يُرى مُخُّ ساقها" لتسويغ رفض الحديث بمعنى شهوي بليد وحيواني متطرف، دون الانتباه إلى سياق الحديث ونهاية معناه الجميل والمبين أن المسألة أجمل مما يتصور، ألا وهو كلمة "من الحسن" الموالية لهذا الوصف، وحيث إن صفة الحسن قد وردت في الحديث، فمعنى مخ الساق دليل على نوع من الجمالية الغيبية الفائقة والتي لا تقاس بالجمالية الحيوانية التي اعتادها بعضُ المتأثرين بالصور الأرضية، ولم يستطيعوا –لبلادتهم- التخلصَ منها؛ لأنهم يفتقدون القدرة على توظيف ما عبرنا عنه بالإمكان الذهني والتطلع إلى ما هو أعلى مما هو عليه العالم الدنيوي الفاني، وذلك لأن مخهم حينما يتصورونه بشكله المادي لا يولد لديهم سوى الغثيان والتقزز على شكل انعكاسات شرطية كما استنتجها بافلوف من كلبه الاختباري!!!.
(/12)
الشيء نفسه قد يحدث لدى الكثير من المغرَّر بهم للتجرؤ على الحديث النبوي الصحيح الوارد في البخاري وغيره، وخاصة لدى بعض النساء من متزعمات الجمعيات ومدعيات الدفاع عن حقوق المرأة، وذلك حينما يرفضون حديث "خلقت المرأة من ضلع أعوج"، متوهمين أو موهمين بأن هذا استنقاصٌ لمكانة المرأة وقيمتها الوجودية، ناسين بأن خلقة المرأة من الناحية الوجودية والبيولوجية أكثر تقدمًا من الرجل؛ لأن هذا الأخير قد خلق من التراب مباشرة، أما هي فقد خلقت من الكائن الحي المتطور، وشتان ما بينهما!.
إضافة إلى هذا -وبإيجاز شديد- فإن وصف المرأة في ابتداء خلقها بهذا الوصف دليل على امتلاكها عنصر الجمال في تكوين الرجل والمرأة معا، وهذا كمال ما بعده من كمال! إذ لولا اعوجاج الضلع لكان القفص الصدري للرجل عبارة عن نتوء لصفائح الزوارق أو قبعات صينية!!!
هذا من الناحية الشكلية الظاهرية، أما من الناحية الفكرية الفلسفية فهناك مبدأ علمي يقول: "نقصانُ الكون عينُ كماله"، ويمثل بعضُ المفكرين المستنيرين -كالغزالي رحمه الله تعالى- بهذا المثال الرائع: "لولا اعوجاجُ القوس لما صَلَحَ للرمي"، فليعتبر كلٌّ من الرجال والنساء بهذا المعنى ليستخلصوه من الحديث النبوي الشريف، عسى أن يحفظوا جمالهم الظاهر والباطن معًا ليتم التكاملُ في وجود الرجل والمرأة على حد سواء.
وأما من يدعي الإسلام ويزعم نظريًا بأنه يدافع عن عقلانيته وخوفًا من انتقادات اليهود أو النصارى أو العلمانيين وغيرهم، الذين هم في الأصل فاسدو العقائد والفكر والتشريع، فسيردّ هذه الأحاديث مع صحتها منهجيا ورواية، بزعم أنها لا توافق العقل ولا علاقة لها بالنظافة، وسيقول بأن مجرد لمس حجر لا يغني شيئا وهكذا.
(/13)
كذلك قد يزعم بأنها لا توافق مقاييس الجمال، مع أن الجمال مسألة نسبية واعتبارية قد يتفاوت الناس في الحكم عليها من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى غيره، فما بالك بعالم الغيب حينما نقيسه بعالم الشهادة الذي ليس منه فيه سوى الأسماء! ومن ثم (يتعقلن) من خلفية عاجزة بدون ضوابط و(يتمنطق) بغير نطاق، فيصدق فيه حكمُ العلماء سابقا: من تمنطق فقد تزندق!.
فهذا ملخصُ الرد على من سخر من الأحاديث الواردة في باب المني، وأبوال الإبل، والفأرة التي سقطت في السمن، ومسائل غيرها لا يسمح المجال ولا المقام بتتبعها والرد عليها.
وذلك لأنها اعتراضات سخيفة، ولأن جهل أصحابها سواء أكانوا مشرقيين أم مغربين -لا يهمنا أشخاص بعينهم ولا نقصدهم علميا- قد أدى بهم الحال إلى أن لا يميزوا بين الحكم الشرعي والحكم العقلي الوهمي؛ الذي لا هو ممكن ذهنيًا لا موجود واقعيًا، وذلك لأنه لا يدرك الفرق بين حكم الخاص والعام ولا بين المطلق والمقيد ولا بين الناسخ والمنسوخ، ولا بين شرعنا وشرع من قبلنا وهل هو شرع لنا أم لا؟ ناهيك عن السخافة الأخلاقية في مناقشة كبار الصحابة -أبي هريرة بصفة خاصة- وأئمة الأمة وعلى رأسهم البخاري أمير المؤمنين في الحديث، كما تتابع على تسميته بذلك العلماء عبر التاريخ.
إذ لولا الأحاديثُ الصحيحة المبينة لأحكام الطهارة والحياء لكان متفلسفو زماننا ما زالوا يبولون على أعقابهم كما وصف بذلك الأعرابي قبل مجيء الإسلام، ولكانوا ما زالوا يأكلون الفئران والصراصير ويغتسلون بالنجاسات ويلحسونها كما هو شأن كثير من الشعوب غير المسلمة، والدليل على ذلك ما هو معروضٌ مشاهد على القنوات الفضائحية ومواقع الإنترنت من سخف ونجاسات تتخبط فيها البشرية بشتى صورها، قد يعافها الكلابُ والقطط بَلْهَ الإنسان المتحضر ومدعي العقلانية والتطور في الطب والعلوم الإنسانية، والحمد لله على نعمة الإسلام!!!.
ثالثاً: الرواية الصحيحة وتحدي العلوم والعقول
(/14)
من هنا كان لا بد في التشريع من تبيين ما يجوز وما لا يجوز في العلاقات الجنسية بين الزوجين، للضرورة الشرعية وليس لإثارة الشهوات والتخبط في وحلها، وكذلك كان لا بد من توضيح ما يمكن أكلُه مما لا يمكن، وما يجب غسلُه مما لا يجب، وما ينبغي قولُه مما لا ينبغي، وكذلك ما يصح نشره مما لا يصح.
1) أوليس حكم الذبابة إذا سقطت في الماء يكون من الواجب غمس جناحها الثاني حتى يتم إبطال سم الجناح الأول؟ أوليس العلم قد أثبت معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر؟ فكان حكمه -صلى الله عليه وسلم- وقاية وصحة وطهارة واقتصادًا، وخاصة في بلد الجزيرة العربية التي كان الماء يوزن فيها بالذهب لندرته وشح مصادره؟
فأين هذا من منطق المبذرين والمستهترين الذين يريقون المئات من الأمتار المكعبة من الماء بمجرد نقطة أو ذبابة سقطت في الحوض أو البرميل؟ وكذلك شأن الفأرة إذا سقطت في السمن، فهل يضيع نتاج العام من اللبن وذخيرة السنة بمجرد فأرة سقطت في مكان معين محدود المساحة؟ أو نريق الصهاريج المعبأة في مراكز الحليب من زبدة و(لبن رائب) وغيره بمجرد مثل هذا الحادث اليسير الذي له علاجه الصحي النبوي في الحين؟
أو ليس هذا هو التبذير وسوء التدبير والتطرف في التصرف، الذي قد يتشعب حتى إلى التطرف في التعامل مع الآخر واختراق حدود العدالة العامة، ما دمنا لا نزن الأمور بواقعها ونقف بالدواء عند نقطة الداء، أوليس هذا هو مرض سلوكي يخضع للانعكاسات الشرطية الحيوانية؟
إن هذه الأحاديث هي التي قد تكرم علينا بروايتها والسهر على تبليغها إلينا سيدُنا أبو هريرة رضي الله عنه، وكذلك خرَّجها ومحصها إمامُنا في علم الحديث سيدي محمد بن إسماعيل البخاري.
إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ ملكتَه وإن أنت أكرمت اللئيمَ تمردا
ولإعطاء نموذج واقعي ومبين لهذا السخف الفكري في مواجهة الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره من الرواة في الصحاح وباقي السنن نقول:
(/15)
هذه الترهات حول رفض الحديث النبوي باسم العقلانية وحقوق الإنسان والحيوان وما إليها كان قد سلك طريقَها بعضُ المغرورين من المتفلسفة في الماضي ولم يفلحوا في ذلك؛ لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، والزمان كفيل بإثبات الحقيقة، والحكم للوجود كما يقول علماؤنا الأفذاذ؛ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].
2) ذكر أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام -الجزء الثالث- نموذجًا حيا من هذا الاعتراض، وخاصة لدى بعض المعتزلة المتطرفين والمغرورين باسم العقلانية والجرأة والوقاحة، وذلك في حكاية عن إبراهيم بن سيار النظام زعيم المعتزلة (221هـ).
فيقول معترضا على المحدثين في روايتهم حول تمييز حكم الطهارة عند الكلب عن الهر: "لقد قدمتم السنور (الهر) على الكلب، ورويتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل الكلاب واستحياء السنانير، وتقريبها وتربيتها، وأنه قال: إنها من الطوافات عليكم، مع أن كل منفعة السنور هي أكل الفأر فقط... ومنافع الكلب لا تحصيها الطوامير، ثم السنور مع ذلك يأكل الأوزاغ والعقارب والخنافيس والحيات وكل خبيثة وكل ذي سم، وكل شيء تعافه النفس، ثم قلتم في سؤر السنور وسؤر الكلب ما قلتم، ثم لم ترضوا به حتى أضفتموه إلى نبيكم..." [ج3 ص87].
أولم يصدق القائل:
دار الزمان على دارا وقاتله وأم كسرى فما آواه إيوان
فها نحن في عصر المجهر، يكتشفُ الأطباء وعلماءُ الحياة والجراثيم معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحكم، فيتبين من خلالها أن الطهارة أو النظافة كما يريد أن يسقطها عليها بعضُ القاصرين ليست مسألة يسيرة، وإنما هي مسألة معقدة وتخضع لرؤية غيبية محضة وحكم توقيفي إما بصورة مطلقة وإما بحسب الزمان واكتشافات العصور.
(/16)
فلقد تبين علميًا أنَّ في لعاب الكلب جراثيمَ يفرزُها وخاصة عند الأكل أو الشرب، ومن ثم فهي مضرة بصحة الإنسان عند الملامسة وتعقب سؤره عند الشرب أو الأكل، في حين إن هذا الحكم لا ينطبق مطلقا على سؤر الهرة ولعابها، بحيث قد يدخل في حكم المطهرات، antiseptique أو désinfectant، وهذا ما نلاحظه بالعين المجردة حينما تصاب بجرح ثم تلحسه حتى تبرأ منه، بل قد تمارس غسل وجهها وأطرافها بلحسها بلعابها....
فأين حكمُ العقل المجرد والقاصر هنا وهناك؟ ومتى كان العقل حاكمًا على قضايا الشرع حتى يصبح مقدمًا في مثل هذه المسائل؟
إن العقل المجرد المتبع لهواه لا يعطي سوى الشذوذ في باب التشريع؛ سواء كان شذوذًا عقديًا أو سلوكيًا أو جنسيًا أو غيره؛ لأنه عقل مظلم غير مستنير بذكر الله تعالى، كان من نماذجه جمهوريةُ أفلاطون التي تقر بشيوعية المرأة والأطفال، وبلزوم العري التام بين الرجال والنساء، وبالحكم الجزافي الديمقراطي من غير أخلاق أو ضوابط ومرجعيات روحية أو فكرية قارّة، وما إلى ذلك من السخافات التي سبق أن ذكرنا نماذج منها في كتابنا "حجاب المرأة وخلفيات التبرج في الفكر الإسلامي".
3) وقد سبق أن بينا في مقال لنا -عنوانه "العقل يهزم التجربة والفكر الإسلامي ينتصر!"- هذا الخللَ الفكري حينما تكون الرؤيةُ مجردةً والعقل قصيرًا، وذلك في موازنة بين الغزالي وجالينوس، وسقوط هذا الأخير في وهم التجربة الناقصة التي ولدت له عقلا ناقصا، فحكم بأن الشمس لا تتعرض للذبول أو الفناء من خلال رؤية بصرية قصيرة تعوّدها.
أما الغزالي فرأى أن الشمس تذبل وتنتقص بمقدار الجبال من غير أن نشعر بها، مستندًا في حكمه هذا على مبدأ التجويز المنطقي ومبدأ الحكم الكلي على العناصر المادية، كما كان يعبر عنه بأن: كل معدن فهو يتعرض للفساد، فالشمس من جنس المعادن، إذن فهي تتعرض للفساد (أي التأكسد بلغة كيميائية حديثة) لا محالة.
(/17)
فكان أن جاء علم الفلك الحديث باستعمال المقراب (التليسكوب) هذه المرة فأكد قولة الغزالي من تعرض الشمس لانفجارات وظهور صياخد بها ونفاد بنسب معينة لطاقاتها وعناصرها...
إن هذا الحكم المعرفي نفسه المستنير بنور الإيمان ودلالة النصوص الشرعية يمكن أن نستعمله في تناول قضايا المجتمع والسير وأحكام الحرب والسلم والقصاص وما إلى ذلك مما ورد في صحيح البخاري وغيره من كتب الصحاح المعتبرة لدى العلماء والثابتة بالمنهج الذي سبق أن بيناه في أول هذا البحث الموجز؛ لأن التشريع كل متكامل لا يمكن أن ينتقص منه حرف واحد وإلا وقعنا في الشذوذ والمهاترات التي لا تنتهي، ومن ثم في الزندقة والمروق من الدين بطريقة أو بأخرى.
اضطرارًا قد نوجز متابعتنا للموضوع، كما أوجز لنا زُفَرُ -الفقيه الحنفي- في قولته المشهورة حول مثل هذا الشذوذ الفكري والعقدي في تناول قضايا الدين بالقياس الفاسد :"إنَّ من القياس ما هو أقبحُ من البول في المساجد".
فكان الطعنُ في الأحاديث الصحيحة وخاصة صحيح البخاري من نماذج هذا القياس الملوث، بل هو أسوأ منه، فيحتاج معه إلى تطهير وتنقية فكرية وسلوكية لأدمغة مريضة ومحاطة بشتى الملوثات المتراكمة عليها بفعل التعرية وعدم الصيانة...
فعلى مثل هؤلاء أن يتعلموا طهارة البدن والمكان أولا من صحيح البخاري، ثم يحصلوا حينئذ على طهارة الفكر والروح ليميزوا حينئذٍ بين الحق والباطل والصحيح والسقيم والسليم والفاسد... وما أجملَها من طهارة لو اعتبروا!!! {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
(/18)
العنوان: الحضارة العربيّة في الأندلس وأثرها في أوربا
رقم المقالة: 300
صاحب المقالة: د. توفيق سلطان اليوزبكي
-----------------------------------------
فكر العرب في تحرير أسبانيا بعد أن طردوا البيزنطيين من شمال أفريقيا، وكانت أسبانيا قبل الفتح قد ملكها الرومان حتى القرن الخامس للميلاد، ثم انقض الوندال والآلان والسويف، الذين هم من القبائل البربرية الجرمانية على أسبانيا، ولم يلبث القوط أن قهروهم واستولوا على أسبانيا في القرن السادس للميلاد وظلوا سادتها إلى أن جاء العرب. وقد اختلط القوط بالسكان الأسبان – الرومانيين، فاتخذوا اللاتينية لغة لهم، وتحولوا من الآريوسية إلى المذهب الكاثوليكي، وكان اختلاط القوط باللاتينيين قبل حركة التحرير العربي مقتصراً على علية القوم، وكان سكان البلاد الأصليون من الأرقاء، والذين كانوا مستعدين لقبول أي سلطان عليهم، كما أن التنافس على عرش أسبانيا أدى إلى نزاع سياسي اجتماعي، وفتن داخلية، وفقدان الروح العسكرية، وفتور عن الدفاع بين الأهلين المستعبدين، وكان من جراء ذلك تفرق الدولة القوطية وسهل للعرب تحرير أسبانيا[1].
ونتيجة للتعاون بين العرب والبربر بعد تحرير شمال أفريقية، دخل جيش مؤلف من اثني عشر ألف جندي بلاد أسبانيا في سنة 92هـ/ 711م وتم فتحها بقيادة طارق ابن زياد ثم القائد موسى بن نصير 93هـ/ 712م[2]، وقد وصفها القائد العربي في رسالة للخليفة الأموي أنها: (شامية في طيبها وهوائها يمنية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جباياتها، صينية في معادن جواهرها، عدنية في منافع سواحلها)[3].
(/1)
وتميزت الفترة الأولى من تاريخ العرب في الأندلس بين 92- 138هـ/ 711- 756م والتي تسمى (عصر الولاة) بعدم الاستقرار وانشغال الولاة فيما بينهم بالمنازعات مما مهد لدخول عبدالرحمن الداخل الأموي (صقر قريش) بعد فراره من وجه العباسيين وأسس الدولة الأموية في الأندلس بعصريها (الأمارة والخلافة) والتي امتدت من سنة 138هـ - 422هـ/ 756- 1031م[4].
ولم يكن الفتح العربي لأسبانيا احتلالاً عسكرياً بل كان حدثاً حضارياً هاماً وحركة تحرير للشعوب الأسبانية فقد أمتزجت حضارة سابقة كالرومانية والقوطية مع حضارة جديدة هي الحضارة العربية الاسلامية، ونتج عن هذا المزج والصهر حضارة أندلسية مزدهرة أثرت في الحياة الأوربية وتركت آثاراً عميقة مازالت تتراءى مظاهرها بوضوح حتى اليوم.
وباستكمال حركة تحرير أسبانيا استقر العرب والبربر مع سكان البلاد، وكان للسلوك العربي الانساني أثر كبير في تآلف القلوب إذ لم يلبث العرب أن أنسوا إليهم وحصل التزاوج والمصاهرة بينهم[5] فنشأت طبقة اجتماعية جديدة هي طبقة المولدين التي هي خليط من دم أهل البلاد الأصليين ودم العرب والبربر، كما ظهرت طبقة جديدة أخرى هي طبقة المستعربين وهم الأسبان المسيحيون الذين ظلوا على ديانتهم المسيحية، ولكنهم تعربوا بعد دراسة اللغة العربية وآدابها وثقافتها[6] وأحسن العرب سياسة سكان أسبانيا، فقد تركوا لهم كنائسهم وقوانينهم وأموالهم وحتى المقاضاة إلى قضاة منهم، ولم يفرضوا عليهم سوى جزية سنوية صغيرة، ولم يبق للعرب إلا أن يقاتلوا الطبقة الأرستقراطية المالكة للأرضين[7].
وحرص العرب على الوفاء بعهودهم لأهل الذمة حتى في الحالات التي كان يبدو للمسلمين أنهم خدعوا فيها، وقد وفى العرب رغم ذلك فقال الرازي: (فمضوا (العرب) على الوفاء لهم وكان الوفاء عادتهم)[8].
(/2)
والحقيقة أن العرب الأولين كانوا يجرون على تسامح كريم صادر عن إيمان العرب برسالتهم الانسانية التي كان لها أثرها الكبير في اجتذاب أهل الذمة إلى الاسلام واقناعهم بعدالة الدولة العربية، وهذا هو السر في إقبال أهل الذمة على الدخول بأعداد كبيرة في الاسلام، وأدى ذلك إلى دخول كثير من الكلمات الاسلامية واستعمالها بألفاظها العربية من قبل سكان الأندلس مثل كلمة الله Alah ، القرآن Alcoran ، الحديث Hadith ، الاسلام Alislam، الفتوة Alfatea، رمضان Ramadan، السنة Alsonna، السلام عليك Al-salamalec، سورة Saurate، مؤذن Muezzin، رب Rab، بركة Baraka، ابليس Elb'is، جن Djiun، حرام Haramu، زكاة Zekkat، هجرة Hegira، طلسم Talisema، وقف Wakouf، خراج Carath[9].
لقد أثر العرب في أخلاق الشعوب النصرانية فقد علموهم التسامح الذي هو أثمن صفات الانسان، وبلغ حلم عرب الأندلس نحو الأهلين مبلغاً كانوا يسمحون لأساقفتهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية كمؤتمر أشبيلية الذي عقد سنة 782م، ومؤتمر قرطبة الذي عقد سنة 852م، وتعد كنائس النصارى الكثيرة التي بنوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم، فغدا اليهود والنصارى مساوين للمسلمين قادرين مثلهم على تقلد مناصب الدولة[10].
(/3)
وفي مثل هذا الجو من التسامح أصاب البلاد الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي بحيث أصبحت الأندلس أكبر قوة سياسية في المنطقة، وعلى الرغم من هذا التسامح العظيم، فقد ظهر فرق واضح بين هذه السياسة المتسامحة، وبين سياسة الاضطهاد الأعمى الذي وقع على المسلمين بعد سقوط الأندلس، حيث ذبح نصارى الأندلس أعداداً كبيرة من المسلمين، وحتى أنهم رفضوا تنصر من تنصر منهم لعدم الثقة بهم وبنواياهم[11]. ولم يكد العرب يتمون تحرير أسبانيا حتى بدأوا بتطبيق رسالتهم الانسانية في الحضارة فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين، ويعمروا خراب المدن ويقيموا أفخم المباني، ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، وشرعوا بدراسة العلوم والآداب وترجمة كتب اليونان واللاتين، وإنشاء الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربا زمناً طويلاً، وأخذت حضارة العرب تنهض في الأندلس منذ ارتقاء عبدالرحمن الأول العرش، أي منذ انفصالها عن الشرق سياسياً باعلان إمارة قرطبة سنة 138هـ/ 756م فغدت الأندلس أرقى دول العالم حضارة مدة ثلاثة قرون[12].
امتازت حضارة العرب في الأندلس بميلها الشديد إلى العناية بالآداب والعلوم والفنون، فأنشأوا المدارس والمكتبات في كل ناحية وترجموا الكتب المختلفة، ودرسوا العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية والكيمياوية والطبية بنجاح ولم يكن نشاطهم في الصناعة والتجارة أقل من ذلك، فكانوا يصدرون منتجات المناجم ومعامل الأسلحة، ومصانع النسائج، والجلود والسكر وبرعوا في الزراعة براعتهم في العلوم والصناعات، ولا يوجد في الأندلس من أعمال الري خلا ما أتمه العرب، وأدخلوا إلى حقول الأندلس زراعة قصب السكر والأرز والقطن والموز[13].
(/4)
وأكثروا من انشاء الطرق والجسور والفنادق والمشاتي والمساجد في كل مكان، وكانت البحرية العربية في الأندلس قوية جداً، وبفضلها كانت تتم صلات العرب التجارية بجميع مرافئ أوربا وأفريقيا وآسيا، وظل العرب وحدهم سادة البحر المتوسط زمناً طويلاً[14]. فانشأوا أسطولاً ضخماً لمواجهة قوة الأسطول البيزنطي، ولضمان أمن السواحل العربية من هجماتهم، كما اتخذوا من بعض جزره القريبة من السواحل العربية مراكز بحرية للأسطول العربي، منها كريت وصقلية، ومالطة، وجزر البليار، وجزر قبرص وسردينية، فكانت قبرص تحمي شواطئ سوريا، وكريت تحمي شواطئ مصر، كما تحمي صقلية شمال أفريقيا، وتحمي جزر البليار الأندلس، فأصبحت الشواطئ العربية في أواخر القرن التاسع للميلاد في مأمن من أي غزو بيزنطي[15] فازدهرت التجارة مما أدى إلى إزدهار الحياة الاقتصادية والاجتماعية وتمكين العرب في الأندلس من الاتصال بالعالم الخارجي.
فالحضارة العربية في الأندلس مرت بأدوار، وخضعت لمؤثرات حضارية منها ما ترجع أصولها إلى الأم (الحضارة العربية في المشرق) كما خضعت أيضاً لمؤثرات حضارية محلية بحكم البيئة التي نشأت فيها وبدرجة محدودة.
(/5)
فالنظم السياسية والادارية والعسكرية والمالية كانت صدى للنظم القائمة في العراق والشام، فأقاموا نظام الأمارة ثم الخلافة على غرار النظم العربية في المشرق، كما استحدثوا نظام الوزارة والدواوين كتلك التي كانت سائدة أيام الخلافة العباسية في بغداد، لكنهم طوروا في هذه المناصب، وخاصة الوزارة، حيث أصبحت متعددة المناصب ولها رئيس وزراء وهو الحاجب. كما عرف الأندلس نظام الأجناد أو (الكور المجندة) التي ينزلها الجند ويقابلها الثغور، يحكمها قائد عسكري، فنزل جند دمشق في كورة البيرة، وجند حمص في كورة أشبيلية وجند الأردن في كورة مالطة، وجند قنسرين في كورة باجة، وبعضهم بكورة ندمير، فهذه منازل العرب الشاميين، وبقي العرب والبربر والبلديون شركاءهم)[16].
وتحدث الجغرافي العربي المقدسي: عن التقسيمات الادارية في الأندلس فقال: إن في الأندلس ثماني عشرة كورة أورستاق كما في الشرق[17]. وهذه التقسيمات الادارية تنطبق على تعريف ياقوت للكورة والرستاق[18].
كما نقل عرب الأندلس من المشرق العربي نظام الوزارة وطوروه وقسموا خطتها أصنافاً وأفردوا لكل صنف وزيراً، فجعلوا لحسبان المال وزيراً، وللترسيل وزيراً، وللنظر في أحوال الثغور وزيراً، وهذا التعدد في مناصب الوزراء لا نجده في نظام الوزارة في المشرق العربي حيث كانت السلطة مركزة في يد وزير واحد لها رئيس وزراء وهو الحاجب الذي يتصل بالخليفة مباشرة[19].
(/6)
وبعد سقوط الدولة العربية الأموية، وقيام الدولة العباسية قام العباسيون بمطاردة الأمويين فاستطاع الأمير عبدالرحمن الأموي الدخول إلى الأندلس ولقب (بالداخل) وأعاد تأسيس الدولة الأموية في الأندلس، فعادت قرطبة تأخذ مكانتها بين عواصم العالم المتحضر آنذاك في مجال السياسة والثقافة والعمارة وجميع مظاهر الحياة الحضارية، وصارت مقر الخلافة، وموطن أهل العلم والأدب، فقد عمل الأمراء الأمويون في الأندلس على تشجيع العلوم العربية، ونقلوها معهم من المشرق العربي وكان لها أثرها الكبير في النهضة الأوربية.
وقد ترك الوجود العربي في الأندلس طابعه في مختلف مجالات الحياة ففي الادارة نجد كلمات في اللغات الأوربية بألفاظها وأصولها العربية مثل خليفة Calife، أمير Emir، والي Vali، وزير Visir، رئيس Reis، القاضي Alcaede، المحتسب Almotocie، الحاجب Alhaque، صاحب المدينة Falmedina، صاحب السوق Fabasouquae[20]، ديوان Diuan، ولاية Vilaget[21].
كما انتقلت كثير من الكلمات والألفاظ العسكرية في الأندلس إلى أوربا مثل: القائد Alcaide، أمير البحر Adbuirate، الدليل Aldalil، الطلائع Alataya، القارة A. Igurdde، الطائفة Aceifa، العرض Alarde، الرباط Rabate، نفير Anafir، الفارس Alfaroz، الدرقة Aldorgu[22]، بارود Baroud، طرادة Tarffe، جيش Djech، غزوة Rozzia، مرابط Marabout، حراثة Caraque[23].
اهتم عبدالرحمن الداخل بتنظيم قرطبة لتتلاءم وعظمة الدولة فجدد معانيها وشد مبانيها وحصنها بالسور، وابتنى قصر الأمارة، والمسجد الجامع ووسع فناءه، ثم ابتنى مدينة الرصافة[24] وفق فن العمارة الاسلامية في الشام سواء في زخارفها المعمارية أم في بعض عناصر بنائها، وفي نظام عقودها، كما بنى قصر الرصافة ونقل إلى مدينته غرائب الفرس وأكارم الثمر، فانتشرت إلى سائر أنحاء الأندلس[25].
(/7)
وكان جامع قرطبة في غاية العظمة في بنائه وهندسته وأصبح أعظم جامعة عربية في أوربا في العصر الوسيط، فكان البابا سلفستر الثاني قد تعلم في هذا الجامع يوم كان راهباً كما أن كثيراً من نصارى الأندلس كانوا يتلقون علومهم العليا فيه، واستأثر المسجد في الأندلس بتدريس علوم الشريعة واللغة إضافة إلى العلوم الأخرى[26].
وأسس العرب في الأندلس الكتاتيب لتعليم الصبيان اللغة العربية وآدابها ومبادئ الدين الاسلامي، على غرار نظام الكتاتيب في المشرق العربي واتخذوا المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين اللغة العربية ومبادئ الاسلام[27].
أما المناهج الدراسية في الأندلس فقد أشار إليها ابن خلدون بقوله:
(وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتابة وجعلوه أصلاً في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم الولدان رواية الشعر، والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجربة الخط والكتابة... إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شد بعض الشيء في العربية والشعر وأبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة[28].
واهتم خلفاء بني أمية في الأندلس بتأسيس المكتبات فنقلت من كتب الشرق العربي الشيء الكثير من الكتب وشارك الرحالة من الأندلسيين في ذلك وقام العلماء وطلاب العرب في نقل الكتب وأقبلوا على ترجمتها في مختلف صنوف العلم والمعرفة فيذكر ابن جلجل: أن الكتب الطبية دخلت من المشرق وجميع العلوم على عهد الخليفة الناصر سنة 300هـ- 350هـ[29]. وأنشأ المستنصر بالله 350- 366هـ/ 961- 976 مكتبة عظيمة فقد كان عالماً منصرفاً إلى العلم والقراءة واقتناء الكتب النادرة من بغداد ودمشق والقاهرة، وأنشأ مكتبة تحوي على ما يربو على 400 ألف مصنف في شتى العلوم والفنون، كما أنشأ داراً لنسخ الكتب وأودعها بمدينة الزهراء[30].
(/8)
كما ألف الأندلسيون في علوم القرآن والحديث والفقه، وفي القضاء واللغة وآدابها وعلومها والمعاجم والتراجم، والتاريخ والسيرة والجغرافية، وألفوا في علوم الطب والحساب والهندسة والفلك والكيمياء والمنطق والفلاحة والملل والنحل، وفي الفلسفة والموسيقى، بحيث لم يتركوا حقلاً من حقول العلم والمعرفة إلا طرقوها[31]. وقد برز جملة من العلماء نذكرهم على سبيل المثال لا الحصر منهم عبدالملك بن حبيب السلمي (ت238هـ) ألف كتابه الموسوم (التاريخ) مخطوط ومحفوظ في مكتبة البودليانا في أكسفورد تناول فيه تاريخ العالم من بدء الخليقة حتى فتح الأندلس وإلى عصره هو[32]. والعالم اللغوي أبا علي القالي الذي وفد على الأندلس في أيام عبدالرحمن الناصر سنة 330هـ وأصله من العراق، ومن أهم أعماله كتاب (الأمالي) وهو عبارة عن محاضرات أملاها على تلاميذه الأندلسيين في مسجد قرطبة، ويتضمن فصولاً عن العرب ولغتهم وشعرهم وأدبهم وتاريخهم وألف أبو بكر محمد المعروف بابن القوطية (ت367هـ) كتاباً في تاريخ الأندلس أسماه (تاريخ افتتاح الأندلس) نشره المستشرق الأسباني جوليان رايبيرا سنة 1868م، وله كتاب في النحو يعرف بكتاب الأفعال[33] ومن شيوخ ذلك العصر العالم المغربي محمد بن حارث الخشني (ت361هـ) الذي ألف كتاب (القضاة بقرطبة) تناول فيه الحياة الاجتماعية في الأندلس نشره المستشرق الأسباني ريبيرا[34] وألف ابن حزم العديد من الكتب في أنساب العرب، وفي علماء الأندلس، وفي تاريخ الأديان وأبرز ما ألف في هذا المجال هو كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل)[35].
(/9)
ومما ساعد على انتشار الكتب وازدهار الحياة العلمية انتشار صناعة الوراقة في الأندلس حيث تولى الوراقون نسخ ما يظهر من مؤلفات، كما اشتهرت الأندلس بمصانع الورق، وتميزت بهذا الانتاج بعض المدن مثل غرناطة وبلنسية وطليطلة، وشاطبة، وقد حاز مصنع شاطبة شهرة واسعة في صناعة الورق الجيد[36]. وقد نقلها عرب الأندلس من بغداد التي أنشئت عام 794م كما انتقلت منها بواسطة عرب صقلية والأندلس إلى أوربا[37].
واتجه أهل الأندلس الذين اعتنقوا الاسلام خاصة إلى تعلم العربية وإلى إقبالهم على تعلم العلوم الاسلامية، واتسع بمرور الزمن عدد الداخلين في الاسلام وأخذ طلاب العلم يرتحلون بشكل خاص إلى الجامعات العربية في الأندلس والاختلاط بالسكان مما ساعد على انتشار اللغة العربية، ونتج عن ذلك ظهور لغة عربية عامية دخلتها بعض الكلمات الأسبانية[38] كما نتج عن انتشار اللغة العربية بين الأندلسيين اختراع فن شعبي أندلسي جديد، هو فن (الموشحات) ويقال: إن مخترع هذا الفن رجل ضرير من بلدة قبره Cabra بجوار قرطبة اسمه مقدم بن معافى القبري الذي عاش في أواخر القرن الثالث للهجرة التاسع للميلاد ويعتبر هذا الفن الجديد ثورة في الشعر العربي، وإذا كان المشرق العربي قد أعطى مغربه فن القصيدة الشعرية، فإن المغرب العربي، وأعني الأندلس، قد أعطى المشرق العربي فن (الموشح) ويلاحظ في الموشح أنه لم يلتزم بنظام القوافي الموحد كالقصيدة الشعرية، وإنما اشتمل على قوافي متعددة كذلك لم تكن وحدة البيت الشعري، وإنما المقطوعة الشعرية التي تتكون من غصن وقفل، ويسمى القفل الأخير بالخرجة، والتي تكون باللغة العامية الدارجة، ولم يلبث هذا الفن الجديد أن انتشر في المغرب والمشرق، وتفنن الشعراء في صياغته حتى صارت الموشحة كالقصيدة الشعرية واستخدمه الصوفية في مدائحهم وأذكارهم[39].
(/10)
وقد أثرت الأغنية الشعبية العربية في الشعر الأوربي باسم الشعر البروفنسي الذي كان ينشده المتروبادور أي (المغنون المتجولون) في جنوب فرنسا وايطاليا وأسبانيا وغيرها من البلدان الأوربية، واستحدثوا فناً آخر سموه (الزجل) وجاءوا فيه بالغرائب، وهذه الطريقة الزجلية هي فن العامة بالأندلس، وهم ينظمونه في سائر البحور للخمسة عشر بالعامية[40].
وكان كبار العلماء والأدباء والشعراء يلتقون في قصور الخلفاء والأمراء في الأندلس فكانت بمثابة منتديات زاهرة، ومجامع للعلوم والآداب والفنون[41].
ولمع فحول الشعراء والأدباء العرب في الأندلس كابن عبد ربه وابن حزم وابن زيدون وابن خفاجة وكانت النتيجة من إزدهار الحياة الأدبية أن انتشرت اللغة العربية والثقافة العربية والعادات والتقاليد العربية الاسلامية في أوربا وقد زخرت الألفاظ العربية في اللغة الأسبانية والقونية والفرنسية[42] حيث أقبل أهل الذمة من الأندلسيين على تعلم العربية ويبدو أن الاستعراب كان قد سبق الاسلام، فقد اختلط أهل الذمة بالمسلمين، وأخذوا لغتهم وأسلوبهم في الحياة، وأقبلوا بصورة تدريجية على الاسلام وأظهروا تفوقاً في العربية بل تفوق منهم في الفقه فذكر ابن الفرضي (أنه كان من مسالمة أهل الذمة من ملأ أشبيلية علماً وبلاغة ولساناً حتى شرفت به العرب)[43] وقد أثار اقبال المسيحيين على الثقافة العربية حسد القساوسة ورجال الدين الذين كانت لهم أديرة وكنائس في شتى أنحاء الأندلس فأخذوا يعيبون على الشباب المسيحي اقباله على قراءة اللغة العربية وتركه اللغة اللاتينية[44].
(/11)
واشتهرت الأندلس بالمنشآت المعمارية العظيمة، ويعد جامع قرطبة الذي بني في القرن الثاني للهجرة/ الثامن للميلاد، وبعض المباني في طليطلة من آثار الدور الأول لفن العمارة العربي في الأندلس، كما تعد منارة أشبيلية (لعبة الهواء) التي أنشأها الموحدون في القرن السادس للهجرة/ الثاني عشر للميلاد والقصر الأشبيلي من آثار الدور الوسيط لفن العمارة العربي، كما يعد قصر الحمراء في غرناطة الذي شيد في القرن الثامن للهجرة/ الرابع عشر للميلاد عنواناً لما انتهى إليه فن العمارة العربي ويرى لوبون أنها تدل باختلاف طرزهما على أصالتها العربية[45].
ومن مباني العرب العظيمة في الأندلس مدينة الزهراء التي شيدها عبدالرحمن الناصر على بعد ثمانية كيلومترات شمال غرب قرطبة على سفح جبل العروس ومازالت تحتفظ باسمها العربي في اللغة الأسبانية، وبنى فيها قصره المشهور بقصر الحمراء[46]. وظهرت فيه عظمة فن الهندسة عند العرب، وفن الزخرفة والنقوش والنحت، وقد وصفها الأدريسي بقوله: وهي (الزهراء) مدينة عظيمة مدرجة البنية، مدينة فوق مدينة، وفيها قصور يقصر الوصف عن صفاتها[47].
ويروى ابن عذاري: أن أعمدة الرخام في الزهراء بلغت حوالي 4313 سارية جلبت من قرطاجة وتونس والقسطنطينية وما وجد في أسبانيا[48]. ومن المباني التي تركها العرب في أسبانيا جامع قرطبة الشهير الذي بدأ بانشائه عبدالرحمن سنة 164هـ/ 780م، وهو من أجمل المباني العربية في أسبانيا، وكان يفوق جميع مساجد ومعابد الشرق قاطبة بعظمته وروعته، ولا يزال جامع قرطبة من المباني المهمة مع ما أصيب من التلف وما فقد من الأشياء الثمينة فيه[49].
(/12)
والمستطلع إلى المباني العربية في طليطلة يرى مدى التأثير الحضاري العربي في الأمم التي حلت محلهم، فمدينة طليطلة القديمة لا تزال تحيط بها أبراجها وحصونها وأبوابها أشهرها (باب شفره) و(باب الشمس) والمباني العربية في أشبيلية عظيمة تناظر مثيلاتها في مدن الأندلس[50] وكلها تدل على أصالتها العربية. واستعملت الكثير من الألفاظ أو التسميات العربية في مجال العمارة في الأندلس وأوربا مثل البناء Albaenie، الربض Arrba، الحوز Alhoz، السطحية (السطح) Azatea، القبة (غرفة النوم) Aleobe، الأسطوان (مدخل البيت) Fayuon، الطوب Adube، القصر Alcosar ، [51] مسجد Mosuqee، منبر Minbar، منارة Minaret، محراب Mihrab[52].
(/13)
إن الحضارة العربية التي نشأت في الأندلس، وازدهرت لم تقف عند حدود الأندلس فاستمرت العلاقات الاقتصادية والثقافية والحضارية بين الأندلس وأوربا وبينها وبين الشرق وبيزنطة ولم تنقطع رغم وقوع حروب بحرية وبرية طويلة، فالتبادل التجاري بين أسبانيا العربية وبين الشرق وبيزنطة تظل مستمراً، وعن هذه الطرق انتقل التراث الحضاري العربي في العصور الوسطى إلى أوربا ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب في الغرب إلا بتصور حالة أوربا حينما أدخلوا الحضارة إليها فيقول لوبون: إذا رجعنا إلى القرن التاسع من الميلاد وما بعده، حيث كانت الحضارة الاسلامية في أسبانيا ساطعة جداً رأينا أن مراكز الثقافة في أوربا كانت أبراجاً يسكنها سنيورات متوحشون يفخرون بأنهم لا يقرأون، وإن أكثر الرجال معرفة كانوا من الرهبان المساكين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا كتب الأقدمين بخشوع، ودامت همجية أوربا حتى القرن الحادي عشر حين ظهر فيها أناس رأوا أن يرفعوا أكفان الجهل الثقيل عنهم فولوا وجوههم شطر العرب الذين كانوا أئمة وحدهم، ولم تكن الحروب الصليبية سبباً في إدخال العلوم إلى أوربا كما يردد على العموم، وإنما دخلت العلوم أوربا من أسبانيا وصقلية وإيطاليا، وذلك أن مكتباً للمترجمين في طليطلة بدأ منذ سنة 1130م بنقل أهم كتب العرب إلى اللغة اللاتينية تحت رعاية رئيس الأساقفة ريمون، ولم يتوان الغرب في أمر هذه الترجمة[53] فقد تدفقت العلوم العربية على أوربا من خلال الأندلس بعد أن فتح العرب الطريق عبر جبال البرت إلى فرنسا وإيطاليا، حيث عبر العلم والفلسفة العربيان من خلال رأس الجسر الثقافي الذي أقيم في شبه جزيرة ايبريا إلى أوربا[54] وظهر التأثير العربي في فن العمارة في الأندلس وأوربا، فكان الطراز السائد قبل تحرير أسبانيا هو الطراز القوطي، ولكن أقيمت في الأندلس في القرن الثالث عشر والرابع عشر المدن والمساجد والقصور على الطرز العربية مما
(/14)
يدفعنا على الاقرار أن الغرب اقتبس أصول فن عمارته من العرب، إذ ليس هناك من مشابهة بين الطراز العربي والطراز القوطي وإن تأثير فن العمارة العربية واضح في كثير من الكنائس الفرنسية ككنيسة مدينة (ماغلون) 1178م، التي كانت ذات صلات بالشرق، وكنيسة (كانده) وكنيسة (غاماش)... إلخ، وألمح مسيو شارل بلان إلى ما اقتبسه الأوروبيون من العرب في فن العمارة بقوله: أرى من غير مبالغة فيما لأمة من التأثير في أمة وذلك خلافاً لما يسار عليه اليوم أن الصليبيين الذين شاهدوا ما اشتمل عليه الفن العربي من المشربيات، وشرفة المآذن، والأخاريز أدخلوا إلى فرنسا المراقب والجواسق والأبراج والأطناف والسياجات التي استخدمت كثيراً في العمارات المدنية والحربية في القرون الوسطى[55].
لقد كان للاستقرار السياسي والاجتماعي، والرفاء الاقتصادي والتقدم العلمي والعمراني أثره الكبير في نشاط وازدهار التجارة في الأندلس، وأدى الاتصال التجاري بين الشرق والغرب وبين الأندلس وأوربا إلى دخول مفردات وألفاظ عربية كثيرة وأسماء منتجات وسلع تجارية ومكاييل ومقاييس وأوزان وعملات كانت تستعمل في التجارة إلى اللغة الفرنسية واللغات الأوربية مثل السوق Souk، ميناء Cabar، فنار Fanal، سمسار Cemcal، دكان Dogana، الديوان (الكمرك) Aduoma، مخزن Magozzia، معرفة (شركة تجارية) Maond، مخاطرة Moatra، التعريفة Tarifa، المناداة (المزايدة) Almoneda، ومن الألفاظ الأخرى التي كانت تستعمل في التجارة العملات والمقاييس والمكاييل والأوزان مثل: دينار Dinar، درهم Adorme، السكة Ceea، قنطار Kantar، قيراط Corat، مثقال Molacal، عشر Achour، أردب Ardib، القفيز abis، المد Almud، الرطل Arreelde، الربعة Arraba[56].
(/15)
وعلى الرغم من وجود عدد هائل من الكلمات العربية في اللغة الانكليزية واللغات الأوربية الأخرى في مجالات العلوم المختلفة، إلا أننا نرى أن عدد هذه الكلمات في العلوم الرياضية قليل جداً، ولا يعني هذا أن العرب لم يؤثروا كثيراً على أوربا في مجال العلوم الرياضية ولكن العكس صحيح، إلا أن معظم الكتابة في هذه العلوم يعتمد على الرموز والأحرف بالاضافة إلى أن الأرقام الأوربية الحالية مأخوذة أصلاً عن طريق العرب ومازالت تسمى بالأرقام العربية ومثلاً على ذلك: الجبر Algebra، الخوارزمي (المقصود به الحساب) Algursime، المقابلة Almohabel، المجسطي Cipher، الصفر Cipher ، [57] وكلمة الصفر العربية تدل على انتقال طريقة الحساب العربي واستعمالها من قبل الأوربيين.
وازدهر علم الهيئة (الفلك) عند العرب في الأندلس لحاجتهم إليه في تحديد القبلة وتعيين أوقات الصلاة، وقد تطور هذا العلم إلى دراسة حركات النجوم، وظهور حركة التنجيم، واخترعوا الساعات الشمسية لمعرفة الأوقات، فقد صنع عباس بن فرناس أول آلة (وهي نوع مبتكر من الساعات)[58].
ويبدو من مجرد النظر في المصطلحات الفلكية العديدة ذات الأصل العربي يدلنا على أن الغرب مدين لما قام به العرب من دراسات فلكية؛ لأن معظم هذه الأسماء قد تركت في الوقت الحاضر واستعيض عنها بأسماء غيرها ومن هذه الأسماء العذارىAdara ، السها Alcor، الجنب Algenib، الفكة Alphacca، الجبهة Algieba، عرش الجوزاء Arsh، بنات نعش Benatnasch، السرطان Cancer، الكلب الأكبر CamisMa,or، الكلب الأصغر Camis Minor، ذنب الدواجن Deneb Eldolphinas ، ذنب الجدي Deneb Elokab، ذنب العقاب Daneb Elkab، النصل Elnasl، الراعي التنين Etanin، فم الحوت Famu Lhout، رأس الأسد Res Al Asad، رأس الثعبان Res toban، سعد الملك Saod Al Melik، سعد السعود Saod Saoud، العذراء Virgo، الطائر Altair، قرن الثور Tauri، السموات amwet[59].
(/16)
ولمس الأوربيون بشكل جلي الجهود العلمية البارزة التي بذلها عرب الأندلس في علم الكيمياء فوصلت إليهم ثروة كبيرة من المعرفة والحقائق، والتجارب والنظريات العلمية، فأخذ طلاب الغرب يقبلون على دراستها وترجمتها إلى لغاتهم فحفزت فيهم روح البحث والشغف باستقراء الحقائق وتتبعها، فزاد اطلاعهم على هذا النتاج العلمي الخصب، واعتمدوا الأدلة والبراهين في قضايا العلوم الطبيعية، فبدأت أوربا بحوثها في هذا المجال على أساس واقعي سليم وبناء نظري منسق وكان ذلك بفضل الانطلاق العربي في البحث العلمي والابتكار.
وهذه ثمة كلمات عربية مستعملة في اللغات الأوربية في حقل الكيمياء تدل على جهود العرب في هذا العلم عند الغربيين[60] الكيمياء Alchemy، الكمل Alcuhal، زرنيخ Arsenic، بورق Barax، الاكسير Elixir، قرمز Kermes، كبريت Kibruit، الانبيق Linbick، نفط Naphta، عطر Attar، الزئبق Assoguc، قطران caudran، بنج Bang، سموم Simouim[61].
ولم يقتصر الأندلسيون على العلوم العملية بل كانت لهم دراسات في علوم أخرى كالفيزياء، وعلم العقاقير، والزراعة (علم الفلاحة) والذي أبدعوا فيه وصنفوا التصاميم المشهورة، مسجلين ما توصلت إليه تجاربهم في النباتات والتربة[62]، ويعد عباس بن فرناس القرطبي واحداً من عباقرة العرب المسلمين الذين استطاعوا تحقيق أروع الكشوفات في ميادين العلوم التجريبية وأن يمهدوا باكتشافاتهم العظيمة الطريق للأجيال اللاحقة من علماء العصر الحديث[63].
وأثمرت جهود العرب في تطوير علم الطب وتأثرت ثقافة الغرب الطبية تأثراً عميقاً بما اقتبسه من العرب في هذا المضمار[64].
(/17)
والعرب أول من مارسوا عمليات الجراحة في العالم إطلاقاً، ووضعوا المؤلفات فيها وفي طرقها، والأمراض التي يجب استئصالها والآلات والأدوات التي تستعمل[65] وهم أول من اكتشفوا وسائل التخدير، وأنشأوا المستشفيات، وقسموها قسمين: قسم للرجال والنساء، وقسموا كل قسم إلى أقسام على حسب المرض، وأقاموا المعازل لعزل المرضى المصابين بأمراض معدية بل أن للمسلمين الفضل في إنشاء المستشفيات المتنقلة[66].
وأنجبت الأندلس أشهر جراح عربي هو أبو القاسم الزهراوي سنة 427هـ/ 1035م فكان طبيباً خبيراً بالأدوية المفردة والمركبة وله تصانيف في الطب وأفضلها كتابه الكبير المعروف بـ (الزهراوي) ومن مؤلفاته الأخرى كتاب (التصريف)[67] ويذكر الدوميلي أنه (أشهر أطباء الأندلس وأعظم أطباء المسلمين أيضاً.. وكان أعظم الجراحين. وكتابه (التصريف) عبارة عن دائرة معارف طبية كبيرة، ويمكن أن يميز وفي هذا الكتاب قسم في الطب وقسم في الصيدلة وقسم في الجراحة طبع في ثلاثة أجزاء حصلت على أعلى درجات التقدير في أوربا[68] وترجم إلى العبرية واللاتينية والانكليزية، وأعيد طبع النص العربي في الهند سنة 1908[69] والزهراوي أول من ربط الشرايين واستأصل حصى المثانة في النساء عن طريق المهبل وأول من أوقف النزيف ونجح في عملية شق القصبة الهوائية، وبحث في التهاب المفاصل، واكتشف آلة لتوسيع باب الرحم للعمليات ولقب بـ (أبو الجراحة)[70].
ومن أطباء الأندلس المشهورين أحمد بن يونس بن أحمد الحراني الذي تولى إقامة (خزانة للطب لم يكن قط مثلها، ورتب لها اثنى عشر طبيباً، وكان يعالج المحتاجين والمساكين من المرض)[71]. وكان يشارك الحراني عدد من الأطباء في القيام على خزانة الطب (الصيدلية) فقد كان (ديوان الأطباء) فيه أسماؤهم ومرتباتهم[72].
كما اشتهر أطباء الأندلس بطب الأسنان وجراحتها، وفي تركيب الأدوية، وأشهر من برز فيهم في هذا العلم ابن البيطار.
(/18)
وأما في مجال علم الفلك والهندسة والرياضيات عامة فقد توصل علماء العرب في الأندلس إلى حقائق علمية رائدة، في علم الفلك (علم الهيئة) منهم صاحب القبلة أبو عبيدة البلنسي (295هـ- 907م) الذي قال بكروية الأرض واختلاف المناخ في أنحائها[73].
إن اهتمام العرب في الأندلس بالفلك كان مقتصراً على رصد الكواكب وحركاتها وعلاقتها بالكسوف والخسوف، وكذلك لمعرفة علاماتها بالحرب والسلم والظواهر الطبيعية، كما أن ارتباط بعض أحكام الدين الاسلامي بالظواهر الفلكية جعل العرب يهتمون بأمور علم الفلك، فاقتضى معرفة المواقع الجغرافية للبلدان، ومركز الشمس في البروج، وذلك لاختلاف أوقات الصلاة ومعرفة سمت القبلة[74].
وطبق العرب النظريات الهندسية على فن البناء فشيدوا الأبنية التي تميزت بالفخامة والاتقان والمتانة كالمدن والقصور والجوامع، ومنها مدينة الزهراء وجامع الزهراء وقصور الحمراء، والنافورات المائية، بالاضافة إلى عنايتهم بالنقوش والزخارف، كما اهتموا بهندسة الري أيضاً وذلك لأن تنظيم الري يتطلب معرفة دقيقة بمستوى الأرض وانحدارها وبكمية الماء وسرعة مجراها، ومواد البناء وطرق بنائها[75].
أما فيما يخص اهتمامات العرب في الأندلس بالنبات فيرجع إلى القرن الأول للهجرة فقد عني علماء النبات العرب بوضع الأسماء للكثير من النباتات، فوضع الطبيب الأندلسي ابن جلجل كتاباً عن الأشياء التي أغفلها غيره، والحق هذا الكتاب بكتاب ابن باسيل المترجم فجاء الكتابان مؤلفاً كاملاً، وسيراً على هذا المنهج التجريبي استطاع العلماء العرب دراسة الكثير من النباتات الطبيعية التي لم يسبقهم إلى دراستها أحد وأدخلوها في العقاقير الطبية[76] واستطاعوا أيضاً أن يستولدوا بعض النباتات التي لم تكن معروفة أيضاً كالورد الأسود، وأن يكسبوا بعض النباتات خصائص العقاقير في أثرها الطبي[77].
(/19)
ومن مشاهير علماء العرب في النبات في الأندلس أبو جعفر محمد بن أحمد الغافقي (ت561هـ/ 1160م) كان أعلم عصره بالأدوية المفردة ومنافعها وخواصها، له كتاب في الأدوية المفردة وقد وصف النباتات في غاية الدقة بالاضافة إلى أنه ذكر أسماءها باللغة العربية واللاتينية والبربرية، فعد من أعظم الصيدليين أصالة وأرفع النباتيين مكانة في العصور الوسطى، وقد أخذ منه ابن البيطار نصوصاً كثيرة[78].
ومن علماء النبات والأدوية في الأندلس أبو العباس بن الرومية (وهو أحمد بن محمد بن مفرج النباتي) (ت638هـ- 1240م) من أهل أشبيلية أتقن علم النبات والأدوية وساح في الأقطار العربية كمصر والشام والعراق وروى كثيراً عن النباتات التي شاهدها ووضع كتاباً في تركيب الأدوية[79]. وممن برز في علم النبات والعقاقير الطبية ابن البيطار (أبو محمد عبدالله بن أحمد المالقي (ت646هـ- 1241م) زار المغرب وشمال أفريقية ومصر وسوريا وآسيا الصغرى واجتمع مع ابن أبي أصيبعة في دمشق، واشتغل معه في جمع النباتات ودراستها في بلاد الشام ومن مؤلفاته كتاب (الجامع في الأدوية المفردة) استقصى فيه ذكر الأدوية المفردة وأسماءها ومنافعها[80].
وتحفل كتب التراث والتاريخ بأسماء العديد من علماء النبات والعقاقير الصيدلانية الذين عاشوا في الأندلس، وتركوا كتباً قيمة في النباتات وصناعة الأدوية والعقاقير زاد عددهم على 150 عالماً[81] وقد استعملت كتبهم قروناً عدة كدستور للصيادلة وبكلماتها العربية في حقل النبات والصيدلة في أوربا[82].
(/20)
إن التراث العربي الزراعي ظهر بصورة واضحة في جنوب أوربا، فقد أدخل العرب في أسبانيا وأوروبا بعض النباتات الجديدة، وعدداً من أساليب الري، وأهم النباتات التي أدخلها العرب وظهرت في لهجات أسبانيا وصقلية وأوربا الغربية بأسماء تكشف أصالتها العربية مثل: الريحان Arroyon، الخزامى Alhuzema، الموز Banane، نارنج Naronga، الزعفران Azafran، ليمون Liom، البرقوف Albericaguo، الزيتون A Coton، باذنجا Berenjena، البرقوف Albericaguo، القطن Coton، والرز Riz، وقصب السكر Sugra، والقهوة Cafe[83].
وقد أمدت كتب الجغرافيين العرب بأسماء هذه النباتات، ووسائل الري التي أدخلها العرب إلى أسبانيا ومنها شاع إلى أوربا، ومن أساليب الري (قنوات الري والنواعير) التي تعتمد على قوة تيار الماء المعروفة باسمها العربي (الشادوق) والقنوات هي مجاري المياه تحت الأرض يتكون عن طريق الربط بين سلسلة من الآبار ويستخدم في استنباط موارد المياه الجوفية ونقلها مسافات شاسعة، فكلمة (مجريط) في الأسبانية مشتق من الاسم العربي (مجرى) وهذا الاسم يتعلق بهذه الممرات الاسلامية[84]. وقد أسهمت أساليب الري التي أخذت عن العرب بشكل هام في تكثيف الزراعة في أسبانيا وفي جنوب أوربا، واستعملت الألفاظ العربية الدالة على السقاية أيضاً مثل: الساقية Aceqiua، الناعورة Naria، السد Azud، البركة Alburca[85].
(/21)
وأزدهرت الحياة الاجتماعية في الأندلس بظهور المدارس الموسيقية، فقد شاع الغناء الحجازي والموسيقى الحجازية، وانتقل هذا الفن إلى الأندلس عن طريق الجواري والمغنيات والمغنين، ولعبت الموسيقى العربية دورها في الأندلس، فالمدرسة الموسيقية التي أسسها زرياب وأبناؤه وبناته وجواريه كان لها تأثير كبير في الحياة الاجتماعية، وعرف الأوربيون في لغتهم أسماء كثير من الآلات الموسيقية العربية واستعملوها بألفاظها العربية، مثل: القانون Kanoan، الطبل Timbal، النقارة Naker، القيثارة Cuitar، الرباب Rebee، والعود Luth[86].
وأدخل العرب بعض صناعات المشرق العربي إلى الأندلس ومنها انتقلت إلى أوربا خاصة صناعة السجاد، وبعض أنواع الأقمشة التي عرفت بأسمائها العربية فالقماش المعروف باسم (موسلين) نسبة إلى الموصل، والعتابي Tabby نسبة إلى حي عتابي ببغداد، وأطلس والخميل Camiel، وموهير Mohair وأصله في العربية مخير[87].
(/22)
واهتم الأندلسيون بالتاريخ واعتبروه علماً له أصوله، ومن المؤرخين الأندلسيين أحمد ابن محمد الرازي، وابن حيان القرطبي، وابن الخطيب فقد ألفوا في تاريخ المدن والتاريخ العام وفي التراجم، فقد ألف علي بن أحمد بن حزم كتاب (جمهرة أنساب العرب)[88] وأشهر ما ألف في تاريخ الأديان (الفصل في الملل والأهواء والنحل)[89] وألف أبو محمد يوسف بن عبدالبر كتاب (الاستيعاب في معرفة الأصحاب)[90] وكتاب (الدرر في اختصار المغازي والسير)[91] وألف أبو المعارف عبدالرحمن بن محمد الرعيني كتاب (الباهر في التاريخ)، ويعد ابن الفرضي من مشاهير من أهتم بالتراجم، يتجلى هذا في كتابه (تاريخ علماء الأندلس) وكتاب (تاريخ افتتاح الأندلس) لأبي بكر محمد القرطبي المعروف بابن القوطية، وكتاب مختصر تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي (ت370هـ) وكتاب (القضاة بقرطبة) لمحمد بن حارث الخشني (ت360هـ) وكتاب (المقتبس في أخبار بلد الأندلس) لأبي مروان بن حيان القرطبي (ت469هـ) وكتاب (سراج الملوك) لأبي بكر الطرطوشي (ت520هـ) وكتاب (آداب السياسة في الوزارة) لابن الخطيب السلماني.
(/23)
وكان للعرب في الأندلس نصيب وافر في علم الجغرافية، فمنهم من له مصنفات في الجغرافية على درجة عالية من الأهمية، منهم أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري في كتابه (ترصيع الأخبار وتنويع الآثار والبستان في غرائب البلدان والمسالك إلى جميع الممالك) وقد نشر الدكتور عبدالعزيز الأهواني في مدريد عام 1965 جزءاً من هذا الكتاب تحت عنوان نصوص عن الأندلس. [92] الذي يعد واحداً من أهم كتب جغرافية الأندلس وتاريخها وخطط مدنها. ومن جغرافيي الأندلس أيضاً أحمد بن محمد الرازي المتوفي سنة 334هـ وله عدة مؤلفات في هذا المجال من أشهرها كتاب (مسالك الأندلس) الذي يدور معظمه حول صفة الأندلس، ولكن من المؤسف أن معظم هذا الكتاب فقد، ولم يصلنا إلا جزء يسير منه فقط. وممن اشتهر من الجغرافيين أيضاً الأدريسي الذي عمل خارطة دائرية للعالم. وصنع هيئة للعالم على شكل كرة من الفضة رسم عليها أقاليم العالم وبحاره ومدنه المهمة، ومن الرحالة الجغرافيين ابن جبير في كتابه (الرحلة) وابن بطوطة في كتابه (نزهة المشتاق) فقد جاب آسيا الصغرى وآسيا الوسطى والهند والصين وأفريقيا ووصف جميع هذه الدول.
وعني العرب في الأندلس بالدراسات الفلسفية، فنقلوا إلى الغرب فلسفة اليونان وما أضافوا إليها، وكانت من أكبر مشكلاتهم الفلسفية محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة، وأكبر فلاسفتهم ابن رشد المشهور بشروحه لفلسفة أرسطو، وقد أثرت تأثيراً قوياً في أوربا، وأشهر كتبه كتاب (تهافت التهافت) رد به على الامام الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة). ومن فلاسفة الأندلس أيضاً ابن ماجه وابن طفيل صاحب قصة حي بن يقظان التي ترجمت إلى اللاتينية والهولندية ونقلت إلى أكثر اللغات الأوربية.
(/24)
ولم يكن اهتمام العرب بعلم الحيوان أقل من اهتمامهم بالعلوم الأخرى التي أبدعوا في دراستها، فقد برز العديد من العلماء العرب الذين ألفوا في حياة الحيوان، ووضعوا المؤلفات والمصنفات الكثيرة حولها خاصة وأن الحيوانات جزء مهم من حياة الإنسان سواء أكان من الناحية الاقتصادية أو الجمالية، فذكروا أنواعها من وحشية وأليفة، وطيور، وحشرات، وأسماك، ووصفوها وصفاً دقيقاً، وبينوا أشكالها وصفاتها وطبائعها[93]. فانتقلت أسماء كثير من الحيوانات والطيور والأسماك بألفاظها العربية إلى أوربا وأفريقيا وآسيا[94]. إضافة إلى التي مازالت تستعمل بألفاظها العربية حتى الوقت الحاضر في اللغات الأوربية[95].
ومن أسماء هذه الحيوانات: الحصان Alizan، الغزال Algaasele، الطير Altair، كلب Cleb، دب Dub، زرافة Cirafo، صقر Sakre، الغول A gol، الفيل Fau، يربوع Grbo، ببغاء Papge، وحيد القرن Aboukorn[96]، ابرة (أنثى وحيد القرن) Abafa، بكر (الجمل الصغير) Albacore، آيل (نوع من الغزلان) Ariel، ضبع Dabuh، فندى (نوع من الفئران) gundi، حرذون (نوع من السمالي) Haudim، الحر (نوع من الطيور) Alhorre، العقرب Alacran[97]، وغيرهم العديد من أسماء الحيوانات التي ما زالت تستعمل أسماؤها في أوربا.
(/25)
لقد كان تأثير العرب الخلقي على الأندلس وعلى أوربا كبير جداً، فقد أشار لوبون ما ذكره سبوباونلي في كتابه عن القرآن بقوله: (أسفرت تجارب العرب وتقليدهم عن تهذيب طبائع سنبوراتنا الغليظة في القرون الوسطى وتعلم فرساننا أسمى العواطف وأنبلها وأرحمها من غير أن يفقدوا شيئاً من شجاعتهم[98]، ويقول أيضاً: كان للحضارة الاسلامية تأثير عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم، فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، وأن العرب هذبوا البرابرة بتأثيرهم الخلقي، وأنهم الذين فتحوا لأوربا ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية بتأثيرهم الثقافي فكانوا ممدنين لنا وأئمة لنا ستة قرون[99].
إن التراث العربي الاسلامي في النواحي العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية قد انتشر سياسياً وحضارياً وحربياً في جنوب أوربا وغربها وأسس العرب مراكز لحضارتهم فيها، وقد نبغ في هذه المراكز مترجمون نقلوا جوانب مهمة من التراث العربي الاسلامي إلى لغاتهم، فكانت طليطلة وأشبيلية وغرناطة وقرطبة من أشهر مراكز الترجمة عن العربية، فكانت في أشبيلية كلية عربية لاتينية تعني بترجمة كتب الفلسفة العربية وقد أثرت فلسفة ابن رشد بصورة خاصة في الغرب وولدت حركات ثورية على تعاليم الكنيسة. وأصبحت هذه الكتب مراجع معتمدة في جامعات أوربا حتى القرن السابع عشر[100].
(/26)
وقد حاول بعض الأوربيين التقليل من شأن العرب في نهضة أوربا وازدهارها وهم ينسون مثلاً أن الإدريسي والخازن قد سبقا نيوتن في القول بالجاذبية، وأن ابن النفيس قد سبق (هارفي) إلى كشف الدورة الدموية، وأن ابن مسكويه قد سبق (دارون) في القول بالتطور، وابن خلدون قد سبق (لامارك) في القول في أثر البيئة على الأحياء، وأن ابن سينا قد سبق علماء الغرب في الطب والمعادن والنبات والحيوان، وأن ابن يونس وابن حمزة قد مهدوا كثيراً بكشوفهما إلى معرفة اللوغاريتمات وحساب التكامل والتفاضل، وأن الخوارزمي أول من ألف في الحساب والجبر بطريقة علمية منظمة، وأول من استعمل الأرقام في الحساب وللدلالة على عظم التراث العلمي العربي ما خلفوه في خزائن الكتب الموجودة في العالم والمحفوظ منها أسماؤهم في فهارس الكتب لتثبيت مدى عظم الحضارة العربية في مختلف صنوف العلم والمعرفة، وبذلك فقد كان للحضارة العربية الاسلامية فضل جليل على أوربا وكانت عاملاً مهماً في نهضتها.
المصادر:
1 - ابن أبي أصيبعة موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم (عيون الأنباه في طبقات الأطباء)، مطبعة الحياة بيروت 1965.
2 - ابن بصال عبدالله محمد بن إبراهيم الطليطلي (كتاب الفلاحة) 1955.
3 - ابن جلجل أبي داود سليمان بن حسان الأندلسي (طبقات الأطباء والحكماء)، القاهرة 1955.
4 - ابن خلدون عبدالرحمن بن محمد (المقدمة) تحقيق علي عبدالواحد، القاهرة 1962.
5 - ابن الخطيب لسان الدين (الاحاطة في أخبار غرناطة)، طبعة عنان القاهرة 1956.
6 - ابن عذاري أبو عبدالله محمد المراكشي (البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب)، طبعة دوزي ليدن 1/1م.
7 - ابن الفرضي أبو الوليد عبدالله بن محمد (تأريخ علماء الأندلس)، طبعة كوديرا – مدريد 1892م.
8 - الادريسي أبو عبدالله محمد بن محمد (560هـ) (نزهة المشتاق في اختراق الافاق) نشرة دوزي ليدن 1861.
(/27)
9 - بالتشيه انخل جنثالث (تاريخ الفكر الاندلسي) ترجمة حسين مؤنس للقاده 1955.
10 - التغلبي صاعد بن أحمد صاعد التغلبي الأندلسي (طبقات الأمم) النجف 1967.
11 - الحجي عبدالرحمن (الكتب والمكتبات في الأندلس) – مجلة كلية الدراسات الاسلامية/ العدد الرابع بغداد 1972.
12 - داغر أسعد (حضارة العرب ).
13 - الدوميلي: (العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالي) ترجمة عبدالحليم النجار، القاهرة 1962.
14 - زكريا زكريا هاشم (فضل الحضارة الاسلامية العربية على العالم) دار النهضة مصر 1970.
15 - سالم سيد عبدالعزيز (تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس) دار المعارف – لبنان 1962.
16 - شريف م، م (دراسات في الحضارة الاسلامية) ترجمة أحمد شلبي – القاهرة 1916.
17 - شاخت شاخت وبوزورث (تراث الاسلام) – ترجمة محمد زهير السمهوري تحقيق شاكر مصطفى الكويت 1978.
18 - طلفاح خير الله (حضارة العرب في الأندلس) دار الحرية بغداد 1977.
19 - الطويل توفيق (العرب والعلم في عصر الاسلام للذهبي) دار النهضة العصرية 961.
20 - العبادي أحمد مختار (في التاريخ العباسي والأندلسي) مطبعة دار النهضة بيروت 971.
21 - عجيل كريم (الحياة العلمية في مدينة بلنسية) مؤسسة الرسالة بغداد 1975.
22 - عبدالرحمن حكمت نجيب (دراسات في تاريخ العلوم عند العرب) مطبعة جامعة الموصل 1977.
23 - عبدالبديع لطفي (الاسلام في أسبانيا) القاهرة 1958.
24 - هتان محمد عبدالله (دول الطوائف) القاهرة 1960.
25 - (تراجم اسلامية شرقية وأندلسية) القاهرة 1975 مكتبة الخانجي.
26 - (نهاية الأندلس).
27 - العلي صالح أحمد (دراسة العلوم الرياضية ومكانتها في الحضارة الاسلامية) مجلة المورد مجلد 3 العدد 4 لسنة 1974.
28 - العزيزات يوسف شويحات (دور العرب في ثقافة العالم وحضارته).
29 - عبد مصطفى لبيب (الكيمياء عند العرب) القاهرة 1967.
(/28)
30 - قنواتي الأب شحاته (تاريخ الصيدلة والعقاقير في العهد القديم والوسيط) دار المعارف مصر 1959.
31 - الكرملي انستاس (فضل العرب على علم الحيوان) مجلة المجمع الطبي العربي بدمشق المجلد 19 لسنة 1944.
32 - لوبون غوستاف (حضارة العرب) ترجمة عادل زعيتر نشر مطبعة البابي الحلبي 969.
33 - ماجد عبدالمنعم (تاريخ الحضارة الاسلامية) ط3 كلية الانجلو القاهرة 1973.
34 - مقدسي شمس الدين (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) طبعة دي خوبة ليدن 1906.
35 - المقري أحمد بن محمد (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) القاهرة 1949.
36 - مظهر جلال (أثر العرب في الحضارة الأوربية) دار الرائد بيروت 1967.
37 - مؤنس حسين (فجر الاسلام) الشركة العربية للطباعة والنشر القاهرة 1959.
38 - (تاريخ الجغرافية والجغرافيين) – مدريد 1967.
39 - النعيمي سليم (ألفاظ عن جامع المفردات لابن البيطار) مجلة المجمع العلمي العراقي المجلد 27 لسنة 1976 بغداد.
40 - نوفل عبدالرزاق (المسلمون والعلم الحديث) بيروت 1973.
41 - ياقوت شهاب الدين أبو عبدالله الحموي (معجم البلدان) طبعة الخانجي – القاهرة.
42 - Tawfik Abdullah Aziz (Le Lexiq Francais D' Origne Arab) 1977
رسالة متريز غير منشورة جامعة بول فاليري مونبلييه الثالثة كلية الآداب والعلوم الانسانية.
ــــــــــــــــــــــ
[1] لوبون: حضارة العرب ص263.
[2] ابن عذاري: البيان المغرب جـ2 ص17.
[3] لوبون: حضارة العرب ص266.
[4] العبادي: في التاريخ العباسي والأندلسي ص285، محمد عبدالعزيز عثمان: المرأة العربية في الأندلس مجلة اتحاد المؤرخين العرب العدد الثالث عشر سنة 1980 ص103.
[5] حسين مونس: فجر الاسلام ص421.
[6] العبادي: في التاريخ العباسي والاندلسي ص316.
[7] لوبون: حضارة العرب ص266.
[8] المقري: نفح الطيب جـ1 ص247.
(/29)
[9] توفيق عزيز: المعجم الفرنسي ذات الأصل العربي ص37 رسالة متريز غير منشورة جامعة مونبليه الثالثة.
[10] لوبون: حضارة العرب ص277.
[11] غسان: نهاية الأندلس ص379- 380، لوبون: حضارة العرب ص582.
[12] لوبون: حضارة العرب ص273.
[13] المصدر السابق ص274.
[14] نفس المصدر السابق ص276.
[15] زكريا هاشم: فضل الحضارة العربية ص253.
[16] ابن عذراي: البيان المغرب ص33.
[17] المقدسي: أحسن التقاسيم ص234، ابن الخطيب، الاحاطه، تحقيق محمد عبدالله عفاف جـ1 ص109.
[18] ياقوت: معجم البلدان جـ1 ص26.
[19] العبادي: في التاريخ العباسي والأندلسي ص359.
[20] شاخت: تراث الاسلام ص135.
[21] توفيق عزيز: المعجم الفرنسي ذات الأصل العربي ص40 رسالة متريز غير منشورة جامعة موتبليه الثالثة.
[22] شاخت: تراث الاسلام ص136.
[23] توفيق عزيز: المعجم الفرنسي ذات الأصل العربي ص41.
[24] المقري: نفح الطيب جـ2 ص15.
[25] سيد عبدالعزيز سالم: تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس ص206.
[26] كريم عجيل: الحياة العلمية في مدينة بلنسية ص27.
[27] ابن عذاري: البيان المغرب جـ2 ص245.
[28] ابن خلدون: المقدمة جـ2 ص1240.
[29] ابن جلجل: طبقات الأطباء والحكماء ص98.
[30] العبادي: في التاريخ العباسي والأندلسي ص420.
[31] كريم عجيل: الحياة العلمية في بلنسيه ص263.
[32] خير الله طلفاح: حضارة العرب في الأندلس ص153.
[33] العبادي: في التاريخ العباسي والأندلسي ص420.
[34] المصدر السابق ص421.
[35] آنخل جنثالت بالنثيا: تاريخ الفكر الأندلسي ترجمة حسين مونس ص221.
[36] عبدالرحمن الحجي: الكتب والمكتبات في الأندلس ص361 مجلة كلية الدراسات الاسلامية العدد الرابع، بغداد 1972.
[37] يوسف شويحات العزيزات: دور العرب في ثقافة العالم وحضارته ص170.
[38] طلفاح: حضارة العرب في الأندلس ص150.
[39] محمد زكريا عتاني: الموشحات الأندلسية ص21 وما بعدها الكويت 1980.
(/30)
[40] زكريا هاشم زكريا: فضل الحضارة الاسلامية والعربية على العالم ص572.
[41] عثمان: دول الطوائف ص4084.
[42] العبادي: في التاريخ السياسي والا رى ص373.
[43] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس ص647.
[44] العبادي: في التاريخ العباسي والأندلسي 3559.
[45] لوبون: حضارة العرب ص283.
[46] العبادي: ص414.
[47] الإدريسي: نزهة المشتاق ص312.
[48] ابن عذاري: البيان المغرب جـ2 ص231.
[49] لوبون: حضارة العرب ص284.
[50] المصدر السابق ص290- 291.
[51] شاخت: تراث الاسلام ص137.
[52] توفيق عزيز: المعجم الفرنسي ذات الأصل العربي ص42.
[53] لوبون: حضارة العرب ص566- 567.
[54] شاخت: تراث العرب ص125.
[55] لوبون: حضارة العرب ص572- 573.
[56] شاخت: تراث الاسلام ص136، توفيق عزيز المصدر السابق ص45.
[57] جلال مظهر: أثر العرب على الحضارة الأوربية ص412.
[58] المقري: نفح الطيب جـ4 ص345 وما بعدها.
[59] حكمت نجيب: تاريخ العلوم عند العرب ص231، عبدالمنعم ماجد: تاريخ الحضارة ص225.
[60] مصطفى لبيب عبدالغني: الكيمياء عند العرب ص109.
[61] حكمت نجيب: تاريخ العلوم عند العرب ص279.
[62] ابن بصال، كتاب الفلاحة ص11- 36.
[63] عنان: تراجم اسلامية شرقية وأندلسية ص266.
[64] شريف: دراسات في الحضارة العربية ترجمة شلبي ص80.
[65] عبدالرزاق نوفل: المسلمون والعلم الحديث ص64.
[66] المصدر السابق ص65.
[67] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 501.
[68] الدوميلي: العلوم عند العرب ص353.
[69] حكمت نجيب: تاريخ العلوم ص57.
[70] حكمت نجيب: المصدر السابق ص58.
[71] ابن جلجل: طبقات الأدباء والحكماء ص113.
[72] التغلبي: طبقات الأمم ص103.
[73] المصدر السابق ص84، ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس جـ2 ص126.
[74] حكمت نجيب: تاريخ العلوم ص186.
[75] صالح العلي: دراسة العلوم الرياضية ومكانتها في الحضارة الاسلامية، مجلة المورد، مجلد 3 العدد 4 لسنة 974 ص45.
(/31)
[76] حكمت نجيب: تاريخ العلوم ص331.
[77] توفيق الطويل: العرب والعلم في عصر الاسلام الذهبي ص43.
[78] ابن أبي أصيبعة: عيون الأخبار في طبقات الأطباء ص500، الدوميلي: العلم عند العرب ص401.
[79] الدوميلي: العلم عند العرب ص414.
[80] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء ص602.
[81] سليم النعيمي: ألفاظ عن جامع المفردات لابن البيطار، مجلة المجمع العلمي العراقي العدد 27 لسنة 976 ص31.
[82] شحاته قنواتي: تاريخ الصيدلة والعقاقير في العهد القديم والوسيط ص173 وما بعدها.
[83] عبدالمنعم ماجد: الحضارة الاسلامية ص286.
[84] شاخت: تراث العرب ص308.
[85] المصدر السابق ص310.
[86] عبدالمنعم ماجد: الحضارة الاسلامية ص285- 286.
[87] زكريا هاشم: فضل الحضارة ص514.
[88] حققه عبدالسلام هارون وصدر عن دار المعارف بمصر 1960م.
[89] انظر تاريخ الفكر ص220.
[90] حققه علي محمد الجباوي بأربعة أجزاء طبع القاهرة.
[91] جذوة ص368.
[92] ياقوت: معجم البلدان جـ2 ص582، جـ4 ص517.
[93] أسعد داغر: حضرة العرب ص217.
[94] انستانس الكرملي: فضل العرب على علم الحيوان، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 1044 جـ19 ص326.
[95] جلال مظر: أثر العرب في الحضارة الأوربية 2 ص40.
[96] توفيق عزيز: المعجم الفرنسي ذات الأصل العربي ص50.
[97] شاخت: تراث الاسلام ص137.
[98] لوبون: حضارة العرب ص576.
[99] المصدر السابق ص579.
[100] زكريا: فضل العرب ص373.
(/32)
العنوان: الحكم الشرعي لاستقطاع الأعضاء وزرعها تبرعاً أو بيعاً
رقم المقالة: 282
صاحب المقالة: د. أمين محمد سلاّم البطوش
-----------------------------------------
مقدمة:
إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان وكرمه على خلقه ورباه على عينه، فهو الذي يقول في محكم تنزيله مبرهناً على هذه الحقيقة التي لا مراء فيها: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[1]. ويقول سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[2]. فلما تقدم الإنسان في العلوم ومن بينها علم الطب والجراحة اختلف الناس في استقطاع الأعضاء وزرعها بين مبيح ومانع، وما كان لشيء أن يجد أو يستجد إلا وله حكم في كتاب الله تعالى لقوله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[3]، نتيجة لذلك فإن هذا البحث يقدم محاولة لبيان ما في هذا الأمر من حكم شرعي.
وقد جعلت هذا البحث من مقدمة وفصل واحد يحتوي ثمانية مباحث كما يلي:
فصل: جسم الإنسان – كرامته وامتهانه:
ويحتوي هذا الفصل ثمانية مباحث:
المبحث الأول: أدلة حرمة جسم الإنسان.
المبحث الثاني: إباحة التطبيب والجراحة.
المبحث الثالث: أهمية علم التشريح.
المبحث الرابع: مدى شرعية التشريح.
المبحث الخامس: قواعد الطب الإسلامي.
المبحث السادس: حكم الشرع في بعض الأعمال المستحدثة في الطب والجراحة.
المبحث السابع: حكم الانتفاع بأجزاء الآدمي في حالات الاضطرار.
المبحث الثامن: فتاوى العلماء في هذه المسألة.
(/1)
ثم الخاتمة. راجياً من الله تعالى أن أكون قد وفقت للصواب فيه.
المبحث الأول: أدلة حرمة جسم الإنسان:
إن الله تعالى لما خلق الإنسان خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وطرد إبليس من أجله لعصيانه أن يسجد لآدم، وأسكن آدم الجنة، وعلمه الأسماء كلها، وجعله خليفته في الأرض، فإن كان الإنسان لربه مطيعاً مخبتاً كان أفضل من الملائكة، وإن عصاه كان أدنى من البهائم، كل هذا دليل على التكريم، فهل تراه يسلمه ويذله ويخزيه ما دام يسير طبقاً لخط السير الذي رسمه له ربه، كلا وحاشا أن يكون ذلك.
فها هو سبحانه يقول في حقه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[4] ويخلقه في أحسن صورة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[5] وتتجلى فيه عظمته سبحانه فيقول: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[6]. من أجل ذلك فقد تولاه ربه، وأوصى باحترامه في شرائعه، وحرم قتله بغير حق قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}[7] وهذه قاعدة تحرم مساسه بغير حق. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين في سنته أن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء، كما توعد الله قاتله بالعذاب يوم القيامة قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[8] هذا في الآخرة بالإضافة إلى عقوبة القصاص في الدنيا والحرمان من الميراث إن كان القاتل من ورثة المقتول.
(/2)
فإذا كان قتل المسلم بغير حق لا يحتمل الإباحة، فكذلك فإن قطع عضو من أعضائه لا يحل ولو كان بإذن المجني عليه[9] كما يرى ابن قدامة في المغني[10] ((بينما يرى الحنفية أن أعضاء الإنسان كالمال بالنسبة لصاحبها)) وليس للإنسان أن يقتل نفسه قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[11] أو يتلف أعضاء جسمه قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[12] لأن الحق في سلامة البدن حق مشترك بين العبد وبين ربه[13]، وقد بلغت حرمة جسد الإنسان في نظر فقهاء الإسلام حدًّا جعلهم يرون دفن ما يسقط منه كشعر أو ظفر[14].
قال القرافي في الفروق ما نصه: "إن حق الله تعالى لا يتمكن العباد من إسقاطه والإبراء منه بل إن ذلك يرجع إلى صاحب الشرع"[15].
ويضيف القرافي: "حرم الله القتل والجرح صوناً لمهجة العبد وأعضائه ومنافعها عليه ولو رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك لم يعتبر رضاه ولم ينفذ إسقاطه"[16].
والإنسان منذ بداية تكوينه وهو جنين في بطن أمه أدركته حماية الشرع، فالقرآن يؤرخ له ويقول: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[17]. وألزم الشرع الإسلامي من جنى على امرأة حامل فأسقطت جنينها بغرة عبد كغرامة دنيوية هذا إن سقط ميتاً، أما إن سقط حياً ثم مات ففيه الدية كاملة. حتى أن الأم لو تسببت بإسقاط جنينها بواسطة غيرها لزمتها دية الجنين كذلك، ولم يسلم من أعان على هذا الأمر من تبعة مغبته.
(/3)
أضف إلى ذلك أن المرأة الحامل لو كان عليها القصاص أو الحد فإنه لا يجوز التنفيذ حتى تتم حملها وتضعه وترضع وليدها وتربيه إلى الوقت الذي يستغني بنفسه عنها سواء كان الحد بالنفس أو الأطراف[18]. ويجوز في الشرع الإسلامي شق بطن الأم الميتة لاستخراج ولدها من رحمها، لأن مصلحة حفظ حياته أعظم من مفسدة انتهاك حرمة بدنها الميت[19].
وقد أجمعت المذاهب الإسلامية على تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح إلا لعذر، أما قبل نفخ الروح فإن العلماء قد اختلفت أقوالهم بين الإباحة والكراهة والتحريم[20]. ولكن إن ثبت بطريق موثوق أن الجنين يؤدي إلى وفاة أمه فيجب إسقاطه تطبيقاً لقاعدة ارتكاب أخف الضررين، وهذا يعتبر تضحية بالجزء (الفرع) في سبيل إنقاذ الكل (الأصل)[21].
وأما بعد الموت فقد تولى الشرع الإسلامي حفظ الإنسان وحمى جثته من عبث العابثين، فالرسول صلى الله عليه سولم يقول: ((كسر عظم الميت ككسره حياً)) وفي رواية: ((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم))[22]، ومن أراد المزيد من هذه الأدلة فعليه بالرجوع إلى المذاهب الفقهية وما كتب في أبواب الجنائز، فسيتبين له الأمر بجلاء ووضوح عظيم الحرمة في مساس الأجساد الميتة.
المبحث الثاني: إباحة التطبيب والجراحة:
بالرغم مما تقدم بيانه من تعظيم الشرع لحرمة جسم الإنسان، فإن ضرورة العلاج أو الحاجة إليه تفسح المجال وتبرر المحظور الشرعي. فالتداوي أمر مأمور به شرعاً حفظاً لهذا الإنسان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم))[23].
وتعلم الطب في الإسلام فرض من فروض الكفاية التي يتعين على طائفة من الأمة القيام به وإلا أثمت الأمة جميعاً[24]. وهذا العمل وإن كان من فروض الكفاية فإنه يحتاج إلى شروط إليك بعضها:
(/4)
1 - أن يباشر العمل الطبي مختص فيه مع كون الحاجة ملحة لنتجنب من لا يحذق هذا الفن، فلابد من كونه حاذقاً بصيراً عارفاً[25]. فإن كان غير ذلك فما يحصل من أضرار على يديه كان فيها ضامناً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن))[26].
2 - أن يكون القصد العلاج والرعاية للمصالح المشروعة مع المعرفة بأن الطبيب لا يهدف من عمله غرضاً خاصاً ولا البحث عن الكشف العلمي، بل جل هدفه علاج المريض ومنفعته.
3 - أن يمارس عمله الطبي وفقاً لأصول صنعة الطب وإلا كان ضامناً خشية أن يتولد ما هو أعظم.
4 - إن كان المريض قاصراً، يشترط الإذن من وليه[27].
المبحث الثالث: أهمية علم التشريح:
إن للتشريح أهمية كبيرة إذ بدونه لا يعرف الطبيب مكان العضو ولا كيفية اتصاله بالبدن، كما أن للتشريح أهمية أخرى وذلك في الكشف عن السبب الحقيقي للموت في قضايا الجنايات، هذه الأهميات تقف أمام نظرة الناس إلى الجثة الآدمية نظرة ملؤها التقديس والحرمة، ولقد قام علماء من المسلمين القدامى بتشريح الجسم الإنساني وإن كانوا لم يقولوا صراحة بجواز التشريح كابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى وابن الهيثم الذي قام بتشريح العين[28].
ولقد استشهد الفقهاء في مواقف عديدة على تصحيح آرائهم على نتائج علم التشريح في زمانهم. أما قبله فكأنها إباحة غير صريحة لهذا العلم.
وإليك أقوال المذاهب في هذا الموضوع:
الحنفية: ((حامل ماتت وولدها حي يضطرب، يشق بطنها من الأيسر ويخرج ولدها... ولو مات الولد في بطنها وهي حية وخيف على الأم قطع وأخرج بخلاف ما لو كان حياً))[29].
وكذلك لو بلع مال غيره ولا مال له هل يشق ؟ قولان، الأول: نعم وإن كانت حرمة الآدمي أعلى من صيانة حرمة المال، إلا أنه أزال حرمته بتعديه.
(/5)
وجاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم تحت قاعدة (الأشد يزال بالأخف) أنه يجوز شق بطن الميتة لإخراج الولد إن كانت ترجى حياته بخلاف ما إذا ابتلع لؤلؤة فمات فإنه لا يشق بطنه لأن حرمة الآدمي أعظم من حرمة المال.
المالكية: اختلفوا في شق بطن المرأة، وقيده البعض بأن يكون في السابع أو التاسع أو العاشر[30].
الشافعية: إذا ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي يشق جوفها لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه ما إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت، واشترطوا لذلك حياة الطفل بأن يكون له ستة شهور فصاعداً[31].
الحنابلة: إذا ماتت امرأة حامل شق جوفها، فإن احتملت حياته وتعذر إخراجه بالطريق المعتاد قال البعض يشق، والمذهب لا، لا تدفن حتى يموت[32].
الظاهرية: إن ماتت امرأة حامل والولد يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق بطنها طولاً ويخرج الولد، ويبرر شق البطن في هذه الحالة بأنه ارتكاب لأخف الضررين وأدعى لتحقيق المصلحة.
فمن أقوال الأئمة المتقدمة يتبين لنا جواز شق بطن الميت من أجل إنقاذ الحي فمصلحة إنقاذ الحي مقدمة على مفسدة هتك حرمة الميت، ولكن مما تقدم رأينا أن بين الحي والميت تعلقاً وارتباطاً لا يسهل انفكاكه، فهل بالإمكان أن نعدي هذا الجواز إلى ما هو أبعد من ذلك ؟ هذا ما سنصل إليه إن شاء الله ولكن بشروط منها: موافقة ذوي الشأن، ووجود ضرورة تتطلب التشريح وعدم التمثيل في الجثة.
المبحث الرابع: مدى شرعية التشريح:
لما كانت شريعة الإسلام تنزيلاً من حكيم حميد عليم بما كان وما سيكون، أنزلها على خير الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين، فقد جعلها سبحانه قواعد كلية، ومقاصد سامية شاملة، فكانت تشريعاً عاماً خالداً صالحاً لجميع طبقات الخلق في كل زمان ومكان.
(/6)
إن كثيراً من الجزئيات والوقائع التي حدثت لا نجدها منصوصاً عليها نفسها في الكتاب أو السنة، وربما لم تكن وقعت من قبل فلا يعرف لسلفنا الصالح فيها حكم، لكن من البحث العلمي يتضح أنها مندرجة في قاعدة شرعية عامة، ومن ثم يعرف حكمها.
ومسألة التشريح لجثث موتى بني آدم لا تعدو أن تكون جزئية من هذه الجزئيات التي لم ينص عليها في نص خاص، فشأنها شأن الوقائع التي جدت، لابد أن تكون مشمولة بقاعدة كلية من قواعد الشريعة وشمولها وصلاحيتها لجميع الخلق، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[33] وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[34] وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[35].
(/7)
إن من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما، ومسألة التشريح داخلة في هذه القاعدة على كل حال، فإن مصلحة حرمة الميت – مسلماً كان أو ذمياً – تعارضت مع مصلحة أولياء الميت والأمة. فالمتهم عند الاشتباه مثلاً يطلب تشريح جثة المجني عليه لإثبات الجناية أو نفيها وفي هذا حفظ للحق وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن والتحقق من المجرمين لردع من تسول له نفسه ارتكاب جريمة يظن أنها تخفى على الناس. كما أن الشخص قد يموت موتاً طبيعياً وفي التشريح تبرئة للمتهم، أضف أنه يمكن الكشف على الأمراض السارية بواسطة التشريح، وبذلك تحفظ الأمة من الأوبئة والأمراض السارية الخطيرة. من هذا تبرز أهمية علم التشريح، وما دام أنه جزء من علم الطب فالعلم به إذن من فروض الكفاية التي لابد لجماعة من المسلمين معرفته والتدرب عليه. ولذلك فإن التدرب على الجثث الحقيقية يعرف الطبيب بمكان العضو المصاب وأوصافه، خلافاً لمن رأى التدرب على الجثث غير الآدمية لاختلاف الأوصاف وعدم التمكن من الوصول إلى الحق في هذا الموضوع.
المبحث الخامس: قواعد الطب الإسلامي:
قواعد الطب الإسلامي تؤخذ من القواعد الكلية في الفقه الإسلامي.
أولاً - قواعد التصرف في الحق لسلامة الحياة والجسد:
أ - حق الله تعالى وحق العبد في نفس هذا الأخير يوكلان لمن ينسبان إليه ثبوتاً وإسقاطاً.
ب - لا يجوز لإنسان أن يتصرف في حق الغير إلا بإذنه.
ج - قتل الإنسان أو فصل عضو من أعضائه لا يحتمل الإباحة بغير حق.
د - لا يملك الإنسان إسقاط حقه، فيما اجتمع فيه حق الله تعالى، لعدم جواز تصرفه في حق الله تعالى.
هـ - يقدم ما كان فيه حق الله وحق العبد على ما كان فيه حق العبد وحده[36].
و - حق الله مبني على التسهيل بخلاف حق الآدمي فإنه مبني على التشديد إلا عند الضرورة[37].
(/8)
ثانياً: قواعد المفاضلة بين المصالح والمفاسد:
1 - جواز ارتكاب أخف الضررين دفعاً لأعظمهما، فالواجب تحصيل أعلى المصلحتين، فإن تعذر رخص في التقديم والتأخير بينهما، ومثاله من صال على نفسين مسلمتين فلم نتمكن من دفعه عنهما فإننا ندفع عن أي واحدة منهما[38].
أ – إذا اجتمعت المفاسد في عمل واحد فإنه لا تفاضل بينها لأن الواجب درء الجميع، فإن تعذر ذلك درأنا الأفسد فالأفسد[39].
ب – إذا اجتمعت المصالح والمفاسد، فالمطلوب تحصيل المصالح ودرء المفاسد جميعاً إن أمكن، فإن تعذر ذلك وكانت المفسدة أعظم من المصلحة أو مساوية لها درأنا المفسدة وفوتنا المصلحة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح[40]. أما إن كانت المفسدة أعظم من المصلحة التي تقابلها فتقدم المصلحة[41]، من ذلك مثلاً أن مصلحة إنقاذ الحي أولى بالرعاية من مفسدة انتهاك حرمة الموتى[42] بشرط أن تكون المصلحة راجحة على المفسدة وأعظم منها.
ج – يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام[43].
2- الضرورات تبيح المحظورات:
أ – تقدر الضرورة بقدرها[44].
ب – يجب أن تكون المصلحة التي تقتضيها الضرورة أعظم من مفسدة المحظور.
ج – الضرر لا يزال بمثله[45]، فلا يجوز مثلاً لشخص قتل غيره ليدفع الضرر عن نفسه. وذلك بأخذ علاجه أو غذائه الذي هو بحاجة إليه بمثل حاجته هو.
د – الحاجة تنزل منزلة الضرورة سواء كانت الحاجة عامة أو خاصة[46].
هـ - الاضطرار لا يبطل حق الغير[47].
ثالثاً: قواعد مزاولة العمل الطبي والجراحي:
1 - حق التطبيب والجراحة لأن الشرع أجاز التداوي، فهذا يتضمن جواز ممارسة الطب.
2 - جواز ممارسة الطبيب للجراحة لا تعطيه حق تشريح أجساد الآخرين إلا بالرضا من المريض باستثناء حالات الاستعجال والضرورة.
3 - مراعاة أصول العلاج في حفظ الصحة الموجودة للمريض ورد المفقودة بقدر الإمكان وإزالة العلة أو تقليلها بقدر الإمكان.
4 - استعمال طرق العلاج الأسهل فالأسهل.
(/9)
5 - لا مسئولية على الطبيب فيما يجوز له فعله.
6 - لا يتقيد عمل الطبيب بشرط السلامة، لأن المطلوب منه القيام بالمعتاد ما دام رضي المريض أو وليه بذلك.
المبحث السادس: حكم الشرع في بعض الأعمال المستحدثة في الطب والجراحة:
الإسلام بطبيعته يشجع البحث العلمي ويدعو إليه فالله تعالى يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}[48]. إلا أن للبحث العلمي في بعض الأحيان هفواته التي لا تغتفر، وشطحاته التي لا تصيب الهدف، وعلى ذلك لابد من تمحيص النتائج على ضوء القواعد التي وضعها صاحب الشرع سبحانه وتعالى، العليم بأحوال عباده فإنه كما قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[49].
قطع الأعضاء البشرية لغرض الزرع:
لما كان مما يجوز للطبيب أن يعمل مبضعه في جسم المريض من أجل علاجه وإبعاد الأذى عنه، فهل له مثل ذلك ولكن في جسم سليم ليخلص جسماً آخر هو بحاجة إلى العلاج ؟ أي هل يجوز أن يكون علاج المريض جزءاً أو قطعة أو عضواً من جسم سليم ؟ فيكون الأول معطياً والآخر آخذاً أو متلقياً.
بالنسبة لزرع عضو في جسم المريض من أجل إنقاذه لا إشكال عليه في الشريعة الإسلامية، فإنه علاج مباح ما دام حصل إذن الشرع بالعلاج وإذن المريض بالتداوي وتقبله ولكن الصعوبة كل الصعوبة في قطع العضو من الحي أو الميت.
فلنتكلم أولاً على استقطاع عضو حي لإنقاذ حي بحاجة إلى ذلك العضو:
أول ما نلجأ إليه في مثل هذا الأمر هو البحث في الشريعة الإسلامية قبل غيرها، فإن أجازت هذا العمل ترتب عليه الجواز من الناحية الطبية وإلا فلا، والحقيقة أنه لا نص على هذه القضية بصراحة في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة، بل هي قضية تندرج تحت غيرها من القواعد الكلية كما أسلفت فيما سبق، والقواعد الفقهية تراعي ثلاثة أمور في الغالب هي:
دينية: تتصل بمدى حرمة الانتفاع بأجزاء الآدمي حياً أو ميتاً.
(/10)
فقهية أو قانونية: تتعلق بالوسيلة الفنية التي يمكن بواسطتها بلورة هذا الانتفاع.
تزاحم المصالح: أي المفاضلة بين المصالح المتزاحمة.
نجد أن الفقهاء أجازوا الانتفاع بلبن الظئر، وذلك بتأجيرها أو استئجارها، فقد اختلفوا في الناحيتين الأولى والثانية، ولكن هذا الاختلاف دل على سعة الأفق والتوقعات المستقبلية لما يجد ويستحدث، مما يحفز المختص في أن يبحث مدى شرعية استقطاع الأعضاء من جسم حي أو ميت لغرض الزرع، وعليه فلابد من الموازنة والترجيح بين أدلة الإباحة وأدلة الحظر:
هل جسم الإنسان من الأموال وهل هو ملك لصاحبه ؟
والصحيح أن جسم الإنسان ليس مالاً له ولا يجوز بيعه.
فلا الشرع ولا الطبع ولا العقل يجيز بيع الأجزاء الآدمية، لأن الله كرمه وميزه عن غيره، والأصل في المبيعات أن تكون أشياء خارجة عن الإنسان، وأعضاؤه ليست خارجة عنه[50]. وإذا أراد الناس أن يقولوا: ولكن الإنسان تضمن قيمته إذا قتل، قلنا: إن هذا استدلال فاسد لأن الأصل في الضمان في الفقه الإسلامي يتمثل في القضاء الكامل للمضمون صورة ومعنى وإن جاز في بعض الحالات فإنه على سبيل الاستثناء[51]. وهو قول الجماهير من أهل العلم.
وعند الحنفيه: أن أطراف الإنسان تعتبر من قبيل الأموال بالنسبة لصاحبها[52]، ومعنى الأطراف هنا ينسحب على أي عضو أو جزء من الأجزاء الإنسانية معزولاً عن باقي الأعضاء التي لا يجوز التصرف بمجموعها.
ولكن الإنسان يستطيع أن يضحي بجزء من أجزاء بدنه لإنقاذ حياته[53]، فهي كالمال خُلق وقاية للنفس[54]. ونجد أن الحنفية أنفسهم أجازوا العقد على منافع الأشياء – بالإجارة – بالرغم من أن المنافع ليست من الأموال عندهم، وهو استحسان تبرره الضرورة[55].
هل أجزاء الإنسان المنفصلة عنه طاهرة ؟
إن من شروط صحة العقد أن يكون محل العقد طاهراً منتفعاً به طبعاً وشرعاً[56]، فلا يصح العقد على نجس أو محرم.
(/11)
لم يتفق الفقهاء على طهارة الجزء المنفصل، فعند الحنفية أن ما انفصل عن جسم حي وكان فيه دم فهو نجس لا يجوز الانتفاع به[57]. ونص أيضاً على أنه لا يجوز التداوي بعظم الآدمي أو أي جزء منه لعدم الطهارة أو الكرامة الإنسانية[58].
أما المذاهب الأخرى فالراجح فيها أن أجزاء الآدمي المنفصلة طاهرة كجملته[59]، كما ذهب نفر إلى جواز بيع أجزاء الإنسان إذا كان يستفاد منها[60].
أما بالنسبة لجثة الإنسان فالراجح في المذاهب الفقهية أنها طاهرة خلافاً لبقية الميتات[61] لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنجسوا أمواتكم فإن المؤمن لا ينجس حياً أو ميتاً))[62]، ولكن منع النووي من الانتفاع بأي جزء من أجزائه بعد الموت لحرمته وكرامته ويتعين دفنه.
ويحسن بنا أن نفهم أن حرمة استعمال الدواء النجس إنما تكون عند عدم وجود الطاهر، فإن لم يوجد الطاهر جاز استعمال النجس للضرورة وليس في هذا مخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)) أو ((لا شفاء في نجس))[63]. ويجوز للإنسان أن ينتفع بجزء من أجزائه للتداوي بشرط أن تكون المصلحة في ذلك أعظم من ترك الجزء، وتطبيقاً لذلك يجوز لصق ما انفصل من الجسد في موضعه[64]، كما ويجوز ترقيع الجلد المحروق من مكان آخر سليم.
ومعلوم في الفقه الإسلامي أنه لا يجوز بيع الأجزاء الآدمية لأنها ليست ملكاً للشخص بل هي بمجموعها مسخرة للإنسان ليقوم بطاعة ربه وقضاء حوائجه، ولكن إذا كان بالهبة وبدون مقابل فما الذي يمنع ذلك بشرط أن تكون القضية بوسيلة جائزة ومشروعة.
وقد أجاز الفقهاء إجارة الظئر كما قدمنا فهو بيع لأجزاء آدمية بشرط الرضاء الصحيح المحل المبين، والسبب المشروع. فلبنها مال متقوم يجوز بيعه عند الشافعية[65]، والحنابلة في رواية، وعند المالكية[66] والله تعالى يقول: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}[67].
(/12)
المبحث السابع: حكم الانتفاع بأجزاء الآدمي في حالات الاضطرار:
لقد أباح الشرع الإسلامي أكل المحرمات، وورد ذلك في القرآن الكريم كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[68]. ومن هذه الآية المباركة خرج الفقهاء بقاعدة كلية تقول: ((الضرورات تبيح المحظورات وأن الضرورة تقدر بقدرها)). والذي يتضح لي في هذا الموضوع أن الله تعالى الذي أباح أكل الميتة لتبقى الحياة لا يمنع من إباحة الاستدواء بها، فإن ضرورة الدواء كضرورة الغذاء تبيح المحظورات، ويزيد هذا القول قوة أن إباحة الأكل جازت خوفاً من الهلاك ومثله العلاج نستعمله خوفاً من الهلاك.
والفقهاء القدامى منعوا من الانتفاع بلحم الإنسان على بني جنسه[69] في أبواب الضرورة[70] لا أبواب الأطعمة. والضرورة في رأي الفقهاء تبيح التداوي بالمحرم إذا لم يوجد غيره من المباحات يقوم مقامه، وعليه فهل الضرورة تبيح استقطاع أجزاء من جسم الإنسان أو جثة كوسيلة لعلاج إنسان آخر ؟
يذهب الحنفية: إلى عدم جواز التداوي بعظم الآدمي أو أي جزء من أجزائه[71]، بينما خالف في ذلك السرخسي وأجاز المداواة في العظم[72].
ويذهب المالكية: إلى أن الضرورة لا تبرر الانتفاع بأجزاء آدمي غيره ولو كان ميتاً، وهذا يشمل عندهم غير معصوم الدم كالمرتد، لكرامة الإنسان التي تتعلق بإنسانيته بصرف النظر عن صفته، وهناك سبب آخر وهو الخوف من هلاك الحي بسبب ذلك[73] كما أن بعضهم يرى أن السبب تعبدي لا تدرك حكمته.
وأما الظاهرية: لا يجيزون الانتفاع بأجزاء الآدمي إلا اللبن وحده لوجود نص بإباحته[74].
وأما الحنابلة: فهم لا يجيزون حتى للمضطر الانتفاع بأجزاء الآدمي ولو ميتاً متى كان معصوم الدم قبل موته[75].
ومن تقدم يحرم هذا العمل حتى للضرورة.
(/13)
ومن جانب آخر، يجيز الشافعية للمضطر أن ينتفع بأجزاء الآدمي سواء كان معصوم الدم أو مهدور الدم وفقاً للتفصيل التالي:
يجوز للمضطر أن يستعمل جسم إنسان مهدور الدم كالحربي والزاني المحصن أو جثته في الغذاء[76]، ولا يجوز عندهم أن يقطع جزءاً للغذاء، ولا أن يقدم جزءاً للمضطر لأن الضرر لا يزال بمثله[77]. ويجوز للمضطر، عند الشافعية أن يقطع جزءاً من جسمه ليأكله إن لم يجد غيره، لأنه إحياء للنفس بإتلاف عضو فجاز، وهذا من باب استيفاء الكل بزوال الجزء وعللوا الجواز قياساً على قطع العضو الذي أصابته الأكلة (الغرغرينا) لإحياء النفس[78].
ومؤدى هذا أنه يجوز عندهم استقطاع جزء من جسمه لمصلحته العلاجية، وهو جواز مشروط بما يلي:
1 - ألا يجد المضطر غيره، ولو مغلظ الحرمة كلحم الخنزير.
2 - أن يكون المضطر معصوماً، فلو كان مهدور الدم لم يجيزوا له الانتفاع بلحم الآدمي الميت.
3 - ألا يكون المضطر ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً إذا كانت أجزاء الميتة لمسلم.
4 - أن يكون الضرر المترتب على عدم الانتفاع أعظم من الضرر المترتب على عدم مراعاة المحظور (أي المصلحة أعظم من المفسدة)[79].
وكل هذا في أجزاء الميت خلافاً لأجزاء الحي.
ونتيجة لما تقدم من الحظر والإباحة بشروط كل منهما، فهل إذا توافرت شروط الضرورة ورضاء الإنسان بأن يعطي عضواً من جسده، إذا كان الهدف من ذلك لا يتعارض مع الكرامة الإنسانية، والمصلحة أعظم من المفسدة، فهل تنقلب الضرورة إلى إباحة أم لا ؟
أمام هذا الجواب عقبتان:
الأولى: دينية تتجسد في حرمة الآدمي وكرامته من ناحية وفي الضرر الذي يعود عليه من ناحية أخرى.
والثانية: تتجسد في الطابع الفقهي لأنها تتصل بالوسيلة (العقود) التي يمكن بها نقل الانتفاع بأجزاء الآدمي إلى آخر غيره.
(/14)
فالعقبة الثانية لا تستوقفنا كثيراً لأن قضايا العقود تختلف من وقت لآخر، بينما في العقبة الدينية لابد لنا من وقفة، فإنه لما كان جسم الإنسان يتعلق فيه حقان: الأول: حق الله تعالى، والثاني: حق الآدمي، ولابد من معرفة إذن الشرع وإذن الآدمي كي نرتب عليهما جواباً نهائياً لهذه المسألة.
فالله تعالى يقول: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[80]. ففي هذه الآية الكريمة الدليل الواضح لحفظ المصالح الاجتماعية.
ويقول تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[81]. فالتضحية من أجل الغير لها حدود تتقيد بها بشرط أن لا تؤدي إلى الهلاك أو الضرر. والسنة النبوية قد عبرت عن الوحدة الإنسانية ومدى ارتباط المؤمن بأخيه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[82]. فمن هذا الحديث الشريف يمكن أن نقول بصراحة: إن أجزاء المسلمين إذا نقلت إلى بعضها البعض دون ضرر للمعطي فإنها مباحة وليست من تغيير خلق الله؛ لأن المسلمين جسد واحد. والأحكام الشرعية إنما جعلت لمصالح العباد، فقد ترى الشيء لا مصلحة فيه فيمنع منه الشرع، فإذا وجدت المصلحة فيه جاز[83].
وإن صدور عدة فتاوى بإباحة نقل القرنية من إنسان لآخر منها فتوى دار الإفتاء المصرية الواردة في السجل رقم 88 مسلسل 512 ص93، وفتوى رقم 73/1966 المسجلة رقم 500/100 متنوع[84].
شروط إباحة الاستقطاع من الجثة:
1 - أن تكون حالة الضرورة واضحة بينة.
2 - التحقق من موت الشخص المستقطع منه.
3 - أن يكون قد أذن بذلك بدون مقابل في أثناء حياته أو رضي وليه بعد مماته.
(/15)
4 - أن تكون من مسلم إلى مسلم بناء على الحديث المتقدم.
5 - أن يكون المعطي إنساناً بالغاً عاقلاً راشداً، وله حق الرجوع متى شاء.
6 - أن لا يتجاوز حالة الضرورة للقواعد الشرعية.
المبحث الثامن: فتاوى العلماء في هذه المسألة[85]:
انعقدت الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية في شهر شعبان عام 1396هـ، وكانت قد تقدمت سفارة ماليزيا بجدة بمذكرة تستفسر فيها عن حكم إجراء عملية جراحية على ميت مسلم لأغراض مصالح الخدمات الطبية، كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وتبين أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية.
الثاني: التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة للوقاية منها.
الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلماً وتعليماً.
وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه قرر المجلس ما يلي:
بالنسبة للقسمين – الأول والثاني – فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقاً لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك حرمة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وأن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا.
(/16)
وأما بالنسبة للقسم الثالث وهو التشريح للغرض التعليمي فنظراً إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان، وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة، فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة، إلا أنه نظر إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتاً كعنايتها بكرامته حياً وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كسر عظم الميت ككسره حياً)) ونظراً إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسير الحصول على جثث أموات غير معصومة. فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم[86].
الخاتمة:
مما تقدم بحثه وبيانه رأينا كيف أن الإسلام حافظ على الكرامة الإنسانية، ومنع من مساسها بغير ضرورة واضحة، ومنع من المثلة بجسم الإنسان كائناً من كان، فقد ورد النهي عن المثلة ولو بالكلب، وعظَّم من حرمة الإنسان حياً وميتاً فقال صلى الله عليه وسلم: ((كسر عظم الميت ككسره حياً))[87]، وكل ذلك رفعاً لمكانة الإنسان واعتباراً لإنسانيته، فكيف إذن نتخلى عن هذه الكرامة الربانية وتلك العظمة التي قد عظمه ربه.
(/17)
لو أمعن الإنسان النظر ودققه لوجد أن الإذن بإعطاء الأعضاء بغرض التبرع للزرع في جسم من يحتاجها هو أيضاً كرامة جديدة للإنسان الذي يبذل ويعطي في حياته وبعد مماته، وأي عظمة تداني عظمة الإنسان الذي تلك صفاته. إن الإذن بذلك ليس فيه امتهان لجثة الشخص ما دام أننا تقيدنا بالشروط التي تقدمت، والتزمنا بالقواعد الشرعية التي فصلت، وهذا يؤيده صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه))[88]، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح وضع أنف من ذهب لمن قطع أنفه، روى أبو داود قال: ((حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن عبدالله الخزاعي، المعنى قالا: أخبرنا أبو الأشهب عن عبدالرحمن بن طرفة أن جده عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم: فاتخذ أنفاً من ذهب))[89]، ولو كان الطب متقدماً في زمنه صلى الله عليه وسلم كتقدمه في عصرنا الحاضر لأباح زرع أنف عادية، بدليل أنه أمر بوضع أنف له من أنفس المعادن، ولاشك أن الأنف التي من اللحم أنفس من تلك التي من الذهب.
كما أن نفع المحتاج بالعضو المطلوب أولى من دفنه في التراب ونحن بحاجة إليه.
(/18)
وبناء على ما تقدم فإنني أرى أنه لا مانع من إعطاء الأعضاء والتبرع بها وزرعها بشرط الضرورة الملحة، والتحقق من الموت للمعطي، بإذنه المسبق أو إذن وليه، من مسلم إلى مسلم، ومن غير المسلم لغير المسلم، وبقدر الضرورة وليس من المسلم لغير المسلم، أو لمهدور الدم، كقاتل عمد أو مرتد أو زان محصن مستوجب للقصاص؛ لأن في هذا الأخير إعانة على الظلم والباطل، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[90] وللحديث المتقدم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[91]. ولا مانع من إعانة هذا الصنف الأخير لعل في ذلك ما يعيده إلى جماعة أهل الحق، تأليفاً لقلبه، وإحساناً إليه، وأملاً في أن يكون عضواً صالحاً في المجتمع.
كما أنني لا أرى فتح الباب على مصراعيه أمام الناس في التبرع بالأعضاء بل بحسب الحاجة وعلى قدر الضرورة، خشية أن ينقلب الأمر إلى امتهان كل جثة، وهذا ليس من باب الضرورة في شيء لما فيه من تشويه الأموات وإن كان بإذن مسبق منهم ولكن يطلب العضو عند الحاجة إليه، ولا بأس أن يكون عندنا الشيء اليسير من الأعضاء المحفوظة للحاجة الذي لا نضطر معه لطلب غيره، فإنه لا ضرر ولا ضرار، وإنه ليس من شك أن إفادة الناس بعضهم بعضاً دليل على الكرامة الإنسانية وليس عكسها. والله أعلم وأحكم.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الإسراء، الآية 70.
[2] سورة فاطر، الآية 11.
[3] سورة الأنعام، الآية 38.
[4] سورة الإسراء، الآية 70.
[5] سورة التين، الآية 4.
[6] سورة المؤمنون، الآية 14.
[7] سورة الاسراء، الآية 33.
[8] سورة النساء، الآية 93.
[9] المغني لابن قدامة، ج7، ص723، ط3، القاهرة 1367هـ.
[10] انظر كشف أصول البزدوي، ج1، ص297، القاهرة 1307هـ.
[11] سورة النساء، الآية 29.
(/19)
[12] سورة البقرة، الآية 195.
[13] ابن عبدالسلام، ج1، ص122.
[14] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج2، ص102.
[15] الفروق، ج1، ص195.
[16] المصدر السابق، ص140.
[17] سورة الإنسان، الآيتان 1، 2.
[18] حاشية الدسوقي، ج4، ص260، والمغني، ج7، ص731.
[19] ابن عبدالسلام، ص97.
[20] محمد عليش، ص34، الجنين والأحكام المتعلقة به/ محمد سلاّم مذكور، ص301 وما بعدها، المجموع شرح المهذب، ج5، ص301، الفتاوى الهندية، ج5، ص376.
[21] ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، ج1، ص602، القاهرة 1353هـ.
[22] السيوطي، الجامع الصغير وشرحه، ج4، ص550.
[23] سنن أبي داود، كتاب الطب، ج4، ص3، تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبدالحميد.
[24] محمد حسنين مخلوف، فتاوى شرعية وبحوث إسلامية، ج1، ط2، ص360، القاهرة 1962م. محمد فتحي بهنسي، المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي، ص148، القاهرة 1961م.
[25] المغني لابن قدامة، ج6، ص120، ط1، 1347هـ.
[26] السيوطي، الجامع الصغير وشرحه، ج6، ص106، وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم.
[27] ابن حزم، المحلى، ج10، ص444، 1352هـ، المغني، ج6، ص121، أبو زهرة، الجريمة والعقوبة، ج1، ص475.
[28] قنديل شاكر شبير، تشريح جسم الإنسان لأغراض التعليم الطبي، ص10، فراج، ص53.
[29] رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج1، ص628، ط3، 1323هـ.
[30] محمد عليش، فتح العلي المالك، ص135.
[31] المصدر السابق، ج5، ص301.
[32] ابن قدامة، ج2، ص551.
[33] سورة مريم، الآية 64.
[34] سورة النساء، الآية 165.
[35] سورة المائدة، الآية 3.
[36] حفظاً لمهجة العبد، ابن عبدالسلام، ج1، ص57، السيوطي، ص81. ومنه جواز أكل النجاسات والميتة للضرورة.
[37] المجموع للنووي، ج9، ص40.
[38] ابن عبدالسلام، ج1، ص84.
[39] مجلة الأحكام العدلية، 29 (يختار أهون الشرين)، صبحي محمصاني، فلسفة التشريع في الإسلام، ص271، بيروت 1961م. السيوطي، ص88.
(/20)
[40] مجلة الأحكام العدلية، م 30، ابن عبدالسلام، ج1، ص92.
[41] ابن عبدالسلام، ج1، ص88، 97، وقد مثل له بقطع الأيدي المتآكلة حفظاً للأرواح.
[42] النووي، ج9، ص4.
[43] مجلة الأحكام العدلية، م 21.
[44] نفس المصدر السابق، السيوطي، ص85.
[45] مجلة الأحكام العدلية، م 25.
[46] مجلة الأحكام العدلية، م 32.
[47] مجلة الأحكام العدلية، م 33.
[48] سورة الزمر، الآية 9.
[49] سورة يوسف، الآية 76.
[50] السرخسي، ج5، ص125، البخاري، ج1، ص171، 175، 176.
[51] انظر الكاساني، ج7، ص56.
[52] المصدر السابق، ج2، ص202، 121، 236، 243، ابن عابدين، ج5، ص377، ابن الهمام، ج5، ص363، ابن مسعود والتفتازاني، ج2، ص200، الفتاوى الهندية، ج6، ص32، البخاري، ج1، ص197، وفي الفقه المالكي انظر عليش ص271.
[53] الطوارئ تكملة البحر الرائق، ج8، ص311.
[54] الكاساني، ج7، ص257، 297.
[55] السرخسي، ج1، ص78، 79، الزيلعي، ج6، ص202.
[56] ابن الهمام، ج5، ص251، محمصاني، النظرية العامة للموجبات، ج1، ص9.
[57] ابن عابدين، ج1، ص142، وذهبت الفتاوى الهندية: أنه لا يجوز الانتفاع بسعر الآدمي، ج3، ص88.
[58] الفتاوى الهندية، ج2، ص354، وورد في السرخسي، ج1، ص47: أن الآدمي طاهر ويجوز المداواة بالعظم البالي.
[59] السرخسي، ج5، ص125، 354، ابن الهمام، ج2، ص65، الكاساني، ج5، ص142.
[60] الحطاب، ج1، ص230، عبدالرحمن بن رجب، القواعد، ج4، القاهرة 1933م قاعدة رقم 5/2.
[61] النووي، ج2، ص560، 563.
[62] القرطبي، ج2، ص230.
[63] النووي، ج2، ص138، 562.
[64] النووي، ج3، ص139، المغني، ج7، ص812.
[65] الحطاب، مواهب الجليل، ج1، ص80، ابن رشد، ج2، ص105، القرافي، ج9، ص241، المغني، ج4، ص260.
[66] السرخسي، ج15، ص125.
[67] سورة الطلاق، الآية 6.
[68] سورة البقرة، الآية 173.
[69] الموسوعة الفقهية، ف3/2، ص15.
[70] ابن نجيم، ص15، وما بعدها، الموسوعة الفقهية، ص82، ف136.
(/21)
[71] ابن عابدين، ج5، ص215، الطوارئ، ج8، ص70، ابن الهمام، شرح فتح القدير، ج8، ص64، الفتاوى الهندية، ج5، ص254.
[72] ج5، ص47.
[73] الموسوعة الفقهية، ف136، ص83، ابن عابدين، ج2، ص628.
[74] ابن حزم، المحلى، ج1، ص133، ج7، ص399.
[75] ابن حزم، ج2، ص24.
[76] ابن عبدالسلام، ج1، ص90، وقد علل الحكم بأنه لا حرمة لحياة مثله لأنها مستحقة للإزالة، وأن المفسدة في زوالها أقل من المفسدة في فوات حياة المعصوم.
[77] السيوطي، ص87.
[78] النووي، ص41، 45، الموسوعة الفقهية، ف151، ص92.
[79] الموسوعة الفقهية: ف151، ص92، السيوطي، ص87، النووي، ج3، ص139.
[80] سورة المائدة، الآية 32.
[81] سورة البقرة، الآية 195.
[82] متفق عليه.
[83] الشاطبي، الموافقات، ج2، ص213.
[84] محمد حسنين مخلوف، فتاوى شرعية وبحوث إسلامية، ص364.
[85] قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم 47 وتاريخ 20/8/1396 في دورته التاسعة.
[86] أحمد عيسى عاشور الفقه الميسر في العادات والمعاملات، ط4، مكتبة الاعتصام، 1399هـ - 1979م، ص423- 424.
[87] أبو داود، ج2، ص69، ابن ماجه، ج1، ص492 وغيرهم.
[88] رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه.
[89] عون المعبود بشرح ابن القيم، ط2، ج11، 1389، ص293.
[90] سورة المائدة، الآية 2.
[91] رواه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير.
(/22)
العنوان: الحكمة في القصاص والحدود
رقم المقالة: 761
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الحكيم العليم العزيز الرحيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي خلق فأتقن وحكم فأحكم ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي كان بالمؤمنين رحيماً وكان لحدود الله حافظاً مقيماً، أقسم بالذي نفسه بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها عدلاً شاملاً وهدياً قويماً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
(/1)
أما بعد، أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى وتأملوا أحكامه وحدوده بعلم وإيمان تجدوها تابعة للحكمة والمصلحة في كل زمان ومكان، فإن الذي وضع تلك الحدود هو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، علم أن مصالح العباد لا تقوم إلا بها فشرعها وعلم أن بها درءاً للمفاسد فأمر بها وحتمها. فالحدود تمنع من الجرائم وتكفر ما اقترفه المجرم من المآثم، انظروا إلى البلاد التي تقام فيها الحدود كيف يستتب فيها الأمن والاطمئنان، وأما البلاد التي لا تقام فيها الحدود فتكثر فيها الجرائم والاعتداء والطغيان. فمن الأحكام التي شرعها الله تعالى قتل القاتل، فإن القاتل المتعمد للقتل يقتل إذا تمت شروط القصاص {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لأن القاتل إذا علم أنه سيقتل فلن يقدم على القتل وبذلك تكون الحياة، ثم إن القتل حق لأولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا القاتل وإن شاؤوا عفوا عنه مجاناً أو أخذوا الدية، وعليهم أن يراعوا المصلحة في ذلك فيأخذوا بما هو أصلح من عفو أو دية أو قصاص. انظروا إلى السارق كيف يسرق ما يساوي ربع دينار فتقطع يده بذلك حفظاً للأموال عن الاعتداء عليها، فإن السارق إذا علم أنه تقطع يده اليمنى إذا سرق فإنه لا يمكن أن يسرق، وإذا قطعت اليد المحترمة التي لا يباح قطعها كان فيها نصف الدية خمس مئة دينار. فلله ما أعلى هذه الحكمة وأبلغها وأنسبها للمصالح، تقطع اليد بربع دينار إذا سرقت حفظاً للأموال، وتضمن إذا قطعت ظلماً بخمس مئة دينار حفظاً للأبدان. انظروا - رحمكم الله - إلى جريمة الزنا وهي فاحشة نكراء، كيف جعل الله فيها حدا مناسباً لحال الزاني؟ فإن الزاني إن كان بكراً وهو الذي لم يتزوج فإن حده أن يجلد مئة جلدة ويغرب عن وطنه سنة ليبعد عن محل الفاحشة لعله ينساها ويتوب، وإن كان الزاني ثيباً وهو الذي من الله عليه بنكاح صحيح ووطئ زوجته فيه، فهذا حده الرجم وهو أن يرجم بالحجارة حتى يموت؛ لأن من زنى بعد أن من الله عليه
(/2)
بالزواج والوطء الحلال فهو جرثومة فاسدة في المجتمع لا يليق به إلا الزوال.
ومن حكمة الله أن جعل حده الرجم بالحصى ليتألم جميع بدنه به كما تلذذ بشهوة الزنا جزاء وفاقا. وأما جريمة اللواط وهي الفاحشة الكبرى والمصيبة العظمى فما أعظمها من جريمة وأطمها، وما أجدر نفساً تعاطتها بالإتلاف وأحقها. ففي السنن عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ولم يختلف الصحابة في قتله، لكن اختلفوا كيف يقتل، وأكثر السلف على أن يرجم رجماً، وإنما كانت عقوبة هذه الفاحشة هي القتل بكل حال لما فيها من إفساد المجتمع وعسر التحرز منها في الحال والمآل. ومن نظر إلى حكم الله تعالى في الحدود وجده الحكم المتضمن للحكمة التي تبهر العقول، وأنه لا حكم أحسن منه وأصلح للأمة وأن ما سواه فهو جهل وطغيان لا تقوم به المصالح ولا تندرئ به المفاسد قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.
(/3)
العنوان: الحلم والصفح
رقم المقالة: 1535
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أولاً من القرآن الكريم
{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237].
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149].
{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13].
{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95].
{وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر: 85 – 86].
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 126 – 128].
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96].
{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
(/1)
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 215 – 217].
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 – 36].
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37].
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89].
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35].
{وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14].
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 10].
ثانيًا من الحديث الشريف:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: ((إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ))؛ صحيح مسلم - (ج 1 / ص 145).
(/2)
وعن أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَذْهَبُ. وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِى السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَابِضٌ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: ((يَا أُنَيْسُ اذْهَبْ حَيْثُ أَمَرْتُكَ)). قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُ قَالَ لِشَىْءٍ صَنَعْتُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ وَلاَ لِشَىْءٍ تَرَكْتُ هَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟"؛ سنن أبي داود - (ج 14 / ص 21)
(/3)
وعن عَلْقَمَةَ بن وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ رَجُلٌ فِي عُنُقِهِ نِسْعَةٌ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا وَأَخِي كَانَا فِي جُبٍّ يَحْفُرَانِهِ، فَوَقَعَ الْمِنْقَارُ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ صَاحِبِهِ، فَقَتَلَهُ"، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اعْفُ عَنْهُ))، فَأَبَى، ثُمَّ قَامَ فَذَكَرَ مِثْلَ الْكَلامِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اعْفُ عَنْهُ))، فَأَبَى، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اذْهَبْ بِهِ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ))، فَخَرَجَ بِهِ حَتَّى جَاوَزَ، فَنَادَاهُ أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَرَجَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ))، قَالَ: "نَعَمْ، أَعْفُو عَنْهُ"، فَخَرَجَ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ؛ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا"؛ المعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 385).
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليًّا - رضي الله عنه - قال في ابن ملجم بعدما ضربه: "أطعموه، واسقوه، وأحسنوا إساره، فإن عشتُ فأنا وليُّ دمي: أعفو إن شئتُ، وإن شئتُ استقدت، وإن متُّ فقتلتموه فلا تمثلوا"؛ مسند الشافعي - (ج 3 / ص 342).
وعن عبدالله بن جبير الخزاعي، قال: "طعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً في بطنه إمَّا بقضيب، وإمَّا بسواك، قال: "أوجعتني فأقدني"، فأعطاه العود الذي كان معه، ثم قال: ((استقد)) فقبَّل بطنه، ثم قال: "بل أعفو عنك، لعلَّك أن تشفع لي بها يوم القيامة"؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني - (ج 11 / ص 328).
(/4)
وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟"، فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟"، فَقَالَ: ((كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً)). قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. سنن الترمذى - (ج 7 / ص 424).
وعن أبي ذر قال: "أوصاني خليلي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - بسبع خصال، فلن أَدَعَهُنَّ حتَّى أَلْقاهُ: أمرني بِحُبِّ المساكين ومُجَالَسَتِهِمْ، وأَنْ أَنْظُرَ إلى مَن هو دوني ولا أَنْظُرَ إلى مَن هو فوقي، ولا أسأل الناس شيئًا، وأن أعفو عمن ظلمني، وأصل مَن قطعني، وأن آخذ الحق وإن كان أمَرَّ من الصبر، ولا تأخذني في اللّه لومة لائم، وأن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا باللّه"؛ اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (ج 3 / ص 128).
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَتْ: "دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ". قَالَتْ عَائِشَةُ: "فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ". قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ)). فَقُلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟!"، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ))؛ صحيح البخاري - (ج 20 / ص 143).
وعَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ))؛ صحيح مسلم - (ج 16 / ص 489).
(/5)
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ))؛ صحيح مسلم - (ج 16 / ص 492).
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ))؛ صحيح مسلم - (ج 16 / ص 493).
(/6)
وعن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟"، قَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أشَدُّ مَا لَقيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِيَالِيْلَ بْنِ عَبْدِكُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْني إِلَى مَا أرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأنا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إِلاَّ وأنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وَإِذَا أنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبريلُ - عليه السلام - فَنَادَاني، فَقَالَ: إنَّ الله – تَعَالَى - قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَد بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأنا مَلَكُ الجِبال، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبِّي إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إنْ شئْتَ أطْبَقْتُ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا))؛ متَّفقٌ عَلَيْهِ. رياض الصالحين (تحقيق الدكتور الفحل) - (ج 1 / ص 369).
وعنها، قالت: "مَا ضَرَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلاَ امْرَأةً وَلاَ خَادِمًا، إِلاَّ أنْ يُجَاهِدَ فِي سَبيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلاَّ أن يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ – تَعَالَى - فَيَنْتَقِمُ للهِ - تَعَالَى –"؛ رواه مسلم. رياض الصالحين (تحقيق الدكتور الفحل) - (ج 1 / ص 370).
(/7)
وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: "كُنْتُ أمشي مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أعْرَابِيٌّ فَجَبذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدةً، فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ". فَالتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ"؛ متفقٌ عَلَيْهِ. رياض الصالحين (تحقيق الدكتور الفحل) - (ج 1 / ص 370).
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: كأني أنظر إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنبياءِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُه عَلَيْهِمْ - ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، ويقول: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ))؛ متفقٌ عَلَيْهِ. رياض الصالحين (تحقيق الدكتور الفحل) - (ج 1 / ص 370).
وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لَيْسَ الشَّديدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))؛ متفقٌ عَلَيْهِ. رياض الصالحين (تحقيق الدكتور الفحل) - (ج 1 / ص 370).
ثالثًا الشعر:
قال أبو العتاهية :
فَيَارَبِّ هَبْ لِي مِنْكَ حِلْمًا فَإِنَّنِي أَرَى الْحِلْمَ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ حَلِيمُ
وَيَارَبِّ هَبْ لِي مِنْكَ عَزْمًا عَلَى التُّقَى أُقِيمُ بِهِ مَا عِشْتُ حَيْثُ أُقِيمُ
أَلاَ إِنَّ تَقْوَى اللهِ أَكْرَمُ نِسْبَةٍ تَسَامَى بِهَا عِنْدَ الْفِخَارِ كَرِيمُ
وقال الخريمي :
أَرَى الْحِلْمَ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ ذِلَّةً وَفِي بَعْضِهَا عِزًّا يُسَوَّدُ فَاعِلُهْ
وقال صالح بن جناح:
(/8)
إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الْجَهْلِ وَالْحِلْمِ قَاعِدًا وَخُيِّرْتَ أَنَّى شِئْتَ فَالْحِلْمُ أَفْضَلُ
وَلَكِنْ إِذَا أَنْصَفْتَ مَنْ لَيْسَ مُنْصِفًا وَلَمْ يَرْضَ مِنْكَ الْحِلْمَ فَالْجَهْلُ أَمْثَلُ
وقال آخر:-
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْحِلْمَ زَيْنٌ مُسَوِّدٌ لِصَاحِبِهِ وَالْجَهْلَ لِلْمَرْءِ شَائِنُ
فَكُنْ دَافِنًا لِلْجَهْلِ بِالْحِلْمِ تَسْتَرِحْ مِنَ الْجَهْلِ إِنَّ الْحِلْمَ لِلْجَهْلِ دَافِنُ
وقال محمود الوراق:
سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ وَإِنْ عَظُمَتْ مِنْهُ عَلَيَّ الْجَرَائِمُ
فَمَا النَّاسُ إِلاَّ وَاحِدٌ مِنْ ثَلاَثَةٍ شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ
فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لاَزِمُ
وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَإِنْ قَالَ صُنْتُ عَنْ إِجَابَتِهِ نَفْسِي وَإِنْ لاَمَ لاَئِمُ
وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا تَفَضَّلْتُ إِنَّ الْحُرَّ بِالْفَضْلِ حَاكِمُ
وقال آخر:-
التِّيهُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَنْقَصَةٌ لِلْعَقْلِ مَهْتَكَةٌ لِلْعِرْضِ فَانْتَبِهِ
لاَ تَشْرَهَنَّ فَإِنَّ الذُّلَّ فِي الشَّرَهِ وَالْعِزَّ فِي الْحِلْمِ لا فِي الْبَطْشِ وَالسَّفَهِ
وقال الشافعي - رحمه الله -:
يُخَاطِبُنِي السَّفِيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ فَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبَا
يَزِيدُ سَفَاهَةً فَأَزِيدُ حِلْمًا كَعُودٍ زَادَهُ الإِحْرَاقُ طِيبَا
وقال آخر:
وَجَهْلٍ رَدَدْنَاهُ بِفَضْلِ حُلُومِنَا وَلَوْ أَنَّنَا شِئْنَا رَدَدْنَاهُ بِالْجَهْلِ
وقال آخر:
إِذَا سَبَّنِي نَذْلٌ تَزَايَدْتُ رِفْعَةً وَمَا الْعَيْبُ إِلاَّ أَنْ أَكُونَ مُسَابِبهْ
وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفْسِي عَلَيَّ عَزِيزَةً لَمَكَّنْتُهَا مِنْ كُلِّ نَذْلٍ تُحَارِبُهْ
وقال آخر:
(/9)
قُلْ مَا بَدَا لَكَ مِنْ صِدْقٍ وَمِنْ كَذِبٍ حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ
قال آخر:
إِذَا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلاَ تُجِبْهُ فَخَيْرٌ مِنْ إِجَابَتِهِ السُّكُوتُ
فَإِنْ كَلَّمْتَهُ فَرَّجْتَ عَنْهُ وَإِنْ خَلَّيْتَهُ كَمَدًا يَمُوتُ
وقال آخر:
وَإِذَا بَغَى بَاغٍ عَلَيْكَ بِجَهْلِهِ فَاقْتُلْهُ بِالْمَعْرُوفِ لاَ بِالْمُنْكَرِ
قال آخر:
وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا
وَمَنْ هَابَ الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ وَمَنْ حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يُهَابَا
وقال الشافعي:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ أَرَحْتُ نَفْسِيَ مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ
إِنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لأَدْفَعَ الشَّرَ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ
وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضُهُ كَأَنَّمَا قَدْ حَشَا قَلْبِي مَحَبَّاتِ
النَّاسُ دَاءٌ، وَدَاءُ النَّاس ِقُرْبُهُمُ وَفِي اعْتِزَالِهِمُ قَطْعُ الْمَوَدَّاتِ
وقال آخر:-
احْفَظْ لِسَانَكَ إِنْ لَقِيتَ مُشَاتِمًا لاَ تَجْرِيَنَّ مَعَ اللَّئِيمِ إِذَا جَرَى
مَنْ يَشْتَرِي عِرْضَ اللَّئِيمِ بِعِرْضِهِ يَحْوِي النَّدَامَةَ حِينَ يَقْبِضُ مَا اشْتَرَى
وقال آخر:-
أَلا إِنَّ حِلْمَ الْمَرْءِ أَكْبَرُ نِسْبَةٍ يُسَامِي بِهَا عِنْدَ الْفِخَارِ كَرِيمُ
فَيَارَبِّ هَبْ لِي مِنْكَ حِلْمًا فَإِنَّنِي أَرَى الحِلْمَ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ حَلِيمُ
قال الحكيم العربي:
وَالْحِلْمُ أَعْظَمُ نَاصِرٍ تَدْعُونَهُ فَالْزَمْهُ يَكْفِكَ قِلَّةَ الأَنْصَارِ
(/10)
العنوان: الحوار الإسلامي المسيحي للتعايش السلمي بلبنان
رقم المقالة: 488
صاحب المقالة: سامر أبو رمان
-----------------------------------------
لظاهرة الحوار (الإسلامي - المسيحي) عدة أهداف سياسية، منها النبيلة وغير النبيلة، وموضوع العيش المشترك، أو التعايش السلمي (Coexistence) من المواضيع التي سيطرت على كثير من مداولات هذا الحوار، وشغلت حيزاً واسعاً في أدبياته ولقاءاته، وندواته ومؤتمراته، وخاصة في الدول التي يوجد بها أهل الديانتين؛ مثل: لبنان، ومصر، والسودان، وغيرها.
ويقصد بالعيش المشترك: أن يعيش سكانُ الوطن الواحد، بسلام وحب ووئام، بغضِّ النظر عن انتماءاتهم، أو طقوسهم، أو عاداتهم الدينية، أو آرائهم السياسية، فلابد أن تكون ثمَّة ثوابتُ وطنية تجمعهم.
وقد ظهر مصطلح العيش المشترك في الساحة اللبنانية ظهوراً بارزاً على أثر الحرب الأهلية اللبنانية، في مواجهة مشاريع لتقسيم لبنان.
أكدت أدبيات الحوار (الإسلامي - المسيحي) أهمية الحوار، ودوره في تدعيم العيش المشترك، خاصةً في الدول التي يجتمع فيها معتنقو الديانتين الإسلامية والمسيحية، كما أكدت دور الحوار في تدعيم الوحدة الوطنية وبناء الوطن، واعتباره ركناً من أركان وحدة المجتمع واستقراره.
وجاء في أدبيات الحوار أيضاً: التأكيد أن كلا الدينين يحثُّ على المسالمة، والعطف، والتسامح، وقبول الآخر واحترامه، وتأكيد المبادئ الدينية الأخلاقية المشتركة في تجاوز التجاهل والعنف، وسرد النصوص في ذلك، مثل أحاديث: ((ألا مَنْ ظلم معاهِداً أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة))، ((ومَنْ آذى ذميّاً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خَصَمتُه يوم القيامة))، ((ستُفتَح عليكم مصر؛ فاستوصوا بقبطها خيراً)).
(/1)
وكذلك الحال من الطرف المسيحي؛ الذي أكَّد ضرورة التآلف وعدم التفرقة، على اعتبار أن البشر هم أبناء الله، وأن كل من يسعى للتفرقة يتغرب عن الله؛ لأنه يتغرب عن أخيه.
فبات العيش المشترك هدفاً رئيساً من أهداف الحوار - عند دعاته - وداعياً من دواعيه، واعتبر الحوار من أنجح الوسائل لتحقيقه.
وبغضِّ النظر عن عموم الأفكار السابقة، والحاجة إلى الوقوف عند بعضها؛ فلا شك أن بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل بين المسلمين والمسيحيين، وعدم جرح وسبّ كل طرف لمقدسات الآخر ومعتقداته، وحقن دماء أبناء المجتمع الإسلامي من الفئات كافة، هو هدفٌ سامٍ، وغايةٌ جليلةٌ لهذا الحوار؛ فالقرآن الكريم يبين أنه لا حرج على المسلم أن يحيا في ظل التعايش السلمي بينه وبين أي إنسان مخالف له في دينه ومعتقده، ما لم يُظَاهِر الطرف الآخر على المسلم بالعداوة والتحريض، أو الإساءة والخيانة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، كما يبدو هذا المبدأ واضحاً في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وفد نصارى نجران، فحين وصل الحوار إلى طريق مسدود في قبولهم الإسلام، عند ذلك تحوَّل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مبدأ التعايش السلمي، ووضع مبادئ العيش المشترك، من خلال المعاهدات.
بل لعل هذا يدل على جواز تجاوز الهدف الدَّعَوِيِّ في محاولة إقناع الطرف الآخر لدخول الإسلام - الذي هو هدفٌ واضحٌ في الأصول الشرعية للحوار - إلى أهداف أخرى معتبرة، مثل التعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين في بلدٍ ما؛ ليكون الحوار أحد الوسائل أو الخيارات الإستراتيجية في حقن دماء المسلمين والمسيحيين؟
(/2)
لكن من خلال تتبع ودراسة مسار الحوار (الإسلامي - المسيحي)، ومن خلال الاستماع إلى خطاب الكثير من الساسة والعامة في لبنان، وفي خِضَمِّ حماستهم لهذا الهدف - خاصةً في الأزمات الداخلية والخارجية التي يعيشها هذا البلد في المرحلة الحالية - يقع بعض مُنَظِّري هذا الحوار في منزلق خطير؛ حيث تتضمن بعض أفكار التعايش السلمي والمواطنة إبعاداً للإسلام، وإقصاءً له عن الحياة، وإذابةً لمعتقداته؛ ليعيش أصحاب الملل المختلفة في البلد الواحد في محبة ووئام وسلام، وتزول عنهم الخلافات الدينية، ويختفي من عقيدتهم الولاء الديني؛ ليصبح الولاء للوطن الذي هو للجميع؛ فالدين لله والوطن للجميع - على حدِّ تعبيرهم - لاعتقادهم بوجود تناقض بين العيش السلمي وتطبيق أحكام الإسلام!.
ولذا؛ يدعو البعض إلى تجاوز فكرة التكفير المتبادل، إلى الاعتراف المتبادل؛ إذ يعتبر هؤلاء أن من أكبر معوِّقات العيش المشترك والمواطنة مسألة اعتبار الطرف الآخر كافراً، فيعتبرون أنه لا يمكن أن يعيش بسلام دائم أناسٌ يعتبر بعضهم بعضاً كفاراً؛ "لأن كل فريق سيعمل ما في وسعه لينقضَّ على الفريق الآخر باسم الدين الحق، وباسم الله القُدُّوس؛ ليُطَهِّر أرض الله المقدسة من كل كفر ونجاسة"[1].
فهذا لا شك إلزام بما لا يلزم؛ إذ إن الأمر واضحٌ؛ ففي النصوص الشرعية الإسلامية، والممارسات التاريخية تَعايُشٌ بين أهل الديانتين، مع اعتبار كل واحدٍ الطرفَ الآخر كافراً، ذلك أن تكفير أهل الكتاب (النصارى واليهود) في المصادر الشرعية الإسلامية لا يعني قتلهم وعدم القبول بهم في المجتمع الإسلامي.
ففي النصوص الشرعية آيات وأحاديث كثيرة تدل على كفر المسيحيين؛ فلا حاجة لنقض مبدأ {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِين} لخدمة الحوار الإسلامي-المسيحي، أو أي قيمةٍ إيجابيةٍ أخرى.
(/3)
فمع أن القرآن الكريم مليء بكلمة الكفر ومشتقاتها، فمن الملاحظ وجود تناقص كبير وحرج شديد لدى الكثير من المسلمين في استخدامها، فسَمَّوا الكفارَ بـ"غير المسلمين"، ثم انتشرت هذه التسمية بين العامَّة، وكاد يُهجرُ المصطلح الشرعي "الكفار"، حتى أني أذكر عبارة أحد رؤساء الجامعات الأردنية، عندما قال في إحدى المحاضرات: إنه لا يريد أن يسمع كلمة كفار!!.
صحيحٌ أنه قد يكون من الحكمة في مواقف معينة عدم ذكرها، واستبدالها بكلمة غير المسلمين – مثلاً - ولكن ليس أن يكون هذا هو الأصل الدائم.
فلابد أن يُحقَّق هدف التعايش والاستقرار السياسي من خلال الضوابط الشرعية التي حددت العلاقة مع الآخر، والقائمة على أساس الاحترام والقبول من جهة، والولاء والبراء من جهة أخرى؛ فلا يتم التلاعب والتأويل بآيات الولاء والبراء، وتقويضها، والنظرة الواضحة إلى الكفار وأحكامهم؛ لأجل تحقيق هذه الغاية النبيلة.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] المطران كيرلس سليم بسترس، في: "العلاقات المسيحية الإسلامية تاريخاً وحاضراً ورؤية مستقبلية"، ص230. وعلي رافع، "مساهمة التربية الإسلامية في العيش المشترك"، ص124.
(/4)
العنوان: الحياة الطيِّبة
رقم المقالة: 1899
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالفتاح قاري
-----------------------------------------
الحياة الطيِّبة
ملخَّص الخطبة:
1- الحياة الطيِّبة مَطْلَب النَّاس وغايتهم.
2- اختلاف أفهام النَّاس ونظرتهم للحياة الطيِّبة:
- مَنْ يرى السَّعادة والحياة الطيِّبة في المال، من أيِّ مصدرٍ كان.
- مَنْ يرى السَّعادة والحياة الطيِّبة في المنصِب.
- مَنْ يرى السَّعادة والحياة الطيِّبة في تحصيل اللَّذائذ والشَّهوات.
- مَنْ يرى السَّعادة والحياة الطيِّبة في معصية الله.
3- الحياة الطيِّبة الحقيقيَّة في الإيمان والعمل الصَّالح.
4- حال الصَّحابة مع الدُّنيا.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد عباد الله:
الحياة الطيِّبة مَطلبٌ عظيمٌ وغايةٌ نبيلةٌ، هي مَطلب كلِّ النَّاس وغاية جميعهم، عنها يبحثون، وخلفها يركضون، وفي سبيلها يضحُّون ويبذلون، فما من إنسان في هذه الحياة إلاَّ وتَرَاهُ يسعى ويكدح ويُضني نفسه ويجهدها، كلُّ ذلك بحثًا عن الحياة الطيِّبة، وطمعًا في الحصول عليها. والنَّاس جميعًا على ذلك متَّفقون، ولكنهم يختلفون في معنى هذه الحياة وفي نوع هذه الحياة الطيِّبة، وتبعًا لذلك فإنهم يختلفون في الوسائل والسُّبُل التي توصلهم إلى هذه الحياة إن وصلوا إليها، مختلفون على كافَّة مستوياتهم كانوا، أممًا أو شعوبًا، أو مجتمعات صغيرة أو كبيرة؛ بل حتى الأسرة الواحدة تجد فيها ألوانًا شتَّى؛ فتجد الأب، تجد أنَّ للحياة الكريمة والحياة الطيِّبة عند الأب في كثيرٍ من الأحيان معنى يختلف عن الحياة الطيِّبة عند وَلَدِه، وتجد أنَّ للحياة الطيِّبة معنى عند الأخ يختلف عن معناها عند أخيه، وقد تجد أنَّ للحياة الطيِّبة معنى عند الزَّوجة يختلف عن معنى الحياة الطيِّبة عند زوجها، وكَمْ قامت من أجل ذلك خصومات ومشاكل.
(/1)
وللنَّاس في كلِّ زمانٍ أفهامٌ حول هذه الحياة الطيِّبة، وهم تبعًا لذلك أصناف:
فمنهم مَنْ يرى الحياة الطيِّبة في كثرة المال وسَعَة الرِّزق، وأنَّه إذا توفَّرت له هذه الأمور فإنه في حياة طيِّبة وحياة كريمة، فهو يسعى في ذلك ويُجهد نفسَه، ويسلك كلَّ الوسائل التي يرى أنها تمكِّنه من الحصول على مطلبه؛ بل بعض الناس يجعل من هذه الغاية مبرِّرًا لكلِّ وسيلة، فيتَّخذ كلَّ ما خطر بباله ويرى أنه يوصله لهذه الغاية، ولو كان مما حرَّم الله - تبارك وتعالى! إن كان من قبيل الرِّبا أَقْدَمَ ولا يبالي، حتَّى ولو ذُكِّر بقول رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله آكِلَ الرِّبا، وموكِلَه، وكاتبه، وشاهدَيْه))[1].
يسعى إلى المال ولو كان من قبيل الرِّشوة، حتَّى ولو ذُكِّرَ بقول الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لعن الله الرَّاشي، والمُرْتَشي، والمُرْشي، والسَّاعي بينهما))[2]، أو كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام.
يسعى للحصول على المال، ولو كان بأكل أموال اليتامى ظلمًا، يسعى للحصول على المال، ولو كان في أكل أموال الناس بالباطل، يسعى للحصول على المال، ولو كان بالغشِّ والأَيْمان الكاذبة والحِيَل المحرَّمة، كلُّ ذلك بُغْيَة أن يحصل على مقصوده؛ ليحصل على ما يراه من حياة طيِّبة! يُضني نفسه ويجهدها، ويُضني مَنْ تحت يده ويجهدهم - بل ويظلمهم - وبعضهم قد يصل إلى الذين حذَّر الله ورسوله منهم بقوله: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55].
يسعى ويرى أن غيره ممَّن لم يكن على شاكلته لم يعرفوا معنى الحياة الصحيحة بعد، ولم يذوقوا لها طعمًا!
وقليلٌ من الناس مَنْ يكسب المال من حِلِّه، ويحرص على أن يضعه في حِلِّه، ويجعله معونةً على طاعة ربِّه حتى لا يَفْتِنَهم في دينهم.
(/2)
أمَّا الكثير؛ فإنك تراهم لا راحة لهم في أبدانهم ولا طمأنينة لهم في أنفسهم، إذا انخفضت الأسعار تمزَّقت قلوبهم جزعًا، وإن ارتفعت الأسعار تقطَّعت قلوبهم طمعًا، فهم على نارَيْن، لا يهدأ لهم بالٌ ولا يقرُّ لهم قرار، يعيشون مفتونين في حياتهم، يصيبهم الضَّنْك في هذا المال، وتصيبهم الشدَّة وبين أيديهم الأموال، يُسارعون في أعمال الدُّنيا، ولكنَّك تراهم يقدِّمون أكل أموال النَّاس على طاعة الله - تبارك وتعالى.
هؤلاء لهم موقِفٌ بين يَدَيِ الله - عزَّ وجلَّ - ويكفي أن يكون السُّؤال بين يَدَيْ علاَّم الغيوب، الذي لا تخفى عليه خافيةٌ، يعلم السرَّ وأخفى، وهذا تفكيرهم ومعنى الحياة الطيِّبة عندهم.
ثم صِنفٌ آخَر:
يرون أنَّ الحياة الطيِّبة هي في الحصول على المناصب والجاه، فيسعون إلى ذلك، ويسلكون كلَّ السُّبُل التي توصلهم إلى هذا المقصود وإلى هذه الغاية، يبذلون كلَّ غالٍ ورخيصٍ في أن يحصلوا على مقصودهم.
يبذلون ويقصدون إلى هذه المناصب فلا يُعانون عليها، ويتعلَّقون بها فيُوكَلون إليها، يحبُّون مَنْ مالأهم ومَنْ ناصرهم ومَنْ مَلَقَهُم ونَافَقَ، ويبغضون ويكرهون مَنْ نَصَحَ لهم وأخلص.
هذا حال كثيرٍ منهم، ويرون مع ذلك أنَّ هذه هي الحياة الطيِّبة! هي الحياة الطيِّبة ولو تنازلوا عن شيءٍ من دينهم، ولو أَشْغَلَهم ذلك عن طاعة ربِّهم، ولو أطاعوا المخلوق في معصية الخالق، وقليلٌ من الناس مَنْ يأخذ ذلك طاعةً لله، لا يسأله من نفسه، وإذا وُكِلَ إليه وحُمِّله فإنه يستعين الله عليه ويطيع الله فيه، لأنه يذكر قول رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم - لأبي ذرٍّ - رضيَ الله عنه -: ((يا أبا ذَرِّ، إنَّها أمانةٌ، وإنَّها يوم القيامة خِزْيٌ وندامةٌ، إلاَّ مَنْ أخذها بحقِّها، وأدى الذي عليه فيها)). أو كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم.
ثم صِنفٌ ثالثٌ من النَّاس:
(/3)
يرى أنَّ الحياة الطيِّبة والحياة الكريمة في حصول النَّفس على شهواتها، وتمتُّعها بلذائذها، وحصولها على ذلك من أيِّ سبيل، حتى ولو كان في معصية الله - تبارك وتعالى - فتراهم يرتعون، يسرحون ويمرحون كالبهائم؛ بل هم أضلُّ، يحرصون على التمتُّع باللَّذائذ، ويعجبون أن يُقال لهم: اتقوا الله، ويعجبون لمَنْ يرى الحياة الطيِّبة في غير ما هم يسلكون وفي غير ما هم وراءه يسعون، يتَّبعون اللَّذائذ وينتقلون إليها، ويشدون الرِّحال من بلدٍ إلى بلد؛ ليعصوا الله، وليُترِفوا وليلذِّذوا أنفسهم بمعصية الله.
تغرُّهم هذه النِّعمة: صحَّةٌ في البَدَن، وأمنٌ في الوطن، ورخاءٌ في العَيْش. فبدلاً من أن يكون ذلك شكر يكون ذلك كفر! الغفلة تستولي على قلوبهم، يرون ويسمعون ما حولهم من النَّاس ومن الشعوب التي تفتك بهم الأمراض وتفنيهم الحروب وتقتلهم الكوارث والنوازل يتضوَّرون - بل يموتون – جوعًا، فلا يكون لذلك في نفسهم عِبْرة؛ بل يزدادون غفلة، وصَدَقَ فيهم قول الله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
هؤلاء يرتعون ويمرحون، ويرون أن هذه هي الحياة الطيِّبة وهي الحياة الكريمة، فإلى الله مآلهم، وبين يديه سؤالهم وحسابهم، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.
(/4)
وصنفٌ من النَّاس يا عباد الله - ونعوذ بالله من حالهم - يرون أنَّ الحياة الطيِّبة في معصية الله؛ فيفاخرون بها ويجاهرون، ولا يرى كثيرٌ منهم أنَّها معصيةٌ! بل يرى أنَّه كلما أمعن في المعصية - أيًّا كانت - كلما استغرق فيها رأى أنه أَخَذَ بنصيبٍ وافرٍ من الحياة الطيِّبة!! يجاهرون ويفخرون ويسخرون من غيرهم إن كانوا من أهل الشِّرك والكفر، فإذا رأوا ما هم عليه من الشِّرك والكفر والإلحاد، ومن تكذيبهم لله تعالى ولأنبيائه ورسله - يرون أنَّ تلك حياةٌ كريمةٌ، وأنها تحرُّرٌ .. يشركون بالله ويطعنون في الموحِّدين، ويعصون الله ويؤذون الطَّائعين.
وإن كانوا من أهل الكبائر - وما أكثرهم اليوم - فهم ينتقلون من كبيرة إلى كبيرة، حتى تذهب من أنفسهم هَيْبَة الله تعالى وعظمته، وحتى يُطبع على قلوبهم فيرون المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ويصبح هذا هو معنى الحياة الطيِّبة عندهم - والعياذ بالله - من هذا الصِّنْف.
وهؤلاء أصنافٌ كثيرةٌ وألوانٌ شتَّى، يراها النَّاس في حياتهم ويلمسونها ويحسُّونها، وهي كثيرٌ لا يتَّسع المقام لذكر هذه الأصناف.
نسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يرزقنا الحياة الطيِّبة التي يرضاها لنا ويرضى بها عنا، وأن يسلك بنا صراطه المستقيم.
أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرَّحيم.
الخطبة الثَّانية
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، أحمده تعالى وأشكره، وأُثني عليه الخير كلَّه، وأصلِّي وأسلِّم على عبده ورسوله وخِيرَتِه من خَلْقِه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهله وأصحابه أجمعين، والتَّابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد عباد الله:
(/5)
بعد أن عرفنا بعضًا من أصناف النَّاس في هذه الحياة، ومعنى الحياة الطيِّبة عندهم، فتعالوا نسمع الحياة الطيِّبة التي يشهد الله - تبارك وتعالى - أنها حياة طيِّبةٌ، ومَنْ أصدق من الله حديثًا؟!
يقول الله - تبارك وتعالى -: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124].
هذه شَهادةٌ من الله وتعريفٌ لهذه الحياة الطيِّبة، ولكنَّ كثيرًا من النَّاس عن هذا غافلون، يبحثون عن الحياة الطيِّبة وهي بين أيديهم، ويضلُّون عنها وهي في متناول أيديهم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
حياةٌ طيِّبةٌ في الدُّنيا، وهي قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}.
وحياةٌ طيِّبةٌ في الآخِرة، وهي معنى قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
هذه الحياة الطيِّبة، أساسها وقوامها على أمرَيْن اثنَيْن، أمرَيْن عظيمَيْن جليلَيْن يسيرَيْن على مَنْ يسَّرهما الله عليه:
الأمر الأوَّل: الإيمان بالله - تبارك وتعالى.
والأمر الثَّاني: عمل الصالحات وَفق ما شرعه الله - تبارك وتعالى - وما جاء عن رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم.
(/6)
وأوَّل مَنْ أُسْعِدَ بهذه الحياة الطيِّبة وعرف معناها: أنبياء الله ورسله - عليهم الصَّلاة والسَّلام - وإمامهم وسيِّدهم وخاتمهم نبيُّنا محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم - ثمَّ إخوانه من الأنبياء والمرسلين - عليهم صلوات الله وسلامه - ثمَّ أصحاب رسول الله، أصحابه وأصحاب إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وأوَّلهم وفي مقدِّمتهم أبو بكر الصدِّيق - رضيَ الله تبارك عنه وأرضاه - الذي يقول رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - فيه: ((لو كنتُ متَّخذًا من أمتي خليلاً؛ لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً))[3]. ثمَّ عمر وعثمان وعليّ - رضي الله عنهم - ثمَّ إخوانكم من الصَّحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - ثمَّ مَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
يعرفون معنى الحياة الطيِّبة فيعملون لها، يعرفون معنى هذه الحياة فيعطونها حقَّها، ويعرفون معنى الحياة الآخِرة فيعطونها حقَّها، ويقرؤون قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60]. ويحذرون من قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212].
وإذا توفَّرت لهم هذه الدَّنيا وجاءت إليهم راغمةً، فإنهم يزهدون فيها طمعًا، على ألاَّ يكون هذا على حساب آخِرتهم كما ورد عن عمر - رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -: "والله لو شئتُ لكنتُ ألينكم لباسًا وأطيبكم طعامًا وأرقَّكم عيشًا، ولكني سمعتُ الله عيرَّ أقوامًا فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]"[4].
(/7)
وكان عليٌّ - رضيَ الله عنه - إذا جاء آخِر اللَّيل وانفرد بنفسه قبض على لحيته وقال في تهجُّده مخاطبًا الدُّنيا: "إليَّ تغرغرتِ! إليَّ تشوَّفْتِ! هيهات هيهات، غُرِّي غيري، قد بتتُّك ثلاثًا، طمعكِ حقيرٌ، ومجلسكِ خطيرٌ، وخطركِ يسيرٌ، غُرِّي غيري، فهيهات هيهات. آه من قلَّة الزَّاد، وبُعْد السَّفر، ووَحْشَة الطَّريق".
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أنَّ هذا هو معنى الحياة الطيِّبة، فاحرصوا عليها وتزوَّدوا لها، ولا يغرَّكم كثرة الهالكين والغافلين عنها. اتقوا الله واعلموا أنَّ هذا هو الطريق الذي يوصلكم إلى رضوان ربِّكم، وصلُّوا وسلِّموا على عبد الله ورسوله؛ فقد أمركم بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
ــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا ومؤكله (3/1219) برقم 1598.
[2] أخرجه أحمد (2/387) والترمذي برقم (1336)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه (3/1338) برقم 3654.
[4] أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/85). وسنده ضعيف جداً.
(/8)
العنوان: الحياة بعد الأربعين هدوء ومتعة
رقم المقالة: 1512
صاحب المقالة: أحلام علي
-----------------------------------------
سن التوازن والنضوج
الحياة بعد الأربعين .. هدوء ومتعة
حينما تسرع الخطى بالمرأة إلى سن الأربعين، يتبادر إلى ذهنها أنها بدأت طريق الذبول، وفي اقترابها من منتصف العمر، تهلع من معايرة زوجها لها بأنها كبرت، ولم تعد قادرة على تلبية كل احتياجاته، أي إنه بكلمات مقتضبة أنهى "فترة خدمتها".
فكيف تتهيأ المرأة للدخول في هذه المرحلة؟ وكيف تجعلها أكثر متعة؟ وكيف تتغلب على بعض الأعراض التي تواكبها؟
يجيبنا عن هذه الأسئلة وغيرها الدكتور ماهر مهران - أستاذ النساء والولادة بجامعة القاهرة - في الحوار التالي:
لا لليأس
لماذا سميت هذه الفترة عند المرأة بسن اليأس؟
إنه لأمر سيئ أن سميت تلك الفترة من حياة المرأة خطأ بـ "سن اليأس" فتظهر وكأنها نهاية لحياة المرأة إذ تشعر أن أولادها من حولها أصبحوا في غير حاجة ماسة إليها، بعدما غدوا يعتمدون على أنفسهم، ويزيد من تعاستها أن الرجل في مثل هذه السن يكون قد اكتمل رجولةً، ووصل إلى أوج مركزه الاجتماعي.
والحقيقة أنه "لا يأس" هناك، ولا ذبول إلا لوظيفة واحدة من وظائف المرأة وهي التبويض، والقدرة على الحمل، لحكم يعلمها المولى - عز وجل - منها أن تقضي المرأة مرحلة أخرى من حياتها في سعادة وهدوء بعد أن نمت عقلياً، وازدادت خبرتها في الحياة، وهذا من رحمة الله - تعالى - بالمرأة في هذه السن بعدما كان كل جهدها، ووقتها عبارة عن عبء كانت تحمله في فترة حياتها الخصبة فتخففت منه في هذه المرحلة، وهو التناسل، وما يصاحبه من وعكة حيض، وتعب الحمل، وألم الولادة ومتاعب الرضاعة.
هل تتفاوت المرحلة العمرية في هذه الفترة بين امرأة وأخرى؟
(/1)
إن فسيولوجيا جسم المرأة تتفق مع متطلبات الصحة؛ فنجد أن مبيض المرأة يتوقف تلقائياً عند الأربعين عن تقديم البويضات، ثم يبدأ تدريجياً لمدة سنوات في إفراز كمية من الهرمونات تقل سنة بعد أخرى. وحينما تقل الهرمونات إلى درجة معينة خلال هذه المرحلة ينقطع الحيض.
وانقطاع الحيض يحدث غالباً في نحو سن الخامسة والأربعين، ولكن هذه السن تختلف من بلد إلى آخر، ومن سيدة إلى أخرى، والثابت أنه ليس هناك ارتباط بين سن انقطاع الحيض، ونوع وصفات الحيض، أو عدد مرات الحمل، أو المناخ الذي تعيش فيه المرأة، ثم إن انقطاع الحيض مبكراً في الثلاثينات يحدث بصورة وراثية في بعض العائلات.
أعراض ومظاهر
هل هناك أعراض تصاحب انقطاع الدورة الشهرية؟ ولماذا؟
إن انقطاع الدورة مبكراً قد يكون صناعياً كما يحدث بعد استئصال المبيض لأسباب مرضية، وفي هذه الحالة تَحدث أعراضٌ شديدةٌ تهز المرأة هزاً عنيفاً جسمياً، ونفسياً، والسبب واضح إذ إن مصدر الهرمونات من المبيض تنقطع فجأة في حين أن ما يحدث في الطبيعة من انقطاع في الهرمونات، يحدث تدريجيّاً، وعلى مدى سنوات عديدة، وانقطاع الحيض في مرحلة ما يسمى خطأ بسن اليأس له طرق ثلاثة:
• أن يكون على صورة مفاجئة فتنقطع الدورة، ولا تحدث بعد ذلك مدى الحياة.
• أن تقل كمية الحيض تدريجياً وتطول المدة بين حيض وآخر إلى أن يتوقف الحيض نهائياً.
• أن يأتي الحيض على هيئة نزيف قد يكون شديداً فيؤثر في المرأة، ويؤدي إلى إصابتها بأنيميا شديدة وفي هذه الحالة لابد من استشارة الطبيب حتى تستبعد الأسباب الأخرى الأكثر أهمية التي تؤدي إلى هذا النزف.
ما التغيرات التي تطرأ على المرأة في هذه السن؟
(/2)
تحدث تغيرات مختلفة في جسم المرأة؛ فيبدو عليه شيء من السمنة، وكما أن هناك تغيرات جسمية فهناك تغيرات نفسية عديدة ومختلفة، ومن الإنصاف أن نعترف بأن هذه المرحلة تتعرض فيها المرأة - مهما كانت قوتها الجسمية وتكوينها النفسي – إلى ضغوط، ومسؤوليات متعددة؛ فتشكو من أعراض كثيرة بعضها ناتج من تغيرات المبيض، والآخر ناتج عن استعدادها النفسي لتقبل هذه المرحلة، والنوع الثالث يظهر لأن المرأة في هذه السن تكون أكثر قابلية لظهور أمراض مختلفة مثل: ارتفاع ضغط الدم، والسكر، والأمراض الروماتيزمية.
و في مقدمة هذه الأمراض التي تصاحب هذه المرحلة أعراض عصبية ونفسية مثل: الضيق والاكتئاب، والميل إلى الوحدة عند البعض، والعصبية، والثورة لأتفه الأسباب عند البعض الآخر، وخطورة هذه الأعراض أنها تظهر في جميع أفراد الأسرة من زوج، وأولاد، وتصبح الأم سبباً في اكتئاب جميع أفراد أسرتها، أو سبباً في المشكلات التي لا تنتهي ويظهر سلوكها في مكان عملها بما فيه من رؤساء، ومرؤوسين، ويصاحب ذلك غضب وانطواء، وقد تتردد المرأة كثيراً على الطبيب خوفاً من ارتفاع ضغط الدم.
و من أهم الأعراض وأكثرها "الفورات الحرارية" التي تأتي على صورة نوبات تحس المرأة فيها بارتفاع في الحرارة، وسخونة في الوجه، والصدر، والرقبة.
وقد تبدأ هذه الفورات في أسفل الجسم، وترتفع إلى الصدر، والوجه، ويصاحبها إحساس بضيق شديد حول الرقبة، وشعور بالاختناق، ويصحب ذلك عرق غزير، وتحدث هذه النوبات على فترات حسب شدتها؛ فقد تكون كل أسبوع، أوكل يوم – أو أقل من ذلك أو أكثر – ثم إنه ليس لها سبب واضح؛ فمن الممكن أن تحدث عقب غضب، أو قلق نفسي، أو نتيجة حرارة الجو، خاصة في الصيف، أو بدون سبب على الإطلاق.
تهيئة وتكييف
كيف تستقبل المرأة هذه المرحلة؟ وكيف تجعلها أكثر متعة؟
(/3)
الأمر يختلف تبعاً لعوامل عدة منها شخصية المرأة، ونموها العقلي، واتزانها النفسي، وثقافتها، ووعيها بهذه التغيرات الفسيولوجية، ومنها ما إذا كانت عاطفة أمومتها قد ارتوت بإنجاب أبناء وبنات صالحين، أولم تنجب، وما إذا كانت على رأس أسرة سعيدة ليس بها مشكلات عنيفة، تمر هذه المرحلة بهدوء بل ترحب بها؛ إذ إنها تُنهي ما تبقى من مشكلات ومسؤوليات مرحلة الإنجاب.
فعلى المرأة أن تثق بأن سن الأربعين هو سن التوازن النفسي، والنضوج الذهني والفكري؛ فهي في هذا العمر أم وزوجة خبرت الحياة، وفقهت تجاربها، وازدادت حكمة، وحنكة، وعقلانية وهدوءاً، وهو ما يجعلها قمة في العطاء، ومخزوناً كبيراً من القدرة والكفاءة، فعليها أن تنطلق من هذا التفكير في حربها ضد كآبة منتصف العمر.
وإذا كانت تخشى معايرة زوجها لها بكبر السن - فلا يجب أن تتأثر بذلك بل تنأى بنفسها بعيداً عن مشاعر السلبية والدونية؛ فالرجل أيضاً يكبر لكنه يكابر، وعليها أن تثقف نفسها وشريكها في هذا المضمار ليخرجا من المرحلة دون خسائر، وعندما تتحدث عن مرحلة منتصف العمر فلتكن متفائلة، ومبتسمة، وتقنع نفسها ومن حولها أنه لا يأس بعد الأربعين؛ فهو سن "الأمل" لمرحلة جديدة تسعى فيها المرأة لتجديد حيويتها وشبابها، ولتتمثل بامرأة الريف فتعمل، وتنشط، ولا تستسلم لدور الضحية التي تستسلم لتقلبات الزمن.
(/4)
العنوان: الحياة في سبيل الله
رقم المقالة: 1066
صاحب المقالة: مروان محمد أبو بكر
-----------------------------------------
سأل زكريا -عليه السلام- ربَّه قائلاً: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]..
فاستجابَ اللهُ دعاءَه، فوهبه ما سأل، بل وشرَّفه بأن سمَّى له الموهوب، فاختار له من خير الأسماء؛ (يحيى)، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
و(يَحْيى) من (الحياة)، التي خلق الله -سبحانه- العبادَ ليقضوها في طاعته، والسيرِ على شرعته.
و(الحياة) كلمةٌ تطمئن لها القلوب، وتبهج لها النفوس، وتَهَشُّ لها الأسماع، ويَطرب لها الوِجدان.
ولقد جبل اللهُ -تعالى- الخلقَ على حبِّ الحياة، والحرص عليها، والكفاح من أجل البقاء فيها، فما في الكون أحدٌ -غير مخبولٍ عقلُه، أو منتكسٌ في فطرته- إلا ويسعى جاهداً للحفاظ على حياته، فالوحوش في فَلَواتها وغاباتها، والطيور في فضائها، والأسماك في بحارها، تدافع الموتَ وتصارعه، وما وُجِدَ حيٌّ إلا وهو ذو حرص على الحياة.
فَلاَ الأُفْقُ يَحْضِنُ مَيْتَ الطُّيُورِ وَلاَ النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَرْ
وَلَولاَ أُمُوْمَةُ أُمٍّ رَؤُوْمْ لَمَا ضَمَّتِ الأَرْضُ مَيْتَ البَشَرْ
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ حُبُّ الحَيَا ةِ تَبَخَّرَ مِنْ وَجْهِهَا وَانْدَثَرْ
ومن تعجَّل الموتَ حرَّم اللهُ عليه الجنةَ، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي، فيمَن قتل نفسه: ((بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ؟ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ!))[1].
ولكن الحياة الحقيقية المطلوبة شرعاً هي الحياة في سبيل الله، الحياة الني يقول الله -تعالى- فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم:
(/1)
{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163].
إنها الحياةُ التي يعيش الإنسانُ لحظاتِها لله، ومن أجل الله، وفي طاعة الله:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ *وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17-18].
إن الحياة في سبيل الله أصدقُ وصفٍ يمكن أن نصف به حياةَ الرعيلِ الأول من الصحابة الكرام، ولْنأخذ أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- مثالاً..
فقد (سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْماً قَائِلاً: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ اليَوْمَ صَائِماً؟))
قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا!
قال: ((فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ اليَوْمَ جَنَازَةً؟))
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا!
قَالَ: ((فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ اليَوْمَ مِسْكِيناً؟))
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا!
قَالَ: ((فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ اليَوْمَ مَرِيضاً؟))
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ)) )[2].
إنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- لم يشيع الجنازة وحده، فلابد أن بعض الجالسين كان ممن شارك في ذلك العمل الصالح، ويبعد في مجتمع الخير ذاك أن يكون أبو بكر -رضي الله عنه- هو وحده من زار ذلك المريض من بين الجالسين، ولا يبعد أن يكون منهم من كان عمله ذلك اليوم كعمل أبي بكر -رضي الله عنه- ولكنه لم يحضر مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم-وجواب أبي بكر -رضي الله عنه- دونهم قد لا يعني تفرده بتلكم الأعمال، وإن كان فيه إبراز لفضيلته..
(/2)
وهناك ملحوظ آخر، وهو سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يدلُّ على تتبُّعه حالَ أصحابِه، حتى يطمئن على كونهم يعيشون الحياة في سبيل الله.
إن حياة مليئة بالعطاء كحياة هؤلاء لا شك أنها حياة سعيدة، كيف لا والله -تعالى- يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} [طه:123].
وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
تلكم الحياة جعلت أحد السلف يقول: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه؛ لجالدونا عليه بالسيوف"!!
والحياة إن لم تكن لله فهي فارغة المعنى والمحتوى، قال الله -تعالى- ذاماَ اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]، فاليهود أحرص الناس على أي نوع من الحياة!! حياةِ ذل وانكسار وصغار! حياةِ عربدة وفجور وتهتك! حياةِ غفلة و إعراض! حياة!... أيّاً كانت تلك الحياة فهم عليها حريصون، وأما المؤمن فحرصه على نوع واحد من الحياة، وهي الحياة في سبيل الله.
الحياة في سبيل الله هي الحياة، ولا تسمى غيرها حياة إلا مجازاً، فإن سأل سائل كيف نصل إلى هذه الحياة الحقيقية؟ وما الباب الذي يلجه من رامها؟ وما الطريق الذي يسلك إليها؟..
فأقول: لقد أجاب عن هذا الموقِّعون عن رب العالمين، وفصلوا في الإجابة غاية التفصيل، قال ابن القيم رحمه الله:
"فإن قلتَ: قد أشرت إلى حياة غير معهودة بين أموات الأحياء، فهل يمكنك وصف طريقها؛ لأصل إلى شيء من أذواقها، فقد بان لي أن ما نحن فيه من الحياةِ حياةٌ بهيميةٌ، ربما زادت علينا فيها البهائم بخلوِّهَا عن المنكرات والمنغِّصات، وسلامة العاقبة؟!
قلتُ: لعمر الله، إن اشتياقك إلى هذه الحياة، وطلبِ علمِها، ومعرفتِها؛ لَدليلٌ على حياتِك، وأنك لست من جملة الأموات!!
(/3)
فأول طريقها: أن تعرف الله، وتهتدي إليه طريقاً يوصِلُك إليه، ويحرِقُ ظلماتِ الطبع بأشعة البصيرة؛ فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكلِّيَتِه، ويزهد في التعلُّقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة..
ثم يقوم حارساً على قلبه؛ فلا يسامحه بخطرة يكرهها اللهُ، ولا بخطرة فضولٍ لا تنفعه؛ فيصفو بذلك قلبه عن حديث النفس ووسواسها؛ فيُفْدَى من أسرها، ويصير طليقاً.
فحينئذ يخلو قلبه بذكر ربه ومحبته، والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره؛ كما قيل:
وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ البُيُوتِ لَعَلَّنِي أُحَدِّثُ عَنْكِ النَّفْسَ بِالسِّرِّ خَالِيا
فحينئذ يجتمع قلبُه وخواطرُه وحديثُ نفسه على إرادةِ ربه، وطلبه والشوق إليه، فإذا صدق في ذلك؛ رُزِقَ محبةَ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- واستولت روحانيتُه على قلبه؛ فجعله إمامَه ومعلمَه، وأستاذَه وشيخَه وقدوتَه؛ كما جعله الله نبيَّه ورسولَه، وهادياً إليه فيطالع سيرتَه، ومبادئ أمره، وكيفيةَ نزول الوحي عليه، ويعرف صفاتِه وأخلاقَه وآدابَه؛ في حركاتِه وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته، ومعاشرته لأهله وأصحابه؛ حتى يصير كأنه معه، من بعض أصحابه.
فإذا رسخ قلبه في ذلك؛ فتح عليه بفهم الوحي المنزَّل عليه من ربه؛ بحيث لو قرأ السورةَ؛ شاهدَ قلبُه ما أُنزلَت فيه، وما أريد بها، وحظَّه المختص به منها؛ من الصفات والأخلاق، والأفعال المذمومة؛ فيجتهد في التخلص منها كما يجتهد في الشفاء من المرض المَخوف؛ وشاهد حظَّه من الصفات والأفعال الممدوحة؛ فيجتهد في تكميلها وإتمامها..
(/4)
فإذا تمَّكن من ذلك انفتح في قلبه عين أخرى؛ يشاهد بها صفات الرب جل جلاله؛ حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينه؛ فيشهدَ علوَّ الربِّ -سبحانه- فوق خلقه، واستواءَه على عرشه، ونزول الأمر من عنده؛ بتدبير مملكته، وتكليمه بالوحي... فيشهد ربه -سبحانه- قائماً بالملك والتدبير؛ فلا حركةَ ولا سكون، ولا نفع ولا ضرَّ، ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط إلا بقدرته وتدبيره.. فيشهد قيام الكون كله به، وقيامه -سبحانه- بنفسه؛ فهو القائم بنفسه، المقيم لكل ما سواه.
فإذا رسخ قلبه في ذلك؛ شهد الصفة المصحِّحة لجميع صفات الكمال، وهي الحياة؛ التي كمالُها يستلزم كمالَ السمع، والبصر، والقدرة، والإرادة، والكلام، وسائر صفات الكمال..
فحينئذ يجد طعم قولِه:
((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ))[3].
فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد؛ فإنه مُحِبٌّ محبوبٌ متقرِّبٌ إلى ربِّه، وربُّه قريبٌ منه؛ قد صار له حبيبُه -لفرط استيلائه على قلبه، ولَهَجِه بذكره، وعُكُوف همَّتِه على مرضاته- بمنزلةِ سمعه، وبصره، ويده، ورجله! وهذه آلاتُ إدراكِه وعمَلِه وسعيه.
فإن سمع؛ سمع بحبيبه، وإن أبصر؛أبصر به، وإن بطش؛ بطش به، وإن مشى؛ مشى به". انتهى كلامه رحمه الله[4].
إن الحياة لا تكون جميلة ممتعة سعيدة إلا إذ عشناها لله، وفقَ ما يرضيه، وأحببنا ما يحب وأبغضنا ما يبغض، وكانت صلاتُنا ونسُكُنا ومحيانا ومماتنا خالصة لوجه الله رب العالمين، لا يأتيها الشرك من بين يديها ولا من خلفها!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري،3204.
[2] رواه مسلم، 2/713، (1028).
(/5)
[3] رواه البخاري،6021.
[4] مدارج السالكين، 3/268.
(/6)
العنوان: الخطبة الأولى في شروط وجوب الحج
رقم المقالة: 1739
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
الخطبة الأولى في شروط وجوب الحج
الحمد لله الذي أكمل لهذه الأمة شرائع الإسلام ، وفرض على المستطيع منهم حج بيته الحرام ، ورتب عليه جزيل الفضل والإنعام ، فمن حج البيت ، ولم يرفث ، ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه نقيا من الذنوب والآثام ، وذلك هو الحج المبرور ليس جزاء إلا الفوز بالجنة دار السلام أحمده ، وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله هو الملك القدوس السلام ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صلى ، وزكى ، وحج ، وصام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام ، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام ، وسلم تسليما .
(/1)
أما بعد : أيها الناس ، اتقوا الله ، واحمدوا ربكم أن أكمل لكم الدين ، وأتم عليكم النعمة ، ويسر لكم سبل الخيرات حتى أصبحت في متناول أيديكم من غير كلفة ، فلقد كان الناس فيما مضى يعانون من الوصول إلى البيت أنواع الكلفة والمشقات ، يعانون كثرة النفقات المالية والمشقة البدنية ، وتحمل الأخطار ، أما اليوم ، ولله الحمد ، فقد أصبح الأمر يسيرا ، ويسر الله بنعمته وفضله ما كان عسيرا ، فأصبحتم تصلون إلى البيت الحرام بكل سهولة نفقات يسيرة ومراكب مريحة ، وأمن وافر وطمأنينة كاملة ، وعيش رغد ، فاشكروا الله أيها المسلمون على هذه النعمة ، واغتنموها ، وانتهزوا فرص الخيرات ، وابتدروها ، وأدوا ما فرض الله عليكم من الحج ، وتزودوا من التطوع به ، فإن التطوع تكمل به الفريضة . واعلموا أن الله فرض الحج على المسلم ، إذا تمت فيه شروط أربعة ( الأول) : أن يكون بالغا ، فأما الذي لم يبلغ ، فإنه لا يجب عليه الحج ، ولكن إذا حج ، فله أجره ، وإذا بلغ حج فريضة الإسلام ، وإذا سافرتم بالصغار إلى الحج ، فأنتم بالخيار إن شئتم ، فحججوهم ، وإن شئتم ، فاتركوهم ، وإذا حججتموهم ، فلهم أجر الحج ، ولكم أجر المعونة ، والسبب ( الشرط
(/2)
الثاني) : أن يكون عاقلا ، فأما المجنون الذي لا يعقل ، فلا حج عليه إلا أن يكون عاقلا بعد بلوغه ، ووجب عليه الحج ، ثم حصل له الجنون بعد ذلك . ( الشرط الثالث ) : أن يكون حرا ، فأما العبد الرقيق الذي يباع ، ويشترى ، فلا حج عليه ( الشرط الرابع ) : أن يكون مستطيعا بماله ، وبدنه ، فمن لم يكن مستطيعا بماله ، وهو الفقير ، فلا حج عليه لقوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } . وإذا كان على الإنسان دين ، فإنه يقضي دينه ، ثم يحج ؛ لأن براءة الذمة أهم . وإذا كان الإنسان عاجزا عن الحج بنفسه ، وعنده مال ، فإن كان عجزا مستمرا لا يرجى زواله ، فلينوب من يحج عنه مثل الكبير الذي لا يستطيع بنفسه ، والمريض مرضا لا يرجى برؤه ، وإن كان يرجى زوال عجزه ، فإنه لا ينيب ، بل يصبر حتى يزول العجز ، ثم يؤدي الفريضة بنفسه ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم ، فأما المرآة التي لا محرم لها ، فإنه لا يجب عليها الحج ، ولا يجوز لها أن تسافر بلا محرم ، فإن سافرت بلا محرم ، فهي في إثم ومعصية لله ولرسوله من حين تخرج من بلدها حتى يرجع إليه ، فلتمكث في بيتها حتى ييسر الله لها
(/3)
محرما ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول : « لا يخلون رجل بامرأة ، إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة ، إلا مع ذي محرم ، فقام رجل ، فقال يا رسول الله : إن امرأتي خرجت حاجة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : انطلق ، فحج مع امرأتك » . والمحرم هو زوجها ، وكل من تحرم عليمه تحريما مؤبدا بنسب أو رضاع أو مصاهرة مثل الأب والجد والابن والأخ وابن الأخت والعم والخال من نسب أو رضاع ، ومثل أبي الزوج ، وإن علا وابنه ، وإن نزل ، وزوج البنت ، وإن نزلت ، وزوج الأم ، وإن علت لكن زوج الأم لا يكون محرما لبنتها حتى يطأ الأم ، فكل هؤلاء محارم للمرأة ، والحكمة في وجوب استصحاب المحرم حفظ المرأة ، وصاينتها ، وأما قول بعض العوام : إن ذلك من أجل أن يفكك حزائمها لو ماتت ، فهو غير صحيح ؛ لأن كل أحد يجوز أن يفكك حزائم المرأة ، إذا ماتت سواء كان محرما لها ، أو غير محرم ، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على قبر ابنته ، وهي تدفن ، وعيناه تدمعان ، فأمر أبا طلحة أن ينزل في قبرها ، فنزل والرسول صلى الله عليه وسلم حاضر زوجها وعثمان رضي
الله عنه حاضر . أيها الناس : لقد شاع عند كثير من العوام أن الإنسان إذا لم يتمم له أي : يعق عنه فإنه لا يحج ، والواقع أنه لا علاقة بين الحج ، وبين التميمة ، فالإنسان إذا حج ، فله حجه سواء تمم له ، أو ما تمم له . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ }{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . . الخ .
(/4)
العنوان: الخطبة الثالثة في نماذج من محظورات الإحرام
رقم المقالة: 1741
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
الخطبة الثالثة في نماذج من محظورات الإحرام
الحمد لله العظيم القهار القوي القدير الجبار فرض الفرائض ، وحد الحدود ، وربك يخلق ما يشاء ، ويختار أمر بتعظيم شعائره ، وجعل ذلك من تقوى القلوب ، ورتب على ذلك الفوز بالمحبوب والنجاة من المرهوب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المطلع على الظواهر والبواطن ، وهو علام الغيوب ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى ، وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ، وسلم تسليما .
أما بعد أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، وعظموا شعائره ، فإن ذلك من تقوى القلوب ، ومن يعظم حرمات الله ، فهو خير له عند ربه يكفر عنه سيئاته ، ويرفع درجاته ، وينجيه من كل مكروب ألا وإن من شعائر الله مناسك الحج والعمرة ، فعظموها ، واحترموها ، واجتنبوا محظوراتها لعلكم تفلحون ، واعلموا أيها الناس أن من محظورات الإحرام حلق الشعر ، أو قصه ، أوإزالته بأي مزيل كان ، فلا يجوز للمحرم رجلا كان أو إمرأة أن يزيل شيئا من شعره ، ويجوز له أن يحك رأسه برفق ، فإن سقط بذلك شعر من غير قصد ، فلا حرج عليه ، وإذا كان في عين الإنسان شعر يؤذيه ، فلا بأس أن يأخذه بالمنقاش ، ومن محظورات الإحرام إزالة الأظفار بتقليم أو قص ، فلا يجوز للمحرم أن يقص شيئا من أظفاره ، فإن إنكسر من أظفاره شيء ، وآذاه ، فلا بأس أن يقص المنكسر الذي يؤذيه خاصة ، ولا شيء عليه ، ومن محظورات الإحرام الطيب ، فلا يجوز للمحرم أن يتطيب لا بثوبه ، ولا بدنه ، ولا بما يأكل ، أو يشرب أما الطيب عند عقد الإحرام قبل أن ينوي الإحرام ، فهو سنة للرجال والنساء ، ولا يضر بقاؤه بعد الإحرام ، ومن محظورات الإحرام الرفث ، وهو الجماع ، وما يتصل به من مباشرة بشهوة
(/1)
، أو نظر بشهوة ، أو تقبيل لشهوة ، ونحوها ، فلا يجوز للمحرم أن يفعل شيئا من ذلك ، ومن محظورات الإحرام عقد النكاح ، فلا يجوز للمحرم عقده لنفسه ، ولا لغيره ، ومن محظورات الإحرام لبس القفازين ، وهما شراب اليدين ، فلا يجوز للمحرم أن يلبسهما ، وهذه المحظورات عامة للرجال والنساء ، وهنا محظورات خاصة ، فمنها لبس الثياب والأكوات والمشالح والفنايل والصدرية والشراب والكنادر والسراويل والغتر والطواقي ، كل هذه الملبوسات لا يجوز للرجل خاصة إذا أحرم أن يلبسها على صفة ما يلبسها عليه عادة ، ومن محظورات الإحرام على الرجل خاصة تغطية رأسه بشيء ملاصق يقصد به الستر مثل الغترة والطاقية وغيرهما ممن يستر به الرأس متصلا به ، فأما الشيء الذي ليس متصلا به مثل الشمسية والخيمة وسقف السيارة ، فلا بأس به ، وكذلك لا بأس أن يحمل الرجل على رأسه فراشه وعفشه ، وإذا خشي المحرم من الضرر ببرد ، أو غيره إذا كشف رأسه ، فإنه لا بأس أن يغطيه ، ولكن يجب عليه أن يفدي ، والفدية إما ذبح شاة يفرقها على المساكين ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة فقراء لكل فقير ربع صاع من البر ، أو نصف صاع من غيره ، ويجوز للمحرم أن يلبس الساعة
والسبتة والكمر الذي فيه النفقة والمناظر التي على العين ، وأن يشبك رداءه بمشبك ، ولا شيء عليه بذلك خصوصا مع الحاجة أما المحظورات التي تختص بالمرأة ، فهي تغطية الوجه ، فلا تغطي المحرمة وجهها ، إلا أن يمر الرجال قريبا منها ، فإنه يجب أن تتغطى عنهم إذا لم يكونوا من محارمها ، ويجوز أن تتغطى ، ولو مس الغطاء وجهها ، وتلبس ما شاءت من الثياب إذا لم يكن فيها تبرج عند من لا يجوز التبرج له ، وهنا مسائل أحب أن أنبهكم عليها وهي :
(/2)
1 - أنه يجوز للنساء وللرجال أن يلبسوا بدل الثوب الذي أحرموا به ، فإذا أحب الرجل أن يغير إزاره بإزار آخر أو رداءه برداء آخر ، فلا بأس ، أو كذلك إذا أحبت المرأة أن تلبس غير ثيابها التي أحرمت بها فلا بأس .
2 - يجوز للمحرم أن يقلع الشجر الأخضر وغير الأخضر إلا إذا كان داخل الأميال ، فإنه لا يجوز له قلع الشجر والحشيش ، وعلى هذا يجوز قلع الشجر بعرفة ، ولا يجوز في منى ومزدلفة ؛ لأن عرفة خارج الأميال ومنى ومزدلفة داخل الأميال .
3 - يجوز للمرأة أن تلبس الشراب والكنادر ، ولو كانت عند عقد الإحرام حافية ، ولا يجوز للرجل أن يلبس الكنادر والشراب ، وإنما يجوز له لبس النعال ، ولو كان حافيا عند الإحرام .
يجوز للمرأة أن تعقد الإحرام وهي حائض ، وتغتسل ، وتتطيب عند الإحرام كما يفعل الناس ، وتحرم بالعمرة ، فإذا وصلت بمكة ، فإن طهرت قبل الطلوع قضت عمرتها ، وحلت من إحرامها ، ثم أحرمت بالحج مع الناس ، وإن جاء الطلوع قبل أن تطهر ، فإنها تنوي بالحج وتكون قارنة ، ويحصل لها حج وعمرة ، فإذا طافت ، وسعت نوت الطواف للحج والعمرة والسعي للحج والعمرة . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ } . بارك الله لي ولكم . . الخ .
(/3)
العنوان: الخطبة الثانية في صفة الحج والعمرة
رقم المقالة: 1740
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
الخطبة الثانية في صفة الحج والعمرة
الحمد لله الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين ، وقدوة للعاملين ، وحجة على العباد أجمعين ، وجعل دينه مبنيا على تحقيق العبادة لله رب العالمين ، ميسرا ، سمحا ، سهلا ، لا حرج فيه ، ولا مشقة ، ولا تضيق ، ولا تعسير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي القدير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما .
أما بعد أيها الناس : إنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام راجين من الله تكفير ذنوبكم والآثام والفوز بدار السلام والخلف العاجل عما انفقتموه في هذا السبيل من الأموال فيا أيها المسلمون إنكم تتوجهون إلى بيت ربكم وحرماته إلى أمكنة فاضلة تؤدون فيها عبادة من أفضل العبادات لستم تريدون بذلك نزهة ، ولا فخرا ، ولا رياء بل تريدون عبادة تتقربون بها إلى الله ، وتخضعون فيها لعظمة ربكم ، فأدوها أيها المسلمون كما أمرتم من غير غلو ، ولا تقصير ، ولا إهمال ، ولا تفريط ، وقوموا فيها بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة وغيرها من شرائع الدين إذا خرجتم مسافرين إليها ، فاستحضروا أنكم خارجون لعبادة من أجل الطاعات ، وفي سفركم التزموا القيام بالواجبات من الطهارة والجماعة للصلاة ، فإن كثيرا من الناس يفرطون في الطهارة ، فيتيممون مع إمكان الحصول على الماء ، وإن من وجد الماء ، فلا يجوز له أن يتيمم ، وبعض الناس يتهاون بالصلاة مع الجماعة ، فتجده يتشاغل عنها بأشياء يدركها بعد الصلاة ، وإذا صليتم ، فصلوا قصرا تجعلون الصلاة الرباعية ركعتين من خروجكم من بلدكم حتى ترجعوا إليه ، إلا أن تصلوا خلف إمام يتم
(/1)
، فأتموها أربعا تبعا للإمام سواء أدركتم الصلاة ، أو فاتكم شيء منها ، وأما الجمع ، فإن السنة للمسافر ، ألا يجمع إلا إذا جد به السير ، وأما النازل في مكان ، فالسنة ألا يجمع ، وأما الرواتب التابعة للمكتوبات ، فالأولى تركها إلا سنة الفجر ، وأما الوتر ، وبقية النوافل ، فإنهما يفعلان في الحضر والسفر ، وتحلوا بالأخلاق الفاضلة من ، السخاء ، والكرم ، وطلاقه الوجه ، والصبر على الآلام ، والتحمل من الناس ، فإن الأمر لا يدوم ، وللصبر عاقبة محمودة ، وحلاوة لذيذة ، وإذا وصلتم الميقات ، فاغتسلوا ، وتطيبوا في أبدانكم في الرأس واللحية ، ثم أحرموا بالعمرة متمتعين ، وسيروا إلى مكة ملبين ، فإذا بلغتم البيت الحرام ، فطوفوا سبعة أشواط طواف العمرة ، واعلموا أن جميع المساجد مكان للطواف القريب من الكعبة والبعيد لكن القرب منها أفضل ، إذ لم تتأذ بالزحام ، فإذا كان زحام ، فأبعد عنه ، والأمر واسع ، ولله الحمد ، فإذا فرغتم من الطواف ، فصلوا ركعتين خلف مقام إبراهيم إما قريبا منه ، إن تيسر ، وإلا فلو بعيد المهم أن يكون المقام بينك وبين الكعبة ، ثم اخرجوا لسعي العمرة ، وابدأوا بالصفا ، فإذا أكملتم الأشواط السبعة ،
(/2)
فقصروا من رؤوسكم من جميع الرأس ، ولا يجزئ التقصير من جانب واحد لا تغتروا بفعل الكثير من الناس ، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة ، فاغتسلوا ، وتطيبوا ، وأحرموا بالحج من مكان نزولكم ، واخرجوا إلى منى ، وصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر قصرا من غير جمع ؛ لأن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يقصر بمنى ، وفي مكة ، ولا يجمع ، فإذا طلعت الشمس يوم عرفة ، فسيروا ملبين خاشعين لله إلى عرفة ، واجمعوا فيها بين الظهر والعصر جمع تقديم على ركعتين ، ثم تفرغوا للدعاء ، والابتهال إلى الله ، واحرصوا أن تكونوا على طهارة ، واستقبلوا القبلة ، ولو كان الجبل خلفكم ؛ لأن المشروع إستقبال القبلة ، وانتبهوا جيدا لحدود عرفة وعلاماتها ، فإن كثيرا من الحجاج يقفون دونها ، ومن لم يقف بعرفة ، فلا حج له لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « الحج عرفة » . وكل عرفة موقف شرقيها وغربيها وجنوبيها وشماليها ، إلا بطن الوادي وادي عرنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف » . فإذا غربت الشمس ، وتحققتم غروبها ، فادفعوا إلى مزدلفة ملبين خاشعين ، والزموا السكينة ما أمكنكم كما أمركم بذلك نبيكم
(/3)
صلى الله عليه وسلم ، فلقد دفع من عرفة ، وقد شنق لناقته الزمام ، حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ، وهو يقول بيده الكريمة : « أيها الناس السكينة السكينة » . فإذا وصلتم مزدلفة ، فصلوا بها المغرب والعشاء ، ثم بيتوا بها إلى الفجر ، ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد في الدفع من مزدلفة قبل الفجر إلا للضعفة رخص لهم أن يدفعوا في آخر الليل ، فإذا صليتم الفجر ، فاتجهوا إلى القبلة ، وكبروا الله ، واحمدوه ، وادعوه حتى تسفروا جدا ، ثم سيروا قبل طلوع الشمس إلى منى ، ثم القطوا سبع حصيات ، واذهبوا إلى جمرة العقبة ، وهي الأخيرة التي تلي مكة ، وارموها بعد طلوع الشمس بسبع تكبرون الله مع كل حصاة خاضعين له معظمين ، واعلموا أن المقصود من الرمي تعظيم الله ، وإقامة ذكره ، ويجب أن تقع الحصاة في الحوض ، وليس بشرط أن تضرب العمود ، فإذا فرغتم من رمي الجمرة ، فاذبحوا الهدي ، ولا يجزئ في الهدي إلا ما يجزئ في الأضحية ، ولا بأس أن توكل شخصا يذبح لك ثم احلقوا بعد الذبح رؤوسكم ، ويجب حلق جميع الرأس ، ولا يجوز حلق جميع الرأس ، ولا يجوز حلق بعضه دون بعض المرأة تقصر من أطراف رأسها بقدر أنملة ، وبعد ذلك حللتم التحلل
(/4)
الأول ، فالبسوا ، وقصوا أظفاركم ، وتطيبوا ، ولا تأتوا النساء ، ثم انزلوا قبل صلاة الظهر إلى مكة ، وطوفوا للحج ، واسعوا ، ثم ، ارجعوا إلى منى ، وبالطواف والسعي مع الرمي ، والحلق حللتم التحلل الثاني ، وجاز لكم كل شيء حتى النساء . أيها الناس : إن الحاج يفعل يوم العيد أربعة أنساك رمي الجمرة ، ثم النحر ، ثم الحلق ، ثم الطواف ، والسعي ، وهذا هو الترتيب الأكمل ، ولكن لو قدمتم بعضها على بعض ، فحلقتم قبل الذبح مثلا ، فلا حرج ، ولو أخرتم الطواف والسعي حتى تنزلوا من منى ، فلا حرج ، ولو أخرتم الذبح ، وذبحتم في مكة في اليوم الثالث عشر ، فلا حرج لا سيما مع الحاجة والمصلحة ، وبيتوا ليلة الحادي عشر بمنى ، فإذا زالت الشمس ، فارموا الجمرات الثلاث مبتدئين بالأولى ، ثم الوسطى ، ثم العقبة كل واحدة بسبع حصيات تكبرون مع كل حصاة ، ووقت الرمي في يوم العيد للقادر من طلوع الشمس ، وللضعيف من آخر الليل وآخره إلى غروب الشمس ووقته فيما بعد العيد من الزوال إلى غروب الشمس ، ولا يجوز قبل الزوال ، ويجوز الرمي في الليل ، إذا كان الزحام شديدا في النهار ، ومن كان لا يستطيع الرمي بنفسه لصغر أو كبر أو مرض ، فله أن يوكل من
(/5)
يرمي عنه ، ولا بأس أن يرمي الوكيل عن نفسه ، وعمن وكله في مقام واحد لكن يبدأ بالرمي لنفسه ، فإذا رميتم اليوم الثاني عشر ، فقد انتهى الحج ، وأنتم بالخيار ، إن شئتم تعجلتم ، ونزلتم ، وإن شئتم ، فبيتوا ليلة الثالث عشر ، وارموا الجمار الثلاث بعد الزوال ، وهذا أفضل ؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا أردتم الخروج من مكة ، فطوفوا للوداع ، والحائض والنفساء لا وداع عليهما ، ولا يشرع لهما المجيء إلى باب المسجد ، والوقوف عنده . أيها المسلمون : هذه صفة الحج ، فاتقوا الله فيه ، ما استطعتم ، واسمعوا ، وأطيعوا . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ }{ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } . بارك الله لي ولكم . . . الخ .
(/6)
العنوان: الخطبة الثانية لعيد الأضحى
رقم المقالة: 1742
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
الخطبة الثانية لعيد الأضحى
يكبر سبع مرات متوالية ثم يقول : -
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد . الحمد لله الذي بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وقدوة للعاملين وحجة على العباد أجمعين ، بعثه بدين الهدى والرحمة فأنقذ الله به من الهلكة وهدى به من الضلالة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما .
أما بعد أيها الناس : اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من هذا الدين القويم الذي رضيه لكم ، فلقد أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وهو واقف بعرفة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وإنه لجدير بنا أن نغتبط بهذا الدين الذي وصفه ربنا سبحانه بالكمال من لدنه من لدن حكيم خبير رؤوف رحيم . أيها المسلمون : إن ديننا ولله الحمد كامل من جميع الوجوه ، كامل من جهة عبادة الله ، كامل من جهة معاملة عباد الله ، فهو كامل من جهة العبادة حيث كانت العبادات المشروعة فيه مصلحة للقلوب والأبدان للشعوب والأفراد غير مفوتة لما تقتضيه مطالب الحياة ، ولو أن الناس تفكروا في أنفسهم في هذا الدين تفكيرا عميقا متعقلا لوجدوا أنه لم يترك خيرا إلا أمر به ووضح طرقه بأوضح بيان وأيسره ، وأنه لم يترك شرا إلا حذر منه وبين مغبته ومضرته ، ولو تفكروا في أنفسهم لوجدوا أن تمسكهم بدينهم أمر ضروري لصلاح أعمالهم واستقامة أحوالهم ، { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا }{ يُصْلِحْ
(/1)
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } . ولو تفكروا في أنفسهم لما حصل للكثير منهم تلك الزهادة في دينهم ولما آثروا عليه شيئا من أمور الدنيا { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }{ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } . أيها المسلمون : إن الإسلام لم يطلب منكم أمرا يشق عليكم ولا أمرا تفوت به مصالحكم بل هو بنفسه مصالح وخيرات وأنوار وبركات ، فتمسكوا بها أيها المسلمون وقوموا بشرائعه مخلصين لله متبعين لرسوله ، أحبوا الله ورسوله ليسهل عليكم طاعة الله ورسوله ، فإن الوصول إلى المحبوب غاية يسهل دونها كل الصعاب ، أقيموا الصلاة بفعلها في أوقاتها مع الجماعة فإن التخلف عن الجماعة من علامات النفاق ، أدوا الصلاة بطمأنينة فلا صلاة لغير مطمئن فيها ، وإن الصلاة إذا أديت على الوجه المطلوب كانت عونا على فعل الطاعات وترك المحرمات وتحمل المشقات ، يقول الله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } ويقول الله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } آتوا الزكاة التي أوجب الله
(/2)
عليكم في أموالكم ، ادفعوها إلى مستحقيها قبل أن تفارقوا هذا المال فيكون غنيمة لمن بعدكم وعليكم الغرم والإثم { مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ }{ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أنفقوا على من أوجب الله عليكم نفقته من الأهل والأقارب فإنكم مسؤولون عن ذلك ، وإن الإنفاق عليهم من الإحسان والله يحب المحسنين ومن صلة الأرحام وسيصل الله الواصلين ، واحترموا بعضكم بعضا فإن نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم وقف في مثل هذا اليوم في جماهير المسلمين بمنى يخطبهم ويعلن تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ، ولقد صارت الأموال منتهكة عند كثير من المسلمين ، وإن لم يكن ذلك بطريق ظاهر تجدهم ينتهكون الأموال بالغش والكذب والدعاوى الباطلة والرشا المغرية واستعمال أموال الدولة للمصالح الخاصة ، ولقد صارت الأعراض منتهكة هي الأخرى فأصبحت الغيبة التي تسمى السبابة أصبحت متفكها في كثير من المجالس ،
فاحذروا أيها المسلمون من تعدي حدود الله في النفوس والأموال والأعراض ، وأدوا الحقوق قبل أن تؤخذ يوم القيامة من أعمالكم .
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
واعلموا رحمكم الله أن هذه الأيام الثلاثة المقبلة هي أيام التشريق التي لا يجوز صيامها كما لا يجوز صيام يوم العيد ، وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : « أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل فأكثروا فيها من ذكر الله بالتكبير والتهليل والتحميد في أدبار الصلوات وفي جميع الأوقات » .
(/3)
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها ، وإياكم والانجراف خلف التيارات المنحرفة التي تصدكم عن دينكم وتعوقكم في السير إلى ربكم خلف نبيكم ، فإن كل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، اللهم انصرنا على أعدائنا وأصلح أمورنا واهد ولاتنا لما فيه الخير والصلاح في ديننا ودنياك إنك جواد كريم .
(/4)
العنوان: الخطبة الخامسة في حكم الأضحية وصفاتها
رقم المقالة: 1745
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
الخطبة الخامسة في حكم الأضحية وصفاتها
الحمد لله الذي شرع لعباده التقرب إليه بذبح القربان وقرن النحر بالصلاة في محكم القرآن ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والامتنان ، وأشهد أن محمدا عبده وسوله أفضل من قام بشرائع الإسلام وحقق الإيمان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما .
أما بعد أيها الناس : اتقوا ربكم واشكروه على ما أنعم به عليكم من مشروعية الأضاحي التي تتقربون بها إلى ربكم وتنفقون بها نفائس أموالكم ، فإن هذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والسلام ، وإن لكم بكل شعرة منها حسنة وبكل صوفة حسنة ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم ، وإنه لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا » .
(/1)
أيها المسلمون : إن بذل الدراهم في الأضاحي أفضل من الصدقة بها ، وإن الأضحية سنة مؤكدة جدا لمن يقدر عليها ، فضحوا عن أنفسكم وأهليكم من الزوجات والأولاد والوالدين ليحصل الأجر للجميع وتقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم حيث ضحى عنه وعن أهل بيته . ولقد كان بعض الناس يحرم نفسه ويتحجر فضل ربه حيث يضحي عن والديه فقط ويدع نفسه وأهله وذريته ، والأولى أن يضحي للجميع وفضل الله واسع ، وهذا فيما يضحي به الإنسان من نفسه ، أما الوصايا فيمشي فيها على نص الوصية ، ولكن إذا كان في الوصية الواحدة عدة ضحايا والريع لا يكفي إلا لواحدة فإنه لا بأس أن تجمع الأضاحي في أضحية واحدة ويجعل ثوابها للجميع إذا كان الموصي واحدا . ولقد كان بعض الناس يضحي عن الميت في أول سنة من موته يسمونها ضحية الحفرة يجعلونها للميت خاصة ، وهذه بدعة لا أعلم لها أصلا في الشريعة ، كما أن بعض العوام إذا أراد أن يعين الأضحية أي يسميها لمن هي له يمسح ظهرها من وجهها إلى قفاها ، والمشروع في تعيين الأضحية أن يعينها عند ذبحها باللفظ من غير مسح عليها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو ذبحها بالنية من غير تلفظ باسم من هي له أجزأت نيته .
(/2)
والأضحية من بهيمة الأنعام . إما من الإبل أو البقر أو الضأن أو المعز على اختلاف أصنافها ، ولا تجزئ إلا بشرطين الأول أن تبلغ السن المعتبر شرعا ، الثاني أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع إلإجزاء ، فأما السن ففي الإبل خمس سنين وفي البقر سنتان وفي المعز سنة وفي الضأن نصف سنة . وأما العيوب التي تمنع من الإجزاء فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : « أربع لا تجوز في الأضاحي العرجاء البين ظلعها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى » . فالعرج البين هو الذي لا تستطيع البهيمة معه معانقة الصحيحات ، والعور البين هو الذي تبرز معه العين أو تنخسف ، فأما إذا كانت لا تبصر بها ولكن لا يتبين العور فيها فإنها تجزئ ولكنها تكره ، والمرض البين هو الذي يظهر أثره على البهيمة إما في أكلها أو مشيها أو غير ذلك من أحوالها ، ومن الأمراض البينة الجرب سواء كان قليلا أو كثيرا ، فأما المرض اليسير الذي لا يظهر أثره على البهيمة فإنه لا يمنع ولكن السلامة منه أفضل . والعجف الهزل ، فإذا كانت البهيمة هزيلة ليس في عظامها مخ فإنها لا تجزئ عن الأضحية . فهذه هي العيوب التي تمنع من الإجزاء ،
(/3)
وهناك عيوب أخرى لا تمنع من الإجزاء ولكنها توجب الكراهة مثل قطع الأذن وشقها وكسر القرن ، وأما سقوط الثنايا أو غيرها من الأسنان فإنه لا يضر ، ولكن كلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل ، والخصي والفحل سواء كلاهما قد ضحى به النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن إن تميز أحدهما بطيب لحم أو كبر جسم كان أفضل من هذه الناحية ، والواحد من الضأن أو المعز أفضل من سبع البدنة أو البقرة ، وسبع البدنة أو البقرة يقوم مقام الشاة في الإجزاء ، فيجوز أن يشرك في ثوابه من شاء كما يجوز أن يشرك في ثواب الشاة من شاء ، والحامل تجزئ كما تجزئ الحائل . ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبح أضحيته بيده ومن كان لا يحسن فليحضر عند ذبحها فذاك أفضل ، فإن ذبحت له وهو غير حاضر أجزأت ، وإن ذبحها إنسان يظن أنها أضحيته فتبين أنها لغيره أجزأت لصاحبها لا لذابحها ، يعني لو كان عنده في البيت عدة ضحايا فجاء شخص فأخذ واحدة يظنها أضحيته فلما ذبحها تبين أنها أضحية شخص آخر فإنها تجزئ عن صاحبها التي هي له ، ويأخذ صاحبها لحمها كأن هذا الذابح صار وكيلا له .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ }{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . . إلخ .
(/4)
العنوان: الخطبة الرابعة في التنبيه على بعض أمور يعتقدها العوام وهي مخالفة للشرع
رقم المقالة: 1744
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
الخطبة الرابعة في التنبيه على بعض أمور يعتقدها العوام وهي مخالفة للشرع
الحمد لله الذي بين لعباده الحق وأقام الدليل وهداهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى أكمل هدى وأهدى سبيل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بدار النعيم المقيم ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي وضح للأمة ما تحتاج إليه وينفعها من أمور الدنيا والدين حتى تركهم على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك معتد أثيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما .
أما بعد أيها الناس : اتقوا الله تعالى وتفقهوا بأحكام دينكم لتعبدوا الله على بصيرة ، فإن مثل من يعبد الله على علم ومن يعبده على جهل كمثل من يمشي على طريق مضيئة وطريق مظلمة ، الأول عارف مواقع قدمه متيقن السلامة والثاني جاهل خائف من العطب والضلالة .
أيها الناس : لقد اشتهر عند بعض العوام أن من لم يتمم له (1) فإنه لا حج له ، وهذا خطأ فلا علاقة بين التميمة والحج ، فالحج يصح فرضا ونفلا سواء تمم عن الإنسان أم لا .
_________
(1) أي يعق عنه
واشتهر عند بعض الناس أن من أحرم في ثياب فإنه لا يجوز أن يغيرها وهذا غير صحيح ، فإنه لا بأس أن يغير المحرم ثيابه التي أحرم بها سواء كان رجلا أو امرأة ، فيجوز للرجل أن يلبس رداء أو إزارا غير اللذين أحرم بهما ، ويجوز للمرأة أن تلبس ثوبا أو مقطعا غير الذي أحرمت به .
(/1)
واشتهر عند بعض الناس أيضا أن المحرم لا يجوز له قطع الشجر الحي من حين أن يحرم وليس كذلك ، فإن الشجر إذا كان خارج أميال الحرم جاز قطعه للمحرم وغيره ، وإذا كان داخل أميال الحرم حرم قطعه على المحرم وغيره ، وعلى هذا فيجوز في عرفة قطع الأشجار الحية للمحرمين وغيرهم ولا يجوز ذلك في منى ومزدلفة لأن عرفة خارج الأميال ومزدلفة ومنى داخل الأميال .
أيها الناس : إن بعض العوام يظن أن من لا يقبل الحجر ولا يستلمه ينقص حجه ، وهذا غير صحيح فإن استلام الحجر وتقبيله سنة في حال السعة إذا لم يكن هناك زحام ، أما إذا كان هناك زحام فإن السنة والأفضل في حق الإنسان أن لا يزاحم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : « يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف ، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر » وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يكره المزاحمة ويقول لا يؤذي ولا يؤذي ، وعلى هذا فطواف الإنسان الذي لا يزاحم عند الضيق أفضل وأكمل من طواف الذي يزاحم فيؤذي ويؤذي ، وإن بعض الناس يشكل عليه الطواف من وراء المقام ، وإني أقول لكم إنه لا إشكال في ذلك فإنه يجوز الطواف ولو من وراء المقام ، وقد نص أهل العلم - رحمهم الله - على أن جميع المسجد الحرام محل للطواف حتى لو طاف في الحصباء أو في الرواق جاز له ذلك ، غير أن الدنو من البيت أفضل إذا لم يكن فيه أذية عليك أو على غيرك .
أيها الناس لقد رأينا كثيرا من الحجاج يتزاحمون خلف المقام أيهم يكون أقرب إليه ، وربما يظنون أن ركعتي الطواف لا تنفع إلا إذا كان الإنسان قريبا منه ، وهذا غير صحيح فالقرب من المقام ليس بشرط في إجزاء الركعتين بل تجزئ الركعتان ولو كنت بعيدا ، ولكن اجعل المقام بينك وبين الكعبة ، ولو كنت في الحصباء أو في رواق المسجد إذا كان هناك زحام فالأمر ولله الحمد واسع .
(/2)
أيها الناس : ربما تقام الصلاة والإنسان يطوف أو يسعى ، فإذا حصل ذلك فصل مع المسلمين ، فإذا فرغت من الصلاة فكمل من الموضع الذي قطعت الطواف أو السعي فيه ولا حرج عليك .
وربما يتعب الإنسان عقب الطواف ويجب أن يؤخر السعي إلى وقت آخر إما إلى آخر النهار أو إلى الليل أو نحو ذلك فهذا جائز لا بأس به ، بل ربما يتعب في نفس السعي ويحب أن يجلس للاستراحة ثم يكمل سعيه أو يكمله على عربة ونحوها وهذا أيضا جائز لا بأس به ، ما جعل الله عليكم في الدين من حرج ولله الحمد .
أيها الناس : كثيرا ما يسأل عن الحائض والنفساء ما تصنع في إحرامها ؟ والجواب على ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : « افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت » وعلى هذا فتفعل مثل ما يفعل الناس سواء بسواء إلا أنها لا تطوف حتى تطهر ، والسعي تابع للطواف ، فإذا أحرمت بالعمرة وهي حائض أو حاضت بعد إحرامها فإن طهرت قبل الطلوع قضت عمرتها وحلت ثم أحرمت بالحج مع الناس ، وإن جاء الطلوع وهي لم تطهر نوت الحج فأدخلته على العمرة وصارت قارنة ويكفيها طواف واحد وسعي واحد لحجها وعمرتها . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . . إلخ .
(/3)
العنوان: الخطوات الثلاث لتصبح كاتبًا
رقم المقالة: 1877
صاحب المقالة: حامد الإدريسي
-----------------------------------------
لابُدَّ أنَّكَ إذ دخلتَ لتقرأ هذا الموضوع تريد أنْ تكُونَ كاتبًا، فأهلاً وسهلاً بكَ، وأسْألُ اللهَ لكَ التوفيق؛ ولكنْ لماذا تريد أنْ تكونَ كاتبًا؟
أَلِيُقالَ فُلانٌ كاتبٌ؟
أم لإعلاء كَلِمة الله، ونَشْر الخير والدعوة إليه، ورَدْع المُنْكر، والتَّنْفِير منه؟!
هذه هي الخُطْوَة الأُولَى قبلَ كُل شيء: "صَحِّح قَصْدكَ":
صَحِّح قَصْدَك، واجْلِس مع نفسِكَ، وابْحَثْ في خفاياها، وانْظُر في أعماقها، هل فِعلاً أريدُ أنْ يَذْكُرَني الناس، أم أريدُ أن يذكرنِي رَبُّ الناس؟
هل فعلاً لا أريدُ إلاَّ أنْ تعلُوَ كلمةُ الله، وينتشرَ دِين الله؟ أم أنَّ ما يَؤُزُّني هو شَهْوة الشُّهْرة، ومَحَبَّة الرِّفْعَة؟
إنَّ البَحْث عَن هذه الأمراض في خَفايا النفس، وخبايا الضَّمير -: لَهُو أمرٌ في غاية الأهمية، وكثيرٌ مِنَّا لا يُصارِح نفسَه ولا تُصارِحُه، يُحسِن بِها الظَّنَّ، ويَترك لها الحبلَ على الغَارِب، فلا يَكْتَشِف المرض إلاَّ بعد أنْ يستفحل، ولا يُحِسُّ بالمُصِيبة إلاَّ بعد أنْ يَفوتَه التَّدارُكُ، لا بُدَّ أنْ تَسْتَوْقفها قَبْل البِداية، وقبل أنْ يَكثُرَ حولَكَ الأَتْباع، ويَلْتَفَّ حولَكَ العَوَامُّ، ويُصبِحَ لكلمتك صَوْتٌ، ولقولك وَقْعٌ، عندها يَعْظُم سُلْطَان النَّفْس، وتشتدُّ الإغْرَاءات، فتُطمَسُ البصيرة، حين لا يرى الإنسان إلاَّ مكانتَه الاجْتِماعيَّة، ويطيرُ الإخلاصُ، حين لا يهتمُّ الكاتبُ إلاَّ برغبات القُرَّاء، فالبِدارَ قَبْل الانْحِدَار، والمُسارَعةَ قَبْل المُوَاقَعَة، فما زِلْتَ على اليابسة، وما زال اتخاذ القرار سهلاً.
(/1)
فإنْ وجدتَ مِنْ نفسك أنَّها تُعْجَب بالثناء، وتَسْعَدُ بكلام الناسِ، وأحْسَسْتَ في نفسكَ فَرَحًا عارمًا إِنْ أَثْنَوْا عليكَ أو مَدَحُوكَ، فهذه علامةٌ أُولَى، فإذا انْضَاف إليها أَنَّك تَشْقَى بقَدْحِهِم، وتَنْكَسِر لنَقْدِهم، ويَعمُّكَ البُؤْس لتَعْييرهم، فهذه علامةٌ مَتَى ما اجْتَمَعَتْ مع الأُولَى، فعليكَ الحَذَرَ أشدَّ الحَذَر مِن سلوك هذا الطريق قبل أنْ تُصلِحَ مِن نفسكَ ما ذكرت، وقبل أنْ توَحِّدَ مِن قصدكَ ما شتَّتَّ، وتَجمَع نِيَّتَكَ على الله وَحْدَه، وتحقِّق التوحيد في غايتكَ إليه سبحانه، عندها لن تكتبَ حَرْفًا، ولن تَسْطُرَ سَطْرًا، ولن تُجْرِيَ سَوَادًا على بَيَاضٍ إلاَّ وكان التوفيقُ إلى جانِبِكَ، واليُمْنُ في طريقك.
إنَّ النَّفْس قد جُبِلَتْ على حُبِّ الثناء، فليس المعيارُ أَلاَّ يَسُرَّكَ الثناء، أو أنْ يُزعِجَكَ التعيير، وإنَّما إذا بلغ ذلك مِن نفسِكَ مَبْلغًا، وأثَّر فيكَ تأثيرًا واضحًا، حتى تَمَلَّكَكَ حُبُّ الثناء، وأصبحتَ ترى لعَملكَ مكانةً على قَدْر ما نِلْت مِن مكانةٍ في قُلوب النَّاسِ، وأصبح ذلك نُصْبَ عَيْنَيْكَ، فهذا هو الهلاك والعِياذ بالله؛ ((إنما قرأتَ لِيُقَالَ قارئٌ، فقد قِيل)).
الخُطوة الثانية: احمل بين جَنْبَيْكَ قضية:
ها أنتَ قد صَحَّحْتَ قَصْدَكَ، وأصلحتَ نِيَّتَكَ، وتَوكَّلْتَ على الله، وتناوَلْتَ القَلَم، فماذا تريد أن تقول للناس؟
إنْ كنتَ إنَّما ستجْمَعُ آيةً مِن هنا، وحديثًا مِن هُناكَ، ثُمّ تَلُزُّهما في قَرَن، وتُجَمِّلُهما بشيء من عبارتكَ، وتَكُبُّ في السَّاحة سَطْلاً منَ الكلام، فلن تَعْدُوَ أنْ تكونَ ضِغْثًا على إِبَّالَة، فاخْتَصِرْ على نفسِكَ، وأَرِحِ الآخَرين مِن تحمُّل قراءة كتاباتِكَ.
(/2)
لكنِ انْظُر إلى الواقع بتأمُّل، وانظر إلى واقِع المسلمينَ ببصيرة، انْظُر نظرةَ مُصْلِحٍ مُشْفِق، وأبٍ رحيمٍ، وأخٍ رفيقٍ، وأمٍّ رَؤُومٍ، انظر إلى إخوانكَ ممن ضلُّوا الطريق، وتاهوا في مسالكِ الأهواء، وانظر إلى إخوانكَ ممن أجْهَدُوا أنفسهم في البِدَع، وأَرْهَقُوا أبدانهم فيما لم يأذَنْ به الله، وانظر إلى أعداء أُمَّتِنا الإسلامية وهم يُخَطِّطون ويَمْكُرون، وانْظُر إلى المُنافقينَ وهم يُرْجِفُونَ ويَكِيدُونَ، انْظُر إلى كُلِّ هذا، واسأل اللهَ أن يفتحَ عليك، فإنْ أنتَ أرَّقَتْكَ هذه الأحوالُ حتى بلغ منك الْهَمُّ مَبْلَغَه، وأَغَصَّكَ الألم، وطارَ عنكَ النَّوْمُ، وتألَّمْتَ وتَمَلْمَلْتَ، وغَمَّكَ حالُ الإسلام والمسلمين، فاعْلَم أنَّه المَخَاضُ، فسَتُولَد بين جَنْبَيْكَ قضية، وعلى قَدْر ما تألَّمْتَ على قَدْر القضيَّة التي ستحملها.
ستُولَد القضيَّة على قَدْر ما تَحمِلُه مِن هَمٍّ، وستعيش بين جَنْبَيْكَ، تَقْتَاتُ مِن لحمكَ، وتشربُ مِن عُرُوقِكَ، حتَّى تصير هي أنت، وحتَّى تنام معك، وتستيقظ معكَ، وحتى تكون أَنِيستَكَ في الوَحْدة، ورفيقتَكَ في السَّفَر، لن تكونَ وحيدًا بعد ذلك اليوم، وسَتَكْبُرُ حتى تجتازَكَ، وتصبِحَ أنت جزءًا منها، عندها ستكون كاتبًا، وعندها سيكون كلامُكَ نَقْشًا في لَوْح التاريخ.
إنَّ العظماء لم يُعَظَّمُوا إلاَّ على قَدْر الْهَمِّ الذي كانوا يحملونه، فإنْ حملتَ هَمَّ نفسِكَ وأُسْرتكَ فأنتَ رجلٌ في أُمَّة، وإن حملتَ هَمَّ أُمَّتكَ ودِينكَ فأنتَ أُمَّة في رجل.
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ
الخطوة الثالثة: احتَرِمِ الكلمة:
(/3)
إنَّ الكلمة عبارةٌ عَن حروف، والحروف عبارة عن حركات بسيطة، يقوم بها هذا اللسان؛ لكنَّ كلمةً واحدة تستطيع أنْ تفعلَ ما لا تفعله أعتى القنابل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 88 - 90] كُلُّ هذا بكَلِمَة!
إنَّ: (لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله) كلمات؛ لكنَّها تأتي يوم القيامة جِبالاً مِنَ الحسنات.
إنَّ أعظم الكبائر وأكبر الذنوب إنما هي كَلِمة، فالشِّرْكُ كَلِمَة، والكُفْر كلمة، والعُقُوق كلمة، والنَّمِيمة كلمة، والغِيبَةُ كلمة، والقَذْف كلمة، ولَرُبَّ كلمةٍ أدْخَلَتْ صاحبها النار؛ بل قَذَفَتْهُ في قَعْرِها سبعينَ خريفًا، ولَرُبَّ كلمةٍ أدْخَلَتْ صاحبها الجنَّةَ؛ بل رَفَعَتْهُ فيها سبعينَ خريفًا؛ إنَّ الكلمةَ تطير بها الرِّقاب، وتُسْتَبَاح بها الأَنْفُس والأعْرَاض والأموال، وتُطَلَّق بها النِّساء، ويُحَرَّر العَبيد والغِلْمان.
ويكفي في بيان شأن الكلمة، أنَّ أفضل الشُّهداء شهيدُ كَلِمَةٍ، لا شهيدُ معركة.
مِن هنا فإنَّه يجب على الكاتِب أن يَحْتَرِمَ كلمته، فلا يضعَها إلاَّ بعدَ نَظَر وتأمُّل، وهذا النَّظر مِن جهتَيْنِ: مِن جهةِ المعنى؛ ومِن جِهةِ اللَّفْظ، فمَتَى كان المعنَى شريفًا، وكان اللَّفْظ دالاًّ عليه دَلالةً كامِلة، لا مُقَصِّرة، ولا زائدة، كان الكلامُ بليغًا.
(/4)
إنَّ بَيْن البيان والعِيِّ في الكَلام أن يُعوِّدَ الكاتب نفسَه انتقاءَ الكلمات، وتَلْبِيسَها على المعاني التي تُناسبها حجمًا وشَرَفًا، فكُلُّ ما عليه: أن يُوقِظَ هذه الحاسَّةَ في نَفْسِه، ويتأمَّلَ الكلمة مع المعنى ويقيسها عليه، ثم يتأملها فيما بينها وبين جاراتها مِن الكلام، فعندها يَتَبيَّن له حُسْن موضعها، أو قُبْحه، فإمَّا أنْ يتركها؛ وإمَّا أنْ يَزُفَّ بَدَلاً مِنْهَا كلمة أخرى، فيضعها في مكان الكلمة الأخرى، ويُعيد النَّظَر والتَّأمُّل، فإنْ رأى الجديدةَ أكثَرَ انسجامًا مع أخواتها أبقى عليها، وإلاَّ عَوَّضَهَا بثالثة أو رَدَّ الأُولَى، ويستمرّ في هذه العملية حتى كأنَّهُ صائغ يُرَكِّبُ عِقدًا مِنَ الجَوَاهِر، يرصُّ بعضه إلى بعض، وعليه أن يُطلِقَ لِمَلَكَتِه وذَوْقِهِ العِنان في الحُكْم والاختيار، وأن يتحمَّلَ هذه المُعاناةَ مِن أجْل الكَلِمة.
إنَّ هذه الْمَلَكَة تنمو بالْمِراس، لذا فإنَّه على الكاتبِ ألاَّ يَضْجَرَ مِن إعادة العبارة مرتينِ، وثلاثة، وأكثرَ، حتى يرضى عنها، ويطمئنَّ لِمَكَانِها، عند ذلك سيضع رِجْلَه في طريق البُلَغَاء.
وأُحَذِّركَ أشَدَّ الحَذَر مِن أنْ تُسَمِّمَ مَلَكَتك بالإكثار من قراءة غُثَاء الصُّحُف، فتَلْتَصِق بكَ لُغتُهُمُ الرَّكِيكةُ، وتَذْبُلُ عِبارتُكَ، وينطفئ ضَوْء كَلامِك، وعَلَيْك بالقرآن الكريم، اشْرَبْ مِن بلاغته، وارْتَوِ مِن عبارته، وتأمَّلْ معانِيَهُ، فإنَّه مَعين لا يَنْضَب، واحْفَظ مِن أشْعَار العرب ما استطعتَ، وأدِمِ النظر في كُتُب الفُصَحاء مِنَ الأُدَباء أمثال: الجاحظ، وابن عَبْدِ رَبِّهِ، وأبي علي القَالِي، فلَعَلَّكَ أن تصيبَ عندهم حاجتكَ، وتُهَذِّبَ في كُتُبهم قَرِيحَتَكَ.
(/5)
ثم اعلم أنَّ التَّبَرُّؤ مِنَ الحَوْل والقوة عند كتابة كلِّ مَقال، يَمُدُّكَ بمَدَد الكبير المُتعالِ، الذي يُوَفِّق مَن شاء، ويَحْرِمُ مَن شاء، فالْجَأْ إليه، ووَجِّهْ هدفَكَ نحوَهُ، فسترى مِن نفسكَ ما يَسُرُّكَ في الدُّنيا، وينفعكَ في الآخرة.
(/6)
العنوان: الخلال النبوية (1/3)
رقم المقالة: 719
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (أ)
الحمدلله؛ رحم هذه الأمة الخاتمة فأكرمها بأفضل خلقه، وبعث فيها خاتم رسله، نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على تعدد مننه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له {كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ كان أرحم نبي لأمته، وأشدهم شفقة ونصحا، وأكثرهم عفوا وصفحا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فلا منجاة للعباد يوم القيامة إلا بها {وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون).
أيها الناس: رحمة الله تعالى بعباده عظيمة، ومنته عليهم كبيرة، وهو عز وجل ذو الرحمة الكاملة التي لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه، وليس العجز والضعف باعثا عليها بحال من الأحوال؛ وإنما هي رحمة الرحيم الرحمن، الذي وسع كل شيء رحمة وعلما.
وأعظم رحمة حظيت بها هذه الأمة من الرب جل جلاله: اختصاصها بنبي الرحمة، الذي ختم الله تعالى به النبوات، وأخرج العباد به من الظلمات، وأنزل ببركته أنواع الرحمات، فأهل الأرض يتراحمون بها إلى يوم القيامة، وصدق الله الكريم إذ يقول { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ).
(/1)
فرسالته عليه الصلاة والسلام التي بلغها عن ربه جل في علاه قد أفاضت على العباد بأنواع الرحمات، وشملت الرحمة به عليه الصلاة والسلام الإنس والجن، والطير والحيوان، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، وما من أحد على الأرض منذ بعثته عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة إلا أصابه شيء من تلك الرحمة التي جعلها الله تعالى واصلة للعالمين كلهم؛ ولذلك جاء في حديث مرسل أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة)) رواه الدارمي وصححه الحاكم.
وأخص العالمين بتلك الرحمة، وأكثرهم حظا منها: من آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، وفلاحهم يكون في الدنيا والآخرة، وكما جاء النص القرآني بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين جاء كذلك بالنص على أنه عليه الصلاة والسلام رحمة للمؤمنين في قوله تعالى {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم}.
ومن رحمته عليه الصلاة والسلام لمن آمن به ، ودان بدينه : دعاؤه لهم؛ إذ كان يكثر من ذلك، ولا سيما إذا تذكر حال الأنبياء السابقين مع أممهم، فتغلبه رحمته لأمته فيدعو لهم؛ كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني} وقال عيسى عليه السلام {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فرفع عليه الصلاة والسلام يديه وقال:اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال -وهو أعلم- فقال الله تعالى: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل:إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) رواه مسلم.
(/2)
وخطب عليه الصلاة والسلام يوما فقال : ((أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبى، أو لعنته لعنة فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة)) رواه أحمد.
وبلغ من رحمته عليه الصلاة والسلام بأمته أنه قدمهم على نفسه في دعوة مجابة أعطاه الله تعالى إياها كما أعطى الأنبياء قبله، فلم يخصها لنفسه بل ادخرها لأمته؛ كما روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيب فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) رواه الشيخان ، وفي رواية لهما واللفظ لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)) صلوات ربي وسلامه عليه، ما أعظم رحمته بنا ،وما أشد حرصه علينا!! أَيُلَامُ المؤمنون به أن أحبوه وعزروه ونصروه، وقد آثرهم على نفسه، وخصهم بدعوته، في موقف يا له من موقف؟! والله لا يلومهم على ذلك إلا كافر لم يؤمن به، أو منافق يخفي كفره، أو جاهل لم يعرف فضل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما أخبر الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين إلا وقد شملت رحمته الكفار والمنافقين، وبيان ذلك أن المشركين دعوا على أنفسهم بالعذاب فقالوا {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فرفعه الله تعالى عنهم ببركة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} وأما بعد موته عليه الصلاة والسلام فبالاستغفار الذي شرعه لهم، ودلهم عليه {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
(/3)
ولما اشتد به أذى المشركين، وصدوا عن دعوته، وعذبوا أصحابه، ولحقه من الهم ما لحقه؛ استأذنه ملك الجبال أن يهلك المشركين، ويسحقهم بين جبلين عظيمين؛ فرحمهم عليه الصلاة والسلام رغم شدة أذاهم له، وأمهلهم مرة بعد مرة، ولم ينتصر لنفسه لما جاءه النصير، بل غلبت رحمته لقومه انتقامه لنفسه؛ فقال عليه الصلاة والسلام لملك الجبال عليه السلام : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) متفق عليه.
وسبب ذلك أنه ما أراد عذاب أمته، بل ابتغى أن يكون ذخرا لهم، وخيرا متقدما يجدونه أمامهم بعد وفاتهم؛ كما روى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره)) رواه مسلم.
ولما دعا على المشركين بالجوع فأصابهم شكوا إليه ما وجدوا فرحمهم عليه الصلاة والسلام فعاد يدعو لهم بالغيث فسقوا؛ كما روى ابن مسعود رضي الله عنه: (أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم أعنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله) رواه الشيخان، وفي رواية للبيهقي: (فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم إنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث).
ولما قال له أحد أصحابه رضي الله عنهم : (يا رسول، الله ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة) رواه مسلم.
(/4)
وكان عليه الصلاة والسلام شديد الأسى، كثير الحزن على من لم يؤمن من قومه، لا يهنأ بعيش وهو يراهم على الكفر؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم، فعاتبه الله تعالى في ذلك {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} أي: لعلك مهلك نفسك أو قاتلها أسفا عليهم إذ لم يؤمنوا، وفي الآية الأخرى {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} واشتدت به الحسرة عليهم حتى خاطبه الله تعالى بقوله {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} وسلَّاه ربه عز وجل في حزنه هذا بقوله تعالى {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.
إنها والله لرحمة عجيبة منه عليه الصلاة والسلام لقومٍ كذبوه واستهزءوا به وبدينه، وآذوا أتباعه، واضطروه إلى الهجرة عن بلده، وقتلوا أصحابه، وحاولوا قتله غير مرة، وجمعوا الجموع لحربه، وجرحوه في أحد، وكسروا رباعيته، وهشموا البيضة على رأسه، ومع ذلك كله يرحمهم ويأسى عليهم، ويحزن لأجلهم، ويستغفر لهم قبل أن ينهى عن ذلك فيقول ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) ولم يكن أشدَّ فرحا بشيء فرحه بواحد منهم يدخل في الإسلام؛ روى أنس رضي الله عنه فقال : (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار) رواه البخاري.
(/5)
إن الله تعالى قد رحم بالنبي صلى الله عليه وسلم المشركين فرفع عنهم العذاب بحلمه عليهم، وعفوه عنهم، وطلبه إمهالهم، واستسقائه لهم، ورحم به المنافقين بقبول معاذيرهم إذا اعتذروا، وتصديقهم إذا حلفوا، وحقن دمائهم، ومعاملتهم بظاهر حالهم، ورد سرائرهم إلى الله تعالى، واشتهر ذلك عنه عليه الصلاة والسلام حتى لمزه به المنافقون {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} أي: يستمع لنا، ويقبل أعذارنا، وسنقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا، فكان رد الله تعالى عليهم {قل أذن خير لكم} يعني: أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم.
وفي قول الله عز وجل {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف).
ومظاهر رحمته عليه الصلاة والسلام للناس أجمعين، بل حتى للحيوان لا يتسع هذا المقام لعدِّها كلها، فضلا عن عرضها بحوادثها وتفصيلاتها ... ومن المعجزات النبوية أن بعض الحيوان كان يحس برحمة النبي صلى الله عليه وسلم فيلجأ إليه يشتكي رهق مالكه، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه)) أي:ترهقه في العمل.رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
(/6)
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
أيها الناس :كما حفظت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة أظهرت رحمته بالعالمين؛ فإنها حفظت كذلك مواقف أخرى أوقع فيها العقوبة الشديدة على من يستحقها، وليس ذلك مما يتعارض مع صفة الرحمة التي امتلأ قلبه بها، بل إن وضع الرحمة في غير موضعها مما يذم ولا يحمد؛ وذلك كتعطيل الحدود والتعزيرات رحمة بالمجرمين، ولازم ذلك سلب الرحمة عن عموم الناس لحساب أهل الفساد والإجرام.
وكما دعا النبي عليه الصلاة والسلام لبعض المشركين بالهداية، واستسقى لهم؛ دعا كذلك على آخرين بالعذاب والزلزلة والنار، فعلم أن الدعاء للمشركين بالهداية جائز كما أن الدعاء عليهم بالعذاب جائز كذلك.
ولما عدا يهودي على جارية فأخذ ذهبها، ورضخ رأسها بالحجارة؛ رضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي بين حجرين.
وأسلم ناس من العرنيين فألحقهم عليه الصلاة والسلام بإبل الصدقة ليشربوا من ألبانها، ويتداووا بأبوالها، فلما صحوا وتعافوا؛ ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم ((فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا)).وفي رواية: (فأمر عليه الصلاة والسلام بمسامير فأحميت فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة يستسقون فما سقوا حتى ماتوا). قال أنس رضي الله عنه: (فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت) وفي رواية قال أنس رضي الله عنه: (فلقد رأيت أحدهم فاغرا فاه يعض الأرض ليجد من بردها مما يجد من الحر والشدة) وقصتهم مخرجة في الصحيحين.
(/7)
ونقض يهود قريظة العهد ، وحكّم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قضيت بحكم الله)).
فخدت لهم خنادق في الأرض، وضربت أعناق رجالهم فيها، وكانوا يقاربون ست مئة رجل، وسبيت نساؤهم وذراريهم، وغنمت أموالهم. وكان هذا الجزاء العادل حكم الله تعالى فيمن نقضوا العهد، وأرادوا السوء بالمسلمين وقصتهم أيضا في الصحيحين.
كل هذه الحوادث ومثيلاتها تشريع من رب العالمين، أوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حكم النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المجرمين بما سمعتم، وأقرَّ الله تعالى حكمه، فكان ذلك تشريعا، ورسولنا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فعلم أن هذه الأحكام منه صلى الله عليه وسلم - وإن بدت للبعض قاسية - حق لا باطل فيه أبدا.
وإزاء هذه الحوادث ومثيلاتها في السيرة النبوية اختلفت مواقف الناس في هذا العصر، وضلَّ فيها طائفتان من الناس: فالكفار والمنافقون، ومن في قلوبهم حقد على الإسلام والمسلمين أبرزوها كدليل على دموية المسلمين، والقدح بها في النبي صلى الله عليه وسلم، واختزلوا السيرة النبوية في ذلك، مع تعاميهم عن الجرم الذي ارتكبه من استحقوا تلك العقوبات، وإخفائهم للحوادث الكثيرة التي تدل على العفو والصفح والرحمة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
(/8)
والطائفة الأخرى: قوم قابلوا هؤلاء، فجدَّوا واجتهدوا في الذب عن الإسلام، لكنهم أخطئوا الطريق، ولم يوفقوا في المعالجة؛ إذ حَرِجُوا من مثل تلك المواقف، فراح بعضهم ينكرها ولو كانت ثابتة، أو يتكلف في تأويلها بما يضعف حجته، وينقص عقله، وكثير ممن سلكوا تلك الطريق الوعرة هم ممن سلَّموا ببعض المبادئ الغربية الإلحادية، ويدعون إلى حرية الرأي وحرية التدين التي منها جواز تغيير الدين حسب المنهج الغربي، فيضطرون لأجل ذلك إلى إلغاء حدِّ الردة ... وإذا تحدثوا عن الإسلام اختزلوه في صور السماحة والعفو، ولا يعرضون العقوبات في الإسلام إلا على استحياء وبخفض صوت، ويعللونها بتعليلات سامجة باردة.
وسبب ذلك أن هؤلاء - هدانا الله وإياهم - قد بُهروا بما في القوانين الدولية من مواد حفظ حقوق الإنسان، وجعلوها حقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم حاكموا شريعة الإسلام إليها، فما وافقها رفعوا عقيرتهم مثبتين أن الإسلام سبق إليها، وما خالفها أخفوه أو سكتوا عنه، فإن جوبهوا به من قبل الأعداء أنكروه، أو تأولوه، أو استخرجوا له مذهبا شاذا، أو قولا مهجورا ليس له من الدليل إلا أنه موافق للقانون الطاغوتي الوضعي، فهم قاسوا شريعة الله تعالى المحكمة بشرائع البشر الفاسدة، وحاكموها إلى ما يعارضها ويناقضها وهي الحاكمة، وهذا أُسُّ الخطأ، وسبب الضلال والانحراف.
وما علم هؤلاء المفتونون أننا لسنا ملزمين بإقناع أعدائنا بأحكام ديننا، فإن آمنوا فلهم، وإن كفروا فعليهم. لكننا ملزمون بتعظيم شريعة ربنا، والأخذ بجميع أحكامها، وعدم الحرج من شيء منها، ولو كان يزعج الأعداء، ويخالف قوانينهم الوضعية.
(/9)
وليعلم كل من يزور شريعة الله تعالى لأجلهم أنهم لن يرضوا عنه حتى يخرج من دينه، ويتبعهم في إلحادهم؛ فأولى له سلامة دينه من مراعاة أعدائه، وشريعة الله تعالى فوق نقد الناقدين، ويجب ألا تُضاهى بتخبطات القانونيين، وهي شريعة خالدة باقية على رغم أنوف الحاقدين والكارهين من الكفار والمنافقين؛ فمن رضيها وسلَّم بها فهو ينفع نفسه، ومن ردها أو عارضها فهو يضر نفسه، ولن يضر الله تعالى شيئا {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون}.
وصلوا وسلموا على ربكم....
(/10)
العنوان: الخلال النبوية (2/3)
رقم المقالة: 720
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (ب)
الحمدلله؛ كتب على نفسه الرحمة، وأتم على عباده النعمة، فبعث فيهم أرحم الخلق بهم، وأحرصهم عليهم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} أحمده سبحانه على نعمه المتواترة، وأشكره على مننه المتكاثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رحم عباده بالدين والشرائع التي تدل على الخير والمصالح، وترفع الشر والمفاسد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ اصطفاه على العالمين، وجعله حجة على الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم؛ فإن الله تعالى قد شرع لكم من الدين أحسنه، وفرض عليكم من الشريعة أكملها {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} ولا يرضى لكم ربكم إلا ما هو خير لكم في الدنيا والآخرة؛ فهو الرحيم بكم الذي وسعت رحمته كل شيء، فاقبلوا عن الله تعالى دينه، وافرحوا بشريعته، واحمدوه إذ هداكم وقد ضلَّ غيرُكم {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان}.
أيها الناس: الرحمة صفة من صفات الله عز وجل، اتصف بها فهو الرحمن الرحيم، ومن رحمته بالبشر أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وما ذاك إلا رحمة بهم، وهداية لهم، وقد خاطب سبحانه خاتم رسله فقال {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والشريعة، وما اتصف به من الرأفة والرحمة ما هو إلا من رحمة الله تعالى الذي أرسله بها، وحضه عليها ؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة )) رواه مسلم.
(/1)
ومظاهر رحمة النبي صلى الله عليه وسلم قد حفلت بها سيرته وامتلأت بها شريعته، فرحم الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمرأة والضعيف، بل شملت رحمته الحيوان والجماد، وجاء بشريعة كلها خير ورحمة للعباد، وما من سبيل يوصل إلى رحمة الله تعالى إلا جلَّاه لأمته، وحضهم على سلوكه، وما من طريق تبعدهم عن رحمة الله تعالى إلا زجرهم عنها، وحذرهم منها؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم.
وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته أن اختار لهم من الشريعة أيسرها وأكملها، ومن الأحكام أخفها وأحكمها، ووصفته عائشة رضي الله عنها وهي ألصق الناس به فقالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه) رواه الشيخان.
وكان عليه الصلاة والسلام يترك العمل وهو يطيقه، ويود العمل به، ما يتركه إلا رحمة بأمته؛ خشية أن يفرض عليهم فلا يطيقه أكثرهم، ومن نظر في سنته عليه الصلاة والسلام تبين له ذلك، وكم من مرة قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بكذا وكذا، أو لولا أن أشق على الناس لأمرتهم بكذا، قالت عائشة رضي الله عنها: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم) رواه الشيخان.
وفي قيام رمضان صلى بأصحابه رضي الله عنهم ثلاث ليال فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: ((أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)) متفق عليه.
(/2)
وكان من رحمته بأمته أنه يغضب من المسائل التي قد يترتب عليها تشريع يشق على الناس، وينكر على من يسأله مثل تلك الأسئلة؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) رواه مسلم.
وبلغ من شدته في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته)) رواه الشيخان.
وما كانت رحمته عليه الصلاة والسلام لأمته خاصة بالدنيا بل شملتهم في الآخرة، فأجَّل دعوته المستجابة لأمته في الآخرة، ولم يعجلها لنفسه في الدنيا، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له، وإني أريد إن شاء الله أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) رواه الشيخان.
قال النووي رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورأفته بهم، واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخرَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم.
كان عليه الصلاة والسلام شديد الرحمة بالأطفال، حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
(/3)
ولما نازعت ابنه إبراهيم رضي الله عنه روحه (جعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة) رواه مسلم.
وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال أنه يحملهم ويحنكهم، ويقبلهم ويداعبهم، ويضعهم في حجره، ولا يترفع عن شيء من ذلك، ولربما بال الصبي في حجره عليه الصلاة والسلام فلوث ثيابه، فلم يغضب على من أتى به، ولم يتبرم من ذلك، بل يكتفي بنضح ثوبه بالماء.
وكانت رحمته بالأطفال لا تفارقه حتى وهو في عبادته، ومناجاته لربه عز وجل، فصلى ذات مرة وهو حامل أمامة بنت زينب ابنته (فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها) متفق عليه. وروى شداد بن أوس رضي الله عنه فقال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال شداد: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال:كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته) رواه النسائي.
(/4)
ومن رحمته بالنساء أنه عليه الصلاة والسلام حرَّج على المسلمين حق الضعيفين: اليتيم والمرأة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)) رواه البخاري.
وكان يرحم ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم.
وشملت رحمته عليه الصلاة والسلام أهل الحرب من المشركين فأمر أصحابه رضي الله عنهم في مغازيهم ألَّا يغلوا ولا يغدروا ولا يمثلوا ولا يقتلوا وليدا، وألا يعذبوا الأسرى بل يرفقوا بهم، ويحسنوا إليهم، وأن يحسنوا القتلة إذا قتلوا ومن صور الرحمة التي طبقها الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو عبد الرحمن الحبلي رحمه الله تعالى فقال: (كنا في البحر وعلينا عبدالله بن قيس الفزاري ومعنا أبو أيوب الأنصاري فمرَّ بصاحب المقاسم وقد أقام السبي، فإذا امرأة تبكي فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: فرقوا بينها وبين ولدها، قال: فأخذ بيد ولدها حتى وضعه في يدها، فانطلق صاحب المقاسم إلى عبد الله بن قيس فأخبره، فأرسل إلى أبي أيوب فقال: ما حملك على ما صنعت ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.
وتعدت رحمته صلى الله عليه وسلم بني آدم إلى الحيوان فنهى عن تصبير البهائم، وهو أن تحبس وتتخذ هدفا يرمى إليه حتى تموت؛ ففيه تعذيب لها، وقال له رجل: (يا رسول الله، إني لأرحم الشاة أن أذبحها، قال: ((والشاة إن رحمتها رحمك الله)) ) رواه أحمد.
(/5)
ومرَّ عليه الصلاة والسلام بِحُمَّرةٍ قد أخذوا ولدها وهي تُفَرِّشُ بجناحيها في الأرض وَجْدَا عليه فقال عليه الصلاة والسلام ((من فجع هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدها إليها)) وقال عليه الصلاة والسلام ((اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة)) وقال عليه الصلاة والسلام ((إياكم أن تتخذوا دوابكم منابركم)).
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد أنه كان يقوم يوم الجمعة إلى نخلة، فقال أحد الأنصار: (يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: ((إن شئتم، فجعلوا له منبرا))، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، تئن أنين الصبي الذي يُسَكَّن، قال: ((كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها)) وفي رواية قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها فسكنت) رواه البخاري. وما نزول النبي صلى الله عليه وسلم عن المنبر، وإتيانه الجذع، وضمه ووضع يديه عليه حتى سكن إلا رحمة منه صلى الله عليه وسلم له.
فشملت رحمته صلى الله عليه وسلم العالمين، فكان رحمة لهم على ما أخبر الله تعالى بقوله {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وعلى ما وصفه به سبحانه من أنه {بالمؤمنين رؤوف رحيم} فجزاه الله تعالى عن أمته خير ما جزى نبيا عن أمته، ونسأله سبحانه أن يؤتيه الوسيلة والفضيلة، والدرجة العالية الرفيعة، وأن يبعثه مقاما محمودا الذي وعده، كما نسأله أن يجعلنا من أحبابه وأنصاره، وأن يحشرنا في زمرته، ويدخلنا الجنة معه، إنه سميع مجيب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم...
الخطبة الثانية
(/6)
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على ما أنعم وأولى، ونشكره على ما هدى وأسدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، العبد المصطفى، والنبي المجتبى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون- وأطيعوه {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}.
أيها الناس: مع كون النبي صلى الله عليه وسلم رؤوفا رحيما، وقد جعله الله تعالى رحمة للعالمين؛ فإنه كان يضع الرحمة في موضعها اللائق بها؛ لئلا تتحول إلى ضعف وعجز، أو يفهم من التخلق بها ذلك، فلقد قاتل عليه الصلاة والسلام من استحق القتال من اليهود والمشركين، وضرب بسيفه في سبيل الله تعالى، وقتل أبي بن خلف بيده، وأمر بقتل جماعة من المشركين ومن اليهود، وأقام الحدود على من انتهكها؛ فرجم ماعزا والغامدية لما زنيا، وقطع السارق، وقتل المحاربين المرتدين بعد أن قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أن الحدود إذا بلغت الإمام أو نائبه وجب إقامتها فقال عليه الصلاة والسلام: ((تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب)) رواه أبو داود ومعنى الحديث: تجاوزوا عنها، ولا ترفعوها إليَّ فإني متى علمتها أقمتها.
وروى صفوان بن أمية رضي الله عنه فقال: (كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثَمَنِ ثلاثين درهما فجاء رجل فاختلسها مني، فأُخذ الرجل، فأُتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُمر به ليقطع قال: فأتيته، فقلت: أتقطَعُهُ من أجل ثلاثين درهما؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به) رواه أبو داود. وجاء في القرآن في شأن جلد الزانيين {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}.
(/7)
فعلم بهذه النصوص الكثيرة أن الجهاد في سبيل الله تعالى، وما ينتج عنه من قتل المشركين ليس مما ينافي الرحمة، وأن إقامة الحدود لا تنافي الرحمة كذلك، بل هي من الرحمة لعموم البشر، وأما المناهج الوضعية الإلحادية التي سادت في هذا العصر فما هي إلا عقاب للضحايا والأبرياء، وعون للمجرمين على إجرامهم، ومكافأة للمفسدين على إفسادهم، وهي من أعظم أسباب الخوف والجوع، كما أن إقامة الحدود من أعظم أسباب الأمن والرخاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حدٌّ يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا)) وفي رواية: (إقامة حدٍّ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين صباحا) رواه ابن ماجه.
ولا يجوز لمؤمن بالله تعالى أن يعارض شريعة الله تعالى، أو يدعو لتعطيل حدوده بدعوى أن الزمن تغير، أو أن ذلك مما يعارض حقوق الإنسان التي تواضع البشر عليها في هذا العصر، فكل هذه الدعاوى إثم وضلال توصل أصحابها إلى الكفر بالله تعالى؛ إذ فيها منازعة لله تعالى في الحكم والتشريع، والله تعالى له الخلق والأمر، وفيها مشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما قضى وحكم {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
وكيف يزعم زاعم أن الحدود الشرعية فيها قسوة ووحشية لا تتناسب مع هذا العصر، وقد شرعها أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وقضى بها من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين {سبحانك هذا بهتان عظيم}.
ألا فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، واقبلوا عن الله تعالى شريعته، ولا تلتفتوا لأقوال الكافرين والمنافقين فيها، فهي الخير والصلاح للعباد في الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا.....
(/8)
العنوان: الخلال النبوية (3/3)
رقم المقالة: 722
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
واخفض جناحك للمؤمنين
الحمدلله الكبير المتعال؛ أرسل رسوله بكمال الأخلاق ومحاسنها، ونهاه عن سفاسفها ورذائلها، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما اجتبانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن نازعه فيهما عذبه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [البقرة:223].
أيها الناس: تعرف أقدار الرجال بأعمالهم، ويقاس كبار الناس بأوصافهم، فقوة الجسد يعقبها المرض أو الهرم، وقوة المال والجاه يخلفها الموت، ولا يبقى للعبد عند ربه إلا عمله، ولا يذكره الناس إلا بوصفه، فإن كان ذا عمل جليل، ووصف نبيل؛ أثنى الناس عليه بما علموا من حاله، وإن كان غير ذلك ذكروه بما يستحق، والمؤمنون شهداء الله تعالى في الأرض؛ كما جاء في الحديث الصحيح.
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام قد كُلِّف من الأعمال أشقها وأشرفها، وحاز من الأخلاق أعلاها وأكملها، حُمِّل أعظم رسالة وكُلف بتبليغها، فحملها وبلغها، وأوذي في سبيلها فما وهنت عزيمته، ولا لانت عريكته. وأما الأخلاق فمن ذا الذي يقدر على وصف خلقه، وقد كان خلقه القرآن، ومهما تكلم المتكلمون، ووصف الواصفون في خلقه عليه الصلاة والسلام فلن يفوه حقه، ولن يدركوا وصفه.
(/1)
والتواضع، وخفض الجناح، ولين الجانب؛ كانت أوصافا له عليه الصلاة والسلام، تخلَّق بها امتثلا لأمر الله تعالى حين خاطبه بقوله سبحانه {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88] وفي الآية الأخرى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] وفي آية ثالثة {وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37] وأوصاه جبريل عليه السلام بالتواضع؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذُ يومِ خُلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد، أرسلني إليك ربك قال: أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولا؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد، قال: بل عبدا رسولا) رواه أحمد وصححه ابن حبان.
فكان عليه الصلاة والسلام أكثر الناس تواضعا، وأخفضهم جناحا، وألينهم جانبا، وسيرته عليه الصلاة والسلام مليئة بالمواقف والعبر في هذا الخلق العظيم.
لقد أنعم الله تعالى عليه بمنزلة ما بلغها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فكان سيد البشر، وأفضل الخلق، وخاتم الرسل، وكان إذا أخبر عن منزلته تلك يقرن إخباره بها بنفي الفخر؛ تواضعا لله تعالى، وإزراء بنفسه الشريفة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر)) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
(/2)
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه كره أن يُفضل على الأنبياء عليهم السلام مع أنه سيدهم وخاتمهم وأفضلهم، فقال عليه الصلاة والسلام ((لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى)) رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما قال له رجل: (يا خير البريه، قال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم عليه السلام) رواه مسلم.
وما كان يقبل حمية أحد له في تفضيله على غيره من المرسلين عليهم السلام، روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: (استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم: والذي اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على العالمين في قَسَمٍ يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تخيروني على موسى) متفق عليه.
كان عليه الصلاة والسلام متواضعا في لباسه ومركبه؛ فيلبس ما تيسر من اللباس، ولا يأنف من ركوب البغال والحمير، ولو شاء صلى الله عليه وسلم للبس الديباج والحرير، ولما ركب إلا أصيلات الخيل، كيف وأغنياء الصحابة رضي الله عنهم يفدونه بأنفسهم وأموالهم!! كيف وقد منَّ الله تعالى عليه بالفتوح وساق إليه أموال اليهود والمشركين!! ولكن تواضعه عليه الصلاة والسلام يأبى عليه أن يسير سيرة الملوك، أو يتخلق خلق الأغنياء، أو يتزيا بزيي أهل الدنيا، وهو الذي اختار أن يكون عبدا رسولا. روى أبو بردة رحمه الله تعالى فقال: (دخلت على عائشة، فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من التي يسمونها الملبدة قال: فأقسمت بالله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في هذين الثوبين) رواه الشيخان.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: كان عليه الصلاة والسلام يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشملة، والكساء الخشن، والبرد الغليظ.
(/3)
وروى أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية) متفق عليه.
وربما أردف بعض أزواجه أو أصحابه خلفه، وإذا تلقاه الصبيان أردفهم معه على دابته، وهذا من أبين الدلائل على تواضعه عليه الصلاة والسلام، روى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بصبيان أهل بيته، قال: وإنه قدم من سفر فَسُبق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه، قال: فأُدْخلنا المدينة ثلاثةً على دابة) رواه مسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام متواضعا مع أسرته وفي داخل بيته، ويعمل أعمالا يأنف منها كثير من الرجال، سئلت عائشة رضي الله عنها: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج) وروى عروة بن الزبير فقال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، أيُّ شيء كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: ما يفعل أحدكم في مهنة أهله، يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويرقع دلوه) رواه أحمد. وفي رواية قالت رضي الله عنها:(كان بشرا من البشر: يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه).
وكان عليه الصلاة والسلام متواضعا مع الناس، ومن شدة تواضعه أنه لا يعرف من بين أصحابه رضي الله عنهم، فلا يتميز عليهم بملبس أو مركب أو مجلس، كما هي عادة الكبراء والأغنياء، وإذا جاء الغريب ما عرفه من بينهم حتى يسأل عنه؛ كما روى أبو ذر وأبو هريرة رضي الله عنهما فقالا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانا من طين - أي: دكة من طين - فجلس عليه، وكنا نجلس بجنبتيه) رواه أبو داود.
(/4)
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه يكره أن يقوم الناس له كما هو شأن أهل الدنيا، قال أنس رضي الله عنه: (ما كان شخص أحب إليهم رؤيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك) رواه أحمد.
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه يجيب دعوة من دعاه ولو كان فقيرا، ويقبل من الطعام ما كان يسيرا، ولا يشترط في ذلك، أو يغضب من دعوة يراها أقل من حقه، كما هو حال كثير من الكبراء والأغنياء، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((لو دعيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كُرَاع لقبلت)) رواه البخاري. وكان عليه الصلاة والسلام يربي أصحابه رضي الله عنهم على ذلك فيقول لهم: ((إذا دعيتم إلى كُراع فأجيبوا)) رواه مسلم. و الكُراع من الدابة ما دون الكعب.وقال أنس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب) رواه أبو يعلى.
ولا يأنف عليه الصلاة والسلام من الضعفة والمساكين، ولا يتبرم من ذوي الحاجات، بل يستمع إليهم، ويقضي حاجاتهم، فيجيب السائل، ويعلم الجاهل، ويدل التائه، ويتصدق على الفقير، وما يرد أحدا قصده في حاجة، وكان أصحابه رضي الله عنهم يتبركون بالماء يغمس يده الشريفة فيه، فما يردهم، ولا ينزعج من كثرة طلبهم، قال أنس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها) رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه: (أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت:يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان، انظري أيَّ السكك شئت حتى أقضيَ لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها) رواه مسلم.
(/5)
وأخبار تواضعه عليه الصلاة والسلام كثيرة، وسيرته العطرة مليئة بها، وما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه تكبر على أحد، أو فاخر بنفسه أو مكانته، وقد نال أعلى المنازل، وحظي عند ربه بأكبر المقامات، فهو صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والمقام المحمود، وأُسري به إلى السموات العلى حتى بلغ سدرة المنتهى، وبلغ مقاما لم يبلغه مخلوق قبله ولا بعده، وكلمه الرب جل جلاله بلا واسطه، وأنعم عليه بالمعجزات، وأيده بالآيات. وما حكا شيئا من ذلك على وجه الفخر أو المدح لنفسه صلى الله عليه وسلم، ولا تعالى به على الناس، بل كان التواضع صفته، وخفض الجناح سمته، فصلوات ربي وسلامه عليه صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الليل والنهار، والحمد لله رب العالمين. وأقول ما تسمعون....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى ربكم، واعرفوا هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، وتخلقوا بأخلاقه؛ فإنه قدوتكم وأسوتكم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
أيها المسلمون: كان التواضع سجية للنبي صلى الله عليه وسلم، ما كان يتكلف التخلق به، أو يتصنعه أمام الناس، وإلا فإن كثيرا من ذوي الشرف والرياسة يظهرون التواضع وقلوبهم متكبرة، وفي القرآن العظيم {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35].
(/6)
وفي أكبر المجامع التي تستخف النفس البشرية، وقد تدفعها إلى نوع من الكبر والتميز على الناس كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يزداد فيها إلا تواضعا إلى تواضعه، وأعظم جمع حضره في حياته، وخطب الناس فيه كان يوم عرفة، ومع ذلك برز للناس على ناقته، وقد توجهت إليه جموع الحجيج!!
وانظروا إلى زعماء الدنيا، وقادة الناس إذا وقفوا يخطبون في الجموع الكثيرة التي تهتف لهم أين يقفون؟ وكيف يقفون؟ وقارنوا ذلك مع وقوفه عليه الصلاة والسلام في عرفة على ناقته بكل تواضع وذل لله تبارك وتعالى.
ومواقف النصر والفتوح تستبد بالقادة والفاتحين، وتستخف عقولهم،وتستولي على نفوسهم، فيكون فيها فخرهم وعلوهم، ولا يقدر على التواضع فيها إلا أقل الرجال، وما حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم -رغم كثرة فتوحه وانتصاراته- أنه تعالى بنصر، ولا استبد به فتح ، بل يزداد تواضعا إلى تواضعه. ويوم الفتح الأكبر حين دخل مكة منصورا مؤزرا دخلها وهو مطأطئ رأسه تواضعا لله تعالى، حتى إن رأسه ليمس رحله من شدة طأطأته، ولما هابته الرجال فارتعدوا أمامه هون عليهم، وسكن من روعهم، وأزال هيبته من قلوبهم، وأزرى بنفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام.
روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه: (أن رجلا كلم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) وفي رواية عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه، فقال له: ((هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد)) ) رواه ابن ماجه وصححه الحاكم.
هكذا كان تواضع نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يملك من يقرأ سيرته، ويطلع على صفاته إلا أن يمتلئ قلبه بمحبته؛ ولذلك أحبه كثير من الكفار وإن لم يؤمنوا به؛ لما رأوا من حسن أخلاقه، وجميل صفاته.
(/7)
والناس مفطورون على محبة المتواضعين، وعلى بغض المتكبرين، فإن تكبر عائل ضعيف ازداد الناس له بغضا واحتقارا وكراهية، كما أنه إذا تواضع سيد كبير؛ عظم في قلوب الناس وأحبوه. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد الخلق، وخاتم الرسل، وأعلى الناس مكانة في الدنيا والآخرة، وهو عليه الصلاة والسلام أشد الناس تواضعا لله تعالى، فحري أن يملك القلوب، وأن يحبه كل البشر إلا المستكبرين. وحري بأتباعه صلى الله عليه وسلم أن يكونوا من المتواضعين؛ اتباعا لهديه، وتمسكا بسنته، ولا سيما إذا كانوا من سراة الناس وسادتهم.
وواجب على من أنعم الله تعالى عليهم بنعمة الجاه أو المال، فجعل حاجة الناس إليهم أن يقرئوا من السيرة النبوية ما يتعلق بجوانب التواضع، وخفض الجناح، ولين الجانب؛ ليتعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق، وكيفية التعامل مع الناس؛ فإن ذلك من واجبات الإيمان، ومن شكر الله تعالى على نعمه التي أنعم بها عليهم.
ولا يحل لذي جاه أن يتكبر على الناس بجاهه وقد أعطاه الله تعالى إياه، ولا لذي مال أن يرى في نفسه ما لا يرى للناس وهو لا يرزق نفسه فضلا عن أن يرزق غيره، فإن تخلق بالكبر من آتاه الله تعالى علوم الشريعة فهو من أقبح الناس؛ إذ لم ينفعه علمه في ذلك، وكان كالحمار يحمل أسفارا.
ومن آتاه الله تعالى نعمة فترفع بها على الناس فقد أوبق نفسه، وكفر نعمة ربه، والله تعالى قادر على أن يسلبه ما أعطاه، فيصير بعد العز إلى الذل، وبعد الغنى إلى الفقر، مع ما ما يناله من فرح الناس عليه، وشماتتهم به، وسخريتهم منه، ويبقى له ما يستحق من عذاب الآخرة.
فتواضعوا لله تعالى ربكم، واخفضوا لإخوانكم جناحكم، واحذروا الكبر والمتكبرين، واستعيذوا بالله تعالى من كبرهم {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ} [غافر:27]. وصلوا وسلموا على نبيكم....
(/8)
العنوان: الخلقُ مجبولون على النقص
رقم المقالة: 1488
صاحب المقالة: خيرية الحارثي
-----------------------------------------
حريٌّ بنا -ونحن نزِنُ اختلافَ الأزمنة- أن ننوّه ببعض الملابسات التي طغت على حاضرنا، وداهمت غالبيةَ أهل هذا الزمان؛ من تفريط في الحقوق، وفساد للنيات، وسوء المقاصد، ولاحول ولاقوة إلا بالله، لقد تعوّدت في كتاباتي ومن غير تكلف أني لا أحسنُ التعبيرَ إلا عندما أتأثرُ من موقفٍ ما، يثير المكمون.
دخلَتْ مشغلاً للحياكة النسائية، وحاولَتْ التلطفَ مع صاحبة المحل إذ قالت لها مبتدئة: إن أردتِ أن (تقبّلي) المشغل فأخبريني، ويبدو أنه من باب إخفاء ما تطويه نفسها من سوء نية، والله عالم بها!
ثم تسلمَتْ ملابسَها التي حيكت لها في هذا المحل، ولم تدفع كاملَ الأجرة معتذرةً بأنها نسيت إحضارَ باقي المبلغ، وعرضتْ عليها سوارًا كانت تتحلى به صغيرتُها، وقالت لها: خذي هذه رهنًا حتى أحضر لك الباقي، فإنها تساوي ثلاث مئة ريال. يا لهذه المسكينة صاحبة النية الصادقة! وكذا يجب أن يكون المسلم، ولكن يبدو أنه في هذا الزمان لابد للمسلم أن يتحقق وأن يحملق بعينيه جيداً. هذه الطيبة أخذت السوارَ وذهبت به لبائع الذهب فأخبرها أنه ليس ذهباً وإنما هو (إكسسوار)!. يا ألله! حين تبلغ النفسُ هذا المستوى من غش وكذب وخداع! وصدق الذي قال:
على وجهِ ميٍّ مسحةٌ من ملاحةٍ وتحتَ الثيابِ الخزيُ لو كان باديا
ألم ترَ أنَّ الماء يكدر طعمُه وإن كان لونُ الماء أبيضَ صافيا
لقد اهتزت الثوابتُ، وانقلبت الموازينُ، وضعف الالتزامُ بالأحكام الشرعية؛ فانتشر الكذب والنفاق والتهاون بالمواعيد.. فإذا كان إخلافُ الوعد كذبًا، فالكذب من الخيانة، والخيانة من النفاق، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) أخرجه الإمام البخاري.
(/1)
إن الإسلام له سَنًا يهدي صاحبَه إلى الطريق القويم، يملأ النفس؛ فيصقل معدنها، ويثقف خصائصها، ومتى حقق الإنسانُ المسلم إيمانه عُصِم من مزالق الشر.
سر إلى الأمام وعُدّ، ولن يخطئك أن تلمح مسالك الناس في الاضطراب الاجتماعي؛ من إهمال للواجبات، وتضييع للأمانات، وفقد للتعاون، وانتشار للمداهنة، وقلة النظام، وسوء التخطيط، وعدم التورع عن الشهوات والشبهات، مما جعل الكل يئن ويشتكي.
ولم ينتهِ الأمر إلى ذلك بل انظُر إلى معاداة الناس بعضهم بعضًا، وأعظمها عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، فقد اضمحلت الصلةُ حتى وصلت إلى المكالمات الهاتفية، ثم تلاشت ووصلت إلى رسائل الهاتف المحمول. وها هي ذي بدأت في الذوبان، فقد صاروا يستثقلون حتى الرسائل.
والمقصود في هذا السياق أننا نتبع الرخص في المعاملات، ونرضى بالقليل؛ حتى نتلاءم مع ضغوط الواقع؛ فنقدم الأولى، وندفع الأخرى.
ثم انظر إلى التغيرات التي طرأت على بعض الأسر المسلمة؛ إذ اختل بناؤها أو كاد، وازداد تأثرُها بما هو مسموع ومرئي ومقروء، وجلبت لنا مفاهيم مستوردة جعلت الزوجة تتمرد على زوجها، فصارت لا تقيم له حقاً. وتخلى الزوج عن تربية أبنائه، وصار لا يعبأ بالحفاظ على زوجته؛ إذ ترك لها الحبل على الغارب، تجوب الكرة الأرضية مع السائق في انطلاقة وانفلات نحو الحرية، فاضطرب وعاءُ الأسرة، واختلّت المفاهيمُ، حين اهتزت شخصيةُ القائد، فصار غير قادر على حفظ الأمن، فاختار أن يكون محصوراً بين (الأنا) و(الذات).
والمتأملُ يجد كثيرًا من أوجه استعلاء الناس بعضِهم على بعض؛ من تفاخر بالجنسيات، وكبر وخيلاء، واستهزاء بعضهم ببعض. والتمسك بمبدأ العرقية، والعصبية القبلية، وإعراضهم عن خلة التواضع.
(/2)
يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد)، ولك أن تسرد المساوئ القلبية كالحسد والغضب، وسوء الظن، حتى أصبحنا وأمسينا نخشى من إرسال رسالة عبر الهاتف النقال، تقلب كيان المرسَل إليه رأساً على عقب، وأنت لم تقصد بها إلا خيراً. فما عليك إلا أن تكظم غيظك؛ فإما أن تصبر، وإما أن تركب موجة عواطفك فيحدث ما لا تحمد عقباه: علل معقدة، وعواصف عاتية، اقتلعت كل خلق قويم.
ولا ننكر أن ما يُبث في آناء الليل وأطراف النهار، أخذ في التنامي في المدة الأخيرة حتى تغلغل داخل أودية القلوب، وانطلق دون حدود، وتشعب كأشعة تتسلل إلى عقول رجالنا وبناتنا وشبابنا، فمسحت أصالة الماضي، وهدمت شعائر المروءة والدين والأخلاق، ورب فارط لا يستدرك، لقد بردت مشاعرنا، ووقف بنا الجبنُ دون التصدي لأمور ثقل علينا استئصالُها. فحسبنا الله ونعم الوكيل.
إن في التوكل على الله راحةً للبال؛ يقول ابنُ الجوزي: (من يريد أن تدوم له السلامةُ، والنصرُ على من يعاديه، والعافيةُ من غير بلاء، فما عرَف التكليفَ، ولا فهم التسليم)، والخلق مجبولون على النقص وظهور المعايب، ففي البعد عن مشكاة النبوة تزداد حاجتُنا إلى التمسك بديننا، والعودة إلى نهج سلفنا الصالح، وما زال في أمة محمد خير كثير.
(/3)
العنوان: الخلوة الشرعية في السجون
رقم المقالة: 289
صاحب المقالة: محمد جمال عرفة
-----------------------------------------
مطبقة في الكويت واليمن وليبيا وتونس والمغرب وقطر ودبي
الخلوة الشرعية في السجون المصرية علي الطريقة السعودية!
40% نسبة الشذوذ داخل السجون بسبب منع الخلوة!
عادت قضية الخلوة الشرعية في السجون المصرية إلى التفجر مرة أخري وسط توقعات بأن تنفذ هذه الفكرة قريباً بعدما بدأت دراستها بالفعل والبحث في إمكانية تذليل الصعاب التي تواجهها، بعدما كشف نواب في البرلمان عن انتشار حالات إيدز في أحد السجون المصرية في مدينة بورسعيد (نفتها وزارة الداخلية)، وإصدار لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشعب بياناً تحذر فيه من عواقب تكدس عنابر السجون وعدم تنفيذ "الخلوة الشرعية".
وبدأت أصوات مصرية عديدة تطالب بتطبيق نظام الخلوة الشرعية لحماية الأزواج والزوجات من الانحراف والاستفادة من التجربة السعودية بهذا الصدد، خصوصاً أن المملكة العربية السعودية هي أسبق هذه الدول في هذا المجال، إذ طبقت الخلوة الشرعية بين المسجونين وزوجاتهم منذ عام 1978 وتلاها في هذا الخصوص الكويت واليمن وليبيا وتونس والمغرب وقطر ودبي.
بل إن المطالبين بالخلوة الشرعية في السجون المصرية يشيدون بهذا الصدد بالنظام المعمول به في السعودية والذي وصل إلى حد التفكير في إنشاء وحدات فندقية لهذا الغرض، والسماح بالخلوة في سجون النساء مثلما هو الحال في سجون الرجال!.
(/1)
ويقول المحامي المصري منتصر الزيات : " إنه في الوقت الذي يعارض لدينا البعض تطبيق التجرِبة بصورة رسمية تتطور التجرِبة في السعودية التي بدأت تجربتها بتمكين السجين من الالتقاء بزوجته مرة كل شهر لمدة ساعة داخل السجن انتقلت في مرحلة لاحقة إلى خروج السجين الذي قضى نصف مدة العقوبة إلى منزله مرة كل شهر أيضا ليقضي 24 ساعة مع زوجته وأبنائه وأخيراً ألحقت السلطات السعودية بالسجون مباني تضم وحدات تسمح بالخلوة داخلها بين السجين وأسرته ".
أيضاً كشف مصدر في جمعية حقوق الإنسان السعودية أن المديرية العامة للسجون وافقت على تطبيق الخلوة الشرعية في سجون النساء في المملكة، وقال إن المديرية العامة للسجون في المملكة أبلغت الجمعية بتجاوبها الفوري مع الملاحظات التي وجهتها الجمعية في أوضاع سجون النساء في المملكة ومن أهمها (الخلوة الشرعية) للسجينات وزيادة الزيارات العائلية وسرعة إنهاء إجراءات خروج السجينات اللاتي انتهت مدة عقوبتهن.
وقال المصدر :( إن المديرية وافقت على إتاحة الخلوة الشرعية للسجينات المتزوجات واليوم العائلي لأزواج السجينات بالإضافة إلى زيادة فترة الزيارات والاتصالات الهاتفية)، مشيراً إلي أن هذه الإجراءات مطبقة حالياً في السجون الرجالية، وأنه سيتم تطبيقها في السجون النسائية خلال مدة قريبة حسب تأكيدات مديرية السجون.
* وحدات سكنية فاخرة بدل غرف الخلوة الشرعية
(/2)
ويلفت خبراء الاجتماع المصريون الأنظار إلى إعلان - مدير عام السجون السعودية- اللواء الدكتور علي الحارثي أن الإدارة العامة للسجون تأخذ بعين الاعتبار الملاحظات التي وردت في تقرير الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان عند زياراتها للسجون في السعودية، وأن إدارته تعمل حالياً بالتعاون مع الجهات الأخرى علي استبدال غرف الخلوة الشرعية في السجون بوحدات اليوم العائلي، بواقع 50 وحدة ( خلوة شرعية ) لكل 1000 سجين، مشيراً إلى أن هذه الوحدات ( الشقق) - المكونة من غرفة نوم وصالة للجلوس وحمام ومكان لعمل الشاي - ستحل محل غرف الخلوة الشرعية الموجودة حالياً في جميع السجون في السعودية.
* مصر توافق وترفض
وعلي حين يؤكد مسئولو وزارة الداخلية المصرية أنهم لا يرفضون الفكرة خصوصاً بعدما أيدها علماء في الأزهر ولكنهم لا يملكون الإمكانيات لتنفيذها خصوصاً في ظل الحاجة لتوفير مكان لقضاء هذه الخلوة أشبه بالفندق، يقول برلمانيون إن بيان لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشعب التي وجهت انتقادات حادة إلى الحكومة، بسبب تدهور أوضاع السجون في كل المحافظات، وافتقادها جميع أوجه الرعاية الطبية، الأمر الذي يعد إنذاراً شديد الخطر بتفشي الأوبئة بداخلها، ووصت بقبول فكرة الخلوة الشرعية، ربما يكون مؤشراً لبداية بحث الفكرة بشكل رسمي لبيان صعوبات التنفيذ.
وبالمقابل انقسمت الآراء بين خبراء الطب النفسي والعلماء وخبراء علم الاجتماع في فكرة الخلوة بين مؤيد لأسباب تتعلق بالزوجة أيضاً وحاجتها إلى الاستقرار العاطفي وعدم الانحراف، وللحفاظ علي كرامة المسجون، وبين رافضين بأن هذا ينفي فكرة العقاب ويحول السجون إلى فنادق خمس نجوم، فضلاً عن مشاكله الاجتماعية في حالة حمل الزوجة ونظرة المجتمع إليها خصوصاً في ظل غياب زوجها عنها وراء السجون.
(/3)
وكان المستشار إدوارد غالي الذهبي - رئيس لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشعب - قد أكد خلال مناقشة البيان العاجل في حدوث إصابات بمرض الإيدز بين نزلاء سجن بورسعيد،وعدم وجود أطباء مقيمين بالسجون لمواجهة الإصابات المفاجئة.
وحذر من تأخر تنفيذ فكرة "الخلوة الشرعية" للمساجين من الرجال بزوجاتهم والنساء بأزواجهن في السجون، مما ينذر بتصاعد الإصابة بأخطر الأمراض، وعلي رأسها «الإيدز»، مشيراً إلي أن زيارة اللجنة للسجون بمحافظتي الإسماعيلية وبورسعيد كشفت ذلك.
ولفت الذهبي الأنظار إلي تكدس السجناء في العنابر، حيث يصل المتوسط إلي عدد 32 سجيناً في زنزانة لا تتجاوز مساحتها 40 متراً فقط، وإلي عدم التزام إدارات السجون بتنفيذ قرار وزير الداخلية بضرورة تخصيص سرير لكل سجين.
وكان كلٌ من – المحامي- منتصر الزيات، واللواء النبوي إسماعيل - وزير الداخلية الأسبق - قد طالبا في برنامج تلفزيوني بضرورة تطبيق نظام الخلوة الشرعية في السجون المصرية، بحيث يسمح به للسجين مرة واحدة شهرياً علي الأقل في مكان متناسب ومعد لذلك، وقالا: إنه بموجب هذا النظام يمكن تحسين الحالة النفسية للسجين، وفي الوقت نفسه تجنب الآثار الاجتماعية السيئة الناتجة عن حرمان الزوجة من زوجها طَوال فترة سجنه، في حين أكد الزيات ضرورة وجود تشريع يضمن إعطاء هذا الحق للسجين وللسجينة أيضاً، إذا أرادت ذلك، وأشار النبوي إسماعيل إلي أن هذا الأمر لا يتطلب تشريعاً وإنما المطلوب هو تنظيم هذه العملية وإدراجها في لائحة السجون الداخلية بقرار من وزيري الداخلية والعدل مشدداً علي أن الناحية الجنسية للرجل أو المرأة كالشمس والهواء، والحرمان منها تترتب عليه أضرار صحية و نفسية رهيبة، ثم إنها تؤدي إلي انتشار الشذوذ داخل السجون.
(/4)
ومع أن علماء أزهريين - منهم الشيخ نصر فريد واصل- مفتي مصر السابق - - أيدوا الفكرة، فقد رفضتها الدكتورة سعاد صالح - عميد كلية الدراسات الإسلامية- بدعوى أنها تتعارض مع فلسفة العقوبة في الإسلام، لأن الأصل في العقوبة هو الزجر والردع، وهناك قواعد فقهية تثبت ذلك، وقالت: الضرر لا يزال بالضرر، والمفترض أن تحاط العلاقة الزوجية الخاصة بالستر والحياء، فكيف يتحقق ذلك في السجن؟ وخروج المرأة بإذن مسبق لهذا الغرض يتعارض مع ستر العورات.
* منع الخلوة وخطر انتشار الشذوذ!
وقد تصاعدت حدة النقاش في هذا الأمر مع وصول (طلب فتوى) من مواطن مصري يدعي هاني مدحت علي آدم إلي دار الإفتاء المصرية يسأل عن حكم الشرع "في اختلاء المسجون بزوجته"، حيث أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى رسمية بختم شعار وزارة العدل يؤكد فيها المفتي د. علي جمعة أنه: " يجوز شرعاً اختلاء المسجون بزوجته، والزوجة المسجونة بزوجها لممارسة الحقوق الشرعية الخاصة بالزوجين، وليس هناك ما يمنع في الشريعة ذلك لأن العقوبة في الإسلام شخصية لا تتعدي الجاني إلي غيره ".
إلا أن المفتي قال في نهاية فتواه : "والأمر في ذلك راجع إلى جهة الإدارة لفعل ما تراه صالحاً للمجتمع من المنع أو الإباحة "!؟.
وقد أيد غالبية علماء الأزهر الشق الأول من فتوى المفتي، ولكن البعض لم يؤيِّدها وأرجع المنح أو المنع إلي "القاضي" أو "الإدارة" مما زاد البلبلة، ورحبت جمعيات حقوق الإنسان ومساعدة السجناء بالفتوى، فيما بدأت وزارة الداخلية المصرية دارسة فتوى المفتي لتقرير إمكانية تعميم فكرة الخلوة أو لا، وانتهي الأمر إلى قيام محامين برفع عشرة قضايا لصالح مسجونين يطالبون بالخلوة الشرعية خصوصاً بعدما أيد البرلمان الفكرة.
(/5)
ويؤكد علماء الاجتماع ومراكز البحوث المتعلقة بالمساجين أن هذا الحق الشرعي غير معمول به بشكل رسمي في مصر لأن القانون لم يقر أو يمنع الخلوة، ولكنه مطبق في بعض السجون وبعض الحالات ولكنه لا يطبق بشكل رسمي علي جميع المساجين والمعتقلين الذين تقدر أعدادهم في السجون المصرية بنحو 60 ألف سجين وسجينة 45% منهم متزوجين ومتزوجات إذ يؤكد الدكتور. أحمد المجدوب - الخبير في مركز البحوث الاجتماعية والجنائية - : أنه أجري بحثاً داخل عدد من السجون المصرية ووجد أن نسبة الشذوذ (تقريبياً) تصل بداخلها إلي 40% من المساجين، وهو عدد أقل من ذلك التي يوجد في سجون الغرب مثل انجلترا ( 70%) وأمريكا (80%).
ويؤكد د. المجدوب أن العديد من دول العالم بما فيها دول عربية كاليمن والسعودية تسمح بالخلوة الشرعية، وأن هناك تجارب في دول عديدة بعضها يعتمد علي توفير أماكن للخلوة الشرعية بجوار السجون تشبه الفنادق لقضاء الخلوة الشرعية فيها، أو العمل بنظام الأجازات بمعني إعطاء السجين أجازة يوم كل فترة للذهاب إلى منزله بحراسه أو بدون لقضاء الخلوة الشرعية ثم العودة وأن الدراسات تشير إلى تحسن سلوكيات المسجونين في هذه الحالات وتناقص عدد حالات الشذوذ داخل السجون.
أيضاً يؤكد محمد زارع- رئيس جمعية رعاية السجناء- : أن الدراسات داخل السجون المصرية رصدت حالات شذوذ رجالي ونسائي بسبب منع الخلوة الشرعية وابتعاد هؤلاء المساجين عن أسرهم، وقد رصد انتشار حالة من القلق من جانب المساجين علي أسرهم، فضلاً عن لجوء زوجاتٍ عديداتٍ إلى طلب الطلاق من المسجون خصوصاً إذا كانت عقوبته كبيرة لأنه أصبح بعيداً عن أسرته ولا يوفر لها احتياجاتها النفسية والشرعية والمادية، والجمعية تتلقي عشرات الشكاوى من زوجات مسجونين يطلبن الطلاق .
(/6)
وفي هذا الإطار أكد المحامي منتصر الزيات أنه رفع دعاوى لدائرة منازعات الأفراد نيابة عن خمسة مساجين اعتمدت على فتوى المفتي الأخيرة بأن الخلوة الشرعية حق جائز للمساجين، وفجَّر مفاجأة بقوله أن هذه ليست أول قضية من نوعها وأن قضايا المطالبة بالخلوة الشرعية بدأت منذ عام 1988.
ويشير الزيات إلي أن حق الخلوة الشرعية كان مطبقاً ومعمولاً به في السجون حتى عام 1987 عندما هرب ثلاثة من أعضاء الجماعات، فبدأت إدارات السجون تضيق علي المساجين، وأن الخلوة كانت تتم بصورة طبيعية في إحدى حجرات مستشفي السجن، ولكن بالمقابل يؤكد محامون آخرون أن الخلوة الشرعية كانت شبه قاصرة علي أفراد الجماعات الإسلامية الذين بدأوا يطالبون بها عقب دخولهم السجون منذ أوائل الثمانينات، حيث لم يكن أحد يطالب بها من قبل رسمياً، وحرم منها أغلب المساجين الجنائيين عكس المساجين السياسيين.
* الخلوة في "خيمة"!؟
ويفجر المحامي ممدوح إسماعيل مفاجأة بقوله : إن مسألة الخلوة الشرعية مطبقة بالفعل داخل السجون خصوصاً لأعضاء الجماعات الإسلامية والإخوان، ولكنها متعلقة – حسب قوله - بمزاج مسئولي السجون بحيث تحولت إلي "منحة" من إدارة السجون لترهيب أو ترغيب المسجون.
ويقول إنها مطبقة من قبل ذلك منذ الستينات في السجون ولكنها كانت تمنح لمن يتعاون مع السجانين ويدلي بمعلومات أو يتعاون معهم ولا يكون مشاغباً، وفي كل الأحوال تتعلل إدارة السجن بأن الإمكانيات لا تسمح بالخلوة لعدم وجود أماكن لذلك، ويطالب بتخصيص أماكن لقضاء هذه الخلوة الشرعية بدلاً من الوضع الحالي حيث تتم داخل خيمة في حجرة الزيارة داخل السجن!!.
(/7)
ويروي محمد زارع - رئيس جمعية رعاية السجناء - كيف يقضي بعض السجناء حالياً الخلوة الشرعية بشكل مهين، مؤكداً أنها تتم في بعض السجون مثل: طره، ووادي النطرون، والفيوم، وبصورة خاصة لأعضاء الجماعات الدينية بحيث تنشأ خيمة في نهاية عنبر الزيارة يختلي فيها كل مسجون مع زوجته لمدة معينة ويحدث بعدها التبادل مع مسجونين آخرين،بحيث يكفي اليوم الواحد فقط لستة مساجين!.
ويقول إن مساجين الجماعات الدينية أكثر تنظيماً في هذا الأمر حيث ينصبون خيمة وينظمون المواعيد مع أنفسهم ويحيط بالخيمة أصدقاء المسجون لحمايته كحراس ويمنعون الدخول لمنطقة الخيمة، وهذا ما يدفع كثيراً ممن يتوافر لهم هذا الحق في رفضه بسبب الحياء الشديد وشعور كل من الزوج والزوجة أن هناك من ينتظرهما ويراقبهما في الخارج ويستمع لهما!.
* فنادق سجون خمس نجوم!
ويروي د. أحمد المجدوب قصة الخلوة الشرعية في السجون فيؤكد أنه عقب قيام وزير الداخلية المصري السابق في عهد الرئيس الراحل أنور السادات (ممدوح سالم) بإلغاء أمر قيام السجناء بتكسير الحجارة في الجبال، صار لدي المساجين وقت وطاقة لابد من تفريغها، وبدأ الشذوذ يظهر، فتقرر دراسة الأمر.
وأصدر الوزير سالم قراراً بالسماح بالخلوة الشرعية، واقترح هنا نظام الأجازات للمسجونين وطُبق بالفعل بحيث تم في العام الأول لتطبيق هذا النظام منح أجازات الخلوة الشرعية لعدد 280 مسجوناً، وفي العام الثاني تم منح أجازات لعدد 240 مسجوناً، وبعد ترك الوزير للوزارة بدأت هذه الأجازات تقل بشكل كبير، حتى أصبحت 4 في العام فقط من قبل وزراء الداخلية ولأسباب إنسانية أخري مثل حضور جنازة أو فرح.
(/8)
ويطالب د. المجدوب بالعودة إلي نظام الأجازات للمسجونين، لأنه الأنسب لمصر في ظل تضخم عدد السجناء وصعوبة توفير أماكن داخل السجون لقضاء الخلوة الشرعية، مشيراً إلي أن سجن واحد مثل طره (جنوب مصر ) به 8000 مسجون فكيف تنظم الخلوة الشرعية فيه ؟!.. الأمر – كما يقول – يحتاج إلي تشييد فندقين علي الأقل بجوار السجن؟!.
ويؤكد نواب برلمانيون مناقشة هذا الأمر سابقاً في البرلمان المصري في دورته السابقة عام 2004 لإقرار قانون يسمح بالخلوة الشرعية للمسجونين بعدما أقرتها فتوى من المفتي الدكتور علي جمعة، ومطالبة القانون الجديد باللقاء الشرعي والمعايشة 3 مرات في الشهر، ولكن الأمر توقفت دراسته دون سبب محدد وربما كان السبب اعتراض الأمن لصعوبة توفير حجرات أو فنادق خمس نجوم داخل السجن!.
* رأي العلماء
يؤكد الدكتور. نصر فريد واصل - مفتي مصر السابق – سبقه في الإفتاء بأحقية اختلاء الزوجة المسجونة بزوجها لممارسة الحقوق الشرعية، واختلاء الزوج بزوجته، وأرجع فتواه بهذا الصدد إلى أن " الحقوق والواجبات يجب إيفاؤها، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والزوج هنا مسؤول عن رعيته والزوجة مسؤولة وأصحاب وسائل التنفيذ مسؤولون.
أيضاً يؤكد الشيخ. محمد المختار المهدي - من جامعة الأزهر ورئيس الجمعية الشرعية- حقَّ المسجون في الخلوة بقوله : " هي مطلوبة وليست فقط مباحة على أساس أن الحبس جزاء أو عقوبة شخصية على الشخص نفسه وعلى مرتكب الجريمة وزوجته ليست شريكته في هذه العقوبة ".
ويضيف : " إن حرمان الزوجة من لقاء زوجها نوع من إنزال عقوبة علي غير مرتكب الجريمة، والحكم القضائي لا يكون شاملاً لهذه العقوبة وحرمان الزوج والزوجة يترتب عليه انحرافات كثيرة "، و"من الناحية الشرعية لا يجوز حرمان الرجل المسجون أو المرأة المسجونة من هذا الحق ".
(/9)
وفي ما يقال عن أن هذه الخلوة الشرعية قد يكون لها أضراراً في حالة ارتفاع مدة سجن المسجون (25 سنة مثلاً)، حيث إنه قد ينتج عنها أولاد لا يرون الأب وهو لا يستطيع الإنفاق عليهم، يؤكد د. المهدي: وجوب كفالة هؤلاء الأولاد على الدولة من الناحية الشرعية. أو المسلمين وحقهم مضمون من الناحية الشرعية، ويضيف : " إذا كان المفترض في حالة تطبيق الإسلام أن يكفل الإسلام اللقطاء وأبناء الزنا، فكيف بمن جاء من حلال ؟!" ويؤكد حقيقة أخرى وهي أن هذا الحق لو لم يطبق لأثمت الأمة ولتحملت الآثار المترتبة علي ذلك".
أيضاً يؤكد د. محمد رأفت عثمان - عميد كلية الشريعة والقانون سابقاً- حقَّ الزوجة في الاستمتاع بزوجها ولو نفذت عقوبة منعها عن زوجها ورفض الخلوة الشرعية سيكون هذا معناه نفاذ العقوبة من الجاني إلى شخص آخر، والأصل في الشريعة والقانون هو أن تكون العقوبة شخصية.
وتظل الأزمة قائمة. فالمفتي أيد الخلوة، والحكومة والبرلمان يوافقان. ووزارة الداخلية تؤيد علي استحياء لأن التنفيذ سيكون عبئاً عليها وربما ينزع عنها أحد أدوات عقاب ومساومة للسجناء. وعلماء الاجتماع يطالبون بالاقتداء بالتجربة السعودية، ويبقي التنفيذ بعدما ظهرت أعراض المرض المفزعة في صورة الشذوذ وأيضاً الإيدز!
(/10)
العنوان: الخلوة وما يترتب عليها من أحكام فقهية
رقم المقالة: 415
صاحب المقالة: د. عبدالله بن عبدالمحسن الطريقي
-----------------------------------------
مقدمة:
في أهمية المحافظة على أعراض المسلمين وسد باب الفساد الموصل إليها.
جاء الإسلام لحفظ الضروريات الخمس، ومنها حفظ النسل فصان العرض وحماه بمنع اختلاط الأنساب ومنع الفاحشة المؤدية إلى ذلك فقال سبحانه: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا}[1].
ولما كان الزنا وسائله وذرائعه فقد حرم كل وسيلة موصلة إليها، باعتبار أن المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، فالطرق والأسباب تعد تابعة لها في الحرمة، فوسائل المحرمات والمعاصي يكون حكمها في المنع والكراهية بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود فإذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها، ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، وإباحة الوسائل والذرائع المفضية إلى الحرام غير مقبولة لأن ذلك لو قبل لكان من باب التناقض، وفيه إغراء للنفوس بارتكاب الحرام، وحكمة التشريع تأبى ذلك كل الإباء. فلو نظرنا إلى حال ملوك الدنيا لوجدناهم يأبون منع جندهم أو رعيتهم أو أهلهم من شيء ثم يباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه، ولو فعل ذلك لعد من باب التناقض ولحصل من الرعية والجند ضد ما هو مقصود.
وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه.
وإذا كان هذا هو حال أهل الدنيا فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة، والمصلحة، والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سدَّ الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها[2].
(/1)
ومن هذه الذرائع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية ومن في حكمها ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين، سداً لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع[3]، وحسماً لمادة وسائل الفساد ودفعاً لها، متى ما كان الفعل وسيلة للمفسدة، وإن كان منها سالماً في فترة من الفترات[4].
الفصل الأول: تعريف الخلوة وبيان المراد بها
الخلوة في اللغة:
يقال: خلا المكان والشئ إذا لم يكن فيه أحد.
ويقال: خلا الرجل إذا وقع في موضع خال لا يزاحم فيه.
كما يقال: أخل بأمرك أي تفرد به وتفرغ له، وخلا الرجل بصاحبه وإليه ومعه.
والخلوة الاجتماع معه في خلوة قال تعالى[5]: {وإذا خلوا إلى شياطينهم}.
ويقول الرجل للرجل: اخل معي حتى أكلمك أي كن معي خالياً[6] وفي المعجم الوسيط[7].
(الخلوة مكان الانفراد بالنفس أو بغيرها.
والخلوة الصحيحة في الفقه، إغلاق الرجل الباب على زوجته وانفراده بها).
قال ابن مفلح في كتابه الفروع[8]: "الخلوة هي التي تكون في البيوت أما الخلوة في الطرقات فلا تعد من ذلك".
قلت: ويدخل في حكم البيوت كل مكان فيه مانع لدخول الغير، لسبب مقصود أو غير مقصود، كغرف المكاتب والعيادات الطبية، وغرف التصوير والسيارات وهلم جرا.
الفصل الثاني: أحكام الخلوة والسفر بالمرأة الأجنبية وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الخلوة بالأجنبية وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: المراد بالمرأة الأجنبية.
المرأة الأجنبية هي من ليست بزوجة ولا ذات قرابة محرمة للنكاح بسبب مباح أو نسب.
(/2)
ولذلك نرى العلماء جعلوا زوجة الأخ في حكم الأجنبية[9]، وكذلك بنت الزنا سواء كانت من مائه أو من ماء غيره[10]، والمخطوبة تعد هي الأخرى في حكم الأجنبية[11]. فلا تصح بهن الخلوة لعدم المحرمية، والمخطوبة لم يرد الشرع إلا بحل النظر إليها. أما الخلوة بها فبقيت على التحريم، لأنه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور، لا سيما في زمن يقل فيه وازع الإيمان، ويكثر به الفساد وقد ورد عن جابر رضي الله عنه[12] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان))[13].
كما يعد في حكم الأجنبيات بنات العم، وبنات الخال فلا يحل لأي مما مضى الخلوة بهن، أو الدخول عليهن، إلا إذا دخل مع غيره من المحارم من غير خلوة ولا ريبة[14].
المبحث الثاني: في حكم الخلوة بالمرأة الأجنبية.
اتفق جميع العلماء على حرمة خلو الرجل بامرأة ليست له زوجة، ولا ذات رحم محرم. وهذه الحرمة على الإطلاق، سواء أمنت الفتنة أو لم تؤمن. وسواء وجدت العدالة أو لم توجد[15].
قال السنامي في نصاب الاحتساب[16]: "ويحتسب على الرجل والمرأة إذا كانا في خلوة وكانا أجنبيين... إلا إذا كان له على المرأة حق، فله أن يلازمها ويجلس معها، ويقبض على ثيابها، وهذا ليس بحرام، فإن هربت ودخلت الخربة فأراد الرجل أن يدخل تلك الخربة لا بأس به، إذا كان الرجل يأمن على نفسه من ذلك، فيكون بعيداً عنها يحفظها بعينه، لأن هذه الخلوة ضرورة".
وقد أوجب العلماء نهي النساء عن اجتماعهن مع الرجال اجتماع ملاصقة، لأن ذلك كله محرم، واستباحته كفر، وفعله مع الاعتقاد بتحريمه عصيان لله[17]، وأطلقوا حرمة الخلوة مع الشهوة فحرموا الخلوة بكل حيوان يشتهي المرأة وتشتهيه كالقرد[18]، والخلوة بشهوة لرجل مع رجل أو امرأة مع امرأة[19]، ولذلك حرموا خلوة النساء بعضهن ببعض إذا خيف عليهن المساحقة[20].
(/3)
المبحث الثالث: الخلوة لغرض التعليم والعلاج.
طلب العلم يعد من الأمور المشروعة لكن إذا صاحبه أمر محرم حرم، لا لذاته وإنما للأمر المحرم المصاحب له.
ولذا نرى علماء المالكية يرون حرمة مباشرة الرجال النساء لغرض تعليمهن، وقالوا: إن مسؤولية تعليم البنت على أبيها ثم على زوجها، ولا يجوز لهما إنابة الأجنبي في ذلك، لأن مثل هذه الإنابة لا تصح مطلقاً، ولا يعني هذا منعهن من سؤال العلماء فالسؤال جائز لكن من وراء حجاب كما أمر الله تعالى[21] فالعالم لا بأس أن تأتيه الأجنبية إلى منزله، فتسأله بمحضر زوجته أو ابنته. فيجيبها بما عنده، وهو يكف بصره عن النظر إليها بشرط أن لا يسمع منها إلا ما لسماعه ضرورة من حديثها[22]، ويرى الشافعية حرمة الخلوة بالأجنبية لغرض التعليم مع الشهوة مطلقاً وإن وجد محرم، وأجازوها بوجود محرم إذا أمنت الفتنة[23].
أما الخلوة للعلاج فحرام عندهم إذ قالوا بعدم جواز الخلوة بالمرأة للعلاج إلا بحضور محرم أو زوج[24] أو امرأة ثقة على القول الراجح عندهم بجواز خلوة أجنبي بامرأتين[25].
والحنابلة منعوا الخلوة بالمرأة لغرض التعليم أو العلاج[26] إلا بحضور محرم أو زوج لأنه لا يأمن مع الخلوة مواقعة المحظور لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه[27] مرفوعاً: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم فإن ثالثهما الشيطان))[28].
(/4)
ومما مضى نعلم أن الفقهاء قرروا حرمة الخلوة بالمرأة الأجنبية لغرض التعليم والعلاج غير أن الشافعية أجازوا الخلوة – لأجل التعليم – بأكثر من امرأة إذا أمنت الفتنة، لكنني لا أذهب إلى رأي الشافعية لإمكانية تعليم الرجل للنساء عن طريق الرائي المغلق، وقول الشافعية بخلوة الرجل بامرأتين فأكثر قد يكون له وجه في العلاج إذا تعذر وجود المحرم لبعض الحالات فيجوز للحاجة بشروطها وهي أمن الفتنة ووجود عدد من النساء الثقات يتعذر من وجودهن مواطأة الفاحشة ووجه استثناء العلاج لأن بعض حالات العلاج قد يصعب وجود المحضر كالعمليات الجراحية التي يتعذر وجود محرم في أثنائها فإنقاذ المرأة واجب فيكتفي لتحصيل هذا الواجب بأدنى درجات الأمن.
المبحث الرابع: الخلوة بالمرأة الكبيرة.
ذهب الحنفية إلى أن العجوز الشوهاء تعد في حكم الأجنبية فيحرم على الرجل الشاب الخلوة بها كما يحرم على غيره[29].
وبهذا قال الشافعية فلم يعتبروا الجمال، لأن الطبع يميل إليها فضبط التحريم بالأنوثة[30].
وهو القول الصحيح عند الحنابلة إذ قالوا بحرمة الخلوة بالأجنبية ولو كانت عجوزاً شوهاء[31].
أما المالكية فيرون جواز خلوة الشيخ الهرم بالمرأة الشابة أو المتجالة[32] وكذلك خلوة الشاب بالمرأة المتجالة[33] وهذا هو القول الثاني عند الحنابلة[34].
قلت: وضبط حرمة الخلوة بالأنوثة أولى لانضباط العلة فهي لا تختلف باختلاف محالها، ومن السهل التحقق من وجودها، أما الجمال فلا يمكن ضبطه لاختلافه باختلاف الأحوال والأشخاص بل ويختلف في نظرة الناس، باعتبار هذا جمالاً، أو ليس بجمال فالجميل قد يكون عند البعض قبيحاً، والقبيح قد يكون عند آخر جميلاً، وكما يقال لكل ساقطة في الحي لاقطة.
المبحث الخامس: الخلوة بذوي العيوب المانعة من النكاح:
يرى الحنفية أن الشيخ الذي لا يجامع مثله بمنزلة المحرم[35] فتصح الخلوة معه.
(/5)
وذهب الشافعية إلى أن الخصي والمجبوب والمخنث والشيخ الفاني، يعد كل منهم في حكم الأجنبي بخلاف الممسوح ذكره وأنثياه الذي لا ميل له للنساء، فتصح الخلوة معه لانتفاء مظنة الفتنة، غير أنه يشترط أن يكون مسلماً عفيفاً[36].
ومنع الحنابلة المرأة من الخلوة بالخصي والمجبوب، لأن العضو وإن تعطل أو عدم فشهوة الرجال لا تزول من قلوبهم، ولا يؤمن التمتع بالقبل وغيرها.
وكذا لا يباح خلوة الرجل بالرتقاء من النساء لهذه العلة[37].
المبحث السادس: خلوة الرجل بأكثر من امرأة:
ذهب الحنفية إلى حرمة خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية وإن كان معها أخرى.
وفي إمامة البحر عن الإسبيجاني (ويكره أن يؤم النساء في بيت وليس معهن رجل ولا محرم، ولا امرأة هو محرم لها) فعلة الكراهية التحريمية هنا الخلوة وهذا النص يفيد أن الخلوة لا تنتفي بوجود امرأة أخرى ولا تعتبر من محارم الرجل مما يدل على عدم صحة خلوة الرجل بامرأة أخرى وإن وجدت معها امرأة ثقة[38].
ومنح الشافعية الخلوة بالمرأة إذا لم يوجد معها امرأة ثقة[39] وعند الحنابلة يحرم خلوة الرجل مع عدد من النساء[40] وأجاز المالكية خلوة الرجل بالمرأتين[41] وقيد الشافعية الجواز بكون مع الرجل امرأة ثقة فقالوا بجواز الخلوة للعلاج ونحوه لأن المرأة تستحي من الأخرى، فلا تمكن من نفسها بحضرة غيرها فاستحياؤها أكثر من استحياء الرجل بشرط أن تكون المرأة ثقة، فالمرأة قد لا تستحي من غير الثقة فإذا لم يكن ثقات فلا تصح الخلوة[42].
والجواز قول عند الحنفية إذا وجدت امرأة ثقة قادرة على الحماية والرعاية[43] قلت: وعلى القول باشتراط المرأة الثقة لإباحة الخلوة لابد من شرطين آخرين:
1 – الحاجة لهذه الخلوة فإن لم توجد حاجة فلا تصح.
2 – تعذر وجود المحرم بسبب مشروع وإلا فالقول بالحرمة المطلقة أولى.
المبحث السابع: خلوة المرأة بأكثر من رجل:
(/6)
ذهب الشافعية إلى حرمة خلوة رجلين أو رجال بامرأة ولو بعدت مواطأتهم على الفاحشة. لأن الرجل قد يمكن من نفسه فعل الفاحشة بحضرة[44] الآخر وبهذا قال الحنابلة في الراجح عندهم إذ تحرم خلوة الأجانب بالأجنبية وليس فيهم محرم وهذا هو القول المشهور في المذهب[45] وقيد المالكية منع خلوة الرجلين بالمرأة إن كان أحدهما شاباً، لأن معهما شيطانين ومع المرأة شيطان[46]. والحنفية قالوا: تنتفي الخلوة بوجود رجل آخر إذ قالوا "يكره للرجل أن يؤم النساء في بيت وليس معهن رجل ولا محرم ومعنى هذا جواز خلوة الرجلين بالمرأة"[47].
قلت: ومذهب الحنفية قد لا يدل على حل خلوة الرجلين بالمرأة إذ أنهم قالوا بذلك إذا كن أكثر من امرأة فلابد من رجلين معهن وهي حالة من حالات الخلوة فالرجل الواحد لا يكفي مع عدد من النساء، والحنابلة قالوا يتوجه وجه بجواز خلوة الرجال بالأجنبية لحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه[48] أن نفراً من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ فرآهم فكره ذلك فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لم أر إلا خيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد برأها من ذلك)) ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ((لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان))[49].
قال النووي: المغيبة هي التي غاب عنها زوجها والمراد غاب زوجها عن منزلها سواء غاب عن البلد بأن سافر أو غاب عن المنزل وإن كان في البلد..
ثم إن ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية، والمشهور عند أصحابنا تحريمه فيتأول الحديث على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو مروءتهم أو غير ذلك[50].
قال القاضي تعليقاً على هذا الوجه القائل بجواز خلوة الرجال بالأجنبية "من عرف بالفسق منع من الخلوة بالأجنبية والأشهر التحريم مطلقاً وذكره جماعة إجماعاً"[51].
(/7)
قلت: والمنع أولى من القول بالجواز وهو الأحوط لصيانة العرض وأبعد عن الريبة وأسلم للذمة.
المبحث الثامن: الأدلة الشرطية لتحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية:
بعد أن علمنا حقيقة الخلوة وما يتفرع عنها من أحكام قررت تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية في جميع حالاتها السابقة فما هو المستند الشرعي لذلك؟ لقد حصل تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية باتفاق المسلمين[52] وقد دلت على ذلك النصوص الشرعية ومنها:
1 – ما ورد عن جابر رضي الله عنه[53] عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليسر معها ذو محرم فإن ثالثهما الشيطان)).
ففي هذا الحديث بيان أن من مقتضى الإيمان عدم الخلوة بالأجنبية. لا سيما وأن في الخلوة مشاركة للشيطان في هذا الاجتماع. وهو لا يوجد إلا ليوقع في الحرام مما يدل على حرمة الخلوة بالمرأة الأجنبية.
2 – عن جابر رضي الله عنه[54] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم)). ففي هذا الحديث نهى عن المبيت عند المرأة الأجنبية والمبيت يقتضي الخلود وهذا النهي يقتضي التحريم مما يدل على حرمة الخلود بالأجنبية.
3 – عن عقبة بن عامر[55] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والدخول على النساء)) فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو قال: ((الحمو الموت))[56] ففي هذا الحديث نهي عن الدخول على النساء، والدخول يعني الخلوة بهن والنهي يقتضي التحريم. مما يدل على حرمة الخلو بالمرأة الأجنبية.
(/8)
جاء في فيض القدير أثناء شرحه لهذا الحديث وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز منه أي اتقوا الدخول على النساء ودخول النساء عليكم وتضمن منع الدخول منع الخلوة بالأجنبية من باب أولى والنهي ظاهر العلة، والقصد به غير ذوات المحرم.. أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة فهو محرم شديد التحريم. وإنما بالغ في الزجر بتشبيهه بالموت لتسامح الناس في ذلك حتى كأنه غير أجنبي من المرأة. وخرج هذا مخرج قولهم الأسد الموت أي لقاؤه يفضي إليه. وكذا دخول الحمو عليها يفضي إلى موت الدين، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج أو برجمها إن زنت معه وقد بالغ مالك في هذا الباب حتى منع ما يجر إلى التهم. كخلوة امرأة بابن زوجها وإن كانت جائزة، لأن موقع امتناع الرجل من النظر بشهوة لامرأة أبيه ليس كموقعه منه لأمه. هذا قد استحكمت عليه النفرة العادية وذاك أنست به النفس الشهوانية، والحمو أخو الزوج وقريبه[57] والخوف من الحمو بهذا النهي جاء لأن الخوف منه أكثر من غيرة، والشر يتوقع منه، والفتنة أكثر، لتمكنه من الوصول إلى المرأة، والخلوة بها من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي[58].
4 – لأن الأصل كلما كان سبباً للفتنة ينبغي حسم مادته، وسد ذريعته. ودفع ما يفضي إليه إذا لم يكن منه مصلحة راجحة[59]. مما يدل على حرمة الخلوة بالأجنبية.
المطلب الثاني: السفر بالمرأة الأجنبية:
سفر المرأة بدون محرم لها لابد أن يقتضي خلوة الغير بها إما أثناء السفر أو بعده فالسفر مظنة الخلوة وإن سافرت مع عدد من النساء أو الرجال في الطائرة أو القطار أو السيارة لذا يحسن بنا أن نعرف مدى حكم سفر المرأة بدون محرم لها فأقول وبالله التوفيق:
ذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز للحرة أن تسافر بغير محرم، فسفرها مع غير المحرم خلوة محرمة[60].
وبذلك قال المالكية[61] وقيدوا التحريم بالمرأة الشابة أما المتجالة فيجوز لها السفر بدون محرم.
(/9)
ومنع الشافعية سفر المرأة بدون محرم لها[62] وبذلك قال الحنابلة[63] حتى مع الأمن فقالوا: يحرم على الرجل السفر بأخت زوجته ولو كانت أختها برفقتها مع زوجها[64].
ويرى الحنفية حرمة سفر المرأة ثلاثة أيام فما فوقها بدون محرم واختلفت الروايات عندهم فيما دون ذلك.
قال أبو يوسف رحمه الله: أكره لها أن تسافر يوماً بغير محرم وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله قال الفقيه أبو جعفر واتفقت الروايات في الثلاث أما ما دون الثلاث فهو أهون من ذلك[65].
قلت: الأولى منع السفر بدون محرم ولو دون الثلاث، لأن الأزمان تتغير فيكثر الفساق وتنتشر الذئاب الآدمية، والمرأة لابد لها من حصن يحفظها، وكيف لها ذلك بدون محرم يمنع عنها الردى وتعدي الفساق.
ولذلك قال الحنفية: لا يجوز للمرأة أن تسافر مع نساء ثقات لخشية وقوع الفتنة معهن لعدم إمكان استعانتهن بالمفازة بأحد من جماعة المسلمين[66] فما دون الثلاث مفازة.
أما سفر المرأة للحج بدون محرم.
فبعض الحنفية يرى جواز سفر المرأة مع رجال صالحين[67].
وأجاز المالكية سفرها بدون محرم للحج خاصة وقالوا: إذا لم يكن لها محرم فتخرج مع جماعة النساء[68] وقيد بعضهم الجواز أن تكون الرفقة مأمونة وإلا لم يجز[69].
وبهذا قال الشافعية فيصح للمرأة أن تسافر للحج مع نساء ثقات، بأن بلغن وجمعن صفات العدالة وإن كن إماء، لانقطاع الأطماع باجتماعهن، فلا تكفي المراهقات إلا أن جعل معهن الأمن، وغير الثقات لا يصح أن تسافر معهن للحج، لأن الفاسقة لا تأنف من منح محرمها بخلاف الرجل[70].
وقيل: لابد من ثلاث نسوة. وقيل: يكفي اثنتان غيرها[71] والقول الأخير لا يصح، لأنه بذهاب واحدة منهن يخشى على الباقية[72].
وقرر الشافعية أن الواجب عليها الخروج مع واحدة لغرض الحج أو العمرة، بل أجازوا خروجها لوحدها إذا تيقنت الأمن وهو محمل الأخبار الدالة على حل سفرها.
(/10)
أما سفرها لغير فرض الحج فحرام مع النسوة مطلقاً، وإن قصر السفر، أو كانت شوهاء إذ لا واجب هنا حتى يغتفر لمصلحة تحصيله الاكتفاء بأدنى مراتب الأمن[73].
وجعلوا في حكم المحرم جواز سفرها مع الممسوح ذكره وأنثياه ولم يبق فيه ميل للنساء، لانتفاء مظنة الفتنة، لكن بشرط أن يكون مسلماً عفيفاً[74].
أما الحنابلة فيرون حرمة سفر المرأة مع غير محرمها مطلقاً للحج أو غيره، فلا يحل للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم[75].
ومن يرى أن المرأة يجوز لها السفر للحج بلا محرم فقد استدل بما يلي:
أولاً: بما روي عن ابن عمر رضي الله عنه[76] قال (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ما يوجب الحج قال: ((الزاد والراحلة)).
قالوا: فإذا قدرت المرأة على هذه الاستطاعة وجب أن يلزمها الحج ولو بدون محرم ويتأولون خبر النهي على الأسفار التي هي متطوعة بها دون السفر الواجب إذ لا يشترط له محرم.
ويجاب عن ذلك بما يلي:
1 – هذا الحديث قد تكلم فيه فإبراهيم الخوزي – وهو أحد رواته – متروك الحديث وقد روى ذلك عن طريق الحسن مرسلاً وهو لا يحتج به عند الشافعي وهو ممن لا يرى اشتراط المحرمية في الحج[77].
2 – أن الحديث في اشتراط الزاد والراحلة خاص بالرجل دون المرأة إذ يشترط للمرأة خروج غيرها معها وهذا لا يشترط في الرجل. فجعل ذلك الغير محرماً للمرأة وبينه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المشترطة للمحرمية.
3 – يحتمل أنه أراد اشتراط الزاد والراحلة لوجوب الحج مع كمال بقية الشروط الأخرى، ولذلك اشترطوا تخلية الطريق، وإمكان السير، وقضاء الدين، ونفقة العيال.
واشترط المالكية إمكان الثبوت على الراحلة، وهو غير مذكور في الحديث، وهذه الشروط ليست واردة لا في الكتاب ولا في السنة وإنما شرط المحرمية وارد في السنة فهو أولى بالاشتراط.
4 – لو قدر التعارض فاشتراط الزاد والراحلة عام بما خصص من اشتراط المحرمية[78].
(/11)
ثانياً: بما روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه[79] قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتوشكن الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخاف إلا الله))[80] ففي هذا الحديث إخبار بأن المرأة تسافر للحج من الحيرة إلى البيت ولا محرم معها مما يدل على عدم اشتراطه للحج.
ويجاب عن ذلك:
بأن حديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه، ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض ولم يذكر فيه خروج غيرها معها، وقد اشترطوا ههنا خروج غيرها معها[81].
ثالثاً: أنه سفر واجب فلم يشترط له المحرمية كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار. وكذا الكافرة إذا أسلمت في دار الحرب فإنه يجب السفر إلى بلاد الإسلام بلا محرم فكذلك الحج[82]. ويجاب على ذلك: بأن سفر المسلمة والكافرة إذا أسلمت في بلاد الكفر سفر ضرورة لا يقاس عليها حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها. ولأنها تدفع ضرراً متيقناً يتحمل الضرر المتوهم لذا لا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلاً[83].
ثم لو سلمنا بمساواة جواز سفرها للحج بما ذكروه لجاز لها أن تحج وحدها كما تفعل المسلمة أو الأسيرة. فإذن لم اشترطوا وجود امرأة ثقة للحج أو جماعة صالحة؟ فلما لم يبح لها في الحج أن تخرج وحدها دل على الفرق بين الأمرين، مما يدل على عدم جواز سفر المرأة وحدها لا في حج ولا في غيره[84].
قلت: إن يسفر المرأة لوحدها عرضة لفساد دينها وخلقها بما قد تتعرض له أثناء الطريق أو الإقامة في البلدان التي تمر عليها ففي السفر مظنة حصول الخلوة فالطائرة قد يحصل بها بعض العطل فتضطر للنزول ومن هنا لا محرم مما قد يجر الرجل إلى الخلوة بها في الفندق المهيأ لانتظار الركاب وفي السفينة قد يدعوها قبطانها أو أحد الركاب في غرفته فتحصل الخلوة. لهذا فإن عين المحرمية متابعة ومراقبة دائمة، والذئب إنما يأكل القاصية من الغنم التي لا حارس يحرسها ولا حامي يحميها.
(/12)
وإذا سقط الحج عن المريض والعاجز عن الزاد والراحلة فلئن يسقط عن المرأة التي لم تجد محرمًا من باب أولى.
ولو نظرنا إلى واقعنا اليوم لرأينا أن النساء المصاحبات لمحارمهن أكثر حشمة ووقاراً، بل تمتنع نظرات الغير من متابعتهن، فضلاً عن ملاحقتهن ومطاردتهن، بخلاف النسا، اللاتي يتجولن في الأسواق والشوارع بدون محارم، أو مع سائقين لا محرمية لهم، فقد تكون الحشمة لدى بعضهن أقل، وقد يضايقن من أصحاب الشهوات والقلوب المريضة.
واجتماع النسوة لا يمنع الغير من مضايقتهن ومحاولة تدنيس خلقهن وإيقاعهن فيما منعن منه، وإذا كان هذا في الحضر فكيف بالسفر لوحدهن مما يؤكد عدم حل سفر المرأة مع غير محرمها من زوج أو قريب مهما كان نوع السفر ومدته.
ويؤيد ما ذهب إليه الحنابلة من الحرمة المطلقة عموم الأدلة الواردة في منع سفر المرأة وحدها سواء أكان لحج أم غيره ومنها:
1 – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه[85] قال سمعت أربعاً من النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبتني قال: ((لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم))[86].
2 – عن ابن عباس رضي الله عنه[87] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يخلو رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)).
3 – عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه[88] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم)).
4 – عن أبي هريرة رضي الله عنه[89] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر يوماً وليلة إلا مع ذي محرم من أهلها)).
وفي رواية[90]: لا تسافر امرأة مسيرة يوم تام إلا مع ذي محرم وفي رواية[91] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها)).
(/13)
ففي هذه الأدلة نهي عن سفر المرأة بدون محرم، والنهي يقتضي التحريم مما يدل على عدم حل سفر المرأة وحدها مهما كانت مدة السفر، قال النووي[92]: (قوله لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم.. وفي رواية لأبي داود ولا تسافر بريداً والبريد مسيرة نصف يوم. قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد. قال البيهقي: كأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم فقال: لا. وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال: لا وسئل عن سفرها يوماً فقال: لا وكذلك البريد فأدى كل منه ما سمعه. وما جاء منهما مختلفاً عن رواية واحدة فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكله صحيح. وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفراً، فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم. سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو بريداً أو غير ذلك، لرواية ابن عباس المطلقة وهي آخر روايات مسلم. لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً.
ولا ينبغي التفريق بين نوع السفر فالحرمة واحدة سواء أكان السفر للحج أم لغيره. فالمرأة إذا لم تجد المحرم سقط عنها الحج، لأنه من السبيل الذي ذكره الله في قوله سبحانه[93]: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} فإذا لم يكن لها محرم. فلا تستطيع إلى هذا السبيل[94].
(/14)
قال الخطابي: (قلت: في هذا بيان أن المرأة لا يلزمها الحج إذا لم تجد رجلاً ذا محرم يخرج معها.. وقال الشافعي: تخرج امرأة حرة مسلمة ثقة من النساء. قلت: المرأة الحرة المسلمة الثقة التي وصفها الشافعي لا تكون رجلاً ذا حرمة منها. وقد حظر النبي صلى الله عليه وسلم أن تسافر إلا ومعها ذو محرم منها. فإباحة الخروج لها في سفر الحج مع عدم الشريطة التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم خلاف السنة، فإذا كان خروجها مع غير ذي محرم معصية. لم يجز إلزامها الحج وهو طاعة. بأمر يؤدي إلى معصية)[95]. خاصة وأنه مع وجود غير المحرم قد تتعرض المرأة أثناء سفرها لما لا ينبغي لها لعدم وجود من يمنع عنها الردى. أو يشفق عليها لو حصل لها مكروه. ولذلك نرى الإمام مالكاً يكره خروج المرأة للحج مع ابن زوجها وإن كان ذا محرم منها[96].
وإذا كان مالك يكره ذلك مع ابن الزو! وهو محرم، فالقول بالحرمة مع غير المحرم أولى.
ولا وجه للتفريق بين المرأة الشابة والمتجالة، لأن مناط النهي للتحريم كما في الأحاديث كونها امرأة وهو وصف منضبط يصلح لأن يكون علة للتحريم، بخلاف كونها شابة أو متجالة، خاصة وأن بعض النفوس قد تتعلق بالمرأة المتجالة أيضاً فكل ساقطة في الحي لها لاقطة، وقد رد النووي على هذا بقوله (وهذا الذي قاله الباجي لا يوافق عليه: لأن المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة، ولو كانت كبيرة، وقد قالوا لكل ساقطة لاقطة. ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها. لغلبة شهوته، وقلة دينه ومروءته وخيانته، ونحو ذلك)[97].
(/15)
ومما يؤيد حرمة سفر المرأة بدون محرم للحج ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما[98] قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني كتبت في غزوة كذا وكذا وامرأتي حاجة قال: ((ارجع وحج مع امرأتك))) ففي هذا الحديث دلالة على تقديم الأهم من الأمور المتعارضة، لأنه لما تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها رجح الحج معها، لأن الغزو يقوم غيره مقامه بخلاف الحج معها[99] وهذا يدل على أن المحرم لا ينوب عنه جماعة المسلمين الصالحين أو النساء الثقات، وإلا لما أمره صلى الله عليه وسلم بالرجوع عن الجهاد والتخلف عنه لا سيما وأن من يتخلف عنه منافق معلوم النفاق.
الفصل الثالث: الخلوة بالأمرد
ذهب الشافعية على الصحيح عندهم[100] والحنابلة[101] إلى حرمة الخلوة بالأمرد مطلقاً أمنت الفتنة أو لم تؤمن. وهو اتجاه عند المالكية[102].
ونص الحنابلة على المنع ولو لمصلحة تعليم وتأديب فمن علم عنه محبتهم أو معاشرة بينهم منع من تعليمهم[103].
واستثنى الشافعية من الإطلاق صحة الخلوة للتعليم إن أمنت الفتنة[104] ورتب الشافعية على قولهم هذا عدم صحة سفر الأمرد الجميل[105] إلا مع محرم[106].
وقالوا: لا يصح للرجل أن يخلو بأمردين فإن الأمرد قد يمكن من نفسه بحضرة الآخر، لا سيما إذا كان اجتماع المردان على رذيلة[107].
وقالوا أيضاً: لا يحل للرجل أن يبيت مع أمرد في مكان واحد. وحرموا الخلوة معه في بيت أو حانوت أو حمام[108].
وذهب الحنفية[109] والمالكية[110] والرواية الثانية عند الشافعية[111] إلى عدم حرمة الخلوة بالأمرد إن أمنت الفتنة ولو لغير مصلحة.
ومن ذهب إلى حرمة الخلوة بالأمرد استدل بما يلي:
1 – عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه[112] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان)).
(/16)
ففي هذا الحديث بيان بأن في خلوة الرجل مع المرأة مشاركة للشيطان – وهو لا يوجد إلا للحث على فعل محرم – مما يدل على حرمة الخلوة بالمرأة، وفي المرد من يفوق النساء لحسنه، والفتنة به أعظم، مما يدل على تحريم الخلوة به.
2 – أنه يمكن معه من الشر والفتنة والقبائح ما لا يمكن من النساء ويسهل في حقه من طرق الريبة ما لا يسهل في حق النساء، فكان بالتحريم أولى وأليق وبالزجر عن مخالطته والنظر إليه أحق[113].
3 – أن في مخالطة المردان طريقاً إلى القبح وفعل الشر مهما كانت منزلة المختلط معه[114].
4 – أن السلف رضي الله عنهم كانوا ينهون عن مجالسة المرد من ذلك ما يلي:
أ – قال الحسن بن ذكوان – من أكابر السلف – لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صوراً كصور العذارى وهم أشر فتنة من النساء.
ب – قال بعض التابعين: ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضار من الغلام الأمرد يقعد إليه.
ج – أمر سفيان الثوري – وهو الذي انتهت إليه رياسة العلم والصلاح بإخراج أمرد دخل عليه الحمام. وقال: أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً ومع كل أمرد سبعة عشر شيطاناً.
د – قال فتح الموصلي: أدركت ثلاثة من الأبدال كلهم نهاني عند مفارقتي إياهم عن صحبة الأحداث. قال معروف الكرخي كانوا ينهون عن ذلك[115].
– دليل من يرى عدم حرمة الخلوة بالأمرد مع أمن الفتنة.
1 – إن أحوال الناس ومخالطة الصبيان من عصر الصحابة إلى الآن يدل على إباحة الخلوة بهم[116].
الترجيح: من خلال ما عرض أرى أن الراجح حرمة الخلوة بهم لغير حاجة وجوازها مع الحاجة إذا أمنت الفتنة لما يلي:
1 – أن التحريم مع عدم الحاجة إلى الخلوة فيه سد للذرائع وهو أقرب للاحتياط[117].
2 – حمل الأدلة المحرمة للخلوة في حال خوف الفتنة[118].
الفصل الرابع: الخلوة بالخنثى المشكل والسفر به
ذهب الحنفية إلى كراهة الخلوة به ممن ليس بمحرم له وهي كراهية تحريم([119]) وإلى هذا ذهب الشافعية[120] والحنابلة[121].
(/17)
قال الحنفية: وإذا خلا الخنثى برجل فمن الجائز أنه امرأة فتكون هذه خلوة رجل بامرأة أجنبية. وإذا خلا بامرأة فمن الجائز أنه ذكر خلا بأجنبية. والمراهقة في المنع من هذه الخلوة كالبالغة. لأن المنع لخوف الفتنة[122].
وقال الشافعية: ولا يجوز أن يخلو به أجنبي ولا أجنبية ولو كان مملوكاً لامرأة[123].
وقال الحنابلة: تحرم الخلوة بالخنثى المشكل لغير محرم من رجل أو امرأة تغليباً لجانب الحظر في أي من الحالين[124].
واستدلوا على حرمة الخلوة به بما ورد عن جابر رضي الله عنه[125]: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم فإن ثالثهما الشيطان))[126] والاحتمال أنه امرأة فحرم خلوة الرجل به والعكس بالعكس.
– أما السفر به فعاملوه معاملة المرأة الأجنبية. فقال الحنفية: لا بأس أن يسافر الخنثى مع محرم من الرجال[127] ومعنى هذا أنه بدون محرم لا يحل له السفر، لأنه قد يكون امرأة فيجب منعه من السفر مع الرجال.
أما الشافعية فقالوا بجواز سفره للحج مع امرأتين، لأنه إذا جاز ذلك للرجل فالخنثى المحتمل للرجولة أولى، وليس سفره معهن مظنة الخلوة بأي منهن على حدة خلافاً لمن زعمه[128].
أما الحنابلة فسبق أن منعوا سفر الأجنبية بدون محرم ولو مع عدد من النساء ولاحتمال كون الخنثى امرأة فلا يصح سفره بدون محرم[129].
قلت: والأولى معاملته بكونه أنثى ومنع الخلوة والسفر به بدون محرم وهذا أحوط من القول بالجواز إلا إذا ظهرت علامات تغليب جانب الذكورة فيجوز له السفر بدون محرم.
الفصل الخامس: خلوة المرأة بمملوكها والسفر معه
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن المملوك لا يصح أن يكون محرماً لها في السفر[130] ولا يعد من المحارم في ذلك[131] سواء كان فحلاً أو مجبوباً أو خصياً[132].
(/18)
وذهب الشافعية إلى أن مملوك امرأة يصح أن يكون محرماً لها على الأصح عند الأكثرين[133]. فله الخلوة بها. والمسافر معها[134] إن كان ثقة وممسوخاً لم يبق فيه شهوة للنساء[135] والمقصود بذلك الملكية التامة[136] واستدل الشافعية بما يلي:
1 – قوله تعالى[137]: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن}. ثم قال سبحانه {أو ما ملكت أيمانهم} ففي هذه الآية ذكر سبحانه المملوك مع ذوي الأرحام في إباحة النظر مما يدل على أنه يأخذ حكمهم في الخلوة أيضاً[138].
2 – عن أنس رضي الله عنه[139] أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها قال وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها يبلغ رأسها.
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: ((إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك))[140].
ففي هذا دلالة على إباحة النظر مما يدل على حل الخلوة والمسافرة بها.
ويجاب عن الاستدلالين السابقين بأن إباحة النظر لا تعني حل الخلوة والسفر، لأن النظر أجيز للحاجة كالشاهد والخاطب وكغير أولي الإربة فلهم النظر وليس لهم السفر والمحرمية[141].
3 – إن المملوك يحرم عليه الزواج من سيدته فكان محرما كالأقارب[142] ويجاب عن ذلك بأن الحرمة المؤقتة هذه لا تقتضي النفرة الطبيعية بدليل السيد مع أمته وبالتالي فلا يؤمن عليها مما يدل على عدم صحة القياس على الأقارب[143].
واستدل الحنفية والحنابلة بما يلي:
1 – بما روي عن ابن عمر رضي الله عنه[144] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سفر المرأة مع عبدها ضيعة))[145].
ففي هذا الحديث بيان في أن سفر المرأة مع عبدها ضياع للمرأة، وما يؤدي إلى ضياعها لا يجوز. فإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك دليل على تحريم سفر العبد بسيدته وخلوته بها.
2 – أنه لا يحل له أن يستمتع بها كما يفعل السيد بأمته فزوج الأخت لا يعد لها محرماً فكذا العبد مع سيدته.
(/19)
3 – أنه لا يعد محرماً لها فلا تحرم عليه على التأبيد فله أن يتزوج بها إذا عتق.
4 – أنه غير مأمون عليها لعدم وجود نفرة المحرمية كما هو مع المحارم[146].
الترجيح:
مما مضى نرى الشافعية حصروا السفر والخلوة في كون العبد ثقة، بل ممسوح الذكر وليس فيه رغبة للنساء، وهذا فيه تقييد ظاهر لكن تبقى عدم غيرته بالجملة على سيدته، ومنع الغير عنها، فلهذا ولما مضى من أدلة لأصحاب القول الأول، ولعدم قوة استدلال الشافعية فيما ذهبوا إليه، فإنني أميل إلى عدم حل خلوة المملوك بسيدته وعدم جواز سفرها معه.
الفصل السادس: الخلوة بإماء الغير
ذهب الحنابلة إلى حرمة خلو الرجل غير المحرم بأمة غيره، لأنه لا يؤمن عليها[147] وبهذا قال الحنفية في المختار عندهم[148].
أما المالكية فجعلوا مدار الحل والحرمة في خلو الرجل بخادم زوجته حسب الأشخاص فإن وثق بنفسه جاز[149].
وذهب الحنفية في قول آخر لهم إلى حل الخلوة والمسافرة بهن كما في ذوات المحارم واستدلوا لهذه الرواية بما يلي:
1 – أن المولى قد يبعثها في حاجته من بلد إلى بلد ولا تجد محرماً ليسافر معها[150].
ويجاب عن ذلك بأن بعث المولى ليس حجة شرعية والواجب أن يتقيد بالأحكام الشرعية ولا يبعثها إن كان سيترتب على هذا الفعل محظور.
2 – أن جارية المرأة قد تخلو بزوجها ولا يمنع أحد ذلك[151].
ويجاب عن ذلك بأن الأصل كون الخادمة مصاحبة لسيدتها وبالتالي قد لا تتصور خلوة الأمة مع زوج السيدة، وكما قلت أفعال الناس لا تعد حجة شرعية، ولذا الأولى أن لا يكون الرجل في خلوة مع خادمة زوجته.
3 – أن سائر الناس لها كذوي المحارم للحرائر ولذا جاز لهم السفر بهن[152] ويجاب عن ذلك بأن دعوى السفر منازع فيها، وسائر الناس ليسوا محارم لهن، وتنزيلهم هذه المنزلة بني على غير دليل شرعي.
وتد بين ابن عابدين أن جواز السفر كان في زمانهم وعلل ذلك بقلة الفساد في ذاك الزمان[153].
واستدل الجمهور فيما ذهبوا إليه بما يلي:
(/20)
1 – عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما[154] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم))[155].
ففي هذا الحديث نفي حل سفر المرأة بدون محرم – والأمة امرأة – ونفي الحل يقتضي التحريم مما يدل على حرمة سفر المرأة بدون محرم مطلقاً سواء كانت حرة أم أمة.
2 – عن جابر رضي الله عنه[156] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان)).
ففي هذا الحديث نهي عن الخلوة بالمرأة مطلقاً، سواء كانت حرة أم أمة، والنهي يقتضي التحريم، مما يدل على حرمة الخلوة بالأمة.
3 – أن علة النهي عن الخلوة واحدة سواء في الحرة أم الأمة وبالتالي لن يؤمن عليها[157].
4 – أن الفسقة لإرواء فسقهم لن يتورعوا عن ارتكاب الحرام لا سيما إذا كانت الأمة جميلة فاتنة فيبعث الشيطان النفس الأمارة بالسوء لذلك.
لذا أرى أن القول المحرم للخلوة بإماء الغير أو السفر بهن هو الراجح والله أعلم.
الفصل السابع: الخلوة بالمطلقة ثلاثاً
لا يصح للمطلق طلاقاً بائناً أن يختلي بمطلقته، لأنها بمنزلة الأجنبية عنده[158] وفي حالة سكناها – عند من يوجبها على الزوج – فيرى الحنفية أن يكون بينهما سترة واكتفى بالحائل لاعتراف الزوج بالحرمة، وإن كان فاسقاً يخاف عليها منه.
وإن جعل القاضي بينهما امرأة ثقة تقدر على الحيلولة فهو حسن لبقاء إمكانية استحياء الرجل من العشيرة، ولإمكان الاستعانة بجماعة المسلمين، وأولي الأمر منهم إذا اعتدى الزوج المطلق[159].
قال ابن عابدين: (ومرادهم بالثقة أن تكون عجوزاً لا يجامع مثلها مع كونها قادرة على الدفع عنها وعن المطلقة)[160].
(/21)
والشافعية يقولون: ليس للزوج مساكنتها ولا مداخلتها، لكن يجوز له مساكنتها إذا كان في الدار محرم لها مميز ذكر، أو عند الرجل أنثى، أو زوجة أخرى، أو أمة، أو امرأة أجنبية ثقة حذراً من الخلوة.
ويجوز مساكنتها ولو بدون محرم إن كانت المرافق غير متحدة، والممر غير مشترك، لأنها والحال هذه في حكم الدارين المتجاورتين[161].
قلت: المطلقة ثلاثاً هي في حكم الأجنبية فلا ينبغي لها مساكنة الزوج في داره حتى وإن وجد محرم مميز، أو أنثى على ما ذكر، وإن اضطرت إلى السكنى عنده لعدم إمكان تخصيص منزل مستقل لها ولا محرم لها موجود فتعامل كمعاملة الأجنبيات وتسكن عند الرجل مع غيرها من النساء الثقات على أن يمنع الرجل من الدخول عليهما والحالة هذه.
الفصل الثامن: الخلوة والسفر بالزوجة وذوات المحارم وفيه أربعة مطالب
المطلب الأول: في حكم الخلوة والسفر بالزوجة وذوات المحارم:
يصح للرجل أن يخلو ويسافر بزوجته وذوات محارمه وبهذا قال جميع العلماء[162]: فيصح خلوة الرجل بأي امرأة من ذوات محارمه بنسب كالأمهات والجدات والأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت وكل امرأة محرمة عليه بالقرابة على التأبيد والمحرمة بالرضاع أو بالمصاهرة وأن يسافر بهن[163] وفي الدار المختار: (والخلوة بالمحرم مباحة إلا الأخت رضاعاً والصهرة الشابة) وفي حاشية ابن عابدين: (وينبغي لأخ من الرضاع أن لا يخلو بأخته من الرضاع: لأن الغالب هناك الوقوع في الجماع. قال العلامة البيري: إن ينبغي معناه الوجوب)[164].
والمالكية يرون أن لابأس للرجل أن يسافر بأخته من الرضاع فحكمها حكم ذوي المحارم[165] وهو ما ذهب إليه الشافعية[166] الحنابلة[167] والصحيح: أن الأخت من الرضاع تعد من المحارم لما روي عن عائشة رضي الله عنها[168] قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة)).
(/22)
ولحديث عائشة رضي الله عنها[169] أنها قالت: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس يدخل علي وأنا في ثياب فضل فقال: ((ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة)) ففي هذين الحديثين دلالة على أن القرابة من الرضاع تأخذ حكم القرابة من النسب، مما يدل على حل الخلوة والسفر بالأخت من الرضاعة.
غير أنه إن خاف الرجل على نفسه من الخلوة بامرأة ذات محرم بنسب أو نكاح فلا يحل له أن يسافر بها أو يخلو فيها، ولا ينبغي للمرأة إن خافت ذلك منه أن تخلو معه في بيت ولا تسافر معه[170].
قال محمد صاحب أبي حنيفة: "وإن أمن على نفسه فلا بأس أن يسافر بها ويكون محرماً لها وتسافر معه ولا محرم معها غيره، فإن كان يخاف على نفسه فلا يسافرن معها ولا يخلون معها ولا ينبغي لها إن خافت ذلك منه أن تخلو به في بيت ولا تسافر معه، فأما إذا أمنا ذلك أو كان عليه أكبر رأيهما فلا بأس بالخلوة معها والسفر بها"[171].
والبنت المنفية باللعان محرم على نافيها الزواج منها عند الشافعية وتتعدى الحرمة إلى سائر محارمه، لكن هذا لا يعني حل الخلوة بها فالخلوة محرمة احتياطاً[172] وقيل: يصح عندهم الخلوة والسفر بها[173] أما الحنابلة فقالوا: ليست من محارم الرجل وألحقوا بها في الحرمة أم المزني بها وابنتها وبنت الموطؤة بشبهة وأمها[174].
وكذا قال الشافعية في الموطؤة بشبهة فتحرم على الواطئ أمهاتها وبناتها وتحرم على آبائه وأبنائه تحريماً مؤبداً بالإجماع لتنزيله منزلة عقد النكاح غير أن هذا التحريم لا يحل الخلوة بهن أو المسافرة بهن[175].
والشافعية يحرمون أي خلوة ولو كانت مع ذي محرم متضمنة وجود الشهوة من أي منهما سواء رجل مع رجل، أو امرأة مع امرأة[176].
(/23)
ولا يشترط في المحرم العدالة، بل يكفي أن يكون مراهقاً له وجاهة وفطنة بحيث تأمن معه، وتشترط مصاحبته لها بحيث يمنع تطلع الفجوة إليها، وإن كان قد يبعد عنها قليلاً في بعض الأحيان[177]. بخلاف الصبي والمعتوه فليسا بمحرمين، أما الكبير الذي يعقل فهو محرم[178] قلت: ويعنون بذلك الكبير المحرم فإن كبر سنه لا يمنع من محرميته.
ودليل مشروعية جواز الخلوة والسفر بالزوجة وذوات المحرم ما يلي:
1 – عن جابر رضي الله عنه[179] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان)).
ففي هذا الحديث نهي عن الخلوة بالمرأة من غير ذوات المحارم مما يدل على إباحته في ذوات المحارم[180].
2 – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه[181] قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها)).
ففي هذا الحديث نفي عن سفر المرأة بدون محرم، والنهي يقتضي التحريم، مما يدل على جواز سفر المرأة مع محرمها. وبدلالة الاستثناء الوارد في الحديث.
3 – عن جابر رضي الله عنه[182] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا لا يتبين رجل عند امرأة ببيت إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم)).
ففي هذا الحديث نهي عن المبيت عند الأجنبية لغير الناكح، والمحرم، والإذن لهما يدل على حل خلوتهما، أو أحدهما بها.
فمما سبق نعلم أن الخلوة والسفر بالزوجة وذوات المحارم أمر جائز بضوابطه الشرعية كخوف مواقعة المحظور.
المطلب الثاني: حكم مباشرة الزوجة من غير خلوة:
يحرم على الرجل أن يجامع أهله في مرأى الغير، بل يتعين عليهما الخلوة[183] وكره المالكية الوطء في ليل ومعه في البيت صغير أو كبير[184].
(/24)
غير أنه يجوز نوم الرجل مع امرأته بلا جماع بحضرة آخر غير أنه يشترط أن يكون من محارمها[185].
وقال الحنفية: لا بأس أن يدخل على الزوجين محارمهما وهما في الفراش من غير وطء باستئذان، ولا يدخلون بغير إذن، وكذا الخادم حين يخلو الرجل بأهله وكذا الأمة[186].
واستدلوا لذلك بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه[187] أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها[188].
ففي هذا دلالة على إباحة نوم الغير من المحارم مع الزوجين في غير حالة الجماع.
المطلب الثالث: أثر الخلوة بالزوجة على المهر والعدة:
ذهب الحنفية ورواية عن الحنابلة أن الخلوة بالمرأة بعد عقد النكاح عليها يوجب المهر والعدة[189].
وحد الخلوة الموجبة لذلك عند الحنفية أن لا يكون هناك مانع يمنع من الوطء طبعاً ولا شرعاً. كالمرض وصيام رمضان والحيض فإن وجد فلا خلوة، لقيام المانع طبعاً وشرعاً[190].
وعند الحنابلة كل امرأة فارقت زوجها في الحياة قبل المسيس والخلوة فلا عدة عليها، وإن خلا بها وهو عالم بها وهي مطاوعة فعليها العدة، سواء كان بهما أو بأحدهما مانع من الوطء كالإحرام والصيام والحيض والنفاس والمرض والجب والعنة أو لم يكن وهذا هو المذهب مطلقاً سواء كان المانع حسياً أم شرعياً.
وقيل: لا عدة بخلوة مطلقاً. وعنه لا عدة بخلوة مع وجود مانع شرعي كالإحرام والصيام والحيض والنفاس والظهار والإيلاء والاعتكاف[191].
(/25)
وحكي عن الإمام الشافعي أن الخلوة بدون مسيس لا توجب المهر والعدة لقوله تعالى[192] {وإن طلقتموهم من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف مافرضتم} والمراد بالمسيس الجماع ولأن هذه خلوة خلت عن الإصابة فلا توجب المهر والعدة كالخلوة الفاسدة[193] ويستقر المهر كاملاً إذا خلا الرجل بامرأته بشرط أن يكون عالماً بوجودها عنده وأن يكون الزوج ممن يطأ مثله وليس عندهما مميز وهذا هو المذهب[194].
واستدلوا بقوله تعالى[195]: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض}[196] ففي هذه الآية نهي عن استرداد شيء من الصداق بعد الخلوة فإن الإفضاء عبارة عن الخلوة، ومنه يسمى المكان الخالي فضاء، وتبين بهذا أن المواد بما تلى المسيس كما في استدلال الشافعية أو ما يقوم مقامه وهي الخلوة.
وروى الإمام أحمد والأثرم عن زرارة بن أوفى قال "قضى الخلفاء الراشدون والمهديون أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب المهر ووجبت العدة" ولأنها سلمت نفسها التسليم الواجب عليها فاستقر صداقها[197].
المطلب الرابع: أثر الخلوة بالمطلقة طلاقاً رجعياً على الرجعة:
يرى الحنفية أن الخلوة والمسافرة بالمطلقة طلاقاً رجعياً لا تكون رجعة إلا عند زفر وأبي يوسف[198].
ويرى المالكية أن المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً يكره للزوج أن يخلو بها أو أن يدخل عليها إلا بإذنها وإن كان ذلك لغرض الرجعة. لأن الرجعة لا تكون إلا بالقول[199].
وذهب الحنابلة إلى أن الرجعية مباحة لزوجها فله السفر بها والخلوة معها. غير أن الخلوة لا تعد رجعة وإن كان معها شهوة، لأن تحريم المصاهرة لا يثبت بها وهذا هو الصحيح من المذهب.
ويرى بعضهم أن الخلوة مع الشهوة تكون رجعة، لأنه محرم من غير الزوجة فأشبه الاستمتاع[200].
الخاتمة
وهي خلاصة لأهم محتويات البحث.
(/26)
كانت البداية لهذا البحث مقدمة موجزة عن أهمية المحافظة على أعراض المسلمين بسد باب الذرائع الموصلة لانتهاكها، فالوسيلة الموصلة إلى الحرام تعتبر حراما، إذ للوسائل حكم الغايات، والخلوة بالمرأة الأجنبية ومن في حكمها يعد من الأمور المحرمة؛ لأنها قد تفضي إلى الوقوع في الحرام. وتحدثت في الفصل الأول عن تعريف الخلوة، وبيان المراد بها، وأنها تشمل الخلوة في البيوت، والعيادات، والمكاتب، والسيارات، وهلم جرا.
وقد تحدثت في الفصل الثاني عن أحكام الخلوة، والسفر بالمرأة الأجنبية، وبينت الحرمة في ذاك، وأنها تشمل الخلوة لغرض التعليم، والعلاج، وبينت المراد بالمرأة الأجنبية، وهل المرأة الكبيرة تعد في حكم الأجنبية؟ وبينت أن الحلوة بذوي العيوب المانعة من النكاح محرمة، كما أن الحرمة لا تقتصر على انفراد رجل بامرأة بل تتعدى عند بعض العلماء إلى حرمة خلوة الرجل بأكثر من امرأة والعكس كذلك.
وفي نهاية هذا الفصل بينت الأدلة الشرعية الصحيحة على حرمة الخلوة وأن هذه الحرمة تشمل الحضر، والسفر، ولا فرق في ذلك بين حج، وغيره بعد أن ذكرت آراء العلماء في ذلك وسند كل منهم، وبما أن المردان قد يشتركون مع النساء في بعض الصفات فقد أوضحت حكم الخلوة بهم، وأنها محرمة لغير حاجة، وجائزة مع الحاجة إذا أمنت الفتنة.
ورجحت أن الخنثى المشكل ينبغي معاملته على أنه أنثى ومنع الخلوة والسفر به بدون محرم، إلا إذا ظهرت علامات تغليب جانب الذكورة عليه.
(/27)
أما مملوك المرأة فالذي يظهر عدم حل خلوته بها وسفره معها بدون محرم، لعدم غيرته عليها، وإمكان تزوجه منها، بخلاف المحارم الآخرين. وهذا الحكم يشمل الخلوة بإماء الغير والسفر معهن بدون محرم. كما بينت حرمة الخلوة بالمطلقة ثلاثاً، لأنها تعتبر في حكم الأجنبية وقد أوضحت أن الخلوة مشروعة بالزوجة وذوات المحارم فتصح الخلوة والسفر بأي منهم، بل لا يحل للزوج أن يباشر زوجته من غير خلوة، وللغير من المحارم الدخول عليهما إن كانا في غير وطء.
وفي نهاية البحث أوضحت أثر الخلوة بالزوجة على استحقاق المهر والعدة وعلى رجعة الزوجة بعد طلاقها.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كشاف المراجع
1 - القران الكريم.
2 - أخبار النساء – لابن قيم الجوزية – تحقيق نزار رضا منشورات – دار مكتبة الحياة – بيروت، لبنان.
3 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل.
تأليف محمد ناصر الدين الألباني – الطبعة الأولى سنة 1399هـ.
الناشر المكتب الإسلامي.
4 - الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني.
من منشورات إدارة القرآن والعلوم الإيلامية كراتشي، باكستان.
تحقيق أبي الوفاء الأفغاني – طبع بمطبعة إدارة القرآن، كراتشي.
5 - إعانة الطالبين لأبي بكر بن محمد شطا.
طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية – عيسى الحلبي وشركاه.
6 - إعلام الموقعين عن رب العالمين تأليف شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية.
راجعه طه عبدالرؤوف سعيد – الناشر مكتبة الكليات الأزهرية – طبع سنة 1388هـ بشركة الطباعة الفنية المتحدة.
7 - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع لمحمد الشربيني الخطيب.
طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية – عيسى الحلبي وشركاه.
8 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف.
للشيخ علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي.
صححه وحققه محمد حامد الفقي، الطبعة الأولى سنة 1374هـ.
(/28)
9 - بجيرمي علي الخطيب – حاشية الشيخ سليمان البجيرمي المسماة بتحفة الحبيب على شرح الخطيب.
الطبعة الأخيرة سنة 1370هـ شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي.
10 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع.
للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني.
الطبعة الثانية 1402هـ – الناشر دار الكتاب العربي – بيروت، لبنان.
11 - بداية المجتهد لمحمد بن أحمد بن رشد.
الطبعة الرابعة 1395هـ شركة مطبعة ومكتبة مصطفى الحلبي.
12 - بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي، الطبعة الأخيرة سنة 1372هـ.
ملتزم الطبع والثر مكتبة ومطبعة الحلبي.
13 - تاج العروس شرع القاموس للإمام محب الدين أبي الفيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي – الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية سنة 1306 من منشورات دار مكتبة الحياة.
14 - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق.
تأليف فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي.
طبع دار المعرفة بيروت، لبنان.
15 - الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة – تحقيق أحمد محمد شاكر.
طبع دار إحياء التراث العربي – بيروت.
16 - حاشية البيجوري على ابن قاسم.
طبع سنة 1343هـ – بمطبعة مصطفى الحلبي بمصر.
17 - حاشية ابن عابدين لمحمد أمين الشهير بابن عابدين.
الطبعة الثانية سنة 1386هـ – طبع دار الفكر.
18 - حاشية العدوي على شرح أبي الحسن للشيخ علي الصعيدي العدوي
طبع دار إحياء الكتب العربية.
19 - روضة الطافي وعمدة المفتين للإمام النووي
الطبعة الثانية 1405هـ – الناشر المكتب الإسلامي.
20 - سنن ابن ماجه للحافظ أبي عبدالله محمد بن يزيد القزويني
تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي طبع دار إحياء التراث العربي سنة 1395هـ.
21 - شرح الرسالة لابن أبي زير القيرواني – للعلامة أحمد بن أحمد البرنس المعروف بزروق.
مع شرح العلامة قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي. طبع بالمطبعة الجمالية بمصر سنة 1322هـ.
(/29)
22 - الشرح الصغير على أقرب المسالك لأحمد الدردير.
مطبعة عيسى البابي الحلبي.
23 - صحيح البخاري لأبي عبدالله محمد بن إسماعيل االبخاري،
الناشر المكتبة الإسلامية – استانبول، تركيا سنة 1981م.
24 - صحيح مسلم بشرح النووي، طبع المطبعة المصرية ومكتبتها.
25 - الغاية شرح الهداية – مع فتح القدير لابن الهمام.
طبع دار إحياء التراث العربي – بيروت، لبنان.
26 - عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي.
الطبعة الثالثة سنة 1399هـ. طبع دار الفكر للنشر والتوزيع.
27 - الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيثمي وبهامشة فتاوى الرملي – طبع سنة 1403هـ. الناشر دار الباز للنشر والتوزيع. المروة. مكة المكرمة.
28 - الفتاوى الهندية – تأليف الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، الطبعة الثالثة 1400هـ، طبع دار إحياء التراث العربي بيروت. لبنان.
29 - فتح الجواد بشرح الإرشاد لأحمد شهاب الدين بن حجر الهيثمي، الطبعة الثانية 1391هـ، تركة مكتبة مصطفى الحلبي.
30 - الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، تأليف أحمد عبدالرحمن البنا الشهير بالساعاتي.
الطبعة الأولى والطبعة الثانية – طبع دار إحياء التراث العربي.
31 - فتح القدير لكمال الدين محمد بن عبدالرحمن المعروف بابن الهمام – طبع دار إحياء التراث العربي بيروت – لبنان.
31 - الفروع لمحمد بن مفلح – راجعه عبدالستار أحمد فراج، طبع عالم الكتب الطبعة الرابعة سنة 1405هـ.
33 - الفروق للإمام أحمد بن إدريس القوافي، عالم الكتب بيروت.
34 - فيض القدير شرح الجامع الصغير للعلامة المناوي – الطبعة الثانية سنة 1391هـ، دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت.
35 - قليوبي وعميرة على منهاج الطالبين للإمامين شهاب الدين القليوبي والشيخ عميرة. طبع مطبعة دار إحياء، الكتب العربية. عيسى الحلبي وشركاه، مصر.
36 - القوانين الفقهية لابن جزي.
(/30)
الناشر عباس أحمد الباز، المروة، مكة المكرمة.
37 - الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل.
الناشر المكتب الإسلامي. الطبعة الرابعة سنة 1405هـ.
38 - الكافي في فقه أهل المدينة لأبي عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر – تحقيق الدكتور محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني.
الناشر مكتبة الرياض الحديثة الرياض – الطبعة الأولى 1398هـ.
39 - كشاف القناع عن متن الإقناع للشيخ منصور البهوتي راجعه وعلق عليه هلال مصيلحي، الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
40 - الكفاية شرح الهداية مع فتح القدير لابن الهمام، طبع دار إحياء التراث العربي.
41 - كفاية الطالب لرسالة ابن أبي زيد القيرواني لأبي الحسن علي بن محمد – الناشر مكتبة محمد علي صبيح.
42 - لسان العرب للإمام أبي الفضل جمال – الدين محمد بن مكرم بن منصور – طبع دار صادر بيروت.
43 - نصاب الاحتساب لعمر بن محمد بن عوض السنامي، تحقيق ودراسة الدكتور مريزن سعيد مريزن عسيري.
الناضر مكتبة الطالب الجامعي مكة المكرمة طبع سنة 1405/1406هـ.
44 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لمحمد بن أبي العباس الرملي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي الطبعة الأخيرة سنة 1386هـ.
45 - المبسوط لشمس الدين السرخسي.
الطبعة الثالثة 1398هـ، طبع دار المعارف – بيروت، لبنان.
46 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي – الطبعة الثالثة منشورات دار الكتاب العربي بيروت.
47 - المجموع شرح المهذب للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي، حققه وعلق عليه محمد نجيب المطيعي.
توزيع المكتبة العالمية بالفجالة بمصر.
48 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية جمع وترتيب. عبدالرحمن ابن قاسم وابنه محمد، الطبعة الأولى والطبعة المصورة عنها سنة 1398هـ.
49 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل – تحقيق زهير الشاويش، الناشر المكتب الإسلامي – طبع سنة 1400هـ.
(/31)
50 - مسند الإمام أحمد وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوام والأفعال للمتقي الهندي، الناشر المكتب الإسلامي، بيروت.
51 - معالم السنن للإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي، الطبعة الثانية سنة 1401هـ – منشورات المكتبة العلمية.
52 - المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء أفريقية والأندلس والمغرب لأحمد بن يحيى الونشريسي.
خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف الدكتور محمد حجي.
طبع سنة 1401هـ دار الغرب الإسلامي – بيروت.
53 - المغني لأبي محمد عبدالله بن أحمد بن قدامة.
الناشر مكتبة الجمهورية العربية ومكتبة الرياض الحديثة.
54 - مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الشربيني الخطيب. الناشر دار إحياء التراث العربي.
55 - المقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل – لموفق الدين ابن قدامة المقدسي مع حاشية بخط الشيخ سليمان بن الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب – الطبعة الثانية.
56 - منار السبيل شرح الدليل للشيخ إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان – الطبعة الأولى سنة 1399هـ – الناشر المكتب الإسلامي.
57 - منتهى الإرادات لتقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الشهير بابن النجار – تحقيق عبدالغني عبدالخالق – طبع عالم الكتب.
58 - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لأبي عبدالله محمد المغربي المعروف بالخطاب – الطبعة الثانية 1398هـ طبع دار الفكر.
ـــــــــــــــــــ
[1] آية 32 من سورة الإسراء.
[2] إعلام الموقعين 3/135.
[3] المرجع السابق 139.
[4] الفروق للقرافي 2/32.
[5] من آية 14 من سورة البقرة.
[6] لسان الغرب مادة خلا.
[7] مادة خلو.
[8] ج5، ص153.
[9] انظر المعيار المعرب 11/298 ومجموع فتاوى ابن تيمية 32/9.
[10] انظر بجيرمي على الخطيب ج3/355.
[11] انظر الكافي لابن قدامة ج3/5 والمقنع 3/4 والمغني 6/553 والإنصاف 8/17 ومنتهى الإرادات 2/152.
[12] رواه أحمد في مسند 3/339.
(/32)
[13] انظر المغني لابن قدامة 6/553 ومجموع فتاوى ابن تيمية 11/505.
[14] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج32/9.
[15] انظر بدائع الصنائع ج5/125 ونصاب الاحتساب للسنامي 241 وانظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2/1134 والقوانين الفقهية لابن جزي ص41، 295 وكفاية الطالب الرباني ج4/165 والمعيار المعرب 1/159 وحاشية العدوي ج2/422 وانظر بجيرمي على الخطيب ج3/315 وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج32/11 وج11/546 وج15/419 وج28/370 والفروع 5/157 والإنصاف 8/31 ومنتهى الإرادات 2/154 وكشاف القناع 5/15، 16.
[16] ص135.
[17] انظر المعيار المعرب ج11، ص228.
[18] انظر الفروع 5/153 والإنصاف 8/30 وكشاف القناع 5/15، 16.
[19] انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/121.
[20] انظر إعلام الموقعين 4/378.
[21] انظر المعيار المعرب ج11/229.
[22] المرجع السابق 1/159.
[23] انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2/121 والفتاوى الكبرى للهيثمي ج4/97.
[24] انظر روضة الطالبين ج7/29 وقليوبي وعميرة ج3/212 ومغني المحتاج ج3/133 وفتح الجواد 2/68 والفتاوى الكبرى للهيثمي ج3/97 وبجيرمي على الخطيب ج3/320.
[25] انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2/120 وفتح الجواد 2/68 وبجيرمي على الخطيب 3/320.
[26] انظر الإنصاف ج9/314.
[27] سبق تخريجه ص7.
[28] انظر كشاف القناع 5/13.
[29] انظر بدائع الصنائع ج5/125.
[30] انظر فتح الجواد ج2/71 وبجيرمي على الخطيب 3/324 وحاشية البيجوري على شرح ابن قاسم 2/99.
[31] انظر الإنصاف 9/314.
[32] المتجالة: المرأة المسنة. انظر تاج العروس آخر مادة جلل.
[33] انظر حاشية العدوي ج2/422.
[34] انظر الإنصاف ج9/314.
[35] حاشية ابن عابدين ج6/368.
[36] انظر فتح الجواد 2/69 ونهاية المحتاج 6/190 وبجيرمي على الخطيب 3/314.
[37] انظر الإنصاف 8/22 وكشاف القناع 5/13، 16.
[38] انظر حاشية ابن عابدين ج 6/368.
(/33)
[39] انظر مغني المحتاج ج3/133/407، وفتح الجواد 2/68 والفتاوى الكبرى للهيثمي 4/107، وبجيرمي على الخطيب 3/320 وحاشية البيجوري علي ابن قاسم 2/102.
[40] انظر منتهى الإرادات 2/154.
[41] انظر حاشية العدوى 2/422.
[42] انظر رقم1.
[43] انظر حاشية ابن عابدين 6/368.
[44] انظر مغني المحتاج ج3/407.
[45] انظر الإنصاف 9/314، وانظر منتهى الإرادات 2/154.
[46] انظر حاشية العدوى 2/422.
[47] انظر حاشية ابن عابدين 6/368.
[48] رواه مسلم في كتاب السلام باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها صحيح مسلم بشرح النووي 14/155 وأخرجه أحمد/ الفتح الرباني 5/83 وج21/419.
[49] انظر الإنصاف 9/314.
[50] صحيح مسلم بشرح النووي، 14/155.
[51] الإنصاف 9/314.
[52] مجموع فتاوى ابن تيمية 11/505.
[53] رواه أحمد في مسنده 3/339.
[54] أخرجه مسلم في كتاب السلام باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها/ صحيح مسلم بشرح النووي 14/153.
[55] أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة ج6/159 وأخرجه مسلم في كتاب السلام باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها صحيح مسلم بشرح النووي 14/153.
[56] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 11/505.
[57] فيض القدير 3/124.
[58] صحيح مسلم بشرح النووي 14/154.
[59] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج28/370، وج15/419، وانظر بدائع الصنائع ج5/125.
[60] انظر نصاب الاحتساب للسنامى 132/241 والفتاوى الهندية 5/366.
[61] انظر الكافي في فقه أهل المدينة 2/1134 وكفاية الطالب الرباني 4/164.
[62] فتح الجواد 1/315.
[63] مجموع فتاوى ابن تيمية 28/370.
[64] انظر الإنصاف 9/394.
[65] انظر تبيين الحقائق للزيلعي 3/37 وحاشية ابن عابدين 6/368.
[66] معالم السنن 2/144.
[67] انظر الفتاوى الهندية 5/366.
[68] انظر الكافي في فقه أهل المدينة 2/1134 وكفاية الطالب الرباني 4/164.
(/34)
[69] انظر كفاية الطالب الرباني 4/165.
[70] الرجل أشد غيرة على المرأة من المرأة على الرجل فلو رأى أحد الزوجين مع الآخر منهما غيرهما لكان الرجل أشد في ذلك لأن المرأة قد عاينت الرجل ومعه أربع نسوة بل وجواري بخلاف الرجل. أخبار النساء ص84.
[71] انظر فتح الجواد 1/315.
[72] انظر إعانة الطالبين 2/283.
[73] انظر فتح الجواد 1/315، وإعانة الطالبين 2/283.
[74] انظر نهاية المحتاج 6/190.
[75] مسائل الإمام أحمد 1/142.
[76] رواه الترمذي واللفظ له في كتاب الحج باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة قال أبو عيسى: هذا حديث حسن وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه/ الجامع الصحيح 3/177، ورواه ابن ماجه في كتابه المناسك باب ما يوجب الحج. ورواه عن ابن عباس كذلك قال الألباني عنه في إرواء الغليل: حديث رقم 988 ضعيف.
[77] معالم السنن 2/144.
[78] المغني لابن قدامة 3/238.
[79] رواه أحمد في مسنده 4/257، 378.
[80] المغني لابن قدامة 3/237.
[81] انظر المغني لابن قدامة 3/238.
[82] انظر المغني لابن قدامة 3/237، وانظر معالم السنن 2/145.
[83] انظر المغني لابن قدامة 3/238.
[84] معالم السنن 2/145.
[85] أخرجه البخاري في كتاب الصوم – باب صوم يوم النحر 2/249، ومسلم في كتاب الحج – باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره/ صحيح مسلم بشرح النووي 9/106.
[86] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 28/370.
[87] رواه مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره، صحيح مسلم بشرح النووي 9/109.
[88] رواه مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره، صحيح مسلم بشرح النووي 9/103.
(/35)
[89] رواه مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره، صحيح مسلم بشرح النووي 9/107، ورواه أحمد، الفتح الرباني 5/86، ورواه الترمذي في كتاب الرضاع. باب ما جاء في كراهية المرأة أن تسافر وحدها وقال: هذا حديث حسن صحيح/ سنن الترمذي 3/473.
[90] لمسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره. صحيح مسلم بشرح النووي 9/107، وأحمد، الفتح الرباني 5/87.
[91] لمسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره، صحيح مسلم بشرح النووي 9/107. وأبي داود في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير محرم، معالم السنن 2/144.
[92] في شرحه على صحيح مسلم 9/103.
[93] من آية 97 من سورة آل عمران.
[94] الجامع الصحيح للترمذي 3/473.
[95] معالم السنن 2/144.
[96] شرح الزرقاني على موطأ مالك ج2/402 طبع دار الفكر.
[97] صحيح مسلم بشرح النووي 9/104، 105.
[98] رواه البخاري في كتاب الجهاد باب كتابة الإمام الناس 3/34، واللفظ له ورواه مسلم في كتاب الحج آخر باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره، صحيح مسلم بشرح النووي 9/109.
[99] صحيح مسلم بشرح النووي 9/110.
[100] انظر مغني المحتاج ج3/131، ونهاية المحتاج ج6/193.
[101] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج32/248 وج11/542، 544 والفروع 5/158، وكشاف القناع ج5، ص15 – 16.
[102] انظر شرح الرسالة ج2/343 والشرح الصغير على أقرب المسالك 1/404، وبلغة السالك 1/106، والمعيار المعرب 12/327.
[103] انظر الفروع ج5، ص158 وكشاف القناع ج5، ص 16.
[104] انظر قليوبي وعميرة ج3، ص211، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2، ص121.
[105] خص ذلك بالجمال لأن الرجل ليس محلاً للشهوة في الطبع فقيد لأجل ذلك بالجمال. فتح الجواد 2/77، وبجيرمي على الخطيب ج3، ص324.
[106] انظر فتح الجواد ج1، ص315.
[107] انظر بجيرمي على الخطيب ج3، ص320.
[108] بجيرمى على الخطيب ج3، ص323.
(/36)
[109] انظر الفتاوى الهندية ج5، ص330.
[110] انظر شرح الرسالة ج2، ص343 والشرح الصغير على أقرب المسالك ج1، ص404 وبلغة السالك ج1، ص106.
[111] انظر مغني المحتاج ج2، ص131.
[112] سبق تخريجه ص7.
[113] انظر بجيرمي على الخطيب ج3، ص 323 وإعانة الطالبين ج3/263.
[114] انظر المعيار ج12، ص371 وانظر بجيرمي على الخطيب ج3، ص323.
[115] انظر بجيرمي على الخطيب ج 3/323، وانظر إعانة الطالبين 3/263، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج11، ص545.
[116] انظر مغني المحتاج ج 3/131.
[117] انظر شرح الرسالة 3/343 والشرح الصغير على أقرب المسالك 1/404، وبلغة السالك 1/106.
[118] انظر مغني المحتاج ج3، ص131.
[119] انظر المبسوط للسرخسي 30/108، والفتاوى الهندية 6/438.
[120] انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/122، ونهاية المحتاج 6/195، وحاشية البيجوري على ابن قاسم 2/99.
[121] انظر كشاف القناع 5/15، 16.
[122] انظر المبسوط للسرخسي ج30/108، والفتاوى الهندية ج6، ص438.
[123] انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/122، ونهاية المحتاج 6/195، وحاشية البيجوري 2/69.
[124] انظر كشاف القناع 5/15، 16.
[125] سبق تخريجه ص7.
[126] انظر المبسوط للسرخسي ج30، ص108، والفتاوى الهندية ج6، ص438.
[127] انظر الفتاوى الهندية 6/438.
[128] انظر فتح الجواد 1/315.
[129] انظر ص254 في منع سفر المرأة مطلقاً للحج أو غيره بدون محرم.
[130] انظر تبيين الحقائق للزيلعي 6/21 ويصاب الاحتساب للسنامي ص132، وانظر مسائل الإمام أحمد 1/139، وج3، ص150، ومجموع فتاوى ابن تيمية 22/111.
[131] انظر الكافي لابن قدامة 3/6 ومجموع فتاوى ابن تيمية 22/111.
[132] انظر نصاب الاحتساب للسنامي ص132 وانظر فيض القدير 4/105.
[133] انظر روضة الطالبين 7/23، والمجموع 15/11، 18 وفتح الجواد 1/315، وج2/69.
[134] انظر المجموع 15/16، 18 وانظر مغني المحتاج 6/190.
(/37)
[135] فتح الجواد 1/315، وانظر فيض القدير 4/106.
[136] الفتاوى الكبرى للهيثمي 4/83.
[137] آية 31 من سورة النور.
[138] المجموع ج15، ص12، 18 والمغني لابن قدامة 6/556، 557. ومجموع فتاوى ابن تيمية 22/111.
[139] رواه أبو داود في كتاب اللباس باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته. قال المنذري: في إسناده أبو جميع سالم بن دينار قال ابن معين ثقة وقال أبو زرعة الرازي لين الحديث. عون المعبود 11/164،165.
[140] المجموع ج15، ص13، 18 والمغني لابن قدامة 6/556، 557.
[141] المغني لابن قدامة 6/557 ومجموع فتاوى ابن تيمية ج 22/111.
[142] المغني لابن قدامة 6/557.
[143] المغني لابن قدامة 6/557.
[144] رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه بزيع بن عبدالرحمن ضعفه أبو حاتم وبقية رجاله ثقات مجمع الزوائد 3/214 وفيض القدير 4/105.
[145] المغني لابن قدامة 6/557.
[146] المرجع السابق، ومجموع فتاوى ابن تيمية 22/112.
[147] انظر الإنصاف 90/314.
[148] انظر العناية ضرح الهداية مع فتح القدير لابن الهمام 8/502 ونصاب الاحتساب للسنامي 241 والفتاوى الهندية 5/329/366 وحاشية ابن عابدين 6/368.
[149] انظر حاشية العدوى 2/422.
[150] انظر المبسوط للسرخسي 10/151، 152 وبدائع الصنائع 5/121 وتبيين الحقائق 6/19، 20 والكفاية شرح الهداية مع فتح القدير لابن الهمام 8/502 ونصاب الاحتساب 222/241 والفتاوى الهندية 5/329 وحاشية ابن عابدين 6/368.
[151] انظر المراجع السابقة.
[152] انظر حاشية ابن عابدين 6/368.
[153] في حاشيته 6/368.
[154] سبق تخريجه.
[155] المرجع السابق.
[156] سبق تخريجه.
[157] الإنصاف 9/214.
(/38)
[158] انظر تبيين الحقائق 3/37 وحاشية ابن عابدين 6/368 والكافي في فقه أهل المدينة 8/618 وبداية المجتهد 2/85 وشرح الرسالة 2/58 ومغني المحتاج 3/407 والفتاوى الكبرى للهيثمي 4/106، 107 ونهاية المحتاج 7/163 ومجموع فتاوى ابن تيمية 11/32 والإنصاف 9/313.
[159] انظر تبيين الحقائق 3/37 وحاشية ابن عابدين 6/368.
[160] في حاشيته 6/368.
[161] مغني المحتاج 3/407 والفتاوى الكبرى للهيثمي 4/106، 107 ونهاية المحتاج ج7/163.
[162] انظر الأصل 3/49 والمبسوط للسرخسي 10/150 وبدائع الصنائع 5/120، 125 وتبيين الحقائق 6/19.
وانظر الكافي في فقه أهل المدينة 2/1134 والقوانين الفقهية لابن جزي 41، 295 وكفاية الطالب الرباني 4/165 والمعيار المعرب 1/159 وحاشية العدوي 2/422 وانظر روضة الطالبين 7/24 والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/131 وانظر المغني لابن قدامة 3/236/239.
[163] المبسوط للسرخسي 10/150.
[164] ابن عابدين 6/369.
[165] هامش مواهب الجليل 1/500.
[166] فتح الجواد 1/314.
[167] المغني 3/239.
[168] أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع، صحيح البخاري 6/160 وأخرجه مسلم في كتاب الرضاع/ صحيح مسلم بشرح النووي 10/18.
[169] رواه البخاري في كتاب النكاح باب لبن الفحل (صحيح البخاري ج6، ص126 وأخرجه مسلم في كتاب الرضاع/ صحيح مسلم بشرح النووي 10/18 فما بعدها.
[170] انظر المبسوط 10/150 وتبيين الحقائق 6/19 وفتح القدير لابن الهمام 4/26 ونصاب الاحتساب للسنامي 241.
[171] الأصل 3/49، والفتاوى الهندية 5/328.
[172] انظر مغني المحتاج 3/175، ونهاية المحتاج 6/172.
[173] انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/130.
[174] المغني لابن قدامة 6/556.
[175] انظر مغني المحتاج ج3/178، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/131 وبجيرمي على الخطيب 3/359، وحوا شي الشرواني والعبادي 7/325 وج8/247.
(/39)
[176] انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/121.
[177] انظر فتح الجواد 1/314، 315 وإعانة الطالبين 2/283.
[178] الفتاوى الهندية 5/366.
[179] سبق تخريجه.
[180] انظر المبسوط للسرخسي 10/150 وتبيين الحقائق 6/19 ونصاب الاحتساب للسنامي241.
[181] رواه مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مح محرم إلى حج أو عمرة/ صحيح مسلم بشرح النووي 9/108.
[182] رواه مسلم في كتاب السلام باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها/صحيح مسلم بشرح النووي 14/153.
[183] القوانين الفقهية ص141 والفروع 5/324، وكشاف القناع 5/16.
[184] انظر المعيار المعرب 11/228.
[185] الفروع 5/324.
[186] الفتاوى الهندية 5/328.
[187] رواه البخاري في الوضوء باب قراءة القرآن/ صحيح البخاري 1/53.
[188] الفروع 5/324.
[189] انظر المبسوط للسرخسي 5/148، وتبيين الحقائق 2/142، 144 والعناية شرح الهداية مع فتح القدير لابن الهمام 4/26 والفتاوى الهندية 6/171 والمغني لابن قدامة 6/581، وكشاف القناع 5/71.
[190] المبسوط 5/150.
[191] الإنصاف 9/370.
[192] من آية 227 من سورة البقرة.
[193] انظر المبسوط للسرخسي ج5، ص149.
[194] الإنصاف 8/283، ومنار السبيل 2/198.
[195] انظر الكافي في فقه أهل المدينة 2/618، وبداية المجتهد 2/85، وشرح الرسالة 2/58.
[196] من آية 21 من سورة النساء.
[197] انظر المبسوط للسرخسي 5/149، وانظر منار السبيل 2/197.
[198] انظر منار السبيل 2/197.
[199] فتح القدير 4/16.
[200] انظر الكافي لابن قدامة 3/229، والمقنع 3/222، والإنصاف 9/156، ومنتهى الإرادات 2/313.
(/40)
العنوان: الخِنْفِشاريون!
رقم المقالة: 1648
صاحب المقالة: حضارة الكلمة
-----------------------------------------
يتضح لك معنى "الخنفشاريين" من قول الشاعر:
وأمسكَ بالكتابِ يهزّ رأساً ويفتلُ شارباً ويقولُ: هَا ها
وأطرقَ للمسائلِ؛ أي بأنّي! ولا يدريْ -لعَمركَ- ما طحَاها!!
إنهم المتعالمون، الذين يقول عنهم الإمام الحسن البصري: "لا آفة على العلومِ وأهلها أضرّ من الدخلاء فيها، وهُم من غير أهلِها، فإنهم يَجهلون، ويظنّون أنهم يعلمون، ويُفسدون ويقدّرون أنهم يُصلحون!".
وقد أورد الشيخ بكر أبو زيد في كتابه "التعالم وأثره على الفكر والكتاب"* شواهد من التراث على هؤلاء المتعالمين، ممن ينطبق عليهم لقب "الخنفشاريين"، فقال:
مازال الناس يُبتلَوْنَ بهذا الطراز النكد من الخنفشاريين، فقد قرأتُ لدى نقلة السير ومقيدي الأخبار والأثر، مُثُلاً منها في الغابرين، فعلى جادَّة المثال:
1- مفتي الخنفشار: في كتب المحاضرات، أن رجلاً كان يفتي كل سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه، فأجمعوا أمرهم بامتحانه، بنحت كلمة ليس لها أصل هي "الخِنْفِشار"، فسألوه عنها، فأجاب على البديهة: بأنه نبت طيب الرائحة، ينبت بأطراف اليمن، إذا أكلته الإبل عقد لبنها؛ قال شاعرهم اليماني:
لَقَدْ عَقَدَتْ مَحَبَّتُكُمْ فُؤَادِي كَمَا عَقَدَ الْحَلِيبَ الْخِنْفِشَارُ
وقال داود الأنطاكي في "تذكرته": كذا، وقال فلان وفلان... وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستوقفوه، وقالوا: كذبت على هؤلاء، فلا تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. وتحقق لديهم أن ذلك المسكين: جِرَاب كذب، وعيبة افتراء في سبيل تعالمه، نسأل الله الصون والسلامة.
(/1)
2-ومن الخنفشاريين: خبير النعنع، ففي مُلَح التاريخ، كما ذكر السخاوي: أنَّ جهنيًّا كان من ندماء المهلبي، وكان يأتي بالطامَّات، فجرى مرة حديثٌ في النعنع، فقال: في البلد الفلانيّ نعنع، يطول حتى يصير شجرًا، ويُعمل من خشبه سلالم، فثار منه أبُو الفرج الأصبهاني صاحب "الأغاني" فقال: نَعَم، عجائب الدنيا كثيرة، ولا يُنكر هذا، والقدرة صالحة، وأنا عندي ما هو أغرب من هذا: أنَّ زوجَ الحمام يبيض بيضتين، فآخذُهما وأضع تحتهما سنجة مائة، وسنجة خمسين - السنجة كفة الميزان - فإذا فرغ زمن الحضانة، انْفَقَسَتِ السنجتان عن طست وإبريق، فضحك أهل المجلس، وفطن الجهني لما قصد به أبو الفرج من " الطنز"، وانقبض عن كثير من حكاياته.
3-ومنهم الهروي: شمس بن عطاء الرازي المتوفَّى في سنة 887هـ، كان من أعوان تيمورلنك، وكان عريض الدَّعْوَى في الحفظ، فاستعظم الناس ذلك، فجُعِل له مجلس لامتحانه، وكان من جملة ما سُئِلَ عنه حينئذ: هل ورد النَّصّ على أن المغرب تقصر في السفر؟ فقال: نعم، جاء ذلك من حديث جابرٍ في كتاب "الفردوس" لأبي الليث السمرقندي، فلمَّا انفصلوا ورجعوا إلى كتاب أبي الليث لم يجدوا فيه ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: لكتاب السمرقندي هذا ثلاثُ نُسَخٍ: كبرى، ووسطى، وصغرى. وهذا الحديث في الكبرى، ولم تدخل الكبرى هذه البلاد! فاستشعروا كذبه من يومئذ. وقد ساقها الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في ترجمته له. هكذا فليكن كذب المتعالمين!
4-وذكر قصة البغاددة مع محمَّد بن عبدالواحد الباوردي أبو عمر الزاهد المتوفى سنة 345هـ المشهور بلقب "غُلام ثعلب" على ما في ترجمته، وكان مشهورًا بالحفظ المدهش، وكان لسَعة حفظه يطعن عليه أهل الأدب، ولا يوثّقونه في علم اللغة، حتى قال عبيدالله بن أبي الفتح: لو طار طائر في الجو، لقال أبو عمر الزاهد: حدثنا ثعلب، عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئًا، وكان المحدِّثون يوثقونه.
(/2)
قال الخطيب البغدادي: "رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء فيجيب عنه، وبعد سنة يجيب بذلك الجواب".
ويُروى أنَّ جماعة ببغداد، اجتازوا على قنطرة الصراة، وتذاكروا ما يرمى به من الكذب، فقال أحدهم: أنا أصحف له "القنطرة" وأسأله عن معناها، فننظر ما يجيب. فلمَّا دخلوا عليه، قال له الرجل: أيها الشيخ ما "الهرطنق" - مقلوب القنطرة - عند العرب؟ فقال: كذا وكذا، وذكر شيئًا، فتضاحك الجماعة وانصرفوا، فلما كان بعد شهر أرسلوا إليه شخصًا آخر، فسأله عن "الهرطنق" فقال: أليس قد سُئِلتُ عن هذه المسألة منذ كذا وكذا؟ ثم قال: هو كذا وكذا، كما أجاب أولاً، فقال القوم: فما ندري من أيِّ الأمرين نعجب، من حفظه إن كان عِلمًا، أم من كذبه إن كان كَذِبًا، فإن كان عِلمًا فهو اتّساع عجيب، وإن كان كذبًا، فكيف تناول ذكاؤه المسألة، وتذكَّر الوقت، بعد أن مَرَّ عليه زمان، فأجاب بذلك الجواب بعينه؟!
ــــــــــــــــــــــــــ
* التعالم وأثره على الفكر والكتاب، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد- الرياض: دار العاصمة، ط4- 1418هـ.
(/3)
العنوان: الخيل في المكتبة العربية
رقم المقالة: 2011
صاحب المقالة: عادل محمد على الشيخ حسين
-----------------------------------------
الخيل في المكتبة العربية
{وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ} [آل عمران:14]، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8]، {َمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا* فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا* فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:1-5].
إن هذه الآيات الكريمة التي جاءت بحق الخيل إنما هي تنويه بها ولفت إليها ورفع لقدرها باعتبارها نعمة مباركة من نعم الخالق الكثيرة جل شأنه على عباده من البشر.
والخيل، بفتح الخاء، جماعة الأفراس لا واحد له من لفظه، فهو حينئذ اسم جمع، والخيول قديمة جدًا، ولها فصيلة خاصة بها ما زال قسم منها يعيش على حالته الوحشية في أواسط آسيا في القفقاس. وقد اعتقد علماء الحيوان أن معظم الخيول الوحشية وحتى العربية منها هي من أصل واحد، وأنها تنحدر من هذه الخيول الوحشية، وأن اختلاف التربة والمناخ والجو والغذاء هو الذي باعد بين أشكالها. وأتوا بدليل على ذلك أن الخيول العربية التي كانت تشترى من مصر والجزيرة وتربى في جهة أوكرانيا تأخذ سلالتها في الذرية الثانية شكل الخيول القفقاسية وحجمها. وهذا الرأي مرفوض لان الخيول العربية قديمة وأصيلة وليست لها علاقة بالخيول الوحشية الحالية في أواسط آسيا الآن. وتمتاز الخيول الأصلية بشكلها الجذاب ورقة جلودها ونعومتها ونزر شعرها من لينه، وبقوة عضلاتها التي تكون واضحة بصلابة عظامها وقلة منسوجها الخلوي وباتضاح أوعيتها الشعرية تحت الجلد وسرعة سيرها ونمو مجموعها العصبي وقوة إدراكها وتحملها المشاق.
(/1)
وكانت الخيل في عهد النبي الكريم محمد صلي موضع احترام وتقدير عظيمين فاتخذ الرسول صلي الخيل وارتبطها وأعجب بها وحض عليها وعلم المسلمين ما لهم في ذلك من الأجر، وفضلها في السهم على أصحابها، فجعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا، فارتبطها المسلمون، وأسرعوا إلى ذلك وعرفوا ما لهم فيه من التثمير في الرزق، ومن أقوال الرسول صلي في الخيل: ((الخيل معقود نواصيها الخير إلى يوم القيامة)).
وتتميز الخيول العربية الأصيلة بصفات جعلتها الفريدة في ذلك فهي تتحمل المشاق وتصبر على التقلبات الجوية وتقتات أغذية لا يمكن للخيول الأوروبية تناولها ولا تتعب من مكابدة المشاق وتعيش على الدوام في الخلاء، وتعتاد على أي طقس في أي إقليم معتدل أو بارد إذا ما وضعت فيه، وهي لطيفة الطبع، سهلة الانقياد حتى إنه يمكن تعليمها وتمرينها على الأعمال المطلوبة منها في أسرع وقت من باقي الخيول الأخرى. ويهتم العرب بالخيل من خلال ألوانها النقية كالأسود ذي العيون الحمراء، والأشقر الزاهي والأشقر القاتم، والأشقر الأصفر، والأبيض والأحمر ذي العيون البيضاء. وقد استعان معظم مربي الخيول في العالم بالحصان العربي لتحسين خيولهم بعد أن أحسوا ما لهذا الحصان من صفات جيدة وقيمة لا توجد إلا فيه.
(/2)
والخيل تتبع العائلة المسماة باسمها (الخيلية Equidae )، وهي تتميز بوجود حافر واحد يتكون من الإصبع الثالث داخل صندوق قرني هو الحافر. وقد ارتفع العقب والرسغ بعيدًا عن الأرض وأصبحا يكونان العرقوب والركبة وقد هيأت هذه الحيوانات للسرعة الفائقة على الأرض الصلبة كما هيأت أسنانها لرعي الحشائش ومضغها. والذنب مغطى بشعر طويل يعمل على السياط في طرد الذباب في الحظائر والحقول، وخاصة النعرة من جنس ذباب الخيل التي تثقب الجلد وتضع تحته بيضها، والخيول حيوانات اجتماعية تعيش في قطعان قد يبلغ عدد الواحد منها بضع مئات، والأفراس تلد صغيرًا واحدًا مرة كل سنتين. ويولد الصغير كامل النمو مفتوح العينين، ويستطيع الوقوف بعد دقائق من مولده دون مساعدة ما. وتعمر الخيول طويلاً، وقد تلد الفرس في سن الخامسة والعشرين. وقد عمر بعض الخيول خمسين عامًا ومدة حمل الأنثى 11 شهرًا. وأشهر الخيول العربية الأصيلة ما يعرف بـ " الكحيلان " الذي يتميز بجمال الجسم وقوة الاحتمال والنباهة والإخلاص لقائده وتعلقه به، وكان هذا النسب هو الذي استمدت منه الآراء الغربية فيما يتعلق بتربية الخيول الممتازة كما يشير فيليب حتى إلى ذلك. وفي القرن الثامن أدخل العرب الخيل إلى أوروبا عن طريق إسبانية حيث خلفت أثرها الدائم في أنسالها من الخيول المغربية والأندلسية "حسب تأكيد ويليام وبراون" واكتسبت الخيول الإنجليزية دمًا جديدًا لاختلاطها بالخيول العربية أثناء الحروب الصليبية المتكررة على بلاد الشرق العربي.
(/3)
ولم يبق على قيد الحياة من أصناف الحصان إلا صنفين هما: فرس منغوليا الوحشي، والحصان الداجن (الأهلي)، وهناك نوع من الخيول يسمى بالسيسي وهي صغيرة الحجم، ومن أشهر أنواعها السيسي النرويجي الذي له مزايا وصفات تجعله الوريث المباشر لأنواع الخيل، فارتفاع كتفه يتراوح بين 130 ـ 140 سم، وكذلك لون الاقدام الاسود يوحي بهذه القرابة، وهي فضلاً عن أن التخطيط الكثيف الضيق على الجبهة يشير إلى شبه بينه وبين حمار الوحش كما يبين غلظ العنق عن شبه بالحصان الوحشي ـ والاسم العلمي للخيل (Gavs caballus )، وبالإنجليزية (the horse ).
أ ـ المؤلفات العربية القديمة في الخيل:
لهذه المزايا والصفات الحميدة التي يتمتع بها هذا الحيوان الوديع الأليف، الذي رافق العرب منذ القدم، في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والزراعية، كان لابد أن يفردوا له المؤلفات والمراجع والفصول والأبواب الكبيرة في كتبهم ومصنفاتهم المختلفة.
وسنحاول أن نستعرض ما وصل إلينا من هذه المصنفات ضمن المكتبة العربية، والتي ما زال قسم كبير منها إما مفقودًا أو مخطوطًا، ولم ينشر إلى الآن، وهذه المؤلفات هي كما يأتي:-
1- الفروسية والخيل، لمحمد بن أبي حزام (حوالي 246هـ)، تناول فيه سلوك الأفراس وخصائصها وأمراضها وطرق علاجها، وقد قدمه للخليفة العباسي المتوكل.
2- الخيل، للأصمعي (عبد الملك بن قريب المتوفى 216هـ)، طبع هذا الكتاب أول مرة في فينا عاصمة النمسا سنة 1895م بتحقيق المستشرق هافز في مجلة (SBWA ). وأعاد نشره وتحقيقه في بغداد نوري حمودي القيسي سنة 1970م، في مجلة كلية الآداب، العدد 12، 1969م، ص 346. ثم حققه مرة ثالثة هلال ناجي على نسخة خطية لم يحقق عليها الكتاب سابقًا. وهي تختلف عن تحقيقي هافز والقيسي.
(/4)
3- الخيل، لأبي عبيدة معمر بن المثني " المتوفى 224 "، نشره وحققه المستشرق كرنكو في حيدر أباد سنة 1358هـ، وأعيد نشره في القاهرة، بتحقيق محمد عبد القادر أحمد سنة 1986م.
4- أسماء خيل العرب وفرسانها، لابن الأعرابي (محمد بن زياد/ المتوفى 231هـ)، نشره أول مرة المستشرق الإيطالي جرجس لوي دلاويدا، الأستاذ في جامعة روما، وطبع في مدينة ليدن عام 1928م، وأعاد تحقيقه محمد عبد القادر أحمد، ونشرته مكتبة النهضة المصرية في القاهرة سنة 1984م، ونشر مروان العطية نقدًا لهذه الطبعة في مجلة المورد،بغداد 1987م، ع2، مج 16، ص 209 – 228.
5- أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها، لابن الكلبي (هشام بن محمد المتوفى 204هـ)، حققه أحمد زكي، سنة 1946م، ونشره في القاهرة، ثم أعيد طبعه سنة 1965م، ونشرته تصويرًا (بالأوفست سنة 1977م، الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة عن طبعة أحمد زكي). أما طبعة نوري القيسي وحاتم الضامن، فهي في الأصل قد نشرت في مجلة المجمع العلمي العراقي، ج 4، مج 36، بغداد، 1985م، ص 130 – 200، وظهر منها مستلاً.
6- فضل الخيل، لابن دريد (محمد بن الحسن/ المتوفى 321هـ) أشار إليه الحافظ الدمياطي في كتابه (فضل الخيل) أيضًا.
7- أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها، للغندجاني الأعرابي الحسن بن أحمد (المتوفى بعد 430هـ)، حققه عبد الرحمن الطلحي وناصر الرشيد في السعودية ونشر سنة 1400هـ. ثم أعاد نشره بتحقيق آخر محمد على سلطان، وصدر عن دار الرسالة في دمشق، بيروت، 1982م.
(/5)
8- حلية الفرسان وشعار الشجعان، لابن هذيل (عليّ بن عبد الرحمن الأندلسي/ القرن الثامن الهجري). نشره وحققه محمد عبد الغني حسن سنة 1951م، ضمن سلسلة (ذخائر العرب)، دار المعارف بمصر، والكتاب قسمان، الأول للخيل، والثاني للسلاح، كما صدرت طبعة منه لم يذكر اسم محققها سنة 1970م عن مؤسسة الانتشار العربي اللبنانية عن نسخة مغربية مطبوعة في باريس سنة 1922م، ومنسوخة بالخط المغربي عن النسخة الأساسية التي كتبها المؤلف بخط يده.
9- فضل الخيل للحافظ الدمياطي (شرف الدين عبد المؤمن المتوفى 705هـ) ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء، جمع فيها صفة الخيل ومعرفتها وعلاج الحرون منها وألوانها ومحاسنها وما يمدح وما يذم منها، وأدويتها وأمراضها، وقد نشره وحققه محمد راغب الطباخ في حلب، 1349هـ/ 1930م وطبع في المطبعة العلمية.
10- رشحات المداد فيما يتعلق بالصافنات الجياد، للبخشي (محمد البخشي الحلبي المتوفى 1098هـ)، ونشره محمد راغب الطباخ مع كتاب فضل الخيل للدمياطي، أي في سنة 1930م.
11- قطر السيل في أمر الخيل، للبلقيني (عمرو بن رسلان بن نصر المتوفى سنة 805هـ) حققه عبد الله الجبوري، ونشره النادي الأدبي بالرياض ـ السعودية سنة 1401هـ/ 1981م.
12- الحلية في أسماء الخيل المشهورة في الجاهلية والإسلام، للصاحبي التاجي (محمد بن كامل المتوفى 697هـ). له أربع مخطوطات، الأولى في مكتبة (مغنيسيا) بتركيا المؤرخة في سنة 994هـ، والثانية في مكتبة سوهاج بمصر برقم 559 أدب، وعنها نسخة مصورة في معهد المخطوطات العربية، والثالثة في مكتبة المتحف العراقي رقم (17108)، والرابعة في دار الكتب المصرية برقم 214، فنون حربية. قد حققه حاتم صالح الضامن ونشره في مجلة المجمع العلمي العراقي، ج1، مج 34. ـ بغداد، 1983م، ثم نشره مستقلاً في كتاب وصدر عن مؤسسة الرسالة في بيروت، 1985م.
(/6)
13- الفروسية وعلاج الخيل، لبدر الدين البكتوت الرماح الخازنداري نائب (المتوفى 711هـ)، له مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم (4م فنون حربية)، وفي فهارس المخطوطات تحت عنوان (فصل الكتب البيطري والحيوان).
14- الفروسية، لابن قيم الجوزية، طبع في القاهرة سنة 1941م.
15- كتاب الفروسية للأشميطي.
16- مجرى السوابق، لابن حجة الحموي (المتوفى 837هـ).
17- فوائد النيل بفضائل الخيل، للشيخ على بن عبد القادر ابن محمد الطبري المكي (المتوفى 1070هـ)، له مخطوطة في مكتبة (نور عثمانية برقم 4131).
18- إسبال الذيل في ذكر جياد الخيل، الرملي (القرن الحادي عشر الهجري).
19- كتاب السؤل والمنية في تعليم أعمال الفروسية، لم يذكر اسم مؤلفه، يقول محمد إبراهيم نصر إنه ربما لبكتوت الرماح، في حين يذكر بروكلمان أنه لمحمد بن عيسى الحنفي، (المتوفى 808هـ).
20- كتاب الجهاد والفروسية وفنون الآداب العسكرية، لطيبوغا الأشرفي البكلميشي الرومي (المتوفى 770هـ/ 1386 م).
21- الفروسية والبيطرة، لمؤلف بغدادي؛ تحقيق: محمد التونجي، جامعة أكستر البريطانية، دون تاريخ.
22- الأقوال الكافية والفصول الشافية في الخيل، وكان هلال ناجي قد حققه ونشره تحت عنوان (الخيول اليمنية في المملكة الرسولية)، تصنيف ملك اليمن المجاهد علي بن داود الرسول الغساني (المتوفى 764هـ)، وقد نشره هلال ناجي في مجلة المورد، مج 12. ـ بغداد، 1983م، ص 91 ـ 112. وحققه مرة أخرى يحيي الجبوري، وصدر عن دار الغرب الإسلامي بيروت، سنة 1987م.
23- الخيل وصفاتها وأنواعها وبيطرتها، لابن داود الرسولي، (معجم المؤلفين، ج 6، ص 90 ـ 91). وأعتقد أنه الكتاب السابق نفسه.
24- خلق الفرس، للأصمعي.
25- السرج واللجام، للأصمعي، نشر في المورد، مج 12. ـ بغداد،1983م.
26- الرحل، للأصمعي.
(/7)
27- كتاب كامل الصناعتين (البيطرة والزردقة)، المعروف بالناصري، لأبي بكر بن البدر البيطار (المتوفى 709هـ)، الذي قدمه لمكتبة السلطان المملوكي ناصر الدين بن قلاوون. وقد حققه عبد الرحمن إبريق، ونشر من قبل معهد التراث العلمي العربي، جامعة حلب، سوريا، وصدر جزأين عام 1993م.
28- كتاب الخيل، لمحمد بن رضوان النمري (المتوفى 657هـ).
29- دعاء وحرز الخيل، لأبي العلاء المعري (المتوفى 449).
30- كتاب خلق الفرس، ليوسف بن عبد الله الزجاجي (المتوفى 415هـ) (معجم الأدباء، ج 7، ص 308).
31- كتاب الخيل، لأبي علي القالي.
32- كتاب الخيل، لإبراهيم بن محمد سعداني (معجم الأدباء. ج1، ص 287).
33- كتاب الخيل والبيطرة، ليعقوب بن إسحق الكندي (تاريخ القفطي).
34- كتاب الخيل، لأبي قلحم محمد بن سعد الشيباني (الفهرست، ص 52).
35- الخيل وسبقها، وأنسابها، وشياتها، وعيوبها، وإضمارها، ومن نسب إلى فرسه، لعبد الله بن محمد التوزي (الفهرست 63، إنباه الرواة 2/126، كحالة 6/ 143).
36- الخيل، لأبي نصر أحمد بن هاشم (الفهرست: 61).
37- الخيل، لمحمد بن عبد الله العتيبي (الفهرست: 135).
38- صفة الفرس، لعلي بن عبيدة الريحاني (الفهرست: 133).
39- جر الذيل في علم الخيل، للسيوطي (مخطوطة أبا صوفيا رقم 2983، تركيا، دليل مخطوطات السيوطي).
40- كتاب خلق الفرس، لحسن بن عبد الله لغدة (معاصر للزجاج).
41- كتاب الخيل، لأحمد بن أبي عبد الله الكوفي البرقي.
42- خلق الفرس، لثابت بن أبي ثابت (من رجال القرن الثالث الهجري) (الفهرست: 76).
43- كتاب الخيل والصغير والخيل الكبير، لأبي بكر بن دريد (الفهرست: 76).
44- كتاب خلق الفرس، لمحمد بن الوشاء (الفهرست: 93).
45- كتاب الخيل، لعبد الله بن محمد العباسي الزيدي (الفهرست: 56).
46- أنساب الخيل، لأبي عبيد الله القاسم بن سلام (المورد، مج 2، بغداد، 1983م).
(/8)
47- السبق والرمي وأسلحة المجاهدين (فيه عن الخيل)، لمؤلف مجهول، تحقيق عبد ضيف العبادي (مجلة المورد، مج 12، بغداد، 1983م).
48- الخيل، لابن قتيبة (الفهرست: ص 86) .
49- كتاب الخيل والسوابق، لابن مهرويه، (الفهرست: 88).
50- كتاب الخيل، لمحمد بن حبيب (المتوفى 245هـ) (معجم الأدباء: 6/ 476).
51- كتاب الخيل، لعمرو بن إسحاق بن مرار الشيباني (معجم الأدباء 2/235)، الفهرست: 75).
52- خلق الفرس، لابن ثروان العكلي (معاصر سيبويه) (معجم الأدباء: 2/ 399).
53- كتاب الخيل، للعباس بن الفرج الرياشي (الفهرست: 64).
54- الخيل الكبير، لأحمد بن أبي طاهر (الفهرست: 64).
55- المغني في البيطرة، للملك الأشرف الغساني، تحقيق: رمزية محمد الأطرقجي، ونشره مركز التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، 1989م.
56- سهيل في ذكر الخيل، لعثمان بن عبد الله الحنبلي الحنفي، ابن بشر النجدي.
الدر المطابق في علم السوابق (في طب الخيل)، وقد ظفر به ملك الأرمن في خزائن العباسيين عندما هاجمها التتر، فنقله إلى بلاده وأمر بترجمته، ثم ضاعت النسخة العربية الأصلية، وقد حصل جنود مصر على الترجمة في بلاد الأرمن حينما فتحوها، فترجمه إلى العربية ابن الخليفة العباسي بمصر بمساعدة بعض الأسرى من الأرمن (المقتطف، ج 1، مج 39، القاهرة، 1911م، ص 72).
57- كتاب مطلع اليمن والإقبال في انتقاء كتاب الاحتفال (عن الخيل)، لعبد الله بن محمد جزي الكلبي الغرناطي (من أعلام الاندلس في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري.
58- كتاب الاحتفال في استيفاء ما للخيل من الأحوال، لأبي عبد الله بن محمد بن رضوان بن أرقم النميري الوادي أشي (المتوفى 657هـ).
59ا- لجواد العربي، لمؤلف مجهول، تحقيق محمد عيسى صالحية، الكويت، 1993م.
كاشف الويل في معرفة أمراض الخيل، لأبي بكر البيطار، (وقد رتب هذا الكتاب على 20 بابًا).
(/9)
60- كتاب البيطرة (فيه فصول عن الخيل)، للسان الدين بن الخطيب الأندلسي (من أهل القرن الثامن الهجري).
61- خلق الفرس أو الخيل، للنضر بن شميل (المتوفى204هـ)، وهو يعتبر أقدم المؤلفات في بابه.
62- الخيل، لقطرب (المتوفى 206هـ).
63- كتاب الخيل، لعبد الله بن جزي، تحقيق محمد العربي الخطابي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985م.
64- في الخيل، للبلقيني (المتوفى 805هـ) (مختصر عن كتاب الحيوان للدميري مع بعض الشروحات) تقع في 82 ورقة.
65- أسماء خيل العرب وفرسانها، للجواليقي (أبو منصور موهوب بن أحمد المتوفى 540هـ) (الأعلام 8/ 292).
66- نسب الخيل، لمحمد بن صالح مولى جعفر بن سليمان (مصادر التراث العسكري عند العرب، كركيس عواد، 2: 432).
67- الفروسية وركوب الخيل ومعرفة أنواعها وعللها مجهول المكان (نوادر المخطوطات العربية لأحمد تيمور).
68- كتاب الفروسية واستخراج الخيل العربية في البنود السليمانية، له مخطوط في مكتبة شهيد علي في تركيا (تحت رقم 1550) (نوادر المخطوطات العربية في تركيا، رمضان ششن، ج 3).
69- كتاب الزردقة في معرفة الخيل وأجناسها وأمراضها، (مصور منه في السلطانية بالقاهرة) (نوادر المخطوطات العربية لأحمد تيمور).
70- مباهج السرور والإرشاد في الرمي والسباق والصيد والجهاد (فيه عن الخيل)، لزين الدين عبد القادر الفاكهي (948هـ/ 1541 م)، منه نسخة في المكتبة الوطنية بباريس، تحت رقم 2834 (الكافي في البيزرة 40).
ب ـ مؤلفات أفردت للخيل أبوابًا وفصولاً مهمة:
1- الغريب المصنف، لأبي عبيد القاسم بن سلام (المتوفى 224هـ).
2- الحيوان، للجاحظ (المتوفى 255هـ).
3- عيون الأخبار، والمعاني الكبير، لابن قتيبة (المتوفى 376هـ).
4- العقد الفريد، لابن عبد ربه (المتوفى 328هـ).
5- النوادر، لأبي علي القالي (المتوفى 356هـ).
6- شرح مقصورة ابن دريد، لابن خالويه (المتوفى 370هـ).
(/10)
7- ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري (المتوفى بعد 395هـ).
8- الأنوار ومحاسن الأشعار، للشمشاطي (القرن الرابع الهجري).
9- مبادئ اللغة، للإسكافي (المتوفى 420هـ).
10- فقه اللغة، للثعالبي (المتوفى 429هـ).
11- زهر الآداب، للحصري القيرواني (المتوفى 453هـ).
12- العمدة، لابن رشبق القيرواني (المتوفى 456هـ).
13- المخصص، بابن سيدة (المتوفى 458هـ).
14- نظام الغريب، للربعي (المتوفى 480هـ).
15- كفاية المتحفظ، لابن الأجدابي (القرن الخامس الهجري).
16- محاضرات الأدباء، للراغب الأصبهاني (المتوفى 502هـ).
17- ربيع الأبرار، للزمخشري (المتوفى 538هـ).
18- نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري (المتوفى 733هـ).
19- حياة الحيوان الكبري، للدميري (المتوفى 808هـ).
20- تحرير الرواية في تقرير الكفاية، لمحمد بن الطيب الفاسي (المتوفى 1170هـ).
جـ ـ أهم المؤلفات والدراسات عن الخيل في العصر الحديث:
1- عقد الأجياد في الصافنات الجياد: للأمير محمد ابن عبد القادر الجزائري الحسني (المتوفى 1331هـ). (وقد جمع فيه أسماء خيل العرب وفرسانها) طبع لأول مرة في القاهرة 1331هـ، ومرة ثانية سنة 1383هـ في دمشق. ثم نشره المكتب الإسلامي بنفقة الشيخ أحمد بن على آل ثاني. وقد اختصر الجزائري كتابه هذا في مختصر أسماه (نخبة عقد الأجياد) ونشره في سنة 1293هـ، ثم أعاد نشره سنة 1326هـ في بيروت.
2- سراج الليل في سروج الخيل، للحاصباني باك، طبع في بيروت سنة 1881م.
3- الخيل وفرسانها، نجيب خوري، المطبعة بعبدا ـ لبنان 1912م.
4- جواب السائل عن الخيل الأصائل: للملك عبد الله بن الحسين (المتوفى 1951م) ، ونشر ضمن كتاب (عقد الأجياد) للجزائري من 4- 35، وكان قد طبع لأول مرة في عمان، 1354هـ.
5- الخيل العراب، لقدري الأرضروملي البغدادي، وهو من أجمع الكتب المؤلفة في فنه، طبع في بغداد سنة 1965م، ثم أعيد طبعه مرة ثانية في بيروت سنة 1971م.
(/11)
الخيل في السلم والحرب عند العرب، لعبد الرحمن زكي. مجلة الدارة، السعودية، س 4، ع 1، 1398هـ، ص 94 – 107.
6- الخيل ورياضتها، نبيل محمد عبد العزيز. ـ القاهرة: 1975م.
7- الفروسية في الشعر الجاهلي، نوري حمودي القيسي. ـ بغداد، 1964م.
8- وصف الخيل في الشعر الجاهلي، كامل سلامة الدقس، دار الكتب الثقافية، الكويت، 1975م.
9- خيل رسول الله صلي الله عليه وسلم، عبد الله الجبوري، السعودية.
10- تقاليد الفروسية عند العرب، واصف بطرس غالي، القاهرة.
11- علم الولادة في الخيل وأمراضها عند العرب (دراسة لموفق قنصة)، معهد التراث العلمي العربي. ـ حلب ـ سورية.
12- الخيل والفروسية في الإسلام، محمد إبراهيم نصر، دار الكتاب السعودي. ـ الرياض 1986م (وقد استفدت كثيرًا منه في وضع هذا المقال).
10- الخيل في حياة العرب، محمد العربي الخطابي. ـ السعودية: مجلة الفيصل، 1983م، ع 75، س 7،ص ص 114 ـ 120.
13- أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها، بهاء الدين الزهوري، المجلة العربية، ع 78، س 8، السعودية، 1984م، ص ص 102- 104.
14- كتاب الخيل، تحقيق محمد الخطابي، نقد سلمان قطاية، مجلة العربي، ع 346.ـ الكويت، 1987م، ص ص 189 ـ 193.
15- الجواد العربي في عيون العالم، فتحي فرغلي، العربي، ع 413، الكويت، 1993م، ص ص 114 ـ 151.
16- الحصان هل ينقرض فلا نراه إلا في حدائق الحيوانات، أحمد زكي، العربي، ع 48، 1962م، ص ص 52- 58.
17- الحصان العربي رمز الفروسية، ألبير عمون. ـ المجلة العربية، ع 126، س 12، 1988م، ص ص 77 – 79.
18- الخيول العربية الأصيلة، تعيد مجدها في عمان،مجلة الريم. ـ الأردن، 1983م، ع 1، ص ص 3- 6.
19- تربية الخيل، المقتطف، ج 7، س 5، 1880م، ص 172 ـ 174.
20- الخيول العربية (ظهورها عز وبطونها كنز)، محسن حافظ، العربي، ع 438، س 38، 1995م، ص ص 104 ـ 107.
(/12)
21- الجواد العربي سيد جياد التاريخ، أحمد بهاء الدين، العربي، ع 279، 1982م، ص ص 6 – 20.
22- الخيل وحوافرها، المقتطف، ج 1، مج 31، 1906م، ص ص 970 ـ 974.
23- الخيل المصرية، مجلة الضياء، ج 14، 1904م، ص ص 428 ـ 432.
24- الخيل المصرية والخيل العربية، المقتطف، ج 4، مج 68، 1926م، ص ص 379- 384.
25- أوصاف الخيل العربية، مصطفى الشهابي، المقتطف، ج 4، مج 66، 1925م، ص ص 455 ـ 457.
ألوان الخيل وشياتها، مصطفى الشهابي، المقتطف، ج 2، مج 86، 1935م، ص ص 178 ـ 180.
26- بصمات ذهبية للحصان العربي على سلالات الخيول في أوروبا وأمريكا، عثمان مهملات، العربي، ع 288، 1982م، ص ص 148 ـ 152.
27- أطلس ثدييات العالم (فيه عن الخيول البرية)، حسين فرج زين الدين. ـ القاهرة، 1970م.
28- الإبل والخيل في التاريخ والحضارة، عياد موسى العوامي. ـ ليبيا، 1985م.
29- تشريح الحصان،نبيه محمد، بغداد، 1989م.
30- تربية الخيول العربية، الأمير محمد على باشا الكبير. ـ القاهرة، 1938م، جزءان.
الحيوانات والحضارة (فيه فصل عن الخيل)، عياد موسى العوامي. ـ تونس ـ ليبيا 1977م.
31- الحصان العربي وخيول العالم، ترجمة وإعداد محمد غسان سبانو. ـ دمشق ـ القاهرة: دار الكتاب العربي دون تاريخ.
32- الحصان العربي الأصيل، قبلان غلوب. ـ بيروت، بدون تاريخ.
33- الخيل، عبد المنعم عبسة، دمشق، 1994م.
34- الخيول العربية، محمد الغباشي ربيع. ـ بيروت ـ دون تاريخ.
35- الخيول والجمال، أحمد غسان غادري، دار حلب ـ سوريا، 1983م.
36- غاية المراد في الخيل والجياد، رشيد بن داود السعدي. ـ السعودية: مطبعة البيان، 1314هـ.
37- المعجم الزوولوجي الحديث (فيه فصول عن الخيل)، محمد كاظم الملكي. ـ النجف ـ العراق، (1957م ـ 1969م)، الأجزاء 1- 6، وطبع مرة أخرى بعنوان (حياة الحيوان). ـ النجف ـ العراق، 1989م.
(/13)
38- معجم أسماء خيل العرب وفرسانها، لحمد الجاسر، يقع في جزأين أو قسمين، الأول: الخيل القديمة ـ السعودية، 1414هـ/ 1994م، والثاني: أصول الخيل العربية الحديثة، 1415هـ/ 1995م.
39- تاريخ العرب المطول: (فيه فصل عن الخيل): فيليب حتي، وأدورد جرجي. ـ وجبرائيل جبور. ـ بيروت، 1994م، ط 9، ص ص 47- 49.
40- الثروة الحيوانية في العراق (فيه شيء عن الخيل)، حافظ إبراهيم محمود. ـ الموصل ـ العراق، 1980م.
41- الخيل والفروسية، أنسمنجر، ترجمة نجيب توفيق غزال. ـ الموصل العراق، 1983م، جزءان.
42- كتاب الخيل وبيطرتها عند العرب (مجموعة مقالات ألقيت في ندوة بهذا المضمون)، مركز إحياء التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، 1989م.
43- منظومة في أسماء الخيل، لجعفر بن محمد الأعرجي، (المتوفى 1918م) (الذريعة إلى تصانيف الشيعة، لبزرك الطهراني، 11/ 75).
44- نظرات تحقيقيه في معجم أسماء خيل العرب وفرسانها (الخيل القديمة) عباس هاني الجراخ، مجلة لغة العرب، ج 7، 8، س 32. ـ الرياض، 1997م، ص ص 496 ـ 515.
45- الصيد (تاريخه، مصطلحاته، كتبه) (فيه عن الخيل)، صادق أنينة وند، مجلة مجمع اللغة العربية. ـ دمشق، ج 3، مج 63، 1988م، ص ص 454 ـ 494.
46- الخيل والفروسية، ناصر بن محمد السويدان. ـ الرياض، 1995م.
47- من حديث (بوركهارت) عن الخيل والإبل العربية قبل (180 عامًا)، ترجمه وقدم له عبد الله بن صالح العثيمين (وهو بحث مستل من كتاب ملاحظات عن البدو والوهابيين للرحالة (جوهان لودفيج بوركهارت) الذي زار الجزيرة العربية سنة 1230هـ. ـ السعودية، 1990م.
48- موسوعة الحصان العربي، ألكسندر ماكي سميث، ترجمة أحمد غسان سبانو. ـ لندن ـ جنيف، 1990م، في 3 أجزاء.
49- رحلة إلى بلاد العرب (مشاهداته عن الخيل في السعودية والعراق والبحرين والشام)، أحمد مبروك 1938م.
(/14)
50- دراسة حماية الخيول العربية وتثبيت مواصفاتها في بعض الدول العربية، إصدار المنظمة العربية للتنمية الزراعية. ـ الخرطوم، 1983م.
51- الخيول العربية، خالد بكر كمال. ـ السعودية، 1993م.
الجواد العربي (التحفة الكنز)، يوسف إبراهيم يزبك. ـ باريس، 1993م.
52- الحصان العربي (أجمل حيوان في عيون الإنسان)، حسني شحادة، مجلة الدوحة، ع 107، تشرين ثاني. ـ قطر 1984/، ص ص 108 – 114.
(/15)
العنوان: الخيل والفروسية
رقم المقالة: 324
صاحب المقالة: د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
-----------------------------------------
تتمتع الخيل عند العرب والمسلمين بمكانة رفيعة ولا أدل على أهميتها ومكانتها من أن الله أقسم بها بقوله: ((والعاديات ضبحاً)) وجعلها زينة المسلم بقوله: ((والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة)) وحثّ المسلمين على التقوِّي بها ضد أعدائه وأعدائهم في قوله : (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم))· كما أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم امتدحها بقوله: (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة). (أخرجه مسلم) وتعكس المؤلفات العظيمة التي يحفل بها التراث العربي والإسلامي عن الخيل وما يتعلق بها الأهمية والمكانة المذكورتين .
ولقد ظلت الخيل محل افتخار العرب وموضع اهتمامهم بها ، ومصدر عشقهم، وظل إكرامهم لها، واحتفاؤهم بها من الأمور التي لا تخفى على من قرأ أخبارهم ومن ذلك قول صفي الدين الحلّي:
إذا افتخر الأقوام يوماً بمجدهم فإنّك من قوم بهم يفخر المجد
تعوّد متن الصافنات صغيرهم حتى تساوى عنده السرج والمهد
وللخيل مسمّيات عدة أشهرها الجواد والحصان· فاسم الخيل مشتق من الخيلاء، وهي اعتزاز الجواد بنفسه لما يتمتع به من ميزات وتناسق وجمال لائق . أما الجواد فمشتق من الجود وهو البذل والعطاء لما يقدمه من الإسراع والعدو لينقذ فارسه في ساعات المحن والملمات . وأما الحصان فمشتق من الحصن وهو المكان المنيع إذ يتحصن به الفارس عند مقارعة الخصوم .
وسيظل الجواد إلى الأبد من أكرم الحيوانات وأعرقها، كما ستظل الفروسية من أجلّ مآثر العرب ومفاخرهم.
(/1)
فالفروسية رياضة عظيمة حثّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (علموا أبناءكم الرماية والسباحة وركوب الخيل)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعقد السباقات بين الخيل وكان أول سباق في الإسلام سنة ست من الهجرة حيث سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل فسبق فرس أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأخذ السبق (وهي جائزة السباق التي تمنح لصاحب الجواد السابق ) وهي مباحة شرعاً إذ أنها خلاف الرهان الذي يفوز به أحد المتراهنين فهو نوع من القمار.
ولا يزال العرب حريصين على عقد سباقات الفروسية، وهي متعة عظيمة لا تضاهيها متعة لمن مارسها وزاولها إذ تنشأ علاقة فريدة من نوعها بين الفرس والفارس يتم بموجبها التفاهم بينهما بكل ديناميكية وانسجام.
وتعد رياضة القفز على الحواجز من أمتع رياضات ركوب الخيل وأكثرها إثارة على الإطلاق، ولذلك يتطلع معظم مبتدئي ركوب الخيل إلى اليوم الذي يكون باستطاعتهم فيه أن يقفزوا بجوادهم ليجتازوا حاجزهم الأول، ومع كل ما تحمله هذه الرياضة من متعة وروح التحدي، تبقى وبدون أدنى شك على قدر من الخطورة إن لم يكن الفارس على مستوى عالٍ من الخبرة والمهارة ليتمكن من جواده بشكل جيّد.
لذا يجب أن يتمرّن على قواعد هذه اللعبة كل من يحب ركوب الخيل، وكل فارس محترف، وذلك لما تحققه من متعة وحماسة، ويشترط فيها أن يكون الفارس قد تعلم كيفية القعود على السرج بشكل صحيح، وأن يظل محافظاً على توازنه عند عدو الحصان بخطوات مرتبة فوق الأقطاب الخشبية ليصبح من السهل عندها وبخطوة بسيطة جعل الحصان يقفز فوق السياج، وبشكل طبيعي يجب أن يتعلّم الفارس كيفية تثبيت قعوده على السرج عند قفز الحصان دون فقدان توازنه، كذلك أن يتعلّم كيفية الإمساك باللجام، وبالتدريج يمكن للفارس أن يحسّن من وضعه في ذلك.
(/2)
كذلك ينبغي أن يكون دور الفارس إيجابياً وهادئاً ليمكنه متابعة وتيرة سرعة الحصان، ومع تزايد ثقة كلٍ من الحصان والفارس بنفسيهما يمكن زيادة ارتفاع السياج عن الأرض، ومع القفز المتواصل الذي يؤديه الحصان فوق عدة حواجز صغيرة سوف يبدأ الفارس برؤية مسار خطوات الحصان لاستكشاف المسافات التي تتقدم رحلته مع الحصان.
ولابد للجواد في أثناء القفزة الواحدة من أن يمرّ بأربع مراحل متوالية وهي التقدم نحو الحاجز والوصول إليه، ثمّ التحفز للقفز والإقلاع، تليها مرحلة الطيران والتعلّق بالهواء، وأخيراً مرحلة الهبوط ، وفي كل مرحلة من تلك المراحل يتبنّى الجواد موقفاً مختلفاً عن الذي سبقه، وعلى الفارس أن يكون متوازناً بشكل جيد ومسيطراً على الوضع بشكل كامل لا يشغل تفكيره أي شيء سوى جواده، وبخاصة في أثناء مرحلة تتابع القفزات. والوضع المثالي الذي يمكّن الفارس من القفز بشكلٍ جيّد يكون باتباع تعليمات وقواعد التدريب إلى حدٍ يعمل على جعل كلٍ من الفارس وجواده كتلة أو جسماً واحداً.
ولا يُنصح بمحاولة القفز مطلقاً ما لم يكن الفارس ملماً بقواعد هذه الرياضة إلماماً كاملاً ومدرباً على أيدٍ خبيرة لكي تتوفر له كل العوامل التي تمنحه الثقة ، ورباطة الجأش، مما يجعله مسيطراً كل السيطرة على الجواد الذي يقود .
ورياضات الفروسية بمختلف أنواعها وتعدد أشكالها تعود بفوائد جمّة على الفارس إذ يقتبس العديد من الصفات السلوكية الحميدة التي يتحلى بها الجواد والتي من أهمها :
(/3)
الصبر والقدرة على تحمّل المشاق، الشجاعة والحماسة والإرادة القوية، الذكاء والفطنة وحب التعلّم، الوفاء والتضحية، الولاء والمودة، الرفق والرحمة، الحيوية والنشاط والبنية الرياضية الفولاذية، الاعتزاز بالنفس، الدقة والتركيز، الهمّة العالية· وجميع هذه السجايا والخصال الحميدة من مكارم الأخلاق التي حثّنا ديننا الحنيف على التحلّي بها لننال العزة والرفعة والمنعة، ولله در أبي الطيب إذ يقول:
أعز مكان في الدُّنى سرج سابح وخير جليس في الأنام كتاب
(/4)
العنوان: الداعية. ثريا السيف "في حوار شامل"
رقم المقالة: 1095
صاحب المقالة: حوار: هيفاء الوتيد
-----------------------------------------
تخرجت في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية..
قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة عام 1417هـ
ثم منَّ الله عليها بشرف الدعوة إليه في صفوف النساء..
إنها الداعية: ثريا بنت إبراهيم بن محمد السيف
فلنبحر معها في هذا اللقاء
1/ الإجازة الصيفية معناها عند البعض إغلاق الحقائب والتأهب للسفر.. فكيف ترينها أنت؟
الإجازة الصيفية هي فسحة أو سَعة من العمر منَّ الله بها على عباده ليبتليهم أيهم أحسن عملا، فمنهم المغبون، ومنهم الرابح، وهي صفقة قلَّ من يفلح فيها، وقل من يستطيع تعويض خسارته فيها!! لأنها دقائق من أعمارنا محسوبة علينا ومكتوبة في صحائفنا!!
لا كما يظن البعض أنها إجازة من كل شيء حتى من الواجبات!! نعم لا بأس أن يرفه فيها المؤمن عن نفسه ترفيها مباحا لا يبعده عن ربه، أو يزيد رصيد سيئاته ويخفض رصيد حسناته، ولكن لا يكن هو الهم الأكبر!! فتضيع علينا تلك الأيام والليالي، بل الأشهُر من الإجازة ونحن في الوراء، وما يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله!! وربنا سبحانه يقول: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} [المدثر: 37]، فالإجازة الحقيقية والراحة الدائمة هي عند أول قدم نضعها في الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهلها.. آمين!
2/ هل من كلمة تهمسين بها في أذن كل مسافر ومسافرة
وصيتي لكل مسافر ومسافرة هي وصية الله –سبحانه وتعالى- للأولين والآخرين {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131]، ووصية الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل عندما بعثه: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
(/1)
فإن بعض المسلمين إذا سافر إلى بلاد غير بلاده ضعفت عينه وضعف قلبه عن الرقيب، وظن ألا حسيب!! وهذا هو ضعف الإيمان فيستبيح كل محظور!! وينسى عين الله التي هي أسرع إليه من عينيه، وما أبصرت وأذنيه وما سمعت، ويديه وما بطشت ورجليه وما مشت.. والله المستعان.
3/ بصفتك إحدى المحاضِرات.. كيف ترين إقبال النساء على المحاضرات في هذه الإجازة؟
إقبال النساء على المحاضرات هذه الأيام مبهج مفرح، ومثلج للصدر، ومما يبعث في النفس التفاؤلَ والسرور؛ لأن الإقبال ليس من فئة الصالحات فحسب، بل حتى ممن يبدو عليهن بعض مظاهر المعاصي أو المخالفات.. ومما جعلني أشعر بالاغتباط أنهن يسألن بعد المحاضرة عن سبل التغيير للأفضل، ومن أين يبدأن.. وما الآلية المناسبة لذلك؟؟ وهذا من بشائر الخير، والمحفزات التي تحثنا على الاستمرار والرقي بأساليب الدعوة لا سيما إلقاء المحاضرات واختيار أنفع وأجود السبل للوصول إلى تلك القلوب الطيبة التي تريد انتشالها من وحل الذنوب، ولا يتأتى ذلك كله إلا بالاستعانة بتوفيق العليم الخبير الذي هو أعلم منا بحالنا وما يصلحنا، وهو القائل سبحانه: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14]، ثم نحتاج إلى جهاد، والدعوة هي الجهاد حقيقة وربنا وعدنا إذا جاهدنا بقوله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69].
4/ في هذه الأيام تعج أسواقنا بالنساء والفتيات.. فهل هذا تضييع للوقت وتعويض عن السفر.. وبم تنصحينهن؟
(/2)
إن مما يُبهج القلبَ والعين إقبالُ النساء على دور القرآن والمناشط الدعوية الهادفة، إلا أنه عند التفات العين إلى الأسواق -أبغض الأماكن إلى الله- يصاب الإنسان بخيبة أمل وحزن عميق على أخواتنا اللاتي ضللن الطريق لا سيما إذا كان المكوث فيها لساعات طويلة ولغير حاجة!! وهذا ينذر بخطر كبير.. فالأسواق -وما أدراك ما الأسواق؟!- مرتع خصب للشياطين من الإنس والجن.. وشياطين الإنس أشد خطورة وفتكا!! وإن كان ثمة شبهة تلقيها بعض النساء والفتيات حين تقول إحداهن: أنا واثقة في نفسي أو واثقة في ابنتي وبناتي.. فأقول لهن: إن الثقة معدومة في الذئاب وليست فيك أنت، كما أننا لم نعقد صداقة مع شياطين الجن ولم تمت، والنفس أمارة بالسوء، وربي وربك الذي خلقنا يقول: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 32]، وكم من قضية ضياع بدأت من تمشية أو نزهة في السوق ناهيك إذا صحب ذلك إسهابٌ في الحديث مع الرجال، وتساهل في الستر والحشمة.. والله المستعان.
5/ الاحتفالات بالزواج اليوم.. وصلت عند البعض إلى قمم الإسراف.. فيحرص الأهل على أن يكون زواج ابنهم أو ابنتهم كالأسطورة وإن أثقلت الديون كاهلهم.. حتى وصل ببعضهن إلى أن تحضر أقزاما سبعة يتقدمون مسيرتها!!! فما رأي الأستاذة ثريا في ذلك؟
أقول في هذه الظاهرة المؤلمة: إني والله أخشى من أن ندخل في قول ربنا تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} [الإسراء: 16] أمرنا مترفيها بطاعة الله ونصره، ففسقوا فيها، وتمردوا وأسرفوا، واستحلوا المزامير والغناء والطرب، فحق عليها ووجب ما هددناهم به فاستأصلنا ومحونا آثارهم..
(/3)
وأخشى من تمردنا وأن يقع علينا قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قيل متى يارسول الله؟؟ قال: إذا ظهرت القيان والمعازف" والقيان والمعازف أصبحت ظاهرة في بعض زواجاتنا الآن بالمشاركة من بعض النساء اللاتي فقدن الرجل القيم والمرشد الذي يأخذ على أيديهن، أو يحسن القيام بالرعية التي ولاه الله إياها.. وكلٌ مسؤول، من دفع المال ومن حضر ومن استصغر تلك المعاصي وهانت عليه حين هان في قلبه تعظيم ربه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
6/ ماذا تقول ثريا السيف لكل زوجين جديدين؟؟
أقول لهما: بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير.. ولا تنسيا الهدف الأسمى الذي من أجله تزوجتما، وهو تكوين أسرة مسلمة مستقرة، وإخراج جيل يرفع راية الدين، لذا يجب عليكما إن أردتما البركة والسعادة في هذه الحياة أن تكون طاعة الله أول ما تبدؤون به حياتكما، فكوني يا زوجة المستقبل عونا لزوجك على طاعة الله وليكن هو لك كذلك، وليكن شعاركما التنازل عن كل ما يقبل التنازل عنه إلا في حدود ما حرم الله، وليكن لكما خطوط عريضة لا تتجاوزانها، فحينها أبشرا بالسعادة الحقيقية.. والتي هي امتداد للسعادة الأبدية في جنة عرضها السموات والأرض.
7/ تعددت مظاهر الزواج هذه الأيام.. فبعد المسيار ظهر المسفار وزواج أربعين ليلة.. كيف تقرئين هذه الزواجات وما سبب انتشارها؟
هذه المظاهر التي انتشرت وظهرت هذه الأيام أرى أن أهم أسباب انتشارها النظرة القاصرة لهدف واحد من أهداف الزواج، ألا وهو قضاء الوطر أو الشهوة، ولذا صار هَمّ البعض أن يتزوج امرأة يقضي معها نهمته، ثم لا يلبث حتى يستبدلها بأخرى!! وضاعت عند هؤلاء الأهداف السامية الأخرى، ومنها تكوين أسرة مستقرة، وإخراج جيل ينفع الإسلام ويعلي راية هذا الدين، والضحية في هذه المرأة المسلمة التي قبلت بمثل هذا الزواج تحت وطأة الظروف.
8/ كلمة أخيرة
(/4)
أسأل الله أن ينفع بهذه الكلمات، وأن يجزي القائمين على موقع "الألوكة" المبارك خير الجزاء، وأكثر الله من أمثالكم..
(/5)
العنوان: الدافع الديني في هجوم المرابطين على غانا
رقم المقالة: 1455
صاحب المقالة: د. سعود بن حمد الخثلان
-----------------------------------------
الدافع الديني في هجوم المرابطين على غانا
على ضوء كتابات المؤرّخين المسلمين مع الإشارة
على وَجْهِ الخُصوص لتفسير ابن خلدون للهجوم
يختص هذا البحث بناحية من تاريخ حركة المرابطِين، وفيه يحاول الباحث تأكيد مسألتين:
الأولى: أهمية الدافع الديني في هجوم فريق من المرابطِين على غانا وإسقاطها؛ حيث كان هذا الدافع هو المحرِّك الأساس لهم في مسيرتهم صوب السودان.
الثانية: أن تفسير ابن خلدون للهجوم لا يعني أن هذا المؤرخ يوجِّه اتهامًا لهؤلاء المرابطين بالعدوان والطَّمَعِ المادّي في غانا.
قبائل البربر وإمبراطورية غانا قبل حركة المرابطين:
تشير المصادر إلى أنه منذ أواخر القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) كان البربر من وقت لآخر يُنشؤون فيما بينهم ما يشبه الحِلْف، حيث تنضوي مجموعة من القبائل تحت لواء واحد، تكون السيطرة فيه للقبيلة الأقوى، إلا أنَّ هذه الأحلاف لا تلبث أن تؤول إلى الزوال نتيجة عودة القبائل المتحالفة إلى حالة التفكُّكِ والتناحُرِ فيما بَيْنَهَا[1].
وخلال القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) بدأ الإسلام ينتشر ويقوى بين قبائل البربر في الصحراء، وأخذت القبائل ذات النفوذ، خاصة في "صنهاجة ولمتونة وجدالة" في توظيف التحالف؛ لتشكيل جبهة تقوم من خلالها بِمُمارسة الجهاد ضد الوثنيين في الجهات الموالية لهم من بلاد غانا، ونتيجة لذلك؛ كانت قبائل البربر بين فترة وأخرى تفرض سيطرتها على أجزاء كبيرة من الصحراء وبلاد السودان[2].
(/1)
وفي بداية النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) تَشكَّل أحدُ هذه الأحلاف القوية، وكانت الرئاسة فيه لقبيلة "لمتونة"؛ حيث نصَّب البربر عليهم "تين يروتان" اللمتونى مَلِكًا[3]، وقد بَلَغ هذا المَلكُ من خلال الحلف مِن السلطان والنفوذ مَبلغًا عظيمًا، إذ وصفتْه المصادر بأنه كان يسيرُ في بعض حملاته في مائة ألف جمل، وأن سلطانه كان يمتد مسيرةَ شهرين في مثلها. وكان جزء مِن هذه المنطقة داخل بلاد السودان حيث خضع له أكثرُ مِن عشرين حاكمًا مِن حُكَّامها وأدَّوْا له الجزية[4].
ويسعفنا ابن حَوْقَل (ت 367 هـ / 1977م) بشيء من التفصيل عن الحِلْف في النص التالي، والذي نقله عن شاهد عيان: "وكان مَلك "صنهاجة" يلي أمْرهم منذ عشرين سنة، وأنه لا يزال في كل سنة يَرِد عليه قوم منهم زائرين له، لم يعرفهم ولا سمع بهم ولا مَقَلهم، قال[5]: ويكونون نحو ثلاثمائة ألف بيت من بين نوالة وخص"[6].
وبعد انحلال هذا الحلف نتيجة الخلاف بين قبائل صنهاجة دبت الفُرْقة بينها من جديد، ودام ذلك عدة عقود إلى أن قامت قبيلة لمتونة مرة أخرى في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) بلمِّ شمْل القبائل تحت زعامة أحد رجالاتها الأمير محمد بن تيفاوت المعروف "بتارشتا". وقد مَثَّل ذلك آخرَ تجمُّع لقبائل صنهاجة قبل قيام حركة المرابطين[7].
(/2)
لم يستمر هذا التجمع طويلاً؛ إذ يُفهم من المصادر أنه لم يَعُد له كبير فعالية بعد استشهاد "تارشتا"؛ حيث انحصر الأمر في لمتونة وجدالة. ويبدو أنه لما اختير الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي ليخلف "تارشتا" في زعامة صنهاجة انصرف الاهتمام إلى ما يمكن أن نسميه بالأوضاع الداخلية لهذه القبائل، فقد ذهب هذا الأمير في رحلة طويلة إلى الحج دامت حوالي ثلاث سنوات، واصطحب معه فيها نخبةً مِن رؤساء العشائر مِن قومه. وأثناء وجوده في بلاد المغرب تردد على مجالس العِلم، الأمر الذي دعاه إلى إعادة النظر في أحوال قومه الدينية والاجتماعية المتردية[8]، كما سيشار إليه في فِقْرات تالية.
ويبدو أنه كان لتفكُّكِ هذا الحِلْف الأخير أثرُه في إضعاف موقف قبائل البربر في منطقة جنوب الصحراء، الذي أثَّر بالتالي على ميزان القوى بين هذه القبائل وإمبراطورية غانا؛ مما شجَّعَ هذه الأخيرةَ للإسراع في بَسْط نفوذها على مدينة أودغست[9] في أواخر العَقد الثالث من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) [10].
(/3)
وبالرَّغْمِ مِمَّا اتَّسَمَتْ به الرواياتُ التي تحدثتْ عن تَجَمُّعات البَرْبَرِ من مبالغة، كَتِلْكَ التي وصفت جيش "تين يروتان" والمناطق التي شملها نُفُوذُه، إلا أنَّنا نَجِدُ فيها ما يُظهر مدى القوة التي بلغتْها قبائلُ البَرْبَرِ في تلك الفترات. وممَّا يؤيد ذلك أن إمبراطورية غانا مع عِظمها لم تستطع الصمود أمام هَجَمَاتِ القَبَائِلِ المُتَحالِفَةِ على أقاليمها الشماليَّة، وَقَدِ اضْطُرَّ كثيرٌ من حُكَّام هذه الأقاليم إلى دَفْعِ الجِزْيَةِ إلى "تين يروتان". ليس ذلك فَحَسْب بل إن هذا الملك لم يتردد في التدخل في نزاع بين إقليمين من أقاليم غانا وهما "أوغام" و"ماسين" حيث قام بمساعدة حاكم هذا الإقليم الأخير ضد أوغام وذلك بإمداده بعدد كبير من الجمال[11]. أما "تارشتا" زعيم صنهاجة في الحلف الأخير، فقد كان من الشجاعة والحماس لنشر الإسلام في بلاد السودان إلى درجة أنه استُشهد في إحدى المعارك التي خاضها ضد الوثنيين على أرض إمبراطورية غانا في موضع يقال له "فنفار" وذلك بعد ثلاث سنوات من قيام الحلف[12].
ومما يدل أيضًا على قوة قبائل البربر في تلك الفترات أن إمبراطورية غانا لم تجرؤ على القيام بأية محاولة لمدِّ نفوذها على مدينة أودغست، المركز التجاري المهم على حدودها الشمالية، إلا بعد أن تراجعت سطوة هذه القبائل إثر تفكُّك حلفهم الأخير، كما سبقت الإشارة إليه. أما قبل ذلك فقد اتخذ البربر مدينةَ أودغست مركزَ تجمع لهم مؤكدين بذلك سيطرتهم عليها[13].
ولما كانت إمبراطورية غانا مضطرَّةً للتعامل مع أودغست وذلك لحاجتها الماسة للمِلْح القادم منَ الشمال عن طريق هذا المركز؛ فإن إمبراطور غانا وكثيرًا مِن حكام أقاليمها كانوا يَخْطُبونَ وُدَّ مَلِكِ البَرْبَرِ في أودغست فَيُرْسِلونَ إِلَيْهِ في بعض المناسبات الهدايا الثمينة[14].
المرابطون:
(/4)
ولكنَّ الذي يلاحظ أنَّ الجهادَ الذي قام به البَرْبَرُ في بلاد غانا مِنْ خِلالِ أَحْلافِهِمْ تِلْكَ لم يُؤتِ نتائجَ حاسمة ولم يتمخَّضْ عنه تغيير جذْري في وضع المنطقة. وقد يعود ذلك إلى الوضع الهشّ لكيان تلك الأحلاف؛ إذ كانت لا تدوم طويلاً، كما سَبَقَتِ الإِشارَةُ إليه، فكانت عُرضةً لأَيِّ خلاف بين القبائل يؤدّي إلى انهيارها. وكان لطبيعة فَهْم هذه القبائل للإسلام في تلك الفترات أثرٌ في ضَعْفِ تحالُفِها، فلم يكن أفراد تلك القبائل يفهمون الإسلام الفَهْم الكافيَ حتَّى إنَّ بَعْضَ الكُتَّاب وصفهم بأنَّهم قبل قيام حركة المرابطين لم يكونوا يفهمون من الإسلام إلا الشهادتين[15]. ومما يؤيد ذلك أنَّ الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي أثناء حضوره بعض مجالس العلم في بلاد المغرب أدرك ما كان عليه قومه من جهل لتعاليم الإسلام، ولمَّا سأله الفقيه أبو عمران الفاسي عن حالة قومه وما ينتحلونه من مذهب في الإسلام كانت إجابته صريحة؛ حيث وصف قومه بأنهم أناسٌ غَلَبَ عليهم الجهل وليس عندهم من العلم عن الإسلام شيءٌ، وليس فيهم مَن يقرأ القرآن[16]. فكان لذلك بلا شك آثاره السلبية على تحالفاتهم وبالتالي على جهادهم في السودان.
والمصادر تُجمِع على أن الأمير يحيى بن إبراهيم من هذا المنطلق رأى أنه لابد من البَدْء بإصلاح حالة قومه الدينية، فتقدم بطلب المساعدة مِن الفقهاء في بلاد المغرب وكانت النتيجة أنه رجع إلى قومه في الصحراء سنة 440هـ (1048م)، ومعه الفقيه عبدالله بن ياسين[17].
(/5)
وعلى يد هذا الفقيه وأيدي الأمراء مِن صنهاجة قامت حركة المرابطين في بضع سنين وهي الحركة التي ترتَّب على جهاد فريق مِن أتباعها في منطقة جنوب الصحراء انهيارُ إمبراطورية غانا الوثنية، هذا الانهيار الذي يُعَدُّ في الحقيقة أهمَّ حَدثٍ في تاريخ المنطقة منذ بدأ البربر صراعهم مع الإمبراطورية؛ لما ترتب عليه من تحوُّلٍ للسلطة فيها إلى الإسلام وما أعقبه من تدعيم الإسلام في المنطقة حتى إن بعض الكُتَّاب رأى أن لسنة 469هـ (1076م) - وهو تاريخ سقوط غانا الوثنية على أيدي المرابطين - من الأهمية بالنسبة للسودان الغربي ما لسنة 1066م (459هـ) من الأهمية بالنسبة لإنجلترا، وهي السنة التي فتح فيها النورمان هذا البلد[18].
المرابطون في المغرب والمرابطون في الصحراء:
ليس من اختصاص هذا البحث التفصيلُ في كيفية قيام حركة المرابطين، إلا أنه لابد لنا هنا من الإشارة بإيجاز شديد إلى تطور أهم الأحداث في عهد الأمير أبي بكر بن عمر، فبعد وفاة عبدالله بن ياسين إمام المرابطين سنة 451هـ (1059م) تولَّى هذا الأمير جميع المهام في قيادة المرابطين جامِعًا بذلك بين الإمامة والإمارة. ومع مرور الوقت أصبح ابن عمه يوسف بن تاشفين ساعِدَهُ الأيمن[19].
ولما ترامت إلى مسامع الأمير أبي بكر بن عمر أخبارُ النزاع بين قبائل البربر في الصحراء سار مِن تَوِّه بجُزْءٍ مِنَ الجَيْشِ إلى الصحراء، وهناك استطاع أن يحسم الخلاف وأن يقطع دابر الفتنة. وقد أخذ منه إنجازُ هَذِهِ المهمة بعضَ الوقت. وعندما عاد إلى المغرب وجد يوسف بن تاشفين قد رتَّب شؤون الدولة واستقرت له الأوضاع، فتنازل الأميرُ أبو بكر بن عمر لابن عمه عن السلطة في المغرب في أول لقاء بينهما، وقرر أن يعود مع فريق من المرابطين في الصحراء وحَمَلَ لواء الجهاد في بلاد السودان[20].
(/6)
وَقَبْلَ البَدْء في الحديث عن أهداف الهجوم على غانا نرى من الضَّرُورِيِّ الإشارةُ إلى ناحية مُهِمَّةٍ وَهِيَ أَنَّ هَذَا الفَرِيقَ من المرابطين الذي عاد إلى الصحراء وحَمَلَ لِواءَ الجهاد ضِدَّ غانا، وَالمُرابطين الذين بَقُوا في المغرب، ظَلُّوا معًا طيلة أيام أبي بكر بن عمر ويوسف بن تاشفين، يمثلون حركة المرابطين التي نشأت في الصحراء، في مبادئها وجهادها بدون تغيير. وما يذكره بعضهم منِ انقسامٍ في حركة المرابطين واستقلال فريق بالمغرب وبقاء فريق آخر في الصحراء[21] لا يعطي الصورة الحقيقة لواقع المرابطين عندما تولى يوسف بن تاشفين الأمور بالمغرب وانصرف أبو بكر بن عمر ليدير شؤون الحركة في الصحراء والسودان[22]، إذ إن ذلك لم يؤدِّ إلى انفصال الفريقين عن بعضهما أو انقطاع الاتصال بينهما، فابن عذارى، على سبيل المثال، في حديثه عن مراسيم وداع يوسف بن تاشفين لأبي بكر، قال ما نصه: ".. فدعا له الأمير يوسف وشكر وقال له: لَكَ عليَّ ألا أقطع أمرًا دونك، ولا أستأثر إن شاء الله، بشيء عليك"[23]. وقُبيل تحرك أبي بكر بن عمر من مدينة "أغمات" متجهًا إلى الصحراء أرسل إليه يوسف بهدية عظيمة فسُرَّ بها أبو بكر وقال: "خَيْرٌ كثيرٌ، وَلَمْ يَخْرُجِ المُلْك من بَيْنِنا ولا زال عَنْ أيدينا"[24]. ويذكر ابن عذارى أيضًا أن يوسف بن تاشفين ظل يُمِد أبا بكر بن عمر بالتحف والهدايا حتى تُوفي هذا الأخير في جهاده ضد السودان[25]. كما أن يوسف بن تاشفين بدأ ضرب دينار الذهب المرابطي في سنة 464هـ (1071م) باسم أبي بكر بن عمر[26] وقد استمر ظهور اسمه على الدينار المرابطي حتى وفاته سنة 480هـ (1087م)[27].
(/7)
فما حصل من تقسيم لم يكن إذًا في كيان المرابطين بصفتهم حركة أو دولة، وإنما كان في الإدارة، خاصة وقد عَظُمت الدولة وأصبح أمامَها أرجاءٌ واسعة تتطلب جهادًا وفتحًا وبالتالي إدارة فتَوَجَّبَ لذلك أن يكون للمغرب جندُها وإدارتُها وللصحراء جندُها وإدارتُها[28]؛ ليعمل كُلُّ فريقٍ في جِهَتِهِ ويحقق تطلُّعاتِ المرابطين وأهدافَهم من الجهاد.
أهداف الهجوم على غانا:
إن من الواضح أن المصارد لم تعط اهتمامًا يُذْكر لجهاد المرابطين في السودان؛[29] لذا فليس من المتوقع أن يوجد فيها حديثٌ مفصَّل عن هذا الهدف أو ذاك من زحف أبي بكر بن عمر ومَن معه مِن المرابطين على غانا. ولهذا السبب، وأخْذًا في الحسبان باستمرارية حركة المرابطين ممثَّلةً في فريقَيْها كلٌّ في منطقته، كما تبيَّن في الأسطر السابقة، فإنه لابد لنا من الاتجاه إلى جوانب من تاريخ هذه الحركة، والمبادئ التي قامت عليها، وتطور جهاد أفرادها في الصحراء والمغرب، لكي نتلمس ونحدد الهدف من هجوم هذا الفريق من المرابطين على غانا، فقد جاء ضمن هذه الجوانب من الدَّلالات ما يكفي للقول بأن الهدف كان لإزاحة السلطة الوثنية وإبدال سلطة إسلامية بها؛[30] تدعيمًا وتعميقًا لوجود الإسلام الذي وصل إلى المنطقة عن طريق التجار المسلمين وصار له أتباعٌ في غانا منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)[31].
وإنَّ من هذه الدَّلالات الإشارةَ إلى ما كان للظروف الدينية والاجتماعية التي كانت سائدة في بلاد المغرب والصحراء مِن أثر في قيام حركة المرابطين، فالبكري أورد تفصيلات عن موجة التنبؤ والشعوذة التي عمَّت جزءًا كبيرًا من بلاد المغرب الأقصى في الفترة التي قامت فيها حركة المرابطين[32]، وقد عبَّر ابن أبي دينار عن هذه الحالة السيئة بقوله: "وقام بالمغرب عدة أقوام مِن المفسدين وقليل من المصلحين، فقيَّض الله سبحانه وتعالى دولة الملثَّمين البربر ويقال لهم المرابطين .." [33].
(/8)
ونجد فيما أورده ابن أبي زرع عن "درعة وسجلماسة" مثالاً للحالة التي وصلت إليها بعضُ المناطق في المغرب، فقد أشار إلى اتصال أهالي هاتين المدينتين بالمرابطين؛ طلبًا للخلاص مما تعانيه بلادهم من المنكرات وشدة العَسْف والجَوْر"[34]. وشبَّه ابن عذارى حالة الفوضى التي كانت تعيشها بلاد المغرب في تلك الفترة بالحالة التي كان عليها ملوك الطوائف بالأندلس[35]. أمَّا القبائل في الصحراء فإنها لم تكن تعرف من الإسلام في تلك الفترة إلا الشهادتين كما سبقت الإشارة إليه.
ومن هذه الدَّلالات أيضًا ما حظيت به الحركة وقادتها من ثناء بالغ في المصادر، وربط ذلك بما قدمه أولئك القادةُ من جهود لردِّ الناس إلى السُّنَّة، وقمْع الفِرَق والفئات المنحرفة في المغرب، وحمل لواء الجهاد في الصحراء والسودان، فعبدالله بن ياسين، قائد الحركة والمؤسس الأول لها، أصيب على أرض المعركة وتُوفي أثناء الجهاد في بلاد المغرب،[36] ويحيى بن عمر، الذي كان رجل المرابطين الثاني في حياة عبدالله بن ياسين، استُشهد أثناء الجهاد ضد الوثنيين على تخوم السودان. وأبو بكر بن عمر، الذي أصبح الرجل الأول في الحركة بعد استشهاد ابن ياسين، تُوفي هو الآخر على أرض المعركة في الجهاد ضد الوثنيين في بلاد غانا[37].
يقول البكري عن قبائل صنهاجة: "وهذه القبائل هي التي قامت بعد الأربعين والأربعمائة بدعوة الحق، وردِّ المظالم، وقطْع جميع المغارم"[38].
ويشير ابن أبي زرع إلى أنه بالرَّغم من غلبة البداوة على المرابطين إلا أنهم كانوا أهل دِين مَتِين عدَلوا في أحكامهم وواظبوا على الجهاد[39].
(/9)
ويُعدِّد ابن أبي زرع أيضًا منجزاتِ عبدالله بن ياسين في "سجلماسة" بعد فتحها، فيقول: ".. وأصلح أحوالها وغيَّر ما وجد بها من المنكرات، وقَطَع المزامير وأحرق الديار[40] التي كانت تباع بها الخمر، وأزال المكوس وأسقط المغارم المخزنية"[41]، ويقول متحدثًا عن الأمير أبي بكر بن عمر: "وسار إلى الصحراء فهدنها وسكَّن أحوالها[42].
فالمصارد إذًا تعيد قيام حركة المرابطين إلى ظروف دينية واضحة المعالم في كلٍّ من المغرب والصحراء؛ دفعت بالمنشئين الأول لهذه الحركة للسعي حثيثًا للإصلاح الديني؛ فدخلوا في جهاد على نطاق واسع في هاتين المنطقتين، ففي بلاد المغرب جاهدوا فئة "البرغواطيين"[43] المنحرفة، وقضوا على الشيعة والوثنيين، ودخلوا في حرب مع اليهود هناك[44]. وفي الصحراء جاهدوا كل قبائل البربر التي وقفت ضد دعوة الإصلاح والعودة إلى الإسلام الصحيح[45]. ولما كان ذلك الجيش الذي هاجم غانا كان جزءًا من تلك الحركة؛ فليس من المستغرب أن يُنظر إلى زحفه على غانا على أنه كان بدافع ديني في المقام الأول؛ رغبةً في الجهاد في سبيل الله، خاصة إذا علِمنا أن أبا بكر بن عمر، قائد هذا الجيش، لم يأتِ من فراغ ولم يكن رجلاً مغمورًا، بل كان أحد قادة الجهاد في المغرب والصحراء، فهو الذي قدَّمه عبدالله بن ياسين، مؤسس الحركة للإمارة على المرابطين، وأثنى عليه في إحدى المناسبات، فذكر زهده وورعه وما أصلح الله على يديه من البلاد[*].
(/10)
وقد تناقلت المصادر مواقفَ عظيمة للأمير أبي بكر بن عمر، أبرزُها تنازلُه عن السلطة لابن عمه يوسف بن تاشفين، الأمر الذي يؤكد صدق نياته في الجهاد، وزهده في المكاسب الدنيويَّة[46]. وقد اشتهر الأمير أبي بكر بن عمر بين السودانيين بهذه الصفات؛ فمال إليه الناس، ولا أدل على ذلك مِن أن القبائل السودانية المسلمة ثارت ثائرتها عندما قُتِل، وقامت تطالب بالأخذ بالثأر مِن قاتِله[47]. ليس ذلك فحسْب بل كان لسيرته صداها في التراث الشعبي في المنطقة؛ حيث رويت قصة تُظهر ورعه وتقواه[48].
وإن مما يدعم القول بأهمية الدافع الديني في هجوم أبي بكر بن عمر وجيشه على غانا ما ورد في المصادر من إشارات صريحة إلى عملية الجهاد. يقول ابن أبي زرع عن الأمير أبي بكر بن عمر: "وجمَع جيوشًا كثيرة، وخرج إلى غزو بلاد السودان، فجاهدهم"[49]. وفي موضع آخر يشير ابن أبي زرع إلى جهاد هذا الأمير لكفار السودان واستشهاده هناك، فيقول: "وانصرف إلى الصحراء، فأقام بها مدة يجاهد الكفرة من السودان إلى أن استُشهد - رحمه الله - في بعض غزواته"[50]. وأشار ابن عذارى أيضًا إلى وفاة أبي بكر بن عمر وهو يحارب السودان المجاورين "للمتونة" في الصحراء[51]. وذكر الزهري في حديثه عن غانا أن أهلها تحولوا إلى الإسلام، وحَسُن إسلامهم عندما خرج إليهم أبو بكر بن عمر اللمتوني[52]. وتحدث ابن خلدون عن مآثر أبي بكر بن عمر فذكر ضمن ذلك أنه فتح بابًا من جهاد السودان، واستولى على نحو تسعين مرحلة من بلادهم[53].
(/11)
وإن مما يدعمه أيضًا أن إسقاط السلطة الوثنية في إمبراطورية غانا لم يكن مجرد إنجاز محدود، أو حَدثٍ عابر، بل كان من الأهمية البالغة بمكان لما نتج عنه من آثار مهمة. والتفصيل في هذا الجانب يَخرُج عن نطاق البحث الذي بين أيدينا[54]، إلا أنه بالإمكان القولُ بإيجاز إن المرابطين بإنجازهم هذا أعطوا الإسلام في المنطقة دَفعةً قوية تركت فيها أثارًا عميقة[55]، الأمر الذي ترتب عليه حدثان هامان في تاريخ المنطقة: الأول: ازدياد انتشار الإسلام في هذه المنطقة على أيدي السودانيين أنفسهم من السوننك[56] والتكرور وغيرهم، والثاني: ظهور عدد من الممالك الإسلامية التي كان لبعضها أثرٌ واضح في تاريخ إفريقيا الغربية[57]. ولم يكن ذلك ليتحقق من مجرد أهداف عابرة ونيات غير جادة.
الأهداف الأخرى:
لقد حاولنا في الفِقْرات السابقة التأكيدَ على الجهاد على أنه هدف ديني، اندفع أبو بكر بن عمر بجيشه من أجله لتقويض السلطة الوثنية في إمبراطورية غانا إلا أن ذلك لا يعني إنكار وجود الهدف الاقتصادي لدى المرابطين، وأثره في إنجاح مهمة هذا الجيش في بلاد غانا.
(/12)
لقد استلزم الهدف الاقتصادي، بطبيعة الحال، السرعة في السيطرة على الطرق والمراكز التجارية المهمة في شمال الصحراء وعلى تخوم السودان، وهذا ما فعله المرابطون، فقد اتجهوا للسيطرة على مدينتي "سجلماسة وأودغست" في السنوات الأولى من قيام الحركة حيث استولوا على "أودغست" في نفس السنة التي أخضعوا فيها مدينة "سجلماسة" وهي سنة 446هـ (1054م) [58]. وكان ذلك كله على يد عبدالله بن ياسين الزعيم الأول للحركة. وبذلك هيَّأ المرابطون لأنفسهم التحكمَ في أهم طريق تجاري ربط بلاد المغرب بالسودان الغربي في ذلك الوقت، فمدينة "أودغست" كانت تمثل النهاية الجنوبية لهذا الطريق، وبوابة "التبر" حيث يخرج منها في طريقه إلى الشمال، "وسجلماسة" كانت تمثل نهايته الشمالية والبوابة المستقبلة "للتبر" وتجارة السودان الأخرى[59].
(/13)
ولعل المرابطين قصدوا من ذلك الطموح الاقتصادي تأمينَ وسائل القوة المادية والمعنوية للحركة ليتسنى لها القيام بالجهاد، وهو الهدف الأهم، من مركز قوة كافية، إذ إن من المُلاحَظ أن ما قام به المرابطون من أعمال فيما يخص الناحية الاقتصادية لم يرتبط بمكاسب إقليمية أو قَبَلِيَّة بحتة. ولا أدل على ذلك من تلك الخدمات الجليلة التي قدمها المرابطون لتجارة المنطقة بأسرها[60]، فقد قاموا بخطوات عملية مهمة في مصلحة تجارة المنطقة التي سيطروا عليها، معطين بذلك دعمًا قويًا للتبادل التجاري بين بلاد المغرب والسودان الغربي. ومن هذه الخطوات إسقاطُ كل ما يخالف السُّنَّة من مكوس وضرائبَ مالية. فقد ذكر ابن أبي زرع في حديث عن سيرة المرابطين في حُكْمهم من سنة 462هـ إلى 540هـ (1069م – 1145م) في المناطق التي امتد سلطانهم إليها، بما فيها بلاد غانا، أنه لم يكن فيها رسم مكس ولا وظيفة من الوظائف المخزنية ما عدا الزكاةَ والعشر حسب ما أقره الشرع[61]. ومنها أيضًا اهتمامهمُ بأمن الطرق وسلامة القوافل وذلك بالأخذ على أيدي قطاع الطرق واللصوص، يقول ابن أبي زرع: "ولم يكن في أيامهم نفاق[62] ولا قطاع ولا مَن يقوم عليهم"[63]. وقد أشار ابن خلدون إلى ناحية من ذلك عندما أثنى على يوسف بن تاشفين لمَا قام به من أعمال عظيمة، وخص بالذكر اهتمامَه بأمن الرعايا من جور واستبداد بعض الفئات والقبائل[64].
(/14)
ومن هذه الخطوات أيضًا عَمَلُ المرابطين على تحسين عَلاقات القبائل بعضها مع بعض وذلك بحَلِّ ما بينها من خلافات ونزاعات. ويشير ابن عذارى، على سبيل المثال، إلى جهود عبدالله بن ياسين في ذلك فيذكر أن ابن ياسين عَمِل كل ما في وسعه لإخماد الفتن التي ثارت بين قبائل "المصامدة" وقبائل بلاد "تامسنا" سنة 450هـ (1058م) حيث سار من "سجلماسة" وطاف بمواطن هذه القبائل واجتمع برجالاتها ووعظهم، ولم يغادر حتى أخذ عليهم العهودَ والمواثيق بالسمع والطاعة للأمير أبي بكر بن عمر، وكان مما قاله لهم في إحدى خطبه: "ألا تعرفون أنه مَن مات منكم في هذه الحروب الجاهلية؛ فإنه مِن أهل النار"[65]. ولا ننسى أيضًا عودة أبي بكر بن عمر إلى الصحراء على عَجَلٍ عندما جاءه الخبر بأن "جدالة" أغارت على فئات مِن "لمتونة" هناك[66].
(/15)
وقد كان لهذه الخطوات الأثرُ الكبير في تشجيع الناس على الإقبال على التجارة، والتوسع فيها؛ الأمر الذي ساعد في تنشيط الحركة التجارية، وانخفاض الأسعار وظهور فترة من الأمن الاقتصادي، والرخاء في المراكز التجارية التي كانت تُشرف على التجارة عبْر الصحراء[67]. وإن مما يؤكد ذلك ازديادَ رواج التبادل التجاري بين بلاد المغرب والسودان الغربي في مختلف أنواع السلع، فالإدريسي (ت 560هـ / 1165م)، على سبيل المثال، وصف أهل مدينة "أغمات" فقال: "وهم أملياء (هكذا في النص) [68] تجار مياسير يدخلون إلى بلاد السودان بأعداد الجمال الحاملة لقناطير الأموال من النُّحاس الأحمر الملون، والأكسية وثياب الصوف والعمائم والمآزر، وصنوف النظم من الزجاج والأصداف والأحجار، وضروب من الأفاويه والعطر وآلات الحديد المصنوع. وما منهم مِن رجل يسفر عبيده ورجاله إلا وله في قوافلهم المائةُ جمل والسبعون والثمانون جملاً، كلها مُوقَرَةٌ، ولم يكن في دولة الملثَّمِينَ أَحَدٌ أكثر منهم أموالاً ..." [69]. وإن مما يؤكده أيضًا ما صار يتدفق على مراكز المغرب التجارية مِن ذهبِ السودان، ومن هذه المراكز المهمة مدينةُ "سجلماسة" التي أصبحت مقر سكِّ العملة المرابطية[70].
ويصف ابن أبي زرع ما يمكن أن نسميَه بالأوضاع الاقتصادية في عهد المرابطين، فيقول هذا المؤرخ: "وكانت أيامهم (أي المرابطين) أيام دعة ورفاهية ورخاء متصل وعافية وأمن، تناهى القمح في أيامهم إلى أن بِيعَ أربعةُ أَوْسُق بنصف مثقال، والثمارُ ثمانية أَوْسُق بنصف مثقال، والقطاني[71] لا تباع ولا تشترى" إلى أن قال "وكثرت الخيرات في دولتهم وعمرت البلاد"[72]. فهذا النص، وإن كان فيه شيءٌ من المبالغة[73]، كما أشار إلى ذلك الأستاذ الجنحاني[74]، إلا أنه يُظهر بشكل واضح ما كان للمرابطين من مآثرَ وإيجابيات على الناحية الاقتصادية في المنطقة.
(/16)
مما سبق يتضح أن ما تهيأ للمرابطين من مصالح اقتصادية من جرَّاء جهادهم وإصلاحاتهم في الصحراء وعلى تخوم السودان جعل أبا بكر بن عمر وجيشَه ينطلقون إلى غانا مِن مركز قوة مما يؤكد أن الناحية المادية لم تكن هي المطلب من الهجوم على تلك الإمبراطورية.
وبالرَّغم من وضوح موقف المرابطين في هذه الناحية إلا أن هناك مِن الكُتَّاب الغربيين مَن ينفي الدافع الديني من الحروب التي قام بها أبو بكر بن عمر وجيشه في بلاد غانا[75]. ومنهم مَن لا ينكر الدافع الديني إلا أنه يؤكد على السلب والنهب كهدف من أهداف هجومهم على غانا[76].
تفسير ابن خلدون للهجوم:
لقد كان ابن خلدون ضمن الكُتَّاب المسلمين الذين كتبوا عن المرابطين وعن الممالك الإسلامية في السودان بما فيها مملكة غانا. وهو يَنقُل عن مصادرَ مثل الإدريسي وابن سعيد بن أبي زرع، كما هو واضح من إشاراته لمصادره. وهذه المصادر وإن سبقت ابن خلدون في الترتيب الزمني إلا أنها جميعها ليست بالطبع مصادرَ معاصرةً لأحداث الفتح. وقد انفرد ابن خلدون مِن بَيْن هذه المصادرِ وغيرها بإيراد نص قصير يصف فيه بعض أحداث هجوم المرابطين على غانا. يقول ابن خلدون في ذلك: "ثم إن أهل غانية ضَعُف مُلكهم، وتلاشى أمرُهم واستفحل أمْر الملثَّمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي البربر كما ذكرناه وعبَروا على السودان، واستباحوا حِماهم وبلادهم، واقتَضَوْا منهم الإتاوات والجِزَى، وحَمَلُوا كثيرًا منهم على الإسلام فدانوا به"[77].
وبصرف النظر عن قِصَر النص، وعن بُعْدِ ابن خلدون الزماني والمكاني عن الأحداث إلا أننا نرى أنَّ للنص أهميةً تجعله جديرًا بالدراسة، وذلك لسببين:
الأول: عَلاقة النص المباشرة بجهاد المرابطين في غانا، وبالتالي هدفهم من الهجوم عليها، وهو موضوع البحث الذي بين أيدينا.
(/17)
الثاني: كون عبارات النص تُدِين في ظاهرها المرابطين؛ حيث تُظهِر الهجوم وكأنه مجرد عدوان على غانا، وطمع مادي فيها.
لذلك فإن المرء لا يملك إلا أن يتساءل هل قصد ابن خلدون هذا المعنى؟ وهل تحدث ابن خلدون عن المرابطين في مواضع أخرى بما يؤيد ذلك؟ وهل ما ذكره في هذه المواضع ينسجم مع ما ورد من إشارات عن المرابطين في المصادر الأخرى؟
وإن مناقشة النص السابق من خلال محاولة الإجابة على هذه التساؤلات ستُعِين في استجلاء المعنى المراد من عباراته، وتدعم في نفس الوقت ما سبق وقيل عن الهدف الرئيس من هجوم المرابطين على غانا.
(/18)
فكقول ابن خلدون: "واستباحوا حماهم وبلادهم" يجب أن يُفهَم ضمن إطار ما كان المسلمون يتخذونه من خطوات قبل القيام بعملية الجهاد. والتفصيل في هذه الناحية يَخرُج بالطبع عن نطاق هذا البحث، إلا أننا نرى أنه من المفيد أن نشير هنا إلى الأمور الثلاثة التي كان يَعرِضها المسلمون على الجانب الأخر قبل الشروع في الحرب؛ حيث كان ذلك سُنَّةً في الإسلام، ففي الحديث الذي رواه "مسلم" في صحيحه ذُكرت الوصايا التي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُوصِي بها مَن كان يؤمِّرهم على الجيوش، ومِن ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام-: ((وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ..)) وذَكَر النبي - عليه الصلاة والسلام - الإسلامَ ثم الجزية ثم الحرب[78]. ولما كان هدفُ المرابطين الأساسُ مِن حركتهم كان ردَّ الناس إلى الإسلام الصحيح، والعمل على نشر الإسلام، كما تبيَّن سابقًا؛ لذا فقد حَرَصوا على تطبيق السُّنَّة في عملية الجهاد، وقد ساروا في ذلك على مذهب الإمام مالك، فالبكري، وهو ممن عاصر قيام الحركة، يقول عن المرابطين: "وهم على السُّنَّة متمسكون بمذهب الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه -. وكان الذي نهج ذلك فيهم ودعا الناس إلى الرباط ودعوة الحق عبدُالله بن ياسين"[79] ويذكر ابن عذارى، في حديثه عن جهاد المرابطين في السنوات الأولى من قيام الحركة، أنه رأى كتابًا قديمًا كان قد بعث به الفقيه عبدالله بن ياسين إلى أهل الجبل الموالي لبلاد "لمتونة" يدعوهم للدخول في الإسلام وشريعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد كان أولئك القوم مشركين حسب ما ذكره ابن عذارى. [80] ويؤيد ذلك ما ذكره ابن أبي زرع في "الأنيس المطرب"، وهو أحد المصادر التي اعتمد عليها ابن خلدون، من أن ابن ياسين خطب في أتْباعه عند أول خروج لهم
(/19)
وبَيَّن أن عليهم أن يبدؤوا بالإنذار والدعوة وإبلاغ الحُجَّة قبل الشروع في الجهاد والدخول في الحرب[81].
وطبَّق المرابطون مبدأ التبليغ قبل الحرب كذلك مع البرغواطيين الذين عُدُّوا أهل كفر وضلال حسب ما أشارت إليه المصادر[82].
ولم يكتفِ المرابطون بتطبيق مبدأ الدعوة قبل الحرب في بلاد المغرب فقط، بل أخذوا به في الأندلس، فمِن ذلك أن يوسف بن تاشفين أرسل إلى "ألفونسو" يدعوه للدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو الحرب وذلك قبل معركة الزلاقة، التي حدثت سنة 479هـ / 1086م[83].
وعلى هذا الأساس فإن المرابطين لابد أن يكونوا قد ساروا في جهادهم ضد إمبراطورية غانا الوثنية حسَب السُّنَّة؛ إذ لا يوجد في المصادر ما يشير إلى أن المرابطين طبَّقوا أُسلوبًا آخرَ في جهادهم لهذه الإمبراطورية، فهُمْ يعلمون أنها تُمثِّل أمة كافرة. وإذا كان أسلافهم قد حملوا لواء الجهاد في السودان من قبلُ، فمِن البدهي أن يسير فيه المرابطون على الوجه المطلوب، وهم الذين نادوا بحركة التصحيح بعد أن ابتعدت قبائلهم عن الإسلام وتفرقت كلمتهم. وإذا كان الأمر كذلك فأبو بكر بن عمر إذًا لم يدخل بجيشه بلاد غانا وحِماها إلا بعد أن وجبت الحرب؛ فاستحل السيطرة عليها للقضاء على السلطة الوثنية، وإخضاع البلاد لحُكْم المسلمين، كما سبقت الإشارة إليه.
(/20)
يذكر ابن خلدون في إشارته إلى الناحية المالية بعد فتح المرابطين لغانا، الإتاوات والجزية وذلك في قوله: "واقتضوا منهم الإتاوات والجزى". وقد يعود تفسير ذلك إلى احتمالين: الأول: أنه أورد إتاوات (جمع إتاوة) [84] كمرادف لكلمة جزى (جمع جزية) [85]، الثاني: أنه أراد التفصيل فقصد بالإتاوة ضريبة الأرض كالخراج، وبالجزية ضريبة الرأس كما ورد في كُتُب الأحكام[86]. وابن خلدون لم يكن بالطبع شاهِدَ عِيان، ولكن ليس من المتوقَّع - مع مكانة ابن خلدون العلمية وثقافته الدينية - أن لا يتوافق قصده مِن هذه المفردات مع ما ورد في كتب الفقه.
ومما يقوي وجهة النظر هذه أننا لو نظرنا إلى تاريخ حركة المرابطين من بدايته؛ لوجدنا أن مِن أبرز الأمور التي أجمع عليها المؤرخون الذين اهتموا بالكتابة عن حركة المرابطين - ومِن بينهم ابن خلدون نفسُه - رَفْضَ المرابطين أيَّ تدابير مالية لا تتوافق مع السُّنَّة من مكوسٍ وضرائبَ إضافيَّةٍ وما إلى ذلك، بل وتشدُّدَهم في هذا الأمر.
(/21)
وقد رأينا البكري في نص سابق يثني على المرابطين؛ لقطْعِهم جميع المغارم[87]. وكذلك ابن عذارى لم يُغفِل هذه الناحية في إشارته إلى ما عُرِف به المرابطون مِن حرص على تطبيق السُّنَّة[88]. ويشير ابن أبي زرع إلى اهتمام عبدالله بن ياسين بمسألة الأموال، فيذْكُر أنه بعد الانتصارات التي حققها المرابطون في بلاد السوس أخرج ابن ياسين عمَّاله على نواحيها، وكان من ضمن ما ألزمهم به وشدَّد عليهم فيه أخذُ الزكاة والعشر، وإسقاطُ ما سوى ذلك من المغارم المُحدَثة[89]. والتزم المرابطون بهذه السياسة الجبائية في عهد يوسف بن تاشفين، فيذكر ابن أبي زرع أنه لم يكن في عهده طوال أيامه رسمُ مكس ولا مغارم، ولم يكن يجبي سوى ما أوجبه حُكْم الكتاب والسنة من الزكاة والأعشار وجزية أهل الذمة وأخماس غنائم المشركين[90]. ويؤكد ابن خلدون ذلك بإشارته إلى أن ابن تاشفين أنكر على أمراء الطوائف بالأندلس وجودَ المكوس والمغارم، وأنه تعهد برفع هذه المظالم، وتحرى العدل[91].
لذلك لابد لنا في تفسير العبارة السابقة لابن خلدون مِن أن ننظر إليها ضمن موقف المرابطين تُجاه الناحية المالية بوجه عام، إذ ليس من المتوقع أن يشذ المرابطون عن السُّنَّة في هذا المجال لمجرد تغيُّر المكان وقد ساروا عليها في كل جهادهم، خاصة وأن أبا بكر بن عمر، وهو الذي قاد الزحف على غانا، قد عُرف بالتقوى والورع، كما سبقت الإشارة إليه، ولم يكن في ذلك بأقل من عبدالله بن ياسين.
(/22)
أما العبارة الأخيرة في النص والتي يقول فيها ابن خلدون: "وحَمَلوا كثيرًا منهم على الإسلام فدانوا به" فمن الواضح أنه لا يقصد أن المرابطين كانوا يُكرِهون الناس بالقوة على اعتناق الإسلام إذ لو أمعنا النظر في عبارات أخرى لابن خلدون شبيهةٍ بهذه العبارة؛ لتأكد لنا ذلك، فهو عندما تحدث عن تاريخ الملثمين قبل حركة المرابطين أشار إلى جهادهم ضد أمم السودان الوثنية وقال ما نصه: "وجاهدوا مَن بها مِن أمم السودان وحملوهم على الإسلام فدان به كثيرهم (هكذا في النص) واتقاهم آخرون بالجزية فقبلوها منهم"[92]. وفي عبارة أخرى يستخدم ابنُ خلدون نفس المعنى أيِ الدخول في الجهاد ضد الفئة المخالفة، حيث يقول عن ابتداء خروج المرابطين للجهاد: "ولما كَمُل معهم ألفٌ من الرجالات قال لهم شيخهم عبدالله بن ياسين: إن ألفًا لن تُغْلَبَ من قِلَّةٍ، وقد تعيَّن علينا القيامُ بالحق، والدعاء إليه، وحَمْلُ الكافَّة عليه فاخرجوا بنا لذلك فخرجوا"[93]. فكلمة "حمل" في هذه الاستخدامات لا تعني إجبار الناس بالقوة، أو إكراههم فرادى على الدخول في الإسلام، بل تفيد مواجهة مَن يعترض طريق الإسلام، أو بمعنى آخر جهاده ومناجزته؛ حتى لا يكون سدًّا يحول دون انتشار الإسلام بَيْن مَن وراءه مِن الناس.
(/23)
وأما بالنسبة لما كتبه ابن خلدون عن المرابطين في مواضع أخرى من تاريخه؛ فإنه يوجد فيه ما يبرهن بلا شك على أن ابن خلدون لا يقف موقفًا سلبيًّا منهم، فقد تحدث عن فتح المرابطين لمدينة "سجلماسة" وأشار إلى الإصلاحات التي قاموا بها في هذه المدينة بعد إخضاعها فقال: "وأصلحوا مِن أحوالها، وغيَّروا المنكرات، وأسقطوا المغارم والمكوس، واقتضوا الصدقات"[94]. وفي موضع آخر ذكر ابن خلدون أعمالَ الأمير أبي بكر بن عمر وأشار إلى جهوده في سبيل إخماد نار الفتنة التي تأجج أوارها بين قبيلتي "لمتونة" و"مسوفة"، وهما من أكبر قبائل البربر. كما أشار ابن خلدون إلى فتح هذا الأمير بابًا للجهاد في السودان لنشر الإسلام بين الوثنيين[95]. وذكر أيضًا مزية أخرى للمرابطين على جانب من الأهمية وهي اهتمامهم بأمن الرعايا وسلامتهم من ظلم واستبداد بعض الجماعات والقبائل حيث قال: "ثم صرف عَزْمَهُ (أي يوسف بن تاشفين) إلى مطالبة "مغراوة" وبني "يفرن" وقبائل "زناتة" بالمغرب، وجذب الخيل مِن أيديهم وكشف ما نزل بالرعايا مِن جورهم وعَسْفهم فقد كانوا مِن ذلك على ألم"[96].
خاتمة البحث:
لقد اتضح مِن البحث أن أبا بكر بن عمر، وهو ممن قادوا حركة المرابطين في جهادها في المغرب وفي الصحراء، زحف بجيشه مِن المرابطين على غانا؛ ليزيح السلطة الوثنية مِن الحُكْم وذلك بدافع الجهاد في سبيل الله وليس بدافع مادِّيّ.
أما تفسير ابن خلدون للهجوم فقد تبيَّن أنه لم يقصد توجيه أيّ اتهام للمرابطين لا بالعدوان ولا بالطمع المادي. وابن خلدون على العموم لا يقف موقفًا سلبيًّا تُجاه المرابطين ولا تُجاه جهادهم سواء في غانا أو في غيرها.
ــــــــــــــــــــــــــ
(/24)
[1] ابن أبي زرع، علي بن عبدالله، "الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس"، تحرير وتعليق محمد الهاشمي الفيلالي، الرباط، المطبعة الوطنية، 1355هـ/ 1936م، ج2، ص6؛ ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد، "العبر وديوان المبتدأ والخبر"، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1391هـ/ 1971م، ج6، ص181-182.
[2] (oxford, oxford university press, 1970 ). Trimingham, j. a History of Islam in west Africa. P. 21.
[3] ابن حوقل، أبو القاسم محمد بن حوقل، "صورة الأرض"، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1979م، ص97؛ البكري، - أبو عبيد عبدالله بن عبد العزيز، "المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب"، باريس، المكتبة الشرقية الأمريكية، 1965م، ص159؛- ابن خلدون، ج6، ص182، ويشير ابن خلدون في هذا الموضوع على الاختلاف في اسمه بقوله: كان اسمه تيزاوا بن وانشق بن بيزا، وقيل يروتان بن واستولي بن نزار.
[4] البكري، ص159؛ ابن أبي زرع، ج2، ص6-7.
[5] ابن حوقل ينقل هنا عن رجل يدعى إبراهيم بن عبدالله والذي يبدو أنه من أهل مدينة أودغست وقد قابله ابن حوقل في مدينة سجلماسة. انظر ابن حوقل، ص65-97.
[6] ابن حوقل، ص97.
[7] البكري، ص64؛ ابن زرع، ج2، ص7.
[8] ابن عذارى، أحمد بن محمد، "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب"، تحقيق: إحسان عباس، الطبعة الثانية، بيروت، دار الثقافة، 1400هـ 1980م، ج4، ص7-8؛ ابن أبي زرع، ج2، ص8-9؛ ابن خلدون، ج6، ص182-183.
[9] أودغست Awdaghast وكانت تقع إلى الشمال الغربي من غانا، ولتفصيل أكثر عنها انظر ابن حوقل، ص91؛ وياقوت الحموى، "معجم البلدان"، بيروت، دار إحياء التراث العرب، 1979، ج1، ص277-278.
[10] عصمت عبداللطيف دندش، "دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب أفريقيا"، 430-515هـ/ 1038-1121م، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1408هـ/ 1988م. ص55.
[11] البكرى، ص159.
[12] البكرى، ص164؛ ابن أبي زرع، ج2، ص7.
(/25)
[13] ابن حوقل، ص98.
[14] Levtzion, N. Ancient Ghana and Mali, (London, Methuen and Co. Ltd., 1973)P. 28.
(*) من المعروف أن صنهاجة كانت واحدة من أهم قبائل البربر وقد اعتاد الرجال من هذه القبيلة، خاصة في الجنوب من الصحراء لبس اللثام، لهذا سميت صنهاجة اللثام، كما يقال الملثمون ويقصد بهم المرابطين، انظر: البكري، ص170؛ ابن خلدون، ج6، ص181؛ أحمد مختار العبادى، "في تاريخ المغرب والأندلس"، بيروت، دار النهضة العربية، 1978م، ص269.
[15] ابن أبي زرع، ج2، ص21؛ الناصري ومحمد الناصري، الدار البيضاء، دار الكتاب، 1954م، ج2، ص7.
[16] ابن عذارى، ج4، ص7؛ ابن أبي زرع، ج2، ص9.
[17] البكرى، ص164-165؛ ابن عذارى، ج4، ص8؛ ابن أبي زرع، ج2، ص8-9.
[18] Fage, J. A history of Africa, (London Hutchinson, 1979), p> 69; McCall, D. "Islamization of the Western and Central Sudan in the IIthe Century", Boston Unver-sity Papers in Africa, Vol. 5.1971, P. 7.
[19] انظر عبدالحق حمروش، "ابن تاشفين"، الدار البيضاء، دار الكتاب، د. ت.، ص42. وعن تاريخ وفاة عبدالله بن ياسين انظر ابن عذارى، ج4، ص16؛ ابن أبي زرع، ج2، ص30.
[20] انظر ابن أبي زرع، ج2، ص22-23؛ ابن خلدون، ج6، ص184.
[21] انظر على سبيل المثال: McCall, p. 12; Morales Ferias, p., "the Almoravids: some Questions Concerning the Character of the Movement During its Periods of Closest contact with the western Sudan". Bulletin de L,institut Fundamental d. Argue Noire, Vol. 29, 1967, p. 848; Levtzion, N. "the earl states of the Western Sudan to 1500", History of west Africa, edited by J. Ajani and M. Crowder, 2nd edition, (London, Longman, 1976), Vol. I, p. 123
(/26)
[22] ويلاحظ هنا، وكما أشار الدكتور دندش، ص104، أن بعض المؤرخين المسلمين، أمثال ابن عذارى وابن أبي زرع والناصري، مالوا إلى إضفاء سمة الأسطورة على ملابسات عودة أبي بكر بن عمر من الصحراء إلى المغرب ومقابلته لابن عمه يوسف بن تاشفين ثم التنازل له عن السلطة في المغرب. ويرى الأستاذ حمروش، ص42، أن ما ذكره المؤرخون في هذا الصدد ليس له إلا قيمة محدودة.
[23] ابن عذارى، ج4، ص25.
[24] دندش، ص105.
[25] ابن عذارى، ج4، ص26.
[26] ابن عذارى، ج4، ص22.
[27] انظر دندش، ص155؛ Moraes Farias, p. 849
وذكر ابن أبي زرع، ج2، ص46، أن يوسف بن تاشفين بدل السكة سنة 473هـ وكتب عليها اسمه، وقد يكون الاختلاف بسبب التباين في التواريخ عند ابن أبي زرع، أو أن التغيير أحدث في الدرهم فقط.
[28] انظر محمد عبدالهادي شعيره، "المرابطون: تاريخهم السياسي"، القاهرة، مكتبة القاهرة الحديثة، 1969م ص78.
[29] انظر دندش، ص112، حيث أشار إلى هذه الناحية واقترح تعليلات لذلك في قوله: "ويبدو أن أحداث المغرب ومن بعدها جهاد المرابطين في الأندلس قد طغت على أحداث الجنوب".
[30] يشير أحد المستشرقين إلى نفس المعنى بقوله: "إن الأجواء في غانا كانت قد تهيأت للتحول إلى الإسلام وذلك من خلال التأثير السلمي على مدى فترة طويلة للمسلمين المقيمين في غانا ومع ذلك مازالت الحاجة قائمة لتدمير تلك القوة العسكرية والسياسية الوثنية في غانا والتي ظلت تقف بصلابة رافضة الإسلام. وهذا ما فعله المرابطون انظر. Levtzion, Ancient ghana and Mali, p.
[31] إبراهيم على طرخان، "إمبراطورية غانا الإسلامية"، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970، ص41-44.
[32] البكرى، ص 134-141.
[33] ابن أبي دينار، محمد بن أبي القاسم الرعيني، "المؤنس في أخبار إفريقيا وتونس"، تحقيق محمد شمام، تونس، المكتبة العتيقة، 1387هـ. ص98-99.
[34] ابن أبي زرع، ج2، ص17-19.
(/27)
[35] ابن عذارى ج4، ص10.
[36] ابن أبي زرع، ج2، ص29.
[37] ابن أبي زرع، ج2، ص20-35.
[38] البكرى، ص164، وانظر ابن عذارى، ج4، ص10-11.
[39] ابن أبي زرع، ج2، ص92.
[40] هكذا في النص، والمعنى دور، جمع دار. انظر ابن منظور، محمد بن مكرم، "لسان العرب"، بيروت، دار صادر، د. ت، ج4، ص298.
[41] ابن أبي زرع، ج2، ص20.
[42] ابن أبي زرع، ج2، ص33.
[43] عن البرغوطيين وسبب نعتهم بهذا الاسم انظر البكري، 134-140، ابن أبي زرع، ج2، ص24-26؛ العبادى، ص278-287.
[44] انظر العبادى، ص92-93.
[45] ابن أبي زرع، ج2، ص14-15؛ ابن أبي دينار، ص106-107.
(*)ابن عذارى، ج4، 14-15.
[46] ابن عذارى، ج4، ص24-25؛ ابن أبي زرع، ج2، ص32-35؛ ابن خلدون، ج6، ص184. يعترف أحد الكتاب الغربيين بأثر شخصية أبي بكر بن عمر في وجود روح الجهاد الحقيقي لدى المرابطين في هجومهم على غانا، وما قاموا به بعد ذلك من أعمال في السودان إلا أن الكاتب يرى أن هذه الروح فقدت بعد وفاة أبي بكر بن عمر. انظر: Moraes Farias, p. 800
[47] دندش، ص115.
[48] انظر. Moraes Farias, p. 850
[49] ابن أبي زرع، ج2، ص33.
[50] ابن أبي زرع، ج2، ص35.
[51] ابن عذارى، ج4، ص26.
[52] الزهرى، محمد بن أبي بكر، كتاب الجغرافية، عن:
Corpus of Early Arabic Sources for west Afreican History, Edited by j. Hopkins and N. Levtzion, Cambridge, Cambridge University Press, 1981, p. 98.
[53] ابن خلدون، ج6، ص184.
[54] لقد بحث موضوع الآثار القريبة والبعيدة المدى لفتح المرابطين لغانا ودعوتهم في السودان الغربي في أعمال علمية تركز على فترة ما بعد الفتح منها:
1- عصمت عبداللطيف دندش، دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا 430-515هـ (1038-1121م).
(/28)
2- Paulo F. De Morases Farias, "the Almoravid: some questions concerning the Character of the Movement during its Periods of Closest contact with the Western Sudan'.
والمشار إليهما أعلاه.
[55] انظر حسن أحمد محمود، الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا، القاهرة، دار الفكر العربي، 1986م، ص215؛ Levtzion, Ancient Ghana and Mali, P. 186.
[56] السوننك soninke وهو فرع من الفروع الأساسية من الماندي (الماندنجو) Mandingo ويسمون أيضًا السراكولي sarakulle ولمزيد من المعلومات عنهم انظر:
Ajayi, j.f. and Crowder, M., eds., History of west Africa, Vol. I, London, Longman, 1976, pp. 15-18; Levtzion, Ancient Ghana and Mali, pp. 16-17.
[57] نعيم قداح، حضارة الإسلام وحضارة أوروبا في إفريقيا الغربية، دمشق، مكتبة أطلس، 1965م، ص68.
[58] البكرى، ص167-168.
[59] انظر الحبيب الجنحاني، المغرب الإسلامي: الحياة الاقتصادية والاجتماعية 3-4هـ/ 9-10م، تونس، الدار التونسية للنشر، 1978، ص178، ص193-194.
[60] انظر محمد الغربي بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، الكويت، مؤسسة الخليج للطباعة والنشر، 1982، ص43، والذي يشير على شيء من ذلك في قوله عن حكم المرابطين: "أنه قدم للمنطقة أعمالاً جليلة ومنجزات في الميدان الاقتصادي لا سبيل إلى نكرانها".
[61] ابن أبي زرع، ج2، ص94.
[62] لقد تمت مراجعة عدد من معاجم اللغة: المخصص لابن سيده، والصحاح للجوهري، ولسان العرب لابن منظور وتاج العروس للزبيدى، والقاموس المحيط للفيروز أبادى، وذلك لضبط وتحديد معنى كلمة نفاق، إلا أن الكلمة لم توجد في هذه المعاجم بما يناسب السياق الوارد في النص. والذي يبدو لي أن ابن أبي زرع يعني بالكلمة النهابين أو السراق أو المحتالين.
[63] ابن أبي زرع، ج2، ص94.
[64] ابن خلدون، ج6، ص184.
[65] ابن عذارى، ج4، ص15.
(/29)
[66] ابن عذارى، ج4، ص20، وقد جعل ذلك من أحداث سنة 463هـ (1070م)، أما ابن أبي زرع، ج2، ص32، وابن خلدون ج6، ص184، فقد جعلا ذلك في سنة 452هـ (1060م).
[67] انظر الحبيب الجنحاني، "السياسة المالية للدولة المرابطية"، المؤرخ العربي، العدد 13، 1980، ص16.
[68] لم أعثر في معاجم اللغة على كلمة بهذا اللفظ، ويحتمل أن تكون مشتقة من الامتلاء، وأوردها الإدريسي، على ما يبدو، كمرادف لكلمة مياسير.
[69] محمد بن محمد الشريف الإدريسي، "المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس"، مأخوذ من كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، ليدن، مطبعة بريل، 1968م ص66.
[70] انظر الجنحاني، "السياسة المالية للدولة المرابطية"، ص19.
[71] "القطاني" يقال هو اسم جامع للحبوب التي تطبخ مثل العدس، واللوبيا، والحمص وما شاكلها. ويقال القطاني خضر الصيف. ابن منظور، ج13، ص344-345.
[72] ابن أبي زرع، ج2، ص94.
[73] وتظهر المبالغة في الزعم باستمرار الرخاء والرفاهية وربط ذلك برخص الأسعار، إذ لا يعقل أن يدوم الرخص ويشمل كل المناطق ولا يتأثر بقلة الأمطار مثلاً، أو بكثرة الحروب في عهد يوسف بن تاشفين وحفيده تاشفين بن علي، كما أشار إلى ذلك ابن أبي زرع نفسه وغيره من المؤرخين. وعلى العموم فإن ظهور الرخاء والرفاهية ورخص الأسعار في فترات لا يخول تعميمه طيلة فترة حكمهم.
[74] الجنحاني، "السياسة المالية للدولة المرابطية"، ص16.
[75] Moreas Farias, p. 80 .
[76] انظر على سبيل المثال:
Davidson. B the Lost Cities of Africa, Boston, Little Brown and Company. 1987. P. 88; Fage. J. A History of West Africa, Cambridge University Press, 1972, p. 190
[77] ابن خلدون، ج6، ص200 .
[78] القشيري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، بيروت، دار إحياء التراث العرب، 1375هـ، ص1357، حديث رقم 1731.
[79] البكري، ص164.
[80] ابن عذارى، ج4، ص12.
(/30)
[81] ابن أبي زرع، ج2، ص14.
[82] انظر ابن أبي زرع، ج2، ص 24 ؛ ابن أبي دينار ص 106.
[83] ابن عذارى، ج4، ص115.
[84] لم يرد في كل من اللسان والقاموس المحيط إتاوات كجمع لكلمة إتاوة، وإنما ورد أتاوى وأتى، انظر ابن منظور، ج14، ص 18؛ الفيروز أبادي مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، القاهرة، المطبعة المصرية ، 353هـ / 1935م، ج4، ص 297.
[85] ابن منظور ، ج14، ص 147.
[86] انظر ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر، أحكام أهل الذمة، تحقيق صبحي الصالح، بيروت، دار العلم للملايين، 1983م، ج1، ص100.
[87] البكري، ص 164.
[88] ابن عذارى، ج4، ص11.
[89] ابن أبي زرع، ج2، ص22.
[90] انظر الجنحاني، "السياسة المالية للدولة المرابطية"، ص15.
[91] ابن خلدون، ج6،ص 187، وانظر أيضا ص 183من الجزء نفسه.
[92] ابن خلدون، ج6، ص181.
[93] ابن خلدون، ج6، ص 183. ويلاحظ أن إيرادنا لهذين الاستشهادين عن ابن خلدون هو لتأكيد مقصوده من كلمة حمل في النص، وإلا فهذا الاستخدام ليس غريبًا فالبكري (ص172)، على سبيل المثال، وصف جهود ملك التكرور وحرصه على تطبيق شرائع الإسلام على شعبه، فقال: "وأقام شرائع الإسلام، وحملهم عليها، وحقق بصائرهم فيها" وكل ذلك يتفق مع المعنى اللغوي لكلمة حمل فقد ورد في معاجم اللغة قولهم: وحمله على الأمر يحمله فانحمل أي أغراه به، وحمل على نفسه في السير أي جهدها فيه. انظر الفيروز أبادي، ج3، ص 361، ابن منظور، ج11، ص181.
[94] ابن خلدون، ج6، ص183.
[95] ابن خلدون، ج6، ص184.
[96] ابن خلدون، ج6، ص184.
(/31)
العنوان: الدجال ونزول عيسى بن مريم
رقم المقالة: 648
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي يسر لنا الأسباب المانعة من الضلال والافتتان ووضح لنا الفتن وبين لنا الأسباب التي نتحصن بها أعظم بيان واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المنان وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى من بني عدنان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة مستمرة باستمرار الزمان وسلم تسليماً.
(/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشراط الساعة وأماراتها حق يجب اعتقاده وقد ذكر للساعة أشراطاً كثيرة منها ما مضى ومنها ما هو حاضر ومنها ما هو مستقبل وأبلغ ما يكون من أشراطها وأعظمه فتنة هي فتنة المسيح الدجال فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال وأنه ما من نبي إلا وقد أنذر به أمته وأنه يجيء معه بمثل الجنة والنار فالتي يقول إنها جنة نار تحرق والتي يقول إنها نار ماء عذب طيب فمن أدرك ذلك منكم فليقع فيه)) وقال - صلى الله عليه وسلم - ((إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط أعور العين اليسرى مكتوب على عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب فمن أدركه منكم فليقرأ عليه بفواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض قال أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا يا رسول الله فاليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة واحدة قال لا اقدروا له قدره وأما إسراعه في الأرض فكالغيث استدبرته الريح يأتي على القوم يدعوهم فيؤمنون به فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت ويدعو قوما آخرين فيردون دعوته فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين يمر بالخربة فيأمرها فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ويؤتى برجل فيقول أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأمر به الدجال فيوسع ظهره وبطنه ضرباً ثم يقول أوما تؤمن بي فيقول أنت المسيح الكذاب فيؤمر به فيوشر بالميشار من مفرقه حتى رجليه ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له قم فيستوي قائماً ثم يقول أتؤمن بي فيقول ما ازددت فيك إلا بصيرة فيأخذه الدجال
(/2)
ليذبحه فلا يسلط عليه)) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((ليفرن الناس من الدجال حتى يلحقوا بالجبال قالت أم شريك فأين العرب يومئذ قال هم قليل ويتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفاً فيخرج همته المدينة فتصرف الملائكة وجهه عنها لأن على كل باب منها ملكين يمنعانه من الدخول فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين (أي حلتين مصبوغتين بورس أو زعفران) واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي إليه طرفه فيطلب الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله)) فسبحان من مكن هذا الدجال من هذه المعجزات فتنة لعباده وبين لهم العلامات التي تبين من بطلان ما ادعاه وفساده فإنه أعور ناقص في ذاته وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن إنه إذا قتل الرجل ثم أحياه لم يقدر عليه بعد ذلك فهو ناقص في قدرته إن جنته نار وناره ماء طيب عذب فما جاء به باطل إنه مخلوق وجد بعد أن لم يكن إنه يفنى ويقتل وإنه في الأرض لا في السماء وكل هذه صفات المخلوق الناقص التي تبرهن على أنه ليس بإله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس:3،4]بارك الله لي ولكم.
(/3)
العنوان: الدعاء (1)
رقم المقالة: 498
صاحب المقالة: د. سعد بن عبدالله الحميد
-----------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70، 71].
أما بعد أيها الناس:
فإن الله - سبحانه - قد هيَّأ العبد المؤمن لمواجهة جميع الصعوبات والتحديات التي تكتنف طريقة، وتعرقل سيره، وتتطاول على عزَّته وكرامته، وزوَّده بسلاح فتَّاك، لا يفنى ولا ينفذ، ولا يستطيع أحدٌ سلبه منه.
(/1)
ولا شك بأن جميع البشر تعتريهم بعض العقبات والصعوبات في بعض الأحيان، وكلٌّ يلجأ إلى أمر من الأمور اعتاده في مثل تلك الحال؛ إمَّا سلاحٌ ماديٌّ - إذا ما دعت إليه الضرورة - أو غيره، سواء من المحسوسات عند من صرف عقله عن التفكير بسواها، أو غير المحسوس عند أرباب الشعوذة والدَّجَل، وجميع هذه الأشياء قد تخون صاحبها حال شدة احتياجه إليها، بخلاف المؤمن الذي لم يمنعه ربه من استخدام الأسلحة المادية، وإنما منعه من الركون والاعتماد والذل والسجود لأحدٍ سواه، وأمره أن يكون عزيزاً رفيعَ النفس، مؤمناً بما قضاه الله عليه؛ فلا أحد يملك كشف الضُّرِّ عنه سوى الله، ولا ردَّ ومنعَ الخير عنه إذا ما أراده الله به، كما في وصيته - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله عنهما - حين قال له: ((يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضرُّوك بشيء؛ لم يضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعتِ الأقلام، وجفَّتِ الصحف)).
ولذا فقد تجلَّت صور تطبيق مفهوم هذا الحديث في أمثال خُبَيْب - رضي الله عنه - حين غدر به الكفار وأسروه، وعرضوه للقتل، وقالوا له: أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: لا والله العظيم، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه.
ومن تأمل كتب التواريخ والسير وجد فيها عجباً من هذا وأمثاله، وفيه تظهر حقيقة تلك القوى التي أودعها الله في تلك النفوس، وسرت تلك القوى في نفوس الأجيال بعدهم، حتى إن أحدهم تأسره الروم، ومعلومٌ بأن أوْلى الناس بالذلِّ هو الأسير، غير أن الإسلام ربَّى في معتنقيه عزَّة النفس، حتى في تلك المواضع، فيقول حين رأى حمامةً تنوح بالقرب منه، وهو في الأسر:
أَقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبِي حَمَامَةٌ أَيَا جَارَتَا هَلْ تَشْعُرِينَ بِحَالِي؟
إلى أن قال:
(/2)
أَيَضْحَكُ مَأْسُورٌ، وَتَبْكِي طَلِيقَةٌ وَيَسْكُتُ مَحْزُونٌ وَيَنْدُبُ سَالِي؟!
لَقَدْ كُنْتُ أَوْلَى مِنْكِ بِالدَّمْعِ مُقْلَةً وَلَكِنَّ دَمْعِي فِي الْحَوَادِثِ غَالِي
لقد كانت دموعهم في حال الحوادث والأزمات غالية، أما بين يدَي خالقهم فرخيصة.
أما السلاح الذي زوَّد الله به المؤمنين من عباده، فإنه - معشر الأخوة - سلاح معنوي، إنه الدعاء، دعاء الله – سبحانه - والتضرع إليه، وصدق اللَّجأ إليه... إنه سلاحٌ مجرَّبٌ، ولا يملك أحد دفعه أو سلبه، إنه سلاح أمرنا الله - سبحانه - بالتزوُّد به في غير ما موضع من كتابه، فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقال: {وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء:32].
وفي الحديث القدسي في "صحيح مسلم" يقول الله تعالى: ((يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، ولا أبالي؛ فاستغفروني أغفر لكم)).
وفي الحديث الذي رواه أحمد، والترمذي، وغيرهما، يقول - صلى الله عليه وسلم - : ((ليس شيءٌ أكرمَ على الله من الدعاء))، وذلك لما فيه من إظهار الفقر، والعجز، والتذلُّل، والاعتراف بقوة الله وقدرته، وهو - سبحانه - يحب تذلُّل عبيده بين يديه، وسؤالهم إيَّاه، وطلبهم حوائجهم منه، وشكواهم إليه، وكلٌّ يغضب عند إكثارك سؤاله، إلا الله سبحانه؛ فإنه يغضب إذا لم تسأله، كما قيل:
اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ وَتَرَى ابْنَ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
(/3)
ومن تأمل الكتاب والسُّنَّة علم أن للدعاء تأثيراً عجيباً، فها هو نوح، وهود، وصالح، ولوط، وموسى دعوا ربهم بإهلاك مَنْ لم يؤمن من قومهم، فأهلكهم الله؛ استجابةً لدعوة الداعي منهم.
وهذا زكريا - عليه السلام - يسأل الله الولدَ بعد أن بلغ من العمر - هو زوجته - مبلغًا لا يُعهد من مثله الإنجاب، فيستجيب الله له، ويهبُه يحيى.
وهذا يونس - عليه السلام - يركب في سفينة فيدركها الغرق، ويقترع مَنْ فيها على إلقاء أحدهم؛ حتى يخفَّ الحمل عنها، فتقع القرعة على يونس - عليه السلام - وعندما ألقوه ابتلعه حوتٌ كبير، وعندما تغشَّتْه الظلمات الثلاث: ظُلْمَة الليل، وظُلْمَة قاع البحر، وظُلْمَة بطن الحوت، أخذ يناجي ربه – تعالى- الذي لا يَعْزُب عنه مثقال ذرَّةٍ، فيناديه من قلب أحسَّ بأنه لا ينْجِيه مما أصابه إلا مالك الأفلاك، فيصرخ قائلاً: "لا إله أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين"؛ فيأمر ربُّ الحوتِ الحوتَ بإلقائه على ساحل البحر، ويأمر شجرةً أن تنبت عليه، وتظلُّه بورقها بعد أن تأثر جسده بما أصابه، ولذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد، والترمذي، وغيرهما، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دعوة ذي النون - إذ دعا - وهو في بطن الحوت: "لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين"، فإنه لم يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيء قط، إلا استجاب الله له))؛ ورواه الحاكم، وزاد: فقال رجل: يا رسول الله، هل كانت ليونس خاصةً، أم للمؤمنين عامةً؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا تسمع إلى قول الله عزَّ وجلَّ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] ؟)).
(/4)
وكما أن القرآن ذُكرت فيه هذه الوقائع التي استجاب الله فيها دعاء من دعاه، فقد وردت السُّنَّة بذلك أيضاً، كما في دعائه - صلى الله عليه وسلم - على الذي أكل بشماله، عندما أمره بالأكل بيمينه؛ فقال: لا أستطيع - ما منعه إلا الكِبْر - فقال: ((لا اسْتَطَعْتَ))؛ فشُلَّتْ يدُه.
وكما في دعائه - صلى الله عليه وسلم – في غزوة بدرٍ وغيرها.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - دعا لبعض أصحابه أن يستجيب الله دعاءه؛ فكان كذلك، ومنهم سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد رضي الله عنهما.
فأما سعد بن أبي وقاص؛ ففي "الصحيحين": أن أهل الكوفة شكوا سعداً إلى عمر - رضي الله عنه - فعزله واستعمل عليهم عمَّاراً، وشكوا – يعني: سعداً – حتى ذكروا أنه لا يُحْسِنُ يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تُحْسِنُ تصلي!! قال: أمَّا أنا والله؛ فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أَخْرِمُ عنها؛ أصلي صلاة العشاء، فأرْكُدُ في الأوليَيْن، وأُخِفُّ في الأُخريَيْن. قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق. فأرسل معه رجلاً – أو رجالاً – إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يَدَعْ مسجداً إلا سأل عنه، ويثنون معروفاً، حتى دخل مسجداً لبني عَبْس، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة، يكني أبا سَعْدَة، قال: أمَّا إذْ نَشَدْتَنَا؛ فإن سعداً كان لا يسير بالسريَّة، ولا يقسم بالسَّوِيَّة، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أمَا والله لأدعونَّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً، قام رياءً وسمعةً؛ فأَطِلْ عمرَه، وأَطِلْ فقرَه، وعرِّضه للفتن. وكان بعدُ إذا سئل يقول: شيخٌ كبيرٌ مفتونٌ، أصابتني دعوة سعد.
قال عبد الملك بن عميْر راوي الحديث: فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَر، وإنه ليتعرَّض للجواري في الطرق؛ يغمزهن!.
(/5)
وأما سعيد بن زيد - رضي الله عنه -: ففي "الصحيحين" أيضاً: أنه خاصمته أرْوَى بنت أوْس إلى مروان بن الحَكَم، وادَّعت أنه أخذ شيئاً من أرضها؛ فقال سعيد: أنا كنتُ آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟! قال: ماذا سمعتَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَنْ أخذ شبراً من الأرض ظلماً؛ طُوِّقَهُ إلى سبع أرَضِين)). فقال له مروان: لا أسألك بيِّنةً بعد هذا. فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة؛ فأَعْمِ بصرها، واقتلها في أرضها. قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، وبينما هي تمشي في أرضها، إذ وقعت في حفرة فماتت.
وفي روايةٍ لمسلم، عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر: أنه رآها عمياء تلتمس الجُدُر، تقول: أصابتني دعوة سعيد، وأنها مرَّت على بئر في الدار التي خاصمته فيها، فوقعت فيها؛ فكانت قبرها.
فإن قال قائلٌ: ما فائدة الدعاء إذا كان المدعوُّ به قدِّر لي، فهو سينالني سواءٌ دعوتُ أو لم أَدْعُ؟ وإذا لم يقدَّر لي؛ فلن ينالني، سواءٌ دعوتُ أو لم أَدْعُ؟.
فالجواب أن يقال له: بقي قسم ثالث لم تذكرْهُ، وهو أن المدعوَّ به قدِّر لكن بسبب، فإن وُجِدَ سببه، وُجِدَ ما ترتَّب عليه، وإن لم يوجد سببه، لم يوجد، فهو كالشبع والرِّيِّ، وحصول المال والولد. فإن كان الشبع والرِّيُّ، والمال والولد قد قدِّرتْ لكَ، فلابد من حصولها، أكلتَ أو لم تأكل، وشربتَ أو لم تشرب، وسعيتَ للمال أو لم تَسْعَ، ووطِئت الزوجة أو لم تطأ، فعليك أن تمتنع عن السعي لها. فهل يقبل هذا عاقل؟! بل إنك تجد جواب الجميع بأنها قدِّرت لكن بسبب الأكل والشرب، والسعي والوطْءِ، وهكذا يمكن أن يقال في المدعوِّ به: أن الله قدرَّه لك بسبب دعائك، فإن دعوت - وكان أمراً مقدَّراً - حصل لك ما قدِّر لكَ، وإلاَّ عوَّضك الله عنه، على ما سيأتي بيانه - إن شاء الله.
(/6)
العنوان: الدعاء (2)
رقم المقالة: 499
صاحب المقالة: د. سعد بن عبدالله الحميد
-----------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70، 71].
أما بعد أيها الناس:
فقد ذكرنا سابقاً أن الدعاء هو سلاح المؤمن الذي يلجأ إليه حالَ الأزمات، ومن طريف ما يُذكر: أن أحد العلماء العالمين مرَّ بدارٍ لأحد الوجهاء، فسمع بها أصوات بعض المنكرات، وأحسَّ منها ريبةً، فطرق الباب، ففتح له الخادم، فقال له: قل لسيِّدك: إما أن ينتهيَ، وإلا قاتلناه بسهام الليل! فلم يفهم الخادم العبارة، فرجع إلى سيِّده فأعلمه بما قيل له، فقال له سيِّده: ارجع إليه، وقل له: سننتهي؛ فلا طاقة لنا بسهام الليل. ومقصودُهُ بسهام الليل: الدعاء في جوف الليل.
(/1)
معشر الإخوة: تنزل بالمسلمين أحياناً بعض النوازل؛ كامتناع المطر؛ فيلجؤون إلى الله ويستسقون، فلا يحسُّون أثراً لدعائهم، فما السبب؟ إن الأسباب عديدة، وهي تتمثل في عدم تحقق شروط الدعاء، وهي:
أولاً: الإخلاص لله في الدعاء؛ لأن الدعاء هو العبادة، كما جاء في الحديث الصحيح، عن الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وكما دلَّت عليه آيات القرآن، ومنها قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، فسمَّى الدعاء هنا عبادةً.
وقد نهى الله - سبحانه - عن دعاء غيره، فقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [الجن:18]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف:194]؛ ولذا أوصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمه بقوله: ((إذا سالت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)). وهذا الشرط- أعني به: الإخلاص لله في الدعاء – مفقودٌ اليوم في كثير من بلاد الإسلام، إلا ما شاء الله منها، وما أقلَّها!!.
ويلتبس الأمر على كثير منهم حين يقول: نحن لا ندعو أحداً من دون الله، ولكنَّا نتوسل إلى الله بالأموات من الأنبياء والصالحين من عباده؛ لأن ذنوبنا كثيرة، فإذا توسلنا إليه - سبحانه – بهؤلاء، رجونا منه استجابة الدعاء!.
وهذه الشُبْهَة هي التي تعلَّق بها مشركو مكة حين أخبر عنهم - جل وعلا - بأنهم قالوا عن أصنامهم وأوثانهم، التي هي صورٌ لرجال صالحين في السابق، أخبر - تعالى - أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. أي أنهم جعلوهم وسائطَ فقط.
(/2)
ويوضح هذه المسألة: أن الصحابة - رضوان الله عليهم - هم الذين تحقَّقت فيهم صفات التوحيد الكامل؛ لأخذهم الدين من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً، وقد كانت تعتريهم بعض الشدائد والمحن، وما أُثِرَ عن أحدٍ منهم أنه توسل إلى الله - سبحانه - بنبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد موته؛ بل إن عمر - رضي الله عنه – كما هو ثابت عنه في "الصحيح"، حينما أصابتهم شدَّةٌ في سنةٍ من السنين، خرج يستسقي ومعه العباس بن عبد المطلب عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اللهم كنَّا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك - صلى الله عليه وسلم - وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبيك. فدعا لهم العباس - رضي الله عنه - فاستجيب له ولهم. فالصحابة هنا بجوار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلماذا يدَعُون التوسل به، ويتوسلون بدعاء العباس؟؟ الجواب: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عداد الأموات حُكْماً في الدنيا، وإن كان حيّاً عند ربه.
والتوسل المشروع ثلاثة أقسام:
1- التوسل إلى الله - سبحانه - بأسمائه وصفاته، فتقول: يا حيُّ، يا قيُّومُ، يا سميعُ، يا بصيرُ... وهكذا.
2- التوسل إلى الله - سبحانه - بالأعمال الصالحة، كما في قصة النَّفر الثلاثة الذين سَدَّت عليهم الصخرةُ بابَ الغار؛ فذكروا من أعمالهم الصالحة، ودعوا ربهم؛ ففرج الله عنهم الصخرة، وخرجوا يمشون!.
3- التوسل إلى الله - سبحانه - بدعاء الأخ الصالح؛ كما في قصة عمر مع العباس، وكما في "الصحيح" من حديث أنس - رضي الله عنه - حين دخل رجل المسجد، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السُّبُل - يعني: من قلَّة المطر - وطلب منه الدعاء، فدعا - صلى الله عليه وسلم - فنزل المطر.
هذه أقسام التوسل المشروع، وما عداه فليس بمشروع.
(/3)
الشرط الثاني: عدم الاستعجال؛ لأنه محبطٌ للدعاء، وفي "صحيح مسلم"، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال يُستجاب للعبد، ما لم يَدْعُ بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ، ما لم يستعجل)). قيل: يا رسول الله، فما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوت، فلم أَرَ يُستجبْ لي! فيستحسر عند ذلك، ويَدَع الدعاء)). ومعنى يستحسر: أي ينقطع عن الدعاء.
الشرط الثالث: الدعاء بالخير، فقد مرَّ في الحديث السابق قوله - صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال يُستجاب للعبد، ما لم يدع بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ)).
الشرط الرابع: حضور القلب حالَ الدعاء، وفي الحديث الذي رواه الترمذي، والحاكم، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافلٍ لاهٍ))؛ أي: يكون قلبك حاضراً وأنت تدعو، متفهماً لما تقول، وتذكر من تخاطب، فإنك تخاطب رب العزَّة –سبحانه - فلا يليق بك - وأنت العبد الذليل - أن تخاطب مولاك بكلامٍ لا تعيه، أو بجُملٍ قد اعتدت على تكرارها دون التفهُّم لفحواها.
(/4)
وكلنا يرى أننا كثيراً ما نذهب نستسقي وندعو، ثم لا نرى للإجابة أثراً، والسبب أننا ندعو بعبارات اعتدنا عليها؛ فلا نعي ما نقول، ومع ذلك فاستسقاؤنا إنما هو تشبُّعٌ؛ ندعو الله والكثير يدور في خَلَدِه النزهة، وضرب الخيام في البريَّة، والتنعُّم بما تخرج الأرض من زينتها، أما الدعاء للضر الذي أصاب، فلو أحسسنا به لتدبرنا ما نقول، وأقرب مثال ما أصاب أفريقيا من البلاء، مثل هؤلاء هم الذين لو دعوا الله؛ لدعوا من قلوب موجعة، تحسُّ بضرورة الدعاء، غير أنهم لما دعوا الله واستسقوا، سألوه بجاه البخاري، الذي توفي منذ أكثر من ألف سنة – كما حدثني بذلك أحد الإخوة السودانيين لمَّا سألته. وقديماً قيل: ليست النائحة كالثَّكْلَى، وهو مَثَلٌ يُضرب لبيان اختلاف الناس في ما يصدر منهم من بكاء ونحوه، بحسب تأثُّرهم، كالنائحة والثكلى؛ لأن عند بعض الأمم الجاهلية: إذا توفي شخصٌ أتوا بنائحةٍ تُستأجر، تصيح وتبكي على المتوفَّى، فيقال: إن بكاء هذه النائحة ليس كبكاء التي أحست بلوعة فراق ابنها، وهذا مَثَلُ مَنْ يدعو تشبعاً، ومَنْ يدعو لإحساسه بالضُّرِّ.
الشرط الخامس من شروط استجابة الدعاء: هو إطابة المأكل، وهذه والله هي قاصمة الظهر، التي لا يكاد يسلم منها أحد في هذه الأزمان، نظراً لانغماس الناس في الملذات، وإقبالهم المتزايد على الدنيا وطلبها، وتساهلهم في ما دخل أجوافهم من المأكول والمشروب، وكثرة المعاملات المحرَّمة، والمآكل القادمة من بلاد الكفر، وتساهُل الناس فيها، وفيها ما فيها من الشبهات.
(/5)
كل هذه وأمثالها: نخشى أن تكون هي الحاجز الذي يحجز الدعاء عن أسباب الإجابة. وفي "صحيح مسلم" يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172])). ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام؛ فأنَّى يُستجاب لذلك؟!.
ومن الأمور التي ينبغي للمسلم الحرص عليها: معرفة الله - سبحانه - ودعاؤه حالَ الرخاء والشدَّة، وفي حديث وصيته - صلى الله عليه وسلم - لابن عمه عبد الله بن عباس يقول - صلى الله عليه وسلم - له: ((تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة)). يعني: أن العبد إذا اتقى الله، وحفظ حدوده، وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبين ربه معرفةٌ خاصةٌ، فعرفه ربُّه في الشدَّة، ورعى له تعرُّفه إليه في الرخاء، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة. وفي الحديث الذي رواه الترمذي، والحاكم، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((من سرِّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب؛ فليكثر الدعاء في الرخاء)).
(/6)
قال الضحاك بن قيس: "اذكروا الله في الرخاء، يذكركم في الشدَّة، إن يونس - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت، قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144]، وإن فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلمَّا أدركه الغرق قال: آمنتُ، فقال الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]".
وقال أبو الدَّرْدَاء: "ادْعُ الله تعالى في يوم سرّائك؛ لعله أن يستجيب لك في يوم ضرَّائك".
وأعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا: الموت، وما بعده أشدُّ منه إن لم يكن مصير العبد إلى خير، فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة. قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19].
أما الكافر فإنه بخلاف المؤمن؛ فلا يذكر ربَّه إلا وقت الشدَّة، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس:12].
(/7)
وهناك آداب للدعاء ينبغي للعبد أن يراعيها، منها: أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث الصحيح عند الترمذي والنسائي، عن فَضَالة بن عُبَيْد، قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدٌ؛ إذا دخل رجل فصلى، فقال: اللهم اغفر لي وارحمني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجلت أيها المصلي؛ إذا صليتَ فقعدتَ؛ فاحمد الله بما هو أهلُه، وصلِّ عليَّ، ثم ادعه)). قال: ثم صلى رجلٌ آخرُ بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أيها المصلي، ادْعُ تُجَبْ)).
ومن الآداب: أن يحسن الظن بربِّه، وتقدَّم في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)).
ومنها: أن يعترف بالذنب؛ ففي الحديث الصحيح عند الحاكم وغيره، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليعجب من العبد إذا قال: لا إله إلا أنت، إني قد ظلمت نفسي؛ فاغفر لي ذنوبي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. قال: عبدي عرف أن له ربّاً يغفر ويعاقب)).
ومن الآداب: أن يعزم في المسألة؛ ففي "الصحيحين" يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولنَّ: اللهم إن شئت فأعطني؛ فإنه لا مستكرِهَ له)).
وعليه أن يدعو بجوامع الدعاء، ولا يتكلَّف ويعتدي في الدعاء، وليتحرَّ الأوقات الفاضلة التي ترجى فيها الإجابة، كالدعاء في جوف الليل، وبين الآذان والإقامة، وفي الصلاة، وبخاصةٍ حالَ السجود، وعند الآذان، وكالساعة التي في يوم الجمعة، والدعاء في عرفة، وليلة القدر.
وقد لا يستجيب الله للعبد في ما دعا فيه، وذلك لأمور:
1- أن الإجابة قد تكون قد أُجِّلَتْ إلى الوقت المناسب الذي تثمر فيه، وربك أعلم بمصالح عباده.
2- قد لا يستجيب الله للعبد في الدنيا، فيجازي صاحبها عنها في الآخرة؛ لحكمه يعلمها.
(/8)
3- قد يرفع الله عن العبد سوءاً مقدَّرا ًعليه، أعظم مما دعا لأجله، ونحن لا ندرك مصالحنا؛ كما قال تعالى في قصة الغلام في سورة الكهف: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِيْنَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [الكهف:80]. فقد تظن يا أخي أن الخير أن يرزقك الله ولداً، كي تفرح به، وتربيه تربيةً صالحةً، ويكون لك عقبى خير، ولا يخطر ببالك أن هذا الولد قد يكون وبالاً عليك، كما في قصة هذا الغلام.
وهناك حالات يستجاب فيها الدعاء: وهي دعوة المظلوم، والمسافر، والوالد على ولده، والغازي في سبيل الله، والحاج والمعتمر، ودعوة الأخ لأخيه بظَهْر الغيب.
(/9)
فهذه من الحالات التي يستجاب فيها الدعاء، فلنحرص - معشر الإخوة - على تحقيق شروط الدعاء، وبخاصةٍ في هذه الأزمان التي فرَّط قسمٌ كبيرٌ من المسلمين فيها في الإخلاص لله في الدعاء، فصرفوه لغير الله، أو وقعوا في بعض الأمور غير المشروعة التي تفضي إلى الشرك بالله كالتوسل بالأموات، سواءٌ بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بحقِّ الوليِّ الفلاني، أو القُطْب الفلاني. ومَنْ مَنَّ الله عليه من المسلمين بتحقيق التوحيد - خاصةً في الدعاء - فإنك تجده مفرِّطاً في بعض شروط استجابة الدعاء الأخرى؛ كإطابة المأكل، ولذا نرى أن الأعداء تسلطوا على البلاد والعباد، والدعاء مستمرٌ، ولا نرى آثار الإجابة في كثير من الأحوال، وما ذاك إلا للتفريط في هذه الأسباب، التي أسأل الله - سبحانه - أن يمنَّ عليَّ وعليكم وعلى سائر إخواننا المسلمين بتحقيقها، حتى يعود المسلمون أعزَّةً بعد الذلَّة، أعزَّةً بإسلامهم، وبتحقيق طاعة الله وعبادته، وما ذلك على الله بعزيز، فاللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الكفر والكافرين، وانصر عبادك الموحِّدين في برِّك وبحرك أجمعين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كلِّ خير، واجعل الموت راحة لنا من كلِّ شر، وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.
(/10)
العنوان: الدعاء – آدابه وموانعه –
رقم المقالة: 1474
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من أجَلّ الطاعات، وأعظم العبادات والقربات، التي يتقرب بها المسلم إلى ربه - جَلَّ وعَلا -: الدعاء؛ لما يتضمن منَ الاعتراف بعظمة البَارِي وقوته، وغِنَاه وقُدْرَتِه، ولما فيه من تذلل العبد وانكساره بين يدي خالقه - جل وعلا -.
وقد أمرنا الله بالدعاء، ووعدنا الإجابة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
والناس في الدعاء على ثلاثة أحوال: فمنهم من يدعو غير الله وهم المشركون، فإنهم وإن أخلصوا الدعاء في الشدة، فإنَّ ذلِكَ لا يَنْفَعُهُمْ، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، ويشبههم من بعض الوجوه: المسلم الذي يدعو الله في الشدائد والكرب، فإذا جاء الرخاء غفل ونسي.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مَنْ سرَّهُ أن يستجيب اللهُ له في الشدائد والكُرَبِ، فَلْيُكْثِرِ الدعاء في الرخاء))[1].
ومنهم قوم أعطاهُمُ الله من واسع فضله فلم يشكروا؛ بل طغوا واستكبروا، قال الله في هؤلاء: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
ومنهم المؤمنون الذين عرفوا قدر ربهم، وأيقنوا أنه لا سعادة ولا فلاح في الدنيا والآخرة إلا منه.
(/1)
قال تعالى مُثْنيًا عليهم:
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبينًا لأمته فضل الدعاء: ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)) [2].
وعن أنس قال: قال - النبي صلى الله عليه وسلم -: ((أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام))[3].
فبيَّنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن الله - عزَّ وجل - يحب من عباده كَثْرَة الدعاء والإلحاح فيه، قال الشاعر:
لا تَسْأَلَنَّ بُنِيَّ آدَمَ حَاجَةً وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لا تُحْجَبُ
اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ وَبُنِيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
وهذا شاعر جاهلي يقول في معلقته:
واللهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ عَلاَّمُ مَا أَخْفَتِ القُلُوبُ
مَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ وَسَائِلُ اللهِ لا يَخِيبُ
ويجب على العبد أن يُرَاعِيَ في دعائه الأمور التالية:
أولاً: الإخلاص لله في الدعاء. فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدُّعَاءُ هو العِبَادة))[4].
وقد قال الله - تعالى - مبينًا وجوب إخلاص العبادة له: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
ثانيًا: ألاَّ يستعجل العبد في استجابة الدعاء، فإنَّ الله - سبحانه - أعلم بمصالح عباده، وما من داعٍ إلا ويستجاب له بأن يعطى سؤاله، أو يصرف عنه من الشر مثله، أو يدَّخر له في الآخرة؛ كما ثبت بذلك الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم[5] - ولذلك نهى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الاستِعْجَالِ في الدُّعَاء.
(/2)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ ما لم يَعْجَل، يقول دَعَوْتُ فلم يستجب لي))[6].
ثالثًا: ألا يدعو بإثم أو قطيعة رحم.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَزَالُ يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم))[7].
رابعًا: أن يكون حاضر القلب حال الدعاء، مُقْبِلاً على ربه عند مناجاته في خشوع وسكينة، موقنًا بالإجابة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ادْعُوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه))[8].
خامسًا: تقوى الله بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: 11].
قال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة، وقد سددت طريقها بالمعاصي.
قال الشاعر:
نَحْنُ نَدْعُو الإِلَهَ فِي كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ نَنْسَاهُ عِنْدَ كَشْفِ الكُرُوبِ
كَيْفَ نَرْجُو إِجَابةً لِدُعَاءٍ قَدْ سَدَدْنَا طَرِيقَهَا بالذُّنُوبِ
سادسًا: أن يعلم أن من أعظم موانع استجابة الدعاء أكل الحرام، وإن من المُحْزِن، أن كثيرًا منا لا يَنْتَبِهُ لهذا.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لَيَأْتِيَنَّ على الناس زَمانٌ لا يُبَالي المرء بما أَخَذَ المال، أَمِنْ الحلال أَمْ مِنْ حَرام))[9].
وعلى سبيل المثال: ترى البعض يأخذ أموال الناس بالظلم والقوة، وبعضهم بالمكر والحيلة، ومنهم من يبخس العمال حقوقهم، وآخرون يساهمون بأموالهم في البنوك الربوية، أو يتعاطون في أموالهم وتجاراتهم معاملات محرمة أو مشبوهة.
(/3)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يُطِيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنَّى يُسْتَجَاب لِذَلِكَ))[10].
وقد ذكر أهلُ العِلْمِ آدابَ الدُّعاء، وبَيَّنُوا ذلك في كتبهم، فينبغي للعبد أن يعرفها ويأخذ بها، فمن ذلك أن يبدأ الداعي بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يَعْزِمَ المَسْأَلَة، فلا يَقُول: اللهم اغْفِرْ لي إن شِئْتَ، ونحوها، وأن يرفع يديه حال الدعاء مُسْتَقْبِلاً القِبْلة وأن يكون على طهارة، وأن يكون معترفًا بذنبه ونعمة الله وفضله عليه، ومنها إظهار الافتقار إلى الله تعالى والشَّكْوَى إليه، وأن لا يَعْتَدِيَ في الدعاء، وقد بينت هذه الآداب بأحاديثَ صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يتحرى الأوقات الفاضلة التي يستجاب فيها الدعاء؛ كحال السجود، وبين الأذان والإقامة، والدعاء في جوف الليل، وآخر النهار يوم الجمعة، وعند نزول المطر، وإفطار الصائم، وليلة القدر، ويوم عرفة، ودبر الصلوات المكتوبات، وعند النداء للصلوات المكتوبات، وعند إقامة الصلاة، وعند زحف الصفوف في سبيل الله، وعند الاستيقاظ من النوم ليلاً والدعاء بالمأثور، وقد ثبتت هذه المواضع بأحاديث صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(/4)
وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الإخبار عمن يستجاب دعاؤهم، فمنهم دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب، ودعوة الوالد، والمسافر، والصائم، والمظلوم، والإمام العادل، ودعوة الولد الصالح، ودعوة المستيقظ من النوم إذا دعا بالمأثور وغيرهم.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين))[11].
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يختار في دعائه جوامع الدعاء فيقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وكان يكثر منها، ويقول: يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دِينِكَ، وقال لعَلِيّ: ((قل اللهم اهدني وسددني))، وعلم عائشة أن تقول في ليلة القدر: ((اللهم إنَّكَ عَفُوٌّ تحب العفو فاعف عني))، وغيرها من الأدعية.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سنن الترمذي (5/462) برقم (3382)، وقال: هذا حديث غريب، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (6290).
[2] سنن الترمذي (5/455) برقم (3370)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/138).
[3] سنن الترمذي (5/539) برقم (3524)، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/172).
[4] سنن أبي داود (2/76) برقم (1479)، وانظر: صحيح الجامع الصغير برقم (3401).
[5] انظر: مسند الإمام أحمد (3/18).
[6] صحيح البخاري (4/161) برقم (6340)، وصحيح مسلم (4/2095) برقم (2735).
[7] جزء من حديث في صحيح مسلم (4/2096) برقم (2735).
[8] سنن الترمذي (5/517-518) برقم (3479)، وحسنه الألباني في الأحاديث الصحيحة برقم (594).
[9] صحيح البخاري (2/84) برقم (2083).
[10] صحيح مسلم (2/73) برقم (1015).
(/5)
[11] سنن الترمذي (5/578) برقم (3598)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
(/6)
العنوان: الدعايةُ ودورُها في الحرب النفسية
رقم المقالة: 1419
صاحب المقالة: قصي أحمد
-----------------------------------------
يُقصَد بالدعاية: ترويجُ معلومات وآراء منتخبة وَفق تخطيطٍ معين بقَصْد التأثير في عقول وأعمال مجموعة معينة من البشر لغرض معين؛ قد يكون عسكريًا أو اقتصاديًا، وهي إحدى أسلحة الحرب النفسية الفتاكة التي فرضت نفسها في الحرب الحديثة أكثر من أي وقت مضى، مما حفز الدول على التفنُّن في كيفية استخدامها لتحقيق أعظم فائدة منها، ولا يقتصر استخدامُ الدعاية على وقت الحرب فقط، بل يشمل وقت السلم أيضاً.
وغنيّ عن البيان أن الإنسانية قد استعانت منذ أقدم العصور بكثير من الوسائل التي تندرج اليوم فيما نسميه بحرب الدعاية، وقد تطورت هذه الوسائلُ حتى بلغت في قرننا الحالي ذروة ما يمكن أن تكون عليه.
ولم تعد الدعاية تقتصر على المقاتلين في المعركة؛ تدفعُهم عن المقاتلة إلى الاستسلام، وتقنعهم بالهزيمة المؤكدة، بل ولم تعد الدعاية تقتنع -بالإضافة إلى ما سبق- بسكان الأراضي المحتلة؛ تكسبهم لقضيتها، وتخلق منهم الأعوان والأنصار، مباعِدةً بينهم وبين أعمال التخريب والتدمير، وإنما اضطلعت الدعاية أيضا بمهمة أخرى، فأخذت تهيئ من أمر السكان وتكسبهم لقضيتها، سواء قبل الحرب أو إبّان القتال، لذا نرى الدعاية متنوعة؛ فالدعاية التكتيكية تستهدف هدفاً مباشراً، وهي سلاح يتعاون مع سائر الأسلحة الأخرى، كإلقاء المنشورات بالمدافع، واستخدام مكبرات الصوت، وإشاعة الأخبار السيئة عن مؤخرة عدوّه (مثلما كان عليه استخدام مكبرات الصوت في معركة (ديان بيان فو) في الهند الصينية).
أما الدعاية الاستراتيجيةُ فتتميز ببُعد مرماها، ويتلخص عملُها في التمهيد لعمل الدعاية التكتيكية، في حين تستعمل الدعاية التعزيزية ما استطاعت لكسب المحتلين بإقناعهم بأن الهزيمة هي النهاية، وأن كل مقاومة ينكرها المنطق.
(/1)
فالخير أن يتعاون الجميع مع السلطة لتحقيق الرفاهية.
وهناك الدعاية المضادة التي تستهدف تفنيد فكر العدو أو أسلوبه، كالدعاية التي أطلقها اليابانيون متهمين الأمريكان بالهمجية عندما كانت أجهزةُ الدعاية تتحدث عن همجية اليابانيين.
حيل الدعاية السوداء:
من أساليب الدعاية السوداء أنها تستخدم الشعارات والكلمات الرنانة مثل الدكتاتور والسفّاح، كذلك استعمال المترادفات السلبية بدلاً من تسمية الأشياء بمسمياتها؛ مثل: كلمة (الفراعنة) بدل (المصريين)، والتهويل والتشويش مثل استغلال الصور الموضحة، كالرسم الكاريكاتيري كدعاية ضد الأمريكان في أثناء الحرب الكورية. غير أن الدعاية مهما كان لها من تأثير فلها قيودٌ تَحُد من قيمتها، لذا يجب أن يستغل القائم بالدعاية الاستعداد النفسي للمجموعة التي يوجه إليها دعايته، وقد يتمكن من الحصول على بعض النتائج، غير أنه يخفق في الوصول إلى هدفه لإثارة نزعات متعارضة؛ فكثير من الفرنسيين كانوا يخافون الاستجابةَ لدعاية الحلفاء في الاشتراك الفعلي خوفًا من بطش الألمان.
وقد يخطئ القائم بالدعاية في تقدير من يوجه لهم دعايته، فيحصل على نتائج مضادة لما يهدف إليه، ومن الأمثلة على ذلك: في بداية الحرب العالمية الثانية حين عسكرت الجيوشُ الفرنسية أمام خط سيجفريد، أذاع الألمان في مكبرات الصوت للجنود الفرنسيين أن الإنجليز قد نزلوا بشمال فرنسا، وأخذوا في هتك عرض النساء الفرنسيات تاركين أزواجهن في الميدان، فقوبلت القصة بسخرية وفكاهة؛ لأن الألمان كانوا يجهلون التعصب الإقليمي للفرنسيين، وكان معظم الجنود من أهل الجنوب.
(/2)
ومن الأخطاء التي تحدث من أثر الدعاية طولُ الوقت، ومن الأمثلة على ذلك أن الألمان ظلوا مدة طويلة يقومون بالدعاية ضد الروس على أنهم أعدى أعدائهم. فلما تمت معاهدة عدم الاعتداء بين الألمان والروس عام 1939م غيّر الألمان من دعايتهم. فلما عادوا وهاجموا روسيا بعد ذلك كان من الصعب عليهم إقناعُ الشعب ثانية بأن الروس أشرار.
واتجهت الحربُ الدعائية إلى الفكاهة والبرامج الساخرة والنكت التي تمس الحكم والنظام السياسي والاقتصادي وبعض جوانب الحياة واستغلال ميل الشعب إلى الفكاهة في ترديد ونقل النكت التي تركت أثرًا بالغَ السوء على روح القتال لدى الأفراد، ولقد لوحظ خطورةُ هذا في أعقاب حرب يونيو 1967م حين بدأت النكت التي تركت أثرًا بالغ السوء على روح القتال لدى الأفراد.
ولكن الله سلّم حين أدرك الشعبُ خطورة الموضوع، وقضى تماما على هذه الموجة، ولم تظهر للنكتة آثار كسلاح من أسلحة الحرب النفسية في معركة أكتوبر عام 1973م.
كما اتجهت الحرب الدعائية إلى سلاح الغرائز الجنسية أيضا لاجتذاب الآخريين إلى الدعاية المسمومة، وكان اليابانيون يلقون المنشورات على الجنود الإنكليز وقد رسم على الوجه الآخر منها تصاوير فتيات عاريات.
ومن أنواع الشائعات:
الشائعات الزاحفة: وهي التي تروج ببطء وبطريقة سرية.
والشائعة الغامضة: وهي التي تروج ثم تغوص تحت السطح لتظهر مرة أخرى عندما تتهيأ لها الظروف.
والشائعة الهجومية: وهذه توجه ضد العدو.
وشائعة الخوف: التي تستهدف إثارة القلق في نفوس السكان؛ كالإشاعة التي روّجها الألمان في إنكلترا بأن الغواصات الألمانية سوف تحطم أساطيل الحلفاء، وأن إنكلترا ستستسلم من جراء الحصار الاقتصادي المفروض عليها.
(/3)
أما إشاعة الأمل: فإنها تستند على عوامل مغايرة تماماً لإشاعة الخوف التي يهدف فيها ناشروها إلى تكوين حقيقة، كالإشاعة التي راجت خلال الحرب العالمية الأولى من حملة على بولندا حول دحر البولنديين الهجومَ الألماني .
وتستهدف إشاعة الحقد وإرباك الرأي العام وخلق حالة من الاضطراب ممزوجة بالكراهية أمام صفوف العدو لعرقلة سير الحرب ومن ثم كفاحه، كإشاعة الألمان ومفادها: أن بريطانيا رفضت إدخال أبنائها في القتال واكتفت بأبناء المستعمرات في حين يقدم الأمريكان زهرة شبابهم.
وأسلوب التهديد واستعراض العضلات يدخل تحت هذا النوع من الإشاعات، مثل الضغوط الأمريكية الصهيونية التي تلوح بين حين وآخر بالتدخل في شؤون الشرق الأوسط، وخاصة الدول العربية المصدرة للنفط، وتشير إلى تغيير بعض أنظمة الدول العربية، والتهديد باحتلال جنوب لبنان وسوريا، وغير ذلك، والإشاعات المتواترة التي يطلقها الأعداء ضد وطننا العربي والحكومات الثورية.
ويجب أن لا يعزب عن البال أن الإشاعة سلاح المتضررين والمحتكرين والعملاء والرجعيين داخل الأوطان المتحررة.
تأثير الإشاعة:
الإشاعة ركنٌ أساسي في الحرب النفسية، فهي وسيلة فعالة لإحداث البلبلة في الحرب والسلم، والبلبلة مفتاح تغيير الاتجاهات وزعزعة أمن الحكم وهز الإيمان بالوطن والوحدة والثبات.
وترويج الإشاعة وحبكها وتوقيتها يحتاج إلى الدقة في الصنع والصياغة بحيث تصبح مستساغة قابلة للبلع والهضم، ومن ثم الانتشار.
من أصول بث الإشاعة الناجحة أن تكون بشكل خبر أو رواية مختصرة ونافذة وملائمة لاحتلال جزء من تفكير المواطن العادي لتتمكن من تحوير فكره واتجاهه، كما يجب بث الإشاعة في ظرف الغموض والالتباس، فالغموض يولد الشك، ويؤثر في الرأي العام، ويستحسن أن يكون الناس في حالة من التوجس والخوف من حدوث شيء ما.
(/4)
فإذا ما ظهرت الإشاعة تبلورت حولها الهواجسُ، وتحول التوجس إلى خوف حقيقي، وهذا هو المقصود بالحرب النفسية. ويقصد بالإشاعة القصص والأخبار غير المؤيدة التي تتداولها الألسن، وهي غالباً ما تجد آذانا صاغية وميلاً قوياً لتقبلها كحقيقة واقعة.
أما تأثيرها في نفوس المستمعين وقبولهم إياها فيتوقف على مقدار وعيهم ودرجة استعدادهم النفسي.
وهي عادة تجري في جسد الشعب الضعيف.
ويستهدف من بث الإشاعات تحطيم معنويات الشعب بإثارة موجة الرعب والخوف في نفوس السكان لأجل تصديع الجبهة الداخلية، وكذلك في زعزعة معنويات القوات المسلحة وخلق نوع من فِقدان الثقة بينها وبين قيادتها لغرض إحلال روح التمرد وانحطاط الضبط، وبذا يمكن التغلب عليها. وهذا ما تمارسه إسرائيل حاليا بمخططات إشاعة مدروسة موجهة إلى جميع الجيوش العربية، إضافة إلى تحطيم الروابط بين الدول المتحالفة والصديقة.
دور وسائل الأعلام في توعية المواطن ضد الإشاعات:
يجب أن تتكفلَ وسائلُ الإعلام المختلفة بعرض الحقائق في وقتها، وإشاعة النقد بين المواطنين، وتنمية الوعي العام، والتحصين من الحساسية النفسية عامة، ومن الشائعات خاصة، وكذلك التوعية المستمرة لتثبيت الإيمان والثقة بالبلاغات الرسمية عن طريق الندوات والمحاضرات والمناقشات.
ومن أجل مقاومة الشائعات والسيطرة عليها، يجب اقتفاء خط سير الشائعات، والوصول إلى جذورها، وإصدار البيانات الصحيحة الصريحة، والتخطيط الشامل، وتكاثف الجهود، إضافة إلى الثقة بالقادة والرؤساء، والثقة بأن الأمور العسكرية تحاط دائما بالسرية والكتمان، والثقة بأن العدو يحاول خلق الشائعات عندما لا تتيسر له الحقائق، وتولية الأمر والقيادة لأهل العلم.
المصادر:
1- المؤسسة العربية للدراسات والنشر - الحرب النفسية - 29 - بيروت
2- علم النفس العسكري - الحسيني عباس
(/5)
3- قراءات في علم النفس الاجتماعي - لويس ملكية - المجلد الثاني - الهيئة المصرية للتأليف والترجمة 1970م.
4- جريدة الحدباء الموصلية – العدد 485 لسنة 1989م.
(/6)
العنوان: الدعوة النبيلة .. الجوفاء!
رقم المقالة: 864
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
كثيرة تلك الدعوات الجميلة والشعارات البراقة، وجميل بنا أن ندعو إلى مقاصد عظيمة، بيد أن تلك الدعوة النبيلة - وللأسف - سوف تظل دعوى جوفاء إن نحن أخطأنا طريقها.
وهكذا كل دعوة جليلة، فدعوة التوحيد - وحسبك به من أس لمقاصد الشريعة - تظل دعوى فارغة جوفاء لو أخطأ الداعي طريقها، أو كانت الدعوة شعاراً لا دثار له، فلو طفق دعاة يدعون الناس إلى ما يتوهمونه توحيداً كما فعلت الاتحادية في الغابر، وكذلك المشركية من المعتزلة الذين زعموا التوحيد أصلاً لهم، فهل كان يغني الاسم عنهم شيئاً؟
وقد يفهم الرجل التوحيد الصحيح ومع ذلك تظل دعوته إليه مجرد هراء في أعين المدعوين لأنه لم يعرف طريق الدعوة فظن أن إرشاد الناس إليه يكون بنحو الصياح فيهم وتبكيتهم ودفعهم من القفا نحو الدرب ليسقطوا فيه على وجوههم.. سقطة لاقيام لهم بعدها!
ولعله لابد لمن أراد أن يرشد الناس إلى غاية نبيلة من أن يدرك الغاية، ولابد كذلك من أن يدرك طريقها، وإلاّ فلن يرشد مثله الناس.
بل قد يرشد الناس إلى طريق صحيح ولكنه موصل لغاية أخرى والسبب هو الجهل الذى هداه لوصف غاية أخرى عرف طريقها فزلله للسالكين.
وقد يأطر الناس على طريق غير الطريق الموصل لغايته التي علمها علماً صحيحاً جهلاً منه بطريق الإرشاد السليم.
ولك أن تشبه هذين برجلين:
أحدهما يريد أن يرشد الناس إلى طريق مدينة جميلة، فيها من رغد الحياة وزهرة الدنيا ما فيها، فسمع بمدينة أعجبه اسمها فظنها كما توهم، فوقف على سبيلها يدعو الناس إليها ثم تبعهم، فكانت النتيجة أن غرر بأقوام مناهم الأماني فلما وصلوا المدينة بعد بُعد الشقة وجدوها خراباً بلقعاً مهجورة... لقد كان مقصده حسناً ومع ذلك فقد شقي وأشقى.
(/1)
وأما الرجل الآخر فقد علم محل المدينة التي فتح الله عليها بركات السماء والأرض، علم بمكانها وما فيها، غير أنه وقف على سبيلها يدعو الناس ولكنه كان يقول:
- أنت يا ضال تعال وادخل من هنا!
- أنت يا بليد التائهين تعال واحشر نفسك هنا!
- أنت يا أيها الخارج من درب السلامة يا كلب النار تعال ارجع وادلف ههنا!
- أنت يا ...
- أنت يا ...
وضع محل النقاط شيئاً مما تسمع نحوه من أفواه بعضهم في صحف ومنابر لايطاوعني قلمي على تسميتها دعوية أو ثقافية!
لعلك توافقني في أن عاقبة مثل هذا أن يستفز أَنِفَاً يحول دونه ودون سلوك تلك السبيل –فضلاً عن دعوته غيره إليها - بعد أن يتحطم أنفه وتكسر أطرافه إثر معركة كرامة!
ونفير الناس بسبب سيء الأخلاق والمعاملة معلوم مشاهد، وتأمل حال الناس وبعض الحاجات بل بعض الضروريات، قد تجد بائعاً شكساً لكساً غضوباً لايحسن عرض سلعته، فما أن يفاصلك في الثمن حتى تنفصل عنه إلى غيره، ولو كنت تبحث عن دواء، وصدق الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...} الآية، هذا وهو نبي بل أعظمهم صلوات الله وسلامه عليهم، وهم الصحابة بل خير القرون، أرق الأمة قلوباً وأقلهم تكلفاً وأعمقهم علماً، رضي الله عنهم، فتأمل يا من لست بنبي ولا من حولك يقايس بخيار الأمة، أليست الغلظة والفظاظة أدعى لتنفيرك الناس؟
فلله كم من داعية فظ قام منفراً عن الله، ولله كم من غليظ قد فض الناس فانفضوا {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}.
(/2)
ولله ما أعظم الفرق بين قلبين؛ قلب ذلك الداعية (!) المجهل المسفه الذي تسربل بسربال الحرب، وحسب نفسه في ساحة الوغى، فشرع رمحه وتقلد سيفه، وأضحى لا هم له سوى الانتصار بالضربة القاضية على المدعو المسكين، وبين من علم مقامه وأدرك حقيقة الدعوة إلى الله، وفهم مقصدها فتراه ينظر إلى الناس بعين الشفقة التي طالما دمعت أثناء الدعاء لهم بالهداية والتوفيق.
وربما وافقني كثير من الفضلاء إلى هذه النقطة في سابق التقرير، فإذا قلت له: فأنزل ما مضى من حديث على الدولة أو بعض مؤسساتها الرسمية، تغير واستشاط.. وأرجو أن لاتكون أيها القارئ من هؤلاء فإني لك ناصح محب.
وحتى لايفرح بهذه الكلمات أرباب المناصب وأصحاب الولايات - وليس غرضي أيها الغَضِبُ رضاك بل رضا مولاك - الذين استمرءوا مخالفة الشرع وتقديم الأهواء والآراء والمصالح المتوهمة عليه أقول للفطن اللبيب: لست أرمي بما ذكرت آنفاً إلى نبذ ما يسمونه بالعنف (!) في الخطاب الإصلاحي، كيف هذا والله تعالى يقول لنبيه: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}، وجهاد المنافقين المُغْلَظِ فيه أعظمه جهاد الكلمة، أفلا نجاهد بها قوماً يقذعون إلينا في منطقهم، ويجهلون ويسفهون ويشنعون، فتارة رمي بالتخلف والرجعية والهمجية، وأخرى نبذ بالعنف والتطرف والغلو في الإرهاب، إلى غير ذلك من كيل التهم والسباب؟ بلى والله لنجاهدنهم بألسنتنا، ولنغلظن لهم كما أغلظوا لنا، محتسبين في ذلك الأجر.
(/3)
بيد أن غرض ما سبق، الحديث عن الأصل في منهج الدعوة بقصد الهداية والبيان دون قصد إلى الحديث عن حالاتها الخاصة، كمقام إنكار المناكر، وجهاد الكلمة للمنافق والكافر فتلك - إن كانت تجدي وتزجر- قد تقتضي المكافأة بالمثل بل ما هو فوقه دون فحش أو بذاء أو نزول نحو درك نهينا عن النزول إليه، ومن أوتي الحكمة فرق بين مقام المدافعة والمجاهدة والإنكار، وبين مقام الهداية والتعليم والإرشاد الذي كان ما سلف من الحديث عنه، والله هو الموفق وهو يهدي السبيل.
(/4)
العنوان: الدعوةُ والمدافعةُ بالكلمة الصالحة
رقم المقالة: 1142
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.
وبعد؛
فمع إجمال الدعوة إلى إنصاف المخالف دعوةٌ أخرى مهمة لا تنفصل عنها، ألا وهي الدعوة إلى كريم القول في أثناء المدافعة عن الحق الذي تعتقده، ولا سيما مع الإخوة من المنتسبين إلى السنة، فقد أعلن رب العزة محبتَه لأقوام، فامتدحهم بحنوّهم على إخوانهم، وعطفهم عليهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، فتأمل كيف قرن إعلان المحبة بوصف الذلة على المؤمنين، قال بعض أهل التفسير: عَدَّى بـ(على) وكان الظاهر أن يقال: أذلة للمؤمنين، لتضمين (أذلة) معنى العطف والحنو؛ فكأنه قال: عاطفين على المؤمنين، وقيل: للتنبيه على أن ذلك حالهم مع علو طبقتهم وفضلهم[1].
إن وعِرَ الأخلاق، غليظ الطباع، الشرس الضرس، الشكس اللكس، لن ينشر دعوة، ولن يقيم بين الناس سنة، بل ليس لمثل هذا طاقةٌ بدفع طعن الطاعنين؛ فقد قيل: عقلٌ بلا أدب كشجاع بغير سلاح، فأنى يدافع هذا أو يحارب؟
وما أقبحَ الحقَّ يوم يُكسى ثوباً من القذاعة والبذاء! ولو لم تكن سيئة ذلك إلاّ صرف الناس عن الحق وصاحبه –ولا سيما إن استغل المبطِلُ سوءَ أدب صاحب الحق في التنفير- لكفى، وإن لم يفعل فبالفحش والبذاءة قل أن تُنشر أو تُنصر دعوةٌ. وكم من بدعة راجت بفعل المنطق الحسن، والأدب الرفيع.
والمدافعة بالكلمة الطيبة على نقيض ذلك؛ فإن المدافعة بالكلمة الصالحة من جملة الإنصاف، كما أنها طريق ييسر للمخالف القيام بالقسط، دون أن تستفزه الخصومة.
(/1)
وقد قال الله –تعالى- لحامل أبين الحق وأصرحه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
لقد كان نبينا –صلى الله عليه وسلم- سجيح الطبع، لدن الضريبة، سَبْط الخليقة، سهل الشريعة، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا بذيئاً، فلا غرو أن يجتمع حوله أصحاب النفوس السوية، وكانت تلك الخلال كافية عند ذوي البصائر في الدلالة على صدقه، حتى قال قائلهم:
لَو لَم تَكُن فيهِ آياتٌ مُبَيِّنَةٌ كانَت بَداهَتُهُ تُنبيكَ بِالخَبَرِ
وأقبِحْ بمن يزعم اقتفاء السنة والأثر، وإذا أصخت السمعَ إليه وجدته قذع المنطق، لئيم الضريبة، دنيء الملكة، خسيس الشِنشِنة، يسب هذا ويلعن ذاك، ويبكت الثالث، همه أن يُضحك الناس من مُعارضه، أو أن يسكت مخاصمه، فإذا رأى ذلك ابتسم ابتسامة المنتصر!
ثم يُطربه بعدُ قِيلُ الناس ما حاصله: إنه لمسكت.. طويل اللسان!
............. هنيئاً مريئاً أنت بالفحش أحذق!
وقد قال الله عز وجل: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53]، قال ابن جرير: قل يا محمد لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة. ثم ساق بسند حسن عن الحسن البصري قوله: "التي هي أحسن، لا يقول له مثل قوله، يقول له: يرحمك الله، يغفر الله لك"[2]، وقد قيل إنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ شتمه رجل من العرب فهمّ به عمر وقيل بل أبو بكر[3]، وهذا الذي اختاره ابن جرير هو قول الجمهور[4].
(/2)
وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، قال الحسن: "لين القول من الأدب الحسن الجميل، والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه"[5]، وقال سبحانه: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، وقال: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34-36].
"إن الله كتب الإحسان على كل شيء"[6]، وانظر إلى من كانت للمؤمنين فيه الأسوة الحسنة كيف كانت حاله، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه-: أن بعض الصحابة قالوا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ادع على المشركين.
قال: "إني لم أبعث لعاناً، إنما بعثت رحمة"[7]، ومن تأمل دعاءه –صلى الله عليه وسلم- على المشركين أو لعنه لهم، وجده لنازلة أو مقتضٍ زائد عن أصل ما هم عليه، على الرغم من استحقاقهم اللعنة بكفرهم.
وقد أورد الأثر الإمام مسلم –رحمه الله- تعالى في باب عُنون له بـ: "باب النهي عن لعن الدواب وغيرها" فتأمل! ثم تأمل محل المستطيل على إخوانه من الأثر والسنة.
(/3)
وفي الصحيحين أن طفيل بن عمرو الدوسي قدم وأصحابه على النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله إن دوسا عصت وأبت فادع الله عليها.
فقيل: هلكت دوس.
قال: "اللهم اهدِ دوساً وأتِ بهم"[8].
ومع ذلك يصر أناس ربما انتسبوا إلى السنة على إقناعنا بأن هذا الطريق الذي سلكه محمد –صلى الله عليه وسلم- في دعوة بعض الكفار؛ لا يجدي مع إخوته المخالفين من أهل السنة!
إن من السهل أن تُنشأ العبارات في قدح الخصم وذمه، ولكن لتتذكر أن مكافأتك في مقدوره، فالقدح لا يعجز عنه الصبيان، وكُلّك سوآت وللناس ألسن!
والعامة تقول: أفلس فلان! إذا عدل عن مقارعة الحجة والمنطق، بالسب والشتم تعريضاً أو تصريحاً، وقد صدقوا؛ فمثل هذا مفلس، ووجهُ إفلاسه غير منحصر في افتقاره إلى الحجة، فقد سمى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمثال هؤلاء مفلسين ولكن من وجه آخر؛ جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون ما المفلس"؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار"[9].
وفي الصحيح عن عائشة –رضي الله عنها- أن يهود أتوا النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السام عليكم.
فقالت عائشة: عليكم، ولعنكم الله، وغضب الله عليكم.
قال: مهلاً يا عائشة! عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش.
قالت: أوَلم تسمع ما قالوا!
قال: أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في.
فانظر إلى ترك العنف والرفق، أي مردود جلب؟!
أيها الأخ الكريم المستقيم: لا يكن الجاهلي ذو الإصبع العدواني خيراً منك، وقد كان فيما قال لابن عم انقضت عقدته معه، واضطرب حبله، فكان يزري عليه ويسمع به:
(/4)
لَولا أَواصِرُ قُربى لَستَ تَحفَظُها وَرَهبَةُ اللَهِ في مولىً يُعاديني
إِذاً بَرَيتُكَ بَرياً لا اِنجِبارَ لَهُ إِنّي رَأَيتُكَ لا تَنفَكُّ تَبريني
اللَهُ يَعلَمُني وَ اللَهُ يَعلَمُكُم وَاللَهُ يَجزيكُمُ عَنّي وَ يَجزيني
وهكذا أهل الحجا لا تستخفنهم الخصومة، بل يعقل ألسنتهم ما حباهم الله من العقل، فيمنعهم الخروج عن حد الأدب، ولا تدفعهم الإساءة لمثلها، وقد قيل: إذا خرجت من عدوك لفظة سفاهة فلا تلحقها بمثلها تلقحها؛ فنسلُ الخصام نسلٌ مذموم... إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح، أوثِق غضبك بسلسلة الحِلْم؛ فإنه كلب إن أفلت أتلف[10].
فإياك إياك لا يستفزنك صراخ من لم يراقب صاحبُه الله فيما يقول، وتذكر ما قاله الأول:
لن يدرك المجدَ أقوامٌ -وإن كرموا- حتى يَذلوا -وإن عزوا- لأقوامِ
ويُشتموا فترى الألوان مسفرةً لا خوف ذلٍ ولكن فضل أحلامِ
• • • • • •
وما ذاك عن عجز بكم غير أنني أرى أن ترك الشر للشر أدفعُ
.................. ومن يعَضُّ الكلب إن عضا؟!
قيل إن الأحنف سبه رجل وهو يماشيه في الطريق، فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال له: يا هذا إن كان قد بقي معك شيء فهات وقله ههنا! فإني أخاف أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك، ونحن لا نحب الانتصار لأنفسنا[11].
وإذا بغى باغٍ عليك بجهله فاقتله بالمعروفِ لا بالمنكرِ
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34-36].
(/5)
فتأمل أي عاقبة وُعد الذي يدفع بالحسنة، وأي حظ قسم الله له من دون الخليقة، فلا يُذهبن حظك الأبالسةُ من الموسوسين، ولا تفسدن بينك وبين أخيك الشياطين، واستعذ بالله منهم، ولا تسكت عن باطل أو تترك حقاً، بل دافع، ولكن بالتي هي أحسن، فذلك والله طريق نُجح المقاصد، وعنوان السعادة والفلاح، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأدبُ المرء عنوانُ سعادته وفلاحه، وقلةُ أدبه عنوانُ شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب.. وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر؛ كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان"[12].
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلاّ أنت.
وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر المعنى في روح المعاني تفسير الآية 6/163.
[2] ينظر تفسير الآية 8/93.
[3] ذكر ذلك السَمَرْقَنْدِيُ في بحر العلوم، وذكر الماوردي والقرطبي وغيرهما ما قدم.
[4] ذكر ذلك الثعالبي في الجواهر الحسان عند تفسير الآية 2/346.
[5] ينظر تفسير ابن جرير 1/432.
[6] جزء من حديث شداد بن أوس عند مسلم 3/1548 (1955)، وقد رواه غيره.
[7] حديث أبي هريرة في صحيح مسلم 4/2006 (2599).
[8] البخاري 3/ 1073(2779)، ومسلم 4/1957 (2524).
[9] 4/1997 (2581).
[10] من الفوائد لابن القيم ص50-51 باختصار.
[11] ذكره الأبهيشي في المستطرف 1/149.
[12] مدارج السالكين 2/391.
(/6)
العنوان: الدفاع عن السنة النبوية وطرق الاستدلال
رقم المقالة: 436
صاحب المقالة: د. الطبلاوي محمود سعد
-----------------------------------------
السنة في اللغة: الطريقة محمودة كانت أو مذمومة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة))[1].
والسنة في اصطلاح المحدثين: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة سواء كان قبل البعثة أو بعدها وهي بهذا ترادف الحديث عند بعضهم.
والسنة في اصطلاح الأصوليين: ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
فمثال القول: ما تحدث به النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف المناسبات مما يتعلق بتشريع الأحكام كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور ((إنما الأعمال بالنيات)).
وقوله ((البيعان بالخيار مالم يتفرقا))[2].
ومثال الفعل: ما نقله الصحابة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون العبادة وغيرها.
ومثال التقرير: ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال صدرت عن بعض أصحابه بسكوت منه مع دلالة الرضا.
وقد تطلق السنة عند الأصوليين على ما دل عليه دليل شرعي من الكتاب أو السنة أو اجتهاد الصحابة.
والسنة في اصطلاح الفقهاء ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم مما يدل على حكم شرعي وجوباً أو حرمة أو إباحة أو غير ذلك[3] أو ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ولم يكن من باب الفرض أو الواجب[4].
جهود العلماء لصيانة السنة ومقاومة حركة الوضع:
(/1)
لقد بذل العلماء منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا جهوداً عظيمة لتمييز صحيح الأحاديث متبعين في ذلك التحري في إسناد الحديث، فلا يقبلون منها إلا ما اطمأنوا فيه إلى ثقة الرواة وعدالتهم، وقد أشار الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن مسعود قوله: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا (( سموا لنا رجالكم )).
ويقول الزهري[5]: الإسناد من الدين. ويقول ابن المبارك[6] بيننا وبين القوم القوائم أي الإسناد. ويقول سعيد بن المسيب[7]: إني كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد.
يقول الشيخ مناع القطان:
ومن الخطوات التي اتبعت أيضاً: نقد الرواة، قال الغزالي في المستصفى والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلف أن عدالة الصحابة معلومة بتعديل الله عز وجل إياهم، وثنائه عليهم في كتابه.
فلا يؤخذ حديث الذين يعرف عنهم الكذب، ولا أحاديث أصحاب البدع ووضع العلماء أمارات للدلالة على أن الحديث موضوع كمخالفته لصريح القرآن، أو فساد معناه، ونشأ من ذلك علم الجرح والتعديل.
وكان لجهود أئمة الحديث وعلمائه في العصور المختلفة أثر كبير في الذب عن السنة النبوية. وفي تخريج الأحاديث، وبيان الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة.
وظهرت كتب كثيرة في هذا الشأن منها:
- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة للحافظ السخاوي.
- ونصب الراية لأحاديث الهداية للحافظ الزيلعي.
- والمغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار للحافظ العراقي.
- وتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير للحافظ ابن حجر العسقلاني.
- وتخريج أحاديث الكشاف للحافظ ابن حجر.
- والمنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن قيم الجوزية.
- وتخريج أحاديث الشفاء للسيوطي.
- والموضوعات لابن الجوزي.
- واللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي.
- وذيل اللآلئ للسيوطي أيضاً.
- والموضوعات الكبرى للشيخ علي القاري الهروي.
(/2)
- والموضوعات الصغرى له أيضاً.
- والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني.
- وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني وقد رد الدكتور مصطفى السباعي في كتابه السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي على ما كتبه أبو رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية). وكذلك رد على مطاعن بعض المستشرقين في السنة[8].
وقد اهتم العلماء بالرد على من أنكر حجية السنة وأنها لم تدون إلا في عصر متأخر فتجد هذه الردود على الهجمات الشرسة من المستشرقين ومن ذوي النفوس المريضة الذين يهدفون إلى توهين الثقة في الأحكام الشرعية وحجية السنة تجد هذه الردود في كتاب دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور محمد مصطفى الأعظمي.
الأعذار في ترك بعض الأحاديث في الاستدلال:
وقد بين لنا شيخ الإسلام ابن تيمية أعذار الأئمة في ترك بعض الأحاديث النبوية أثناء اجتهاداتهم ووضح أنها ثلاثة أصناف[9]:
أحدها: عدم اعتقاد المجتهد من الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث.
الثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأعذار الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة.
- السبب الأول: أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالماً بموجبه.
وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث.
وقد فات على كثير من العلماء بعض الأحاديث فلم يعلموا بها وكذلك أيضاً إحاطة واحد من الصحابة بجميع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يمكن ادعاؤه لأنهم بشر ولهم طاقة.
(/3)
وهو صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان معه صاحباه أبو بكر وعمر في أوقات كثيرة، ثم مع ذلك لما سئل أبو بكر عن ميراث الجدة قال: مالك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، ولكن أسأل الناس فسألهم، فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس[10] وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يعلم بسنة الاستئذان حتى أخبره بها أبو موسى واستشهد بالأنصار.
ولم يكن عمر يعلم أيضاً أن المرأة ترث من دية زوجها بل يرى أن الدية للعاقلة حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان وهو أمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض البوادي يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها[11]؛ فترك عمر رأيه لذلك وقال (( لو لم نسمع بهذا لقضينا خلافه )).
ولما قَدِمَ سرغ وبلغه أن الطاعون بالشام، استشار المهاجرين الأولين الذين معه، ثم الأنصار، ثم مسلمة الفتح، فأشار كل عليه بما رأى، ولم يخبره أحد بسنة.
حتى قدم عبدالرحمن بن عوف فأخبره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون وأنه قال ((إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه))[12].
وهكذا تجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقضي بما يعلم ولكن فاته بعض الأحاديث وذلك مثل ما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها وقد كان عند أبي موسى وابن عباس – وهما دونه في كثير من العلم – علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((هذه وهذه سواء))[13] يعني الإبهام والخنصر، فبلغت هذه السنة معاوية رضي الله عنه في إمارته فقضى بها، ولم يجد المسلمون بداً من اتباع ذلك. ولم يكن عيباً في عمر رضي الله عنه حيث لم يبلغه الحديث. وغير ذلك كثير.
(/4)
ويواصل شيخنا ابن تيمية في توضيح الأعذار وأسبابها ويقول[14] فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماماً معيناً فهو مخطئ خطأً فاحشاً قبيحاً.
ولا يقولن قائل: الأحاديث قد دونت وجمعت، فخفاؤها والحال هذه بعيد. ولا نستنتج من كلام ابن تيمية أن الحديث لم يكتب في عهده، بل كان بعض كتاب الوحي يكتبون عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث أيضاً إلا أن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين.
ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة بل الدواوين تكمل بعضها.
ثم لو فرض انحصارها فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد. وبين لنا ابن تيمية أيضاً أنه لا يشترط في المجتهد أن يكون عالماً بالأحاديث كلها فيقول: لا يقولن قائل: من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهداً.
وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه، بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل.
السبب الثاني: في ترك بعض الأحاديث: أن يكون الحديث قد بلغه، لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من الإسناد مجهول عنده أو متهم، أو سيء الحفظ.
وإما لأنه لم يبلغه مسنداً بل منقطعاً.
أو لم يضبط لفظ الحديث.
السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره وتحته كلام كثير لا يتسع المقام لذكره.
السبب الرابع: في ترك بعض الأحاديث عند المجتهد أنه يشترط في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً يخالفه فيها غيره.
مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة واشتراط بعضهم أن يكون المحدث فقيهاً إذا خالف قياس الأصول.
واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما يعم به البلوى.
وتجد توضيح ذلك في كتب الأصول.
(/5)
السبب الخامس: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده، لكن نسيه كما حدث ذلك لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه وذلك مثل الحديث المشهور عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد الماء فقال: لا يصلي حتى يجد الماء – فقال عمار: يا أمير المؤمنين أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأجنبنا فأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما يكفيك هكذا))[15] وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه ؟ فقال له عمر: اتق الله يا عمار!! فقال إن شئت لم أحدث به.
فقال: بل نوليك من ذلك ما توليت.
فهذه سنة شهدها عمر ثم نسيها حتى أفتى بخلافها وذكَّره عمار فلم يذكر وهو لم يكذب عماراً بل أمره أن يحدث بها.
وأبلغ من هذا أنه خطب الناس فقال: لا يزيد رجل على صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته إلا رددته. فقالت إمرأة: يا أمير المؤمنين: (( لم تحرمنا شيئاً أعطانا الله إياه ؟ )).
ثم قرأتُ {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} سورة النساء (آية 20) فرجع عمر إلى قولها وكان حافظاً للآية ولكن نسيها.
ويواصل شيخنا ابن تيمية في بيان الأعذار وتوضيح الأسباب في ترك بعض الأحاديث في الاستدلال فيقول[16].
السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث، تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريباً عنده.
مثل لفظ المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة والملامسة والمنابذة، والغرر، إلى غير ذلك من الكلمات الغريبة التي قد يختلف العلماء في تفسيرها. وإن كان لها معان مشهورة[17].
وكالحديث المرفوع ((لا طلاق ولا عتاق في إغلاق))[18] فإنهم فسروا الإغلاق بالإكراه ومن يخالفه لا يعرف هذا التفسير.
كما سمع بعضهم آثاراً في الرخصة في النبيذ فظنوه بعض أنواع المسكر، لأنه لغتهم. وإنما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد.
(/6)
وتارة لكون اللفظ مشتركاً، أو مجملاً، أو متردداً بين حقيقة ومجاز فيحمله على الأقرب عنده. وإن كان المراد هو الآخر.
كما حمل جماعة من الصحابة الخيط الأبيض، والخيط الأسود على الحبل. وهذا باب واسع أيضاً.
السبب السابع: في ترك بعض الأحاديث:
اعتقاده ألا دلالة في الحديث.
السبب الثامن أيضاً: اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مراده، مثل معارضة العام بالخاص، أو المطلق بالمقيد وهكذا.
السبب التاسع والعاشر: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه، أو تأويله إن كان قابلاً للتأويل.
كمعارضة كثير من الكوفيين الحديث بظاهر القرآن، واعتقادهم أن ظاهر القرآن مقدم على نص الحديث.
وللإمام الشافعي في هذه القاعدة كلام معروف. وللإمام أحمد في رسالته المشهورة في الرد على من يزعم الاستغناء بظاهر القرآن عن تفسير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم[19].
وقد أورد فيها من الدلائل ما يضيق هذا الموضوع عن ذكره[20].
كتب الحديث وأوائل المصنفات:
قال الشافعي يرحمه الله: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صواباً بعد كتاب الله من موطأ مالك.
وهو كما قال الشافعي رضي الله عنه، من حيث إنه أول كتاب ظهر، ويعلق شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول:
وهذا لا يعارض ما عليه أئمة الإسلام من أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من صحيح البخاري ومسلم.
مع أن الأئمة على أن البخاري أصح من مسلم.
ولايشك أحد أن البخاري أعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ، وأنه أفقه منه.
وكتب الأحاديث التي بين أيدينا أيضاً ليست على درجة واحدة في الرتبة إذ البخاري وأبو داود أفقه أهل الصحيح والسنن المشهورة كما يقول ذلك ابن تيمية ويعلل ذلك فيقول:
وإنما كان هذان الكتابان كذلك لأنه جرد فيها الحديث الصحيح المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الموطأ ونحوه فإنه صنف على طريقة العلماء المصنفين إذ ذاك.
(/7)
وأول ما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كان الاهتمام به أكثر فإن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكتبون القرآن فقط فكان الرسول في أول نزول الوحي لا يشغلهم بغيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن وقال: ((من كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه))[21].
ولكن الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم بدأوا يكتبون الأحاديث حيث أذن في الكتابة لعبدالله بن عمرو وقال: ((اكتبوا لأبي شاه))[22].
وكتب لعمرو بن حزم كتاباً ( قالوا: كان النهي أولاً خوفاً من اشتباه القرآن بغيره، ثم أذن لهم صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث عنه لما أمن منهم اختلاطه بالقرآن.
فكان الناس يكتبون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا أيضاً غيره من الكتب والرسائل للملوك والأكاسرة والقياصرة وحكام البلاد.
ولم يكونوا يصنفون ذلك في كتب مصنفة إلى زمن تابع التابعين حتى صنف العلم بعد ذلك.
فأول من صنف ابن جريج[23] شيئاً في التفسير، وشيئاً في الأموات وصنف سعيد بن أبي عروبة[24] وحماد بن سلمة، ومعمر وأمثال هؤلاء يصنفون ما في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.
وصنف بعد ذلك عبدالله بن المبارك، وعبدالله بن وهب ووكيع بن الجراح، وعبدالرحمن بن مهدي، وعبدالرزاق، وسعيد بن منصور وغير هؤلاء.
فهذه الكتب التي كانوا يعدونها في ذلك الزمان هي التي أشار إليها الشافعي رحمه الله فقال: ليس بعد القرآن كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك فإن حديثه أصح من حديث نظرائه وكذلك الإمام أحمد لما سئل عن حديث مالك ورأيه، وحديث غيره ورأيهم، رجح حديث مالك ورأيه على حديث أولئك ورأيهم.
وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة))[25].
(/8)
فقد روي عن غير واحد، كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا هو مالك[26].
ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم. وتكلم إما بظن أو هوى. فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ[27] في السفر مخالفة للقياس وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس. لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما.
يعلق ابن تيمية ويقول: وقد بينا هذا في رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وبينا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر، بل لهم نحو من عشرين عذراً. مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث، أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم، أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ أو ما يدل على الناسخ، وأمثال ذلك.
والأعذار يكون العالم فيها مصيباً فيكون له أجران ويكون فيها مخطئاً فيثاب على اجتهاده، وخطؤه مغفور له.
لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} البقرة 286 وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقال: (قد فعلت)[28] ولأن العلماء ورثة الأنبياء.
أئمة الحديث والفقه واختلاف ميولهم:
من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد.
وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما.
حتى إن الشافعي لما ناظر محمد بن الحسن حين رجح محمد لصاحبه على صاحب الشافعي، فقال له الشافعي: بالإنصاف أو المكابرة ؟
فقال له: بالإنصاف.
فقال: ناشدتك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم ؟
فقال: بل صاحبكم.
فقال: صاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم فقال: بل صاحبكم.
فقال: صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم.
فقال: بل صاحبكم.
(/9)
فقال: ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس. ونحن نقول بالقياس. ولكن من كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح.
ويعلق شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول:
والإمام أحمد كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب أهل الكوفة وعلمائها.
وأحمد كان يحب الشافعي ويثني عليه ويدعو له ويذب عنه عندما يطعن في الشافعي، أو من ينسبه إلى بدعه. ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث من خالفه بالرأي وغيره.
وكان الشافعي يقول: سمَّوْني ببغداد ناصر الحديث.. وقد رحل إلى مالك وأخذ عنه الموطأ.
واجتمع بمحمد بن الحسن[29] وكتب كتبه وناظره. وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه[30].
والبخاري (256) وأبو داود إمامان في الفقه من أهل الاجتهاد.
وأما مسلم (261)، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة[31]، وأبو يعلى[32]، والبزار[33]، ونحوهم، فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء.
ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق...
بل هم يميلون إلى قول أئمة الحديث، كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأمثالهم.
ومنهم من له اختصاص ببعض الأئمة كاختصاص أبي داود ونحوه بأحمد ابن حنبل وهم إلى مذاهب أهل الحجاز كمالك وأمثاله – أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق – كأبي حنيفة والثوري.
وقبيل نهاية القرن الثاني وجدت شرذمة أنكرت حجية السنة كمصدر للتشريع ووجدت طائفة أخرى أنكرت حجية غير المتواتر منها.
فالإمام الشافعي ذكر في الأم: باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها، وباب حكاية قول من رد خبر الخاصة.
فالخوارج يأخذون بالسنة النبوية ويؤمنون بها مصدراً للتشريع الإسلامي إلا أنه نقل عنهم رد ما روى بعض الصحابة، وخاصة بعد التحكيم.
(/10)
قال الأستاذ السباعي: إن الخوارج على اختلاف فرقهم يعدلون الصحابة جميعاً قبل الفتنة، ثم يكفرون علياً وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين ومن رضي بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما.
وبذلك ردوا أحاديث جمهور الصحابة بعد الفتنة لرضاهم بالتحكيم.
وقد استدرك الدكتور الأعظمي على الأستاذ السباعي في قوله بأن هذا الكلام يستدعي النظر.
فقال الأعظمي: مما لا ريب فيه أن كتب الخوارج قد انعدمت بانعدام مذهبهم ماعدا الإباضية وهم فرقة من الخوارج وبمراجعة كتبهم نجدهم يقبلون الأحاديث النبوية: ويروون عن علي وعثمان وعائشة وأبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين.
ومما كتبوه في أصول الفقه تبين أنهم أخذوا بخبر الآحاد.
قال السالمي: إذا عارض الآحاد القياس ففي تقديم أيهما على الآخر مذاهب، ذكر المصنف منها ثلاثة أحدها وهو قول الأكثر من أصحابنا والمتكلمين وهو قول عامة الفقهاء من قومنا أن يقدم الخبر على القياس، فيكون العمل به أولى من العمل بالقياس[34].
ويقول الأعظمي: استنتج الشيخ الخضري من كتابات الشافعي – ومال إلى ذلك السباعي أيضاً – بأن الفرقة التي ردت الأخبار كلها هي المعتزلة.
وذكر السباعي نقولاً عن الآمدي، وابن حزم، وابن القيم.
ثم قال: وهذه النقول – كما ترى – متضاربة لا تعطينا حكماً صحيحاً في المسألة ثم نقل مذهب النظام من: الفرق بين الفرق للبغدادي مبيناً أنه أنكر المعجزات، وأنكر حجية الإجماع والقياس، وأنكر الحجة من الأخبار التي توجب العلم الضروري ثم ذكر أن أكثر المعتزلة متفقون على تكفير النظام.
(/11)
يعلق الدكتور الأعظمي على الشيخ السباعي فيقول: وبوب الحسين البصري المعتزلي في كتابه في أصول الفقه (المعتمد) بقوله: باب في أن خبر الواحد لا يقتضي العلم. قال أكثر الناس: إنه لا يقتضي العلم، وقال آخرون يقتضي العلم، واختلف هؤلاء فلم يشترط قوم من أهل العلم اقتران قرائن به وقيل إنه شرط ذلك في التواتر أيضاً، ومثل ذلك بأن نخبر بموت زيد.
... وترى الجنازة على بابه، مع علمنا بأنه ليس في داره مريض سواه... كما أورد أبو الحسين المعتزلي في كتابه أبواباً أخرى مثل باب في جواز ورود التعبد بأخبار الآحاد، وباب في التعبد بخبر الواحد.
فهذه النصوص تعطي فكرة واضحة عن مذهب المعتزلة بأنهم كانوا يأخذون بالأحاديث النبوية وما يقال عن النظام فهو مضطرب. وإن ثبت عنه رد السنة فهو مذهبه.
وهو في هذا لا يمثل جمهور المعتزلة.
يقول الأعظمي: والذي نميل إليه – بعد هذه الشواهد – أن المعتزلة كانوا مع جمهور الأمة في الأخذ بالأحاديث النبوية وربما طعنوا في صحة بعض الأحاديث عندما وجدوها تقف في سبيل نظرياتهم، لكنه لم يكن من مذهبهم رد الأحاديث جملة[35].
ويوضح لنا ذلك الدكتور الأعظمي فيقول: في عهد الاستعمار بدأ المستعمرون ينشرون أفكارهم الخبيثة للقضاء على مقومات الإسلام، ومنها ترك الأحاديث النبوية ففي العراق وجد من دعا إلى نبذ السنة وفي مصر حدث مثل ذلك فالدكتور توفيق صدقي كتب مقالتين في مجلة المنار بعنوان (الإسلام هو القرآن وحده) واستدل بالآيات القرآنية لعدم الحاجة إلى السنة النبوية حسب زعمه.
وأيد السيد رشيد رضا الدكتور توفيق صدقي بكتاباته إلى حد كبير إذ قسم الأحاديث النبوية إلى قسمين: المتواتر وغير المتواتر وكان يرى رشيد رضا أن ما نقل إلينا بالتواتر كعدد ركعات الصلاة، والصوم، وما شاكل ذلك فهذا يجب قبوله ويسميه الدين العام أما ما نقل بغير هذه الصفة فهو دين خاص لسنا ملزمين بالأخذ به.
(/12)
ويبدو أنه رجع عن موقفه في آخر عمره كما يذكر الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله.
ويذكر الشيخ الأعظمي أن الأستاذ أحمد أمين كتب فصلاً عن السنة النبوية في كتابه (فجر الإسلام) خلط فيه الحق بالباطل، وكذلك نشر إسماعيل أدهم رسالة سنة 1353 عن تاريخ السنة وقال: الأحاديث الموجودة حتى في الصحيحين ليست ثابتة الأصول والدعائم بل هي مشكوك فيها ويغلب عليها صفة الوضع.
بعد هؤلاء تسلم الراية أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية وخلط ما قال كل من إسماعيل أدهم وتوفيق صدقي ورشيد رضا، وذكر أبو رية أن السنة العملية للرسول صلى الله عليه وسلم هي السنة المعترف بها.
أما بالنسبة لأحاديث الآحاد فيقول (( ومن صح عنده شيء منها رواية ودلالة عمل به ولا تجعل تشريعاً عاماً تلزمه الأمة الزاماً تقليداً لمن أخذ به ))[36] واتهم أبو رية الشيخ محمد عبده أيضاً بأنه قال: إن المسلمين في هذا العصر ليس لهم إمام إلا القرآن. وفي الهند انتجت الروح الانهزامية رجالاً مثل السيد أحمد خان وعبدالله الجكر الوى وأحمد الدين الأهرتري وآخرين وغلام أحمد برويز الذي يقلد توفيق صدقي تقليداً تاماً. مع دعوى الاجتهاد والانفراد لأنه ينكر إنكاراً تاماً أن يكون للأحاديث أية قيمة تشريعية، فلا يرفض أخبار الآحاد فحسب بل يرفض ما نقل إلينا بالتواتر مثل الصلوات الخمس وعدد ركعاتها إلى آخره.
ثم استعرض الدكتور الأعظمي في صفحات عدة حجج منكري السنة قديماً وحديثاً وقد رد على هذه الحجج وفندها[37].
ويقول الأعظمي: أما الشيعة فيهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضاً كما بين ذلك النوبختي في كتابه فرق الشيعة.
والموجود من الشيعة حالياً في العالم الإسلامي أكثرهم من الاثني عشرية، وهم يذهبون إلى الأخذ بالسنة النبوية وانظر كتبهم في الأحاديث كالكافي للكليني وغير ذلك.
لكن الاختلاف بيننا وبينهم في طريق إثبات السنة نفسها.
(/13)
وبما أنهم يحكمون بالردة على كافة الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عدا عدة أشخاص يتراوح عددهم بين ثلاثة إلى أحد عشر. لذلك لا يقبلون الأحاديث المروية عن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. بل يعمدون إلى روايات منقولة عن أهل البيت فقط – حسب نظرهم – ويجمل الشيخ الأعظمي الهدف من تعليقاته فيقول:
وخلاصة القول: أجمعت الأمة الإسلامية من سالف الدهر حتى الآن على الأخذ بالسنة النبوية، وأنها مصدر التشريع، والمسلمون ملزمون بها.
ووجد قديماً بعض الأشخاص أو بعض الفرق التي طعنت في السنة النبوية، ولكنها انتهت بنهاية القرن الثاني.
أو على الأكثر بنهاية القرن الثالث وما بقي لهم وجود.
وقد استيقظت الفتنة مرة أخرى في القرن الماضي بتأثير من الاستعمار الغربي[38].
لا فرق بين السنة والكتاب في الحلال والحرام.
يقول الدكتور صبحي الصالح رحمه الله تعالى: لكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم استشف حجاب الغيب فرأى في القرون من بعده، قوماً يفرقون بين كتاب الله وسنة رسوله ولا يعملون إلا بما نص عليه القرآن وحده. فإذا هو يصور لنا هؤلاء تصويراً ينبئنا عن فداحة خطئهم وضلالهم عن الصراط المستقيم فيقول صلى الله عليه وسلم((ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، فإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله))[39].
ويفسر الإمام الشافعي اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بضم سنته إلى كتاب الله في الحلال والحرام، وفي كل أمر تشريعي ذي بال بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولم يحرم إلا ما حرم الله في كتابه ثم يؤكد (الشافعي) بلهجة جازمة حاسمة أن جميع ما تقوله الأئمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن.
(/14)
ويقول الدكتور صبحي الصالح: ويكاد غير الشافعي يغلو في تفسير هذه الظاهرة حين يعد السنة (( وحياً ينزل به جبريل على رسول الله كما ينزل عليه القرآن، ويعلمه إياه كما يعلمه القرآن، ويصرح أبو البقاء بهذا التفسير حين يقول في كلياته دون تجوز ولا اتساع:
والحاصل أن القرآن والحديث يتحدان في كونهما وحياً منزلاً من عند الله بدليل قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[40] إلا أنهما يتفارقان من حيث إن القرآن هو المنزل للإعجاز والتحدي به بخلاف الحديث، وأن ألفاظ القرآن مكتوبة في اللوح المحفوظ وليس لجبريل عليه السلام ولا للرسول عليه الصلاة والسلام أن يتصرفا فيه أصلاً.
وأما الأحاديث فيحتمل أن يكون النازل على جبريل منها معنى صرفاً فكساه حلة العبارة.
ثم يدلي الدكتور صبحي الصالح برأيه في هذه المسألة إذ يقول:
ولقد نكون أشد ميلاً – من ناحية الوحي – إلى التفرقة بين نزول القرآن على قلب النبي وإلهامه النطق ببعض الأحاديث ثم نجنح – بسبب هذه التفرقة – إلى استقلال القرآن وحده بظاهرة الوحي على النحو الذي أوضحناه في كتابنا مباحث علوم القرآن: إذ كان عليه السلام يفرق بوضوح بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصة التي كان يعبر عنها بإلهام من الله فمما يجول في نفسه من خواطر وأفكار كان ذا صفة إنسانية محضة لا يمكن أن يختلط بالكلام الرباني. وإنما السنة هي حكمة كما سميت في القرآن في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[41] فقد اختار معظم العلماء المحققين أن الحكمة في الآية هي شيء آخر غير القرآن، وهي مجموعة ما اطلع الله عليه رسوله من مقاصد الشرع وتعاليمه وأسراره التي لا يمكن أن تكون غير سنة الرسول القولية والفعلية[42].
(/15)
ومنذ عامين اكتشفت جماعة تنكر السنة النبوية بزعامة الدكتور أحمد صبحي منصور أستاذ التاريخ بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر وذلك من خلال كتاب له باسم (الأنبياء في القرآن الكريم). الذي تضمن هجوماً صارخاً على السنة النبوية، وقد تبين أن المذكور له آراء مخالفة لأهل السنة منها أن المسلم العاصي مخلد في النار وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا شفاعة له، وأنكر قصة المعراج وقال: إن القرآن لم يذكر إلا قصة الإسراء، واعتبر أحاديث المعراج باطلة، وأنكر حكم القتل على المرتد، وقال إن القرآن لم يشتمل على ذلك.
وأول من فند آراء الدكتور صبحي وأبطلها الدكتور عبدالجليل شلبي الأمين العام السابق لمجمع البحوث الإسلامية إذ يقول إن الدكتور صبحي منصور شكك في مسائل إسلامية كثيرة بعضها متعلق بالعقيدة وبعضها متعلق بشخصية الرسول، وعميد كلية اللغة العربية الدكتور سعد ظلام غضب لهذه الآراء وقدم الكتاب الذي يتضمن هذه الآراء عن الرسول وعن السنة إلى مجمع البحوث الإسلامية الذي بدوره حوله إلى لجنة خاصة لمناقشته وتفنيد ما في الكتاب، ومن العلماء الذين قدموا تقريراً في هذا الكتاب الذي يشكك في السنة النبوية الدكتور الطيب النجار ونشرت صور من التقارير بينت بطلان آراء الدكتور صبحي منصور الذي اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكتمان الوحي وكذلك أيضاً كان رأي الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي مصر بأن هذا الرجل وجماعته ينكرون السنة، وكذلك أيضاً رأي الشيخ عبدالله المشد رئيس لجنة الفتوى بالأزهر ببطلان هذه الآراء، وكذلك الدكتور عبدالصبور مرزوق قال إن الدكتور صبحي منصور لن يكون الأول والأخير في محاولات النيل من السنة المطهرة، والأستاذ فهمي هويدي بين أن السنة كانت هدفاً منذ بعيد لسهام هؤلاء المغرضين وقد فند آراء الدكتور صبحي كثير من العلماء والمفكرين وردوا عليها[43].
(/16)
والحملات على السنة النبوية لها جذور قديمة عند المعتزلة والرافضة والخوارج وإن البغدادي قد ذكرها ورد عليها في كتابه (الفرق بين الفرق)، وابن حزم قد تصدى لها في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) ومن قبله الإمام الشافعي قد فندها ورد عليها.
وهذه الآراء الباطلة قد رددها كثير من المستشرقين وروجوها في كتبهم وفي مقدمتهم (جولد تسهير وشبرنجر وفون كريمر) وغيرهم.
وقد سار على نهجهم الأستاذ أحمد أمين في كتابه المشهور فجر الإسلام الصادر في سنة 1928 حيث أفرد في هذا الكتاب ست عشرة صفحة عن قضية (الموضوعات) وعدم التدوين وعرض الأقوال التي تنتقد أبا هريرة ويشكك فيه، وقد سار على منوال المستشرقين أيضاً الشيخ محمود أبو رية في كتابه (أضواء على السنة).
وشن حملة جارحة على أبي هريرة أشهر رواة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذه الحملات على السنة النبوية قد أثارت الغضب عند العلماء الذين فندوا هذه الآراء الباطلة وكانت ردودهم حاسمة أمثال الشيخ عبدالغني عبدالخالق في كتابه (حجية السنة).
وهو مرجع نفيس أنجزه في بداية الأربعينات والشيخ الدكتور مصطفى السباعي في كتابه المشهور (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي). والشيخ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه الذي نال به جائزة الملك فيصل.
(دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه).
(/17)
وهكذا ما زال الدفاع مستمراً عن السنة النبوية المطهرة إلى يوم الدين. واتجه بعض الكتاب الباحثين في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، يقول الدكتور فتحي عبدالكريم: (( إن أحدث ما كتب في هذا الموضوع – فيما نعلم – هو مقال الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا في العدد الافتتاحي من مجلة المسلم المعاصر تحت عنوان السنة التشريعية وغير التشريعية في (مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي ص29)... وقد سبق ذلك المقال بحث آخر في نفس الموضوع للدكتور عبدالحميد متولي في كتابه (مبادئ نظام الحكم في الإسلام) كتب يقول: (( في مؤلفات فقهاء الشريعة الإسلامية نجد بصدد الكلام عن السنة مبحثاً خاصاً وهو: بما يعد من السنة تشريعاً عاماً وما لا يعد كذلك )).
واستخلص الدكتور متولي من ذلك أن السنة القولية وحدها هي التي تعد تشريعاً دون السنة الفعلية والسنة التقريرية.
وينتهي صاحب البحث إلى القول بأن ثمة أحاديث كثيرة صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تكن تشريعاً أصلاً، أي لا تعد تشريعاً أبدياً أو وقتياً.
(( والبحثان المتقدمان متأثران بما كتبه كل من فضيلة الشيخ محمود شلتوت في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) وما كتبه الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة) )).
(( فقد كتب فضيلة الشيخ محمود شلتوت بحثاً تحت عنوان: السنة تشريع وغير تشريع )).
(( وكتب الدهلوي في المبحث السابع ما يأتي:
اعلم أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ودون في كتب الحديث على قسمين: أحدهما: ما سبيله تبليغ الرسالة وفيه قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر: 7.
ثانياً: ما ليس من باب تبليغ الرسالة.
مما سبق يتبين أن الأبحاث المتقدمة تشترك في إثارة قضية هامة هي أن السنة ليست كلها تشريعاً لازماً )).
(/18)
وبناء على ذلك فإن كتاب (السنة تشريع لازم ودائم)[44] قد خصصه مؤلفه للرد على هذه القضايا رداً شافياً وافياً، وقد أوجزنا ما قاله.
وأما القول بأن السنة قد تأخر تدوينها فزالت الثقة بضبطها وأصبحت مجالاً للظن والظن لا يجوز في دين الله.
فهذا قول من لم يقف على ما بذله الصحابة رضوان الله عليهم وخاصة كتاب الوحي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد نقلت السنة بالضبط والحفظ، والكتابة أحياناً من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الأول حيث دون الزهري السنة بأمر عمر بن عبدالعزيز.
أما ما دس على السنة من كذب فقد تصدى له العلماء وبينوه بما لا يترك مجالاً للشك حتى أن النفس لتطمئن إلى السنة إلى حد يكاد يصل إلى درجة اليقين.
انظر في ذلك (كتاب الوحي) للدكتور محمد مصطفى الأعظمي، وانظر له أيضاً (دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه).
أخبار الرسول وحي كالقرآن:
وهل يخفى على ذي عقل سليم أن تفسير القرآن بهذه الطريق خير من أقوال أئمة الضلال وشيوخ التجهم والاعتزال كبشر المريسي، والجبائي، والنظام والعلاف وأضرابهم من أهل التفرق والاختلاف.
فإذا كانت أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفيد علماً فجميع ما يذكره هؤلاء لا يفيد علماً ولا ظناً.
والله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الحكمة كما أنزل عليه القرآن، والحكمة هي السنة كما قال غير واحد من السلف. فإن الله تعالى قال {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} سورة الأحزاب 34.
والمراد بالسنة ما أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى القرآن، كما قال صلى الله عليه وسلم((ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه))[45].
قال الأوزاعي عن حسان بن عطية كان جبرائيل ينزل بالقرآن والسنة يعلمه إياها، كما يعلمه القرآن.
فهذه الأخبار التي زعم هؤلاء أنه لا يستفاد منها علم. نزل بها جبريل من عند الله عز وجل.
(/19)